الكتاب: الدرر السنية في الأجوبة النجدية المؤلف: علماء نجد الأعلام المحقق: عبد الرحمن بن محمد بن قاسم الطبعة: السادسة، 1417هـ/1996م عدد الأجزاء: 16   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] ---------- الدرر السنية في الأجوبة النجدية مجموعة من المؤلفين الكتاب: الدرر السنية في الأجوبة النجدية المؤلف: علماء نجد الأعلام المحقق: عبد الرحمن بن محمد بن قاسم الطبعة: السادسة، 1417هـ/1996م عدد الأجزاء: 16   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] المجلد الأول: ( كتاب العقائد ) مقدمة ... تقريظات الكتاب 1- تقريظ الشيخ: محمد بن عبد اللطيف آل الشيخ بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي وفق من شاء من عباده، لإبراز الحق وإبدائه، والكشف عن مكنون عقود اللآلي بعد خفائه، وصلى الله على عبده ورسوله محمد، وآله وأصحابه، السالكين على طريق الحق، المخالفين لأعدائه، وسلم تسليما كثيرا. أما بعد: فإني نظرت في هذا المجموع، الفائق، الرائق، الذي جمعه ورتبه الابن: عبد الرحمن بن محمد بن قاسم، فرأيته قد جمع علوما مهمة، ومسائل كثيرة جمة، مما أوضحه علماء أهل هذه الدعوة الإسلامية، في مسائلهم، ورسائلهم، الساطعة أنوارها، الواضحة أسرارها، لمن أراد الله هدايته. فإنهم رحمهم الله، حرروا هذه المسائل والرسائل، تحريرا بالغا، مشتملا على مستنداته، من البرهان والحجة، وعلى طريق الهداية، إلى واضح السبيل والمحجة، لا سيما ما تضمنه من العقائد، والردود، والنصائح، التي لا تظفر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 بأكثرها في مجموع سواه. وقد رتبها الترتيب الموافق، وتابع بينها التتابع المطابق، لا سيما المسائل الفقهية، التي رتبها على حسب أبواب الفقه، وفرقها فيها من غير إخلال بشيء من المقصود، فكان هذا المجموع هو الدرة المفقودة، والضالة المنشودة. فجزاه الله خيرا، وشكر سعيه على هذا الصنيع، الذي هو للعين قرة، وللمستبصر مسرة، والحمد لله حمدا كثيرا، كما ينبغي لكرم وجهه وعظيم سلطانه. حرره الفقير إلى عفو ربه وإحسانه، محمد بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم – 21 ذي القعدة - سنة 1351هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 2- تقريظ العلامة الشيخ: محمد بن إبراهيم آل الشيخ بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي بإحسانه سدد من شاء من عباده، وبامتنانه وفق من أسعفه بإسعاده، وبعنايته أعلى همة من خصه بجعل جمع العلوم الدينية غاية مراده. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة مخلص لله في قوله وعمله واعتقاده، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم وآله وصحبه، الذين جاهدوا في الله حق جهاده. وبعد: فقد سمعت هذا المجموع الفائق مرتين، وبعضه أكثر من ذلك، بقراءة جامعه ومرتبه: الأخ الفاضل عبد الرحمن بن محمد بن قاسم، فوجدته وفقه الله تعالى، لم يأل جهدا في جمع رسائل أئمتنا، أئمة هذه الدعوة، وأجوبتهم، وتتبعها من مظانها، ولم يترك - وفقه الله تعالى - شيئا مما ظفر به إلا أشياء غير محررة، أو أشياء غير مقطوع بها عمن نسبت إليه، مع بذله الطاقة في التصحيح، ومقابلة ما ظفر به منها، على ما يمكنه الوقوف عليه من نسخها، مع أنها لم تخل من تغيير. وقد أجاد ترتيبها بما يسهل على المستفيد طريق ما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 تمهيد بقلم جامعه: عبد الرحمن بن محمد بن قاسم بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي خص بالهداية في زمن الفترات، من شاء من عباده، نعمة منه وفضلا، وألهمهم الحكمة مع ما جبلهم عليه من الفطرة، فتفجرت ينابيعها على ألسنتهم، فنطقوا بالصواب عقلا ونقلا. وفتح بصائرهم، وهداهم إلى الصراط المستقيم، علما، وعملا، وهجرة، وجهادا؛ فأعادوا نشأة الإسلام في الصدر الأول. ويسر لهم من معالم الدين، ومواهب اليقين، ما فضلهم واصطفاهم به على المعاصرين، فحاكوا السلف المفضل، وفتح لهم من حقائق المعارف ومعارف الحقائق، ما امتازوا به على غيرهم، عند من سبر وتأمل. ساروا على المنهج السوي، وشمروا إلى علم الهدى، حتى لحقوا بالرعيل الأول. فسبحان من وفق من شاء من الخلائق لتأصيل الأصول، وتحقيق الحقائق، وجمع له مواهب الخيرات الجلائل والدقائق. أحمده سبحانه على ما من به علينا، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 وهدانا إليه من بين سائر الخلائق. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة مخلص لله صادق. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، الذي أكمل الله به الدين، وجعل شريعته أكمل الطرائق. صلى الله عليه، وعلى آله وأصحابه، نجوم الهداية للسابق واللاحق، وسلم تسليما كثيرا. أما بعد: فإن الله - وله الحمد والمنة - بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، فأكمل به الدين وأتم به النعمة، فدخل الناس في دين الله أفواجا، وأشرقت الأرض بنور النبوة، واهتزت طربا وابتهاجا، حتى تركهم صلى الله عليه وسلم على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها. ودرج على هذا المنهج القويم خلفاؤه الراشدون، وصحبه المهديون، والأفاضل بعدهم المرضيون. ثم إنه خلفت بعدهم خلوف، يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، وهذا مصداق ما أخبر به صلى الله عليه وسلم. ولكن الله سبحانه من فضله ضمن لهذه الأمة بقاء دينها وحفظه عليها، وهذا إنما يحصل بإقامة من يقيمه الله تبارك وتعالى من أفاضل خليقته، وخواص بريته، وهم حملة الشريعة المطهرة، وأنصار الملة المؤيدة، الذابون عن دينه، المصادمون لأهل البدع والأهواء، المجاهدون من رام انحلال عرى كلمة التقوى، الذين هم في الأمة المحمدية كالأنبياء في الأمم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 الخالية؛ فأظهر في كل طبقة من فقهائها أئمة يقتدى بها، وينتهى إلى رأيها، مهد بهم قواعد الإسلام، وأوضح بهم مشكلات الأحكام، تحيا القلوب بأخبارهم، وتحصل السعادة باقتفاء آثارهم; فحفظ الله لهم دينهم حفظا لم يحفظ به دينا سواه. وذلك أن نبي هذه الأمة، هو خاتم النبيين، لا نبي بعده، يجدد ما دثر من دينها، كما كان دين من قبلنا من الأنبياء، كلما دثر دين نبي جدده نبي آخر يأتي بعده، فتكفل الله بحفظ هذا الدين، وأقام له في كل عصر حملة ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتمويه الزائغين، ميزوا ما دخل فيه من الكذب والوهم والغلط، وضبطوا ذلك غاية الضبط، وحفظوه أشد الحفظ. ولما كان النبي صلى الله عليه وسلم بعث بجوامع الكلم، حتى إنه ليتكلم بالكلمة الجامعة العامة، التي هي قضية كلية، وقاعدة عامة، تتناول أنواعا كثيرة، وتلك الأنواع تتناول أعيانا لا تحصى، والنصوص بهذا الوجه محيطة بأحكام أفعال العباد، اقتضت حكمة الله تعالى أن نصب للناس أئمة هدى من أهل الدين والإيمان، والتحقيق والعرفان، يخلفون النبي صلى الله عليه وسلم يبلغون أمته ما قاله، ويفهمونهم مراده، بحسب اجتهادهم واستطاعتهم; وأعلمهم وأفضلهم: أشدهم تمسكا بما جاء عنه صلى الله عليه وسلم وأفهمهم لمراده، فصار الناس كلهم يعولون في الفتاوى عليهم، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 يقصد من الفائدة ويريد، لا سيما المسائل الفرعية، التي هي من كتاب الطهارة، إلى كتاب الإقرار، حيث رتبها على حسب ترتيب فقهائنا الحنابلة، رحمهم الله تعالى; فإنه جاء في ذلك بالمقصود، فصارت متيسرة التناول، قريبة الوجود، مع عدم الإخلال بشيء من المراد، ولا تقصير فيما ينبغي أن يطلب منه ويراد. فجزاه الله خيرا، ونظمه في سلك الدعاة إلى دينه، الذابين عما بعث به رسوله، وجزى بالخير من سعى في نشره، وتعميم المنفعة به. أملاه الفقير إلى عفو ربه: محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف آل الشيخ، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. 20 ذي القعدة سنة 1351هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 3- تقريظ الشيخ: عبد الله بن عبد العزيز العنقري، قاضي المجمعة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي غرس لهذا الدين من كل خلف عدوله، ووفق من شاء لتأصيل قواعده وتحرير أصوله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة أرجو بها الخلاص من كرب يوم القيامة، وشدائده المهولة; وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه، الذين شمروا في نصرة دين ربهم واتباع رسوله. أما بعد: فإني قد أشرفت على ما جمعه الابن الفاضل: عبد الرحمن بن محمد بن قاسم من رسائل وجوابات أئمتنا، أئمة هذه الدعوة الإسلامية، الذين تأخر عصرهم، وتقدم فخرهم، حتى ألحقوا بالسلف الصالح، وامتازوا على غيرهم بإقامة القسطاس الراجح، فإذا هو مشتمل على عقائد سلفية، وردود على أهل مذاهب غوية، وفتاوى مقرونة بأدلتها الشرعية. وقد أجاد وفقه الله في ترتيبها، وجمع متشتتها وتبويبها، لا سيما المسائل الفقهية، والفتاوى الفروعية; فإنه رتبها على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 تبويب متأخري الفقهاء من أصحابنا - رحمهم الله - فأبرز مخبآت خرائدها، واقتنص ما تشتت من شواردها، حتى تيسر للطلاب اجتناء دررها، والتلذذ بالنظر إلى محيا غررها. فإنها كانت قبل متفرقة في رسائل شتى، لا تكاد تحصل القليل منها، فضلا عن الكثير، فجاءت - ولله الحمد - عديمة النظير. وصلى الله على عبده ورسوله محمد، خاتم المرسلين، وأفضل الأولين والآخرين. قال ذلك ممليه، الفقير إلى الله عز شأنه: عبد الله بن عبد العزيز العنقري. وصلى الله على محمد وسلم. 13 ذي الحجة سنة 1351هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 ويرجعون في معرفة الأحكام إليهم، وأقام الله من يضبط مذاهبهم ويحرر قواعدهم. وقد اختص الله منهم نفرا أعلى قدرهم ومناصبهم، وأبقى ذكرهم ومذاهبهم، فعلى أقوالهم مدار الأحكام، وبمذاهبهم يفتي فقهاء الإسلام. وكان أبو عبد الله: الإمام أحمد بن محمد بن حنبل رضي الله عنه أوفاهم فضيلة، وأقربهم إلى الله وسيلة، وأوسعهم معرفة بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعلمهم به، وأتبعهم له، وأكثرهم تتبعا لمذاهب الصحابة والتابعين، وأزهدهم في الدنيا، وأطوعهم لربه، ومذهبه مؤيد بالأدلة. قال أبو الفرج: نظرنا في أدلة الشرع، وأصول الفقه، وسبرنا أحوال الأعلام المجتهدين، فرأينا أحمد - رحمه الله - أوفرهم حظا من تلك العلوم، كان إذا سئل عن مسألة كأن علم الدنيا بين يديه. وقال إبراهيم الحربي: رأيت أحمد كأن الله جمع له علم الأولين والآخرين من كل صنف. وصدق فإنه رحمه الله كان شديد العناية بالقرآن وفهمه وعلومه، وعلمه بالسنة اشتهر وذاع، ووقع عليه الوفاق والإجماع، وهو حامل لواء السنة والحديث، وأعلم الناس في زمانه بحديث النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعين. واختص عن أقرانه بسعة الحفظ، وكثرته، حتى قيل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 إنه يحفظ ثلاثمائة ألف حديث; وبمعرفة صحيحه من سقيمه، وكان إليه المنتهى في علم الجرح والتعديل، وبمعرفة فقه الحديث وفهمه، وحلاله وحرامه ومعانيه. ورؤي من فهمه ما يقضى منه العجب، بل لم تكن مسألة سبق للصحابة والتابعين ومن بعدهم فيها، كلام إلا وقد علمه وأحاط علمه به، وكذا كلام عامة فقهاء الأمصار والبلدان. ومعلوم أن من فهم هذه العلوم وبرع فيها فأسهل شيء عنده معرفة الحوادث، والجواب عنها، على وفق تلك الأصول. ومن نظر بالتتبع والاستقراء، علم أن علم الإمام أحمد، ومن سلك سبيله من الأئمة، أعلى علوم الأمة وأجلها وأعلاها، وإن فيه كفاية لمن هداه الله. حفه الله بجهابذة فحول، تلقوه عنه بالقبول، حرروه وهذبوه، وبنوا منه الفروع على الأصول، من أولاده ومعاصريه، ينيفون على خمسمائة فقيه، وطبقات بعده أئمة جهابذة، كانوا للسنة الغراء ناصرين، وعن حمى السمحاء محامين، كما كان عليه سائر إخوانهم الموفقين، من أتباع بقية الأربعة المهديين، مع كثرة خصومهم في تلك الأعصار، وتوافر أضدادهم في سائر الأمصار، واعتكار ليل الشرك والفساد، وتلاطم أمواج بحر البدع والعناد. إلى أن أقام الله تعالى العالم الرباني، مفتي الأمة، بحر العلوم، شيخ الإسلام: أحمد بن تيمية، المجتهد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 المطلق، المجمع على فضله، وإمامته، الذي جمع الله العلوم كلها بين عينيه، يأخذ منها ما يريد، ويدع ما يريد. جدد الله به الدين بعد دروسه، وأحيا به هدي سيد المرسلين بعد أفول شموسه، وأدحض به جميع بدع المبتدعين، وانبلج الحق واليقين. وقام بعده تلامذته المحققون، وأتباعهم ممن لا يحصون. وبعدهم انتقضت عرى الإسلام، وعبدت الكواكب والنجوم، وعظمت القبور، وبنيت عليها المساجد، وعبدت تلك الضرائح والمشاهد، واعتمد عليها في المهمات، دون الصمد الواحد، ولكن في الحديث: " إن الله تبارك وتعالى يبعث لهذه الأمة، على رأس كل قرن، من يجدد لها أمر الدين " 1، ويبين المحجة بواضحات البراهين. فبعث في القرن الثاني عشر، عند من خبر الأمور وسبر، ووقف على ما قرره أهل العلم والأثر، الآية الباهرة، والحجة الظاهرة، شيخ الإسلام والمسلمين، المعدود من أكابر السلف الماضين، المجدد لما درس من أصول الملة والدين، السلفي الأول، وإن تأخر زمنه عند من خبر وتأمل، بحر العلوم، أوحد المجتهدين، الشيخ: محمد بن عبد الوهاب، أجزل الله له الأجر والثواب، وأسكنه الجنة بغير حساب. فشمر عن ساعد جده واجتهاده; وأعلن بالنصح لله   1 أبو داود: الملاحم (4291) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 ولكتابه ورسوله، وسائر عباده، دعا إلى ما دعت إليه الرسل، من توحيد الله وعبادته، ونهاهم عن الشرك، ووسائله وذرائعه; فالحمد لله الذي جعل في كل زمان من يقول الحق، ويرشد إلى الهدى والصدق، وتندفع بعلمه حجج المبطلين، وتلبيس الجاهلين المفتونين. والحمد لله الذي صدق وعده، وأورثه الرضى وحده، وأنجز وعده، واستجاب دعاءه، فصارت ذريته، وذرياتهم، وتلامذتهم نجوم هداية، وبحور دراية، ثبتوا على سبيل الكتاب والسنة، وناضلوا عنه أشد النضال، ولم يعدوا ما كان عليه الصحابة والسابقون، والأئمة الموثوق بهم، كأبي حنيفة والسفيانينى،; ومالك والشافعي وأحمد وأمثالهم. ولم يثنهم عن عزمهم طلاقة لسان مخادع، ولا سفسطة متأول، ولا بهرجة ملحد، ولا زخرفة متفلسف، وكلما انقضت طبقة منهم، أنشأ الله طبقة بعدها على سبيل من قبلها، فهم الأبدال والأخيار والأنجاب. وقد أخبر الصادق الأمين: " لا يزال الله يغرس في هذا الدين غرسا يستعملهم في طاعته " 1 وقال: " لا تزال طائفة من أمتي على أمر الله، لا يضرها من خالفها " 2. وقد أقام الله بهم السنة والفرض; فصاروا حجة على جميع أهل الأرض، وأشرقت بهم نجد على جزيرة العرب، ولله در القائل حيث قال:   1 ابن ماجه: المقدمة (8) , وأحمد (4/200) . 2 البخاري: المناقب (3641) والتوحيد (7460) , ومسلم: الإمارة (1037) , وأحمد (4/99) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 ففيها الهداة العارفون بربهم ... ذوو العلم والتحقيق أهل البصائر محابرهم تعلو بها كل سنة ... مطهرة أنعم بها من محابر مناقبهم في كل مصر شهيرة ... رسائلهم يغدو بها كل ماهر وفيها من الطلاب للعلم عصبة ... إذا قيل من للمشكلات البوادر ولا يعرف شعب دخل في جميع الأطوار، التي دخل فيها الإسلام في نشأته الأولى، غربة وجهادا وهجرة وقوة، غير هذا الشعب. فلقد ظهر هذا الشيخ المجدد المجتهد، في وقت كان أهله شرا من حال المشركين، وأهل الكتاب في زمن البعثة، من شرك وخرافات، وبدع وضلالات، وجهالة غالبة؛ فدعا إلى عبادة الله وحده، والرجوع إلى أصل الإسلام، فأعاد نشأة الإسلام كما كانت. وسارت ذريته وتلامذتهم سير السلف الصالح، وجرى عليهم ما جرى على تلك السادة. وقد شهد لهم أهل العلم والفضل والتحقيق، من أهل القرى والأمصار، أنهم جددوا التوحيد، ودعوا إليه حتى استنار، حتى شهد لهم أعداؤهم بذلك، كما ستقف عليه: مناقب شهد العدو بفضلها ... والفضل ما شهدت به الأعداء ومن سبر حقيقة القوم، وعرف مآخذهم، انقاد لهم، وجعلهم أئمة هداة; ولقد صدق القائل: أئمة حق والنصوص طريقهم ... وأحمد خريت الطريق وهاديا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 على مذهب الحبر الإمام ابن حنبل ... عليهم من المولى سلام يوافيا عقائدهم سنية أجمع الملا ... عليها خصوصا تابعا وصحابيا وأسلمها عقدا وأعلمها هدى ... وأحكمها فاشدد عليها الأياديا صرائح قرآن نصوص صريحة ... ومن ردها دارت عليه الدواهيا كانوا على مذهب الحبر الرباني، والصديق الثاني، أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني رضي الله عنه وأرضاه، وجعل الجنة منقلبه ومثواه، لقوة علمه وفضله، تتبعوا دليله، واقتدوا به من غير تقليد له، يأخذون من الروايتين عنه فأكثر بما كان أقرب إلى الدليل، وربما اختاروا ما ليس منصوصا في المذهب، إذا ظهر وجه صوابه، وكان قد قال به أحد الأئمة المعتبرين. وليس ذلك خروجا عن المذهب، إذ قد تقرر عنه، وعن سائر الأئمة، رحمهم الله أنه إذا خالف قول أحدهم السنة، ترك قوله، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم. وبالجملة، فمن تأمل حالهم، واستقرأ مقالهم، عرف أنهم على صراط مستقيم، ومنهح واضح قويم; شمروا عن ساعد الجد والاجتهاد، وصرفوا عنايتهم في نصرة هذا الدين، الذي كان الأكثر في غاية من الجهالة بمبانيه العظام، ونهاية من الإعراض عن الاعتناء به والقيام، فشرعوا فيه للناس موارد، بعد أن كان في سالف الزمن طامسا خامدا، وعمروا لهم فيه معاهد، حتى صار طاهرا مستنيرا مشاهدا. فنشروا شريعة سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم لجميع الخلائق، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 وكشفوا قناعها، وحققوا الحقائق، وأنشأوا المدارس وعمروها بالتعليم، وجاهدوا في الله كل طاغ أثيم، وصنفوا الكتب فأجادوا، وكشفوا الشبهات فأبادوا، وأجابوا السائل فأفادوا، فكشفوا عن الدين ما عراه، وأبدوا وأعادوا. فحق لقوم هذا شأنهم، أن يعتنى برسائلهم، وفتاويهم، وردودهم، وتجمع وتدون لكيلا تذهب، وترتب وتعنون لكيلا تصعب. وقد اجتهد علماؤنا في جمعها، وحفظها; وحرصوا وحضوا على نشرها، وجمع شواردها. وكان أكثر من جمع، ما وجده شيخنا الفاضل: الشيخ محمد بن الشيخ عبد اللطيف، والشيخ: سليمان بن سحمان، والشيخ: عبد الله بن عبد العزيز العنقري، وغيرهم; إلا أنها غير مرتبة، فصار الطالب للمسألة لا يجدها إلا بعد تعب وعناء، ولا خفاء بما في ذلك من المشقة والنصب، وربما لا يجدها. فأمرني من تجب طاعته علي أن أجمعها، وأرتبها حسب الطاقة، مع أني لست من أهل تلك البضاعة; فتمادت بي الأيام، أقدم رجلا وأؤخر أخرى، لكثرة الأشغال، ومعالجة المعاش والضيعة، وعدم الأهلية، إلى أن قويت العزيمة، وخلصت النية، وظهرت، ويسر الله الأمر وسهله، ووفق إليه، فحينئذ أمعنت النظر، وأنعمت الفكر، وجمعت ما أدركته. وأعانني عليه شيخنا الفاضل، الحبر الثقة، الشيخ: محمد بن الشيخ إبراهيم، وحرره وهذبه، أعدته وأبديته عليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 فزها، فظهر آثار القبول عليه وأبهى; كررت الفقه عليه مرارا، والأصول وغيرها إمرارا. وقرأت أكثره على شيخنا النبيل، الشيخ محمد بن الشيخ عبد اللطيف، وعلى الشيخ: سعد بن حمد بن عتيق، والشيخ: عبد الله بن عبد العزيز العنقري، فجاء - بحمد الله - جامعا جل رسائلهم وفتاويهم، بل كلها إلا قليلا. وقد صنف العلماء في كل عصر ومصر، في الأصول، والفروع، وغيرها ما لا يحصى، حفظا للدين والشريعة، وأقوال أهل العلم، وليكون آخر الأمة كأولها في العلم والعمل، والتزام أحكام الشريعة، وإلزام الناس بها، لأن ضرورتهم إلى ذلك فوق كل ضرورة، ولولا ذلك، لجرى على ديننا ما جرى على الأديان قبله، فإن كل عصر لا يخلو من قائل بلا علم، ومتكلم بغير إصابة ولا فهم. فوضح هؤلاء الأحبار الطريق إلى الله بالعلم، وأبرزوا مشكلات الحوادث بينابيع الفهم، بما يثلج الصدور، ويطرد الوهم، وصارت فتاويهم وأجوبتهم هي المعتبرة عند القضاة والمفتين، لرجحانها بالدليل، وموافقتها القواعد والتأصيل. وها هو ذا يفصح عن نفسه، ويدل على عظيم نفعه، جامعا شاملا نافعا، فيه من الفوائد ما هو حقيق أن يعض عليه بالنواجذ، وتثنى عليه الخناصر، ويكب عليه أولو البصائر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 النوافذ. اشتمل على أصول أصيلة، ومباحث جليلة، لا تجدها في كثير من الكتب المصنفة، ولا الدواوين المؤلفة. فإن أردت مقام الدعوة إلى الدين، وتوحيد رب العالمين، وجدته بأحسن أسلوب وأتم تبيين. وإن أردت حل مشكلات الفروع عن يقين، فخذها عليها النور المستبين، أو أردت حكم جهاد المفسدين، ألفيته على وفق سيرة سيد المرسلين، أو أردت حل أوهام الزائغين، وجدتها مجلوة بأوضح البراهين، أو استنباط آيات من كلام رب العالمين، أفادك ما لا يوجد في كلام أكثر المفسرين، أو نصائح شاملة في أمور الدين، لقيتها آية باهرة للمتأملين. ألفها فحول من هداة مهتدين، تهدى إليك ساطعة بالنور المستبين، تشتاق إليها نفوس الموحدين، وتطمئن بها قلوب المؤمنين، وتنشرح لها صدور الطالبين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 وقد وقع هذا المجموع المبارك، في أحد عشر جزءا: الأول: كتاب العقائد. والثاني: كتاب التوحيد. والثالث: كتاب الأسماء والصفات. والرابع: كتاب العبادات من كتاب الطهارة إلى الأضاحي; وفي أوله فصلان: الفصل الأول: في أصول مآخذهم. والفصل الثاني: في أصول الفقه. والخامس: كتاب المعاملات وما يتبعه إلى العتق. والسادس: من كتاب النكاح إلى الإقرار. والسابع: كتاب الجهاد. والثامن: كتاب حكم المرتد. والتاسع: مختصرات الردود، على ذوي الشبه، والزيغ، والجحود. والعاشر: الاستنباط، وتفسير آيات من القرآن. والحادي عشر: كتاب النصائح; وفي آخره تراجم أصحاب تلك الرسائل والأجوبة، تطلعك على كبر شأنهم، وعلو مرتبتهم، وعمق مآخذهم، وتشرح صدرك لقبول أجوبتهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 تنبيهات التنبيه الأول: في كيفية ترتيب كل جزء من أجزاء هذا المجموع; فليعلم أن الجزء الأول، والثاني، والثالث، والثامن، والتاسع، والحادي عشر، قد أبقيت الرسائل والأجوبة فيها على ما هي عليه، ولم ترتب إلا على حسب وفيات مؤلفيها، فيذكر في كل واحد من هذه الأجزاء، أولا: رسائل الشيخ محمد رحمه الله، ثم من بعده، وهكذا، على حسب الوفيات، وقد يقدم الأشهر. وأما الجزء الرابع، والخامس، والسادس، والسابع، فهي على حسب ترتيب فقهائنا - رحمهم الله - في التبويب والمسائل، وإذا كان في المسألة جوابان فأكثر، ذكر السؤال أو بعضه أو ملخصه، إن لم يحتج إليه كله; ويبدأ بجواب الأقدم، ثم جواب من يليه من غير إعادة للسؤال، بل يكتفى بقول: وأجاب فلان، وهكذا مرتبا إلى أن تفرغ الأجوبة، التي في تلك المسألة. وقد ينتقل من مسألة إلى مسألة أخرى من غير ذكر سؤال، فيقال: وأجاب فلان، اكتفاء بما في جواب التي قبلها، لما بينهما من الارتباط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 التنبيه الثاني: إن بعض المسائل قد لا نقف لها على سؤال، فنصور لها سؤالا على حسب ما يظهر من الجواب; وهذا إذا لم يكتف بالسؤال السابق. وأما الجزء العاشر الذي في الاستنباط، فترتيبه على حسب السور. التنبيه الثالث: لم آل جهدا في مقابلة ما نقلناه على الأصول، وتصحيحه، وفي بعض تلك الأجوبة كلمات يسيرة عامية، فأصلحتها، بإبدالها بكلمات عربية، هي بمعنى تلك الكلمات، وذلك عن إذن بعض من قرأتها عليه، وعرضها عليه، واستجازته إياها; إذ فهم المراد كما ينبغي متوقف على ذلك. التنبيه الرابع: إني لم أتعرض إلا لفتاوى، ورسائل، وردود أهل هذه الدعوة، ولم أثبت من الردود، في هذا المجموع، إلا ما كان مختصرا، نحو الكراستين فأقل; وأما الردود الكبار: فهي متداولة، مستقلة على حدتها، مستغنية عن إثباتها في هذا المجموع، كما أني لم أثبت ما كان مشهورا متداولا، ككتاب التوحيد، وكتاب كشف الشبهات، وفضائل الإسلام، وغيرها مما شهرته كافية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 التنبيه الخامس: بعض الفتاوى، لم أقف على اسم صاحبها، لكنه من أهل هذه الدعوة قطعا، فأورده بقولي: سئل بعضهم، ونحوه. والله أسأل: أن يجعل السعي فيه خالصا لوجهه الكريم، موجبا للفوز لديه في جنات النعيم; فهو العالم بمودعات السرائر، وخفيات الضمائر، وأن يتغمدنا وإياهم بفضله ورحمته، ويتجاوز عنا وعنهم بسعة مغفرته، ويحشرنا في زمرتهم، إنه سميع قريب، عليه نتوكل وإليه ننيب، وحسبنا الله ونعم الوكيل، نعم المولى ونعم النصير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 كتاب العقائد (جواب الشيخ محمد بن عبد الوهاب لأهل القصيم في بيان عقيدته إجمالا) بسم الله الرحمن الرحيم قال شيخ الإسلام: العالم الرباني، والصديق الثاني، مجدد الدعوة الإسلامية، والملة الحنيفية، أوحد العلماء، وأورع الزهاد; الشيخ: محمد بن عبد الوهاب; أجزل الله له الأجر والثواب، وأسكنه الجنة بغير حساب، لما سأله أهل القصيم عن عقيدته: بسم الله الرحمن الرحيم أشهد الله ومن حضرني من الملائكة، وأشهدكم: أني أعتقد ما اعتقدته الفرقة الناجية، أهل السنة والجماعة، من الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، والبعث بعد الموت، والإيمان بالقدر خيره وشره، ومن الإيمان بالله: الإيمان بما وصف به نفسه في كتابه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، من غير تحريف ولا تعطيل، بل أعتقد أن الله سبحانه وتعالى ليس كمثله شيء وهو السميع البصير؛ فلا أنفي عنه ما وصف به نفسه، ولا أحرف الكلم عن مواضعه، ولا ألحد في أسمائه وآياته، ولا أكيف، ولا أمثل صفاته تعالى بصفات خلقه; لأنه تعالى لا سمي له، ولا كفؤ له، ولا ند له، ولا يقاس بخلقه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 فإنه سبحانه أعلم بنفسه وبغيره، وأصدق قيلا، وأحسن حديثا، فنَّزه نفسه عما وصفه به المخالفون، من أهل التكييف، والتمثيل، وعما نفاه عنه النافون، من أهل التحريف والتعطيل، فقال: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ، [سورة الصّافات الآيتات: 180-181-182] . والفرقة الناجية وسط في باب أفعاله تعالى، بين القدرية والجبرية، وهم وسط في باب وعيد الله، بين المرجئة والوعيدية. وهم وسط في باب الإيمان والدين، بين الحرورية والمعتزلة، وبين المرجئة والجهمية، وهم وسط في باب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الروافض، والخوارج. وأعتقد: أن القرآن كلام الله، منْزل غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود ; وأنه تكلم به حقيقة، وأنزله على عبده ورسوله، وأمينه على وحيه، وسفيره بينه وبين عباده، نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. وأؤمن: بأن الله فعال لما يريد، ولا يكون شيء إلا بإرادته، ولا يخرج شيء عن مشيئته، وليس شيء في العالم يخرج عن تقديره، ولا يصدر إلا عن تدبيره، ولا محيد لأحد عن القدر المحدود، ولا يتجاوز ما خط له في اللوح المسطور. وأعتقد الإيمان بكل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم مما يكون بعد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 الموت، فأومن بفتنة القبر ونعيمه، وبإعادة الأرواح إلى الأجساد، فيقوم الناس لرب العالمين، حفاة عراة غرلا، تدنو منهم الشمس، وتنصب الموازين، وتوزن بها أعمال العباد، {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} ، [سورة المؤمنون، الآيتان: 102-103] ،?وتنشر الدواوين، فآخذ كتابه بيمينه، وآخذ كتابه بشماله. وأومن: بحوض نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بعرصة القيامة، ماؤه أشد بياضا من اللبن، وأحلى من العسل، آنيته عدد نجوم السماء، من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبدا، وأومن بأن الصراط منصوب على شفير جهنم، يمر به الناس على قدر أعمالهم. وأومن بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم وأنه أول شافع، وأول مشفع; ولا ينكر شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم إلا أهل البدع والضلال; ولكنها لا تكون إلا من بعد الإذن والرضى، كما قال تعالى: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى} ، [سورة الأنبياء آية: 28] . وقال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} ، [سورة البقرة آية: 255] . وقال تعالى: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} ، [سورة النجم آية: 26] . وهو: لا يرضى إلا التوحيد، ولا يأذن إلا لأهله; وأما المشركون: فليس لهم من الشفاعة نصيب، كما قال تعالى: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} ، [سورة المدثر آية: 48] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 وأومن بأن الجنة والنار مخلوقتان، وأنهما اليوم موجودتان، وأنهما لا يفنيان، وأن المؤمنين يرون ربهم بأبصارهم يوم القيامة، كما يرون القمر ليلة البدر، لا يضامون في رؤيته. وأومن بأن نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين والمرسلين، ولا يصح إيمان عبد حتى يؤمن برسالته، ويشهد بنبوته; وأن أفضل أمته أبو بكر الصديق، ثم عمر الفاروق، ثم عثمان ذو النورين، ثم علي المرتضى، ثم بقية العشرة; ثم أهل بدر، ثم أهل الشجرة أهل بيعة الرضوان، ثم سائر الصحابة رضي الله عنهم. وأتولى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأذكر محاسنهم، وأترضى عنهم، وأستغفر لهم، وأكف عن مساويهم، وأسكت عما شجر بينهم، وأعتقد فضلهم، عملا بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإيْمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} ، [سورة الحشر آية: 10] . وأترضى عن أمهات المؤمنين المطهرات من كل سوء. وأقر بكرامات الأولياء وما لهم من المكاشفات، إلا أنهم لا يستحقون من حق الله تعالى شيئا، ولا يطلب منهم ما لا يقدر عليه إلا الله. ولا أشهد لأحد من المسلمين بجنة ولا نار، إلا من شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكني أرجو للمحسن، وأخاف على المسيء. ولا أكفر أحدا من المسلمين بذنب، ولا أخرجه من دائرة الإسلام. وأرى الجهاد ماضيا مع كل إمام: برا كان، أو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 فاجرا، وصلاة الجماعة خلفهم جائزة؛ والجهاد ماض منذ بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم إلى أن يقاتل آخر هذه الأمة الدجال، لا يبطله جور جائر، ولا عدل عادل. وأرى وجوب السمع والطاعة لأئمة المسلمين برهم وفاجرهم، ما لم يأمروا بمعصية الله. ومن ولي الخلافة، واجتمع عليه الناس، ورضوا به، وغلبهم بسيفه حتى صار خليفة وجبت طاعته، وحرم الخروج عليه. وأرى هجر أهل البدع، ومباينتهم حتى يتوبوا، وأحكم عليهم بالظاهر، وأكل سرائرهم إلى الله. وأعتقد أن كل محدثة في الدين بدعة. وأعتقد أن الإيمان: قول باللسان، وعمل بالأركان، واعتقاد بالجنان، يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية ; وهو بضع وسبعون شعبة: أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق. وأرى وجوب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، على ما توجبه الشريعة المحمدية الطاهرة. فهذه عقيدة وجيزة، حررتها وأنا مشتغل البال، لتطلعوا على ما عندي، والله على ما نقول وكيل. ثم لا يخفى عليكم أنه بلغني أن رسالة سليمان بن سحيم قد وصلت إليكم، وأنه قبلها وصدقها بعض المنتمين للعلم في جهتكم، والله يعلم أن الرجل افترى علي أمورا لم أقلها، ولم يأت أكثرها على بالي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 فمنها قوله: إني مبطل كتب المذاهب الأربعة; وإني أقول: إن الناس من ستمائة سنة ليسوا على شيء، وإني أدعي الاجتهاد; وإني خارج عن التقليد; وإني أقول: إن اختلاف العلماء نقمة، وإني أكفر من توسل بالصالحين; وإني أكفر البوصيري لقوله: يا أكرم الخلق; وإني أقول: لو أقدر على هدم قبة رسول الله صلى الله عليه وسلم لهدمتها، ولو أقدر على الكعبة لأخذت ميزابها، وجعلت لها ميزابا من خشب، وإني أحرم زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وإني أنكر زيارة قبر الوالدين وغيرهما، وإني أكفر من حلف بغير الله، وإني أكفر ابن الفارض، وابن عربي; وإني أحرق دلائل الخيرات، وروض الرياحين، وأسميه روض الشياطين. جوابي عن هذه المسائل أن أقول: سبحانك هذا بهتان عظيم; وقبله من بهت محمدا صلى الله عليه وسلم أنه يسب عيسى ابن مريم، ويسب الصالحين، فتشابهت قلوبهم بافتراء الكذب، وقول الزور; قال تعالى: {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ} ، [سورة النحل آية: 105] . بهتوه صلى الله عليه وسلم بأنه يقول: إن الملائكة، وعيسى، وعزيرا في النار; فأنزل الله في ذلك: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} ، [سورة الأنبياء آية: 101] ، وأما المسائل الأخر، وهي: أني أقول لا يتم إسلام الإنسان حتى يعرف معنى لا إله إلا الله، وأني أعرف من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 يأتيني بمعناها، وأني أكفر الناذر إذا أراد بنذره التقرب لغير الله، وأخذ النذر لأجل ذلك، وأن الذبح لغير الله كفر، والذبيحة حرام; فهذه المسائل حق، وأنا قائل بها; ولي عليها دلائل من كلام الله وكلام رسوله، ومن أقوال العلماء المتبعين، كالأئمة الأربعة، وإذا سهل الله تعالى: بسطت الجواب عليها في رسالة مستقلة، إن شاء الله تعالى. ثم اعلموا وتدبروا قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} ، [سورة الحجرات آية: 6] . (رسالة الشيخ ابن عبد الوهاب إلى عبد الله بن محمد بن عبد اللطيف ومعاتبته له) وله أيضا، قدس الله روحه، ونور ضريحه، ما نصه: بسم الله الرحمن الرحيم من محمد بن عبد الوهاب، إلى عبد الله بن محمد بن عبد اللطيف، حفظه الله تعالى. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد: فقد وصل إلينا من ناحيتكم مكاتيب، فيها إنكار وتغليظ علي، ولما قيل: إنك كنت معهم، وقع في الخاطر بعض الشيء، لأن الله سبحانه نشر لك من الذكر الجميل، وأنزل في قلوب عباده لك من المحبة ما لم يؤته كثيرا من الناس، لما يذكر عنك من مخالفة من قبلك من حكام السوء. وأيضا لما أعلم منك من محبة الله ورسوله، وحسن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 الفهم، واتباع الحق، ولو خالفك فيه كبار أئمتكم، لأني اجتمعت بك من نحو عشرين، وتذاكرت أنا وإياك في شيء من التفسير والحديث، وأخرجت لي كراريس من البخاري، كتبتها، ونقلت على هوامشها من الشروح، وقلت في مسألة الإيمان، التي ذكر البخاري في أول الصحيح: هذا هو الحق الذي أدين الله به، فأعجبني هذا الكلام، لأنه خلاف مذهب أئمتكم المتكلمين. وذاكرتني أيضا في بعض المسائل، فكنت أحكي لمن يتعلم مني ما من الله به عليك، من حسن الفهم، ومحبة الله والدار الآخرة; فلأجل هذا لم أظن فيك المسارعة في هذا الأمر، لأن الذين قاموا فيه مخطئون على كل تقدير، لأن الحق إن كان مع خصمهم فواضح; وإن كان معهم: فينبغي للداعي إلى الله، أن يدعو بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم، وقد أمر الله رسوليه، موسى وهارون أن يقولا لفرعون قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى. وينبغي للقاضي - أعزه الله بطاعته - لما ابتلاه الله بهذا المنصب أن يتأدب بالآداب التي ذكرها الله في كتابه الذي أنزل، ليبين للناس ما اختلفوا فيه، وهدى ورحمة لقوم يوقنون; فمن ذلك: لا يستخفنه الذين لا يوقنون; ويتثبت عند سعايات الفساق والمنافقين، ولا يعجل. وقد وصف الله المنافقين في كتابه بأوصافهم، وذكر شعب النفاق لتجتنب، ويجتنب أهلها أيضا; فوصفهم بالفصاحة، والبيان، وحسن اللسان، بل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 وحسن الصورة في قوله: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ} الآية، [سورة المنافقون آية: 4] . ووصفهم بالمكر والكذب والاستهزاء بالمؤمنين في أول البقرة، ووصفهم بكلام ذي الوجهين، ووصفهم بالدخول في المخاصمات بين الناس بما لا يحب الله ورسوله في قوله: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} الآية، [سورة المائدة آية: 41] . ووصفهم باستحقار المؤمنين والرضى بأفعالهم، ووصفهم بغير هذا في البقرة، وبراءة، وسورة القتال، وغير ذلك، نصيحة لعباده ليتجنبوا الأوصاف ومن تلبس بها. ونهى الله نبيه عن طاعتهم في غير موضع، فكيف يجوز من مثلك أن يقبل من مثل هؤلاء؟! وأعظم من ذلك: أن تعتقد أنهم من أهل العلم، وتزورهم في بيوتهم، وتعظمهم، وأنا لا أقول هذا في واحد بعينه، ولكن نصيحة، وتعريف بما في كتاب الله من سياسة الدين والدنيا، لأن أكثر الناس قد نبذه وراء ظهره. وأما ما ذكر لكم عني، فإني لم آته بجهالة، بل أقول - ولله الحمد والمنة وبه القوة -: إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين، ولست - ولله الحمد - أدعو إلى مذهب صوفي، أو فقيه، أو متكلم، أو إمام من الأئمة الذين أعظمهم، مثل ابن القيم، والذهبي، وابن كثير، أو غيرهم، بل أدعو إلى الله وحده لا شريك له، وأدعو إلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي أوصى بها أول أمته وآخرهم، وأرجو أني لا أرد الحق إذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 أتاني، بل أشهد الله وملائكته وجميع خلقه: إن أتانا منكم كلمة من الحق لأقبلنها على الرأس والعين; ولأضربن الجدار بكل ما خالفها من أقوال أئمتي، حاشا رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه لا يقول إلا الحق. وصفة الأمر: غير خاف عليكم ما درج عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، والتابعون وأتباعهم، والأئمة كالشافعي، وأحمد وأمثالهما ممن أجمع أهل الحق على هدايتهم، وكذلك ما درج عليه من سبقت له من الله الحسنى من أتباعهم. وغير خاف عليكم ما أحدث الناس في دينهم من الحوادث، وما خالفوا فيه طريق سلفهم، ووجدت المتأخرين أكثرهم قد غير وبدل؛ وسادتهم وأئمتهم، وأعلمهم وأعبدهم، وأزهدهم، مثل: ابن القيم، والحافظ الذهبي، والحافظ العماد ابن كثير، والحافظ ابن رجب، قد اشتد نكيرهم على أهل عصرهم، الذين هم خير من ابن حجر، وصاحب الإقناع، بالإجماع. فإذا استدل عليهم أهل زمانهم بكثرتهم، والإطباق على طريقتهم، قالوا: هذا من أكبر الأدلة على أنه باطل، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أخبر أن أمته تسلك مسالك اليهود والنصارى، حذو القذة بالقذة " حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه " 1. وقد ذكر الله في كتابه: أنهم فرقوا دينهم وكانوا شيعا،   1 البخاري: الاعتصام بالكتاب والسنة (7320) , وابن ماجه: الفتن (3994) , وأحمد (2/327) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 وأنهم كتبوا الكتاب بأيديهم، وقالوا: هذا من عند الله، وأنهم تركوا كتاب الله والعمل به، وأقبلوا على ما أحدثه أسلافهم من الكتب. وأخبر أنه وصاهم بالاجتماع، وأنهم لم يختلفوا لخفاء الدين، بل اختلفوا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم، {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} ، [سورة المؤمنون آية: 53] والزبر: الكتب. فإذا فهم المؤمن، قول الصادق المصدوق: " لتتبعن سنن من كان قبلكم " 1، وجعله قبلة قلبه، تبين له أن هذه الآيات وأشباهها، ليست على ما ظن الجاهلون: أنها كانت في قوم كانوا فبانوا، بل يفهم ما ورد عن عمر رضي الله عنه أنه قال في هذه الآيات: " مضى القوم، وما يعني به غيركم ". وقد فرض الله على عباده في كل صلاة أن يسألوه الهداية إلى الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم عليهم، الذين هم غير المغضوب عليهم، ولا الضالين؛ فمن عرف دين الإسلام، وما وقع الناس فيه من التغيير له، عرف مقدار هذا الدعاء، وحكمة الله فيه. والحاصل: أن صورة المسألة، هل الواجب على كل مسلم أن يطلب علم ما أنزل الله على رسوله، ولا يعذر أحد في تركه البتة؟ أم يجب عليه أن يتبع التحفة 2 مثلا؟ فأعلم المتأخرين وسادتهم منهم، كابن القيم قد أنكروا هذا غاية   1 البخاري: أحاديث الأنبياء (3456) , ومسلم: العلم (2669) , وأحمد (3/84 ,3/89) . 2 يعني التحفة لابن حجر الهيتمي المكي الشافعي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 الإنكار; وأنه تغيير لدين الله; واستدلوا على ذلك بما يطول وصفه، من كتاب الله الواضح، ومن كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم البين، لمن نور الله قلبه. والذين يجيزون ذلك، أو يوجبونه، يدلون بشبه واهية، لكن أكبر شبههم على الإطلاق: إنا لسنا من أهل ذلك، ولا نقدر عليه، ولا يقدر عليه إلا المجتهد; وإنا وجدنا آباءنا على أمة، وإنا على آثارهم مقتدون. ولأهل العلم في إبطال هذه الشبهة ما يحتمل مجلدا، ومن أوضحه قول الله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} ، [سورة التوبة آية: 31] . وقد فسرها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث عدي بهذا الذي أنتم عليه اليوم، في الأصول، والفروع، لا أعلمهم يزيدون عليكم مثقال حبة خردل، بل يبين مصداق قوله: " حذو القذة بالقذة " 1 إلخ. وكذلك فسرها المفسرون، لا أعلم بينهم اختلافا، ومن أحسنه: ما قاله أبو العالية، أما إنهم لم يعبدوهم، ولو أمروهم بذلك ما أطاعوهم، ولكنهم وجدوا كتاب الله، فقالوا: لا نسبق علماءنا بشيء، ما أمرونا به ائتمرنا، وما نهونا عنه انتهينا. وهذه رسالة لا تحتمل إقامة الدليل، ولا جوابا عما يدلي به المخالف، لكن أعرض عليه من نفسي الإنصاف والانقياد للحق، فإن أردتم الرد علي بعلم وعدل، فعندكم كتاب إعلام الموقعين، لابن القيم عند ابن فيروز في مشرفة 2.   1 أحمد (4/125) . 2 اسم مكان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 فقد بسط الكلام فيه على هذا الأصل بسطا كثيرا، وسرد من شبه أئمتكم ما لا تعرفون أنتم ولا آباؤكم، وأجاب عنها، واستدل لها بالدلائل الواضحة القاطعة، منها: أمر الله ورسوله عن أمركم هذا بعينه، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وصفوه من قبل أن يقع، وحذروا الناس منه، وأخبروا أنه لا يسير على الدين إلا الواحد بعد الواحد، وأن الإسلام يصير غريبا كما بدأ. وقد علمتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سأله عمرو بن عبسة في أول الإسلام: من معك على هذا؟ قال: (حر وعبد) يعني أبا بكر، وبلالا. فإذا كان الإسلام يعود كما بدأ، فما أجهل من استدل بكثرة الناس، وأطباقهم، وأشباه هذه الشبهة، التي هي عظيمة عند أهلها، حقيرة عند الله، وعند أولي العلم من خلقه، كما قال تعالى: {بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الأَوَّلُونَ} ، [سورة المؤمنون آية: 81] . فلا أعلم لكم حجة تحتجون بها، إلا وقد ذكر الله في كتابه: أن الكفار استدلوا بها على تكذيب الرسل، مثل إطباق الناس، وطاعة الكبراء، وغير ذلك. فمن من الله عليه بمعرفة دين الإسلام، الذي دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، عرف قدر هذه الآيات، والحجج، وحاجة الناس إليها. فإن زعمتم: أن ذكر هؤلاء الأئمة لهذا لمن كان من أهله، فقد صرحوا بوجوبه على الأسود والأحمر، والذكر والأنثى، وأنه ما بعد الحق إلا الضلال، وأن قول من قال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 ذلك صعب، مكيدة من الشيطان، كاد بها الناس عن سلوك الصراط المستقيم، الحنيفية ملة إبراهيم; وإن بان لكم أنهم مخطئون، فبينوا لي الحق حتى أرجع إليه. وإنما كتبت لكم هذا معذرة من الله، ودعوة إلى الله، لأحصل ثواب الداعين إلى الله، وإلا أنا أظن أنكم لا تقبلونه، وأنه عندكم من أنكر المنكرات، من أن الذي يعيب هذا عندكم، مثل من يعيب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه. لكن أنت، من سبب ما أظن فيك من طاعة الله، لا أبعد أن يهديك الله إلى الصراط المستقيم، ويشرح قلبك للإسلام; فإذا قرأته، فإن أنكره قلبك فلا عجب; فإن العجب ممن نجا كيف نجا؟ فإن أصغى إليه قلبك بعض الإصغاء، فعليك بكثرة التضرع إلى الله، والانطراح بين يديه، خصوصا أوقات الإجابة، كآخر الليل، وأدبار الصلاة، وبعد الأذان. وكذلك بالأدعية المأثورة، خصوصا الذي ورد في الصحيح، أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول: " اللهم رب جبرائيل، وميكائيل، وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم " 1. فعليك بالإلحاح بهذا الدعاء، بين يدي من يجيب المضطر إذا دعاه، وبالذي هدى إبراهيم لمخالفة الناس كلهم، وقل: يا معلم إبراهيم علمني.   1 مسلم: صلاة المسافرين وقصرها (770) , والترمذي: الدعوات (3420) , والنسائي: قيام الليل وتطوع النهار (1625) , وأبو داود: الصلاة (767) , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1357) , وأحمد (6/156) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 وإن صعب عليك مخالفة الناس، ففكر في قول الله تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} ، [سورة الجاثية الآيتان: 18-19] ، {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} ، [سورة الأنعام آية: 116] . وتأمل قوله في الصحيح: " بدأ الإسلام غريبا، وسيعود غريبا كما بدأ " 1 وقوله صلى الله عليه وسلم: " إن الله لا يقبض العلم " 2 إلى آخره، وقوله: " عليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي " وقوله: " وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة " 3. والآيات، والأحاديث في ذلك كثيرة أفردت بالتصنيف. فإني أحبك، وقد دعوت لك في صلاتي، وأتمنى من قبل هذه المكاتيب أن يهديك الله لدينه القيم، ولا يمنعني من مكاتبتك إلا ظني أنك لا تقبل، وتسلك مسلك الأكثر; ولكن لا مانع لما أعطى الله، والله لا يتعاظم شيئا أعطاه، وما أحسنك لو تكون في آخر هذا الزمان فاروقا لدين الله كعمر رضي الله عنه في أوله، فإنك لو تكون معنا لانتصفنا ممن أغلظ علينا. وأما هذا الخيال الشيطاني الذي اصطاد به الناس، أن من سلك هذا المسلك، فقد نسب نفسه للاجتهاد، وترك الاقتداء بأهل العلم، وزخرفه بأنواع الزخارف، فليس هذا بكثير من الشيطان وزخارفه، كما قال تعالى: {يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً} ، [سورة الأنعام آية: 112] . فإن الذي   1 مسلم: الإيمان (145) , وابن ماجه: الفتن (3986) , وأحمد (2/389) . 2 البخاري: العلم (100) , ومسلم: العلم (2673) , والترمذي: العلم (2652) , وابن ماجه: المقدمة (52) , وأحمد (2/162 ,2/190) , والدارمي: المقدمة (239) . 3 أبو داود: السنة (4607) , والدارمي: المقدمة (95) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 أنا عليه، وأدعوكم إليه، هو في الحقيقة الاقتداء بأهل العلم، فإنهم قد وصوا الناس بذلك. ومن أشهرهم كلاما في ذلك، إمامكم الشافعي، قال: لا بد أن تجدوا عني ما يخالف الحديث، فكل ما خالفه، فأشهدكم أني قد رجعت عنه. وأيضا: أنا في مخالفتي هذا العالم، لم أخالفه وحدي، فإذا اختلفت أنا وشافعي مثلا في أبوال مأكول اللحم، وقلت القول بنجاسته، يخالف حديث العرنيين، ويخالف حديث أنس: " أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في مرابض الغنم " 1. فقال هذا الجاهل الظالم: أنت أعلم بالحديث من الشافعي؟ قلت: أنا لم أخالف الشافعي من غير إمام اتبعته، بل اتبعت من هو مثل الشافعي أو أعلم منه، قد خالفه، واستدل بالأحاديث. فإذا قال أنت أعلم من الشافعي؟ قلت: أنت أعلم من مالك؟ وأحمد؟ فقد عارضته بمثل ما عارضني به، وسلم الدليل من المعارض، واتبعت قول الله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} الآية، [سورة النساء آية: 59] . واتبعت من اتبع الدليل في هذه المسألة من أهل العلم، لم أستدل بالقرآن، أو الحديث وحدي، حتى يتوجه علي ما قيل، وهذا على التنْزل; وإلا فمعلوم: أن اتباعكم لابن حجر في الحقيقة، ولا تعبؤون بمن خالفه من رسول، أو صاحب، أو تابع، حتى الشافعي نفسه، ولا تعبؤون بكلامه إذا خالف نص   1 البخاري: الوضوء (234) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (524) , والترمذي: الصلاة (350) , وأحمد (3/131 ,3/194) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 ابن حجر، وكذلك غيركم إنما اتباعهم لبعض المتأخرين لا للأئمة. فهؤلاء الحنابلة من أقل الناس بدعة; وأكثر الإقناع، والمنتهى، مخالف لمذهب أحمد ونصه، يعرف ذلك من عرفه; ولا خلاف بيني وبينكم أن أهل العلم إذا أجمعوا وجب اتباعهم; وإنما الشأن إذا اختلفوا، هل يجب علي أن أقبل الحق ممن جاء به، وأرد المسألة إلى الله والرسول، مقتديا بأهل العلم؟ أو أنتحل بعضهم من غير حجة، وأزعم أن الصواب في قوله؟ فأنتم على هذا الثاني، وهو الذي ذمه الله، وسماه شركا، وهو اتخاذ العلماء أربابا؟ وأنا على الأول، أدعو إليه، وأناظر عليه، فإن كان عندكم حق رجعنا إليه، وقبلناه منكم. وإن أردت النظر في إعلام الموقعين، فعليك بالمناظرة في أثنائه، عقدها بين مقلد وصاحب حجة. وإن ألقي في ذهنك: أن ابن القيم مبتدع، وأن الآيات التي استدل بها ليس هذا معناها، فاضرع إلى الله، وأسأله أن يهديك لما اختلفوا فيه من الحق، وتجرد ناظرا، ومناظرا، واطلب كلام أهل العلم في زمانه، مثل الحافظ الذهبي، وابن كثير، وابن رجب، وغيرهم، ومما ينسب للذهبي رحمه الله: العلم قال الله قال رسوله ... قال الصحابة ليس خلف فيه ما العلم نصبك للخلاف سفاهة ... بين الرسول وبين رأي فقيه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 فإن لم تتبع لهؤلاء، فانظر كلام الأئمة قبلهم، كالحافظ البيهقي في كتاب المدخل، والحافظ ابن عبد البر، والخطابي، وأمثالهم، ومن قبلهم، كالشافعي، وابن جرير، وابن قتيبة، وأبي عبيد، فهؤلاء إليهم المرجع في كلام الله، وكلام رسوله، وكلام السلف. وإياك وتفاسير المحرفين للكلم عن مواضعه، وشروحهم، فإنها القاطعة عن الله، وعن دينه. وتأمل: ما في كتاب الاعتصام للبخاري، وما قال أهل العلم في شرحه، وهل يتصور شيء بما صرح مما صح عنه صلى الله عليه وسلم أن أمته ستفترق على أكثر من سبعين فرقة، أخبر أنهم كلهم في النار إلا واحدة، ثم وصف تلك الواحدة أنها التي على ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وأنتم مقرون أنكم على غير طريقتهم، وتقولون: ما نقدر عليها، ولا يقدر عليها إلا المجتهد، فجزمتم أنه لا ينتفع بكلام الله، وكلام رسوله إلا المجتهد. وتقولون: يحرم على غيره أن يطلب الهدى من كلام الله، وكلام رسوله، وكلام أصحابه؛ فجزمتم وشهدتم: أنكم على غير طريقتهم، معترفين بالعجز عن ذلك. وإذا كنتم مقرين أن الواجب على الأولين اتباع كتاب الله، وسنة رسوله، لا يجوز العدول عن ذلك، وأن هذه الكتب، والتي خير منها، لو تحدث في زمن عمر بن الخطاب لفعل بها وبأهلها أشد الفعل، ولو تحدث في زمن الشافعي وأحمد، لاشتد نكيرهم لذلك، فليت شعري، متى حرم الله هذا الواجب، وأوجب هذا المحرم؟! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 ولما حدث قليل من هذا، لا يشبه ما أنتم عليه في زمن الإمام أحمد، اشتد إنكاره لذلك; ولما بلغه عن بعض أصحابه أنه يروي عنه مسائل بخراسان، قال: أشهدكم أني قد رجعت عن ذلك، ولما رأى بعضهم يكتب كلامه: أنكر عليه، وقال: تكتب رأيا لعلي أرجع عنه غدا، اطلب العلم مثل ما طلبنا. ولما سئل عن كتاب أبي ثور؟ قال: كل كتاب ابتدع، فهو بدعة. ومعلوم: أن أبا ثور من كبار أهل العلم; وكان أحمد يثني عليه; وكان ينهى الناس عن النظر في كتب أهل العلم الذين يثني عليهم ويعظمهم. ولما أخذ بعض أئمة الحديث كتب أبي حنيفة، هجره أحمد، وكتب إليه: إن تركت كتب أبي حنيفة أتيناك تسمعنا كتب ابن المبارك. ولما ذكر له بعض أصحابه أن هذه الكتب فيها فائدة لمن لا يعرف الكتاب والسنة، قال: إن عرفت الحديث لم تحتج إليها، وإن لم تعرفه لم يحل لك النظر فيها. وقال: عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته، يذهبون إلى رأي سفيان، والله يقول: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} ، [النّور، من الآية: 63] . قال: أتدري ما الفتنة؟ الفتنة: الشرك، ومعلوم: أن الثوري عنده غاية، وكان يسميه أمير المؤمنين; فإذا كان هذا كلام أحمد في كتب نتمنى الآن أن نراها، فكيف بكتب قد أقر أهلها على أنفسهم أنهم ليسوا من أهل العلم؟! وشهد عليهم بذلك، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 ولعل بعضهم مات وهو لا يعرف ما دين الإسلام الذي بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم. وشبهتكم التي ألقيت في قلوبكم: أنكم لا تقدرون على فهم كلام الله، ورسوله، والسلف الصالح، وقد قدمنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة " 1 إلى آخره، فتأمل هذه الشبهة، أعني قولكم: لا نقدر على ذلك; وتأمل ما حكى الله عن اليهود، في قوله: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ} [سورة البقرة آية: 88] ، وقوله: {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلاَّ الْفَاسِقُونَ} ، [سورة البقرة آية: 99] ، وقوله: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [سورة الزخرف آية: 3] ، وقوله: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} ، [سورة القمر آية: 17] . واطلب تفاسير هذه الآيات من كتب أهل العلم; واعرف من نزلت فيه; واعرف الأقوال والأفعال، التي كانت سببا لنُزول هذه الآيات، ثم اعرضها على قولهم: لا نقدر على فهم القرآن والسنة، تجد مصداق قوله: " لتتبعن سنن من كان قبلكم " 2 وما في معناه من الأحاديث الكثيرة، فلتكن قصة إسلام سلمان الفارسي منكم على بال. ففيها: أنه لم يكن على دين الرسل إلا الواحد بعد الواحد، حتى إن آخرهم قال عند موته: لا أعلم على وجه الأرض أحدا على ما نحن عليه، ولكن قد أظل زمان نبي.   1 البخاري: أحاديث الأنبياء (3456) , ومسلم: العلم (2669) , وأحمد (3/84 ,3/89) . 2 البخاري: أحاديث الأنبياء (3456) , ومسلم: العلم (2669) , وأحمد (3/84 ,3/89) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 واذكر مع هذا قول الله تعالى: {فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ} ، [سورة هود آية: 116] . فحقيق لمن نصح نفسه، وخاف عذاب الآخرة: أن يتأمل ما وصف الله به اليهود في كتابه، خصوصا ما وصف به علماءهم، ورهبانهم، من كتمان الحق، ولبس الحق بالباطل، والصد عن سبيل الله، وما وصفهم الله، أي: علماءهم، من الشرك، والإيمان بالجبت والطاغوت، وقولهم للذين كفروا: هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا; لأنه عرف أن كل ما فعلوا لا بد أن تفعله هذه الأمة، وقد فعلت. وإن صعب عليك مخالفة الكبر، أو لم يقبل ذهنك هذا الكلام، فأحضر بقلبك: أن كتاب الله أحسن الكتب، وأعظمها بيانا وشفاء لداء الجهل، وأعظمها فرقا بين الحق والباطل، والله سبحانه قد عرف تفرق عباده، واختلافهم قبل أن يخلقهم، وقد ذكر في كتابه: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً} [سورة آية: 64] ، وأحضر قلبك هذه الأصول وما يشابهها في ذهنك، واعرضها على قلبك، فإنه إن شاء الله يؤمن بها على سبيل الإجمال. فتأمل قوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} ، [سورة لقمان آية: 21] ، وتكرير هذا الأصل في مواضع كثيرة، وكذلك قوله: {أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} ، [سورة الأعراف آية: 71] . فكل حجة تحتجون بها، تجدها مبسوطة في القرآن، وبعضها في مواضع كثيرة. فأحضر بقلبك: أن الحكيم الذي أنزل كتابه شفاء من الجهل، فارقا بين الحق والباطل، لا يليق منه أن يقرر هذه الحجج، ويكررها، مع عدم حاجة المسلمين إليها، ويترك الحجج التي يحتاجون إليها، ويعلم أن عباده يفترقون; حاشا أحكم الحاكمين من ذلك. ومما يهون عليك مخالفة من خالف الحق، وإن كان من أعلم الناس وأذكاهم، وأعظمهم جاها، ولو اتبعه أكثر الناس: ما وقع في هذه الأمة من افتراقهم في أصول الدين، وصفات الله تعالى، وغالب من يدعي المعرفة، وما عليه المتكلمون، وتسميتهم طريقة رسول الله صلى الله عليه وسلم حشوا، وتشبيها، وتجسيما. مع أنك إذا طالعت في كتاب من كتب الكلام - مع كونه يزعم أن هذا واجب على كل أحد، وهو أصل الدين - تجد الكتاب من أوله إلى آخره لا يستدل على مسألة منه بآية من كتاب الله، ولا حديث عن رسول الله، اللهم إلا أن يذكره ليحرفه عن مواضعه. وهم معترفون أنهم لم يأخذوا أصولهم من الوحي، بل من عقولهم، ومعترفون أنهم مخالفون للسلف في ذلك، مثل ما ذكر في فتح الباري، في مسألة الإيمان، على قول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 البخاري: وهو قول وعمل، ويزيد وينقص; فذكر إجماع السلف على ذلك، وذكر عن الشافعي: أنه نقل الإجماع على ذلك، وكذلك ذكر أن البخاري نقله، ثم بعد ذلك حكى كلام المتأخرين، ولم يرده. فإن نظرت في كتاب التوحيد في آخر الصحيح، فتأمل تلك التراجم، وقرأت في كتب أهل العلم من السلف، ومن أتباعهم من الخلف، ونقلهم الإجماع على وجوب الإيمان بصفات الله تعالى، وتلقيها بالقبول، وأن من جحد شيئا منها، أو تأول شيئا من النصوص، فقد افترى على الله، وخالف إجماع أهل العلم، ونقلهم الإجماع: أن علم الكلام بدعة وضلالة، حتى قال أبو عمر ابن عبد البر: أجمع أهل العلم في جميع الأعصار والأمصار، أن أهل الكلام أهل بدع وضلالات، لا يعدون عند الجميع من طبقات العلماء؛ والكلام في هذا يطول. والحاصل: أنهم عمدوا إلى شيء أجمع المسلمون كلهم، بل وأجمع عليه أجهل الخلق بالله عبدة الأوثان، الذين بعث فيهم النبي صلى الله عليه وسلم فابتدع هؤلاء كلاما من عند أنفسهم، كابروا به العقول أيضا، حتى إنكم لا تقدرون تغيرون عوامكم عن فطرتهم التي فطرهم الله عليها، ثم مع هذا كله تابعهم جمهور من يتكلم في علم هذا الأمر، إلا من سبقت لهم من الله الحسنى، وهم كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 يبغضونهم الناس، ويرمونهم بالتجسيم. هذا، وأهل الكلام وأتباعهم، من أحذق الناس، وأفطنهم، حتى إن لهم من الذكاء والحفظ والفهم، ما يحير اللبيب، وهم وأتباعهم مقرون أنهم مخالفون للسلف، حتى إن أئمة المتكلمين، لما ردوا على الفلاسفة في تأويلهم في آيات الأمر والنهي، مثل قولهم: المراد بالصيام كتمان أسرارنا، والمراد بالحج زيارة مشائخنا; والمراد بجبريل: العقل الفعال; وغير ذلك من إفكهم; ردوا عليهم الجواب: بأن هذا التفسير خلاف المعروف بالضرورة من دين الإسلام; فقال لهم الفلاسفة: أنتم جحدتم علو الله على خلقه، واستواءه على عرشه، مع أنه مذكور في الكتب، على ألسنة الرسل، وقد أجمع عليه المسلمون كلهم، وغيرهم من أهل الملل، فكيف يكون تأويلنا تحريفا؟! وتأويلكم صحيحا؟! فلم يقدر أحد من المتكلمين أن يجيب عن هذا الإيراد. والمراد: أن مذهبهم مع كونه فاسدا في نفسه، مخالفا للعقول، وهو أيضا مخالف لدين الإسلام، والكتاب والرسول، وللسلف كلهم، ويذكرون في كتبهم أنهم مخالفون للسلف، ثم مع هذا راجت بدعتهم على العالم والجاهل، حتى طبقت مشارق الأرض ومغاربها. وأنا أدعوك إلى التفكر في هذه المسألة، وذلك أن السلف قد كثر كلامهم، وتصانيفهم في أصول الدين، وإبطال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 كلام المتكلمين، وتفكيرهم، وممن ذكر هذا من متأخري الشافعية: البيهقي، والبغوي، وإسماعيل التيمي، ومن بعدهم، كالحافظ الذهبي; وأما متقدموهم: كابن سريج، والدارقطني، وغيرهما، فكلهم على هذا الأمر؛ ففتش في كتب هؤلاء، فإن أتيتني بكلمة واحدة أن منهم رجلا واحدا لم ينكر على المتكلمين، ولم يكفرهم، فلا تقبل مني شيئا أبدا; ومع هذا كله، وظهوره غاية الظهور، راج عليكم حتى ادعيتم أن أهل السنة هم المتكلمون; والله المستعان. ومن العجب: أنه يوجد في بلدكم من يفتي الرجل بقول إمام; والثاني بقول آخر، والثالث بخلاف القولين; ويعد فضيلة، وعلما، وذكاء، ويقال: هذا يفتي في مذهبين أو أكثر. ومعلوم عند الناس: أن مراده في هذا، العلو والرياء، وأكل أموال الناس بالباطل; فإذا خالفت قول عالم لمن هو أعلم منه، أو مثله إذا كان معه الدليل، ولم آت بشيء من عند نفسي، تكلمتم بهذا الكلام الشديد، فإن سمعتم أني أفتيت بشيء خرجت فيه من إجماع أهل العلم، توجه علي القول. وقد بلغني أنكم في هذا الأمر قمتم وقعدتم، فإن كنتم تزعمون أن هذا إنكار للمنكر، فيا ليت قيامكم كان في عظائم في بلدكم تضاد أصلي الإسلام: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله. منها - وهو أعظمها -: عبادة الأصنام عندكم، من بشر، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 وحجر; هذا يذبح له; وهذا ينذر له; وهذا يطلب إجابة الدعوات وإغاثة اللهفات; وهذا يدعوه المضطر في البر والبحر، وهذا يزعمون أن من التجأ إليه ينفعه في الدنيا والآخرة، ولو عصى الله! فإن كنتم تزعمون أن هذا ليس هو عبادة الأصنام والأوثان المذكورة في القرآن، فهذا من العجب، فإني لا أعلم أحدا من أهل العلم يختلف في ذلك، اللهم إلا أن يكون أحد وقع فيما وقع فيه اليهود، من إيمانهم بالجبت والطاغوت. وإن ادعيتم: أنكم لا تقدرون على ذلك، فإن لم تقدروا على الكل، قدرتم على البعض; كيف وبعد الذين أنكروا على هذا الأمر، وادعوا أنهم من أهل العلم، ملتبسون بالشرك الأكبر، ويدعون إليه، ولو يسمعون إنسانا يجرد التوحيد، لرموه بالكفر والفسوق; ولكن نعوذ بالله من رضى الناس بسخط الله. ومنها: ما يفعله كثير من أتباع إبليس، وأتباع المنجمين والسحرة والكهان، ممن ينتسب إلى الفقر، وكثير ممن ينتسب إلى العلم من هذه الخوارق التي يوهمون بها الناس، ويشبهون بمعجزات الأنبياء، وكرامات الأولياء، ومرادهم أكل أموال الناس بالباطل، والصد عن سبيل الله؛ حتى إن بعض أنواعها يعتقد فيه من يدعي العلم: أنه من العلم الموروث عن الأنبياء، من علم الأسماء، وهو من الجبت والطاغوت، ولكن هذا مصداق قوله صلى الله عليه وسلم " لتتبعن سنن من كان قبلكم " 1.   1 البخاري: أحاديث الأنبياء (3456) , ومسلم: العلم (2669) , وأحمد (3/84 ,3/89) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 ومنها: هذه الحيلة الربوية، التي مثل حيلة أصحاب السبت، أو أشد. وأنا أدعو من خالفني إلى أحد أربع: إما إلى كتاب الله، وإما إلى سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وإما إلى إجماع أهل العلم؛ فإن عاند، دعوته إلى المباهلة، كما دعا إليها ابن عباس في بعض مسائل الفرائض، وكما دعا إليها سفيان، والأوزاعي، في مسألة رفع اليدين، وغيرهما من أهل العلم; والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله وسلم. (رسالة الشيخ محمد بن عبد الوهاب والإمام عبد العزيز بن سعود إلى الشيخ عبد العزيز الحصين والي مكة) وفي سنة 1184هـ، أرسل الشيخ محمد بن عبد الوهاب، والإمام عبد العزيز بن محمد بن سعود، إلى والي مكة، الشيخ: عبد العزيز الحصين، وكتبا إلى الوالي المذكور، رسالة، هذا نصها: بسم الله الرحمن الرحيم المعروض لديك، أدام الله أفضل نعمة عليك، حضرة الشريف أحمد بن الشريف سعيد، أعزه الله في الدارين، وأعز به دين جده، سيد الثقلين. إن الكتاب لما وصل إلى الخادم، وتأمل ما فيه من الكلام الحسن، رفع يديه بالدعاء إلى الله بتأييد الشريف، لما كان قصده نصر الشريعة المحمدية، ومن تبعها، وعداوة من خرج عنها; وهذا هو الواجب على ولاة الأمور، ولما طلبتم من ناحيتنا طالب علم امتثلنا الأمر، وهو واصل إليكم، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 ويجلس في مجلس الشريف، أعزه الله، هو وعلماء مكة; فإن اجتمعوا، فالحمد لله على ذلك، وإن اختلفوا أحضر الشيخ كتبهم، وكتب الحنابلة. والواجب على الكل منا، ومنكم: أنه يقصد بعلمه وجه الله، ونصر رسوله كما قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ} الآية، [سورة آل عمران آية: 81] . فإذا كان سبحانه قد أخذ الميثاق على الأنبياء إن أدركوا محمدا صلى الله عليه وسلم، على الإيمان به، ونصرته، فكيف بنا يا أمته؟ فلا بد من الإيمان به، ولا بد من نصرته، لا يكفي أحدهما عن الآخر، وأحق الناس بذلك، وأولاهم به أهل البيت، الذي بعثه الله منهم، وشرفهم على أهل الأرض، وأحق أهل البيت بذلك من كان من ذريته صلى الله عليه وسلم. والسلام. (رسالة الشيخ ابن عبد الوهاب إلى علماء مكة وإجابة الأمير عبد العزيز للشريف غالب) وفي سنة 1204 هـ، أرسل: غالب إلى الإمام عبد العزيز رحمه الله، يطلب منه أن يرسل إليه رجلا من أهل العلم، يبحث مع علماء مكة المشرفة، فأرسلا إليه، وكتب الشيخ رحمه الله هذه الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم من محمد بن عبد الوهاب إلى العلماء الأعلام في بلد الله الحرام، نصر الله بهم دين سيد الأنام عليه أفضل الصلاة والسلام، وتابعي الأئمة الأعلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 سلام عليكم ورحمة الله وبركاته; وبعد: جرى علينا من الفتنة، ما بلغكم، وبلغ غيركم، وسببه: هدم بناء في أرضنا على قبور الصالحين، ومع هذا نهيناهم عن دعوة الصالحين، وأمرناهم بإخلاص الدعاء لله. فلما أظهرنا هذه المسألة، مع ما ذكرنا من هدم البناء على القبور، كبر على العامة، وعاضدهم بعض من يدعي العلم، لأسباب ما تخفى على مثلكم، أعظمها اتباع الهوى، مع أسباب أخر. فأشاعوا عنا: أنا نسب الصالحين، وأنا على غير جادة العلماء، ورفعوا الأمر إلى المشرق والمغرب، وذكروا عنا أشياء يستحي العاقل من ذكرها؛ وأنا أخبركم بما نحن عليه، بسبب أن مثلكم ما يروج عليه الكذب، ليتبين لكم الأمر، وتعلموا الحقيقة. فنحن - ولله الحمد - متبعون لا مبتدعون، على مذهب الإمام أحمد بن حنبل، وتعلمون - أعزكم الله - أن المطاع في كثير من البلدان، لو يتبين بالعمل بهاتين المسألتين، أنها تكبر عند العامة، الذين درجوا هم وآباؤهم على ضد ذلك، وأنتم تعلمون - أعزكم الله - أن في ولاية أحمد بن سعيد، وصل إليكم الشيخ عبد العزيز بن عبد الله، وأشرفتم على ما عندنا، بعدما أحضروا كتب الحنابلة، التي عندنا عمدة، وكالتحفة، والنهاية عند الشافعية، فلما طلب منا الشريف غالب - أعزه الله ونصره - امتثلنا أمره، وأجبنا طلبه، وهو إرسال رجل من أهل العقل والعلم، ليبحث مع علماء بيت الله الحرام، حتى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 يتبين له - أعزه الله - ما عندنا، وما نحن عليه. ثم اعلموا وفقكم الله: إن كانت المسألة إجماعا، فلا نزاع، وإن كانت مسائل اجتهاد، فمعلومكم أنه لا إنكار في من يسلك الاجتهاد؛ فمن عمل بمذهبه في محل ولايته، لا ينكر عليه. وأنا أشهد الله وملائكته، وأشهدكم أني على دين الله ورسوله، وإني متبع لأهل العلم، غير مخالف لهم; والسلام. (رسالة الشيخ ابن عبد الوهاب لأحد علماء المدينة وبيان سبب الخلاف الذي بينه وبين الناس) وله أيضا - رحمه الله تعالى - مجاوبة لعالم من أهل المدينة. بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين; إله الأولين والآخرين، وقيوم السماوات والأرضين، وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله وهو الحكيم العليم، ثم ينتهي إلى جناب ... لا زال محروس الجناب بعين الملك الوهاب; وبعد: الخط وصل أوصلك الله إلى رضوانه، وسر الخاطر حيث أخبر بطيبكم؛ فإن سألت عنا فالحمد لله الذي بحمده تتم الصالحات. وإن سألت عن سبب الاختلاف، الذي هو بيننا وبين الناس، فما اختلفنا في شيء من شرائع الإسلام، من صلاة، وزكاة، وصوم، وحج، وغير ذلك، ولا في شيء من المحرمات. الشيء الذي عندنا زين، هو عند الناس زين; الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 والذي عندهم شين هو عندنا شين، إلا أنا نعمل بالزين، ونغصب الذي يدنا عليه، وننهى عن الشين، ونؤدب الناس عليه. والذي قلب الناس علينا: الذي قلبهم على سيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم، وقلبهم على الرسل من قبله: {كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ} ، [سورة المؤمنون آية: 44] ، ومثل ما قال ورقة للنبي صلى الله عليه وسلم: " والله ما جاء أحد بمثل ما جئت به إلا عودي " 1. فرأس الأمر عندنا، وأساسه: إخلاص الدين لله، نقول: ما يدعى إلا الله، ولا ينذر إلا لله، ولا يذبح القربان إلا لله، ولا يخاف خوف الله إلا من الله؛ فمن جعل من هذا شيئا لغير الله، فنقول: هذا الشرك بالله، الذي قال الله فيه: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} الآية، [سورة النساء آية: 48، و116] . والكفار الذين قاتلهم النبي صلى الله عليه وسلم واستحل دماءهم يقرون أن الله هو الخالق وحده لا شريك له، النافع الضار، المدبر لجميع الأمور، واقرأ قوله سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ} الآية، [سورة يونس آية: 31] . {قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} [سورة الآيتان: 88-89] . وأخبر الله عن الكفار: أنهم يخلصون لله الدين أوقات الشدائد، واذكر قوله سبحانه: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} ، [سورة العنكبوت آية: 65] . والآية الأخرى: {وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} ، [سورة لقمان آية: 32] ، وبين الله غاية الكفار،   1 البخاري: بدء الوحي (4) , ومسلم: الإيمان (160) , وأحمد (6/223 ,6/232) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 ومطلبهم، أنهم يطلبون الشفع 1. واقرأ أول سورة الزمر، تراه سبحانه بين دين الإسلام، وبين دين الكفار ومطلبهم، الآيات في هذا من القرآن: ما تحصى ولا تعد. وأما الأحاديث الثابتة عنه صلى الله عليه وسلم فلما قال بعض الصحابة: " ما شاء الله، وشئت، قال: أجعلتني لله ندا؟ قل ما شاء الله وحده ". وفي الحديث الثاني، قال بعض الصحابة: " قوموا بنا نستغيث برسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا المنافق. قال: إنه لا يستغاث بي، وإنما يستغاث بالله وحده " 2. وفي الحديث الثالث: " أن أم سلمة رضي الله عنها، ذكرت له كنيسة رأتها بأرض الحبشة، وما فيها من الصور، قال: أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح - أو العبد الصالح - بنوا على قبره مسجدا، وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة " 3. والحديث الرابع: " لما بعث معاذا إلى اليمن، قال له: إنك تأتي قوما من أهل الكتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله. فإن أجابوك لذلك، فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة؛ فإن هم أجابوك لذلك، فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة، تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم " 4. والحديث الخامس: عن معاذ قال: "كنت رديف   1 لعله يريد الشفاعة. 2 أحمد (5/317) . 3 البخاري: الصلاة (434) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (528) , والنسائي: المساجد (704) , وأحمد (6/51) . 4 البخاري: الزكاة (1395) , ومسلم: الإيمان (19) , والترمذي: الزكاة (625) , والنسائي: الزكاة (2435) , وأبو داود: الزكاة (1584) , وابن ماجه: الزكاة (1783) , وأحمد (1/233) , والدارمي: الزكاة (1614) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 النبي صلى الله عليه وسلم على حمار فقال لي: يا معاذ أتدري ما حق الله على العباد، وما حق العباد على الله؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال: حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئا " 1 الحديث; والأحاديث في هذا ما تحصى. وأما تنويهه صلى الله عليه وسلم بأن دينه يتغير بعده، فقال صلى الله عليه وسلم: " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ; وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة ". وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: " من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد " 2. وفي الحديث قال: " افترقت الأمم قبلكم. افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة. والنصارى افترقت على اثنتين وسبعين فرقة. وتفرقت أمتي على ثلاث وسبعين فرقة. كلها في النار إلا واحدة. قالوا: من الواحدة يا رسول الله؟ قال: من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي ". 3. وفي الحديث قال صلى الله عليه وسلم " لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه. قالوا: اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟ " 4. ويكون عندك معلوما: أن أساس الأمر، ورأسه، ودعوة الرسل من أولهم إلى آخرهم، الأمر بعبادة الله وحده لا شريك له، والنهي عن عبادة من سواه، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} ، [سورة الأنبياء آية: 25] . وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً   1 البخاري: الجهاد والسير (2856) , ومسلم: الإيمان (30) , والترمذي: الإيمان (2643) , وابن ماجه: الزهد (4296) , وأحمد (5/228 ,5/230 ,5/234 ,5/236) . 2 مسلم: الأقضية (1718) , وأحمد (6/146 ,6/180 ,6/256) . 3 ابن ماجه: الفتن (3993) , وأحمد (3/120) . 4 البخاري: أحاديث الأنبياء (3456) , ومسلم: العلم (2669) , وأحمد (3/84 ,3/89) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ} ، [سورة النحل آية: 36] .وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} الآيتين [سورة المدثر آية: 1] . ويكون عندك معلوما: أن لله تعالى أفعالا، وللعبيد أفعالا، فأفعال الله: الخلق والرزق، والنفع، والضر، والتدبير; وهذا أمر ما ينازع فيه، لا كافر، ولا مسلم. وأفعال العبد، العبادة: كونه ما يدعو إلا الله، ولا ينذر إلا لله، ولا يذبح إلا له، ولا يخاف خوف السر إلا منه، ولا يتوكل إلا عليه; فالمسلم: من وحد الله بأفعاله سبحانه وأفعاله بنفسه; والمشرك: الذي يوحد الله بأفعاله سبحانه، ويشرك بأفعاله بنفسه. وفي الحديث " لما أنزل الله عليه: {قُمْ فَأَنْذِرْ} ، [المدثر:2] ، صعد الصفا صلى الله عليه وسلم فنادى: "واصباحاه" فلما اجتمع إليه قريش، قال لهم ما قال; فقال عمه: تبا لك، ما جمعتنا إلا لهذا. وأنزل الله فيه: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} ، [المسد: 1] " وقال صلى الله عليه وسلم: " يا عباس عم رسول الله، ويا صفية عمة رسول الله، اشتروا أنفسكم. لا أغني عنكم من الله شيئا. ويا فاطمة بنت محمد، سليني من مالي ما شئت، لا أغني عنك من الله شيئا " 1 أين هذا من قول صاحب البردة: يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به ... سواك عند حلول الحادث العمم وقوله: ولن يضيق رسول الله جاهك بي ... إذا الكريم تجلى باسم منتقم   1 البخاري: الوصايا (2753) وتفسير القرآن (4771) , ومسلم: الإيمان (206) , والنسائي: الوصايا (3646) , والدارمي: الرقاق (2732) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 وذكر صاحب السيرة: أنه صلوات الله وسلامه عليه، قام يقنت على قريش، ويخصص أناسا منهم، في مقتل حمزة وأصحابه، فأنزل الله عليه: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} الآية، [سورة آل عمران آية: 128] ، ولكن مثل ما قال صلى الله عليه وسلم " بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ " 1. فإن قال قائلهم: إنهم يكفرون بالعموم; فنقول: سبحانك هذا بهتان عظيم، الذي نكفر، الذي يشهد أن التوحيد دين الله، ودين رسوله، وأن دعوة غير الله باطلة، ثم بعد هذا يكفر أهل التوحيد، ويسميهم الخوارج، ويتبين مع أهل القبب على أهل التوحيد; ولكن نسأل الله الكريم، رب العرش العظيم، أن يرينا الحق حقا، ويرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلا، ويرزقنا اجتنابه، ولا يجعله ملتبسا علينا فنضل. {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي} الآية، [سورة آل عمران آية: 31] . ويكون عندك معلوما: أن أعظم المراتب وأجلها عند الله الدعوة إليه، التي قال الله: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ} الآية [سورة فصلت آية: 33] . وفي الحديث: " والله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا، خير لك من حمر النعم " 2. ثم بعد هذا يذكر لنا: أن عدوان الإسلام، الذين ينفرون الناس عنه يزعمون أننا ننكر شفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، فنقول: سبحانك هذا بهتان عظيم; بل نشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم الشافع المشفع، صاحب المقام المحمود; نسأل   1 مسلم: الإيمان (145) , وابن ماجه: الفتن (3986) , وأحمد (2/389) . 2 البخاري: المناقب (3701) , ومسلم: فضائل الصحابة (2406) , وأبو داود: العلم (3661) , وأحمد (5/333) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 الله الكريم رب العرش العظيم: أن يشفعه فينا، وأن يحشرنا تحت لوائه. هذا اعتقادنا، وهذا الذي مشى عليه السلف الصالح، من المهاجرين والأنصار، والتابعين، وتابع التابعين، والأئمة الأربعة رضي الله عنهم أجمعين؛ وهم أحب الناس لنبيهم، وأعظمهم في اتباعه وشرعه، فإن كانوا يأتون عند قبره يطلبونه الشفاعة، فإن اجتماعهم حجة; والقائل: إنه يطلب الشفاعة بعد موته; يورد علينا الدليل من كتاب الله، أو من سنة رسول الله، أو من إجماع الأمة، والحق أحق أن يتبع. (بيان عقيدة الشيخ ابن عبد الوهاب وما يأمر به) وله أيضا: قدس الله روحه، ونور ضريحه: بسم الله الرحمن الرحيم من محمد بن عبد الوهاب، إلى من يصل إليه من المسلمين: سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: أخبركم أني - ولله الحمد - عقيدتي، وديني الذي أدين الله به، مذهب أهل السنة والجماعة، الذي عليه أئمة المسلمين، مثل الأئمة الأربعة، وأتباعهم، إلى يوم القيامة؛ لكني بينت للناس إخلاص الدين لله، ونهيتهم عن دعوة الأنبياء والأموات، من الصالحين، وغيرهم، وعن إشراكهم فيما يعبد الله به، من الذبح، والنذر، والتوكل، والسجود، وغير ذلك مما هو حق الله، الذي لا يشركه فيه ملك مقرب، ولا نبي مرسل; وهو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 الذي دعت إليه الرسل، من أولهم إلى آخرهم; وهو الذي عليه أهل السنة والجماعة. وأنا صاحب منصب في قريتي، مسموع الكلمة، فأنكر هذا بعض الرؤساء، لكونه خالف عادة نشؤوا عليها. وأيضا: ألزمت من تحت يدي، بإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وغير ذلك من فرائض الله; ونهيتهم عن الربا، وشرب المسكر، وأنواع من المنكرات، فلم يمكن الرؤساء القدح في هذا وعيبه، لكونه مستحسنا عند العوام، فجعلوا قدحهم وعداوتهم فيما آمر به من التوحيد، وما نهيتهم عنه من الشرك، ولبسوا على العوام أن هذا خلاف ما عليه الناس، وكبرت الفتنة جدا، وأجلبوا علينا بخيل الشيطان، ورجله. فنقول: التوحيد نوعان; توحيد الربوبية، وهو: أن الله سبحانه متفرد بالخلق والتدبير، عن الملائكة، والأنبياء، وغيرهم; وهذا حق لا بد منه، لكن لا يدخل الرجل في الإسلام; بل أكفر الناس مقرون به، قال الله تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} [سورة يونس آية: 31] . وأن الذي يدخل الرجل في الإسلام، هو: توحيد الإلهية، وهو: ألا يعبد إلا الله، لا ملكا مقربا، ولا نبيا مرسلا، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث، والجاهلية يعبدون أشياء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 مع الله، فمنهم من يعبد الأصنام، ومنهم من يدعو عيسى، ومنهم من يدعو الملائكة; فنهاهم عن هذا، وأخبرهم أن الله أرسله ليوحد، ولا يدعى أحد، لا الملائكة، ولا الأنبياء. فمن تبعه، ووحد الله، فهو الذي يشهد أن لا إله إلا الله; ومن عصاه، ودعا عيسى، والملائكة، واستنصرهم، والتجأ إليهم، فهو الذي جحد لا إله إلا الله، مع إقراره أنه لا يخلق، ولا يرزق إلا الله. وهذه جملة لها بسط طويل; ولكن الحاصل: أن هذا مجمع عليه بين العلماء. فلما جرى في هذه الأمة، ما أخبر به نبيها صلى الله عليه وسلم حيث قال: " لتتبعن سنن من كان قبلكم، حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه " 1، وكان من قبلهم، كما ذكر الله عنهم: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} [سورة التوبة آية: 31] ، وصار ناس من الضالين يدعون أناسا من الصالحين في الشدة والرخاء، مثل: عبد القادر الجيلاني، وأحمد البدوي، وعدي بن مسافر، وأمثالهم من أهل العبادة والصلاح، صاح عليهم أهل العلم من جميع الطوائف; أعني: على الداعي; وأما الصالحون، الذين يكرهون ذلك، فحاشاهم. وبين أهل العلم أن هذا هو الشرك الأكبر، عبادة الأصنام؛ فإن الله سبحانه: إنما أرسل الرسل، وأنزل الكتب، ليعبد وحده، ولا يدعى معه إله آخر; والذين يدعون مع الله آلهة أخرى، مثل الشمس والقمر، والصالحين،   1 البخاري: أحاديث الأنبياء (3456) , ومسلم: العلم (2669) , وأحمد (3/84 ,3/89) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 والتماثيل المصورة على صورهم، لم يكونوا يعتقدون أنها تنْزل المطر، أو تنبت النبات، وإنما كانوا يعبدون الملائكة، والصالحين، ويقولون: هؤلاء شفعاؤنا عند الله. فبعث الله الرسل، وأنزل الكتب تنهى عن أن يدعى أحد من دونه، لا دعاء عبادة، ولا دعاء الاستغاثة. واعلم أن المشركين في زماننا قد زادوا على الكفار في زمن النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم يدعون الملائكة، والأولياء، والصالحين; ويريدون شفاعتهم، والتقرب إليهم; وإلا فهم مقرون بأن الأمر لله، فهم لا يدعونها إلا في الرخاء، فإذا جاءت الشدائد أخلصوا لله، قال الله تعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ} الآية [سورة الإسراء آية: 67] . واعلم أن التوحيد هوإفراد الله سبحانه بالعبادة، وهو دين الرسل الذي أرسلهم الله به إلى عباده، فأولهم نوح عليه السلام، أرسله الله إلى قومه لما غلوا في الصالحين: ود، وسواع، ويغوث، ويعوق، ونسر. وآخر الرسل محمد صلى الله عليه وسلم، وهو الذي كسر صور هؤلاء الصالحين؛ أرسله الله إلى أناس يتعبدون، ويحجون، ويتصدقون، ويذكرون الله كثيرا، ولكنهم يجعلون بعض المخلوقات وسائط بينهم وبين الله تعالى، يقولون: نريد منهم التقرب إلى الله تعالى، ونريد شفاعتهم عنده، مثل الملائكة، وعيسى، ومريم، وأناس غيرهم من الصالحين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 فبعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم يجدد لهم دين إبراهيم، ويخبرهم أن هذا التقرب والاعتقاد محض حق الله تعالى، لا يصلح منه شيء لا لملك مقرب، ولا نبي مرسل، فضلا عن غيرهما. وإلا فهؤلاء المشركون يشهدون أن الله هو الخالق وحده لا شريك له، وأنه لا يخلق ولا يرزق إلا هو; ولا يحيي ولا يميت إلا هو، ولا يدبر الأمر إلا هو، وأن جميع السماوات السبع، ومن فيهن، والأرضين السبع ومن فيهن، كلهم عبيده وتحت تصرفه وقهره. فإذا أردت الدليل على أن هؤلاء المشركين، الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يشهدون بهذا، فاقرأ قوله تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} ، [سورة يونس آية: 31] . وقوله تعالى: {قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} ، [سورة المؤمنون آية: 84-85-86-87-88-89] . وغير ذلك من الآيات الدالات على تحقق أنهم يقولون بهذا كله، وأنه لم يدخلهم في التوحيد، الذي دعاهم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعرفت أن التوحيد الذي جحدوه، هو توحيد العبادة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 الذي يسميه المشركون في زماننا الاعتقاد. كما كانوا يدعون الله سبحانه وتعالى، ليلا ونهارا، خوفا وطمعا، ثم منهم من يدعو الملائكة لأجل صلاحهم وقربهم من الله عز وجل ليشفعوا لهم، ويدعو رجلا صالحا، مثل اللات، أو نبيا مثل عيسى. وعرفت: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتلهم على ذلك، ودعاهم إلى إخلاص العبادة لله وحده، كما قال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} [سورة الجن آية: 18] . وقال تعالى: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ} [سورة الرعد آية: 14] . وعرفت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتلهم، ليكون الدين كله لله، والذبح كله لله، والنذر كله لله، والاستغاثة كلها بالله، وجميع أنواع العبادة كلها لله. وعرفت: أن إقرارهم بتوحيد الربوبية لم يدخلهم في الإسلام، وأن قصدهم الملائكة، والأنبياء، والأولياء يريدون شفاعتهم، والتقرب إلى الله تعالى بهم، هو الذي أحل دماءهم وأموالهم; عرفت حينئذ التوحيد، الذي دعت إليه الرسل، وأبى عن الإقرار به المشركون. وهذا التوحيد هو: معنى قولك: لا إله إلا الله، فإن الإله عندهم، هو الذي يقصد لأجل هذه الأمور، سواء كان ملكا، أو نبيا، أو وليا، أو شجرة، أو قبرا، أو جنيا; لم يريدوا أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 الإله هو: الخالق، الرازق، المدبر; فإنهم يقرون أن ذلك لله وحده، كما قدمت لك. وإنما يعنون بالإله: ما يعني المشركون في زماننا، بلفظ: السيد، فأتاهم النبي صلى الله عليه وسلم يدعوهم إلى كلمة التوحيد، وهي: لا إله إلا الله; والمراد من هذه الكلمة معناها، لا مجرد لفظها، والكفار الجهال يعلمون أن مراد النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الكلمة، هو: إفراد الله بالتعلق، والكفر بما يعبد من دونه، والبراءة منه، فإنه لما قال لهم: قولوا لا إله إلا الله; قالوا: أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب. فإذا عرفت: أن جهال الكفار يعرفون ذلك، فالعجب ممن يدعي الإسلام، وهو لا يعرف من تفسير هذه الكلمة ما عرفه جهال الكفار، بل يظن أن ذلك هو التلفظ بحروفها، من غير اعتقاد القلب، بشيء من المعاني; والحاذق منهم يظن أن معناها: لا يخلق، ولا يرزق، ولا يحيي، ولا يميت، ولا يدبر الأمر إلا الله. فلا خير في رجل جهال الكفار أعلم منه بمعنى لا إله إلا الله. فإذا عرفت ما قلت لك، معرفة قلب; وعرفت الشرك بالله الذي قال الله فيه: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} الآية، [سورة النساء آية: 48، و116] ، وعرفت دين الله الذي بعث به الرسل من أولهم إلى آخرهم، الذي لا يقبل الله من أحد دينا سواه، وعرفت ما أصبح غالب الناس فيه، من الجهل بهذا، أفادك فائدتين: الأولى: الفرح بفضل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 الله وبرحمته، قال الله تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} ، [سورة يونس آية: 58] . وأفادك أيضا: الخوف العظيم؛ فإنك إذا عرفت أن الإنسان يكفر بكلمة يخرجها من لسانه، وقد يقولها وهو جاهل، فلا يعذر بالجهل، وقد يقولها، وهو يظن أنها تقربه إلى الله، خصوصا إن ألهمك الله ما قص عن قوم موسى، مع صلاحهم وعلمهم، أنهم أتوه قائلين: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [سورة الأعراف آية: 138] ، فحينئذ يعظم خوفك وحرصك على ما يخلصك من هذا وأمثاله. واعلم: أن الله سبحانه من حكمته لم يبعث نبيا بهذا التوحيد إلا جعل له أعداء كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً} ، [سورة الأنعام آية: 112] . وقد يكون لأعداء التوحيد علوم كثيرة وكتب وحجج كما قال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ} ، [سورة غافر آية: 83] . فإذا عرفت ذلك، وعرفت أن الطريق إلى الله لا بد له من أعداء قاعدين عليه، أهل فصاحة وعلم وحجج، كما قال تعالى: {وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} الآية [سورة الأعراف آية: 86] . فالواجب عليك: أن تعلم من دين الله، ما يصير لك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 سلاحا، تقاتل به هؤلاء الشياطين، الذين قال إمامهم ومقدمهم لربك عز وجل: {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [سورة الأعراف الآيتان: 16-17] . ولكن إذا أقبلت على الله، وأصغيت إلى حجج الله وبيناته، فلا تخف، ولا تحزن، إن كيد الشيطان كان ضعيفا; والعامي من الموحدين يغلب ألفا من علماء هؤلاء المشركين، كما قال تعالى: {وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} ، [سورة الصافات آية: 173] . فجند الله: هم الغالبون بالحجة، واللسان; كما أنهم الغالبون بالسيف والسنان; وإنما الخوف على الموحد الذي يسلك الطريق، وليس معه سلاح. وقد من الله علينا بكتابه، الذي جعله: {تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [سورة النحل آية: 89] ؛ فلا يأتي صاحب باطل بحجة، إلا وفي القرآن ما ينقضها، ويبين بطلانها، كما قال تعالى: {وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً} [سورة الفرقان آية: 33] . قال بعض المفسرين: هذه الآية عامة في كل حجة، يأتي بها أهل الباطل، إلى يوم القيامة. والحاصل: أن كل ما ذكر عنا من الأشياء، غير دعوة الناس إلى التوحيد، والنهي عن الشرك، فكله من البهتان. ومن أعجب ما جرى من الرؤساء المخالفين: أني لما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 بينت لهم كلام الله، وما ذكر أهل التفسير في قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} الآية [سورة الإسراء آية: 57] . وقوله: {وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} ، [سورة يونس آية: 18] ، وقوله: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} ، [سورة الزمر آية: 3] ، وما ذكر الله من إقرار الكفار في قوله: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ} ، الآية [سورة يونس آية: 31] . وغير ذلك، قالوا: القرآن لا يجوز العمل به لنا، ولا مثالنا، ولا بكلام الرسول، ولا بكلام المتقدمين، ولا نطيع إلا ما ذكره المتأخرون. قلت لهم: أنا أخاصم الحنفي بكلام المتأخرين من الحنفية، والمالكي، والشافعي، والحنبلي، كل: أخاصمه بكتب المتأخرين من علمائهم الذين يعتمدون عليهم. فلما أبوا ذلك، نقلت كلام العلماء من كل مذهب لأهله، وذكرت كل ما قالوا، بعدما صرحت الدعوة عند القبور، والنذر لها، فعرفوا ذلك، وتحققوه، فلم يزدهم إلا نفورا. وأما التكفير فأنا أكفر من عرف دين الرسول، ثم بعد ما عرفه سبه، ونهى الناس عنه، وعادى من فعله، فهذا هو الذي أكفر. وأكثر الأمة - ولله الحمد - ليسوا كذلك; وأما القتال فلم نقاتل أحدا إلى اليوم، إلا دون النفس والحرمة; وهم الذين أتونا في ديارنا; ولا أبقوا ممكنا، ولكن قد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 نقاتل بعضهم، على سبيل المقابلة، وجزاء سيئة سيئة مثلها; وكذلك من جاهر بسب دين الرسول، بعد ما عرف، فإنا نبين لكم أن هذا هو الحق، الذي لا ريب فيه، وأن الواجب إشاعته في الناس، وتعليمه النساء، والرجال. فرحم الله من أدى الواجب عليه، وتاب إلى الله، وأقر على نفسه؛ فإن التائب من الذنب، كمن لا ذنب له; ونسأل الله أن يهدينا، وإياكم، لما يحبه ويرضاه. (جواب الشيخ ابن عبد الوهاب لابن صياح، ورد مفتريات عليه) وله أيضا: قدس الله روحه، ونور ضريحه: بسم الله الرحمن الرحيم الذي يعلم من وقف عليه من الإخوان، المتبعين محمدا صلى الله عليه وسلم أن ابن صياح سألني عما ينسب إلي؟ فطلب مني أن أكتب الجواب; فكتبته: الحمد لله رب العالمين، أما بعد: فما ذكره المشركون على أني أنهى عن الصلاة على النبي، أو أني أقول: لو أن لي أمرا، هدمت قبة النبي صلى الله عليه وسلم، أو أني أتكلم في الصالحين، أو أنهى عن محبتهم، فكل هذا كذب وبهتان، افتراه علي الشياطين، الذين يريدون أن يأكلوا أموال الناس بالباطل، مثل أولاد شمسان، وأولاد إدريس، الذين يأمرون الناس ينذرون لهم، وينخونهم، ويندبونهم، وكذلك فقراء الشيطان الذين ينتسبون إلى الشيخ عبد القادر رحمه الله، وهو منهم بريء، كبراءة علي بن أبي طالب من الرافضة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 فلما رأوني: آمر الناس بما أمرهم به نبيهم صلى الله عليه وسلم أن لا يعبدوا إلا الله، وأن من دعا عبد القادر، فهو كافر; وعبد القادر منه بريء، وكذلك من نخا الصالحين، أو الأنبياء، أو ندبهم، أو سجد لهم، أو نذر لهم، أو قصدهم بشيء من أنواع العبادة التي هي حق الله على العبيد، وكل إنسان، يعرف أمر الله ورسوله لا ينكر هذا الأمر، بل يقر به، ويعرفه. وأما الذي ينكره، فهو بين أمرين، إن قال: إن دعوة الصالحين واستغاثتهم، والنذر لهم، وصيرورة الإنسان فقيرا لهم، أمر حسن، ولو ذكر الله ورسوله إنه كفر فهو مصر بتكذيب الله ورسوله، ولا خفاء في كفره فليس لنا معه كلام. وإنما كلامنا مع رجل، يؤمن بالله واليوم الآخر، ويحب ما أحب الله ورسوله، ويبغض ما أبغض الله ورسوله، لكنه جاهل، قد لبست عليه الشياطين دينه; ويظن أن الاعتقاد في الصالحين حق؛ ولو يدري أنه كفر يدخل صاحبه في النار، ما فعله; ونحن: نبين لهذا ما يوضح له الأمر، فنقول: الذي يجب على المسلم، أن يتبع أمر الله ورسوله، ويسأل عنه، والله سبحانه أنزل القرآن، وذكر فيه ما يحبه، ويبغضه، وبين لنا فيه ديننا، وأكمل; وكذلك محمد صلى الله عليه وسلم أفضل الأنبياء، فليس على وجه الأرض أحد أحب إلى أصحابه منه; وهم يحبونه على أنفسهم، وأولادهم، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 ويعرفون قدره، ويعرفون أيضا: الشرك، والإيمان. فإن كان أحد من المسلمين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم قد دعاه، أو نذر له، أو ندبه، أو أحد من أصحابه جاء عند قبره بعد موته يسأله، أو يندبه، أو يدخل عليه للالتجاء له عند القبر، فاعرف أن هذا أمر صحيح حسن، ولا تطعني، ولا غيري. وإن كان إذا سألت وجدت أنه: صلى الله عليه وسلم تبرأ ممن اعتقد في الأنبياء، والصالحين، وقتلهم، وسباهم وأولادهم، وأخذ أموالهم، وحكم بكفرهم، فاعرف أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يقول إلا الحق ولا يأمر إلا بالحق; والواجب على كل مؤمن: اتباعه فيما جاء به. وبالجملة: فالذي أنكره: الاعتقاد في غير الله، مما لا يجوز لغيره، فإن كنت قلته من عندي، فارم به أو من كتاب لقيته، ليس عليه عمل، فارم به كذلك، أو نقلته عن أهل مذهبي، فارم به. وإن كنت قلته، عن أمر الله ورسوله، وعما أجمع عليه العلماء في كل مذهب، فلا ينبغي لرجل يؤمن بالله واليوم الآخر أن يعرض عنه، لأجل أهل زمانه، أو أهل بلده، وأن أكثر الناس في زمانه أعرضوا عنه. واعلم: أن الأدلة على هذا، من كلام الله، وكلام رسوله، كثيرة، لكن: أنا أمثل لك بدليل واحد، ينبهك على غيره، قال الله تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} الآية [سورة الإسراء آية: 56-57] . ذكر المفسرون في تفسيرها: أن جماعة كانوا يعتقدون في عيسى، عليه السلام، وعزير، فقال تعالى: هؤلاء عبيدي كما أنتم عبيدي، ويرجون رحمتي كما ترجون رحمتي; ويخافون عذابي كما تخافون عذابي. فيا عباد الله، تفكروا في كلام ربكم تبارك وتعالى، إذا كان ذكر عن الكفار، الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن دينهم الذي كفرهم به، هو الاعتقاد في الصالحين; وإلا فالكفار يخافون الله، ويرجونه، ويحجون، ويتصدقون، ولكنهم كفروا بالاعتقاد في الصالحين; وهم يقولون: إنما اعتقدنا فيهم ليقربونا إلى الله زلفى، ويشفعوا لنا، كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [سورة الزمر آية: 3] . وقال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [سورة يونس آية: 18] . فيا عباد الله إذا كان الله ذكر في كتابه، أن دين الكفار، هو: الاعتقاد في الصالحين، وذكر أنهم اعتقدوا فيهم، ودعوهم، وندبوهم، لأجل أنهم يقربونهم إلى الله زلفى، هل بعد هذا البيان، بيان؟ فإذا كان من اعتقد في عيسى بن مريم، مع أنه نبي من الأنبياء، وندبه ونخاه 1 فقد   1 ند به, أي: استغاث به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 كفر، فكيف بمن يعتقدون في الشياطين، كالكلب: أبي حديدة، وعثمان، الذي في الوادي، والكلاب الأخر في الخرج، وغيرهم في سائر البلدان، الذين يأكلون أموال الناس بالباطل، ويصدون عن سبيل الله؟! وأنت يا من هداه الله: لا تظن أن هؤلاء يحبون الصالحين، بل هؤلاء أعداء الصالحين; وأنت والله الذي تحب الصالحين; لأن من أحب قوما أطاعهم، فمن أحب الصالحين، وأطاعهم، لم يعتقد إلا في الله، وأما من عصاهم ودعاهم يزعم أنه يحبهم، فهو مثل النصارى الذين يدعون عيسى، ويزعمون محبته، وهو بريء منهم، ومثل الرافضة الذين يدعون علي بن أبي طالب، وهو بريء منهم. ونختم هذا الكتاب بكلمة واحدة، وهي أن أقول: يا عباد الله، لا تطيعوني، ولا تفكروا; واسألوا أهل العلم من كل مذهب، عما قال الله ورسوله; وأنا أنصحكم: لا تظنوا أن الاعتقاد في الصالحين، مثل الزنى، والسرقة، بل هو عبادة للأصنام، من فعله كفر، وتبرأ منه رسول الله صلى الله عليه وسلم يا عباد الله تفكروا، وتذكروا، والسلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 (بيان الشيخ ابن عبد الوهاب لعبد الرحمن السويدي وبيان عقيدته، ورد مفترياته) وله أيضا: رحمه الله تعالى، رسالة أرسلها إلى ابن السويدي، عالم من أهل العراق، سأله عما يقول الناس فيه، فأجابه: بسم الله الرحمن الرحيم من محمد بن عبد الوهاب، إلى الأخ في الله: عبد الرحمن، بن عبد الله. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد: فقد وصل إلي كتابك، وسر الخاطر، جعلك الله من أئمة المتقين، ومن الدعاة إلى دين سيد المرسلين; وأخبرك أني - ولله الحمد - متبع، لست بمبتدع; عقيدتي، وديني الذي أدين الله به، هو: مذهب أهل السنة والجماعة، الذي عليه أئمة المسلمين، مثل الأئمة الأربعة وأتباعهم، إلى يوم القيامة. ولكنني بينت للناس إخلاص الدين لله، ونهيتهم عن دعوة الأحياء، والأموات، من الصالحين وغيرهم، وعن إشراكهم فيما يعبد الله به، من الذبح، والنذر، والتوكل، والسجود، وغير ذلك مما هو حق الله، الذي لا يشركه فيه أحد، لا ملك مقرب، ولا نبي مرسل; وهو الذي دعت إليه الرسل، من أولهم إلى آخرهم; وهو الذي عليه أهل السنة والجماعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 وبينت لهم أن أول من أدخل الشرك في هذه الأمة، هم الرافضة، الذين يدعون عليا وغيره، ويطلبون منهم قضاء الحاجات، وتفريج الكربات; وأنا صاحب منصب في قريتي، مسموع الكلمة، فأنكر هذا بعض الرؤساء، لكونه خالف عادات نشؤوا عليها. وأيضا: ألزمت من تحت يدي، بإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وغير ذلك من فرائض الله، ونهيتهم عن الربا، وشرب المسكر، وأنواع المنكرات، فلم يمكن الرؤساء القدح في هذا، وعيبه، لكونه مستحسنا عند العوام; فجعلوا قدحهم وعداوتهم، فيما آمر به من التوحيد، وأنهى عنه من الشرك، ولبسوا على العوام: أن هذا خلاف ما عليه أكثر الناس، ونسبوا إلينا أنواع المفتريات؛ فكبرت الفتنة، وأجلبوا علينا بخيل الشيطان، ورجله. فمنها: إشاعة البهتان، بما يستحي العاقل أن يحكيه، فضلا عن أن يفتريه. ومنها: ما ذكرتم أني أكفر جميع الناس، إلا من اتبعني، وأني أزعم أن أنكحتهم غير صحيحة. فيا عجبا كيف يدخل هذا في عقل عاقل؟! وهل يقول هذا مسلم؟ إني أبرأ إلى الله من هذا القول، الذي ما يصدر إلا عن مختل العقل، فاقد الإدراك; فقاتل الله أهل الأغراض الباطلة. وكذلك قولهم، إني أقول: لو أقدر على هدم قبة النبي صلى الله عليه وسلم لهدمتها. وأما دلائل الخيرات، وما قيل عني: أني حرقتها، فله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 سبب، وذلك أني أشرت على من قبل نصيحتي من إخواني: أن لا يصير في قلبه أجل من كتاب الله، ولا يظن أن القراءة فيه أفضل من قراءة القرآن. وأما إحراقها، والنهي عن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بأي لفظ كان، فنسبة هذا إلي من الزور والبهتان. والحاصل: أن ما ذكر عني من الأسباب، غير دعوة الناس إلى التوحيد، والنهي عن الشرك، فكله من البهتان; وهذا لو خفي على غيركم، فلا يخفى على حضرتكم. ولو أن رجلا من أهل بلدكم، ولو كان أحب الخلق إلى الناس، قام يلزم الناس الإخلاص، ويمنعهم من دعوة أهل القبور، وله أعداء وحساد، أشد منه رياسة، وأكثر اتباعا، وقاموا يرمونه بمثل هذه الأكاذيب، ويوهمون الناس أن هذا تنقص بالصالحين، وأن دعوتهم من إجلالهم، واحترامهم، لعلمتم كيف يجري عليه. ومع هذا، وأضعافه، فلا بد من الإيمان بما جاء به الرسول، عليه الصلاة والسلام، ونصرته، كما أخذ الله على الأنبياء قبله، وأممهم، في قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ} ، [سورة آل عمران آية: 81] ، فلما فرض الله الإيمان، لم يجز تركه. وأنا أرجو أن الله يكرمك بنصر دينه، ونبيه، وذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 على حسب الاستطاعة، ولو بالقلب، والدعاء، وقد قال صلى الله عليه وسلم " إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم " 1. فإن رأيت عرض كلامي هذا على من ظننت أنه يقبله من إخواننا، فإن الله لا يضيع أجر من أحسن عملا. ومن أعجب ما جرى، من بعض الرؤساء المخالفين، أني لما بينت لهم معنى كلام الله تعالى، وما ذكره أهل التفسير في قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} [سورة الإسراء آية: 57] . وقوله تعالى: {وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [سورة يونس آية: 18] . وقوله: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [سورة الزمر آية: 3] ، وما ذكره الله، من إقرار الكفار في قوله تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} الآية [سورة يونس آية: 31] ، وغير ذلك، قالوا: القرآن لا يجوز العمل به لنا، ولا مثلنا، ولا بكلام الرسول، ولا بكلام المتقدمين، ولا نقبل إلا ما ذكره المتأخرون. فقلت: أنا أخاصم الحنفي بكلام المتأخرين من الحنفية، والمالكي، والشافعي، والحنبلي، كلا أخاصمه بكتب المتأخرين من علماء مذهبه، الذين يعتمد عليهم; فلما أبوا ذلك، نقلت لهم كلام العلماء من كل مذهب، وذكرت ما قالوا، بعدما حدثت الدعوة عند القبور، والنذر لها، فعرفوا ذلك، وتحققوه، ولم يزدهم إلا نفورا. وأما التكفير: فأنا أكفر من عرف دين الرسول، ثم بعدما   1 البخاري: الاعتصام بالكتاب والسنة (7288) , ومسلم: الحج (1337) , والنسائي: مناسك الحج (2619) , وابن ماجه: المقدمة (2) , وأحمد (2/313 ,2/467 ,2/508) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 عرف، سبه، ونهى الناس عنه، وعادى من فعله، فهذا هو الذي أكفره، وأكثر الأمة - ولله الحمد - ليسوا كذلك. وأما القتال: فلم نقاتل أحدا إلا دون النفس، والحرمة; فإنا نقاتل على سبيل المقابلة {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [سورة الشورى آية: 40] . وكذلك من جاهر بسب دين الرسول، بعدما عرفه، والسلام. (رسالة الشيخ ابن عبد الوهاب إلى أهل المغرب في بيان التوحيد والشرك) وله أيضا: قدس الله روحه، ونور ضريحه، رسالة إلى أهل المغرب، هذا نصها: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له; وأشهد: أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له; وأشهد: أن محمدا عبده ورسوله. من يطع الله ورسوله، فقد رشد; ومن يعص الله ورسوله، فقد غوى، ولن يضر إلا نفسه، ولن يضر الله شيئا; وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا. أما بعد: فقد قال الله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} ، [سورة يوسف آية: 108] . وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [سورة آل عمران آية: 31] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 وقال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [سورة الحشر آية: 7] ، وقال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلامَ دِيناً} [سورة المائدة آية: 3] . فأخبر سبحانه أنه أكمل الدين، وأتمه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم. وأمرنا بلزوم ما أنزل إلينا من ربنا، وترك البدع، والتفرق، والاختلاف فقال تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} ، [سورة الأعراف آية: 3] ، وقال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [سورة الأنعام آية: 153] . والرسول صلى الله عليه وسلم قد أخبر: بأن " أمته تأخذ مأخذ القرون قبلها، شبرا بشبر، وذراعا بذراع " 1 وثبت في الصحيحين، وغيرهما عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لتتبعن سنن من كان قبلكم، حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه. قالوا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟ " 2 وأخبر في الحديث الآخر: " أن أمته ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة، قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال: من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي " 3. إذا عرف هذا، فمعلوم ما قد عمت به البلوى، من حوادث الأمور، التي أعظمها الإشراك بالله، والتوجه إلى   1 البخاري: الاعتصام بالكتاب والسنة (7319) , وابن ماجه: الفتن (3994) , وأحمد (2/325 ,2/336 ,2/367) . 2 البخاري: أحاديث الأنبياء (3456) , ومسلم: العلم (2669) , وأحمد (3/84 ,3/89) . 3 الترمذي: الإيمان (2641) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 الموتى، وسؤالهم النصر على الأعداء، وقضاء الحاجات، وتفريج الكربات، التي لا يقدر عليها إلا رب الأرض والسماوات، وكذلك التقرب إليهم بالنذور، وذبح القربان، والاستغاثة بهم في كشف الشدائد، وجلب الفوائد، إلى غير ذلك من أنواع العبادة التي لا تصلح إلا لله؛ وصرف شيء من أنواع العبادة لغير الله كصرف جميعها، لأنه سبحانه أغنى الشركاء عن الشرك، ولا يقبل من العمل إلا ما كان خالصا، كما قال تعالى: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} [سورة الزّمر الآيتان: 2-3] ، فأخبر سبحانه أنه لا يرضى من الدين إلا ما كان خالصا لوجهه; وأخبر: أن المشركين يدعون الملائكة، والأنبياء، والصالحين، ليقربوهم إلى الله زلفى، ويشفعوا لهم عنده. وأخبر أنه لا يهدي من هو كاذب كفار؛ فكذبهم في هذه الدعوى، وكفرهم، فقال: {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} [سورة الزمر آية: 3] . وقال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [سورة يونس آية: 18] . فأخبر أن من جعل بينه وبين الله وسائط، يسألهم الشفاعة، فقد عبدهم، وأشرك بهم، وذلك أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 الشفاعة كلها لله، كما قال تعالى: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً} [سورة الزمر آية: 44] ؛ فلا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، كما قال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} [سورة البقرة آية: 255] . وقال تعالى: {يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً} ، [سورة طه آية: 109] ، وهو سبحانه لا يرضى إلا التوحيد، كما قال تعالى: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّّّّ لِمَنِ ارْتَضَى} [سورة الأنبياء آية: 28] . وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سورة سبأ الآيتان: 22-23] . فالشفاعة حق، ولا تطلب في دار الدنيا إلا من الله تعالى كما قال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} [سورة الجن آية: 18] . وقال: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ} [سورة يونس آية: 106] . فإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم وهو سيد الشفعاء، وصاحب المقام المحمود، وآدم فمن دونه تحت لوائه، لا يشفع إلا بإذن الله، لا يشفع ابتداء، بل: " يأتي فيخر ساجدا فيحمده بمحامد يعلمه إياها، ثم يقال: ارفع رأسك، وقل يسمع، وسل تعط، واشفع تشفع. ثم يحد له حدا فيدخلهم الجنة " 1 فكيف بغيره من الأنبياء، والأولياء؟! وهذا الذي ذكرناه لا يخالف فيه أحد من علماء المسلمين، بل قد أجمع عليه السلف الصالح، من الصحابة   1 البخاري: تفسير القرآن (4476) , ومسلم: الإيمان (193) , وابن ماجه: الزهد (4312) , وأحمد (3/247) , والدارمي: المقدمة (52) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 والتابعين، والأئمة الأربعة، وغيرهم ممن سلك سبيلهم، ودرج على منهجهم. وأما ما صدر من سؤال الأنبياء، والأولياء، الشفاعة بعد موتهم، وتعظيم قبورهم، ببناء القباب عليها والسرج، والصلاة عندها، واتخاذها أعيادا، وجعل السدنة، والنذور لها، فكل ذلك من حوادث الأمور، التي أخبر بوقوعها النبي صلى الله عليه وسلم وحذر منها، كما في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا تقوم الساعة، حتى يلحق حي من أمتي بالمشركين، وحتى تعبد فئام من أمتي الأوثان ". وهو صلى الله عليه وسلم حمى جناب التوحيد، أعظم حماية، وسد كل طريق يوصل إلى الشرك، فنهى أن يجصص القبر، وأن يبنى عليه، كما ثبت في صحيح مسلم، من حديث جابر، وثبت فيه أيضا: " أنه بعث علي ابن أبي طالب رضي الله عنه وأمره: أن لا يدع قبرا مشرفا إلا سواه، ولا تمثالا إلا طمسه " 1، ولهذا قال غير واحد من العلماء: يجب هدم القبب المبنية على القبور، لأنها أسست على معصية الرسول صلى الله عليه وسلم. فهذا هو الذي أوجب الاختلاف، بيننا وبين الناس، حتى آل بهم الأمر، إلى أن كفرونا، وقاتلونا، واستحلوا دماءنا، وأموالنا، حتى نصرنا الله عليهم، وظفرنا بهم; وهو الذي ندعو الناس إليه، ونقاتلهم عليه، بعدما نقيم عليهم الحجة، من كتاب الله وسنة رسوله، وإجماع السلف   1 مسلم: الجنائز (969) , والترمذي: الجنائز (1049) , والنسائي: الجنائز (2031) , وأبو داود: الجنائز (3218) , وأحمد (1/96 ,1/128 ,1/145) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 الصالح، من الأئمة، ممتثلين لقوله سبحانه وتعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [سورة الأنفال آية: 39] . فمن لم يجب الدعوة بالحجة والبيان، قاتلناه بالسيف والسنان، كما قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [سورة الحديد آية: 25] . وندعو الناس إلى إقام الصلاة في الجماعات، على الوجه المشروع، وإيتاء الزكاة، وصيام شهر رمضان، وحج بيت الله الحرام، ونأمر بالمعروف، وننهى عن المنكر، كما قال تعالى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [سورة الحج آية: 41] . فهذا هو الذي نعتقد، وندين الله به، فمن عمل بذلك، فهو أخونا المسلم، له ما لنا، وعليه ما علينا. ونعتقد أيضا أن أمة محمد صلى الله عليه وسلم المتبعين لسنته، لا تجتمع على ضلالة، وأنه لا تزال طائفة من أمته على الحق منصورة، لا يضرهم من خذلهم، ولا من خالفهم، حتى يأتي أمر الله، وهم على ذلك، وصلى الله على محمد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 (رسالة الشيخ ابن عبد الوهاب إلى رئيس بادية الشام في بيان ما يدعو إليه) وله أيضا: رحمه الله تعالى، رسالة إلى فاضل، رئيس بادية الشام. بسم الله الرحمن الرحيم من محمد بن عبد الوهاب، إلى الشيخ: فاضل آل مزيد، زاده الله من الإيمان، وأعاذه من نزغات الشيطان. أما بعد: فالسبب في المكاتبة: أن راشد بن عربان، ذكر لنا عنك كلاما حسنا، سر الخاطر، وذكر عنك أنك طالب مني المكاتبة، بسبب ما يجيئك من كلام العدوان 1 من الكذب، والبهتان، وهذا، هو: الواجب من مثلك، أنه لا يقبل كلاما إلا إذا تحققه. وأنا أذكر لك أمرين، قبل أن أذكر لك صفة الدين; الأول: أني أذكر لمن خالفني، أن الواجب على الناس اتباع ما وصى به النبي صلى الله عليه وسلم أمته، وأقول لهم: الكتب عندكم، انظروا فيها، ولا تأخذوا من كلامي شيئا; لكن إذا عرفتم كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي في كتبكم، فاتبعوه، ولو خالفه أكثر الناس.   1 أي: الأعداء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 والأمر الثاني: أن هذا الأمر، الذي أنكروا علي، وأبغضوني، وعادوني من أجله، إذا سألوا عنه كل عالم في الشام، واليمن، أو غيرهم، يقول: هذا هو الحق، وهو دين الله ورسوله، ولكن ما أقدر أظهره في مكاني، لأجل أن الدولة ما يرضون; وابن عبد الوهاب أظهره، لأن الحاكم في بلده ما أنكره، بل لما عرف الحق اتبعه. هذا كلام العلماء، وأظنه وصلك كلامهم. فأنت تفكر في الأمر الأول، وهو قولي: لا تطيعوني، ولا تطيعوا إلا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي في كتبكم، وتفكر في الأمر الثاني: أن كل عاقل مقر به، لكن ما يقدر يظهره. فقدم لنفسك ما ينجيك عند الله، واعلم أنه ما ينجيك إلا اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم، والدنيا زائلة، والجنة والنار، ما ينبغي للعاقل أن ينساهما. وصورة الأمر الصحيح، أني أقول: ما يدعى إلا الله وحده لا شريك له كما قال تعالى في كتابه: {فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} [سورة الجن آية: 18] . وقال في حق النبي صلى الله عليه وسلم: {قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً} [سورة الجن آية: 21] . فهذا كلام الله، والذي ذكره لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ووصانا به، ونهى الناس لا يدعونه. فلما ذكرت لهم: أن هذه المقامات، التي في الشام، والحرمين، وغيرها، أنها على خلاف أمر الله ورسوله، وأن دعوة الصالحين، والتعلق عليهم، هو الشرك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 بالله الذي قال الله فيه: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} [سورة المائدة آية: 72] ، فلما أظهرت هذا: أنكروه، وكبر عليهم; وقالوا: أجعلتنا مشركين؟ وهذا ليس إشراكا; هذا: كلامهم، وهذا كلامي، أسنده عن الله ورسوله; وهذا هو الذي بيني، وبينكم; فإن ذكر شيء غير هذا، فهو كذب، وبهتان; والذي يصدق كلامي هذا: أن العالم ما يقدر يظهره، حتى من علماء الشام من يقول: هذا هو الحق، ولكن لا يظهره إلا من يحارب الدولة; وأنت - ولله الحمد - ما تخاف إلا الله، نسأل الله أن يهدينا وإياكم إلى دين الله ورسوله، والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 (رسالة الشيخ ابن عبد الوهاب إلى من تصل من المسلمين ونصيحته لهم أن يتعلموا دين الله) وله أيضا: قدس الله روحه: بسم الله الرحمن الرحيم من محمد بن عبد الوهاب إلى من يصل إليه هذا الكتاب من المسلمين. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: فاعلموا رحمكم الله، أن الله بعث محمدا صلى الله عليه وسلم إلى الناس بشيرا ونذيرا; مبشرا لمن اتبعه بالجنة، ومنذرا لمن لا يتبعه عن النار; وقد علمتم: إقرار كل من له معرفة، أن التوحيد الذي بينا للناس، هو الذي أرسل الله به رسله، حتى إن كل مطوع 1 معاند يشهد بذلك، وأن الذي عليه غالب الناس من الاعتقادات في الصالحين وفي غيرهم، هو الشرك الذي قال الله فيه: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} [سورة المائدة آية: 72] . فإذا تحققتم هذا، وعرفتم أنهم يقولون: لو يتركون أهل العارض، التكفير والقتال، كانوا على دين الله ورسوله، ونحن ما جئناكم في التكفير والقتال، لكن ننصحكم بهذا الذي قطعتم، أنه دين الله ورسوله، أن تعلموه وتعملوا به، إن كنتم من أتباع محمد باطنا وظاهرا.   1 أي: معلم, أو مرشد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 وأنا أبين لكم هذا بمسألة القبلة: أن النبي صلى الله عليه وسلم وأمته يصلون، والنصارى يصلون; لكن قبلته صلى الله عليه وسلم وأمته: بيت الله; وقبلة النصارى: مطلع الشمس؛ فالكل منا يصلي، ولكن اختلفنا في القبلة؛ فلو أن رجلا من أمة محمد صلى الله عليه وسلم يقر بهذا، ولكن يكره من يستقبل القبلة، ويحب من يستقبل مطلع الشمس، أتظنون أن هذا مسلم؟ وهذا ما نحن فيه، فالنبي صلى الله عليه وسلم بعثه الله بالتوحيد، وأن لا يدعى مع الله أحد، لا نبي، ولا غيره، والنصارى يدعون عيسى رسول الله وأمه; والمشركون يدعون الصالحين، يقولون: ليشفعوا لنا عند الله. فإذا كان كل مطوع مقرا بالتوحيد، والشرك; فاجعلوا التوحيد مثل القبلة، واجعلوا الشرك مثل استقبال المشرق; مع أن هذا أعظم من القبلة; وأنا أنصحكم لله، وأنخاكم 1 لا تضيعوا حظكم من الله، وتحبوا دين النصارى على دين نبيكم، فما ظنكم بمن واجه الله، وهو يعلم من قلبه أنه عرف أن التوحيد دينه، ودين رسوله، وهو يبغضه، ويبغض من اتبعه، ويعرف أن دعوة غيره هو الشرك، ويحبه، ويحب من اتبعه؟ أتظنون أن الله يغفر لهذا؟! والنصيحة لمن خاف عذاب الآخرة، وأما القلب الخالي من ذلك، فلا حيلة فيه، والسلام.   1 أي: أذكى فيكم النخوة, والعصبية لدينكم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 (رسالة الشيخ ابن عبد الوهاب إلى البكبلي صاحب اليمن) وله رسالة إلى البكبلي 1 صاحب اليمن: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي نزل الحق في الكتاب، وجعله تذكرة لأولي الألباب، ووفق مَنْ مَنَّ عليه من عباده للصواب، لعنوان الجواب، وصلى الله وسلم، وبارك على نبيه، ورسوله، وخيرته من خلقه، محمد، وعلى آله، وشيعته، وجميع الأصحاب، ما طلع نجم وغاب، وانهل وابل من سحاب. من عبد العزيز بن محمد بن سعود، ومحمد بن عبد الوهاب: إلى الأخ في الله: أحمد بن محمد العديلي البكبلي سلمه الله من جميع الآفات، واستعمله بالباقيات الصالحات، وحفظه من جميع البليات، وضاعف له الحسنات، ومحا عنه السيئات، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أما بعد: لفانا 2 كتابكم، وسر الخاطر بما ذكرتم فيه،   1 لعله البهكلي, المترجم في نيل الأوطار, ص 207/ج/1 المتوفى سنة 1227هـ. 2 أي: وافانا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 من سؤالكم، وما بلغنا على البعد، من أخباركم، وسؤالكم عما نحن عليه، وما دعونا الناس إليه، فأردنا أن نكشف عنكم الشبهة بالتفصيل، ونوضح لكم القول الراجح بالدليل، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يسلك بنا وبكم، أحسن منهج وسبيل. أما ما نحن عليه من الدين؟ فعلى دين الإسلام، الذي قال الله فيه: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [سورة آل عمران آية: 85] . وأما ما دعونا الناس إليه؟ فندعوهم إلى التوحيد، الذي قال الله فيه خطابا لنبيه صلى الله عليه وسلم: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [سورة يوسف آية: 108] ، وقوله تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} [سورة الجن آية: 18] . وأما ما نهينا الناس عنه؟ فنهيناهم عن الشرك، الذي قال الله فيه: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} [سورة المائدة آية: 72] . وقوله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم على سبيل التغليظ، وإلا فهو منَّزه، هو وإخوانه عن الشرك: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} ، [لزّمر الآيتان: 65-66] ، وغير ذلك من الآيات. ونقاتلهم عليه، كما قال تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 تَكُونَ فِتْنَةٌ} [سورة البقرة آية: 193] ، أي: شرك، {وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} ، [سورة الأنفال آية: 39] ، وقوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [سورة التوبة آية: 5] . وقوله صلى الله عليه وسلم " أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة. فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله عز وجل " 1. وقوله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [سورة محمد آية: 19] ، وسماها سبحانه بالعروة الوثقى، وكلمة التقوى; وسموها الطواغيت: كلمة الفجور، من قال لا إله إلا الله عصم دمه وماله ولو هدم أركان الإسلام الخمسة، وكفر بأصول الإيمان الستة. وحقيقة اعتقادنا: أنها تصديق بالقلب، وإقرار باللسان، وعمل بالجوارح، وإلا فالمنافقون في الدرك الأسفل من النار، مع أنهم يقولون: لا إله إلا الله، بل ويقيمون الصلاة، ويؤتون الزكاة، بل ويصومون، ويحجون، ويجاهدون، وهم مع ذلك تحت آل فرعون، في الدرك الأسفل من النار. وكذلك ما قص الله سبحانه عن بلعام، وضرب له مثلا بالكلب، مع ما معه من العلم، فضلا عن الاسم الأعظم.   1 البخاري: الإيمان (25) , ومسلم: الإيمان (22) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 وعالم بعلمه لم يعملن ... معذب من قبل عباد الوثن وأما ما ذكرتم من حقيقة الاجتهاد، فنحن مقلدون الكتاب والسنة، وصالح سلف الأمة، وما عليه الاعتماد، من أقوال الأئمة الأربعة: أبي حنيفة النعمان بن ثابت، ومالك بن أنس، ومحمد بن إدريس، وأحمد بن حنبل، رحمهم الله تعالى. وأما ما سألتم عنه من حقيقة الإيمان؟ فهو: التصديق، وأنه يزيد بالأعمال الصالحة، وينقص بضدها، قال الله تعالى: {وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَاناً} [سورة المدثر آية: 31] . وقوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} ، [سورة التوبة آية: 124] . وقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً} ، [سورة الأنفال آية: 2] ، وغير ذلك من الآيات، قال الشيبانِي، رحمه الله: وإيماننا: قول وفعل ونية ويزداد ... بالتقوى وينقص بالردى وقوله صلى الله عليه وسلم: " الإيمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها: قول لا إله إلا الله، وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق " 1، وقوله صلى الله عليه وسلم: " فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان " 2 وقوله تعالى: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً   1 مسلم: الإيمان (35) , والترمذي: الإيمان (2614) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (5005) . 2 مسلم: الإيمان (49) , والترمذي: الفتن (2172) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (5008) , وأبو داود: الصلاة (1140) , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1275) , وأحمد (3/10 ,3/20) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} ، [الحج الآيتان: 25-26] ، فقال الطواغيت الذي قال الله فيهم: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} [سورة التوبة آية: 31] . إن فساق مكة حشو الجنة! مع أن السيئات تضاعف فيها، كما تضاعف الحسنات، قانقلبت القضية بالعكس، حتى آل الأمر إلى الهتيميات، المعروفات بالزنى، والمصريات، يأتون وفودا يوم الحج الأكبر، كل من الأشراف معروفة بغيته منهن جهارا، وأن أهل اللواط، وأهل الشرك، والرافضة، وجميع الطوائف، من أعداء الله ورسوله آمنين فيها، وأن من دعا أبا طالب آمن، ومن وحد الله وعظمه ممنوع من دخولها، ولو استجار بالكعبة ما أجارته، وأبو طالب والهتيميات يجيرون من استجار بهم {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} [سورة النور آية: 16] . {وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [سورة الأنفال آية: 34] . وما جئنا بشيء يخالف النقل، ولا ينكره العقل; ولكنهم يقولون ما لا يفعلون، ونحن نقول ونفعل: {كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} ، [سورة الصف آية: 3] . نقاتل عباد الأوثان، كما قاتلهم صلى الله عليه وسلم، ونقاتلهم على ترك الصلاة، وعلى منع الزكاة، كما قاتل مانعها، صديق هذه الأمة، أبو بكر الصديق رضي الله عنه، ولكن ما هو إلا كما قال ورقة بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 نوفل: ما أتى أحد بمثل ما أتيت به، إلا عودي وأوذي وأخرج وما قلّ وكفى، خير مما كثر وألهى، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. (رسالة إسماعيل الجراعي صاحب اليمن إلى الشيخ ابن عبد الوهاب وجواب الشيخ له) وأرسل إليه صاحب اليمن: بسم الله الرحمن الرحيم من إسماعيل الجراعي، إلى من وفقه الله: محمد بن عبد الوهاب سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد: بلغني على ألسن الناس عنك، ممن أصدق علمه، وما لا أصدق، والناس اقتسموا فيكم، بين قادح، ومادح، فالذي سرني عنك: الإقامة على الشريعة في آخر هذا الزمان، وفي غربة الإسلام، أنك تدعو به، وتقوم أركانه، فوالله الذي لا إله غيره، مع ما نحن فيه عند قومنا، ما نقدر على ما تقدر عليه، من بيان الحق، والإعلان بالدعوة. وأما قول من لا أصدق: أنك تكفر بالعموم، ولا تبغي الصالحين، ولا تعمل بكتب المتأخرين. فأنت أخبرني، واصدقني بما أنت عليه، وما تدعو الناس إليه، ليستقر عندنا خبرك ومحبتك؟. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 بسم الله الرحمن الرحيم من محمد بن عبد الوهاب إلى: إسماعيل الجراعي سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد: فما تسأل عنه، فنحمد الله الذي لا إله غيره، ولا رب لنا سواه، فلنا أسوة، وهم: الرسل، عليهم الصلاة والسلام أجمعين، وأما ما جرى لهم مع قومهم، وما جرى لقومهم معهم، فهم قدوة وأسوة لمن اتبعهم. فما تسأل عنه، من الاستقامة على الإسلام، فالفضل لله; وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " بدأ الإسلام غريبا، وسيعود غريبا كما بدأ " 1. وأما القول: أنا نكفر بالعموم، فذلك من بهتان الأعداء، الذين يصدون به عن هذا الدين، ونقول: {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} [سورة النور آية: 16] . وأما الصالحون/ فهم على صلاحهم رضي الله عنهم، ولكن نقول: ليس لهم شيء من الدعوة، قال الله: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} [سورة الجن آية: 18] . وأما المتأخرون رحمهم الله، فكتبهم عندنا، فنعمل بما وافق النص منها، وما لا يوافق النص، لا نعمل به.   1 مسلم: الإيمان (145) , وابن ماجه: الفتن (3986) , وأحمد (2/389) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 فاعلم رحمك الله: أن الذي ندين به، وندعو الناس إليه: إفراد الله بالدعوة، وهي دين الرسل، قال الله: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ} ، [سورة البقرة آية: 83] . فانظر رحمك الله، ما أحدث الناس من عبادة غير الله، فتجده في الكتب، جعلني الله وإياك ممن يدعو إلى الله على بصيرة، كما قال الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [سورة يوسف آية: 108] . وصلى الله على محمد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 (جواب الشيخ ابن عبد الوهاب عما يقاتل عليه وما يكفر به) وسئل الشيخ: محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى، عما يقاتل عليه؟ وعما يكفر الرجل به؟ فأجاب: أركان الإسلام الخمسة، أولها الشهادتان، ثم الأركان الأربعة، فالأربعة إذا أقر بها، وتركها تهاونا، فنحن وإن قاتلناه على فعلها، فلا نكفره بتركها. والعلماء اختلفوا في كفر التارك لها كسلا من غير جحود، ولا نكفر إلا ما أجمع عليه العلماء كلهم، وهو: الشهادتان. وأيضا: نكفره بعد التعريف إذا عرف وأنكر. فنقول: أعداؤنا معنا على أنواع: النوع الأول: من عرف أن التوحيد دين الله ورسوله، الذي أظهرناه للناس، وأقر أيضا أن هذه الاعتقادات في الحجر، والشجر، والبشر، الذي هو دين غالب الناس، أنه الشرك بالله، الذي بعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم ينهى عنه، ويقاتل أهله، ليكون الدين كله لله، ومع ذلك لم يلتفت إلى التوحيد، ولا تعلمه، ولا دخل فيه، ولا ترك الشرك، فهو كافر، نقاتله بكفره؛ لأنه عرف دين الرسول فلم يتبعه، وعرف الشرك فلم يتركه، مع أنه لا يبغض دين الرسول، ولا من دخل فيه، ولا يمدح الشرك، ولا يزينه للناس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 النوع الثاني: من عرف ذلك، ولكنه تبين في سب دين الرسول، مع ادعائه أنه عامل به، وتبين في مدح من عبد يوسف، والأشقر، ومن عبد أبا علي، والخضر، من أهل الكويت، وفضلهم على من وحد الله، وترك الشرك، فهذا أعظم من الأول، وفيه قوله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [سورة البقرة آية: 89] ، وهو ممن قال الله فيه: {وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ} [سورة التوبة آية: 12] . النوع الثالث: من عرف التوحيد، وأحبه، واتبعه، وعرف الشرك، وتركه، ولكن يكره من دخل في التوحيد، ويحب من بقي على الشرك، فهذا أيضا: كافر، فيه قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [سورة محمد آية: 9] . النوع الرابع: من سلم من هذا كله، ولكن أهل بلده يصرحون بعداوة أهل التوحيد، واتباع أهل الشرك، وساعين في قتالهم، ويتعذر أن ترك وطنه يشق عليه، فيقاتل أهل التوحيد مع أهل بلده، ويجاهد بماله، ونفسه، فهذا أيضا كافر; فإنهم لو يأمرونه بترك صوم رمضان، ولا يمكنه الصيام إلا بفراقهم، فعل ; ولو يأمرونه بتزوج امرأة أبيه، ولا يمكنه ذلك إلا بفراقهم، فعل، وموافقتهم على الجهاد معهم، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 بنفسه وماله، مع أنهم يريدون بذلك قطع دين الله ورسوله أكبر من ذلك بكثير، كثير; فهذا أيضا: كافر، وهو ممن قال الله فيهم: {سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً مُبِيناً} [سورة النساء آية: 91] . فهذا الذي نقول. وأما الكذب والبهتان، فمثل قولهم: إنا نكفر بالعموم، ونوجب الهجرة إلينا على من قدر على إظهار دينه، وإنا نكفر من لم يكفر، ومن لم يقاتل، ومثل هذا وأضعاف أضعافه، فكل هذا من الكذب والبهتان، الذي يصدون به الناس عن دين الله ورسوله. وإذا كنا لا نكفر من عبد الصنم، الذي على عبد القادر، والصنم الذي على قبر أحمد البدوي، وأمثالهما، لأجل جهلهم، وعدم من ينبههم، فكيف نكفر من لم يشرك بالله إذا لم يهاجر إلينا، أو لم يكفر ويقاتل؟: {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} [سورة النور آية: 16] . بل نكفر تلك الأنواع الأربعة، لأجل محادتهم لله ورسوله، فرحم الله امرأ نظر نفسه، وعرف أنه ملاق الله، الذي عنده الجنة، والنار; وصلى الله على محمد وآله، وصحبه وسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 (رسالة الشيخ ابن عبد الوهاب إلى محمد بن عباد وبيان غلطه في مسائل) وله أيضا رحمه الله تعالى، وصب عليه من شآبيب بره، ووالى: بسم الله الرحمن الرحيم من محمد بن عبد الوهاب، إلى الأخ: محمد بن عباد، وفقه الله لما يحبه ويرضاه. سلام عليكم، ورحمة الله، وبركاته، وبعد: وصلنا أوراق في التوحيد، فيها كلام حسن، من أحسن الكلام، وفقك الله للصواب، وتذكر فيه: أن ودك نبين لك، إن كان فيها شيء غاترك 1. فاعلم أرشدك الله أن فيها مسائل غلط: الأولى: قولك: أول واجب على كل ذكر وأنثى: النظر في الوجود، ثم معرفة العقيدة، ثم علم التوحيد، وهذا خطأ، وهو من علم الكلام الذي أجمع السلف على ذمه; وإنما الذي أتت به الرسل أول واجب، هو: التوحيد، ليس النظر في الوجود، ولا معرفة العقيدة، كما ذكرته أنت في الأوراق، أن كل نبي يقول لقومه: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [سورة الأعراف آية: 59] . والثانية: قولك في الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه،   1 غاترك, معناها: لم يظهر لك وجهه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 إلخ، والإيمان هو التصديق الجازم بما أتى به الرسول، فليس كذلك، وأبو طالب عمه جازم بصدقه، والذين يعرفونه كما يعرفون أبناءهم; والذين يقولون: الإيمان هو: التصديق الجازم، هم: الجهمية، وقد اشتد نكير السلف عليهم، في هذه المسألة. الثالثة: قولك: إذا قيل للعامي ونحوه: ما الدليل على أن الله تبارك وتعالى ربك؟ ثم ذكرت ما الدليل على اختصاص العبادة بالله، وذكرت الدليل على توحيد الألوهية. فاعلم أن الربوبية، والألوهية يجتمعان، ويفترقان، كما في قوله: {أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ مَلِكِ النَّاسِ إِلَهِ النَّاسِ} [سورة آية: 1-3] . وكما يقال رب العالمين، وإله المرسلين، وعند الإفراد يجتمعان، كما في قول القائل: من ربك؟ مثاله: الفقير والمسكين، نوعان في قوله: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [سورة التوبة آية: 60] . ونوع واحد في قوله: " افترض عليهم صدقة، تؤخذ من أغنيائهم، فترد إلى فقرائهم " 1. إذا ثبت هذا، فقول الملكين للرجل في القبر: من ربك؟ معناه من إلهك، لأن الربوبية التي أقر بها المشركون، ما يمتحن أحد بها، وكذلك قوله: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ} [سورة الحج آية: 40] ، وقوله: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبّاً} [سورة الأنعام آية: 164] ، وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [سورة فصلت آية: 30 والأحقاف: 13] .   1 البخاري: الزكاة (1395 ,1496) والتوحيد (7372) , ومسلم: الإيمان (19) , والترمذي: الزكاة (625) , والنسائي: الزكاة (2435) , وأبو داود: الزكاة (1584) , وابن ماجه: الزكاة (1783) , وأحمد (1/233) , والدارمي: الزكاة (1614) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 فالربوبية في هذا، هي: الألوهية، ليست قسيمة لها، كما تكون قسيمة لها عند الاقتران ; فينبغي: التفطن لهذه المسألة. الرابعة: قولك في الدليل على إثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ودليله: الكتاب، والسنة، ثم ذكرت الآيات، كلام من لم يفهم المسألة، لأن المنكر للنبوة، أو الشاك فيها، إذا استدللت عليه بالكتاب والسنة، يقول: كيف تستدل بشيء علي ما أتى به إلا هو؟ ! والصواب في المسألة: أن تستدل عليه بالتحدي، بأقصر سورة من القرآن، أو شهادة علماء أهل الكتاب، كما في قوله: {أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرائيلَ} [سورة الشعراء آية: 197] ، ولكونهم يعرفونه قبل أن يخرج، كما في قوله: {وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا} الآية [سورة البقرة آية: 89] ، إلى غير ذلك من الآيات، التي تفيد الحصر، وتقطع الخصم. الخامسة: قولك اعلم يا أخي لا علمت مكروها، فاعلم: أن هذه كلمة تضاد التوحيد، وذلك: أن التوحيد، لا يعرفه إلا من عرف الجاهلية، والجاهلية، هي: المكروه، فمن لم يعلم المكروه، لم يعلم الحق، فمعنى هذه الكلمة: اعلم لا علمت خيرا، ومن لم يعلم المكروه ليجتنبه، لم يعلم المحبوب، وبالجملة، فهي: كلمة عامية جاهلية، ولا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 ينبغي لأهل العلم، أن يقتدوا بالجهال. السادسة: جزمك بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " اطلبوا العلم، ولو من الصين" فلا ينبغي أن يجزم الإنسان على رسول الله صلى الله عليه وسلم بما لا يعلم صحته، وهو القول بلا علم، فلو أنك قلت، وروى، أو ذكر فلان، أو ذكر في الكتاب الفلاني، لكان هذا مناسبا، وأما الجزم بالأحاديث التي لم تصح فلا يجوز. فتفطن لهذه المسألة، فما أكثر من يقع فيها. السابعة: قولك في سؤال الملكين، والكعبة قبلتي، وكذا، وكذا، فالذي علمناه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهما يسألان عن ثلاث: عن التوحيد، وعن الدين، وعن محمد صلى الله عليه وسلم، فإن كان في هذا عندك رابعة، فأفيدونا، ولا يجوز الزيادة على ما قال الله ورسوله. الثامنة: قولك في الإيمان بالقدر: إنه الإيمان بأن لا يكون صغير، ولا كبير، إلا بمشيئة الله وإرادته، وأن يفعل المأمورات، ويترك المنهيات؛ وهذا غلط، لأن الله سبحانه، له الخلق، والأمر، والمشيئة، والإرادة ; وله الشرع، والدين؛ إذا ثبت هذا، ففعل المأمورات، وترك المنهيات، هو: الإيمان بالأمر، وهو الإيمان بالشرع، والدين، ولا يذكر في حد الإيمان بالقدر. التاسعة: قولك، الآيات التي في الاحتجاج بالقدر، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 كقوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ} الآية [سورة النحل آية: 35] ، ثم قلت: فإياك والاقتداء بالمشركين، في الاحتجاج على الله، وحسبك من القدر الإيمان به، فالذي ذكرناه، في تفسير هذه الآيات، غير معنى الذي أردت، فراجعه، وتأمله بقلبك، فإن اتضح لك، وإلا فراجعني فيه، لأنه كلام طويل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 (جواب الشيخ ابن عبد الوهاب عن أول ما يجب على الإنسان معرفته) وسئل أيضا: الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى، عن معنى هذه الأبيات: أول واجب على الإنسان ... معرفة الإله باستيقان فأجاب: تمام الكلام، على فهم معناه: أول واجب على الإنسان ... معرفة الإله باستيقان والنطق بالشهادتين اعتبرا ... لصحة الإيمان ممن قدرا إن صدق القلب وبالأعمال ... يكون ذا نقص وذا إكمال فذكر في هذا الكلام: خمس مسائل، من مسائل العقائد، التي يسمونها أصول الدين: الأولى. اختلف في أول واجب، فقيل: النظر; وقيل: القصد إلى النظر، وقيل: المعرفة. الثانية: هل يكتفى في مسائل الأصول بالتقليد؟ أو غلبة الظن؟ أو لا بد من اليقين؟ فذكر: أن الواجب في معرفة الله هو: اليقين. الثالثة: هل يشترط في الواجب، النطق بالشهادتين؟ أو يصير مسلما بالمعرفة؟ فذكر: أنه لا يصير مسلما إلا بالنطق للقادر عليه، والمخالف في ذلك جهم، ومن تبعه; وقد أفتى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 الإمام أحمد، وغيره من السلف، بكفر من قال: إنه يصير مسلما بالمعرفة، وتفرع على هذه مسائل; منها: من دعي إلى الصلاة فأبى، مع الإقرار بوجوبها، هل يقتل كفرا؟ أو حدا؟ ومن قال: يقتل حدا، من رأى أن هذا أصل المسألة. الرابعة: أن ابن كَرَّام، وأتباعه، يقولون: إن الإيمان قول باللسان، من غير عقيدة القلب، مع أنهم يوافقون أهل السنة، أنه مخلد في النار، فذكر أنه لا بد مع النطق بتصديق القلب. الخامسة: المسألة المشهورة: هل الأعمال من الإيمان؟ ويزيد وينقص بها؟ أم ليست من الإيمان؟ والمخالف في ذلك: أبو حنيفة، ومن تبعه، الذين يسمون مرجئة الفقهاء، فرجح الناظم، مذهب السلف: أن الأعمال من الإيمان، وأنه يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية. إذا ثبت هذا، فكل هذه المسائل واضحة، إلا المسألة الأولى، المسؤول عنها، وهي: معرفة الإله، ما هي؟ فينبغي التفطن لهذه، فإنها أصل الدين، وهي الفارقة بين المسلم، والكافر. وأصل هذا قوله تعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} [سورة الزّخرف آية: 36] ، وذكر الرحمن، هو: القرآن، فلما طلبوا الهداية من غيره، أضلهم الله، وقيض لهم الشيطان، فصدهم عن أصل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 الأصول، ومع هذا يحسبون أنهم مهتدون. وبيان ذلك: أنه ليس المراد معرفة الإله الإجمالية يعني: معرفة الإنسان، أن له خالقا، فإنها ضرورية فطرية، بل معرفة الإله: هل هذا الوصف، مختص بالله؟ لا يشركه فيه ملك مقرب، ولا نبي مرسل؟ أم جعل لغيره قسط منه؟! فأما المسلمون، أتباع الأنبياء، فإجماعهم على أنه مختص، كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} [سورة الأنبياء آية: 25] . والكافرون يزعمون أنه هو الإله الأكبر، ولكن معه آلهة أخرى تشفع عنده، والمتكلمون ممن يدعي الإسلام، لكن أضلهم الله عن معرفة الإله، فذكر عن الأشعري، ومن تبعه: أنه القادر، وأن الألوهية هي القدرة، فإذا أقررنا بذلك، فهي معنى قوله: لا إله إلا الله. ثم استحوذ عليهم الشيطان، فظنوا أن التوحيد لا يتأتى إلا بنفي الصفات، فنفوها، وسموا من أثبتها مجسما. ورد عليهم أهل السنة بأدلة كثيرة، منها: أن التوحيد لا يتم إلا بإثبات الصفات، وأن معنى الإله: هو المعبود. فإذا كان هو سبحانه متفردا به، عن جميع المخلوقات، وكان هذا وصفا صحيحا، لم يكذب الواصف به، فهذا يدل على الصفات، فيدل على العلم العظيم، والقدرة العظيمة; وهاتان الصفتان: أصل جميع الصفات، كما قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً} [سورة الطلاق آية: 12] . فإذا كان الله قد أنكر عبادة من لا يملك لعابده نفعا ولا ضرا، فمعلوم أن هذا يستلزم العلم بحاجة العباد، ناطقها، وبهيمها ; وتستلزم القدرة على قضاء حوائجهم، ويستلزم الرحمة الكاملة، واللطف الكامل، وغير ذلك من الصفات ; فمن أنكر الصفات، فهو معطل، والمعطل شر من المشرك؛ ولهذا كان السلف، يسمون التصانيف، في إثبات الصفات: كتب التوحيد، وختم البخاري صحيحه بذلك، قال: كتاب التوحيد ; ثم ذكر الصفات، بابا، بابا. فنكتة المسألة: أن المتكلمين يقولون: التوحيد لا يتم إلا بإنكار الصفات، فقال أهل السنة: لا يتم التوحيد إلا بإثبات الصفات، وتوحيدكم، هو التعطيل؛ ولهذا آل هذا القول ببعضهم إلى إنكار الرب تبارك وتعالى، كما هو مذهب ابن عربي، وابن الفارض، وفئام من الناس، لا يحصيهم إلا الله. فهذا بيان لقولك: هل مراده الصفات؟ أو الأفعال؟ فبين السلف: أن العبادة إذا كانت كلها لله عن جميع المخلوقات، فلا تكون إلا بإثبات الصفات، والأفعال ; فتبين أن منكر الصفات، منكر لحقيقة الألوهية، لكن لا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 يدري ; وتبين لك أن من شهد أن لا إله إلا الله، صدقا من قلبه، لا بد أن يثبت الصفات، والأفعال، ولكن العجب العجاب: ظن إمامهم الكبير، أن الألوهية، هي القدرة، وأن معنى قولك: لا إله إلا الله، أي: لا يقدر على الخلق إلا الله! إذا فهمت هذا تبين لك عظم قدرة الله، على إضلال من شاء، مع الذكاء، والفطنة، كأنهم لم يفهموا قصة إبليس، ولا قصة قوم نوح، وعاد، وثمود، وهلم جرا، كما قال شيخ الإسلام، في آخر الحموية: أوتوا ذكاء، وما أوتوا زكاء، وأوتوا علوما، وما أوتوا فهوما، وأوتوا سمعا، وأبصارا، وأفئدة {فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [سورة الأحقاف آية: 26] . والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 (رسالة الشيخ ابن عبد الوهاب في بيان الإسلام ومبانيه) وله: رحمه الله، ما نصه: بسم الله الرحمن الرحيم وعليكم السلام، ورحمة الله، وبركاته وبعد: قال الله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الأِسْلامُ} [سورة آل عمران آية: 19] . وقال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْه} الآية [سورة آل عمران آية: 85] . وقال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلامَ دِيناً} [سورة المائدة آية: 3] . قيل: إنها آخر آية نزلت. وفسر نبي الله صلى الله عليه وسلم الإسلام، لجبريل عليه السلام، وبناه أيضا على خمسة أركان، وتضمن كل ركن علما، وعملا، فرضا على كل ذكر وأنثى، لقوله: لا ينبغي لأحد يقدم على شيء، حتى يعلم حكم الله فيه. فاعلم أن أهمها، وأولاها: الشهادتان، وما تضمنتا من النفي والإثبات، من حق الله على عبيده، ومن حق الرسالة على الأمة. فإن بان لك شيء من ذلك، ما ارتعت، وعرفت ما الناس فيه من الجهل، والغفلة، والإعراض، عما خلقوا له ; وعرفت ما هم عليه من دين الجاهلية، وما معهم من الدين النبوي، وعرفت أنهم بنوا دينهم، على ألفاظ، وأفعال أدركوا عليها أسلافهم، نشأ عليها الصغير، وهرم عليها الكبير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 ويؤيد ذلك: أن الولد إذا بلغ عشر سنين، غسلوا له أهله 1 وعلموه ألفاظ الصلاة، وحيي على ذلك، ومات عليه، أتظن من كانت هذه حاله، هل شم لدين الإسلام الموروث عن الرسول رائحة؟ فما ظنك به إذا وضع في قبره؟ ! وأتاه الملكان، وسألاه عما عاش عليه من الدين؟ بما يجيب؟ هاه، هاه، لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئا فقلته. وما ظنك إذا وقف بين يدي الله تعالى، وسأله: ماذا كنتم تعبدون؟ وبماذا أجبتم المرسلين؟ بماذا يجيب؟ رزقنا وإياك علما نبويا، وعملا خالصا في الدنيا، ويوم نلقاه آمين. فانظر يا رجل، حالك، وحال أهل هذا الزمان؛ أخذوا دينهم عن آبائهم، ودانوا بالعرف، والعادة، وما جاز عند أهل الزمان، والمكان، دانوا به، وما لا، فلا. فأنت وذاك، وإن كانت نفسك عليك عزيزة، ولا ترضى لها بالهلاك، فالتفت لما تضمنت أركان الإسلام، من العلم والعمل، خصوصا الشهادتان، من النفي، والإثبات، وذلك ثابت من كلام الله، وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم. قيل: إن أول آية نزلت، قوله تعالى، بعد {اقْرَأْ} [سورة آية: 1] : {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ} [سورة آية: 1-2] . قف عندها، ثم قف، ثم قف، ترى العجب العجيب، ويتبين لك ما أضاع الناس، من أصل الأصول ; وكذلك قوله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً} الآية   1 يعني: علمه أهله, الطهارة للصلاة, من استنجاء, ووضوء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 [سورة النحل آية: 36] . وكذلك قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} الآية [سورة آية: 23] ، وكذلك قوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} الآية [سورة التوبة آية: 31] ، وغير ذلك من النصوص، الدالة على حقيقة التّوحيد الذي هو مضمون ماذكرت في رسالتك أنّ محمد قرر لكم ثلاثة أصول: توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، والولاء والبراء، وهذا هو حقيقة دين الإسلام. ولكن قف عند هذه الألفاظ، واطلب ما تضمنت: من العلم، والعمل، ولا يمكن في العلم إلا أنك تقف على كل مسمى منهما مثل الطاغوت، تجد سليمان، والمويس، وعريعر، وأبا ذراع، والشيطان رئيسهم، كذلك قف عند الأرباب منهم، تجدهم العلماء، والعباد، كائنا من كان، إن أفتوك بمخالفة الدين، ولو جهلا منهم، فأطعتهم. كذلك قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} [سورة البقرة آية: 165] ، يفسرها قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ} الآية [سورة التوبة آية: 24] . كذلك قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} ، [الجاثية، من الآية: 23] . وهذه أعم مما قبلها، وأضرها، وأكثرها وقوعا، ولكن أظنك، وكثير من أهل الزمان: ما يعرف من الآلهة المعبودة، إلا هبل، ويغوث، ويعوق، ونسرا، واللات، والعزى، ومناة ; فإن جاد فهمه، عرف أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 المقامات المعبودة اليوم، من البشر، والشجر، والحجر، ونحوها، مثل: شمسان، وإدريس، وأبو حديدة، ونحوهم منها. هذا ما أثمر به الجهل، والغفلة، والإعراض عن تعلم دين الله ورسوله، ومع هذا يقول لكم شيطانكم المويس: إن بنيات حرمه، وعيالهم، يعرفون التوحيد، فضلا عن رجالهم. وأيضا تعلم معنى لا إله إلا الله بدعة، فإن استغربت ذلك مني، فأحضر عندك جماعة، واسألهم: عما يسألون عنه في القبر، هل تراهم يعبرون عنه لفظا وتعبيرا؟ ! فكيف إذا طولبوا بالعلم والعمل؟ هذا ما أقول لك، فإن بان لك شيء ارتعت روعة صدق، على ما فاتك من العلم والعمل في دين الإسلام، أكبر من روعتك التي ذكرت في رسالتك، من تجهيلنا جماعتك ; ولكن هذا حق 1 من أعرض عما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من دين الإسلام، فكيف بمن له قريب من أربعين سنة، يسب دين الله ورسوله، ويبغضه، ويصد عنه مهما أمكن؟! فلما عجز عن التمرد في دينه الباطل، وقيل له: أجب عن دينك، وجادل دونه، وانقطعت حجته، أقر أن هذا الذي عليه ابن عبد الوهاب، هو دين الله ورسوله، قيل له: فالذي   1 قوله: حق, أي: جزاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 عليه أهل حرمة؟ قال: هو دين الله ورسوله، كيف يجتمع هذا، وهذا، في قلب رجل واحد؟! فكيف بجماعات عديدة، بين الطائفتين من الاختلاف سنين عديدة، ما هو معروف؟ ! حتى إن كلا منهم: شهر السيف دون دينه، واستمر الحرب مدة طويلة، وكل منهم يدعي صحة دينه، ويطعن في دين الآخر! نعوذ بالله من سوء الفهم، وموت القلوب، أهل دينين مختلفين، وطائفتان يقتتلون، كل منهم على صحة دينه، ومع هذا يتصوران الكل دين صحيح، يدخل من دان به الجنة، سبحانك هذا بهتان عظيم، فكيف والناقد بصير؟ ! فيا رجل ألق سمعك لما فرض الله عليك، خصوصا الشهادتان وما تضمنتاه من النفي والإثبات، ولا تغتر باللفظ والفطرة، وما كان عليه أهل الزمان والمكان، فتهلك. فاعلم: أن أهم ما فرض الله على العباد: معرفة أن الله رب كل شيء ومليكه، ومدبره، بإرادته. فإذا عرفت هذا، فانظر ما حق من هذه صفاته عليك بالعبودية، بالمحبة والإجلال، والتعظيم، والخوف، والرجاء، والتأله، المتضمن: للذل والخضوع، لأمره ونهيه، وذلك قبل فرض الصلاة والزكاة. ولذلك: يعرف عباده، بتقرير ربوبيته، ليرتقوا بها إلى معرفة إلهيته، التي هي مجموع عبادته على مراده، نفيا وإثباتا، علما وعملا، جملة وتفصيلا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 (خمس مسائل يجب على المسلم معرفتها) وقال أيضا: الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله: الواجب عليك: أن تعرف خمس مسائل: الأولى: أن الله لما أرسل محمدا صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق: أن أول كلمة أرسله الله بها: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} ، [المدثر الآيات: 1-3] . ومعنى قوله: {فَأَنْذِرْ} الإنذار عن الشرك بالله، وكانوا يجعلونه دينا، يتقربون به إلى الله تعالى، مع أنهم يفعلون من الظلم، والفواحش، ما لا يحصى، ويعلمون أنه معصية. فمن فهم فهما جيدا أن الله أمره بالإنذار عن دينهم الذي يتقربون به إلى الله، قبل الإنذار عن الزنى، أو نكاح الأمهات والأخوات، وعرف الشرك الذي يفعلونه، رأى العجب العجاب، خصوصا إن عرف أن شركهم دون شرك كثير من الناس اليوم، لقوله تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الإنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَاداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} ، [الزّمر: 8] . الثانية: أنه لما أنذرهم عن الشرك، أمرهم بالتوحيد، الذي هو: إخلاص الدين لله، وهو معنى قوله تعالى: {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} [سورة المدثر آية: 3] يعني: عظمه بالإخلاص، وليس المراد تكبير الأذان وغيره، فإنه لم يشرع إلا في المدينة، فإذا عرف الإنسان أن ترك الشرك لا ينفع إلا إذا لبس ثوب الإخلاص، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 وفهم الإخلاص فهما جيدا، وعرف ما عليه كثير من الناس من ظنهم أن الإخلاص وترك دعوة الصالحين نقص لهم، كما قال النصارى: إن محمدا يشتم عيسى، لما ذكر أنه عبد الله ورسوله، ليس يعبد مع الله تعالى. فمن فهم هذا عرف غربة الإسلام، خصوصا إن أحضر بقلبه، ما فعل الذين يدعون أنهم من العلماء، من معاداة أهل هذه المسألة، وتكفيرهم من دان بها، وجاهدهم، مع عباد قبة أبي طالب، وأمثالها، وقبة الكواز، وأمثالها، وفتواهم لهم بحل دمائنا، وأموالنا، لتركنا ما هم عليه، ويقولون: إنهم ينكرون دينكم. فلا تعرف هذه، والتي قبلها، إلا بإحضارك في ذهنك، ما علمت أنهم فعلوا مع أهل هذه المسألة، وما فعلوا مع المشركين، فحينئذ تعرف أن دين الإسلام، ليس بمجرد المعرفة، فإن إبليس وفرعون، يعرفونه، وكذلك اليهود يعرفونه كما يعرفون أبناءهم؛ وإنما الإسلام هو: العمل بذلك والحب والبغض، وترك موالاة الآباء والأبناء في هذا. الثالثة: أن تحضر بقلبك: أن الله سبحانه لم يرسل الرسول، إلا ليصدق ويتبع، ولم يرسله ليكذب ويعصى. فإذا تأملت إقرار من يدعي أنه من العلماء بالتوحيد، وأنه دين الله ورسوله، لكن من دخل فيه فهو من الخوارج الذين تحل دماؤهم، ومن أبغضه وسبه وصد الناس عنه، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 فهو الذي على الحق، وكذلك إقرارهم بالشرك، وقولهم ليس عندنا قبة نعبدها، بل جهادهم: الجهاد المعروف، مع أهل القباب، وأن من فارقهم، حل ماله ودمه. فإذا عرف الإنسان هذه المسألة الثالثة كما ينبغي، وعرف أنه اجتمع في قلبه ولو يوما واحدا، أن قلبه قبل كلامهم أن التوحيد دين الله ورسوله، ولكن لا بد من بغضه وعداوته، وأن ما عليه أهل القباب هو الشرك، ولكنهم هم السواد الأعظم، وهم على الحق، ولا يقول: إنهم يفعلون، فاجتماع هذه الأضداد في القلب، مع أنها أبلغ من الجنون، فهي من أعظم قدرة الله تعالى، وهي من أعظم ما يعرفك بالله، وبنفسك، فمن عرف نفسه، وعرف ربه، تم أمره، فكيف إذا علمت أن هذين الضدين اجتمعا في قلب صالح وحيوان وأمثالهما أكثر من عشرين سنة؟. الرابعة: أنك تعلم أن الله أنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} ، [الزمر:65] . مع أنهم راودوه، على قول كلمة، أو فعل مرة واحدة، ووعدوه أن ذلك يقودهم إلى الإسلام، فقد ترى؛ بل إذا عرفت: أن أعظم أهل الإخلاص وأكثرهم حسنات، لو يقول كلمة الشرك، مع كراهيته لها، ليقود غيره بها إلى الإسلام، حبط عمله، وصار من الخاسرين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 فكيف بمن أظهر أنه منهم، وتكلم بمائة كلمة، لأجل تجارة، أو لأجل أنه يحج، لما منع الموحدون من الحج، كما منعوا النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، حتى فتح الله مكة. فمن فهم هذا فهما جيدا، انفتح له معرفة قدر التوحيد عند الله عز وجل وقدر الشرك. ولكن إن عرفت هذه بعد أربع سنين فنعما لك، أعني المعرفة التامة، كما تعرف أن القطرة من البول تنقض الوضوء الكامل، إذا خرجت، ولو بغير اختياره. الخامسة: أن الرسول صلى الله عليه وسلم فرض الإيمان بما جاء به كله، لا تفريق فيه؛ فمن آمن ببعض، وكفر ببعض، فهو كافر حقا، بل لابد من الإيمان بالكتاب كله. فإذا عرفت أن من الناس من يصلي ويصوم، ويترك كثيرا من المحرمات، لكن لا يورثون المرأة، ويزعمون أن ذلك هو الذي ينبغي اتباعه، بل لو يورثها أحد عندهم، ويخلف عادتهم، أنكرت قلوبهم ذلك، أو ينكر عدة المرأة في بيت زوجها، مع علمه بقول الله تعالى: {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} ، [الطلاق، من الآية: 1] ، ويزعم أن تركها في بيت زوجها لا يصلح، وأن إخراجها عنه، هو الذي ينبغي فعله، وأنكر التحية بالسلام، مع معرفة أن الله شرعه، حبا لتحية الجاهلية لما ألفها، فهذا يكفر، لأنه آمن ببعض وكفر ببعض، بخلاف من عمل المعصية، أو ترك الفرض، مثل فعل الزنى، وترك بر الوالدين، مع اعترافه أنه مخطئ، وأن أمر الله هو الصواب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 واعلم أني مثلت لك بهذه الثلاث، لتحذو عليها، فإن عند الناس من هذا كثير، يخالف ما حد الله في القرآن، وصار المعروف عندهم ما ألفوه عند أهليهم، ولو يفعل أحد ما ذكر الله، ويترك العادة، لأنكروا عليه، واستسفهوه، بخلاف من يفعل أو يترك، مع اعترافه بالخطأ، وإيمانه بما ذكر الله. واعلم أن هذه المسألة الخامسة، من أشد ما على الناس خطرا في وقتنا، بسبب غربة الإسلام، والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 (أربع مسائل يجب على المسلم تعلمها) وقال أيضا الشيخ محمد بن عبد الوهاب، قدس الله روحه: ويجب علينا تعلم أربع مسائل: الأولى: العلم، وهو: معرفة الله ومعرفة نبيه، ومعرفة دين الإسلام بالأدلة الثانية: العمل به. الثالثة: الدعوة إليه. الرابعة: الصبر على الأذى فيه، والدليل قوله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم: {وَالْعَصْرِ إِنَّ الإنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} ، [العصر الآيتات: 1-3] . قال الشافعي، رحمه الله تعالى: لو ما أنزل الله حجة على خلقه إلا هذه السورة لكفتهم. وقال البخاري، رحمه الله تعالى: باب: العلم قبل القول والعمل، والدليل قوله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} ، [محمد، من الآية: 19] ؛ فبدأ بالعلم، قبل القول والعمل. اعلم رحمك الله أنه يجب على كل مسلم ومسلمة، تعلم هذه المسائل، والعمل بهن. الأولى: أن الله خلقنا ورزقنا، ولم يتركنا هملا، بل أرسل إلينا رسولا، فمن أطاعه دخل الجنة، ومن عصاه دخل النار، والدليل قوله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 وَبِيلاً} [سورة آية: 15-16] . الثانية: أن الله لا يرضى أن يشرك معه أحد في عبادته، لا ملك مقرب، ولا نبي مرسل، فضلا عن غيرهما، والدليل قوله تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} ، [الجن: 18] . الثالثة: أن من أطاع الرسول، ووحد الله، لا تجوز له موالاة من حاد الله ورسوله، ولو كان أقرب قريب، والدليل قوله تعالى: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الأِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} ، [المجادلة: 22] . اعلم أرشدك الله لطاعته أن الحنيفية ملة إبراهيم، أن تعبد الله مخلصا له الدين؛ وبذلك أمر الله جميع الناس، وخلقهم لها، كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} ، [الذّاريات: 56] . ومعنى يعبدون: يوحدون، وأعظم ما أمر الله به التوحيد، وهو إفراد الله بالعبادة، وأعظم ما نهى عنه: الشرك، وهو: دعوة غيره معه، والدليل قوله تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} ، [سورة النساء آية: 36] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 فإذا قيل لك: ما الأصول الثلاثة، التي يجب على الإنسان معرفتها؟ فقل: معرفة العبد ربه، ودينه، ونبيه محمدا صلى الله عليه وسلم. فإذا قيل لك: من ربك؟ فقل: ربي الله الذي رباني، وربى جميع العالمين بنعمه؛ وهو معبودي، ليس لي معبود سواه، والدليل قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ، [الفاتحة: 2] . وكل ما سوى الله عالم، وأنا واحد من ذلك العالم. وإذا قيل لك: بم عرفت ربك؟ فقل: أعرفه بآياته ومخلوقاته؛ ومن آياته الليل، والنهار، والشمس، والقمر. ومن مخلوقاته: السماوات السبع، ومن فيهن، والأرضون السبع، ومن فيهن، وما بينهما ; والدليل قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} ، [فصلت: 37] ؟ وقوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} ، [الأعراف: 54] . والرب، هو: المعبود، والدليل قوله تعالى:) يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} ، [البقرة: 21] إلى قوله تعالى: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} ، [البقرة، من الآية: 22] . قال ابن كثير رحمه الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 تعالى: الخالق لهذه الأشياء، هو المستحق للعبادة. وأنواع العبادة التي أمر الله بها مثل: الإسلام، والإيمان، والإحسان، ومنه الدعاء والخوف، والرجاء، والتوكل، والرغبة، والرهبة، والخشوع، والخشية، والإنابة، والاستعانة، والاستعاذة، والاستغاثة، والذبح، والنذر، وغير ذلك من أنواع العبادة التي أمر الله بها، والدليل قوله تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} ، [الجن: 18] . فمن صرف من ذلك شيئا لغير الله، فهو مشرك كافر، والدليل قوله تعالى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} ، [المؤمنون: 117] . وفي الحديث: " الدعاء مخ العبادة " 1، والدليل قوله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} ، [غافر: 60] . ودليل الخوف قوله تعالى: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} ، [آل عمران: 175] . ودليل الرجاء قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَد} [سورة الكهف آية: 110] . ودليل التوكل قوله تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} ، [سورة المائدة آية: 23] . وقوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [سورة الطلاق آية: 3] . ودليل الرغبة والرهبة، والخشوع، قوله تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً   1 الترمذي: الدعوات (3371) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} ، [سورة الأنبياء آية: 90] . ودليل الخشية قوله تعالى: {فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي} ، [البقرة، من الآية: 150] . ودليل الإنابة قوله تعالى: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ} ، [الزّمر، من الآية: 54] . ودليل الاستعانة قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ، [الفاتحة: 5] ، وفي الحديث: " إذا استعنت فاستعن بالله " 1 ودليل الاستعاذة قوله تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} ، [الفلق: 1] ، و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} ، [الناس: 1] . ودليل الاستغاثة قوله تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} ، [الأنفال، من الآية: 9] . ودليل الذبح قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ} ، [سورة آية: 163-162] . ومن السنة قوله صلى الله عليه وسلم " لعن الله من ذبح لغير الله " 2 ودليل النذر قوله تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً} ، [الإنسان: 7] . الأصل الثاني: معرفة دين الإسلام بالأدلة، وهو الاستسلام لله بالتوحيد، والانقياد له بالطاعة، والبراءة من الشرك وأهله. وهو ثلاث مراتب: الإسلام، والإيمان، والإحسان. وكل مرتبة لها أركان. فأركان الإسلام: خمسة، والدليل من السنة: حديث ابن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " بني الإسلام على خمس، شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج بيت الله الحرام من استطاع   1 الترمذي: صفة القيامة والرقائق والورع (2516) , وأحمد (1/293 ,1/303 ,1/30) . 2 مسلم: الأضاحي (1978) , والنسائي: الضحايا (4422) , وأحمد (1/108 ,1/118 ,1/152) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 إليه سبيلا " 1. والدليل قوله تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} ، [آل عمران: 85] . ودليل الشهادة قوله تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} ، [آل عمران: 18] . ومعناها: لا معبود بحق إلا الله، وحد النفي من الإثبات: لا إله نافيا جميع ما يعبد من دون الله، إلا الله، مثبتا العبادة لله وحده، لا شريك له في عبادته، كما أنه لا شريك له في ملكه. وتفسيرها الذي يوضحها قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} ، [الزّخرف الآيتان: 26-27] ، وقوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئا} الآية [سورة آل عمران آية: 64] . ودليل شهادة أن محمدا رسول الله، قوله تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} ، التّوبة: 128] . ومعنى شهادة أن محمدا رسول الله: طاعته فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما عنه نهى وزجر، وأن لا يعبد الله إلا بما شرع. ودليل الصلاة، والزكاة، وتفسير التوحيد، قوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا   1 البخاري: الإيمان (8) , ومسلم: الإيمان (16) , والترمذي: الإيمان (2609) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (5001) , وأحمد (2/92 ,2/120) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} ، [البيّنة: 5] . ودليل الصيام قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون} ، [البقرة، من الآية: 183] . ودليل الحج قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران، من الآية: 97] . المرتبة الثانية: الإيمان، وهو بضع وسبعون شعبة: أعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان. وأركانه: ستة: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره كله من الله. والدليل قوله تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} ، [البقرة، من الآية: 177] . ودليل القدر قوله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} ، [القمر: 49] . المرتبة الثالثة: الإحسان، ركن واحد، وهو: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه، فإنه يراك، والدليل قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} ، [النّحل: 128] . وقوله تعالى: {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [سورة لقمان آية: 22] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 وقوله تعالى: {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} [سورة آية: 219-218] ، وقوله تعالى: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ} [سورة يونس آية: 61] . والدليل من السنة: حديث جبريل المشهور عليه السلام، عن عمر رضي الله عنه قال: " بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ دخل علينا رجل، شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس عند النبي صلى الله عليه وسلم. فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه، فقال: يا محمد، أخبرني عن الإسلام؟ قال: أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت الحرام، إن استطعت إليه سبيلا، قال: صدقت. فعجبنا له: يسأله، ويصدقه. قال: أخبرني عن الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره. قال: صدقت. قال: أخبرني عن الإحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه، فإنه يراك. قال: صدقت. قال: أخبرني عن الساعة؟ قال: ما المسؤول عنها بأعلم من السائل. قال: أخبرني عن أماراتها؟ قال: أن تلد الأمة ربها، وأن ترى الحفاة، العراة العالة رعاء الشاء، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 يتطاولون في البنيان فمضى فلبثنا مليا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم. يا عمر، أتدرون من السائل؟ قلنا: الله ورسوله أعلم؟ قال: هذا جبريل أتاكم يعلمكم أمر دينكم ". الأصل الثالث: معرفة نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم، وهو: محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم، وهاشم من قريش، وقريش من العرب، والعرب من ذرية إسماعيل بن إبراهيم الخليل، على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام. وله من العمر ثلاث وستون سنة، منها أربعون قبل النبوة، وثلاث وعشرون نبيا رسولا. نبئ باقرأ وأرسل بالمدثر، وبلده مكة، وهاجر إلى المدينة. بعثه الله بالنذارة عن الشرك، ويدعو إلى التوحيد، والدليل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ وَلاَ تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} [سورة المدثر آية: 1-7] . ومعنى {قُمْ فَأَنْذِرْ} ينذر عن الشرك، ويدعو إلى التوحيد. {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} أي: عظمه بالتوحيد {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} أي: طهر أعمالك عن الشرك. {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} الرجز: الأصنام، وهجرها تركها، والبراءة منها وأهلها. أخذ على هذا عشر سنين، يدعو إلى التوحيد. وبعد العشر، عرج به إلى السماء، وفرضت عليه الصلوات الخمس، وصلى في مكة ثلاث سنين، وبعدها أمر بالهجرة إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 المدينة؛ والهجرة: الانتقال من بلد الشرك إلى بلد الإسلام، وهي باقية إلى أن تقوم الساعة، والدليل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا} [سورة النّساء آية: 97-99] . وقوله تعالى: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} ، [العنكبوت: 56] . قال البغوي رحمه الله تعالى: سبب نزول هذه الآية في المسلمين، الذين بمكة، لم يهاجروا، ناداهم الله باسم الإيمان. والدليل على الهجرة من السنة قوله صلى الله عليه وسلم: " لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها " 1. فلما استقر بالمدينة أمر ببقية شرائع الإسلام، مثل الزكاة، والصوم، والحج، والأذان، والجهاد، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وغير ذلك من شرائع الإسلام؛ أخذ على هذا عشر سنين. وتوفي صلى الله عليه وسلم ودينه باق، وهذا دينه، لا خير إلا دل الأمة عليه، ولا شر إلا حذرها منه. والخير الذي دل عليه: التوحيد، وجميع ما يحبه الله ويرضاه. والشر الذي حذر عنه: الشرك بالله، وجميع ما يكرهه الله ويأباه. بعثه الله إلى الناس كافة، وافترض الله طاعته على جميع   1 أبو داود: الجهاد (2479) , وأحمد (4/99) , والدارمي: السير (2513) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 الثقلين، الجن والإنس، والدليل قوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً} ، [سورة الأعراف آية: 158] ، وأكمل الله به الدين، والدليل قوله تعالى: {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلامَ دِيناً} [سورة المائدة آية: 3] . والدليل على موته صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} ، [الزّمر: 30] . والناس إذا ماتوا يبعثون، والدليل قوله تعالى: ? مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} ، [طه: 55] . وقوله: {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتاً ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً} ، [نوح الآيتان: 17-18] ، وبعد البعث محاسبون، وَمَجْزِيُّونَ بأعمالهم، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، والدليل قوله تعالى: {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} ، [سورة النجم آية: 31] . ومن كذب بالبعث كفر، والدليل قوله تعالى: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} ، التّغابن: 7] . وأرسل الله جميع الرسل مبشرين ومنذرين، والدليل قوله تعالى: {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} ، [سورة النساء آية: 165] . وأولهم نوح عليه السلام، وآخرهم محمد صلى الله عليه وسلم. وهو خاتم النبيين، لا نبي بعده، والدليل قوله تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} ، [الأحزاب، من الآية: 40] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 والدليل: على أن أولهم نوح عليه السلام، قوله تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} [سورة النساء آية: 163] . وكل أمة بعث الله إليها رسولا، من نوح إلى محمد، يأمرهم بعبادة الله، وينهاهم عن عبادة الطاغوت، والدليل قوله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [سورة النحل آية: 36] . وافترض الله على جميع العباد الكفر بالطاغوت، والإيمان بالله، قال ابن القيم: رحمه الله تعالى، معنى الطاغوت: ما تجاوز به العبد حده، من معبود، أو متبوع، أو مطاع. والطواغيت كثيرة، ورؤوسهم خمسة: إبليس لعنه الله، ومن عُبد وهو راض، ومن ادعى شيئا من علم الغيب، ومن دعا الناس إلى عبادة نفسه، ومن حكم بغير ما أنزل الله، والدليل قوله تعالى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [سورة البقرة آية: 256] ، وهذا: معنى لا إله إلا الله، وفي الحديث: " رأس الأمر: الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله " 1 والله أعلم، وصلى الله على محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.   1 الترمذي: الإيمان (2616) , وأحمد (5/231 ,5/237) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 (الأمر بالكفر بالطاغوت والإيمان بالله) وقال أيضا الشيخ: محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى: اعلم رحمك الله أن أول ما أوجب الله تعالى على عبده الكفر بالطاغوت والإيمان بالله، والدليل قوله تعالى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} ، [البقرة: 256] . والطواغيت كثيرة والمتبين لنا منهم خمسة: أولهم الشيطان، وحاكم الجور، وآكل الرشوة، ومن عُبد فرضي، والعامل بغير علم. واعلم أن التوحيد في العبادة، هو الذي خلق الله الخلق لأجله، وأنزل الكتاب لأجله، وأرسل الرسل لأجله. وهو أصل الدين، الذي لا يستقيم لأحد إسلام إلا به، ولا يغفر لمن تركه، وأشرك بالله غيره كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [سورة النساء آية: 48، و116] . (أنواع التوحيد) والتوحيد نوعان: توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية. أما توحيد الربوبية: فهو الذي أقرت الكفار به، ولم يكونوا به مسلمين؛ وهو الإقرار بأن الله الخالق الرازق، المحيي المميت، المدبر لجميع الأمور، والدليل قوله تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} ، [يونس: 31] . وأما توحيد الألوهية: فهو إخلاص العبادة كلها بأنواعها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 لله؛ فلا يدعى إلا الله، ولا يرجى إلا هو، ولا يستغاث إلا به، ولا يتوكل إلا عليه، والدليل عليه: الآيات الكريمات، ولا ينذر إلا له، ولا يذبح ذبح القربات إلا له وحده لا شريك له، والدليل على ذلك: الآيات الكريمات. وهذا: هو معنى لا إله إلا الله، فإن الإله هو المألوه، والمعبود، فمن جعل الله إلهه وحده، وعبده دون من سواه من المخلوقين، فهو المهتدي. ومن قاسه بغيره، وعبده، وجعل له شيئا مما تقدم من أنواع العبادة، كالدعاء، والذبح، والنذر، والتوكل، والاستغاثة، والإنابة، فقد اتخذ مع الله آلهة أخرى، وأشرك مع الله إلها غيره، فصار من المشركين الذين قال الله فيهم: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [سورة النساء آية: 48، و116] ) إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ) (المائدة: من الآية72) . وفي الآية الأخرى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} [سورة المائدة آية: 72] . وإن قيل لك: أي شيء أنت مخلوق له؟ فقل: للعبادة، والدليل قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} ، [الذّاريات: 56] ، أي: يوحدون، {مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [سورة الذاريات آية: 57-58] . وقوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} [سورة الإسراء آية: 23] . وإن قيل لك: من ربك؟ فقل: ربي الله والدليل قوله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 تعالى: {وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} ، [مريم: 36] ، ودليل آخر قوله تعالى:) وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} ، [الشّورى: 10] . فإذا قيل لك: بم تعرفه أنه ربك، ومعبودك، من دون من سواه؟ فقل: بمخلوقاته، وآياته، كالسماوات والأرض، والليل والنهار، والشمس والقمر، وخلقه لي، وتصويره جسدي، والدليل عليه قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} ، [الأعراف:54] . وإن قيل لك: ما دينك؟ فقل: ديني الإسلام. والإسلام، هو: الاستسلام والانقياد لله وحده، والدليل عليه قوله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإسْلامُ} ، [سورة آل عمران آية: 19] ، ودليل آخر قوله تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} ، [آل عمران:85] ، ودليل آخر قوله تعالى: {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلامَ دِيناً} [سورة المائدة آية: 3] . وهو مبني على خمسة أركان: أولها شهادة أن لا إله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 إلا الله، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم شهر رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا. والدليل: على الشهادة، قوله تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} ، [آل عمران: 18] ، والدليل: على أن محمدا عبده ورسوله، قوله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} ، [الفرقان: 1] ، ودليل آخر قوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} الآية [سورة الإسراء آية: 1] . ودليل: الصلاة، والزكاة، قوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} ، [البينة: 5] . وإذا قيل لك: إن الصلاة فرض عين على كل مسلم؟ فقل: نعم، والدليل قوله تعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً} [سورة النساء آية: 103] . ودليل أن الزكاة فرض عين على من ملك ما تجب فيه، قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} ، [التّوبة: 103] . ودليل الصوم، قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 [البقرة: 183] . والدليل على أن الصوم في شهر رمضان، قوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [سورة البقرة آية: 185] ، والدليل على أن الصوم في النهار، قوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [سورة البقرة آية: 187] . ودليل الحج قوله: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِين} [سورة آل عمران آية: 97] . والاستطاعة تحصل، بثلاثة شروط: صحة البدن، وأمن الطريق، ووجود الزاد، والراحلة. وإذا قيل لك: وما الإيمان؟ فقل: هو أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره، والدليل قوله تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} إلى آخر الآية [سورة البقرة آية: 285] . وإذا قيل لك: وما الإحسان؟ فقل: هو أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه، فإنه يراك، والدليل عليه قوله: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} ، [النّحل: 128] . وإذا قيل لك: من نبيك؟ فقل: نبيي محمد صلى الله عليه وسلم بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم، وهاشم من قريش، وقريش من كنانة، وكنانة من العرب، والعرب من ذرية إسماعيل بن إبراهيم، وإسماعيل من نسل إبراهيم، وإبراهيم من ذرية نوح، عليهم الصلاة والسلام. عمره: ثلاث وستون سنة، بلده: مكة، أقام فيها قبل النبوة أربعين سنة، وبعدها نبئ، وأقام في مكة بعد النبوة، ثلاث عشرة سنة، وهاجر إلى المدينة، وأقام فيها بعد الهجرة عشر سنين، وبعدها توفي في المدينة، ودفن فيها، صلوات الله وسلامه عليه نبئ باقرأ، وأرسل بالمدثر: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} ، [المدثر الآيات: 1-3] . وإذا قيل لك: ما الدليل على أن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قيل: هذا القرآن، الذي عجزت جميع الخلائق أن يأتوا بسورة من مثله، فلم يستطيعوا ذلك، مع فصاحتهم، وشدة حذاقتهم، وعداوتهم له، ولمن اتبعه، والدليل عليه قوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} ، [البقرة: 23] ، وفي الآية الأخرى، قوله تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} ، [الإسراء: 88] . والدليل على أنه رسول الله، قوله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} ، [آل عمران: 144] . ودليل آخر، قوله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً} [سورة الفتح آية: 29] . والدليل على النبوة، قوله تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} ، [الأحزاب، من الآية: 40] . وهذه الآيات: تدل على أنه نبي، وأنه خاتم الأنبياء. والدليل: على أنه من البشر، قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} ، [الكهف: 110] . وأول الرسل: نوح، وآخرهم، وأفضلهم: محمد صلى الله عليه وسلم. وما من أمة من الأمم إلا وبعث الله فيها رسولا يأمرهم بالتوحيد، وينهاهم عن الشرك، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} ، [سورة النحل آية: 36] . وقال تعالى: {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلا فِيهَا نَذِيرٌ} [سورة فاطر آية: 24] . وقال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [سورة الإسراء آية: 15] ، وأعظم ما أمروا به: توحيد الله بعبادته، وحده لا شريك له، وإخلاص العبادة له. وأعظم ما نهوا عنه: الشرك في العبادة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 (الذي بعث الله به محمدا صلى الله عليه وسلم من الدين، والذي عابه على قومه) وقال أيضا: الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى، ما الذي بعث الله به محمدا صلى الله عليه وسلم من الدين؟ وما الذي عابه على قومه، وبني عمه، وأنكروه؟ وهل ينكرون الله؟ أم يعرفونه؟ فأما الذي أمرهم به، فهو: عبادة الله وحده لا شريك له، وأن لا يتخذوا مع الله إلها آخر. ونهاهم عن عبادة المخلوقين، من الملائكة، والأنبياء، والصالحين، والحجر، والشجر، كما قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} ، [الأنبياء: 25] ، وقوله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} ، [سورة النحل آية: 36] ، وقوله تعالى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} ، [الزّخرف: 45] ، وقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} ، [الذّاريات: 56] . فليعلم بذلك: أن الله ما خلق الخلق إلا ليعبدوه ويوحدوه، وأرسل الرسل إلى عباده، يأمرونهم بذلك. وأما الذي أنكرناه عليهم، وكفرناهم به، فإنما هو: الشرك بالله، مثل أن تدعو نبيا من الأنبياء، أو ملكا من الملائكة، أو تنحر له، أو تنذر له، أو تعتكف عند قبره، أو تركع بالخضوع والسجود له، أو تطلب منه قضاء الحاجات، أو تفريج الكربات؛ فهذا شرك قريش، الذي كفرهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم وقاتلهم عند هذا، وإلا لم يقل أحد من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 الكفار أن أحدا يخلق، أو يرزق، أو يدبر أمرا؛ بل كلهم يقرون أن الفاعل لذلك هو الله؛ وهم يعرفون الله بذلك، قال الله تعالى حاكيا عنهم: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} الآية [سورة يونس آية: 31] . وقال: {قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} ، [المؤمنون:84] الآيات. وقال: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} الآية [سورة العنكبوت آية: 61] . وهذا الإقرار لم يدخلهم الإسلام، ولا أوجب الكف عن قتالهم وتكفيرهم؛ إنما كفرهم بما اعتقدوا فيما ذكرنا، وإنما كانوا يعبدون الملائكة، والأنبياء، والجن، والكواكب، والتماثيل المصورة على قبورهم، ويقولون: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} ، [سورة الزمر آية: 3] ، و {وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [سورة يونس آية: 18] . فبعث الله الرسل تنهى عن أن يدعى أحد من دونه، لا دعاء عبادة، ولا دعاء استغاثة. وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاًْ} ، [الإسراء: 56] إلى قوله: {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} [الإسراء من الآي: 57] . قال طائفة من السلف.: كان أقوام يدعون المسيح، وعزيرا، والملائكة، فقال الله لهم: هؤلاء عبيدي كما أنتم عبيدي، يرجون رحمتي كما ترجونها، ويخافون عذابي كما تخافونه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 إذا عرف المؤمن أن هؤلاء الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكفرهم، يعرفون الله، ويخافونه، ويرجونه، وإنما دعوا هؤلاء للقرب والشفاعة، وصار هذا كفرا بالله، مع معرفتهم بما ذكرنا، فيعلم إن كان متبعا للرسول صلى الله عليه وسلم أن الواجب عليه التبري من هذا، وإخلاص الدين لله، والكفر به وبمن عمله، والإنكار على من فعله، والبغض والعداوة له، ومجاهدته حتى يصير الدين كله لله، كما قال: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} الآية [سورة الممتحنة آية: 4] . وفي الحديث: " أوثق عرى الإيمان: الحب في الله، والبغض في الله " وفي الحديث: " المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل " 1. ولا تصدق في أحد إلا بما سمعت، أو نقله من لا يكذب، وانصحه إذا بلغك عنه شيء، قبل أن تنكر عليه، خصوصا ممن تعرف منه حبا للدين، موافقا عليه، مجاهدا فيه. والله الهادي، والحمد لله رب العالمين. (رسالة موجزة في أصول الدين طلبها الأمير عبد العزيز من الشيخ ابن عبد الوهاب ليرسلها إلى النواحي) وطلب الأمير: عبد العزيز بن محمد بن سعود، من الشيخ رحمه الله، أن يكتب رسالة موجزة في أصول الدين؛ فكتب هذه، وأرسلها عبد العزيز إلى جميع النواحي، وأمر الناس أن يتعلموها.   1 الترمذي: الزهد (2378) , وأبو داود: الأدب (4833) , وأحمد (2/303 ,2/334) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وإمام المتقين، نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين. أما بعد: فاعلموا وفقكم الله لمراضيه، وجنبكم طريق معاصيه، أن من الواجب على كل مسلم ومسلمة: معرفة ثلاثة أصول، والعمل بهن. الأصل الأول: في معرفة العبد ربه، فإذا قيل لك أيها المسلم: من ربك؟ فقل: ربي الله الذي رباني بنعمته، وخلقني من عدم إلى وجود، والدليل قوله تعالى: روَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [سورة مريم آية: 36] ، وإذا قيل لك: بأي شيء عرفت ربك؟ فقل: بآياته ومخلوقاته، فأما الدليل على آياته فهو قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [سورة فصلت آية: 37] . وأما الدليل على مخلوقاته فهو قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} الآية [سورة الأعراف آية: 54] . وإذا قيل لك: لأي شيء خلقك الله؟ فقل: خلقني لعبادته وطاعته، واتباع أمره، واجتناب نهيه. فدليل العبادة، قوله تعالى: روَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [سورة الذاريات آية: 56] . ودليل الطاعة، قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [سورة النساء آية: 59] . يعني: كتاب الله، وسنة نبيه. وإذا قيل لك: أي شيء أمرك الله به؟ وأي شيء نهاك عنه؟ فقل: أمرني بالتوحيد، ونهاني عن الشرك، ودليل الأمر قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ} الآية [سورة النحل آية: 90] . ودليل النهي قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [سورة النساء آية: 48، و116] ، {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [سورة المائدة آية: 72] . الأصل الثاني: في معرفة دين الإسلام. فإذا قيل لك: ما دينك؟ فقل: ديني الإسلام، وهو: الاستسلام، والإذعان، والانقياد إلى طاعة الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم والدليل قوله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإسْلامُ} [سورة آل عمران آية: 19] ، {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [سورة آل عمران آية: 85] . وهو مبني على خمسة أركان: الأول: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله. الثاني: إقام الصلاة. الثالث: إيتاء الزكاة. الرابع: صوم رمضان. الخامس: حج بيت الله الحرام لمن استطاع إليه سبيلا، والسبيل: الزاد والراحلة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 فدليل الشهادة، قوله تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [سورة آل عمران آية: 18] . ودليل أن محمدا رسول الله، قوله تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [سورة الأحزاب آية: 40] . ودليل الصلاة قوله تعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً} [سورة النساء آية: 103] . ودليل الزكاة قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [سورة التوبة آية: 103] . ودليل الصوم قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [سورة البقرة آية: 183] ، وإذا قيل لك: الصيام شهر؟ فقل: نعم، والدليل قوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ} الآية [سورة البقرة آية: 185] . وإذا قيل لك: الصيام في الليل أو في النهار؟ فقل: في النهار، والدليل قوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [سورة البقرة آية: 187] . ودليل الحج قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} [سورة آل عمران آية: 97] . وإذا قيل لك: ما الإيمان؟ فقل: هو أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 وشره كله من الله، والدليل قوله تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} [سورة البقرة آية: 285] . ودليل القدر قوله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 49] . وإذا قيل لك: ما الإحسان؟ فقل: هو أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، والدليل قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النّحل: 128] . وإذا قيل لك: منكر البعث كافر؟ فقل: نعم، والدليل قوله تعالى: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [التّغابن: 7] . الأصل الثالث: في معرفة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. فإذا قيل لك: من نبيك؟ فقل: محمد صلى الله عليه وسلم ابن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم؛ وهاشم من قريش؛ وقريش من كنانة؛ وكنانة من العرب؛ والعرب من ذرية إسماعيل بن إبراهيم، على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام. وإذا قيل لك: من أول الرسل؟ فقل: أولهم نوح. وآخرهم وأفضلهم: محمد صلى الله عليه وسلم والدليل قوله تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} [سورة النساء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 آية: 163] . وإذا قيل لك: هل بينهم رسل؟ فقل: نعم. والدليل قوله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا} [سورة النحل آية: 36] . وإذا قيل لك: نبينا محمد بشر؟ فقل: نعم، والدليل قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ} الآية [سورة الكهف آية: 110] . وإذا قيل لك: كم عمره؟ فقل: ثلاث وستون سنة، منها أربعون قبل النبوة، وثلاث وعشرون نبيا رسولا، نُبِّئ باقرأ، وأُرسل بالمدثر، وخرج على الناس فقال: يا أيها الناس، إني رسول الله إليكم جميعا، فكذبوه وآذوه وطردوه وقالوا: ساحر كذاب؟ فأنزل الله عليه: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 23] . وبلده مكة، وولد فيها، وهاجر إلى المدينة، وبها توفي. ودفن جسمه، وبقي علمه. وهو نبي لا يعبد، ورسول لا يكذب؛ بل يطاع، ويتبع، صلوات الله وسلامه عليه، والحمد لله رب العالمين. (أصول الدين الثلاثة) وله أيضا رحمه الله تعالى: إذا قيل لك: من ربك؟ فقل: ربي الله، فإذا قيل لك: إيش معنى الرب؟ فقل: المعبود المالك المتصرف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 فإذا قيل لك: إيش أكبر ما ترى من مخلوقاته؟ فقل: السماوات والأرض، فإذا قيل لك: إيش تعرفه به؟ فقل: أعرفه بآياته، ومخلوقاته. وإذا قيل لك: إيش أعظم ما ترى من آياته؟ فقل: الليل والنهار، والدليل على ذلك، قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 54] . فإذا قيل لك: إيش معنى الله؟ فقل، معناه: ذو الألوهية، والعبودية على خلقه أجمعين. فإذا قيل لك: لأي شيء الله خلقك؟ فقل: لعبادته. فإذا قيل لك: إيش عبادته؟ فقل: توحيده، وطاعته. فإذا قيل لك: إيش الدليل على ذلك؟ فقل: قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذّاريات: 56] . فإذا قيل لك: إيش أول ما فرض الله عليك؟ فقل: كفر بالطاغوت، وإيمان بالله، والدليل على ذلك قوله: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 256] . فإذا قيل لك: إيش العروة الوثقى؟ فقل: لا إله إلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 الله، ومعنى لا إله: نفي، وإلا الله: إثبات. فإذا قيل لك: إيش أنت ناف؟ وإيش أنت مثبت؟ فقل: ناف جميع ما يعبد من دون الله، ومثبت العبادة لله وحده لا شريك له. فإذا قيل لك: إيش الدليل على ذلك؟ فقل، قوله تعالى:) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ} [الزّخرف: 26] ، هذا دليل النفي، ودليل الإثبات: {إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} [الزّخرف: 27] فإذا قيل لك: إيش الفرق: بين توحيد الربوبية، وتوحيد الإلهية؟ فقل: توحيد الربوبية فعل الرب، مثل: الخلق والرزق والإحياء والإماتة وإنزال المطر وإنبات النباتات وتدبير الأمور، وتوحيد الإلهية فعل العبد مثل: الدعاء والخوف والرجاء والتوكل والإنابة والرغبة والرهبة والنذر والاستغاثة وغير ذلك من أنواع العبادة. فإذا قيل لك: إيش دينك؟ فقل: ديني الإسلام، وأصله وقاعدته أمران: الأول: الأمر بعبادة الله وحده لا شريك له، والتحريض على ذلك، والموالاة فيه، وتكفير من تركه، والإنذار عن الشرك في عبادة الله، والتغليظ في ذلك، والمعاداة فيه، وتكفير من فعله. وهو بني على خمسة أركان: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت مع الاستطاعة. ودليل الشهادة، قوله تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران: 18] . ودليل أن محمدا رسول الله، قوله تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ} [سورة الأحزاب آية: 40] . والدليل على إخلاص العبادة والصلاة والزكاة قوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة: 5] . ودليل الصوم قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183] . ودليل الحج قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [سورة آل عمران آية: 97] . (أصول الإيمان) وأصول الإيمان ستة: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، وباليوم الآخر، وبالقدر خير وشره. والإحسان: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه، فإنه يراك. فإذا قيل لك: من نبيك؟ فقل: محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم، وهاشم من قريش، وقريش من العرب، والعرب من ذرية إسماعيل بن إبراهيم الخليل، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام. بلده مكة، وهاجر إلى المدينة، وعمره ثلاث وستون سنة، منها أربعون قبل النبوة، وثلاث وعشرون نبيا رسولا، نبئ باقرأ، وأرسل بالمدثر. فإذا قيل: هو مات؟ أو ما مات؟ فقل: مات، ودينه لا يموت إلى يوم القيامة، والدليل قوله تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} [الزّمر: 30-31] . فإذا قيل لك: والناس إذا ماتوا يبعثون؟ فقل: نعم، والدليل قوله تعالى: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} [طه: 55] . والذي ينكر البعث كافر، والدليل قوله تعالى: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [التّغابن: 7] . وقال: فإن قيل: فما الجامع لعبادة الله وحده؟ قلت: طاعته بامتثال أوامره، واجتناب نواهيه. فإن قيل: فما أنواع العبادة التي لا تصلح إلا لله؟ قلت: من أنواعها، الدعاء، والاستعانة، والاستغاثة، وذبح القربان، والنذر، والخوف، والرجاء، والتوكل، والإنابة، والمحبة، والخشية، والرغبة، والرهبة، والتأله، والركوع، والسجود، والخشوع، والتذلل، والتعظيم الذي هو من خصائص الألوهية. ودليل الدعاء، قوله تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} [الجن:18] . وقوله تعالى: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ} [الرعد: 14] . ودليل الاستعانة قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] . ودليل الاستغاثة قوله تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} [سورة الأنفال آية: 9] . ودليل الذبح قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام: 162-163] . ودليل النذر، قوله تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً} [الإنسان: 7] . ودليل الخوف قوله تعالى: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 175] . ودليل الرجاء قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدا} [الكهف: 110] . ودليل التوكل قوله تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [سورة المائدة آية: 23] . ودليل الإنابة، قوله تعالى: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ} [سورة الزمر آية: 54] . ودليل المحبة قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} [سورة البقرة آية: 165] . ودليل الخشية قوله تعالى: {فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 وَاخْشَوْنِ} [سورة المائدة آية: 44] . ودليل الرغبة والرهبة قوله تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [سورة الأنبياء آية: 90] . ودليل التأله، قوله تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 163] . ودليل الركوع والسجود قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الحجّ: 77] . ودليل الخشوع قوله تعالى: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً} الآية [سورة آل عمران آية: 199] ، ونحوها. فمن صرف شيئا من هذه الأنواع لغير الله، فقد أشرك بالله غيره. فإن قيل: فما أجلّ أمْرٍ أَمَرَ الله به؟ قيل: توحيده بالعبادة، وقد تقدم بيانه، وأعظم نهي نهى الله عنه الشرك به، وهو أن يدعو مع الله غيره، أو يقصده بغير ذلك من أنواع العبادة، فمن صرف شيئا من أنواع العبادة لغير الله فقد اتخذه ربا وإلها، وأشرك مع الله غيره، أو يقصده بغير ذلك من أنواع العبادة. وقد تقدم من الآيات ما يدل على أن هذا هو الشرك الذي نهى الله عنه وأنكره على المشركين، وقد قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً} [النّساء: 48، و116] . وقال تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [سورة المائدة آية: 72] . وصلى الله على محمد. قلت: ولاتستطل ما قرره هذا الإمام الجليل، في هذا الأصل الأصيل، الذي بعثت الرسل، وأنزلت الكتب، وجردت السيوف من أجله، فجزاه الله عن الإسلام والمسلمين خيرا، فلقد أجاد وأفاد، ووضح معتقد السلف الصالح بعد أن باد، وأرخى عنان يراعه، فأبدى وأعاد، حتى قلع الشرك من نجد بعد أن شاد، وأطد الإسلام فاستضاء به الحاضر والباد، وسيمر بك - إن شاء الله - ما يثلج الصدر، من محض الحق، وصريح الدين، الذي لا يمازجه دين الجاهلية. (العلة من إرسال الله الرسل وإنزال الكتب) وقال رحمه الله تعالى: اعلم رحمك الله أن الله سبحانه إنما أرسل الرسل وأنزل الكتب لأجل التوحيد. قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [سورة النحل آية: 36] ، وله خلق الجن والإنس، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذّاريات: 56] ، أي: يوحدون، دليله قوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُون لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 أَعْبُدُ} [الكافرون: 1-3] . فإذا لم يفعله الإنسان، ويجتنب الشرك، فهو كافر، ولو كان من أعبد هذه الأمة يقوم الليل ويصوم النهار، قال الله تعالى في الأنبياء: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [سورة الأنعام آية: 88] ، وتصير عبادته كلها كمن صلى ولم يغتسل من الجنابة، أو كمن يصوم في شدة الحر، وهو يزني في أيام الصوم. إذا عرفت هذا فأهم ما عليك معرفة التوحيد، قبل معرفة العبادات كلها، حتى الصلاة، ومعرفة الشرك، قبل معرفة الزنى وغيره من المحرمات، إذا علمت أن الله لم يخلقك إلا لذلك؛ ومن الفرائض اللازمة: تعليمك إياه أهل بيتك، ومن تحت يدك، من امرأة، وبنت، وخادم. فاعلم أرشدك الله أن الشرك هو الذي ملأ الأرض، ويسمونه الناس: الاعتقاد في الصالحين، ويتبين لك هذا بأربع كلمات: الأولى: أنهم يظنون التوحيد، توحيد الله بالنفع، والضر، والخلق، والرزق. فإذا علمت قول الله عز وجل في الكفار: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} الآية [سورة يونس آية: 31] ، تبين لك جهالة أعداء الله بدين المشركين، وجهالتهم بتوحيد رب العالمين. الثانية: أنهم يقولون: ما ندعوهم إلا لأجل شفاعتهم. فاعلم قول الله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ} الآية [سورة يونس آية: 18] . فإذا عرفت هذا تبين لك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 جهالة أعداء الله. الثالثة: أنهم يقولون: هذا فيمن يستشفع بالأصنام، ونحن نستشفع بالصالحين! فاعرف قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} الآية [سورة الإسراء آية: 57] ؛ لعلك تفهم جهالة أعداء الله بدين رسول الله. الرابعة: قول الله تعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الأِنْسَانُ كَفُوراً} [الإسراء: 67] . وقوله: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [العنكبوت: 65] ؛ إذا علمت هذا، وعلمت ما عليه أكثر الناس: علمت أنهم أعظم كفرا وشركا من المشركين الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإذا تدبرت هذا، تبين لك حرصهم على تكذيب هذا الأمر، وسؤالهم من جاء لأهل البلدان البعيدة، مع كثرة السنين، وطول المدة، ثم رجعوا مقرين أن قولنا في التوحيد هو الحق، وقولنا في الشرك هو الباطل. فإذا أقروا أن التوحيد الذي خرجنا به على الناس هو الذي خرج به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا الذي نهيناهم عنه هو الشرك الذي حذر عنه، ولم يبق الإنكار إلا أن من أقر بدين الرسول، ثم عاداه، وصد الناس عنه، وعرف دين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 المشركين، ثم مدحه، ورغب فيه، وأن أهله لا يتيهون، لأنهم السواد الأعظم، فهو واضح لمن لم يعم الله قلبه، والله أعلم. (أول ما فرض الله على ابن آدم الكفر بالطاغوت والإيمان بالله) وقال أيضا: اعلم رحمك الله، أن أول ما فرض الله على ابن آدم: الكفر بالطاغوت، والإيمان بالله والدليل قوله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [سورة النحل آية: 36] . فأما صفة الكفر بالطاغوت فأن تعتقد بطلان عبادة غير الله، وتتركها، وتبغضها، وتكفر أهلها، وتعاديهم، وأما معنى الإيمان بالله فأن تعتقد، أن الله هو الإله المعبود وحده، دون من سواه، وتخلص جميع أنواع العبادة كلها لله، وتنفيها عن كل معبود سواه، وتحب أهل الإخلاص وتواليهم، وتبغض أهل الشرك وتعاديهم ; وهذه ملة إبراهيم التي سفه نفسه من رغب عنها، وهذه هي الأسوة التي أخبر الله بها في قوله: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [سورة الممتحنة آية: 4] . والطاغوت: عام في كل ما عُبد من دون الله، فكل ما عبد من دون الله، ورضي بالعبادة، من معبود، أو متبوع، أو مطاع في غير طاعة الله ورسوله، فهو طاغوت، والطواغيت كثيرة، ورؤوسهم خمسة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 الأول: الشيطان، الداعي إلى عبادة غير الله، والدليل قوله تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [يّس: 60] . الثاني: الحاكم الجائر، المغير لأحكام الله تعالى، والدليل قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً} [النّساء:60] . الثالث: الذي يحكم بغير ما أنزل الله، والدليل قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [سورة المائدة آية: 44] . الرابع: الذي يدعي علم الغيب من دون الله، والدليل قوله تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً} [الجن: 26-27] . وقال تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام: 59] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 الخامس: الذي يُعبد من دون الله، وهو راض بالعبادة، والدليل قوله تعالى: {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} [سورة الأنبياء آية: 29] . واعلم أن الإنسان ما يصير مؤمنا بالله، إلا بالكفر بالطاغوت، والدليل قوله تعالى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيم} [البقرة: 256] ، الرشد: دين محمد، والغي: دين أبي جهل، والعروة الوثقى: شهادة أن لا إله إلا الله، وهي متضمنة للنفي والإثبات. تنفي جميع أنواع العبادة عن غير الله تعالى، وتثبت جميع أنواع العبادة كلها لله وحده لا شريك له. (وجوب معرفة إرسال الرسل ومراد الله في ذلك) وقال رحمه الله تعالى: الواجب عليك أن تعرف إرسال الرسل، ومراد الله في ذلك، وهو مذكور في قوله عز وجل: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} [سورة النساء آية: 163] ، إلى قوله: {لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [سورة النساء آية: - 163 165] ؛ إذا عرفت ذلك، فاعرف: أن حقنا منهم خاتمهم وأفضلهم محمد صلى الله عليه وسلم وذلك مذكور في قوله: {إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِداً عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً} [المزمّل: 15] . فإذا عرفت هذا، فالعلم الذي أرسله الله به الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 إليك، وأهم ذلك وأوجبه: أن تعرف أول ما فرضه الله عليك، وذلك في أول ما أنزل الله على رسوله {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} [المدثّر: 1-3] . فأول ما فرض الله عليك وأول ما فرض على نبيه أن ينذر عنه: الإشراك بالله. وأول ما فرض عليك توحيده، فأما الإشراك ففي قوله: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [سورة المدثر آية: 5] . وأما التوحيد ففي قوله: {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} [سورة المدثر آية: 3] . إذا عرفت أن هذا رأس أول الفرائض، فاحرص على معرفة التوحيد، لعلك تؤدي أعظم ما فرض الله عليك. واحرص على معرفة الإشراك بالله، لعلك أن تعرف أعظم ما حرم الله عليك، الذي قال الله فيه:) إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [سورة النساء آية: 48، 116] . و {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} [سورة المائدة آية: 72] ، فتجتنبه، والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 (وجوب طاعة النبي صلى الله عليه وسلم واتباعه فيما جاء به) وله أيضا: رحمه الله تعالى: المسألة الأولى: أعني هذا الرسول، الذي جعله الله خاتم النبيين، ورحمة للعالمين، هل أمر بإخلاص الدعوة لله، مع جميع العبادات عن أهل الأرض وأهل السماء، وأوصى أمته يدعون الصالحين، وينذرون لهم، ويتعلقون عليهم؟ ! ومعلوم: أنه أمر بإخلاص الدعوة لله، وأمر بتكفير الداعي بغيره، وقتاله، وأدلتها كثيرة، منها: إقرار جميع العلماء، الموافق، والمخالف. الثانية: إذا صح هذا، وعرف طريق النبي، من طريق المشركين، هل يكفي الإقرار به، ومحبته؟ ! أم لا بد من اتباعه، ولو كره المشركون؛ فإن كان لا بد، فمن الاتباع: أنك لا تواد من حاد الله ورسوله، ولو أقرب قريب. الثالثة: أن من اتباعه، طاعته في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [سورة النساء آية: 59] . الرابعة: من اتباعه طاعته في قوله: {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [سورة النور آية: 48-49-50-51] . والله أعلم. (خمس مسائل فيما جاء به الرسول) وله أيضا: المسألة الأولى: أن محمدا صلى الله عليه وسلم جاءنا من عند ربنا بالبينات والهدى، ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، بشيرا ونذيرا. فأول ما أنزل الله عليه: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ} [سورة المدثر آية: 1-2] ؛ أراد الإنذار عن الشرك، قبل الإنذار عن الزنى والسرقة، ونكاح الأمهات. فمن أقر بهذا، وعرف ما عليه أكثر أهل الأرض، من المشرق إلى المغرب، رأى العجب، وفهم المسألة غير فهمه الأول. المسألة الثانية: أنه لما هدم هذا، وأنذر عنه، أخرج الناس من الظلمات إلى النور، وهو التوحيد الذي قال الله فيه: {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} [سورة المدثر آية: 3] أي: عظمه بالإخلاص، وليس المراد: تكبير الأذان، والصلاة، فإنه لم يشرع عند نزول الآية. فمن عرف أن هذه المسألة أعظم ما أتى بها، وبشر بها، وعرف ما عليه أكثر أهل الأرض، عرف قدر: المسألة الثالثة. المسألة الثالثة: المعروفة بالضرورة، وهي أن الله بعثه ليصدق، ويتبع، لا يكذب ويُعصَى. فأما من أقر بالمسألتين ثم صرح أن من اتبعه في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 التوحيد خرج من دينه، وحل دمه وماله، ومن صدقه في إنذاره وأطاعه وانتذر، خرج من دينه، وحل ماله ودمه، فهذا مع كونه أبلغ من الجنون، فهو من أعظم آيات الله، وعجائب قدرته، على تقليبه للقلوب، كيف يجتمع في قلب رجل يشهد أن التوحيد هو دين الله، ويعاديه، ويشهد أن الشرك هو الكفر ويواليه، ويذب عن أهله باللسان، والسنان، والمال. فإن عرف العبد أن هذا اجتمع في قلبه يوما واحدا فكيف عشر سنين؟ ! فهذا: من أعظم ما يعرفه بالله، وبنفسه؛ فإن عرف ربه، وعرف نفسه تم أمره. المسألة الرابعة: معرفة أن محمدا صلى الله عليه وسلم أخبرنا عن الله، أن أفضل الخلق من الملائكة والأنبياء، لو يجري منه الشرك من غير اعتقاد، أنه ممن حبط عمله، وحرمت عليه الجنة. فكيف بغير الأنبياء والملائكة؟ ! فهذه المسألة الرابعة، إن عرفتها في أربع سنين فنعما لك، لكن تعرف أن المتوضئ ينتقض وضوؤه بقطرة بول، مثل رأس الذباب من غير قصد، ولكن قل من يعرفها. المسألة الخامسة: وهي أن محمدا صلى الله عليه وسلم أخبر خبرا محققا قطعا، أنه لا بد من الإيمان بالكتاب كله؛ فمن آمن ببعضه، وكفر ببعضه، فهو كافر، والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 (ثلاث مسائل فيما أرسل الله به الرسل) وله أيضا: المسألة الأولى: يعرف الإنسان أن الله لما خلقنا ما تركنا هملا، بل أرسل إلينا الرسل، أولهم نوح، وآخرهم محمد عليهم السلام، وحقنا منهم خاتمهم، وأفضلهم محمد صلى الله عليه وسلم ونحن آخر الأمم، وجاءنا بكتاب من عند الله. المسألة الثانية: أن الذي في الكتاب يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر. وأكبر المعروف، وأوجبه، أول ما فرض الله، وهو: التوحيد. والتوحيد: اسم لفعلك؛ إن كانت أعمالك كلها لله فأنت موحد. فإن كان فيها شرك للمخلوق، فأنت مشرك. المسألة الثالثة: أنك تعرف أن عقب هذا الموت بعث، وجنة ونار؛ فالذي اتبع ما عليه الرسول في هذا الدين له الجنة، والذي ما أطاعه أو ما رفع رأسا لما جاء به فهو في النار. وهذه المسائل هي التي يسأل عنها الإنسان في قبره، فإن كان ما عرفها ضربته الملائكة بمرزبة من حديد، لو يجتمع عليها أهل منى ما أقلوها. فالواجب على الإنسان أن يخاف النار، ويرجو الجنة. والله المستعان. (معرفة الرسالة التي أرسل الله بها) وقال رحمه الله تعالى: اعلم رحمك الله أن أهم ما عليك معرفة الرسالة، التي أرسل الله إليك، فإنها أصل العلم وقاعدته، فتأمل قوله تعالى: {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 يَحْزَنُونَ} [سورة البقرة آية: 38] . وقوله تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُوراً وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً} [سورة النساء آية: 163-164-165] . وأما معرفة حقنا من الرسل، ففي قوله: {إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِداً عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذاً وَبِيلاً} [سورة المزمل آية: 15-16] ، فإن فهمت هذا فهما جيدا، هان عليك معرفة دينك؛ ولكن لا يعرفه معرفة جيدة إلا من عرف حال أكثر الناس، أنهم تبع لأهل زمانهم، ولم يسألوا عن هذا الأمر العظيم، الذي قال الله فيه: {قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ} [سورة ص آية: 67-68] . وقوله: {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ النَّبَأِ الْعَظِيمِ الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ} [سورة النبأ آية: 1-2-3] . (فرضية طلب العلم، وكيفية البحث عن الهدى) وذكر رحمه الله مسائل: الأولى: أن تعرف أن طلب العلم فريضة، على كل ذكر وأنثى، كما قال تعالى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ} الآيات [سورة البقرة آية: 38] . الثانية: أنك إذا أردت البحث عن هدى الله الذي جاء من عنده، أنك تبتدي بالأسهل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 فالأسهل. وأسهل ما يكون، وأهمه: القصص التي قص الله علينا عن الأنبياء وأممهم. الثالثة: أن أول ما تبتدي به من القصص التي قص الله، قصة أبيك آدم، وإبليس، وما ذكر الله عنهم، وكون آدم لما اعترف بذنبه وتاب، تاب الله عليه. وأكثر الناس يظنون: أن الاعتراف بالذنب مذلة، ويستهزئون بمن أقر بذنبه واعترف وتاب منه، وكون إبليس لعنه الله لما احتج بالقدر، ولم يعترف بذنبه أن الله طرده، وآيسه من رحمته، وكون أكثر الناس يظن أن فعل إبليس هو الذي يرضاه الله، ويزدري على من فعل فعل آدم، نعوذ بالله من سوء الفهم. اللهم إنا نسألك أن ترينا الحق حقا، وترزقنا اتباعه، وأن ترينا الباطل باطلا، وأن ترزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبسا علينا، فنضل، يا أرحم الراحمين، يا من يجيب المضطر إذا دعاه، ويا من يقول: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [سورة غافر آية: 60] ، أن تقبل منا، وأن تهدينا لما تحب وترضى، والله أعلم. (تعليم الإنسان على قدر فهمه) وقال أيضا: الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى: ينبغي للمعلم: أن يعلم الإنسان على قدر فهمه، فإن كان ممن يقرأ القرآن، أو عرف أنه ذكي، فيعلم أصل الدين، وأدلته، والشرك وأدلته، ويقرأ عليه القرآن، ويجتهد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 أنه يفهم القرآن فهم قلب. وإن كان رجلا متوسطا، ذكر له بعض هذا. وإن كان مثل غالب الناس ضعيف الفهم، فيصرح له بحق الله على العبيد، مثل ما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ، ويصف له حقوق الخلق، مثل حق المسلم على المسلم، وحق الأرحام، وحق الوالدين، وأعظم من ذلك حق النبي صلى الله عليه وسلم وأفرضه شهادتك له أنه رسول الله، وأنه خاتم النبيين، وتعلم أنك لو ترفع واحدا من الصحابة في منْزلة النبوة، صرت كافرا، فإذا فهم هذا فقل: حق الله عليك أعظم وأعظم. فإذا سأل عن حق الله فاذكر له أنك تعبده، ولا تصير مثل البدوي. وأيضا تخلص له العبادة، لا تكون مثل من يدعوه، ويدعو غيره، أو يذبح له ولغيره، أو يتوكل عليه وعلى غيره. وكل العبادات كذلك، وتعرفه أن من أخل بهذا حرمت عليه الجنة، ومأواه النار. ولو قدّرنا أنه ما يشرك، فإذا عرف التوحيد، ولا عمل به، ولا أحب وأبغض فيه، ما دخل الجنة، ولو ما أشرك، لأن فائدة ترك الشرك، تصحيح التوحيد. ومن أعظم ما تنبهه عليه التضرع عند الله، والنصيحة، وإحضار القلب في دعاء الفاتحة إذا صلى، والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 (أكبر الآيات الدالات على قدرة الله ستة أصول) وقال أيضا الشيخ: محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى: من أعجب العجائب، وأكبر الآيات الدالات على قدرة الملك الغلاب: ستة أصول، بينها الله تعالى بيانا واضحا للعوام، فوق ما يظنه الظانون ; ثم بعد هذا غلط فيها كثير من أذكياء العالم، وعقلاء بني آدم، إلا أقل القليل. الأصل الأول: إخلاص الدين لله وحده لا شريك له، وبيان ضده الذي هو الشرك بالله، وكون أكثر القرآن في بيان هذا الأصل من وجوه شتى، بكلام يفهمه أبلد العامة. ثم لما صار على أكثر الأمة ما صار، أظهر لهم الشيطان الإخلاص في صورة تنقص الصالحين، والتقصير في حقهم، وأظهر لهم الشرك بالله في صورة محبة الصالحين وأتباعهم. الأصل الثاني: أمر الله بالاجتماع في الدين، ونهى عن التفرق فيه، فبين الله هذا بيانا شافيا كافيا، تفهمه العوام، ونهانا أن نكون كالذين تفرقوا قبلنا فهلكوا، وأذكر أنه أمر المرسلين بالاجتماع في الدين، ونهاهم عن التفرق فيه. ويزيده وضوحا ما وردت به السنة من العجب العجاب في ذلك، ثم صار الأمر إلى أن الافتراق في أصول الدين وفروعه، هو العلم والفقه في الدين، وصار الأمر بالاجتماع في الدين لا يقوله إلا زنديق أو مجنون! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 الأصل الثالث: أن من تمام الاجتماع، السمع والطاعة لمن تأمر علينا، ولو كان عبدا حبشيا. فبين الله هذا بيانا شافيا كافيا، بوجوه من أنواع البيان شرعا وقدرا. ثم صار هذا الأصل لا يعرف عند أكثر من يدعي العلم، فكيف العمل به؟ ! الأصل الرابع: بيان العلم والعلماء، والفقه والفقهاء، وبيان من تشبه بهم وليس منهم، وقد بين الله هذا الأصل في أول سورة البقرة من قوله: {يَا بَنِي إِسْرائيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} [سورة البقرة آية: 40] إلى قوله قبل ذكر إبراهيم: {يَا بَنِي إِسْرائيلَ اذْكُرُوا} [سورة البقرة آية: 122] كالآية الأولى. ويزيده وضوحا ما صرحت به السنة في هذا من الكلام الكثير البين الواضح للعامي البليد. ثم صار هذا أغرب الأشياء، وصار العلم والفقه هو البدع والضلالات، وخيار ما عندهم لبس الحق بالباطل! وصار العلم الذي فرضه الله على الخلق ومدحه، لا يتفوه به إلا زنديق أو مجنون! وصار من أنكره وعاداه وجد في التحذير عنه، والنهي عنه، هو الفقيه العالم!! الأصل الخامس: بيان الله سبحانه للأولياء، وتفريقه بينهم وبين المتشبهين بهم من أعدائه المنافقين والفجار، ويكفي في هذا آية: "آل عمران" وهي قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} الآية [سورة آل عمران آية: 31] ، والآية التي في "المائدة " وهي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ} الآية [سورة المائدة آية: 54] . وآية في سورة "يونس" الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 وهي قوله تعالى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [سورة يونس آية: 62-63] . ثم صار الأمر عند أكثر من يدعي العلم، وأنه من هداة الخلق، وحفاظ الشرع، إلى أن الأولياء لا بد فيهم من ترك اتباع الرسول، ومن اتبعه فليس منهم! ولا بد من ترك الجهاد، فمن جاهد فليس منهم! ولا بد من ترك الإيمان والتقوى، فمن تقيد بالإيمان والتقوى، فليس منهم! يا ربنا نسألك العفو والعافية، إنك سميع الدعاء. الأصل السادس: رد الشبهة التي وضعها الشيطان، في ترك القرآن، والسنة، واتباع الآراء والأهواء المتفرقة المختلفة، وهي: أن القرآن والسنة لا يعرفهما إلا المجتهد المطلق ; والمجتهد هو: الموصوف بكذا وكذا، أوصافا لعلها لا توجد تامة في أبي بكر وعمر؛ فإن لم يكن الإنسان كذلك، فليعرض عنهما فرضا حتما لا شك ولا إشكال فيه. ومن طلب الهدى منهما فهو إما زنديق، وإما مجنون، لأجل صعوبة فهمها! ! فسبحان الله وبحمده، كم بين الله سبحانه شرعا وقدرا، خلقا وأمرا، في رد هذه الشبهة الملعونة من وجوه شتى، بلغت إلى حد الضروريات العامة: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [سورة الأعراف آية: 187] ، و {لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ} [سورة يس آية: 7-8] إلى قوله: {فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ} [سورة يس آية: 11] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 ومما يشبه هذا: أن الله ذكر أنه أنزل القرآن، ليخرج به الناس من الظلمات إلى النور، فظن الأكثر ضد ذلك. الثانية: ذكره أن الإيمان سبب للعلو في الدنيا، فظن الأكثر ضد ذلك. الثالثة: أن الإيمان به واتباعه سبب للعز، فظن الأكثر ضد ذلك. الرابعة: إنزاله عربيا بينا لعلهم يفهمونه، فظن الأكثر ضد ذلك، وأقبلوا على تعلم الكتب الأعجمية لظنهم سهولتها، وأنه لا يوصل إليه من صعوبته. الخامسة: ذكر أنهم لو عملوا به لصلحت الدنيا، فظن الأكثر ضد ذلك، لقوله: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا} الآية [سورة الأعراف آية: 96] . السادسة: أنه أنزله تفصيلا لكل شيء، فاشتهر أنه لا يفي هو، ولا السنة بعشر المعشار. السابعة: ذكره سبحانه أنه بوأ إبراهيم مكان البيت، ليدل على نفي الشرك، فاستدلوا به على حسنه. الثامنة: أمره سبحانه أن يطهره من المشركين فلا يقربونه، فصار الواقع كما ترى. التاسعة: كونه ذكر أن من يتق الله يجعل له مخرجا، ويرزقه من حيث لا يحتسب، فصار ظن الأكثر أن الأمر بخلاف ذلك. العاشرة: ذكره أن من يتوكل على الله فهو حسبه، فصار ظن الأكثر بخلاف ذلك؛ بل ذكر بعض الأجلاء: أنه لا يجلب خيرا، ولا يدفع شرا. الحادية عشر: أن تزوج الفقير سبب لغناه، فصار ظن الأكثر بضده. الثانية عشر: أن صلة الرحم سبب لكثرة المال، فظن الأكثر ضد ذلك، فتركت خوفا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 من نقصه. الثالثة عشر: أن الاقتصار على ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم سبب لكثرة العلم، وطلب العلم من غيره سبب للجهل، فصار الأمر كما جرى. الرابعة عشر: صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال لأسماء (ارضخي ما استطعت، ولا توعي فيوعى عليك) ، فذكر سبب الغناء الذي هو عند الأكثر سبب الفقر، وذكر سبب الفقر الذي هو عند الأكثر سبب الغناء، وكذا قوله: (ما نقص مال صدقة) . الخامسة عشر: قوله: (ما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا) ، فذكر سبب زيادة العز الذي يظن الأكثر أنه سبب الذل وزوال العز. السادسة عشر: قوله: (ما فتح أحد على نفسه باب مسألة، إلا فتح الله عليه باب فقر) ، فذكر سبب الفقر الذي هو عند الأكثر سبب لزوال الفقر. السابعة عشر: قوله: (ما تواضع أحد لله إلا رفعه) ، فظنوا ضده. الثامنة عشر: قوله: (فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما) إلى آخره، فظنوا ضده التاسعة عشر: أن الجهل بكثير هو العلم، والخوض بالعكس. العشرون: أن الجهاد سبب لبقاء الأنفس والأموال. الحادية والعشرون: كون تركه سببا لعذاب الأنفس وذهاب الأموال. الثانية والعشرون: كون الهجرة عن الأهل والمال سببا لحياة الدنيا، والأصل في هذا قوله: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [سورة البقرة آية: 195] . وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [سورة الأنفال آية: 24] . فسرت الحياة بالقتال، والتهلكة بالمقام عنه في الأهل، وفسرت بجمع المال، وترك النفقة. الثالثة والعشرون: قوله: (إن الله إذا أحب قوما ابتلاهم) ، فظنوا ضده الرابعة والعشرون: قوله في ضده: (أخر عقوبته حتى يوافى بذنبه يوم القيامة) . الخامسة والعشرون: لا إله إلا الله كلمة التقوى، فجعلوها كلمة الفجور. السادسة والعشرون: خلقهم للعبادة، فجعلوها لغيره. السابعة والعشرون: إنزاله الكتاب ليقوم الناس بالقسط، فجعل لغير ذلك. الثامنة والعشرون: إرسال الرسل، ليعلم أنه الإله الواحد، فجعل لغير ذلك. التاسعة والعشرون: إنزال الحديد ليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب، فجعل لضد ذلك. الثلاثون: شرعت الإمارة لقيام الدين والعدل، وإزالة الباطل، فجعلت لضد ذلك. الحادية والثلاثون: قوله: " ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى أن تبسط عليكم الدنيا " 1 إلى آخره، ضد ما يخافه ويرجوه الوالد لذريته. الثانية والثلاثون، قوله: " هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم " 2. الثالثة والثلاثون: قوله: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا} الآية [سورة الإسراء آية: 16] . الرابعة والثلاثون: قوله: {وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} [سورة آل عمران آية: 141] . الخامسة والثلاثون: قوله: {وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي   1 البخاري: الرقاق (6425) , ومسلم: الزهد والرقائق (2961) , والترمذي: صفة القيامة والرقائق والورع (2462) , وابن ماجه: الفتن (3997) , وأحمد (4/137) . 2 البخاري: الجهاد والسير (2896) , والنسائي: الجهاد (3178) , وأحمد (1/173) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ} الآية [سورة البقرة آية: 137] . وقوله: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ} [سورة المائدة آية: 49] . السادسة والثلاثون: قوله: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً} [سورة القصص آية: 8] . السابعة والثلاثون: قوله: {لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} الآيتين [سورة الحج آية: 53] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 (أربعة عشر مسألة في اتباع الناس أهوائهم وتركهم الكتاب والسنة) وقال أيضا رحمه الله: الأولى: يجوزون على الله أن يأمر بكل شيء، ويفعل كل شيء، وينْزهونه عن حقائق أسمائه وصفاته، ولا يتم التوحيد إلا به. الثانية: وينهون عن تصديق الرسل فيما أخبروا به، ويقلدون طواغيتهم فيما يخالف العقل والنقل، ويقولون: هم أعلم. الثالثة: يفتون بحمل كلام العامي في العقود على شواذ اللغة، التي لم تخطر بباله، ويحرفون كلام الله المحكم، وكلام رسوله الواضح، على غير مراده الرابعة: ويحيلون الجواب على من مات أو غاب، وهو أوغل منهم في الارتياب. الخامسة: ويدعون كمال العلم والإحاطة، ويصرحون أنهم لا يفهمون منه كلمة واحدة. السادسة: ويجزمون بصحة الإجماع، ويكفرون من خالفه، ويقولون: مذهبنا بخلافه، وهو أحكم. السابعة: والعلم المفروض عليهم يحرمون طلبه، وعلومهم التي يدأبون فيها، خيرها ما حرم عليهم السؤال عنه. الثامنة: ويتكلمون بما يقتضي الإحاطة بعلم الله وحكمته في خلقه وأمره، وما ظنوا أنه خلاف الحكمة، قالوا: لا يفعل لحكمة، بل لمشيئة، فإذا رأوا من طواغيتهم خلاف ما أصلوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 لهم من القواعد سلموا لهم، وقالوا: هم أعلم. التاسعة: ثم يتناقضون، فيتكلمون في شرعه بالتعليل الباطل، ويولدون عليه ما شاؤوا. العاشرة: ويتكلمون في عصمة الأنبياء بما يضحك العاقل، ويوسعون الكلام فيه، ويفردونه بالتصنيف؛ والنوع الذي انعقد الإجماع على العصمة فيه - وهو حظهم ونصيبهم - لا يلتفتون إليه، بل يحرمون الالتفات إليه، ولو صح كلامهم في الأول فلا تعلق له بهم. الحادية عشر: ويقولون: الأصول التي يكفر مخالفها، هي التي تعلم بالعقل، وما لا فهي الشرعيات، وهذا تناقض؛ فإن الكفر: إنكار السمعيات، ولا يعرف إلا بها. ومن تدبر هذا عرف أنهم شر من الخوارج، الذين علقوا الكفر بمخالفة الكتاب، ولكن غلطوا. وهؤلاء الذين علقوه بغيره اتفق السلف على أن قولهم شر من قول الخوارج، وارتكبوا معه أربع عظائم: الأولى: رد نصوص الأنبياء. الثانية: رد ما وافقها من العقل. الثالثة: جعل ما خالفها أصولا للدين. الرابعة: تكفيرهم، أو تفسيقهم، أو تخطئتهم من خالفها واتبع الأنبياء، وقد أمرنا أن نتدبر القرآن، ولا يكون إلا إذا كان بينا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 فأما إن احتمل معاني، ولم يبين المراد، لم يمكن أن يتدبر؛ ولهذا تجد من زعمه قد اشتمل كلامهم من الباطل على ما لا يعلمه إلا الله، بل فيه من الكذب في السمعيات نظير ما فيه من الكذب في العقليات، بل منتهى أمرهم إلى القرمطة في السمعيات، والسفسطة في العقليات؛ وهذا منتهى كل مبتدع خالف شيئا من الكتاب والسنة، حتى في المسائل العملية، والقضايا الفقهية. الثانية عشر: والتوحيد عندهم: إنكار صفات الكمال، ونعوت الجلال، والشرك إثباتها؛ ودينهم اتخاذ أكابرهم أربابا من دون الله. الثالثة عشر: ويزعمون أنهم ما عظموهم إلا لأجل الله، ثم يستخفون به، ويسبونه مسبة ما سبها إياه أحد من البشر. الرابعة عشر: ويزعمون أن فعلهم تعظيم وإجلال للأنبياء والصالحين، وهم بذلك يكذبونهم، ويكفرونهم، ويستجهلون من صدقهم وآمن بهم؛ وهذا، والذي قبله: من أعجب العجاب! ! (الإيمان بالأصول الستة) وقال فى بعض تقاريره: اعلم رحمك الله أن الإيمان الشرعي، هو الإيمان بالأصول الستة. فمن الإيمان بالله الإيمان بالكتب التي أنزل الله، والإيمان بالرسل الذين أرسلهم الله. ومن الإيمان بهم معرفة مراد الله في إرسالهم، كما قال تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 وَمُنْذِرِينَ} الآية [سورة البقرة آية: 213] . وأما الحكمة الأخرى، فذكرها أيضا في غير موضع، منها قوله تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} [سورة النساء آية: 163] إلى قوله: {لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [سورة النساء آية: 165] . فقوله: {مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} [سورة البقرة آية: 213] . وقوله: {لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [سورة النساء آية: 165] ، هما حكمة الله في إيجاد الخليقة، وإليهما ترجع كل حقيقة. فالواجب على من نصح نفسه أن يجعل معرفة هذا نصب عينيه. ومن تفاصيل هذه الجملة: أن الناس اختلفوا في التوحيد، فجاءت الكتب والرسل، ففصلوا الخصومة بقوله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [سورة النحل آية: 36] . وقوله تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} [سورة الجن آية: 18] . فشملت أصل الأمر، وأصل النهي، الذي هو معنى شهادة أن لا إله إلا الله. الثانية: أن الذين أقروا بالتوحيد، والبراءة من الشرك، اختلفوا: هل توجب هذه العداوة والمقاطعة؟ أو أنها كالسرقة والزنى؟ فحكم الكتاب بينهم بقوله: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} الآية [سورة المجادلة آية: 22] . وقال صلى الله عليه وسلم: " إن آل بني فلان ليسوا لي بأولياء إن وليي الله والمؤمنون " 1.   1 البخاري: الأدب (5990) , ومسلم: الإيمان (215) , وأحمد (4/203) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 الثالثة: أن الذين أقروا بأن الشرك أكبر الكبائر، اختلفوا: هل يقاتل من فعله إذا قال لا إله إلا الله؟ فحكم الكتاب بقوله: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [سورة الأنفال آية: 39] . وقوله: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} الآية [سورة التوبة آية: 5] . الرابعة: اختلفوا في الجماعة والفرقة، فذهب الصحابة ومن تبعهم إلى وجوب الجماعة وتحريم الفرقة، ما دام التوحيد والإسلام، لأنه لا إسلام إلا بجماعة، وذهب الخوارج، والمعتزلة: إلى الفرقة، وإنكار الجماعة، فحكم الكتاب بقوله: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} [سورة آل عمران آية: 103] . الخامسة: اختلفوا في البدع، هل يستحسن منها ما كان من جنس العبادة؟ أم كل بدعة ضلالة؟ فحكم الكتاب بينهم، بقوله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [سورة الأنعام آية: 153] ، وقوله: " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ. وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة "، فذكر صلى الله عليه وسلم أن ما حدث بعده فليس من الدين، وأنه ضلالة. السادسة: أنهم اختلفوا في الكتاب، هل يجب تعلمه واتباعه على الآخرين لإمكانه، أم لا يجب، ولا يجوز العمل به لهم؟ فحكم الكتاب بينهم بالآيات التي لا تحصى، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 منها قوله: {وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْراً} [سورة آية: 99] ، وقوله: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} [سورة الزخرف آية: 36] ، وقوله: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً} الآية [سورة طه آية: 124] . السابعة: اختلفوا في العالم رفيع المقام في العلم والعبادة، إذا عمل تابع النص بخلافه، هل يجوز أم لا؟ فقيل: نعم، من قلد عالما لقي الله سالما. فحكم الكتاب بقوله: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} [سورة الأعراف آية: 3] ، وقوله: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} الآية [سورة التوبة آية: 31] . وقوله: {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} وقوله: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ} [سورة البقرة آية: 89] . وقوله: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً} الآية [سورة النمل آية: 14] . وقوله: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} الآية [سورة الأنعام آية: 116] . فإذا عرفت هذه الآيات المحكمات، كما فسرها النبي صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم، من أن طاعة الأحبار والرهبان من دون الله عبادة لهم، وعرفت حال كثير من الناس وما يأمرون به، وما يدعون إليه، وتأملت كلام الله، تبين لك الهدى من الضلال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 (جواب الشيخ ابن عبد الوهاب عن أحاديث الوعد والوعيد) وسئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب عن أحاديث الوعد والوعيد، وقول وهب بن منبه: " مفتاح الجنة لا إله إلا الله " إلخ، وحديث أنس "من صلى صلاتنا " 1 إلخ، فأجاب: ما قال الرسول صلى الله عليه وسلم حق يجب الإيمان به، ولو لم يعرف الإنسان معناه؛ وفي القرآن آيات في الوعد والوعيد كذلك. وأشكل الكل على كثير من الناس من السلف ومن بعدهم، ومن أحسن ما قيل في ذلك: أمروها كما جاءت، معناه: لا تتعرضوا لها بتفسير. وبعض الناس تكلم فيها ردا لكلام الخوارج والمعتزلة، الذين يكفرون بالذنوب، أو يخلدون أصحابها في النار، أنه ينفي الإيمان عن بعض الناس، لكونه لا يتمه، كقوله للأعرابي: " صل فإنك لم تصل " 2. والجواب الأول أصوب، وأهون، وأوسع، وهو الموافق لقوله تعالى: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} الآية [سورة آل عمران آية: 7] . إذا فهمت ذلك، فالمسألة الأولى واضحة، مراده الرد على من ظن دخول الجنة بالتوحيد وحده، بدون الأعمال، وأما إذا أتى به وبالأعمال، وأتى بسيئات ترجح على حسناته، أو تحبط عمله، فلم يتعرض وهب لذلك بنفي ولا إثبات، لأن السائل لم يرده.   1 البخاري: الصلاة (391) , والنسائي: تحريم الدم (3968) والإيمان وشرائعه (4997) . 2 البخاري: الأذان (757) , ومسلم: الصلاة (397) , والترمذي: الصلاة (303) , والنسائي: الافتتاح (884) , وأبو داود: الصلاة (856) , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1060) , وأحمد (2/437) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 وقوله: " من صلى صلاتنا " 1 إلخ فهو على ظاهره، ومعناه: كما لو عرف منه النفاق، فما أظهر يحمي دمه وماله، وإلا فمعلوم أن من صدق مسيلمة، أو أنكر البعث، أو أنكر شيئا من القرآن، وغير ذلك من أنواع الردة، لم يدخل في الحديث. (معنى حديث معاذ (حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا) وسئل عن معنى: قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث معاذ: " حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا " 2 إلى قوله: " أفلا أبشر الناس؟ قال لا تبشرهم فيتكلوا " 3 ومعنى: " لا يدخل أحد منكم الجنة بعمله " كيف الصواب؟ فأجاب: أما مسألة معاذ: فالمعنى عند السلف على ظاهره، وهو من الأمور التي يقولون: أمروها كما جاءت، أعني نصوص الوعد والوعيد، لا يتعرضون للمشكل منه. وأما قوله: " لا يدخل أحد منكم الجنة بعمله " فتلك مسألة أخرى على ظاهرها، أن الله لو يستوفي حقه من عبده، لم يدخل أحد الجنة، ولكن كما قال تعالى: {لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا} الآية [سورة الزمر آية: 35] .   1 البخاري: الصلاة (391) , والنسائي: تحريم الدم (3968) والإيمان وشرائعه (4997) . 2 البخاري: الجهاد والسير (2856) , ومسلم: الإيمان (30) , والترمذي: الإيمان (2643) , وابن ماجه: الزهد (4296) , وأحمد (3/260 ,5/236 ,5/238 ,5/242) . 3 البخاري: الجهاد والسير (2856) , ومسلم: الإيمان (30) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 (جواب الشيخ ابن عبد الوهاب عن محل الإيمان، وكونه يزيد وينقص) سئل الشيخ: محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله، قال السائل: تفكرت فى الإيمان وقوته وضعفه، وأن محله القلب، وأن التقوى ثمرته ومركبة عليه، فبقوته تقوى، وبضعفه تضعف. فأجاب: قولك إن الإيمان محله القلب، فالإيمان بإجماع السلف محله القلب، والجوارح جميعا، كما ذكر الله في سورة الأنفال، وغيرها. وأما كون الذي في القلب، والذي في الجوارح، يزيد وينقص، فذلك شيء معلوم، والسلف يخافون على الإنسان إذا كان ضعيف الإيمان من النفاق، أو سلب الإيمان كله. (العلاقة بين الإيمان والإسلام) وسئل أيضا: عن الإيمان، والإسلام، هل هما نوع واحد؟ أو نوعان؟ فأجاب: ذكر العلماء أن الإسلام إذا ذكر وحده، دخل فيه الإيمان، كقوله: {فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا} [سورة آل عمران آية: 20] ، وكذلك الإيمان إذا أفرد، كقوله في الجنة: {أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} [سورة الحديد آية: 21] ، فيدخل فيه الإسلام. وإذا ذكرا معا كقوله: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [سورة الأحزاب آية: 35] ، فالإسلام الأعمال الظاهرة، والإيمان الأعمال الباطنة، كما في الحديث: " الإسلام علانية، والإيمان في القلب " 1.   1 أحمد (3/134) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 وقوله في الحديث: " أخرجوا من النار من في قلبه " 1 إلخ، يوافق ما ذكرناه، فإن الإيمان أعلى من الإسلام، فيخرج الإنسان من الإيمان إلى الإسلام الذي ينفعه، وإن كان ناقصا، كما في آية الحجرات، وفيها: {وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً} [سورة الحجرات آية: 14] . وحقيقة الأمر: أن الإيمان يستلزم الإسلام قطعا، وأما الإسلام فقد يستلزمه، وقد لا يستلزمه، أما قوله: " لا يؤمن أحدكم حتى " 2 إلى آخره، ففسر بأن المراد اعتقاد ذلك بالقلب، والعمل بذلك الاعتقاد، فإذا كان في القلب ضده، وكرهه، وصار الكلام والعمل بمقتضى الأمر الممدوح، فهو ذاك. وذكر أيضا، في الإيمان بالله، والإيمان بالرسل: أن ههنا غاية ووسيلة ; فأما الغاية: فهو الإيمان بالله، وأما الوسيلة فهو الإيمان بالرسل، الإيمان بالله مثل الماء، والإيمان بالرسل: مثل الدلو والرشا.   1 البخاري: الإيمان (22) , ومسلم: الإيمان (183) , وأحمد (3/56 ,3/94) . 2 البخاري: الإيمان (13) , ومسلم: الإيمان (45) , والترمذي: صفة القيامة والرقائق والورع (2515) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (5016 ,5017) , وابن ماجه: المقدمة (66) , وأحمد (3/176 ,3/272) , والدارمي: الرقاق (2740) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 (جواب الشيخ ابن عبد الوهاب عن قول القائل كل ذنب عصى الله به شرك) وسئل رحمه الله: عمن خالف شيئا من واجبات الشريعة، ماذا يقع؟ وما معنى: كل ذنب عصي الله به شرك؟ وهل يقع في جزء من الكفر؟ وما ذلك الكفر؟ أهو كفر بالله؟ أو بآلائه، مع صغره؟ وما معنى قول من قال: كفر دون كفر؟ وقول من قال: كفر نعمة؟ أي نعمة أيضا؟ وماذا ترى في الرؤيا التي ذكرت لك؟ فأجاب: الشرك والكفر نوع، والكبائر نوع آخر، والصغائر نوع آخر. ومن أصرح ما فيه، حديث أبي ذر، فيمن لقي الله بالتوحيد، قوله: " وإن زنى وإن سرق " 1 مع أن الأدلة كثيرة. وإذا قيل: من فعل كذا وكذا، فقد أشرك أو كفر، فهو فوق الكبائر. وما رأيت جاء مخالفا ما ذكرت لك، فهو بمعنى الذي أخفى من دبيب النمل، وقول القائل: كفر نعمة، خطأ، رده الإمام أحمد وغيره. ومعنى كفر دون كفر: أنه ليس يخرج من الملة مع كبره. والرؤيا: أرجو أنها من البشرى المذكورة، لكن الرؤيا تسر المؤمن، ولا تضره.   1 البخاري: الجنائز (1237) , ومسلم: الإيمان (94) , والترمذي: الإيمان (2644) , وأحمد (5/159) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 (أقسام الناس بعد الهجرة) وله أيضا: رحمه الله تعالى: اعلم رحمك الله: أن الله منذ بعث محمدا صلى الله عليه وسلم وأعزه بالهجرة والنصر، صار الناس ثلاثة أقسام: قسم: مؤمنون، وهم الذين آمنوا به ظاهرا وباطنا، وقسم: كفار، وهم الذين أظهروا الكفر به، وقسم: منافقون، وهم الذين آمنوا به ظاهرا، لا باطنا. ولهذا افتتح الله سورة البقرة، بأربع آيات في صفة المؤمنين، وآيتين في صفة الكافرين، وثلاث عشرة في صفة المنافقين. وكل واحد من الإيمان، والكفر، والنفاق، له دعائم وشعب، كما دل عليه الكتاب والسنة، وكما فسره علي بن أبي طالب رضي الله عنه في الحديث المأثور عنه. فمن النفاق ما هو أكبر، يكون صاحبه في الدرك الأسفل من النار، كنفاق عبد الله بن أبي، وغيره، مثل أن يظهر تكذيب الرسول، أو جحود بعض ما جاء به، أو بغضه، أو عدم اعتقاد وجوب اتباعه، أو المسرة بانخفاض دينه، أو المساءة بظهور دينه، ونحو ذلك، مما لا يكون صاحبه إلا عدوا لله ورسوله. وهذا القدر موجود في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم، وما زال بعده أكثر منه على عهده، لكون موجبات الإيمان على عهده أقوى، فإذا كانت مع قوتها والنفاق موجود، فوجوده فيما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 دون ذلك أولى به، وهذا ضرب النفاق الأكبر، والعياذ بالله. وأما النفاق الأصغر، فهو: نفاق الأعمال، ونحوها، مثل أن يكذب إذا حدث، ويخلف إذا وعد، أو يخون إذا اؤتُمن، للحديث المشهور في الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم قال: " آية المنافق: ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتُمن خان، وإن صلى وصام، وزعم أنه مسلم " 1 ومن هذا الباب: الإعراض عن الجهاد، فإنه من خصال المنافقين، لقوله صلى الله عليه وسلم " من مات ولم يغز، ولم يحدث نفسه بالغزو، مات على شعبة من النفاق " 2 رواه مسلم. وقد أنزل الله سورة براءة، التي تسمى الفاضحة، لأنها فضحت المنافقين، كما قاله ابن عباس رضي الله عنهما، قال: (هي الفاضحة، ما زالت تنْزل، "ومنهم ومنهم"، حتى ظنوا أن لا يبقى أحد إلا ذكر فيها) ، وعن المقداد بن الأسود قال: (هي سورة البحوث، لأنها بحثت عن سرائر المنافقين) ، وقال قتادة: (هي المثيرة، لأنها أثارت مخازي المنافقين) . وهذه السورة نزلت في آخر مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم غزوة تبوك، وقد أعز الله الإسلام وأظهره، فكشف فيها عن أحوال المنافقين ووصفهم فيها بالجبن والبخل، فأما الجبن فهو ترك الجهاد، والبخل عن النفقة في سبيل الله، وقال تعالى: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ} الآية [سورة آل عمران آية   1 البخاري: الإيمان (33) , ومسلم: الإيمان (59) , والترمذي: الإيمان (2631) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (5021) , وأحمد (2/357 ,2/397 ,2/536) . 2 مسلم: الإمارة (1910) , والنسائي: الجهاد (3097) , وأبو داود: الجهاد (2502) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 : 180] . وقال: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ} الآية [سورة الأنفال آية: 16] . فأما وصفهم فيها بالجبن والفزع، فقد قال تعالى: {وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً} [سورةالتوبه آية: 56] ، يلجؤون إليه، مثل المعاقل والحصون {أَوْ مَغَارَاتٍ} يغورون فيها كما يغور الماء {أَوْ مُدَّخَلاً} هو الذي يتكلف الدخول إليه، ولو بكلفة ومشقة {لَوَلَّوْا إِلَيْهِ} عن الجهاد {وَهُمْ يَجْمَحُونَ} [سورة التوبة آية: 57] ، أي: يسرعون إسراعا لا يردهم شيء، كالفرس الجموح، الذي إذا حمل لم يرده اللجام. وقد قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [سورة الحجرات آية: 15] ، فحصر المؤمنين فيمن آمن وجاهد، وقال تعالى: {لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} الآيتين [سورة التوبة آية: 44] ، فهذا إخبار من الله أن المؤمن لا يستأذن في ترك الجهاد، وإنما يستأذن الذين لا يؤمنون بالله، فكيف بالتارك من غير استئذان؟ ! فقال في وصفهم بالشح: {وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ} [سورة التوبة آية: 54] إلى قوله: {وَلا يُنْفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ} [سورة التوبة آية: 54] ، فإذا كان هذا مذمة الله تبارك وتعالى لمن أنفق وهو كاره، فكيف بمن ترك النفقة رأسا؟ ! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 وقد أخبر أن المنافقين لما قربوا من المدينة، تارة يقولون للمؤمنين: هذا الذي جرى علينا بشؤمكم، فأنتم الذين دعوتم الناس إلى هذا الدين، وقاتلتم عليه، وخالفتموهم. وتارة يقولون: أنتم الذين أشرتم علينا بالمقام هنا، وإلا لو كنا قد سافرنا لما أصابنا هذا، وتارة يقولون: أنتم مع قلتكم وضعفكم، تريدون أن تكسروا العدو، وقد غركم دينكم. وتارة يقولون: أنتم مجانين لا عقل لكم، تريدون أن تهلكوا أنفسكم، وتهلكوا الناس معكم. وتارة يقولون أنواعا من الكلام المؤذي. فأخبر الله عنهم بقوله عز وجل: {يَحْسَبُونَ الأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الأَعْرَابِ يَسْأَلونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلاَّ قَلِيلاً} [سورة الأحزاب آية: 20] . فوصفهم تبارك وتعالى بثلاثة أوصاف: الأول: أنهم لفزعهم منهم يحسبون الأحزاب لم ينصرفوا عن البلد، وهذا حال الجبان، الذي في قلبه مرض؛ فإن قلبه يبادر إلى تصديق الخبر المخوف، وتكذيب خبر الأمن. الوصف الثاني: أن الأحزاب إذا جاؤوا، تمنوا أن لا يكونوا بينكم، بل في البادية بين الأعراب، {يَسْأَلونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ} [سورة الأحزاب آية: 20] ، أي شيء خبر المدينة؟ وأي شيء خبر الناس؟ الوصف الثالث: أن الأحزاب إذا أتوا وهم فيكم لم يقاتلوا إلا قليلا وهذه الأوصاف الثلاثة منطبقة على كثير من الناس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 (هل يخلد أحد من أهل التوحيد في النار) سئل أبناء الشيخ محمد بن عبد الوهاب وحمد بن ناصر رحمهم الله تعالى: هل عندكم أنه ما يلبث موحد في النار، أم لا؟ فأجابوا: الذي نعتقده دينا، ونرضاه لإخواننا المسلمين، مذهبا، أن الله تبارك وتعالى: لا يخلد أحدا فيها من أهل التوحيد، كما تظاهرت عليه الأدلة، من الكتاب، والسنة، وإجماع الأمة. قال الشيخ تقي الدين أبو العباس ابن تيمية رحمه الله: تواترت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " بأنه يخرج من النار من قال لا إله إلا الله، وفي قلبه من الإيمان ما يزن شعيرة " 1، وفي لفظ (ذرة) ولكنها جاءت مقيدة بالقيود الثقال، كقوله: " من قال لا إله إلا الله خالصا من قلبه " 2، وفي رواية " صادقا من قلبه " 3 انتهى. وهذا هو مذهب أهل السنة والجماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن اتبعهم بإحسان من سلف الأمة وأئمتها. ولا يخالف في ذلك إلا الخوارج والمعتزلة القائلين بتخليد أهل الكبائر في النار. والجواب عن الآيات التي احتجوا بها تحتاج إلى بسط طويل.   1 - البخاري: الإيمان 44 , ومسلم: الإيمان 193 , والترمذي: صفة جهنم 2593 , وابن ماجه: الزهد 4312 , وأحمد 3/173. 2 - البخاري: العلم 99 , وأحمد 2/373. 3 - البخاري: العلم 128. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 (أنواع الشرك) وسئل أيضا أبناء الشيخ محمد بن عبد الوهاب وحمد بن ناصر رحمهم الله تعالى عن الشرك بالله: ما هو الأكبر الذي ذم فاعله، وماله حلال لأهل الإسلام، ولا يغفر لمن مات عليه؟ وما هو الأصغر؟. فأجابوا: قد ذكر العلماء رحمهم الله: أن الشرك نوعان: أكبر، وأصغر. فالأكبر: أن يجعل لله ندا من خلقه، يدعوه كما يدعو الله، ويخافه كما يخاف الله، ويرجوه كما يرجو الله، ويتوكل عليه في الأمور، كما يتوكل على الله. والحاصل: أن من سوى بين الله وبين خلقه في عبادته، ومعاملته، فقد أشرك بالله الشرك الأكبر، الذي لا يغفره، كما دل على ذلك قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} [سورة البقرة آية: 165] إلى قوله: {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [سورة البقرة آية: 167] . وقال تعالى عن أهل النار: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [سورة آية: 98] . قال بعض المفسرين: والله ما ساووهم بالله في الخلق والرزق والتدبير، ولكن ساووهم في المحبة والإجلال والتعظيم، وقال تعالى: {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [سورة الأنعام آية: 1] ، أي: يعدلون به في العبادة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 ولهذا اتفق العلماء كلهم على أن من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم، ويتوكل عليهم، ويسألهم، فقد كفر لأن هذا كفر عابدي الأصنام، قائلين: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [سورة الزمر آية: 3] . ثم شهد عليهم بالكذب والكفر، فقال: {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} [سورة الزمر آية: 3] . فهذا حال من اتخذ من دون الله أولياء، يزعم أنهم يقربونه إلى الله، وقال: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [سورة يونس آية: 18] . وقد أنكره الله في كتابه وأبطله، وأخبر أن الشفاعة كلها له، وأنه لا يشفع عنده أحد إلا لمن أذن له أن يشفع فيه، ورضي قوله، وعمله، وهم أهل التوحيد الذين لم يتخذوا من دون الله شفعاء، فإنه سبحانه يأذن في الشفاعة لهم، حيث لم يتخذوا من دون الله شفيعا، فيكون أسعد الناس بشفاعة الشفعاء صاحب التوحيد، الذي حقق قول لا إله إلا الله. والشفاعة التي أثبتها الله ورسوله هي: الشفاعة الصادرة عمن أذن له، لمن وحّده، والشفاعة التي نفاها الله: الشركية التي يظنها المشركون، فيعاملون بنقيض قصدهم، ويفوز بها الموحدون. فتأمل قوله صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة، وقد سأله: " من أسعد الناس بشفاعتك يا رسول الله؟ قال: من قال لا إله إلا الله خالصا من قلبه " 1، فجعل أعظم الأسباب التي ينال بها الشفاعة تجريد التوحيد، عكس ما اعتقد المشركون، أن الشفاعة تنال   1 - البخاري: العلم 99 , وأحمد 2/373. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 باتخاذهم شفعاء وعبادتهم وموالاتهم من دون الله، فقلب النبي صلى الله عليه وسلم زعمهم الكاذب، وأخبر أن سبب الشفاعة تجريد التوحيد، فحينئذ يأذن الله للشافع أن يشفع فيه. ومن جهل المشرك اعتقاده إن اتخذ من دون الله شفيعا أن يشفع له وينفعه، كما يكون عند خواص الملوك والولاة، ولم يعلموا أن الله لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، ولا يأذن في الشفاعة إلا لمن رضي قوله وعمله، كما قال تعالى في الفصل الثاني: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى} [سورة الأنبياء آية: 28] . وبقي فصل ثالث، وهو: أنه ما يرضى من القول والعمل إلا التوحيد، واتباع الرسول، وعن هاتين الكلمتين يسأل الأولون والآخرون، كما قال أبو العالية: (كلمتان يسأل عنهما الأولون والآخرون: ماذا كنتم تعبدون؟ وماذا أجبتم المرسلين؟) . فهذه ثلاثة أصول، تقطع شجرة الشرك من قلب من وعاها وعقلها: فالأول: أنه لا شفاعة إلا بإذنه. والثاني: أنه لا يأذن إلا لمن رضي قوله وعمله. والثالث: أنه لا يرضى من القول والعمل إلا توحيده واتباع رسوله. وقد قطع سبحانه الأسباب التي يتعلق بها المشركون قطعا يعلم من تأمله وعرفه أن من اتخذ من دون الله وليا، أو شفيعا فهو كمثل العنكبوت اتخذت بيتا، فقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 مِنْ ظَهِير وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ ٍ} [سورة سبأ آية: 22] . فالمشرك إنما يتخذ معبوده لما يحصل له به من النفع. والنفع لا يكون إلا لمن فيه خصلة من هذه الأربع: إما مالك لما يريد عابده منه ; فإن لم يكن مالكا كان شريكا للمالك، فإن لم يكن شريكا كان معينا وظهيرا، فإن لم يكن معينا ولا ظهيرا كان شفيعا عنده؟ فنفى سبحانه وتعالى المراتب الأربع، نفيا مرتبا منتقلا من الأعلى إلى ما دونه، فنفى الملك، والشرك، والمظاهرة، والشفاعة التي يطلبها المشرك؛ وأثبت شفاعة لا نصيب فيها لمشرك، وهي: الشفاعة بإذنه. فكفى بهذه الآية برهانا، ونورا، وتجريدا للتوحيد، وقطعا لأصول الشرك ومواده، لمن عقلها. والقرآن مملوء من أمثالها ونظائرها، ولكن أكثر الناس لا يشعر بدخول الواقع تحته، ويظنه في قوم قد خلوا من قبل، ولم يعقبوا وارثا، وهذا هو الذي يحول بين القلب وفهم القرآن. ولعمر الله إن كان أولئك قد خلوا، فقد ورثهم من هو مثلهم، أو شر منهم، أو دونهم، وتناول القرآن لهم كتناوله لأولئك. ولكن الأمر كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: " إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة، إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية والشرك ". وما عابه القرآن وذمه، ووقع فيه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 وأقره، ودعا إليه، وصوبه وحسنه، وهو لا يعرف أنه الذي كان عليه أهل الجاهلية، أو نظيره، أو شر منه، أو دونه، فتنتقض بذلك عرى الإسلام، ويعود المعروف منكرا، والمنكر معروفا، والبدعة سنة، والسنة بدعة؛ ويبدع الرجل بتجريد التوحيد، ومتابعة الرسول، ومفارقة أهل الهوى والبدع. ومن له بصيرة وقلب حي يرى عيانا، والله المستعان. والكلام في هذه المسألة يحتاج إلى بسط طويل، ليس هذا محله، وإنما نبهناك على ذلك تنبيها، يعرف به كل من نور الله قلبه حقيقة الشرك، الذي لا يغفره الله إلا بالتوبة منه، وحرم الجنة على فاعله. ولكن من أعظم أنواعه، وأكثره وقوعا في هذه الأزمان: طلب الحوائج من الموتى، والاستغاثة بهم، والتوجه إليهم، وهذا أصل شرك العالم، كما ذكره المفسرون، عند قوله تعالى، حكاية عن قوم نوح: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً} [سورة نوح آية: 23] . إن هذه أسماء رجال صالحين في قوم نوح، فلما ماتوا، عكفوا على قبورهم، ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم، كما ذكر البخاري في صحيحه، في تفسير سورة نوح، وكما ذكر غيره من أهل العلم، والله سبحانه وتعالى أعلم. وأما الشرك الأصغر: فكيسير الرياء، والحلف بغير الله، كما ذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من حلف بغير الله فقد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 أشرك " 1. ومن ذلك قول الرجل: ما شاء الله وشئت، وهذا من الله ومنك، وأنا بالله وبك، وما لي إلا الله وأنت، وأنا متوكل على الله وعليك، ولولا أنت لم يكن كذا وكذا. وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال له رجل: " ما شاء الله وشئت، فقال: أجعلتني لله ندا، قل ما شاء الله وحده " 2. وهذه اللفظة أخف من غيرها من الألفاظ. وقد يكون هذا شركا أكبر، بحسب حال قائله ومقصده. وهذا الذي ذكرنا متفق عليه بين العلماء - رحمهم الله تعالى - أنه من الشرك الأصغر، كما أن الذي قبله متفق عليه أنه من الشرك الأكبر. (التوبة من الشرك) واعلم أن التوبة مقبولة منهما، ومن سائر الذنوب قطعا، إذا صحت التوبة، واستكملت شروطها. لكن ابن عباس رضي الله عنهما، ومن تبعه، قال: " لا تقبل توبة القاتل ". وقد ناظر ابن عباس أصحابه، وخالفه جمهور العلماء في ذلك، وقالوا: التوبة تأتي على كل ذنب، فكل ذنب يمكن التوبة منه، وتقبل، واحتجوا بقوله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [سورة الزمر آية: 53] ، وبقوله تعالى: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى} [سورة طه آية: 82] . فإذا تاب هذا القاتل، وآمن، وعمل صالحا، فإن الله عز وجل غفار له.   1 - الترمذي: النذور والأيمان 1535 , وأبو داود: الأيمان والنذور 3251 , وأحمد 2/34 ,2/86 ,2/125. 2 - أحمد 1/214. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 فصل: (ذكر مراتب الدين الثلاث) وأما قول السائل: هل للتوحيد والإيمان مرتبتان، وحقيقتان، ومجازان، يقابل كل واحد واحدة من مراتب الشرك والكفران، يتعلق بأحدهما دون الآخر النقص والبطلان، ويخرج بفعل بعض قواعد الشرك، أو ترك بعض قواعد التوحيد، عن دائرة الإسلام، لا دائرة الإيمان، أو بالعكس؟ فاعلم رحمك الله أن العلماء ذكروا أن الدين على ثلاث مراتب: المرتبة الأولى: مرتبة الإسلام، وهي المرتبة الأولى التي يدخل فيها الكافر أول ما يتكلم بالإسلام، ويذعن، وينقاد له. المرتبة الثانية: مرتبة الإيمان، وهي أعلى من المرتبة الأولى، لأن الله تعالى نفى عمن ادعى الإيمان أول وهلة، وأثبت لهم الإسلام، فقال تعالى: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الأِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [سورة الحجرات آية: 15-14] ، فأنكر سبحانه عليهم ادعاءهم الإيمان، وأخبر أنهم لم يبلغوا هذه المرتبة إذ ذاك. وفي الحديث الصحيح، حديث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 سعد، لما قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ما لك عن فلان؟ فوالله لأراه مؤمنا فقال: (أو مسلما) . المرتبة الثالثة: الإحسان، وهي أعلى المراتب كلها، وقد تضمن حديث جبريل هذه المراتب كلها، لما سأله عن الإسلام، والإيمان، والإحسان، فأخبره صلى الله عليه وسلم بذلك، ثم قال: " هذا جبريل يعلمكم أمر دينكم " 1. فقد ينفى عن الرجل الإحسان، ويثبت في الإيمان، وينفى عنه الإيمان، ويثبت في الإسلام، كما في قوله عليه السلام: " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن " 2. ولا يخرجه عن مرتبة الإسلام إلا الكفر بالله، والشرك المخرج من الملة. وأما المعاصي والكبائر، كالزنى والسرقة وشرب الخمر وأشباه ذلك، فلا يخرجه عن دائرة الإسلام عند أهل السنة والجماعة، خلافا للخوارج، والمعتزلة، الذين يكفرون بالذنوب، ويحكمون بتخليده في النار. واحتج أهل السنة والجماعة على ذلك بحجج كثيرة، من الكتاب والسنة، وأقوال الصحابة، والتابعين. فمن ذلك: ما رواه محمد بن نصر المروزي، الإمام المشهور: حدثنا إسحاق بن إبراهيم، حدثنا وهب بن جرير بن حازم، حدثنا أبي، عن الفضيل، عن أبي جعفر محمد بن علي، أنه سئل عن قول النبي صلى الله عليه وسلم: " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن " 3. فقال أبو جعفر: هذا الإسلام، ودوّر دائرة واسعة، وهذا   1 - البخاري: الإيمان 50 , ومسلم: الإيمان 9 ,10 , والنسائي: الإيمان وشرائعه 4991 , وابن ماجه: المقدمة 64 , وأحمد 2/426. 2 - البخاري: المظالم والغصب 2475 , ومسلم: الإيمان 57 , والترمذي: الإيمان 2625 , والنسائي: قطع السارق 4870 ,4871 والأشربة 5659 ,5660 , وأبو داود: السنة 4689 , وابن ماجه: الفتن 3936 , وأحمد 2/317 ,2/386 , والدارمي: الأشربة 2106. 3 - البخاري: المظالم والغصب 2475 , ومسلم: الإيمان 57 , والترمذي: الإيمان 2625 , والنسائي: قطع السارق 4870 ,4871 والأشربة 5659 ,5660 , وأبو داود: السنة 4689 , وابن ماجه: الفتن 3936 , وأحمد 2/317 ,2/386 , والدارمي: الأشربة 2106. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 الإيمان، ودور دائرة صغيرة، في وسط الكبيرة ; فإذا زنى أو سرق خرج من الإيمان إلى الإسلام، ولا يخرج من الإسلام إلا الكفر بالله، انتهى. قال: وإن الله جعل اسم الإيمان اسم ثناء وتزكية ومدحة، وأوجب عليه الجنة، فقال: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ} [سورة آية: 44] ، وقال: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [سورة يونس آية: 2] . وقال: {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ} [سورة الحديد آية: 12] . وقال: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} الآية [سورة التوبة آية: 72] . قالوا: وقد توعد الله بالنار أهل الكبائر، فدل ذلك على أن اسم الإيمان زال عمن ألم بكبيرة، قالوا: ولم نجده تعالى أوجب الجنة باسم الإسلام، فثبت: أن اسم الإسلام ثابت له على حاله، واسم الإيمان زائل عنه. فإن قيل: أليس ضد الإيمان الكفر؟ فالجواب: إن الكفر ضد أصل الإيمان، لأن للإيمان أصلا وفروعا، فلا يثبت الكفر حتى يزول أصل الإيمان، الذي هو ضد الكفر. فإن قيل: الذي زعمتم أن النبي صلى الله عليه وسلم أزال عنه اسم الإيمان، هل بقي معه من الإيمان شيء؟ قيل: نعم. أصله ثابت، ولولا ذلك لكفر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 فإن قيل: كيف أمسكتم عن اسم الإيمان أن تسموا به الفاسق، وأنتم تزعمون أن أصل الإيمان معه، وهو التصديق بالله ورسوله؟ قلنا: لأن الله ورسوله، وجماهير المسلمين، يسمون الأشياء بما علمت عليها من الأسماء، فيسمون الزاني فاسقا، والقاذف فاسقا، وشارب الخمر فاسقا، ولم يسموا واحدا من هؤلاء تقيا، ولا ورعا ; وقد أجمع المسلمون أن فيه أصل التقوى والورع، وذلك أنه يتقي أن يكفر، أو يشرك بالله، وكذلك يتقي أن يترك الغسل من الجنابة والصلاة، ويتقي أن يأتي أمه، فهو في جميع ذلك متق. وقد أجمع المسلمون من الموافقين والمخالفين أنه لا يسمى تقيا ولا ورعا إذا كان يأتي بالفجور، مع أن أصل التقوى والورع باق. انتهى ; يريد باق من ادعائه الأصل، كتورعه عن إتيان المحارم، ثم لا يسمونه متقيا، ولا ورعا، مع إتيانه بعض الكبائر، بل يسمونه فاسقا، وفاجرا، مع علمهم أنه قد اتقى بعض التقوى والورع، فمنعهم من ذلك أن اسم التقى اسم ثناء وتزكية، وأن الله قد أوجب عليه المغفرة والجنة; قالوا: فلذلك لا نسميه مؤمنا ونسميه فاسقا، وزانيا، وإن كان في قلبه أصل اسم الإيمان، لأن الإيمان أصل أثنى الله به على المؤمنين، وزكاهم به، وأوجب لهم الجنة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 ثم قال: مسلم، ولم يقل: مؤمن ; قالوا: ولو كان أحد من المسلمين الموحدين يستحق أن لا يكون في قلبه إيمان وإسلام، كان أحق الناس به أهل النار، الذين يخرجون منها، لأنه صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله يقول: "أخرجوا من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان " 1 فثبت أن شر المسلمين في قلبه إيمان. ولما وجدنا الأمة تحكم بالأحكام التي ألزمها الله المسلمين، ولا يكفرونهم، ولا يشهدون لهم بالجنة، ثبت أنهم مسلمون، تجري عليهم أحكام المسلمين، وأنهم لا يستحقون أن يسموا مؤمنين، إذا كان الإسلام مثبتا للملة التي يخرج بها المسلم من جميع الملل، ويزول عنه اسم الكفر، ويثبت له أحكام المسلمين. والمقصود معرفة ما قدمناه، من أن للدين ثلاث مراتب: أولها الإسلام، وأوسطها الإيمان، وأعلاها الإحسان. ومن وصل إلى العليا فقد وصل إلى التي قبلها؛ فالمحسن مؤمن، والمؤمن مسلم، وأما المسلم فلا يجب أن يكون مؤمنا. وهذا التفصيل الذي أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل جاء به القرآن، فجعل الأمة على هذه الأوصاف الثلاثة ; فقال تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} الآية [سورة فاطر آية: 32] . فالمسلم الذي لم يقم بواجب   1- البخاري: الإيمان 22 , ومسلم: الإيمان 183 , وأحمد 3/56. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 الإيمان: هو الظالم لنفسه، والمقتصد: هو المؤمن المطلق الذي أدى الواجب، وترك المحرم، والسابق بالخيرات هو المحسن الذي عبد الله كأنه يراه. وقد ذكر سبحانه تقسيم الناس في المعاد إلى هذه الثلاثة الأقسام في سورة: (الواقعة) ، (والمطففين) ، (وهل أتى) ، وقال أبو سليمان الخطابي - رحمه الله -: فأكثر ما يغلط الناس في هذه المسألة، فأما الزهري فقال: الإسلام الكلمة، والإيمان العمل، واحتج بالآية. وذهب غيره إلى أن الإسلام والإيمان شيء واحد، واحتج بقوله: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [سورة الذّاريات آية: 36] . قال: والصحيح من ذلك أن يقيد الكلام في هذا ولا يطلق ; وذلك أن المسلم قد يكون مؤمنا في بعض الأحوال؛ ولا يكون مؤمنا في بعضها، والمؤمن مسلم في جميع الأحوال، فكل مؤمن مسلم، وليس كل مسلم مؤمنا ; وإذا حملت الأمر على هذا، استقام لك تأويل الآيات، واتحد القول فيها، ولم يختلف شيء منها. قال الشيخ تقي الدين: والذي اختاره الخطابي هو قول من فرق بينهما، كأبي جعفر، وحماد بن زيد، وعبد الرحمن بن مهدي، وهو قول أحمد بن حنبل، وغيره، وما علمت أحدا من المتقدمين خالف هؤلاء، وجعل نفس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 الإسلام نفس الإيمان ; ولهذا كان عامة أهل السنة على هذا الذي قاله هؤلاء كما ذكره الخطابي، وكذلك ذكر أبو قاسم التيمي الأصبهاني، وابنه محمد، شارح مسلم، وغيرهما أنه المختار عند أهل السنة، وأنه لا يطلق على السارق والزاني اسم مؤمن، كما دل عليه النص. فصل: (تفاضل الناس في التوحيد والإيمان) إذا تمهدت هذه القاعدة، تبين لك أن الناس يتفاضلون في التوحيد، تفاضلا عظيما، ويكونون فيه على درجات بعضها أعلى من بعض. فمنهم من يدخل الجنة بغير حساب ولا عذاب، كما دلت عليه النصوص الصريحة الصحيحة، ومنهم من يدخل النار، وهم العصاة، ويمكثون فيها على قدر ذنوبهم، ثم يخرجون منها لأجل ما في قلوبهم من التوحيد والإيمان؛ وهم في ذلك متفاوتون، كما في الحديث الصحيح، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: " أخرجوا من النار من قال لا إله إلا الله، وفي قلبه من الخير ما يزن برة " 1 وفي لفظ: " شعيرة"، وفي لفظ: " ذرة "، وفي لفظ: " حبة خردل من إيمان "2. ومن تأمل النصوص، تبين له أن الناس يتفاضلون في التوحيد والإيمان، تفاضلا عظيما، وذلك بحسب ما في قلوبهم من الإيمان بالله، والمعرفة الصادقة، والإخلاص، واليقين، والله أعلم.   1 البخاري: الإيمان (44) , ومسلم: الإيمان (193) , والترمذي: صفة جهنم (2593) , وابن ماجه: الزهد (4312) , وأحمد (3/173 ,3/276) . 2 البخاري: الإيمان (22) , وأحمد (3/56) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 فصل: (فضائل أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم) وأما السؤال عما ورد في فضائل أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم؟ فنقول: قد صح في فضائل أهل البيت أحاديث كثيرة، وأما كثير من الأحاديث التي يرويها من صنف في فضائل أهل البيت، فأكثرها لا يصححه الحفاظ ; وفيما صح في ذلك كفاية. وأما قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} [سورة الأحزاب آية: 33] . وقول من قال: إن الإرادة أزلية لا تبدل، وأن " إنما " للحصر، وغير ذلك، فنقول: قد ذكر أهل العلم أن الآية لا تدل على عصمتهم من الذنوب، يدل على ذلك أن أكابر أهل البيت كالحسن، والحسين، وابن عباس لم يدّعوا لأنفسهم العصمة، ولا استدل أحد منهم بهذه الآية على عصمتهم. وقد ذكر العلماء أن الإرادة في كتاب الله على نوعين: إرادة قدرية، وإرادة شرعية؛ فالإرادة القدرية لا تبدل ولا تغير، والإرادة الشرعية قد تغير وتبدل. فمن الأول قوله تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ} [سورة الإسراء آية: 16] ، وقوله تعالى: {وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ} [سورة الرعد آية: 11] ، وقوله تعالى: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} الآيتين [سورة القصص آية: 56-] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 ومن الثاني، قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ} [سورة النساء آية: 26] . فقوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ} [سورة الأحزاب آية: 33] ، كقوله: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} [سورة المائدة آية: 6] ، وكقوله: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [سورة البقرة آية: 185] ، وكقوله: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ} [سورة النساء آية: 26] . فإن إرادة الله في هذه الآية متضمنة لمحبة الله، فذكر المراد ورضاه به، وأنه شرعه للمؤمنين وأمرهم به، ليس في ذلك خلف هذا المراد، لا أنه قضاؤه وقدره. والدليل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه الآية قال: " اللهم أهل بيتي، فأذهب عنهم الرجس، وطهرهم تطهيرا " 1، فطلب من الله إذهاب الرجس والتطهير، فلو كانت الآية تقتضي إخبار الله بأنه أذهب عنهم الرجس وطهرهم، لم يحتج إلى الطلب والدعاء، وهذا على قول القدرية أظهر ; فإن إرادة الله عندهم لا تتضمن وجوب المراد، بل قد يريد ما لا يكون، ويكون ما لا يريد، فليس في قوله تعالى: {يُرِيدُ} أنه قدر ما يدل على وقوعه. ومن العجب أن الشيعة يحتجون بهذه الآية، على عصمة أهل البيت، ومذهبهم في القدر من جنس مذهب   1 الترمذي: تفسير القرآن (3205) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 القدرية، الذين يقولون: إن الله قد أراد إيمان كل من على وجه الأرض فلم يقع مراده. وأما على قول أهل السنة والتحقيق فهو ما تقدم، وهو أن يقال: الإرادة في كتاب الله نوعان: إرادة شرعية دينية، تتضمن محبته ورضاه، وإرادة كونية قدرية، تتضمن خلقه وتقديره. فالأولى كقوله: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ} [سورة النساء آية: 26] . والثانية كقوله: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ} الآية [سورة الأنعام آية: 125] . وقوله: {وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} [سورة هود آية: 34] . ومثل ذلك كثير في القرآن. فالله تعالى قد أخبر أنه يريد أن يتوب على المؤمنين ويطهرهم، وفيه من تاب، وفيه من لم يتب، وفيه من تطهر، وفيه من لم يتطهر، فإذا كانت الآية ليس فيها دلالة على وقوع ما أراده من التطهير، وإذهاب الرجس، لم يلزم بمجرد الآية ثبوت ما ادعاه هؤلاء. ومما يبين أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم مذكورات في الآية، قوله تعالى: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحاً نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ} [سورة الأحزاب آية: 30-31] إلى قوله: {وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 لَطِيفاً خَبِيراً} [سورة آية: 33-34] . فالخطاب كله لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم وفيهن الأمر والنهي، والوعد والوعيد، لكن لما كان ما ذكره سبحانه أنه يعمهن، ويعم غيرهن من أهل البيت، جاء لفظ التزكية، فقال: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} [سورة الأحزاب آية: 33] . والذي يريد الله من حصول إذهاب الرجس وحصول التطهير، فهذا الخطاب وغيره، ليس مختصا بأزواجه، بل هو يتناول لأهل البيت كلهم، وعلي، وفاطمة، والحسن، والحسين أخص من غيرهم بذلك ; وكذلك خصهم النبي صلى الله عليه وسلم بالدعاء لهم، ولهذا كما أن قوله: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ} [سورة التوبة آية: 108] ، نزل بسبب مسجد قباء، ولكن الحكم يتناوله ويتناول ما هو أحق منه بذلك، وهو مسجد المدينة. وفي الصحيح: " أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن المسجد الذي أسس على التقوى، فقال: هو مسجدي هذا " 1. وفي الصحيح: " أنه كان يأتي قباء كل سبت، راكبا وماشيا، وكان يقوم في مسجده يوم الجمعة، ويأتي قباء يوم السبت " 2 وكلاهما مؤسس على التقوى. وهكذا أزواجه، وعلي، وفاطمة، والحسن، والحسين، كلهم من أهل البيت، لكن علي وفاطمة، والحسن والحسين، أخص بذلك من أزواجه ; فلهذا خصهم بالدعاء.   1 أحمد (5/116) . 2 البخاري: الجمعة (1193) , ومسلم: الحج (1399) , والنسائي: المساجد (698) , وأبو داود: المناسك (2040) , وأحمد (2/30 ,2/57 ,2/80 ,2/101 ,2/107 ,2/155) , ومالك: النداء للصلاة (402) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 فصل: (ذكر ما يطلق عليه اسم الآل) وأما قولكم: ومن يطلق عليه اسم الآل؟ فنقول: قد تنازع العلماء في آل محمد مَنْ هم؟ فقيل: هم أمته، وهذا قول طائفة من أصحاب مالك، وأحمد وغيرهم. وقيل: المتقون من أمته ; ورووا حديثا: " آل محمد كل تقي " رواه الخلال، وتمامه في فوائده، وهو حديث لا أصل له. والصحيح أن آل محمد هم أهل بيته، وهذا هو المنقول عن الشافعي وأحمد، لكن هل أزواجه من آله؟ على قولين هما روايتان عن أحمد، والصحيح أن أزواجه من آله، فإنه قد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه علمهم الصلاة عليه: " اللهم صل على محمد، وأزواجه، وذريته " 1؛ ولأن امرأة إبراهيم من آله وأهل بيته، وامرأة لوط من آله وأهل بيته، والآية المذكورة، تدل على أنهن من أهل بيته. وأما الأتقياء من أمته فهم أولياؤه، كما ثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن آل بني فلان ليسوا لي بأولياء، إن وليي الله، وصالح المؤمنين " 2. فأولياؤه المتقون، بينه وبينهم قرابة الدين، والإيمان، والتقوى؛ والقرب بين القلوب والأرواح أعظم من القرب بين الأبدان. وأما أقاربه ففيهم المؤمن والكافر، والبر والفاجر؛ ومن كان فاضلا منهم، كعلي وجعفر، والحسن والحسين، وابن عباس، فتفضيلهم لما فيهم من الإيمان والتقوى؛ وهم أولياؤه   1 البخاري: أحاديث الأنبياء (3369) , ومسلم: الصلاة (407) , والنسائي: السهو (1294) , وأبو داود: الصلاة (979) , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (905) , وأحمد (5/424) , ومالك: النداء للصلاة (397) . 2 البخاري: الأدب (5990) , ومسلم: الإيمان (215) , وأحمد (4/203) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 بهذا الاعتبار لا مجرد النسب ; فأولياؤه قد يكونون أعظم درجة من آله، وأنه إذا صلى على آله تبعا لم يقتض ذلك أن يكونوا أفضل من أوليائه، وهم أفضل من أهل بيته، وإن لم يدخلوا في الصلاة معه تبعا، فالمفضول قد يختص بأمر، ولا يكون أفضل من الفاضل، وأزواجه ممن يصلى عليهن، كما ثبت ذلك في الصحيحين، وقد ثبت باتفاق العلماء كلهم أن الأنبياء أفضل منهم، والله أعلم. فصل: (الكلام عن الحروب التي وقعت بين الصحابة) وسئلوا عن الحروب التي وقعت بين الصحابة رضي الله عنهم؟ فأجابوا: فصل: وأما الحروب التي وقعت بين الصحابة، فالصواب فيها قول أهل السنة والجماعة، وهو الذي نعتقده دينا ونرضاه مذهبا؛ وهو السكوت عما شجر بينهم، والترضي عنهم، وموالاتهم، ومحبتهم كلهم، رضوان الله عليهم أجمعين. وذلك أن الله تبارك وتعالى، أخبر أنه قد رضي عنهم، ومدحهم في غير آية من القرآن ; وإنما فعلوا ما فعلوه من الحروب والقتال بتأويل، ولهم من الحسنات العظيمة الماحية للذنوب ما ليس لغيرهم. ونعتقد أن عليا رضي الله عنه أقرب إلى الحق من معاوية وأصحابه كما ثبت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " تمرق مارقة على حين فرقة من الناس، يقتلهم أقرب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 الطائفتين إلى الحق " 1. فخرج الخوارج، أهل النهروان، الحرورية، في وقت حرب علي ومعاوية، فقتلهم أمير المؤمنين علي رضي الله عنه وأصحابه، بحروراء، قرب الكوفة، بعدما أغاروا على الناس، وسفكوا الدم الحرام، واستباحوا دماء المسلمين وأموالهم. فأرسل إليهم علي رضي الله عنه ابن عباس، ووعظهم، وذكرهم، وكشف شبهتهم، فرجع كثير منهم، وخرج بقيتهم على علي رضي الله عنه حتى قتلهم عن آخرهم. وأمر بالمخدج أن يلتمس، فالتمس، فوجدوه على النعت الذي نعته رسول الله صلى الله عليه وسلم إحدى يديه مثل ثدي المرأة، فسجد علي رضي الله عنه شكرا لله. فبذلك ثبت أن عليا أقرب إلى الحق من معاوية. وما أحسن ما قال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه لما سئل عن الحروب التي وقعت بين الصحابة، فقال: تلك دماء طهر الله يدي منها، أفلا أطهر لساني من الكلام، أو نحو ذلك.   1 مسلم: الزكاة (1065) , وأبو داود: السنة (4667) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 (مذهب الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأبناؤه في الصحابة) وسئل أيضا أبناء الشيخ، وحمد بن ناصر رحمهم الله عن مذهبهم في الصحابة رضي الله عنهم؟ فأجابوا: مذهبنا في الصحابة هو مذهب أهل السنة والجماعة، وهو أن أفضلهم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر، وأفضلهم بعد أبي بكر عمر، وأفضلهم بعد عمر عثمان، وأفضلهم بعد عثمان علي رضي الله عنهم. ومنْزلتهم في الخلافة كمنْزلتهم في الفضل. وقد نازع بعض أهل السنة في أفضلية عثمان على علي، فجزم قوم بتفضيل علي على عثمان، ولكن الذي عليه الأئمة الأربعة وأتباعهم هو الأول. قال الذهبي رحمه الله: تواتر عن علي رضي الله عنه أنه قال: " خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر وخيرهم بعد أبي بكر عمر " انتهى. ثم بعد هؤلاء الأربعة في الفضيلة، عند أهل السنة: الستة بقية العشرة، ثم أهل بدر، ثم أهل بيعة الرضوان، ثم بقية الصحابة رضي الله عنهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 فصل: (هل سبق كتاب من الله في المعاصي أنها ستقع) وأما قولكم: هل سبق كتاب من الله في المعاصي أنها ستقع؟ فنقول: قد سبق بذلك الكتاب، وجرى به القلم، وعلم سبحانه ما خلقه عاملوه قبل أن يعملوه، وتواترت بذلك الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصحيحين والسنن والمسانيد وغيرها ; ودل عليه كتاب الله، قال الله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [سورة القمر آية: 49] ، و {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً} [سورة الفرقان آية: 2] . وهذا يعم الذوات والهيئات والجواهر والأعراض. وثبت في الصحيحين من حديث عمران بن حصين: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " كان الله ولم يكن شيء قبله، وكان عرشه على الماء، فخلق السماوات والأرض، وأثبت في الذكر كل شيء " 1. وثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: " جف القلم بما أنت لاق " 2. وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة " 3. وهذا الأصل هو أحد الأصول الستة التي في حديث جبريل لما سأل محمدا صلى الله عليه وسلم عن الإيمان فقال: " أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وبالقدر خيره   1 البخاري: التوحيد (7418) , وأحمد (4/431) . 2 البخاري: النكاح (5076) , ومسلم: النكاح (1404) , وأحمد (1/420) . 3 مسلم: القدر (2653) , والترمذي: القدر (2156) , وأحمد (2/169) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 وشره " 1. وهذا أجمع عليه أهل السنة والجماعة. ولم يخالف في ذلك إلا مجوس هذه الأمة القدرية، فأنكروا أن يكون الله قدر أفعال العباد، أو شاء وقوعها منهم، وزعموا أن الأمر أنف، أي مستأنف، وزعموا أن الله لا يقدر يهدي من يشاء ويضل من يشاء، وإنما ذلك إلى العباد. وقد خرجوا في أواخر عهد الصحابة، وتبرأ منهم عبد الله بن عمر بن الخطاب لما خرجوا في زمانه، وأنكر مذهبهم وعقيدتهم، وكذلك غيره من الصحابة، والقصة في ذلك محررة في صحيح مسلم. وأول من قال هذا القول معبد الجهني بالبصرة. والله سبحانه يخلق ما يشاء، ويحكم ما يريد، لا يسأل عما يفعل، ولا معقب لحكمه، ولا راد لقضائه، وهو الحكم العدل، الذي تنَزه عن الظلم والفحش، كما قال تعالى: {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [سورة الكهف آية: 49] . وقال:} وماربك بظلام للعبيد { [سورة فصلت آية: 46] . وقال تعالى في أهل النار: {وَمَاظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ} [سورة الزخرف آية: 76] . وقال تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْماً وَلا هَضْما} [سورة طه آية: 112] ، وفي حديث أبي ذر الغفاري رضي الله عنه الإلهي، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يرويه عن ربه قال: " إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا " 2 الحديث بطوله خرجه مسلم في صحيحه. وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه المسألة بعينها، فأجاب بما شفى وكفى، فروى مسلم في صحيحه عن عمران بن   1 مسلم: الإيمان (8) , والترمذي: الإيمان (2610) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (4990) , وأبو داود: السنة (4695) , وابن ماجه: المقدمة (63) , وأحمد (1/28 ,1/51) . 2 مسلم: البر والصلة والآداب (2577) , وأحمد (5/160) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 حصين رضي الله عنه: " أن رجلا من جهينة، أو مزينة، قال: يا رسول الله، أرأيت ما يعمل الناس ويكدحون فيه؟ أشيء قضي عليهم ومضى عليهم من قدر سبق؟ أو فيما يستقبلون به مما أتاهم به نبيهم وثبتت الحجة عليهم؟ قال: بل شيء قضي عليهم ومضى فيهم " 1. وتصديق ذلك في كتاب الله عز وجل: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَ} [سورة الشمس آية: 7-8] . وفيما ذكرنا كفاية لمن هداه الله، والله أعلم. فصل: (هل القدر في الخير والشر على العموم جميعا من الله) وأما قولكم: هل القدر في الخير والشر على العموم جميعا من الله، أم لا؟ فنقول: القدر في الخير والشر على العموم، كما تقدم ذكره عن علي رضي الله عنه قال: " كنا في جنازة في بقيع الغرقد، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقعد، فقعدنا حوله، ومعه مخصرة، فنكس، فجعل ينكت بمخصرته، ثم قال: ما منكم من أحد، ما من نفس منفوسة، إلا وقد كتب الله مكانها في الجنة والنار، وإلا قد كتبت شقية أو سعيدة. قال: فقال رجل، أفلا نمكث على كتابنا وندع العمل؟ فقال: من كان من أهل السعادة فسيصير إلى عمل أهل السعادة، ومن كان من أهل الشقاوة فسيصير إلى عمل أهل الشقاوة. ثم قرأ {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ   1 مسلم: القدر (2650) , وأحمد (4/438) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [سورة الليل آية: 5-6-7-8-9-10] ". وفي الحديث " اعملوا فكل ميسر، أما أهل الشقاوة فييسرون لعمل أهل الشقاوة، وأما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة. ثم قرأ: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى} 1 الآيتين " والله أعلم. (عقيدة الشيخ ابن عبد الوهاب في العمل في العبادة) وسئل أيضا ابنا الشيخ محمد، حسين وعبد الله، عن عقيدة الشيخ في العمل في العبادة. فأجابا: عقيدة الشيخ - رحمه الله تعالى - التي يدين الله بها، هي عقيدتنا وديننا الذي ندين الله به، وهو عقيدة سلف الأمة وأئمتها من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وهو اتباع ما دل عليه الدليل من كتاب الله تعالى، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعرض أقوال العلماء على ذلك، فما وافق كتاب الله وسنة رسوله قبلناه وأفتينا به، وما خالف ذلك رددناه على قائله. وهذا هو الأصل الذي أوصانا الله به في كتابه، حيث قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} الآية [سورة النساء آية: 59] . أجمع المفسرون على أن الرد إلى الله هو الرد إلى كتابه، وأن الرد إلى الرسول هو الرد إليه في حياته، وإلى سنته بعد وفاته، والأدلة على هذا الأصل كثيرة في الكتاب والسنة، ليس هذا موضع بسطها.   1 البخاري: تفسير القرآن (4949) , ومسلم: القدر (2647) , والترمذي: تفسير القرآن (3344) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 وإذا تفقه الرجل في مذهب من المذاهب الأربعة، ثم رأى حديثا يخالف مذهبه فاتبع الدليل وترك مذهبه، كان هذا مستحبا، بل واجبا عليه إذا تبين له الدليل، ولا يكون مخالفا لإمامه الذي اتبعه؛ فإن الأئمة كلهم متفقون على هذا الأصل، أبو حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد، رضي الله عنهم أجمعين. قال الإمام مالك رحمه الله: كل أحد يؤخذ من قوله ويترك، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال الشافعي - رحمه الله - لأصحابه: إذا صح الحديث عندكم فاضربوا بقولي الحائط، وفي لفظ: إذا صح الحديث فهو مذهبي. وقال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله: عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته، يذهبون إلى رأي سفيان، والله تعالى يقول: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [سورة النور آية: 63] . أتدري ما الفتنة؟ الفتنة: الشرك ; لعله إذا رد بعض قوله، أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك. وقال لبعض أصحابه: لا تقلدوني، ولا تقلدوا مالكا ولا الشافعي، وتعلموا كما تعلمنا. وكلام الأئمة في هذا كثير جدا مبسوط في غير هذا الموضع. وأما إذا لم يكن عند الرجل دليل في المسألة، يخالف القول الذي نص عليه العلماء أصحاب المذاهب، فنرجو أنه يجوز العمل به، لأن رأيهم لنا خير من رأينا لأنفسنا، وهم إنما أخذوا الأدلة من أقوال الصحابة فمن بعدهم ; الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 ولكن لا ينبغي الجزم بأن هذا شرع الله ورسوله صلى الله عليه وسلم حتى يتبين الدليل الذي لا معارض له في المسألة ; وهذا عمل سلف الأمة وأئمتها، قديما وحديثا. والذي ننكر هو التعصب للمذهب، وترك اتباع الدليل، إذا تبين هذا، فهذا الذي أنكرناه، وأنكره العلماء في القديم والحديث، والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 (رسالة الشيخ عبد الله آل الشيخ عندما دخلوا مكة، وبيان ما يطلبون من الناس ويقاتلونهم عليه) وقال أيضا الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمهما الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد الأمين، وعلى آله وصحبه والتابعين، وبعد: فإنا معاشر غزو الموحدين، لما منّ الله علينا - وله الحمد - بدخول مكة المشرفة نصف النهار، يوم السبت، في ثامن شهر محرم الحرام، سنة 1218 هـ، بعد أن طلب أشراف مكة، وعلماؤها وكافة العامة من أمير الغزو "سعود" الأمان، وقد كانوا تواطؤوا مع أمراء الحجيج، وأمير مكة على قتاله، أو الإقامة في الحرم، ليصدوه عن البيت. فلما زحفت أجناد الموحدين، ألقى الله الرعب في قلوبهم، فتفرقوا شذر مذر، كل واحد يعد الإياب غنيمة. وبذل الأمير حينئذ الأمان لمن بالحرم الشريف، ودخلنا وشعارنا التلبية، آمنين محلقين رؤوسنا ومقصرين، غير خائفين من أحد من المخلوقين، بل من مالك يوم الدين. ومن حين دخل الجند الحرم، وهم على كثرتهم مضبوطون، متأدبون، لم يعضدوا به شجرا، ولم ينفروا صيدا، ولم يريقوا دما إلا دم الهدي، أو ما أحل الله من بهيمة الأنعام على الوجه المشروع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 ولما تمت عمرتنا جمعنا الناس ضحوة الأحد، وعرض الأمير - رحمه الله - على العلماء ما نطلب من الناس ونقاتلهم عليه، وهو إخلاص التوحيد لله تعالى وحده. وعرفهم أنه لم يكن بيننا وبينهم خلاف له وقع إلا في أمرين: أحدهما: إخلاص التوحيد لله تعالى، ومعرفة أنواع العبادة، وأن الدعاء من جملتها، وتحقيق معنى الشرك، الذي قاتل الناس عليه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. واستمر دعاؤه برهة من الزمان بعد النبوة إلى ذلك التوحيد وترك الإشراك قبل أن تفرض عليه أركان الإسلام الأربعة. والثاني: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الذي لم يبق عندهم إلا اسمه، وانمحى أثره ورسمه. فوافقونا على استحسان ما نحن عليه جملة وتفصيلا، وبايعوا الأمير على الكتاب والسنة، وقبل منهم، وعفا عنهم كافة، فلم يحصل على أحد منهم أدنى مشقة، ولم يزل يرفق بهم غاية الرفق، لا سيما العلماء؛ ونقرر لهم حال اجتماعهم، وحال انفرادهم لدينا أدلة ما نحن عليه، ونطلب منهم المناصحة والمذاكرة وبيان الحق. وعرفناهم بأن صرح لهم الأمير حال اجتماعهم، بأنا قابلون ما وضحوا برهانه، من كتاب، أو سنة، أو أثر عن السلف الصالح، كالخلفاء الراشدين، المأمورين باتباعهم، بقوله صلى الله عليه وسلم: " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي "، أو عن الأئمة الأربعة المجتهدين، ومن تلقى العلم عنهم، إلى آخر القرن الثالث، لقوله صلى الله عليه وسلم: " خيركم قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 يلونهم " 1. وعرفناهم أنا دائرون مع الحق أينما دار، وتابعون للدليل الجلي الواضح ; ولا نبالي حينئذ بمخالفة ما سلف عليه من قبلنا. فلم ينقموا علينا أمرا، فألحينا عليهم في مسألة طلب الحاجات من الأموات، إن بقي لديهم شبهة، فذكر بعضهم شبهة، أو شبهتين، فرددناها بالدلائل القاطعة، من الكتاب، والسنة، حتى أذعنوا. ولم يبق عند أحد منهم شك ولا ارتياب، فيما قاتلنا الناس عليه، أنه الحق الجلي، الذي لا غبار عليه. وحلفوا لنا الأيمان المغلظة، من دون استحلاف لهم، على انشراح صدورهم، وجزم ضمائرهم أنه لم يبق لديهم شك، في أن من قال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو يا ابن عباس، أو يا عبد القادر، أو غيرهم من المخلوقين، طالبا بذلك دفع شر، أو جلب خير، من كل ما لا يقدر عليه إلا الله تعالى، من شفاء المريض، والنصر على العدو، والحفظ من المكروه، ونحو ذلك، أنه مشرك شركا أكبر، يهدر دمه، ويبيح ماله، وإن كان يعتقد أن الفاعل المؤثر في تصريف الكون، هو الله تعالى وحده، لكنه قصد المخلوقين بالدعاء، متشفعا بهم، ومتقربا بهم، لتقضى حاجته من الله بسرهم، وشفاعتهم له فيها، أيام البرزخ. وأن ما وضع من البناء على قبور الصالحين صارت في هذه الأزمان أصناما تقصد لطلب الحاجات، ويتضرع   1 البخاري: الشهادات (2651) , ومسلم: فضائل الصحابة (2535) , والترمذي: الفتن (2221) , والنسائي: الأيمان والنذور (3809) , وأحمد (4/427 ,4/436) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 عندها، ويهتف بأهلها في الشدائد، كما كانت تفعله الجاهلية الأولى. وكان من جملتهم مفتي الحنفية الشيخ عبد الملك القلعي، وحسين المغربي مفتي المالكية، وعقيل بن يحيى العلوي ; فبعد ذلك أزلنا جميع ما كان يعبد بالتعظيم والاعتقاد فيه، ويرجى النفع والنصر بسببه، من جميع البناء على القبور وغيرها، حتى لم يبق في تلك البقعة المطهرة طاغوت يعبد. فالحمد لله على ذلك. ثم رفعت المكوس، والرسوم، وكسرت آلات التنباك، ونودي بتحريمه، وأحرقت أماكن الحشاشين، والمشهورين بالفجور، ونودي بالمواظبة على الصلوات في الجماعات، وعدم التفرق في ذلك، بأن يجتمعوا في كل صلاة على إمام واحد، ويكون ذلك الإمام من أحد المقلدين للأربعة، رضوان الله عليهم. واجتمعت الكلمة حينئذ، وعبد الله وحده، وحصلت الألفة، وسقطت الكلفة، وأمر عليهم، واستتب الأمر من دون سفك دم، ولا هتك عرض، ولا مشقة على أحد، والحمد لله رب العالمين. ثم دفعت لهم الرسائل المؤلفة للشيخ محمد في التوحيد المتضمنة للبراهين، وتقرير الأدلة على ذلك بالآيات المحكمات والأحاديث المتواترة، مما يثلج الصدر ; واختصر من ذلك رسالة 1 مختصرة للعوام، تنشر في مجالسهم،   1 وهي قوله: اعلم أرشدك الله لطاعته أن الحنيفية ملة إبراهيم إلى آخرها وتقدمت, انظر ص 126 وص 146. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 وتدرس في محافلهم، ويبين لهم العلماء معانيها، ليعرفوا التوحيد فيتمسكوا بعروته الوثيقة، فيتضح لهم الشرك، فينفروا عنه، وهم على بصيرة آمنين. وكان فيمن حضر مع علماء مكة، وشاهد غالب ما صار: حسين بن محمد بن الحسين الإبريقي الحضرمي، ثم الحياني، ولم يزل يتردد علينا، ويجتمع بسعود وخاصته من أهل المعرفة، ويسأل عن مسألة الشفاعة التي جرد السيف بسببها، من دون حياء ولا خجل، لعدم سابقة جرم له. فأخبرناه بأن مذهبنا في أصول الدين، مذهب أهل السنة والجماعة، وطريقتنا طريقة السلف، التي هي الطريق الأسلم، بل والأعلم والأحكم، خلافا لمن قال طريق الخلف أعلم. وهي أنا نقر آيات الصفات، وأحاديثها على ظاهرها، ونكل معناها مع اعتقاد حقائقها إلى الله تعالى ; فإن مالكا - وهو من أجل علماء السلف - لما سئل عن الاستواء، في قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [سورة طه آية: 5] . قال: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة. ونعتقد أن الخير والشر كله بمشيئة الله تعالى، ولا يكون في ملكه إلا ما أراد، فإن العبد لا يقدر على خلق أفعاله، بل له كسب، رتب عليه الثواب فضلا، والعقاب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 عدلا، ولا يجب على الله لعبده شيء ; وأنه يراه المؤمنون في الآخرة، بلا كيف ولا إحاطة. ونحن أيضا في الفروع، على مذهب الإمام أحمد بن حنبل، ولا ننكر على من قلد أحد الأئمة الأربعة، دون غيرهم، لعدم ضبط مذاهب الغير، الرافضة، والزيدية، والإمامية، ونحوهم، ولا نقرهم ظاهرا على شيء من مذاهبهم الفاسدة، بل نجبرهم على تقليد أحد الأئمة الأربعة. ولا نستحق مرتبة الاجتهاد المطلق، ولا أحد لدينا يدعيها، إلا أننا في بعض المسائل، إذا صح لنا نص جلي، من كتاب، أو سنة غير منسوخ، ولا مخصص، ولا معارض بأقوى منه، وقال به أحد الأئمة الأربعة: أخذنا به، وتركنا المذهب، كإرث الجد والأخوة، فإنا نقدم الجد بالإرث، وإن خالف مذهب الحنابلة. ولا نفتش على أحد في مذهبه، ولا نعترض عليه، إلا إذا اطلعنا على نص جلي، مخالف لمذهب أحد الأئمة، وكانت المسألة مما يحصل بها شعار ظاهر، كإمام الصلاة، فنأمر الحنفي، والمالكي مثلا، بالمحافظة على نحو الطمأنينة في الاعتدال، والجلوس بين السجدتين، لوضوح دليل ذلك، بخلاف جهر الإمام الشافعي بالبسملة، فلا نأمره بالإسرار، وشتان ما بين المسألتين، فإذا قوي الدليل أرشدناهم بالنص، وإن خالف المذهب، وذلك يكون نادرا جدا. ولا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 مانع من الاجتهاد في بعض المسائل دون بعض، فلا مناقضة لعدم دعوى الاجتهاد، وقد سبق جمع من أئمة المذاهب الأربعة، إلى اختيارات لهم في بعض المسائل، مخالفين للمذهب، الملتزمين تقليد صاحبه. ثم إنا نستعين على فهم كتاب الله، بالتفاسير المتداولة المعتبرة، ومن أجلها لدينا: تفسير ابن جرير، ومختصره لابن كثير الشافعي، وكذا البغوي، والبيضاوي، والخازن، والحداد، والجلالين، وغيرهم، وعلى فهم الحديث، بشروح الأئمة المبرزين: كالعسقلاني، والقسطلاني، على البخاري، والنووي على مسلم، والمناوي على الجامع الصغير. ونحرص على كتب الحديث، خصوصا: الأمهات الست، وشروحها، ونعتني بسائر الكتب، في سائر الفنون، أصولا، وفروعا، وقواعد، وسيرا، ونحوا، وصرفا، وجميع علوم الأمة. ولا نأمر بإتلاف شيء من المؤلفات أصلا، إلا ما اشتمل على ما يوقع الناس في الشرك، كروض الرياحين، أو يحصل بسببه خلل في العقائد، كعلم المنطق، فإنه قد حرمه جمع من العلماء، على أنا لا نفحص عن مثل ذلك، وكالدلائل، إلا إن تظاهر به صاحبه معاندا، أتلف عليه، وما اتفق لبعض البدو، في إتلاف بعض كتب أهل الطائف، إنما صدر منه لجهله، وقد زجر هو وغيره عن مثل ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 ومما نحن عليه: أنا لا نرى سبي العرب، ولم نفعله، ولم نقاتل غيرهم، ولا نرى قتل النساء والصبيان. وأما ما يكذب علينا - سترا للحق، وتلبيسا على الخلق - بأنا نفسر القرآن برأينا، ونأخذ من الحديث ما وافق فهمنا، من دون مراجعة شرح، ولا معول على شيخ، وأنا نضع من رتبة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بقولنا: النبي رمة في قبره، وعصا أحدنا أنفع له منه، وليس له شفاعة، وأن زيارته غير مندوبة، وأنه كان لا يعرف معنى لا إله إلا الله، حتى أنزل عليه {فاعلم أنه لا إله إلا الله} ، مع كون الآية مدنية، وأنا لا نعتمد على أقوال العلماء، ونتلف مؤلفات أهل المذاهب، لكون فيها الحق والباطل، وأنا مجسمة، وأنا نكفر الناس على الإطلاق أهل زماننا، ومن بعد الستمائة، إلا من هو على ما نحن عليه. ومن فروع ذلك: أنا لا نقبل بيعة أحد إلا بعد التقرير عليه بأنه كان مشركا، وأن أبويه ماتا على الإشراك بالله، وإنا ننهى عن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ونحرم زيارة القبور المشروعة مطلقا، وأن من دان بما نحن عليه، سقطت عنه جميع التبعات، حتى الديون، وأنا لا نرى حقا لأهل البيت - رضوان الله عليهم -، وأنا نجبرهم على تزويج غير الكفء لهم، وأنا نجبر بعض الشيوخ على فراق زوجته الشابة، لتنكح شابا، إذا ترافعوا إلينا، فلا وجه لذلك، فجميع هذه الخرافات. وأشباهها لما استفهمنا عنها من ذكر أولا، كان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 جوابنا في كل مسألة من ذلك: سبحانك هذا بهتان عظيم، فمن روى عنا شيئا من ذلك، أو نسبه إلينا، فقد كذب علينا وافترى. ومن شاهد حالنا، وحضر مجالسنا، وتحقق ما عندنا، علم قطعا أن جميع ذلك وضعه وافتراه علينا أعداء الدين، وإخوان الشياطين، تنفيرا للناس عن الإذعان بإخلاص التوحيد لله تعالى بالعبادة، وترك أنواع الشرك، الذي نص الله عليه، بأن الله لا يغفره {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [سورة النساء آية: 48] . فإنا نعتقد أن من فعل أنواعا من الكبائر، كقتل المسلم بغير حق، والزنى، والربا، وشرب الخمر، وتكرر منه ذلك؛ أنه لا يخرج بفعله ذلك عن دائرة الإسلام، ولا يخلد به في دار الانتقام، إذا مات موحدا بجميع أنواع العبادة. والذي نعتقده أن رتبة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أعلى مراتب المخلوقين على الإطلاق، وأنه حي في قبره، حياة برزخية، أبلغ من حياة الشهداء المنصوص عليها في التنْزيل، إذ هو أفضل منهم بلا ريب، وأنه يسمع سلام المسلم عليه، وتسن زيارته، إلا أنه لا يشد الرحل إلا لزيارة المسجد والصلاة فيه، إذا قصد مع ذلك الزيارة فلا بأس، ومن أنفق نفيس أوقاته بالاشتغال بالصلاة عليه - عليه الصلاة والسلام - الواردة عنه، فقد فاز بسعادة الدارين، وكفي همه وغمه، كما جاء في الحديث عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 ولا ننكر كرامات الأولياء، ونعترف لهم بالحق وأنهم على هدى من ربهم، مهما ساروا على الطريقة الشرعية، والقوانين المرعية؛ إلا أنهم لا يستحقون شيئا من أنواع العبادات، لا حال الحياة، ولا بعد الممات؛ بل يطلب من أحدهم الدعاء في حال حياته، بل ومن كل مسلم ; فقد جاء في الحديث: " دعاء المرء المسلم مستجاب لأخيه " 1 الحديث، وأمر صلى الله عليه وسلم عمر، وعليا، بسؤال الاستغفار من "أويس"، ففعلا. ونثبت الشفاعة لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم يوم القيامة حسب ما ورد، وكذلك نثبتها لسائر الأنبياء، والملائكة، والأولياء، والأطفال حسب ما ورد أيضا، ونسألها من المالك لها، والإذن فيها لمن يشاء من الموحدين، الذين هم أسعد الناس بها، كما ورد، بأن يقول أحدنا - متضرعا إلى الله تعالى: اللهم شفع نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم فينا يوم القيامة، أو: اللهم شفع فينا عبادك الصالحين، أو ملائكتك، أو نحو ذلك، مما يطلب من الله، لا منهم؛ فلا يقال: يا رسول الله، أو يا ولي الله، أسألك الشفاعة، أو غيرها، كأدركني، أو أغثني، أو اشفني، أو انصرني على عدوي، ونحو ذلك، مما لا يقدر عليه إلا الله تعالى. فإذا طلب ذلك مما ذكر في أيام البرزخ، كان من أقسام الشرك، إذ لم يرد بذلك نص من كتاب أو سنة، ولا أثر من السلف الصالح في ذلك، بل ورد الكتاب، والسنة وإجماع السلف أن ذلك شرك أكبر، قاتل عليه   1 مسلم: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2733) , وابن ماجه: المناسك (2895) , وأحمد (5/195 ,6/452) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإن قلت: ما نقول في الحلف بغير الله والتوسل به؟ قلت: ننظر إلى حال المقسم، إن قصد به التعظيم كتعظيم الله أو أشد، كما يقع لبعض غلاة المشركين من أهل زماننا، إذا استحلف بشيخه، أي معبوده الذي يعتمد في جميع أموره عليه، لا يرضى أن يحلف إذا كان كاذبا أو شاكا، وإذا استحلف بالله فقط رضي، فهو كافر من أقبح المشركين، وأجهلهم إجماعا. وإن لم يقصد التعظيم، بل سبق لسانه إليه، فهذا ليس بشرك أكبر، فينهى عنه ويزجر، ويؤمر صاحبه بالاستغفار عن تلك الهفوة. وأما التوسل، وهو أن يقول القائل: اللهم إني أتوسل إليك بجاه نبيك محمد صلى الله عليه وسلم أو بحق نبيك، أو بجاه عبادك الصالحين، أو بحق عبدك فلان، فهذا من أقسام البدع المذمومة، ولم يرد بذلك نص، كرفع الصوت بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم عند الأذان. وأما أهل البيت: فقد ورد سؤال على علماء الدرعية في مثل ذلك، وعن جواز نكاح الفاطمية غير الفاطمي، وكان الجواب عليه ما نصه: أهل البيت- رضوان الله عليهم- لا شك في طلب حبهم ومودتهم، لما ورد فيه من كتاب وسنة، فيجب حبهم ومودتهم، إلا أن الإسلام ساوى بين الخلق، فلا فضل لأحد إلا بالتقوى، ولهم مع ذلك التوقير والتكريم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 والإجلال، ولسائر العلماء مثل ذلك، كالجلوس في صدور المجالس، والبداءة بهم في التكريم، والتقديم في الطريق إلى موضع التكريم، ونحو ذلك، إذا تقارب أحدهم مع غيره في السن والعلم. وما اعتيد في بعض البلاد من تقديم صغيرهم وجاهلهم، على من هو أمثل منه، حتى إنه إذا لم يقبل يده كلما صافحه عاتبه، وصارمه، أو ضاربه، أو خاصمه، فهذا مما لم يرد به نص، ولا دل عليه دليل، بل منكر تجب إزالته ولو قبل يد أحدهم لقدوم من سفر، أو لمشيخة علم، أو في بعض أوقات، أو لطول غيبة، فلا بأس به، إلا أنه لما ألف في الجاهلية الأخرى أن التقبيل صار علما لمن يعتقد فيه، أو في أسلافه، أو عادة المتكبرين من غيرهم، نهينا عنه مطلقا، لا سيما لمن ذكر، حسما لذرائع الشرك ما أمكن. وإنما هدمنا بيت السيدة خديجة، وقبة المولد، وبعض الزوايا المنسوبة لبعض الأولياء، حسما لتلك المادة، وتنفيرا عن الإشراك بالله ما أمكن، لعظم شأنه؛ فإنه لا يغفر، وهو أقبح من نسبة الولد لله تعالى، إذ الولد كمال في حق المخلوق، وأما الشرك فنقص حتى في حق المخلوق، لقوله تعالى: {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ} الآية [سورة الروم آية: 28] . وأما نكاح الفاطمية غير الفاطمي فجائز إجماعا، بل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 ولا كراهة في ذلك ; وقد زوج علي عمر بن الخطاب، وكفى بهما قدوة، وتزوجت سكينة بنت الحسين بن علي، بأربعة ليس فيهم فاطمي، بل ولا هاشمي، ولم يزل عمل السلف على ذلك من دون إنكار، إلا أنا لا نجبر أحدا على تزويج موليته، ما لم تطلب هي، وتمتنع من غير الكفء، والعرب أكفاء بعضهم لبعض ; فما اعتيد في بعض البلاد من المنع دليل التكبر، وطلب التعظيم ; وقد يحصل بسبب ذلك فساد كبير، كما ورد؛ بل يجوز الإنكاح لغير الكفء، وقد تزوج زيد - وهو من الموالي - زينب أم المؤمنين، وهي قرشية، والمسألة معروفة عند أهل المذاهب، انتهى. فإن قال قائل منفر عن قبول الحق والإذعان له: يلزم من تقريركم وقطعكم، في أن من قال: يا رسول الله، أسألك الشفاعة، أنه مشرك مهدر الدم، أن يقال بكفر غالب الأمة، ولا سيما المتأخرين، لتصريح علمائهم المعتبرين أن ذلك مندوب، وشنوا الغارة على من خالف في ذلك! قلت: لا يلزم، لأن لازم المذهب ليس بمذهب، كما هو مقرر، ومثل ذلك لا يلزم أن نكون مجسمة، وإن قلنا بجهة العلو، كما ورد الحديث بذلك. ونحن نقول فيمن مات: تلك أمة قد خلت، ولا نكفر إلا من بلغته دعوتنا للحق، ووضحت له المحجة، وقامت عليه الحجة، وأصر مستكبرا معاندا، كغالب من نقاتلهم اليوم، يصرون على ذلك الإشراك، ويمتنعون من فعل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 الواجبات، ويتظاهرون بأفعال الكبائر والمحرمات ; وغير الغالب إنما نقاتله لمناصرته من هذه حاله، ورضاه به، ولتكثير سواد من ذكر، والتأليب معه، فله حينئذ حكمه في قتاله، ونعتذر عمن مضى بأنهم مخطئون معذورون، لعدم عصمتهم من الخطأ، والإجماع في ذلك ممنوع قطعا، ومن شن الغارة فقط غلط، ولا بدع أن يغلط، فقد غلط من هو خير منه، كمثل عمر بن الخطاب رضي الله عنه فلما نبهته المرأة رجع في مسألة المهر، وفي غير ذلك، يعرف ذلك في سيرته، بل غلط الصحابة وهم جمع، ونبينا صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم، سار فيهم نوره، فقالوا: اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط. فإن قلت: هذا فيمن ذهل، فلما نبه انتبه، فما القول فيمن حرر الأدلة، واطلع على كلام الأئمة القدوة، واستمر مصرا على ذلك حتى مات؟ قلت: ولا مانع أن نعتذر لمن ذكر، ولا نقول: إنه كافر، ولا لما تقدم أنه مخطئ، وإن استمر على خطئه، لعدم من يناضل عن هذه المسألة في وقته، بلسانه وسيفه وسنانه، فلم تقم عليه الحجة، ولا وضحت له المحجة؛ بل الغالب على زمن المؤلفين المذكورين التواطؤ على هجر كلام أئمة السنة في ذلك رأسا، ومن اطلع عليه أعرض عنه، قبل أن يتمكن في قلبه، ولم يزل أكابرهم تنهى أصاغرهم عن مطلق النظر في ذلك، وصولة الملوك قاهرة لمن وقر في قلبه شيء من ذلك إلا من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 شاء الله منهم. هذا وقد رأى معاوية وأصحابه - رضي الله عنهم - منابذة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وقتاله، ومناجزته الحرب، وهم في ذلك مخطئون بالإجماع، واستمروا في ذلك الخطأ، ولم يشتهر عن أحد من السلف تكفير أحد منهم إجماعا، بل ولا تفسيقه، بل أثبتوا لهم أجر الاجتهاد، وإن كانوا مخطئين، كما أن ذلك مشهور عند أهل السنة. ونحن كذلك لا نقول بكفر من صحت ديانته، وشهر صلاحه، وعلم ورعه وزهده، وحسنت سيرته، وبلغ من نصحه الأمة، ببذل نفسه لتدريس العلوم النافعة، والتآليف فيها، وإن كان مخطئا في هذه المسألة أو غيرها، كابن حجر الهيتمي، فإنا نعرف كلامه في الدر المنظم، ولا ننكر سمة علمه، ولهذا نعتني بكتبه، كشرح الأربعين، والزواجر، وغيرها، ونعتمد على نقله إذا نقل لأنه من جملة علماء المسلمين. هذا ما نحن عليه، مخاطبين من له عقل وعلم، وهو متصف بالإنصاف، خال عن الميل إلى التعصب والاعتساف، ينظر إلى ما يقال، لا إلى من قال، وأما من شأنه لزوم مألوفه وعادته، سواء كان حقا، أو غير حق، فقلد من قال الله فيهم: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 [سورة الزخرف آية: 23] ، عادته وجبلته أن يعرف الحق بالرجال لا الرجال بالحق، فلا نخاطبه وأمثاله إلا بالسيف، حتى يستقيم أوده، ويصح معوجه. وجنود التوحيد - بحمد الله - منصورة وراياتهم بالسعد والإقبال منشورة، {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} [سورة الشعراء آية: 227] ، و: {فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [سورة المائدة آية: 56] . وقال تعالى: {وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [سورة الصافات آية: 173] ، و {وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [سورة الروم آية: 47] ، و {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [سورة الأعراف آية: 128] . هذا ومما نحن عليه أن البدعة - وهي ما حدثت بعد القرون الثلاثة - مذمومة مطلقا، خلافا لمن قال حسنة، وقبيحة، ولمن قسمها خمسة أقسام، إلا إن أمكن الجمع ; بأن يقال: الحسنة ما عليه السلف الصالح شاملة للواجبة، والمندوبة، والمباحة ; ويكون تسميتها بدعة مجازا، والقبيحة ما عدا ذلك شاملة للمحرمة، والمكروهة، فلا بأس بهذا الجمع. فمن البدع المذمومة التي ننهى عنها: رفع الصوت في مواضع الأذان بغير الأذان، سواء كان آيات، أو صلاة على النبي صلى الله عليه وسلم أو ذكرا غير ذلك بعد أذان، أو في ليلة الجمعة، أو رمضان، أو العيدين، فكل ذلك بدعة مذمومة. وقد أبطلنا ما كان مألوفا بمكة، من التذكير، والترحيم، ونحوه، واعترف علماء المذاهب أنه بدعة ; ومنها: قراءة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 الحديث عن أبي هريرة بين يدي خطبة الجمعة، فقد صرح شارح الجامع الصغير بأنه بدعة. ومنها: الاجتماع في وقت مخصوص على من يقرأ سيرة المولد الشريف، اعتقادا أنه قربة مخصوصة مطلوبة، دون علم السير، فإن ذلك لم يرد. ومنها: اتخاذ المسابح، فإنا ننهى عن التظاهر باتخاذها. ومنها: الاجتماع على رواتب المشايخ برفع الصوت، وقراءة الفواتح، والتوسل بهم في المهمات، كراتب السمان، وراتب الحداد، ونحوهما، بل قد يشتمل ما ذكر على شرك أكبر، فيقاتلون على ذلك، فإن سلموا من أرشدوا إلى أنه على هذه الصورة المألوفة غير سنة، بل بدعة، فذاك ; فإن أبوا، عزرهم الحاكم بما يراه رادعا. وأما أحزاب العلماء المنتخبة من الكتاب والسنة، فلا مانع من قراءتها، والمواظبة عليها، فإن الأذكار والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم والاستغفار، وتلاوة القرآن، ونحو ذلك، مطلوب شرعا؛ والمعتني به مثاب مأجور، فكلما أكثر منه العبد كان أوفر ثوابا، لكن على الوجه المشروع، من دون تنطع، ولا تغيير، ولا تحريف، وقد قال تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً} [سورة الأعراف آية: 55] ، وقال تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [سورة الأعراف آية: 180] . ولله در النووي في جمعه كتاب الأذكار، فعلى الحريص على ذلك به، ففيه الكفاية للموفق. ومنها: ما اعتيد في بعض البلاد، من قراءة مولد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 النبي صلى الله عليه وسلم بقصائد بألحان، وتخلط بالصلاة عليه، وبالأذكار والقراءة، ويكون بعد صلاة التراويح، ويعتقدونه على هذه الهيئة من القرب، بل تتوهم العامة أن ذلك من السنن المأثورة، فينهى عن ذلك ; وأما صلاة التراويح فسنة، لا بأس بالجماعة فيها والمواظبة عليها. ومنها: ما اعتيد في بعض البلاد، من صلاة الخمسة الفروض، بعد آخر جمعة من رمضان، وهذه من البدع المنكرة إجماعا؛ فيزجرون عن ذلك أشد الزجر. ومنها رفع الصوت بالذكر عند حمل الميت، أو عند رش القبر بالماء، وغير ذلك مما لم يرد عن السلف. وقد ألف الشيخ الطرطوشي المغربي كتابا نفيسا سماه: " الحوادث والبدع "، واختصره أبو شامة المقدسي فعلى المعتني بدينه بتحصيله. وإنما ننهى عن البدع المتخذة دينا وقربة ; وأما ما لا يتخذ دينا وقربة، كالقهوة، وإنشاء قصائد الغزل، ومدح الملوك، فلا ننهى عنه، ما لم يخلط بغيره إما ذكر أو اعتكاف في مسجد، ويعتقد أنه قربة، لأن حسان رد على أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقال: قد أنشدته بين يدي من هو خير منك، فقبل عمر. ويحل كل لعب مباح لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقر الحبشة على اللعب في يوم العيد، في مسجده صلى الله عليه وسلم. ويحل الرجز والحداء في نحو العمارة، والتدريب على الحرب بأنواعه، وما يورث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 الحماسة فيه، كطبل الحرب، دون آلات الملاهي، فإنها محرمة ; والفرق ظاهر ; ولا بأس بدف العرس، وقد قال صلى الله عليه وسلم: " بعثت بالحنيفية السمحة " 1 وقال: " لتعلم يهود أن في ديننا فسحة " 2. هذا وعندنا أن الإمام ابن القيم وشيخه إماما حق من أهل السنة، وكتبهم عندنا من أعز الكتب، إلا أنا غير مقلدين لهم في كل مسألة، فإن كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم؛ ومعلوم مخالفتنا لهما في عدة مسائل، منها: طلاق الثلاث بلفظ واحد في مجلس، فإنا نقول به تبعا للأئمة الأربعة، ونرى الوقف صحيحا، والنذر جائزا، ويجب الوفاء به في غير المعصية. ومن البدع المنهي عنها قراءة الفواتح للمشايخ بعد الصلوات الخمس، والإطراء في مدحهم، والتوسل بهم على الوجه المعتاد في كثير من البلاد، وبعد مجامع العبادات، معتقدين أن ذلك من أكمل القرب، وهو ربما جر إلى الشرك من حيث لا يشعر الإنسان، فإن الإنسان يحصل منه الشرك من دون شعور به، لخفائه، ولولا ذلك لما استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم منه بقوله: " اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك شيئا وأنا أعلم، وأستغفرك لما لا أعلم، إنك أنت علام الغيوب ". وينبغي المحافظة على هذه الكلمات، والتحرز عن الشرك ما أمكن، فإن عمر بن الخطاب قال: " إنما تنقض عرى   1 أحمد (5/266) . 2 أحمد (6/116) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 الإسلام عروة عروة إذا دخل في الإسلام من لا يعرف الجاهلية "، أو كما قال ; وذلك لأنه يفعل الشرك ويعتقد أنه قربة، نعوذ بالله من الخذلان، وزوال الإيمان. هذا ما حضرني حال المراجعة مع المذكور، مدة تردده، وهو يطالبني كل حين بنقل ذلك وتحريره، فلما ألح علي نقلت له هذا من دون مراجعة كتاب، وأنا في غاية الاشتغال بما هو أهم من أمر الغزو، فمن أراد تحقيق ما نحن عليه، فليقدم علينا الدرعية، فسيرى ما يسر خاطره، ويقر ناظره، من الدروس في فنون العلم، خصوصا التفسير، والحديث، ويرى ما يبهره بحمد الله وعونه، من إقامة شعائر الدين، والرفق بالضعفاء والوفود والمساكين. ولا ننكر الطريقة الصوفية، وتنْزيه الباطن من رذائل المعاصي المتعلقة بالقلب والجوارح، مهما استقام صاحبها على القانون الشرعي، والمنهج القويم المرعي، إلا أنا لا نتكلف له تأويلات في كلامه، ولا في أفعاله، ولا نعول، ونستعين، ونستنصر، ونتوكل في جميع أمورنا إلا على الله تعالى، فهو حسبنا ونعم الوكيل، نعم المولى ونعم النصير، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 (جواب الشيخ عبد الله آل الشيخ للصنعاني في بيان عقيدتهم) وسئل أيضا عما يدينون به، ويعتقدونه، فقال رحمه الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام التام على سيدنا محمد سيد الأنام، وعلى آله وأصحابه البررة الكرام، إلى عبد الله بن عبد الله الصنعاني، وفقه الله وهداه، وجنبه الإشراك والبدعة وحماه، وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته. أما بعد فوصل الخط، وتضمن السؤال فيه عما نحن عليه من الدين، فنقول وبالله التوفيق: الذي ندين الله به عبادة الله وحده لا شريك له، والكفر بعبادة غيره، ومتابعة الرسول النبي الأمي، حبيب الله، وصفيه من خلقه، محمد صلى الله عليه وسلم. فأما عبادة الله، فقال: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [سورة الذاريات آية: 56] ، وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [سورة النحل آية: 36] . فمن أنواع العبادة الدعاء، وهو الطلب بياء النداء، لأنه ينادي به القريب والبعيد، وقد يستعمل في الاستغاثة، أو بأحد أخواتها من حروف النداء، فإن العبادة اسم جنس، فأمر تعالى عباده أن يدعوه ولا يدعوا معه غيره، فقال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [سورة غافر آية: 60] . وقال في النهي: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} [سورة الجن آية: 18] ، وأحدا: كلمة تصدق على كل ما دعي مع الله تعالى. وقد روى الترمذي عن أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " الدعاء مخ العبادة " 1، وعن النعمان بن بشير قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الدعاء هو العبادة ثم قرأ: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [سورة غافر آية: 60] ،" رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي. قال العلقمي في شرح الجامع الصغير حديث: " الدعاء مخ العبادة " 2 قال شيخنا: قال في النهاية: مخ الشيء خالصه، وإنما كان مخها لأمرين: أحدهما: أنه امتثال لأمر الله تعالى حيث قال: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [سورة غافر آية: 60] ، فهو مخ العبادة، وهو خالصها. الثاني: أنه إذا رأى نجاح الأمور من الله، قطع أمله عما سواه، ودعاه لحاجته وحده، ولأن الغرض من العبادة هو الثواب عليها، وهو المطلوب بالدعاء، وقوله: الدعاء هو العبادة، قال شيخنا: قال الطيبي: أتى بالخبر المعرف باللام، ليدل على الحصر، وأن العبادة ليست غير الدعاء، انتهى كلام العلقمي. إذا تقرر هذا، فنحن نعلم بالضرورة أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشرع لأمته أن يدعوا أحدا من الأموات: لا الأنبياء، ولا الصالحين، ولا غيرهم، بل نعلم أنه نهى عن هذه الأمور   1 الترمذي: الدعوات (3371) . 2 الترمذي: الدعوات (3371) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 كلها، وأن ذلك من الشرك الأكبر، الذي حرمه الله ورسوله، قال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [سورة الأحقاف آية: 5-6] ، وقال تعالى: {فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ} [سورة الشعراء آية: 213] ، وقال: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ} الآيات [سورة يونس آية: 106] . وهذا من معنى لا إله إلا الله، فإن " لا " هذه النافية للجنس، فنفى جميع الآلهة. "وإلا" حرف استثناء، يفيد حصر جميع العبادة على الله عز وجل. و" الإله " اسم صفة لكل معبود بحق أو باطل، ثم غلب على المعبود بحق، وهو الله تعالى؛ وهو الذي يخلق ويرزق، ويدبر الأمور، وهو الذي يستحق الإلهية وحده. والتأله: التعبد، قال الله تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [سورة البقرة آية: 163] ؛ ثم ذكر الدليل، فقال: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [سورة البقرة آية: 164] إلى قوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً} الآية [سورة البقرة آية: 165] . وأما متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم فواجب على أمته: متابعته في الاعتقادات، والأقوال، والأفعال ; قال الله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} الآية [سورة آل عمران آية: 31] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 وقال صلى الله عليه وسلم:" من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد " 1 رواه البخاري، ومسلم، وفي رواية لمسلم: " من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد " 2. فتوزن الأقوال والأفعال بأقواله وأفعاله، فما وافق منها قبل، وما خالف رد على فاعله كائنا من كان؛ فإن شهادة أن محمدا رسول الله تتضمن تصديقه فيما أخبر به، وطاعته ومتابعته في كل ما أمر به. وقد روى البخاري من حديث أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى، قيل: ومن يأبى، قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى " 3. فتأمل رحمك الله ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بعده، والتابعون لهم بإحسان إلى يوم الدين، وما عليه الأئمة المقتدى بهم، من أهل الحديث، والفقهاء، كأبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد بن حنبل، رضي الله عنهم أجمعين، لكي تتبع آثارهم. وأما مذهبنا: فمذهب الإمام أحمد بن حنبل، إمام أهل السنة، ولا ننكر على أهل المذاهب الأربعة إذا لم يخالف نص الكتاب والسنة، ولا إجماع الأمة، ولا قول جمهورها. والمقصود بيان ما نحن عليه من الدين، وأنه عبادة الله وحده لا شريك له فيها، بخلع جميع الشرك، ومتابعة الرسول فيها، نخلع جميع البدع، إلا بدعة لها أصل في الشرع، كجمع المصحف في كتاب واحد، وجمع عمر رضي الله عنه الصحابة   1 البخاري: الصلح (2697) , ومسلم: الأقضية (1718) , وأبو داود: السنة (4606) , وابن ماجه: المقدمة (14) , وأحمد (6/240 ,6/270) . 2 مسلم: الأقضية (1718) , وأحمد (6/146 ,6/180 ,6/256) . 3 البخاري: الاعتصام بالكتاب والسنة (7280) , وأحمد (2/361) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 على التراويح جماعة، وجمع ابن مسعود أصحابه على القصص كل خميس، ونحو ذلك، فهذا حسن والله أعلم. (هل الرسول أمر معاوية ويزيد أن يحاربا علي بن أبي طالب) وسئل أيضا الشيخ عبد الله بن محمد، رحمه الله: هل رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر معاوية، ويزيد، وبني أمية، وبني العباس أن يحاربوا علي بن أبي طالب، والحسن، والحسين عليهم السلام، ويقتلوهم، ويحبسوهم، ويلوا عليهم الخلافة وينقلوهم؟ ! وهل ذلك منهم طاعة لله ورسوله أو معصية؟! وهل ذلك يرضي الله أم يغضبه، ورسوله قال يوم غدير خم: " اللهم من كنت مولاه فعلي مولاه " 1 الحديث، وقال: " أنا مدينة العلم، وعلي بابها "2 و " علي مني بمنْزلة هارون من موسى غير أنه لا نبي بعدي " 3، وقال: " أهل بيتي كسفينة نوح "؟ ! فأجاب: هذا سؤال متعنت، لا مسترشد، وجوابنا في ذلك أن نقول: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [سورة البقرة آية: 134] . وفصل القضاء في ذلك إلى الله تبارك وتعالى، ليس إلى أحد من خلقه، ونحن نعتقد أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أولى بالخلافة من معاوية، فضلا عن بني أمية، وبني العباس. والحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة، صح عن جدهما صلوات الله وسلامه عليه: " أنهما سيدا شباب أهل الجنة " 4، وهم أولى من يزيد بالخلافة، وبني أمية، وبني العباس الذين تولوا الخلافة.   1 الترمذي: المناقب (3713) , وأحمد (1/118 ,4/368) . 2 الترمذي: المناقب (3723) . 3 البخاري: المناقب (3706) والمغازي (4416) , ومسلم: فضائل الصحابة (2404) , والترمذي: المناقب (3731) , وابن ماجه: المقدمة (115) , وأحمد (1/173 ,1/174 ,1/175) . 4 الترمذي: المناقب (3768) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال في الحسن بن علي رضي الله عنهما، وهو إذ ذاك صغير: " إن ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين " 1، فمدحه على فعله بالإصلاح بين المسلمين، وترك الخلافة لمعاوية. ومن العجب أن الرافضة، والزيدية، يزعمون عصمته من الخطأ والزلل، وهو الذي تركها بنفسه بلا إكراه ومعه وجوه الناس وشجعانهم أكثر من ثلاثين ألفا قد بايعوه على الموت، فترك الخلافة لمعاوية مع ذلك، حقنا لدماء المسلمين، ورغبة فيما أعد الله للمؤمنين، وزهدا في الدنيا الفانية، فأخبرونا: هل هو رضي الله عنه مصيب في ذلك، أم مخطئ؟ فإن قلتم: هو مخطئ، بطل قولكم بالعصمة، واستدلالكم بالآية الشريفة: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ} 2 الآية على العصمة، لأن الحسن من أهل الكساء، بالإجماع. وإن قلتم: هو مصيب، فقد أصبتم، وكذلك نحن نقول: هو مصيب فيما فعله، وفعله أحب إلى الله ورسوله، من القتال على الملك، كما قال رضي الله عنه لبعض الشيعة، لما قالوا له: السلام عليك يا مذل المؤمنين،   1 البخاري: الصلح (2704) , والترمذي: المناقب (3773) , والنسائي: الجمعة (1410) , وأبو داود: السنة (4662) , وأحمد (5/37 ,5/44 ,5/49) . 2 الآية, سيأتي الكلام عليها في الجزء العاشر, في تفسير آيات من القرآن, إن شاء الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 "قال: لست بمذل المؤمنين، ولكن كرهت أن أفتنكم على الملك " وفي رواية أنه قال: " اخترت العار على النار " كما ذكر ذلك أهل التواريخ، وهو أيضا مبطل قولكم في كفر معاويه، وسبه، ولعنه، فثبت بما ذكرنا بطلان قول الشيعة، ولله الحمد والمنة. وأما حديث: "غدير خم" فهو حديث صحيح، وليس فيه تصريح بأن عليا خليفة بعد الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا فهم ذلك علي، ولا أهل بيته من الحديث، لأنه ثبت عنه رضي الله عنه بالأسانيد الصحيحة، عن جماعة من أصحابه وأهل بيته، أنه قال للناس في خلافته، وهو على المنبر: (ألا أخبركم بخير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر، ألا أخبركم بخير هذه الأمة بعد أبي بكر: عمر) ، وثبت عنه أيضا: " لو كان عندي عهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما تركت أخا بني تيم، وأخا بني عدي ; ولقاتلتهما بسيفين "، أو كما قال رضي الله عنه. وأما قوله: " أنا مدينة العلم، وعلي بابها " 1 فلا نعرف ذلك في دواوين العلم المعتمدة، بل هو عند أهل العلم بالحديث مكذوب على رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأما قوله: " علي مني بمنْزلة هارون من موسى " 2 فهو حديث صحيح، أخرجه مسلم وغيره، وليس فيه تصريح بأنه خليفة بعد موته، ولا فهمه أمير المؤمنين من الحديث، كما فهمه جهال الرافضة والزيدية ; وأما قوله: " أهل بيتي مثل سفينة نوح " فهذا أيضا حديث مكذوب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يعرف له أهل الحديث إسنادا   1 الترمذي: المناقب (3723) . 2 البخاري: المناقب (3706) والمغازي (4416) , ومسلم: فضائل الصحابة (2404) , والترمذي: المناقب (3731) , وابن ماجه: المقدمة (115) , وأحمد (1/173 ,1/174 ,1/175) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 صحيحا فيما بلغنا عنهم، والله أعلم. (المؤمنون الذين أمر الله باتباع سبيلهم) وسئل أيضا عن قوله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} الآية [سورة النساء آية: 115] : من هم المؤمنون الذين أمر الله باتباع سبيلهم؟ فإن قلتم: هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن سار سيرتهم، فنسألكم: هل كان علي بن أبي طالب، والحسن، والحسين، والصادق، والباقر، والنفس الزكية، وحسن بن الحسن، وأمثالهم من ذرية علي وفاطمة رضي الله عنهم هم من المؤمنين الذين أنكر الله على من خالف سبيلهم؟ أم لا؟ فأجاب: علي بن أبي طالب، والحسن، والحسين رضي الله عنهم، من ساداتهم، وكذلك طلحة، والزبير رضي الله عنهما، ومن معهما من أهل بدر، وكذلك معاوية بن أبي سفيان، ومن معه من أهل الشام، من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم أجمعين، فنتولى الجميع، ونكف عما شجر بينهم، وندعو لهم بالمغفرة، كما أمرنا الله بذلك بقوله: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالأِيمَانِ} [سورة الحشر آية: 10] ونقول كما قال بعض العلماء: إن كان نصبا حب صحب محمد ... فليشهد الثقلان أني ناصبي ونقول لمن أمر بمعاداة أهل البيت وبغضهم والتبري منهم، ما قاله بعض العلماء: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 إن كان رفضا حب آل محمد ... فليشهد الثقلان أني رافضي وأما قولكم: إنا ننكر علم أهل البيت، وأقوالهم، ومذاهبهم، ومذهب الزيدي، زيد بن علي بن الحسن، بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم، على علم جده رضي الله عنه فهذا كذب وبهتان علينا؛ بل زيد بن علي عندنا، من علماء هذه الأمة، فما وافق من أقواله الكتاب والسنة قبلناه، وما خالف ذلك رددناه، كما نفعل ذلك مع أقوال غيره من الأئمة، هذا إذا صح النقل عنه بذلك. وأكثر ما ينسب إليه، ويروى عنه، كذب وباطل عليه، كما يكذب أعداء الله الرافضة على علي رضي الله عنه وأهل بيته، ويروون عنهم أقوالا وأحاديث مخالفة للشريعة، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومخالفة ما ثبت عن العلماء من أقوالهم الصحيحة، الثابتة عنهم بنقل الثقات. (قول الشيخ عبد الله آل الشيخ عن مذهب الزيدي) وسئل أيضا عن مذهب الزيدي، فأجاب: مذهب الزيدي الصحيح منه، ما وافق الكتاب والسنة، وما خالفه فهو باطل، لا مذهب الزيدي، ولا غيره من المذاهب. (معنى قول النبي عليه الصلاة والسلام يؤتى بالموت على صورة كبش) وسئل أيضا الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد، عن قوله صلى الله عليه وسلم: " إذا استقر أهل الجنة في الجنة، وأهل النار في النار، يؤتى بالموت على صورة كبش، فيذبح بين الجنة والنار، فيقال: يا أهل الجنة خلود في النعيم بلا انقضاء، ويا أهل النار خلود في الجحيم بلا انتهاء " 1. ومعلوم أن الموت عدم الروح التي بها حركة الجسد، وهذا شيء معنوي، فإن   1 مسلم: الجنة وصفة نعيمها وأهلها (2850) , وأحمد (2/118) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 الذبح لا يحصل إلا في الأعيان الجسمانية ذات الأرواح، فإذا كان يؤتى به على صورة كبش، كما ذكره الشارع، كيف كان صورته من قبل؟ وهل تحدث له روح عند ذلك؟ فأجاب: الذي ينبغي للمؤمن تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم في كل ما أخبر به من الأمور الغائبة، وإن لم يعلم كيفية ذلك، كما مدح سبحانه المؤمنين بذلك، بقوله تعالى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ َالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [سورة البقرة آية: 3-5] . وقد مدح الله سبحانه أهل العلم بأنهم يقولون في المتشابه: {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [سورة آل عمران آية: 7] ، وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ما علمتم منه فاعملوا به، وما جهلتم منه فكلوه إلى عالمه " 1 إذا علمت ذلك فاعلم أن شراح الحديث ذكروا فيه أقوالا الله أعلم بصحتها; قال في فتح الباري لابن حجر العسقلاني: قوله صلى الله عليه وسلم:" إذا صار أهل الجنة إلى الجنة وأهل النار إلى النار جيء بالموت " 2، وفي رواية: " يؤتى بالموت كهيئة كبش أملح " 3. وذكر مقاتل، والكلبي في تفسيرهما، في قوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ} [سورة الملك آية: 2] . قال: خلق الموت في صورة كبش، لا يمر على أحد إلا مات، وخلق الحياة في صورة فرس، لا تمر على أحد إلا حيي ;   1 أحمد (2/181) . 2 البخاري: الرقاق (6548) , ومسلم: الجنة وصفة نعيمها وأهلها (2850) , وأحمد (2/118 ,2/120) . 3 البخاري: تفسير القرآن (4730) , ومسلم: الجنة وصفة نعيمها وأهلها (2849) , والترمذي: صفة الجنة (2558) , وأحمد (3/9) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 قال القرطبي: الحكمة في الإتيان بالموت هكذا، الإشارة إلى أنهم حصل لهم الفداء به كما فدي ولد إبراهيم بالكبش وفي الأملح إشارة إلى صفتي أهل الجنة، والنار، لأن الأملح ما فيه بياض وسواد. ثم قال ابن حجر: قال القاضي أبو بكر ابن العربي: استشكل هذا الحديث، فأنكرت صحته طائفة، ودفعته، وتأولته طائفة، فقالوا: هذا تمثيل، ولا ذبح هناك حقيقة، وقالت طائفة: بل الذبح على حقيقته، والمذبوح متولي الموت، وكلهم يعرفه، لأنه الذي تولى قبض أرواحهم. قلت: وارتضى هذا بعض المتأخرين، وحمل قوله: هو الموت الذي وكل بنا، على أن المراد به ملك الموت، لأنه هو الذي وكل بهم في الدنيا، واستشهد له من حيث المعنى: بأن ملك الموت لو استمر حيا لنغص عيش أهل الجنة، وأيده بقوله في حديث الباب: " فيزداد أهل الجنة فرحا إلى فرحهم، ويزداد أهل النار حزنا إلى حزنهم " 1 انتهى، قلت: ويكفي المؤمن اللبيب الإيمان بالله ورسوله فيما لا يتبين له حقيقة معناه، وظاهر الحديث بين لا إشكال فيه، عند من نور الله قلبه بالإيمان، وشرح صدره بالإسلام.   1 البخاري: الرقاق (6548) , ومسلم: الجنة وصفة نعيمها وأهلها (2850) , وأحمد (2/118 ,2/120) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 (معنى حديث: (ما منا إلا من عصى أو هم بمعصية إلا يحيى بن زكريا) وسئل أيضا رحمه الله تعالى عن قوله صلى الله عليه وسلم " ما منا إلا من عصى أو هم بمعصية إلا يحيى بن زكريا " 1، والإجماع منعقد على أن الأنبياء معصومون من الكبائر والصغائر، وإذا قيل إنهم معصومون، فما بال أولاد يعقوب، ومعلوم بالضرورة أنهم أنبياء، وحال آدم حين قال الله تعالى: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} [سورة طه آية: 121] ، وكذلك داود مع قوله عليه السلام: " كلنا خطاؤون ". فذكر الجواب من وجوه. الوجه الأول: أن لفظ الحديث المروي في ذلك: " ما من أحد يلقى الله يوم القيامة إلا وقد أذنب إلا يحيى بن زكريا " أخرجه عبد الرزاق في مصنفه، أنبأنا معمر عن قتادة في قوله: {وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيّاً} [سورة مريم آية: 14] ، قال: كان ابن المسيب يذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:.. فذكره، وهذا مرسل، لكن أصح المراسيل عند أهل الحديث مرسل سعيد بن المسيب ; لكن أخرج أحمد في مسنده، عن ابن عباس مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم: " ما من أحد من ولد آدم إلا وقد أخطأ أو هم بخطيئة، ليس يحيى بن زكريا، وما ينبغي لأحد أن يقول: أنا خير من يونس بن متى " 2. الوجه الثاني: أن الذي عليه المحققون من العلماء، من الحنابلة، والشافعية، والمالكية، والحنفية:   1 أحمد (1/254) . 2 البخاري: تفسير القرآن (4603) , وأحمد (1/390 ,1/440 ,1/443) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 أن الأنبياء معصومون من الكبائر، وأما الصغائر فقد تقع منهم، لكنهم لا يقرون عليها، بل يتوبون منها، ويحصل لهم بالتوبة منها أعظم مما كان قبل ذلك ; وجميع أهل السنة والجماعة متفقون على أنهم معصومون في تبليغ الرسالة، ولا يجوز أن يستقر في شيء من الشريعة خطأ باتفاق المسلمين. قال: شيخ الإسلام، تقي الدين أبو العباس، رحمه الله تعالى، في كتاب منهاج السنة النبوية، في نقض كلام الشيعة والقدرية: واتفق المسلمون على أن الأنبياء معصومون في تبليغ الرسالة، فكل ما يبلغون عن الله من الأمر والنهي، فهم مطاعون فيه باتفاق المسلمين، وما أمروا به ونهوا عنه، فهم مطاعون فيه، عند جميع فرق الأمة إلا عند طائفة من الخوارج: أن النبي معصوم فيما يبلغه عن الله، لا فيما يأمر به وينهى عنه؛ وهؤلاء ضلال باتفاق أهل السنة والجماعة. وأكثر الناس، أو كثير منهم لا يجوزون عليهم الكبائر ; والجمهور يجوزون الصغائر، يقولون: إنهم لا يقرون عليها، بل يحصل لهم بالتوبة منها من المنْزلة، أعظم مما كان قبل ذلك، انتهى كلامه. فتبين بما ذكرنا وهم السائل، وخطؤه في نقل الإجماع على أنهم معصومون من الكبائر والصغائر، ولعله قد غره كلام بعض المتأخرين الذين يقولون بذلك، أو يقلدون من يقوله من أئمة الكلام، الذين لا يحققون مذهب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 أهل السنة والجماعة، ولا يميزون بين الأقوال الصحيحة والضعيفة، والباطلة، كيف والقرآن محشو من الدلائل، على وقوع الذنوب منهم؟ ! كقوله تعالى: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} [سورة طه آية: 121] ، وقوله عن موسى عليه السلام: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي} [سورة القصص آية: 16] ، وقول يونس عليه السلام: {لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [سورة الأنبياء آية: 87] ، وقول نوح عليه السلام: {وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [سورة هود آية: 47] ، وقوله عن آدم عليه السلام: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا} الآية [سورة الأعراف آية: 23] ، وقول إبراهيم عليه السلام: {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} [سورة الشعراء آية: 82] ، وقوله عن داود عليه السلام: {فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ} الآية [سورة ص آية: 24] ، وقول موسى عليه السلام: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [سورة الأعراف آية: 151] ، وقوله عن نبيه صلى الله عليه وسلم {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} الآية [سورة محمد آية: 19] ، وقوله: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} الآية [سورة الفتح آية: 2] . وكذلك ما ثبت في الأحاديث الصحيحة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو، يقول: " رب اغفر لي ذنبي كله، دقه، وجله، وأوله، وآخره، وسره، وعلانيته " 1، وقوله: " اللهم اغفر لي جهلي وإسرافي في أمري، وما أنت أعلم به مني، اللهم اغفر لي جدي وهزلي، وخطئي وعمدي، وكل ذلك عندي ". وأشباه ذلك كثير، والله أعلم.   1 مسلم: الصلاة (483) , وأبو داود: الصلاة (878) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 (سؤال جبريل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإسلام والإيمان والإحسان) وسئل أيضا عبد الله بن الشيخ محمد عن حديث جبريل وسؤاله النبي صلى الله عليه وسلم عن الإسلام والإيمان والإحسان. فأجاب: فسر النبي صلى الله عليه وسلم الإسلام بالأعمال الظاهرة ; وهي: أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا. وفسر الإيمان بالأعمال الباطنة، وهي أعمال القلب، فقال: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر، خيره وشره، فهذه ستة أصول الإيمان، نسأل الله أن يرزقنا فهمها، والعمل بمقتضاها. وفسر الإحسان بقوله: " أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك " 1 ففسره بأن تعبد الله كأنك تشاهده، فإن لم تكن تشاهده فهو يراك، لا يخفى عليه منك شيء، حتى ما توسوس به نفسك ; والإحسان: أعلى المراتب العالية، وبعده في المرتبة والفضيلة: الإيمان بالله، وبعده في المرتبة والفضيلة: الإسلام، وكل واحد منهما يتضمن الآخر، مع الإطلاق، وإذا قرن بينهما في آية أو حديث، فسره أهل العلم بما ذكرنا.   1 البخاري: الإيمان (50) , ومسلم: الإيمان (9) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (4991) , وابن ماجه: المقدمة (64) , وأحمد (2/426) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 (حكم فعل الفقراء) سئل الشيخ حمد بن ناصر بن معمر رحمه الله تعالى عن فعل الفقراء 1؟ فأجاب: هو بدعة، لأنه عمل لم يأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يفعله الصحابة، ولا التابعون، بل قد ورد النهي عن ذلك في أحاديث كثيرة ; فمن ذلك: ما في الصحيح عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد " 2، وفي لفظ " من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد " 3، وفي حديث العرباض بن سارية أنه صلى الله عليه وسلم قال: " عليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة ". فعمل الفقراء محدث، في أمر النبي صلى الله عليه وسلم ليس عليه أمره، فهو بدعة ضلالة. وأيضا، فهو قول أهل العلم، أعني النهي عن جميع المحدثات في الدين.   1 انظر ص 390 - 395 لتعرفهم وشيئا من أفعالهم. 2 البخاري: الصلح (2697) , ومسلم: الأقضية (1718) , وأبو داود: السنة (4606) , وابن ماجه: المقدمة (14) , وأحمد (6/240 ,6/270) . 3 مسلم: الأقضية (1718) , وأحمد (6/146 ,6/180 ,6/256) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 (رسالة الأمير عبد العزيز بن سعود إلى بلدان العجم والروم) وقال الإمام عبد العزيز بن محمد بن سعود، رحمهما الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد العزيز بن سعود إلى من يراه من أهل بلدان العجم والروم، أما بعد: فإنا نحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، وهو للحمد أهل، ونسأله أن يصلي ويسلم على حبيبه من خلقه، وخليله من عبيده، وخيرته من بريته، محمد عليه من الله أفضل الصلاة وأزكى التحيات، وعلى إخوانه من المرسلين، وعلى آله وأصحابه، صلاة وسلاما دائمين، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وهو خير الوارثين. ثم نخبركم أن محمدا خلفا النواب، ألفى علينا مع الحاج، وأقام عندنا مدة طويلة، وأشرف على ما نحن عليه من الدين، وما ندعو إليه الناس، وما نقاتلهم عليه، وما نأمرهم به، وما ننهاهم عنه، وحقائق ما عندنا يخبركم به أخونا محمد من الرأس ; ونحن نذكر لكم ذلك، على سبيل الإجمال. أما الذي نحن عليه، وهو الذي ندعو إليه من خالفنا: أنا نعتقد أن العبادة حق لله على عبيده، وليس لأحد من عبيده الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 في ذلك شيء، لا ملك مقرب، ولا نبي مرسل ; فلا يجوز لأحد: أن يدعو غير الله، لجلب نفع، أو دفع ضر، وإن كان نبيا أو رسولا، أو ملكا، أو وليا، وذلك أن الله تبارك وتعالى، يقول في كتابه العزيز: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} [سورة الجن آية: 18] ، وقال على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم {قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً} [سورة الجن آية: 21-22] ، وقال عز من قائل: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [سورة الاحقاف آية: 5-6] ، وقال عز من قائل: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} [سورة الأنبياء آية: 25] ، وقال جل ثناؤه، وتقدست أسماؤه: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ} [سورة الرعد آية: 14] . وقال: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [سورة المؤمنون آية: 117] . ولا يجوز لأحد يتوكل على غير الله، ولا يستعيذ بغير الله، ولا ينذر لغير الله، تقربا إليه بذلك، ولا يذبح لغير الله، كما قال تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [سورة الكوثر آية: 2] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 وقال: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [سورة آية: 162-163] ، وقال عز وجل: {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [سورة آل عمران آية: 122] . فإن قال قائل: أتوسل بالصالحين، وأدعوهم، أريد شفاعتهم عند الله؛ وقد يحتج على ذلك بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} [سورة المائدة آية: 35] ؛ قيل له: الوسيلة المأمور بها هي الأعمال الصالحة، وبذلك فسرها جميع المفسرين من الصحابة فمن بعدهم ; أو يتوسل إلى الله بعمله الصالح، كما قال عز وجل إخبارا عن المؤمنين: {رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [سورة آل عمران آية: 16] ، وقال عنهم في آخر السورة: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ} [سورة آل عمران آية: 193] ، وكما في حديث الثلاثة، الذين انطبقت عليهم الصخرة في الغار، فتوسلوا إلى الله بصالح أعمالهم، ففرج الله عنهم. وأما دعوة غير الله، والالتجاء إليهم، والاستغاثة بهم، لكشف الشدائد، أو جلب الفوائد، فهو الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله إلا بالتوبة منه، وهو الذي أرسل الله رسله وأنزل كتبه بالنهي عنه، وإن كان الداعي غير الله إنما يريد شفاعتهم عند الله، وذلك لأن الكفار، مشركي العرب، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 وغيرهم، إنما أرادوا ذلك، كما قال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [سورة يونس آية: 18] ، وقال في الآية الأخرى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} [سورة الزمر آية: 3] ، ولم يقولوا: إنها تخلق، وترزق، وتحيي، وتميت؛ وإنما كانوا يعبدون آلهتهم، ويعبدون تماثيلهم، ليقربوهم إلى الله، ويشفعوا لهم عنده ; فبعث الله رسله، وأنزل كتبه ينهى أن يدعى أحد غيره ولا من دونه، لا دعاء عبادة، ولا دعاء استغاثة. وهذا هو دين جميع الرسل، لم يختلفوا فيه كما اختلفت شرائعهم في غيره، قال الله تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} [سورة الشورى آية: 13] ، وهو معنى لا إله إلا الله؛ فإن الإله هو المعبود بحق أو باطل، فمن عبد الله وحده لا شريك له، وأخلص الدعوة كلها لله، وأخلص التوكل على الله، وأخلص الذبح لله، وأخلص النذر لله، فقد وحد الله بالعبادة، وجعل الله إلهه دون ما سواه. ومن أشرك مع الله إلها غيره في الدعوة، أو في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 الاستغاثة، أو في التوكل، أو في الذبح، أو في النذر، فقد اتخذ مع الله إلها آخر، وعبد معه غيره، وهو أعظم الذنوب إثما عند الله، كما ثبت في الصحيحين عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قلت: يا رسول الله، أي الذنب أعظم؟ قال: " أن تجعل لله ندا وهو خلقك " 1 الحديث. وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [سورة النساء آية: 48] . وقال: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} [سورة المائدة آية: 72] . وهذا هو سبب عداوة الناس لنا، وبغضهم إيانا، لما أخلصنا العبادة لله وحده، ونهينا عن دعوة غير الله، ولوازمها من البدع المضلة، والمنكرات اللغوية، فلأجل ذلك رمونا بالعظائم، وحاربونا، ونقلونا عند السلاطين والحكام، وأجلبوا علينا بخيل الشيطان ورجله، فنصرنا الله عليهم، وأورثنا أرضهم وديارهم وأموالهم، وذلك سنة الله وعادته مع المرسلين، وأتباعهم إلى يوم القيامة. قال تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} [سورة غافر آية: 51] ، وقال تعالى: {وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [سورة الصافات آية: 173] ، وقال عن موسى صلاة الله وسلامه عليه أنه قال لقومه: {اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [سورة الأعراف آية: 128] ، وقال تعالى: {ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقّاً عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ} [سورة يونس آية: 103] ، وقال   1 البخاري: الأدب (6001) , ومسلم: الإيمان (86) , والترمذي: تفسير القرآن (3182) , والنسائي: تحريم الدم (4013 ,4014) , وأبو داود: الطلاق (2310) , وأحمد (1/434 ,1/464) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 تعالى: {وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [سورة الروم آية: 47] . ونأمر جميع رعايانا: باتباع كتاب الله، وسنة رسوله، وإقام الصلاة في أوقاتها، والمحافظة عليها، وإيتاء الزكاة، وصوم شهر رمضان، وحج البيت، من استطاع إليه سبيلا، ونأمر بجميع ما أمر الله به ورسوله من العدل، وإنصاف الضعيف من القوي، ووفاء المكاييل والموازين، وإقامة حدود الله على الشريف والوضيع. وننهى عن جميع ما نهى عنه الله ورسوله، من البدع والمنكرات، مثل الزنى، والسرقة، وأكل أموال الناس بالباطل، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، وظلم الناس بعضهم بعضا، ونقاتل لقبول فرائض الله التي أجمعت عليها الأمة، فمن فعل ما فرض الله عليه فهو أخونا المسلم، وإن لم يعرفنا ونعرفه. ونحن نعلم أنه يأتيكم أعداء لنا، يكذبون علينا عندكم، ويرموننا عندكم بالعظائم، حتى يقولوا: إنهم يسبون النبي صلى الله عليه وسلم، ويكفرون الناس بالعموم، وإنا نقول: إن الناس من نحو ستمائة سنة ليسوا على شيء، وإنهم كفار، وإن من لم يهاجر إلينا فهو كافر، وأضعاف أضعاف ذلك من الزور، الذي يعلم العاقل أنه من الظلم، والعدوان، والبهتان. ولكن لنا في رسول الله أسوة، فإن أعداءه قالوا: إنه يشتم عيسى وأمه، وسموه بالصابئي، والساحر، والمجنون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 ونحن لا نكفر إلا من عرف التوحيد وسبه، وسماه دين الخوارج، وعرف الشرك وأحبه، وأهله، ودعى إليه، وحض الناس عليه بعدما قامت عليه الحجة، وإن لم يفعل الشرك، أو فعل الشرك، وسماه التوسل بالصالحين، بعدما عرف أن الله حرمه، أو كره بعض ما أنزل الله، كما قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [سورة محمد آية: 9] ، أو استهزأ بالدين، أو القرآن، كما قال تعالى: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [سورة التوبة آية: 65-66] ، قال العلماء في هذه الآية: الاستهزاء بالله كفر مستقل بالإجماع، والاستهزاء بالرسول كفر مستقل بالإجماع. وهذه الأنواع التي ذكرنا أننا نكفر من فعلها قد أجمع العلماء كلهم من جميع أهل المذاهب على كفر من فعلها، وهذه كتب أهل العلم، من أهل المذاهب الأربعة، وغيرهم، موجودة ولله الحمد والمنة، وصلى الله على نبينا محمد، وصحبه وسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 (رسالة الأمير عبد العزيز بن سعود إلى أهل المخلاف السليماني يعرفهم بدين الإسلام) وله أيضا رحمه الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد العزيز بن سعود إلى من يراه من أهل المخلاف السليماني، وفقنا الله وإياهم إلى سبيل الحق والهداية، وجنبنا وإياهم طريق الشرك والغواية، وأرشدنا وإياهم إلى اقتفاء آثار أهل العناية. أما بعد: فالموجب لهذه الرسالة أن الشريف أحمد قدم علينا فرأى ما نحن عليه، وتحقق صحة ذلك لديه، فبعد ذلك التمس منا أن نكتب ما يزول به الاشتباه، لتعرفوا دين الإسلام، الذي لا يقبل الله من أحد دينا سواه. فاعلموا رحمكم الله تعالى: أن الله أرسل محمدا صلى الله عليه وسلم على فترة من الرسل، فهدى الله به إلى الدين الكامل، والشرع التام، وأعظم ذلك، وأكبره، وزبدته إخلاص العبادة لله لا شريك له، والنهي عن الشرك، وذلك هو الذي خلق الله الخلق لأجله، ودل الكتاب على فضله، كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [سورة الذاريات آية: 56] ، وقال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً} [سورة التوبة آية: 31] ، وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [سورة النحل آية: 36] . وإخلاص الدين هو: صرف جميع أنواع العبادة لله تعالى وحده لا شريك له ; وذلك بأن لا يدعى إلا الله، ولا يستغاث إلا بالله، ولا يذبح إلا لله، ولا يخشى ولا يرجى سواه، ولا يرهب ولا يرغب إلا فيما لديه، ولا يتوكل في جميع الأمور إلا عليه، وأن كل ما هنالك لله تعالى، لا يصلح منه شيء لملك مقرب، ولا نبي مرسل، ولا غيرهما؛ وهذا هو بعينه توحيد الألوهية الذي أسس الإسلام عليه، وانفرد به المسلم عن الكافر ; وهو معنى شهادة أن لا إله إلا الله. فلما من الله علينا بمعرفة ذلك، وعرفنا أنه دين الرسل، اتبعناه ودعونا الناس إليه، وإلا فنحن قبل ذلك على ما عليه غالب الناس، من الشرك بالله، من عبادة أهل القبور، والاستغاثة بهم، والتقرب إلى الله بالذبح لهم، وطلب الحاجات منهم، مع ما ينضم إلى ذلك من فعل الفواحش والمنكرات، وارتكاب الأمور المحرمات، وترك الصلوات، وترك شعائر الإسلام، حتى أظهر الله تعالى الحق بعد خفائه، وأحيا أثره بعد عفائه، على يد شيخ الإسلام، فهدى الله تعالى به من شاء من الأنام. وهو الشيخ محمد بن عبد الوهاب، أحسن الله له في آخرته المآب، فأبرز لنا ما هو الحق والصواب، من كتاب الله المجيد، الذي: {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [سورة فصلت آية: 42] . فبين لنا أن الذي نحن عليه، وهو دين غالب الناس، من الاعتقادات في الصالحين وغيرهم، ودعوتهم، والتقرب بالذبح لهم، والنذر لهم، والاستغاثة بهم في الشدائد، وطلب الحاجات منهم أنه الشرك الأكبر، الذي نهى الله عنه، وتهدد بالوعيد الشديد عليه، وأخبر في كتابه أنه لا يغفره إلا بالتوبة منه. قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [سورة النساء آية 48] ، وقال تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [سورة المائدة آية: 72] ، وقال تعالى: {إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [سورة فاطر آية: 14] . والآيات في أن دعوة غير الله تعالى الشرك الأكبر كثيرة واضحة شهيرة. فحين كشف لنا الأمر، وعرفنا ما نحن عليه من الشرك والكفر، بالنصوص القاطعة، والأدلة الساطعة، من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وكلام الأئمة الأعلام الذين أجمعت الأمة على درايتهم، عرفنا أن ما نحن عليه، وما كنا ندين به أولا، أنه الشرك الأكبر، الذي نهى الله عنه وحذر، وأن الله إنما أمرنا أن ندعوه وحده لا شريك له، وذلك كما قال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} [سورة الجن آية: 18] . وقال تعالى: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ} [سورة الرعد آية: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 14] ، وقال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [سورة آية: 5-6] . إذا عرفتم هذا، فاعلموا رحمكم الله تعالى أن الذي ندين الله به هو إخلاص العبادة لله وحده، ونفي الشرك، وإقام الصلاة في الجماعة، وغير ذلك من أركان الإسلام، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر. ولا يخفى على ذوي البصائر والأفهام، والمتدبرين من الأنام أن هذا هو الدين الذي جاءنا به الرسول صلى الله عليه وسلم. قال جل جلاله: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [سورة آل عمران آية: 85] ، وقال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلامَ دِيناً} [سورة المائدة آية: 3] . فمن قبل ولزم العمل به، فهو حظه في الدنيا والآخرة، ونعم الحظ دين الإسلام، ومن أبى واستكبر، فلم يقبل هدى الله لما تبين له نوره وسناه، نهيناه عن ذلك، وقاتلناه، قال الله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [سورة الأنفال آية: 39] . وقصدنا بإرسال هذه النصيحة إليكم القيام بواجب الدعوة، قال الله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [سورة يوسف آية: 108] . وصلى الله على محمد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 (رسالة الأمير عبد العزيز بن سعود إلى أحمد القاسمي وبيان مذهب أهل البيت) وله أيضا: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد العزيز بن سعود إلى جناب أحمد بن علي القاسمي، هداه الله، لما يحبه ويرضاه. أما بعد: فقد وصل إلينا كتابك، وفهمنا ما تضمنه من خطابك، وما ذكرت من أنه قد بلغكم أن جماعة من أصحابنا صاروا ينقمون على من هو متمسك بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ممن مذهبه مذهب أهل البيت الشريف ; فليكن لديك معلوما أن المتمسك بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وما عليه أهل البيت الشريف فهو لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة. ولكن الشأن في تحقيق الدعوى بالعمل ; وهذه الأمة افترقت على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة، قيل: من هي يا رسول الله؟ قال: " من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي " 1. وجميع أهل البدع والضلال من هذه الأمة يدعون هذه الدعوى، كل طائفة تزعم أنها هي الناجية. فالخوارج، والرافضة، الذين حرقهم علي بن أبي طالب بالنار، وكذلك الجهمية، والقدرية، وأضرابهم، كل فرقة من   1 الترمذي: الإيمان (2641) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 هذه الفرق تدعي أنها هي الناجية، وأنهم المتمسكون بكتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ فصار في هذا تصديق لقوله صلى الله عليه وسلم: " ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة " 1. وأما ما ذكرت من أن مذهب أهل البيت أقوى المذاهب، وأولاها بالاتباع، فليس لأهل البيت مذهبإلا اتباع الكتاب والسنة، كما صح عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قيل له: " هل خصكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء؟ فقال: لا، والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة، إلا فهم يؤتيه الله عبدا في كتابه، وما في هذه الصحيفة ... " الحديث ; وهو مخرج في الصحيحين. وأهل البيت، رضي الله عنهم كذبت عليهم الرافضة، ونسبت إليهم ما لم يقولوه، فصارت الروافض ينتسبون إليهم، وأهل البيت براء منهم، فإياك أن تكون أنت وأصحابك منهم، فإن أصل دين رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل بيته عليهم السلام، هو توحيد الله بجميع أنواع العبادة، لا يدعى إلا هو، ولا ينذر إلا له، ولا يذبح إلا له، ولا يخاف خوف السر إلا منه، ولا يتوكل إلا عليه، كما دل على ذلك الكتاب العزيز. فقال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} [سورة الجن آية: 18] ، وقال تعالى: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ   1 ابن ماجه: الفتن (3993) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ} [سورة الرعد آية: 14] . وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [سورة النحل آية: 36] ، وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} [سورة الأنبياء آية: 25] . فهذا التوحيد هو أصل دين أهل البيت - عليهم السلام ـ. من لم يأت به، فالنبي صلى الله عليه وسلم وأهل بيته براء منه، قال الله تعالى: {وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} [سورة التوبة آية: 3] . ومن مذهب أهل البيت إقامة الفرائض كالصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، ومن مذهب أهل البيت الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وإزالة المحرمات، ومن مذهب أهل البيت محبة السابقين الأولين، من المهاجرين والأنصار، والتابعين لهم بإحسان ; وأفضل السابقين الأولين الخلفاء الراشدون كما ثبت ذلك عن علي من رواية ابنه محمد بن الحنفية وغيره من الصحابة، أنه قال: خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر، ثم عمر؛ والأدلة الدالة على فضيلة الخلفاء الراشدين أكثر من أن تحصر. فإذا كان مذهب أهل البيت ما أشرنا إليه، وأنتم تدعون أنكم متمسكون بما عليه أهل البيت، مع كونكم على خلاف ما هم عليه، بل أنتم مخالفون لأهل البيت، وأهل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 البيت براء مما أنتم عليه ; فكيف يدّعي اتّباع أهل البيت من يدعو الموتى؟ ! ويستغيث بهم في قضاء حاجاته، وتفريج كرباته؟ ! والشرك ظاهر في بلدهم، فيبنون القباب على الأموات، ويدعونهم مع الله، والشرك بالله هو أصل دينهم، مع ما يتبع ذلك من ترك الفرائض، وفعل المحرمات، التي نهى الله عنها في كتابه، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم وسب أفاضل الصحابة: أبو بكر، وعمر، وغيرهما من الصحابة. وأما قولك: إن أناسا من أصحابنا ينقمون عليكم في تعظيم النبي المختار صلى الله عليه وسلم! فنقول: بل الله سبحانه افترض على الناس محبة النبي صلى الله عليه وسلم وتوقيره، وأن يكون أحب إليهم من أنفسهم، وأولادهم، والناس أجمعين، لكن لم يأمرنا بالغلو فيه، وإطرائه، بل هو صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك فيما ثبت عنه في الصحيح أنه قال: " لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله " 1، وفي الحديث الآخر أنه قال، وهو في السياق: " لعنة الله على اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، يحذر ما صنعوا. قالت عائشة رضي الله عنها: ولولا ذلك لأبرز قبره، ولكن خشي أن يتخذ مسجدا " 2. وفي الحديث الآخر عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا تتخذوا قبري عيدا، وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم " 3، " وثبت عن علي بن الحسين: أنه   1 البخاري: أحاديث الأنبياء (3445) , وأحمد (1/24 ,1/47) . 2 البخاري: اللباس (5816) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (531) , والنسائي: المساجد (703) , وأحمد (1/218 ,6/34 ,6/121) , والدارمي: الصلاة (1403) . 3 أبو داود: المناسك (2042) , وأحمد (2/367) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 رأى رجلا يأتي إلى فرجة، كانت عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم فيدعو فنهاه عن ذلك، واحتج عليه بالحديث". وأما قولك: إن المراد بقوله: " لا تتخذوا قبري عيدا " 1 تكرار الزيارة، المرة بعد المرة، والفينة بعد الفينة، وأن الزيارة لا تكون مثل العيد، مرتين فقط، بل تكون متتابعة، ومكررة، فلا يكون الاعتقاد منكم غير هذا. فهذا دليل على جهلك بمذهب أهل البيت، وبما شرعه الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم فإن أهل البيت، فسروا الحديث، بأن المراد اعتياد إتيانه، والدعاء عنده، كما تقدم ذلك عن زين العابدين، علي بن الحسين رضي الله عنه، وهذا هو الذي استمر عليه عمل السلف، وأهل البيت، فإنهم كانوا إذا دخلوا مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم سلموا عليه، وعلى صاحبيه، ولم يقفوا عند النبي صلى الله عليه وسلم لأجل الدعاء هناك، ولم يتمسحوا به، بل إذا أراد أحدهم الدعاء هناك انصرف عن القبر، واستقبل القبلة، ودعا. وأما قولك: وأوجب الصلاة عليه، وعلى آله في الصلاة. فالذي عليه أكثر العلماء: أن الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم وعلى آله في الصلاة لا تجب، وأوجبها بعض العلماء مستدلا بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [سورة الأحزاب آية: 56] ، وليس في الآية دليل على أن الصلاة عليه فرض، لا تصح الصلاة بدونها ; وأما الصلاة على آله فلم   1 أبو داود: المناسك (2042) , وأحمد (2/367) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 نعلم أحدا من العلماء أوجبها، وقال: إن من ترك الصلاة على الآل لا تصح صلاته، بل هذا خلاف ما عليه أهل العلم، أو أكثرهم. وأما قولك: ولا يحسن الاعتراض من أحد على أحد في مذهبه، وكل مجتهد مصيب، على الأصح من الأقوال. فهذا في الفروع، لا في الأصول، فإن الخوارج، والجهمية، والقدرية، وغيرهم من فرق الضلالة يدعون أنهم مصيبون، بل المشركون وغيرهم من اليهود والنصارى، يدعون ذلك، قال الله تعالى: {إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} [سورة الأعراف آية: 30] ، وقال تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} [سورة الكهف آية: 103-104] . وأما ما ذكرت من كثرة جنودكم وأموالكم، فلسنا نقاتل الناس بكثرة ولا قوة، وإنما نقاتلهم بهذا الدين، الذي أكرمنا الله به، ووعد من قام به النصر على من عاداه، فقال تعالى: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [سورة آية: 40-41] ، وقال تعالى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [سورة آية: 171-172-173] . وصلى الله على محمد وآله وصحبه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 (جواب الأمير عبد العزيز بن سعود لياقوت الصنعاني وحثه على الهجرة) وله أيضا عفا عنه الله بسم الله الرحمن الرحيم {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمّىً عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ} الآية [سورة آية: 1-2-3] . من عبد العزيز بن سعود إلى الأخ ياقوت سلمه الله من الآفات، واستعمله بالباقيات الصالحات، وبعد: الخط وصل، وصلك الله إلى رضوانه، وسر الخاطر ما ذكرت من حالك، والله المحمود على ذلك، فأنت اعزم وتوكل على الله، فإن النفوس لها إقبال وإدبار، فأنت خذ بإقبالها واستعن بالله، قال جل جلاله: {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً} [سورة النساء آية: 100] . ويذكر لنا أن أحمد بن الشريف عباس، إمام صنعاء، متوجه لهذا الدين، وعارفه ومحبه، وكذلك يذكر ناس من طلبة العلم، عرفوا التوحيد، وشهدوا به، وأنكروا الشرك بالله، فالمأمول فيك تلطف للناس، وتدعوهم إلى الله، وتذكر قوله سبحانه: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} الآيات [سورة فصلت آية: 33-36] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 وقوله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [سورة يوسف آية: 108] . وفي الحديث عن الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم حين أعطى عليا رضي الله عنه الراية، يوم فتح خيبر، قال: " انفذ على رسلك حتى تنْزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى فيه، فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم " 1. وأساس الإسلام ورأسه توحيد الله بالعبادة، والعبادة فعل العبد، وإلا أفعاله تعالى، كل معترف له بها: الخلق، والرزق، والإحياء، والإماتة، والتدبير ; حتى إن الكفار الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يخلصون لله الدين في حال الشدائد، مثل ما قال سبحانه وتعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [سورة العنكبوت آية: 65] . والشرك اليوم تغلب على غالب الناس، وصار الدعوة، والذبح، والنذر لغير الله، وغير ذلك من العبادات، والتوكل، والخوف، والرجاء صرف لغير الله. فلما أنكر عليهم الشيخ- عفا الله عنه- الشرك بدّعوه، وخرّجوه، ورموه بالعظائم، وهو كما قال محمد بن إسماعيل الصنعاني: وليس له ذنب سوى أنه أتى ... بتحكيم قول الله في الحل والعقد   1 البخاري: المناقب (3701) , ومسلم: فضائل الصحابة (2406) , وأبو داود: العلم (3661) , وأحمد (5/333) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 وفي البيت الآخر: وما كل قول بالقبول مقابل ... وما كل قول واجد الطرد والرد سوى ما أتى عن ربنا ورسوله ... فذلك قول جل يا ذا عن الرد وأما أقاويل الرجال فإنها ... تدور على حسب الأدلة في النقد فيكون عندكم معلوما أن جميع الفرائض، وجميع المحرمات، ما اختلفنا نحن والناس في شيء من ذلك. الاختلاف وقع بيننا وبين الناس عند حق الله تعالى، كون العبادة له وحده لا شريك له، وحق الرسول صلى الله عليه وسلم التصديق والطاعة، في جميع ما يأمر به، وجميع ما ينهى عنه. ويكفيك: ما ذكر الله في آخر سورة الكهف: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} [سورة الكهف آية: 110] . وكذلك الآية التي كتب صلى الله عليه وسلم لعظيم الروم هرقل حيث قال: " أما بعد: أسلم تسلم، يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإنما عليك إثم الأريسيين و {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا} 1 إلى قوله: {فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} " ولكن مثل ما قال الجني 2 فيه صلى الله عليه وسلم:   1 البخاري: الجهاد والسير (2941) , ومسلم: الجهاد والسير (1773) , وأحمد (1/262) . 2 هو جني سمع ينشد أبياتا في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم, وقصته مشهورة في: السير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 وإن قال في يوم مقالة غائب ... فتصديقها في ضحوة اليوم أوغد قال صلى الله عليه وسلم:" لتتبعن سنن من كان قبلكم، حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه. قالوا اليهود والنصارى، يا رسول الله؟ قال: فمن؟ " 1، وفي الحديث الثاني: أخبر صلى الله عليه وسلم:" أن اليهود افترقت على إحدى وسبعين فرقة، والنصارى افترقت على ثنتين وسبعين فرقة، وتفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة قيل يا رسول الله، من الواحدة؟ قال: من كان على مثل ما أنا عليه الآن وأصحابي " 2 وفي الحديث الآخر، قال صلى الله عليه وسلم " لا تقوم الساعة حتى تعبد فئام من أمتي الأوثان، وحتى يلحق حي من أمتي بالمشركين ". والعادة ملاكة، تقلب الشين زينا، ولم تعادى الرسل بشيء قط أعظم من العادة، قال الله تعالى عن المشركين: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} [سورة الزخرف آية: 22] ، والآية الأخرى: {وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [سورة الزخرف آية: 23] ، وقوله تعالى: {فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ} [سورة الصافات آية: 70] . وأنا أعزم عليك، وألزم عليك، أن تتلطف لعلماء أهل صنعاء، وتقرأ عليهم هذا الكتاب.   1 البخاري: أحاديث الأنبياء (3456) , ومسلم: العلم (2669) , وأحمد (3/84 ,3/89) . 2 ابن ماجه: الفتن (3993) , وأحمد (3/145) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 (رسالة الأمير عبد العزيز بن سعود إلى صاحب صنعاء) وله أيضا رحمه الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم التحية والإكرام يهدى إلى سيد الأنام محمد عليه من الله أفضل الصلاة والسلام، ثم ينتهي إلى جناب أكرمه الله بما أكرم به عباده الصالحين. أما بعد: فألفى علينا سعيد بن ثنيان، وحكى لنا عنك من حسن السمت والسيرة ما سر الخاطر، ونسأل الله العظيم أن يجعلنا وإياك من أئمة المتقين، ويذكر أنك حريص على معرفة حالنا، وما نحن عليه، فنخبرك بصورة الحال أنا والناس فيما مضى، على دين واحد، ندعو الله وندعو غيره، وننذر له وننذر لغيره، ونذبح له ونذبح لغيره، ونتوكل عليه ونتوكل على غيره، ونخاف منه ونخاف غيره، ونقر بالشرائع، من صلاة، وزكاة، وصوم، وحج، والذي يعمل بهذا عندنا القليل مع الإقرار، ونقر بالمحرمات، من أنواع الربا، والزنى، وشرب الخمر، وما يشبه هذا من أنواع المحرمات، ولا ينكرها خاص على عام! !. وبين الله لنا التوحيد في آخر هذا الزمان، على يدي ابن عبد الوهاب، وقمنا معه، وقام علينا الناس بالعدوان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 والإنكار لما خالف دين الآباء والأجداد، وقال الناس مثل ما قال الذين من قبلهم: {قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} [سورة الشعراء آية: 74] ، وقالوا: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [سورة الزخرف آية: 23] . وقام على الناس بالأدلة من الكتاب والسنة وإجماع صالح سلف الأمة، الذين قال فيهم صلاة الله وسلامه عليه: " عليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي؛ عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة "، وفي الحديث الثاني: قال صلى الله عليه وسلم:" تركتكم على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك " 1،وفي الحديث الثالث: " كل ما ليس عليه أمرنا فهو رد " 2. والأحاديث في هذا النوع ما يمكن حصرها، ولكن نذكر هذا على سبيل التنبيه. فنقول: الحلال ما حلل صلى الله عليه وسلم، والحرام ما حرم، وقال الله جل جلاله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلامَ دِيناً} [سورة المائدة آية: 3] . فأول ما دعا إليه الرسول صلى الله عليه وسلم شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، ومعنى لا إله إلا الله نفي الإلهية عما سوى الحق جل جلاله، وإثباتها له وحده لا شريك له، والإلهية فعل العبد. وأما أفعاله جل جلاله، فلا وقع فيها نزاع عند الكافر، ولا عند المسلم، قال الله لنبيه: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ   1 ابن ماجه: المقدمة (44) , وأحمد (4/126) . 2 مسلم: الأقضية (1718) , وأحمد (6/180 ,6/256) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} [سورة يونس آية: 31] ، وبالإجماع أن السؤال للكفار. وفي الآية الأخرى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [سورة يونس آية: 18] . ويكفيك أول الزمر - تنْزيل - بين فيها دين الإسلام من دين الكفار في آيتين، قال: بسم الله الرحمن الرحيم {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [سورة آية: 1-2-3] : هذا دين الإسلام الذي دعت إليه الرسل جميعا، من أولهم نوح إلى آخرهم محمد صلوات الله وسلامه عليه. وقال تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} [سورة الزمر آية: 3] ، فصرحت الآية أن غاية الكفار ومطلبهم القربة، والشفاعة بهذا الدعاء. فالمأمول فيك: ما تغتر بأكثر الناس، فإن نبيك صلى الله عليه وسلم أخبر في الأحاديث الصحاح أن دينه سيتغير، وتفعل أمته كما فعل بنو إسرائيل، وأنها ستفترق كما افترق من قبلها من الأمم، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 قال صلاة الله وسلامه عليه: " لتأخذن أمتي مأخذ الأمم قبلها، شبرا بشبر، وذراعا بذراع "، " لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه، قالوا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟ " 1. وقال صلى الله عليه وسلم " لتأخذ أمتي بما أخذت الأمم قبلها شبرا بشبر وذراعا بذراع، حتى لو أن منهم من أتى أمه علانية، لكان من أمتي من يأتي أمه علانية " 2، وقال: " افترقت اليهود عن واحدة وسبعين فرقة، والنصارى عن ثنتين وسبعين فرقة، وستفترق أمتي عن ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة، قالوا: ومن هي يا رسول الله؟ قال: من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي ". والأحاديث في هذا ما تحصى، ولكن الغرض التنبيه. وأما الآيات، فقال جل جلاله: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [سورة الأنعام آية: 116] ، وقال: {وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ} [سورة الأعراف آية: 102] ، وقال: {وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} [سورة ص آية: 24] ، و: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سورة سبأ آية: 13] . وفي الحديث: أن بعث الجنة من الألف واحد. فالمأمول فيك: تجمع علماء صنعا، وتؤمنهم، وتعرض عليهم الكتاب، وتسألهم بالذي أنزل الفرقان على محمد، عن جميع ما ذكرنا في الورقة، وأرجو أن الحق بين لك من الباطل. والوجه الثاني: إن جاز عندك توجه إلينا اثنين أو ثلاثة من طلبة العلم، الذين عليهم الاعتماد عندكم، فلا   1 البخاري: أحاديث الأنبياء (3456) , ومسلم: العلم (2669) , وأحمد (3/84 ,3/89) . 2 البخاري: الاعتصام بالكتاب والسنة (7319) , وأحمد (2/325 ,2/336 ,2/367) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 نعافها منك، فلك عندي وقارهم، وإكرامهم، وتوصيلهم إليك إن شاء الله. ويا علي، يا ولدي، أذكرك الله والذي بعد الموت من الخير والشر، فإن الدنيا زائلة وزائل ما فيها من الخير والشر، والآخرة باقية وباق ما فيها من الخير والشر، ودين جدك - صلاة الله وسلامه عليه - فيه خير الدنيا والآخرة، قال جل جلاله في أهل طاعته: {فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ} [سورة آل عمران آية: 148] . وأنا أصف لك شيئا من الحال، فإن مبتدأ الأمر: رجل حاقدينه الناس، ومعادينه، واليوم دولته ما تقصر عن ألف مبندق 1 وعشرة آلاف فارس، وكل من تبين على هذا الحق بعداوة، كسره الله، وأزال دولته، وأرى فيه العجائب. ويكون عندك معلوما: أن الشرائع والمحرمات، ما وقع بيننا وبين الناس فيها اختلاف، الذي عندنا زين عندهم زين، والذي عندنا شين عندهم شين، إلا أنا فضلناهم بفعل الزين، وغصب الرعايا عليه، وترك الشين، وتقويم الحدود، والتأديب على من فعله، وغالب عدواننا ما يفعلون الزين الذي ما ينكر، ولا ينكرون الشين الذي ينكر. فالأصل الذي اختلفنا فيه التوحيد، والشرك، فنقول   1 أي: حامل سلاح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 مثل ما قال جل جلاله: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} [سورة الجن آية: 18] ، وقال تعالى: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ} الآية [سورة الرعد آية: 14] ، وفي الآية الأخرى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سورة آية: 22-23] . فصرحت الآية، مثل ما صرحت آية الكرسي: أن الشفاعة ما تكون إلا من بعد الإذن. وفي الحديث: قيل يا رسول الله: من أسعد الناس بشفاعتك؟ قال: " من قال لا إله إلا الله خالصا من قلبه " 1، فتلك الشفاعة لأهل الإخلاص، وقال جل جلاله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} [سورة الحج آية: 73] . فلا تغتر بالناس ; قال جل جلاله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [سورة التوبة آية: 34] : فهذه حال العلماء والعباد، فما ظنك في غيرهم؟ والمأمول فيك الجواب، والله: {يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [سورة البقرة آية: 142] ، وصلى الله على محمد آله وصحبه وسلم.   1 البخاري: العلم (99) , وأحمد (2/373) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 (رسالة الإمام سعود بن عبد العزيز إلى أهل نجران في بيان ما هم عليه) وكتب الإمام سعود بن الإمام عبد العزيز، رحمهما الله تعالى إلى أهل نجران: بسم الله الرحمن الرحيم من سعود إلى جناب الأشراف حسين بن ناصر، وحسن دهشا، وحمزة، ومحمد بن حسن، وحسين أحمد، ومقبل بن محمد، وصالح بن عبد الله، وأحمد معوض، وأحمد علي بن شما، وصالح حسين مسلي، سلمهم الله من الآفات، واستعملهم بالباقيات الصالحات، وبعد: ألفى علينا مقبل بن عبد الله، وأشرف على ما نحن عليه، وما ندعو إليه، وما نأمر به، وما ننهى عنه، ويصف لكم من الرأس أكثر مما في القرطاس، إن شاء الله. ونخبركم أننا متبعون لا مبتدعون، ونعبد الله وحده لا شريك له، ونتبع رسوله صلى الله عليه وسلم فيما يأمر به، وينهى عنه، ونقيم الفرائض، ونجبر من تحت يدنا على العمل بها، وننهى عن الشرك بالله، وننهى عن البدع، والمحرمات، ونقيم الحدود، ونأمر بالمعروف، وننهى عن المنكر، ونأمر بالعدل، والوفاء بالعهود، والمكاييل، والموازين، وبر الوالدين، وصلة الأرحام هذا صفة ما نحن عليه، وما ندعو الناس إليه، فمن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 أجاب وعمل بما ذكرناه، فهو أخونا المسلم، حرام المال والدم، ومن أبى قاتلناه، حتى يدين بما ذكرناه. وأنتم أخص الناس باتباع محمد صلى الله عليه وسلم، والحق عليكم أكبر منه على غيركم، والإسلام هو عزكم وشرفكم، كما قال الله تعالى: {لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [سورة الأنبياء آية: 10] ، وقال تعالى: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلونَ} [سورة الزخرف آية: 44] . فالمأمول فيكم القيام، والدعوة إلى الله، لأن الدعوة سبيل من اتبعه صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [سورة يوسف آية: 108] ، وقال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [سورة فصلت آية: 33] . ونسأل الله أن يجعلنا وإياكم من الداعين إليه، المجاهدين في سبيله، لتكون كلمته العليا، ودينه الظاهر، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 (رسالة الإمام سعود بن عبد العزيز إلى سليمان باشا) هذه الرسالة أيضا للإمام سعود بن عبد العزيز بن محمد بن سعود رحمهم الله تعالى، وهذا نصها: 1. بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وصلى الله على محمد النبي الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين. من سعود بن عبد العزيز، إلى سليمان باشا ; أما بعد: فقد وصل إلينا كتابكم، وفهمنا ما تضمنه من خطابكم، وما ذكرتم من أن كتابنا المرسل إلى يوسف باشا على غير ما أمر الله به ورسوله، من الخطاب للمسلمين، بمخاطبة الكفار والمشركين، وأن هذا حال الضالين، وأسوة الجاهلين، كما قال تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ} [سورة آل عمران آية: 7] . فنقول في الجواب عن ذلك بأننا متبعون ما أمر الله به رسوله، وعباده المؤمنين، بقوله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ   1 كانت هذه الرسالة في آخر الجزء الأول بسبب تأخر وجودها حال الطبعة الأولى, فناسب تقديمها إلى مكانها المناسب بعد تيسر الطبع مرة أخرى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [سورة النحل آية: 125] ، وقوله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [سورة يوسف آية: 108] ، وذلك أن الله أوجب علينا النصح لجميع أمة محمد صلى الله عليه وسلم. ومن النصح لهم بيان الحق لهم، بتذكير عالمهم، وتعليم جاهلهم، وجهاد مبطلهم، أولا بالحجة والبيان، وثانيا بالسيف والسنان، حتى يلتزموا دين الله القويم، ويسلكوا صراطه المستقيم، ويبعدوا عن مشابهة أصحاب الجحيم، وذلك أن " من تشبه بقوم فهو منهم " 1 كما ورد ذلك عن الصادق الأمين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. وقد قال تعالى في كتابه المبين: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [سورة آل عمران آية: 105] ، وقال تعالى لهذه الأمة: {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [سورة آية: 31-32] . ومن تلبيس إبليس، ومكيدته لكل جاهل خسيس أن يظن أن ما ذم الله به اليهود والنصارى والمشركين، لا يتناول من شابههم من هذه الأمة، ويقول إذا استدل عليه بالآيات القرآنية، والأحاديث النبوية: هذه الآيات نزلت في المشركين، نزلت في اليهود، نزلت في النصارى ; ولسنا منهم. وهذا من أعظم مكائده، وتلبيسه، فإنه فتن بهذه   1 أبو داود: اللباس (4031) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 الشبهة كثيرا من الأغبياء والجاهلين، وقد قال بعض السلف - لمن قال له ذلك -: مضى القوم وما يعني به غيركم. وقال بعض العلماء: إن مما يحول بين المرء وفهم القرآن أن يظن أن ما ذم الله به اليهود والنصارى والمشركين، لا يتناول غيرهم، وإنما هو في قوم كانوا فبانوا. وقد قال الإمام الحافظ سفيان بن عيينة - وهو من أتباع التابعين -: من فسد من علمائنا ففيه شبه من اليهود، ومن فسد من عُبّادنا، ففيه شبه من النصارى. وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين وغيرهما، من حديث أبي سعيد الخدري، أنه قال: " لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرا بشبر، وذراعا بذراع، حتى لو سلكوا جحر ضب لسلكتموه. قلنا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: " فمن؟ " " 1 وهذا لفظ البخاري. والأحاديث والآثار في هذا المعنى كثيرة. وقد قال ابن عباس، رضي الله عنهما، في قوله تعالى: {كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالا وَأَوْلادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ ْ} الآية قال: "ما أشبه الليلة بالبارحة! كالذين من قبلكم هؤلاء بنو إسرائيل، شبهنا بهم، لا أعلم إلا أنه صلى الله عليه وسلم قال: والذي نفسي بيده، لتتبعنهم، حتى لو دخل الرجل منهم جحر ضب لدخلتموه ". فكيف يظن من له أدنى تمسك بالعلم، بعد هذه الأدلة الواضحة، والبراهين القاطعة، أن هذه الأمة لا تشابه اليهود   1 البخاري: أحاديث الأنبياء (3456) , ومسلم: العلم (2669) , وأحمد (3/84 ,3/89) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 والنصارى، ولا تفعل فعلهم، ولا يتناولهم ما توعد الله به اليهود والنصارى إذا فعلوا مثل فعلهم؟ ومن أنكر وقوع الشرك والكفر في هذه الأمة فقد خرق الإجماع، وسلك طريق الغي والابتداع. ولسنا بحمد الله نتبع المتشابه من التنْزيل، ولا نخالف ما عليه أئمة السنة من التأويل، فإن الآيات التي استدللنا بها على كفر المشرك وقتاله هي من الآيات المحكمات في بابها، لا من المتشابهات واختلف أئمة المسلمين في تأويلها والحكم بظاهرها وتفسيرها، بل هي من الآيات التي لا يعذر أحد من معرفة معناها، وذلك مثل قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [سورة النساء آية: 48] ، وقوله: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} [سورة المائدة آية: 72] ، وقوله: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} الآية [سورة التوبة آية: 5] ، وقوله: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [سورة الأنفال آية: 39] . وأما قولكم: فإنا لله الحمد على الفطرة الإسلامية والاعتقادات الصحيحة، ولم نزل بحمده تعالى عليها، عليها نحيا وعليها نموت، كما قال تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ} الآية [سورة إبراهيم آية: 27] ، فظاهرنا وباطننا بتوحيده تعالى في ذاته وصفاته، كما بين في محكم كتابه، قال تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 [سورة النساء آية: 36] . وقال صلى الله عليه وسلم: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا ألا إله إلا الله "، 1 وقال صلى الله عليه وسلم " بني الإسلام على خمس " 2 إلخ ; فنقول: غاض الوفاء وفاض الجور وانفرجت ... مسافة الخلف بين القول والعمل وليس الإيمان بالتحلي، ولا بالتمني، ولكن ما وقر في القلوب، وصدقته الأعمال. فإذا قال الرجل: أنا مؤمن، أنا مسلم، أنا من أهل السنة والجماعة، وهو من أعداء الإسلام وأهله، منابذ لهم بقوله وفعله، لم يصر بذلك مؤمنا، ولا مسلما، ولا من أهل السنة والجماعة، ويكون كفره مثل اليهود، فإنهم يعرفون الحق كما يعرفون أبناءهم. فإن أصل الإسلام شهادة ألا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، ومضمون شهادة ألا إله إلا الله ألا يعبد إلا الله وحده، فلا يدعى إلا هو، ولا يستغاث إلا به، ولا يتوكل إلا عليه، ولا يخاف إلا منه، ولا يرجى إلا هو، كما قال تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [سورة الكهف آية: 110] ، وقال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} [سورة الجن آية: 18] ، وقال تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [سورة المائدة آية: 23] ، وقال تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} [سورة التوبة آية: 18] .   1 البخاري: الإيمان (25) , ومسلم: الإيمان (22) . 2 البخاري: الإيمان (8) , ومسلم: الإيمان (16) , والترمذي: الإيمان (2609) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (5001) , وأحمد (2/92 ,2/120) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 فكل من دعا مخلوقا، أو استغاث به، أو جعل فيه نوعا من الإلهية، مثل أن يقول: يا سيدي فلان أغثني، أو انصرني، أو اقض ديني، أو اشفع لي عند الله، في قضاء حاجتي، أو أنا متوكل على الله وعليك، فهو مشرك في عبادة الله غيره، وإن قال بلسانه: لا إله إلا الله، وأنا مسلم. وقد كفّر الصحابة رضي الله عنهم مانعي الزكاة، وقاتلوهم، وغنموا أموالهم، وسبوا نساءهم، مع إقرارهم بسائر شرائع الإسلام، وذلك لأن أركان الإسلام، من حقوق لا إله إلا الله، كما استدل به أبو بكر الصديق رضي الله عنه على عمر، حين أشكل عليه قتال مانعي الزكاة، حين قال له: "كيف تقاتل الناس؟ وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها، عصموا مني دماءهم، وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله. فقال أبو بكر: الزكاة من حقها، والله لو منعوني عقالا، كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه، قال عمر: فوالله ما هو إلا أن رأيت الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال، فعرفت أنه الحق " أخرجاه في الصحيحين وغيرهما من كتب الإسلام. فكيف بمن كفر بمعنى لا إله إلا الله؟ وصار الشرك وعبادة غير الله هو دينه، وهو المشهور في بلده، ومن أنكر ذلك عليهم كفروه، وبدعوه، وقاتلوه، فكيف يكون من هذا فعله، مسلما من أهل السنة والجماعة، مع منابذته لدين الإسلام، الذي بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم من توحيد الله، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 وعبادته وحده لا شريك له، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، إلى غير ذلك من المجاهرة بالكفر، والمعاصي، واستحلال محارم الله ظاهرا؟! فشعائر الكفر بالله، والشرك به، هي الظاهرة عندكم، مثل بناء القباب على القبور، وإيقاد السرج عليها، وتعليق الستور عليها، وزيارتها بما لم يشرعه الله ورسوله، واتخاذها عيدا، وسؤال أصحابها قضاء الحاجات، وتفريج الكربات، وإغاثة اللهفات، هذا مع تضييع فرائض الله التي أمر الله بإقامتها، من الصلوات الخمس، وغيرها، فمن أراد الصلاة صلى وحده، ومن تركها لم ينكر عليه، وكذلك الزكاة ; وهذا أمر، قد شاع، وذاع، وملأ الأسماع، في كثير من بلاد الشام، والعراق، ومصر، وغير ذلك من البلدان. وقد حدث ذلك في هذه البلدان، كما ذكر ذلك العلماء في مصنفاتهم، من الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة. فمن ذلك ما ذكره أبو الوفاء بن عقيل الحنبلي قال: لما صعبت التكاليف على الجهال والطغام، عدلوا عن أوضاع الشرع إلى تعظيم أوضاع وضعوها لأنفسهم، فسهلت عليهم، إذ لم يدخلوا بها تحت أمر غيرهم، قال: وهم عندي كفار بهذه الأوضاع، مثل تعظيم القبور، وإكرامها بما نهى عنه الشرع، من إيقاد النيران، وتقبيلها، وتخليقها، وخطاب الموتى بالحوائج، وكتب الرقاع، فيها: يا مولاي افعل بي كذا وكذا، وأخذ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 تربتها تبركا، وإفاضة الطيب على القبور، وشد الرحال إليها، وإلقاء الخرق على الشجر اقتداء بمن عبد اللات والعزى. والويل عندهم لمن لم يقبل مشهد الكف، ولم يتمسح بآجرة مسجد الملموسة يوم الأربعاء، ولم يقل الحمالون على جنازته: أبو بكر الصديق، أو محمد، أو علي، أو لم يعقد على قبر أبيه أزجا بالجص والآجر، ولم يخرق ثيابه إلى الذيل، ولم يرق ماء الورد على القبر، انتهى. فانظر إلى هذا الإمام، كيف ذكر حدوث الشرك في وقته؟ واشتهاره عند العامة الجهال، وتكفيره لهم بذلك، وهو من أهل القرن الخامس، من تلامذة القاضي أبي يعلى الحنبلي، ونقل كلامه هذا غير واحد من أئمة الحنابلة، كأبي الفرج ابن الجوزي، في كتاب تلبيس إبليس. وقال الإمام أبو بكر الطرطوشي المالكي، لما ذكر حديث أبي واقد الليثي، ولفظه: قال: " خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل حنين، ونحن حديثو عهد بكفر، وللمشركين سدرة يعكفون حولها، وينوطون بها أسلحتهم، يقال لها: ذات أنواط، فمررنا بسدرة، فقلنا: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط، كما لهم ذات أنواط. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: الله أكبر، إنها السنن، قلتم - والذي نفسي بيده - كما قالت بنو إسرائيل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 لموسى: اجعل لنا إلها كما لهم آلهة، قال: إنكم قوم تجهلون، لتركبن سنن من كان قبلكم ". قال الطرطوشي: فانظروا رحمكم الله، أينما وجدتم سدرة، أو شجرة يقصدها الناس، ويعظمونها، ويرجون البرء والشفاء من قبلها، ويضربون بها المسامير والخرق فهي ذات أنواط، فاقطعوها، انتهى. فإذا كان اتخاذ هذه الشجرة لتعليق الأسلحة، والعكوف حولها، اتخاذ آلهة مع الله، مع أنهم لا يعبدونها، ولا يسألونها، فما ظنك بالعكوف حول القبر؟ والدعاء به ودعائه، والدعاء عنده، فأي نسبة بالفتنة بشجرة إلى الفتنة بالقبر، لو كان أهل الشرك والبدع يعلمون؟ وقال الحافظ أبو محمد عبد الرحمن بن إسماعيل، المعروف بأبي شامة الشافعي في كتابه الباعث في إنكار البدع والحوادث: ومن هذا القسم أيضا ما قد عم به الابتلاء، من تزيين الشيطان للعامة تخليق الحيطان والعمد، وسرج مواضع مخصوصة من كل بلد، يحكي لهم حاك أنه رأى في منامه بها أحدا، ممن شهر بالصلاح والولاية، فيفعلون ذلك، ويحافظون عليه، مع تضييعهم فرائض الله وسننه، ويظنون أنهم متقربون بذلك، ثم يتجاوزون هذا، إلى أن يعظم وقع تلك الأماكن في قلوبهم، فيعظمونها، ويرجون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 الشفاء لمرضاهم، وقضاء حوائجهم، بالنذر لها. وهي ما بين عيون، وشجر، وحائط، وحجر. وفي مدينة دمشق من ذلك مواضع متعددة، كعوينة الحمى، خارج باب توما، والعمود المخلق داخل الباب الصغير، والشجرة الملعونة اليابسةخارج باب النصر، في نفس قارعة الطريق، سهل الله قطعها واجتثاثها من أصلها، فما أشبهها بذات أنواط التي في الحديث. ثم ساق حديث أبي واقد الليثي المتقدم، ثم ذكر أنه بلغه بعض أهل العلم ببلاد إفريقية، أنه كان إلى جانبه عين تسمى عين العافية، كان العامة قد افتتنوا بها، يأتونها من الآفاق، فمن تعذر عليه نكاح أو ولد قال: امضوا بي إلى العافية، فتعرف فيها الفتنة، فخرج في السَّحر، فهدمها، وأذن الصبح عليها، ثم قال: اللهم إني هدمتها لك، فلا ترفع لها رأسا، قال: فما رفع بها رأس إلى الآن. قال: وأدهى من ذلك وأمر إقدامهم على الطريق السابلة يجيزون في أحد الأبواب الثلاثة القديمة العادية التي هي من بناء الجن، في زمن نبي الله سليمان بن داود عليهما السلام، أو من بناء ذي القرنين، أو من بناء غيره، مما يؤذن بالتقدم، على ما نقلناه في كتاب تاريخ دمشق، وهو الباب الشمالي ; ذكر لهم بعض من لا يوثق به، في شهور سنة ست وثلاثين وستمائة، أنه رأى مناما يقتضي أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 ذلك المكان دفن فيه بعض أهل البيت، وقد أخبرني عنه ثقة أنه اعترف له أنه افتعل ذلك، فقطعوا طريق المارة فيه، وجعلوا الباب بكماله مسجدا مغصوبا، وقد كان الطريق يضيق بسالكيه، فتضاعف الضيق والحرج، على من دخل ومن خرج، ضاعف الله نكال من تسبب في بنائه، وأجزل ثواب من أعان على هدمه، وإزالة اعتدائه، اتباعا لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في هدم مسجد الضرار، انتهى كلامه. فانظر إلى كلام هؤلاء الأئمة، وما حدث في زمانهم من الشرك، وأنه قد عم الابتلاء به في وقتهم، ومعلوم أنه لا يأتي زمان إلا والذي بعده شر منه، وتأمل كلامه في تخصيصه دمشق بما حدث فيها من الشرك والأوثان، وتمنيه إزالة ذلك، وهي بلده، ومستوطنه. وقال ابن القيم رحمه الله، في كتابه إغاثة اللهفان: ومن أعظم مكائده - التي كاد بها أكثر الناس، وما نجا منها إلا من لم يرد الله فتنته - ما أوحاه قديما وحديثا إلى حزبه وأوليائه، من الفتنة بالقبور، حتى آل الأمر فيها إلى أن عبد أربابها، ثم جعلت تلك الصور أجسادا لها ظل، ثم جعلت أصناما وعبدت مع الله؛ وكان أول هذا الداء العظيم في قوم نوح وأطال الكلام في ذلك إلى أن قال: وكان بدمشق كثير من هذه الأنصاب، فيسر الله سبحانه كسرها على يد شيخ الإسلام، وحزب الله الموحدين، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 كالعمود المخلق، والنصب الذي كان بمسجد النارنج عند المصلى يعبده الجهال، والنصب الذي كان تحته الطاحون، الذي عنده مقابر النصارى، ينتابه الناس للتبرك، وكان صورة صنم في نهر القلوط ينذرون له، ويتبركون به. وقطع الله سبحانه المسجد الذي عند الرحبة يسرج عنده ويتبرك به المشركون، وكان عمودا طويلا على رأسه حجر كالكرة، وعند مسجد درب الحجر نصب قد بني عليه مسجد صغير يعبده المشركون، يسر الله كسره. فما أسرع أهل الشرك إلى اتخاذ الأوثان من دون الله، ولو كانت ما كانت، ويقولون: إن هذا الحجر، وهذه الشجرة، وهذه العين، تقبل النذر، أي تقبل العبادة من دون الله، فإن النذر عبادة وقربة يتقرب بها الناذر إلى المنذور له، ويتمسحون بذلك النصب ويستلمونه. ولهذا أنكر السلف التمسح بحجر المقام، الذي أمر الله أن يتخذ مصلى، كما ذكره الأزرقي في كتاب مكة، عن قتادة، في قوله تعالى: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً} [سورة البقرة آية: 125] . قال: إنما أمروا أن يصلوا عنده، ولم يؤمروا بمسحه، ولقد تكلفت هذه الأمة شيئا ما تكلفته الأمم، ذكر لنا من رأى أثره وأصابعه، فما زالت هذه الأمة تمسحه حتى اخلولق، انتهى. وقال ابن القيم رحمه الله، في كتابه المشهور: بزاد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 المعاد في هدى خير العباد ; لما ذكر غزوة الطائف، وقدوم وفدهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنهم سألوه أشياء، وكان فيما سألوه: أن يدع لهم اللات ثلاث سنين لا يهدمها، واعتذروا أن مرادهم بذلك أن لا يروعوا نساءهم وسفهاءهم، فأبى عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فما برحوا يسألونه سنة، ويأبى عليهم، حتى سألوه شهرا واحدا بعد قدومهم، فأبى عليهم أن يدعها شيئا مسمى. قال: لما ذكر فوائد القصة، ومنها: أنه لا يجوز إبقاء مواضع الشرك والطواغيت بعد القدرة على هدمها وإبطالها يوما واحدا، فإنها شعائر الكفر والشرك، وهي أعظم المنكرات، فلا يجوز الإقرار عليها مع القدرة البتة ; وهكذا حكم المشاهد التي بنيت على القبور التي اتخذت أوثانا وطواغيت تعبد من دون الله، والأحجار التي تقصد للتعظيم والتبرك والنذر والتقبيل، لا يجوز إبقاء شيء منها على وجه الأرض، مع القدرة على إزالته، وكثير منها بمنْزلة اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى، وأعظم شركا عندها وبها، والله المستعان. ولم يكن أحد من أرباب هذه الطواغيت يعتقد أنها تخلق أو ترزق أو تحيي وتميت، وإنما كانوا يفعلون عندها وبها ما يفعله إخوانهم من المشركين اليوم عند طواغيتهم، فاتبع هؤلاء سنن من كان قبلهم، وسلكوا سبيلهم حذو القذة بالقذة، وأخذوا مأخذهم شبرا بشبر، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 وذراعا بذراع. وغلب الشرك على أكثر النفوس، لظهور الجهل، وخفاء العلم. وصار المعروف منكرا، والمنكر معروفا، والسنة بدعة، والبدعة سنة. ونشأ في ذلك الصغير، وهرم عليه الكبير، وطمست الأعلام، واشتدت غربة الإسلام. وقلت العلماء، وغلبت السفهاء. وتفاقم الأمر، واشتد البأس، وظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس. ولكن لا تزال طائفة من العصابة المحمدية بالحق قائمين، ولأهل الشرك والبدع مجاهدين، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وهو خير الوارثين. ومنها جواز صرف الإمام الأموال، التي تصير إلى هذه المشاهد والطواغيت في الجهاد ومصالح المسلمين ; فيجوز للإمام، بل يجب عليه أن يأخذ أموال هذه الطواغيت التي تساق إليها، ويصرفها على الجند والمقاتلة ومصالح المسلمين، كما " أخذ النبي صلى الله عليه وسلم أموال اللات، وأعطاها لأبي سفيان يتألفه بها، وقضى منها دين عروة والأسود ". وكذا يجب عليه هدم هذه المشاهد التي بنيت على القبور، التي اتخذت أوثانا ; وله أن يقطعها للمقاتلة، أو يبيعها، ويستعين بأثمانها على مصالح المسلمين. وكذا الحكم في أوقافها، فإن وقفها، والوقف عليها باطل، وهو مال ضائع، فيصرف في مصالح المسلمين; فإن الوقف لا يصح إلا في قربة وطاعة لله ورسوله، فلا يصح الوقف على مشهد ولا قبر يسرج عليه ويعظم وينذر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 له، ويحج إليه، ويعبد من دون الله، ويتخذ إلها من دونه; وهذا لا يخالف فيه أحد من أئمة الإسلام، ومن اتبع سبيلهم. وقال الشيخ قاسم، في شرح: درر البحار، وهو من أئمة الحنفية: النذر الذي يقع من أكثر العوام، يأتي إلى قبر بعض الصلحاء، قائلا: يا سيدي فلان، إن رد غائبي، أو عوفي مريضي، أو قضيت حاجتي، فلك من الذهب، أو الطعام، أو الشمع، كذا، باطل إجماعا، لوجوه; منها: أن النذر للمخلوق لا يجوز. ومنها: أن ذلك كفر، إلى أن قال: وقد ابتلي الناس بذلك، لا سيما في مولد أحمد البدوي; انتهى كلامه. وقال الأذرعي في قوت المحتاج، شرح المنهاج، وهو من أئمة الشافعية: وأما النذر للمشاهد التي بنيت على قبر ولي أو شيخ، أو على اسم من حلها من الأولياء، أو تردد في تلك البقعة من الأنبياء والصالحين، فإن قصد الناذر بذلك - وهو الغالب، أو الواقع من مقصود العامة - تعظيم البقعة، والمشهد، والزاوية، أو تعظيم من دفن بها ممن ذكرنا، أو نسبت إليه، أو بنيت على اسمه، فهذا النذر باطل، غير منعقد. فإن معتقدهم أن لهذه الأماكن خصوصيات بأنفسها، ويرون أنها مما يدفع بها البلاء، ويستجلب به النعماء، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 ويستشفى بالنذر لها من الأدواء، حتى إنهم ينذرون لبعض الأحجار، لما قيل: إنه جلس إليها، أو استند إليها عبد صالح، وينذرون لبعض القبور السرج، والشموع، والزيت، ويقولون: القبر الفلاني، والمكان الفلاني، يقبل النذر، يعنون بذلك أنه يحصل بالنذر له الغرض المأمول، من شفاء مريض، وقدوم غائب، أو سلامة مال، وغير ذلك من أنواع نذر المجازاة. فهذا النذر، على هذا الوجه، باطل لا شك فيه، بل نذر الزيت، والشمع، ونحوهما، للقبور، باطل مطلقا. من ذلك: نذر الشموع الكثيرة العظيمة، لقبر الخليل صلى الله عليه وسلم، ولقبر غيره من الأنبياء والأولياء; فإن الناذر لا يقصد بذلك إلا الإيقاد على القبر، تبركا وتعظيما، ظانا أن ذلك قربة. وأكثر من ينذر ذلك، يصرح بمقصوده، فيقول: لله علي كذا من الشمع مثلا، يوقد عند رأس الخليل، أو على القبر الفلاني، أو قبر الشيخ فلان، فهذا مما لا ريب في بطلانه. والإيقاد المذكور، محرم، سواء انتفع به منتفع هناك، أم لا، لأن الناذر لم يقصد ذلك، ولا مر بباله، بل قصده وغرضه ما أشرنا إليه; فهذا الفعل من البدع الفاحشة، التي عمت بها البلوى، وفيها مضاهاة لليهود والنصارى، الذين لعنوا في الحديث الصحيح، على تعاطيهم ذلك على قبور أنبيائهم عليهم السلام. انتهى. فانظر إلى تصريح هؤلاء الأئمة، بأن هذه الأعمال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 الشركية، قد عمت بها البلوى، وشاعت في كثير من بلاد الشام وغيرها، وأن الإسلام قد اشتدت غربته، حتى صار المعروف منكرا، والمنكر معروفا; وأن هذه المشاهد، والأبنية التي على القبور، قد كثرت، وكثر الشرك عندها وبها، حتى صار كثير منها، بمنْزلة اللات والعزى، ومناة الثالثة الأخرى، بل أعظم شركا عندها وبها، وهذا مما يبطل قولكم: إنكم على الفطرة الإسلامية، والاعتقادات الصحيحة، ويبين أن أكثركم قد فارق ذلك، ونبذه وراء ظهره، وصار دينه الشرك بالله، ودعاء الأموات، والاستغاثة بهم، وسؤالهم قضاء الحاجات، وتفريج الكربات، والتمسك بالبدع المحدثات. وأما قولكم: فنحن مسلمون حقا، وأجمع على ذلك أئمتنا أئمة المذاهب الأربعة، ومجتهدو الدين والملة المحمدية. فنقول: قد بينا من كلام الله، وكلام رسوله، وكلام أتباع الأئمة الأربعة، ما يدحض حجتكم الواهية، ويبطل دعواكم الباطلة، وليس كل من ادعى دعوى، صدقها بفعله; فما استغنى فقير، بقوله: ألف دينار، وما احترق لسان، بقوله: نار، فإن اليهود أعداء رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا لرسول الله لما دعاهم إلى الإسلام، قالوا: نحن مسلمون، إلا إن كنت تريد أن نعبدك، كما عبدت النصارى المسيح، وقالت: النصارى مثل ذلك; وكذلك فرعون، قال لقومه: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 {مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ} [سورة غافر آية: 29] ، وقد كذب، وافترى في قوله ذلك، وحالكم، وحال أئمتكم، وسلاطينكم تشهد بكذبكم وافترائكم في ذلك. وقد رأينا لما فتحنا الحجرة الشريفة، على ساكنها أفضل الصلاة والسلام، عام اثنين وعشرين، رسالة لسلطانكم: سليم، أرسلها ابن عمه، إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستغيث به، ويدعوه، ويسأله النصر على الأعداء، من النصارى وغيرهم; وفيها من الذل، والخضوع، والعبادة، والخشوع، ما يشهد بكذبكم. وأولها: من عبيدك السلطان سليم، وبعد: يا رسول الله، قد نالنا الضر، ونزل بنا من المكروهما لا نقدر على دفعه، واستولى عباد الصلبان على عباد الرحمن، نسألك النصر عليهم، والعون عليهم، وأن تكسرهم عنا، وذكر كلاما كثيرا، هذا معناه وحاصله. فانظر إلى هذا الشرك العظيم، والكفر بالله الواحد العليم، فما سأله المشركون من آلهتهم، العزى، واللات، فإنهم إذا نزلت بهم الشدائد، أخلصوا لخالق البريات. فإذا كان هذا حال خاصتكم، فما الظن بفعل عامتكم، وقد رأينا من جنس كلام سلطانكم، كتبا كثيرة، في الحجرة، للعامة والخاصة، فيها من سؤال الحاجات، وتفريج الكربات، ما لا نقدر على ضبطه، وقد ورد في الحديث الذي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 رواه أبو داود، وغيره: " أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن أمته ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار، إلا واحدة، قيل: من هي يا رسول الله؟ قال: من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي " 1. فأهل السنة والجماعة هم أتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل زمان، ومكان; وهم الفرقة الناجية، كالصحابة، والتابعين، والأئمة، الأربعة، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم القيامة. وقد بعث الله جميع رسله بتوحيده، ورفع مناره، وطمس الشرك، ومحو آثاره. ومن أعظم الشرك والضلال: ما وقع في هذه الأمة، من البناء على القبور، ومخاطبة أصحابها بقضاء الأمور، وصرف كثير لها من العبادات، والنذور. فهذا النبي صلى الله عليه وسلم هل تجد في عصره بناء على قبر صالح؟ أو ولي؟ أو شهيد؟ أو نبي؟ بل نهى عن البناء على القبور، كما ثبت في صحيح مسلم وغيره. وكذلك أصحابه من بعده، فتحوا الشام، والعراق، وغالب أقطار الأرض، فهل تجدون أحدا منهم بنى على قبر أو دعاه؟ أو استغاث به؟ أو نذر له؟ أو ذبح له؟ أو وقف عليه وقفا؟ أو أسرج عليه؟ بل ثبت عنه صلى الله عليه وسلم النهي عن ذلك، والتغليظ فيه، ولعن من فعله، كما ثبت عنه أنه " بعث علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن لا يدع تمثالا إلا طمسه، ولا قبرا مشرفا إلا سواه " 2 رواه مسلم، وكذلك لم   1 الترمذي: الإيمان (2641) . 2 مسلم: الجنائز (969) , والترمذي: الجنائز (1049) , والنسائي: الجنائز (2031) , وأبو داود: الجنائز (3218) , وأحمد (1/96 ,1/128 ,1/145) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 يكن أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، يقول - إذا نزلت بهم ترة، أو عرضت له حاجة – لميت: يا سيدي فلان، أنا في حسبك، أو اقض حاجتي، كما يقوله بعض هؤلاء المشركين لمن يدعونهم من الموتى والغائبين; ولا أحد من الصحابة استغاث بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد موته، ولا بغيره من الأنبياء لا عند قبورهم، ولا إذا بعدوا عنها، ولا كانوا يقصدون الدعاء عند قبور الأنبياء، ولا الصلاة عندها؛ بل: " لما قحط الناس، في زمان عمر بن الخطاب، استسقى بالعباس، وتوسل بدعائه، وقال: اللهم إنا كنا نتوسل إليك، إذا أجدبنا بنبينا، فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا، فاسقنا، فيسقون ". فهذا توسل بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم وشفاعته في حياته، ولهذا: توسلوا بعد وفاته بدعاء العباس. وهذا كله تحقيق لما بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم من إخلاص العبادة بجميع أنواعها لله وحده، الذي هو حقيقة معنى لا إله إلا الله; فإن الله إنما أرسل الرسل، وأنزل الكتب، ليعبد وحده، ولا يدعى معه إله آخر، لا دعاء عبادة، ولا دعاء مسألة، وقد قال تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} [سورة النساء آية: 171] ، وقال تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [سورة التوبة آية: 31] . فاتخاذ الأحبار، والرهبان أربابا، هو من فعل اليهود، والنصارى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 وقال غير واحد من العلماء: إن من أسباب الكفر، والشرك: الغلو في الصالحين، كعبد القادر وأمثاله، بل الغلو في علي بن أبي طالب رضي الله عنه، بل الغلو في الأنبياء، كالمسيح، وغيره; فمن غلا في نبي، أو ولي، أو جعل فيه نوعا من الإلهية، مثل أن يقول: يا سيدي فلان، أغثني، أو انصرني، أو أنا في حسبك، فكل هذا شرك، وضلال، يستتاب صاحبه، فإن تاب وإلا قتل. قال ابن القيم رحمه الله، في شرح المنازل: ومن أنواع الشرك: طلب الحوائج من الموتى، والاستغاثة بهم، والتوجه إليهم، وهذا أصل شرك العالم، إلى أن قال: وما نجا من شرك هذا الشرك الأكبر، إلا من جرد التوحيد لله، وعادى المشركين في الله، وتقرب بمقتهم إلى الله، قال: وما أعز من تخلص من هذا! بل ما أعز من لا يعادي من أنكره! وأما قولكم: وأما ما اعترينا، وما ابتلينا به من الذنوب، فليست أول قارورة كسرت في الإسلام، ولا يخرجنا من دائرة الإسلام، كما زعمت الخوارج، من الفرق الضالة، الذين عقيدتهم، على خلاف عقيدة أهل السنة والجماعة. فنقول: نحن بحمد الله، لا نكفر أحدا من أهل القبلة بذنب، وإنما نكفر لهم، بما نص الله ورسوله، وأجمع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 عليه علماء الأمة المحمدية، الذين هم لسان صدق في الأمة، أنه كفر، كالشرك في عبادة الله غيره، من دعاء، ونذر، وذبح، وكبغض الدين وأهله، والاستهزاء به. وأما الذنوب، كالزنى، والسرقة، وقتل النفس، وشرب الخمر، والظلم، ونحو ذلك، فلا نكفر من فعله إذا كان مؤمنا بالله ورسوله، إلا إن فعله مستحلا له، فما كان من ذلك فيه حد شرعي أقمناه على من فعله، وإلا عزرنا الفاعل بما يردعه، وأمثاله عن ارتكاب المحرمات. وقد جرت المعاصي، والكبائر، في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ولم يكفروا بها، وهذا مما رد به أهل السنة والجماعة، على الخوارج، الذين يكفرون بالذنوب، وعلى المعتزلة، الذين يحكمون بتخليده في النار، وإن لم يسموه كافرا، ويقولون: ننَزله منْزلة، بين المنْزلتين، فلا نسميه كافرا، ولا مؤمنا، بل فاسقا، وينكرون شفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم القيامة، ويقولون: لا يخرج من النار أحد دخلها، بشفاعة، ولا غيرها. ونحن بحمد الله، برآء من هذين المذهبين: مذهب الخوارج، والمعتزلة; ونثبت شفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيره من الأنبياء، والصالحين، ولكنها لا تكون إلا لأهل التوحيد خاصة، ولا تكون إلا بإذن الله، كما قال تعالى: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى} [سورة الأنبياء آية: 28] ، وقال: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} [سورة البقرة آية: 255] . فذكر في الشفاعة شرطين: أحدهما: أنها لا تكون إلا بعد الإذن من الله للشافع، لا كما يظنه المشركون الذين يسألونها من غير الله في الدنيا. وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سورة آية: 22-23] . قال ابن القيم، رحمه الله تعالى، في الكلام على هذه الآية: وقد قطع الله سبحانه الأسباب التي يتعلق بها المشركون جميعها، قطعا يعلم من تأمله وعرفه أن من اتخذ من دون الله وليا، أو شفيعا، فمثله: {كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ} [سورة العنكبوت آية: 41] . فالمشرك إنما يتخذ معبوده، لما يحصل له به من النفع، والنفع لا يكون إلا ممن فيه خصلة، من هذه الأربع: إما مالك لما يريده عابده منه، فإن لم يكن مالكا، كان شريكا للمالك، فإن لم يكن شريكا، كان معينا أو ظهيرا، فإن لم يكن معينا ولا ظهيرا، كان شفيعا عنده؛ فنفى سبحانه المراتب الأربع نفيا مرتبا، منتقلا من الأعلى إلى ما دونه، فنفى الملك، والشركة، والمظاهرة، والشفاعة، التي يطلبها المشرك، وأثبت شفاعة لا نصيب فيها لمشرك، وهي: الشفاعة بإذنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 فكفى بهذه الآية ورا، وبرهانا، ونجاة، وتجريدا للتوحيد، وقطعا لأصول الشرك ومواده، لمن عقلها; والقرآن مملوء من أمثالها، ونظائرها، ولكن أكثر الناس لا يشعر بدخول الواقع تحته، ويظنه في نوع وقوم قد خلوا من قبل، ولم يعقبوا وارثا; وهذا هو الذي يحول بين القلب وبين فهم القرآن; ولعمر الله إن كان أولئك قد خلوا، فقد ورثهم من هو مثلهم، وشر منهم، ودونهم، وتناول القرآن لهم، كتناوله لأولئك؛ ولكن: الأمركما قال عمر بن الخطاب، رضي الله عنه: "إنما تنقض عرى الإسلام، عروة عروة، إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية " أي: لأنه إذا لم يعرف الجاهلية والشرك، وما عابه القرآن وذمه، وقع فيه وأقره، ودعا إليه، وصوبه، وحسنه، وهو لا يعرف أنه هو الذي كان عليه الجاهلية، أو نظيره، أو شر منه، أو دونه؛ فتنتقض بذلك عرى الإسلام، ويعود المعروف منكرا، والمنكر معروفا، والبدعة سنة، والسنة بدعة، ويكفر الرجل بمحض الإيمان، وتجريد التوحيد، ويبدع بتجريد متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم ومفارقة الأهواء والبدع. ومن له بصيرة، وقلب حي، يرى ذلك عيانا; وبالله التوفيق، انتهى. وهذا الذي ذكره غير واحد عن أئمة العلم، من تغير الإسلام، وغربته، قد أخبر به الصادق المصدق، صلوات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 الله وسلامه عليه، كما ثبت عنه في صحيح مسلم، أنه قال: " بدأ الإسلام غريبا، وسيعود غريبا كما بدأ " 1 وفي حديث ثوبان، الذي في صحيح مسلم وغيره: " ولا تقوم الساعة، حتى يعبد فئام من أمتي الأوثان "، وفي حديث العرباض بن سارية: أنه صلى الله عليه وسلم قال:" إنه من يعش منكم، فسيرى اختلافا كثيرا. فعليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين، المهديين، من بعدي. تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ. وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة ضلالة " 2 أخرجه: أبو داود، وغيره. وفي صحيح البخاري عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:?" لا تقوم الساعة حتى تضطرب إليات نساء دوس، حول ذي الخلصة " 3. وهذا الذي تقدم ذكره، من كلام أهل العلم، من حدوث الشرك وغيره من البدع في هذه الأمة، وكثرته، هو مصداق ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الأحاديث، وغيرها. وأما قولكم: فكيف التجري بالغفلة، على إيقاظ الفتنة، بتكفير المسلمين وأهل القبلة، ومقاتلة قوم يؤمنون بالله واليوم الآخر، واستباحة أموالهم وأعراضهم، وعقر مواشيهم وحرق أقواتهم، من نواحي الشام ... إلخ؟ فنقول: قد قدمنا أننا لا نكفر بالذنوب، وإنما نقاتل ونكفر من أشرك بالله، وجعل لله ندا يدعوه كما يدعو الله، ويذبح له كما يذبح لله، وينذر له كما ينذر لله ويخافه،   1 مسلم: الإيمان (145) , وابن ماجه: الفتن (3986) , وأحمد (2/389) . 2 أبو داود: السنة (4607) , والدارمي: المقدمة (95) . 3 البخاري: الفتن (7116) , ومسلم: الفتن وأشراط الساعة (2906) , وأحمد (2/27) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 كما يخاف الله، ويستغيث به عند الشدائد، وجلب الفوائد، ويقاتل دون الأوثان والقباب المبنية على القبور، التي اتخذت أوثانا تعبد من دون الله; فإن كنتم صادقين في دعواكم أنكم على ملة الإسلام، ومتابعة الرسول صلى الله عليه وسلم فاهدموا تلك الأوثان كلها، وسووها بالأرض، وتوبوا إلى الله، من جميع الشرك والبدع، وحققوا قول: لا إله إلا الله، محمد رسول الله. ومن صرف من أنواع العبادة شيئا لغير الله، من الأحياء والأموات، فانهوه عن ذلك، وعرفوه أن هذا مناقض لدين الإسلام، ومشابهة لدين عباد الأصنام؛ فإن لم ينته عن ذلك، إلا بالمقاتلة، وجب قتاله، حتى يجعل الدين كله لله; وقوموا على رعاياكم بالتزام شعائر الإسلام وأركانه، من إقام الصلاة جماعة في المساجد؛ فإن تخلف أحد، فأدبوه، وكذلك: الزكاة التي فرض الله، تؤخذ من الأغنياء، وترد على أهلها الذين أمر الله بصرفها إليهم. فإذا فعلتم ذلك فأنتم إخواننا، لكم ما لنا، وعليكم ما علينا، يحرم علينا دماؤكم وأموالكم. وأما إن دمتم على حالكم هذه، ولم تتوبوا من الشرك، الذي أنتم عليه، وتلتزموا دين الله الذي بعث الله به رسوله، وتتركوا الشرك والبدع والمحدثات، لم نزل نقاتلكم، حتى تراجعوا دين الله القويم، وتسلكوا صراطه المستقيم، كما أمرنا الله بذلك، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312 حيث يقول: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [سورة الأنفال آية: 39] ، وقال تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [سورة التوبة آية: 5] . ونسأل الله العظيم أن يهدينا، وسائر أمة محمد صلى الله عليه وسلم إلى دينه القويم، ويجنبنا طريق المغضوب عليهم والضالين، وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. حرر في اليوم الرابع عشر، من شهر ذي القعدة، سنة خمس وعشرين ومائتين وألف من الهجرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 (توقيع الشريف غالب وعلماء الحرمين على الرسالة) . الحمد لله رب العالمين. نشهد - ونحن علماء مكة، الواضعون خطوطنا، وأختامنا في هذا الرقيم - أن هذا الدين، الذي قام به الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى، ودعا إليه إمام المسلمين سعود بن عبد العزيز، من توحيد الله، ونفي الشرك، الذي ذكره في هذا الكتاب، أنه هو الحق الذي لا شك فيه ولا ريب، وأن ما وقع في مكة والمدينة، سابقا، ومصر والشام وغيرهما من البلاد إلى الآن، من أنواع الشرك المذكورة في هذا الكتاب، أنه: الكفر، المبيح للدم والمال والموجب للخلود في النار; ومن لم يدخل في هذا الدين، ويعمل به، ويوالي أهله، ويعادي أعداءه، فهو عندنا كافر بالله واليوم الآخر، وواجب على إمام المسلمين والمسلمين، جهاده وقتاله، حتى يتوب إلى الله مما هو عليه، ويعمل بهذا الدين. أشهد بذلك، وكتبه الفقير إلى الله تعالى: عبد الملك بن عبد المنعم، القلعي، الحنفي، مفتي مكة المكرمة، عفى عنه، وغفر له. أشهد بذلك، وأنا الفقير إلى الله سبحانه: محمد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314 صالح بن إبراهيم، مفتي الشافعية بمكة، تاب الله عليه. أشهد بذلك، وأنا الفقير إلى الله تعالى: محمد بن محمد عربي، البناني، مفتي المالكية، بمكة المشرفة، عفا الله عنه، وأصلح شأنه. أشهد بذلك، وأنا الفقير إلى الله: محمد بن أحمد، المالكي، عفا الله عنه. أشهد بذلك، وأنا الفقير إلى الله تعالى: محمد بن يحيى، مفتي الحنابلة، بمكة المكرمة، عفا الله عنه آمين. أشهد بذلك، وأنا الفقير إليه تعالى: عبد الحفيظ بن درويش العجيمي، عفا الله عنه. شهد بذلك: زين العابدين جمل الليل; شهد بذلك: علي بن محمد البيتي. أشهد بذلك، وأنا الفقير إلى الله تعالى: عبد الرحمن جمال، عفا الله عنه. شهد بذلك، الفقير إلى الله تعالى: بشر بن هاشم الشافعي عفا الله عنه. الحمد لله رب العالمين، أشهد أن هذا الدين الذي قام به الشيخ: محمد بن عبد الوهاب، ودعانا إليه إمام المسلمين: سعود بن عبد العزيز، من توحيد الله عز وجل ونفي الشريك له، هو الدين الحق، الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 315 وأن ما وقع في مكة والمدينة سابقا، والشام، ومصر وغيرها من البلدان، من أنواع الشركالمذكورة في هذا الكتاب، أنه الكفر المبيح للدم، والمال; وكل من لم يدخل في هذا الدين، ويعمل بمقتضاه، كما ذكر في هذا الكتاب، فهو كافر بالله واليوم الآخر; وكتبه: الشريف غالب بن مساعد، غفر الله له آمين، الشريف: غالب. بسم الله الرحمن الرحيم ما حرر في هذا الجواب، من بديع النطق وفصل الخطاب، وما فيه من الأدلة الصحيحة الصريحة، المستنبطة من الكتاب المبين، وسنة سيد المرسلين، نشهد: بذلك، ونعتقده، ونحن: علماء المدينة المنورة، وندين الله به، ونسأله تعالى الموت عليه. ونقول: الحمد لله رب العالمين، نشهد بأن هذا الذي قام به الشيخ: محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله، ودعانا إليه إمام المسلمين: سعود بن عبد العزيز، من توحيد الله عز وجل، ونفي الشرك، هو الدين الحق، الذي لا شك فيه ولا ريب; وأن ما وقع في مكة والمدينة سابقا، والشام ومصر، وغيرها من البلدان، إلى الآن، من أنواع الشرك المذكورة في هذا الكتاب، أنها: الكفر المبيح للدم والمال. وكل من لم يدخل في هذا الدين، ويعمل به، ويعتقده، كما ذكر الإمام في هذا الكتاب، فهو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 316 كافر بالله واليوم الآخر، والواجب على إمام المسلمين وكافة المسلمين، القيام بفرض الجهاد، وقتال أهل الشرك والعناد. 1 وكل من خالف ما في هذا الكتاب، من أهل مصر، والشام، والعراق، وكل من كان على دينهم الذي هم عليه الآن، فهو كافر مشرك من موقعه، ويمكنه في ذلك، وإزالة ما عليه من الشرك والبدع، وأن ويجعل رايته بالنصر خافقة، إنه سميع مجيب، وصلى الله على محمد وآله وصحبه. أشهد بذلك، وأنا الفقير بن حسين بالروضة الشريفة. وكتبه الفقير إليه عز شأنه: محمد صالح رضوان، شهد بذلك، وكتبه: محمد بن إسماعيل، كتبه الفقير إلى الله عز شأنه:?حسن وعليه ختمهم.   1 لم تظهر لنا: الكلمات المبيض لها, من الأصل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 317 (تنبيه الشيخ سليمان بن عبد الله على قول ابن غنام) قال الشيخ: سليمان بن الشيخ عبد الله، بن محمد رحمهم الله تعالى، منبها على قول الشيخ: حسين بن غنام، رحمه الله تعالى، على شرح حديث عمر، في قول النبي صلى الله عليه وسلم لجبرائيل: (وكتبه) قال الشارح المذكور، أي: أنها منَزلة من عنده، وأنها كلامه القائم بذاته، المنَزه عن الحروف والصوت; قال الشيخ رحمه الله تعالى: قوله: وأنها كلامه القائم بذاته، المنَزه عن الحروف والصوت; هذا الكلام جرى على مذهب الكلابية، ومن تبعهم من الأشعرية أن الكلام هو المعنى القائم بالذات، المنَزه عن الحرف والصوت; فعلى هذا يكون عندهم ليس هو عين كلام الله لأنه حروف وأصوات، وإنما هو عبارة عن كلام الله كما قد صرحوا بذلك في كتبهم. والحق في ذلك، هو ما دل عليه الكتاب، والسنة، والإجماع: أن الله تعالى لم يزل متكلما كيف شاء، إذا شاء بحرف وصوت، كما دل على ذلك القرآن، والأحاديث. فأما القرآن، فواضح. وأما الأحاديث، ففي صحيح البخاري وغيره: " أن الله تعالى ينادي آدم يوم القيامة بصوت "، وهذا نص، وفيه نحو أربعة عشر حديثا. وأما الإجماع، فيكفي في ذلك أنه لا يعرف عن صحابي، ولا تابعي، حرف واحد يخالف ذلك. وقد أفرد العلماء هذه المسألة بالتصنيف، والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 318 (رسالة الشيخ عبد الرحمن بن حسن إلى الأحسائي لما نصب في المساجد من يتهم بمذهب الأشاعرة) وكتب الشيخ: عبد الرحمن بن حسن - رحمه الله تعالى - رسالة أرسلها، لما بلغه أن الشيخ عبد اللطيف بن مبارك نصب في بعض مساجد الأحساء من يتهم بمذهب الأشاعرة، من غير إذن الإمام، وهذا نصها: بسم الله الرحمن الرحيم. من عبد الرحمن بن حسن، إلى الأخوين المكرمين: محمد بن عبد الله، وعبد الله بن سالم، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وما ذكرتما عن نصب الشيخ عبد اللطيف لهؤلاء الثلاثة، فالعاد أن مثل هذا يراجع فيه الإمام، لأن نصبه له في أمر خاص، وهو فصل القضايا بين الناس. وأما النظر فيما يصلح للإمامة والتدريس، فيرد إلى الإمام، وربما أن الإمام يجعل لنا فيه بعض الشورى، لأن كثيرا من الناس ما يخفانا حالهم، وعقائدهم، ونصب الإمام القضاة بنجد كذلك. والشيخ أحمد بن مشرف يسامي الأكابر، ومثلهم ما ينسب له، والذي نعلم عنه: صحة المعتقد في توحيد الأنبياء والمرسلين، الذي جهله أكثر الطوائف. كذلك: هو رجل سلفي، يثبت من صفات الرب تعالى ما وصف به نفسه، ووصفه به رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما يليق بجلال الله وعظمته. وأما أهل بلدكم في السابق وغيرهم، فهم أشاعرة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 319 والأشاعرة: أخطؤوا في ثلاث من أصول الدين، منها: تأويل الصفات، وهو صرفها عن حقيقتها، التي تليق بالله، وحاصل تأويلهم: سلب صفات الكمال عن ذي الجلال. أيضا، أخذوا ببدعة عبد الله بن كلاب، في كلام الرب تعالى وتقدس، ورد العلماء عليهم في ذلك شهير، مثل: الإمام أحمد، والشافعي، وأصحابه، والخلال في كتاب السنة، وإمام الأئمة: محمد بن خزيمة، واللالكائي، وأبو عثمان الصابوني الشافعي، وابن عبد البر، وغيرهم من أتباع السلف، كمحمد بن جرير الطبري، وشيخ الإسلام الأنصاري. وقد رجع كثير من المتكلمين الخائضين، كالشهر ستاني، شيخ أبي المعالي، وكذلك أبو المعالي، والغزالي، وكذلك الأشعري قبلهم في كتاب الإبانة، والمقالات. ومع هذا، وغيره، فبقي هذا في المتأخرين، المقلدين لأناس من المتأخرين، ليس لهم اطلاع على كلام العلماء، وكانوا يعدون من العلماء. وأخطؤوا أيضا في التوحيد، ولم يعرفوا من تفسير لا إله إلا الله إلا أن معناها القادر على الاختراع، ودلالة لا إله إلا الله على هذا دلالة التزام، لأن هذا من توحيد الربوبية الذي أقر به الأمم، ومشركو العرب، كما قال تعالى: {قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [سورة المؤمنون آية: 84-85] الآيات، وهي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 320 كثيرة في القرآن، يحتج تعالى عليهم بذلك على ما أنكروه من توحيد الإلهية، الذي هو معنى لا إله إلا الله، مطابقة، وتضمنا. وهو الذي دعا إليه الناس في أول سورة البقرة، وفي سورة آل عمران، والنساء، وغيرها; ودعت إليه الرسل: {أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ} [سورة هود آية: 2] ، وهو الذي دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد نصارى نجران، ودعا إليه العرب قبلهم، كما قال أبو سفيان لهرقل، لما سأله عما يقول; قال: يقول: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} [سورة النساء آية: 36] ، وكل السور المكية في تقرير معنى لا إله إلا الله، وبيانه. فإذا كان العلماء في وقتنا هذا، وقبله، في كثير من الأمصار، ما يعرفون من معنى لا إله إلا الله إلا توحيد الربوبية، كمن كان قبلهم في عصر شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم، وابن رجب، اغتروا بقول بعض العلماء من المتكلمين أن معنى لا إله إلا الله القادر على الاختراع، وبعضهم يقول: معناها: الغني عمن سواه، المفتقر إليه ما عداه، وعلماء الأحساء ما عادوا شيخنا، رحمه الله، في مبدأ دعوته إلا من أجل أنهم ظنوا أن عبادة يوسف، والعيدروس، وأمثالهما، لا يستفاد بطلانها من كلمة الإخلاص. والله سبحانه بين لنا معنى هذه الكلمة، في مواضع كثيرة من القرآن، قال تعالى عن خليله عليه السلام: {وَإِذْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 321 قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [سورة الزخرف آية: 26-27-28] ، فعبر عن هذه الكلمة بمعناها، وهو: نفي الشرك في العبادة، وقصرها على الله وحده. وقال عن أهل الكهف: {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ} [سورة الكهف آية: 16] . فإذا كان هذا التوحيد، الذي هو حق الله على العباد، قد خفي على أكابر العلماء في أزمنة سلفت، فكيف لا يكون بيانه أهم الأمور؟ خصوصا إذا كان الإنسان لا يصح له إسلام ولا إيمان إلا بمعرفة هذا التوحيد، وقبوله، ومحبته، والدعوة إليه، وتطلب أدلته، واستحضارها ذهنا، وقولا، وطلبا، ورغبة. فهذه نصيحة مني لكل إنسان، دعاني إليها غربة الدين، وقلة المعرفة، فينبغي أن تشاع وتذاع، في محاضر أهل العلم، يقبلها من وفقه الله للخير، فإنها خير مما كتبتم فيه بأضعاف أضعاف، وصلى الله على محمد وآله وسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 322 (رسالة الشيخ عبد الرحمن بن حسن إلى أعيان أهل الأحساء) وله أيضا: قدس الله روحه، ونور ضريحه: بسم الله الرحمن الرحيم. من عبد الرحمن بن حسن، إلى الإخوان والأعيان، من أهل الأحساء: الشيخ عبد اللطيف بن مبارك، وابنيه، وأولاد عبد الله الوهيبي، وعبد الله بن عبد القادر، وعبد الله بن عمير، وإخوانهم: من أهل المدارس، والمساجد، وفقنا الله وإياهم لتوحيده، وأهّلنا وإياهم لمعرفته، ومحبته، وتأييده. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فمن المعلوم لديكم، أن شيخنا شيخ الإسلام: محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى، وعفا عنه، تبين بدعوة الناس إلى إخلاص العبادة لله وحده لا شريك له، وأن لا يصرف من العبادة شيء لأحد سواه، كما قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [سورة الزمر آية: 2-3] ، ثم ذكر دين المشركين، وأنكره تعالى، في أول هذه السورة وغيرها، فقال تعالى: {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ} [سورة الزمر آية: 14-15] . والآيات في إخلاص العبادة، وإفراد الرب تعالى بها في القرآن كثير، تفيد الحصر لمن تدبرها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 323 ولا يخفاكم أن شيخنا رحمه الله، لما تبين بهذه الدعوة الإسلامية، وجد العلماء في الأحساء وغيرها، لا يعرفون التوحيد من الشرك، بل قد اتخذوا الشرك في العبادة دينا; فأنكروا دعوته لجهلهم بالتوحيد، ومعنى لا إله إلا الله، فظنوا أن الإله، هو: القادر على الاختراع; وهذا وغيره من توحيد الربوبية حق، لكنه لا يدخل في الإسلام بدون توحيد الإلهية، وهي العبادة، كما قال تعالى: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ َلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [سورة الزمر آية: 64-65-66] . والذي يبين لكم أن العلماء ما عرفوا التوحيد، ولا عرفوا هذا الشرك: كون أرباب القبور من الأموات تعبد، وتصرف الرغبات والرهبات إليها، ولا عالم من علماء الأحساء أنكر هذا، بل قد صار إنكارهم لإخلاص العبادة لله وحده; ومن دعا إلى الإخلاص كفّروه، وبدّعوه. ولا نعلم أحدا من علماء الأحساء صدع بهذا الدين، وعرَفه، وعرّفه، وهو دعوة الرسل، كما قال بعض السلف: كلمتان يسأل عنهما الأولون والآخرون: ماذا كنتم تعبدون؟ وماذا أجبتم المرسلين؟ فالدين في هاتين الكلمتين، والقرآن كله يقرر ذلك، يعرفه من تدبره. فلما أنه برق للشيخ حسين بن غنام، رحمه الله هذا الدين، وأنه هو الحق الذي لا ريب فيه، صنف في تقريره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 324 المصنفات، وقال في بعض نظمه: نفوس الورى إلا القليل ركونها ... إلى الغي لا يلفى لدين حنينها فسل ربك التثبيت أي موحد ... فأنت على السمحاء باد يقينها وغيرك في بيد الضلالة سائر ... وليس له إلا القبور يدينها فعرف رحمه الله أن فعلهم عند القبور، هو دين لأرباب القبور. والمقصود: أن الإمام فيصل بن تركي - وفقه الله وهداه وتولاه - ألقى الله في نفسه ما حصل من الفترة منكم وغيركم عن هذا الدين، والرغبة فيه والترغيب; فعزم على تجديد هذه الدعوة مخافة أن تدرس، لأن الله فتح على كثير من الناس الدنيا وكثرتها، والتنافس فيها هلاك، لأن بها تحصل الغفلة عن الدين، والإعراض عن دين المرسلين، وتكون المحبة لها، والبغض عليها; حتى إن بعض الناس، يقرب الرافضي وأمثاله لمصلحة دنياه، ولا يميز بين الخبيث والطيب لما أشرب من هواه الذي طبع على قلبه فأعماه وأصماه. فإن حصل منكم وأمثالكم قيام في هذا الدين، وسؤال العامة عن أصول الدين، وقراءة منكم وتدريس في كتب التوحيد، التي وجودها حجة عليكم، فهذا هو الواجب، كما قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 325 فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} [سورة آل عمران آية: 187] . والذي هذه حاله، ما يستحق أن يصير في مدرسة ومسجد، يأكل وقفهما، لأنه أوقع نفسه في الوعيد الشديد، وغفل عن أوجب العلوم، وأفرضها. فاجعلوا لكم قصدا حسنا مع ربكم، ولا تضيعوا دينكم فتبوؤوا بإثم من حولكم من الجهال، إذا تركتم تعلم دينكم، كما في كتاب النبي صلى الله عليه وسلم لهرقل: (فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين، و {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [سورة آل عمران آية: 64] ، ففي هذه الآية بيان التوحيد في العبادة، ونفي الشرك فيها، وبيان أن هذا هو الإسلام. وهذا الخط لكم، فيه بشارة ونذارة، والسلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 326 (رسالة الشيخ عبد الرحمن بن حسن إلى ابن مقرن في الحث على النظر في الأهم من أصول الدين) وله أيضا: رحمه الله. بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الرحمن بن حسن، إلى الأخ الشيخ: محمد بن مقرن، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وجواب الأشياخ الثلاثة وصل، لكنه لا يطابق السؤال. واعلم: أني لم أرد بذلك السؤال، إلا الإرشاد إلى النظر في الأهم من أصول الدين، لينشروه تقريرا وتحريرا; فأخرجته مخرج السؤال، ليكون أدعى إلى الالتفات إليه، فلم يحصل جواب يطابق السؤال. والسؤال إنما هو عن توحيد الاعتقاد والعمل، الذي اتفقت عليه دعوة المرسلين عليهم السلام، وما دعوا إلى شيء قبله، وهو توحيد المراد، والإرادة. فالمطلوب: أن يعرفوه بتعريف جامع، ويذكروا دليله، فإنه أبين شيء وأوضحه لمن تدبر الآيات المحكمات، وما قاله السلف الأول، والأئمة وأتباعهم، من أهل السنة، الذين علت هممهم، عن النظر في أوضاع المتكلمين، والمتصوفة، لما فيها من التخليط والاضطراب والخطأ، كما لا يخفى على من اهتدى، وكل أهل مذهب من الأربعة: ففيهم من أتباع السلف، وأهل التحقيق، كثير، وقبلهم أئمة الحديث، فمن علت همته إلى طلب الهدى، وبالسلف وأتباعهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 327 اقتدى، نال المنى، إن شاء الله، وأصاب الهدى. والأشياخ الثلاثة، كما ذكرت - أيدهم الله بنور البصيرة - معهم من الذكاء والفطنة، ما يجب أن يصرفوه إلى أهم الأمور; فلو صرفوا الهمة إلى ما أشرت إليه، نالوا به خير الدنيا والآخرة، بتوفيق الله تعالى. وما تركت مكاتبتهم في هذا الشأن، إلا لكون الغرض أعم، فإن عندهم من هو أسن منهم، وقد سمعوا اليسير من شيوخنا; إذا عرفت ما قلته، فإن حصل تعريف جامع لذلك التوحيد، الذي هو ثالث أنواعه، فلا بد من تعريف الإله، المنفي بكلمة الإخلاص، والإلهية المثبتة للمستثنى فيها، وبيان مضمون هذه الكلمة، وما دلت عليه، مطابقة، وتضمنا. ولا بد أيضا: من تعريف العبادة كما عرفها المحققون، ثم تعريف الشرك، المنافي لذلك التوحيد، ويكون التعريف جامعا. وأما الشرك الخفي، فهو: الشرك الأصغر، كالحلف بغير الله في الجملة، والرياء، وقول: ما شاء الله وشئت، ونحو ذلك، فإنه أكبر من الكبائر، ولا يخرج من الملة، ونعوذ بالله من قول وعمل، لا يبتغى به وجه الله. ومما يرشد إلى الاهتمام بهذه الأمور: أن من العلماء من غلط في مسمى التوحيد الذي هو أصل الدين، وأساس الملة، كما قال شيخ الإسلام: أحمد بن تيمية: وقد غلط الجزء: 1 ¦ الصفحة: 328 في مسمى التوحيد طوائف من أهل النظر، ومن أهل العبادة، حتى قلبوا حقيقته، وطائفة ظنت أن التوحيد نفي الصفات، وطائفة ظنت أنه الإقرار بتوحيد الربوبية. ومنهم من أطال في تقرير هذا، وظن أنه بذلك قرر الوحدانية، وأن الألوهية: نفي القدرة على الاختراع، ونحو ذلك، ولم يعلم أن مشركي العرب مقرّون بذلك. وساق الأدلة، كقوله: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} الآية [سورة يونس آية: 31] . وقال شيخنا، شيح الإسلام: محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله: من أعجب العجاب، وأكبر الآيات الدالة على قدرة الملك الغالب: ستة أصول، بينها الله تعالى بيانا واضحا للعوام، فوق ما يظن الظانون، ثم بعد ذلك غلط فيها أذكياء العالم، وعقلاء بني آدم، إلا أقل القليل. الأصل الأول: إخلاص الدين لله وحده لا شريك له، وبيان ضده، الذي هو: الشرك بالله، وكون أكثر القرآن في بيان هذا الأصل من وجوه شتى، بكلام يفهمه أبلد العامة. ثم لما صار على أكثر الأمة ما صار، أظهر لهم الشيطان الإخلاص في صورة تنقص الصالحين، والتقصير في حقهم، وأظهر لهم الشرك بالله في صورة محبة الصالحين، واتباعهم. انتهى كلامه رحمه الله 1.   1 وتقدم في ص 172-174 ذكر هذه الأصول الستة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 329 (مقامات الكلام في الإسلام والإيمان) وقال أيضا: الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ محمد رحمهم الله: الكلام في الإسلام والإيمان، في مقامات: الأول: فيما دل عليه حديث عمر رضي الله عنه في سؤال جبريل عليه السلام، للنبي صلى الله عليه وسلم بقوله: " أخبرني عن الإسلام؟ فقال: الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله " 1 الحديث. " قال: أخبرني عن الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، وباليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره " 2. فأخبر أن الإسلام، هو الأعمال الظاهرة، والإيمان، يفسر بالأعمال الباطنة، وبذلك يفسر كل منهما عند الاقتران. فإذا أفرد الإيمان، كما في كثير من آيات القرآن، دخل فيه الأعمال الظاهرة والباطنة، كما دل على ذلك كثير من الآيات والأحاديث، كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ} الآية [سورة النساء آية: 136] . فتناولت الآية جميع الأعمال الباطنة والظاهرة، لدخولها في مسمى الإيمان. وأما الأركان الخمسة، فهي جزء مسمى الإيمان، ولا يحصل الإسلام على الحقيقة إلا بالعمل بهذه الأركان،   1 مسلم: الإيمان (8) , والترمذي: الإيمان (2610) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (4990) , وأبو داود: السنة (4695) , وابن ماجه: المقدمة (63) , وأحمد (1/51) . 2 البخاري: الإيمان (50) , ومسلم: الإيمان (9 ,10) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (4991) , وابن ماجه: المقدمة (64) , وأحمد (2/426) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 330 والإيمان بالأصول الستة المذكورة في الحديث; وأصول الإيمان المذكورة تتضمن: الأعمال الباطنة والظاهرة; فإن الإيمان بالله يقتضي محبته، وخشيته، وتعظيمه، وطاعته بامتثال أمره وترك نهيه; وكذلك الإيمان بالكتب يقتضي العمل بما فيها من الأمر والنهي; فدخل هذا كله في هذه الأصول الستة. ومما يدل على ذلك، قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً} [سورة الأنفال آية: 2] إلى قوله: {أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً} [سورة الأنفال آية: 4] ، فدلت هذه الآيات على أن الأعمال الظاهرة والباطنة داخلة في مسمى الإيمان، كقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [سورة الحجرات آية: 15] . فانتفاء الشك والريب من الأعمال الباطنة، والجهاد من الأعمال الظاهرة، فدل على أن الكل إيمان. ومما يدل على أن الأعمال من الإيمان، قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [سورة البقرة آية: 143] أي صلاتكم إلى بيت المقدس قبل تحويل القبلة إلى الكعبة. ونظائر هذه الآية في الكتاب والسنة كثيرة، كقوله صلى الله عليه وسلم في حديث وفد عبد القيس: " آمركم بالإيمان بالله وحده، أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟ شهادة أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، وتقيموا الصلاة، وتؤتوا الزكاة، وتؤدوا خمس ما غنمتم " 1، ففسر الإيمان   1 البخاري: المغازي (4368) , ومسلم: الإيمان (17) , والترمذي: الإيمان (2611) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (5031) والأشربة (5692) , وأبو داود: الأشربة (3692) والسنة (4677) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 331 بالأعمال الظاهرة، لأنها جزء مسماه، كما تقدم. إذا عرفت أن كلا من الأعمال الظاهرة والباطنة من مسمى الإيمان شرعا، فكل ما نقص من الأعمال التي لا يخرج نقصها من الإسلام، فهو نقص في كمال الإيمان الواجب، كما في حديث أبي هريرة: " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة يرفع الناس إليه فيها أبصارهم، حين ينتهبها وهو مؤمن " 1، وقوله صلى الله عليه وسلم " لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له " 2،ونفى الإيمان عمن لا يأمن جاره بوائقه. فالمنفي في هذه الأحاديث: كمال الإيمان الواجب، فلا يطلق الإيمان على مثل أهل هذه الأعمال إلا مقيدا بالمعصية، أو بالفسوق، فيقال: مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، فيكون معه من الإيمان بقدر ما معه من الأعمال الباطنة والظاهرة، فيدخل في جملة أهل الإيمان على سبيل إطلاق أهل الإيمان، كقوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [سورة النساء آية: 92] . وأما المؤمن الإيمان المطلق، الذي لا يتقيد بمعصية ولا بفسوق، ونحو ذلك، فهو: الذي أتى بما يستطيعه من الواجبات، مع تركه لجميع المحرمات فهذا هو الذي يطلق عليه اسم الإيمان من غير تقييد. فهذا: هو الفرق بين مطلق الإيمان، والإيمان المطلق، والثاني هو الذي لا يصر صاحبه   1 البخاري: المظالم والغصب (2475) , ومسلم: الإيمان (57) , والترمذي: الإيمان (2625) , والنسائي: قطع السارق (4870 ,4871) والأشربة (5659 ,5660) , وأبو داود: السنة (4689) , وابن ماجه: الفتن (3936) , وأحمد (2/317 ,2/386) , والدارمي: الأشربة (2106) . 2 أحمد (3/135) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 332 على ذنب، والأول هو المصر على بعض الذنوب. وهذا الذي ذكرته هنا، هو الذي عليه أهل السنة والجماعة، في الفرق بين الإسلام والإيمان؟ وهو الفرق بين مطلق الإيمان، والإيمان المطلق; فمطلق الإيمان هو: وصف المسلم الذي معه أصل الإيمان، الذي لا يتم إسلامه إلا به، بل لا يصح إلا به، فهذا في أدنى مراتب الدين، إذا كان مصرا على ذنب، أو تاركا لما وجب عليه مع القدرة عليه. والمرتبة الثانية من مراتب الدين: مرتبة أهل الإيمان المطلق، الذين كمل إسلامهم وإيمانهم، بإتيانهم بما وجب عليهم، وتركهم ما حرمه الله عليهم، وعدم إصرارهم على الذنوب; فهذه هي المرتبة الثانية التي وعد الله أهلها بدخول الجنة، والنجاة من النار، كقوله تعالى: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} الآية [سورة الحديد آية: 21] . فهؤلاء اجتمعت لهم الأعمال الظاهرة والباطنة، ففعلوا ما أوجبه الله عليهم، وتركوا ما حرم الله عليهم; وهم السعداء أهل الجنة. والله سبحانه أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 333 (الفرق بين الإيمان والإسلام) وسئل أيضا رحمه الله تعالى عن الفرق بين الإسلام والإيمان، فأجاب: قد فسر النبي صلى الله عليه وسلم الإسلام والإيمان في حديث جبرائيل، وفسر الإسلام في حديث ابن عمر، وكلاهما في الصحيح، فقال: " الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا " 1، وقال: " الإيمان أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، وباليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره " 2، وقال في حديث ابن عمر: " بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت " 3، وفي رواية: " والحج، وصوم رمضان " 4. قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى -: جعل النبي صلى الله عليه وسلم الدين ثلاث درجات: أعلاها الإحسان، وأوسطها الإيمان، ويليه الإسلام. فكل محسن مؤمن; وكل مؤمن مسلم; وليس كل مؤمن محسنا، ولا كل مسلم مؤمنا، كما دلت عليه الأحاديث; انتهى كلامه. فإن قيل: قد فرق النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جبرائيل بين   1 مسلم: الإيمان (8) , والترمذي: الإيمان (2610) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (4990) , وأبو داود: السنة (4695) , وابن ماجه: المقدمة (63) , وأحمد (1/27 ,1/51 ,1/52) . 2 البخاري: تفسير القرآن (4777) , ومسلم: الإيمان (9 ,10) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (4991) , وابن ماجه: المقدمة (64) , وأحمد (2/426) . 3 البخاري: الإيمان (8) , ومسلم: الإيمان (16) , والترمذي: الإيمان (2609) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (5001) , وأحمد (2/92 ,2/120) . 4 البخاري: الإيمان (8) , ومسلم: الإيمان (16) , والترمذي: الإيمان (2609) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (5001) , وأحمد (2/26 ,2/120 ,2/143) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 334 الإسلام والإيمان، والمشهور عن السلف وأئمة الحديث أن الإيمان قول، وعمل، ونية; وأن الأعمال كلها داخلة في مسمى الإيمان. وحكى الشافعي على ذلك إجماع الصحابة والتابعين ومن بعدهم ممن أدركهم؟ فالجواب: أن الأمر كذلك; وقد دل على دخول الأعمال في الإيمان الكتاب والسنة; أما الكتاب، فكقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} الآية [سورة الأنفال آية: 2] . وأما الحديث، فكقوله في حديث أبي هريرة، المتفق عليه: " الإيمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان " 1 وغير ذلك. فمن زعم: أن إطلاق الإيمان على الأعمال الظاهرة مجاز; فقد خالف الصحابة، والتابعين، والأئمة. إذا عرفت ذلك، فاعلم أنه يجمع بين الأحاديث بأن أعمال الإسلام داخلة في مسمى الإيمان، شاملا لها; ففسرت بالإسلام، وهي جزء مسمى الإيمان، لكون الإيمان مثالا لها ولغيرها من الأعمال الباطنة والظاهرة. فإذا أفرد الإيمان في آية أو حديث، دخل فيه الإسلام. وإذا قرن بينهما فسر الإسلام بالأركان الخمسة، كما في حديث جبريل، وفسر الإيمان بأعمال القلب، لأنها أصل الإيمان ومعظمه; وقوته وضعفه، ناشئ عن قوة ما في القلب من هذه الأعمال أو ضعفها.   1 مسلم: الإيمان (35) , والترمذي: الإيمان (2614) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (5005) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 335 وقد يضعف ما في القلب، من الإيمان بالأصول الستة، حتى يكون وزن ذرة، كما في الحديث الصحيح: " أخرجوا من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان " 1. فبقدر ما في القلب من الإيمان، تكون الأعمال الظاهرة، التي هي داخلة في مسماه، وتسمى إسلاما، وإيمانا، كما في حديث وفد عبد القيس، حين قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: " آمركم بالإيمان بالله وحده، أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وأن تؤدوا خمس ما غنمتم " 2. فهذه الأعمال داخلة في الإيمان، وهي الإسلام، لأن الإيمان اسم لجميع الأعمال الظاهرة والباطنة، فمن ترك شيئا من الواجبات، أو فعل شيئا من المحرمات، نقص إيمانه بحسب ذلك، وهو دليل على نقصان أصل الإيمان، وهو إيمان القلب. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، في الكلام على الإسلام، والإيمان، والإحسان، وما بين الثلاثة من العموم والخصوص: أما الإحسان فهو أعم من جهة نفسه، وأخص من جهة أصحابه من الإيمان; والإيمان أعم من جهة نفسه، وأخص من جهة أصحابه من الإسلام. فالإحسان يدخل فيه الإيمان، والإيمان يدخل فيه الإسلام. والمحسنون أخص من المؤمنين، والمؤمنون أخص من المسلمين. انتهى، وهذا يبين ما قررنا.   1 البخاري: الإيمان (22) , ومسلم: الإيمان (183) , وأحمد (3/56) . 2 البخاري: الإيمان (53) , ومسلم: الإيمان (17) , والترمذي: الإيمان (2611) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (5031) والأشربة (5692) , وأبو داود: الأشربة (3692) والسنة (4677) , وأحمد (1/361) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 336 فحينئذ يتبين الإيمان الكامل، الذي صاحبه يستحق عليه دخول الجنة، والنجاة من النار، هو: فعل الواجبات، وترك المحرمات، وهو الذي يطلق على من كان كذلك بلا قيد; وهو الإيمان الذي يسميه العلماء: الإيمان المطلق. وأما من لم يكن كذلك، بل فرط في بعض الواجبات، أو فعل بعض المحرمات، فإنه لا يطلق عليه الإيمان إلا بقيد، فيقال: مؤمن بإيمانه، فاسق بكبيرته، أو يقال: مؤمن ناقص الإيمان، لكونه ترك بعض واجبات الإيمان، كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه:" لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن " 1، أي: ليس موصوفا بالإيمان الواجب، الذي يستحق صاحبه الوعد بالجنة، والمغفرة والنجاة من النار، بل هو تحت المشيئة: إن شاء غفر له، وإن شاء عذبه على ترك ما وجب عليه من الإيمان، وارتكابه الكبيرة. وقيل: هذا يوصف بالإسلام دون الإيمان، ولا يسمى مؤمنا إلا بقيد، وهذا الذي يسميه العلماء مطلق الإيمان; أي: أنه أتى بالأركان الخمسة، وعمل بها باطنا وظاهرا. وهذا الذي قلنا من معنى الإسلام والإيمان، هو: مذهب الإمام أحمد، وطائفة من السلف والمحققين. وذهب طائفة من أهل السنة أيضا إلى أن الإسلام والإيمان شيء واحد، وهو الدين، فيسمى إسلاما، وإيمانا؛ فهما اسمان لمسمى واحد; والأول أصح، وهو الذي نصره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في كتبه؛ فلا تلتفت إلى ما يخالف هذين   1 البخاري: المظالم والغصب (2475) , ومسلم: الإيمان (57) , والترمذي: الإيمان (2625) , والنسائي: قطع السارق (4870 ,4871) والأشربة (5659 ,5660) , وأبو داود: السنة (4689) , وابن ماجه: الفتن (3936) , وأحمد (2/317 ,2/386) , والدارمي: الأشربة (2106) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 337 القولين، والله أعلم. (رسالة الشيخ عبد الرحمن بن حسن إلى عبد الله بن محمد وتحريم علم المنطق) وله أيضا: رحمه الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الرحمن بن حسن، إلى الأخ القادم من بلاد الأفغان: عبد الله بن محمد، وفقه الله لحقيقة الإسلام، والإيمان، سلام عليكم، ورحمة الله، وبركاته. وبعد: فالذي يجب علينا، محبة الخير لمن أراده وقصده، فلعل الله أن يجعله موثرا للحق على غيره، لكن نبحث مع مثلك في شيئين: الأول: أن علم المنطق قد حرمه كثير من المحققين، وأجازه بعض العلماء، لكن الصواب تحريمه، لأمور، منها: الأمر الأول: أنه ليس من علوم الشريعة المحمدية، بل هو من علوم اليونان، وأول من أحدثه المأمون بن الرشيد، وأما في خلافة من قبله من أسلافه من بني العباس، وقبلهم خلفاء بني أمية فلا يعرف في عصرهم. الأمر الثاني: أن أئمة التابعين، من الفقهاء والمفسرين والمحدثين، لا يعرفون هذا العلم، وهم نقلة العلم، والإسلام في وقتهم أظهر، والعلوم النافعة عندهم أكثر، وقد توافرت دواعيهم على نقل العلم، وكذلك من أخذ عنهم من الأئمة الأربعة، ومن في طبقتهم من المحدثين، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 338 ومن الفقهاء والمفسرين، فلا تجد في كتبهم، ولا من أخذ عنهم شيئا من هذا العلم. الأمر الثالث: أن هذا العلم إنما أحدثه الجهمية، لما ألحدوا في أسماء الله وصفاته، واستمالوا المأمون، على تعريب كتب اليونان، فعظمت فتنة الجهمية، وظهرت بدعتهم من أجل ذلك، فصار ضرره أكثر من نفعه. وذكر العلماء أن ما فيه من صحيح فهو موجود في كتب أصول الفقه، فيتعين تركه وعدم الالتفات إليه; والمعول إنما هو على الكتاب والسنة وما عليه السلف والأئمة، وهذه كتبهم موجودة بحمد الله ليس فيها من شبهات أهل المنطق شيء أصلا، فهذا الذي ندين الله به. البحث الثاني: السؤال عن التوحيد وأنواعه؟ وحقيقة كل نوع منه؟ فإن كان عند القادم من ذلك تحقيق، وإلا فيجب إرشاده إلى ذلك وتعليمه، لأن العلم أقسام ثلاثة لا رابع لها; فيجب عليك أيها الرجل القادم أن تسعى لنفسك بمعرفة الحق بدليله، والذي يقبل علمنا هذا، الذي منّ الله به علينا، من تمييز الحق من الباطل، فهو أخونا، والحمد لله على هداية من اهتدى، والذي يرى غير ذلك، فلا نحن بإخوان له; والسلام، وصلى الله على محمد وآله وسلم. وقال أيضا: الشيخ عبد الرحمن بن حسن، رحمه الله: اعلم: أن مذهب أهل السنة والجماعة، أن الله تبارك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 339 وتعالى يتكلم إذا شاء، وقول السائل: وأنها 1 كلامه القديم، هذا قول الكرامية، وأهل السنة لا يقولون هذا، بل يقولون: إنها وحيه، أوحاه إلى جبريل، وسمع كلام الرب تعالى وبلغه رسله، وكتب تعالى التوراة بيده، كما صح ذلك على ما يليق بجلاله، وهذا قول السلف والأئمة; وجميع ما وصف الله به نفسه، ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم يثبتون ذلك، إثباتا بلا تأويل، وتنْزيها بلا تعطيل، فلا ينفون ما أثبته، ولا يثبتون ما نفاه. وسئل عن حديث: " أنا مدينة العلم، وعلي بابها " 2؟ فأجاب: الذي وقفنا عليه، من كلام أهل العلم: ذكر شيخ الإسلام في منهاج السنة، أن ابن الجوزي ذكره في الموضوعات; وما علمت أن أحدا من العلماء خالف ابن الجوزي في ذلك; إلا أن الحاكم ذكره في المستدرك، وذكره لهذا الحديث مما عيب عليه. وهذا الحديث يلزم عليه أن تكون السنن التي صدرت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها تصدر منه إلى علي، ومن علي إلى الصحابة; والواقع خلاف ذلك، فقد تلقى الصحابة رضي الله عنهم أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم بلا واسطة علي، فمقل ومستكثر; وليس علي رضي الله عنه من المكثرين عنه، وقد سئل علي رضي الله عنه فقيل له: هل خصكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء؟ فقال: لا، إلا هذه الصحيفة، وفيها العقل; وهذا مما يبين   1 أي الآيات. 2 الترمذي: المناقب (3723) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 340 قوة قول ابن الجوزي، وحكمه على الحديث بالوضع. وقال في الدرر المنتثرة في الأحاديث المشتهرة: حديث: " أنا مدينة العلم " إلى آخره، وقال منكر وأنكره البخاري أيضا، وذكره الحاكم في مستدركه، من حديث ابن عباس، وقال: صحيح، قال الذهبي: بل موضوع، وقال أبو زرعة: كم خلق افتضحوا فيه. وقال يحيى بن معين: لا أصل له، وكذا قال أبو حاتم، ويحيى بن سعيد، قال الدارقطني: غير ثابت. وقال ابن دقيق العيد: لم يثبتوه. هذا ما وقفنا عليه من كلام الحفاظ، والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 341 (أصول الدين وأركان الإسلام) وله أيضا، رحمه الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم إذا قيل لك: من ربك؟ فقل: الله ربي، خالقي، ومالكي، ومعبودي، والدليل قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [سورة الأعراف آية: 54] ، فإذا قيل لك: ما الذي خلقك الله لأجله؟ فقل: خلقني لأعبده وحده لا شريك له، والدليل قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [سورة الذاريات آية: 56] ، والعبادة: أن تعمل بطاعة الله تعالى، بما أمرك به، ونهاك عنه، مخلصا له العبادة والعمل. وإذا قيل لك: ما دينك؟ فقل، ديني الإسلام، وهو الخضوع لله، والذل له بالإخلاص، والانقياد له بالعمل بما شرعه في كتابه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، والدليل قوله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الأِسْلامُ} [سورة آل عمران آية: 19] ، وقوله: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [سورة آل عمران آية: 85] ، وقوله تعالى: {وَمَنْ يُسْلِمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 342 وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [سورة لقمان آية: 22] ، وهي: لا إله إلا الله; وإسلام الوجه هو: الإخلاص، والإحسان: هو المتابعة. ومعنى لا إله إلا الله: لا معبود حق إلا الله، والدليل قوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ} [سورة الإسراء آية: 23] . فقوله: {أَلاَّ تَعْبُدُوا} فيه معنى لا إله، وقوله: {إِلاَّ إِيَّاه} فيه معنى إلا الله، وقوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ} [سورة آل عمران آية: 64] ، فقوله: {أَلاَّ نَعْبُدَ} فيه معنى لا إله، وقوله: {إِلاَّ اللَّهَ} هو المستثنى لفظا ومعنى. والآيات في معنى هذه الكلمة العظيمة كثيرة في القرآن. وإذا قيل لك: من نبيك؟ فقل: نبيي محمد بن عبد الله، بن عبد المطلب بن هاشم، وهاشم من قريش، وقريش من ذرية إسماعيل بن إبراهيم، الخليل عليهما السلام بعثه الله إلى جميع الثقلين الجن والإنس يدعوهم إلى ما خلقوا له من معنى: لا إله إلا الله، وختم به رسله صلوات الله وسلامه عليه، وأنزل عليه القرآن الذي هو أفضل الكتب المنَزلة على من قبله من المرسلين، كما قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ} [سورة المائدة آية: 48] ، وقوله تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [سورة الأحزاب آية: 40] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 343 وإذا قيل لك: هل يبعث الله الخلق بعد الموت؟ ويحاسبهم على أعمالهم خيرها وشرها؟ ويدخل من أطاعه الجنة؟ ومن كفر به وأشرك به غيره فهو في النار؟ فقل: نعم; والدليل قوله تعالى: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [سورة التغابن آية: 7] ، وقوله: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} [سورة طه آية: 55] . وفي القرآن من الأدلة على هذا ما لا يحصى. وإذا قيل لك: ما أفضل الأعمال بعد الشهادتين؟ فقل: أفضلها الصلوات الخمس، ولها شروط وأركان وواجبات. فأعظم شروطها: الإسلام، والعقل، والتمييز، ورفع الحدث، وإزالة النجاسة، وستر العورة، واستقبال القبلة، ودخول الوقت، والنية. وأركانها أربعة عشر: القيام مع القدرة، وتكبيرة الإحرام، وقراءة الفاتحة، والركوع، والرفع منه، والسجود على سبعة الأعضاء، والاعتدال منه، والجلسة بين السجدتين، والطمأنينة في هذه الأركان، والترتيب، والتشهد الأخير، والجلوس له، والصلاة علي النبي صلى الله عليه وسلم، والتسليم. وواجباتها ثمانية: جميع التكبيرات غير تكبيرة الإحرام، سبحان ربي العظيم في الركوع، سمع الله لمن حمده، للإمام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 344 والمنفرد، ربنا ولك الحمد للكل، سبحان ربي الأعلى في السجود، رب اغفر لي بين السجدتين، والتشهد الأول، والجلوس له; وما عدا هذا فسنن أقوال وأفعال، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا. (ذكر مذهب السلف في العقائد الذي حكاه ابن القيم) قال الشيخ: حسن بن الشيخ حسين، بن الشيخ محمد رحمهم الله تعالى: قال ابن القيم رحمه الله تعالى: ونحن نحكي إجماعهم كما حكاه حرب صاحب الإمام أحمد بلفظه، قال في مسائله المشهورة: هذا مذهب أهل العلم، وأصحاب الأثر، وأهل السنة المتمسكين بها، المقتدى بهم فيها، من لدن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا، وأدركت من أدركت من علماء الحجاز، والشام، وغيرهم عليها، فمن خالف شيئا من هذه المذاهب، أو طعن فيها، أو عاب قائلها، فهو مخالف مبتدع، خارج عن الجماعة، زائل عن مذهب أهل السنة وسبيل الحق. قال: وهو مذهب أحمد، وإسحاق بن إبراهيم، وعبد الله بن مخلد، وعبد الله بن الزبير الحميدي، وسعيد بن منصور، وغيرهم ممن جالسنا، وأخذنا عنهم العلم، فكان من قولهم: إن الإيمان قول وعمل ونية وتمسك بالكتاب والسنة. والإيمان يزيد وينقص، ويستثنى في الإيمان غير أن لا يكون شكا، إنما هي سنة ماضية عند العلماء، وإذا سئل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 345 الرجل: أمؤمن أنت؟ فإنه يقول: أنا مؤمن إن شاء الله، أو مؤمن أرجو ويقول: آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله. ومن زعم أن الإيمان قول بلا عمل فهو مرجئ، ومن زعم: أن الإيمان هو القول، والأعمال شرائع، فهو مرجئ. ومن زعم أن الإيمان يزيد ولا ينقص، فقد قال بقول المرجئة. ومن لم ير الاستثناء في الإيمان فهو مرجئ. ومن زعم أن إيمانه كإيمان جبريل والملائكة فهو مرجئ. ومن زعم أن المعرفة تقع في القلب وإن لم يتكلم بها فهو مرجئ. والقدر: خيره وشره قليله وكثيره، وظاهره وباطنه، وحلوه ومره ومحبوبه ومكروهه، وحسنه وسيئه، وأوله وآخره، من الله عز وجل، قضاء قضاه على عباده، وقدرا قدره عليهم، لا يعدو واحد منهم مشيئة الله، ولا يجاوزه قضاؤه، بل كلهم صائرون إلى ما خلقهم له، واقعون فيما قدر عليهم؛ وهو عدل منه جل ثناؤه وعز شأنه. والزنى والسرقة وشرب الخمر وقتل النفس، وأكل المال الحرام والشرك، والمعاصي: كلها بقضاء الله وقدر من الله من غير أن يكون لأحد من الخلق على الله حجة، بل لله الحجة البالغة على خلقه: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [سورة الأنبياء آية: 23] . وعلم الله ماض في خلقه بمشيئة منه، قد علم - من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 346 إبليس ومن غيره، من لدن عصى الله تبارك وتعالى إلى أن تقوم الساعة - المعصية، وخلقهم لها; وعلم الطاعة من أهل الطاعة، وخلقهم لها؛ فكل يعمل لما خلق له، وسائر إلى ما قضى عليه، لا يعدو أحد منهم قدر الله ومشيئته، والله الفعال لما يريد. ومن زعم أن الله سبحانه شاء لعباده الذين عصوه وتكبروا الخير والطاعة، وأن العباد شاؤوا لأنفسهم الشر والمعصية فعملوا على مشيئتهم، فقد زعم أن مشيئة العباد أغلب من مشيئة الله تعالى، وأي افتراء على الله أكبر من هذا؟ ومن زعم أن الزنى ليس بقدره، قيل له: أرأيت هذه المرأة، حملت من الزنا وجاءت بولد، هل شاء الله أن يخلق هذا الولد؟ وهل مضى في سابق علمه؟ فإن قال: لا، فقد زعم: أن مع الله خالقا؛ وهذا الشرك صراحا. ومن زعم أن السرقة وشرب الخمر وأكل المال الحرام ليس بقضاء ولا قدر، فقد زعم أن هذا الإنسان قادر على أن يأكل رزق غيره؛ وهذا صريح قول المجوسية، بل أكل رزقه الذي قضى الله أن يأكله من الوجه الذي أكله. ومن زعم أن قتل النفس ليس بقدر من الله عز وجل، فقد زعم أن المقتول مات بغير أجله؛ وأي كفر أوضح من هذا؟! بل ذلك بقضاء الله عز وجل، وذلك عدل منه في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 347 خلقه وتدبيره فيه، وما جرى من سابق علمه فيهم، وهو العدل الحق الذي يفعل ما يريد. ومن أقر بالعلم لزمه الإقرار بالقدر والمشيئة على الصغر والقمأة. ولا نشهد على أحد من أهل القبلة أنه في النار، لذنب عمله، ولا لكبيرة أتاها، إلا أن يكون في ذلك حديث، كما جاء في حديث، ولا بنص الشهادة. ولا نشهد لأحد أنه في الجنة بصالح عمله، ولا بخير أتاه، إلا أن يكون في ذلك حديث، كما جاء على ما روي ولا بنص الشهادة. والخلافة في قريش ما بقي من الناس اثنان، وليس لأحد من الناس أن ينازعهم فيها، ولا يخرج عليهم؛ ولا نقر لغيرهم بها إلى قيام الساعة. والجهاد ماض قائم مع الأئمة بروا أو فجروا، ولا يبطله جور جائر ولا عدل عادل. والجمعة والعيدان والحج مع السلاطين وإن لم يكونوا بررة عدولا أتقياء. ودفع الصدقات والخراج والأعشار والفيء والغنائم إليهم، عدلوا فيها أو جاروا. والانقياد لمن ولاه الله عز وجل أمركم، لا تنْزع يدا من طاعته، ولا تخرج عليه بسيف حتى يجعل الله لك فرجا ومخرجا؛ ولا تخرج على السلطان، وتسمع وتطيع، ولا تنكث بيعته؛ فمن فعل ذلك فهو مبتدع، مخالف، مفارق للجماعة. وإن أمرك السلطان بأمر فيه لله معصية؛ فليس لك أن تطيعه البتة، وليس لك أن تخرج عليه؛ ولا تمنعه حقه. والإمساك في الفتنة سنة ماضية، واجب لزومها. فإن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 348 ابتليت، فقدم نفسك دون دينك، ولا تعن على الفتنة بيد ولا لسان، ولكن اكفف يدك ولسانك وهواك، والله المعين. والكف عن أهل القبلة، فلا تكفر أحدا منهم، ولا تخرجه من الإسلام بعمل إلا أن يكون في ذلك حديث كما جاء وما روي فنصدقه ونقبله، ونعلم أنه كما روي نحو: كفر من يستحل نحو ترك الصلاة وشرب الخمر وما أشبه ذلك، أو يبتدع بدعة ينسب صاحبها إلى الكفر والخروج من الإسلام، فاتبع ذلك ولا تجاوزه. والأعور الدجال خارج، لا شك في ذلك ولا ارتياب، وهو أكذب الكاذبين. وعذاب القبر حق، يسأل العبد عن دينه وعن ربه وعن الجنة وعن النار؛ ومنكر ونكير حق وهما فتانا القبر، نسأل الله الثبات. وحوض محمد صلى الله عليه وسلم حق، حوض ترده أمته، وآنيته عدد نجوم السماء، يشربون بها منه. والصراط حق يوضع على سواء جهنم، ويمر الناس عليه، والجنة من وراء ذلك. والميزان حق، توزن به الحسنات والسيئات، كما شاء الله أن توزن. والصور حق، ينفخ فيه إسرافيل، فيموت الخلق، ثم ينفخ فيه أخرى فيقومون لرب العالمين، للحساب وفصل القضاء، والثواب والعقاب، والجنة والنار. واللوح المحفوظ يستنسخ منه أعمال العباد، كما سبق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 349 فيه من المقادير والقضاء. والقلم حق، كتب الله به مقادير كل شيء، وأحصاه في الذكر. والشفاعة يوم القيامة حق، يشفع قوم في قوم، فلا يصيرون إلى النار، ويخرج قوم من النار بعدما دخلوا ولبثوا فيها ما شاء الله، ثم يخرجهم من النار، وقوم يخلدون فيها أبدا، وهم أهل الشرك والتكذيب والجحود والكفر بالله عز وجل. ويذبح الموت يوم القيامة بين الجنة والنار، وقد خلقت الجنة وما فيها، وخلقت النار وما فيها، خلقهما الله عز وجل، وخلق الخلق لهما، لا تفنيان، ولا يفنى ما فيهما أبدا. فإن احتج مبتدع، أو زنديق بقول الله عز وجل: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} [سورة القصص آية: 88] ، ونحو هذا من متشابه القرآن؟ قيل له: كل شيء كتب الله عليه الفناء والهلاك، والجنة والنار خلقهما الله للبقاء لا للفناء ولا للهلاك وهما من الآخرة، لا من الدنيا. والحور العين لا يمتن عند قيام الساعة ولا عند النفخة، ولا أبدا، لأن الله خلقهن للبقاء لا للفناء، ولا يكتب عليهن الموت، فمن قال خلاف ذلك، فهو مبتدع ضال عن سواء السبيل. وخلق سبع سماوات بعضها فوق بعض، وسبع أرضين بعضها أسفل من بعض؛ وبين الأرض العليا والسماء الدنيا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 350 مسيرة خمسمائة عام‘ وبين كل سماء إلى سماء مسيرة خمسمائة عام، والماء فوق السماء السابعة العليا، وعرش الرحمن فوق الماء، والله عز وجل على العرش، والكرسي موضع قدميه. وهو يعلم ما في السماوات وما في الأرضين، وما بينهما، وما تحت الثرى، وما في مقر البحر ومنبت كل شعرة، وشجرة، وكل زرع، وكل نبات، ومسقط كل ورقة، وعدد كل كلمة، وعدد الرمل، والحصى والتراب، ومثاقيل الجبال، وأعمال العباد، وآثارهم وكلامهم وأنفاسهم ويعلم كل شيء ولا يخفى عليه شيء من ذلك وهو على العرش فوق السماء السابعة، ودونه حجب من نار، وحجب من نور وظلمة وما هو أعلم به. فإن احتج مبتدع، أو مخالف بقول الله تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [سورة ق آية: 16] ، وبقوله: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ} [سورة المجادلة آية: 7] إلى قوله: {وَهُوَ مَعَهُمْ أَيْنَمَا كَانُوا} الآية [سورة المجادلة آية: 7] ، ونحو هذا من متشابه القرآن، فقل: إنما يعنى بذلك العلم، لأن الله عز وجل على العرش، فوق السماء السابعة العليا، يعلم ذلك كله، وهو بائن من خلقه، لا يخلو من علمه مكان، ولله عز وجل عرش، وللعرش حملة يحملونه; والله عز وجل مستو على عرشه، وليس له حد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 351 والله عز وجل سميع لا يشك، بصير لا يرتاب، عليم لا يجهل، جواد لا يبخل، حليم لا يعجل، حفيظ لا ينسى ولا يسهو، قريب لا يغفل، يتكلم وينظر، ويبسط، ويضحك ويفرح، ويحب ويكره، ويبغض، ويرضى ويغضب، ويسخط ويرحم، ويعفو ويغفر، ويعطي ويمنع، وينْزل كل ليلة إلى سماء الدنيا كيف شاء: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [سورة الشورى آية: 11] . وقلوب العباد بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، ويوعيها ما أراد؛ وخلق آدم بيده على صورته. والسماوات والأرض يوم القيامة في كفه؛ ويضع قدمه في النار، فتنْزوي ويخرج قوما من النار بيده. وينظر إلى وجهه أهل الجنة، يرونه، فيكرمهم، ويتجلى لهم. وتعرض عليه العباد يوم القيامة، ويتولى حسابهم بنفسه، ولا يلي ذلك غيره، عز وجل. والقرآن كلام الله الذي تكلم به، ليس بمخلوق؛ فمن زعم أن القرآن مخلوق، فهو جهمي كافر. ومن زعم أن القرآن كلام الله، ووقف، فلم يقل ليس بمخلوق، فهو أخبث من القول الأول. ومن زعم أن ألفاظنا وتلاوتنا مخلوقة، والقرآن كلام الله، فهو جهمي.: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} [سورة النساء آية: 164] ، منه إليه، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 352 وناوله التوراة من يده إلى يده; ولم يزل الله عز وجل متكلما. والرؤيا من الله، وهي حق إذا رأى صاحبها في منامه ما ليس أضغاثا، فقصها على عالم وصدق فيها، فأولها العالم على أصل تأويلها الصحيح، ولم يحرف؛ فالرؤيا تأويلها حينئذ حق. وكانت الرؤيا من الأنبياء وحيا، فأي جاهل أجهل ممن يطعن في الرؤيا، ويزعم أنها ليست بشيء؟ وبلغني أن من قال هذا القول، لا يرى الاغتسال من الاحتلام، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن رؤيا المؤمن كلام يكلم به الرب عبده، وقال: " إن الرؤيا من الله " 1. وذكر محاسن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم، والكف عن ذكر مساويهم التي شجرت بينهم؛ فمن سب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أو واحدا منهم، أو تنقصه، أو طعن عليهم، أو عرض بغيبتهم، أو عاب أحدا منهم، فهو مبتدع، رافضي، خبيث، لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا؛ بل حبهم سنة، والدعاء لهم قربة، والاقتداء بهم وسيلة، والأخذ بآثارهم فضيلة. وأفضل الأمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر، وعمر بعد أبي بكر، وعثمان بعد عمر، وعلي بعد عثمان؛ ووقف قوم على عثمان؛ وهم خلفاء راشدون، مهديون. ثم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هؤلاء الأربعة خير الناس، لا يجوز لأحد أن يذكر شيئا من مساويهم، ولا يطعن   1 البخاري: التعبير (7005) , ومسلم: الرؤيا (2261) , والترمذي: الرؤيا (2277) , وأبو داود: الأدب (5021) , وابن ماجه: تعبير الرؤيا (3909) , وأحمد (5/296 ,5/304 ,5/305) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 353 على أحد منهم بعيب ولا نقص؛ فمن فعل ذلك، فقد وجب على السلطان تأديبه، وليس له أن يعفو عنه، بل يعاقبه، ويستتيبه، فإن تاب قبل معه، وإن لم يتب أعاد عليه العقوبة، وخلده في الحبس حتى يتوب أو يرجع. ونعرف للعرب حقها وسابقتها وفضلها، ونحبهم لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: " حب العرب من الإيمان، وبغضهم نفاق "؛ ولا نقول بقول الشعوبية، وأراذل الموالي، الذين لا يحبون العرب، ولا يقرون لهم بفضل، فإن قولهم بدعة. ومن حرم المكاسب، والتجارات وطلب المال من وجهه، فقد جهل وأخطأ؛ بل المكاسب من وجوهها حلال، قد أحلها الله عز وجل ورسوله؛ فالرجل ينبغي له أن يسعى على نفسه وعياله يبتغي من فضل ربه، فإن ترك ذلك على أنه لا يرى ذلك الكسب حلالا، فقد خالف الكتاب والسنة. والدين إنما هو كتاب الله عز وجل، وآثار وسنن وروايات صحاح عن الثقات والأخبار الصحيحة القوية المعروفة، ويصدق بعضها بعضا حتى ينتهي ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم أجمعين والتابعين وتابعي التابعين ومن بعدهم من الأئمة المعروفين، المقتدى بهم، المتمسكين بالسنة والمتعلقين بالآثار، ولا يعرفون ببدعة، ولا يطعنون بكذب، ولا يرمون بخلاف ... إلى أن قال: فهذه الأقاويل التي وصفت، مذاهب أهل السنة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 354 والجماعة والأثر، وأصحاب الروايات وحملة العلم الذين أدركناهم وأخذنا عنهم الحديث، وتعلمنا منهم السنن، وكانوا أئمة معروفين ثقات، أهل صدق وأمانة، يقتدى بهم، ويؤخذ عنهم، ولم يكونوا أصحاب بدع، ولا خلاف، ولا تخليط، وهذا قول أئمتهم، وعلمائهم، الذين كانوا قبلهم؛ فتمسكوا بذلك، وتعلموه، وعلموه. قلت: حرب هذا، هو صاحب الإمام أحمد وإسحاق، وله عنهما مسائل جليلة، وأخذ عن سعيد بن منصور، وعبد الله بن الزبير الحميدي، وهذه الطبقة، وقد حكى هذه المذاهب عنهم، واتفاقهم عليها; ومن تأمل النقول عن هؤلاء، وأضعاف أضعافهم من أئمة السنة والحديث، وجده مطابقا لما نقله حرب، ولو تتبعناه لكان بقدر هذا الكتاب مرارا. وقد جمعنا منه في مسألة علو الرب تعالى على خلقه، واستوائه على عرشه، وحدها، سفرا متوسطا; فهذا مذهب المستحقين لهذه البشرى قولا وعملا واعتقادا، وبالله التوفيق. انتهى كلامه من "حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح"، رحمه الله. قال الشيخ حسن بن حسين: الذي أعتقده، وأدين الله به، وأشهد الله عليه وملائكته، والواقف عليه، هذا، وهو المذهب الصحيح، الذي درج عليه السلف الصالحون، والخلف التابعون. وأبرأ إلى الله مما سواه ولا إله إلا الله عدة للقاه، وصلى الله على سيدنا محمد، وصحبه، ورضي عنهم أجمعين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 355 (جواب الشيخ أبا بطين عن مذهب القدرية والمعتزلة والخوارج) سئل الشيخ: عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين رحمه الله تعالى، عن القدرية؟ ومذهبهم؟ والمعتزلة؟ ومذهبهم؟ والخوارج؟ ومذهبهم؟ فأجاب رحمه الله تعالى: بسم الله الرحمن الر حيم، وبه نستعين، ولا عدوان إلا على الظالمين، كالمبتدعة والمشركين. فسر النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان في حديث جبرائيل الاعتقاد الباطن، فقال: " أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره " 1. والأحاديث في إثبات القدر كثيرة جدا، والقدر الذي يجب الإيمان به، على درجتين: الدرجة الأولى: الإيمان بأن الله تعالى سبق في علمه ما يعمله العباد، من خير وشر وطاعة ومعصية، قبل خلقهم وإيجادهم، ومن هو منهم من أهل الجنة، ومن هو منهم من أهل النار، وأعد لهم الثواب والعقاب جزاء لأعمالهم، قبل خلقهم وتكوينهم؛ وأنه كتب ذلك عنده، وأحصاه; وأن أعمال العباد تجري على ما سبق في علمه وكتابه. الدرجة الثانية: الإيمان بأن الله خلق أفعال العباد كلها: من الكفر والإيمان، والطاعة والعصيان، وشاءها منهم. فهذه الدرجة يثبتها أهل السنة والجماعة، وينكرها جميع القدرية; يقولون: إن الله لم يخلق أفعال العباد، ولا   1 مسلم: الإيمان (8) , والترمذي: الإيمان (2610) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (4990) , وأبو داود: السنة (4695) , وابن ماجه: المقدمة (63) , وأحمد (1/27 ,1/51 ,1/52) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 356 شاءها منهم؛ بل هم الذين يخلقون أفعال أنفسهم، من خير وشر، وطاعة ومعصية; والدرجة الأولى نفاها غلاة القدرية، كمعبد الجهني، وعمرو بن عبيد; ونص أحمد، والشافعي على كفر هؤلاء. وأما من قال: إن الله لم يخلق أفعال العباد، ولم يشأها منهم، مع إقرارهم بالعلم، ففي تكفيرهم نزاع مشهور بين العلماء. فحقيقة القدر، الذي فرض علينا الإيمان به: أن نعتقد أن الله سبحانه عالم ما العباد عاملون، قبل أن يوجدهم، وأنه كتب ذلك عنده، وأن أعمال العباد خيرها وشرها مخلوقة لله واقعة بمشيئته، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، قال الله تعالى: {كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [سورة المدثر آية: 31] ، وقال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ} [سورة الأنعام آية: 137] ، {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا} [سورة البقرة آية: 253] ،: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا} [سورة الأنعام آية: 107] ، فهذه الآيات ونحوها صريحة في أن أعمال العباد، خيرها وشرها، وضلالهم واهتداءهم، كل ذلك صادر عن مشيئته. وقال تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [سورة الشمس آية: 7-8] ، وقال تعالى: {إِنَّ الأِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً} [سورة المعارج آية: 19-20-21] ، فدل ذلك على أن الله سبحانه هو الذي جعلها فاجرة، أو تقية، وأنه خلق الإنسان هلوعا، خلقه متصفا بالهلع، وقال: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 357 مُؤْمِنٌ} [سورة التغابن آية: 2] . ففي هذه الآية: بيان أن الله تعالى خلق المؤمن وإيمانه، والكافر وكفره. وقد صنف البخاري - رحمه الله تعالى - كتاب خلق أفعال العباد، واستدل بهذه الآيات، أو بعضها على ذلك، وفي الحديث: " إن الله خلق كل صانع وصنعته ". وأما الأدلة على تقدم علم الله سبحانه بجميع الكائنات قبل إيجادها، وكتابة ذلك، ومنها: السعادة، والشقاوة، وبيان أهل الجنة، وأهل النار قبل أن يوجدهم، فكثيرة جدا، كقوله سبحانه: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [سورة الحديد آية: 22] ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " إن الله كتب مقادير الخلائق، قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء " 1، وفي حديث آخر: " إن أول ما خلق الله القلم، فقال له: اكتب، فجرى القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة " 2. والأحاديث في هذا كثيرة جدا. فهؤلاء الذين وصفنا قولهمبأن الله لم يخلق أفعال العباد، ولا شاءها منهم هم القدرية، الذين هم مجوس هذه الأمة; وقابلتهم طائفة أخرى، غلوا في إثبات القدر، وهم الذين يسمون الجبرية; فقالوا: إن العبد مجبور مقهور على ما يصدر منه، لا قدرة له فيه ولا اختيار، بل هو كغصن الشجرة الذي تحركه الريح; والذي عليه أهل السنة والجماعة: الإيمان بأن أفعال العباد مخلوقة لله، صادرة عن   1 مسلم: القدر (2653) , والترمذي: القدر (2156) , وأحمد (2/169) . 2 الترمذي: تفسير القرآن (3319) , وأحمد (5/317) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 358 مشيئته. وهي أفعال لهم، وكسب لهم باختيارهم، فلذا ترتب عليها الثواب، والعقاب. والسلف يسمون الجبرية قدرية، لخوضهم في القدر، ولهذا ترجم الخلال في كتاب "السنة" فقال: الرد على القدرية وقولهم إن الله جبر العباد على المعاصي. ثم روى عن بقية قال: سألت الزبيدي والأوزاعي عن الجبر؟ فقال الزبيدي: " أمر الله أعظم، وقدرته أعظم من أن يجبر أو يعضل; ولكن يقضي ويقدر، ويخلق ويجبل عبده على ما أوجب ". وقال الأوزاعي: " ما أعرف للجبر أصلا من القرآن ولا السنة. فأهاب أن أقول ذلك، ولكن القضاء والقدر، والجبل، والخلق، فهذا يعرف من القرآن، والحديث " قال شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله: فهذان الجوابان اللذان ذكرهما هذان الإمامان في عصر تابع التابعين من أحسن الأجوبة. أما الزبيدي، فقال: ما تقدم، وذلك لأن الجبر في اللغة إلزام الإنسان بغير رضاه، كما يقول الفقهاء، هل تجبر المرأة على النكاح أم لا؟ وإذا عضلها الولي ماذا تصنع؟ فقال: الله أعظم من أن يجبر، أو يعضل، لأن الله قادر على أن يجعل العبد مختارا راضيا لما يفعله، مبغضا تاركا لما يتركه، فلا جبر على أفعاله الاختيارية، ولا عضل عما يتركه لكراهته، أو عدم إرادته. وروي عن سفيان الثوري: أنه أنكر "جبر" وقال: "الله سبحانه جبل العباد ". وقال الراوي عنه: وأظنه أراد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 359 قوله صلى الله عليه وسلم لأشج عبد القيس: (بل جبلت عليهما) فقال: الحمد لله الذي جبلني على خلقين، يحبهما الله، يعني: الحلم، والأناة. وقال المروذي للإمام أحمد إن رجلا يقول: إن الله جبر العباد، فقال: لا نقول هكذا، وأنكر هذا، وقال: {يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [سورة المدثر آية: 31] . وأما المعتزلة: فهم الذين يقولون بالمنْزلة بين المنْزلتين، يعنون: أن مرتكب الكبيرة يصير في منْزلة بين الكفر والإسلام، فليس هو بمسلم، ولا كافر; ويقولون: إنه يخلد في النار، ومن دخل النار لم يخرج منها بشفاعة، ولا غيرها. وأول من اشتهر عنه ذلك: عمرو بن عبيد، وكان هو وأصحابه يجلسون معتزلين الجماعة، فيقول قتادة وغيره: أولئك المعتزلة. وهم كانوا بالبصرة بعد موت الحسن البصري. وضم المعتزلة إلى ذلك: التكذيب بالقدر، ثم ضموا إلى ذلك: نفي الصفات، فيثبتون الاسم دون الصفة، فيقولون: عليم بلا علم، سميع بلا سمع، بصير بلا بصر، وهكذا سائر الصفات. فهم قدرية جهمية، وامتازوابالمنْزلة بين المنْزلتين وخلود عصاة الموحدين في النار. وأما الخوارج: فهم الذين خرجوا على علي رضي الله عنه، وقبل ذلك قتلوا عثمان رضي الله عنه، وكفروا عثمان، وعليا، وطلحة، والزبير ومعاوية، وطائفتي علي ومعاوية، واستحلوا دماءهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 360 وأصل مذهبهم الغلو الذي نهى الله عنه، وحذر عنه النبي صلى الله عليه وسلم، فكفروا من ارتكب كبيرة، وبعضهم يكفر بالصغائر، وكفروا عليا وأصحابه بغير ذنب، فكفروهم بتحكيم الحكمين: عمرو بن العاص وأبي موسى الأشعري، وقالوا: لا حكم إلا لله. واستدلوا على قولهم بالتكفير بالذنوب، بعمومات أخطؤوا فيها، وذلك كقوله سبحانه: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً} [سورة الجن آية: 23] ،: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا} [سورة النساء آية: 14] ، وقوله: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا} الآية [سورة النساء آية: 93] ، وغير ذلك من الآيات. وأجمع أهل السنة والجماعة: أن أصحاب الكبائر لا يخلدون في النار إذا ماتوا على التوحيد، وأن من دخل النار منهم بذنبه يخرج منها كما تواترت بذلك الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم. وأيضا، فلو كان الزاني وشارب الخمر والقاذف والسارق ونحوهم كفارا مرتدين لكان حكمهم في الدنيا القتل الذي هو حكم الله في المرتدين؛ فلما حكم الله على الزاني البكر الجلد وعلى السارق بالقطع وعلى الشارب والقاذف بالجلد، دلنا حكم الله فيهم بذلك أنهم لم يكفروا بهذه الذنوب كما تزعمه الخوارج. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 361 فإذا عرفت مذهبهم أن أصله التكفير بالذنوب، وكفروا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستحلوا قتلهم، متقربين بذلك إلى الله، فإذا تبين لك ذلك، تبين لك ضلال كثير من أهل هذه الأزمنة، في زعمهم: أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - وأتباعه خوارج؛ ومذهبهم مخالف لمذهب الخوارج، لأنهم يوالون جميع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويعتقدون فضلهم على من بعدهم، ويوجبون اتباعهم، ويدعون لهم، ويضللون من قدح فيهم، أو تنقص أحدا منهم، ولا يكفرون بالذنوب، ولا يخرجون أصحابها من الإسلام، وإنما يكفرون من أشرك بالله، أو حسن الشرك؛ والمشرك كافر بالكتاب، والسنة، والإجماع، فكيف: يجعل هؤلاء مثل أولئك؟!. وإنما يقول ذلك معاند يقصد التنفير للعامة; أو يقول ذلك جاهل بمذهب الخوارج، ويقوله تقليدا; ولو قدرناأن إنسانا يقع منه جراءة، وجسرة على إطلاق الكفر، جهلا منه، فلا يجوز أن ينسب إلى جميع الطائفة، وإنما ينسب إليهم ما يقوله شيخهم، وعلماؤهم بعده؛ وهذا أمر ظاهر للمنصف، وأما المعاند المتعصب، فلا حيلة فيه. إذا عرفت مذاهب الفرق المسؤول عنها، فاعلم أن أكثر أهل الأمصار اليوم أشعرية، ومذهبهم في صفات الرب سبحانه وتعالى موافق لبعض ما عليه المعتزلة الجهمية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 362 فهم يثبتون بعض الصفات دون بعض، فيثبتون الحياة والعلم والقدرة والإرادة والسمع، والبصر والكلام، وينفون ما سوى هذه الصفات بالتأويل الباطل. مع أنهم وإن أثبتوا صفة الكلام موافقة لأهل السنة، فهم في الحقيقة نافون لها، لأن الكلام عندهم هو: المعنى فقط. ويقولون: حروف القرآن مخلوقة، لم يتكلم الله بحرف، ولا صوت; فقالت لهم الجهمية: هذا هو نفس قولنا: إن كلام الله مخلوق، لأن المراد: الحروف، لا المعنى. ومذهب السلف قاطبة أن كلام الله غير مخلوق، وأنه تكلم بالقرآن حروفه ومعانيه، وأنه سبحانه يتكلم بصوت يسمعه من شاء. والأشعرية لا يثبتون علو الرب فوق سماواته واستواءه على عرشه، ويسمون: من أثبت صفة العلو والاستواء على العرش مجسما مشبها، وهذا خلاف ما عليه أهل السنة والجماعة، فإنهم يثبتون صفة العلو والاستواء كما أخبر سبحانه بذلك عن نفسه، ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، من غير تكييف ولا تعطيل. وصرح كثير من السلف بكفر من لم يثبت صفة العلو والاستواء. والأشاعرة وافقوا الجهمية في هذه الصفة، لكن الجهمية، يقولون: إنه سبحانه في كل مكان، والحلولية والأشعرية يقولون: كان ولا مكان، فهو على ما كان، قبل أن يخلق المكان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 363 والأشعرية: يوافقون أهل السنة في روية المؤمنين ربهم في الجنة، ثم يقولون: معنى الرؤية: إنما هو زيادة علم يخلقه الله في قلب الناظر ببصره، لا رؤية بالبصر حقيقة عيانا; فهم بذلك نافون للرؤية، التي دل عليها القرآن، وتواترت بها الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم. ومذهب الأشاعرة أن الإيمان مجرد التصديق، ولا يدخلون فيه أعمال الجوارح، قالوا: وإن سميت الأعمال في الأحاديث إيمانا، فعلى المجاز لا الحقيقة. ومذهب أهل السنة والجماعة أن الإيمان تصديق بالقلب، وقول باللسان، وعمل بالجوارح. وقد كفر جماعة من العلماء من أخرج العمل عن الإيمان. فإذا تحققت ما ذكرنا من مذهب الأشاعرة، من نفي صفات الرب سبحانه غير السبع التي ذكرنا، ويقولون: إن الله لم يتكلم بحرف ولا صوت، وأن حروف القرآن مخلوقة، ويزعمون أن كلام الرب سبحانه معنى واحد، وأن نفس القرآن هو نفس التوراة والإنجيل، لكن إن عبر عنه بالعربية فهو قرآن، وإن عبر عنه بالعبرانية فهو توراة، وإن عبر عنه بالسريانية فهو إنجيل. ولا يثبتون رؤية أهل الجنة ربهم بأبصارهم. إذا عرفت ذلك، عرفت خطأ من جعل الأشعرية من أهل السنة، كما ذكره السفاريني في بعض كلامه، ويمكن أنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 364 أدخلهم في أهل السنة مداراة لهم، لأنهم اليوم أكثر الناس، والأمر لهم، مع أنه قد دخل بعض المتأخرين من الحنابلة، في بعض ما هم عليه. (هل النبي صلى الله عليه وسلم حي في قبره، وهل يشفع للمشركين) وسئل أيضا: الشيخ عبد الله أبا بطين: هل النبي صلى الله عليه وسلم حي في قبره؟ فأجاب: الله سبحانه وتعالى أخبر بحياة الشهداء، ولا شك أن الأنبياء أعلى رتبة من الشهداء، وأحق بهذا، وأنهم أحياء في قبورهم. ونحن نرى الشهداء رميما، وربما أكلتهم السباع، ومع ذلك هم: {أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ} [سورة آل عمران آية: 169-170] ، فحياتهم حياة برزخية، الله أعلم بحقيقتها. والنبي صلى الله عليه وسلم قد مات بنص القرآن والسنة، ومن شك في موته فهو كافر، وكثير من الناس خصوصا في هذه الأزمنة يدعون أنه صلى الله عليه وسلم حي كحياته لما كان على وجه الأرض بين أصحابه، وهذا غلط عظيم، فإن الله سبحانه أخبر بأنه ميت. وهل جاء أثر صحيح أنه باعثه لنا في قبره كما كان قبل موته؟ وقد قام البرهان القاطع: أنه لا يبقى أحد حي، حين يقول الله سبحانه وتعالى: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} [سورة غافر آية: 16] ، فيكون صلى الله عليه وسلم قد مات ثم بعثه في قبره ثم مات، فيكون له ثلاث موتات، ولغيره موتتان. وقد قال أبو بكر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 365 رضي الله عنه لما جاءه بعد موته: "أما الموتة التي كتبت عليك فقد متها، ولن يجمع الله عليك موتتين"، وقال سبحانه عن أهل الجنة: {لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الأُولَى} [سورة الدخان آية: 56] ، يعني: التي كانت في الدنيا. أفيكون الرسول صلى الله عليه وسلم قد مات موتة ثانية، بعد الموتة الأولى؟ وأيضا: لو كان في قبره حيا، مثل حياته على ظهر الأرض، لسأله أصحابه عما أشكل عليهم، قال عمر رضي الله عنه:" ثلاث وددت أني سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهن، الجد، والكلالة، وأبواب من الربا ".فهلا جاء إلى قبره؟ واستسقى بالعباس ولم يجئ إلى قبره يستسقي به. ومعلوم ما صار بعده صلى الله عليه وسلم من الاختلاف العظيم، ولم يجئ أحد إلى قبره صلى الله عليه وسلم يسأله عما اختلفوا فيه؟ وفي الحديث المشهور: " ما من مسلم يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام " 1، فهذا يدل على أن روحه صلى الله عليه وسلم ليست دائمة في قبره، ومعرفة الميت زائره، ليس مختصا به صلى الله عليه وسلم. والذين يظنون أن حياته في قبره كحياته قبل موته، يقرؤون في كتاب الشفاء وغيره، الحكاية المشهورة عندهم: أن الإمام مالكا قال للمنصور، لما رفع صوته في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم: لا ترفع صوتك في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن حرمته ميتا، كحرمته حيا. وقد عقد ابن القيم - رحمه الله - في النونية، فصلا على من ادعى هذه الدعوى، وأجاد رحمه الله.   1 أبو داود: المناسك (2041) , وأحمد (2/527) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 366 والحديث الذي: " أنا مدينة العلم وعلي بابها " 1 ليس له أصل. وأما قوله لعلي رضي الله عنه:" أنت مني بمنْزلة هارون من موسى " 2 فهو: حديث صحيح، وسببه: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما تجهز لغزوة تبوك، لم يأذن لعلي في الغزو، واستخلفه على أهله، فقال علي: يا رسول الله، تخلفني مع النساء، والصبيان؟ فقال صلى الله عليه وسلم: " أما ترضى أن تكون مني بمنْزلة هارون من موسى " 3. قال العلماء: يشير إلى قوله: {وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي} [سورة الأعراف آية: 142] ، فالمراد: استخلافه صلى الله عليه وسلم عليا على أهله في سفر غزوه. وأما من قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم يشفع للمشركين يوم القيامة، فهذا كذب، يرده: قول النبي صلى الله عليه وسلم لما سأله أبو هريرة رضي الله عنه: من أحق الناس بشفاعتك يا رسول الله؟ قال: " من قال لا إله إلا الله، يبتغي بذلك وجه الله " 4. فشفاعته صلى الله عليه وسلم لأهل التوحيد لا للمشركين، وقال صلى الله عليه وسلم: " إني اختبأت دعوتي شفاعة لأهل الكبائر من أمتي، فهي نائلة إن شاء الله تعالى من مات لا يشرك بالله شيئا " 5. (حكم من مات في زمن الفترات ولم تبلغه الدعوة) وسئل أيضا: رحمه الله تعالى: ما حكم من مات في زمن الفترات، ولم تبلغه الدعوة؟ فأجاب: وأما حكم من مات في زمن الفترات، ولم تبلغه دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالله سبحانه أعلم به. واسم   1 الترمذي: المناقب (3723) . 2 البخاري: المناقب (3706) , ومسلم: فضائل الصحابة (2404) , والترمذي: المناقب (3731) , وابن ماجه: المقدمة (121) , وأحمد (1/170 ,1/174 ,1/179 ,1/184) . 3 البخاري: المناقب (3706) , ومسلم: فضائل الصحابة (2404) , والترمذي: المناقب (3724) , وابن ماجه: المقدمة (115) , وأحمد (1/173 ,1/174 ,1/175) . 4 البخاري: الأطعمة (5401) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (33) . 5 البخاري: الدعوات (6304) والتوحيد (7474) , ومسلم: الإيمان (198 ,199) , والترمذي: الدعوات (3602) , وابن ماجه: الزهد (4307) , وأحمد (2/426) , ومالك: النداء للصلاة (492) , والدارمي: الرقاق (2805) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 367 الفترة لا يختص بأمة دون أمة كما قال الإمام أحمد في خطبة: الرد على الزنادقة والجهمية: الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل، بقايا من أهل العلم. ويروى هذا اللفظ عن عمر رضي الله عنه. والكلام في حكم أهل الفترة لسنا مكلفين به، والخلاف في المسألة معروف. ولما تكلم في الفروع على حكم أطفال المشركين، وكذا من بلغ منهم مجنونا، قال: ويتوجه مثلها من لم تبلغه الدعوة، وقاله شيخنا، وفي الفنون عن أصحابنا: لا يعاقب، وذكر عن ابن حامد: يعاقب مطلقا، إلى أن قال: وقال القاضي أبو يعلى، في قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [سورة الإسراء آية: 15] : في هذا دليل على أن معرفة الله لا تجب عقلا، وإنما تجب بالشرع، وهو بعثة الرسل، وأنه لو مات الإنسان قبل ذلك، لم يقطع عليه بالنار. انتهى. وقال ابن القيم رحمه الله في طبقات المكلفين: الطبقة الرابعة عشر: قوم لا طاعة لهم ولا معصية، ولا كفر ولا إيمان، قال: وهؤلاء أصناف، منهم: من لم تبلغه الدعوة بحال، ولا سمع لها بخبر؛ ومنهم: المجنون الذي لا يعقل شيئا; ومنهم: الأصم الذي لا يسمع شيئا أبدا؛ ومنهم: أطفال المشركين الذين ماتوا قبل أن يميزوا شيئا. فاختلفت الأمة في حكم هذه الطبقة اختلافا كثيرا. وذكر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 368 الأقوال واختار ما اختاره شيخه أنهم يكلفون يوم القيامة. واحتج بما رواه الإمام أحمد في مسنده عن الأسود بن سريع، مرفوعا قال: " أربعة يحتجون يوم القيامة: رجل أصم لا يسمع، ورجل أحمق، ورجل هرم، ورجل مات في الفترة. أما الأصم فيقول: رب لقد جاء الإسلام وأنا ما أسمع شيئا. وأما الأحمق فيقول: رب لقد جاء الإسلام والصبيان يرمونني بالبعر. وأما الهرم فيقول: رب لقد جاء الإسلام وما أعقل. وأما الذي مات في الفترة فيقول: رب ما أتاني من رسول. فيأخذ مواثيقهم ليطيعنه فيرسل إليهم رسولا: أن ادخلوا النار. فوالذي نفسي بيده، لو دخلوها لكانت عليهم بردا وسلاما " ثم رواه من حديث أبي هريرة بمثله، وزاد في آخره: " ومن لم يدخلها رد إليها " انتهى. وذكر ابن كثير عند تفسير قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [سورة الإسراء آية: 15] ، قال: وهذه مسألة اختلف الأئمة فيها، وهي مسألة الولدان الذين ماتوا وهم صغار وآباؤهم كفار، وكذلك المجنون والأصم والخرف والأحمق ومن مات في الفترة. وقد روي في شأنهم أحاديث: أنا أذكرها بعون الله وتوفيقه. ثم ذكر في المسألة عشرة أحاديث، افتتحها بالحديث الذي ذكرناه. ثم أشار إلى الخلاف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 369 ثم قال: ومن العلماء من ذهب إلى أنهم يمتحنون يوم القيامة، فمن أطاع دخل الجنة، وانكشف علم الله فيه، ومن عصى دخل النار، وانكشف علم الله فيه. وهذا القول: يجمع بين الأدلة; وقد صرحت به الأحاديث المتقدمة، المتعاضدة، الشاهد بعضها لبعض; وهذا القول: حكاه الأشعري عن أهل السنة، ثم رد قول من عارض ذلك بأن الآخرة ليست بدار تكليف، إلى أن قال: ولما كان الكلام في هذه المسألة يحتاج إلى دلائل صحيحة، وقد يتكلم فيها من لا علم عنده، كره جماعة من العلماء الكلام فيها، روي ذلك عن ابن عباس، وابن الحنفية، والقاسم بن محمد، وغيرهم. قال: وليعلم: أن الخلاف في الولدان مخصوص بأولاد المشركين، فأما ولدان المسلمين والمؤمنين، فلا خلاف بين العلماء، حكاه القاضي أبو يعلى الحنبلي عن الإمام أحمد أنه قال: لا يختلف فيهم أنهم من أهل الجنة، فأما ما ذكره ابن عبد البر: أنهم توقفوا في ذلك، وأن الولدان كلهم تحت المشيئة، وهو يشبه ما رسم مالك في موطئه في أبواب القدر، فهذا غريب جدا، وذكر القرطبي في التذكرة نحوه. وقال أيضا: وأما الأحاديث التي فيها إطلاق الكفر على من فعل معصية، كقوله صلى الله عليه وسلم " قتال المؤمن كفر " 1،   1 النسائي: تحريم الدم (4113) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 370 وقوله: " كفر من تبرأ من نسبه "، ونحو ذلك، فهذا محمول عند العلماء على التغليظ، مع إجماع أهل السنة على أن نحو هذه الذنوب، لا تخرج من الإسلام; ويقال: كفر دون كفر; وكذلك لفظ الظلم، والفسق، ظلم دون ظلم، وفسق دون فسق. والأحاديث التي فيها تحريم الجنة على فاعل بعض الكبائر، فهذا على التشديد والتغليظ، لإجماع أهل السنة والجماعة أنه لا يبقى في النار أحد من أهل التوحيد، كما دلت على ذلك الأحاديث المتواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم. (معنى قول مؤلف الحموية: أما الذين وافقوه ببواطنهم وعجزوا عن إقامة الظواهر) وسئل أيضا: الشيخ عبد الله أبا بطين: ما معنى قول مؤلف الحموية: أما الذين وافقوه ببواطنهم، وعجزوا عن إقامة الظواهر، أو الذين وافقوه بظواهرهم، وعجزوا عن تحقيق البواطن، أو الذين وافقوه ظاهرا وباطنا بحسب الإمكان، فلا بد للمنحرفين عن سنته، أن يعتقدوا فيهم نقصا يذمونهم به، ويسمونهم بأسماء مكذوبة، وإن اعتقدوا صدقها، كقول الرافضي: من لم يبغض أبا بكر وعمر، فقد أبغض عليا. فأجاب: لما ذكر قبل ذلك: أن السنة هي ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتقادا، واقتصادا، وقولا، وعملا، ثم ذكر التابعين له على بصيرة، الذين هم أولى الناس به، في المحيا والممات، باطنا وظاهرا، ثم ذكر الفريق الذين وافقوه ببواطنهم، وعجزوا عن إقامة الظواهر، فهم الذين وافقوه اعتقادا، وعجزوا عن إقامة القول، والعمل، كالدعوة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 371 إلى الله سبحانه، وطائفة وافقوه في الظواهر، وعجزوا عن تحقيق البواطن، على ما هي عليه، من الفرق بين الحق والباطل بقلوبهم، ففيهم نقص من هذا الوجه; وفريق وافقوه ظاهرا وباطنا، بحسب الإمكان، لكنهم دون الأولين التابعين له على بصيرة، اعتقادا واقتصادا، قولا وعملا، والله أعلم. (معنى قوله صلى الله عليه وسلم وأنا الحاشر يحشر الناس على قدمي) وسئل عن معنى، قوله صلى الله عليه وسلم: " وأنا الحاشر يحشر الناس على قدمي " 1؟ وفي لفظ: " على عقبي "؟ فأجاب: قوله صلى الله عليه وسلم لي خمسة أسماء، وذكر منها الحاشر، الذي يحشر الناس على قدمي، قوله: (قدمي) ، روي: بتخفيف الياء، على الإفراد، وتشديدها على التثنية، وفي رواية: (على عقبي) أي: على أثري وزمان نبوتي، ورسالتي، إذ لا نبي بعده، وقيل معناه: يقدمهم وهم خلفه، أو على أثره في المحشر، لأنه أول من تنشق عنه الأرض و "العاقب" هو: الذي يخلف من كان قبله في الخير، ومنه: عقب الرجل لولده، وقيل معناه: لأنه ليس بعده نبي، لأن العقب هو الآخر، فهو عقب الأنبياء، أي: آخرهم. (بيان الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن لعقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب) سئل الشيخ: عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن، رحمه الله تعالى، عن عقيدة شيخ الإسلام: محمد بن عبد الوهاب، أجزل الله له الأجر والثواب، وحقيقة ما يدعو إليه؟   1 البخاري: تفسير القرآن (4896) , ومسلم: الفضائل (2354) , والترمذي: الأدب (2840) , وأحمد (4/80 ,4/84) , ومالك: الجامع (1891) , والدارمي: الرقاق (2775) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 372 فأجاب: بما نصه: بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا. من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أرسله بين يدي الساعة، بشيرا ونذيرا. أما بعد: فقد سألت أرشدك الله أن أرسل إليك نبذة مفيدة، كاشفة عن حال الشيخ الإمام، العالم، القدوة، المجدد لما اندرس من دين الإسلام، القائم بنصرة شريعة سيد الأنام، الشيخ: محمد بن عبد الوهاب، أحسن الله له المآب، وضاعف له الثواب، ويسّر له الحساب. وذكرت أرشدك الله: أن جهتكم لا يوجد فيها ذلك، وأن عندكم من الطلبة من يتشوق إلى تلك المناهج والمسالك، فكتبت إليك هذه الرسالة، وسودت إليك هذه الكراسة والعجالة ليعلم الطالب، ويتحقق الراغب حقيقة ما دعا إليه هذا الإمام، وما كان عليه من الاعتقاد والفهم التام، ويستبين للناظر فيها، ما يبهت به الأعداء من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 373 الأكاذيب والافتراء، التي يرومون بها تنفير الناس، عن المحجة والسبيل، وكتمان البرهان والدليل. وقد كثر أعداؤه ومنازعوه، وفشا البهت بينهم فيما قالوه ونقلوه، فربما اشتبه على طالب الإنصاف والتحقيق، والتبس عليه واضح المنهج والطريق، فإن استصحب الأصول الشرعية، وجرى على القوانين المرضية، عرف أن لكل نعمة حاسدا، ولكل حق جاحدا؛ ولا يقبل في نقل الأقوال والأحكام، إلا العدول الثقات، الضابطين من الأنام. ومن استصحب هذا استراح عن البحث فيما ينقل إليه ويسمع، ولم يلتفت إلى أكثر ما يختلق ويصنع، وكان من أمره على منهاج واضح ومشرع. فصل: (نشأة الإمام محمد بن عبد الوهاب وحياته) فأما نسب هذا الشيخ فهو: الإمام العالم القدوة البارع محمد بن عبد الوهاب بن سليمان بن علي بن محمد بن أحمد بن راشد بن بريد، بن محمد بن بريد بن مشرف. 1. ولد رحمه الله سنة خمس عشرة بعد المائة والألف من الهجرة النبوية، في بلد: العينية من أرض نجد، ونشأ   1 بياض بالأصل, وسيأتي بقية نسبه, في ترجمته إن شاء الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 374 بها وقرأ القرآن بها حتى حفظه وأتقنه قبل بلوغه العشر. وكان حاد الفهم سريع الإدراك والحفظ، يتعجب أهله من فطنته، وذكائه. وبعد حفظ القرآن اشتغل بالعلم وجد في الطلب وأدرك بعض الإرب قبل رحلته لطلب العلم، وكان سريع الكتابة، ربما كتب الكراسة في المجلس. قال أخوه سليمان: كان والده يتعجب من فهمه، ويعترف بالاستفادة منه مع صغر سنه. ووالده هو: مفتي تلك البلاد، وجده مفتي البلاد النجدية، آثاره وتصنيفه وفتواه تدل على علمه وفقهه. وكان جده إليه المرجع في الفقه والفتوى، وكان معاصرا الشيخ منصور البهوتي الحنبلي خادم المذهب، اجتمع به بمكة. وبعد بلوغ الشيخ سن الاحتلام، قدمه والده في الصلاة، ورآه أهلا للائتمام. ثم طلب الحج إلى بيت الله الحرام، فأجابه والده إلى ذلك المقصد والمرام وبادر إلى قضاء فريضة الإسلام، وأداء المناسك على التمام. ثم قصد المدينة المنورة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام، وأقام بها قريبا من شهرين. ثم رجع إلى وطنه قرير العين، واشتغل بالقراءة في الفقه، على مذهب الإمام أحمد رحمه الله. ثم بعد ذلك رحل يطلب العلم، وذاق حلاوة التحصيل والفهم، وزاحم العلماء الكبار، ورحل إلى البصرة والحجاز الجزء: 1 ¦ الصفحة: 375 مرارا، واجتمع بمن فيها من العلماء، والمشايخ الأحبار، وإلى الأحساء، وهي إذ ذاك آهلة بالمشايخ والعلماء، فسمع وناظر، وبحث واستفاد، وساعدته الأقدار الربانية، بالتوفيق والإمداد. وروى عن جماعة، منهم: الشيخ عبد الله بن إبراهيم النجدي ثم المديني وأجازه من طريقين، وأول ما سمع منه: الحديث المسلسل بالأولية في كتب السماع بالسند المتصل إلى عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء " 1 وسمع منه مسلسل الحنابلة بسنده إلى أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا أراد الله بعبده خيرا استعمله، قالوا كيف يستعمله؟ قال: يوفقه لعمل صالح قبل موته " 2 وهذا الحديث: من ثلاثيات أحمد رحمه الله. وطالت إقامة الشيخ ورحلته بالبصرة، وقرأ بها كثيرا من الحديث والفقه، والعربية، وكتب من الحديث، والفقه، واللغة ما شاء الله في تلك الأوقات. وكان يدعو إلى التوحيد، ويظهره لكثير ممن يخالطه ويجالسه، ويستدل عليه ويظهر ما عنده من العلم وما لديه. كان يقول: إن الدعوة كلها لله، لا يجوز صرف شيء منها إلى سواه، وربما ذكروا بمجلسه إشارة الطواغيت أو   1 الترمذي: البر والصلة (1924) , وأبو داود: الأدب (4941) . 2 الترمذي: القدر (2142) , وأحمد (3/106 ,3/120) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 376 شيئا من كرامات الصالحين الذين كانوا يدعونهم ويستغيثون بهم، ويلجؤون إليهم في المهمات، فكان ينهى عن ذلك ويزجر، ويورد الأدلة من الكتاب والسنة، ويحذر ويخبر: أن محبة الأولياء والصالحين، إنما هي متابعتهم في ما كانوا عليه، من الهدى والدين، وتكثير أجورهم بمتابعتهم على ما جاء به سيد المرسلين; وأما دعوى المحبة والمودة مع المخالفة في السنة والطريقة، فهي دعوى مردودة، غير مسلمة عند أهل النظر والحقيقة، ولم يزل على ذلك رحمه الله. ثم رجع إلى وطنه، فوجد والده قد انتقل إلى بلدة: حريملا، فاستقر معه فيها، يدعو إلى السنة المحمدية ويبديها، ويناصح من خرج عنها، ويفشيها، حتى رفع الله شأنه، ورفع ذكره، ووضع له القبول، وشهد له بالفضل ذووه، من أهل المعقول والمنقول. وصنف كتابه المشهور في التوحيد، وأعلن بالدعوة إلى صراط العزيز الحميد، وقرئ عليه هذا الكتاب المفيد، وسمعه كثير ممن لديه من طالب ومستفيد، وشاعت نسخه في البلاد، وطار ذكرها في الغور والأنجاد، وفاز بصحبته واستفاد، من جرد القصد وسلم من الأشر والبغي والفساد. وكثر بحمد الله محبوه وجنده، وصار معه عصابة من فحول الرجال، وأهل السمت الحسن والكمال، يسلكون معه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 377 الطريق ويجاهدون كل فاسق وزنديق. فصل (مبدأ دعوة الشيخ ابن عبد الوهاب وحالة البلاد عند ظهوره) كان أهل عصره ومصره في تلك الأزمان، قد اشتدت غربة الإسلام بينهم، وعفت آثار الدين لديهم، وانهدمت قواعد الملة الحنيفية وغلب على الأكثرين ما كان عليه أهل الجاهلية، وانطمست أعلام الشريعة في ذلك الزمان، وغلب الجهل والتقليد والإعراض عن السنة والقرآن، وشب الصغير وهو لا يعرف من الدين إلا ما كان عليه أهل تلك البلدان، وهرم الكبير على ما تلقاه عن الآباء والأجداد، وأعلام الشريعة مطموسة، ونصوص التنْزيل وأصول السنة فيما بينهم مدروسة، وطريقة الآباء والأسلاف مرفوعة الأعلام، وأحاديث الكهان والطواغيت مقبولة غير مردودة، ولا مدفوعة، قد خلعوا ربقة التوحيد والدين، وجدوا واجتهدوا في الاستغاثة، والتعلق على غير الله، من الأولياء والصالحين، والأوثان والأصنام والشياطين. وعلماؤهم ورؤساؤهم، على ذلك مقبلون، ومن بحره الأجاج شاربون، وبه راضون، وإليه مدى الزمان داعون، قد أعشتهم العوائد والمألوفات، وحبستهم الشهوات والإرادات، عن الارتفاع إلى طلب الهدى من النصوص المحكمات، والآيات البينات، يحتجون بما رأوه من الآثار الموضوعات، والحكايات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 378 المختلقة، والمنامات، كما يفعله أهل الجاهلية وغبر الفترات. وكثير منهم يعتقد النفع والضر في الأحجار والجمادات، ويتبركون بالآثار والقبور في جميع الأوقات: {نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [سورة الحشر آية: 19] ،: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [سورة الأنعام آية: 1] ،: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [سورة الأعراف آية: 33] . فأما بلاد نجد، فقد بالغ الشيطان في كيدهم وجد، وكانوا ينتابون قبر زيد بن الخطاب، ويدعونه رغبا ورهبا بفصيح الخطاب، ويزعمون أنه يقضي لهم الحوائج، ويرونه من أكبر الوسائل والولائج، وكذلك عند قبر يزعمون أنه قبر ضرار بن الأزور، وذلك كذب ظاهر، وبهتان مزور. وكذلك عندهم: نخل - فحال - ينتابه النساء والرجال، ويفعلون عنده أقبح الفعال. والمرأة إذا تأخر عنها الزواج، ولم ترغب فيها الأزواج، تذهب إليه، فتضمه بيدها، وتدعوه برجاء وابتهال، وتقول: يا فحل الفحول، أريد زوجا قبل الحول. وشجرة عندهم تسمى: الطرفية، أغراهم الشيطان بها، وأوحى إليهم التعلق عليها، وأنها ترجى منها البركة، ويعلقون عليها الخرق، لعل الولد يسلم من السوء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 379 وفي أسفل بلدة الدرعية مغارة في الجبل، يزعمون أنها انفلقت من الجبل، لامرأة تسمى: بنت الأمير، أراد بعض الناس أن يظلمها ويضير، فانفلق لها الغار، ولم يكن له عليها اقتدار، كانوا يرسلون إلى هذا المكان من اللحم والخبز ما يقتات به جند الشيطان. وفي بلدتهم رجل يدعي الولاية، يسمى: تاج، يتبركون به، ويرجون منه العون والإفراج، وكانوا يأتون إليه، ويرغبون فيما عنده من المدد - بزعمهم - ولديه، فتخافه الحكام والظلمة، ويزعمون أن له تصرفا، وفتكا بمن عصاه وملحمة، مع أنهم يحكون عنه الحكايات القبيحة الشنيعة، التي تدل على انحلاله عن أحكام الملة والشريعة. وهكذا سائر بلاد نجد، على ما وصفنا من الإعراض عن دين الله، والجحد لأحكام الشريعة والرد. ومن العجب أن هذه الاعتقادات الباطلة، والمذاهب الضالة، والعوائد الجائرة، والطرائق الخاسرة قد فشت وظهرت، وعمت وطمت، حتى بلاد الحرمين الشريفين! فمن ذلك: ما يفعل عند قبر محجوب، وقبة أبي طالب، فيأتون قبره بالشماعات والعلامات للاستغاثة عند نزول المصائب، وحلول النواكب، وكانوا له في غاية التعظيم، ولا ما يجب عند البيت الكريم! فلو دخل سارق أو غاصب أو ظالم قبر أحدهما، لم يتعرض له أحد، لما يرون له من وجوب التعظيم والاحترام والمكارم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 380 ومن ذلك: ما يفعل عند قبر ميمونة أم المؤمنين رضي الله عنها، في سرف، وكذلك عند قبر: خديجة، رضي الله عنها، يفعل عند قبرها، ما لا يسوغ السكوت عليه، من مسلم يرجو الله والدار الآخرة، فضلا عن كونه من المكاسب الدينية الفاخرة، وفيه: من اختلاط النساء بالرجال، وفعل الفواحش والمنكرات وسوء الأفعال، ما لا يقره أهل الإيمان والكمال وكذلك سائر القبور المعظمة المشرفة، في بلد الله الحرام: مكة المشرفة. وفي الطائف، قبر ابن عباس، رضي الله عنهما، يفعل عنده من الأمور الشركية التي تشمئز منها نفوس الموحدين، وتنكرها قلوب عباد الله المخلصين، وتردها الآيات القرآنية وما ثبت من النصوص عن سيد المرسلين، منها: وقوف السائل عند القبر، متضرعا مستغيثا، وإبداء الفاقة إلى معبودهم مستكينا مستعينا، وصرف خالص المحبة التي هي محبة العبودية، والنذر، والذبح لمن تحت ذاك المشهد والبنية. وأكثر سوقتهم وعامتهم يلهجون بالأسواق: اليوم على الله وعليك يا ابن عباس، فيستمدون منه الرزق والغوث، وكشف الضر والبأس. وذكر محمد بن الحسين النعيمي الزبيدي، رحمه الله: أن رجلا رأى ما يفعل أهل الطائف، من الشعب الشركية والوظائف، فقال: أهل الطائف لا يعرفون الله، إنما يعرفون ابن عباس، فقال له الجزء: 1 ¦ الصفحة: 381 بعض من يترشح للعلم: معرفتهم لابن عباس كافية، لأنه يعرف الله. فانظر إلى هذا الشرك الوخيم، والغلو الذميم، المجانب للصراط المستقيم، ووازن بينه وبين قوله: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} الآية [سورة البقرة آية: 186] ، وقوله جل ذكره: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} [سورة الجن آية: 18] . وقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم اليهود والنصارى، باتخاذهم قبور أنبيائهم مساجد، يعبد الله فيها، فكيف بمن عبد الصالحين، ودعاهم مع الله؟ والنصوص في ذلك لا تخفى على أهل العلم. كذلك ما يفعل بالمدينة المشرفة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام، هو من هذا القبيل، بالبعد عن منهاج الشريعة والسبيل. وفي بندر جدة ما قد بلغ من الضلال حده، وهو القبر الذي يزعمون أنه قبر حواء، وضعه لهم بعض الشياطين، وأكثروا في شأنه الإفك المبين، وجعلوا له السدنة والخدام، وبالغوا في مخالفة ما جاء به محمد عليه أفضل الصلاة والسلام، من النهي عن تعظيم القبور، والفتنة بمن فيها من الصالحين والكرام. وكذلك مشهد العلوي، بالغوا في تعظيمه وتوقيره، وخوفه ورجائه; وقد جرى لبعض التجار أنه انكسر بمال عظيم لأهل الهند وغيرهم، وذلك في سنة عشر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 382 ومائتين وألف، فهرب إلى مشهد العلوي مستجيرا، ولائذا به، مستغيثا، فتركه أرباب الأموالولم يتجاسر أحد من الرؤساء، والحكام، على هتك ذاك المشهد والمقام، واجتمع طائفة من المعروفين، واتفقوا على تنجيمه في مدة سنين، فنعوذ بالله من تلاعب الفجرة، والشياطين. وأما بلاد مصر وصعيدها، وفيومها وأعماله، فقد جمعت من الأمور الشركية والعبادات الوثنية والدعاوى الفرعونية ما لا يتسع له كتاب، ولا يدنو له خطاب، لا سيما عند مشهد أحمد البدوي وأمثاله من المعتقدين المعبودين، فقد جاوزوا بهم ما ادعته الجاهلية لآلهتهم. وجمهورهم يرى من تدبير الربوبية، والتصريف في الكون بالمشيئة، والقدرة العامة ما لم ينقل مثله عن أحد من الفراعنة والنماردة. وبعضهم يقول: يتصرف في الكون سبعة، وبعضهم يقول: أربع، ة وبعضهم يقول: قطب يرجعون إليه. وكثير منهم يرى الأمر شورى بين عدد ينتسبون إليه; فتعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا: {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً} [سورة الكهف آية: 5] . وقد استباحوا عند تلك المشاهد من المنكرات، والفواحش، والمفاسد، ما لا يمكن حصره، ولا يستطاع وصفه، واعتمدوا في ذلك من الحكايات والخرافات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 383 والجهالات، ما لا يصدر عمن له أدنى مسكة أو حظ من المعقولات، فضلا عن النصوص الشرعيات. كذلك ما يفعل في بلدان اليمن، جار على تلك الطريق والسنن، ففي صنعاء، وبرع، والمخا، وغيرها من تلك البلاد ما يتنَزه العاقل عن ذكره ووصفه، ولا يمكن الوقوف على غايته وكشفه، ناهيك بقوم استخفهم الشيطان، وعدلوا عن عبادة الرحمن إلى عبادة القبور والشيطان. فسبحان من لا يعجل بالعقوبة على الجرائم، ولا يهمل الحقوق والمظالم. وفي حضرموت، والشحر، وعدن ويافع، ما تستك عن ذكره المسامع، يقول قائلهم: شيء لله يا عيدروس! شيء لله يا محيي النفوس! وفي أرض نجران من تلاعب الشيطان، وخلع ربقة الإيمان، ما لا يخفى على أهل العلم بهذا الشأن. كذلك رئيسهم، المسمى بالسيد، لقد أتوا من طاعته، وتعظيمه، وتقديمه، وتصديره، والغلو فيه، بما أفضى بهم إلى مفارقة الملة والإسلام، والانحياز إلى عبادة الأوثان والأصنام: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّّ لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [سورة التوبة آية: 31] . وكذلك حلب ودمشق وسائر بلاد الشام، فيها من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 384 تلك المشاهد والنصب والأعلام، ما لا يجامع عليه أهل الإيمان والإسلام، من أتباع سيد الأنام. وهي تقارب ما ذكرنا، من الكفريات المصرية، والتلطخ بتلك الأحوال الوثنية الشركية. وكذلك الموصل، وبلاد الأكراد، ظهر فيها من أصناف الشرك والفجور والفساد. وفي العراق من ذلك بحره المحيط بسائر الخلجان، وعندهم المشهد الحسيني، قد اتخذه الرافضة وثنا، بل ربا مدبرا وخالقا ميسرا، وأعادوا به المجوسية، وأحيوا به معاهد اللات والعزى، وما كان عليه أهل الجاهلية. وكذلك مشهد العباس، ومشهد: علي، ومشهد أبي حنيفة، ومعروف الكرخي، والشيخ عبد القادر، فإنهم قد افتتنوا بهذه المشاهد، رافضتهم وسنيتهم، وعدلوا عن أسنى المطالب والمقاصد، ولم يعرفوا ما وجب عليهم من حق الله الفرد الصمد الواحد. وبالجملة: فهم شر تلك الأمصار، وأعظمهم نفورا عن الحق، واستكبارا. والرافضة يصلون لتلك المشاهد، ويركعون ويسجدون لمن في تلك المعاهد، وقد صرفوا من الأموال والنذور، لسكان تلك الأجداث والقبور، ما لا يصرف عشر معشاره للملك العلي الغفور. ويزعمون: أن زيارتهم لعلي وأمثاله، أفضل من سبعين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 385 حجة لله تعالى وتقدس في مجده وجلاله، ولآلهتهم من التعظيم والتوقير والخشية والاحترام، ما ليس معه من تعظيم الله، وتوقيره وخشيته وخوفه، شيء للإله الحق، والملك العلام. ولم يبق مما عليه النصارى، سوى دعوى الولد، مع أن بعضهم يرى الحلول لأشخاص بعض البرية {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ} [سورة الصافات آية: 180] . وكذلك جميع قرى الشط، والمجرة، على غاية من الجهل، وفي القطيف، والبحرين، من البدع الرافضية، والأحداث المجوسية، والمقامات الوثنية، ما يضاد ويصادم أصول الملة الحنيفية. فمن اطلع على هذه الأفاعيل، وهو عارف بالإيمان والإسلام، وما فيهما من التفريع والتأصيل، تيقن أن القوم قد ضلوا عن سواء السبيل، وخرجوا عن مقتضى القرآن والدليل، وتمسكوا بزخارف الشيطان، وأحوال الكهان، وما شابه هذا القبيل، فازداد بصيرة في دينه، وقوي بمشاهدته إيمانه ويقينه، وجد في طاعة مولاه وشكره، واجتهد في الإنابة إليه وإدامة ذكره، وبادر إلى القيام بوظائف أمره، وخاف أشد الخوف على إيمانه من طغيان الشيطان وكفره. فليس العجب ممن هلك كيف هلك، إنما العجب ممن نجا كيف نجا. ولقد أحسن العلامة: محمد بن إسماعيل، الأمير، فيما أبداه عن أهل وقته، من التبديل والتغيير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 386 فصل: (إنكار أهل العلم لكل مشاهد البدع والشرك) وهذه الحوادث المذكورة، والكفريات المشهورة، والبدع المزبورة، قد أنكرها أهل العلم والإيمان، واشتد نكيرهم حتى حكموا على فاعلها بخلع ربقة الإسلام والإيمان. ولكن لما كانت الغلبة للجهال والطغام، انتقضت عرى الدين، وانثلمت أركانه وانطمست منه الأعلام، وساعدهم على ذلك من قل حظه ونصيبه من الرؤساء والحكام، والمنتسبين من الجهال إلى معرفة الحلال والحرام، فاتبعتهم العامة والجمهور من الأنام، ولم يشعروا بما هم عليه من المخالفة والمباينة لدين الله الذي اصطفاه لخاصته وأوليائه وصفوته الكرام. ومع عدم العلم، والإعراض عن النظر في آيات الله والفهم، لا مندوحة للعامة عن تقليد الرؤساء والسادة، ولا يمكن الانتقال عن المألوف والعادة، ولهذا كرر سبحانه وتعالى التنبيه، على هذه الحجة الداحضة، والعادة المطردة الفاضحة، قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} [سورة لقمان آية: 21] ، وقوله: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ} الآية [سورة الزخرف آية: 23] . وقد قرر هذا المعنى في القرآن، لحاجة العباد، وضرورتهم إلى معرفته، والحذر منه، وعدم الاغترار بأهله. وما أحسن ما قال عبد الله بن المبارك، رحمه الله: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 387 وهل أفسد الدين إلا الملوك وأحبار سوء ورهبانها! إذا عرفت هذا، فليس إنكار هذه الحوادث من خصائص هذا الشيخ، بل له سلف صالح من أئمة العلم والهدى، قاموا بالتنكير والرد على من ضل وغوى وصرف خالص العبادة إلى من تحت أطباق الثرى، وسنسرد لك من كلامهم ما تقر به العيون وتثلج به الصدور، ويتلاشى معه ما أحدثه الجهال من البدع والإشراك والزور. قال: أبو بكر الطرطوشي، في كتابه المشهور، الذي سماه: "الحوادث والبدع": روى البخاري عن أبي واقد الليثي، قال: (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل حنين، ونحن حدثاء عهد بكفر، وللمشركين سدرة يعكفون عندها، وينوطون بها أسلحتهم، يقال لها: ذات أنواط، فمررنا بسدرة، فقلنا: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط، كما لهم ذات أنواط. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الله أكبر، إنها السنن، قلتم والذي نفسي بيده، كما قالت بنو إسرائيل لموسى: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} 1 لتركبن سنن من كان قبلكم ". فانظروا رحمكم الله، أينما وجدتم سدرة أو شجرة يقصدها الناس، ويعظمون من شأنها، ويرجون البرء والشفاء من قبلها، وينوطون بها المسامير والخرق; فهي: ذات أنواط، فاقطعوها; انتهى كلامه رحمه الله.   1 الترمذي: الفتن (2180) , وأحمد (5/218) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 388 فانظر رحمك الله، إلى تصريح هذا الإمام: بأن كل شجرة يقصدها الناس ويعظمونها، ويرجون الشفاء والعافية من قبلها، فهي ذات أنواط، التي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه لما طلبوا منه أن يجعل لهم شجرة كذات أنواط، فقال: " الله أكبر، هذا كقول بني إسرائيل، اجعل لنا إلها "، 1 مع أنهم لم يطلبوا إلا مجرد مشابهتهم في العكوف عندها، وتعليق الأسلحة للتبرك. فتبين لك بهذا أن من جعل قبرا أو شجرة، أو شيئا حيا أو ميتا مقصودا له، ودعاه واستغاث به، وتبرك به، وعكف على قبره، فقد اتخذه إلها مع الله. فإذا كان الرسول - صلوات الله وسلامه عليه - أنكر عليهم مجرد طلبهم منه مشابهة المشركين، في العكوف وتعليق الأسلحة للتبرك، فما ظنك بما هو أعظم من ذلك وأطم؟! الشرك الأكبر، الذي حرمه الله، ورسوله، وأخبر أن أصلح الخلق لو يفعله لحبط عمله وصار من الظالمين; فصلوات الله وسلامه عليه، فقد بلغ البلاغ المبين، وعرفنا بالله، وأوضح لنا الصراط المستقيم، فحقيق بمن نصح نفسه، وآمن بالله، واليوم الآخر، أن لا يغتر بما عليه أهل الشرك، من عبادة القبور، من هذه الأمة. ومن ذلك: ما ذكره الإمام، محدث الشام: عبد الرحمن بن إسماعيل بن إبراهيم، المعروف بأبي   1 الترمذي: الفتن (2180) , وأحمد (5/218) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 389 شامة، من فقهاء الشافعية وقدمائهم، في كتابه الذي سماه: الباعث على إنكار البدع والحوادث، في فصل: البدع المستقبحة. قال: البدع المستقبحة تنقسم إلى قسمين: قسم تعرفه العامة والخاصة، أنه بدعة محرمة أو مكروهة، وقسم يظنه معظمهم إلا من عصمه الله، عبادات، وقربات، وطاعات، وسننا. فأما القسم الأول: فلا نطول بذكره، إذ كفينا مؤنة الكلام عنه، لاعتراف فاعله أنه ليس من الدين، لكن نبين من هذا القسم ما قد وقع فيه جماعة من جهال العوام، النابذين لشريعة الإسلام، التاركين للاقتداء بأئمة الدين من الفقهاء، وهو ما يفعله طوائف من المنتسبين للفقر، الذي حقيقته الافتقار من الإيمان، من مواخاة النساء الأجانب، والخلوة بهن، واعتقادهم في مشايخ لهم ضالين مضلين، يأكلون في نهار رمضان من غير عذر، ويتركون الصلاة، ويخامرون النجاسات، غير مكترثين بذلك، فهم داخلون تحت قوله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [سورة الشورى آية: 21] . وبهذه الطرق وأمثالها كان مبادئ ظهور الكفر، من عبادة الأصنام وغيرها، ومن هذا القسم أيضا ما قد عم الابتلاء به، من تزيين الشيطان للعامة تخليق الحيطان والعمد، وسرج مواضع مخصوصة في كل بلد، يحكي لهم حاك أنه رأى في منامه بها أحدا، ممن شهر بالصلاح، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 390 والولاية، فيفعلون ذلك، ويحافظون عليه، مع تضييعهم فرائض الله تعالى، وسننه، ويظنون أنهم متقربون بذلك. ثم يتجاوزون هذا إلى أن يعظم وقع تلك الأماكن في قلوبهم، فيعظمونها، ويرجون الشفاء لمرضاهم، وقضاء حوائجهم، بالنذر لهم، وهي ما بين: عيون وشجر، وحائط وحجر. وفي مدينة دمشق - صانها الله من ذلك - مواضع متعددة، كعوينة الحمى، خارج باب توما، والعمود المخلق داخل الباب الصغير، والشجرة الملعونة اليابسة، خارج باب النصر في نفس قارعة الطريق، سهل الله قطعها واجتثاثها من أصلها، فما أشبهها بذات أنواط الواردة في الحديث الذي رواه محمد بن إسحاق، وسفيان بن عيينة، عن الزهري، عن سنان بن أبي سنان، عن أبي واقد الليثي رضي الله عنه قال: " خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين، وكانت لقريش شجرة خضراء عظيمة يأتونها كل سنة، فيعلقون عليها سلاحهم، ويعكفون عندها، ويذبحون لها ". وفي رواية: " خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم قبل حنين، ونحن حديثو عهد بكفر، وللمشركين سدرة يعكفون عليها، وينوطون بها أسلحتهم، يقال لها ذات أنواط، فمررنا بسدرة، فتنادينا من جنبتي الطريق، ونحن نسير إلى حنين: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط، كما لهم ذات أنواط، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: الله أكبر، هذا كما قال قوم موسى: {اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون} . لتركبن سنن من كان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 391 قبلكم " أخرجه الترمذي بلفظ آخر، والمعنى واحد، وقال: هذا حديث حسن صحيح. قال الإمام أبو بكر الطرطوشي، في كتابه المتقدم ذكره 1: فانظروا رحمكم الله، أينما وجدتم سدرة أو شجرة يقصدها الناس، ويعظمون من شأنها، ويرجون البرء والشفاء من قبلها، وينوطون بها المسامير والخرق، فهي ذات أنواط، فاقطعوها. قلت: ولقد أعجبني ما فعله الشيخ أبو إسحاق، الجبيناني، رحمه الله تعالى، أحد الصالحين ببلاد إفريقية، حكى عنه صاحبه الصالح أبو عبد الله، محمد بن أبي العباس المؤدب: أنه كان إلى جانبه عين تسمى: عين العافية، كانت العامة قد افتتنوا بها، يأتونها من الآفاق، من تعذر عليها نكاح أو ولد، قالت: امضوا بي إلى العافية، فتعرف بها الفتنة، قال أبو عبد الله: فأنا في السحر ذات ليلة، إذ سمعت أذان أبي إسحاق نحوها، فخرجت، فوجدته قد هدمها، وأذن الصبح عليها، ثم قال: اللهم إني هدمتها لك، فلا ترفع لها رأسا، قال: فما رفع لها رأس إلى الآن. قلت: وأدهى من ذلك وأمر، إقدامهم على قطع الطريق السابلة، يجيزون في أحد الأبواب الثلاثة القديمة العادية، التي هي من بناء الجن، في زمن نبي الله سليمان بن داود عليه السلام، أو من بناء ذي القرنين، وقيل فيها غير ذلك،   1 في صفحة: 239 , 388. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 392 مما يؤذن بالتقدم، على ما نقلناه في: كتاب تاريخ مدينة دمشق، حرسها الله تعالى، وهو الباب الشمالي، ذكر لهم بعض من لا يوثق به، في شهور سنة ست وثلاثين وستمائة، أنه رأى مناما يقتضي أن ذلك المكان دفن فيه بعض أهل البيت. وقد أخبرني عنه ثقة: أنه اعترف له أنه افتعل ذلك، فقطعوا طريقة المارة فيه، وجعلوا الباب بكماله أصل مسجد مغصوب، وقد كان الطريق يضيق بسالكيه، فتضاعف الضيق والحرج، على من دخل ومن خرج. ضاعف الله عذاب من تسبب في بنائه، وأجزل ثواب من أعان على هدمه وإزالة اعتدائه، اتباعا لسنة النبي صلى الله عليه وسلم في هدم مسجد الضرار، المرصد لأعدائه من الكفار، فلم ينظر الشارع إلى كونه مسجدا، وهدمه لما قصد به من السوء والردى، وقال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم {لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً} [سورة التوبة آية: 108] . نسأل الله الكريم معافاتنا من كل ما يخالف رضاه، وأن لا يجعلنا ممن أضله، فاتخذ إلهه هواه. وهذا الشيخ أبو شامة، من كبار أئمة الشافعية، في أوائل القرن السابع. وقال الإمام: أبو الوفاء، ابن عقيل الحنبلي - رحمه الله -: لما صعبت التكاليف على الجهلة والطغام، عدلوا عن أوضاع الشرع إلى أوضاع وضعوها لأنفسهم، فسهلت عليهم، إذ لم يدخلوا بها تحت أمر غيرهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 393 قال: وهم عندي كفار بهذه الأوضاع، مثل تعظيم القبور وإكرامها، وإلزامها لما نهى عنه الشارع، من إيقاد السرج، وتقبيلها، وتخليقها، وخطاب الموتى بالحوائج، وكتب الرقاع فيها: يا مولاي، افعل بي كذا وكذا، وأخذ بتربتها تبركا بها، وإفاضة الطيب على القبور، وشد الرحال إليها، وإلقاء الخرق على الشجر، اقتداء بمن عبد اللات والعزى. والويل عندهم لمن لم يقبل مشهد الكف، ولم يتمسح بآجرّة مسجد الملموسة يوم الأربعاء، ولم يقل الحمالون على جنازته: الصديق أبو بكر، أو محمد وعلي، أولم يعقد على قبر أبيه أزجا بالجص والآجر، ولم يخرق ثيابه إلى الذيل، ولم يرق ماء الورد على القبر. انتهى. فتأمل رحمك الله تعالى ما ذكره هذا الإمام، الذي هو أجل أئمة الحنابلة، بل من أجل أئمة الإسلام، وما كشف من الأمور التي يفعلها الخواص من الأنام، فضلا عن النساء والغوغاء والعوام، مع كونه في سادس القرون، والناس إذ ذاك لما ذكره يفعلون، وجهابذة العلماء والنقدة لذلك يشهدون، وحظهم من النهي مرتبة ثانية، فهم بها قائمون، يتضح لك فساد ما زخرفه المبطلون، وموه به المتعصبون والملحدون. وقال الشيخ تقي الدين: وأما سؤال الميت والغائب، نبيا كان أو غيره، فهو من المحرمات المنكرة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 394 باتفاق أئمة المسلمين، لم يأمر الله تعالى به ولا رسوله، ولا فعله أحد من الصحابة ولا التابعين لهم بإحسان، ولا استحبه أحد من أئمة المسلمين. وهذا مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام، فإن أحدا منهم ما كان يقول إذا نزلت به ترة، أو عرضت له حاجة، لميت: يا سيدي، يا فلان، أنا في حسبك، أو اقض حاجتي، كما يقوله بعض هؤلاء المشركين، لمن يدعونهم من الموتى والغائبين. ولا أحد من الصحابة استغاث بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد موته، ولا بغيره من الأنبياء، لا عند قبورهم، ولا إذا بعدوا عنها، ولا كانوا يقصدون الدعاء عند قبور الأنبياء، ولا الصلاة عندها. (ولما قحط الناس في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه استسقى بالعباس، وتوسل بدعائه، وقال: اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبيك إذا أجدبنا، فتسقينا، فإنا نتوسل إليك بعم نبينا، فاسقنا) ، كما ثبت ذلك في صحيح البخاري، و (كذلك معاوية رضي الله عنه لما استسقى بأهل الشام، توسل بيزيد بن الأسود الجرشي) ، فهذا الذي ذكره عمر رضي الله عنه توسلا منه بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم وشفاعته في حياته، ولهذا توسلوا بعده بدعاء العباس، وبدعاء يزيد بن الأسود، وهذا هو الذي ذكره الفقهاء في كتاب الاستسقاء، فقالوا: يستحب أن يستسقى بالصالحين، وإذا كانوا من أقارب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأفضل. وقد كره العلماء كمالك، وغيره، أن يقوم الرجل عند الجزء: 1 ¦ الصفحة: 395 قبر النبي صلى الله عليه وسلم يدعو لنفسه، وذكروا أن هذا من البدع التي لم يفعلها السلف. قال أصحاب مالك: إنه إذا دخل المسجد يدنو من القبر، فيسلم على النبي صلى الله عليه وسلم، ويدعو مستقبل القبلة، يوليه ظهره، وقيل لا يوليه ظهره، وإنما اختلفوا لما فيه من استدباره؛ فأما إذا جعل الحجرة عن يساره، فقد زال المحذور بلا خلاف. ولعل هذا الذي ذكره الأئمة أخذوه من كراهة الصلاة إلى القبر، فإذا كان قد ثبت النهي فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم فلما نهى أن يتخذ القبر مسجدا أو قبلة، أمروا بأن لا يتحرى الدعاء إليه، كما لا يصلى إليه، قال مالك في المبسوط: لا أرى أن يقف عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم يدعو، ولكن يسلم ويصلي. ولهذا - والله أعلم - حرفت الحجرة، وثلثت، لما بنيت; فلم يجعل حائطها الشمالي، على سمت القبلة، ولا جعل مسطحا. وذكر الإمام، وغيره أنه يستقبل القبلة، ويجعل الحجرة عن يساره، لئلا يستدبره; وذلك بعد تحيته، والصلاة والسلام عليه، ثم يدعو لنفسه. وذكروا أنه إذا حياه، وصلى، يستقبل وجهه - بأبي وأمي - صلى الله عليه وسلم فإذا أراد الدعاء: جعل الحجرة عن يساره، واستقبل القبلة، ودعا، وهذا مراعاة منهم أن يفعل الداعي أو الزائر ما نهي عنه من تحري الدعاء عند القبر. وقد: كره مالك - رحمه الله تعالى - وغيره، من أهل المدينة، كلما دخل أحدهم المسجد، أن يجيء فيسلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 396 على النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه، قال: وإنما يكون ذلك لأحدهم إذا قدم من سفر، أو أراد سفرا، ونحو ذلك. ورخص بعضهم في السلام عليه، إذا دخل للصلاة ونحوها، وأما قصده دائما للصلاة والسلام عليه، فما علمت أحدا رخص في ذلك، لأن ذلك نوع من اتخاذه عيدا. وأيضا، فإن ذلك بدعة، والمهاجرون والأنصار في عهد أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم، لم يكونوا يقصدون قبره كلما دخلوا المسجد للسلام عليه، لعلمهم بما كان النبي صلى الله عليه وسلم يكرهه من ذلك، وما نهاهم عنه، ولا أنهم كانوا يسلمون عليه حين دخول المسجد، والخروج منه، كما كانوا يسلمون عليه في حياته. والمأثور عن ابن عمر يدل على ذلك، قال أبو سعيد في سننه: حدثنا عبد الرحمن بن يزيد، حدثني أبي، عن ابن عمر: " أنه كان إذا قدم من سفر أتى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فصلى، وسلم عليه; وقال: السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبتاه "، وعبد الرحمن بن يزيد، وإن كان يضعف، لكن الحديث الصحيح عن نافع يدل على أن ابن عمر، ما كان يفعل ذلك دائما، ولا غالبا. وما أحسن ما قال مالك - رحمه الله -:لن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها، ولكن كلما ضعف تمسك الأمم بعهود أنبيائهم، ونقص إيمانهم، عوضوا عن ذلك، بما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 397 أحدثوه من البدع والشرك وغيره; ولهذا كرهت الأئمة استلام القبر، وتقبيله، وبنوه بناء منعوا الناس أن يصلوا إليه. ومما يبين حكمة الشريعة، وأنها كما قيل: سفينة نوح، من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق، أن الذين خرجوا عن المشروع زين لهم الشيطان أعمالهم، حتى خرجوا إلى الشرك، فطائفة من هؤلاء يصلون إلى الميت، ويدعو أحدهم، فيقول: اغفر لي، وارحمني، ونحو ذلك; ويسجد لقبره. ومنهم: من يستقبل القبر ويصلي إليه مستدبر الكعبة، ويقول: القبر قبلة الخاصة، والكعبة: قبلة العامة; وهذا، يقوله من هو أكثر الناس عبادة وزهدا، وهو شيخ متبوع; ولعله أمثل أتباع شيخه يقوله في شيخه. وآخر من أعيان الشيوخ المتبوعين، أصحاب الصدق. والاجتهاد في العبادة والزهد، يأمر المريد أول ما يتوب، أن يذهب إلى قبر الشيخ، ويعكف عليه، عكوف أهل التماثيل عليها. وجمهور هؤلاء المشركين بالقبور يجدون عند عبادة القبور من الرقة، والخشوع، والذل، وحضور القلب، ما لا يجده أحدهم في مساجد الله التي: {أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [سورة النور آية: 36] ؛ وآخرون يحجون القبور. وطائفة صنفوا كتبا، وسموها: مناسك حج المشاهد، كما صنف أبو عبد الله محمد بن النعمان، الملقب بالمفيد، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 398 أحد شيوخ الإمامية، كتابا في ذلك، وذكر فيه من الحكايات المكذوبة على أهل البيت، ما لا يخفى كذبه على من له معرفة بالنقل. وآخرون يسافرون إلى قبور المشايخ، وإن لم يسموا ذلك نسكاوحجا، فالمعنى واحد. وكثير من هؤلاء معظم قصده من الحج، قصد قبر النبي صلى الله عليه وسلم، لا حج البيت. وبعض الشيوخ، المشهورين بالدين، والزهد والصلاح، صنف كتابا سماه: الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم في اليقظة والمنام؛ وقد ذكر في مناقب هذا الشيخ: أنه حج مرة، وكان قبر النبي صلى الله عليه وسلم منتهى قصده، ثم رجع ولم يذهب إلى الكعبة، وجعل هذا من مناقبه، فإن كان مستحبا، فينبغي لمن يجب عليه حج البيت، إذا حج أن يجعل المدينة منتهى قصده، ولا يذهب إلى مكة، فإنه زيادة كلفة ومشقة، مع ترك الأفضل; وهذا لا يفعله عاقل. وبسبب الخروج عن الشريعة، صار بعض أكابر الشيوخ عند الناس، ممن يقصده الملوك والقضاة، والعلماء، والعامة، على طريقة ابن سبعين، قيل عنه: إنه كان يقول: البيوت المحجوجة ثلاثة: مكة، وبيت المقدس، والبيت الذي للمشركين في الهند، وهذا لأنه كان يعتقد أن دين اليهود حق، ودين النصارى حق. وجاءه بعض إخواننا العارفين، قبل أن يعرف حقيقته، فقال له: أريد أن أسلك على يديك؟ فقال: على دين اليهود، أو النصارى، أو المسلمين؟ فقال له: واليهود، والنصارى، ليسوا كفارا؟! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 399 فقال الشيخ: لا تشدد عليهم، لكن الإسلام أفضل. ومن الناس من يجعل مقبرة الشيخ، بمنْزلة عرفات، يسافرون إليها وقت الموسم، فيعرفون بها، كما يعرف المسلمون بعرفات، كما يفعل هذا في المشرق والمغرب. ومنهم من يحكي عن الشيخ الميت، أنه قال: كل خطوة إلى قبري كحجة; ويوم القيامة لا أبيع بحجة؛ فأنكر بعض الناس ذلك، فتمثل له الشيطان بصورة الشيخ، وزجره عن إنكار ذلك. وهؤلاء وأمثالهم صلاتهم ونسكهم لغير الله رب العالمين، فليسوا على ملة إمام الحنفاء، وليسوا من عمار مساجد الله، الذين قال الله فيهم: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ} [سورة التوبة آية: 18] . وعمار مشاهد المقابر يخشون غير الله، ويرجون غير الله، حتى إن طائفة من أرباب الكبائر الذين لا يتحاشون فيما يفعلونه من القبائح إذا رأى أحدهم قبة الميت، أو الهلال الذي على رأس القبة؛ خشي من فعل الفواحش، ويقول أحدهم لصاحبه: ويحك؟! هذا هلال القبة فيخشون المدفون تحت الهلال، ولا يخشون الذي خلق السماوات والأرض، وجعل أهلة السماء مواقيت للناس والحج! وهؤلاء إذا نوظروا، خوفوا مناظرهم، كما صنع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 400 المشركون مع إبراهيم عليه السلام، قال تعالى: {وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} ( [سورة الأنعام آية: 80-81-82] . وآخرون قد جعلوا الميت بمنْزلة الإله، والشيخ الحي، المتعلق به كالنبي؛ فمن الميت تطلب قضاء الحاجات، وكشف الكربات، وأما الحي فالحلال ما حلله، والحرام ما حرمه. وكأنهم في أنفسهم، قد عزلوا الله عن أن يتخذوه إلها، وعزلوا محمدا صلى الله عليه وسلم أن يتخذوه رسولا. وقد يجيء الحديث العهد بالإسلام، والتابع لهم المحسن الظن بهم، أو غيره، يطلب من الشيخ الميت، إما دفع ظلم ملك يريد أن يظلمه، أو غير ذلك، فيدخل ذلك السادن فيقول: قد قلت للشيخ، والشيخ يقول للنبي، والنبي يقول لله، والله قد بعث رسولا إلى السلطان فلان، فهل هذا إلا محض دين المشركين والنصارى؟! وفيه من الكذب والجهل، ما لا يستجيزه كل مشرك، أو نصراني، ولا يروج عليه. ويأكلون من النذور؛ والمنذور: ما يؤتى به إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 401 قبورهم، ما يدخلون به في معنى قوله تعالى: {إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ} [سورة التوبة آية: 34] ، يعرضون بأنفسهم، ويمنعون غيرهم، إذ التابع لهم، يعتقد أن هذا هو سبيل الله ودينه، فيمتنع بسبب ذلك، من الدخول في دين الحق، الذي بعث الله به رسله وأنزل به كتبه. والله سبحانه لم يذكر في كتابه المشاهد، بل ذكر المساجد، وأنها خالصة لوجهه، قال تعالى: {وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [سورة الأعراف آية: 29] ، وقال تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [سورة التوبة آية: 18] ، وقال تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [سورة النور آية: 36] . وقال تعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ} [سورة الحج آية: 40] ، ولم يذكر بيوت الشرك، كبيوت النيران والأصنام، والمشاهد، لأن الصوامع، والبيع لأهل الكتاب، فالممدوح من ذلك: ما كان مبنيا قبل النسخ والتبديل، كما أثنى على اليهود، والنصارى، والصابئين، الذين كانوا قبل النسخ والتبديل: يؤمنون بالله واليوم الآخر، ويعملون الصالحات. فبيوت الأوثان، وبيوت النيران، وبيوت الكواكب، وبيوت المقابر، لم يمدح الله شيئا منها، ولم يذكر ذلك إلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 402 في قصة من لعنهم النبي صلى الله عليه وسلم قال تعالى: {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً} [سورة الكهف آية: 21] ، فهؤلاء الذين اتخذوا مسجدا على أهل الكهف كانوا من النصارى، الذين لعنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: " لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " 1 وفي رواية: وصالحيهم. ودعاء المقبورين من أعظم الوسائل إلى ذلك، وقد قدم بعض شيوخ المشرق، فتكلم معي في هذا، فبينت له فساد هذا، فقال: أليس قد قال النبي صلى الله عليه وسلم: " إذا أعيتكم الأمور، فعليكم بأصحاب القبور "؟ فقلت: هذا مكذوب باتفاق أهل العلم، لم يروه عن النبي صلى الله عليه وسلم أحد من علماء الحديث. وبسبب هذا، وأمثاله، ظهر مصداق قول النبي صلى الله عليه وسلم: " لتتبعن سنن من كان قبلكم، حذو القذة، بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب، لدخلتموه، قالوا: يا رسول الله اليهود؟ والنصارى؟ قال: فمن " 2 وهؤلاء الغلاة المشركون، إذا حصل لأحدهم مطلبه، ولو من كافر، لم يقبل على الرسول، بل يطلب حاجته من حيث إنها تقضى. فتارة يذهب إلى من يظنه قبر رجل صالح، ويكون فيه قبر كافر، أو منافق، وتارة: يعلم أنه كافر، أو منافق، فيذهب إليه، كما يذهب قوم إلى الكنيسة، أو إلى مواضع يقال إنها تقبل النذور، فهذا يقع فيه عامتهم؛ وأما الأول، فيقع فيه خاصتهم.   1 البخاري: الجنائز (1390) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (531) , والنسائي: المساجد (703) , وأحمد (1/218 ,6/34 ,6/121 ,6/146 ,6/255) , والدارمي: الصلاة (1403) . 2 البخاري: أحاديث الأنبياء (3456) , ومسلم: العلم (2669) , وأحمد (3/84 ,3/89) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 403 والمقصود: أن كثيرا من الناس، يعظم قبر من يكون في الباطن كافرا، أو منافقا، ويكون هذا عنده والرسول من جنس واحد، لاعتقاده أن الميت يقضي حاجته، إذا كان رجلا صالحا، وكلا هذين عنده من جنس من يستغيث به. وكم من مشهد يعظمه الناس، ويظنونه قبر رجل صالح، وهو كذب، بل يقال: إنه قبر كافر، كالمشهد الذي بسفح جبل لبنان، الذي يقال: إنه قبر نوح ; فإن أهل المعرفة، كانوا يقولون: إنه قبر بعض العمالقة. وكذلك مشهد الحسين، الذي بالقاهرة؟ وقبر أبي الذي بدمشق، اتفق العلماء على أنها كذب، ومنهم من قال: هما، قبرا نصرانيين. وكثير من المشاهد تنازع الناس فيها، وعندها شياطين، تضل بسببها من تضل. ومنهم من يرى في المنام شخصا يظن أنه المقبور، ويكون ذلك شيطانا تصور بصورته، كالشياطين الذين يكونون بالأصنام، وكالشياطين الذين يتمثلون لمن يستغيث بالأصنام والموتى والغائبين، وهذا كثير في زماننا وغيره، مثل أقوام يرصدون بعض التماثيل، التي بالبراري بديار مصر، بإخميم، وغيرها، يرصدون التمثال مدة، لا يتطهرون طهر المسلمين، ولا يصلون صلاة المسلمين، ولا يقرؤون حتى يتعلق الشيطان تلك الصورة، فيراها تتحرك، فيضع فيها شمعة، أو غيرها، فيرى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 404 شيطانا قد خرج له، فيسجد لذلك الشيطان، حتى يقضي بعض حوائجه، وقد يمكنه من فعل الفاحشة به، حتى يقضي بعض حوائجه. ومثل هؤلاء كثير في شيوخ الترك الكفار، يسمونه: البوشت، وهو: المخنث، إذا طلبوا منه بعض هذه الأمور، أرسلوا إليه من ينكحه، ونصبوا له حركات عالية، في ليلة مظلمة، وقربوا له خبزا، وميتة، وغنوا غناء يناسبه، بشرط أن لا يكون عندهم من يذكر الله، ولا هناك شيء فيه شيء من ذكر الله. ثم يصعد ذلك الشيخ المفعول به في الهواء، ويرون الدف يطير في الهواء، ويضرب من مد يديه إلى الخبز، ويضرب الشيطان بآلات اللهو، وهم يسمعون، ويغني لهم الأغاني، التي كانت تغنيها آباؤهم الكفار، ثم قد يغيب ذلك الطعام، فيرونه قد نقل إلى بيت البوشت، وقد لا يغيب، ويقربون له ميتة يحرقونها بالنار، فيقضي بعض حوائجهم، ومثل هذا كثير جدا للمشركين ; فالذي يجري عند المشاهد من جنس ما يجري عند الأصنام. وقد ثبت بطرق متعددة أن ما يشرك به من دون الله، من صنم، وقبر، وغير ذلك، يكون عنده شياطين، تضل من أشرك به، وأن تلك الشياطين لا يقضون إلا بعض أغراضهم، وإنما يقضون بعض أغراضهم، إذا حصل لهم من الشرك والمعاصي، ما يحبه الشيطان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 405 فمنهم من يأمر الداعي أن يسجد له، ومنهم من يأمره بالفواحش، وقد يفعلها الشيطان، وقد ينهاه عما أمره به من التوحيد، والإخلاص، والصلوات الخمس، وقراءة القرآن، ونحو ذلك. والشياطين تغوي الإنسان، بحسب ما تطمع منه، فإن كان ضعيف الإيمان أمرته بالكفر البين، وإلا أمرته بما هو فسق، أو معصية. وإن كان قليل العلم أمرته بما لا يعرفه أنه مخالف للكتاب والسنة؛ وقد وقع في هذا النوع كثير من الشيوخ الذين لهم نصيب وافر من الدين والزهد والعبادة، لكن لعدم علمهم بحقيقة الدين الذي بعث الله به رسول الله صلى الله عليه وسلم، طمعت فيهم الشياطين، حتى أوقعوهم فيما يخالف الكتاب والسنة. وقد جرى لغير واحد من أصحابنا المشايخ، يستغيث بأحدهم، بعض أصحابه، فيرى الشيخ في اليقظة، حتى قضي ذلك المطلوب؛ وإنما هي شياطين تتمثل للمشركين الذين يدعون غير الله، والجن بحسب الإنس، فالكافر للكافر، والفاجر للفاجر، والجاهل للجاهل. وأما أهل العلم والإيمان، فأتباع الجن لهم كأتباع الإنس، يتبعونهم فيما أمر الله به ورسوله. وآخر من جنسه، يباشر التدريس، وينتسب إلى الفتيا، كان يقول: النبي صلى الله عليه وسلم يعلم ما يعلمه الله، ويقدر على ما يقدر الله عليه، وأن هذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 406 السر، انتقل بعده إلى الحسن، ثم انتقل في ذرية الحسن إلى الشيخ أبي الحسن الشاذلي. وقالوا: هذا مقام القطب الغوث، الفرد الجامع. وكان شيخ آخر معظم عند أتباعه، يدعي هذه المنْزلة؟، ويقول: إنه المهدي الذي بشر به النبي صلى الله عليه وسلم، وإنه يزوج عيسى ابنته، وإن نواصي الملوك بيده، والأولياء بيده، يولي من يشاء، ويعزل من يشاء، وإن الرب يناجيه دائما، وإنه الذي يمد حملة العرش، وحيتان البحر؛ وقد عزرته تعزيرا بليغا، في يوم مشهود، في حضرة من أهل المسجد الجامع، يوم الجمعة بالقاهرة، فعرفه الناس، وانكسر بسببه أشباهه من الدجاجلة. ومن هؤلاء من يقول: قول الله سبحانه وتعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} [سورة الفتح آية: 8-9] ، إن الرسول، هو الذي يسبح بكرة وأصيلا. ومنهم من يقول: الرسول يعلم مفاتيح الغيب الخمس، التي قال النبي صلى الله عليه وسلم فيها: " خمس لا يعلمهن إلا الله {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} " 1، وقال: إنه علمها بعدما أخبر أنه لا يعلمها إلا الله.   1 البخاري: الإيمان (50) وتفسير القرآن (4777) , ومسلم: الإيمان (9) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (4991) , وابن ماجه: المقدمة (64) , وأحمد (2/426) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 407 ومنهم من يقول: أسقط الربوبية، وقل في الرسول ما شئت، ومنهم يقول: نحن نعبد الله ورسوله ومنهم من يأتي إلى قبر الميت، فيقول: اغفر لي، وارحمنى، ولا توقفني على زلة، إلى أمثال هذه الأمور، التي يتخذ فيها المخلوق إلها. أقول: وهذه سنة مأثورة، وطريقة مسلوكة والله غير مهجورة، وضلالة واضحة مشهورة، وبدعة مشهودة غير منكورة، وأعلامها مرفوعة منشورة، وراياتها منصوبة غير مكسورة، وبراهينها غير محدودة ولا محصورة، ودلائلها في كثير من المصنفات والمناظيم مذكورة ; قال ذلك في البردة، وبين في ذلك قصده: دع ما ادعته النصارى في نبيهم ... واحكم بما شئت مدحا فيه واحتكم فإن من جودك الدنيا وضرتها ... ومن علومك علم اللوح والقلم ولو نطيل بذكر هذه الأخبار، لحررنا منه أسفارا، فلنكف عنان قلم اليراع في هذا الميدان، فالحكم والله لا يخفى على ذي عيان، بل أجلى من ضياء الشمس في البيان. فلما استقر هذا في نفوس عامتهم، تجد أحدهم إذا سئل عمن ينهاهم: ما يقول هذا؟ فيقول: فلان عنده: ما ثم إلا الله، لما استقر في نفوسهم: أن يجعلوا مع الله إلها آخر، وهذا كله، وأمثاله، وقع ونحن بمصر. وهؤلاء الضالون مستخفون بتوحيد الله، ويعظمون دعاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 408 غير الله، من الأموات، فإذا أمروا بالتوحيد، ونهوا عن الشرك، استخفوا بالله، كما أخبر الله تعالى عن المشركين، بقوله: {وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً} الآية [سورة الفرقان آية: 41] ، فاستهزؤوا بالرسول صلى الله عليه وسلم لما نهاهم عن الشرك، وقال تعالى عن المشركين: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ} [سورة الصافات آية: 36] . وقال تعالى: {وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [سورة ص آية: 4] . وما زال المشركون: يسفهون الأنبياء، ويصفونهم بالجنون، والضلال، والسفاهة، كما قال قوم نوح لنوح، وعاد لهود، عليهما السلام {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} [سورة الأعراف آية: 70] ، فأعظم ما سفهوه لأجله، وأنكروه، هو التوحيد. وهكذا تجد من فيه شبه من هؤلاء من بعض الوجوه، إذا رأى من يدعو إلى توحيد الله وإخلاص الدين له، وأن لا يعبد الإنسان إلا الله، ولا يتوكل إلا عليه، استهزأ بذلك، لما عنده من الشرك. وكثير من هؤلاء يخربون المساجد، ويعمرون المشاهد، فتجد المسجد الذي يبنى للصلوات الخمس معطلا، مخربا، ليس له كسوة إلا من الناس، وكأنه خان من الخانات، والمشهد الذي يبنى على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 409 الميت فعليه الستور، وزينة الذهب والفضة والرخام والنذور تغدو إليه وتروح. فهل هذا إلا من استخفافهم بالله وآياته، ورسوله؟! وتعظيمهم للشرك؟! فإنهم يعتقدون أن دعاءهم للميت الذي بني له المشهد، والاستغاثة به أنفع لهم من دعاء الله والاستغاثة به في البيت الذي بني لله عز وجل! ففضلوا البيت الذي بني لدعاء المخلوق، على البيت الذي بني لدعاء الخالق؛ وإذا كان لهذا وقف، ولهذا وقف، كان وقف الشرك أعظم عندهم، مضاهاة لمشركي العرب الذين ذكر الله حالهم في قوله: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيباً} الآية [سورة الأنعام آية: 136] ، كانوا يجعلون له زرعا وماشية، ولآلهتهم زرعا وماشية، فإذا أصيب نصيب آلهتهم، أخذوا من نصيب الله فوضعوه فيه، وقالوا: الله غني وآلهتنا فقيرة، فيفضلون ما يجعل لغير الله على ما يجعل لله. وهكذا حال أهل الوقوف، والنذور، التي تبذل عندهم للمشاهد أعظم مما يبذل عندهم للمساجد، ولعمار المساجد والجهاد في سبيل الله. وهؤلاء إذا قصد أحدهم القبر الذي يعظمه، بكى عنده وخضع، ويدعو ويتضرع، ويحصل له من الرقة، والتواضع، والعبودية، وحضور القلب، ما لا يحصل له مثله في الصلوات الخمس، والجمعة، وقيام الليل، وقراءة القرآن. فهل هذا الأمر إلا حال المشركين المبتدعين؟ لا الموحدين المخلصين، المتبعين لكتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 410 ومثل هذا أنه إذا سمع أحدهم الأبيات، يحصل له من الخضوع والخشوع والبكاء، ما لا يحصل له مثله عند سماع آيات الله، فيخشع عند سماع المبتدعين المشركين، ولا يخشع عند سماع المتقين المخلصين؛ بل إذا سمعوا آيات الله استثقلوها، وكرهوها، واستهزؤوا بها، فيحصل لهم أعظم نصيب من قوله: {أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} [سورة التوبة آية: 65] . إذا سمعوا القرآن: سمعوه بقلوب لاهية، وألسن لاغية، كأنهم صم عمي، وإذا سمعوا الأبيات، حضرت قلوبهم، وسكتت ألسنتهم، وسكنت حركاتهم، حتى لا يشرب العطشان منهم ماء. ومن هؤلاء من إذا كانوا في سماعهم، فأذن المؤذن، قالوا: نحن في شيء أفضل مما دعانا إليه. ومنهم من يقول: كنا في الحضرة، فإذا قمنا إلى الصلاة صرنا إلى الباب. وقد سألني بعضهم، عمن قال ذلك من هؤلاء الشيوخ الضلال؟ فقلت: صدق، كان في حضرة الشيطان، فصار على باب الله، فإن البدع والضلال، فيها من حضور الشيطان، ما قد فصل في غير هذا الموضع. والذين جعلوا دعاء الموتى، من الأنبياء، والأئمة، والشيوخ، أفضل من دعاء الله، أنواع متعددة منهم من تقدم، ومنهم من يحكي أنواعا من الحكايات، كحكاية: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 411 أن رجلا محبوسا في بلاد العدو دعا الله، فلم يخرجه، ودعا بعض المشايخ الموتى، فجاءه، فأخرجه إلى بلاد الإسلام ; وحكاية: أن بعض الشيوخ، قال لمريده: إذا كانت لك حاجة، فتعال إلى قبري، وآخر قال: فتوسل بي، وآخر قال: قبر فلان، هو الترياق المجرب. فهؤلاء وأشباههم يرجحون هذه الأدعية الشركية على أدعية المخلصين لله، مضاهاة للمشركين. وهؤلاء تتمثل لكثير منهم صورة شيخه الذي يدعوه، فيظنه إياه، أو ملكا على صورته، وإنما هو شيطان أغواه. ومن هؤلاء من إذا نزل به شدة، لا يدعو إلا شيخه، ولا يذكر إلا اسمه، قد يلهج به، كما يلهج الصبي بذكر أمه، فيتعسر أحدهم، فيقول: يا فلان. وقد قال الله للموحدين: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً} [سورة البقرة آية: 200] . ومن هؤلاء من يحلف بالله ويكذب، ويحلف بشيخه وإمامه فيصدق، فيكون شيخه عنده أعظم في صدره من الله. فإذا كان دعاء الموتى، مثل الأنبياء، والصالحين، يتضمن هذا الاستهزاء بالله، وآياته، ورسوله، فأي الفريقين أحق بالاستهزاء بآيات الله، ورسوله؟ من كان يأمر بدعاء الموتى، والاستغاثة بهم، مع ما يترتب على ذلك من الاستهزاء بالله، وآياته، ورسوله؟ أو من كان يأمر بدعاء الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 412 وحده، لا شريك له، كما أمرت رسله، ويوجب طاعة الرسول، ومتابعته، في كل ما جاء به؟ وأيضا فإن هؤلاء الموحدين، من أعظم الناس إيجابا لرعاية جانب الرسول صلى الله عليه وسلم تصديقا له فيما أخبر، وطاعة له فيما أمر، واعتناء بمعرفة ما بعث به، والتمييز بين ما روي عنه، من الصحيح والضعيف، والصدق والكذب، واتباع ذلك، دون ما خالفه، عملا بقوله: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} [سورة الأعراف آية: 3] . وأما هؤلاء: الضلال، أشباه المشركين والنصارى، فعمدتهم: إما أحاديث ضعيفة، أو موضوعة، أو منقولات عمن لا يحتج بقولهم، إما أن تكون كذبا عليه، وإما أن تكون غلطا منه، إذ هي نقل غير مصدق، عن قائل غير معصوم، وإن اعتصموا بشيء مما ثبت عن الرسول، حرفوا الكلم عن مواضعه، وتمسكوا بمتشابهه، وتركوا محكمه، كما فعل النصارى. وهذا ما علمته ينقل عن أحد من العلماء، لكنه موجود في كلام بعض الناس، مثل الشيخ يحيى الصرصري ; ففي شعره قطعة منه، والشيخ محمد بن النعمان، كان له كتاب المستغيثين بالنبي صلى الله عليه وسلم في اليقظة والمنام وهؤلاء: لهم صلاح ودين، لكن ليسوا من أهل العلم، العالمين بمدارك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 413 الأحكام، الذين يؤخذ بقولهم في شرائع الإسلام، ومعرفة الحلال والحرام، وليس لهم دليل شرعي، ولا نقل عن عالم مرضي، بل عادة جروا عليها، كما جرت عادة كثير من الناس، بأنه يستغيث بشيخه في الشدائد، ويدعوه. وكان بعض الشيوخ الذين أعرفهم، ولهم صلاح وزهد، إذا نزل به أمر خطا إلى جهة الشيخ عبد القادر خطوات معدودة، واستغاث به، وهذا يفعله كثير من الناس; ولهذا لما نبه من نبه، من فضلائهم، تنبهوا، وعلموا أن ما كانوا عليه، ليس من دين الإسلام في شيء، بل هو مشابهة لعباد الأصنام. ونحن نعلم بالاضطرار من دين الإسلام، أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشرع لأمته أن يدعوا أحدا من الأموات، لا الأنبياء، ولا غيرهم، لا بلفظ الاستغاثة، ولا بغيرها، كما أنه لم يشرع السجود لميت، ولا إلى ميت، ونحو ذلك، بل نعلم أنه نهى عن كل هذه الأمور، وأن ذلك من الشرك الذي حرمه الله ورسوله، لكن لغلبة الجهل وقلة العلم بآثار الرسالة، في كثير من المتأخرين، لم يمكن تكفيرهم بذلك، حتى يبين لهم ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم مما يخالفه. ولهذا ما بينت المسألة قط لمن يعرف دين الإسلام، إلا تفطن لهذا، وقال: هذا هو أصل دين الإسلام. وكان بعض أكابر الشيوخ، العارفين من أصحابنا، يقول: هذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 414 أعظم ما بينته لنا، لعلمه بأن هذا أصل الدين، وكان هذا وأمثاله في ناحية أخرى، يدعون الأموات ويسألونهم، ويستجيرون بهم، ويتضرعون إليهم، وربما كان ما يفعلونه بالأموات أعظم؛ لأنهم إنما يقصدون الميت في ضرورة نزلت بهم، يدعونه دعاء المضطر، راجين قضاء حاجاتهم بدعائه، والدعاء به، أو الدعاء عند قبره، بخلاف عبادتهم لله، ودعاهم إياه، فإنهم يفعلونه في كثير من الأوقات، على وجه العادة والتكلف، حتى إن العدو الخارج عن شريعة الإسلام، لما قدم دمشق، خرجوا يستغيثون بالموتى عند القبور التي يرجون عندها كشف ضرهم، قال بعض الشعراء: يا خائفين من التتر ... لوذوا بقبر أبي عمر أو قال: عوذوا بقبر أبي عمر ... ينجيكمو من الضرر فقلت لهؤلاء الذين يستغيثون بهم: لو كانوا معكم في القتال لانهزموا، كما انهزم من انهزم من المسلمين يوم أحد، فإنه كان قد قضي أن العسكر ينكسر، لأسباب اقتضت ذلك، ولحكمة كانت لله في ذلك. ولهذا كان أهل المعرفة بالدين والمكاشفة، لم يقاتلوا في تلك المرة، لعدم القتال الشرعي، الذي أمر الله به الجزء: 1 ¦ الصفحة: 415 ورسوله، فلما كان بعد ذلك جعلنا نأمر بإخلاص الدين لله، والاستغاثة به، وأنهم لا يستغيثون إلا إياه، لا يستغيثون بملك مقرب، ولا نبي مرسل. فلما أصلح الناس أمورهم، وصدقوا في الاستغاثة بربهم نصرهم الله على عدوهم نصرا عزيزا، ولم يهزم التتار مثل هذه الهزيمة أصلا، لما صح من تحقيق توحيد الله، وطاعة رسوله، ما لم يكن قبل ذلك، فإن الله ينصر رسله والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد، كما قال تعالى في يوم بدر: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} [سورة الأنفال آية: 9] . وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول كل يوم: " يا حي يا قيوم، برحمتك أستغيث " 1. وفي لفظ: " أصلح لي شأني كله، ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين، ولا إلى أحد من خلقك " 2. وهؤلاء يدعون الميت والغائب، فيقول أحدهم: بك أستغيث، بك أستجير، أغثنا، أجرنا، ويقول: أنت تعلم ذنوبي. ومنهم من يقول للميت: اغفر لي وارحمني، وتب علي، ونحو ذلك. ومن لم يقل هذا من عقلائهم، فإنه يقول: أشكو إليك ذنوبي، وأشكو إليك عدوي، وأشكو إليك جور الولاة، وظهور البدع، وجدب الزمان، وغير ذلك، فيشكو إليه ما حصل من ضرر في الدين والدنيا. ومقصوده في الشكوى: أن يشكيه، فيزيل ذلك   1 الترمذي: الدعوات (3524) . 2 أبو داود: الأدب (5090) , وأحمد (5/42) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 416 الضرر، وقد يقول مع ذلك: أنت تعلم ما نزل بنا من الضرر، وأنت تعلم ما فعلته من الذنوب، فيجعل الميت والحي والغائب، عالما بذنوب العباد، ومجرياتهم، التي يمتنع أن يعلمها بشر حي أو ميت. وعقلاؤهم يقولون: مقصودنا: أن يسأل الله لنا، ويشفع لنا، ويظنون أنهم إذا سألوه بعد موته أنه يسأل الله لهم، فإنه يسأل ويشفع، كما كان يسأل ويشفع، لما سأله الصحابة الاستسقاء وغيره، وكما يشفع يوم القيامة إذا سئل الشفاعة. ولا يعلمون أن سؤال الميت والغائب، غير مشروع البتة، ولم يفعله أحد من الصحابة، بل عدلوا عن سؤاله وطلب الدعاء منه، إلى سؤال غيره، وطلب الدعاء منه ; وأن الرسول صلى الله عليه وسلم وسائر الأنبياء والصالحين وغيرهم، لا يطلب من أحدهم بعد موته من الأمور ما كان يطلب منه في حياته، انتهى كلام الشيخ رحمه الله ملخصا. فانظر رحمك الله إلى ما ذكره هذا الإمام من أنواع الشرك الأكبر، الذي قد وقع في زمانه، ممن يدعي العلم والمعرفة، وينتصب للفتيا والقضاء، لكن لما نبههم الشيخ رحمه الله على ذلك، وبين لهم أن هذا من الشرك الأكبر الذي حرمه الله ورسوله، تنبه من تنبه منهم، وتاب إلى الله، وعرف أن ما كان عليه شرك وضلال، وانقاد للحق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 417 وهذا مما يبين لك غربة الإسلام في ذلك الوقت عند كثير من الأنام، وأن هذا مصداق ما تواترت به الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لتتبعن سنن من كان قبلكم " 1 الحديث، وقوله: " بدأ الإسلام غريبا، وسيعود غريبا كما بدأ " 2. وبهذا ينكشف لك، ويتضح عندك بطلان ما عليه كثير من أهل الزمان، من أنواع الشرك، والبدع، والحدثان ; فلا تغتر بما هم عليه. وهذه هي البلية العظيمة، والخصلة القبيحة الذميمة، وهي الاغترار بالآباء والأجداد، وما استمر عليه عمل كثير من أهل البلاد، وتلك الحجة التي انتحلها أهل الشرك والكفر والعناد، كما حكى الله تعالى ذلك عنهم في محكم التنْزيل، من غير شك ولا تأويل، حيث قال الله تعالى، وهو أصدق القائلين، حكاية عن فرعون اللعين، أنه قال لموسى وأخيه هارون الكريمين: {فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى} [سورة طه آية: 51] ، فأجابه عليه السلام بقوله: {عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى} [سورة طه آية: 52] . فمن امتطى كاهل الصدق والوفاء، وسلم من التعصب والعناد والجفاء، وتوسط في المحجة، وقنع في قبول الحق بالحجة، كان ذلك طريقه ونهجه، وأشرق في صدره مصباح القبول، وأوقد فيه بزيت المعرفة والوصول، وكان من ضوء التوحيد على حصول.   1 البخاري: أحاديث الأنبياء (3456) , ومسلم: العلم (2669) , وأحمد (3/84 ,3/89) . 2 مسلم: الإيمان (145) , وابن ماجه: الفتن (3986) , وأحمد (2/389) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 418 قال ابن القيم رحمه الله تعالى في الإغاثة: قال صلى الله عليه وسلم: " لا تتخذوا قبري عيدا " 1، وقال: " اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد. اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " 2. وفي اتخاذها عيدا من المفاسد، ما يغضب لأجله من في قلبه وقار لله، وغيرة على التوحيد، ولكن ما لجرح بميت إيلام. منها: الصلاة إليها، والطواف بها، واستلامها، وتعفير الخدود على ترابها، وعبادة أصحابها، وسؤالهم النصر، والرزق، والعافية، وقضاء الديون، وتفريج الكربات، التي كان عباد الأوثان يسألونها أوثانهم; وكل من شم أدنى رائحة من العلم يعلم أن من أهم الأمور سد الذريعة إلى ذلك، وأنه صلى الله عليه وسلم أعلم بعاقبة ما نهى عنه، وأنه يؤول إليه، وإذا لعن من اتخذ القبور مساجد يعبد الله فيها، فكيف بملازمتها، واعتياد قصدها، وعبادتها؟ ومن جمع بين سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في القبور وما أمر به، وما نهى عنه، وما عليه أصحابه، وبين ما عليه أكثر الناس اليوم، رأى أحدهما مضادا للآخر: فنهى عن اتخاذها مساجد، وهؤلاء يبنون عليها المساجد، ونهى عن تسريجها، وهؤلاء يوقفون عليها الوقوف، على إيقاد القناديل عليها. ونهى عن أن تتخذ عيدا، وهؤلاء يتخذونها أعيادا ; ونهى عن تشريفها، وأمر بتسويتها كما في صحيح مسلم عن علي   1 أبو داود: المناسك (2042) , وأحمد (2/367) . 2 مالك: النداء للصلاة (416) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 419 رضي الله عنه، وهؤلاء يرفعونها، ويجعلون عليها القباب ; ونهى عن تجصيص القبر، والبناء عليه، كما في صحيح مسلم عن جابر، ونهى عن الكتابة عليها، كما رواه الترمذي في صحيحه عن جابر، ونهى أن يزاد عليها غير ترابها، كما رواه أبو داود عن جابر، وهؤلاء يتخذون عليها الألواح، ويكتبون عليها القرآن، ويزيدون على ترابها بالجص، والآجر، والأحجار. وقد آل الأمر بهؤلاء الضلال المشركين إلى أن شرعوا للقبور حجا، ووضعوا لها مناسك، حتى صنف بعضهم في ذلك كتابا، وسماه: مناسك حج المشاهد، ولا شك أن هذا مفارقة لدين الإسلام، ودخول في دين عبادة الأصنام. فانظر إلى التباين العظيم، بين ما شرعه الرسول صلى الله عليه وسلم لأمته، وبين ما شرعه هؤلاء. والنبي صلى الله عليه وسلم أمر بزيارة القبور، لأنها تذكر الآخرة، وأمر الزائر أن يدعو لأهل القبور، ونهاه أن يقول هجرا، فهذه الزيارة التي أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها لأمته، وعلمهم إياها، هل تجد فيها شيئا مما يعتمد عليه أهل الشرك والبدع؟ أم تجدها مضادة لما هم عليه من كل وجه؟ وما أحسن ما قال الإمام مالك رحمه الله: لن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها، ولكن كلما ضعف تمسك الأمم بعهود أنبيائهم، عوضوا عن ذلك بما أحدثوا من البدع والشرك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 420 ولقد جرد السلف الصالح التوحيد، وحموا جانبه، حتى كان أحدهم إذا سلم على النبي صلى الله عليه وسلم ثم أراد الدعاء، جعل ظهره إلى جدار القبر، ثم دعا، وقد نص على ذلك الأئمة الأربعة أنه يستقبل القبلة للدعاء، حتى لا يدعو عند القبر، فإن الدعاء عبادة. وبالجملة: فإن الميت قد انقطع عمله، فهو محتاج إلى من يدعو له، ولهذا شرع في الصلاة عليه من الدعاء، ما لم يشرع مثله للحي ; ومقصود الصلاة على الميت: الاستغفار، والدعاء له، وكذلك الزيارة، مقصودها: الدعاء للميت، والإحسان إليه، وتذكير الآخرة، فبدل أهل البدع، والشرك قولا غير الذي قيل لهم. فبدلوا الدعاء له بدعائه نفسه، والشفاعة له بالاستشفاع به، والزيارة التي شرعت إحسانا إلى الميت وإلى الزائر، بسؤال الميت، والإقسام به على الله، وتخصيص تلك البقعة بالدعاء، الذي هو محض العبادة، وحضور القلب، عندها، وخشوعه، أعظم منه في المساجد! ثم ذكر حديث ذات أنواط، ثم قال: فإذا كان اتخاذ الشجرة لتعليق الأسلحة والعكوف لها: اتخاذ إله مع الله، وهم لا يعبدونها، ولا يسألونها، فما الظن بالعكوف حول القبر؟ ودعائه؟ والدعاء عنده؟ والدعاء به؟ وأي نسبة للفتنة بشجرة، إلى الفتنة بالقبر لو كان أهل الشرك والبدع يعلمون؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 421 ومن له خبرة بما بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم وبما عليه أهل الشرك والبدع اليوم في هذا الباب وغيره، علم أن ما بين السلف وبينهم أبعد مما بين المشرق والمغرب ; والأمر والله أعظم مما ذكرنا. (وعمّى الصحابة قبر دانيال، بأمر عمر رضي الله عنه، ولما بلغه أن الناس ينتابون الشجرة التي بويع رسول الله صلى الله عليه وسلم تحتها، أرسل إليها، وقطعها) . قال عيسى بن يونس: هو عندنا من حديث ابن عوف، عن نافع، فإذا كان هذا فعله في الشجرة التي ذكر الله في القرآن، وبايع تحتها الصحابة رضي الله عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فما حكمه فيما عداها؟ وأبلغ من ذلك: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هدم مسجد الضرار "، ففيه دليل على هدم المساجد التي أعظم فسادا منه، كالمبنية على القبور، وكذلك قبابها ; فتجب المبادرة إلى هدم ما لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعله، والله يقيم لدينه من ينصره، ويذب عنه. وكان بدمشق كثير من هذه الأنصاب، فيسر الله سبحانه كسرها، على يد شيخ الإسلام وحزب الله الموحدين؛ وكان العامة يقولون للشيء منها: إنه يقبل النذر، أي: يقبل العبادة من دون الله، فإن النذر عبادة، يتقرب بها الناذر، إلى المنذور له. ولقد أنكر السلف التمسح بحجر المقام، الذي أمر الله أن يتخذ منه مصلى، قال قتادة في الآية: إنما أمروا أن يصلوا عنده، ولم يؤمروا بمسحه، ولقد تكلفت هذه الأمة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 422 شيئا ما تكلفته الأمم قبلها، ذكر لنا من رأى أثر أصابعه، فما زالت هذه الأمة تمسحه، حتى اخلولق. وأعظم من الفتنة بهذه الأنصاب، فتنة أصحاب القبور، وهي: أصل فتنة عبادة الأصنام، كما ذكر الله في سورة نوح، في قوله تعالى: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً} الآية [سورة نوح آية: 23] ، ذكر السلف في تفسيرها: أن هؤلاء أسماء رجال صالحين في قوم نوح، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوروا تماثيلهم، ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم. وتعظيم الصالحين إنما هو باتباع ما دعوا إليه، دون اتخاذ قبورهم أعيادا وأوثانا، فأعرضوا عن المشروع، واشتغلوا بالبدع. ومن أصغى إلى كلامه، وتفهمه أغناه عن البدع، والآراء؛ ومن بعد عنه، فلا بد أن يتعوض بما لا ينفعه، كما أن من عمر قلبه بمحبة الله وخشيته، والتوكل عليه، أغناه عن محبة غيره، وخشيته، والتوكل عليه. فالمعرض عن التوحيد: مشرك، شاء أم أبى؛ والمعرض عن السنة مبتدع، شاء أم أبى؛ والمعرض عن محبة الله، عابد الصور، شاء أم أبى. وهذه الأمور المبتدعة عند القبور، أنواع: أبعدها عن الشرع: أن يسأل الميت حاجته، كما يفعله كثير، وهؤلاء من جنس عباد الأصنام، ولهذا يتمثل لهم الشيطان في صورة الميت، كما يتمثل لعباد الأصنام، وكذلك السجود للقبر، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 423 وتقبيله، والتمسح به. النوع الثاني: أن يسأل الله به، وهذا يفعله كثير من المتأخرين، وهو: بدعة إجماعا. النوع الثالث: أن يظن أن الدعاء عنده مستجاب، وأنه أفضل من الدعاء في المسجد، فيقصد القبر لذلك، فهذا أيضا من المنكرات إجماعا، وما علمت فيه نزاعا بين أئمة الدين، وإن كان كثير من المتأخرين يفعله. وبالجملة: فأكثر أهل الأرض، مفتونون بعبادة الأصنام، ولم يتخلص منهم، إلا الحنفاء، أتباع ملة إبراهيم. وعبادتها في الأرض، من قبل نوح، وهياكلها، ووقوفها، وسدنتها، وحجابها، والكتب المصنفة في عبادتها، طبق الأرض، قال إمام الحنفاء عليه السلام: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ} [سورة إبراهيم آية: 35] ، وكفى في معرفة أنهم أكفر أهل الأرض ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم: " أن بعث النار من كل ألف: تسعمائة وتسعة وتسعون " 1، وقد قال تعالى: {فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً} [سورة الإسراء آية: 89] ، وقال تعالى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [سورة الأنعام آية: 116] . ولو لم تكن الفتنة بعبادة الأصنام عظيمة، لما أقدم عبادها ببذل نفوسهم وأموالهم وأبنائهم دونها، وهم يشاهدون مصارع إخوانهم وما حل بهم، ولا يزيدهم ذلك إلا حبا وتعظيما، ويوصي بعضهم بعضا بالصبر عليها، انتهى كلام الشيخ، رحمه الله، ملخصا.   1 البخاري: أحاديث الأنبياء (3348) , ومسلم: الإيمان (222) , وأحمد (3/32) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 424 وقال الشيخ تقي الدين في: الرسالة السنية، لما ذكر حديث الخوارج، ومروقهم من الدين، وأمره صلى الله عليه وسلم بقتالهم، قال: فإذا كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه من انتسب إلى الإسلام والسنة، وقد مرق منه، مع عبادته العظيمة، فليعلم أن المنتسب إلى الإسلام في هذه الأزمان، قد يمرق أيضا من الإسلام، وذلك بأسباب، منها: الغلو الذي ذمه الله في كتابه، حيث قال: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} الآية [سورة النساء آية: 171] ; (وعلي بن أبي طالب، رضي الله عنه حرق الغالين من الرافضة، وأمر بأخاديد خدت لهم، عند باب كندة، فقذفهم فيها، واتفق الصحابة على قتلهم، لكن ابن عباس رضي الله عنهما، مذهبه: أن يقتلوا بالسيف، بلا تحريق) ، وهو قول أكثر العلماء، وقصصهم معروفة عند العلماء، وكذلك الغلو في بعض المشايخ، بل الغلو في علي بن أبي طالب، بل الغلو في المسيح، ونحوه. فكل من غلا في نبي، أو رجل صالح، وجعل فيه نوعا من الإلهية، مثل أن يقول: يا سيدي فلان، انصرني، أو أغثني، أو ارزقني، أو اجبرني، أو أنا في حسبك، ونحو هذه الأقوال، فكل هذا شرك وضلال، يستتاب صاحبه، فإن تاب وإلا قتل ; فإن الله إنما أرسل الرسل، وأنزل الكتب، ليعبد وحده، لا يجعل معه إلها آخر، والذين يدعون مع الله آلهة أخرى، مثل المسيح، والملائكة، والأصنام، لم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 425 يكونوا يعتقدون أنها تخلق الخلائق، أو تنَزل المطر، أو تنبت النبات، وإنما كانوا يعبدونهم، أو يعبدون قبورهم، أو صورهم، يقولون: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [سورة الزمر آية: 3] ، {وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [سورة يونس آية: 18] ؛ فبعث الله رسوله ينهى أن يدعى أحد من دونه، لا دعاء عبادة، ولا دعاء استغاثة. وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} الآية [سورة الإسراء آية: 56] . قال طائفة من السلف: كان أقوام يدعون المسيح، وعزيرا ... إلى أن قال: وعبادة الله هي أصل الدين، وهي التوحيد الذي بعث الله به الرسل، وأنزل به الكتب، قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [سورة النحل آية: 36] . وقال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} [سورة الأنبياء آية: 25] . وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحقق التوحيد، ويعلمه أمته، حتى إنه لما " قال له رجل: ما شاء الله وشئت، قال: أجعلتني لله ندا؟! قل: ما شاء الله وحده " 1، ونهى عن الحلف بغير الله، وقال: " من حلف بغير الله فقد أشرك " 2، وقال في مرض موته:   1 أحمد (1/283) . 2 الترمذي: النذور والأيمان (1535) , وأبو داود: الأيمان والنذور (3251) , أحمد (2/34 ,2/86 ,2/125) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 426 " لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، يحذر ما فعلوا " 1، وقال: " اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد " 2. ولهذا اتفق أئمة الإسلام، على أنه لا يشرع بناء المساجد على القبور، ولا الصلاة عندها، وذلك؛ لأن من أكبر أسباب عبادة الأوثان، كان تعظيم القبور، ولهذا اتفق العلماء: على أن من سلم على النبي صلى الله عليه وسلم عند قبره، أنه لا يتمسح بحجرته، ولا يقبلها، لأن التقبيل والاستلام، إنما يكون لأركان بيت الله، فلا يشبه بيت المخلوق ببيت الخالق. كل هذا لتحقيق التوحيد الذي هو أصل الدين، ورأسه الذي لا يقبل الله عملا إلا به، ويغفر لصاحبه ولا يغفر لمن تركه، كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [سورة النساء آية: 48] . وقال: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً} [سورة النساء آية: 48] . ولهذا كانت كلمة التوحيد، أفضل الكلام ; وأعظم آية في القرآن: آية الكرسي: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [سورة البقرة آية: 255] . وقال صلى الله عليه وسلم: " من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله، دخل الجنة " 3. والإله، هو: الذي تألهه القلوب، عبادة له، واستعانة به، ورجاء له، وخشية، وإجلالا. انتهى كلامه رحمه الله تعالى. فتأمل أول كلامه، وآخره؟ وتأمل كلامه فيمن دعا نبيا أو وليا، مثل أن يقول: يا سيدي أغثني، ونحوه، أنه يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، تجده صريحا في تكفير أهل الشرك، وقتلهم بعد الاستتابة، وإقامة الحجة عليهم، وأن من   1 البخاري: الجنائز (1390) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (531) , والنسائي: المساجد (703) , وأحمد (1/218 ,6/34 ,6/121 ,6/146 ,6/255) , والدارمي: الصلاة (1403) . 2 مالك: النداء للصلاة (416) . 3 أبو داود: الجنائز (3116) , وأحمد (5/233 ,5/247) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 427 غلا في نبي أو رجل صالح، وجعل فيه نوعا من الإلهية، فقد اتخذه إلها مع الله، لأن الإله هو: المألوه، الذي يألهه القلب، أي: يقصده بالعبادة، والدعوة، والخشية، والإجلال، والتعظيم، وإن زعم أنه لا يريد إلا الشفاعة، والتقرب عند الله، لأنه بين أن هذا هو مطلوب المشركين الأولين، فاستدل على ذلك، بالآيات الصريحات، القاطعات ; والله أعلم. وقال رحمه الله تعالى، في الكلام على قوله تعالى: {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} [سورة البقرة آية: 173] : ظاهره: أن ما ذبح لغير الله، سواء لفظ به، أو لم يلفظ، وتحريم هذا أظهر من تحريم ما ذبحه للحم، وقال فيه: باسم المسيح، ونحوه، كما أن ما ذبحناه متقربين به إلى الله تعالى، كان أزكى مما ذبحناه للحم، وقلنا عليه: بسم الله، فإن عبادة الله بالصلاة، والنسك له، أعظم من الاستعانة باسمه في فواتح الأمور، والعبادة لغير الله أعظم كفرا من الاستغاثة بغير الله، فلو ذبح لغير الله، متقربا إليه لحرم، وإن قال فيه: بسم الله، كما يفعله طائفة من منافقي هذه الأمة، وإن كان هؤلاء لا تباح ذبائحهم بحال، لكن يجتمع في الذبيحة مانعان، ومن هذا ما يفعل بمكة، وغيرها، من الذبح للجن. انتهى كلام الشيخ رحمه الله. فتأمل- رحمك الله- هذا الكلام، وتصريحه فيه: بأن من ذبح لغير الله، من هذه الأمة، فهو كافر مرتد، لا تباح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 428 ذبيحته، لأنه يجتمع فيه مانعان الأول: أنها ذبيحة مرتد، وذبيحة المرتد لا تباح بالإجماع. الثاني: أنها مما أهل لغير الله، وقد حرم الله ذلك في قوله: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [سورة الأنعام آية: 145] ، وتأمل قوله: ومن هذا ما يفعل بمكة وغيرها، من الذبح للجن، والله أعلم. فصل: (أنواع الشرك) وقال ابن القيم- رحمه الله- في: شرح المنازل، في: باب التوبة: وأما الشرك فهو نوعان: أكبر، وأصغر. فالأكبر: لا يغفره الله إلا بالتوبة، وهو: أن يتخذ من دون الله ندا، يحبه كما يحب الله، بل أكثرهم يحبون آلهتهم، أعظم من محبة الله، ويغضبون لها، ولا يغضبون إذا انتقص أحد رب العالمين؛ وقد شاهدنا هذا، نحن وغيرنا منهم جهرة. وترى أحدهم قد اتخذ ذكر إلهه ومعبوده من دون الله، على لسانه، إن قام، وإن قعد، وإن عثر، وإن مرض، وإن استوحش؛ وهو: لا يذكر إلا ذاك، ويزعم أنه باب حاجته إلى الله، وشفيعه عنده وهكذا كان عباد الأصنام، سواء. وهذا القدر، هو: الذي قام بقلوبهم، وتوارثه المشركون، بحسب آلهتهم، فأولئك كانت آلهتهم من الحجر، وغيرهم اتخذها من البشر، قال تعالى حاكيا عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 429 أسلاف هؤلاء: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} الآية [سورة الزمر آية: 3] . فهذه حال من اتخذ من دون الله وليا يزعم أنه يقربه إلى الله، وما أعز من تخلص من هذا، بل ما أعز من لا يعادي من أنكره! والذي قام بقلوب هؤلاء المشركين، وسلفهم أن آلهتهم تشفع لهم عند الله، وهذا عين الشرك. وقد أنكر الله ذلك عليهم في كتابه وأبطله، وأخبر أن الشفاعة كلها لله، قال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سورة سبأ آية: 22] . والقرآن مملوء من أمثال هذه الآية، ولكن أكثر الناس لا يشعر بدخول الواقع تحته، ويظنه في قوم قد خلوا، ولم يعقبوا وارثا، وهذا الذي يحول بين المرء وبين فهم القرآن، كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: " إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة، إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية "، وهذا لأن من لم يعرف الشرك وما عابه القرآن وذمه، وقع فيه وأقره، وهو لا يعرف أنه الذي عليه أهل الجاهلية، فتنقض بذلك عرى الإسلام، ويعود المعروف منكرا، والمنكر معروفا، والبدعة سنة، والسنة بدعة، ويكفر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 430 الرجل بمحض الإيمان، وتجريده التوحيد، ويبدع بتجريد متابعة الرسول، ومفارقة الأهواء والبدع. ومن له بصيرة، وقلب حي، يرى ذلك عيانا، والله المستعان. ومن أنواعه: طلب الحوائج من الموتى والاستغاثة بهم، والتوجه إليهم، وهذا أصل شرك العالم، لأن الميت قد انقطع عمله، وهو لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا، فضلا لمن استغاث به وسأله أن يشفع له إلى الله، وهذا من جهله بالشافع والمشفوع عنده، فإن الله تعالى: لا يشفع أحد عنده إلا بإذنه، والله لم يجعل سؤال غيره سببا لإذنه، وإنما السبب لإذنه كمال التوحيد، فجاء هذا المشرك، بسبب يمنع الإذن. والميت محتاج إلى من يدعو له، كما " أوصانا النبي صلى الله عليه وسلم إذا زرنا قبور المسلمين: أن نترحم عليهم، ونسأل لهم العافية، والمغفرة " فعكس هذا المشركون، وزاروهم زيارة العبادة، وجعلوا قبورهم أوثانا تعبد، فجمعوا بين الشرك بالمعبود، وتغيير دينه، ومعاداة أهل التوحيد، ونسبتهم إلى تنقيص الأموات، وهم قد تنقصوا الخالق وأولياءه الموحدين، بذمهم ومعاداتهم، وتنقصوا من أشركوا به غاية التنقص، إذ ظنوا أنهم راضون منهم بهذا، وأنهم أمروهم به. وهؤلاء أعداء الرسل في كل زمان ومكان، وما أكثر المستجيبين لهم، ولله در خليله إبراهيم، حيث قال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 431 {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ} [سورة إبراهيم آية: 35-36] . وما نجا من شرك هذا الشرك الأكبر، إلا من جرد توحيده لله، وتقرب بمقتهم إلى الله تعالى انتهى كلامه رحمه الله تعالى. فتأمل رحمك الله كلام هذا الإمام، وتصريحه بأن من دعا الموتى وتوجه إليهم، واستغاث بهم، ليشفعوا له عند الله، فقد فعل الشرك الأكبر، الذي بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم بإنكاره، وتكفير من لم يتب منه، وقتاله ومعاداته، وأن هذا قد وقع في زمانه، وأنهم غيروا دين الرسول صلى الله عليه وسلم وعادوا أهل التوحيد، الذين يأمرونهم بإخلاص العبادة لله وحده لا شريك له. وتأمل قوله أيضا، وما أعز من تخلص من هذا! بل ما أعز من لا يعادي من أنكره! يتبين لك الأمر إن شاء الله تعالى، ولكن تأمل أرشدك الله، قوله: وما نجا من شرك هذا الشرك الأكبر، إلا من عادى المشركين ... إلى آخره، يتبين لك أن الإسلام لا يستقيم إلا بمعاداة أهل هذا الشرك، فإن لم يعادهم، فهو منهم، وإن لم يفعله ; والله أعلم. وقال رحمه الله، في كتاب: زاد المعاد، في هدى خير العباد، في الكلام على غزوة الطائف، وما فيها من الفقه، قال فيها: إنه لا يجوز إبقاء مواضع الشرك والطواغيت بعد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 432 القدرة على هدمها وإبطالها يوما واحدا، فإنها من شعائر الكفر والشرك، وهي أعظم المنكرات، فلا يجوز الإقرار عليها، مع القدرة، البتة، وهكذا حكم المشاهد، التي بنيت على القبور، التي اتخذت أوثانا، وطواغيت، تعبد من دون الله، والأحجار التي تقصد للتعظيم، وللتبرك، والتقبيل، لا يجوز إبقاء شيء منها على وجه الأرض، مع القدرة على إزالته، وكثير منها بمنْزلة اللات، والعزى، ومناة، الثالثة الأخرى، أو أعظم شركا عندها، وبها، والله المستعان. ولم يكن أحد من أرباب هذه الطواغيت يعتقد أنها تخلق، وترزق، وتحيي، وتميت، وإنما كانوا يفعلون عندها، وبها، ما يفعله إخوانهم من المشركين اليوم، عند طواغيتهم، فاتبع هؤلاء سنن من كان قبلهم، حذو القذة بالقذة، وأخذوا مأخذهم، شبرا بشبر، وذراعا بذراع. وغلب الشرك على أكثر النفوس، لظهور الجهل، وخفاء العلم، وصار المعروف منكرا، والمنكر معروفا، والسنة بدعة، والبدعة سنة، نشأ في ذلك الصغير، وهرم عليه الكبير، وطمست الأعلام، واشتدت غربة الإسلام، وقل العلماء، وغلبت السفهاء، وتفاقم الأمر، واشتد البأس، وظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس. ولكن لا تزال طائفة من الأمة المحمدية قائمين، ولأهل الشرك والبدع مجاهدين، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وهو خير الوارثين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 433 (حكم قتال الطائفة الممتنعة عن التزام شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة) وقال الشيخ تقي الدين لما سئل عن قتال التتار، مع تمسكهم بالشهادتين، ولما زعموا من اتباع أصل الإسلام: كل طائفة ممتنعة عن التزام شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة، من هؤلاء القوم وغيرهم، فإنه يجب قتالهم، حتى يلتزموا شرائعه، وإن كانوا مع ذلك ناطقين بالشهادتين، ملتزمين بعض شرائعه، كما " قاتل أبو بكر والصحابة رضي الله عنهم: مانعي الزكاة "، وعلى ذلك اتفق الفقهاء بعدهم، بعد سابقة مناظرة عمر لأبي بكر رضي الله عنهما. واتفق الصحابة رضي الله عنهم جميعا، على القتال على حقوق الإسلام، عملا بالكتاب والسنة، وكذلك ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من عشرة أوجه: الحديث عن الخوارج، والأمر بقتالهم، وأخبر أنهم شر الخلق والخليقة، مع قوله: " تحقرون صلاتكم مع صلاتهم، وصيامكم مع صيامهم " 1، فعلم: أن مجرد الاعتصام بالإسلام، مع عدم التزام شرائعه، ليس بمسقط للقتال فالقتال واجب حتى يكون الدين كله لله، وحتى لا تكون فتنة، فمتى كان الدين لغير الله، فالقتال واجب. فأيما طائفة امتنعت عن بعض الصلوات المفروضات، أو الصيام، أو الحج، أو عن التزام تحريم الدماء، أو   1 البخاري: فضائل القرآن (5058) , ومسلم: الزكاة (1064) , وأحمد (3/60 ,3/65) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 434 الأموال، أو الخمر، أو الزنى، أو الميسر، أو نكاح ذوات المحارم، أو عن التزام جهاد الكفار، أو ضرب الجزية على أهل الكتاب، وغير ذلك من التزام واجبات الدين ومحرماته، التي لا عذر لأحد في جحودها أو تركها، الذي يكفر الواحد بجحودها، فإن الطائفة الممتنعة تقاتل عليها، وإن كانت مقرة بها؛ وهذا مما لا أعلم فيه خلافا بين العلماء. وإنما اختلف الفقهاء: في الطائفة الممتنعة إذا أصرت على ترك بعض السنن، كركعتي الفجر، أو الأذان، أو الإقامة عند من لا يقول بوجوبها، ونحو ذلك من الشعائر، فهل تقاتل الطائفة الممتنعة على تركها أم لا؟ فأما الواجبات، والمحرمات المذكورة ونحوها، فلا خلاف في القتال عليها. وهؤلاء عند المحققين من العلماء ليسوا بمنْزلة البغاة الخارجين على الإمام، أو الخارجين عن طاعته، كأهل الشام مع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فإن أولئك خارجون عن طاعة إمام معين، أو خارجون عليه لإزالة ولايته، وأما المذكورون: فهم خارجون عن الإسلام، بمنْزلة مانعي الزكاة، أو بمنْزلة الخوارج الذين قاتلهم علي رضي الله عنه؛ ولهذا: افترقت سيرته رضي الله عنه في قتاله لأهل البصرة، وأهل الشام; وفي قتاله لأهل النهروان، فكانت سيرته مع البصريين، والشاميين سيرة الأخ مع أخيه، ومع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 435 الخوارج، بخلاف ذلك وثبتت النصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم بما استقر عليه إجماع الصحابة، من قتال الصديق لمانعي الزكاة، وقتال علي للخوارج. انتهى كلامه رحمه الله تعالى. فتأمل رحمك الله تصريح هذا الإمام، في هذه الفتوى، بأن من امتنع من شريعة من شرائع الإسلام الظاهرة، كالصلوات الخمس، أو الزكاة، أو الحج; أو ترك المحرمات، كالزنى، أو تحريم الدماء، أو الأموال، أو شرب الخمر، أو المنكرات، وغير ذلك، أنه يجب قتال الطائفة الممتنعة عن ذلك، حتى يكون الدين كله لله، ويلتزموا شرائع الإسلام، وإن كانوا مع ذلك ناطقين بالشهادتين، ملتزمين بعض شرائع الإسلام؛ وأن ذلك مما اتفق عليه الفقهاء من سائر الطوائف، من الصحابة فمن بعدهم، وإن ذلك عمل بالكتاب والسنة. فتبين لك أن مجرد الاعتصام بالإسلام، مع عدم التزام شرائعه، ليس بمسقط للقتال، وأنهم يقاتلون قتال كفر وخروج عن الإسلام، كما صرح به في آخر الفتوى بقوله: وهؤلاء عند المحققين من العلماء ليسوا بمنْزلة البغاة الخارجين على الإمام، أو الخارجين عن طاعته، بل خارجون عن الإسلام، بمنْزلة مانعي الزكاة. انتهى، والله أعلم. وقال في: الإقناع من كتب الحنابلة، التي تعتمد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 436 عندهم في الفتوى: وأجمعوا: على وجوب قتل المرتد، فمن أشرك بالله تعالى، كفر بعد إسلامه، لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [سورة النساء آية: 48] ، أو جحد ربوبيته، أو وحدانيته، كفر; لأن جاحد ذلك مشرك بالله تعالى ... إلى أن قال: قال الشيخ: أو كان مبغضا لرسوله، أو ما جاء به اتفاقا، أو جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم، ويتوكل عليهم، ويسألهم، كفر إجماعا; لأن ذلك كفعل عابدي الأصنام، قائلين: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [سورة الزمر آية: 3] . فصل: (أنواع الكفر) وأما كلام الحنفية، فقال في كتاب تبيين المحارم المذكورة في القرآن، باب: الكفر، وهو: الستر، وجحود الحق، إنكاره، وهو: أول ما ذكر في القرآن العظيم من المعاصي، قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [سورة البقرة آية: 6] . وهو أكبر الكبائر، فلا كبيرة فوق الكفر- إلى أن قال-: واعلم أنما يلزم به الكفر أنواع: نوع يتعلق بالله سبحانه; ونوع يتعلق بالقرآن، وسائر الكتب المنَزَّلة، ونوع يتعلق بنبينا صلى الله عليه وسلم وسائر الأنبياء، والملائكة، والعلماء، ونوع يتعلق بالأحكام. فأما ما يتعلق به سبحانه، إذا وصف الله سبحانه بما لا يليق به، بأن شبه الله سبحانه بشيء من المخلوقات، أو نفى صفاته، أو قال بالحلول، أو الاتحاد، أو معه قديم غيره، أو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 437 معه مدبر مستقل غيره، أو اعتقد أنه سبحانه جسم، أو محدث، أو غير حي، أو اعتقد أنه لا يعلم الجزئيات، أو سخر باسم من أسمائه، أو أمر من أوامره، أو وعده، أو وعيده، أو أنكرهما، أو سجد لغير الله، أو سب الله سبحانه، أو ادعى أن له ولدا، أو صاحبة، أو أنه متولد منه شيء كائن عنه، أو أشرك بعبادته شيئا من خلقه، أو افترى على الله سبحانه وتعالى الكذب، بادعائه الإلهية، والرسالة- إلى أن قال-: وما أشبه ذلك، مما لا يليق به سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا، يكفر 1 بهذه الوجوه كلها، بالإجماع، لأجل سوء فعله عمدا، أو هزلا، ويقتل إن أصر على ذلك، فإن تاب تاب الله عليه، وسلم من القتل. انتهى كلامه بحروفه. وقال الشيخ قاسم، في شرح الدرر: النذر الذي يقع من أكثر العوام، بأن يأتي إلى قبر بعض الصلحاء قائلا: يا سيدي فلان، إن رد غائبي، أو عوفي مريضي، أو قضيت حاجتي، فلك من الذهب، أو من الطعام، أو الشمع، كذا، باطل إجماعا، لوجوه: منها: أن النذر لمخلوق لا يجوز، ومنها: أن ذلك كفر- إلى أن قال-: وقد ابتلى الناس بذلك، ولا سيما في مولد: أحمد البدوي. انتهى. فصرح:   1 قوله: يكفر, جواب لقوله المتقدم: إذا وصف الله سبحانه بما لا يليق به ... إلخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 438 بأن هذا النذر كفر ; يكفر به المسلم، وصلى الله على محمد، وآله وصحبه، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا. (جواب أسئلة وردت من الساحل الشرقي) وقال أيضا الشيخ: عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن، رحمهم الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فقد وصلت إلينا الأسئلة، التي صدرت من جهة الساحل الشرقي، على يد الأخ: سعد البواردي. السؤال الأول: قول الملحد المجادل في دين الله: إن الأمر الذي جاء به الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى، مذهب خامس، وغش للأمة، فهل يكون هذا القائل سنيا، أو مبتدعا؟ فالجواب وبالله التوفيق: هذا القائل إنما تدل مقالته هذه، على أنه من أجهل خلق الله في دين الله، وأبعدهم عن الإسلام، وأبينهم ضلالة، فإن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله، إنما دعا الناس إلى أن يعبدوا الله وحده، ولا يشركوا به شيئا ; وهذا لا يرتاب فيه مسلم، أنه دين الله الذي أرسل به رسله، وأنزل به كتبه، كما سنذكره إن شاء الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 439 وقوله: مذهب خامس، يبين جهله، وأنه لا يعرف العلم، ولا العلماء، فإن الذي قام به شيخ الإسلام لا يقال له مذهب، وإنما يقال له دين وملة؛ فإن التوحيد هو دين الله، وملة خليله إبراهيم، ودين جميع الأنبياء والمرسلين، وهو الإسلام الذي بعث به محمد صلى الله عليه وسلم وأجمع عليه علماء الأمة سلفا وخلفا، ولا يخالف في هذا إلا من هو مشرك، كما قال تعالى: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [سورة الزمر آية: 3] ، وقال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [سورة البينة آية: 5] فسماه الله تعالى في هاتين الآيتين وغيرهما من آي القرآن دينا، ولم يسمه مذهبا. وأما ما جرى على ألسن العلماء، من قولهم: مذهب فلان، أو ذهب إليه فلان، فإنما يقع في الأحكام، لاختلافهم بحسب بلوغ الأدلة، وفهمها، وهذا لا يختص بالأئمة الأربعة رحمهم الله، بل مذاهب العلماء قبلهم، وبعدهم في الأحكام كثيرة؛ فقد جرى الخلاف بين الصحابة رضي الله عنهم فللصديق رضي الله عنه مذهب انفرد به، ولابن مسعود كذلك، وكذا ابن عباس، وغيرهم من الصحابة، وكذلك الفقهاء السبعة من التابعين، وخالف بعضهم بعضا في مسائل، وغيرهم من التابعين كذلك. وبعدهم أئمة الأمصار، كالأوزاعي إمام أهل الشام، والليث بن سعد إمام أهل مصر، وسفيان بن عيينة، والثوري، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 440 إماما أهل العراق، فلكل مذهب معروف في الكتب المصنفة في اختلاف العلماء، ومثلهم الأئمة الأربعة. وجاء بعدهم أئمة مجتهدون، وخالفوا الأئمة الأربعة في مسائل معروفة عند العلماء، كأهل الظاهر؛ ولذلك تجد من صنف في مسائل الخلاف، إذا عنى الأئمة الأربعة، قال: اتفقوا، وفي مسائل الإجماع، التي أجمع عليها العلماء سلفا وخلفا، يقول: أجمعوا. وذكر المذهب لا يختص بأهل السنة من الصحابة فمن بعدهم، فإن بعض أهل البدع صنفوا لهم مذهبا في الأحكام، يذكرونه عن أئمتهم، كالزيدية لهم كتب معروفة يفتي بها بعض أهل اليمن، والإمامية الرافضة لهم مذهب مدون خالفوا في كثير منه أهل السنة والجماعة. والمقصود: أن قول هذا الجاهل: مذهب خامس، قول فاسد، لا معنى له، كحال أمثاله من أهل الجدل والزيغ في زماننا، شعرا: يقولون أقوالا ولا يعرفونها وإن قيل هاتوا حققوا لم يحققوا وأما قوله: وغش الأمة، فهذا الجاهل الضال بنى هذا القيل الكاذب على سوء فهمه، وانصرافه عن دين الإسلام، لأنه عدو لمن قام به، ودعا إليه، وعمل به، ومن المعلوم عند العقلاء وأهل البصائر أن من دعا الناس إلى توحيد ربهم وطاعته، أنه الناصح لهم حقا. وأما من حسن الشرك والبدع، ودعا إليها، وجادل بالباطل، وألحد في أسماء الله وصفاته، فهو الظالم، الغاش، لعباد الله، لأنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 441 يدعوهم إلى ضلالة، نعوذ بالله من جهد البلاء، ودرك الشقاء، وسوء القضاء، وشماتة الأعداء. ونذكر ما قام به الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى: فإنه قد نشأ في أناس قد اندرست فيهم معالم الدين، ووقع فيهم من الشرك، والبدع، ما عم وطم في كثير من البلاد، إلا بقايا متمسكين بالدين، يعلمهم الله تعالى، وأما الأكثرون فعاد المعروف بينهم منكرا، والمنكر معروفا، والسنة بدعة، والبدعة سنة، نشأ على هذا الصغير، وهرم عليه الكبير. ففتح الله بصيرة شيخ الإسلام، بتوحيد الله، الذي بعث الله به رسله وأنبياءه، فعرف الناس ما في كتاب ربهم من أدلة توحيده الذي خلقهم له، وما حرمه الله عليهم من الشرك الذي لا يغفره الله إلا بالتوبة منه، فقال لهم، ما قال المرسلون لأممهم، أن: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [سورة الأعراف آية: 59] . فحجب كثيرا منهم عن قبول هذه الدعوة، ما اعتادوه ونشؤوا عليه، من الشرك والبدع، فنصبوا العداوة لمن دعاهم إلى توحيد ربهم وطاعته، وهو شيخنا رحمه الله ومن استجاب له وقبل دعوته، وأصغى إلى حجج الله وبيناته، كحال من خلا من أعداء الرسل، كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً} [سورة الفرقان آية: 31] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 442 وأدلة ما دعا إليه هذا الشيخ رحمه الله من التوحيد، في الكتاب، والسنة أظهر شيء وأبينه. اقرأ كتاب الله من أوله إلى آخره تجد بيان التوحيد والأمر به، وبيان الشرك والنهي عنه، مقررا في كل سورة، وفي كثير من سور القرآن يقرره في مواضع منها، يعلم ذلك من له بصيرة وتدبر. ففي فاتحة الكتاب: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [سورة الفاتحة آية: 2] نوعا التوحيد: توحيد الألوهية، وتوحيد الربوبية، وفي: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [سورة الفاتحة آية: 5] النوعان، وقصر العبادة، والاستعانة على الله عز وجل أي: لا نعبد غيرك، ولا نستعين إلا بك. وأول أمر في القرآن يقرع سمع السامع والمستمع، قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [سورة البقرة آية: 21] إلى قوله: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [سورة البقرة آية: 22] : فأمرهم بتوحيد الإلهية، واستدل عليه بالربوبية، ونهاهم عن الشرك به، وأمرهم بخلع الأنداد، التي يعبدها المشركون من دون الله. وافتتح سبحانه كثيرا من سور القرآن بهذا التوحيد: {الم اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [1سورة آل عمران آية: 1-2] : {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [سورة الأنعام آية: 1] إلى قوله: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ} [سورة الأنعام آية: 3] أي: المألوه، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 443 المعبود في السماوات، والمألوه المعبود في الأرض ; وفي هذه السورة، من أدلة التوحيد، ما لا يحصر، وفيها من بيان الشرك والنهي عنه، كذلك. وافتتح سورة هود بهذا التوحيد، فقال تعالى: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ أَلاّ تَعْبُدُوا إِلاّ اللهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ} فأحكم تعالى آيات القرآن، ثم فصلها، ببيان توحيده، والنهي عن الإشراك به، وفي أول: سورة طه، قال تعالى: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [سورة طه آية: 8] وافتتح، سورة الصافات بهذا التوحيد، وأقسم عليه، فقال: {وَالصَّافَّاتِ صَفّاً فَالزَّاجِرَاتِ زَجْراً فَالتَّالِيَاتِ ذِكْراً إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ} [سورة الصافات آية: 1-2-3] وافتتح، سورة: الزمر، بقوله: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [سورة الزمر آية: 1-2-3] وفي هذه السورة من بيان التوحيد والأمر به، وبيان الشرك والنهي عنه، ما يستضيء به قلب المؤمن. وفي السورة بعدها كذلك، وفي سورة {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [سورة الكافرون آية: 1] نفي الشرك في العبادة، في قوله تعالى: {لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} [سورة الكافرون آية: 2] إلى آخرها، وفي سورة: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [سورة الإخلاص آية: 1] توحيد الإلهية، وتوحيد الربوبية، وتوحيد الأسماء والصفات؛ وهذا ظاهر لمن نور الله قلبه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 444 وفي خاتمة المصحف {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ مَلِكِ النَّاسِ إِلَهِ النَّاسِ} [سورة الناس آية: 1-2-3] بين أن ربهم وخالقهم ورازقهم، هو المتصرف فيهم بمشيئته، وإرادته، وهو ملكهم الذي نواصي الملوك، وجميع الخلق في قبضته: يعز هذا ويذل هذا، ويهدي من يشاء ويضل من يشاء، {لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [سورة الرعد آية: 41] وهو: معبودهم، الذي لا يستحق أن يعبد سواه، فهذه إشارة إلى ما في القرآن. وأما السنة: ففيها من أدلة التوحيد، ما لا يمكن حصره، كقوله في حديث معاذ الذي في الصحيحين: " فإن حق الله على العباد: أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا " 1 وفي حديث ابن مسعود الصحيح: " من لقي الله لا يشرك به شيئا دخل الجنة، ومن لقيه يشرك به شيئا دخل النار " 2 والحديث الذي في معجم الطبراني: " إنه لا يستغاث بي، وإنما يستغاث بالله عز وجل " ولما " قال له رجل: ما شاء الله وشئت؟ قال: أجعلتني لله ندا؟! بل ما شاء الله وحده " 3 وأمثال هذا لا يحصى، كما تقدم ذكره ; وأدلة التوحيد، في الكتاب، والسنة أبين من الشمس في نحر الظهيرة، لكن لمن له فهم ثاقب، وعقل كامل، وبصر ناقد؛ وأما الأعمى فلا يبصر للشمس ضياء، ولا للقمر نورا. ثم إن شيخنا رحمه الله، كان يدعو الناس إلى الصلوات الخمس، والمحافظة عليها، حيث ينادى لها، وهذا من سنن الهدى، ومعالم الدين، كما دل على ذلك الكتاب   1 البخاري: الجهاد والسير (2856) , ومسلم: الإيمان (30) , والترمذي: الإيمان (2643) , وابن ماجه: الزهد (4296) , وأحمد (3/260 ,5/236 ,5/242) . 2 مسلم: الإيمان (93) , وأحمد (3/325 ,3/374) . 3 أحمد (1/283) . a الجزء: 1 ¦ الصفحة: 445 والسنة، ويأمر بالزكاة، والصيام، والحج، ويأمر بالمعروف ويأتيه، ويأمر الناس أن يأتوه ويأمروا به، وينهى عن المنكر ويتركه، ويأمر الناس بتركه والنهي عنه. وقد تتبع العلماء مصنفاته، رحمه الله- من أهل زمانه وغيرهم- فأعجزهم أن يجدوا فيها ما يعاب. وأقواله في أصول الدين مما أجمع عليه أهل السنة والجماعة، وأما في الفروع والأحكام فهو حنبلي المذهب، لا يوجد له قول مخالف، لما ذهب إليه الأئمة الأربعة; بل ولا خرج عن أقوال أئمة مذهبه، على أن الحق لم يكن محصورا في المذاهب الأربعة، كما تقدم، ولو كان الحق محصورا فيهم لما كان لذكر المصنفين في الخلاف، وأقوال الصحابة، والتابعين ومن بعدهم، مما خرج عن أقوال الأربعة فائدة. والحاصل: أن هذا المعترض المجادل، مع جهله، انعكس عليه أمره، فقبل قلبه ما كان منكرا، ورد ما كان معروفا، فأعداء الحق، وأهله، من زمن قوم نوح، إلى أن تقوم الساعة، هذه حالهم، وطريقتهم. فمن حكمة الرب تعالى: أنه ابتلى عباده المؤمنين، الذين يدعون الناس إلى ما دعا إليه النبي صلى الله عليه وسلم من الدين، بثلاثة أصناف من الناس، وكل صنف له أتباع: الصنف الأول: من عرف الحق، فعاداه حسدا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 446 وبغيا كاليهود، فإنهم أعداء الرسول والمؤمنين، كما قال تعالى: {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ} [سورة البقرة آية: 90] وقال: {وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [سورة البقرة آية: 146] . الصنف الثاني: الرؤساء، أهل الأموال، الذين فتنتهم دنياهم وشهواتهم، لما يعلمون أن الحق يمنعهم من كثير مما أحبوه وألفوه من شهوات الغي، فلم يعبؤوا بداعي الحق، ولم يقبلوا منه. الصنف الثالث: الذين نشؤوا في باطل، وجدوا عليه أسلافهم، يظنون أنهم على حق، وهم على الباطل، فهؤلاء لم يعرفوا إلا ما نشؤوا عليه {وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} [سورة الكهف آية: 104] . وكل هذه الأصناف الثلاثة وأتباعهم، هم أعداء الحق، من زمن نوح إلى أن تقوم الساعة، فأما الصنف الأول: فقد عرفت ما قال الله فيهم. وأما الصنف الثاني: فقد قال الله فيهم: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [سورة القصص آية: 50] . وقال عن الصنف الثالث: {بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} [سورة الشعراء آية: 74] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 447 {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} [سورة الزخرف آية: 22] وقال: {إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ} [سورة آية: 69-70] . وهؤلاء هم الأكثرون، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الأَوَّلِينَ} [سورة الصافات آية: 71] وقال تعالى في سورة الشعراء، عقب كل قصة: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [سورة الشعراء آية: 8-9] وقال تعالى: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [سورة يوسف آية: 103] . وقال في قصة نوح عليه السلام: {وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ} [سورة هود آية: 40] وقال تعالى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ} [سورة الأنعام آية: 116] . فيا من نصح نفسه تدبر ما ذكر الله تعالى في كتابه، من ضلال الأكثرين، لئلا تغتر بالكثرة من المنحرفين عن الصراط المستقيم الذي هو سبيل المؤمنين، وتدبر ما ذكر الله من أحوال أعداء المرسلين، وما فعل الله بهم، قال تعالى: {مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ} [سورة غافر آية: 4-5] الآية وقال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [سورة غافر آية: 83] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 448 والآيات في هذا المعنى تبين أن أهل الحق أتباع الرسل، هم الأقلون عددا، الأعظمون عند الله قدرا; وأن أعداء الحق هم الأكثرون في كل مكان وزمان، حكمة بالغة; وفي الأحاديث الصحيحة ما يرشد إلى ذلك، كما في الصحيح: " أن ورقة بن نوفل، قال للنبي صلى الله عليه وسلم يا ليتني كنت فيها جذعا، ليتني أكون حيا، إذ يخرجك قومك، قال: " أومخرجي هم؟ " قال: نعم، لم يأت أحد قط، بمثل ما جئت به، إلا عودي " 1. فإذا كان هذا حال أكثر الخلق مع المرسلين، مع قوة عقولهم، وفهومهم، وعلومهم، فلا تعجب مما جرى في هذه الأوقات، ممن هو مثلهم، في عداوة الحق، وأهله، والصد عن سبيل الله، مع ما في أهل هذه الأزمان من الرعونات، والجهل، وفرط الغلو في الأموات، كما قال تعالى عن أسلافهم، وأشباههم: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ} [سورة النحل آية: 20-22] . فاحتج سبحانه وتعالى على بطلان دعوتهم غيره، بأمور: منها: أنهم {لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ} [سورة النحل آية: 20] ، فالمخلوق لا يصلح أن يقصد بشيء من خصائص الإلهية، لا دعاء، ولا غيره، و " الدعاء مخ العبادة " 2. الثاني: كون الذين يدعونهم من دون الله {أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ}   1 البخاري: بدء الوحي (4) , ومسلم: الإيمان (160) , وأحمد (6/223 ,6/232) . 2 الترمذي: الدعوات (3371) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 449 [سورة النحل آية: 21] . والميت لا يقدر على شيء، فلا يسمع الداعي، ولا يستجيب، ففيها معنى قوله تعالى: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ} [سورة آية: 13-14] وفي هذه الآية أربعة أمور تبطل دعوة غير الله، وتبين ضلال من دعا غير الله، فتدبرها. والأمر الثالث في هذه الآية: قوله: {وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [سورة النحل آية: 21] ، ومن لا يدري متى يبعث، لا يصلح أن يدعى من دون الله، لا دعاء عبادة، ولا دعاء مسألة، ثم بين تعالى ما أوجبه على عباده من إخلاص العبادة له، وأنه هو المألوه المعبود دون كل من سواه، فقال: {إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [سورة البقرة آية: 163] وهذا هو الدين الذي بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه، كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} [سورة الأنبياء آية: 25] . ثم بين تعالى حال أكثر الناس، مع قيام الحجة عليهم، وبطلان ما هم عليه من الشرك بالله، وبيان ما افترضه عليهم من توحيده، فقال: {فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ} [سورة النحل آية: 22] فذكر سببين حائلين بينهم وبين قبول الحق الذي دعوا إليه: فالأول: عدم الإيمان باليوم الآخر. والثاني: التكبر، وهو حال الأكثرين، كما قد عرف من حال الأمم الذين بعث الله إليهم رسله، كقوم نوح، وقوم هود، وقوم صالح وغيرهم، وكيف جرى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 450 منهم، وما حل بهم، وكحال كفار قريش، والعرب، وغيرهم، مع النبي صلى الله عليه وسلم لما بعثه الله بالتوحيد، والنهي عن الشرك، والتنديد، فقد روى مسلم، وغيره، من حديث عمرو بن عبسة، أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم لما قال له: " أنا نبي". فقال: "وما نبي؟ قال: أرسلني الله. قال: بأي شيء أرسلك؟ قال: بصلة الأرحام، وكسر الأوثان، وأن يوحد الله لا يشرك به شيئا. قال: فمن معك على هذا؟ قال: حر وعبد. ومعه يومئذ: أبو بكر، وبلال " 1. وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " بدأ الإسلام غريبا، وسيعود غريبا كما بدأ، فطوبى للغرباء، الذي يصلحون إذا فسد الناس " 2 وفسر الغرباء بأنهم: النّزاع من القبائل، فلا يقبل الحق من القبيلة إلا نزيعة، الواحد والاثنان؛ ولهذا قال بعض السلف: " لا تستوحش من الحق لقلة السالكين، ولا تغتر بالباطل لكثرة الهالكين"! وعن بعضهم أنه قال: "ليس العجب ممن هلك كيف هلك، إنما العجب ممن نجا كيف نجا؟ " فإذا كان الأمر كذلك، فلا تعجبوا من كثرة المنحرفين، الناكبين عن الحق المبين، المجادلين في أمر الدين، كما قال تعالى: {الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} [سورة غافر آية: 35] . فأعظم منة الله على من رزقه الله معرفة الحق: الاعتصام   1 مسلم: صلاة المسافرين وقصرها (832) , وأحمد (4/112) . 2 مسلم: الإيمان (145) , وابن ماجه: الفتن (3986) , وأحمد (2/389) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 451 بكتابه، والتمسك بتوحيده وشرعه، مع كثرة المخالف، والمجادل بالباطل {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُرْشِداً} [سورة الكهف آية: 17] وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. (الامتنان بإرسال الرسل وبمن يجدد أمر هذا الدين ويدعو إلى ما دعا إليه الرسول) وله أيضا رحمه الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى من يصل إليه هذا الكتاب من الإخوان، سلمهم الله تعالى. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فموجب هذا والباعث عليه، هو: النصح الذي يجب علينا من حقكم، وقد قال تعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [سورة الذاريات آية: 55] . فاذكروا ما من الله به عليكم، وخصكم به في هذا الزمان، من نعمة الدين، التي هي أشرف النعم وأجلها، وما حصل في ضمنها من المصالح التي لا تعد ولا تحصى. وقد أخبر الله تعالى عن كليمه موسى عليه السلام أنه ذكر قومه هذه النعمة، كما قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً} [سورة المائدة آية: 20] الآية، فذكرهم أولا بالنعمة العظمى، وهي أن جعل فيهم أنبياء، يرشدونهم إلى ما فيه صلاحهم، وفلاحهم، وسعادتهم في الدنيا والآخرة. وقد امتن الله سبحانه على عباده في كتابه بهذه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 452 النعمة، وذكرهم بها في مواضع، كما قال تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [سورة آل عمران آية: 164] ، وقال: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [سورة الجمعة آية: 2] . وأخبر عن مراده فيما شرعه، من تحويل القبلة إلى بيته الحرام، وأن ذلك قد قصد به، وأراد إتمام نعمته، وليحصل لهم الاهتداء، وذكرهم عند ذلك هذه النعم، وأنه فعل ذلك، كما من عليهم قبل مبعث الرسول، فقال: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} [سورة البقرة آية: 151] ، فبعث الأنبياء وإرسال الرسل هو الذي حصل به العلم النافع، والعمل الصالح، كمعرفة الله بصفات كماله، ونعوت جلاله، والاستدلال بآياته ومخلوقاته، والقيام له بما أوجب على خلقه من العبادة والتوحيد، والعمل بما يرضي الرب ويريد، فإن بهذا تحصل زكاة العبد، ونموه، وصلاحه، وفلاحه، وسعادته في الدنيا والآخرة. وفي ضمن تعليم الكتاب والحكمة، من تفاصيل العلوم والأعمال، والمعارف والأمثال، الدالة على وحدانيته، وقدرته، ورحمته، وعدله، وفضله، وإعادته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 453 لخلقه، وبعثه إياهم، ومجازاتهم على أعمالهم، وذكر أيامه في أنبيائه وأوليائه، وما فعل ويفعل بأعدائهم وأعدائه، وإخباره بإلحاق النظير بالنظير، والشبيه بالشبيه، والمثل بالمثل ما يوجب للعبد من العلم بالله، ومعرفة قدرته، وحكمته في أقداره، ومراده من شرعه، وخلقه، وغير ذلك من الأحكام الكلية والجزئية، ما لا يمكن حصره ولا استقصاؤه. فما أنعم الله على أهل الأرض من نعمة، إلا وهي دون نعمة إرسال الرسل وبعث النبيين، خصوصا رسالة محمد صلى الله عليه وسلم سيد ولد آدم، صاحب اللواء المعقود، والمقام المحمود، والحوض المورود؛ فإنه قد حصل برسالته، من عموم الرحمة لكافة العالمين، ومن السعادة، والفلاح، والتزكية، والهدى، والرشاد لمن اتبعه، ما لم يحصل مثله، ولا قريب منه، ببعث غيره من الأنبياء. فمن كان له، من قبول ما جاء به، والإيمان به، حظ ونصيب، فعليه من شكر الله على هذه النعمة وطاعته، وإدامة ذكره، والثناء بنعمه، ما ليس على من قل حظه، ونصيبه من ذلك. وقد من الله عليكم، رحمكم الله، في هذا الزمان، الذي غلبت فيه الجهالات، وفشت بين أهله الضلالات، والتحق بغبر الفترات، من يجدد لكم أمر هذا الدين، ويدعو إلى ما جاء به الرسول الأمين، من الهدى الواضح المستبين، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 454 وهو: شيخ الإسلام والمسلمين، ومجدد ما اندرس من معالم الملة والدين، الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى، فبصر الله به من العماية، وهدى بما دعا إليه من الضلالة، وأغنى بما فتح عليكم وعليه من العالة، وحصل من العلم، ما يستبعد على أمثالكم في العادة، حتى ظهرت المحجة البيضاء التي كان عليها صدر هذه الأمة وأئمتها في: باب توحيد الله بإثبات صفات كماله، ونعوت جلاله، والإيمان بقدره وحكمه في أفعاله، فإنه قرر ذلك. وتصدى رحمه الله: للرد على من نكب عن هذا السبيل، واتبع سبيل التحريف والتعطيل، على اختلاف نحلهم وبدعهم، وتشعب مقالتهم وطرقهم، متبعا رحمه الله، ما مضى عليه السلف الصالح، من أهل العلم والإيمان، وما درج عليه القرون المفضلة، بنص الحديث، ولم يلتفت رحمه الله، إلى ما عدا ذلك، من قياس فلسفي، أو تعطيل جهمي، أو إلحاد حلولي أو اتحادي، أو تأويل معتزلي أو أشعري. فوضح معتقد السلف الصالح، بعدما سفت عليه السوافي، وذرت عليه الذواري، وندر من يعرفه من أهل القرى والبوادي، إلا ما كان مع العامة من أصل الفطرة، فإنه قد يبقى ولو في زمن الغربة والفترة. وتصدى أيضا للدعوة إلى ما يقتضيه هذا التوحيد، ويستلزمه، وهو: وجوب عبادة الله وحده لا شريك له، وخلع ما سواه من الأنداد، والآلهة، والبراءة من عبادة كل ما عبد من دون الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 455 وقد: عمت في زمنه البلوى بعبادة الأولياء والصالحين وغيرهم، وأطبق على ترك الإسلام جمهور أهل البسيطة؛ وفي كل مصر من الأمصار، وبلد من البلدان، وجهة من الجهات، من الآلهة والأنداد لرب العالمين، ما لا يحصيه إلا الله، على اختلاف معبوداتهم، وتباين اعتقاداتهم: فمنهم من يعبد الكواكب، ويخاطبها بالحوائج، ويبخر لها التبخيرات، ويرى أنها تفيض عليه، أو على العالم، وتقضي لهم الحاجات، وتدفع عنهم البليات. ومنهم من لا يرى ذلك، ويكفر أهله، ويتبرأ منهم، لكنه قد وقع في عبادة الأنبياء، والصالحين؛ فاعتقد أنه يستغاث بهم في الشدائد والملمات، وأنهم هم الواسطة في إجابة الدعوات، وتفريج الكربات، فتراه يصرف وجهه إليهم، ويسوي بينهم وبين الله في الحب والتعظيم، والتوكل والاعتماد، والدعاء والاستغاثة، وغير ذلك من أنواع العبادات. وهذا هو: دين جاهلية العرب الأميين، كما أن الأول هو دين الصابئة الكنعانيين. وقد بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق، ليظهره على الدين كله، ولو كره المشركون، وكانت العرب في وقته وزمن مبعثه معترفين لله بتوحيد الربوبية والأفعال، وكانوا على بقية من دين إبراهيم الخليل عليه السلام ; قال تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 456 الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} [سورة يونس آية: 31] . وقال تعالى: {قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [سورة المؤمنون آية: 84-85] إلى قوله: {فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} [سورة المؤمنون آية: 89] . والآيات في المعنى كثيرة، ولكنهم أشركوا في توحيد العبادة والإلهية فاتخذوا الشفعاء والوسائط، من الملائكة والصالحين وغيرهم، وجعلوهم أندادا لله رب العالمين، فيما يستحقه عليهم من العبادات والإرادات، كالحب، والخضوع، والتعظيم، والإنابة، والخشية، وغير ذلك من أنواع العبادات، والطاعات، لأجل جاههم عند الله، والتماس شفاعتهم، لا اعتقاد التدبير والتأثير، كما ظنه بعض الجاهلين، قال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [سورة يونس آية: 18] الآية، وقال: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ} [سورة الزمر آية: 43] ، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [سورة الزمر آية: 3] الآية. فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذا، وكفر أهله، وجهلهم، وسفه أحلامهم، ودعاهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله، وبين أن مدلولها، الالتزام بعبادة الله وحده لا شريك له، والكفر بما يعبد من دون الله؛ وهذا هو أصل الدين وقاعدته، ولهذا، كانت هذه الكلمة كلمة الإسلام، ومفتاح دار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 457 السلام، والفارقة بين الكافر والمؤمن من الأنام; ولها جردت السيوف وشرع الجهاد، وامتاز الخبيث من طيب العباد، وبها حقنت الدماء وعصمت الأموال. وقد بلغ الشيطان مراده من أكثر الخلق، وصدق عليهم إبليس ظنه، فاتبعه الأكثرون، وتركوا ما جاءت به الرسل، من دين الله الذي ارتضاه لنفسه، وتلطف الشيطان في التحيل والمكر والمكيدة حتى أدخل الشرك، وعبادة الصالحين وغيرهم، على كثير ممن ينتسب إلى دين الإسلام في قالب محبة الصالحين والأنبياء، والتشفع بهم، وأن لهم جاها، ومنْزلة ينتفع بها من دعاهم، ولاذ بحماهم؛ وأن من أقر لله وحده بالتدبير، واعتقد له بالتأثير، والخلق، والرزق، فهو المسلم، ولو دعا غير الله، واستعاذ بغيره، ولاذ بحماه؛ وأن مجرد شهادة أن لا إله إلا الله تكفي مثل هذا، وإن لم يقارنها علم ولا عمل ينتفع به، وأن الدعاء والاستغاثة، والاستعانة، والحب، والتعظيم، ونحو ذلك، ليس بعبادة، وإنما العبادة السجود، والركوع، ونحو هذه الزخرفة، والمكيدة; وهذا بعينه هو الذي تقدمت حكايته عن جاهلية العرب. وذكر المفسرون، وأهل التاريخ من أهل العلم، في سبب حدوث الشرك في قوم نوح، مثل هذه المكيدة، فإن ودا، وسواعا، ويغوث، ويعوق، ونسرا، أسماء رجال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 458 صالحين في قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن ينصبوا تماثيلهم، ويصوروا صورهم، ليكون ذلك أشوق إلى العبادة، وأنشط في الطاعة; فلما هلك من فعل هذا، أوحى الشيطان إلى من بعدهم أن أسلافهم كانوا يعبدونهم، وبهم يسقون المطر، فعبدوهم لذلك. فأصل الشرك: هو تعظيم الصالحين بما لم يشرع. والغلو في ذلك، فأتاح الله بمنه، في هذه البلاد النجدية والجهات العربية، من أحبار الإسلام وعلمائه الأعلام من يكشف الشبهة، ويجلو الغمة، وينصح الأمة، ويدعو إلى محض الحق، وصريح الدين، الذي لا يخالطه، ولا يمازجه دين الجاهلية المشركين، فنافح عن دين الله، ودعا إلى ما دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصنف الكتب والرسائل، وانتصب للرد على كل مبطل ومماحل، وعلم من لديه كيف يطلب العلم، وأين يطلب، وبأي شيء يقهر المشبه المجادل ويغلب; واجتمع له من عصابة الإسلام، والإيمان طائفة يأخذون عنه، وينتفعون بعلمه، وينصرون الله ورسوله، حتى ظهر واستنار ما دعا إليه، وأشرقت شموس ما عنده من العلم وما لديه، وعلت كلمة الله، حتى أعشى إشراقها وضوءها كل مبطل ومماحل، وذل لها كل منافق مجادل. وحقق الله وعده لأوليائه وجنده، كما قال تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 459 [سورة غافر آية: 51] ، وقوله: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [سورة النور آية: 55] الآية فزال بحمد الله ما كان بنجد وما يليها، من القباب، والمشاهد، والمزارات، والمغارات ; وقطع الأشجار التي يتبرك بها العامة، وبعث السعاة لمحو آثار البدع الجاهلية، من الأوتار، والتعاليق، والشركيات. وألزم بإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان، وحج البيت، وسائر الواجبات ; وحث من لديه من القضاة والمفتين، على تجريد المتابعة، لما صح وثبت عن سيد المرسلين، مع الاقتداء في ذلك بأئمة الدين، والسلف الصالح المهديين، وينهاهم عن ابتداع قول لم يسبقهم إليه إمام يقتدى به، أو علم يهتدى به. وأنكر ما كان عليه الناس في تلك البلاد، وغيرها من تعظيم الموالد، والأعياد الجاهلية التي لم ينزل في تعظيمها سلطان، ولم يرد به حجة شرعية ولا برهان، لأن ذلك فيه من مشابهة النصارى الضالين، في أعيادهم الزمانية والمكانية، ما هو باطل مردود، في شرع سيد المرسلين. وكذلك أنكر ما أحدثه جهلة المتصوفة، وضلال المبتدعة، من التدين، والتعبد، والمكاء، والتصدية، والأغاني التي صدهم بها الشيطان، عن سماع آيات القرآن، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 460 وصاروا بها من أشباه عباد الأوثان، الذين قال الله فيهم: {وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاءً وَتَصْدِيَةً} [سورة الأنفال آية: 35] . وكل من عرف ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم تبين له أن هؤلاء من أضل الفرق، وأخبثهم نحلة وطريقة، والغالب على كثير منهم النفاق، وكراهة سماع كلام الله ورسوله. وأنكر رحمه الله، ما أحدثته العوام، والطغام من اعتقاد البركة والصلاح في أناس من الفجار والطواغيت الذين يترشحون لتأله العباد بهم، وصرف قلوبهم إليهم باسم الولاية والصلاح، وأن لهم كرامات ومقامات، ونحو هذا من الجهالات؛ فإن هؤلاء من أضر الناس على أديان العامة ; وأنكر رحمه الله ما يعتقده العامة في البله والمجاذيب، وأشباههم الذين أحسن أحوال أحدهم أن يرفع عنه القلم، ويلحق بالمجانين. وأرشد رحمه الله إلى ما دل عليه الكتاب، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من الفرقان، بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان وساق الأدلة الشرعية التي يتميز بها كل فريق، ويعتمدها أهل الإيمان والتحقيق، فإن الله جل ذكره وصف الأبرار، ونعتهم بما يمتازون به ويعرفون، بحيث لا يخفى حالهم، ولا يلتبس أمرهم، وكذلك وصف تعالى أولياء الشيطان من الكفار والفجار، ونعتهم بما لا يخفى معه حالهم، ولا يلتبس أمرهم على من له أدنى نظر في العلم، وحظ من الإيمان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 461 وكذلك قام بالنكير على أجلاف البوادي، وأمراء القرى والنواحي، فيما يتجاسرون عليه ويفعلونه من قطع السبيل، وسفك الدماء، ونهب الأموال المعصومة، حتى ظهر العدل واستقر، وفشا الدين واستمر، والتزمه كل من كانت عليه الولاية، من البلاد النجدية وغيرها، والحمد لله على ذلك ; والتذكير بهذا يدخل فيما امتن الله به على المؤمنين، وذكرهم به من بعث الأنبياء والرسل. ومدار العبادة والتوحيد على ركنين عظيمين، هما: الحب، والتعظيم؛ وبمشاهدة النعمة يحصل ذلك، ويخبت القلب لطاعة من أنعم بها عليه، وكلما ازداد العبد علما بذلك، ومعرفة لحقيقة النعمة ومقدارها ازداد طاعة، ومحبة، وإنابة، وإخباتا، وتوكلا، ولذلك يذكر تعالى عباده بنعمه، الخاصة والعامة، وآلائه الظاهرة والباطنة، ويحث على التفكر في ذلك والتذكر; وأن يعقل العبد عن ربه، فيقوم بشكره، ويؤدي حقه. ومبنى الشكر على ثلاثة أركان: معرفة النعمة وقدرها، والثناء بها على مسديها، واستعمالها في ما يحب موليها ومعطيها. فمن كملت له هذه الثلاثة، فقد استكمل الشكر، وكلما نقص العبد منها شيئا، فهو نقص في إيمانه وشكره، وقد لا يبقى من الشكر ما يعتد به ويثاب عليه. والمقصود: أن الذكرى فيها من المصالح الدينية، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 462 والشعب الإيمانية، ما هو أصل كل فلاح وخير، وبدأ في هذه الآية بأعظم النعم، وأجلها على الإطلاق، وهو: جعله الأنبياء فيهم، يخبرونهم عن الله، بما يحصل لهم به السعادة الكبرى، والمنة الجليلة العظمى؛ وكل خير حصل في الأرض من ذلك، فأصله مأخوذ عن الرسل والأنبياء، إذ هم الأئمة الدعاة الأمناء، وأهل العلم عليهم البلاغ، ونقل ذلك إلى الأمة، فإنهم واسطة في إبلاغ العلم، ونقله. وأما قوله: {وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً} [سورة المائدة آية: 20] ، فهذه نعمة جليلة يجب شكرها، وتتعين رعايتها، فإنها من أفضل النعم، وأجلها. والشكر قيد النعمة، إن شكرت قرت; وإن كفرت فرت. ولم تحصل هذه النعمة، إلا باتباع الأنبياء، وطاعة الرسل، فإن بني إسرائيل إنما صاروا ملوك الأرض بعد فرعون وقومه، باتباع موسى، وطاعة الله ورسوله، والصبر على ذلك، قال تعالى: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ بِمَا صَبَرُوا} [سورة الأعراف آية: 137] . وقد حصل باتباع محمد صلى الله عليه وسلم لمن آمن به من العرب، الأميين وغيرهم من أجناس الآدميين، من الملك وميراث الأرض، فوق ما حصل لبني إسرائيل، فإنهم ملكوا الدنيا، من أقصى المغرب، إلى أقصى المشرق ; وحملت إليهم كنوز كسرى ملك الفرس، وقيصر ملك الروم، وصارت بلادهم، وبلاد المغرب والمشرق، ولاية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 463 لهم، ورعية تنفذ فيها أحكامهم، ويجبى إليهم خراجها. ومكثوا على ذلك ظاهرين، قاهرين لما سواهم من الأمم، حتى وقع فيهم ما وقع في بني إسرائيل، من الخروج عن اتباع الأنبياء، وترك سياستهم، والانهماك في أهوائهم وشهواتهم، فجاء الخلل، وسلط العدو، وتشتت الناس، وتفرقت الكلمة، وصارت الدولة الإسلامية يسوسها في كثير من البلاد، في أوقات كثير من الملوك: أهل النفاق، والزندقة، والكفر، والإلحاد، والذين لا يبالون بسياسات الأنبياء، وما جاؤوا به من عند الله، وربما قصدوا معاكستهم ; فذهب الملك بذلك، وضاعت الأمانة، وفشا الظلم والخيانة، وصار بأسهم بينهم، وسلط عليهم العدو، وأخذ كثيرا من البلاد، ولم يقنع منهم إبليس عدو الله بهذا، حتى أوقع كثيرا منهم في البدع والشرك، وسعى في محو الإسلام بالكلية. وكلما بعد عهد الناس بالعلم وآثار الرسالة، ونقص تمسكهم بعهود أنبيائهم، تمكن الشيطان من مراده في أديانهم ونحلهم واعتقاداتهم، ولكن من رحمة الله ومنته أن جعل في هذه الأمة بقية، وطائفة على الحق ظاهرين، لا يضرهم من خذلهم، حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك. وكلما حصل لهذه الطائفة قوة وسلطان، في جهة، أو بلد، حصل من الملك والعز والظهور لهم، بقدر تمسكهم بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 464 ولذلك صار لشيخنا، شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله، ولطائفة من أنصاره، من الملك والظهور، والنصر، بحسب نصيبهم، وحظهم من متابعة نبيهم صلى الله عليه وسلم والتمسك بدينه، فقهروا جمهور العرب، من الشام إلى عمان، ومن الحيرة إلى اليمن، وكلما كان أتباعهم وأنصارهم أقوى تمسكا، كانوا أعز وأظهر، وربما نال منهم العدو، وحصل عليهم من المصائب، ما تقتضيه الذنوب والمخالفة، والخروج عن متابعة نبيهم، وما يعفو الله عنه من ذلك، أكثر وأعظم. والمقصود: أن كل خير، ونصر وعز، وسرور، حصل، فهو بسبب متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم وتقديم أمره في الفروع والأصول; وقد منّ الله عليكم في هذه الأوقات، بما لم يعطه سواكم في غالب البلاد والجهات; من النعم الدينية والدنيوية، والأمن في الأوطان، فاذكروا الله يذكركم، واشكروا نعمه يزدكم; و {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [سورة التحريم آية: 6] بمعرفة الله، ومحبته، وطاعته، وتعظيمه، وتعليم أصول الدين، وتعظيم ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من الأمر والنهي، والتزامه، والمحافظة على توحيد الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان، وحج بيت الله الحرام، والجهاد في سبيله، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وترك الفواحش الباطنة والظاهرة، وسد الوسائل التي توقع في المحذور، وتفضي إلى ارتكاب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 465 الآثام والشرور. ويجمع ذلك قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [سورة النحل آية: 90] والله المسؤول أن يمنّ علينا وعليكم، بسلوك سبيله، وأن يجعلنا ممن عرف الهدى بدليله، وصلى الله على محمد. (رسالة الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى عبد العزيز الخطيب، وإنكاره تكفير المسلمين) وله أيضا، قدس الله روحه، ونور ضريحه: بسم الله الرحمن الرحيم من: عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن، إلى: عبد العزيز الخطيب. السلام على من اتبع الهدى، وعلى عباد الله الصالحين. وبعد: فقرأت رسالتك، وعرفت مضمونها، وما قصدته من الاعتذار، ولكن أسأت في قولك: أن ما أنكره شيخنا الوالد، من تكفيركم أهل الحق، واعتقاد إصابتكم، أنه لم يصدر منكم; وتذكر أن إخوانك من أهل النقيع يجادلونك، وينازعونك في شأننا، وأنهم ينسبوننا إلى السكوت عن بعض الأمور، وأنت تعرف أنهم يذكرون هذا غالبا، على سبيل القدح في العقيدة، والطعن في الطريقة، وإن لم يصرحوا بالتكفير، فقد حاموا حول الحمى، فنعوذ بالله من الضلال بعد الهدى، ومن الغي عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 466 سبيل الرشد، والعمى. وقد رأيت سنة أربع وستين، رجلين من أشباهكم، المارقين، بالأحساء، قد اعتزلا الجمعة والجماعة، وكفرا من في تلك البلاد من المسلمين، وحجتهم من جنس حجتكم، يقولون: أهل الأحساء يجالسون ابن فيروز، ويخالطونه، هو وأمثاله، ممن لم يكفر بالطاغوت، ولم يصرح بتكفير جده، الذي رد دعوة الشيخ محمد، ولم يقبلها، وعاداها. قالا: ومن لم يصرح بكفره، فهو كافر بالله، لم يكفر بالطاغوت ; ومن جالسه، فهو مثله ; ورتبوا على هاتين المقدمتين الكاذبتين الضالتين، ما يترتب على الردة الصريحة من الأحكام، حتى تركوا رد السلام، فرفع إلي أمرهم، فأحضرتهم، وتهددتهم، وأغلظت لهم القول; فزعموا أولا: أنهم على عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وأن رسائله عندهم، فكشفت شبهتهم، وأدحضت ضلالتهم، بما حضرني في المجلس. وأخبرتهم ببراءة الشيخ من هذا المعتقد والمذهب، وأنه لا يكفر إلا بما أجمع المسلمون على تكفير فاعله من الشرك الأكبر، والكفر بآيات الله ورسله، أو بشيء منها، بعد قيام الحجة، وبلوغها المعتبر، كتكفير من عبد الصالحين، ودعاهم مع الله، وجعلهم أندادا له، فيما يستحقه على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 467 خلقه، من العبادات، والإلهية، وهذا مجمع عليه أهل العلم والإيمان، وكل طائفة من أهل المذاهب المقلدة، يفردون هذه المسألة بباب عظيم، يذكرون فيه حكمها، وما يوجب الردة ويقتضيها، وينصون على الشرك ; وقد أفرد ابن حجر هذه المسألة، بكتاب سماه: الإعلام بقواطع الإسلام. وقد أظهر الفارسيان المذكوران، التوبة والندم، وزعما أن الحق ظهر لهما، ثم لحقا بالساحل، وعادا إلى تلك المقالة، وبلغنا عنهم تكفير أئمة المسلمين، بمكاتبة الملوك المصريين، بل كفروا من خالط من كاتبهم من مشايخ المسلمين، نعوذ بالله من الضلال بعد الهدى، والحور بعد الكور. وقد بلغنا عنكم نحو من هذا، وخضتم في مسائل من هذا الباب، كالكلام في الموالاة والمعاداة، والمصالحة والمكاتبات، وبذل الأموال والهدايا، ونحو ذلك من مقالة أهل الشرك بالله والضلالات، والحكم بغير ما أنزل الله عند البوادي، ونحوهم من الجفاة، لا يتكلم فيها إلا العلماء من ذوي الألباب، ومن رزق الفهم عن الله، وأوتي الحكمة وفصل الخطاب. والكلام في هذا يتوقف على معرفة ما قدمناه، ومعرفة أصول عامة كلية، لا يجوز الكلام في هذا الباب، وفي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 468 غيره، لمن جهلها، وأعرض عنها وعن تفاصيلها، فإن الإجمال والإطلاق، وعدم العلم، بمعرفة مواقع الخطاب، وتفاصيله، يحصل به من اللبس، والخطأ، وعدم الفقه عن الله، ما يفسد الأديان، ويشتت الأذهان، ويحول بينها، وبين فهم السنة والقرآن، قال: ابن القيم، في كافيته، رحمه الله تعالى: فعليك بالتفصيل والتبيين فال ... إطلاق والإجمال دون بيان قد أفسدا هذا الوجود وخبطاال ... أذهان والآراء كل زمان وأما التكفير بهذه الأمور التي ظننتموها، من مكفرات أهل الإسلام فهذا مذهب الحرورية المارقين، الخارجين على علي بن أبي طالب، أمير المؤمنين، ومن معه من الصحابة، فإنهم أنكروا عليه تحكيم أبي موسى الأشعري، وعمرو بن العاص، في الفتنة التي وقعت بينه وبين معاوية وأهل الشام، فأنكرت الخوارج عليه ذلك، وهم في الأصل من أصحابه، من قراء الكوفة والبصرة، وقالوا: حكمت الرجال في دين الله، وواليت معاوية، وعمرا، وتوليتهما، وقد قال الله تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ} [سورة الأنعام آية: 57] وضربت المدة بينك وبينهم، وقد قطع الله هذه الموادعة والمهادنة، منذ أنزلت براءة. وطال بينهما النّزاع والخصام، حتى أغاروا على سرح المسلمين، وقتلوا من ظفروا به من أصحاب علي، فحينئذ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 469 شمر رضي الله عنه لقتالهم، وقتلهم دون النهروان، بعد الإعذار والإنذار، والتمس: "المخدج" المنعوت في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم وغيره من أهل السنن، فوجده علي، فسر بذلك، وسجد لله شكرا على توفيقه، وقال: " لو يعلم الذي يقاتلونهم، ماذا لهم على لسان محمد صلى الله عليه وسلم لنكلوا عن العمل"، هذا: وهم أكثر الناس عبادة، وصلاة، وصوما. فصل: (بعض الألفاظ الواردة في الكتاب والسنة مثل الظلم قد يراد بها مسماها المطلق) ولفظ الظلم والمعصية والفسوق، والفجور، والموالاة، والمعاداة، والركون، والشرك، ونحو ذلك من الألفاظ الواردة في الكتاب والسنة، قد يراد بها مسماها المطلق، وحقيقتها المطلقة، وقد يراد بها مطلق الحقيقة، والأول: هو الأصل عند الأصوليين، والثاني: لا يحمل الكلام عليه، إلا بقرينة لفظية أو معنوية، وإنما يعرف ذلك بالبيان النبوي، وتفسير السنة، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} [سورة إبراهيم آية: 4] الآية، وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [سورة آية: 43-44] ، وكذلك اسم المؤمن، والبر، والتقى، يراد بها عند الإطلاق والثناء، غير المعنى المراد في مقام الأمر والنهي، ألا ترى أن الزاني، والسارق، والشارب، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 470 ونحوهم، يدخلون في عموم قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} [سورة المائدة آية: 6] الآية، وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا} [سورة الأحزاب آية: 69] الآية، وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ} [سورة المائدة آية: 106] ولا يدخلون في مثل قوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} [سورة الحجرات آية: 15] ، وقوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ} [سورة الحديد آية: 19] . وهذا هو الذي أوجب للسلف ترك تسمية الفاسق باسم الإيمان والبر، وفي الحديث: " لا يزني الزاني حين يزني، وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر، حين يشربها، وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة يرفع الناس إليه أبصارهم فيها، وهو مؤمن " 1، وقوله: " لا يؤمن من لا يأمن جاره بوائقه " 2 لكن نفي الإيمان هنا، لا يدل على كفره، بل يطلق عليه اسم الإيمان، ولا يكون كمن كفر بالله ورسله؛ وهذا هو الذي فهمه السلف، وقرروه في باب الرد، على الخوارج، والمرجئة، ونحوهم، من أهل الأهواء; فافهم هذا، فإنه مضلة أفهام، ومزلة أقدام. وأما إلحاق الوعيد المرتب على بعض الذنوب والكبائر فقد يمنع منه مانع، في حق المعين، كحب الله ورسوله، والجهاد في سبيله، ورجحان الحسنات، ومغفرة الله ورحمته، وشفاعة المؤمنين، والمصائب المكفرة، في الدور   1 البخاري: المظالم والغصب (2475) , ومسلم: الإيمان (57) , والترمذي: الإيمان (2625) , والنسائي: قطع السارق (4870 ,4871) والأشربة (5659 ,5660) , وأبو داود: السنة (4689) , وابن ماجه: الفتن (3936) , وأحمد (2/317 ,2/386) , والدارمي: الأشربة (2106) . 2 مسلم: الإيمان (46) , وأحمد (2/372) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 471 الثلاثة، ولذلك، لا يشهدون لمعين من أهل القبلة بجنة ولا نار، وإن أطلقوا الوعيد كما أطلقه القرآن والسنة، فهم يفرقون بين العام المطلق، والخاص المقيد; وكان عبد الله حمار1 يشرب الخمر، فأتي به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلعنه رجل، وقال: ما أكثر ما يؤتى به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " لا تلعنه، فإنه يحب الله ورسوله " مع أنه لعن الخمر، وشاربها، وبائعها، وعاصرها، ومعتصرها، وحاملها، والمحمولة إليه. وتأمل قصة حاطب بن أبي بلتعة، وما فيها من الفوائد، فإنه هاجر إلى الله ورسوله، وجاهد في سبيله، لكن حدث منه أنه كتب بسر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين من أهل مكة، يخبرهم بشأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ومسيره لجهادهم، ليتخذ بذلك يدا عندهم، تحمي أهله وماله بمكة، فنَزل الوحي بخبره، وكان قد أعطى الكتاب ظعينة جعلته في شعرها، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا والزبير في طلب الظعينة، وأخبرهما أنهما يجدانها في روضة خاخ، فكان ذلك، وتهدداها، حتى أخرجت الكتاب من ضفائرها، فأتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم. " فدعا حاطب بن أبي بلتعة، فقال له: ما هذا؟ فقال: يا رسول الله، إني لم أكفر بعد إيماني، ولم أفعل هذا   1 حمار: لقب له, وهو: صحابي جليل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 472 رغبة عن الإسلام، وإنما أردت أن تكون لي عند القوم يد، أحمى بها أهلي ومالي، فقال صلى الله عليه وسلم: صدقكم، خلوا سبيله واستأذن عمر في قتله، فقال: دعني أضرب عنق هذا المنافق، قال: وما يدريك، أن الله اطلع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم، فقد غفرت لكم؟ " وأنزل الله في ذلك صدر سورة الممتحنة، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} [سورة الممتحنة آية: 1] الآيات. فدخل حاطب في المخاطبة باسم الإيمان ووصفه به، وتناوله النهي بعمومه، وله خصوص السبب الدال على إرادته، مع أن في الآية الكريمة ما يشعر أن فعل حاطب نوع موالاة، وأنه أبلغ إليهم بالمودة، وأن فاعل ذلك قد ضل سواء السبيل، لكن قوله: " صدقكم، خلوا سبيله" ظاهر في أنه لا يكفر بذلك، إذا كان مؤمنا بالله ورسوله، غير شاك، ولا مرتاب; وإنما فعل ذلك، لغرض دنيوي، ولو كفر، لما قال: " خلوا سبيله". ولا يقال، قوله صلى الله عليه وسلم: " ما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر، فقال اعملوا ما شئتم، فقد غفرت لكم " هو المانع من تكفيره، لأنا نقول: لو كفر لما بقي من حسناته ما يمنع من لحاق الكفر وأحكامه; فإن الكفر يهدم ما قبله، لقوله تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالأِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} [سورة المائدة آية: 5] وقوله: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [سورة الأنعام آية: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 473 88] . والكفر، محبط للحسنات والإيمان، بالإجماع، فلا يظن هذا. وأما قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [سورة المائدة آية: 51] ، وقوله: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [سورة المجادلة آية: 22] ، وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [سورة المائدة آية: 57] فقد فسرته السنة وقيدته، وخصته بالموالاة المطلقة العامة. وأصل الموالاة هو: الحب، والنصرة، والصداقة، ودون ذلك مراتب متعددة; ولكل ذنب حظه وقسطه من الوعيد والذم; وهذا عند السلف، الراسخين في العلم من الصحابة والتابعين، معروف في هذا الباب وفي غيره; وإنما أشكل الأمر وخفيت المعاني، والتبست الأحكام على خلوف من العجم، والمولدين الذين لا دراية لهم بهذا الشأن، ولا ممارسة لهم بمعاني السنة والقرآن. ولهذا قال الحسن رضي الله عنه: من العجمة أتوا; وقال عمرو بن العلاء لعمرو بن عبيد، لما ناظره في مسألة: خلود أهل الكبائر في النار، واحتج ابن عبيد: أن هذا وعد والله لا يخلف وعده; يشير إلى ما في القرآن، من الوعيد على بعض الكبائر والذنوب بالنار، والخلود; فقال له ابن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 474 العلاء: من العجمة أتيت; هذا وعيد لا وعد، وأنشد قول الشاعر: وإني وإن أوعدته أو وعدته ... لمخلف إيعادي ومنجز موعدي وقال: بعض الأئمة فيما نقل البخاري أو غيره: إن من سعادة الأعجمي والعربي، إذا أسلما، أن يوفقا لصاحب سنة; وإن من شقاوتهما: أن يمتحنا، وييسرا لصاحب هوى وبدعة. ونضرب لك مثلا، هو: أن رجلين تنازعا في آيات من كتاب الله، أحدهما خارجي، والآخر مرجئ; قال الخارجي: إن قوله: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [سورة المائدة آية: 27] دليل على حبوط أعمال العصاة والفجار، وبطلانها; إذ لا قائل: إنهم من عباد الله المتقين; قال المرجئ: هي في الشرك، فكل من اتقى الشرك يقبل منه عمله، لقوله تعالى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [سورة الأنعام آية: 160] . قال الخارجي: قوله تعالى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً} [سورة الجن آية: 23] يرد ما ذهبت إليه. قال المرجئ: المعصية هنا: الشرك بالله، واتخاذ الأنداد معه، لقوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [سورة النساء آية: 48] . قال الخارجي: قوله: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً} [سورة السجدة آية: 18] دليل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 475 على أن الفساق من أهل النار الخالدين فيها. قال له المرجئ: قوله في آخر الآية: {وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} [سورة السجدة آية: 20] دليل على أن المراد من كذب الله ورسوله، والفاسق من أهل القبلة، مؤمن كامل الإيمان. ومن وقف على هذه المناظرة، من جهال الطلبة، والأعاجم، ظن أنها الغاية المقصودة، وعض عليها بالنواجذ، مع أن كلا القولين لا يرتضى، ولا يحكم بإصابته أهل العلم والهدى، وما عند السلف والراسخين في العلم خلاف هذا كله، لأن الرجوع إلى السنة المبينة للناس ما نزل إليهم واجب، وأما أهل البدع والأهواء، فيستغنون عنها بآرائهم، وأهوائهم، وأذواقهم. وقد بلغني: أنكم تأولتم، قوله تعالى في سورة محمد: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأَمْرِ} [سورة محمد آية: 26] على بعض ما يجري من أمراء الوقت، من مكاتبة، أو مصالحة، أو هدنة، لبعض رؤساء الضالين، والملوك المشركين، ولم تنظروا لأول الآية، وهي قوله: {إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى} [سورة محمد آية: 25] ولم تفقهوا المراد من هذه الطاعة، ولا المراد من الأمر المعروف، المذكور في هذه الآية الكريمة، وفي قصة صلح الحديبية، وما طلبه المشركون واشترطوه، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 476 وأجابهم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يكفي في رد مفهومكم، ودحض أباطيلكم. فصل: (السنة والأحاديث النبوية هي المبينة للأحكام القرآنية) وهنا أصول; أحدها: أن السنة والأحاديث النبوية، هي المبينة للأحكام القرآنية وما يراد من النصوص الواردة في كتاب الله، في باب معرفة حدود ما أنزل الله، كمعرفة المؤمن، والكافر، والمشرك، والموحد، والفاجر، والبر، والظالم، والتقي، وما يراد بالموالاة، والتولي، ونحو ذلك من الحدود، كما أنها المبينة لما يراد من الأمر بالصلاة، على الوجه المراد في عددها، وأركانها، وشروطها، وواجباتها; وكذلك الزكاة، فإنه لم يظهر المراد من الآيات الموجبة، ومعرفة النصاب، والأجناس التي تجب فيها، من الأنعام، والثمار، والنقود، ووقت الوجوب، واشتراط الحول في بعضها، ومقدار ما يجب في النصاب، وصفته، إلا ببيان السنة وتفسيرها. وكذلك الصوم والحج، جاءت السنة ببيانهما، وحدودهما، وشروطهما، ومفسداتهما، ونحو ذلك مما توقف بيانه على السنة; وكذلك أبواب الربا، وجنسه، ونوعه، وما يجري فيه، وما لا يجري، والفرق بينه وبين البيع الشرعي; وكل هذا البيان أخذ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم برواية الثقات العدول عن مثلهم، إلى أن تنتهي السنة إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 477 رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن أهمل هذا وأضاعه، فقد سد على نفسه باب العلم والإيمان، ومعرفة معاني التنْزيل، والقرآن. الأصل الثاني: أن الإيمان أصل، له شعب متعددة، كل شعبة منها تسمى إيمانا، فأعلاها: شهادة أن لا إله إلا الله، وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق، فمنها: ما يزول الإيمان بزواله إجماعا، كشعبة الشهادتين; ومنها: ما لا يزول بزواله إجماعا، كترك إماطة الأذى عن الطريق، وبين هاتين الشعبتين شعب متفاوتة، منها: ما يلحق بشعبة الشهادة، ويكون إليها أقرب، ومنها: ما يلحق بشعبة إماطة الأذى عن الطريق، ويكون إليها أقرب; والتسوية بين هذه الشعب في اجتماعها، مخالف للنصوص، وما كان عليه سلف الأمة، وأئمتها. وكذلك الكفر أيضا، ذو أصل وشعب، فكما أن شعب الإيمان إيمان، فشعب الكفر كفر; والمعاصي كلها من شعب الكفر; كما أن الطاعات كلها من شعب الإيمان، ولا يسوى بينهما في الأسماء والأحكام; وفرق بين من ترك الصلاة، أو الزكاة، أو الصيام، أو أشرك بالله، أو استهان بالمصحف، وبين من يسرق، ويزني، أو يشرب، أو ينهب، أو صدر منه نوع موالاة، كما جرى لحاطب; فمن سوى بين شعب الإيمان في الأسماء والأحكام، أو سوى بين شعب الكفر في ذلك، فهو مخالف للكتاب والسنة، خارج عن سبيل سلف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 478 الأمة، داخل في عموم أهل البدع والأهواء. الأصل الثالث: أن الإيمان مركب، من قول وعمل، والقول قسمان: قول القلب، وهو: اعتقاده; وقول اللسان، وهو: التكلم بكلمة الإسلام; والعمل قسمان: عمل القلب، وهو: قصده، واختياره، ومحبته، ورضاه، وتصديقه; وعمل الجوارح، كالصلاة، والزكاة، والحج، والجهاد، ونحو ذلك من الأعمال الظاهرة; فإذا زال تصديق القلب، ورضاه، ومحبته لله، وصدقه، زال الإيمان بالكلية; وإذا زال شيء من الأعمال، كالصلاة، والحج، والجهاد، مع بقاء تصديق القلب، وقبوله، فهذا محل خلاف، هل يزول الإيمان بالكلية، إذا ترك أحد الأركان الإسلامية، كالصلاة، والحج، والزكاة، والصيام، أو لا يزول؟ وهل يكفر تاركه أو لا يكفر؟ وهل يفرق بين الصلاة، وغيرها، أو لا يفرق؟ فأهل السنة مجمعون على أنه لا بد من عمل القلب، الذي هو: محبته، ورضاه، وانقياده; والمرجئة، تقول: يكفي التصديق فقط، ويكون به مؤمنا; والخلاف، في أعمال الجوارح، هل يكفر، أو لا يكفر؟ واقع بين أهل السنة; والمعروف عند السلف: تكفير من ترك أحد المباني الإسلامية، كالصلاة، والزكاة، والصيام، والحج; والقول الثاني: أنه لا يكفر إلا من جحدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 479 والثالث: الفرق بين الصلاة، وغيرها; وهذه الأقوال، معروفة. وكذلك المعاصي والذنوب، التي هي فعل المحظورات، فرقوا فيها: بين ما يصادم أصل الإسلام، وينافيه، وما دون ذلك; وبين ما سماه الشارع كفرا، وما لم يسمه; هذا ما عليه أهل الأثر، المتمسكون بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأدلة هذا مبسوطة في أماكنها. الأصل الرابع: أن الكفر نوعان: كفر عمل، وكفر جحود وعناد، وهو: أن يكفر بما علم أن الرسول صلى الله عليه وسلم جاء به من عند الله جحودا وعنادا، من: أسماء الرب، وصفاته، وأفعاله، وأحكامه، التي أصلها توحيده، وعبادته وحده لا شريك له; وهذا مضاد للإيمان من كل وجه. وأما كفر العمل فمنه ما يضاد الإيمان، كالسجود للصنم، والاستهانة بالمصحف، وقتل النبي صلى الله عليه وسلم وسبه; وأما الحكم بغير ما أنزل الله، وترك الصلاة، فهذا كفر عمل، لا كفر اعتقاد; وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: " لا ترجعوا بعدي كفارا، يضرب بعضكم رقاب بعض " 1، وقوله: " من أتى كاهنا، فصدقه، أو امرأة في دبرها، فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم " 2 فهذا من الكفر العملي; وليس كالسجود للصنم، والاستهانة بالمصحف، وقتل النبي صلى الله عليه وسلم وسبه، وإن كان الكل، يطلق عليه الكفر. وقد سمى الله سبحانه من عمل ببعض كتابه، وترك العمل ببعضه، مؤمنا بما عمل به، وكافرا بما ترك العمل به،   1 البخاري: العلم (121) , ومسلم: الإيمان (65) , والنسائي: تحريم الدم (4131) , وابن ماجه: الفتن (3942) , وأحمد (4/358 ,4/363 ,4/366) , والدارمي: المناسك (1921) . 2 الترمذي: الطهارة (135) , وأبو داود: الطب (3904) , وابن ماجه: الطهارة وسننها (639) , وأحمد (2/408 ,2/476) , والدارمي: الطهارة (1136) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 480 قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ} [سورة البقرة آية: 84] إلى قوله: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} [سورة البقرة آية: 85] الآية، فأخبر تعالى: أنهم أقروا بميثاقه الذي أمرهم به، والتزموه، وهذا يدل على تصديقهم به; وأخبر أنهم عصوا أمره، وقتل فريق منهم فريقا آخرين، وأخرجوهم من ديارهم، وهذا كفر بما أخذ عليهم; ثم أخبر أنهم يفدون من أسر من ذلك الفريق، وهذا إيمان منهم بما أخذ عليهم في الكتاب، وكانوا مؤمنين بما عملوا به من الميثاق، كافرين بما تركوه منه. فالإيمان العملي يضاده الكفر العملي; والإيمان الاعتقادي يضاده الكفر الاعتقادي; وفي الحديث الصحيح: " سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر " 1، ففرق بين سبابه، وقتاله، وجعل أحدهما فسوقا لا يكفر به، والآخر كفرا; ومعلوم: أنه إنما أراد الكفر العملي، لا الاعتقادي، وهذا الكفر لا يخرجه من الدائرة الإسلامية، والملة بالكلية، كما لم يخرج الزاني، والسارق، والشارب، من الملة، وإن زال عنه اسم الإيمان. وهذا التفصيل، قول الصحابة الذين هم أعلم الأمة بكتاب الله، وبالإسلام، والكفر، ولوازمهما; فلا تتلقى هذه المسائل إلا عنهم; والمتأخرون لم يفهموا مرادهم، فانقسموا فريقين; فريق أخرجوا من الملة بالكبائر، وقضوا على أصحابها بالخلود في النار; وفريق جعلوهم مؤمنين،   1 البخاري: الإيمان (48) , ومسلم: الإيمان (64) , والترمذي: البر والصلة (1983) والإيمان (2635) , والنسائي: تحريم الدم (4105 ,4108 ,4109 ,4110 ,4111 ,4112) , وابن ماجه: المقدمة (69) والفتن (3939) , وأحمد (1/385 ,1/411 ,1/433 ,1/454) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 481 كاملي الإيمان; فأولئك غلوا، وهؤلاء جفوا; وهدى الله أهل السنة للطريقة المثلى، والقول الوسط، الذي هو في المذاهب، كالإسلام في الملل; فها هنا كفر دون كفر، ونفاق دون نفاق، وشرك دون شرك، وظلم دون ظلم; فعن ابن عباس رضي الله عنه في قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} قال: " ليس هو الكفر الذي تذهبون إليه " رواه عنه سفيان، وعبد الرزاق; وفي رواية أخرى: كفر لا ينقل عن الملة; " وعن عطاء: كفر دون كفر، وظلم دون ظلم، وفسق دون فسق ". وهذا بين في القرآن، لمن تأمله; فإن الله سبحانه سمى الحاكم بغير ما أنزل الله كافرا، وسمى الجاحد لما أنزل الله على رسوله كافرا، وليس الكفران على حد سواء؛ وسمى الكافر ظالما، في قوله: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [سورة البقرة آية: 254] ، وسمى من يتعدى حدوده، في النكاح، والطلاق، والرجعة، والخلع، ظالما، وقال: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} [سورة الطلاق آية: 1] ، وقال يونس عليه السلام: {إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [سورة الأنبياء آية: 87] ، وقال آدم عليه السلام: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا} [سورة الأعراف آية: 23] وقال موسى: {قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي} [سورة النمل آية: 44] ، وليس هذا الظلم، مثل ذلك الظلم; وسمى الكافر فاسقا، في قوله: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ} [سورة البقرة آية: 26] ، وقوله: {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلاَّ الْفَاسِقُونَ} [سورة البقرة آية: 99] وسمى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 482 العاصي فاسقا، في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} [سورة الحجرات آية: 6] ، وقال في الذين يرمون المحصنات: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [سورة النور آية: 4] ، وقال: {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [سورة البقرة آية: 197] ؛ وليس الفسوق، كالفسوق. وكذلك الشرك، شركان; شرك: ينقل عن الملة، وهو الشرك الأكبر; وشرك: لا ينقل عن الملة، وهو الشرك الأصغر، كشرك الرياء; وقال تعالى في الشرك الأكبر: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [سورة المائدة آية: 72] ، وقال تعالى: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ} [سورة الحج آية: 31] الآية، وقال تعالى، في شرك الرياء: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [سورة الكهف آية: 110] . وفي الحديث: " أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر " 1، وفي الحديث: " من حلف بغير الله، فقد أشرك " 2، ومعلوم أن حلفه بغير الله لا يخرجه عن الملة، ولا يوجب له حكم الكفار; ومن هذا قوله صلى الله عليه وسلم " الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل " 3 فانظر: كيف انقسم الشرك، والكفر، والفسوق، والظلم، إلى ما هو كفر ينقل عن الملة، وإلى ما لا ينقل عن الملة. وكذلك النفاق، نفاقان; نفاق اعتقادي، ونفاق عملي; والنفاق الاعتقادي مذكور في القرآن، في غير   1 أحمد (5/428) . 2 الترمذي: النذور والأيمان (1535) , وأبو داود: الأيمان والنذور (3251) , وأحمد (2/34 ,2/86 ,2/125) . 3 أحمد (4/403) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 483 موضع، أوجب لهم تعالى به الدرك الأسفل من النار; والنفاق العملي، جاء في قوله صلى الله عليه وسلم: " أربع من كن فيه كان منافقا خالصا، ومن كانت فيه خصلة منهن، كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر، وإذا أؤتمن خان " 1، وكقوله صلى الله عليه وسلم " آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا أؤتمن خان " 2 قال بعض الأفاضل: وهذا النفاق قد يجتمع مع أصل الإسلام، ولكن إذا استحكم وكمل، فقد ينسلخ صاحبه من الإسلام بالكلية، وإن صلى وصام، وزعم أنه مسلم; فإن الإيمان ينهى عن هذه الخلال، فإذا كملت للعبد، ولم يكن له ما ينهاه عن شيء منها، فهذا لا يكون إلا منافقا خالصا، انتهى. الأصل الخامس: أنه لا يلزم من قيام شعبة من شعب الإيمان بالعبد، أن يسمى مؤمنا، ولا يلزم من قيام شعبة من شعب الكفر، أن يسمى كافرا، وإن كان ما قام به كفر، كما أنه لا يلزم من قيام جزء من أجزاء العلم، أو من أجزاء الطب، أو من أجزاء الفقه، أن يسمى عالما، أو طبيبا، أو فقيها; وأما الشعبة نفسها، فيطلق عليها اسم الكفر، كما في الحديث: " اثنتان في أمتي هما بهم كفر، الطعن في النسب، والنياحة على الميت " 3، وحديث: " من حلف بغير الله فقد كفر " 4، ولكنه لا يستحق اسم الكفر على الإطلاق. فمن عرف هذا، عرف فقه السلف، وعمق علومهم،   1 البخاري: الإيمان (34) , ومسلم: الإيمان (58) , والترمذي: الإيمان (2632) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (5020) , وأبو داود: السنة (4688) , وأحمد (2/189 ,2/198) . 2 البخاري: الإيمان (33) , ومسلم: الإيمان (59) , والترمذي: الإيمان (2631) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (5021) , وأحمد (2/357) . 3 مسلم: الإيمان (67) , وأحمد (2/377 ,2/441 ,2/496) . 4 الترمذي: النذور والأيمان (1535) , وأحمد (2/125) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 484 وقلة تكلفهم; قال ابن مسعود: " من كان متأسيا، فليتأس بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنهم أبر هذه الأمة قلوبا، وأعمقها علما، وأقلها تكلفا. قوم: اختارهم الله لصحبة نبيه، فاعرفوا لهم حقهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم ; وقد كاد الشيطان بني آدم بمكيدتين عظيمتين، لا يبالي بأيهما ظفر; أحدهما: الغلو ومجاوزة الحد والإفراط. والثاني: هو الإعراض، والترك، والتفريط ". قال ابن القيم: لما ذكر شيئا من مكائد الشيطان، قال بعض السلف: " ما أمر الله تعالى بأمر إلا وللشيطان فيه نزغتان، إما إلى تفريط وتقصير; وإما إلى مجاوزة وغلو; ولا يبالي بأيها ظفر ". وقد اقتطع أكثر الناس إلا القليل، في هذين الواديين، وادي التقصير، ووادي المجاوزة والتعدي; والقليل منهم الثابت على الصراط الذي كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه; وعد رحمه الله كثيرا من هذا النوع - إلى أن قال -: وقصر بقوم، حتى قالوا: إيمان أفسق الناس وأظلمهم، كإيمان جبريل وميكائيل، فضلا عن أبي بكر، وعمر; وتجاوز بآخرين، حتى أخرجوا من الإسلام، بالكبيرة الواحدة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 485 (رسالة كتبها الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن على لسان الإمام فيصل إلى أهل البحرين) وهذه رسالة كتبها: الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن، على لسان الإمام: فيصل رحمه الله، إلى أهل البحرين، هذا نصها: بسم الله الرحمن الرحيم. من فيصل بن تركي، إلى الأخ الشيخ راشد بن عيسى، سلمه الله وهداه. السلام عليكم ورحمة وبركاته. وبعد: فالموجب لتحريره، ما بلغنا من ظهور: البدع في البحرين; بدعة الرافضة، وبدعة الجهمية، وذلك بسبب تقديم: حسن دعبوش، الرافضي، الجهمي، ونصبه قاضيا في البحرين. ومثلك ما يدخر النصح والتبيين لعيال خليفة، وغيرهم; وتعرف الحديث الصحيح: " أبغض الناس إلى الله ثلاثة: ملحد في الحرم، ومبتغ في الإسلام سنة جاهلية، ومطلب دم امرئ مسلم بغير حق، ليهريق دمه " 1 رواه ابن عباس. وقد علمت أن الله أكرم نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم وخصه بصحبة خير خلقه، وخلاصة بريته; وقد أثنى الله على أصحاب نبيه في كتابه، ومدحهم بما هو حجة ظاهرة، على إبطال مذهب من عابهم، أو نال منهم وسبهم، كما هو مذهب الرافضة، وقال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ   1 البخاري: الديات (6882) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 486 تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [سورة آل عمران آية: 110] الآية. وقال: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ} [سورة التوبة آية: 117] الآية، وقال: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [سورة آية: 18] ، وقد كانوا ألفا وأربعمائة، أولهم وأسبقهم إلى هذه البيعة: أبو بكر، وعمر; وعثمان بايع له النبي صلى الله عليه وسلم مع غيبته، وهذا يدل على فضله، وثبات إيمانه ويقينه، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم علم منه ذلك، واستقر عنده، ولذلك بايع له، فضرب بيمينه على شماله، وقال: هذه عن عثمان، وقال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ} [سورة التوبة آية: 100] : وهذا نص: أن الله رضي عن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار; وأبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وطلحة، والزبير، وبلال، من أسبق الناس إلى الإيمان بالله ورسوله; وقال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} [سورة آية: 10-11] وقال تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [سورة الفتح آية: 29] الآية. وقد استدل بهذه الآية بعض أهل العلم، على كفر من اغتاظ وحنق، على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كالرافضة. وقد نص الله تعالى، على إيمان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: {إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ} [سورة آل عمران آية: 124] الآية، وقوله تعالى: {لَقَد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 487 مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [سورة آل عمران آية: 164] الآية. وقال تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً} [سورة التوبة آية: 122] ، وإنما عنى به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ففيه مدحهم، وتزكيتهم، وفضلهم، لأن اسم الإيمان، وإطلاقه في كتاب الله تعالى، يدل على ذلك; وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} في خطابهم، وذلك في مواضع من كتابه. والأحاديث الدالة على فضلهم وسابقتهم أكثر من أن تحصر، عموما وخصوصا، كقوله: فيما صح عنه صلى الله عليه وسلم: " هل أنتم تاركو لي أصحابي؟ فوالذي نفسي بيده، لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا، ما بلغ مد أحدهم، ولا نصيفه " 1. وقوله: " افترقت بنو إسرائيل، على إحدى وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار، إلا واحدة قالوا: من هم يا رسول الله؟ قال: من كان على مثل ما أنا عليه، وأصحابي " وقال: " آية الإيمان: حب الأنصار; وآية النفاق: بغض الأنصار " 2، وقوله صلى الله عليه وسلم " خير أمتي قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم " 3، وقوله صلى الله عليه وسلم " أكرموا أصحابي، فإنهم خياركم " وقوله: " يأتي على الناس زمان، فيغزو فئام من   1 البخاري: المناقب (3673) , ومسلم: فضائل الصحابة (2541) , والترمذي: المناقب (3861) , وأبو داود: السنة (4658) , وأحمد (3/11 ,3/54 ,3/63) . 2 البخاري: الإيمان (17) , ومسلم: الإيمان (74) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (5019) , وأحمد (3/130 ,3/134 ,3/249) . 3 البخاري: المناقب (3650) , ومسلم: فضائل الصحابة (2535) , والترمذي: الفتن (2221) , والنسائي: الأيمان والنذور (3809) , وأبو داود: السنة (4657) , وأحمد (4/426 ,4/427 ,4/436) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 488 الناس، فيقال لهم: أفيكم من صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فيقولون: نعم; فيفتح لهم; ثم يأتي على الناس زمان، فيغزو فئام من الناس، فيقال: هل فيكم من صحب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فيقولون: نعم; فيفتح; زاد بعضهم: حتى يأتي على الناس زمان، فيغزو فئام من الناس، فيقال: هل فيكم من صحب أصحاب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ " 1. وقال أيضا: وأما أهل البدع، فمنهم: الخوارج الذين خرجوا على أمير المؤمنين على بن أبي طالب، رضي عنه، وقاتلوه; واستباحوا دماء المسلمين، وأموالهم، متأولين في ذلك; وأشهر أقوالهم: تكفيرهم بما دون الشرك من الذنوب، فهم يكفرون أهل الكبائر والمذنبين من هذه الأمة; وقد قاتلهم: علي بن أبي طالب رضي الله عنه ومن معه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وصحت فيهم الأحاديث، روى منها مسلم عشرة أحاديث، وفيها الأمر بقتالهم، وأنهم شر قتلى تحت أديم السماء، وخير القتلى من قتلوه، وأنهم يقاتلون أهل الإسلام، ويدعون أهل الأوثان; وفي الحديث: " يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، يمرقون من الإسلام، كما يمرق السهم من الرمية، أينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجرا لمن قتلهم عند الله " 2. ومن أهل البدع: الرافضة، الذين يتبرؤون من أبي بكر، وعمر; ويدعون موالاة أهل البيت، وهم أكذب   1 آخر ما وجد. 2 البخاري: الأدب (6163) , ومسلم: الزكاة (1064) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 489 الخلق، وأضلهم، وأبعدهم عن موالاة أهل البيت، وعباد الله الصالحين; وزادوا في رفضهم، حتى سبوا أم المؤمنين، رضي الله عنها وأكرمها; واستباحوا شتم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا نفرا يسيرا، وأضافوا إلى هذا: مذهب الغالية، الذين عبدوا المشائخ والأئمة، وعظموهم بعبادتهم، وصرفوا لهم ما يستحقه سبحانه ويختص به، من التأله، والتعظيم، والإنابة، والخوف، والرجاء، والتوكل، والرغبة، والرهبة، وغير ذلك من أنواع العبادات; وغلاتهم يرون أن عليا ينْزل في آخر الزمان; ومنهم من يقول: غلط الأمين، وكانت النبوة لعلي; وهم، جهمية في باب صفات الله; زنادقة، منافقون في باب أمره، وشرعه. ومن أهل البدع: القدرية، الذين يكذبون بالقدر، وبما سبق في أم الكتاب، وجرى به القلم; ومنهم: القدرية المجبرة، الذين يقولون: إن العبد مجبور، لا فعل له، ولا اختيار. ومن أهل البدع: المرجئة الذين يقولون: إن الإيمان هو التصديق، وإنه شيء واحد لا يتفاضل. ومن أهل البدع، وأكفرهم: الجهمية، الذين ينكرون صفات الله تعالى، التي جاء بها القرآن والسنة، ويؤولون ذلك، كالاستواء، والكلام، والمجيء، والنّزول، والغضب، والرضى، والحب، والكراهة، وغير ذلك من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 490 الصفات، الذاتية، والفعلية. ومن أهل البدع الضالين: أصحاب الطرائق المحدثة، كالرفاعية، والقادرية، والبومية، وأمثالهم، كالنقشبندية، وكل من أحدث بدعة، لا أصل لها في الكتاب، والسنة. (رسالة الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الشيخ محمد البغدادي في غربة الدين) وله: أيضا، رحمه الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأخ المكرم، الشيخ: محمد بن سليمان، آل عبد الكريم، البغدادي، وفقه الله للإيمان به وتقواه، وأطلع للطالبين بدر توفيقه وهداه; سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فإني أحمد إليك الله، الذي لا إله إلا هو، وهو للحمد أهل، وهو على كل شيء قدير; والكتاب الكريم وصل إلينا، وصلك الله برضاه، ونظمك في سلك خاصته وأوليائه; وقد سرني غاية المسرة، وسرحت نظري في رياضه، المرة بعد المرة، وحمدت الله على ما من به عليك، وأهداه إليك، من المنة العظمى، والموهبة الكبرى، التي هي أسنى المواهب، وأشرف المطالب: معرفة دين الإسلام، والعمل به، والبراءة مما وقع فيه الأكثرون من الشرك الصراح، والكفر البواح، من دعاء الموتى، والغائبين، والاستغاثة بهم في كشف شدائد المكروبين، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 491 ونيل مطالب الطالبين، وتحصيل رغبات الراغبين، عدلا منهم بالله رب العالمين، وصرف خالص محبة العبودية، وما يجب من الخضوع لرب البرية، إلى الأنداد والشركاء والوسائل، والشفعاء، بل وسائر العبادات الدينية، صرفت إلى المشاهد الوثنية، والمعابد الشركية، وصرحت بذلك ألسنتهم، وانطوت عليه ضمائرهم، وعملت بمقتضاه جوارحهم; ولم ينج من شرك هذا الشرك، إلا الخواص والأفراد، والغرباء في سائر البلاد; وذلك مصداق ما أخبر به الصادق، بقوله: " بدأ الإسلام غريبا، وسيعود غريبا كما بدأ " 1. قال بعض الأفاضل، من أزمان متطاولة: الإسلام في وقتنا، أشد منه غربة في أول ظهوره. قلت: وذلك أنه في أول وقت ظهوره يعرفه الكافرون، والمنكرون له، كما قال تعالى، حاكيا عنهم أنهم قالوا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [سورة ص آية: 5] ، وأكثر المنتسبين إلى الإسلام، في هذه الأزمان، يعتقدون، أنه هو الاعتقاد في الصالحين، ودعوتهم، والاستغاثة بهم، والتقرب إليهم، بأنواع العبادات، كالذبح، والنذر، والحلف، وغير ذلك من أنواع الطاعات; وذلك لأنه ولد عليه صغيرهم، وشاب عليه كبيرهم، واعتادته طباعهم، فتراهم عند تجريد التوحيد يقولون: هذا مذهب خامس; لأنهم لا يعرفون غير ما نشؤوا عليه واعتادوه، لا   1 مسلم: الإيمان (145) , وابن ماجه: الفتن (3986) , وأحمد (2/389) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 492 سيما إذا ساعد العادة الاغترار بمن ينتسب إلى العلم والدين; وهو عند الله، معدود في زمرة الجاهلين والمشركين; فهذا وأمثاله، هم الحجاب الأكبر، بين أكثر العوام، وبين نصوص الكتاب والسنة، وما فيهما من الدين والهدى. ثم أكثرهم قد تجاوز القنطرة، وغرق في بحار الشرك في الربوبية، مع ما هو فيه من الشرك في الإلهية فادعى أن للأولياء والصالحين شركة في التدبير والتأثير، وشركة في تدبير ما جاءت به المقادير; وأوحى إليهم إبليس اللعين أن هذا من أحسن الاعتقاد في الصالحين، وأن هذا من كرامة أولياء الله المقربين، تعالى الله عما يقول الظالمون، وتقدس عما افتراه أعداؤه المشركون، و: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} [سورة الأنبياء آية: 22] . وحيث من الله عليك، بمعرفة الهدى ودين الحق; وظهر لك ما هم عليه من الشرك المبين، فاعرف هذه النعمة الكبرى، وقم بشكرها; وأكثر من حمد ربك، والثناء عليه; واحرص أن تكون إماما في الدعوة إليه تعالى، وإلى سبيله، ومعرفة الحق بدليله، فإن هذا أرفع منازل أولياء الله وخواصه من خلقه; فاغتنم يا أخي، مدة حياتك، لعلك أن تربح بها السعادة الأبدية، ومرافقة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، في جنات علية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 493 وتأمل ما عند إخوانك من الطلبة في القصيم، من رسائل مشائخ الإسلام الداعين إلى الله على بصيرة، والزم مذاكرة الإخوان، والبحث معهم في هذا الشأن، وفي غيره من العلوم، فإنهم من خواص نوع الإنسان، ومن جواهر الكون في هذا الزمان، وفقهم الله، وكثر في قلوبهم الإيمان. وما ذكرت من الشوق إلى اللقاء والاجتماع بنا، فنحن إلى إخواننا في الله أشوق وأحرص، فعسى الله أن يمن بالتلاق، ويطوي ما بيننا من البعد والفراق. (رسالة الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى منيف بن نشاط) وله: أيضا، رحمه الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأخ المكرم: منيف بن نشاط، سلمه الله تعالى، وشد حبله بالعروة الوثقى وأناط، ومن عليه بالتزام التوحيد، والفرح به والاغتباط; السلام عليكم، ورحمة الله وبركاته. وبعد: فأحمد إليك الله، الذي لا إله إلا هو، وهو للحمد أهل، وهو على كل شيء قدير، وأسأله اللطف بي وبكم في تيسير كل عسير، مما جرت به الأقضية الربانية والمقادير; وأحوالنا على ما تعهد من الصحة والسلامة، وترادف النعم، لولا غلبة الإعراض عن شكر تلك النعم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 494 والتقصير; نشكو إلى الله قلوبنا القاسية، ونفوسنا الظالمة، فنعم المشتكى، ونعم المولى ونعم النصير. وكتابك وصل إلينا، مع النظم اللطيف، الصادر عن الأخ منيف، فسرنا بإفصاحه، وإعلامه بصحتكم وسلامتكم، وحسن معتقدكم وطويتكم; فالحمد لله على اللطف والتسديد، ومعرفة حقه سبحانه وما يجب له على العبيد. فاجتهد في طلب العلم وتعليمه، والدعوة إلى دين الله وسبيله; فإنك في زمان قبض فيه العلم، وفشا الجهل، وبدل الدين، وغيرت السنن، لا سيما أصول الدين، وعمدة أهل الإسلام واليقين، في باب معرفة الله بصفات كماله، ونعوت جلاله; وقد ألحد في هذا من ألحد، وأعرض عن الحق من أعرض وجحد; حتى عطلوا صفات الله تعالى، التي وصف بها نفسه، وتعرف بها إلى عباده، كعلوه على خلقه، واستوائه على عرشه، وكلامه، وتكليمه، ومحبته، وخلته، ورضاه، وغضبه، ومجيئه، ونزوله، فسلطوا التأويل على ذلك ونحوه، حتى عطلوا الصفات عن حقائقها، وحرفوها عن موضوعها، وصرفوها عن دلالتها; وكذلك الحال في باب عبادته، وتوحيده، ومعرفة حقه على عبيده. فأكثر الناس والمنتسبين إلى الإسلام، ضلوا في هذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 495 الباب، فصرفوا للأولياء والصالحين، والقبور، والأنصاب، والشياطين، خالص العبادة، ومحض حق رب العالمين كالحب، والدعاء، والاستغاثة، والتوكل، والإجلال، والتعظيم، والذل، والخضوع; بل غلاتهم صرحوا بإثبات التدبير والتصريف لمعبوداتهم مع الله، فجمعوا بين الشرك في الإلهية، والشرك في الربوبية، وهذا الأمر لا يتحاشون عنه، بل يصرحون به ويفتخرون، ويدعون أنهم من أهل الإسلام، إلا أنهم هم الكاذبون، وهذا الشرك، لم يصل إليه شرك جاهلية العرب; وقد جرى كما ترى من أناس يقرؤون القرآن، ويدعون أنهم من أتباع الرسول، فنعوذ بالله من الحور بعد الكور، ومن الضلال بعد الهدى، ومن الغي بعد الرشاد. وكذلك باب تجريد متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم في الأصول والفروع، قد ترك، وسد عن أكثر من يدعي العلم والدين، والعمدة والمرجع، إلى أقوال من يعتقدون علمه، من المنتسبين، والمدعين; ولو تكلم أحد بإنكار ذلك، لعد عندهم من البله والمجانين، هذه أحوال جمهور المتشرعين، والمتدينين; فهل ترى فوق هذا غاية، في غربة الحق والدين؟ فعليك بالجد والاجتهاد، في معرفة الإيمان، وقبوله، وإيثاره، والتواصي به، لعلك أن تنجو من شرك هذا الشرك والتعطيل، الذي طبق الأرض، وهلك به أكثر الخلق، جيلا بعد جيل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 496 وأما ما ذكرته، عن الأعراب من الفرق، بين من استحل الحكم بغير ما أنزل الله، ومن لم يستحل؟ فهذا هو الذي عليه العمل، وإليه المرجع، عند أهل العلم، والسلام. (معنى السمت والهدي والتؤدة) وسئل الشيخ: عبد اللطيف بن عبد الرحمن، بن حسن، عن السمت والهدى، والتؤدة ... إلخ. فأجاب: الأحاديث التي سألت عن معناها، قد تكلم عليها بعض العلماء، بما حاصله: أن السمت، والهدى، في حالة الرجل، في مذهبه، وخلقه; وأصل السمت في اللغة: الطريق المنقاد، ثم نقل لحالة الرجل، وطريقته في المذهب، والخلق، والاقتصاد، سلوك القصد في الأمر، والدخول فيه برفق، وعلى سبيل يمكن الدوام عليه; وأما: التؤدة، فهي: التأني، والتمهل، وترك العجلة، وسبق الفكر، والروية، للتلبس في الأمور. وأما كون هذه الخصال، جزءا من أربعة وعشرين جزءا من النبوة، فقد قيل: إن هذه الخلال من شمائل الأنبياء عليهم السلام، ومن الخصال المعدودة من خصالهم، وأنها جزء من أجزاء فضائلهم، فاقتدوا بهم فيها، وتابعوهم عليها، قالوا: وليس معنى الحديث، أن النبوة: تتجزأ، ولا أن من جمع هذه الخلال كان فيه جزء من النبوة; فإن النبوة غير مكتسبة، ولا مجتلبة بالأسباب، وإنما هي كرامة من الله تعالى، وخصوصية لمن أراد الله إكرامه من عباده: {اللَّهُ أَعْلَمُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 497 حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [سورة الأنعام آية: 124] . وقد انقطعت النبوة، بموت محمد صلى الله عليه وسلم. وفيه وجه آخر; وهو أن يكون معنى النبوة هاهنا، ما جاءت به النبوة، ودعت إليه الأنبياء عليهم السلام، يعني: أن هذه الخلال جزء من أربعة وعشرين جزءا، مما جاءت به النبوات، ودعت إليه الأنبياء، صلوات الله وسلامه عليهم; وقد أمرنا باتباعهم، في قوله عز وجل {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} قالوا: وقد يحتمل وجها آخر، وهو: أن من اجتمعت له هذه الخصال، لقيه الناس بالتعظيم والتوقير، وألبسه الله لباس التقوى، الذي يلبسه أنبياءه، فكأنها جزء من النبوة; قلت: وما قبل هذا، أليق بمعنى الحديث. وأما حديث: " الرؤيا حق " فقيل معناه: تحقيق أمر الرؤيا، وتأكيده، وهو جزء من أجزاء النبوة، في الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم دون غيرهم; لأن رؤيا الأنبياء عليهم السلام وحي، قال عمرو بن دينار عن عبيد بن عمير: رؤيا الأنبياء وحي، وقرأ قوله تعالى: {إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} [سورة الصافات آية: 102] . وأما تحديد الأجزاء، بالعدد المذكور في الحديث، فقد قال بعض أهل العلم: إنه أوحى إليه صلى الله عليه وسلم بمكة ستة أشهر في منامه، ثم توالى الوحي يقظة، إلى أن توفي صلى الله عليه وسلم. وكانت مدة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 498 الوحي ثلاثا وعشرين سنة، منها نصف سنة في أول الأمر يوحى إليه في منامه، ونسبة الستة الأشهر لبقية مدة الوحي جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة; وسئل بعض أهل العلم عن هذا الحديث، قال: معناه أن الرؤيا تجيء على موافقة النبوة، لا أنها جزء من باقي النبوة، وقال بعضهم: إنها جزء من أجزاء علم النبوة، وعلم النبوة باق، والنبوة غير باقية بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ذهبت النبوة، وبقيت المبشرات، وهي: الرؤيا الصالحة، يراها المسلم، أو ترى له. وعندي: أن النبوة - التي هي الوحي بشرائع الأنبياء - عبارة عن نبأ، أو شأن عظيم في القوة وإفادة اليقين; والرؤيا الصالحة - التي هي من أقسام الوحي - جزء باعتبار القوة، وإفادة العلم، من ستة وأربعين جزءا، ولا يقتضي هذا تجزؤ النبوة، وأنها مكتسبة، ولا إطلاق اسم النبوة على هذا الجزء، لأن المسمى هو الكل المستجمع لجميع الأجزاء، فلا محذور، ويمكن أن يقال هذا فيما تقدم، من قوله: " الهدى الصالح، والسمت الحسن، والاقتصاد، جزء من خمسة وعشرين جزءا من النبوة " 1 هذا ما ظهر لي، والله أعلم. (الفرق بين الفلاسفة الإلهيين والمشائين) وسئل: عن الفرق بين الفلاسفة الإلهيين، والمشائين: فأجاب: أما الفرق بين الفلاسفة الإلهيين والفلاسفة المشائين، فذكر شارح رسالة ابن زيدون، أن المشائين: أفلاطون، ومن اتبعه; وأنهم أول من قال بالطبائع، وتكلم   1 أبو داود: الأدب (4776) , وأحمد (1/296) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 499 فيها، وأمر بالرياضة، والمشي، لمعاونة قوة الطبيعة، وتحليل ما يضادها من الأخلاط، وأمر بالمشي، والرياضة، عند المذاكرة في مسائل الطبيعة، فسموا مشائين لهذا. وأما الإلهيون، فهم: قدماؤهم من أهل النظر، والكلام في الأفلاك العلوية، وحركاتها، وما يزعمون، وينتحلونه، من إفاضتها، وتأثيرها; وفي اللغة: إطلاق الإله، على المدبر والمؤثر، كما يطلق على المعبود; وقد عرفت أن جمهورهم وقدماءهم: ليسوا مما جاءت به الرسل في شيء، ومذهبهم أكفر المذاهب، وأبطلها وأضلها عن سواء السبيل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 500 (رسالة أملاها الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن على لسان راشد بن عبيد الله الغزي) وهذه رسالة أملاها الشيخ: عبد اللطيف بن الشيخ عبد الرحمن، على لسان راشد بن عبيد الله الغزي، لما أخبره بالمناظرة التي وقعت بينه وبين إبراهيم خيار؛ قال: لعلها تكون سببا لرجوعه إلى الحق. بسم الله الرحمن الرحيم من راشد بن عبيد الله الغزي، إلى الشيخ إبراهيم خيار، وفقنا الله وإياه لاتباع السنة النبوية والأخيار، وبعد إبلاغ السلام عليكم، ورحمة الله وبركاته، نعرفكم أنا وصلنا الرياض بالسلامة، وبحثنا عن نقض كلام داود بن جرجيس، فوجدنا ثلاث نسخ، كل نسخة لواحد من المنتسبين إلى الدين، من أهل تلك البلاد النجدية، وسمعت كثيرا من ردهم ونقضهم، فوجدتهم قد أوردوا من الحجج، والأدلة، والبراهين، ما لا يقاومه أحد، ولا يستطيع ذلك مجادل; فإنهم احتجوا على وجوب إخلاص الدين لله، وإفراده بالعبادة، والدعاء، والاستغاثة، والاستجارة، بالآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، وأقوال علماء الأمة، وما درج عليه القرون المفضلة، بنص الحديث. فقام الدليل، واتضح السبيل، في حكم أبيات البردة، وتشطير داود لها، وهي قوله: يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به سواك - البيت - وقوله: فإن من جودك الدنيا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 501 وضرتها - البيت - وبينوا ما في هذه الأبيات وتشطيرها من البشاعة، والشناعة، والجهالة، وقرروا أن هذا من الغلو الذي ذمه الله ورسوله; وتكرر النهي عنه، وهو يشبه غلو النصارى، من بعض الوجوه. فإن الله هو الذي يستحق أن يلاذ ويعاذ، ويستجار به، وهو الذي أوجد الدنيا، والآخرة، وهما من جوده، لا من جود أحد سواه، وهو العالم بجميع الغيب، أحاط علمه بكل شيء، لا يصلح أن يكون المخلوق - وإن علت درجته، كالأنبياء والملائكة - مساويا ومماثلا لله تعالى، في صفة من صفاته، أو فعل من أفعاله، تعالى الله عن ذلك. وبسط الكلام يطول، وأنا أحب لك الخير، وأن لا تهلك مع من هلك، فلذلك كتبت لك، طمعا في إنصافك، وتأملك. وبالجملة: فعقيدة القوم: تحكيم الكتاب، والسنة، والأخذ بأقوال سلف الأمة، وأئمتها، كالأئمة الأربعة، وأمثالهم، في باب: وجوب إخلاص العبادة لله ومحبته، والإنابة إليه، وتعظيمه، وطاعته; وفي باب: معرفته بصفات كماله، ونعوت جلاله، فيثبتون له ما أثبته الله تعالى لنفسه، من غير تحريف، ولا تعطيل، ولا تشبيه، ولا تمثيل; فهم على طريقة السلف; وما قاله مالك، رحمه الله، يجري عندهم في الاستواء، وفي غيره. وكذلك: ينكرون، ويكفرون من قال بأن لأرواح المشائخ تصرفات بعد الممات، وأن ذلك لهم على سبيل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 502 الكرامات، فإن هذا من أشنع الأقوال المكفرة، وأضلها، لمصادمة الكتاب المصدق، ولما فيه من الشرك المحقق; وكذلك ينكرون التعبد بالبدع التي لم يشرعها الله ولا رسوله، من كل فعل، أو قول، تركه رسول الله صلى الله عليه وسلم وتركه أصحابه، مع قيام المقتضي الموجب له، لو كان مشروعا. ويشددون في النهي عن وسائل الشرك وذرائعه، كبناء المساجد على القبور، والصلاة عندها، وإيقاد السرج عليها، والعكوف لديها، واتخاذ السدنة لها، واتخاذها أعيادا، تزار، وتقصد في يوم معلوم، ووقت مرسوم; فإن هذا فيه من روائح الشرك ووسائله ما لا يخفى. ومن أصولهم: أنهم يقولون بوجوب رد ما تنازعت فيه الأمة إلى كتاب الله، وسنة رسوله، ولا يقبلون قولا مجردا عن دليل ينصره، وبرهان يعضده، بمجرد نسبته إلى شيخ أو متبوع غير الرسول، لا سيما من خالف هدى القرون المفضلة، وما درج عليه أوائل هذه الأمة، فإنهم يشددون على من خالفهم; وأما أمرهم بأركان الإسلام، والتأديب على تركها، والحث على فعلها، فأمر مشهور، لا ينكره الخصم. وقد جرى بيني وبينك، في مسألة الاستواء مذاكرة، وقلت لي إن معنى استوى: استولى، وأنشدتنا في ذلك قول الشاعر: قد استوى بشر على العراق ... البيت. فأخبرت بكلامك بعض مشائخنا، فعجب منه، وقال: هذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 503 قول باطل مردود بوجوه كثيرة. منها: أنه لا يقال استوى، بمعنى الاستيلاء، إلا إذا سبق ذلك مغالبة، وخروج عن الاستيلاء، كما في البيت. ومنها: أن هذا البيت مولد، لا يحتج به. ومنها: أن المعروف في اللغة، يبطل هذا، كما قال تعالى: {وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ} [سورة هود آية: 44] ، وقال: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} [سورة البقرة آية: 29] ، ولا يصلح أن يراد بالآيتين الاستيلاء، وقال تعالى: {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ} [سورة الزخرف آية: 13] ، ولا يصلح أن يكون بمعنى الاستيلاء، وخير ما فسر كتاب الله بما ورد، وبعضه يبين بعضا. والبيت معارض بقول الشاعر: فأوردتهم ماء بفيفاء قفرة ... وقد حلق النجم اليماني فاستوى وهذا لا يجوز أن يتأول فيه أحد، استولى; لأن النجم لا يستولي. وقد ذكر النضر بن شميل، وكان ثقة مأمونا، جليلا في علم الديانة واللغة، قال حدثني الخليل، وحسبك بالخليل، قال: أتيت أبا ربيعة الأعرابي، وكان من أعلم من رأيت، فإذا هو على سطح، فسلمنا عليه، فرد السلام، وقال: استووا، فبقينا متحيرين، ولم ندر ما قال، فقال لنا أعرابي إلى جانبه: إنه أمركم أن ترتفعوا، فقال الخليل: هو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 504 من قول الله: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ} [سورة فصلت آية: 11] فصعدنا إليه، ولا يصلح هنا الاستيلاء. ومن صرف كلام الله عن حقيقته وظاهره، لمجرد كلام بعض المولدين، وترك تفاسير الصحابة وأهل العلم والإيمان، فهو: إما زائغ، وإما جاهل في غاية الجهالة. ومن زعم أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يبين للأمة ما يراد من هذه الآيات، وما يعتقدونه في ربهم، فهو من أضل الناس وأجهلهم; بل هذا محال شرعا، وعقلا; كيف يبين كل شيء، حتى الخراءة، ويدع أصل الأصول ملتبسا لا يبينه، ولا يعلمه أمته، حتى يجيء بعض الخلف، ويبينون للأمة العقيدة الصحيحة في ربهم؟! والرسول وأصحابه قد أعرضوا عن ذلك، ولم يبينوه؟! وهذا لازم لقولكم لزوما لا محيد عنه. ومستحيل أيضا أن يكون الرسول وأصحابه، غير عالمين بالحق في هذا الباب، وأن الخلف أعلم من السابقين الأولين، ومن التابعين، وتابعيهم من أهل القرون المفضلة، كالأئمة الأربعة، ومن ضاهاهم من أئمة الدين، وأعلام الهدى. قالوا لنا: ومشائخ الأشاعرة، والكرامية، والمعتزلة، يعترفون أن قولهم لم يقله السلف، ولم ينقل عنهم، ولذلك يقول جهالهم: طريقة السلف أسلم، وطريقة الخلف أعلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 505 وأحكم، لأنهم يظنون أن السلف بمنْزلة الأميين الذين لم يتفطنوا لدقيق العلم الإلهي، ولم يعرفوا حقيقة ما يعتقدونه في ربهم ومعبودهم، وأن الخلف حازوا قصب السبق في ذلك! قالوا لنا: والإشارة بالخلف، في قولهم: الخلف أعلم، إلى طائفة من أهل الكلام، الذين اعترفوا على أنفسهم بالحيرة، وذم ما هم عليه من الخوض في الجواهر والأعراض، قالوا: ومن أشهر مشائخهم: أبو المعالي الجويني; وهو القائل: لقد خضت البحر الخضم، وتركت أهل الإسلام وعلومهم، والآن إن لم يتداركني الله برحمته، فالويل لابن الجويني; قال: وها أنا أموت على عقيدة أمي. قال بعض السلف: أكثر الناس شكا عند الموت أصحاب الكلام; وأنت خبير بأن من ترك مذهب السلف، وأخذ بمذهب الخلف، إنما يحمله على ذلك شبه أهل الكلام، وأقيستهم، أو تقليدهم، ولم يترك مذهب السلف لدليل من كتاب، أو سنة. ومن حق الكلام أن يحمل على حقيقته، حتى تتفق الأمة أنه أريد به المجاز، إذ لا سبيل إلى اتباع ما أنزل إلينا من ربنا سبحانه وتعالى، إلا على ذلك; وإنما يوجه كلام الله تعالى على الأشهر والأظهر من وجوهه، ما لم يمنع ذلك ما يجب له التسليم، قال تعالى: {فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 506 [سورة التوبة آية: 2] أي: على الأرض، وقيل لمالك: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [سورة طه آية: 5] كيف استوى؟ قال مالك - رحمه الله - لسائله: استواؤه معقول، وكيفيته مجهولة; وسؤالك عن هذا بدعة، وأراك رجل سوء. قال أبو عبيدة في قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [سورة طه آية: 5] أي: علا، قال، وتقول العرب: استويت فوق الدابة، وفوق البيت; ولو ساغ ادعاء المجاز لكل مدع، ما ثبت شيء من العبادات، وجل الله أن يخاطب إلا بما تفهمه العرب، من معهود مخاطبتها، مما يصح معناه عند السامعين; وكل ما قدمت دليل واضح في إبطال قول من قال بالمجاز في الاستواء، وأن استوى بمعنى: استولى، لأن الاستيلاء في اللغة: المغالبة، وهو سبحانه لا يغالبه أحد، والاستواء معلوم في اللغة; وهو: العلو والارتفاع، والتمكن. قال الإمام محيي السنة: أبو محمد الحسين بن مسعود البغوي، الشافعي، صاحب: معالم التنْزيل، عند قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [سورة الأعراف آية: 54] : قال الكلبي، ومقاتل: استقر; وقال أبو عبيدة: صعد، قلت: لا يعجبني قوله: استقر، بل أقول كما قال الإمام مالك: الاستواء معلوم، والكيف مجهول; ثم قال البغوي: وأولت المعتزلة الاستواء، بالاستيلاء; وأما أهل السنة، فيقولون: الاستواء على العرش، صفة لله بلا كيف، يجب الإيمان به. واعلم أن القصد بهذا: مناصحتك، ودعوتك إلى الله، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 507 لعل الله أن يمن عليك بالرجوع إليه، ومعرفة الحق، والعمل به; وعليك بالتفكر والتدبر، والدعاء بدعاء الاستفتاح، الذي أخرجه مسلم في صحيحه: " اللهم رب جبريل، وميكائيل، وإسرافيل إلى آخره " 1. وقال أيضا: الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن: حديث عبادة: 2 حديث عظيم، جليل الشأن، من أجمع الأحاديث لأصول الدين وقواعده; لأن شهادة أن لا إله إلا الله فيها الإلهيات، وهي: الأصول الثلاثة: توحيد الإلهية، وتوحيد الربوبية، وتوحيد الأسماء والصفات; وهذه الأصول تدور عليها أديان الرسل، وما أنزل إليهم; وهي الأصول العظام الكبار، التي دلت عليها، وشهدت بها العقول والفطر; وفي شهادة "أن محمدا رسول الله" الإيمان به، وبجميع الرسل، لما بينهما من التلازم، وكذلك الإيمان بالكتب التي جاءت بها الرسل. وفي شهادة "أن عيسى عبد الله" رد على النصارى، وإبطال مذهبهم، وفي قوله: "ورسوله" رد على اليهود، وتكذيبهم بما نسبوه إلى عيسى وأمه، وأما قوله: "وكلمته ألقاها إلى مريم" فسماه كلمة، لأنه كان بالكلمة من غير أب،   1 مسلم: صلاة المسافرين وقصرها (770) , والترمذي: الدعوات (3420) , والنسائي: قيام الليل وتطوع النهار (1625) , وأبو داود: الصلاة (767) , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1357) , وأحمد (6/156) . 2 هو ما رواه الشيخان, عن عبادة بن الصامت مرفوعا: "من شهد أن لا إله إلا الله ... إلخ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 508 هذا دين المرسلين، خلافا للنصارى القائلين: هو نفس الكلمة، وهم من أضل الخلق وأضعفهم عقولا، لأنهم لم يفرقوا بين الخلق والأمر; قال تعالى: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [سورة الأعراف آية: 54] ففرق تعالى بين خلقه وأمره; ومنه رد السلف، والأئمة على من قال: القرآن مخلوق. وفي قوله: وروح منه كشف شبهة النصارى القائلين بإلهية عيسى، وأنه من ذات الله، لأن في هذا الحديث أنه روح من جملة الأرواح المخلوقة المحدثة، فهو منه خلقا وإيجادا، وليس من ذاته كما قالت النصارى; ومثله قوله تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً} [سورة الجاثية آية: 13] فـ "منه" هنا، وفي الحديث، وفي آية النساء، بمعنى واحد، وهو خلقه وإيجاده. وفي قوله: " وأن الجنة حق، والنار حق " 1 الإيمان بالوعد، الوعيد، والجزاء بعد البعث، وفيه: الإيمان بالساعة; وفيه: الإيمان بالبعث بعد الموت، وأن ذلك لحكمة، وهي: ظهور مقتضى أسمائه الحسنى، وصفاته العلى، من إثابة أوليائه وكرامتهم، وعقاب أعدائه، وإهانتهم، وظهور حمده، واعتراف جميع خلقه له به.   1 مسلم: الجهاد والسير (1807) , والنسائي: البيعة (4159) , وأبو داود: الجهاد (2538 ,2752) , وأحمد (4/48 ,4/52) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 509 (شرح حديث: " ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة") وله أيضا: رحمه الله: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأخ صالح آل عثمان، سلمه الله وحفظه من طائف الشيطان، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: فأحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، على ما أولاه من الإنعام، جعلنا الله وإياك من أوليائه الذاكرين الشاكرين. وأما المسألة التي سألت عنها، في معنى قوله صلى الله عليه وسلم: " ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة " 1 فمن أحسن ما قيل في معناه، قول العلامة: ابن القيم، رحمه الله تعالى، في باب المعاينة، من شرح المنازل، لما تكلم على ما يزعمه القوم، من إدراك نفس الحقيقة، والأنوار التي يجدونها، وأنها أمثلة وشواهد. قال: وحقيقتها هي وقوع القوة العاقلة، على المثال العلمي المطابق للخارجي، فيكون إدراكه له، بمنْزلة إدراك العبد للصورة الخارجية; وقد يقوى سلطان هذا الإدراك الباطن، بحيث يصير الحكم له، ويقوى استحضار القوة العاقلة لمدركها، بحيث يستغرق فيه، ويغلب حكم القلب، على حكم الحس والمشاهدة، ويستولي على السمع والبصر، بحيث يراه، ويسمع خطابه في الخارج، أو في   1 البخاري: الجمعة (1195) , ومسلم: الحج (1390) , والنسائي: المساجد (695) , وأحمد (4/39 ,4/40 ,4/41) , ومالك: النداء للصلاة (463) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 510 النفس والذهن، لكن، لغلبة الشهود، وقوة الاستحضار، وتمكن حكم القلب، واستيلائه على القوى، صار كأنه مرئي بالعين، مسموع بالأذن، بحيث لا يشك المدرك في ذلك، ولا يرتاب البتة، ولا يقبل عذلا. وحقيقة الأمر: أن ذلك كله شواهد، وأمثلة علمية، تابعة للمعتقد - إلى أن قال -: وليس مع القوم إلا الشواهد، والأمثلة العلمية، والرقائق، التي هي: ثمرة قرب القلب من الرب، وأنسه، واستغراقه في محبته، وذكره، واستيلاء سلطان معرفته عليه; والرب تبارك وتعالى، وراء ذلك كله: منَزه مقدس، عن اطلاع البشر على ذاته، وأنوار ذاته أو صفاته; وإنما هي الشواهد التي تقوم بقلب العبد، كما يقوم بقلبه شاهد الآخرة، والجنة والنار، وما أعد الله لأهلها. وهذا هو الذي وجده عبد الله بن حرام، يوم أحد، لما قال: " واها لريح الجنة، إني لأجد ريحها دون أحد; " ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: " إذ مررتم برياض الجنة فارتعوا " 1 وقوله: " ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة " 2، فهي: روضة لأهل العلم والإيمان، لما يقوم بقلوبهم من شواهد الجنة، حتى كأنها لهم رأي عين; وإذا قعد المنافق هناك، لم يكن ذلك المكان في حقه روضة من رياض الجنة; فالعمل إنما هو على الشواهد، وعلى حسب شاهد العبد يكون عمله; انتهى ملخصا. وبه: يظهر معنى الحديث، وأن اختصاص هذا   1 الترمذي: الدعوات (3509) . 2 البخاري: الجمعة (1195) , ومسلم: الحج (1390) , والنسائي: المساجد (695) , وأحمد (4/39 ,4/40 ,4/41) , ومالك: النداء للصلاة (463) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 511 المكان بكونه روضة من رياض الجنة، لما يقوم بقلب العبد من المثال والشاهد الذي يقوي سلطانه هناك، وتظهر ثمرته، ويجد المؤمن من لذته، وروحه، حتى كأنه رأي عين; وفي هذا القدر كفاية، والله الموفق; ولا تذخر عمارة مجلسك، بذكر الله، والدعوة إليه، ونشر العلم، الذي أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم من الكتاب، والحكمة، والله أعلم، وصلى الله على محمد. (الفرق بين القدر والقضاء) وسئل رحمه الله عن الفرق، بين القدر، والقضاء؟ فأجاب: القدر في الأصل، مصدر قدر; ثم استعمل في التقدير، الذي هو: التفصيل والتبيين; واستعمل أيضا بعد الغلبة في تقدير الله للكائنات قبل حدوثها; وأما القضاء: فقد استعمل في الحكم الكوني بجريان الأقدار، وما كتب في الكتب الأولى; وقد يطلق هذا على القدر الذي هو: التفصيل والتمييز. ويطلق القدر أيضا على القضاء، الذي هو الحكم الكوني، بوقوع المقدرات; ويطلق القضاء، على الحكم الديني الشرعي; قال الله تعالى: {ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ} [سورة النساء آية: 65] ، ويطلق القضاء على الفراغ، والتمام، كقوله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ} [سورة الجمعة آية: 10] ، ويطلق على نفس الفعل، قال تعالى: {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ} [سورة طه آية: 72] ، ويطلق على الإعلام، والتقدم بالخبر، قال تعالى: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرائيلَ} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 512 [سورة الإسراء آية: 4] . ويطلق على الموت، ومنه قولهم: قضى فلان، أي: مات، قال تعالى: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} [سورة الزخرف آية: 77] ، ويطلق على وجود العذاب، قال تعالى: {وَقُضِيَ الأَمْرُ} ، ويطلق على التمكن من الشيء وتمامه، كقوله: {وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ} [سورة طه آية: 114] ، ويطلق على الفصل والحكم، كقوله: {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ} [سورة الزمر آية: 69] ، ويطلق على الخلق، كقوله تعالى: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} [سورة فصلت آية: 12] . ويطلق على الحتم، كقوله تعالى: {وَكَانَ أَمْراً مَقْضِيّاً} [سورة مريم آية: 21] ، ويطلق على الأمر الديني، كقوله: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ} [سورة الإسراء آية: 23] ، ويطلق على بلوغ الحاجة، ومنه: قضيت وطري. ويطلق على إلزام الخصمين بالحكم، ويطلق بمعنى الأداء، كقوله تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ} [سورة البقرة آية: 200] . والقضاء في الكل: مصدر; واقتضى الأمر الوجوب: دل عليه، والاقتضاء، هو: العلم بكيفية نظم الصيغة; وقولهم: لا أقضي منه العجب، قال الأصمعي: يبقى ولا ينقضي. (معنى قول القائل: أسألك بمعقد العز من عرشك) وسئل أيضا، رحمه الله عن قوله: أسألك بمعقد العز من عرشك، ما معناه؟ فأجاب: لا يخفى أن هذا ليس من الأدعية المشروعة; ولذلك، اختلف الناس فيه، فكره أبو حنيفة المسألة بمعقد العز، وأجازها صاحبه أبو يوسف، لأنه قد يراد بهذه الكلمة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 513 المحل، أي محل المعقد وزمانه، كمذهب، يطلق على محل الذهاب وزمانه; وربما أريد بها المفعول، كمركوب، ويكون هنا اسم مصدر، من: عقد يعقد عقدا، والاسم: معقد; ويكون صفة ذات; ولهذا قال أبو يوسف: معقد العز هو الله; وأما أبو حنيفة، فنظر إلى أن اللفظ، محتمل لمعان متعددة، فلذلك كره المسألة به، وبهذا يتبين المعنى. (معنى قوله صلى الله عليه وسلم: " إلى من تكلني إلى بعيد يتجهمني ". وسئل: عن قوله صلى الله عليه وسلم في الدعاء المشهور: " إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني ". فأجاب: اعلم أن التجهم: الغلظة، والعبوس، والاستقبال بالوجه الكريه; قال بعض علماء اللغة: الجهم الغليظ المجتمع، وجهم ككرم، جهامة وجهومة، استقبله بوجه كريه، كتجهمه; والجهمة: آخر الليل، أو بقية سواد من آخره; وأجهم: دخل فيه. انتهى. وبه يظهر أن التجهم يقع على الاستقبال بوجه مظلم عبوس، والله أعلم. (رسالة الشيخ إسحاق بن عبد الرحمن في بيان عقيدة الشيخ ابن عبد الوهاب وأخباره وأحواله) وقال الشيخ: إسحاق بن عبد الرحمن، بن حسن، رحمهم الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي بنعمته اهتدى المهتدون، وبعدله ضل الضالون {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [سورة الأنبياء آية: 23] ، أحمده سبحانه حمد عبد نزه ربه عما يقول الظالمون. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وسبحان الله رب العرش عما يصفون. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الصادق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 514 المأمون، صلى الله عليه، وعلى آله وأصحابه، الذين هم بهديه متمسكون; وسلم تسليما كثيرا. أما بعد: فإنه ابتلي بعض من استحوذ عليه الشيطان، بعداوة شيخ الإسلام، الشيخ: محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى، ومسبته، وتحذير الناس عنه، وعن مصنفاته، لأجل ما قام بقلوبهم من الغلو في أهل القبور، وما نشؤوا عليه من البدع التي امتلأت بها الصدور; فأردت أن أذكر طرفا من أخباره وأحواله، ليعلم الناظر فيه حقيقة أمره، فلا يروج عليه الباطل، ولا يغتر بحائد عن الحق مائل، مستنده ما ينقله أعداؤه، الذين اشتهرت عداوتهم له في وقته، وبالغوا في مسبته، والتأليب عليه وتهمته، وكثيرا ما يضعون من مقداره، ويغيضون ما رفع الله من مناره، منابذة للحق الأبلج، وزيغا عن سواء المنهج. والذي يقضي به العجب قلة إنصافهم، وفرط جورهم واعتسافهم، وذلك أنهم لا يجدون زلة من المنتسبين إليه، ولا عثرة إلا نسبوها إليه، وجعلوا عارها راجعا عليه، وهذا من تمام كرامته، وعظم قدره، وإمامته; وقد عرف من جهالهم، واشتهر من أعمالهم أنه ما دعا إلى الله أحد، وأمر بمعروف، ونهى عن منكر، في أي قطر من الأقطار، إلا سموه وهابيا، وكتبوا فيه الرسائل إلى البلدان، بكل قول هائل يحتوي على الزور والبهتان. ومن أراد الإنصاف، وخشي مولاه وخاف، نظر في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 515 مصنفات هذا الشيخ، التي هي الآن موجودة عند أتباعه؛ فإنها أشهر من نار على علم، وأبين من نبراس على ظلم، وسأذكر لك بعض ما وقفت عليه من كلامه، خوفا أن تخوض من مسبته في مهامه، فأقول: قد عرف واشتهر، واستفاض من تقارير الشيخ ومراسلاته، ومصنفاته المسموعة المقروءة عليه، وما ثبت بخطه، وعرف واشتهر من أمره ودعوته، وما عليه الفضلاء النبلاء من أصحابه وتلامذته، أنه على ما كان عليه السلف الصالح، وأئمة الدين، أهل الفقه والفتوى، في باب معرفة الله، وإثبات صفات كماله، ونعوت جلاله، التي نطق بها الكتاب العزيز، وصحت بها الأخبار النبوية، وتلقاها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقبول والتسليم، يثبتونها ويؤمنون بها، ويمرونها كما جاءت، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل. وقد درج على هذا: من بعدهم من التابعين، من أهل العلم والإيمان، من سلف الأمة; كسعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، والقاسم بن محمد، وسالم بن عبد الله، وسليمان بن يسار، وكمجاهد بن جبر، وعطاء بن أبي رباح، والحسن، وابن سيرين، والشعبي، وأمثالهم كعلي بن الحسين، وعمر بن عبد العزيز، ومحمد بن مسلم الزهري، ومالك بن أنس، وابن أبي ذئب، وكحماد بن سلمة، وحماد بن زيد، والفضيل بن عياض، وابن المبارك، وأبي حنيفة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 516 النعمان بن ثابت، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، والبخاري، ومسلم، ونظرائهم من أهل الفقه والأثر; لم يخالف هذا الشيخ ما قالوه، ولم يخرج عما دعوا إليه واعتقدوه. وأما توحيد العبادة والإلهية، فقد حققه غاية التحقيق، ووضح فيه المنهج والطريق; وقال: إن حقيقة ما عليه أهل الزمان، وما جعلوه هو غاية الإسلام والإيمان، من طلب الحوائج من الأموات، وسؤالهم في المهمات، وحج قبورهم للعكوف عندها والصلوات، هو بعينه فعل الجاهلية الأولى، من دعاء اللات والعزى ومناة، لأن اللات، كما ورد في الأحاديث: رجل يلت السويق للحاج، فمات فعكفوا على قبره، يرجون شفاعته في مجاوريه، والتقرب به إلى الله في زائريه، لم يقولوا: إنه يدبر الأمر ويرزق، ولا أنه يحيى ويميت ويخلق، كما نطق بذلك الكتاب، فكان مما لا شك فيه ولا ارتياب. قال الله تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} [سورة يونس آية: 31] . قال العماد ابن كثير، رحمه الله، أي: أفلا تتقون الشرك في العبادة، لأنهم لا يطلبون إلا الشفاعة والقرب، كما قال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [سورة يونس آية: 18] ، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 517 إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [سورة الزمر آية: 3] . قال الشيخ - رحمه الله -: يوضح ذلك، أن أصل الإسلام وقاعدته: شهادة أن لا إله إلا الله، وهي أصل الإيمان بالله وحده، وهي أفضل شعب الإيمان، وهذا الأصل، لا بد فيه من العلم والعمل والإقرار، بإجماع المسلمين; ومدلوله: وجوب عبادة الله وحده لا شريك له، والبراءة من عبادة ما سواه، كائنا من كان; وهذا هو الحكمة التي خلقت لها الجن والإنس، وأرسلت لها الرسل، وأنزلت بها الكتب، وهي تضمن كمال الذل والحب، وتتضمن كمال الطاعة والتعظيم; وهذا هو دين الإسلام، الذي لا يقبل الله دينا سواه، لا من الأولين، ولا من الآخرين. قال رحمه الله: وقد جمع ذلك في سورتي الإخلاص، أي: العلم، والعمل، والإقرار. وقد اكتفى بعض أهل زماننا، بالإقرار وحده، وجعلوه غاية التوحيد، وصرفوا العبادة التي هي مدلول لا إله إلا الله، للمقبورين، وجعلوها من باب التعظيم للأموات، وأن تاركها قد هضمهم حقهم، وأبغضهم وعقهم; ولم يعرفوا أن دين الإسلام هو الاستسلام لله وحده، والخضوع له وحده، وأن لا يعبد بجميع أنواع العبادة سواه. وقد دل القرآن على أن من استسلم لله ولغيره، كان مشركا; قال تعالى: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ} [سورة الزمر آية: 54] ، وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 518 اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [سورة النحل آية: 36] ، وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} [سورة الأنبياء آية: 25] ، وقال تعالى عن الخليل: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [سورة الزخرف آية: 27] ، وقال: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [سورة الممتحنة آية: 4] ، وقال تعالى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} [سورة الزخرف آية: 45] . وذكر عن رسله نوح، وهود، وشعيب، وغيرهم، أنهم قالوا لقومهم: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [سورة الأعراف آية: 59] . قال رحمه الله: والشرك المراد في هذه الآيات ونحوها، يدخل فيه شرك عباد القبور، وعباد الأنبياء والملائكة والصالحين، فإن هذا، هو شرك جاهلية العرب، الذين بعث فيهم عبد الله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم؛ فإنهم كانوا يدعونها، ويلتجئون إليها، ويسألونها على وجه التوسل بجاهها وشفاعتها، لتقربهم إلى الله، كما نبه تعالى على ذلك في آيتي يونس والزمر. قال رحمه الله: ومعلوم أن المشركين لم يزعموا أن الأنبياء والأولياء، والصالحين شاركوا الله في خلق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 519 السماوات والأرض، واستقلوا بشيء من التدبير والتأثير والإيجاد، ولو في خلق ذرة من الذرات، قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} [سورة الزمر آية: 38] . فهم معترفون بهذا، مقرون به، لا ينازعون فيه، ولذلك حسن موقع الاستفهام، وقامت الحجة بما أقروا به من هذه الجمل، وبطلت عبادة من لا يكشف الضر، ولا يمسك الرحمة; ولا يخفى ما في التنكير من العموم والشمول، المتناول لأقل شيء وأدناه من ضر أو رحمة; قال تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [سورة يوسف آية: 106] . ذكر فيه السلف كابن عباس، وغيره، أن إيمانهم هنا بما أقروا به من ربوبيته وملكه; وفسر شركهم المذكور، بعبادة غير الله. قال رحمه الله: فإن قلت: إنهم لم يطلبوا إلا من الأصنام، ونحن ندعو الأنبياء; قلت: قد بين القرآن في غير موضع، أن من المشركين من أشرك بالملائكة، ومنهم من أشرك بالأنبياء والصالحين، ومنهم من أشرك بالكواكب، ومنهم من أشرك بالأصنام، وقد رد الله عليهم جميعهم، وكفر كل أصنافهم، كما قال تعالى: {وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [سورة آل عمران آية: 80] ، وقال: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 520 دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} [سورة التوبة آية: 31] الآية، وقال: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ} [سورة النساء آية: 172] الآية، ونحو ذلك في القرآن كثير. وكما في سورة الأنبياء: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} [سورة الأنبياء آية: 98] ، وقول ابن الزبعرى: نحن نعبد الملائكة، والأنبياء، وغيرهم، فكلنا في حصب جهنم؟! فرد الله عليهم بالاستثناء في آخرها: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [سورة الأنبياء آية: 101] . وبه يعلم المؤمن أن عبادة الأنبياء والصالحين، كعبادة الكواكب والأصنام، من حيث الشرك والكفر بعبادة غير الله. قال رحمه الله: وهذه العبادات التي صرفها المشركون لآلهتهم، هي أفعال العباد الصادرة منهم: كالحب، والخضوع، والإنابة، والتوكل والدعاء، والاستعانة، والاستغاثة، والخوف، والرجاء، والنسك، والتقوى، والطواف ببيته رغبة ورجاء، وتعلق القلوب والآمال بفيضه، ومده، وإحسانه، وكرمه، فهذه الأنواع: أشرف أنواع العبادة وأجلها; بل هي: لب سائر الأعمال الإسلامية، وخلاصتها; وكل عمل يخلو منها فهو خداج، مردود على صاحبه. وإنما أشرك، وكفر من كفر من المشركين، بقصد غير الله بهذا، وتأليهه غير الله بذلك، قال تعالى: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 521 كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [سورة النحل آية: 17] ، وقال تعالى: {أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ} [سورة الأنبياء آية: 43] ، وقال تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ} [سورة الفرقان آية: 3] الآية. وحكى عن أهل النار، أنهم يقولون لآلهتهم التي عبدوها مع الله: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [سورة آية: 97-98] ، ومعلوم: أنهم ما ساووهم به، في الخلق، والتدبير، والتأثير، وإنما كانت التسوية، في الحب، والخضوع، والتعظيم، والدعاء ونحو ذلك من العبادات. قال رحمه الله: فجنس هؤلاء المشركين وأمثالهم، ممن يعبد الأولياء والصالحين، نحكم بأنهم مشركون; ونرى كفرهم، إذا قامت عليهم الحجة الرسالية; وما عدا هذا من الذنوب، التي هي دونه في المرتبة والمفسدة، لا نكفر بها. ولا نحكم على أحد من أهل القبلة، الذين باينوا لعباد الأوثان والأصنام والقبور، بمجرد ذنب ارتكبوه، وعظيم جرم اجترحوه; وغلاة الجهمية والقدرية والرافضة، ونحوهم ممن كفرهم السلف، لا نخرج فيهم عن أقوال أئمة الهدى والفتوى، من سلف هذه الأمة، ونبرأ إلى الله مما أتت به الخوارج، وقالته في أهل الذنوب من المسلمين. قال رحمه الله: ومجرد الإتيان بلفظ الشهادة، من غير علم بمعناها، ولا عمل بمقتضاها: لا يكون به المكلف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 522 مسلما; بل هو حجة على ابن آدم، خلافا لمن زعم أن الإيمان مجرد الإقرار، كالكرامية، ومجرد التصديق كالجهمية. وقد أكذب الله المنافقين، فيما أتوا به وزعموه من الشهادة، وأسجل على كذبهم، مع أنهم أتوا بألفاظ مؤكدة بأنواع من التأكيدات، قال تعالى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [سورة المنافقون آية: 1] ، فأكدوا بلفظ الشهادة، وإن المؤكدة، واللام، وبالجملة الاسمية; فأكذبهم، وأكد تكذيبهم، بمثل ما أكدوا به شهادتهم، سواء بسواء; وزاد التصريح باللقب الشنيع، والعلم البشع الفظيع. وبهذا تعلم: أن مسمى الإيمان، لا بد فيه من التصديق والعمل; ومن شهد أن لا إله إلا الله، وعبد غيره، فلا شهادة له، وإن صلى، وزكى، وصام، وأتى بشيء من أعمال الإسلام; قال تعالى لمن آمن ببعض الكتاب ورد بعضا: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} [سورة البقرة آية: 85] الآية، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً} [سورة النساء آية: 150] الآية، وقال تعالى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [سورة المؤمنون آية: 117] . والكفر نوعان: مطلق، ومقيد; فالمطلق هو: الكفر بجميع ما جاء به الرسول والمقيد: أن يكفر ببعض ما جاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 523 به الرسول; حتى إن بعض العلماء كفر من أنكر فرعا مجمعا عليه، كتوريث الجد، أو الأخت، وإن صلى وصام، فكيف بمن يدعو الصالحين، ويصرف لهم خالص العبادة ولبها؟ وهذا مذكور في المختصرات، من كتب المذاهب الأربعة; بل كفروا ببعض الألفاظ التي تجري على ألسن بعض الجهال، وإن صلى وصام من جرت على لسانه. قال رحمه الله: والصحابة كفروا من منع الزكاة، وقاتلوهم، مع إقرارهم بالشهادتين، والإتيان بالصلاة، والصوم، والحج قال رحمه الله: وأجمعت الأمة على كفر بني عبيد القداح، مع أنهم يتكلمون بالشهادتين، ويصلون ويبنون المساجد، في قاهرة مصر، وغيرها; وذكر أن ابن الجوزي صنف كتابا في وجوب غزوهم وقتالهم، سماه: النصر على مصر; قال: وهذا يعرفه من له أدنى إلمام بشيء من العلم والدين. فتشبيه عباد القبور بأنهم يصلون، ويصومون، ويؤمنون بالبعث، مجرد تعمية على العوام وتلبيس، لينفق شركهم، ليقال بإسلامهم وإيمانهم، ويأبى الله ذلك، ورسوله والمؤمنون. وأما مسائل: القدر، والجبر، والإرجاء، والإمامة، والتشيع، ونحو ذلك، من المقالات، والنحل، فهو أيضا فيها على ما كان عليه السلف الصالح، وأئمة الهدى والدين; ويبرأ إلى الله مما قالته القدرية النفاة، والقدرية المجبرة. وما قالته المرجئة، والرافضة، وما عليه غلاة الشيعة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 524 والناصبة; ويوالي جميع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويكف عما شجر بينهم; ويرى أنهم أحق الناس بالعفو عما يصدر منهم، وأقرب الخلق إلى مغفرة الله وإحسانه، لفضائلهم، وسوابقهم، وجهادهم، وما جرى على أيديهم، من فتح القلوب بالعلم النافع، وفتح البلاد، ومحو آثار الشرك، وعبادة الأوثان، والنيران، والأصنام، والكواكب، ونحو ذلك مما عبده جهال الأنام. ويرى البراءة مما عليه الرافضة، وأنهم سفهاء، لئام; ويرى أن أفضل الأمة بعد نبيها أبو بكر، فعمر، فعثمان، فعلي، رضي الله عنهم أجمعين، ويعتقد أن القرآن - الذي نزل به الروح الأمين، على قلب سيد المرسلين، وخاتم النبيين - كلام الله، غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود. ويبرأ من رأي الجهمية القائلين بخلق القرآن، ويحكي تكفيرهم عن جمهور السلف، أهل العلم والإيمان. ويبرأ من رأي الكلابية، أتباع عبد الله بن سعيد بن كلاب، القائلين بأن كلام الله، هو المعنى القائم بنفس الباري، وأن ما نزل به جبريل عليه السلام حكاية، أو عبارة عن المعنى النفسي; ويقول: هذا من قول الجهمية; وأول من قسم هذا التقسيم، هو: ابن كلاب، وأخذ عنه الأشعري، وغيره، كالقلانسي; ويخالف الجهمية في كل ما قالوه وابتدعوه في دين الله. ولا يرى ما ابتدعته الصوفية، من البدع، والطرائق، المخالفة لهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 525 وسنته، في العبادات، والخلوات، والأذكار المخالفة للشرع. ولا يرى ترك السنن والأخبار النبوية لرأي فقيه، ومذهب عالم، خالف ذلك باجتهاده، بل السنة أجل في صدره وأعظم عنده، من أن تترك لقول أحد، كائنا من كان; قال عمر بن عبد العزيز: لا رأي لأحد مع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ نعم عند الضرورة، وعدم الأهلية والمعرفة بالسنن والأخبار، وقواعد الاستنباط والاستظهار، يصار إلى التقليد، لا مطلقا، بل فيما يعسر ويخفى. ولا يرى إيجاب ما قاله المجتهد، إلا بدليل تقوم به الحجة، من الكتاب والسنة، خلافا لغلاة المقلدين. ويوالي الأئمة الأربعة، ويرى فضلهم وإمامتهم، وأنهم في الفضل والفضائل، في غاية رتبة يقصر عنها المتطاول; وميله إلى أقوال الإمام أحمد أكثر. ويوالي كافة أهل الإسلام، وعلمائهم، من أهل الحديث، والفقه، والتفسير، وأهل الزهد والعبادة; ويرى المنع من الانفراد عن أئمة الدين، من السلف الماضين، برأي مبتدع، أو قول مخترع; فلا يحدث في الدين ما ليس له أصل يتبع، وما ليس من أقوال أهل العلم والأثر; ويؤمن بما نطق به الكتاب، وصحت به الأخبار، وجاء الوعيد عليه، من تحريم دماء المسلمين، وأموالهم، وأعراضهم; ولا يبيح من ذلك إلا ما أباحه الشرع، وأهدره الرسول صلى الله عليه وسلم. ومن نسب إليه خلاف ذلك، فقد كذب وافترى، وقال ما ليس له به علم، وسيجزيه الله ما وعد به أمثاله من المفترين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 526 وأبدى رحمه الله، من التقارير المفيدة، والأبحاث الفريدة، على كلمة الإخلاص والتوحيد: شهادة أن لا إله إلا الله، ما دل عليه الكتاب المصدق، والإجماع المستنير المحقق، من نفي استحقاق العبادة والإلهية عما سوى الله، وإثبات ذلك لله سبحانه على وجه الكمال، المنافي لكليات الشرك وجزئياته، وأن هذا: هو معناها، وضعا ومطابقة، خلافا لمن زعم غير ذلك من المتكلمين، كمن يفسر ذلك بالقدرة على الاختراع، أو أنه سبحانه غني عما سواه، مفتقر إليه من عداه، فإن هذا لازم المعنى، إذ الإله الحق لا يكون إلا قادرا، غنيا عما سواه; وأما كون هذا، هو المعنى المقصود بالوضع، فليس كذلك. والمتكلمون خفي عليهم هذا، وظنوا أن تحقيق توحيد الربوبية والقدرة هو الغاية المقصودة، والفناء فيه هو تحقيق التوحيد; وليس الأمر كذلك، بل هذا لا يكفي في أصل الإسلام، إلا إذا أضيف إليه، واقترن به توحيد الإلهية: إفراد الله تعالى بالعبادة، والحب، والخضوع، والتعظيم، والإنابة، والتوكل، والخوف، والرجاء، وطاعة الله، وطاعة رسوله: هذا أصل الإسلام، وقاعدته; والتوحيد الأول، الذي عبروا به عنها، هو: توحيد الربوبية، والقدرة والخلق، والإيجاد، وهو الذي يبنى عليه توحيد العمل، والإرادة، وهو دليله الأكبر، وأصله الأعظم. وكثيرا ما يحتج به سبحانه، على من صرف العمل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 527 لغيره، قال تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [سورة البقرة آية: 163] الآيات، وقال: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} [سورة النمل آية: 62] إلى آخر الآيات، وقال تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [سورة الأعراف آية: 54] الآية. ومن نظر في تفاسير السلف، علم هذا. وقد قرر رحمه الله، على شهادة أن محمدا رسول الله - في بيان ما تستلزمه هذه الشهادة، وتستدعيه، وتقتضيه، من تجريد المتابعة، والقيام بالحقوق النبوية: من الحب، والتوقير، والنصرة، والمتابعة، والطاعة، وتقديم سنته صلى الله عليه وسلم على كل سنة وقول, والوقوف معها حيث وقفت، والانتهاء حيث انتهت، في أصول الدين، وفروعه، باطنه، وظاهره، خفيه، وجليه، كليه، وجزئيه - ما ظهر به فضله، وتأكد علمه ونبله، وأن من نقل عنه ضد ذلك من دعاة الضلال، فقد فسد قصده وعقله. والواقف على مصنفاته وتقريراته، يعرف: أنه سباق غايات، وصاحب آيات; لا يشق غباره، ولا تدرك في البحث والإفادة آثاره، وأن أعداءه، ومنازعيه وخصومه، في الفضل، وشانئيه، يصدق عليهم المثل السائر، بين أهل المحابر والدفاتر، شعر: حسدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيه ... فالقوم أعداء له وخصوم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 528 كضرائر الحسناء قلن لوجهها ... حسدا وبغيا إنه لدميم وقال رحمه الله، على قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [سورة الشورى آية: 52] : فالرسول صلى الله عليه وسلم جعله الله إماما للناس، وكما أنزل عليه القرآن، أنزل عليه السنة، موافقة له، مبينة له، فكل ما وافق ما جاء به، فهو صراط مستقيم، وما خالفه فهو بدعة وضلال وخيم; وقوله: {صِرَاطِ اللَّهِ} أي الدال على الله، وفيه تشريفه، وتشريف شرعه، بإضافته إلى الله، فما أجهل من ابتدع قولا مخالفا لقوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [سورة آل عمران آية: 31] . وله رحمه الله ترجمة في كتاب التوحيد، الذي صنف، بين فيها طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم قال: باب من أطاع العلماء والأمراء، في تحليل ما حرم الله، أو تحريم ما أحل الله، فقد اتخذهم أربابا من دون الله، واستدل بحديث عدي; وله بحوث في تحقيق شهادة أن محمدا رسول الله، بين بعضها الشيخ حسين بن غنام، في تاريخه. وله رحمه الله، من المناقب والمآثر، ما لا يخفى على أهل الفضائل والبصائر; ومما اختصه الله به من الكرامة تسلط أعداء الدين، وخصوم عباد الله المؤمنين، على مسبته والتعرض لبهته وغيبته، قال الشافعي رحمه الله: ما أرى الناس ابتلوا بشتم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 529 ليزيدهم الله بذلك ثوابا، عند انقطاع أعمالهم; وأفضل الأمة بعد نبيها: أبو بكر، وعمر; وقد ابتليا، من طعن أهل الجهالة، وسفهائهم بما لا يخفى. وما حكينا عن الشيخ، حكاه أهل المقالات، عن أهل السنة والجماعة مجملا ومفصلا; قال أبو الحسن، الأشعري: جملة ما عليه أصحاب الحديث وأهل السنة، الإقرار بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، وما جاؤوا به من عند الله، وما رواه الثقات، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يردون من ذلك شيئا. وأن الله تعالى: إله واحد، أحد، فرد، صمد، لم يتخذ صاحبة، ولا ولدا، وأن محمدا، عبده، ورسوله، وأن الجنة حق، وأن النار، حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور، وأن الله تعالى على عرشه، كما قال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [سورة طه آية: 5] ، وأن له يدين بلا كيف، كما قال: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [سورة ص آية: 75] ، وكما قال: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [سورة المائدة آية: 64] ، وأن له عينين بلا كيف، وأن له وجها، جل ذكره، كما قال تعالى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالأِكْرَامِ} [سورة الرحمن آية: 27] ، وأن أسماء الله تعالى لا يقال إنها غير الله كما قالت المعتزلة والخوارج. وأقروا: أن لله علما، كما قال: {أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 530 [سورة النساء آية: 166] ، وكما قال تعالى: {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ} [سورة فاطر آية: 11] وأثبتوا السمع والبصر، ولم ينفوا ذلك، كما نفته المعتزلة; وأثبتوا لله القوة، كما قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} [سورة فصلت آية: 15] ، وقالوا: إنه لا يكون في الأرض من خير ولا شر إلا ما شاء الله، وأن الأشياء تكون بمشيئة الله تعالى، كما قال: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [سورة الإنسان آية: 30] ، وكما قال المسلمون: ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وقالوا: إن أحدا لا يستطيع أن يفعل شيئا، قبل أن يفعله الله، أو يكون أحد يقدر على أن يخرج عن علم الله، وأن يفعل شيئا علم الله أنه لا يفعله. وأقروا: أنه لا خالق إلا الله، وأن أعمال العباد يخلقها الله، وأن العباد لا يقدرون أن يخلقوا شيئا، وأن الله تعالى وفق المؤمنين لطاعته، وخذل الكافرين بمعصيته، ولطف بالمؤمنين، وأصلحهم، وهداهم، ولم يلطف بالكافرين، ولا أصلحهم، ولا هداهم; ولو أصلحهم لكانوا صالحين، ولو هداهم لكانوا مهتدين، وأن الله تعالى يقدر، أن يصلح الكافرين، ويلطف بهم، حتى يكونوا مؤمنين، ولكنه أراد أن يكونوا كافرين، كما علم، وخذلهم، وأضلهم، وطبع على قلوبهم، وأن الخير والشر، بقضاء الله وقدره. ويؤمنون بقضاء الله وقدره، خيره وشره، حلوه ومره، ويؤمنون أنهم لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا، إلا ما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 531 شاء الله، كما قال; ويلجئون أمرهم إلى الله، ويثبتون الحاجة إلى الله، في كل وقت، والفقر إلى الله في كل حال. ويقولون: إن كلام الله غير مخلوق، والكلام في الوقف، واللفظ؛ من قال باللفظ أو بالوقف، فهو مبتدع عندهم، لا يقال: اللفظ بالقرآن مخلوق، ولا يقال غير مخلوق; ويقولون: إن الله تعالى يرى بالأبصار يوم القيامة، كما يرى القمر ليلة البدر، يراه المؤمنون، ولا يراه الكافرون، لأنهم عن الله محجوبون، قال تعالى: {كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [سورة المطففين آية: 15] ، وإن موسى سأل الله سبحانه الرؤية في الدنيا، وإن الله تجلى للجيل، فجعله دكا، فأعلمه بذلك أنه لا يراه في الدنيا، بل يراه في الآخرة. ولم يكفروا أحدا من أهل القبلة بذنب يرتكبه، كنحو الزنى، والسرقة، وما أشبه ذلك من الكبائر، وهم بما معهم من الإيمان مؤمنون، وإن ارتكبوا الكبائر; والإيمان عندهم، هو: الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، وبالقدر خيره وشره، حلوه ومره، وأن ما أخطأهم لم يكن ليصيبهم، وما أصابهم لم يكن ليخطئهم; والإسلام، هو: أن يشهد أن لا إله إلا الله، على ما جاء به الحديث; والإسلام عندهم، غير الإيمان; ويقرون بأن الله مقلب القلوب. ويقرون بشفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنها لأهل الكبائر من أمته، وبعذاب القبر، وأن الحوض حق، والمحاسبة من الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 532 للعباد حق، والوقوف بين يدي الله حق، ويقرون: بأن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، ولا يقولون: مخلوق ولا غير مخلوق، ويقولون: أسماء الله تعالى هي الله، ولا يشهدون على أحد من أهل الكبائر بالنار، ولا يحكمون بالجنة لأحد من الموحدين، حتى يكون الله هو نزلهم حيث شاء، ويقولون: أمرهم إلى الله، إن شاء عذبهم، وإن شاء غفر لهم. ويؤمنون بأن الله يخرج قوما من الموحدين من النار، على ما جاءت الروايات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وينكرون الجدل، والمراء في الدين، والخصومة في القدر، والمناظرة فيما يتناظر فيه أهل الجدل، ويتنازعون فيه من دينهم، بالتسليم للروايات الصحيحة، ولما جاءت به الآثار التي رواها الثقات، عدلا عن عدل، حتى ينتهي ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولا يقولون: كيف؟ ولا: لم؟ لأن ذلك، بدعة; ويقولون: إن الله تعالى لم يأمر بالشر بل نهى عنه، وأمر بالخير ولم يرض بالشر، وإن كان مريدا له. ويعرفون حق السلف، الذين اختارهم الله لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم، ويأخذون بفضائلهم، ويمسكون عما شجر بينهم، صغيرهم وكبيرهم; ويقدمون: أبا بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم عليا رضي الله عنهم. ويقرون أنهم الخلفاء الراشدون المهديون، وأنهم أفضل الناس كلهم بعد نبيهم; ويصدقون بالأحاديث التي جاءت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 533 الله ينْزل إلى سماء الدنيا، فيقول: هل من مستغفر ... " 1؟ كما جاء في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. ويأخذون بالكتاب والسنة، كما قال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [سورة النساء آية: 59] ويرون اتباع من سلف من أئمة الدين، وأن لا يبتدع في الدين ما لم يأذن به الله. ويقرون أن الله تعالى يجيء يوم القيامة، كما قال تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} [سورة الفجر آية: 22] ، وأن الله يقرب من خلقه كيف شاء، كما قال تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [سورة ق آية: 16] ؛ ويرون، العيد، والجمعة، والجماعة، خلف كل إمام، بر، أو فاجر؛ ويثبتون المسح على الخفين سنة، ويرونه في الحضر والسفر. ويثبتون فرض الجهاد للمشركين، منذ بعث الله نبيه صلى الله عليه وسلم إلى آخر عصابة تقاتل الدجال; وبعد ذلك يرون الدعاء لأئمة المسلمين بالصلاح، ولا يخرج عليهم بالسيف، ولا يقاتلون في الفتنة; ويصدقون بخروج الدجال، وأن عيسى بن مريم يقتله; ويؤمنون بمنكر، ونكير، والمعراج، والرؤيا في المنام، وأن الدعاء للموتى من المسلمين، والصدقة عنهم بعد موتهم، تصل إليهم; ويصدقون بأن في الدنيا سحرة، وأن الساحر كافر، كما قال تعالى: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ} [سورة البقرة آية: 102] ، وأن السحر كائن موجود في الدنيا.   1 البخاري: الجمعة (1145) والدعوات (6321) والتوحيد (7494) , ومسلم: صلاة المسافرين وقصرها (758) , والترمذي: الصلاة (446) والدعوات (3498) , وأبو داود: الصلاة (1315) والسنة (4733) , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1366) , وأحمد (2/264 ,2/267 ,2/282 ,2/433) , ومالك: النداء للصلاة (496) , والدارمي: الصلاة (1479) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 534 ويرون الصلاة على كل من مات من أهل القبلة، مؤمنهم، وفاجرهم، ويقرون: أن الجنة والنار، مخلوقتان، وأن من مات مات بأجله، وكذلك من قتل قتل بأجله، وأن الأرزاق من قبل الله، يرزقها عباده، حلالا كانت أو حراما، وأن الشيطان يوسوس للإنسان، ويشككه، ويخطيه، وأن الصالحين قد يجوز أن يخصهم الله بآيات تظهر عليهم، وأن السنة لا تنسخ الآيات، وأن الأطفال أمرهم إلى الله، إن شاء عذبهم، وإن شاء فعل بهم ما أراد، وأن الله تعالى عالم ما العباد عاملون، وكتب أن ذلك يكون، وأن الأمور بيد الله. ويرون الصبر على حكم الله، والأخذ بأمر الله، والانتهاء عما نهى الله عنه، وإخلاص العمل، والنصيحة للمسلمين، ويدينون بعبادة الله تعالى في العابدين، والنصيحة لأئمة المسلمين، واجتناب الكبائر، والزنى، وقول الزور، والمعصية، والفخر، والكبر، والإزراء على الناس، والعجب؛ ويرون: مجانبة كل داع إلى بدعة، والتشاغل بقراءة القرآن، وكتابة الآثار، والنظر في الفقه، مع التواضع والاستكانة، وحسن المأكل والمشرب، وجملة ما يأمرون به، ويستعملونه، ويرونه. وبكل ما ذكرنا من قولهم نقول، وإليه نذهب. انتهى. وبعض هذا البحث، ذكره شيخنا عبد اللطيف، في: التأسيس، وأحببت إبرازه من مظانه، لينكشف للناس حقيقة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 535 ما عليه الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ويزول عنهم الوهم والإشكال; وحسبنا الله ونعم الوكيل، وصلى الله على أشرف المرسلين محمد، وآله وصحبه أجمعين. (رسالة الشيخ إسحاق بن عبد الرحمن إلى عبد الله بن أحمد يحثه فيها على طاعة الله) وله أيضا، رحمه الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم من إسحاق بن عبد الرحمن، إلى المحب المكرم عبد الله بن أحمد; وفقه الله للطريق الأحمد. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وغير ذلك. الموجب لهذه المكاتبة: النصيحة، وحسن الظن بك; وأتيقن أن الحق ضالتك; فالذي أوصيك به: أن تطيع الله ورسوله، وتقدم ذلك فيما أشكل عليك; قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [سورة النساء آية: 59] . قال المفسرون: الرد إلى الله هو الرد إلى كتابه، والرد إلى الرسول الرد إلى سنته. وقد نهى الله عن طاعة غيره في قوله تعالى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاّض يَخْرُصُونَ} [سورة الأنعام آية: 116] . فإذا كان الله يحذر نبيه من اتباع أكثر الناس، فما الظن بهذا الزمن، وأهله؟ وقد قال الصادق المصدوق: " بدأ الإسلام غريبا، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 536 وسيعود غريبا كما بدأ " 1. وأي اغتراب أعظم من هذا الاغتراب؟! قال صاحب التحفة، رحمه الله: فالمؤمنون وسط في أنبياء الله ورسله وعباده الصالحين، لم يغلوا فيهم كما غلت النصارى، فـ {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [سورة التوبة آية: 31] ، ولا جفوا كما جفت اليهود، فكانوا: {وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ} [سورة آل عمران آية: 21] ، بل آمنوا برسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ} [سورة الأعراف آية: 157] ، ولم يتخذوا الأنبياء أربابا، كما قال تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [سورة آل عمران آية: 79-80] ، وقال عيسى عليه السلام: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ} [سورة المائدة آية: 117] . قال: وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحقق التوحيد، ويعلمه أمته، حتى إنه قال له رجل: ما شاء الله، وشئت، قال: " أجعلتني لله ندا؟ بل ما شاء الله وحده " 2، وقال: " لا تقولوا: ما شاء الله، وشاء محمد، ولكن قولوا: ما شاء الله، ثم شاء محمد "   1 مسلم: الإيمان (145) , وابن ماجه: الفتن (3986) , وأحمد (2/389) . 2 أحمد (1/283) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 537 ونهى عن الحلف بغير الله وقال: " من كان حالفا، فليحلف بالله، أو ليصمت "1، وقال: " من حلف بغير الله، فقد أشرك "2، وقال: " لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله، ورسوله " 3؛ ولهذا اتفق العلماء على أنه ليس لأحد أن يحلف بمخلوق، كالكعبة، ونحوها. ونهى صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ القبور مساجد، فقال في مرض موته: " لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " 4، يحذر ما فعلوا، قالت عائشة: ولولا ذلك لأبرز قبره، ولكن خشي أن يتخذ مسجدا; وقال قبل أن يموت بخمس: " إن من كان قبلكم، كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك " 5 وقال: " اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد " 6، وقال: " لا تتخذوا قبري عيدا، وصلوا علي، فإن صلاتكم تبلغني " 7؛ ولهذا: اتفق العلماء على أنه لا يجوز بناء المساجد على القبور، ولا تشرع الصلاة عندها; ويقولون: الصلاة عندها باطلة، انتهى. فقد علمت كلام الصادق المصدوق، فلا يكون قول الغير في نفسك أعظم من كلام نبيك، فما حجتك يوم القيامة، إذا قال الله: لأي شيء أطريت رسولي، ورفعته فوق ما أنزلته؟ أتقول: سمعت في الأشعار خلاف قوله، فاتبعتها؟ أم تقول: لم يبلغني كلام نبيك؟ أعد للسؤال جوابا، قال عمر رضي الله عنه في بعض خطبه: " لتسألن عن الرسول، ومن   1 البخاري: الشهادات (2679) , ومسلم: الأيمان (1646) , وأبو داود: الأيمان والنذور (3249) , وأحمد (2/7 ,2/11) , ومالك: النذور والأيمان (1037) , والدارمي: النذور والأيمان (2341) . 2 الترمذي: النذور والأيمان (1535) , وأبو داود: الأيمان والنذور (3251) , وأحمد (2/34 ,2/86 ,2/125) . 3 البخاري: أحاديث الأنبياء (3445) , وأحمد (1/24 ,1/47) . 4 البخاري: الجنائز (1390) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (531) , والنسائي: المساجد (703) , وأحمد (1/218 ,6/34 ,6/121 ,6/146 ,6/255) , والدارمي: الصلاة (1403) . 5 مسلم: المساجد ومواضع الصلاة (532) . 6 مالك: النداء للصلاة (416) . 7 أبو داود: المناسك (2042) , وأحمد (2/367) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 538 أرسله، وما جاء به، وما قد قال ". وفي بعض الآثار: " كلمتان يسأل عنهما الأولون والآخرون: ماذا كنتم تعبدون؟ وماذا أجبتم المرسلين؟ ". ويكفيك الميزان السوي العادل، في كل فعل وقول صدر من الناس، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: " من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد " 1. وهذا الحديث أصل من أصول الدين، فمن تأمل ما في مطاويه، وتفهم أصوله ومبانيه، استوحش من كثير من عبادات لم يشرعها الله ولا رسوله; فإذا كان كل عمل ليس عليه أمره صلى الله عليه وسلم فهو مردود على صاحبه لا يقبله الله، تبين لك أني لم أجازف في إنكار هذه المبتدعات، وقد أخبر أنها تقع، بقوله صلى الله عليه وسلم: " خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم. ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف، يفعلون ما لا يؤمرون " 2. أفتظن أنه كان فبان، وسلمت منه هذه الأزمان؟ أم تطن أن كلام الصادق المصدوق لا يوجد مصداقه؟ ولا يسلم من المحدثات إلا من وفق للكتاب والسنة، وجعلهما الميزان، لما حسن عنده وزان. والعلماء يجري عليهم الخطأ، وليسوا بمعصومين، ومن حسن الظن بهم من دون نظر في الكتاب والسنة، هلك; انظر إلى إيقاد السرج على القبور اليوم، قد عم وطم، وقد صرفت له الأوقاف، واستحسنه بعض العلماء، وكتبوا على أوقافه، وكذلك تجصيص القبور، والرسول صلى الله عليه وسلم قد   1 مسلم: الأقضية (1718) , وأحمد (6/146 ,6/180 ,6/256) . 2 البخاري: الأيمان والنذور (6695) , ومسلم: فضائل الصحابة (2535) , والترمذي: الفتن (2221 ,2222) , والنسائي: الأيمان والنذور (3809) , وأبو داود: السنة (4657) , وأحمد (4/426 ,4/427 ,4/436 ,4/440) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 539 لعن من جصص القبور، ولعن زائرات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسرج; هذه السنة تنادي بلعنهم، أتظن هذا الإجماع يعتد به؟ هذا والله كإجماع الناس على عبادة القبور في زمن الفترة. ويشهد لما قلنا: قوله صلى الله عليه وسلم: " لتتبعن سنن من كان قبلكم، حذو القذة بالقذة " 1، وفي بعض طرقه: " حتى لو كان فيهم من يأتي أمه علانية، لكان فيكم من يفعل ذلك " 2، وفي قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتقدم: " إن من كان قبلكم، كانوا يتخذون القبور مساجد " 3 إيماء إلى هذا المعنى. وقد أخبر أن علماء بني إسرائيل كتموا العلم، وسيقع كتمان العلم في هذه الأمة، ولو كان مساعدة العلماء في بعض الأمور دليلا، لكان المأمون وأتباعه من علماء وقته، الذين لهم من العلم ما ليس لغيرهم، مصيبين، لأنهم صنفوا فيها المصنفات، ودعوا الناس إليها، ولم يكن على الحق، إلا الإمام أحمد، وقلائل من الناس من أهل السنة، خائفين مستخفين; أتظن أن السواد الأعظم الكثرة في ذلك؟ بل: السواد الأعظم، والله، الإمام أحمد، ومحمد بن نصر الخزاعي، ومن وافقهما. ولو استدل مستدل، في وقتهم، بعموم ظاهر قوله صلى الله عليه وسلم: " عليكم بالسواد الأعظم " 4 لهلك; لأن السواد الأعظم: أهل الحق، وإن قلوا. قال صلى الله عليه وسلم " لا تزال طائفة من أمتي على   1 البخاري: أحاديث الأنبياء (3456) , ومسلم: العلم (2669) , وأحمد (3/84 ,3/89) . 2 الترمذي: الإيمان (2641) . 3 مسلم: المساجد ومواضع الصلاة (532) . 4 ابن ماجه: الفتن (3950) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 540 الحق ظاهرين، لا يضرهم من خذلهم، ولا من خالفهم، إلى يوم القيامة " 1، قال: الفضيل بن عياض، رحمه الله: لا تغتر بالباطل لكثرة الهالكين، ولا تستوحش من الحق لقلة السالكين. إذا تقرر هذا، فقد عرفت - سلمك الله - كلام الناس في مسألة سؤال الله بالمخلوق، والإقسام على الله به، وقد ذاكرتك فيها بأن الذي نعتقده: أنا لا نكفر بها أحدا، بل نقول: هي بدعة شنيعة، نهى عنها السلف، وقد قال مالك رضي الله عنه: " لن يصلح آخر هذه الأمة، إلا ما أصلح أولها"، وقوله صلى الله عليه وسلم: " دع ما يريبك إلى ما لا يريبك " 2. وإن لم يكن هذا من الشرك، فهو وسيلة إليه، لا بد أن يقوم بقلب صاحبه شيء من الاعتماد. ولكن بقي مسألة، وهي التي لا حجة للمخالف فيها أصلا، وهي إسناد الخطاب إلى غير الله، في شيء من الأمور، بياء النداء، إذا كان يشتمل على رغبة، أو رهبة; فهذا هو الدعاء الذي صرفه لغير الله شرك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الدعاء مخ العبادة " 3، وقال تعالى: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ} [سورة الرعد آية: 14] ، وقال تعالى: {فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ} [سورة الشعراء آية: 213] ، وقال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [سورة غافر آية: 60] . ومن الدليل على أن النداء المتضمن لما ذكرنا، عين   1 البخاري: المناقب (3641) , ومسلم: الإمارة (1037) . 2 الترمذي: صفة القيامة والرقائق والورع (2518) , والنسائي: الأشربة (5711) , وأحمد (1/200) , والدارمي: البيوع (2532) . 3 الترمذي: الدعوات (3371) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 541 الدعاء بلا شك، قوله تعالى: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ} [سورة الانبياء آية: 83] وقال: {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ} [سورة آل عمران آية: 38] ، وقال: {ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا} [سورة آية: 3] إلى قوله: {وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّاً} [سورة مريم آية: 4] : فسمى النداء المتقدم في هذه الآيات، دعاء، والدعاء ممنوع لأنه عبادة، وهذا لا محيد عنه، قال تعالى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [سورة المؤمنون آية: 117] . وأما النداء المجرد، الخالي من رغبة ورهبة، فليس هو محل النّزاع; وإن كان أهل الشبه يروجون به، ويغالطون به، وما كان نداء زكريا به، مثل نداء الله لموسى، في قوله: {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً} [سورة مريم آية: 52] . ومن قال: إن ندائي الرسول صلى الله عليه وسلم وقولي: يا رسول الله، خال، مجرد، حكمه حكم قولي: يا فلان أقبل، أو يا فلان: اخرج، فقد كذب; فإذا لم يكن كذلك، فهو حقيقة الدعاء، لأن دعاء الرهبة والرغبة ممنوع; وبالنهي عنه مقطوع، قال الله تعالى: {وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} [سورة التوبة آية: 59] . وقال: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ} [سورة النور آية: 52] الآية. فجعل الطاعة للرسول، دون الخشية والتقوى، وجعل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 542 الحسب والرغبة له تعالى دون الرسول، لأنهما من أنواع العبادة، وصرفهما لغيره سبحانه شرك، وجعل الإيتاء إلى الرسول، لأنه يقدر عليه; وقال: {وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [سورة الشرح آية: 8] ، وقال: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ} [سورة يونس آية: 107] . فنفى كشف الضر عن كل أحد، بلا النافية، وأثبته لنفسه بالاستثناء، وهذا من أعظم النفي، كما في قوله: {لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ} [سورة الصافات آية: 35] فإنه نفى بها جميع الآلهة، وأثبت الألوهية له، دون كل من سواه، فأخرجت جميع المخلوقات، فاعرف الفرق بين الندائين، كما عرفت الفرق بين قوله صلى الله عليه وسلم: " إنه لا يستغاث بي، وإنما يستغاث بالله "، وقوله: {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} [سورة القصص آية: 15] . ومن لا بصيرة لديه يظن أن القرآن يخالف السنة. ومن تأمل تفاسير القرآن التي اتصلت بالسند إلى الصحابة، كتفسير الثعلبي، وتفسير البغوي، وتفسير ابن جرير الطبري، عرف مقاصد القرآن. ومما يزيد المعنى إيضاحا: ما رواه ابن أبي الدنيا بسنده، أن أبا طلحة، خرج من داره، يريد أن يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم من مال أتاه، فوجده يخطب، وهو يقول: " ومن يستغن يغنه الله، ومن يستعف يعفه الله، فقال بأعلى صوته: حتى منك يا رسول الله؟ قال: حتى مني. فرجع ولم يسأله شيئا، قال أبو طلحة: فما لبثت أن كنت، من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 543 أكثر أهل المدينة مالا". هذا في الأمور المقدور للنبي صلى الله عليه وسلم لأنه صلى الله عليه وسلم بعث لتشييد قواعد الدين، وسد الذرائع المفضية إلى سؤال المخلوقين ما لا يقدر عليه إلا رب العالمين. والله المرجو أن يشرح صدورنا للإسلام، وأن لا يجعلنا ممن أعرض عن ذكر ربه، واتبع هواه، وكان أمره فرطا; فاسأل ربك في أوقات الإجابة أن يريك الحق حقا، ويرزقك اتباعه، ويريك الباطل باطلا، ويرزقك اجتنابه; ولا يجعله ملتبسا عليك، فتضل; والسلام. وصلى الله على محمد، وآله وصحبه، وسلم. (كيفية حياة الرسول في قبره) سئل الشيخ: إسحاق بن عبد الرحمن بن حسن، عن كيفية حياة الرسول في قبره؟ وهل هي كحياة الشهداء؟ أم أعلى عند الله؟ فأجاب: الجواب وبالله التوفيق: قال الحافظ الحجة شمس الدين ابن القيم، رحمه الله تعالى: لم يرد حديث صحيح، أنه صلى الله عليه وسلم حي في قبره، لكن نقطع أن الأنبياء، لا سيما خاتمهم وأفضلهم محمد صلى الله عليه وسلم أعلى مرتبة من الشهداء، وقد قال سبحانه وبحمده عن الشهداء، إنهم: {أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [سورة آل عمران آية: 169] ، فالأنبياء أولى بذلك، قال تعالى: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [سورة آل عمران آية: 169] ، ومع ذلك، فالشهداء داخلون، في قوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [سورة آل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 544 عمران آية: 185] ، {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [سورة الزمر آية: 30] . أثبت سبحانه للشهداء موتا، بدخولهم في العموم، كالأنبياء، وهو الموت المشاهد، ونفى عنهم موتا؛ فالموت المثبت غير الموت المنفي; فالموت المثبت هو: فراق الروح الجسد، وهو مشاهد محسوس; والمنفي: زوال الحياة بالجملة من الروح والبدن; وقال البيضاوي، على قوله سبحانه: {بَلْ أَحْيَاءٌ} : فيه تنبيه على أن حياتهم ليست بالجسد، ولا بجنس ما يحس به من الحيوانات، وإنما هي أمر لا يدرك بالعقل، بل بالوحي، انتهى. وقال الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبو بطين، رحمه الله، في رده على العراقي: ويدل على بطلان دعوى من ادعى: أن النبي صلى الله عليه وسلم حي في قبره كحياته لما كان على وجه الأرض، ما رواه أبو داود عنه صلى الله عليه وسلم: " ما من مسلم يسلم عليّ إلا رد الله علي روحي، حتى أرد عليه السلام "1، فهذا يدل على أن روحه الشريفة، ليست في بدنه، وإنما هي في أعلى عليين، ولها اتصال بالجسد، والله أعلم بحقيقته، لا يدركه الحس، ولا العقل. وليس ذلك خاصا به صلى الله عليه وسلم لحديث تقدم عنه، أنه صلى الله عليه وسلم قال: " ما من مسلم يمر بقبر أخيه، كان يعرفه في الدنيا، فيسلم عليه، إلا رد الله عليه روحه، حتى يرد عليه السلام ". وفي صحيح مسلم عنه صلى الله عليه وسلم: " إن أرواح الشهداء في حواصل   1 أبو داود: المناسك (2041) , وأحمد (2/527) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 545 طير خضر، تسرح في رياض الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى قناديل معلقة تحت العرش " 1 الحديث. وقد أخبر الله سبحانه أنهم في البرزخ {أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [سورة آل عمران آية: 169] . وقال أبو بكر الصديق: " أما الموتة التي كتبت عليك، فقد متّها، ولن يجمع الله عليك موتتين ". وقد قام الدليل القاطع أنه عند النفخة في الصور، لا يبقى أحد حيا، فلو كان الأمر كما يزعمون، لكان الله قد يجمع عليه موتتين. ولما قال صلى الله عليه وسلم: " أكثروا علي من الصلاة يوم الجمعة، فإن صلاتكم معروضة علي، قالوا: كيف تعرض عليك، وقد أرمت - يعني بليت - قال: إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء " 2، ولم يقل لهم: أنا حي في قبري، كحياتي الآن، صلوات الله وسلامه عليه. انتهى كلامه رحمه الله. وقال أيضا: ومقتضى قول من قال: ليس إلا أن غيبوا عنا، أنه يجوز أن يقال في الملائكة إنهم أموات، لكونهم مغيبين عنا. انتهى. وقال ابن القيم أيضا: وأما السلام على القبور، وخطابهم، فلا يدل على أن أرواحهم ليست في الجنة، وأنها على أفنية القبور، فهذا سيد ولد آدم الذي روحه في أعلى عليين، مع الرفيق الأعلى صلى الله عليه وسلم، يسلم عليه عند قبره، ويرد سلام المسلم عليه; وقد وافق ابن عمر رضي الله عنه أن أرواح   1 مسلم: الإمارة (1887) , والترمذي: تفسير القرآن (3011) , وابن ماجه: الجهاد (2801) , والدارمي: الجهاد (2410) . 2 النسائي: الجمعة (1374) , وأبو داود: الصلاة (1047 ,1531) , وابن ماجه: ما جاء في الجنائز (1636) , وأحمد (4/8) , والدارمي: الصلاة (1572) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 546 الشهداء في الجنة، ويسلم عليهم عند قبورهم، كما يسلم على غيرهم، كما علمنا صلى الله عليه وسلم أن نسلم عليهم، وكما كان الصحابة رضي الله عنهم يسلمون على شهداء أحد; وقد ثبت أن أرواحهم في الجنة، تسرح حيث شاءت، كما تقدم; ولا يضيق عطنك عن كون الأرواح في الملأ الأعلى، تسرح في الجنة حيث شاءت، وتسمع سلام المسلم عليها عند قبرها; وتدنو حتى ترد عليه السلام، وللروح شأن آخر، غير شأن البدن. وهذا " جبريل عليه السلام، رآه النبي صلى الله عليه وسلم وله ستمائة جناح، منها جناحان، قد سد بهما ما بين المشرق والمغرب ". وكان من النبي صلى الله عليه وسلم حتى وضع ركبتيه، ويديه، على فخذيه; وما أظنك يتسع عطنك أنه كان حينئذ في الملأ الأعلى، فوق السماوات، حيث هو مستقره، وقد دنا من النبي صلى الله عليه وسلم هذا الدنو، فإن التصديق بهذا، له قلوب خلقت له، وأهلت لمعرفته، ومن لم يتسع عطنه لهذا فهو أضيق أن يتسع للإيمان بالنّزول الإلهي إلى سماء الدنيا كل ليلة، وهو فوق سماواته على عرشه; انتهى كلام الشيخ شمس الدين، رحمه الله، وعفا عنه. وقال الشيخ حمد بن ناصر بن معمر، رحمه الله: وأما الكلام على حياة النبي صلى الله عليه وسلم فاعتقادنا في ذلك اعتقاد سلف الأمة وأئمتها، وهم الأسوة; وهي: أنه صلى الله عليه وسلم قبض ودفن، وزالت عنه الحياة الدنيوية، كما قال أبو بكر رضي الله عنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 547 حين قبله; قال: " طبت حيا، وميتا ... " إلخ، وأما حياة البرزخ فهو حي الحياة البرزخية، وكذلك الشهداء. فلو كان حيا حياة دنيوية، لرفعوا إليه الأمر فيما جرى بينهم، رضوان الله عليهم أجمعين، ولما عدلوا إلى التوسل بدعاء العباس. انتهى; وبه تم الجواب; وصلى الله على محمد. (الجواب عما ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى موسى وهو يصلي في قبره) وسئل الشيخ إسحاق بن عبد الرحمن بن حسن أيضا - رحمهم الله - عما ورد: أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى موسى وهو يصلي في قبره، ورآه يطوف بالبيت، ورآه في السماء، وكذلك الأنبياء. فأجاب: هذه الأحاديث وأشباهها، تمر كما جاءت، ويؤمن بها، إذ لا مجال للعقل في ذلك؛ ومن فتح على نفسه هذا الباب، هلك، في جملة من هلك; وقد غضب مالك بن أنس، لما سأله رجل عن الاستواء، فقال: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، إلى آخر كلامه، ثم قال: وما أراك إلا رجل سوء، فأمر بإخراجه; هذه عادة السلف. فهذه الأحاديث التي مر البحث فيها: خاض فيها بعض الزنادقة، وصنف مصنفا بناه عليها، وجادل، وما حل في أن من كان حيا هذه الحياة التي أطلقت في القرآن، فينبغي أن ينادى، إذ لا فرق عند هذا الجاهل بين الحياة الحسية والبرزخية، لأنه اشتبه عليه أمر هذه الصلاة، وأمر هذا الرزق، ولم يعلم أنه لا خلاف في أن أهل البرزخ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 548 يجري عليهم من نعيم الآخرة، ما يلتذون به مما هو ليس من عمل التكليف. ومعاذ الله: أن نعارض نص رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي رواه مسلم: " إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث " 1 إلخ، والحديث عام، لأن المقصود به: جنس بني آدم، لأن المفرد يعم، كما هو مقرر في محاله; ألم يعلم المسكين أن البرزخ طور ثان، وله حكم ثان؟ إذ لو كان صلى الله عليه وسلم بهذه المثابة، أنه يلاقي الأولياء والأفاضل، كما زعم بعض المصنفين، لبطل حكم الاجتهاد بعده، ولم يتراجع الصحابة رضوان الله عليهم بعده مسائل طال فيها نزاعهم إلى زمننا هذا. إذا تحققت هذه الإشارة، وتأملتها، فلا بد أن أنقل لك كلام ابن تيمية، قدس الله روحه، في أحاديث السؤال. قال ابن تيمية رحمه الله: أما رؤيا موسى في الطواف، فهذا كان رؤيا منام، لم يكن ليلة المعراج، كذلك جاء مفسرا، كما رأى المسيح أيضا، ورأى الدجال; أما رؤيته، ورؤية غيره من الأنبياء ليلة المعراج في السماء، لما رأى آدم في السماء الدنيا، ورأى يحيى، وعيسى; فهذا رأى أرواحهم مصورة في صورة أبدانهم; وقد قال بعض الناس: لعله رأى نفس الأجساد المدفونة في القبور; وهذا ليس بشيء، لكن عيسى صعد إلى السماء بروحه وجسده، وكذلك إدريس.   1 مسلم: الوصية (1631) , والترمذي: الأحكام (1376) , والنسائي: الوصايا (3651) , وأبو داود: الوصايا (2880) , وأحمد (2/372) , والدارمي: المقدمة (559) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 549 وأما كونه رأى موسى يصلي في قبره، ورآه في السماء أيضا، فهذان لا منافاة بينهما، فإن أمر الأرواح من جنس أمر الملائكة، في اللحظة الواحدة: تصعد، وتهبط، كالملك، ليست كالبدن; وقد بسطت الكلام في أمر الأرواح بعد مفارقة الأبدان، وذكرت الأحاديث والآثار في ذلك، بما هذا ملخصه. وهذه الصلاة مما يتنعم بها الميت، ويستمتع بها، كما يتنعم أهل الجنة بالتسبيح; فإنهم يلهمون التسبيح كما يلهم الناس النفس في الدنيا، فهذا ليس من عمل التكليف الذي يطلب به ثواب منفصل، بل نفس هذا العمل هو من النعيم الذي تتنعم به النفس، وتلتذ به. انتهى كلامه. فعلم من كلامه: أن أرواحهم صورت في صور أبدانهم التي في القبور، فاجتمعت النصوص، وزال الإشكال، والله أعلم. (حكم من أمر بأن يذر في البحر) وسئل: رحمه الله عن الذي أمر بأن يذر في البحر ... إلخ. فأجاب: الذي أمر بأن يذر في البحر خوفا من الله، لم يكن شاكا في القدرة، وإنما ظن أن جمعه بعد ذلك من قبيل المحال، الذي ما من شأن القدرة أن تتعلق به، وهذا باب واسع، والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 550 (قول الفقهاء فيمن قال أنا مؤمن إن شاء الله) سئل الشيخ حمد بن عتيق، عن قول الفقهاء: من قال أنا مؤمن إن شاء الله، إن نوى به في الحال، يكفر، وإن نوى به في المآل، لم يكفر؟ ! فأجاب: هذا سؤال من لا يحسن السؤال، فإن ظاهره: أن جميع الفقهاء يقولون ذلك، ومن له خبرة بأقوال الفقهاء، تحقق أن هذه مجازفة عليهم، وقول بلا علم; فإن كان بعض المتأخرين من بعض أهل المذاهب قال ذلك، فهو: قول محدث من أقوال أهل البدع. وأنا أذكر لك من كلام العلماء، في الاستثناء في الإيمان، وهو قول الرجل: أنا مؤمن إن شاء الله; ليتضح الخطأ من الصواب، ويعلم من الأولى بالحق في هذا الباب. قال شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله تعالى: وأما الاستثناء في الإيمان، بقول الرجل: أنا مؤمن إن شاء الله، فالناس فيه على ثلاثة أقوال; منهم: من يوجبه; ومنهم: من يحرمه; ومنهم: من يجوز الأمرين، باعتبارين; وهذا: أصح الأقوال. فالذين يحرمونه، هم: المرجئة، والجهمية، ونحوهم، ممن يجعل الإيمان شيئا واحدا، يعلمه الإنسان من نفسه، كالتصديق بالرب، ونحو ذلك مما في قلبه; فيقول أحدهم: أنا أعلم أني مؤمن، كما أعلم أني قرأت الفاتحة; الجزء: 1 ¦ الصفحة: 551 فمن استثنى في إيمانه، فهو شاك فيه عندهم. وأما الذين أوجبوا الاستثناء، فلهم فيه مأخذان; أحدهما: أن الإيمان، هو ما مات عليه الإنسان، والإنسان إنما يكون عند الله مؤمنا، وكافرا، باعتبار الموافاة، وما سبق في علم الله أنه يكون عليه، وهو مأخذ كثير من المتأخرين، من الكلابية، وغيرهم ممن يريد أن ينصر ما استشهد عليه أهل السنة والحديث، من قولهم: أنا مؤمن إن شاء الله، ويريد مع ذلك: أن الإيمان لا يتفاضل، ولا يشك الإنسان في الموجود منه; وإنما يشك في المستقبل; وهذا وإن علل به كثير من المتأخرين من أصحاب الحديث، من أصحاب أحمد، ومالك، والشافعي، وغيرهم، فما علمت أحدا من السلف علل به الاستثناء. قلت: فالمرجئة، والجهمية، يحرمون الاستثناء، في الحال، والمآل، وهؤلاء: يبيحونه في المآل، ويمنعونه في الحال. قال شيخ الإسلام، رحمه الله: والمأخذ الثاني في الاستثناء: أن الإيمان المطلق يتضمن فعل ما أمر الله به كله، وترك المحرمات كلها، فإذا قال الرجل: أنا مؤمن بهذا الاعتبار، فقد شهد لنفسه: أنه من الأبرار المتقين، القائمين بفعل جميع ما أمروا به، وترك كل ما نهوا عنه، فيكون من أولياء الله; وهذا من تزكية الإنسان لنفسه، وشهادته لها بما لا يعلم، ولو كانت هذه الشهادة صحيحة، لكان ينبغي أن يشهد لنفسه بالجنة إن مات على هذه الحال، وهذا مأخذ عامة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 552 السلف، الذين كانوا يستثنون، وإن جوزوا ترك الاستثناء بمعنى آخر. وروى الخلال، عن أبي طالب قال: سمعت أبا عبد الله، يقول: لا نجد بدا من الاستثناء، لأنهم إذا قالوا مؤمن، فقد جاؤوا بالقول، فإنما الاستثناء بالعمل، لا بالقول; وعن إسحاق بن إبراهيم، قال: سمعت أبا عبد الله، يقول: أذهب إلى حديث ابن مسعود في الاستثناء في الإيمان; لأن الإيمان قول وعمل، والعمل الفعل، فقد جئنا بالقول، ونخشى أن نكون فرطنا في العمل، فيعجبني أن يستثني في الإيمان، فيقول: أنا مؤمن إن شاء الله; ومثل هذا كثير من كلام أحمد، وأمثاله. وهذا مطابق لما تقدم، من أن المؤمن المطلق هو القائم بالواجبات، المستحق للجنة، إذا مات على ذلك; وأن المفرط بترك المأمور، أو فعل المحظور، لا يطلق عليه أنه مؤمن; وأن المؤمن المطلق، هو البر التقي، ولي الله; فإذا قال: أنا مؤمن قطعا، كان كقوله: أنا بر، تقي، ولي لله قطعا. وقد كان أحمد، وغيره من السلف، مع هذا، يكرهون، سؤال الرجل غيره: أمؤمن أنت؟ ويكرهون الجواب; لأن هذا بدعة، أحدثها المرجئة ليحتجوا بها لقولهم; فإن الرجل يعلم من نفسه: أنه ليس بكافر، بل يجد قلبه مصدقا لما جاء به الرسول; فيقول: أنا مؤمن; فلما علم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 553 السلف مقصودهم، صاروا يكرهون السؤال، ويفصلون الجواب. وهذا لأن لفظ الإيمان، فيه إطلاق، وتقييد، فكانوا يجيبون بالإيمان المقيد، الذي لا يستلزم أنه شاهد لنفسه بالكمال; ولهذا كان الصحيح: أنه يجوز أن يقال: أنا مؤمن بلا استثناء، إذا أراد ذلك، لكن ينبغي أن يقرن كلامه، بما يبين أنه لم يرد الإيمان المطلق الكامل، ولهذا كان أحمد يكره أن يجيب على المطلق بلا استثناء. قلت: فظهر القول الثالث، الذي هو الصحيح، وهو: أنه إذا قال: أنا مؤمن; فإن أراد بذلك الإيمان المقيد، الذي لا يستلزم للكمال، جاز له ترك الاستثناء، وإن أراد المطلق المستلزم للكمال، فعليه أن يستثنى في ذلك; قال الخلال: أخبرني حرب بن إسماعيل، وأبو داود; قال أبو داود: سمعت أحمد قال: سمعت سفيان بن عيينة يقول: " إذا سئل المؤمن، أمؤمن أنت؟ لم يجبه; ويقول: سؤالك إياي بدعة، ولا أشك في إيماني; وقال: إن شاء الله ليس يكره، ولا يدخل الشك ". وقد أخبرني عن أحمد أنه قال: لا نشك في إيماننا، وأن السائل لا يشك في إيمان المسؤول، وهذا أبلغ; وهو إنما يجزم بأنه مقر مصدق بما جاء به الرسول، لا يجزم بأنه قائم بالواجب. فعلم: أن أحمد وغيره، من السلف، كانوا يجزمون، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 554 ولا يشكون في وجود ما في القلب من الإيمان، في هذه الحال; ويجعلون الاستثناء عائدا إلى الإيمان المطلق، المتضمن فعل المأمور; هذا ملخص كلامه، في: كتاب الإيمان. وقال في موضع آخر: والناس لهم في الاستثناء ثلاثة أقوال; منهم: من يحرمه، كطائفة من الحنفية، ويقولون: من يستثني فهو شاك; ومنهم: من يوجبه، كطائفة من أهل الحديث; ومنهم: من يجوزه، أو يستحبه; وهذا: أعدل الأقوال; فإن الاستثناء له وجه صحيح، وتركه له وجه صحيح، فمن قال: أنا مؤمن إن شاء الله، وهو يعتقد أن الإيمان فعل جميع الواجبات، ويخاف أن لا يكون أتى بها، فقد أحسن; ومن اعتقد: أن المؤمن المطلق هو الذي يستحق الجنة، فاستثنى، خوف سوء الخاتمة، فقد أصاب; ومن استثنى أيضا خوفا من تزكية نفسه، أو مدحها، أو تعليقا للأمر بمشيئة الله تعالى، فقد أحسن; ومن جزم بما يعلمه، من التصديق في ترك الاستثناء، فهو مصيب. فتبين بما ذكرناه، من الكلام، الذي قدمناه: أن هذا الإيراد قول غير معروف عند العلماء المقتدى بهم، فضلا عن أن يكون الفقهاء كلهم قد قالوه; وإذا كان الأمر كذلك، وظهر كلام من يعتد به، وما هو الصواب منه، فلا حاجة بنا إلى معرفة الأقوال المبتدعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 555 (معنى قوله صلى الله عليه وسلم من قال أنا مؤمن فهو كافر) المسألة الثانية: وهي قول السائل، ما معنى قوله صلى الله عليه وسلم من قال: أنا مؤمن، فهو كافر ; ومن قال: أنا في الجنة، فهو في النار؟ فالذي وقفت عليه: أن هذا من كلام عمر، كما رواه الإمام أحمد، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: " من قال أنا مؤمن، فهو كافر; ومن قال: هو عالم، فهو جاهل; ومن قال: هو في الجنة، فهو في النار، " وأنت لم تذكر له إسنادا، ولا نسبة إلى أصل، وقد علم أنه لا يجوز لأحد أن ينسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم شيئا بمجرد وجود سواد في بياض; وتفصيل ذلك معروف، في كتب أهل العلم، والحديث. وأما مراد عمر، فقد قال بعض الناس: إن المراد إذا قال: أنا مؤمن، آمنا من مكر الله، وتأليا على الله، وقال بعضهم: أي من قال: أنا مؤمن بالطاغوت، فهو كافر بالله، وكذلك من قال: هو في الجنة قطعا، تكذيبا بحديث: " الأعمال بالخواتيم " 1 وقيل غير ذلك من الأقوال البعيدة، الضعيفة. وأما أنا فأقول: الله أعلم بمراد الخليفة الراشد، ولا أعلم في ذلك شيئا تطمئن إليه النفوس، ولا يستحي من سئل عما لا يعلم، أن يقول: لا أعلم، فالله أعلم.   1 البخاري: القدر (6607) , وأحمد (5/335) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 556 (الجواب عمن يحدث نفسه بقول أنا منافق، أنا أخشى الكفر) المسألة الرابعة: قوله، هل يجوز للإنسان أن يحدث نفسه، بقول: أنا منافق، أنا أخشى الكفر. وهل هذا شك في الدين، أم لا؟ الجواب: قال البخاري في صحيحه: قال ابن أبي مليكة: " أدركت ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف النفاق على نفسه، ما منهم أحد يقول: إن إيمانه، كإيمان جبرائيل، وميكائيل; ". وقال ابن القيم: تالله لقد قطع خوف النفاق قلوب السابقين الأولين، لعلمهم بدقه، وجله، وتفاصيله، وجمله; ساءت ظنونهم بنفوسهم، حتى خشوا أن يكونوا من جملة المنافقين. قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: " يا حذيفة: ناشدتك الله، هل سماني لك رسول الله صلى الله عليه وسلم مع القوم؟ فيقول: لا، ولا أزكي بعدك أحدا"، يعني: لا أفتح هذا الباب، في تزكية الناس، ليس معناه: أنه لم يبرئ من النفاق غيره، وكيف يكون ما هو من صفات السابقين الأولين، شكا في الدين؟ وعن الحسن البصري - في النفاق -: " ما أمنه إلا منافق، ولا خافه إلا مؤمن ". وقال ابن القيم، رحمه الله: وبحسب إيمان العبد ومعرفته، يشتد خوفه أن يكون منهم; ولهذا اشتد خوف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 557 سادة الأمة، وسابقيها على أنفسهم، أن يكونوا منهم. انتهى. فكلما زاد الإيمان، اشتد الخوف من النفاق، وعلى حسب ضعف الإيمان، يكون الأمن منه; وأما خوف الكفر، فيكفي فيه قول الله تعالى، إخبارا عن خليله إبراهيم: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ} [سورة إبراهيم آية: 35] ، وهو يدل على شدة خوفه من هذا الأمر; وفي الدعاء المأثور: " اللهم إني أعوذ بك من الكفر، والفقر، وعذاب القبر، وأن أرد إلى أرذل العمر " 1. اعلم: أن كون الإنسان يشتد خوفه من الكفر والنفاق، ويكثر البحث عن أسبابهما، ونحو ذلك، هو أمر غير التلفظ به; وكونه يقول: أنا منافق: فذاك لون، وهذا لون. (رد الشيخ سعد بن حمد على من زعم أن القحطاني المذكور في هذا الحديث هو محمد بن رشيد) وقال ابنه: الشيخ سعد بن الشيخ حمد بن عتيق، عفا الله عنه: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، أشرف المرسلين، وعلى آله، وأصحابه والتابعين. أما بعد: فقد وقع البحث في الحديث، الذي في الصحيحين، حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تقوم الساعة حتى يخرج رجل من قحطان، يسوق الناس بعصاه " 2، فصرح بعض الحاضرين، بأن   1 النسائي: السهو (1347) والاستعاذة (5465) , وأحمد (5/36) . 2 البخاري: المناقب (3517) , ومسلم: الفتن وأشراط الساعة (2910) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 558 القحطاني المذكور في هذا الحديث هو: محمد بن رشيد، الذي خرج في أواخر المائة الثالثة بعد الألف من الهجرة، وعظمت شوكته، وانتشرت دولته في أوائل المائة الرابعة، واستولى على كثير من البلدان النجدية، وقهر جماعات من أهل البادية، حتى استسلم لأمره كثير من أهل نجد واليمامة، أو أكثرهم; فسألني بعض الخواص، هل يسوغ القول بما قاله هذا القائل؟ وهل ينبغي الجزم به، أم لا؟ ثم بلغني عن بعض الإخوان: أنه نسب هذا إلى صديق 1 حسن الهندي، وأنه نقل عن صديق، أن الحديث يفيد: أن القحطاني المذكور في الحديث، مسلم، وليس بمؤمن; فعن لي أن أذكر بعض ما وقفت عليه من كلام أهل العلم على هذا الحديث، مع كلمات يسيرة يستفيد بها السائل; وإن كنت لست أهلا لذلك، لقلة العلم، وعدم وجود من استفيد منه، من أهل التحقيق. ولأن الكلام على أحاديث الرسول مما يحجم عنه الجهابذة الفحول، فكيف بمن هو مزجى البضاعة، قاصر الباع؟ وإني لمعترف - والصدق منجاة - بأن طلب الإفادة، ممن هو مثلي، من عجائب الدهر، ولكن الضرورة قد تلجئ إلى أعظم من ذلك، فأقول في الجواب: اعلم: أن قول القائل، إن القحطاني المذكور في   1 هو النواب, صديق خان, صاحب بهو بال, العالم المشهور. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 559 الحديث هو الرجل الذي وصفنا، لا شك أنه تعيين لمراد المعصوم صلى الله عليه وسلم وتبيين لمقصوده، وهذا مفتقر إلى أحد شيئين: الأول: النقل الثابت عنه صلى الله عليه وسلم برواية الثقات; ونقل العدول المعتبرين عند أهل النقل بالتنصيص على المقصود بكلامه، إنه هذا الرجل بعينه; وهذا مما لا سبيل إليه البتة. الثاني: وجود القرائن، وقيام الشواهد، الدالة على أن المراد بقوله صلى الله عليه وسلم هو هذا، ولكن لا يطلع عليها إلا من حصل المعرفة التامة بمدلول لفظ الحديث; وضم إلى ذلك النظر في سيرة هذا الذي يدعى أنه المقصود، واعتبار حاله، وما كان عليه; وأما الجزم بالتعيين، مع تخلف العلم بمدلول اللفظ، أو وجود بعض الاحتمالات التي يتعذر معها الجزم بالمفهوم، أو عدم اعتبار حال المدعى أنه المراد، والإعراض عن التفتيش في سيرته، فلا يخفى بعده عن العلم المفيد، عند أهل المعرفة. وإذا عرف هذا، فنقول: قال بعض أهل العلم في معنى الحديث، هو كناية عن استقامة الناس، وانقيادهم له، واتفاقهم عليه، قال: إلا أن في ذكرها - يعني العصا - دليل على عسفه لهم، وخشونته عليهم، وقال بعضهم: هو حقيقة أو مجاز عن القهر، والضرب; ونقل محمد طاهر الهندي، في شرح غريب الآثار، عن شرح المصابيح، أنه: عبارة عن التسخير، كسوق الراعي، انتهى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 560 فظهر بهذا أن المذكور في الحديث، يكون له تسلط على الناس، حتى يقهرهم، ويستولي عليهم، كاستيلاء الراعي على غنمه، بحيث لا يتخلف أحد من رعيته عن طاعته. ومن تأمل ما وقع من كثير من الناس، من التخلف عن متابعة هذا الأمير، والخروج عن طاعته، والعصيان لأمره، وعرف ما قاله العلماء في معنى الحديث، أوجب له ذلك التوقف فيما قاله هؤلاء، والانكفاف عما أقدموا عليه، هذا لو لم ينقل في شأن القحطاني إلا هذا. فكيف وقد قال القرطبي: يجوز أن يكون القحطاني هو الجهجاه، المذكور في الحديث الذي رواه مسلم، يشير لى حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تذهب الأيام والليالي، حتى يملك رجل، يقال له الجهجاه " 1، ونقل في بعض الأخبار: أن خروج القحطاني بعد المهدي، كما سيأتي بيانه. وأما إسلام القحطاني أو إيمانه، فليس في حديث الصحيحين تعرض لذلك، وقد تقدم الحديث، ولفظه: " لا تقوم الساعة، حتى يخرج رجل من قحطان، يسوق الناس بعصاه " 2، وليس في هذا ما يدل على إسلامه، ولا إيمانه، كما أنه لا يدل على كفره، ولا نفاقه; بل هذا خبر مجرد، كإخباره صلى الله عليه وسلم بالجهجاه، وهذا من أنباء الغيب، التي أخبر بها صلى الله عليه وسلم كما أخبر بالفتن، والملاحم، والدخان، والدابة، وخروج الدجال، وخروج يأجوج ومأجوج، وطلوع الشمس من   1 مسلم: الفتن وأشراط الساعة (2911) , والترمذي: الفتن (2228) . 2 البخاري: المناقب (3517) , ومسلم: الفتن وأشراط الساعة (2910) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 561 مغربها، وغير ذلك مما أخبر به صلى الله عليه وسلم مما سيكون; نعم، إن ثبت ما روى أن خروج القحطاني يكون بعد المهدي، وأنه يسير على سيرة المهدي، فلا شك أنه من أهل الإسلام والإيمان، ومن الدعاة إلى شريعة محمد صلى الله عليه وسلم؛ فقد وردت أحاديث تدل على خروج المهدي، وحكمه بالقسط والعدل، وهي مذكورة في سنن أبي داود، وابن ماجه، وغيرهما; منها: حديث ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لو لم يبق من الدنيا إلا يوم، لطوله الله، حتى يبعث فيه رجلا من أهل بيتي، يواطئ اسمه اسمي، واسم أبيه اسم أبي، يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا " 1 وقد ورد حديث، فيه: " لا مهدي إلا عيسى ابن مريم " 2. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: هو حديث ضعيف، رواه يونس عن الشافعي، عن شيخ من أهل اليمن; ولا يقوم بإسناده حجة; وقال الذهبي في الميزان: يونس بن عبد الأعلى، أبو موسى الصدفي، روى عن ابن عيينة، وابن وهب، وعنه ابن خزيمة، وأبي عوانة، وخلق; وثقه أبو حاتم، وغيره، ونعتوه بالحفظ، والعقل، إلا أنه تفرد عن الشافعي بذلك الحديث: " لا مهدي إلا ابن مريم " وهو: منكر جدا. انتهى. وقال صديق - في عون الباري، بعد ذكر حديث القحطاني -: يكون بعد المهدي، ويسير على سيرته، رواه أبو   1 الترمذي: الفتن (2231) , وأبو داود: المهدي (4282) . 2 ابن ماجه: الفتن (4039) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 562 نعيم بن حماد في الفتن. انتهى; فإن ثبت هذا، فهو يدل مع أحاديث المهدي، على تأخر خروج القحطاني، وأنه لا يخرج إلا بعد خروج المهدي، وأنه يكون على سيرة حسنة، وحالة مرضية، لا كما نقل عن البعض، أن حديث الصحيحين يدل على أنه مسلم، وليس بمؤمن، فإن الحديث لا يدل على ذلك، لا بمنطوقه، ولا بمفهومه، فإن كان صديق قال ذلك، فلا يخفى ما فيه. وكذلك النقل عن صديق أنه قال: أقرب ما يكون القحطاني المذكور في الحديث، أنه محمد بن رشيد، في ثبوته عنه نظر، فقد قدمنا في هذا جزم صديق في كتابه بأن خروج القحطاني يكون بعد خروج المهدي، واستدلاله على ذلك بما رواه أبو نعيم; فكيف يتفق هذا، وذاك؟! ولا شك في عدم ثبوت هذه المقالة، عمن أخذ عن صديق وسمع كلامه. فلذلك أقول: ينبغي أن ينظر فيمن نقل هذا عن صاحبنا الذي نقل عن صديق; وعلى تقدير ثبوت هذا، فهو قول مجرد عن الدليل، مناقض لما قرره هو واستدل عليه، كما عرفناك قريبا {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} [سورة النساء آية: 82] . والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 563 (رسالة الشيخ محمد بن عبد اللطيف إلى أهل اليمن وغيرهم في بيان عقيدة أهل نجد) وقال الشيخ: محمد بن الشيخ عبد اللطيف بن الشيخ عبد الرحمن، وفقه الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الملك الحق المبين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وخليله الصادق الأمين، صلى الله عليه، وعلى آله وأصحابه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا. من محمد بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن، آل الشيخ، إلى من يراه من أهل القرى، ورؤساء القبائل، من أهل اليمن، وعسير، وتهامة، وشهران، وبني شهر، وقحطان، وغامد، وزهران، وكافة أهل الحجاز، وغيرهم، هدانا الله وإياهم لدين الإسلام، وجعلنا وإياهم من أتباع سيد الأنام، آمين، سلام عليكم، ورحمة الله وبركاته. أما بعد: فإنه لما كان في هذه السنة - وهي سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة وألف، من الهجرة النبوية، على صاحبها أفضل الصلاة وأشرف التحية - بعثنا الإمام المقدم، والرئيس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 564 المفضل المفخم، صاحب السعادة والسيادة: عبد العزيز بن عبد الرحمن بن فيصل، آل سعود، أعلى الله سعوده، وأدام للمسلمين وجوده، لأجل تعليمكم ما أوجبه الله عليكم، وتعبدكم به، من دين الإسلام الذي معرفته، والعمل به، والبصيرة فيه، سبب لدخول الجنة; والجهل به، والإعراض عنه، وعدم قبوله، والانقياد له، سبب لدخول النار. فلما قدمنا بعض جهاتكم رأينا أهلها قد جال بهم الشيطان والهوى، وتمادوا في الغي والطغيان، والإعراض عن النور والهدى، وفرقوا أمرهم، وكانوا شيعا، وغلب عليهم الجهل وإيثار الشهوات، واستجابوا لداعي الشبهات، فوقعوا في وادي جهل خطير، فهم على شفا حفرة من السعير، وغلب على أكثرهم الاعتقاد في أهل القبور والأحجار والغيران، وتعظيم أهل الصلاح من المقبورين، وهذا هو دين أهل الجاهلية الأولين، الذي بعث فيهم سيد المرسلين وإمام المتقين. فلما رأينا ذلك، وجب علينا الدعوة إلى الله بالحجج والبراهين، وهي طريقة النبي الأمين، وسبيل من اتبعه من الصحابة والتابعين، ومن سلك منهاجهم إلى يوم الدين، كما قال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [سورة يوسف آية: 108] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 565 وكتبنا من الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، والعقائد السلفية، إلى القبائل والبلدان، بعدما سفت عليها السوافي، وقل من يعرفها من أهل القرى، والبوادي، نصحا لله ولرسوله ولكتابه، ولعباده المؤمنين. وصار بعض الناس يسمع بنا معاشر الوهابية، ولا يعرف حقيقة ما نحن عليه، وينسب إلينا، ويضيف إلى ديننا ما لا ندعو إليه، فبعضهم يتقول علينا وينسب إلينا السفاسف والأباطيل، تنفيرا للناس عن قبول هذا الدين، وصدا لهم عن توحيد رب العالمين، فأوجب لنا تسويد هذه العجالة، بيانا لما نعتقده وندين الله به، وندعو إليه ونجاهد الناس عليه. فاعلموا - أن حقيقة ما نحن عليه، وما ندعو إليه، ونجاهد على التزامه، والعمل به - أنا ندعو إلى دين الإسلام، والتزام أركانه وأحكامه، الذي أصله وأساسه: شهادة أن لا إله إلا الله، والأمر بعبادة الله وحده لا شريك له. وهذه العبادة مبنية على أصلين: كمال الحب لله، مع كمال الخضوع، والذل له; والعبادة لها أنواع كثيرة; فمن أنواعها: الدعاء، وهو من أجلّ أنواع العبادة، وسماه الله عبادة في عدة مواضع من كتابه، كما قال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [سورة غافر آية: 60] ؛ ونظائر هذا في القرآن كثير; وفي الحديث: " الدعاء مخ العبادة " 1.   1 الترمذي: الدعوات (3371) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 566 فنقول: لا يدعى إلا الله، ولا يستغاث في الشدائد وجلب الفوائد إلا به، ولا يذبح القربان إلا له، ولا ينذر إلا له، ولا يخاف خوف السر إلا منه وحده، ولا يتوكل إلا عليه، ولا يستعان ولا يستعاذ إلا به، وليس لأحد من الخلق شيء من ذلك، لا الملائكة، ولا الأنبياء، ولا الأولياء، ولا الصالحين، ولا غيرهم; فلله حق لا يكون لغيره، وحقه تعالى: إفراده بجميع أنواع العبادة، فلا تأله القلوب محبة، وإجلالا، وتعظيما، وخوفا، ورجاء، إلا الله; فهذه هي الحكمة الشرعية الدينية، والأمر المقصود في إيجاد البرية. قال الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [سورة الذاريات آية: 56] ومعنى يعبدون: يوحدون; والعبادة هي: التوحيد; لأن الخصومة بين الرسل وأممهم، فيه، قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [سورة النحل آية: 36] ، وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} [سورة الأنبياء آية: 25] ، وقال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [سورة الجن آية: 18] . فمن دعا غير الله، من ميت، أو غائب، أو استغاث به، فهو مشرك كافر، وإن لم يقصد إلا مجرد التقرب إلى الله، وطلب الشفاعة عنده. وقد دخل كثير من هذه الأمة في الشرك بالله، والتعلق على من سواه، ويسمون ذلك توسلا وتشفعا; وتغيير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 567 الأسماء لا اعتبار به، ولا تزول حقيقة الشيء ولا حكمه بزوال اسمه، وانتقاله في عرف الناس باسم آخر. ولما علم الشيطان أن النفوس تنفر من تسمية ما يفعله المشركون تألها، أخرجه في قالب آخر تقبله النفوس; وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ليشربن أناس من أمتي الخمر، يسمونها بغير اسمها "1، وكذلك من زنى وسمى ما فعله: نكاحا; فتغيير الأسماء، لا يزيل الحقائق; وكذا من ارتكب شيئا من الأمور الشركية، فهو مشرك، وإن سمى ذلك توسلا وتشفعا. يوضح ذلك: ما ذكر الله في كتابه عن اليهود والنصارى بقوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} [سورة التوبة آية: 31] الآية; وروى الإمام أحمد، والترمذي، وغيرهما: أن عدي بن حاتم، قدم على النبي صلى الله عليه وسلم وكان قد تنصر في الجاهلية، فسمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ هذه الآية: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} [سورة التوبة آية: 31] الآية، قال: يا رسول الله، إنهم لم يعبدوهم، فقال صلى الله عليه وسلم: " بلى، إنهم حرموا عليهم الحلال، وحللوا لهم الحرام، فذاك عبادتهم إياهم " 2. وقال ابن عباس، وحذيفة بن اليمان، في تفسير هذه الآية: " إنهم اتبعوهم فيما حللوا وحرموا "; فهؤلاء الذين أخبر الله عنهم في هذه الآية، لم يسموا أحبارهم ورهبانهم أربابا ولا آلهة، ولا كانوا يظنون أن فعلهم هذا معهم عبادة   1 النسائي: الأشربة (5658) , وأحمد (4/237) . 2 الترمذي: تفسير القرآن (3095) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 568 لهم; ولهذا قال عدي: إنهم لم يعبدوهم; وحكم الشيء تابع لحقيقته، لا لاسمه، ولا لاعتقاد فاعله; فهؤلاء كانوا يعتقدون أن طاعتهم في ذلك، ليست بعبادة لهم، فلم يكن ذلك عذرا لهم، ولا مزيلا لاسم فعلهم، ولا لحقيقته وحكمه. يوضح ذلك: ما روى الترمذي، وصححه، عن أبي واقد الليثي، قال: " خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين، ونحن حدثاء عهد بكفر، وللمشركين سدرة يعكفون عندها، وينوطون بها أسلحتهم، يقال لها ذات أنواط، فمررنا بسدرة، فقلنا يا رسول الله: اجعل لنا ذات أنواط، كما لهم ذات أنواط; فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الله أكبر، إنها السنن، قلتم والذي نفسي بيده، كما قالت بنو إسرائيل لموسى: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [سورة الأعراف آية: 138] لتتبعن سنن من كان قبلكم ". فهؤلاء ما كانوا يظنون أن الذي طلبوه مما تنفيه لا إله إلا الله، فلم يكن جهلهم مغيرا لحقيقة هذا الأمر وحكمه. ومن كان له معرفة بما بعث الله به رسوله، علم أن ما يفعل عند القبور من دعاء أصحابها، والاستغاثة بهم، والعكوف عند ضرائحهم، والسجود لهم، والنذر لهم، أعظم وأكبر من فعل الذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله، وأقبح وأشنع من قول الذين قالوا: اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 569 قال بعض العلماء المحققين، رحمه الله تعالى: فإذا كان اتخاذ هذه الشجرة لتعليق الأسلحة، والعكوف عليها، اتخاذ إله، مع أنهم لا يعبدونها، ولا يسألونها، فما الظن بالعكوف حول القبر، والدعاء به، ودعائه، والدعاء عنده؟ فأي نسبة للفتنة بشجرة، إلى الفتنة بالقبر، لو كان أهل الشرك، والبدع، يعلمون؟ انتهى. ولقد حمى النبي صلى الله عليه وسلم جناب التوحيد، وسد الذرائع، التي تفضي إلى الشرك والتنديد، فقال فيما صح عنه صلى الله عليه وسلم: " اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد "1، ونهى عن إيقاد السرج عليها، فقال صلى الله عليه وسلم: " لعن الله زائرات القبور، والمتخذين عليها المساجد، والسرج " 2، ونهى أن تتخذ عيدا، ونهى عن البناء عليها، وأمر بتسويتها بالأرض، كما روى مسلم في صحيحه، عن أبي الهياج الأسدي، قال: قال لي علي، رضي الله عنه: " ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أن لا تدع تمثالا إلا طمسته، ولا قبرا مشرفا إلا سويته " 3، ونهى عن تجصيص القبور، وعن الكتابة عليها. فنحن ننكر الغلو في أهل القبور، والإطراء والتعظيم; ونهدم البنايات التي على قبور الأموات، لما فيها من الغلو والتعظيم، الذي هو أعظم وسائل الشرك بالله، وهذه الأمور التي أوجبت عبادتها من دون الله، ابتدعها أناس، أرادوا بها التعظيم، وإظهار تشريفهم، فجاء من   1 مالك: النداء للصلاة (416) . 2 الترمذي: الصلاة (320) , والنسائي: الجنائز (2043) , وأبو داود: الجنائز (3236) , وأحمد (1/229 ,1/287 ,1/324) . 3 مسلم: الجنائز (969) , والترمذي: الجنائز (1049) , والنسائي: الجنائز (2031) , وأبو داود: الجنائز (3218) , وأحمد (1/96 ,1/128 ,1/145) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 570 بعدهم، فعبدوهم من دون الله، وقصدوا منهم كشف الملمات، وسألوهم قضاء الحاجات، وتفريج الكربات، وإغاثة اللهفات; واعتقدوا هذا الشرك الوخيم قربة ودينا يدينون به، واشتد نكيرهم على من أنكر ذلك، وحذروا عنه، ورموه بالزور والبهتان; والله ناصر دينه، في كل زمان ومكان، لكنه يمتحن حزبه بحربه مذ كانت الفئتان. ومما نعتقده وندين الله به: الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، والبعث بعد الموت، والإيمان بالقدر، خيره وشره; ونؤمن بأسماء الله تعالى، وصفاته; ونثبت ذلك على ما يليق بجلاله وعظمته، إثباتا بلا تمثيل، وننزه الله عما لا يليق بجلاله، تنْزيها بلا تعطيل; ونعتقد أن الله سبحانه وتعالى مستو على عرشه، عال على خلقه، وعرشه فوق السماوات; وهو بائن عن مخلوقاته; ولا يخلو مكان من علمه، قال تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [سورة طه آية: 5] ، فنؤمن باللفظ ونثبت حقيقة الاستواء، ولا نكيف، ولا نمثل، لأنه لا يعلم كيف هو إلا هو. قال إمام دار الهجرة مالك بن أنس، رحمه الله، وبقوله نقول، وقد سأله رجل عن الاستواء، فقال: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة؛ فأثبت مالك رحمه الله الاستواء، ونفى علم الكيفية; وكذلك اعتقادنا في جميع أسماء الرب وصفاته، من الإيمان باللفظ، وإثبات الحقيقة، ونفي علم الكيفية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 571 والقول الشامل في ذلك: أنا نصف الله بما وصف به نفسه، ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، لا نتجاوز القرآن والحديث; فمن شبه الله بخلقه فقد كفر، ومن جحد ما وصف الله به نفسه فقد كفر، قال الله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [سورة الشورى آية: 11] فسبحان من لا سمي له، ولا كفو له، وهو أعلم بنفسه وبغيره، وأصدق قيلا، وأحسن حديثا من خلقه. ونؤمن بما ورد من أن الله تعالى ينْزل كل ليلة إلى سماء الدنيا، حين يبقى ثلث الليل الآخر، فيقول: " هل من سائل فأعطيه سؤله؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من تائب فأتوب عليه " 1. ونعتقد أن القرآن كلام الله، منَزّل غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود، وأن الله تكلم به حقيقة، وسمعه جبرائيل من الباري سبحانه، ونزل به على رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولا نقول بقول الأشاعرة ولا غيرهم من أهل البدع. ونؤمن أن الله فعال لما يريد، لا يكون شيء إلا بقضائه وقدره، ولا محيد لأحد عن القدر المقدور، ولا يتجاوز ما خط في اللوح المسطور. ونؤمن بآيات الوعيد، والأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا نقول بتخليد أحد من المسلمين من أهل الكبائر في النار، كما تقول الخوارج والمعتزلة، لما ثبت   1 مسلم: صلاة المسافرين وقصرها (758) , وأحمد (2/433) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 572 عن النبي صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة أنه يخرج من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان؛ وإخراجهم من النار، بشفاعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فيمن يشفع له من أهل الكبائر من أمته، وشفاعة غيره، من الملائكة، والأنبياء. ولا نقف في الأحكام المطلقة، بل نعلم أن الله يدخل النار من يدخلها من أهل الكبائر; وآخرون لا يدخلونها لأسباب تمنع من دخولها: كالحسنات الماحية، والمصائب المكفرة، ونحوها. ونعتقد أن الله يفعل ما يفعله لحكمة وأسباب; وهو تبارك وتعالى خالق الأسباب، ومسبباتها; ولا نشهد لشخص معين بجنة ولا نار، لأن حقيقة باطنه، وما مات عليه، لا نحيط به، لكن نرجو للمحسن، ونخاف على المسيء، إلا من شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ولا نكفر أحدا من أهل الإسلام بذنب دون الشرك، ولا نخرجه عن دائرة الإسلام بارتكاب كبيرة. ونؤمن بما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم بما يكون بعد الموت; ونؤمن بفتنة القبر وعذابه ونعيمه، وبإعادة الأرواح إلى أجسادها، فيقوم الناس لرب العالمين، في موقف القيامة، حفاة، عراة، غرلا، وتدنو منهم الشمس، فيلجمهم العرق، وتنصب الموازين، وتنشر الدواوين، فآخذ كتابه بيمينه، وآخذ كتابه بشماله. ونؤمن بحوض نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ونؤمن بأن الصراط الجزء: 1 ¦ الصفحة: 573 ينصب على متن جهنم، ويمر الناس على قدر أعمالهم. ونؤمن بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه أول شافع، وأول مشفع; ولا ينكرها إلا مبتدع ضال، وأنها لا تقع إلا بعد الإذن والرضى، كما قال تعالى: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى} [سورة الأنبياء آية: 28] ، وقال تعالى: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [سورة النجم آية: 26] ، وهو سبحانه، لا يرضى إلا التوحيد، ولا يأذن إلا لأهله، قال أبو هريرة رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم: " من أسعد الناس بشفاعتك يا رسول الله؟ قال: من قال لا إله إلا الله، خالصا من قلبه " 1، فتلك الشفاعة لأهل الإخلاص، بإذن الله، ولا تكون لمن أشرك بالله، قال تعالى: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [سورة المدثر آية: 48] . ونؤمن أن الله تعالى خلق الجنة، وأنها موجودة الآن، وأن الله أعدها لمن أطاعه واتقاه، وأن الله خلق النار، وأنها موجودة الآن، وأن الله أعدها لمن كفر به وعصاه. ونؤمن أن المؤمنين يرون ربهم بأبصارهم في الجنة كما يرى القمر ليلة البدر، لا يضامون في رؤيته، قال تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [سورة القيامة آية: 22] ، وقال تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [سورة يونس آية: 26] ، وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " الحسنى: الجنة، والزيادة: النظر إلى وجهه تعالى "2.   1 البخاري: العلم (99) , وأحمد (2/373) . 2 مسلم: الإيمان (181) , والترمذي: صفة الجنة (2552) , وابن ماجه: المقدمة (187) , وأحمد (4/332 ,4/333 ,6/15) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 574 نؤمن أن محمدا صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين، والمرسلين، وأن أفضل أمته أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي، ثم بقية العشرة، ثم أهل بدر، ثم أهل الشجرة أهل بيعة الرضوان، ثم سائر الصحابة، رضي الله عنهم أجمعين; ونتولى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونترضى عنهم، ونستغفر لهم، ونذكر محاسنهم، وفضائلهم، ونكف عما شجر بينهم، ونترضى عن أمهات المؤمنين، المطهرات المبرآت من كل سوء; وأن فضلاهن عائشة، ونبرأ من قول الرافضة، ونعتقد كفر غلاتهم، ونبرأ من قول الزيدية وغيرهم من أهل البدع. ونرى الجهاد مع كل إمام، برا كان أو فاجرا، منذ بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم إلى أن يقاتل آخر هذه الأمة الدجال; ونرى وجوب السمع والطاعة لأئمة المسلمين، برهم وفاجرهم، ما لم يأمروا بمعصية، ونرى هجر أهل البدع، ومباينتهم; ونرى أن كل محدثة في الدين، بدعة. ونرى وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على كل قادر، بحسب قدرته واستطاعته، بيده، فإن تعذر فبلسانه، فإن تعذر فبقلبه، كما في الحديث الصحيح، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان " 1. ونعتقد أن الإيمان قول باللسان، وعمل بالأركان،   1 مسلم: الإيمان (49) , والترمذي: الفتن (2172) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (5008) , وأبو داود: الصلاة (1140) , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1275) والفتن (4013) , وأحمد (3/54) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 575 واعتقاد بالجنان، يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية، كما في الحديث الصحيح: " الإيمان بضع وستون أو بضع وسبعون شعبة: أعلاها قول: لا إله إلا الله، وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان " 1. ونعتقد أن الله أكمل الدين، وأتم نعمته على العالمين، ببعثه محمد الرسول الأمين، خاتم الأنبياء والمرسلين، صلوات الله وسلامه عليه، دائما إلى يوم الدين، قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلامَ دِيناً} [سورة المائدة آية: 3] . فلما أكمل الله به الدين، وبلغ البلاغ المبين، قبضه الله إليه وتوفاه، واختار له الرفيق الأعلى. ونعتقد أن رتبته صلى الله عليه وسلم أعلى رتب المخلوقين على الإطلاق، وأنه حي في قبره حياة برزخية، أبلغ من حياة الشهداء المنصوص عليها في التنْزيل، إذ هو أفضل منهم بلا ريب، وأنه يسمع سلام المسلم عليه، وأما الحياة التي تقتضي العلم والتصرف، والحركة في التدبير، فهي منفية عنه صلى الله عليه وسلم. وبالجملة: فعقيدتنا في جميع الصفات الثابتة في الكتاب والسنة، عقيدة أهل السنة والجماعة، نؤمن بها، ونمرها كما جاءت، مع إثبات حقائقها، وما دلت عليه، من غير تكييف ولا تمثيل، ومن غير تعطيل ولا تبديل ولا تأويل.   1 البخاري: الإيمان (9) , ومسلم: الإيمان (35) , والترمذي: الإيمان (2614) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (5004 ,5005) , وأبو داود: السنة (4676) , وابن ماجه: المقدمة (57) , وأحمد (2/379 ,2/414) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 576 وأما مذهبنا، فمذهب الإمام أحمد بن حنبل، إمام أهل السنة، في الفروع، والأحكام، ولا ندعي الاجتهاد، وإذا بانت لنا سنة صحيحة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عملنا بها، ولا نقدم عليها قول أحد، كائنا من كان، بل نتلقاها بالقبول والتسليم، لأن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدورنا أجل وأعظم من أن نقدم عليها قول أحد; فهذا الذي نعتقده، وندين الله به، فمن نسب عنا خلاف ذلك، أو تقول علينا ما لم نقل، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا، وحسابنا وحسابه عند الله، الذي تنكشف عنده السرائر، وتظهر لديه مخبآت الصدور والضمائر {وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} [سورة الأحزاب آية: 4] ، وحسبنا الله ونعم الوكيل، وصلى الله على محمد النبي الأمي، وعلى آله وصحبه، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين. (رسالة الشيخ محمد بن عبد اللطيف إلى أهل الحجاز في بيان عقيدة أهل نجد) وله: أيضا، وفقه الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم من محمد بن عبد اللطيف، إلى من يراه، من عسير، وكافة الحجاز، واليمن، هداهم الله لدين الإسلام. وبعد: فاعلموا أن الذي نعتقده، وندين الله به، وندعو الناس إليه، ونجاهدهم عليه، هو دين الإسلام، الذي أوجبه الله على عباده، وهو حقه عليهم، الذي خلقهم لأجله. فإن الله خلقهم ليعبدوه، ولا يشركوا به في عبادته أحدا من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 577 المخلوقين، لا ملك مقرب، ولا نبي مرسل، فضلا عن غيرهما، فمن تعلق على غير الله وصرف له شيئا من أنواع العبادة، فقد اتخذه إلها مع الله، وقد أخبر الله سبحانه وتعالى: أنه حرم الجنة على من أشرك معه أحدا غيره، وحرم المغفرة عليه، كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [سورة النساء آية: 48] ، وقال: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} [سورة المائدة آية: 72] الآية. وقال صلى الله عليه وسلم: " من لقي الله لا يشرك به شيئا دخل الجنة، ومن لقيه يشرك به شيئا دخل النار " 1. ونأمر بهدم القباب، ونهدم ما بني على القبور، ولا يزاد القبر على شبر من التراب وغيره; ونأمر بإقام الصلاة، جماعة في المساجد، ونؤدب من تخلف أو تكاسل عن حضورها، وترك الحضور في المسجد; ونلزم ببقية شرائع الإسلام، كالزكاة، والصوم، والحج للقادر، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر; وننهى عن الربا، والزنى، وشرب الخمر، والتتن، وعن لبس الحرير للرجال، وننهى عن عقوق الوالدين، وعن قطيعة الأرحام. وبالجملة: فإنا نأمر بما أمر الله في كتابه، وأمر به رسوله صلى الله عليه وسلم، وننهى عما نهى الله عنه، ونهى عنه رسوله، ولا نحرم إلا ما حرم الله، ولا نحلل إلا ما حلل الله; فهذا الذي ندعو إليه، ومن كان قصده الحق، ومراده الخير، والدخول فيه، التزم ما ذكرنا، وعمل بما قررنا، فيكون له ما لنا،   1 مسلم: الإيمان (93) , وأحمد (3/325 ,3/374) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 578 وعليه ما علينا، ونجاهد من لم يقبل ذلك، ونستعين الله على جهاده، ونقاتله حتى يلتزم ما أمر الله به في كتابه، وأمر به رسوله صلى الله عليه وسلم. فإنا - ولله الحمد والمنة - لم نخرج عما في كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. ومن نسب عنا خلاف ذلك، فعليه لعنة الله، والملائكة، والناس أجمعين; وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. (منظومة الشيخ سليمان بن سحمان في بيان ما عليه أهل نجد من الاعتقاد) قال الشيخ: سليمان بن سحمان، قدس الله روحه، ونور ضريحه، بعد سياق جملة من عقائد أهل هذه الدعوة: ذكرت هذه المنظومة، التي تتضمن ما نحن عليه من الاعتقاد، مما خالفنا فيه المشبهون الذين يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم، ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون. وبالجملة: فهذا ما نعتقده، وندين الله به، وندعو الناس إليه، ونجاهد عليه من خالفنا في ذلك، بحول الله وقوته، وهذا نصها: لك الحمد اللهم يا خير سيد ... ويا خير مسؤول مجيب لمجتد لك الحمد كم أوليتنا وحبوتنا ... بفضلك آلاء بغير تعدد لك الحمد كم آويتنا بل نصرتنا ... على كل من عادى لدين محمد وعرفتنا الإسلام دين محمد ... وقد كان مرفوضا لدى كل ملحد وبصرتنا نورا من الحق واضحا ... وجنبتنا أديان كل ملدد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 579 فلله ربي الحمد والشكر والثنا ... على كل ما أولى وأعطاه سيدي وبعد: فإن الله جل جلاله ... أبان لنا الإسلام حقا لنهتدي ونشكره لما هدانا إلى الهدى ... وقد صد عنه كل غاو ومعتد فهبوا عباد الله من نومة الردى ... إلى الفقه في أصل الهدى والتجرد ولا تشركوا بالله شيئا وجنبوا ... طرائق أهل الغي من كل ملحد كمن كان يغدو للمقابر زائرا ... ويدعوهم في كل خطب ويجتدي ويرجون غوثا في الشدائد عندما ... يلم بهم من حادث متجدد ويرجون منهم قربة وشفاعة ... إلى الله ذي العرش العظيم الممجد ويطلب منهم كشف كل ملمة ... وفي كل كرب فعل أهل التمرد ويطلب من أهل المقابر كل ما ... يؤمله من كل خطب ومقصد وينسون ربا واحدا جل ذكره ... إلها عظيما قادرا ذا تفرد فيا أيها الراجي سلامة دينه ... عليك بتقوى الله ذي العرش تهتد وإياه فارغب في الهداية للهدى ... لعلك أن تنجو من النار في غد وكن باذلا للجد والجهد طالبا ... وسل ربك التثبيت أي موحد وإن رمت أن تنجو من النار سالما ... وتحظى بجنات وخلد مؤبد وروح وريحان وأرغد حبرة ... وحور حسان كاليواقيت خرد فحقق لتوحيد العبادة مخلصا ... بأنواعها لله قصدا وجرد وأفرده بالتعظيم والخوف والرجا ... وبالحب والرغبى إليه ووحد وبالنذر والذبح الذي أنت ناسك ... ولا تستغث إلا بربك تهتد ولا تستعن إلا به وبحوله ... له خاشيا بل خاشعًا في التعبد ولا تستعن إلا به لا بغيره ... وكن لائذا بالله في كل مقصد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 580 إليه منيبا تائبا متوكلا ... عليه وثق بالله ذي العرش ترشد ولا تدع إلا الله لا شيء غيره ... فداع لغير الله غاو ومعتد وكن خاضعا لله ربك لا لمن ... تعظمه واركع لربك واسجد وصل له واحذر مراءاة ناظر ... إليك وتسميعا له بالتعبد وجانب لما قد يفعل الناس عند من ... يرون له حقا فجاؤوا بمؤيد يقومون تعظيما ويحنون نحوه ... ويومون نحو الرأس والأنف باليد وهذا سجود وانحنا بإشارة ... إليه بتعظيم وذا فعل معتد إلى غير ذا من كل أنواعها التي ... بها الله مختص فوحده تسعد وفي صرفها أو بعضها الشرك قد أتى ... فجانبه واحذر أن تجيء بمؤيد وهذا الذي فيه الخصومة قد جرت ... على عهد نوح والنبي محمد ووحده في أفعاله جل ذكره ... مقرا بأن الله أكمل سيد هو الخالق المحيي المميت مدبر ... هو المالك الرازق فاسأله واجتد إلى غير ذا من كل أفعاله التي ... أقر ولم يجحد بها كل ملحد ووحده في أسمائه وصفاته ... ولا تتأولها كرأي المفند فنشهد أن الله حق بذاته ... على عرشه من فوق سبع ممجد عليه استوى من غير كيف وبائن ... عن الخلق حقا قول كل موحد وأن صفات الله حق كما أتى ... بها النص من آي ومن قول أحمد بكل معانيها فحق حقيقة ... وليست مجازا قول أهل التمرد فليس كمثل الله شيء ولا له ... سمي وقل لا كفو لله تهتد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 581 وذا كله معنى شهادة أنه ... إله الورى حقا بغير تردد فحقق لها لفظا ومعنى فإنها ... لنعم الرجا يوم اللقا للموحد هي العروة الوثقى فكن متمسكا ... بها مستقيما في الطريق المحمدي فكن واحدا في واحد ولواحد ... تعالى ولا تشرك به أو تندد ومن لم يقيدها بكل شروطها ... كما قاله الأعلام من كل مهتد فليس على نهج الشريعة سالكا ... ولكن على آراء كل ملدد فأولها: العلم المنافي لضده ... من الجهل، إن الجهل ليس بمسعد فلو كان ذا علم كثير وجاهلا ... بمدلولها يوما فبالجهل مرتد وثانيها: وهو القبول وضده ... هو الرد فافهم ذلك القيد ترشد كحال قريش حين لم يقبلوا الهدى ... وردوه لما أن عتوا في التمرد وقد علموا منها المراد وأنها ... تدل على توحيده والتفرد فقالوا كما قد قاله الله عنهم ... بسورة ص 1 فاعلمن ذاك تهتد فصارت به أموالهم ودماؤهم ... حلالا وأغناما لكل موحد وثالثها: الإخلاص، فاعلم وضده ... هو الشرك بالمعبود في كل مقصد كما أمر الله الكريم نبيه ... بسورة تنْزيل الكتاب الممجد ورابعها: شرط المحبة، فلتكن ... محبا لما دلت عليه من الهدي وإخلاص أنواع العبادة كلها ... كذا النفي للشرك المفند والدد ومن كان ذا حب لمولاه إنما ... يتم بحب الدين دين محمد   1 يقرأ منونا, للوزن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 582 فعاد الذي عادى لدين محمد ... ووال الذي والاه من كل مهتد وأحبب رسول الله أكمل من دعا ... إلى الله والتقوى وأكمل مرشد أحب من الأولاد والنفس بل ومن ... جميع الورى والمال من كل أتلد وطارفه والوالدين كليهما ... بآبائنا والأمهات فتفتدي وأحبب لحب الله من كان مؤمنا ... وأبغض لبغض الله أهل التمرد وما الدين إلا الحب والبغض والولا ... كذاك البرا من كل غاو ومعتد وخامسها: فالانقياد وضده ... هو الترك للمأمور أو فعل مفسد فتنقاد حقا بالحقوق جميعها ... وتعمل بالمفروض حتما وتقتدى وتترك ما قد حرم الله طائعا ... ومستسلما لله بالقلب ترشد فمن لم يكن لله بالقلب مسلما ... ولم يك طوعا بالجوارح ينقد فليس على نهج الشريعة سالكا ... وإن خال رشدا ما أتى من تعبد وسادسها: وهو اليقين، وضده ... هو: الشك في الدين القويم المحمدي ومن شك فليبقى على رفض دينه ... ويعلم أن قد جاء يوما بموئد بها قلبه مستيقنا جاء ذكره ... عن السيد المعصوم أكمل مرشد ولا تنفع المرء الشهادة فاعلمن ... إذا لم يكن مستيقنا ذا تجرد وسابعها: الصدق، المنافي لضده ... من الكذب الداعي إلى كل مفسد وعارف معناها إذا كان قابلا ... لها عاملا بالمقتضى فهو مهتد وطابق فيها قلبه للسانه ... وعن واجبات الدين لم يتبلد وما لم تقم هذى الشروط جميعها ... بقائلها يوما فليس على الهدى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 583 ونشهد: أن المصطفى سيد الورى ... محمد المعصوم أكمل مرشد وأفضل من يدعو إلى الدين والهدى ... رسول من الله العظيم الممجد إلى كل خلق الله طرا وأنه ... يطاع فلا يعصى بغير تردد ونأتي من المأمور ما نستطيعه ... ونجتنب المنهي من كل مفسد وأن الصلاة الخمس فرض وأنها ... عمود لهذا الدين في نص أحمد كذاك زكاة المال فرض وواجب ... على كل ذي مال لدى كل مهتد ومن لا يصلي فهو لا شك كافر ... كما قاله المعصوم أكمل سيد وقد فرض الله الصيام على الورى ... كما هو في نص الكتاب الممجد كذلك حج البيت فرض وواجب ... على مستطيع قادر ذي تزود فهذا هو الإسلام حقا كما أتت ... مبينة أركانه في المعدد ونؤمن بالله العظيم إلهنا ... وأملاكه والرسل من كل أمجد وكتب وباليوم الذي هو آخر ... وبالقدر المقدور حقا لنهتدي فما قدر الرحمن كان كما يشا ... وما لم يقدر لا يكون فقيّد وما كان من خير وشر فكله ... من الله تقديرا بغير تردد وقد بعث الله النبي محمدا ... بإخلاص هذا الدين للمتفرد وتكفير عباد القبور ومن على ... طريقتهم من كل غاو ومعتد فكن سالكا في منهج الحق والهدى ... لتنجو من حر الجحيم المؤبد وهذا اعتقاد للأئمة قبلنا ... ذوي العلم والتحقيق من كل مهتد كمثل الإمام الشافعي وأحمد ... ومالك والنعمان من كل سيد وأصحابهم من كل حبر وجهبذ ... وأتباعهم أهل التقى والتجرد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 584 ونحن على منهاجهم واعتقادهم ... نسير ولا نألو اجتهادا ونقتدى بحول إله العرش جل جلاله ... وتوفيقه والله بالخير يبتدي ونبرأ من كل ابتداع مخالف ... لأهل الهدى من قول كل ملدد ومن دين عباد القبور جميعهم ... ومن كل جهمي كفور وملحد ونبرأ من دين الخوارج إذ غلوا ... بتكفيرهم بالذنب كل موحد وظنوه دينا من سفاهة رأيهم ... وتشديدهم في الدين أي تشدد ومن كل دين خالف الحق والهدى ... وليس على نهج النبي محمد فيا أيها الناس اسمعوا وتفطنوا ... جميعا لما قد قلته في المنضد فإن كان حقا واضحا وعلى الهدى ... كما هو معلوم لدى كل مهتد عليه من الحق المبين دلائل ... تلوح وتبدو جهرة للموحد ففيئوا إلى دين الهدى وذروا الهوى ... ولا تتبعوا آراء كل ملدد يرى الدين في أقوال من ضل واعتدى ... وزاغ عن السمحاء من قول أحمد ويا عجبا كيف اطمأنت نفوسكم ... بتغيير دين المصطفى خير مرشد فتأتون بالشرك المحرم جهرة ... ينادى به في كل ناد ومشهد وما منكمو من منكِرٍ ومفند ... لذلك جهرا باللسان وباليد إذا كنتمو من أهل دين محمد ... فكيف استجزتم فعل أهل التمرد وكيف استلذيتم من العيش مطعما ... وما منكمو من منكِر ومفند وكيف لكم طاب المنام وتهدؤوا ... وأنتم ترون الكفر بالله يزدد وكيف لكم قر القرار وأنتمو ... على حالة لا ترتضى للموحد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 585 ألا فأفيقوا وانظروا وتفكروا ... فما مبصر في الدين يوما كأرمد وليس أخو جهل كمن كان عارفا ... ولا آمن في دينه كالمقلد ونحن على ما قد أبنا من الهدى ... نجاهد ما عشنا ونهدي ونهتدي ونبذل في إظهار دين محمد ... نفوسا وأموالا بغير تردد ولو تلفت منا النفوس بأسرها ... وباد جميع المال من كل أتلد وطارفه حتى يفيئوا إلى الهدى ... ويظهر دين الله جهرا لمهتد فإن لم يكن حقا لديكم وواضحا ... وليس على الدين القويم المحمدي فهاتوا دليلا من كتاب وسنة ... ومن قول أصحاب النبي محمد وأتباعهم والتابعين على الهدى ... وكل إمام حافظ ومسدد وحاشا وكلا ما إلى ذاك مسلك ... يجيء به من زاغ عن دين أحمد وما هو إلا في مهامه تائه ... بريء من الإسلام غاو ومعتد ويا من على دين النبي محمد ... ذوي الحق من بدو وسكان أبلد وأعني بذا سكان نجد ومن على ... طريقتهم من كل هاد ومهتد تعالوا بنا نحيي رياضا من الهدى ... ونعمر أركانا لدين محمد عفت وانمحت في كل قطر وموطن ... ولم يبق إلا من على دين أحمد فأنتم على السمحاء باد يقينها ... موضحة معلومة للموحد فعضوا عليها بالنواجذ واصبروا ... فأنتم حماة الدين في كل مشهد وأنتم على الدين الحنيفي والهدى ... وغيركمو لا شك بالجهل مرتد فيا أيها الإخوان جدوا وشمروا ... لنصرة دين الله بالمال واليد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 586 وبيعوا نفوسا في رضى الله واطلبوا ... بذاك خلودا في نعيم مؤبد فما هذه الدنيا بدار إقامة ... سنظعن عنها عن قريب ونفتدي ولكنما دار الإقامة والبقا ... إذا ما بعثنا من قبور وألحد هي الدار في الأخرى فإن كنت حازما ... فإنك ذا فقر بها فتزود فاعدد لها إن كنت بالله مؤمنا ... حنانيك أعمالا لتنجو في غد إذا تم هذا واستبان لديكمو ... وقد كان معلوما بغير تردد فيلزمكم أيضا حقوق كثيرة ... من الدين في الإسلام من قول أحمد وذلك أن توفوا بعهد إمامكم ... على الكره منكم والرضى والتحمد وتعطونه في ذاك سمعا وطاعة ... كما جاء في النص الأكيد المؤيد إذا كان بالمعروف يأمركم به ... وينهى عن الفحشاء من كل مفسد ولو جار في أخذ من المال واعتدى ... بضرب وتنكيل عنيف منكد فلا تخرجوا يوما عليه تعنتا ... تريدون كشفا للظلامة باليد كما فعلت أعني الخوارج إذ غلوا ... وقد مرقوا من دينهم بالتشدد بغير دليل من كتاب وسنة ... ولكن برأي منهمو والتجهد فكانوا كلاب النار يوم معادنا ... ولم يغن عنهم ما أتوا من تعبد ومنها جهاد الكافرين ومن عصى ... وخالف أمر الله من كل معتد وقد كان معلوما من الدين واضحا ... ولا شك في هذا لدى كل مهتد ومنها حقوق المسلمين لبعضهم ... على بعضهم حقا لكل موحد فما مسلم إلا وبالذنب قد أتى ... وقارف أو قد جاء يوما بمؤبد فيعطى الحقوق اللازمات لدينه ... وإسلامه إذ كان للخير ينقد يوالى على هذا وترعى حقوقه ... كما قال هذا كل حبر مسدد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 587 ويحمد من وجه على حسناته ... ويثنى عليه بالجميل ليزدد كما أنه بالفعل للخير والتقى ... يثاب بلا شك لدى كل مهتد ويبغض من وجه على هفواته ... وزلاته من غير بغض مبعد ليقلع عن تلك المعاصي وفعلا ... وينْزجر الباقون عن كل مفسد كما أنه بالسيئات وفعلها ... يعاقب تنكيلا بغير تشدد فمن لم يراع ما ذكرناه لم ين ... على المنهج الأسنى يسير ويقتدي وضاعت حقوق المسلمين لبعضهم ... على بعضهم في الدين دين محمد وصار إلى دين الخوارج إذ غلوا ... ولم يهتدوا يوما إلى قول مرشد وهذا قليل من كثير فمن رد ... من الخير منهاجا إليه ليهتدي فيسأل أهل العلم عن طرق الهدى ... لينجو من حر الجحيم المؤبد ولا يتلق العلم عن كل جاهل ... فيهلك بل يصبو إلى قول ملحد وقال الشيخ: سليمان بن سحمان، رحمه الله تعالى: الحمد لله الذي هدانا لهذا، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله. أما بعد: فقد اشتملت هذه المنظومة، على ستة مشاهد، ذكرها العلامة ابن القيم، رحمه الله، في إغاثة اللهفان، في علامة صحة القلب; وختمت ما ذكره الشيخ بذكر ما عليه أهل السنة والجماعة من الاعتقاد، وهذا نصها: بحمد الله نبدأ في المقال ... وذكر الله في كل الفعال فذكر الله يجلو كل هم ... عن القلب السليم على التوال فللقلب السليم إذا تزكى ... علامات هنالك للكمال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 588 علامات لصحة كل قلب ... سليم عن مداخلة الضلال علامات ذكرن بكل نثر ... عن الأعلام واضحة لتال ولكني نظمت لها نظاما ... به أرجو التنافس في الفضال مع الإقرار بالتقصير فيها ... وذكر للعقيدة في المقال علامة صحة للقلب ذكره ... لذي العرش المقدس ذي الجلال وخدمة ربنا في كل حال ... بلا عجز هنالك أو ملال ولا يأنس بغير الله طرا ... سوى من قد يدل إلى المعالي ويذكر ربه سرا وجهرا ... ويدمن ذكره في كل حال ومنها وهو ثانيها إذا ما ... يفوت الورد يوما لاشتغال فيألم للفوات أشد مما ... يفوت على الحريص من الفضال ومنها شحه بالوقت يمضي ... ضياعا كالشحيح ببذل مال وأيضا من علامته اهتمام ... بهم واحد غير انتحال فيصرف همه لله صرفا ... ويترك ما سواه من المقال وأيضا من علامته إذا ما ... دنا وقت الصلاة لذي الجلال وأحرم داخلا فيها بقلب ... منيب خاضع في كل حال تناءى همه والغم عنه ... بدنيا تضمحل إلى زوال ووافى راحة وسرور قلب ... وقرة عينه ونعيم بال ويشق الخروج عليه منها ... فيرغب جاهدا في الابتهال وأيضا من علامته اهتمام ... بتصحيح المقالة والفعال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 589 وأعمال ونيات وقصد ... على الإخلاص يحرص بالك أشد تحرصا وأشدهما ... من الأعمال ثمت لا يبالي بتفريط المقصر ثم فيها ... وإفراط وتشديد لغال وتصحيح النصيحة غير غش ... يمازج صفوها يوما بحال ويحرص في اتباع النص جهدا ... مع الإحسان في كل الفعال ولا يصغى لغير النص طرا ... ولا يعبأ بآراء الرجال فست مشاهد للقلب منها ... علامات عن الداء العضال ويشهد منة الرحمن يوما ... بما أسدى عليه من الفضال ويشهد منه تقصيرا وعجزا ... بحق الله في كل الخلال فقلب ليس يشهدها سقيم ... ومنكوس لفعل الخير قال فإن رمت النجاة غدا وترجو ... نعيما لا يصير إلى زوال نعيما لا يبيد وليس يفنى ... بدار الخلد في غرف عوال فلا تشرك بربك قط شيئا ... فإن الله جل عن المثال إله واحد أحد عظيم ... عليم عادل حكم الفعال رحيم بالعباد إذا أنابوا ... وتابوا من متابعة الضلال شديد الانتقام بمن عصاه ... ويصليه الجحيم ولا يبالي فبادر بالذي يرضى لتحظى ... بخير في الحياة وفي المآل ولازم ذكره في كل وقت ... ولا تركن إلى قيل وقال وأهل العلم جالسهم وسائل ... ولا يذهب زمانك في اغتفال وأحسن وانبسط وارفق ونافس ... لأهل الخير في رتب المعالي فحسن البشر مندوب إليه ... ويكسو أهله ثوب الجمال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 590 وأحبب في الإله وعاد فيه ... وأبغض جاهدا فيه ووال وأهل الشرك باينهم وفارق ... ولا تركن إلى أهل الضلال وتشهد قاطعا من غير شك ... بأن الله جل عن المثال علا بالذات فوق العرش حقا ... بلا كيف ولا تأويل غال علو القدر والقهر اللذان ... هما لله من صفة الكمال بهذا جاءنا في كل نص ... عن المعصوم من صحب وآل وينْزل ربنا في كل ليل ... إلى أدنى السماوات العوالي لثلث الليل ينْزل حين يبقى ... بلا كيف على مر الليالي ينادي خلقه: هل من منيب ... وهل من تائب في كل حال؟ وهل من سائل يدعو بقلب ... فيعطى سؤله عند السؤال؟ وهل مستغفر مما جناه ... من الأعمال أو سوء المقال؟ وتشهد أنما القرآن ... حقا كلام الله من غير اعتلال ولا تمويه مبتدع جهول ... بخلق القول عن أهل الضلال وآيات الصفات تمر مرا ... كما جاءت على وجه الكمال ورؤيا المؤمنين له تعالى ... عيانا في القيامة ذي الجلال يرى كالبدر 1 أو كالشمس صحوا ... بلا غيم ولا وهم خيال وميزان الحساب كذاك حقا ... مع الحوض المطهر كالزلال   1 أي: كما يرى البدر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 591 ومعراج الرسول إليه حق ... بنص وارد للشك جال كذاك الجسر يبسط للبرايا ... على متن السعير بلا محال فناج سالم من كل شر ... وهاو هالك للنار صال وتؤمن بالقضا خيرا وشرا ... وبالمقدور في كل الفعال وأن النار حق قد أعدت ... لأعداء الرسول ذوي الضلال بحكمة ربنا عدلا وعلما ... بأحوال الخلائق في المآل وأن الجنة الفردوس حق أعدت ... للهداة أولي المعالي بفضل منه إحسانا وجودا ... وتكريما لهم بعد الوصال 1 وكل في المقابر سوف يلقى ... بلا شك هنالك للسؤال نكيرا منكرا حقا بهذا ... أتانا النقل عن صحب وآل وأعمالا تقارنه فإما ... بخير قارنت أو سوء حال فيا فردا بلا ثان أجرني ... وثبتني بعزك ذا الجلال وعاملني بعفوك واغن قلبي ... بفضلك عن حرامك بالحلال ونق القلب من درن الخطايا ... ورشني من فواضلك الجزال ولاطف باللطائف والعنايا ... ضعيفا في جنابك ذا اتكال وجملني بعافية وعفو ... فإن تمنن بعفوك لا أبال وصلى الله ما غنت بأيك ... على الأغصان من طلح وظال تنادي دائما تدعو هديلا ... حمامات على فنن عوال على المعصوم أفضل كل خلق ... وأزكى الخلق مع صحب وآل   1 أي: الوصول. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 592 (رسالة الإمام عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل إلى أبو اليسار الدمشقي وناصر الدين الحجازي) قال الإمام عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل، وفقه الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد العزيز بن عبد الرحمن، آل فيصل، إلى جناب الأخوين المكرمين: الشيخ الفاضل أبو اليسار الدمشقي، وناصر الدين الحجازي، سلمهما الله تعالى. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أما بعد: فإني أحمد إليكما الله، الذي لا إله إلا هو، على نعمه التي من أجلها: نعمة الإسلام، ونشكره سبحانه، إذ جعلنا من أهلها وأنصارها والذابين عنها; ونسأله أن يصلي على عبده، ورسوله، وحبيبه، وخيرته من خلقه، محمد، وآله وصحبه وحزبه. وغير ذلك: ورد علينا ردكم على عبد القادر الإسكندراني، فرأيناه ردا سديدا، وجوابا صائبا مفيدا، وافيا بالمقصود; فحمدنا الله على ما من به عليكم، من معرفة الحق والبصيرة فيه، وعرضناه على مشائخ المسلمين، فاستحسنوه وأجازوه; فالحمد لله الذي جعل لأهل الحق بقية وعصابة، تذب عن دين المرسلين، وتحمي حماه عن زيغ الزائغين، وشبه المارقين والملحدين; فلربنا الحمد لا نحصي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 593 ثناء عليه، بل هو كما أثنى على نفسه، وفوق ما يثني به عليه خلقه. وهذه منة عظيمة، ومنحة جليلة جسيمة، حيث جعلكم الله في هذه الأزمان، التي غلب على أكثر أهلها الجهل والهوى، والإعراض عن النور والهدى، واستحسنوا عبادة الأصنام والأوثان، وصرفوا لها خالص حق الملك الديان، ورأوا أن ذلك قربة ودين يدينون به، ولم يوجد من أزمان متطاولة، من ينهى عن ذلك، أو يغيره; فعند ذلك اشتدت غربة الإسلام، واستحكم الشر والبلاء، وطمست أعلام الهدى، وصار من ينكر ذلك، ويحذر عنه، خارجيا قد أتى بمذهب لا يعرف، لأنهم لا يعرفون إلا ما ألفته طباعهم، وسكنت إليه قلوبهم، وما وجدوا عليه أسلافهم وآباءهم، من الكفر، والشرك، والبدع، والمنكرات الفظيعة؛ فالعالم بالحق، والعارف له، والمنكر للباطل، والمغير له، يعد بينهم وحيدا غريبا. فاغتنموا رحمكم الله الدعوة إلى الله، وإلى دينه وشرعه، ودحض حجج من خالف ما جاءت به رسله، ونزلت به كتبه، من البينات والهدى، وأن تكون الدعوة إلى الله، بالحكمة والموعظة الحسنة، بالحجة والبيان، حتى يمن الله الكريم عليكم بمن يساعدكم على هذا; فإن القيام في ذلك من أوجب الواجبات، وأهم المهمات، وأفضل الأعمال الصالحات; لا سيما في هذا الزمان، الذي قل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 594 خيره، وكثر شره، قال صلى الله عليه وسلم " من دعا إلى هدى، كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه، من غير أن ينقص من أجورهم شيء " 1 وقال لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: " فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا، خير لك من حمر النعم " 2؛ ونحن إن شاء الله من أنصاركم، وأعوانكم. ومن حسن توفيق الله لكم: أن أقامكم في آخر هذا الزمان دعاة إلى الحق، وحجة على الخلق، فاشكروه على ذلك; واعلموا أن من أقامه الله هذا المقام، لا بد أن يتسلط عليه الأعداء بالأذى والامتحان، فليقتد بمن سلف من الأنبياء والمرسلين، ومن على طريقهم من الأئمة المهديين، ولا يثنيه ذلك عن الدعوة إلى الله، فإن الحق منصور، وممتحن، والعاقبة للمتقين في كل زمان ومكان. وهذه 3 هدية نهديها إليكم، من كلام علماء المسلمين، وبيان ما نحن ومشائخنا عليه، من الطريقة المحمدية، والعقيدة السلفية، ليتبين لكم حقيقة ما نحن عليه، وما ندعو إليه، نحن وسلفنا الماضون; نسأل الله لنا ولكم التوفيق، والهداية لأقوم منهج وطريق، والسلام. وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم آخر الجزء الأول ويليه الجزء الثاني وهو: كتاب التوحيد   1 مسلم: العلم (2674) , والترمذي: العلم (2674) , وأبو داود: السنة (4609) , وأحمد (2/397) , والدارمي: المقدمة (513) . 2 البخاري: الجهاد والسير (3009) , ومسلم: فضائل الصحابة (2406) , وأبو داود: العلم (3661) , وأحمد (5/333) . 3 إشارة إلى كتاب: الهدية السنية, للشيخ سليمان بن سحمان, المطبوعة بمصر سنة 1344 هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 595 المجلد الثاني: ( كتاب التوحيد ) كتاب التوحيد ... كتاب التّوحيد بسم الله الرحمن الر حيم كتاب التوحيد [أربعة قواعد يتميز بها المسلم من المشرك] قال شيخ الإسلام: محمد بن عبد الوهاب، قدس الله روحه: بسم الله الرحمن الر حيم الحمد لله الذي يستدل على وجوب وجوده ببدائع له من الأفعال، المنزه في ذاته وصفاته عن النظائر والأمثال، أنشأ الموجودات فلا يعزب عن علمه مثقال، أحمده سبحانه وأشكره إذ هدانا لدين الإسلام، وأزاح عنا شبه الزيغ والضلال، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة موحد له في الغدو والآصال. وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله، نبي جاءنا بدين قويم، فارتوينا مما جاءنا به من عذب زلال; اللهم صل على محمد، وعلى آل محمد وأصحابه الذين هم خير صحب وآل، وسلم تسليما. أما بعد: فقد طلب مني بعض الأصدقاء الذين لا تنبغي مخالفتهم، أن أجمع مؤلفا يشتمل على مسائل أربع، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 5 وقواعد أربع، يتميز بهن المسلم من المشرك. الأولى: أن الذي خلقنا وصورنا لم يتركنا هملا، بل أرسل إلينا رسولا، معه كتاب من ربنا، فمن أطاع فهو في الجنة، ومن عصى فهو في النار، والدليل قوله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِداً عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً} [سورة المزمل آية: 15] ، وقال تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ [سورة النساء آية: 13"14] . الثانية: أنه سبحانه ما خلق الخلق إلا ليعبدوه وحده، مخلصين له الدين، والدليل على ذلك، قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [سورة الذاريات آية: 56] ، وقال: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [سورة البينة آية: 5] . الثالثة: أنه إذا دخل الشرك في عبادتك، بطلت ولم تقبل; وأن كل ذنب يرجى له العفو إلا الشرك، والدليل قوله تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [سورة الزمر آية: 65] ، وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً} [سورة النساء آية: 116] ، وقال تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [سورة المائدة آية: 72] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 6 ومن نوع هذا الشرك: أن يعتقد الإنسان في غير الله: من نجم، أو إنسان أو نبي، أو صالح، أو كاهن، أو ساحر، أو نبات، أو حيوان، أو غير ذلك، أنه يقدر بذاته على جلب منفعة من دعاه أو استغاث به، أو دفع مضرة، فقد قال الله تعالى: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ} [سورة فاطر آية: 2] ، وقال تعالى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ} [سورة يونس آية: 107] . فإذا تبين في القلب أنه عز وجل بهذه الصفة، وجب أن لا يستغاث إلا به، ولا يستعان إلا به، ولا يدعى إلا هو; ولذلك قال تعالى: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [سورة التوبة آية: 51] . وقال تعالى موبخا لأهل الكتاب الذين يستغيثون بعيسى وعزير، عليهما السلام، لما أنزل الله عليهم القحط والجوع: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} [سورة الإسراء آية: 56"57] . وقال تعالى لنبيه:صلى الله عليه وسلم {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} [سورة الكهف آية: 110] ، وقال تعالى: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 7 كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [سورة الأعراف آية: 188] . ومن نوع هذا الشرك: التوكل، والصلاة، والنذر، والذبح لغير الله، فقد قال الله تعالى: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [سورة هود آية: 123] ، وقال تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ} [سورة الفرقان آية: 58] ، وقال تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [سورة آل عمران آية: 122] ، وقال تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [سورة المائدة آية: 3] ، إلى قوله: {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} [سورة المائدة آية: 3] ، وقال تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [سورة الكوثر آية: 2] ، وقال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [سورة الأنعام آية: 162] . ومن نوع هذا الشرك: تحليل ما حرم الله، وتحريم ما أحل الله، واعتقاد ذلك، فقد قال تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [سورة التوبة آية: 31] ، وقال عدي بن حاتم، " يا رسول الله، ما عبدوهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما أحلوا لهم الحرام فأطاعوهم؟ وحرموا عليهم الحلال فأطاعوهم؟ قال: بلى; قال: فتلك عبادتهم " وأحبارهم ورهبانهم: علماؤهم وعبادهم; وذلك أنهم اتخذوهم أربابا، وهم لا يعتقدون ربوبيتهم، بل يقولون: ربنا وربهم الله، ولكنهم أطاعوهم في تحليل ما حرم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 8 الله، وتحريم ما أحل الله، وجعل الله ذلك عبادة. فمن أطاع إنسانا عالما، أو عابدا، أو غيره، في تحريم ما أحل الله، أو تحليل ما حرم الله، واعتقد ذلك بقلبه، فقد اتخذه ربا، كالذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله. ومن ذلك: " أن أناسا من المشركين، قالوا: يا محمد، الميتة من قتلها؟ قال: الله; قالوا: كيف تجعل قتلك أنت وأصحابك حلالا وقتل الله حراما؟ فنزل قوله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} 1") . ومن نوع هذا الشرك: الاعتكاف على قبور المشهورين بالنبوة، أو الصحبة، أو الولاية، وشد الرحال إلى زيارتها لأن الناس يعرفون الرجل الصالح وبركته ودعاءه، فيعكفون على قبره، ويقصدون ذلك; فتارة يسألونه وتارة: يسألون الله عنده; وتارة يصلون ويدعون الله عند قبره. ولما كان هذا بدء الشرك، سد النبي صلى الله عليه وسلم هذا الباب; ففي الصحيحين أنه قال في مرض موته: " لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد "2، يحذر ما صنعوا. قالت عائشة: (ولولا ذلك لأبرز قبره، ولكن كره أن يتخذ مسجدا) . وقال: " لا تتخذوا قبري عيدا، وصلوا عليّ حيث كنتم، فإن صلاتكم تبلغني "3 وقال صلى الله عليه وسلم: " لعن الله زائرات   1 النسائي: الضحايا (4437) , وأبو داود: الضحايا (2819) . 2 البخاري: الجنائز (1390) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (531) , والنسائي: المساجد (703) , وأحمد (1/218 ,6/34 ,6/121 ,6/146 ,6/255) , والدارمي: الصلاة (1403) . 3 أبو داود: المناسك (2042) , وأحمد (2/367) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 9 القبور، والمتخذين عليها المساجد، والسرج "1 وفي الموطأ عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد "2. وفي صحيح مسلم عن علي، قال: "بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا أدع قبرا مشرفا إلا سويته، ولا أدع تمثالا إلا طمسته "3، فأمر بمسح التماثيل من الصور الممثلة على صورة الميت، والتمثال الشاخص المشرف فوق قبره، فإن الشرك يحصل بهذا أو بهذا. "وبلغ عمر رضي الله عنه أن قوما يذهبون إلى الشجرة التي بايع النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه تحتها، فأمر بقطعها"، "وأرسل إليه أبو موسى: أنه ظهر بتستر قبر دانيال، وعنده مصحف، فيه أخبار ما سيكون، وفيه أخبار المسلمين، وأنهم إذا جدبوا، كشفوا عن القبر، فمطروا. فأرسل إليه عمر، يأمره أن يحفر في النهار ثلاثة عشر قبرا، ويدفنه بالليل بواحد منها، لئلا يعرفه الناس، فيفتنون به". واتخاذ القبور مساجد مما حرم الله ورسوله، وإن لم يبن عليها مسجد، ولما كان اتخاذ القبور مساجد، وبناء المساجد عليها محرما، لم يكن من ذلك شيء على عهد الصحابة والتابعين. وكان الخليل عليه السلام في المغارة التي دفن فيها، وهي مسدودة، لا أحد يدخلها، ولا تشد الصحابة الرحال إليه، ولا إلى غيره من المقابر، ففي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم   1 الترمذي: الصلاة (320) , والنسائي: الجنائز (2043) , وأبو داود: الجنائز (3236) , وأحمد (1/229 ,1/287 ,1/324) . 2 مالك: النداء للصلاة (416) . 3 مسلم: الجنائز (969) , والترمذي: الجنائز (1049) , والنسائي: الجنائز (2031) , وأبو داود: الجنائز (3218) , وأحمد (1/96) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 10 قال: " لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدي هذا " 1، فكان من يأتي منهم إلى المسجد الأقصى، يصلون فيه، ثم يرجعون، لا يأتون مغارة الخليل ولا غيرها. وكانت مسدودة حتى استولى النصارى على الشام في أواخر المائة الرابعة، وجعلوا ذلك مكان كنيسة، ولما فتح المسلمون البلاد، اتخذه بعض الناس مسجدا، وأهل العلم ينكرون ذلك. وهذه البقاع وأمثالها لم يكن السابقون الأولون يقصدونها، ولا يزورونها، فإنها محل الشرك; ولهذا توجد فيها الشياطين كثيرا، وقد رآهم غير واحد على صورة الإنسان، يتلون لهم رجال الغيب، فيظنون أنهم رجال من الإنس غائبون عن الأبصار، وإنما هم جن، والجن يسمون رجالا، قال تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْأِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً} [سورة الجن آية: 6] . وما حدث في الإسلام من هذه الخرافات وأمثالها ينافي ما بعث الله به محمدا صلى الله عليه وسلم من كمال التوحيد، وإخلاص الدين لله وحده، وسد أبواب الشرك التي يفتحها الشيطان. ولهذا يوجد من كان أبعد عن التوحيد والإخلاص، ومعرفة الإسلام، أكثر تعظيما لمواضع الشرك; فالعارفون سنة محمد صلى الله عليه وسلم أولى بالتوحيد والإخلاص، وأهل الجهل بذلك: أقرب إلى الشرك والبدع; ولهذا يوجد في الرافضة أكثر مما يوجد في غيرهم، لأنهم أجهل من غيرهم، وأكثر شركا   1 البخاري: الجمعة (1189 ,1197) والحج (1864) والصوم (1996) , ومسلم: الحج (827) , والترمذي: الصلاة (326) , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1410) , وأحمد (3/78) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 11 وبدعًا؛ ولهذا: يعظمون المشاهد، ويخربون المساجد، فالمساجد لا يصلون فيها جمعة، ولا جماعة; وأما المشاهد فيعظمونها، حتى يرون زيارتها أولى من الحج. وكلما كان الرجل أتبع لدين محمد صلى الله عليه وسلم، كان أكمل توحيدا لله وإخلاصا لدينه; وإذا أبعد عن متابعته، نقص عن دينه بحسب ذلك; فإذا كثر بعده عنه، ظهر فيه من الشرك والبدع ما لا يظهر فيمن هو أقرب منه، لاتباع الرسول صلى الله عليه وسلم؛ والله إنما أمر بالعبادة في المساجد، وذلك عمارتها، فقال تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ} [سورة التوبة آية: 18] ، ولم يقل مشاهد الله، وأما نفس بناء المساجد، فيجوز أن يبنيه البر والفاجر، وذلك بناء، كما قال صلى الله عليه وسلم " من بنى لله مسجدا، بنى الله له بيتا في الجنة "1. ثم كثير من المشاهد أو أكثرها كذب، كالذي بالقاهرة، على رأس الحسين رضي الله عنه؛ فإن الرأس لم يحمل إلى هناك، وكذلك مشهد علي، إنما حدث في دولة بني بويه; قال الحافظ وغيره: هو قبر المغيرة بن شعبة; وعلي إنما دفن بقصر الإمارة بالكوفة; ودفن معاوية بقصر الإمارة بدمشق; ودفن عمرو بن العاص بقصر الإمارة بمصر، خوفا عليهم إذا دفنوا في المقابر أن تنبشهم الخوارج. المسألة الرابعة: أنه إذا كان عملك صوابا ولم يكن خالصا، لم يقبل؛ وإذا كان خالصا ولم يكن صوابا، لم   1 البخاري: الصلاة (450) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (533) , والترمذي: الصلاة (318) , وابن ماجه: المساجد والجماعات (736) , وأحمد (1/61) , والدارمي: الصلاة (1392) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 12 يقبل; فلا بد: أن يكون خالصًا، صوابًا، على شريعة محمد صلى الله عليه وسلم ولذلك قال سبحانه في علماء أهل الكتاب وعبادهم وقرائهم: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاًالَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} [سورة الكهف آية: 103"104] ، وقال تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً} [سورة الغاشية آية: 2"3"4] . وهذه الآيات ليست في أهل الكتاب خاصة، بل كل من اجتهد في علم، أو عمل، أو قراءة، وليس موافقا لشريعة محمد صلى الله عليه وسلم فهو من الأخسرين أعمالا، الذين ذكرهم الله تعالى في محكم كتابه العزيز، وإن كان له ذكاء، وفطنة، وفيه زهد وأخلاق، فهذا العذر لا يوجب السعادة والنجاة من العذاب إلا باتباع الكتاب والسنة; وإنما قوة الذكاء بمنزلة قوة البدن وقوة الإرادة، فالذي يؤتى فضائل علمية، وإرادة قوية، وليس موافقا للشريعة، بمنزلة من يؤتى قوة في جسمه وبدنه. وروي في صحيح البخارى عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " يخرج فيكم قوم، تحقرون صلاتكم مع صلاتهم، وصيامكم مع صيامهم، وعلمكم مع علمهم، يقرؤون القرآن، لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين، كما يمرق السهم من الرمية، ينظر في النصل فلا يرى شيئا، وينظر في القدح فلا يرى شيئا، وينظر في الريش فلا يرى شيئا، ويتمارى في الفوق "1.   1 البخاري: فضائل القرآن (5058) , ومسلم: الزكاة (1064) , وأحمد (3/56) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 13 وروى في صحيح البخاري، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " يأتي في آخر الزمان ناس حدثاء الأسنان، سفهاء الأحلام، يقولون من قول خير البرية، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، لا يجاوز إيمانهم حناجرهم، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجرا لمن قتلهم يوم القيامة "1. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يكون في آخر الزمان رجال كذابون، يأتون من الأحاديث بما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم، فإياكم وإياهم! لا يضلونكم، ولا يفتنونكم! "2 رواه أبو هريرة. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا له من أمته حواريون، وأصحاب يأخذون بسنته، ويقتدون بأمره. ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف، يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن. وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل "3 رواه ابن مسعود رضي الله عنه. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تزال طائفة من أمتي قائمة على الحق، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم، حتى يأتي الله بأمره، وهم على ذلك "4 رواه معاوية رضي الله عنه: وقال صلى الله عليه وسلم: " كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى قيل: يا رسول الله، ومن يأبى؟ قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى "5 رواه أبو هريرة. رضي الله عنه وعن   1 البخاري: المناقب (3611) , ومسلم: الزكاة (1066) , والنسائي: تحريم الدم (4102) , وأبو داود: السنة (4767) , وأحمد (1/81) . 2 مسلم: مقدمة (7) , وأحمد (2/321 ,2/349) . 3 مسلم: الإيمان (50) , وأحمد (1/458) . 4 البخاري: المناقب (3641) , ومسلم: الإمارة (1037) . 5 البخاري: الاعتصام بالكتاب والسنة (7280) , وأحمد (2/361) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 14 ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا يؤمن أحدكم، حتى يكون هواه تبعا لما جئت به "1. وقد تبين أن الواجب طلب علم ما أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم من الكتاب والحكمة، ومعرفة ما أراد بذلك، كما كان عليه الصحابة، والتابعون، ومن سلك سبيلهم فكل ما يحتاج إليه الناس، فقد بينه الله ورسوله، بيانا شافيا كافيا، فكيف أصول التوحيد، والإيمان؟ ثم إذا عرف ما بينه الرسول، نظر في أقوال الناس وما أرادوا بها، فعرضت على الكتاب والسنة، والعقل الصريح الذي هو موافق للرسول، فإنه الميزان مع الكتاب، فهذا سبيل الهدى. وأما سبيل الضلال والبدع والجهل، فعكسه أن تبدع بدعة بآراء رجال وتأويلاتهم، ثم تجعل ما جاء به الرسول تبعا لها، وتحرف ألفاظه وتأويله على وفق ما أصلوه؛ وهؤلاء تجدهم في نفس الأمر لا يعتمدون على ما جاء به الرسول، ولا يتلقون منه الهدى، ولكن ما وافقهم منه قبلوه، وجعلوه حجة لا عمدة، وما خالفهم منه تأولوه، كالذين يحرفون الكلم عن مواضعه، أو فوضوه، كالذين لا يعلمون الكتاب إلا أماني. وكثير منهم إنما ينظر في تفسير القرآن والحديث فيما يقوله موافقة على المذهب; وكثير منهم لم يكن عمدتهم في نفس الأمر اتباع نص أصلا، كالذين ذكرهم الله من اليهود الذين يفترون على الله الكذب، وهم يعلمون;   1 البخاري: الإيمان (13) , ومسلم: الإيمان (45) , والترمذي: صفة القيامة والرقائق والورع (2515) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (5016 ,5017) , وابن ماجه: المقدمة (66) , وأحمد (3/176 ,3/272) , والدارمي: الرقاق (2740) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 15 ثم جاء من بعدهم من ظن صدق ما افترى أولئك، وهم في شك منهم، كما قال تعالى: {وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ} [سورة الشورى آية: 14] . ففي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم: " لتتبعن سنن من كان قبلكم، حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه. قالوا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟ "1. فهذا دليل على أن ما ذم الله به أهل الكتاب، يكون في هذه الأمة من يشبههم فيه، هذا حق قد شوهد، قال الله تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [سورة فصلت آية: 53] . فمن تدبر ما أخبر الله به رسوله، رأى: أنه قد وقع من ذلك أمور كثيرة. ومن زاد في الدين بشيء ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم وليس عليه الصحابة والتابعون، فكأنما نقص، عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تشددوا على أنفسكم فيشدد الله عليكم، فإن قوما شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم، فتلك بقاياهم في الصوامع والديار، رهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم "2. وعن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ما بال قوم يتنزهون عن شيء أصنعه؟! فوالله إني لأعلمهم، وأشدهم لله خشية "3. وعن أنس بن مالك قال: " جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم؛ فلما أخبروا   1 البخاري: أحاديث الأنبياء (3456) , ومسلم: العلم (2669) , وأحمد (3/84 ,3/89) . 2 أبو داود: الأدب (4904) . 3 البخاري: الأدب (6101) , ومسلم: الفضائل (2356) , وأحمد (6/45 ,6/181) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 16 كأنهم تقالوها، قالوا: وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم، وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟ فقال أحدهم: أما أنا فأصلي الليل ولا أرقد; وقال أحدهم: أنا أصوم الدهر ولا أفطر; وقال الآخر: أنا أعتزل النساء ولا أتزوج فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أنتم الذين قلتم: كذا وكذا؟ أما والله، إني لأخشاكم لله، وأتقاكم له، ولكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء؛ فمن رغب عن سنتي، فليس مني" رواه البخاري ; وقال صلى الله عليه وسلم "أنتم أعلم بأمر دنياكم فخذوا به "1. وعن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} 2 قال صلى الله عليه وسلم: " إذا رأيتم الذين يتبعون المتشابه، ويتركون المحكم، فأولئك الذين سمى الله: أهل الزيغ، فاحذروهم " وعن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: " هاجرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسمع صوت رجلين اختلفا في آية، فخرج في وجهه الغضب، فقال: إنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم، واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيء، فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء، فاجتنبوه ". وقال صلى الله عليه وسلم: " من أحيا سنة من سنتي قد أميتت بعدي، فإن له من الأجر مثل أجور من عمل بها، من غير أن ينقص من أجورهم شيء. ومن ابتدع بدعة ضلالة لا   1 مسلم: الفضائل (2363) , وابن ماجه: الأحكام (2471) , وأحمد (6/123) . 2 البخاري: تفسير القرآن (4547) , ومسلم: العلم (2665) , وأبو داود: السنة (4598) , وابن ماجه: المقدمة (47) , وأحمد (6/48 ,6/124 ,6/132 ,6/256) , والدارمي: المقدمة (145) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 17 يرضاها الله ورسوله، كان عليه من الإثم مثل آثام من عمل بها، لا ينقص ذلك من أوزارهم شيء "1 رواه بلال بن الحارث المازني رضي الله عنه، وروى في صحيح البخاري، ومسلم عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد "2. وروى عن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعائشة: " إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا، أصحاب البدع والأهواء من هذه الأمة ". وعن العرباض بن سارية، قال: " صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح، فوعظنا موعظة وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون، وقال قائل: يا رسول الله، كأنها موعظة مودع، فأوصنا; قال: أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة لأميركم، وإن كان عبدا حبشيا، فإنه من يعش منكم، فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة "3. وروي في سنن أبي داود، والترمذي، وقال: حديث حسن صحيح، وروي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " تفرقت بنو إسرائيل على اثنتين وسبعين ملة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين ملة، كلهم في النار، إلا واحدة. قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال: من عمل بما أنا عليه اليوم، وأصحابي " قال عبد الله   1 الترمذي: العلم (2677) , وابن ماجه: المقدمة (210) . 2 البخاري: الصلح (2697) , ومسلم: الأقضية (1718) , وأبو داود: السنة (4606) , وابن ماجه: المقدمة (14) , وأحمد (6/240 ,6/270) . 3 أبو داود: السنة (4607) , والدارمي: المقدمة (95) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 18 ابن مسعود: "إن أحسن الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها" ورواه جابر مرفوعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعن أبي المختار الطائي، عن ابن أخي الحارث الأعور، عن الحارث الأعور، قال: "مررت بالمسجد، فإذا الناس يخوضون في الأحاديث، فدخلت على علي رضي الله عنه فقلت: يا أمير المؤمنين، ألا ترى أن الناس قد خاضوا في الأحاديث؟ قال: أوقد فعلوها؟ قلت: نعم; قال: فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ألا إنها ستكون فتنة، قلت: فما المخرج يا رسول الله؟ قال: كتاب الله، فيه نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم هو الفصل ليس بالهزل من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى من غيره أضله الله. وهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسن، ولا يشبع منه العلماء، ولا يخلق على كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه. وهو الذي لم تنته الجن إذ سمعته حتى قالوا: {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ} . من قال به صدق، ومن عمل به أُجر، ومن دعا إليه هُدي إلى صراط مستقيم". قوله: (لا تزيغ به الأهواء) ، يعني: لا يصير بسببه مبتدعا ضالا; وقوله: (لا تلتبس به الألسن) ; أي: لا يختلط به الجزء: 2 ¦ الصفحة: 19 غيره، بحيث يشبهه، ويلتبس الحق بالباطل، قال تعالى: {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [سورة الحجر آية: 9] . وقال صلى الله عليه وسلم: " إن الدين بدأ غريبا، وسيعود غريبا كما بدأ، فطوبى للغرباء، الذين يصلحون ما أفسد الناس من بعدي من سنتي "1 رواه طلحة عن أبيه عن جده; وقال صلى الله عليه وسلم: " من تمسك بسنتي عند فساد أمتي، فله أجر مائة شهيد " رواه أبو هريرة; وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: " إنكم في زمن من ترك منكم عشر ما أمر الله به هلك، ثم يأتي زمان من عمل بعشر ما أمر الله به نج ا"2 حديث غريب. وعن عبد الله بن مسعود، قال: " خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطا، ثم قال: هذا سبيل الله. ثم خط خطوطا عن يمينه، وعن شماله وقال: هذه سبل، على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه، وقرأ: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} 3") . وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " نزل القرآن على خمسة وجوه: حلال وحرام، ومحكم، ومتشابه، وأمثال; فأحلوا الحلال; وحرموا الحرام; واعملوا بالمحكم; وآمنوا بالمتشابه; واعتبروا بالأمثال ". وعن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الأمر ثلاثة: أمر بين غيه، فاجتنبه; وأمر بين رشده، فاتبعه; وأمر اختلف فيه، فكله إلى الله تعالى ".   1 الترمذي: الإيمان (2630) . 2 الترمذي: الفتن (2267) . 3 ابن ماجه: المقدمة (11) , وأحمد (3/397) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 20 وفي الصحيحين عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم: "مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن، مثل الأترجة، طعمها طيب، وريحها طيب ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن، مثل التمرة، طعمها طيب، ولا ريح لها ; ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن، مثل الريحانة، ريحها طيب وطعمها مر; ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن، مثل الحنظلة، طعمها مر ولا ريح لها "1 فبين أن في الذين يقرؤون القرآن، مؤمنين، ومنافقين. وإذا كانت سعادة الأولين والآخرين هي باتباع المرسلين فمن المعلوم أن أحق الناس بذلك أعلمهم بآثار المرسلين، وأتبعهم لذلك؛ فالعالمون بأقوالهم وأفعالهم، المتبعون لها، هم أهل السعادة في كل زمان ومكان، وهم: الطائفة الناجية من أهل كل ملة; وهم: أهل السنة والحديث من هذه الأمة. والرسل عليهم البلاغ المبين ; وقد بلغوا البلاغ المبين ; وخاتم الرسل: محمد صلى الله عليه وسلم أنزل الله عليه كتابه، مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه; فهو المهيمن على جميع الكتب; وقد بين أبين بلاغ وأتمه وأكمله، وكان أنصح الخلق لعباد الله، وكان بالمؤمنين رؤوفا رحيما، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، وجاهد في الله حق جهاده، وعبد الله حتى أتاه اليقين؛ فأسعد الخلق، وأعظمهم نعيما، وأعلاهم درجة أعظمهم اتباعا له وموافقة علما   1 البخاري: فضائل القرآن (5020 ,5059) والأطعمة (5427) والتوحيد (7560) , ومسلم: صلاة المسافرين وقصرها (797) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (5038) , وأبو داود: الأدب (4829) , وابن ماجه: المقدمة (214) , وأحمد (4/408) , والدارمي: فضائل القرآن (3363) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 21 وعملا; والله سبحانه وتعالى أعلم. وقال رحمه الله تعالى: أصل دين الإسلام وقاعدته: أمران: الأول: الأمر بعبادة الله وحده لا شريك له، والتحريض على ذلك، والموالاة فيه، وتكفير من تركه. الثاني: الإنذار عن الشرك في عبادة الله، والتغليظ في ذلك، والمعاداة فيه، وتكفير من فعله. والمخالفون في ذلك أنواع: فأشدهم مخالفة: من خالف في الجميع; ومن الناس من عبد الله وحده، ولم ينكر الشرك، ولم يعاد أهله. ومنهم: من عاداهم ولم يكفرهم. ومنهم: من لم يحب التوحيد ولم يبغضه. ومنهم: من كفرهم وزعم أنه مسبة للصالحين. ومنهم: من لم يبغض الشرك ولم يحبه. ومنهم: من لم يعرف الشرك، ولم ينكره. ومنهم: من لم يعرف التوحيد ولم ينكره. ومنهم:" وهو أشد الأنواع خطرا" من عمل بالتوحيد، لكن لم يعرف قدره، ولم يبغض من تركه، ولم يكفرهم. ومنهم: من ترك الشرك وكرهه، ولم يعرف قدره، ولم يعاد أهله، ولم يكفرهم; وهؤلاء قد خالفوا ما جاءت به الأنبياء من دين الله سبحانه وتعالى، والله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 22 وله أيضا: قدس الله روحه، ونور ضريحه: بسم الله الرحمن الر حيم أسأل الله الكريم، رب العرش العظيم، أن يتولاك في الدنيا والآخرة، وأن يجعلك ممن إذا أعطي شكر، وإذا ابتلي صبر، وإذا أذنب استغفر؛ فإن هذه الثلاث عنوان السعادة. اعلم، أرشدك الله لطاعته أن الحنيفية ملة إبراهيم: أن تعبد الله مخلصا له الدين، وبذلك أمر الله جميع الناس، وخلقهم لها، كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [سورة الذاريات آية: 56] . فإذا عرفت أن الله خلقك لعبادته، فاعلم أن العبادة لا تسمى عبادة إلا مع التوحيد، كما أن الصلاة لا تسمى صلاة إلا مع الطهارة ; فإذا دخل الشرك في العبادة فسدت، كالحدث إذا دخل في الطهارة، كما قال تعالى: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ} [سورة التوبة آية: 17] . فإذا عرفت أن الشرك إذا خالط العبادة أفسدها، وأحبط العمل، وصار صاحبه من الخالدين في النار، عرفت: أن أهم ما عليك معرفة ذلك، لعل الله أن يخلصك من هذه الشبكة، وهي الشرك بالله، وذلك بمعرفة أربع قواعد ذكرها الله في كتابه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 23 القاعدة الأولى: أن الكفار الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مقرون أن الله هو الخالق، الرازق، المحيي المميت، المدبر لجميع الأمور، ولم يدخلهم ذلك في الإسلام، والدليل قوله تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} [سورة يونس آية: 31] . القاعدة الثانية: أنهم يقولون: ما دعوناهم وتوجهنا إليهم، إلا لطلب القربة والشفاعة، نريد من الله لا منهم، لكن بشفاعتهم والتقرب إلى الله بهم؛ فدليل القربة قوله تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [سورة الزمر آية: 3] ، ودليل الشفاعة، قوله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [سورة يونس آية: 18] . والشفاعة شفاعتان: شفاعة منفية، وشفاعة مثبتة، فالشفاعة المنفية هي التي تطلب من غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله، والدليل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [سورة البقرة آية: 254] . والمثبتة هي التي تطلب من الله، فيما لا يقدر عليه إلا الله; والشافع مكرم بالشفاعة، والمشفوع له من رضي الله قوله وعمله، بعد الإذن، والدليل قوله تعالى: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 24 لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [سورة البقرة آية: 255] . القاعدة الثالثة: أن النبي صلى الله عليه وسلم ظهر على أناس متفرقين في عباداتهم: منهم من يعبد الشمس والقمر ومنهم من يعبد الملائكة; ومنهم من يعبد الأنبياء والصالحين؛ ومنهم من يعبد الأشجار والأحجار; وقاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يفرق بينهم; والدليل قوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ [سورة الأنفال آية: 39] . فدليل الشمس والقمر، قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [سورة فصلت آية: 37] ، ودليل الملائكة قوله تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} [سورة سبأ آية: 40"41] . ودليل الأنبياء قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ} الآية [سورة المائدة آية: 116] ، وقوله: {وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [سورة آل عمران آية: 80] ؛ ودليل الصالحين قوله تعالى: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 25 {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً} [سورة الإسراء آية: 56] . ودليل الأشجار والأحجار، قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} [سورة النجم آية: 19"20] ، وحديث أبي واقد الليثي، قال: " خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين، ونحن حدثاء عهد بكفر، وللمشركين سدرة، يعكفون عندها، وينوطون بها أسلحتهم، يقال لها ذات أنواط، فمررنا بسدرة، فقلنا: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط، كما لهم ذات أنواط، فقال; رسول الله صلى الله عليه وسلم: الله أكبر، إنها السنن، قلتم والذي نفسي بيده، كما قالت بنو إسرائيل لموسى:، {اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ إِنَّ هَؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} ". القاعدة الرابعة: أن مشركي زماننا أغلظ شركا من الأولين، لأن الأولين يخلصون لله في الشدة، ويشركون في الرخاء، ومشركي زماننا شركهم دائم في الرخاء والشدة، والدليل قوله تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [سورة العنكبوت آية: 65] . فعلى هذا: الداعي عابد والدليل قوله تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} [سورة الأحقاف آية: 5] . والله سبحانه أعلم، وصلى الله على محمد، وعلى آله وصحبه وسلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 26 [أربع قواعد يميز بها بين المسلمين والمشركين] وله أيضا رحمه الله تعالى: بسم الله الرحمن الر حيم أما بعد: فهذه أربع قواعد ذكرها الله في محكم كتابه، يعرف بها الرجل شهادة أن لا إله إلا الله، ويميز بها بين المسلمين والمشركين; فتدبرها، يرحمك الله; وأصغ إليها فهمك; فإنها عظيمة النفع. الأولى: أن الله ذكر أن الكفار في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يقرون أن الله الخالق، الرازق، لا يشاركه في ذلك ملك مقرب، ولا نبي مرسل; وأنه لا يرزق إلا هو; وأنه سبحانه منفرد بملك السماوات والأرض; وأن جميع الأنبياء، والمرسلين عبيد له، تحت قهره وأمنه. فإذا فهم أن هذا مقر به الكفار، ولا يجحدونه، وسألك بعض المشركين عن دليله، فاقرأ عليه، قوله تعالى في حق الكفار: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُون َسَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ ?قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ ?قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 27 تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} [سورة المؤمنون آية: 84"89] ، وقال تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} [سورة يونس آية: 31] . القاعدة الثانية: أنهم يعتقدون في الملائكة، والأنبياء، والأولياء، لأجل قربهم من الله تعالى، قال الله تعالى في الذين يعتقدون في الملائكة: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} [سورة سبأ آية: 40"41] . وقال: في الذين يعتقدون في الأنبياء: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً} [سورة المائدة آية: 75"76] . وقال في الذين يعتقدون في الأولياء: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ} الآية [سورة الإسراء آية: 57] . القاعدة الثالثة: وهي أن الله العلي الأعلى ذكر في كتابه، أن الكفار ما دعوا الصالحين، إلا لطلب التقرب من الله تعالى، وطلب الشفاعة; وإلا فهم مقرون بأنه لا يدبر الأمر إلا الله كما تقدم، فإذا طلب المشرك الدليل على ذلك، فاقرأ عليه قوله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 28 وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [سورة يونس آية: 18] ، وقال: {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} [سورة الزمر آية: 3] . فإذا فهمت هذه المسألة، وتحققت: أن الكفار عرفوا ثلاث هذه المسائل، وأقروا بها الأولى: أنه لا يخلق، ولا يرزق، ولا يخفض، ولا يرفع، ولا يدبر الأمر، إلا الله وحده، لا شريك له; الثانية: أنهم يتقربون بالملائكة والأنبياء، لأجل قربهم من الله وصلاحهم; الثالثة: أنهم معترفون أن النفع والضر بيد الله، ولكن الرجاء، من الملائكة والأنبياء للتقرب من الله، والشفاعة عنده. فتدبر هذا، تدبرا جيدا، واعرضه على نفسك ساعة بعد ساعة; فما أقل من يعرفه من أهل الأرض، خصوصا من يدعى العلم! فإذا فهمت هذا، ورأيت العجب، فاعرف وحقق المسألة الرابعة وهي: أن الذين في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يشركون دائما، بل تارة يشركون، وتارة يوحدون ويتركون دعاء الأنبياء والشياطين؛ فإذا كانوا في السراء دعوهم، واعتقدوا فيهم وإذا أصابهم الضر، والألم الشديد، تركوهم، وأخلصوا لله الدين، وعرفوا أن الأنبياء، والصالحين، لا يملكون نفعا، ولا ضرا. فإذا شك أحد في أن الكفار الأولين كانوا يخلصون لله بعض الأحيان، فاقرأ عليه قوله: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 29 ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْأِنْسَانُ كَفُوراً} [سورة الإسراء آية: 67] ، وقال تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الْأِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَاداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} [سورة الزمر آية: 8] . فهذا الذي هو من أصحاب النار: يخلص الدين لله تارة، ويخلص للملائكة والأنبياء تارة، وقال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ} [سورة الأنعام آية: 40"41] . وصلى الله على محمد، وآله وصحبه وسلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 30 [توحيد العبادة] وقال أيضا الشيخ محمد بن عبد الوهاب، أجزل الله له الأجر والثواب: بسم الله الرحمن الر حيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيد المرسلين، وإمام المتقين؛ سألت" رحمك الله" أن أكتب لك كلاما، ينفعك الله به. فأول ما أوصيك به: الالتفات إلى ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من عند الله تبارك وتعالى، فإنه جاء من عند الله بكل ما يحتاج إليه الناس، فلم يترك شيئا يقربهم إلى الله وإلى جنته إلا أمرهم به، ولا شيئا يبعدهم من الله، ويقربهم إلى عذابه، إلا نهاهم، وحذرهم عنه; فأقام الله الحجة على خلقه، إلى يوم القيامة; فليس لأحد حجة على الله بعد بعثه محمدا صلى الله عليه وسلم؛ قال الله عز وجل فيه وفي إخوانه من المرسلين: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} [سورة النساء آية: 163] إلى قوله: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً} [سورة النساء آية: 165] . فأعظم ما جاء به من عند الله، وأول ما أمر الناس به: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 31 توحيد الله بعبادته وحده لا شريك له، وإخلاص الدين له وحده، كما قال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} [سورة المدثر آية: 1"3] ، ومعنى قوله: {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} [سورة المدثر آية: 3] أي: عظم ربك بالتوحيد، وإخلاص العبادة له وحده لا شريك له; وهذا قبل الأمر بالصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، وغيرهن، من شعائر الإسلام; ومعنى: {قُمْ فَأَنْذِرْ} [سورة المدثر آية: 2] ، أي: أنذر عن الشرك في عبادة الله وحده لا شريك له; وهذا قبل الإنذار عن الزنى، والسرقة، والربا، وظلم الناس، وغير ذلك من الذنوب الكبار. وهذا الأصل هو أعظم أصول الدين، وأفرضها، ولأجله خلق الله الخلق، كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [سورة الذاريات آية: 56] ، ولأجله أرسل الله الرسل، وأنزل الكتب، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [سورة النحل آية: 36] ، ولأجله تفرق الناس بين مسلم وكافر. فمن وافى الله يوم القيامة وهو موحد لا يشرك به شيئا دخل الجنة; ومن وافاه بالشرك دخل النار، وإن كان من أعبد الناس؛ وهذا معنى قولك: لا إله إلا الله، فإن الإله، هو: الذي يدعى، ويرجى، لجلب الخير، ودفع الشر، ويخاف منه، ويتوكل عليه. فإذا عرفت هذا، فعليك" رحمك الله" بمعرفة أربع قواعد; قلت: تقدم نحوها، فتركناها خشية التكرار. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 32 [أربع قواعد يميز بهن بين مذهب المسلمين ومذهب المشركين] وقال أيضا رحمه الله تعالى: هذه أربع قواعد من قواعد الدين; يميز بهن المسلم بين مذهب المسلمين من مذهب المشركين. القاعدة الأولى: أن هؤلاء المشركين الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مقرون بأن الله هو الخالق، الرازق، المحيي، المميت، المدبر، الضار، النافع; ولم ينفعهم إقرارهم، إذ لم يخلصوا الدعاء لله وحده; والدليل على ذلك قوله تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} [سورة يونس آية: 31] ، وقوله تعالى: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} [سورة المؤمنون آية: 84"85] ، إلى قوله: {فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} [سورة المؤمنون آية: 89] ، وقوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ} الآية [سورة الزمر آية: 38] . وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 33 مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} [سورة سبأ آية: 22] ، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ} الآية [سورة فاطر آية: 13"14] ، وقال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ} [سورة الأحقاف آية: 4] إلى قوله: {وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [سورة الأحقاف آية: 6] . القاعدة الثانية: أن هولاء المشركين الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما قصدوا من قصدوا بعبادتهم إلا لأجل التقرب والشفاعة منهم إلى الله، وأنه عز وجل نزه نفسه عن أن يتخذ من دونه ولي أو شفيع؛ بل أمرنا بالإخلاص، وهو: أن لا يجعل له واسطة: فلا نستغيث، ولا نستعين إلا به; والدليل على ذلك، قوله تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} الآية [سورة الزمر آية: 3] ، وقال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} الآية [سورة يونس آية: 18] ، وقال تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً} الآية [سورة الزمر آية: 44] . القاعدة الثالثة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسل إلى أناس، منهم: من يعبد الأصنام الجمادات، والسحرة، والكهنة، والشياطين; ومنهم: من يعبد الملائكة، والصالحين; فلم يفرق بين الكل، بل قاتلهم جميعا، ولا فرق بينهم، إلى أن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 34 كان الدين كله لله، والدليل على ذلك قوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} الآية [سورة الإسراء آية: 56"57] . وقال تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ} الآية [سورة سبأ آية: 40"41] ، وقال تعالى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ} [سورة يونس آية: 28] . القاعدة الرابعة: أن هؤلاء المشركين الذين قاتلهم النبي صلى الله عليه وسلم إذا أصابهم الضر لم يجعلوا لله واسطة، بل يدعونه وحده مخلصين له الدين، والدليل على ذلك قوله تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [سورة العنكبوت آية: 65] ، وقوله تعالى: {وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ} [سورة الروم آية: 33] ، وقوله تعالى: {وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ} الآية [سورة لقمان آية: 32] . وصلى الله على محمد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 35 [التوجه لغير الله بالدعاء] وله أيضا، رحمه الله تعالى: بسم الله الرحمن الر حيم اعلم رحمك الله: أن الحنيفية ملة إبراهيم، أن تعبد الله مخلصا له الدين، وبذلك أمر الله جميع الناس، وخلقهم لها، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [سورة الذاريات آية: 56] . فإذا عرفت أن الله خلقك لعبادته فاعلم أن العبادة لا تسمى عبادة إلا مع التوحيد، كما أن الصلاة لا تسمى صلاة، إلا مع الطهارة; فإذا دخل الشرك في العبادة فسدت، كالحدث إذا دخل في الطهارة، كما قال تعالى: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ} [سورة التوبة آية: 17] . فمن دعا غير الله، طالبا منه ما لا يقدر عليه إلا الله، من جلب خير، أو دفع ضر، فقد أشرك في عبادة الله، كما قال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [سورة الأحقاف آية: 5"6] ، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 36 خَبِيرٍ} [سورة فاطر آية: 13"14] . فأخبر تبارك وتعالى أن دعاء غير الله شرك، فمن قال: يا رسول الله! أو: يا عبد الله بن عباس: أو: يا عبد القادر، أو: يا محجوب! زاعما أنه يقضي حاجته إلى الله تعالى، أو أنه شفيعه عنده! أو وسيلته إليه، فهو الشرك الذي يهدر الدم، ويبيح المال، إلا أن يتوب من ذلك؛ وكذلك من ذبح لغير الله، أو نذر لغير الله، أو توكل على غير الله، أو رجا غير الله، أو التجأ إلى غير الله، أو استغاث بغير الله، فيما لا يقدر عليه إلا الله، فهو أيضا شرك. وما ذكرنا من أنواع الشرك فهو الذي قال الله فيه: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً} [سورة النساء آية: 48] ، وهذا الذي قاتل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم مشركي العرب، وأمرهم بإخلاص العبادة لله. ويتضح بمعرفة أربع قواعد: أولها: أن تعلم أن الله هو: الخالق، الرازق، المحيي، المميت، الضار، النافع، المدبر لجميع الأمور; والدليل على ذلك قوله تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} [سورة يونس آية: 31] ، وقوله تعالى: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 37 وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} [سورة المؤمنون آية: 84"89] . إذا عرفت هذه القاعدة، وأنهم أقروا بهذا، ثم توجهوا إلى غير الله، فاعرف القاعدة الثانية، وهي: أنهم يقولون: ما توجهنا إليهم ودعوناهم، إلا لطلب الشفاعة عند الله، نريد من الله لا منهم، لكن بشفاعتهم; والدليل على ذلك قوله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [سورة يونس آية: 18] . وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} [سورة الزمر آية: 3] . فإذا عرفت هذا، فاعرف القاعدة الثالثة، وهي: أن منهم من تبرأ من الأصنام، وتعلق بالصالحين، مثل عيسى، وأمه، والأولياء; قال الله فيمن اعتقد في عيسى وأمه: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [سورة المائدة آية: 75"76] ، وقال تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} الآية الجزء: 2 ¦ الصفحة: 38 [سورة التوبة آية: 31] . وقال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} [سورة الإسراء آية: 57] . والرسول صلى الله عليه وسلم قاتل من عبد الأصنام، ومن عبد الصالحين، ولم يفرق بين أحد منهم، حتى كان الدين كله لله. القاعدة الرابعة: وهي أن الأولين يخلصون لله في الشدائد، وينسون ما يشركون، كما قال تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [سورة العنكبوت آية: 65] . وأهل زماننا يخلصون الدعاء في الشدائد لغير الله؛ فإذا عرفت هذا، فاعرف أن شرك المشركين، الذين كانوا في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم أخف من شرك أهل زماننا، لأن أولئك يخلصون لله في الشدائد، وهؤلاء يدعون مشائخهم في الشدة والرخاء; والله أعلم. [رسالة الشيخ ابن عبد الوهاب إلى ابن عبيد وغيره يأمرهم بلإخلاص] وله أيضا، قدس الله روحه: بسم الله الرحمن الر حيم من محمد بن عبد الوهاب إلى من يصل إليه هذا الكتاب من المسلمين; سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، خصوصا: محمد بن عبيد، وعبد القادر العديلي، وابنه، وعبد الله بن سحيم، وعبد الله بن عضيب، وحميدان بن تركي وعلي بن زامل، ومحمد أبا الخيل، وصالح بن عبد الله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 39 أما بعد: فإن الله تبارك وتعالى، أرسل محمدا صلى الله عليه وسلم إلينا على حين فترة من الرسل، فهدى الله به إلى الدين الكامل، والشرع التام؛ وأعظم ذلك وأكبره، وزبدته، هو: إخلاص الدين، لله، بعبادته وحده لا شريك له، والنهي عن الشرك؛ وهو: أن لا يدعى أحد من دونه، من الملائكة، والنبيين، فضلا عن غيرهم; فمن ذلك: أن لا يسجد إلا لله، ولا يركع إلا له; ولا يدعى لكشف الضر إلا هو، ولا لجلب الخير إلا هو، ولا ينذر إلا له، ولا يحلف إلا به، ولا يذبح إلا له؛ وجميع العبادة لا تصلح إلا له وحده لا شريك له؛ وهذا معنى قول لا إله إلا الله ; فإن المألوه هو: المقصود، المعتمد عليه ; وهذا أمر هين عند من لا يعرفه، كبير عظيم عند من عرفه. فمن عرف هذه المسألة، عرف أن أكثر الخلق قد لعب بهم الشيطان، وزين لهم الشرك بالله، وأخرجه في قالب حب الصالحين وتعظيمهم. والكلام في هذا: ينبني على قاعدتين عظيمتين: الأولى: أن تعرف أن الكفار الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرفون الله، ويعظمونه، ويحجون، ويعتمرون; ويزعمون أنهم على دين إبراهيم الخليل; وأنهم يشهدون أنه لا يخلق، ويرزق ولا يدبر إلا الله وحده لا شريك له; كما قال تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} الآية [سورة يونس آية: 31] . فإذا عرفت أن الكفار يشهدون بهذا كله، فاعرف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 40 القاعدة الثانية وهي: أنهم يدعون الصالحين، مثل الملائكة، وعيسى، وعزير، وغيرهم; وكل من ينتسب إلى شيء من هؤلاء، سماه إلها; ولا يعني بذلك، أنه يخلق، أو يرزق; بل يقولون: هؤلاء شفعاؤنا عند الله، ويقولون: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [سورة الزمر آية: 3] . والإله في لغتهم، هو الذي يسمى في لغتنا: فيه السر; والذي يسمونه الفقراء: شيخهم; يعنون بذلك: أنه يدعى، وينفع، ويضر; وإلا فهم مقرون لله بالتفرد بالخلق، والرزق; وليس ذلك معنى الإله، بل الإله المقصود: المدعو، المرجو. لكن المشركون في زماننا أضل من الكفار الذين في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم من وجهين: أحدهما: أن الكفار إنما يدعون الأنبياء والملائكة في الرخاء; وأما في الشدائد، فيخلصون لله الدين، كما قال تعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ} الآية [سورة الإسراء آية: 67] . والثاني: أن مشركي زماننا، يدعون أناسا لا يوازنون عيسى والملائكة. إذا عرفتم هذا، فلا يخفى عليكم ما ملأ الأرض من الشرك الأكبر، عبادة الأصنام، هذا يأتي إلى قبر نبي، وهذا إلى قبر صحابي، كالزبير، وطلحة، وهذا إلى قبر رجل صالح وهذا يدعوه في الضراء، وفي غيبته; وهذا ينذر له، وهذا يذبح للجن، وهذا يدخل عليه من مضرة الدنيا والآخرة، وهذا يسأله خير الدنيا، والآخرة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 41 فإن كنتم تعرفون أن هذا الشرك من جنس عبادة الأصنام الذي يخرج الرجل من الإسلام، وقد ملأ البر، والبحر، وشاع، وذاع، حتى إن كثيرا ممن يفعله يقوم الليل، ويصوم النهار، وينتسب إلى الصلاح، والعبادة"فما بالكم لم تفشوه في الناس؟ وتبينوا لهم أن هذا كفر بالله، مخرج عن الإسلام. أرأيتم لو أن بعض الناس، أو أهل بلدة، تزوجوا أخواتهم، أو عماتهم، جهلا منهم، أفيحل لمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن يتركهم؟ لا يعلمهم أن الله حرم الأخوات، والعمات؟ فإن كنتم تعتقدون أن نكاحهن أعظم مما يفعله الناس اليوم عند قبور الأولياء والصحابة، وفي غيبتهم عنها، فاعلموا أنكم لم تعرفوا دين الإسلام، ولا شهادة أن لا إله إلا الله، ودليل هذا مما تقدم من الآيات التي بينها الله في كتابه; وإن عرفتم ذلك، فكيف يحل لكم كتمان ذلك، والإعراض عنه؟ وقد {أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ} [سورة آل عمران آية: 187] . فإن كان الاستدلال بالقرآن عندكم هزوا وجهلا، كما هي عادتكم، ولا تقبلونه، فانظروا في: الإقناع، في باب حكم المرتد، وما ذكر فيه من الأمور الهائلة التي ذكر أن الإنسان إذا فعلها فقد ارتد، وحل دمه، مثل: الاعتقاد في الأنبياء والصالحين. وجعلهم: وسائط بينه وبين الله، ومثل الطيران في الهواء، والمشي في الماء، فإذا كان من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 42 فعل هذه الأمور منكم، مثل: السائح الأعرج، ونحوه، تعتقدون صلاحه، وولايته; وقد صرح في الإقناع، بكفره; فاعلموا أنكم لم تعرفوا معنى شهادة: أن لا إله إلا الله. فإن بان في كلامي هذا شيء من الغلو، من أن هذه الأفاعيل، لو كانت حراما فلا تخرج من الإسلام، وأن فعل أهل زماننا في الشدائد، في البر، والبحر، وعند قبور الأنبياء والصالحين ليس من هذه، بينوا لنا الصواب، وأرشدونا إليه. وإن تبين لكم أن هذا هو الحق الذي لا ريب فيه، وأن الواجب إشاعته في الناس، وتعليمه النساء والرجال، فرحم الله من أدى الواجب عليه، وتاب إلى الله، وأقر على نفسه، فإن التائب عن الذنب كمن لا ذنب له; وعسى الله أن يهدينا وإياكم، وإخواننا، لما يحب ويرضى، والسلام. وقال أيضا: رحمه الله تعالى، بعد كلام له: وأما النوع الثاني: فهو الكلام في الشرك والتوحيد، وهو المصيبة العظمى، والداهية الصماء; والكلام على هذا النوع، والرد على هذا الجاهل: يحتمل مجلدا، وكلامه فيه، كما قال ابن القيم رحمه الله: إذا قرأه المؤمن تارة يبكي، وتارة يضحك!!. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 43 ولكن أنبهك منه على كلمتين; الأولى: قوله: إنهما نسبا من قبلهما إلى الخروج من الإسلام، والشرك الأكبر أفيظن أن قوم موسى لما قالوا: اجعل لنا إلها كما لهم آلهة، خرجوا من الإسلام؟ أفيظن أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قالوا: اجعل لنا ذات أنواط فحلف لهم أن هذا مثل قول قوم موسى: اجعل لنا إلها، أنهم خرجوا من الإسلام؟ أيظن: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سمعهم يحلفون بآبائهم فنهاهم وقال: " من حلف بغير الله فقد أشرك "1 أنهم خرجوا من الإسلام؟ إلى غير ذلك من الأدلة التي لا تحصر، فلم يفرق بين الشرك المخرج عن الملة، من غيره، ولم يفرق بين الجاهل والمعاند. والكلمة الثانية: قوله: إن المشرك لا يقول: لا إله إلا الله، فيا عجبا من رجل يدعي العلم، وجاء من الشام بحمل كتب، فلما تكلم إذا أنه لا يعرف الإسلام من الكفر; ولا يعرف الفرق بين أبي بكر الصديق رضي الله عنه وبين مسيلمة الكذاب. أما علم أن مسيلمة يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، ويصلي ويصوم أما علم أن غلاة الرافضة الذين حرقهم علي رضي الله عنه يقولونها؟! وكذلك الذين يقذفون عائشة، ويكذبون القرآن; وكذلك الذين يزعمون أن جبرائيل غلط وغير هؤلاء، ممن أجمع أهل العلم على كفرهم; منهم من ينتسب إلى الإسلام،   1 الترمذي: النذور والأيمان (1535) , وأبو داود: الأيمان والنذور (3251) , وأحمد (2/34 ,2/86 ,2/125) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 44 ومنهم: من لا ينتسب إليه، كاليهود؛ وكلهم يقولون: لا إله إلا الله وهذا بين عند من له أقل معرفة بالإسلام، من أن يحتاج إلى تبيان. وإذا كان المشركون لا يقولونها، فما معنى: باب حكم المرتد الذي ذكر الفقهاء من كل مذهب؟ هل الذين ذكرهم الفقهاء، وجعلوهم مرتدين، لا يقولونها؟ هل الذي ذكر أهل العلم أنه أكفر من اليهود، والنصارى وقال بعضهم: من شك في كفر أتباعه، فهو كافر; وذكرهم في الإقناع في: باب حكم المرتد; وإمامهم: ابن عربي، أيظنهم لا يقولون: لا إله إلا الله؟! لكن هو أتى من الشام، وهم يعبدون ابن عربي، جاعلين على قبره صنما يعبدونه، ولست أعني أهل الشام كلهم، حاشا وكلا; بل لا تزال طائفة على الحق، وإن قلّت، واغتربت. لكن العجب العجاب، استدلاله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا الناس إلى قول: لا إله إلا الله ولم يطالبهم بمعناها، وكذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فتحوا بلاد الأعاجم، وقنعوا منهم بلفظها، إلى آخر كلامه. فهل يقول هذا الكلام من يتصور ما يقول؟ !. فنقول، أولا: هو الذي نقض كلامه وكذبه، بقوله دعاهم إلى ترك عباده الأوثان، فإذا كان لم يقنع منهم إلا بترك عبادة الأوثان، تبين أن النطق بها لا ينفع إلا بالعمل بمقتضاها، وهو: ترك الشرك، وهذا هو المطلوب; ونحن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 45 إنما نهينا عن الأوثان المجعولة على قبر الزبير، وطلحة، وغيرهما، في الشام، وغيره. فإن قلتم: ليس هذا من الأوثان، وإن دعاء أهل القبور، والاستغاثة بهم في الشدائد، ليست من الشرك، مع كون المشركين الذين في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يخلصون لله في الشدائد، ولا يدعون أوثانهم، فهذا كفر; وبيننا وبينكم كلام العلماء، من الأولين، والآخرين، الحنابلة وغيرهم. وإن أقررتم أن ذلك كفر وشرك، وتبين أن قول: لا إله إلا الله، لا ينفع إلا مع ترك الشرك، فهذا هو المطلوب، وهو الذي نقول، وهو الذي أكثرتم النكير فيه، وزعمتم أنه لا يخرج إلا من خراسان; وهذا القول، كما في أمثال العامة: لا وجه سمح، ولا بنت رجال; لا أقول صواب، بل خطأ ظاهر، وسب لدين الله; وهو أيضا متناقض، يكذب بعضه بعضا، لا يصدر إلا ممن هو أجهل الناس. وأما دعواه: أن الصحابة لم يطلبوا من الأعاجم إلا مجرد هذه الكلمة، ولم يعرفوهم بمعناها، فهذا قول من لا يفرق بين دين المرسلين، ودين المنافقين الذين هم في الدرك الأسفل من النار; فإن المؤمنين يقولونها، والمنافقين يقولونها، لكن المؤمنون: يقولونها، مع معرفة قلوبهم بمعناها، وعمل جوارحهم بمقتضاها، والمنافقون يقولونها من غير فهم لمعناها ولا عمل بمقتضاها; فمن أعظم المصائب وأكبر الجهل من لا يعرف الفرق بين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 46 الصحابة والمنافقين. لكن هذا لا يعرف النفاق، ولا يظنه في أهل زماننا، بل يظنه في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وأما زمانه فصلح بعد ذلك! وإذا كان زمانه وبلدانه ينزهون عن البدع، ومخرجها من أهل خراسان، فكيف بالشرك والنفاق؟! ويا ويح هذا القائل، ما أجرأه على الله! وما أجهله بقدر الصحابة وعلمهم! حيث ظن أنهم لا يعلمون الناس معنى لا إله إلا الله. أما علم هذا الجاهل أنهم يستدلون بها على مسائل الفقه، فضلا عن مسائل الشرك; ففي الصحيحين: "أن عمر رضي الله عنه لما أشكل عليه قتال مانعي الزكاة، لأجل قوله صلى الله عليه وسلم: " أمرت أن أقاتل الناس، حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها، عصموا مني دماءهم وأموالهم، إلا بحقها "1 قال أبو بكر: فإن الزكاة من حقها"; فإذا كان منع الزكاة من منع حق: لا إله إلا الله، فكيف بعبادة القبور؟ والذبح للجن؟ ودعاء الأولياء وغيرهم، مما هو دين المشركين؟!. وصرح الشيخ تقي الدين في: اقتضاء الصراط المستقيم، بأن من ذبح للجن، فالذبيحة حرام من جهتين: من جهة: أنها مما أهل لغير الله به; ومن جهة: أنها ذبيحة مرتد، فهي: كخنزير مات من غير ذكاة; ويقول: ولو سمى الله عند ذبحها، إذا كانت نيته ذبحها للجن، ورد على من قال: إنه إن ذكر اسم الله حل الأكل منها مع   1 الترمذي: تفسير القرآن (3341) , وأحمد (3/300 ,3/332 ,3/394) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 47 التحريم. وأما ما سألت عنه، من قوله: اللهم صل على محمد إلى آخره فهذه المحامل التي ذكر غير بعيدة، لو كان الإنكار على الرجل الميت الذي صنفها; والإنكار إنما هو على الخطباء والعامة الذين يسمعون; فإن كان يزعم أن عامة أهل هذه القرى، كل رجل منهم يفهم هذا التأويل، فهذا مكابرة; وإن كان يعرف أنهم ما قصدوا إلا المعاني التي لا تصلح إلا لله، لم يمنع من الإنكار عليهم، ولو تبين أنه شرك لكون الذي قالها أولا، قصد معنى صحيحا. كما لو أن رجلا من أهل العلم كتب إلى عامية أن نكاح الأخوات حلال ففهموا منه ظاهره، وجعلوا يتزوجون أخواتهم، خاصتهم وعامتهم لم يمنع من الإنكار عليهم، ولو تبين أن الله حرم نكاح الأخوات، لكون القائل أراد الأخوات في الدين، كما قال إبراهيم" عليه السلام" لسارة: هي أختي; وهذا واضح بحمد الله، ولكن من انفتح له تحريف الكلم عن مواضعه، انفتح له باب طويل عريض. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 48 [رسالة الشيخ ابن عبد الوهاب إلى علماء الإسلام في الفتنة بالقبور] وله أيضا، رحمه الله تعالى: بسم الله الرحمن الر حيم من محمد بن عبد الوهاب: إلى من يصل إليه من علماء الإسلام، أنس الله بهم غربة الدين، وأحيا بهم سنة إمام المتقين، ورسول رب العالمين، سلام عليكم معشر الإخوان، ورحمة الله وبركاته. أما بعد: فإنه قد جرى عندنا فتنة عظيمة، بسبب أشياء نهيت عنها بعض العوام، من العادات التي نشؤوا عليها، وأخذها الصغير عن الكبير; مثل: عبادة غير الله، وتوابع ذلك، من تعظيم المشاهد، وبناء القباب على القبور، وعبادتها، واتخاذها مساجد، وغير ذلك، مما بينه الله ورسوله غاية البيان، وأقام الحجة، وقطع المعذرة; ولكن الأمر كما قال صلى الله عليه وسلم: " بدأ الإسلام غريبا، وسيعود غريبا كما بدأ "1. فلما عظم العوام قطع عاداتهم; وساعدهم على إنكار دين الله بعض من يدعي العلم، وهو من أبعد الناس عنه" إذ العالم من يخشى الله" فأرضى الناس بسخط الله; وفتح للعوام باب الشرك بالله، وزين لهم، وصدهم عن إخلاص الدين لله; وأوهمهم أنه من تنقيص الأنبياء والصالحين; وهذا بعينه هو الذي جرى على رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ذكر أن عيسى عليه السلام عبد مربوب ليس له من الأمر شيء،   1 مسلم: الإيمان (145) , وابن ماجه: الفتن (3986) , وأحمد (2/389) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 49 قالت النصارى: إنه سب المسيح وأمه; وهكذا قالت الرافضة لمن عرف حقوق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحبهم، ولم يغل فيهم، رموه ببغض أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهكذا هؤلاء، لما ذكرت لهم ما ذكره الله ورسوله، وما ذكره أهل العلم من جميع الطوائف، من الأمر بإخلاص الدين لله، والنهي عن مشابهة أهل الكتاب من قبلنا، في اتخاذ الأحبار والرهبان أربابا من دون الله; قالوا لنا: تنقصتم الأنبياء والصالحين والأولياء; والله تعالى ناصر لدينه، ولو كره المشركون. وها أنا أذكر مستندي في ذلك، من كلام أهل العلم من جميع الطوائف، فرحم الله من تدبرها بعين البصيرة، ثم نصر الله ورسوله، وكتابه ودينه; ولم تأخذه في ذلك لومة لائم. فأما كلام الحنابلة: فقال الشيخ تقي الدين، رحمه الله، لما ذكر حديث الخوارج: فإذا كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه ممن قد انتسب إلى الإسلام، من مرق منه، مع عبادته العظيمة، فيعلم أن المنتسب إلى الإسلام والسنة، قد يمرق أيضا; وذلك بأمور، منها: الغلو الذي ذمه الله تعالى كالغلو في بعض المشائخ، كالشيخ عدي، بل الغلو في علي ابن أبي طالب، بل الغلو في المسيح، ونحوه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 50 فكل من غلا في نبي أو رجل صالح، وجعل فيه نوعا من الإلهية، مثل أن يدعوه من دون الله، بأن يقول: يا سيدي فلان أغثني، أو أجرني; أو أنت حسبي أو أنا في حسبك، فكل هذا شرك، وضلال، يستتاب صاحبه، فإن تاب وإلا قتل; فإن الله أرسل الرسل ليعبد وحده، لا يجعل معه إله آخر، والذين يجعلون مع الله آلهة أخرى، مثل الملائكة، أو المسيح، أو العزير، أو الصالحين، أو غيرهم، لم يكونوا يعتقدون أنها تخلق وترزق; وإنما كانوا يدعونهم، يقولون: {هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [سورة يونس آية: 18] ، فبعث الله الرسل تنهى أن يدعى أحد من دون الله، لا دعاء عبادة، ولا دعاء استغاثة، انتهى. وقال في الإقناع، في أول باب حكم المرتد: إن من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم، فهو كافر إجماعا. وأما كلام الحنفية: فقال الشيخ قاسم في شرح: درر البحار: النذر الذي يقع من أكثر العوام بأن يأتي إلى قبر بعض الصلحاء، قائلا: يا سيدي، إن رد غائبي، أو عوفي مريضي، أو قضيت حاجتي، فلك من الذهب، أو الطعام، أو الشمع، كذا وكذا، باطل إجماعا، لوجوه; منها: أن النذر للمخلوق، لا يجوز، ومنها: أنه ظن الميت يتصرف في الأمر، واعتقاد هذا كفر; إلى أن قال: وقد ابتلي الناس بذلك، ولا سيما في مولد الشيخ أحمد البدوي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 51 وقال الإمام البزازي في فتاويه: إذا رأى رقص صوفية زماننا هذا في المساجد، مختلطا بهم جهال العوام الذين لا يعرفون القرآن، والحلال والحرام، بل لا يعرفون الإسلام والإيمان، لهم نهيق يشبه نهيق الحمير، يقول: هؤلاء لا محالة: اتخذوا دينهم لهوا ولعبا. فويل للقضاة والحكام، حيث لا يغيرون هذا مع قدرتهم. وأما كلام الشافعية: فقال الإمام محدث الشام: أبو شامة، في كتاب: الباعث على إنكار البدع والحوادث" وهو في زمن الشارح، وابن حمدان:" لكن نبين من هذا ما وقع فيه جماعة من جهال العوام، النابذين لشريعة الإسلام، وهو ما يفعله الطوائف من المنتسبين إلى الفقر الذي حقيقته الافتقار من الإيمان، من مواخاة، النساء الأجانب، واعتقادهم في مشائخ لهم. وأطال رحمه الله الكلام، إلى أن قال: وبهذه الطرق، وأمثالها كان مباديء ظهور الكفر من عبادة الأصنام، وغيرها، ومن هذا ما قد عم الابتلاء به، من تزيين الشيطان للعامة، تخليق الحيطان والعمد، وسرج مواضع مخصوصة في كل بلد، يحكي لهم حاك أنه رأى في منامه بها أحدا ممن شهر بالصلاح، ثم يعظم وقع تلك الأماكن في قلوبهم، ويرجون الشفاء لمرضاهم، وقضاء حوائجهم بالنذر لها، وهي ما بين عيون، وشجر، وحائط; وفي مدينة دمشق، صانها الله من ذلك، مواضع متعددة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 52 ثم ذكر" رحمه الله" الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قاله له بعض من معه: " اجعل لنا ذات أنواط، قال: الله أكبر، قلتم والذي نفس محمد بيده، كما قال قوم موسى {اجعل لنا إلها كما لهم آلهة} " 1 انتهى كلامه ورحمه الله. وقال في اقتضاء الصراط المستقيم: إذا كان هذا كلامه صلى الله عليه وسلم في مجرد قصد شجرة لتعليق الأسلحة، والعكوف عندها، فكيف بما هو أعظم منها: الشرك بعينه بالقبور ونحوها. وأما كلام المالكية: فقال أبو بكر الطرطوشي في كتاب الحوادث والبدع، لما ذكر حديث الشجرة ذات أنواط: فانظروا رحمكم الله، أينما وجدتم سدرة أو شجرة، يقصدها الناس، ويعظمون من شأنها، ويرجون البرء والشفاء لمرضاهم من قبلها، فهي ذات أنواط، فاقطعوها; وذكر حديث العرباض بن سارية الصحيح، وفيه قوله صلى الله عليه وسلم: " فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة "2. قال في البخاري، عن أبي الدرداء أنه قال: (والله ما أعرف من أمر محمد شيئا، إلا أنهم يصلون جميعا) . وروى: مالك، في الموطأ، عن بعض الصحابة، أنه قال: (ما أعرف   1 الترمذي: الفتن (2180) , وأحمد (5/218) . 2 الترمذي: العلم (2676) , وأبو داود: السنة (4607) , وابن ماجه: المقدمة (42) , وأحمد (4/126) , والدارمي: المقدمة (95) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 53 شيئا مما أدركت عليه الناس، إلا النداء بالصلاة) . قال الزهري: دخلت على أنس بدمشق وهو يبكي ... فقال: (ما أعرف شيئا مما أدركت، إلا هذه الصلاة; وهذه الصلاة، قد ضيعت) ; قال الطرطوشي" رحمه الله:" فانظروا رحمكم الله إذا كان في ذلك الزمن طمس الحق، وظهر الباطل، حتى ما يعرف من الأمر القديم إلا القبلة; فما ظنك بزمانك هذا؟! والله المستعان. وليعلم الواقف على هذا الكلام من أهل العلم" أعزهم الله" أن الكلام في مسألتين: الأولى: أن الله سبحانه بعث محمدا صلى الله عليه وسلم لإخلاص الدين لله، لا يجعل معه أحد في العبادة والتأله، لا ملك، ولا نبي، ولا قبر، ولا حجر، ولا شجر، ولا غير ذلك; وأن من عظم الصالحين بالشرك بالله، فهو يشبه النصارى; وعيسى عليه السلام بريء منهم. والثانية: وجوب اتباع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وترك البدع، وإن اشتهرت بين أكثر العوام، وليعلم أن العوام محتاجون إلى كلام أهل العلم من تحقيق هذه المسائل، ونقل كلام العلماء; فرحم الله من نصر الله ورسوله ودينه، ولم تأخذه في الله لومة لائم، والله أعلم، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 54 [إخلاص الدين واتباع السنة] وله أيضا: رحمه الله تعالى، وعفا عنه: بسم الله الرحمن الر حيم إلى من يصل إليه من المسلمين، هدانا الله وإياهم لدينه القويم، وسلوك صراطه المستقيم، ورزقنا وإياهم ملة الخليلين: محمد، وإبراهيم، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أما بعد: قال الله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [سورة الأنفال آية: 39] ، وقال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} [سورة آل عمران آية: 103] ، وقال تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً} [سورة الشورى آية: 13] إلى قوله: {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} الآية [سورة الشورى آية: 13] . فيجب على كل إنسان يخاف الله والنار أن يتأمل كلام ربه الذي خلقه، هل يحصل لأحد من الناس أن يدين الله بغير دين النبي صلى الله عليه وسلم؟ لقوله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى} الآية [سورة النساء آية: 115] . ودين النبي صلى الله عليه وسلم التوحيد; وهو معرفة: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، والعمل بمقتضاهما. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 55 فإن قيل: كل الناس يقولونها، قيل: منهم من يقولها ويحسب معناها، أنه لا يخلق إلا الله، ولا يرزق إلا الله، وأشباه ذلك; ومنهم من لا يفهم معناها ومنهم من لا يعمل بمقتضاها; ومنهم: من لا يعقل حقيقتها; وأعجب من ذلك: من عرفها من وجه، وعاداها وأهلها من وجه; وأعجب منه: من أحبها وانتسب إلى أهلها، ولم يفرق بين أوليائها. وأعدائها; يا سبحان الله العظيم! تكون طائفتان مختلفتين في دين واحد، وكلهم على الحق! كلا والله {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ} [سورة يونس آية: 32] . فإذا قيل: التوحيد زين، والدين حق، إلا التكفير والقتال; قيل: اعملوا بالتوحيد ودين الرسول، ويرتفع حكم التكفير، والقتال; فإن كان حق التوحيد الإقرار به، والإعراض عن أحكامه، فضلا عن بغضه ومعاداته، فهذا والله عين الكفر وصريحه; فمن أشكل عليه من ذلك شيء فليطالع سيرة محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه; والسلام عائد عليكم، كما بدا، ورحمة الله وبركاته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 56 [رسالة الشيخ ابن عبد الوهاب إلى عيسى في قبوله كتب أهل الباطل] وله أيضا: رحمه الله تعالى: بسم الله الرحمن الر حيم من محمد بن عبد الوهاب، إلى: عبد الوهاب بن عبد الله بن عيسى، سلام عليكم، ورحمة الله وبركاته. وبعد: فنحمد إليكم الله، الذي لا إله إلا هو؛ وأبلغوا الوالد السلام، وفي نفسي عليه بعض الشيء من جهة هذه المكاتيب، لما حبسها عنا ظننا فيه الظن الجميل، ثم بعد ذلك سمعنا أنه أعطاها بعض السفهاء، يقرؤونها على الناس; وأنا أعتقد فيه المحبة; واعتقد أيضا أن له غاية وعقلا; وهو صاحب إحسان علينا، فلا أود يعقبه بالأذى، ويكدر هذه المحبة بلا منفعة في العاجل والآجل. وذكر أيضا عنه كلام يشوش الخاطر؛ فإن كان يرى أن هذا ديانة، ويعتقده من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فأنا ولله الحمد لم آت الذي أتيت بجهالة، وأشهد الله وملائكته إن أتاني منه، أو ممن دونه في هذا الأمر كلمة من الحق، لأقبلنها على الرأس والعين، وأترك قول كل إمام اقتديت به، حاشا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه لا يفارق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 57 الحق; فإن كانت مكاتيب أولياء الشيطان، وزخرفة كلامهم، الذي أوحى إليهم" ليجادل في دين الله، لما رأى أن الله يريد أن يظهر دينه" غرته وأصغت إليها أفئدتكم، فاذكروا لي حجة، مما فيها أو كلها، أو في غيرها من الكتب، مما تقدرون عليه أنتم ومن وافقكم، فإن لم أجاوبه عنها بجواب فاصل بين، يعلم كل من هداه الله أنه الحق، وأن تلك هي الباطل، فأنكروا علي. وكذلك: عندي من الحجج الكثيرة الواضحة، ما لا تقدرون أنتم ولا هم أن تجيبوا عن حجة واحدة منها، وكيف لكم بملاقاة جند الله ورسوله؟ وإن كنتم تزعمون: أن أهل العلم على خلاف ما أنا عليه، فهذه كتبهم موجودة، ومن أشهرهم وأغلظهم كلاما: الإمام أحمد، وكلهم على هذا الأمر، لم يشذ منهم رجل واحد ولله الحمد، ولم يأت منهم كلمة واحدة أنهم أرخصوا لمن لم يعرف الكتاب والسنة في أمركم هذا، فضلا عن أن يوجبوه. وإن زعمتم: أن المتأخرين معكم، فهؤلاء سادات المتأخرين وقادتهم: ابن تيمية، وابن القيم، وابن رجب، عندنا له مصنف مستقل في هذا; ومن الشافعية الذهبي، وابن كثير، وغيرهم; وكلامهم في إنكار هذا أكثر من أن يحصر; وبعض كلام الإمام أحمد ذكره ابن القيم رحمه الله في الطرق الحكمية، فراجعه. ومن أدلة شيخ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 58 الإسلام: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} الآية [سورة التوبة آية: 31] ، فسرها رسول الله صلى الله عليه وسلم والأئمة بعده بهذا الذي تسمونه الفقه، وهو الذي سماه الله شركا واتخاذهم أربابا، لا أعلم بين المفسرين في ذلك اختلافا. والحاصل: أن من رزقه الله العلم، يعرف أن هذه المكاتيب التي أتتكم، وفرحتم بها، وقرأتموها على العامة، من عند هؤلاء الذين تظنون أنهم علماء، كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً} [سورة الأنعام آية: 112] ، إلى قوله: {وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ} [سورة الأنعام آية: 113] ، لكن هذه الآيات ونحوها عندكم من العلوم المهجورة; بل أعجب من هذا: أنكم لا تفهمون شهادة: أن لا إله إلا الله، ولا تنكرون هذه الأوثان، التي تعبد في الخرج، وغيره، التي هي الشرك الأكبر، بإجماع أهل العلم، وأنا لا أقول هذا وحدي 1.   [رسالة الشيخ ابن عبد الوهاب إلى نغميش في اتباع الدين] وله أيضا: رحمه الله تعالى: بسم الله الرحمن الر حيم من محمد بن عبد الوهاب، إلى: نغيمش، وجميع الإخوان; سلام عليكم، ورحمة الله وبركاته. وبعد: إن 1 آخر ما وجد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 59 سألتم عنا، فنحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، ونخبركم أنا بخير وعافية، أتمها الله علينا وعليكم في الدنيا والآخرة; وسرنا والحمد لله ما بلغنا عنكم من الأخبار، من الاجتماع على الحق، والاتباع لدين محمد صلى الله عليه وسلم؛ وهذا هو أعظم النعم المجموع لصاحبه بين خيري الدنيا والآخرة، عسى الله أن يوفقنا وإياكم لذلك، ويرزقنا الثبات عليه. ولكن، يا إخواني: لا تنسوا قول الله تعالى: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً} [سورة الفرقان آية: 20] ، وقوله: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [سورة العنكبوت آية: 2"3] . فإذا تحققتم أن من اتبع هذا الدين، لا بد له من الفتنة; فاصبروا قليلا، ثم أبشروا عن قليل، بخير الدنيا والآخرة، واذكروا قول الله تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [سورة غافر آية: 51] ، وقوله: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِين َإِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ [سورة الصافات آية: 171"173] ، وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [سورة المجادلة آية: 20"21] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 60 فإن رزقكم الله الصبر على هذا، وصرتم من الغرباء الذين تمسكوا بدين الله مع ترك الناس إياه، فطوبى ثم طوبى، إن كنتم ممن قال فيه نبيكم صلى الله عليه وسلم: " بدأ الإسلام غريبا، وسيعود غريبا كما بدأ، فطوبى للغرباء قيل يا رسول الله، من الغرباء؟ قال: الذين يصلحون إذا فسد الناس "1. فيا لها من نعمة! ويا لها من عظيمة! جعلنا الله وإياكم من أتباع الرسول، وحشرنا تحت لوائه، وأوردنا حوضه، الذي يرده من تمسك بدينه في الدنيا; ثم أنتم في أمان الله وحفظه، والسلام. [رسالة الشيخ ابن عبد الوهاب إلى أحمد بن يحيى وذكره مخالفيه] وله أيضا: رحمه الله تعالى: بسم الله الرحمن الر حيم من محمد بن عبد الوهاب، إلى أحمد بن يحيى، سلام عليكم، ورحمة الله، وبركاته. وبعد: ما ذكرت من قبل مراسلة سليمان، فلا ينبغي أنها تغضبك، أولا: أنه لو خالف، فمثلك يحلم ; ولا يأتي بغايته هذا، ولا أكثر منه; وثانيا: أنك إذا عرفت أن كلامه ما له فيه قصد، إلا الجهد في الدين، ولو صار مخطئا فالأعمال بالنيات; والذي هذا مقصده يغتفر له، ولو جهل عليك، ونحن: ملزمون عليك لزمة جيدة; وربك ونبيك ودينك لزمتهم لزمة تتلاشى فيها كل لزمة; وهذه الفتنة الواقعة   1 مسلم: الإيمان (145) , وابن ماجه: الفتن (3986) , وأحمد (2/389) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 61 ليست في مسائل الفروع التي ما زال أهل العلم يختلفون فيها من غير نكير، ولكن هذه في شهادة أن لا إله إلا الله، والكفر بالطاغوت. ولا يخفاك أن الذي عادانا في هذا الأمر هم الخاصة، ليسوا بالعامة; هذا ابن إسماعيل، والمويس، وابن عبيد، جاءتنا كتبهم في إنكار دين الإسلام الذي حكى في الإقناع، في باب حكم المرتد الإجماع من كل المذاهب، أن من لم يدن به فهو كافر; وكاتبناهم، ونقلنا لهم العبارات، وخاطبناهم بالتي هي أحسن، وما زادهم ذلك إلا نفورا. وزعموا أن أهل العارض، ارتدوا لما عرفوا شيئا من التوحيد! وأنت تفهم أن هذا لا يسعك، الاكتفاء بغيرك فيه، فالواجب عليك نصر أخيك، ظالما أو مظلوما. وإن تفضل الله عليك بفهم ومعرفة، فلا تعذر لا عند الله ولا عند خلقه، من الدخول في هذا الأمر; فإن كان الصواب معنا، فالواجب عليك الدعوة إلى الله، وعداوة من صرح بسب دين الله ورسوله ; وإن كان الصواب معهم، أو معنا شيء من الحق وشيء من الباطل أو معنا غلو في بعض الأمور، فالواجب منك مذاكرتنا ونصيحتنا، وترينا عبارات أهل العلم، لعل الله أن يردنا بك إلى الحق; وإن كان إذا حررت المسألة، إذا أنها من مسائل الاختلاف، وأن فيها خلافا عند الحنفية، أو الشافعية، أو المالكية، فتلك مسألة أخرى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 62 وبالجملة: فالأمر عظيم، ولا نعذرك من تأمل كلامنا وكلامهم، ثم تعرضه على كلام أهل العلم، ثم تبين في الدعوة إلى الحق، وعداوة من حاد الله ورسوله، منا أو من غيرنا، والسلام. [ما يجب علينا من معرفة الله] وسئل الشيخ: محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى. قال السائل: ما يقول الشيخ، شرح الله له صدره، ويسر له أمره، في مسائل أشكلت علي، فيما يجب علينا من معرفة الله، إذا كان موجب الإلهية الربوبية، وأراك قليل التعريج عليها، عند تقرير الإلهية؟ ويشكل علي أيضا: كون مشركي العرب، أقروا به; هل يكون من غير معرفة لوضوحه؟ أم توغلوا في التقليد، ولم يلتفتوا للحقيقة الموجبة للعبادة؟ أم زعمهم: أن هذا شيء يرضاه الرب؟ أم كيف الحال؟ أيضا: كلمة التوحيد، كونها محتوية على جميع الدين، من إنزال الكتب، وإرسال الرسل، وأنها نافية جميع المقصودات المسماة بالآلهة الباطلة، إذ حدها القصد، فتسمى بذلك من غير استحقاق، لأنها مخلوقة مربوبة مقهورة، والواحد في القصد هو الواحد في الخلق; وإن تكلم الناس في معناها وعملها، وأن ألفاظها مجردة من غير معرفة لا يفيد شيئا، لكن نظرت في حديث الشفاعة الكبرى، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 63 عند قوله سبحانه: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً} [سورة الإسراء آية: 79] ، وإخراجه العصاة من أمته بإذن ربه، حتى قال: "أذن لي فيمن قال لا إله إلا الله"1 هذا مشكل علي جدا، وقاصر فهمي عن معرفته، إذا كان كلمة التوحيد هي الغاية، وتقييدها بالمعرفة مع العمل، وإخراجه صلى الله عليه وسلم من كان في قلبه أدنى مثقال حبة خردل من إيمان; فأنت" جزاك الله خيرا" بين لي معنى هذا الكلام، لا أضل ولا أضل. وأخبرك: أني غافل عن الفهم في الربوبية، ما فهمي بجيد في الإلهية، فحين بان لي شيء من معرفتها، واتضح لي بعض المعرفة في الإلهية بضرب المثل: إن فيصل ما استعبد لعريعر إلا لأجل كبر ملك عريعر، مع أنه قبيل له، وأظن غالب الناس كذلك، وفيهم من لا يرى الربوبية، ولا يعتبرها، أو يتهاون بها، وهذا تسمعه من بعضهم، فجزاك الله خيرا، صرح بالجواب. فأجاب: بسم الله الرحمن الر حيم، إلى الأخ، حسن، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: سرني ما ذكرت من الإشكال، وانصرافك إلى الفكرة في توحيد الربوبية، ولا يخفاك أن التفصيل يحتاج إلى أطول، ولكن ما لا يدرك كله، لا يترك كله. فأما توحيد الربوبية، فهو: الأصل، ولا يغلط في الإلهية إلا من لم يعطه حقه، كما قال تعالى فيمن أقر بمسألة منه: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى   1 البخاري: التوحيد (7510) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 64 يُؤْفَكُونَ} [سورة الزخرف آية: 87] . ومما يوضح لك الأمر أن التوكل من نتائجه، والتوكل من أعلى مقامات الدين، ودرجات المؤمنين; وقد تصدر الإنابة والتوكل من عابد الوثن بسبب معرفته بالربوبية، كما قال تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الْأِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ} الآية [سورة الزمر آية: 8] ؛ وأما عبادته سبحانه بالإخلاص دائما، في الشدة والرخاء، فلا يعرفونها، وهي نتيجة الإلهية، وكذلك الإيمان بالله واليوم الآخر، والإيمان بالكتب، والرسل وغير ذلك; وأما الصبر والرضى، والتسليم والتوكل، والإنابة، والتفويض، والمحبة، والخوف، والرجاء، فمن نتائج توحيد الربوبية، وكذلك توحيد الإلهية، هو أشهر نتائج توحيد الربوبية; وهذا وأمثاله لا يعرف إلا بالتفكر، لا بالمطالعة، وفهم العبارة. وأما الفرق بينهما: فإن أفرد أحدهما مثل قوله: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [سورة فصلت آية: 30] ، فهو توحيد الإلهية، وكذلك إذا أفرد توحيد الإلهية، مثل قوله: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [سورة محمد آية: 19] ، وأمثال ذلك; فإن قرن بينهما، فسرت كل لفظة بأشهر معانيها، كالفقير، والمسكين. وأما ما ذكرت من أهل الجاهلية: كيف لم يعرفوا الإلهية إذا أقروا بالربوبية؟ هل هو كذا؟ أو كذا؟ أو غير ذلك؟ فهو لمجموع ما ذكرت، وغيره. وأعجب من ذلك: ما رأيت، وسمعت، ممن يدعى أنه أعلم الناس، ويفسر القرآن ويشرح الحديث بمجلدات، ثم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 65 يشرح البردة، ويستحسنها، ويذكر في تفسيره وشرحه للحديث أنه شرك! ويموت ما عرف ما خرج من رأسه! هذا هو العجب العجاب، أعجب بكثير من ناس لا كتاب لهم، ولا يعرفون جنة، ولا نارا، ولا رسولا، ولا إلها; وأما كون لا إله إلا الله، تجمع الدين كله، وإخراج من قالها من النار، إذا كان في قلبه أدنى مثقال ذرة، فلا إشكال في ذلك. وسر المسألة أن الإيمان يتجزأ، ولا يلزم إذا ذهب بعضه أن يذهب كله، بل هذا مذهب الخوارج، فالذي يقول: الأعمال كلها من لا إله إلا الله، فقوله الحق; والذي يقول: يخرج من النار من قالها، وفي قلبه من الإيمان مثقال ذرة، فقوله الحق؛ السبب مما ذكرت لك، من التجزي; وبسبب الغفلة عن التجزي، غلط أبو حنيفة، وأصحابه في زعمهم، أن الأعمال ليست من الإيمان، والسلام. [التوحيد ثلاثة أصول] وله أيضا: قدس الله روحه، ونور ضريحه. بسم الله الرحمن الر حيم،، وبه نستعين. الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى. أما بعد: فاعلم رحمك الله، أن الله تعالى خلق الخلق ليعبدوه، ولا يشركوا به شيئا، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [سورة الذاريات آية: 56] والعبادة هي: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 66 التوحيد، لأن الخصومة بين الأنبياء والأمم فيه، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [سورة النحل آية: 36] . التوحيد: ثلاثة أصول، توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الذات والأسماء والصفات. الأصل الأول: توحيد الربوبية، وهو: الذي أقر به المشركون في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أدخلهم في الإسلام، وقاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم واستحل دماءهم وأموالهم، وهو: توحيد الله بفعله، والدليل عليه، قوله تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} [سورة يونس آية: 31] ، وقوله: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ? قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} [سورة المؤمنون آية: 84"89] ، والآيات على هذا كثيرة جدا، أكثر من أن تحصر، وأشهر من أن تذكر. والأصل الثاني: وهو توحيد الألوهية، فهو الذي وقع فيه النزاع في قديم الدهر وحديثه، وهو: توحيد الله بأفعال العباد، كالدعاء، والرجاء، والخوف، والخشية، والاستعانة، والاستعاذة، والمحبة، والإنابة، والنذر، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 67 والذبح، والرغبة، والرهبة، والخشوع، والتذلل، والتعظيم; فدليل الدعاء، قوله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} الآية [سورة غافر آية: 60] ، وكل نوع من هذه الأنواع، عليه دليل من القرآن. وأصل العبادة تجريد الإخلاص لله تعالى وحده، وتجريد المتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} [سورة الجن آية: 18] ، وقوله تعالى: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [سورة الأعراف آية: 158] ، {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [سورة الأنبياء آية: 25] ، وقوله تعالى: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ} [سورة الرعد آية: 14] إلى قوله: {وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ} [سورة الرعد آية: 14] ، وقوله: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ} الآية [سورة الحج آية: 62] ، وقوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} ، [سورة الحشر آية: 7] ، وقوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [سورة آل عمران آية: 31] . الأصل الثالث: وهو توحيد الذات والأسماء والصفات كما قال تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [سورة الإخلاص آية: 1"4] ، وقوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 68 يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [سورة الأعراف آية: 180] ، وقال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [سورة الشورى آية: 11] . واعلم: أن ضد التوحيد الشرك، وهو ثلاثة أنواع شرك أكبر; وشرك أصغر; وشرك خفي. والدليل على الشرك الأكبر، قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً} [سورة النساء آية: 116] ، وقوله تعالى: {وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرائيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [سورة المائدة آية: 72] . وهو: أربعة أنواع. النوع الأول: شرك الدعوة، والدليل عليه، قوله تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [سورة العنكبوت آية: 65"66] . النوع الثاني: شرك النية، وهي: الإرادة والقصد; والدليل عليه، قوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [سورة هود آية: 15"16] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 69 النوع الثالث: شرك الطاعة، والدليل عليه قوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [سورة التوبة آية: 31] ، وتفسيرها الذي لا إشكال فيه، هو طاعة العلماء والعباد، في معصية الله سبحانه، لا دعاؤهم إياهم، كما فسرها رسول الله صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم، لما سأله فقال لسنا نعبدهم فذكر له أن عبادتهم طاعتهم في المعصية. النوع الرابع: شرك المحبة، والدليل عليه قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ} [سورة البقرة آية: 165] إلى قوله: {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [سورة البقرة آية: 167] . والنوع الثاني: شرك أصغر، وهو الرياء، والدليل عليه، قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} [سورة الكهف آية: 110] . والنوع الثالث: شرك خفي، والدليل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: "الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل على الصفاة السوداء في ظلمة الليل"1 وكفارته قوله صلى الله عليه وسلم: " اللهم إن أعوذ بك أن أشرك بك شيئا وأنا أعلم، وأستغفرك من الذنب الذي لا أعلم ". والكفر: كفران، كفر يخرج من الملة، وهو: خمسة أنواع.   1 أحمد (4/403) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 70 النوع الأول: كفر التكذيب، والدليل عليه، قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكَافِرِينَ} [سورة العنكبوت آية: 68] . النوع الثاني: كفر الاستكبار، والإباء، مع التصديق; والدليل عليه، قوله: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [سورة البقرة آية: 34] . النوع الثالث: كفر الشك، وهو كفر الظن، والدليل عليه، قوله تعالى: {وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَداً وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْهَا مُنْقَلَباً قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً} [سورة الكهف آية: 35"37] . النوع الرابع: كفر الإعراض، والدليل عليه، قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ} [سورة الأحقاف آية: 3] . النوع الخامس: كفر النفاق، الدليل عليه، قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ} [سورة المنافقون آية: 3] . وكفر أصغر لا يخرج من الملة، وهو: كفر النعمة; والدليل عليه، قوله تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ} الآية [سورة النحل آية: 112] ، وقوله: {إِنَّ الْأِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [سورة إبراهيم آية: 34] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 71 وأما النفاق، فهو: نوعان; نفاق اعتقادي، ونفاق عملي. فأما الاعتقادي، فهو ستة أنواع: تكذيب الرسول، أو تكذيب بعض ما جاء به الرسول، أو بغض الرسول، أو بغض ما جاء به الرسول، أو المسرة بانخفاض دين الرسول، أو الكراهية لانتصار دين الرسول; فهذه الأنواع الستة، صاحبها من أهل الدرك الأسفل من النار; نعوذ بالله من الشقاق، والنفاق. وأما النفاق العملي فهو خمسة أنواع; إذا حدث كذب; وإذا خاصم فجر; وإذا عاهد غدر; وإذا ائتمن خان; وإذا وعد أخلف; والله سبحانه وتعالى أعلم، وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه، وسلم تسليما كثيرا. [أنواع التوحيد] وسئل أيضا: رحمه الله تعالى، عن توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الصفات؟ فأجاب: توحيد الربوبية: هو الذي أقر به الكفار، كما في قوله تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} [سورة يونس آية: 31] . وأما توحيد الألوهية، فهو: إخلاص العبادة لله وحده من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 72 جميع الخلق، لأن الإله في كلام العرب، هو الذي يقصد للعبادة، وكانوا يقولون: إن الله هو إله الآلهة، لكن يجعلون معه آلهة أخرى، مثل الصالحين، والملائكة، وغيرهم; يقولون: إن الله يرضى هذا، ويشفعون لنا عنده. فإذا عرفت هذا معرفة جيدة، تبين لك غربة الدين; وقد استدل عليهم سبحانه بإقرارهم بتوحيد الربوبية، على بطلان مذهبهم، لأنه إذا كان هو المدبر وحده، وجميع من سواه لا يملكون مثقال ذرة، فكيف يدعونه ويدعون معه غيره، مع إقرارهم بهذا. وأما توحيد الصفات: فلا يستقيم توحيد الربوبية ولا توحيد الألوهية، إلا بالإقرار بالصفات، لكن الكفار أعقل ممن أنكر الصفات، والله أعلم. وقال أيضا رحمه الله تعالى: أصل الحنيفية: عبادة الله وحده لا شريك له، وتجنب الشرك، كما قال تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} [سورة النساء آية: 36] ، ومغلظ الكفر: الكبر، والشرك; فإن كان الإنسان ما عبد الله، فهو مستكبر، مثل ما يقع من غالب البدو، من التهزى بالوضوء والصلاة; فإن كان عبد الله، وعبد معه غيره، فهو مشرك، مثل ما يقع من كثير من العباد، مثل النصارى وجنسهم، ولكن فيهم رقة. فإذا عرفت هذا، وعرفت ما جرى من النبي صلى الله عليه وسلم من سد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 73 الذرائع، مثل كونه نهى عن الصلاة عند طلوع الشمس، وعند غروبها، ونهى المصلي أن لا يصمد للسترة، وألا يستقبل النار، ونهى المأمومين عن القيام إذا صلى الإمام جالسا، وأمرهم بالجلوس وغير ذلك. فإذا عرف الإنسان أنه أمر بالجلوس إذا جلس الإمام، والإخلال بالركن لأجل المشابهة لما يفعله الكفار لعظمائهم، ونظر لما يجري من الناس من التكبر، والقيام والخضوع، وغير ذلك، عرف نفسه، وعرف ربه، وما يجب له من الحقوق، لعله واقع في شيء من هذا. وعرف أن النبي صلى الله عليه وسلم ما ترك شيئا ينفع أمته إلا أمرهم به، ولا شيئا يضرهم إلا نهاهم عنه، وكذلك كونه يعرف أن أصل الشرك الاعتقاد في الصالحين وغيرهم، وهو الذي فارق النبي صلى الله عليه وسلم قومه، وقاتلهم عنده. وقال رحمه الله تعالى: إذا أمر الله العبد بأمر، وجب عليه فيه سبع مراتب: الأولى: العلم به; الثانية: محبته; الثالثة: العزم على الفعل; الرابعة: العمل; الخامسة: كونه يقع على المشروع خالصا صوابا; السادسة: التحذير من فعل ما يحبطه; السابعة: الثبات عليه. إذا عرف الإنسان أن الله أمر بالتوحيد، ونهى عن الشرك; أو عرف أن الله أحل البيع، وحرم الربا; أو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 74 عرف أن الله حرم أكل مال اليتيم، وأحل لوليه أن يأكل بالمعروف إن كان فقيرا، وجب عليه أن يعلم المأمور به، ويسأل عنه إلى أن يعرفه، ويعلم المنهي عنه، ويسأل عنه إلى أن يعرفه. واعتبر ذلك بالمسألة الأولى، وهي: مسألة التوحيد، والشرك. أكثر الناس علم أن التوحيد حق، والشرك باطل، ولكن أعرض عنه ولم يسأل، وعرف أن الله حرم الربا، وباع واشترى ولم يسأل، وعرف تحريم أكل مال اليتيم، وجواز الأكل بالمعروف، ويتولى، مال اليتيم ولم يسأل. المرتبة الثانية: محبة ما أنزل الله، وكفر من كرهه، لقوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [سورة محمد آية: 9] . فأكثر الناس لم يحب الرسول، بل أبغضه، وأبغض ما جاء به ولو عرف أن الله أنزله. المرتبة الثالثة: العزم على الفعل; وكثير من الناس عرف وأحب، ولكن لم يعزم، خوفا من تغير دنياه. المرتبة الرابعة: العمل، وكثير من الناس إذا عزم أو عمل وتبين عليه من يعظمه من شيوخ أو غيرهم"ترك العمل. المرتبة الخامسة: أن كثيرا ممن عمل، لا يقع خالصا، فإن وقع خالصا، لم يقع صوابا. المرتبة السادسة: أن الصالحين يخافون من حبوط الجزء: 2 ¦ الصفحة: 75 العمل، لقوله تعالى: {أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} [سورة الحجرات آية: 2] ، وهذا من أقل الأشياء في زماننا. المرتبة السابعة: الثبات على الحق، والخوف من سوء الخاتمة، لقوله صلى الله عليه وسلم: " إن منكم من يعمل بعمل أهل الجنة، ويختم له بعمل أهل النار "1، وهذه أيضا: من أعظم ما يخاف منه الصالحون; وهي قليل في زماننا، فالتفكر في حال الذي تعرف من الناس، في هذا وغيره، يدلك على شيء كثير تجهله، والله أعلم. [مفهوم التوحيد الذي فرض الله على عباده] وله أيضا، رحمه الله تعالى: بسم الله الرحمن الر حيم اعلم رحمك الله: أن التوحيد الذي فرض الله على عباده، قبل الصلاة والصوم، هو: توحيد عبادتك، فلا تدعو إلا الله وحده لا شريك له، لا تدعو النبي صلى الله عليه وسلم ولا غيره; كما قال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} [سورة الجن آية: 18] ، وقال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} [سورة الكهف آية: 110] . واعلم أن المشركين الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، صفة إشراكهم أنهم يدعون الله، ويدعون معه الأصنام، والصالحين، مثل عيسى، وأمه، والملائكة; يقولون: هؤلاء شفعاؤنا عند الله; وهم يقرون أن الله سبحانه، هو:   1 البخاري: القدر (6594) , ومسلم: القدر (2643) , والترمذي: القدر (2137) , وأبو داود: السنة (4708) , وابن ماجه: المقدمة (76) , وأحمد (1/382 ,1/414 ,1/430) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 76 النافع، الضار، المدبر; كما ذكر الله عنهم في قوله تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ} الآية [سورة يونس آية: 31] . فإذا عرفت هذا وعرفت أن دعاءهم الصالحين، وتعلقهم عليهم، أنهم يقولون: ما نريد إلا الشفاعة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قاتلهم ليخلصوا الدعاء لله، ويكون الدين كله لله; وعرفت أن هذا هو التوحيد، الذي أفرض من الصلاة والصوم، ويغفر الله لمن أتى به يوم القيامة، ولا يغفر لمن جهله ولو كان عابدا. وعرفت أن ذلك هو الشرك بالله، الذي لا يغفر الله لمن فعله، وهو عند الله أعظم من الزنى، وقتل النفس، مع أن صاحبه يريد به التقرب من الله. ثم مع هذا عرفت أمرا آخر، وهو أن أكثر الناس" مع معرفة هذا الدين" يسمعون العلماء في سدير، والوشم، وغيرهم، إذا قالوا: نحن موحدون الله، نعرف ما ينفع ولا يضر إلا الله، وأن الصالحين لا ينفعون ولا يضرون، وعرفت أنهم لا يعرفون من التوحيد إلا توحيد الكفار، توحيد الربوبية، عرفت عظم نعمة الله عليك، خصوصا إذا تحققت أن الذي يواجه الله، ولا عرف التوحيد، أو عرفه ولم يعمل به، أنه خالد في النار، ولو كان من أعبد الناس، كما قال تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} [سورة المائدة آية: 72] . والله أعلم، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 77 وله أيضًا: تقريب الله التوحيد، بالعقل، والنقل والأئمة، والأدلة المصرفة. فأما العقل: فكون الإنسان الذي في عقله أنك تلجأ إلى الحي، ولا تلجأ إلى الميت، وتطلب الحاضر، ولا تطلب الغائب، وتطلب الغني ولا تطلب الفقير; وأما النقل: ففي القرآن أكثر من أربعين مثلا; والأئمة مثل ما يعرف: أن الناس متعلقة قلوبهم باتباع العلماء، ويقال من أكبر الأئمة; ومعلوم أنه محمد، وإبراهيم، عليهما السّلام. فأما إبراهيم، فكما قال تعالى: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً} [سورة البقرة آية: 124] ، لما جعله الله إماما، معلوم أنه في التوحيد، وما جرى عليه من قومه، أوقدوا له نارا، إذا مر الطير من فوقها سقط فيها. ومحمد صلى الله عليه وسلم فأي شيء هو مرسل به؟ دعوة الصالحين، هو مرسل بهدمها أو يقيمها؟ أو هو ساكت عنها؟ لا قال شينة، ولا زينة؟! ومعلوم أنه ما تفارق هو وقومه إلا عندها. وأما الأدلة المصرفة: فبحر لا ساحل له، كل ما رأيت فهو يدل على الوحدانية. [أربع قواعد في حال المشركين ينبغي فهمهن] وقال رحمه الله تعالى: هذه: أربع قواعد، ينبغي لكل إنسان يتأملهن، ويفهمهن فهم قلب يفيض عملهن على الجوارح. الأولى: الإنسان إذا مات على ما علم من ألفاظ الصلاة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 78 فقط، هل معه دين يدخل به الجنة وينجيه من النار؟ أم لا؟ الثانية: هذه الحوادث عند المقامات ونحوها، هل هي توجد أو شيء منها في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وخلفائه الراشدين، والقرون المثنى عليهم؟ أم لا؟ الثالثة: هذا الذي يفعلونه عندها، من القصد، والتوجه، من إجابة الدعوات، وقضاء الحاجات، وإغاثة اللهفات، هل هو الذي يفعله مشركو العرب قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم عند اللات، والعزى، ومناة، سواء بسواء؟ أم لا؟ الرابعة: من فعل هذا، وهو مسلم مؤمن، هل يكفر ويحبط إيمانه بذلك؟ أم لا؟ فإن أشكلت عليك الأولى، فانظر، إلى سؤال الملكين في القبر، وقوله: هاه، هاه، لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئا، فقلته مثلهم; الثانية: إن قلت توجد، فعليك الإثبات; الثالثة: إن قلت القصد، غير القصد فعليك التفريق، بالأدلة الصحيحة، من كتاب أو سنة، أو إجماع الأمة; الرابعة: إن قلت، الإسلام: يحميه عن الكفر ولو فعل ما فعل، فطالع باب حكم المرتد، من الإقناع وغيره; والله أعلم. [ما قاله الشيخ ابن عبد الوهاب في قوله لو أتيتني بقراب الأرض خطايا] وقال رحمه الله تعالى: ظهر لي في الحديث، في قوله:صلى الله عليه وسلم " لو أتيتني بقراب الأرض خطايا "1 إلخ، أن هذا فيه: تنبيه على جلالة التوحيد،   1 الترمذي: الدعوات (3540) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 79 وأن هذا من نوع التمثيل، كما ذكر في الشرك وكبره عند الله، في قوله تعالى في الأنبياء {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [سورة الأنعام آية: 88] ، لكون التوحيد يكفر الخطايا، كما أن الشرك يحبط الحسنات. وقال أيضا، رحمه الله تعالى: الواجب على كل عبد أن يعرف هذه المسائل: المسألة الأولى: الرب الذي خلقنا ورزقنا لم يتركنا هملا لم يأمرنا، ولم ينهنا ; بل أرسل إلينا رسولا، من أطاعه فهو في الجنة، ومن عصاه فهو في النار، والدليل على ذلك قوله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِداً عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذاً وَبِيلاً} [سورة المزمل آية: 15"16] . المسألة الثانية: أن أعظم ما جاء به هذا الرسول من عند الله أن الله لا يرضى أن يشرك معه في عبادته أحد غيره، والدليل على ذلك، قوله تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} [سورة الجن آية: 18] . المسألة الثالثة: أن من صدق الرسول، ووحد الله، ما يجوز له يواد من حاد الله ورسوله حتى يتوب من المحادة لله ورسوله، والدليل على ذلك، قوله تعالى. {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْأِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 80 تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [سورة المجادلة آية: 22] . فمن لم يعرف ربه، بمعنى معبوده، ودينه ورسوله الذي أرسله الله إليه بدلائله في الدنيا، ولم يعمل به، سئل عنه في القبر فلم يعرفه; ومن لم يعرفه في القبر، ضربته الملائكة بمرزبة من حديد، لو اجتمع عليها الجن والإنس ما أطاقوا حملها. ومن عرفه بدليله، وعمل به في الدنيا، ومات عليه، سئل في القبر فيجيب بالحق، فإنه ذكر في الحديث: " إن العبد المؤمن، أو الموقن، إذا وضع في قبره، سألته الملائكة عن ربه، وعن دينه، وعن نبيه; فيقول: ربي الله، وديني الإسلام، ونبيي محمد، جاءنا بالبينات والهدى، فأجبنا، وصدقنا، واتبعنا، فيقال له: نم صالحا، قد علمنا أنك مؤمن "1. وأعظم البينات الذي جاء به الرسول: كتاب الله، كما قال تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [سورة البقرة آية: 23] . وأما المنافق والمرتاب، إذا سئل عن ذلك، يقول: " هاه، هاه، لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئا فقلته "2 فتعذبه الملائكة; فالحذر، الحذر، من ذلك! تفقهوا في دينكم قبل الموت، وصلى الله على محمد.   1 البخاري: تفسير القرآن (4699) , ومسلم: الجنة وصفة نعيمها وأهلها (2871) , والنسائي: الجنائز (2057) , وأبو داود: السنة (4753) , وأحمد (4/295) . 2 البخاري: العلم (86) , ومسلم: الكسوف (905) , وأحمد (6/345) , ومالك: النداء للصلاة (447) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 81 وسئل أيضا: عن مسائل فأجاب: الأولى: أن الله سبحانه، بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بتحقيق التوحيد، وتجريده، ونفي الشرك بكل وجه، حتى في الألفاظ. الثانية: أن العبادة التي شرعها الله تعالى كلها، تتضمن إخلاص الدين كله لله تحقيقا لقوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} [سورة البينة آية: 5] ؛ فإن دين الإسلام، هو دين الله، الذي أمر به الأولين والآخرين، كما قال تعالى" وهي: الثالثة" {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ} [سورة البقرة آية: 112] ، وفسر إسلام الوجه بما يقتضى الإخلاص; والإحسان: العمل الصالح، المأمور به; وهذان الأصلان جماع الدين; لا نعبد إلا الله، ولا نعبده بالبدع، بل بما شرع، كما قال تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} [سورة الكهف آية: 110] . الرابعة: أن هذين الأصلين هما تحقيق الشهادتين: شهادة أن لا إله إلا الله، وشهادة أن محمدا رسول الله. فالأولى: تتضمن إخلاص الألوهية، فلا يتأله القلب غيره، لا بحب، ولا خوف، ولا رجاء، ولا إجلال، ولا إكرام. والثانية: تتضمن تصديق الرسول فيما أخبر به، وطاعته فيما أمر; فلا حرام إلا ما حرم، ولا دين إلا ما شرع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 82 ولهذا ذم الله تعالى المشركين، في سورة الأنعام، والأعراف، وغيرهما، لكونهم حرموا ما لم يحرمه الله، وشرعوا ما لم يأذن فيه، قال تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً} [سورة الأحزاب آية: 45"46] . فمن دعا إلى غير الله فقد أشرك، ومن دعا الله بغير إذنه فقد ابتدع، والشرك بدعة، والمبتدع يؤل إلى الشرك، كما قال تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} [سورة التوبة آية: 31] ، وقال تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ} [سورة التوبة آية: 29] . ولفظ الإسلام يتضمن الاستسلام، والانقياد، ويتضمن الإخلاص، فمن استسلم له ولغيره، فهو مشرك; ومن لم يستسلم له، فهو مستكبر. وقال أيضا: الدعاء الذي يفعل في هذا الزمان أنواع: النوع الأول: دعاء الله وحده لا شريك له، الذي بعث الله به رسوله. النوع الثاني: أن يدعو الله، ويدعو معه نبيا، أو وليا، ويقول: أريد شفاعته، وإلا فأنا أعلم ما ينفع ولا يضر إلا الله. لكن أنا مذنب، وأدعو هذا الصالح لعله يشفع لي، فهذا الذي فعله المشركون، وقاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 83 حتى يتركوه، ولا يدعوا مع الله أحدا، لا لطلب شفع، ولا نفع. النوع الثالث: أن يقول: اللهم إني أتوسل إليك بنبيك، أو بالأنبياء، أو الصالحين; فهذا ليس شركا، ولا نهينا الناس عنه; ولكن المذكور عن أبي حنيفة، وأبي يوسف، وغيرهم أنهم كرهوه، لكن ليس مما نختلف نحن، وغيرنا فيه. وقال أيضا رحمه الله: ذكر في السيرة، في استماع أبي جهل، قراءة النبي صلى الله عليه وسلم وكلامه معروف، يقول: هذا حق، وذكر الذي منعه، خوفه أن يصيروا تبعا لبني عبد مناف، والواقع: لو أن واحدا من الملوك، يقر أن هذا الدين حق، ولا يدع اتباعه، إلا خوف أن يزول ملكه، لوجدت النفوس تعذره. الثانية: كونهم يخفون إقرارهم على عامة أهل مكة، مخافة أن يتبعوه، وأما أهل هذا الزمان، فكل مطوع شيطان، منطقه الله: أن التوحيد دين الله ورسوله، والشرك الذي هم يفعلون: دين الشيطان; ولا أحد يعي لقولهم. وقال أيضا، الشيخ محمد بن عبد الوهاب، أجزل الله له الأجر والثواب، وأسكنه الجنة بغير حساب: هذه: كلمات في معرفة شهادة أن لا إله إلا الله وأن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 84 محمدا رسول الله، وقد غلط أهل زماننا فيها، وأثبتوا لفظها دون معانيها، وقد يأتون بأدلة على ذلك، تلتبس على الجاهل المسكين، ومن ليس له معرفة في الدين، وذلك يفضي إلى أعظم المهالك. فمن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، فإذا قالوها، عصموا مني دماءهم وأموالهم "1 الحديث، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم لما سئل عن شفاعته: من أحق بها يوم القيامة؟ قال: " من قال لا إله إلا الله خالصا من قلبه "2 وقوله صلى الله عليه وسلم: " من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة "3، وكذلك حديث عتبان: " فإن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله، يبتغي بذلك وجه الله "4. وهذه الأحاديث الصحيحة، إذا رآها هذا الجاهل، أو بعضها، أو سمعها من غيره، طابت نفسه وقرت عينه، واستفزه المساعد على ذلك، وليس الأمر كما يظنه هذا الجاهل المشرك، فلو أنه دعا غير الله، أو ذبح له، أو حلف به، أو نذر له، لم ير ذلك شركا، ولا محرما، ولا مكروها، فإذا أنكر عليه أحد بعض ما ينافي التوحيد لله، والعمل بما أمر الله، اشمأز ونفر، وعارض بقوله: قال رسول الله، وقال رسول الله. وهذالم يدر حقيقة الحال، فلو كان الأمر كما قال، لما قال الصديق رضي الله عنه في أهل الردة: (والله لو منعوني عناقا، أو قال عقالا، كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم   1 البخاري: الإيمان (25) , ومسلم: الإيمان (22) . 2 البخاري: العلم (99) , وأحمد (2/373) . 3 أبو داود: الجنائز (3116) , وأحمد (5/233 ,5/247) . 4 البخاري: الصلاة (425) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (33) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 85 عليه) ، أفيظن هذا الجاهل أنهم لم يقولوا لا إله إلا الله؟ وما يصنع هذا الجاهل، بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخوارج: " أينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجرا لمن قتلهم، فإنهم شر قتيل تحت أديم السماء "1، أفيطن هذا الجاهل أن الخوارج الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا، أنهم لم يقولوا لا إله إلا الله؟ وقال صلى الله عليه وسلم (في هذه الأمة") ولم يقل: منها" " قوم يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، وقراءته مع قراءتهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم "2. وكذلك أهل حلقة الذكر"لما رآهم أبو موسى في المسجد، في كل حلقة رجل يقول: سبحوا مائة، هللوا مائة" الحديث" فلما أنكر عليهم صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: والله ما أردنا إلا الخير; قال: (كم من مريد للخير لم يصبه، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثنا " أن قوما يقرءون القرآن، لا يجاوز حلوقهم، أو قال تراقيهم "3 وأيم الله لا أدري أن يكون فيكم أكثرهم) ، فما كان إلا قليلا، حتى رأوا أولئك يطاعنون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم النهروان، مع الخوارج; أفيظن هذا الجاهل المشرك، أنهم يشركون لكونهم يسبحون ويهللون ويكبرون؟ وكذلك المنافقون، على عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم يجاهدون في سبيل الله، بأموالهم، وأنفسهم، ويصلون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلوات الخمس، ويحجون معه، قال الله   1 البخاري: استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم (6930) , ومسلم: الزكاة (1066) , والنسائي: تحريم الدم (4102) , وأبو داود: السنة (4767) , وأحمد (1/81 ,1/131) . 2 البخاري: المناقب (3610) , ومسلم: الزكاة (1064) . 3 البخاري: استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم (6931) , ومسلم: الزكاة (1064) , وأحمد (3/60) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 86 تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [سورة النساء آية: 145] ، أفيظن هذا الجاهل أنهم لم يقولوا لا إله إلا الله؟ وكذلك قاتل النفس بغير الحق يقتل، أفيظن هذا الجاهل أنه لم يقل لا إله إلا الله، وأنه لم يقلها خالصا من قلبه؟ فسبحان من طبع على قلب من شاء من عباده، وأخفى عليه الصواب، وأسلكه مسلك البهائم والدواب، {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} [سورة الفرقان آية: 44] ، حتى قال هؤلاء الجهلة ممن ينتسب إلى العلم والفقه: قبلتنا من أمها لا يكفر. فلا إله إلا الله، نفي وإثبات الإلهية كلها لله: فمن قصد شيئا من قبر، أو شجر، أو نجم، أو ملك مقرب، أو نبي مرسل، لجلب نفع، وكشف ضر، فقد اتخذه إلها من دون الله; مكذب بلا إله إلا الله، يستتاب، فإن تاب وإلا قتل. فإن قال: هذا المشرك، لم أقصد إلا التبرك ; وإني لأعلم أن الله هو الذي ينفع ويضر، فقل له: إن بني إسرائيل ما أرادوا إلا ما أردت، كما أخبر الله عنهم، أنهم لما جاوزوا البحر: {فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [سورة الأعراف آية: 138] ، فأجابهم بقوله: {إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} الآيتين [سورة الأعراف آية: 138] . وحديث أبي واقد الليثي قال: "خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين، ونحن حدثاء عهد بكفر، وللمشركين سدرة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 87 يعكفون عندها، وينوطون بها أسلحتهم، يقال لها ذات أنواط، فمررنا بسدرة، فقلنا: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط، كما لهم ذات أنواط، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم الله أكبر، إنها السنن، قلتم والذي نفسي بيده، كما قالت بنو إسرائيل لموسى" {اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} لتركبن سنن من كان قبلكم" وقال تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى} [سورة النجم آية: 19] ، وفي الصحيح عن ابن عباس، وغيره: "كان يلت السويق للحاج، فمات، فعكفوا على قبره". فيرجع هذا المشرك، يقول: هذا في الشجر، والحجر، وأنا أعتقد في أناس صالحين، أنبياء، وأولياء، أريد منهم الشفاعة، عند الله، كما يشفع ذو الحاجة عند الملوك، وأريد منهم القربة إلى الله; فقل له: هذا دين الكفار بعينه، كما أخبر سبحانه بقوله: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [سورة الزمر آية: 3] ، وقوله: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [سورة يونس آية: 18] . وقد ذكر أناسا يعبدون المسيح، وعزيرا فقال الله: هؤلاء عبيدي، يرجون رحمتي، كما ترجونها، ويخافون عذابي، كما تخافونه; وأنزل الله سبحانه: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً} الآيتين [سورة الإسراء آية: 56] ، وقال تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ قَالُوا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 88 سُبْحَانَكَ} الآيتين [سورة سبأ آية: 40] . والقرآن، بل والكتب السماوية، من أولها إلى آخرها مصرحة ببطلان هذا الدين، وكفر أهله، وأنهم أعداء الله ورسوله، وأنهم أولياء الشيطان، وأنه سبحانه لا يغفر لهم، ولا يقبل عملا منهم، كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [سورة النساء آية: 48] ، وقال تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} [سورة الفرقان آية: 23] ، وقال تعالى: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [سورة البقرة آية:22] . قال ابن مسعود وابن عباس: لا تجعلوا له أكفاء من الرجال، تطيعونهم في معصية الله. وقال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم " ما شاء الله وشئت، قال: اجعلتني لله ندا؟ قل: ما شاء الله وحده "1 وقال صلى الله عليه وسلم لأصحابه: " أخوف ما أخاف عليكم: الشرك الأصغر" فسئل عنه فقال: الرياء "2. وبالجملة: فأكثر أهل الأرض، مفتونون بعبادة الأصنام، والأوثان، ولم يتخلص من ذلك إلا الحنفاء، أتباع ملة إبراهيم عليه السلام، وعبادتها في الأرض، من قبل قوم نوح، كما ذكر الله، وهي كلها، ووقوفها، وسدانتها، وحجابتها، والكتب المصنفة في شرائع عبادتها، طبق الأرض، قال إمام الحنفاء: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} [سورة إبراهيم آية: 35] ، كما قص الله ذلك عنهم في القرآن، وأنجى الرسل وأتباعهم من الموحدين.   1 النسائي: الأيمان والنذور (3773) , وأحمد (6/371) . 2 أحمد (5/428) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 89 وكفى في معرفة كثرتهم، وأنهم أكثر أهل الأرض، ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم "أن بعث النار من كل ألف: تسعمائة وتسعة وتسعون" قال الله تعالى: {فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً} [سورة الإسراء آية: 89] ، وقال: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [سورة الأنعام آية: 116] ، وقال: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [سورة يوسف آية: 103] . ولما أراد سبحانه إظهار توحيده وإكمال دينه، وأن تكون كلمته هي العليا، وكلمة الذين كفروا هي السفلى، بعث محمدا صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين، وحبيب رب العالمين، وما زال في كل جيل مشهورا، وفي توراة موسى، وإنجيل عيسى مذكورا، إلى أن أخرج الله تلك الدرة بين بني كنانة وبني زهرة، فأرسله على حين فترة من الرسل، وهداه إلى أقوم السبل. فكان له صلى الله عليه وسلم من الآيات والدلالات على نبوته قبل مبعثه ما يعجز أهل عصره، فمن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: " أنا دعوة أبي إبراهيم، وبشارة عيسى، ورؤيا أمي التي رأت، حين وضعتني، أنه خرج منها نور أضاءت له بصرى من أرض الشام "1. وولد صلى الله عليه وسلم ليلة الاثنين، الثاني عشر من ربيع الأول، عام الفيل، وانشق إيوان كسرى ليلة مولده، حتى سمع انشقاقه، وسقط أربع عشرة شرفة، وهو باق إلى اليوم آية من آيات الله، وخمدت نار فارس، ولم تخمد قبل ذلك، وغاضت   1 أحمد (4/127) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 90 بحيرة ساوة، وكانت بحيرة عظيمة في مملكة العراق، عراق العجم وهمدان، تسير فيها السفن، وهي أكثر من ستة فراسخ، فأصبحت ليلة مولده يابسة ناشفة، كأن لم يكن بها ماء، واستمرت على ذلك، حتى بني مكان "ساوة" وباقية إلى اليوم. وأرسلت الشهب على الشياطين، كما أخبر الله بقوله: {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ} الآية [سورة الجن آية: 9] . وأنبته الله نباتا حسنا، وكان أفضل قومه مروة، وأحسنهم خلقا، وأعزهم جوارا، وأعظمهم حلما، وأصدقهم حديثا، حتى سماه قومه الأمين، لما جعل الله فيه من الأحوال الصالحة، والخصال المرضية. ووصل بصرى من أرض الشام، مرتين، فرآه بحيرا الراهب فعرفه، وأخبر عمه أنه رسول الله، وأمر برده، فرده مع بعض غلمانه، وقال لعمه: احتفظ به، فلم نجد قدما أشبه من القدم الذي بالمقام من قدمه. واستمرت كفالة أبي طالب، كما هو مشهور، وبغضت إليه الأوثان، ودين قومه، فلم يكن شيء أبغض إليه من ذلك. والدليل على أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم من العقل والنقل ; أما النقل: فواضح; وأما العقل: فنبه عليه القرآن; من ذلك: ترك الله خلقه بلا أمر، ولا نهي لا يناسب في حق الله، ونبه عليه في قوله: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 91 مُوسَى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ} [سورة الأنعام آية: 91] . ومنها أن قول الرجل: إني رسول الله، إما أن يكون خير الناس، وإما أن يكون شرهم وأكذبهم؛ والتمييز بين ذلك سهل، يعرف بأمور كثيرة; ونبه على ذلك بقوله: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} الآيات [سورة الشعراء آية: 221] . ومنها: شهادة الله بقوله: {قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} [سورة الرعد آية: 43] ، ومنها: شهادة أهل الكتاب بما في كتبهم، كما في الآية. ومنها:" وهي أعظم الآيات العقلية" هذا القرآن الذي تحداهم الله بسورة من مثله، ونحن إن لم نعلم وجه ذلك من جهة العربية، فنحن نعلمها من معرفتنا بشدة عداوة أهل الأرض له، علمائهم، وفصحائهم، وتكريره هذا، واستعجازهم به، ولم يتعرضوا لذلك على شدة حرصهم على تكذيبه، وإدخال الشبه على الناس؛ ومنها تمام ما ذكرنا، وهو إخباره سبحانه أنه لا يقدر أحد أن يأتي بسورة مثله إلى يوم القيامة، فكان كما ذكر، مع كثرة أعدائه في كل عصر، وما أعطوا من الفصاحة والكمال والعلوم. ومنها: نصرة من اتبعه، ولو كانوا أضعف الناس، ومنها: خذلان من عاداه، وعقوبته في الدنيا، ولو كانوا أكثر الناس وأقواهم؟ ومنها: أنه رجل أمي لا يخط، ولا يقرأ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 92 الخط، ولا أخذ عن العلماء، ولا ادعى ذلك أحد من أعدائه، مع كثرة كذبهم، وبهتانهم; ومع هذا، أتى بالعلم، الذي في الكتب الأولى، كما قال تعالى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} [سورة العنكبوت آية: 48] . وقال رحمه الله تعالى: ولما بلغ أربعين سنة: بعثه الله {بَشِيراً وَنَذِيراً} [سورة البقرة آية: 119] ، {وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً [سورة الأحزاب آية: 46] . ولما أتى قومه بلا إله إلا الله، قالت قريش: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً} [سورة ص آية: 5] ، قال الترمذي: حدثني محمد بن صالح، عن عاصم بن عمرو بن قتادة، وزيد بن مروان، وغيرهم، قالوا: " قام رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث سنين مستخفيا، ثم أعلن في الرابعة، فدعا عشر سنين، يوافي الموسم كل عام، فيقول: أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا، وتملكوا بها العرب، وتدين لكم بها العجم، فإذا متم كنتم ملوكا في الجنة "1، وأبو لهب وراءه، يقول: لا تطيعوه، فإنه صابئ كذاب، فيردون عليه أقبح الرد. ولما أمره الله بالهجرة، هاجر، وأظهر الله دينه على الدين كله، وقاتل جميع المشركين، ولم يميز بين من اعتقد في نبي، ولا ولي، ولا شجر، ولا حجر; وما زال يعلم الناس التوحيد، ويقمع من دعاة الشرك كل شيطان مريد، حتى أزال الله الجهل والجهال، وبان للناس من التوحيد ساطع الجمال، وعن أنس قال قال أناس: يا رسول الله، يا خيرنا   1 أحمد (3/492) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 93 وابن خيرنا، وسيدنا وابن سيدنا، فقال صلى الله عليه وسلم: " يا أيها الناس، أنا محمد عبد الله ورسوله، ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله عز وجل "1. وعن عبد الله بن الشِّخِّير، قال: " انطلقت في وفد بني عامر، إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: أنت سيدنا، فقال: السيد الله تبارك وتعالى "2. وعن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا تطروني كما أطرت النصارى المسيح ابن مريم، إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله "3. وما زال صلى الله عليه وسلم معلما لأصحابه هذا التوحيد، ومحذرا من الشرك، حتى أتاهم وهم يتذاكرون الدجال، فقال: " ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: الشرك الخفي، يقوم الرجل فيصلي، فيزين صلاته لما يرى من نظر رجل "4 وحتى قال: " لا تحلفوا بآبائكم، من حلف بالله فليصدق، ومن حلف له بالله فليرض، ومن لم يرض فليس من الله "5، وحتى قال: " لا يقل أحدكم ما شاء الله وشاء فلان "6، وحتى قال " لا تقولوا: لولا الله وفلان"،وحتى قال: "لا يقل أحدكم: عبدي وأمتي "7، وحتى قال: " من حلف بغير الله فقد أشرك أو كفر " 8. وحذرهم من الشرك بالله، في الأقوال والأعمال، حتى قال: "إنما أنا بشر، يوشك أن يأتيني رسول ربي، فأجيب. وأنا تارك فيكم كتاب الله، فيه الهدى والنور، ومن تركه كا ن   1 أحمد (3/249) . 2 أبو داود: الأدب (4806) . 3 البخاري: أحاديث الأنبياء (3445) , وأحمد (1/23 ,1/24) . 4 ابن ماجه: الزهد (4204) , وأحمد (3/30) . 5 البخاري: الأيمان والنذور (6648) , وابن ماجه: الكفارات (2101) , وأحمد (2/8) . 6 أبو داود: الأدب (4980) , وأحمد (5/384) . 7 البخاري: العتق (2552) , ومسلم: الألفاظ من الأدب وغيرها (2249) , وأبو داود: الأدب (4975) , وأحمد (2/316) . 8 الترمذي: النذور والأيمان (1535) , وأبو داود: الأيمان والنذور (3251) , وأحمد (2/34 ,2/86 ,2/125) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 94 على الردى "1، وحتى قال: " خير الحديث كتاب الله، وخير الهدى هدى محمد صلى الله عليه وسلم، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة 2 وكل ضلالة في النار "، وحتى أنه لم يترك النهي عند الموت، والتحذير لنا من هذا الشرك، حتى قال: " اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد "3 وحتى قال: " دخل الجنة رجل في ذباب، ودخل النار رجل في ذباب " الحديث. وحتى حذرهم عن الكفر بنعمة الله، قيل هو قول الرجل: هذا مالي، ورثته عن آبائي، وقال بعضهم: هو كقوله: الريح طيبة، والملاح حاذق، ونحو ذلك; ولما ذكر شيخ الإسلام تقي الدين الأحاديث: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله "4 وكذلك حديث ابن عمر في الصحيحين: " أمرت أن أقاتل الناس، حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة" 5 قال: (إن الصلاة من حقها، والزكاة من حقها) كما قال الصديق لعمر، ووافقه عمر، وسائرهم على ذلك، ويكون ذلك أنه إذا قالها قد شرع في العصمة، وإلا بطلت. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم كل واحد من الحديثين، في وقت، ليعلم المسلمون أن الكافر إذا قالها وجب الكف عنه، ثم صار القتال مجردا إلى الشهادتين، ليعلم أن تمام العصمة يحصل بذلك، لئلا يقع شبهة; وأما مجرد الإقرار، فلا يعصمهم على الدوام، كما وقعت لبعض الصحابة، حتى   1 مسلم: فضائل الصحابة (2408) , وأحمد (4/366) , والدارمي: فضائل القرآن (3316) . 2 مسلم: الجمعة (867) , وأحمد (3/371) . 3 مالك: النداء للصلاة (416) . 4 البخاري: الإيمان (25) , ومسلم: الإيمان (22) . 5 البخاري: الإيمان (25) , ومسلم: الإيمان (22) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 95 جلاها الصديق رضي الله عنه ووافقه عمر. وقال صاحب المنازل: شهادة أن لا إله إلا الله، الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد، هذا هو التوحيد، الذي نفى الشرك الأعظم، وعليه نصبت القبلة، وبه حقنت الدماء والأموال; وانفصلت دار الإيمان من دار الكفر، وصحت به الملة للعامة، وإن لم يقوموا بحسن الاستدلال، بعد أن يسلموا من الشبهة، والحيرة، والريبة، بصدق شهادة، صححها قبول القلب، وهذا توحيد العامة، الذي يصح بالشواهد، وهي الرسالة والصنائع، ويجب بالسمع، ويوجد بتبصير الحق، وينمو على مشاهدة الشواهد، والحمد لله رب العالمين. وقال أيضا: الشيخ محمد بن عبد الوهاب، قدس الله روحه. لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعين سنة: بعثه الله {بشيرا ونذيرا} ، {وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا} . ونذكر قبل ذلك شيئا من أمور الجاهلية، وما كانت عليه قبل بعثته، قال قتادة: ذكر لنا أنه كان بين آدم ونوح عشرة قرون، كلهم على الهدى وشريعة من الحق; ثم اختلفوا بعد ذلك; فبعث الله لهم نوحا، وكان أول رسول أرسل لأهل الأرض; قال ابن عباس، في قوله تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} [سورة البقرة آية: 213] ، قال (على الإسلام) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 96 وكان أول ما كادهم الشيطان به تعظيم الصالحين، كما ذكر الله ذلك في كتابه {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً} [سورة نوح آية: 23] ، قال الكلبي: هؤلاء قوم صالحون، فماتوا في شهر، فجزع عليهم أقاربهم، وقال لهم رجل: هل لكم أن أعمل لكم خمسة أصنام، على صورهم؟ قالوا: نعم، فنحت لهم خمسة أصنام، ونصبها لهم. وفي غير حديثه، قال أصحابهم: لو صورنا صورهم، كان أشوق لنا إلى العبادة، فكان الرجل يأتي أباه وابن عمه، فيعظمه، حتى ذهب القرن الأول، ثم جاء القرن الآخر، وعظموهم أشد من الأول; ثم جاء القرن الثالث، فقالوا: ما عظم أولونا هؤلاء إلا وهم يرجون شفاعتهم، فعبدوهم. فلما بعث الله نوحا، وأغرق من أغرق، وأهبط الماء هذه الأصنام، من أرض إلى أرض، حتى قذفها إلى أرض جدة; فلما نضب الماء، بقيت على الشاطئ، فسفت الريح عليها حتى وارتها، ثم عمر نوح وذريته الأرض، وبقوا على الإسلام ما شاء الله، ثم حدث فيهم الشرك. وما من أمة إلا ويبعث الله فيها رسولا، يأمرهم بعبادة الله وحده، وينهاهم عن الشرك، فمنهم: عاد التي لم يخلق مثلها في البلاد; بعث الله لهم هودا عليه السلام، وكانوا في ناحية الجنوب، بين اليمن وعمان، فكذبوه، فأرسل الله عليهم الريح فأهلكتهم، ونجى الله هودا ومن معه; ثم بعث الجزء: 2 ¦ الصفحة: 97 الله صالحا إلى ثمود، وكانوا بالشمال، بين الشام والحجاز، {فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} [سورة فصلت آية: 17] ، فأرسل الله عليهم صيحة فأهلكتهم; ونجى الله صالحا ومن معه. ثم بعد ذلك أخرج إليهم إبراهيم عليه السلام، وأهل الأرض إذ ذاك كلهم كفار، فكذبوه إلا ابنة عمه سارة، زوجته، ولوطا أيضا، فأكرمه الله ورفع قدره، وجعله إماما للناس، وجعل في ذريته النبوة والكتاب. ومنذ ظهر إبراهيم، لم يعدم التوحيد في الأرض، كما قال تعالى: {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [سورة الزخرف آية: 28] ، وكان له ابنان، أحدهما: إسحاق عليه السلام وهو أبو بني إسرائيل، وإسرائيل يعقوب بن إسحاق، والثاني: إسماعيل عليه السلام، وهو أبو العرب، وقصته وأمه مشهورة، لما وضعها عليه السلام في مكة، وكان هو في الشام، فنشأ إسماعيل عليه السلام في أرض العرب، فصار له ولأولاده: ولاية البيت ومكة. فلم يزالوا بعده على دين إسماعيل، حتى نشأ فيهم عمرو بن لحي، بن قمعة، فملك مكة، وكان معظما فيهم بسبب الدين والدنيا; فسار إلى الشام، ورآهم يعبدون الأوثان، فاستحسن ذلك، وزينه لأهل مكة، ثم اقتدى بهم أهل الحجاز، وكان له رئي من الجن، فأتاه، فقال: عجل السير والظعن من تهامة، بالسعد والسلامة، ائت جدة، تجد فيها أوثانا معدة، فأوردها تهامة ولا تهب، ثم ادع العرب إلى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 98 عبادتها تجب. فأتى جدة فاستثارها، ثم حملها. فلما حضر الحج، دعا العرب إلى عبادتها، فأجابوه، ففرقها في كل قبيلة واحد، فلم تزل تعبد حتى بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم فكسرها، وقال: " رأيت عمرو بن عامر يجر قصبه في النار "1، وكان أول من سيب السوائب، وغير دين إبراهيم، ونصب الأوثان، وكان أهل الجاهلية إذ ذاك، فيهم بقايا من دين إبراهيم، مثل تعظيم البيت، والطواف به، والحج والعمرة، وإهداء البدن; وكانت نزار تقول في إهلالها: لبيك لا شريك لك، إلا شريك هو لك، تملكه وما ملك. ومن أقدم أصنامهم: مناة على ساحل البحر، بقديد بين مكة والمدينة، ولم يكن أحد أشد تعظيما له من الأوس والخزرج; فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا فهدمها عام الفتح. ثم اتخذوا اللات بالطائف، وكان أصله رجلا صالحا يلت السويق للحاج، فمات فعكفوا على قبره; فلما أسلمت ثقيف بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم المغيرة بن شعبة فهدمها. ثم اتخذوا العزى، وكانت بوادي نخلة، وبنوا عليها بيتا، وكانوا يسمعون منه الصوت، فلما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة، بعث خالد بن الوليد فأتاها، فعضدها وكانت ثلاث سمرات، فلما عضد الثالثة: إذ هو بجنية، نافشة شعرها، فقال خالد، يا عزى كفرانك لا سبحانك ... إني رأيت الله قد أهانك ثم ضربها ففلق رأسها، فإذا هي حممة.   1 البخاري: المناقب (3521) وتفسير القرآن (4623) , ومسلم: الجنة وصفة نعيمها وأهلها (2856) , وأحمد (2/366) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 99 وكان من العرب من يتعلق على الملائكة، يريدون شفاعتهم، وهم بنو ملح، وكان منهم من يدعو الجن، وكانت النصارى تدعو عيسى وأمه; وكان من الناس، من يدعو أناسا صالحين، غير ما ذكرنا; وهو أول أنواع الشرك وقوعا في الأرض، كما تقدم. وامتلأت أرض العرب، وغيرها، من الأوثان، والشرك بالله، وكان لكل قوم شيء يقصدونه، غير ما كان عند الآخرين. فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتوحيد، قالوا: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [سورة ص آية: 5] . ولما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة، وجد حول البيت: ثلاثمائة وستين صنما، وجعل يطعن في وجوهها، ويقول: {جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} [سورة الإسراء آية: 81] ، وهي تساقط على رؤوسها، ثم أمر بها فأخرجت من المسجد، وحرقت. وقال بعض الصحابة في اللات: لا تنصروا اللات إن الله مهلكها ... إن التي حرقت بالسد فاشتعلت وكيف ينصركم من ليس ينتصر ... فلم تقاتل لدى أحجارها هدر وصلى الله على محمد. [بيان الشهادة والتوحيد] وقال أيضا: بوأه الله منازل النبيين، والصديقين: بسم الله الرحمن الر حيم هذه كلمات، في بيان شهادة أن لا إله إلا الله، وبيان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 100 التوحيد، الذي هو حق الله على العبيد، وهو أفرض من الصلاة، والزكاة، وصوم رمضان، فرحم الله امرأ نصح نفسه، وعرف أن وراءه جنة ونارا، وأن الله عز وجل جعل لكل منهما أعمالا. فإن سأل عن ذلك، وجد رأس أعمال أهل الجنة: توحيد الله تعالى، فمن أتى به يوم القيامة، فهو من أهل الجنة، قطعا، ولو كان عليه من الذنوب مثل الجبال. ورأس أعمال أهل النار: الشرك بالله، فمن مات على ذلك، فلو أتى يوم القيامة بعبادة الله الليل والنهار، والصدقة والإحسان، فهو من أهل النار قطعا، كالنصارى، الذين يبني أحدهم صومعة في البرية، ويزهد في الدنيا، ويتعبد الليل والنهار، لكنه خلط ذلك بالشرك بالله، تعالى الله عن ذلك، قال الله عز وجل: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} [سورة الفرقان آية: 23] . وقال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ} [سورة إبراهيم آية: 18] . فرحم الله امرأ، تنبه لهذا الأمر العظيم، قبل أن يعض الظالم على يديه، ويقول: {يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً} [سورة الفرقان آية: 27] . نسأل الله: أن يهدينا، وإخواننا المسلمين إلى الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم، وأن يجنبنا طريق المغضوب عليهم، وهم العلماء، الذين علموا ولم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 101 يعملوا، وطريق الضالين، وهم العباد الجهال، فما أعظم هذا الدعاء، وما أحوج من دعا به أن يحضر قلبه في كل ركعة، إذا قرأ بها، بين يدي الله تعالى، أن يهديه وأن ينجيه; فإن الله قد ذكر: أنه يستجيب هذا الدعاء الذي في الفاتحة، إذا دعا به الإنسان من قلب حاضر. فنقول: لا إله إلا الله، هي: العروة الوثقى ; وهي: كلمة التقوى; وهي: الحنيفية ملة إبراهيم; وهي: التي جعلها الله عز وجل كلمة باقية في عقبه; وهي: التي خلقت لأجلها المخلوقات; وبها قامت الأرض والسماوات; ولأجلها أرسلت الرسل، وأنزلت الكتب; قال الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [سورة الذاريات آية: 56] ، وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [سورة النحل آية: 36] ، والمراد: معنى هذه الكلمة; وأما: التلفظ باللسان، مع الجهل بمعناها، فلا ينفع; فإن المنافقين يقولونها، وهم تحت الكفار، في الدرك الأسفل من النار. فاعلم: أن معنى هذه الكلمة: نفي الإلهية عما سوى الله تبارك وتعالى، وإثباتها كلها لله وحده، لا شريك له، ليس فيها حق لغيره، لا لملك مقرب، ولا لنبي مرسل، كما قال تعالى: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً} [سورة مريم آية: 93] ، وقال تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 102 الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفّاً لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَاباً} [سورة النبأ آية: 38] ، وقال تعالى: {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا} الآية [سورة النحل آية: 111] . فإذا قيل: لا خالق إلا الله، فهذا معروف، لا يخلق الخلق إلا الله، لا يشاركه في ذلك ملك مقرب، ولا نبي مرسل، وإذا قيل: لا يرزق إلا الله، فكذلك; فإذا قيل: لا إله إلا الله، فكذلك، فتفكر رحمك الله، في هذا، واسأل عن معنى الإله، كما تسأل عن معنى الخالق، والرازق. واعلم أن معنى الإله، هو المعبود هذا هو تفسير هذه اللفظة، بإجماع أهل العلم، فمن عبد شيئا، فقد اتخذه إلها من دون الله، وجميع ذلك باطل، إلا إله واحد، وهو: الله وحده، تبارك وتعالى علوا كبيرا. والعبادة: أنواع كثيرة ; لكني أمثلها بأنواع ظاهرة، لا تنكر، من ذلك: السجود؟ فلا يجوز لعبد، أن يضع وجهه على الأرض، ساجدا، إلا لله وحده، لا شريك له، لا لملك مقرب، ولا لنبي مرسل، ولا لولي. ومن ذلك: الذبح فلا يجوز لأحد، أن يذبح إلا لله وحده; كما قرن الله بينهما في القرآن، في قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ} [سورة الأنعام آية: 162] ، والنسك، هو: الذبح; وقال: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [سورة الكوثر آية: 2] ، فتفطن لهذا" الجزء: 2 ¦ الصفحة: 103 واعلم أن من ذبح لغير الله، من جني أو قبر، فكما لو سجد له; وقد لعنه رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح، قال: " لعن الله من ذبح لغير الله "1. ومن أنواع العبادة: الدعاء؛ كما كان المؤمنون، يدعون الله وحده، ليلا ونهارا، في الشدة والرخاء، لا يشك أحد، أن هذا من أنواع العبادة، فتفكر" رحمك الله" فيما حدث في الناس اليوم، من دعاء غير الله في الشدة والرخاء; هذا يريد سفرا، فيأتي عند قبر أو غيره، فيدخل عليه بما له، عمن ينهبه، وهذا تلحقه الشدة، في البر، أو البحر، فيستغيث بعبد القادر، أو شمسان، أو نبي من الأنبياء، أو ولي من الأولياء، أن ينجيه من هذه الشدة. فيقال لهذا الجاهل: إن كنت تعرف أن الإله هو: المعبود، وتعرف أن الدعاء من العبادة، فكيف تدعو مخلوقا، ميتا، عاجزا؟! وتترك الحي، القيوم، الحاضر، الرؤوف، الرحيم، القدير؟! فقد يقول" هذا المشرك": إن الأمر بيد الله، ولكن هذا العبد الصالح يشفع لي عند الله، وتنفعني شفاعته وجاهه; ويظن أن ذلك يسلمه من الشرك. فيقال لهذا الجاهل: المشركون عباد الأصنام، الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وغنم أموالهم وأبناءهم ونساءهم، كلهم يعتقدون أن الله هو النافع، الضار، الذي يدبر الأمر، وإنما أرادوا ما أردت من الشفاعة عند الله، كما قال   1 مسلم: الأضاحي (1978) , والنسائي: الضحايا (4422) , وأحمد (1/108 ,1/118 ,1/152) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 104 تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [سورة يونس آية: 18] ، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [سورة الزمر آية: 3.] ، وإلا فهم يعترفون بأن الله هو الخالق، الرازق، النافع الضار، كما أخبر الله عنهم بقوله: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} [سورة يونس آية: 31] . فليتدبر اللبيب العاقل، الناصح لنفسه، الذي يعرف: أن بعد الموت جنة ونارا، هذا الموضع، ويعرف الشرك بالله، الذي قال الله فيه: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} الآية [سورة النساء آية: 48] ، وقال: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} [سورة المائدة آية: 72] . فما بعد هذا البيان بيان، إذا كان الله عز وجل قد حكى عن الكفار أنهم مقرون أنه هو الخالق، الرازق، المحيي، المميت، الذي يدبر الأمر، وإنما أرادوا من الذين يعتقدون فيهم التقرب والشفاعة عند الله تعالى. وكم آية في القرآن، ذكر الله فيها هذا، كقوله تعالى: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} [سورة المؤمنون آية: 84] إلى قوله: {فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} [سورة المؤمنون آية: 89] ، وكقوله; {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 105 الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [سورة العنكبوت آية: 61] ، {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [سورة العنكبوت آية: 63] ، وغير ذلك من الآيات التي أخبر الله بها عنهم أنهم أقروا بهذا لله وحده، وأنهم ما أرادوا من الذين يعتقدون فيهم إلا الشفاعة، لا غير ذلك. فإن احتج بعض المشركين أن أولئك يعتقدون في الأصنام، وهي حجارة وخشب ونحن نعتقد في الصالحين، قيل له: والكفار أيضا، منهم من يعتقد في الصالحين، مثل الملائكة، وعيسى ابن مريم، وفي الأولياء مثل العزير، واللات، والعزى، وناس، من الجن، وغيرهم; وذكر الله عز وجل ذلك في كتابه، فقال في الذين يعتقدون في الملائكة ليشفعوا لهم: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} [سورة سبأ آية: 41] ، وقال: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [سورة الأنبياء آية: 28] . وقال فيمن اعتقد في عيسى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ} الآية [سورة النساء آية: 171] ، وقال: {قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [سورة المائدة آية: 76] فإذا كان عيسى بن مريم، وهو من أفضل الرسل، قيل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 106 فيه هذا، فكيف بعبد القادر وغيره، أن يملك ضرا أو نفعا؟! وقال في حق الأولياء: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} [سورة الإسراء آية: 56"57] ، قال طائفة من السلف: كان أقوام يدعون الملائكة، وعزيرا، والمسيح، فقال الله: هؤلاء عبيدي كما أنتم عبيدي، يرجون رحمتي، كما ترجون أنتم رحمتي، ويخافون عذابي كما تخافون عذابي، فرحم الله امرأ: تفكر في هذه الآية العظيمة، وفيما نزلت فيه وعرف: أن الذين اعتقدوا فيهم، إنما أرادوا التقرب إلى الله والشفاعة عنده. وهذا كله يدور على كلمتين: الأولى: أن تعرف أن الكفار، يعرفون أن الله سبحانه هو الخالق الرازق، الذي يدبر الأمر، وحده، وإنما أرادوا التقرب بهؤلاء إلى الله تعالى; والثانية: أن تعرف أن منهم أناسا يعتقدون في أناس من الأنبياء والصالحين، مثل: عيسى، والعزير، والأولياء; فصاروا هم والذين يعتقدون في الأصنام، من الحجر، والشجر، واحدا، فلما قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفرق بين الذين يعتقدون في الأوثان، من الخشب، والحجر، وبين الذين يعتقدون في الأنبياء، والصالحين، على أن أهل زماننا هذا، يعتقدون في الحجارة على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 107 القبور، والشجر الذي عليها. إذا تبين هذا، وأنه ليس من دين الله، وقال بعد ذلك المشرك: هذا بين، نعرفه من أول ... فقل له: إذا كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعرفوا هذا إلا بعد التعلم، ومن الشرك أشياء ما عرفوها إلا بعد سنين; وأنت عرفت هذا بلا تعلم، فأنت أعلم منهم! بل الأنبياء لم يعرفوا هذا إلا بعد أن علمهم الله تعالى، قال الله تعالى لأعلم الخلق محمد صلى الله عليه وسلم {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [سورة محمد آية: 19] ، وقال تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [سورة الزمر آية: 65] . فإذا كان هذا نبينا، فما بال الخليل إبراهيم عليه السلام يوصي بها أولاده، وهم أنبياء؟ قال تعالى: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [سورة البقرة آية: 132] ، و {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لاِبْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [سورة لقمان آية: 13] . فإذا كان هذا أمر لا يخاف على المسلمين منه، فما بال الخليل، يخاف على نفسه وعلى بنيه، وهم أنبياء؟ حيث قال: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} [سورة إبراهيم آية: 35] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 108 وما بال العليم الحكيم، لما أنزل كتابه ليخرج الناس من الظلمات، إلى النور، جعله في هذا الأمر، وكثر الكلام فيه، وبينه، وضرب فيه الأمثال، وحذر منه، وأبدى وأعاد؟ فماذا كان الناس يفهمونه بلا تعلم، ولا يخاف عليهم من الوقوع فيه، فما بال رب العالمين جعل أكثر كتابه فيه؟ فسبحان من طبع على قلب من شاء من خلقه، فأصمهم وأعمى أبصارهم. وأنت يا من من الله عليه بالإسلام، وعرف أن ما من إله إلا الله، لا تظن أنك إذا قلت: هذا هو الحق، وأنا تارك ما سواه، لكن لا أتعرض للمشركين، ولا أقول فيهم شيئا، لا تظن أن ذلك يحصل لك به الدخول في الإسلام، بل لا بد من بغضهم، وبغض من يحبهم، ومسبتهم، ومعاداتهم، كما قال أبوك إبراهيم، والذين معه: {إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [سورة الممتحنة آية: 4] ، وقال تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} الآية [سورة البقرة آية: 256] ، وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [سورة النحل آية: 36] . ولو يقول رجل: أنا أتبع النبي صلى الله عليه وسلم وهو على الحق، لكن لا أتعرض اللات والعزى، ولا أتعرض أبا جهل وأمثاله، ما علي منهم; لم يصح إسلامه; وأما مجادلة بعض الجزء: 2 ¦ الصفحة: 109 المشركين بأن هؤلاء الطواغيت ما أمروا الناس بهذا، ولا رضوا به، فهذا لا يقوله إلا مشرك مكابر؛ فإن هؤلاء ما أكلوا أموال الناس بالباطل، ولا ترأسوا عليهم، ولا قربوا من قربوا، إلا بهذا; وإذا رأوا رجلا صالحا استحقروه، وإذا رأوا مشركا كافرا تابعا الشيطان، قربوه وأحبوه وزوجوه بناتهم، وعدوا ذلك شرفا!! وهذا القائل يعلم أن قوله ذلك كذب، فإنه لو يحضر عندهم، ويسمع بعض المشركين يقول: جاءتني شدة، فنخيت الشيخ، أو السيد، فنذرت له، فخلصني، لم يجسر أن يقول هذا القائل: لا يضر ولا ينفع إلا الله; بل لو قال هذا، وأشاعه في الناس، لأبغضه الطواغيت; بل لو قدروا على قتله لقتلوه; وبالجملة: لا يقول هذا إلا مشرك مكابر، وإلا فدعواهم هذه، وتخويفهم الناس، وذكرهم السوالف الكفرية التي بآبائهم شيء مشهور لا ينكره من عرف حالهم، كما قال تعالى: {شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ} [سورة التوبة آية: 17] . ولنختم الكتاب، بذكر آية من كتاب الله، فيها عبرة لمن اعتبر، قال تعالى في حق الكفار: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ} [سورة الإسراء آية: 67] ، فذكر عن الكفار أنهم إذا جاءتهم الشدة تركوا غيره، وأخلصوا له الدين; وأهل زماننا إذا جاءتهم الشدة والضر، نخوا غير الله، سبحانه وتعالى عن ذلك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 110 فرحم الله: من تفكر في هذه الآية وغيرها من الآيات; وأما من من الله عليه بالمعرفة، فليحمد الله تعالى; وإن أشكل عليه شيء، فليسأل أهل العلم عما قال الله ورسوله، ولا يبادر بالإنكار، لأنه إن رد، رد على الله، قال الله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ} [سورة السجدة آية: 22] . واعلم رحمك الله أن أشياء من أنواع الشرك الأكبر وقع فيه بعض المصنفين على جهالة، لم يفطن له، من ذلك، قوله في البردة: يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به ... سواك عند حلول الحادث العمم وفي الهمزية جنس هذا وغيره أشياء كثيرة; وهذا من الدعاء، الذي هو من العبادة التي لا تصلح إلا لله وحده; وإن جادلك بعض المشركين بجلالة هذا القائل، وعلمه وصلاحه، وقال بجهله: كيف هذا؟ فقل له: أعلم منه وأجل، أصحاب موسى، الذين اختارهم الله وفضلهم على العالمين، حين قالوا: {يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [سورة الأعراف آية: 138] ، فإذا خفي هذا على بني إسرائيل، مع جلالتهم وعلمهم وفضلهم; فما ظنك بغيرهم؟ وقل لهذا الجاهل: أصلح من الجميع وأعلم، أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لما مروا بشجرة، قالوا: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط، كما لهم ذات أنواط، فحلف رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 111 هذا: كما قالت بنو إسرائيل لموسى {اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [سورة الأعراف آية: 138] ففي هذا عبرتان عظيمتان: الأولى: أن النبي صلى الله عليه وسلم صرح أن من اعتقد في شجرة، أو تبرك بها، أنه قد اتخذها إلها، وإلا فأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرفون أنها لا تخلق، ولا ترزق، وإنما ظنوا أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا أمرهم بالتبرك بها، صار فيها بركة. والعبرة الثانية: أن الشرك قد يقع فيمن هو أعلم الناس، وأصلحهم، وهو لا يدري، كما قيل: الشرك أخفى من دبيب النمل; بخلاف قول الجاهل: هذا بين نعرفه; فإذا أشكل عليك من هذا شيء، وأردت بيانه من كلام أهل العلم، وإنكارهم جنس الشرك، الذي حرمه الله، فهو موجود; وأعني كلام العلماء في هذا، إن أردت من الحنابلة، وإن أردت من غيرهم; والله أعلم. وقال رحمه الله تعالى: فصل في معنى لا إله إلا الله: اعلم رحمك الله تعالى، أن "لا إله إلا الله" هي: الكلمة العالية، والشريفة الغالية، من استمسك بها فقد سلم، ومن اعتصم بها فقد عصم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من قال لا إله إلا الله، وكفر بما يعبد من دون الله، حرم ماله ودمه، وحسابه على الله عز وجل "1. والحديث يفصح أن لا إله إلا الله، لها لفظ ومعنى،   1 مسلم: الإيمان (23) , وأحمد (3/472 ,6/394) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 112 ولكن الناس فيها ثلاث فرق: فرقة نطقوا بها وحققوها، وعلموا أن لها معنى وعملوا به، ولها نواقض فاجتنبوها. وفرقة: نطقوا بها في الظاهر، فزينوا ظواهرهم بالقول، واستبطنوا الكفر والشك. وفرقة: نطقوا بها ولم يعملوا بمعناها، وعملوا بنواقضها، فهؤلاء {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} [سورة الكهف آية: 104] . فالفرقة الأولى هي الناجية، وهم المؤمنون حقا; والثانية هم المنافقون; والثالثة هم المشركون; فلا إله إلا الله: حصن، ولكن نصبوا عليه منجنيق التكذيب، ورموه بحجارة التخريب، فدخل عليهم العدو، فسلبهم المعنى، وتركهم مع الصورة; وفي الحديث: " إن الله لا ينظر إلى صوركم وأبدانكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم "1 سلبوا معنى لا إله إلا الله، فبقي معهم لقلقة باللسان، وقعقعة بالحروف، وهو ذكر الحصن لا مع الحصن، فكما أن ذكر النار لا يحرق، وذكر الماء لا يغرق، وذكر الخبز لا يشبع، وذكر السيف لا يقطع، فكذلك ذكر الحصن لا يمنع. فإن القول قشر، والمعنى لب، والقول صدف، والمعنى در، ماذا يصنع بالقشر مع فقدان اللب؟! وماذا يصنع بالصدف مع فقدان الجوهر؟! لا إله إلا الله مع معناها، بمنزلة الروح من الجسد، لا ينتفع بالجسد دون الروح، فكذلك لا ينتفع بهذه الكلمة دون معناها. فعالم   1 مسلم: البر والصلة والآداب (2564) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 113 الفضل: أخذوا بهذه الكلمة بصورتها ومعناها، فزينوا بصورتها ظواهرهم بالقول، وبواطنهم بالمعنى، وبرز لهم شهادة القدم بالتصديق {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [سورة آل عمران آية: 18] . وعالم العدل: أخذوا هذه الكلمة بصورتها دون معناها، فزينوا ظواهرهم بالقول، وبواطنهم بالكفر، بالاعتقاد فيمن لا يضر ولا ينفع؛ فقلوبهم مسودة مظلمة، لم يجعل الله لهم فرقانا يفرقون به بين الحق والباطل، ويوم القيامة يبقون في ظلمة كفرهم {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ} [سورة البقرة آية: 17] . فمن قال: لا إله إلا الله، وهو عابد لهواه ودرهمه وديناره ودنياه، ماذا يكون جوابه يوم القيامة لمولاه؟ {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [سورة الجاثية آية: 23] ، " تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة، تعس عبد الخميلة، إن أعطي رضي، وإن لم يعط سخط، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش "1. إذا قلت: لا إله إلا الله، فإن كان مسكنها منك اللسان لا ثمرة لها في الثمرة، فأنت منافق، وإن كان مسكنها منك القلب، فأنت مؤمن؛ وإياك أن تكون مؤمنا بلسانك دون قلبك. فتنادي عليك هذه الكلمة في عرصات القيامة: إلهي صحبته كذا وكذا سنة، فما اعترف بحقي، ولا رعى لي   1 البخاري: الجهاد والسير (2887) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 114 حرمتي حق رعايتي؛ فإن هذه الكلمة تشهد لك، أو عليك. فعالم الفضل تشهد لهم بالاحترام، حتى تدخلهم الجنة; وعالم العدل تشهد لهم بالاحترام، حتى تدخلهم النار {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} [سورة الشورى آية: 7] . لا إله إلا الله: شجرة السعادة; إن غرستها في منبت التصديق، وسقيتها من ماء الإخلاص، ورعيتها بالعمل الصالح، رسخت عروقها، وثبت ساقها، واخضرت أوراقها، وأينعت ثمارها، وتضاعف أكلها {تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا} [سورة إبراهيم آية: 25] . وإن غرست هذه الشجرة في منبت التكذيب والشقاق، وأسقيتها بماء الرياء والنفاق، وتعاهدتها بالأعمال السيئة والأقوال القبيحة، وطفح عليها غدير العذر ولفحها هجير هجر، تناثرت ثمارها، وتساقطت أوراقها، وانقشع ساقها، وتقطعت عروقها، وهبت عليها عواصف القذر، ومزقتها كل ممزق {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} [سورة الفرقان آية: 23] . فإذا تحقق المسلم هذا، فلا بد معه من تمام بقية أركان الإسلام، كما في الحديث الصحيح: "بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 115 وحج البيت الحرام، من استطاع إليه سبيلا، ومن كفر فإن الله غني عن العالمين "1 وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. وسئل رحمه الله، عن: معنى: "لا إله إلا الله ". فأجاب: اعلم رحمك الله، أن هذه الكلمة، هي الفارقة بين الكفر والإسلام، وهي: كلمة التقوى، وهي: العروة الوثقى، وهي: التي جعلها إبراهيم عليه السلام: {كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [سورة الزخرف آية: 28] . وليس المراد قولها باللسان مع الجهل بمعناها، فإن المنافقين يقولونها وهم تحت الكفار في الدرك الأسفل من النار، مع كونهم يصلون ويصومون ويتصدقون; ولكن المراد معرفتها بالقلب، ومحبتها ومحبة أهلها، وبغض من خالفها ومعاداته، كما قال صلى الله عليه وسلم: " من قال لا إله إلا الله مخلصا "2، وفي رواية: " صادقا من قلبه "3، وفي لفظ: " من قال لا إله إلا الله، وكفر بما يعبد من دون الله "4، إلى غير ذلك من الأدلة الدالة على جهالة أكثر الناس بهذه الشهادة. واعلم: أن هذه الكلمة، نفي، وإثبات: نفي الألوهية عما سوى الله تبارك وتعالى من المخلوقات، حتى عن محمد صلى الله عليه وسلم وعن الملائكة، حتى جبرائيل، فضلا عن غيرهم من الأولياء والصالحين؛ إذا فهمت ذلك، فتأمل هذه الألوهية التي أثبتها الله لنفسه، ونفاها عن محمد،   1 البخاري: الإيمان (8) , ومسلم: الإيمان (16) , والترمذي: الإيمان (2609) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (5001) , وأحمد (2/92 ,2/120) . 2 أحمد (5/236) . 3 البخاري: العلم (128) . 4 مسلم: الإيمان (23) , وأحمد (3/472 ,6/394) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 116 وجبرائيل عليهما السلام، فضلا عن غيرهما من الأولياء والصالحين، أن يكون لهم مثقال حبة خردل. إذا عرفت هذا، فاعلم أن هذه الألوهية هي التي تسميها العامة، في زماننا: السر، والولاية; فالإله معناه: الولي الذي فيه السر; وهو الذي يسمونه: الفقير، والشيخ; وتسميه العامة: السيد، وأشباه هذا; وذلك أنهم يظنون، أن الله جعل لخواص الخلق عنده منزلة، يرضى أن الإنسان يلتجئ إليهم ويرجوهم، ويستغيث بهم، ويجعلهم واسطة بينه وبين الله; فالذي يزعم أهل الشرك في زماننا أنهم وسائطهم، هم الذين يسميهم الأولون: الإله، والواسطة هو الإله، فقول الرجل: لا إله إلا الله، إبطال للوسائط. إذا أردت أن تعرف هذا معرفة تامة، فذلك بأمرين: الأول: أن تعرف أن الكفار الذين قاتلهم النبي صلى الله عليه وسلم وقتلهم، وغنم أموالهم، واستحل دماءهم، وسبى نساءهم، كانوا مقرين لله بتوحيد الربوبية; وهو أنه لا يخلق إلا الله، ولا يرزق، ولا يحيي، ولا يميت، ولا يدبر الأمر إلا الله، كما قال تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} [سورة يونس آية: 31] . وهذه: مسألة عظيمة، مهمة، وهي: أن تعرف أن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 117 الكفار شاهدون بهذا كله، ومقرون به، ومع هذا لم يدخلهم في الإسلام، ولم يحرم دماءهم وأموالهم، وكانوا أيضا يتصدقون، ويحجون، ويعتمرون، ويتعبدون، ويتركون أشياء من المحرمات، خوفا من الله عز وجل. ولكن الأمر الثاني، هو الذي كفرهم، وأحل دماءهم وأموالهم، وهو: أنهم لا يشهدون الله بتوحيد الألوهية وهو: أنه لا يدعى إلا الله، ولا يرجى إلا الله وحده لا شريك له، ولا يستغاث بغيره، ولا يذبح لغيره، ولا ينذر لغيره، لا لملك مقرب، ولا نبي مرسل، فمن استغاث بغيره فقد كفر، ومن ذبح لغيره، فقد كفر، ومن نذر لغيره فقد كفر; وأشباه هذا. وتمام هذا: أن تعرف أن المشركين الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يدعون الملائكة، وعيسى، وعزيرا، وغيرهم من الأولياء، فكفرهم الله بهذا، مع إقرارهم بأن الله هو الخالق، الرازق، المدبر; فإذا عرفت معنى لا إله إلا الله وعرفت أن من نخا نبيا أو ملكا، أو ندبه، أو استغاث به، فقد خرج من الإسلام؛ وهذا هو الكفر، الذي قاتلهم عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن قال قائل من المشركين: نحن نعرف أن الله هو الخالق، الرازق، المدبر، لكن هؤلاء الصالحين مقربون، ونحن ندعوهم، وننذر لهم، وندخل عليهم، ونستغيث بهم، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 118 نريد بذلك الجاه، والشفاعة وإلا فنحن نفهم أن الله هو المدبر; فقل: كلامك هذا دين أبي جهل وأمثاله; فهم يدعون عيسى، وعزيرا، والملائكة، والأولياء، يقولون: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [سورة الزمر آية: 3] ، وقال: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [سورة يونس آية: 18] . فإذا تأملت هذا تأملا جيدا، عرفت أن الكفار يشهدون لله بتوحيد الربوبية، وهو التفرد بالخلق، والرزق، والتدبير؛ فهم ينخون عيسى، والملائكة، والأولياء يقصدون أنهم يقربونهم إلى الله زلفى، ويشفعون لهم عنده; وعرفت أن الكفار، خصوصا النصارى منهم من يتعبد الليل والنهار، ويزهد في الدنيا، ويتصدق بما دخل عليه منها، معتزلا في صومعة عن الناس، ومع هذا كافر، عدو لله، مخلد في النار، بسبب اعتقاده في عيسى أو غيره من الأولياء، يدعوه، ويذبح له، وينذر له; وتبين لك أن كثيرا من الناس عنه بمعزل; وتبين لك: معنى قوله صلى الله عليه وسلم: " بدأ الإسلام غريبا، وسيعود غريبا كما بد أ"1. فالله، الله، إخواني! تمسكوا بأصل دينكم أوله وآخره، أسه ورأسه، وهو: شهادة أن لا إله إلا الله; واعرفوا معناها; وأحبوا أهلها، واجعلوهم إخوانكم، ولو كانوا بعيدين; واكفروا بالطواغيت، وعادوهم، وأبغضوا من أحبهم، أو جادل عنهم، أو لم يكفرهم، أو قال: ما علي   1 مسلم: الإيمان (145) , وابن ماجه: الفتن (3986) , وأحمد (2/389) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 119 منهم، أو قال: ما كلفني الله بهم، فقد كذب هذا على الله، وافترى; بل كلفه الله بهم، وفرض عليه الكفر بهم، والبراءة منهم، ولو كانوا: إخوانه، وأولاده; فالله، الله، تمسكوا بأصل دينكم، لعلكم تلقون ربكم، لا تشركون به شيئا. اللهم توفنا مسلمين، وألحقنا بالصالحين. ولنختم الكلام بآية ذكرها الله في كتابه، تبين لك أن كفر المشركين من أهل زماننا، أعظم من كفر الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال تعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ} الآية [سورة الإسراء آية: 67] ، فقد ذكر الله تعالى عن الكفار، أنهم إذا مسهم الضر تركوا السادات والمشائخ، فلا يدعونهم، ولا يستغيثون بهم، بل يخلصون لله وحده لا شريك له، ويستغيثون به ويوحدونه; فإذا جاء الرخاء أشركوا. وأنت ترى المشركين من أهل زماننا، ولعل بعضهم يدعي أنه من أهل العلم، وفيه زهد واجتهاد وعبادة، وإذا مسه الضر، يستغيث بغير الله، مثل: معروف، وعبد القادر الجيلاني، وأجل من هؤلاء، مثل: زيد بن الخطاب، والزبير وأجل من ذلك مثل: رسول الله صلى الله عليه وسلم. فالله المستعان! وأعظم من ذلك، وأعظم: أنهم يستغيثون بالطواغيت، والكفرة المردة، مثل: شمسان; وإدريس، ويوسف، وأمثالهم; والله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 120 وقال رحمه الله تعالى: اعلم رحمك الله أن فرض معرفة شهادة أن لا إله إلا الله قبل فرض الصلاة، والصوم؛ فيجب على العبد أن يبحث عن معنى ذلك، أعظم من وجوب بحثه عن الصلاة، والصوم. وتحريم الشرك، والإيمان بالطاغوت أعظم من تحريم نكاح الأمهات، والعمات; فأعظم مراتب الإيمان بالله: شهادة أن لا إله إلا الله. ومعنى ذلك: أن يشهد العبد أن الإلهية كلها لله، ليس منها شيء لنبي، ولا لملك، ولا لولي، بل هي حق الله على عباده. والألوهية هي التي تسمى في زماننا: السر؟ والإله في كلام العرب هو الذي يسمى في زماننا: الشيخ، والسيد، الذي يدعى به، ويستغاث به; فإذا عرف الإنسان أن هذا الذي يعتقده كثيرون في شمسان وأمثاله، أو قبر بعض الصحابة، هو العبادة التي لا تصلح إلا لله، وأن من اعتقد في نبي من الأنبياء فقد كفر، وجعله مع الله إلها آخر، فهذا لم يكن قد شهد أن لا إله إلا الله. ومعنى الكفر بالطاغوت: أن تبرأ من كل ما يعتقد فيه غير الله، من جنى، أو أنسى، أو شجر، أو حجر، أو غير الجزء: 2 ¦ الصفحة: 121 ذلك; وتشهد عليه بالكفر، والضلال، وتبغضه، ولو كان أنه أبوك أو أخوك; فأما من قال أنا لا أعبد إلا الله، وأنا لا أتعرض السادة، والقباب على القبور، وأمثال ذلك، فهذا كاذب في قول لا إله إلا الله، ولم يؤمن بالله، ولم يكفر بالطاغوت. وهذا كلام يسير، يحتاج إلى بحث طويل، واجتهاد في معرفة دين الإسلام، ومعرفة ما أرسل الله به رسوله صلى الله عليه وسلم، والبحث عما قال العلماء، في قوله: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [سورة البقرة آية: 256] ، ويجتهد في تعلم ما علمه الله رسوله، وما علمه الرسول أمته من التوحيد; ومن أعرض عن هذا فطبع الله على قلبه، وآثر الدنيا على الدين، لم يعذره الله بالجهالة، والله أعلم. [لا إله إلا الله تنفي أربعة أنواع وتثبت أربعة] وله أيضا: قدس الله روحه، ونور ضريحه، ما نصه: اعلم رحمك الله: أن معنى لا إله إلا الله، نفي وإثبات: لا إله نفي، إلا الله إثبات; تنفي أربعة أنواع; وتثبت أربعة أنواع; المنفي الآلهة، والطواغيت، والأنداد، والأرباب. فالإله ما قصدته بشيء من جلب خير أو دفع ضر، فأنت متخذه إلها، والطواغيت: من عبد، وهو راض، أو ترشح للعبادة، مثل: شمسان; أو تاج، أو أبو حديدة. والأنداد: ما جذبك عن دين الإسلام، من أهل، أو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 122 مسكن، أو عشيرة، أو مال، فهو: ند، لقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} [سورة البقرة آية: 165] . والأرباب: من أفتاك بمخالفة الحق، وأطعته مصدقا، لقوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [سورة التوبة آية: 31] . وتثبت أربعة أنواع: القصد: كونك ما تقصد إلا الله; والتعظيم، والمحبة، لقوله عز وجل {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} [سورة البقرة آية: 165] ، والخوف، والرجاء، لقوله تعالى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [سورة يونس آية: 107] . فمن عرف هذا، قطع العلائق من غير الله، ولا يكبر عليه جهامة الباطل، كما أخبر الله عن إبراهيم، على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام، بتكسيره الأصنام، وتبريه من قومه; لقوله تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [سورة الممتحنة آية: 4] . وقال أيضا: قدس الله روحه، ونور ضريحه: اعلم أرشدك الله؛ أن الله خلقك لعبادته، وأوجب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 123 عليك طاعته; ومن أفرض عبادته عليك: معرفة لا إله إلا الله، علما، وقولا، وعملا؛ والجامع لذلك، قوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} [سورة آل عمران آية: 103] ، وقوله: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [سورة الشورى آية: 13] . فاعلم: أن وصية الله لعباده، هي: كلمة التوحيد، الفارقة بين الكفر، والإسلام; فعند ذلك: افترق الناس، سواء جهلا، أو بغيا، أو عنادا; والجامع لذلك: اجتماع الأمة على وفق قول الله: {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [سورة الشورى آية: 13] ، وقوله: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} الآية [سورة يوسف آية: 108] . فالواجب على كل أحد، إذا عرف التوحيد وأقر به، أن يحبه بقلبه، وينصره بيده ولسانه; وينصر من نصره ووالاه; وإذا عرف الشرك وأقربه أن يبغضه بقلبه، ويخذله بلسانه، ويخذل من نصره ووالاه، باليد واللسان والقلب; هذه حقيقة الأمرين; فعند ذلك يدخل في سلك من قال الله فيهم: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} [سورة آل عمران آية: 103] . فنقول: لا خلاف بين الأمة، أن التوحيد: لا بد أن يكون بالقلب، الذي هو العلم واللسان الذي هو القول; والعمل الذي هو تنفيذ الأوامر والنواهي; فإن أخل بشيء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 124 من هذا، لم يكن الرجل مسلما; فإن أقر بالتوحيد ولم يعمل به، فهو كافر، معاند، كفرعون وإبليس; وإن عمل بالتوحيد ظاهرا، وهو لا يعتقده باطنا، فهو: منافق خالصا، أشر من الكافر; والله أعلم. قال رحمه الله: وهو نوعان: توحيد الربوبية; وتوحيد الألوهية. أما توحيد الربوبية، فأقر به الكافر والمسلم; وأما توحيد الألوهية، فهو الفارق بين الكفر والإسلام، فينبغي لكل مسلم أن يميز بين هذا، وهذا. ويعرف أن الكفار لا ينكرون أن الله هو الخالق، الرازق، المدبر; قال الله تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} الآية [سورة يونس آية: 31] ، وقال: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [سورة العنكبوت آية: 61] . فإذا تبين لك أن الكفار يقرون بذلك، عرفت أن قولك: لا يخلق ولا يرزق إلا الله ولا يدبر الأمر إلا الله; لا يصيرك مسلما حتى تقول: لا إله إلا الله، مع العمل بمعناها؛ فهذه الأسماء، كل واحد منها، له معنى يخصه. أما قولك: الخالق، فمعناه: الذي أوجد جميع مخلوقاته، بعد عدمها; وأما قولك: الرازق، فمعناه: أنه لما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 125 أوجد الخلق، أجرى عليهم أرزاقهم؛ وأما المدبر، فهو: الذي تنزل الملائكة من السماء إلى الأرض بتدبيره، وتصعد إلى السماء بتدبيره، ويسير السحاب، بتدبيره، وتصرف الرياح، بتدبيره؛ وكذلك جميع خلقه، هو: الذي يدبرهم، على ما يريد. فهذه الأسماء، التي يقر بها الكفار، متعلقة بتوحيد الربوبية، التي يقر بها الكفار. وأما توحيد الألوهية، فهو قولك: لا إله إلا الله، وتعرف معناها كما عرفت معنى الأسماء المتعلقة بالربوبية، فقولك: لا إله إلا الله، نفي وإثبات; فتنفي الألوهية كلها، وتثبتها لله وحده; فمعنى الإله في زماننا: الشيخ، والسيد، الذي يقال فيهما أو غيرهما: سر ممن يعتقد فيهم أنهم يجلبون منفعة أو يدفعون مضرة; فمن اعتقد في هؤلاء، أو غيرهم، نبيا كان أو غيره، فقد اتخذه إلها من دون الله. فإن بني إسرائيل لما اعتقدوا في عيسى ابن مريم وأمه سماهما الله إلهين; قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} [سورة المائدة آية: 116] . ففي هذا دليل على أن من اعتقد في مخلوق لجلب منفعة، أو دفع مضرة، فقد اتخذه إلها; فإذا كان الاعتقاد في الأنبياء هذا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 126 حاله، فما دونهم أولى. وأيضا فإن من تبرك بحجر، أو شجر، أو مسح على قبر أو قبة يتبرك بهم، فقد اتخذهم آلهة; والدليل على ذلك أن الصحابة لما قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم اجعل لنا ذات أنواط، كما لهم ذات أنواط، يريدون بذلك التبرك، قال: "الله أكبر: إنها السنن، قلتم والذي نفسي بيده، كما قالت بنو إسرائيل لموسى: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ إِنَّ هَؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} [سورة الأعراف آية: 136"137] ". فمثل قول الصحابة في ذات أنواط، بقول بني إسرائيل، وسماه إلها، ففي هذا دليل على أن من فعل شيئا مما ذكرنا، فقد اتخذه إلها. والإله هو: المعبود الذي لا تصلح العبادة إلا له، وهو الله وحده، فمن نذر لغير الله، أو ذبح له، فقد عبده، وكذلك: من دعا غير الله ... قال الله: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ} [سورة يونس آية: 106] ، وفي الحديث: "الدعاء مخ العبادة" 1، وكذلك: من جعل بينه وبين الله واسطة، وزعم أنها تقربه إلى الله، فقد عبده. وقد ذكر الله ذلك عن الكفار، فقال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا   1 الترمذي: الدعوات (3371) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 127 عِنْدَ اللَّهِ} [سورة يونس آية: 18] . وقال تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [سورة الزمر آية: 3] ، وكذلك ذكر عن الذين: جعلوا الملائكة وسائط، فقال: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} [سورة سبأ آية: 41] . فذكر سبحانه: أن الملائكة نزهوه عن ذلك، وأنهم تبرؤوا من هؤلاء، وأن عبادتهم كانت للشياطين، الذين يأمرونهم بذلك، وذكر سبحانه عن الذين جعلوا الصالحين وسائط، فقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} [سورة الإسراء آية: 57"56] ، وذكر سبحانه: أنهم لا يملكون كشف الضر عن أحد، ولا عن أنفسهم، وأنهم لا يحولونه عن أحد; وأنهم يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب، ويرجون رحمته، ويخافون عذابه; فهذا يبين لك معنى لا إله إلا الله. فإذا عرفت حال المعتقدين في عيسى بن مريم، والمعتقدين في الملائكة، والمعتقدين في الصالحين، وحالهم معهم، أنهم: لا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا، فضلا عن غيرهم، عرفت أن من اعتقد فيمن دونهم أضل سبيلا; فحينئذ يتبين لك معنى لا إله إلا الله، والله أعلم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 128 مذاكرة الشيخ: أهل حرمة. قال لهم: لا إله إلا الله، سألنا عنها كل من جاءنا منكم من مطوع، ولا وجدنا عندهم، إلا أنها لفظة ما لها معنى! ومعناها لفظها! ومن قالها فهو مسلم! ووقتا يقولون لها معنى، لكن معناها لا شريك له في ملكه! ونحن نقول: لا إله إلا الله، ليست باللسان فقط، لا بد للمسلم إذا لفظ بها، أنه يعرف معناها بقلبه; وهي التي جاءت لها الرسل، وإلا فالملك ما جاءت الرسل له. وأنا أبين لكم إن شاء الله مسألة التوحيد، ومسألة الشرك، تعرفون: المشهد فيه قبة، والذي من الرجال صلى الظهر، قام واستقبل القبر، وولى الكعبة قفاه، وركع لعلي ركعتين، صلاته لله توحيد، وصلاته لعلي شرك، أأنتم فهمتم؟ قالوا: فهمنا، صار هذا مشركا، صلى لله، وصلى لغيره. ولله سبحانه حق على عبده، في البدن، والمال، والصلاة: زكاة البدن، والزكاة في المال حق لله; فإذا زكيت لله، وخرجت بشيء تقسمه عند القبة، فزكاتك لله توحيد، وزكاتك للمخلوق شرك; كذلك سفك الدم: إن ذبحت لله توحيد، وإن ذبحت لغيره صار شركا، كما قال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ} [سورة الأنعام آية: 162] ، والنسك: سفك الدم; كذلك التوكل، من أنواع العبادة، إن توكلت على الله صار توحيدا; وإن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 129 توكلت على صاحب القبة، صار شركا، قال تعالى: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [سورة هود آية: 123] . وأكبر من ذلك كله: الدعاء; تفهمون أن الدعاء مخ العبادة; قالوا: نعم; قال الله تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} [سورة الجن آية: 18] ، أنتم تفهمون أن هنا من يدعو الله، ويدعو الزبير، ويدعو الله، ويدعو عبد القادر، الذي يدعو الله وحده مخلص; وإن دعا غيره صار مشركا، فهمتم هذا؟ قالوا: فهمنا، قال الشيخ: هذا إن فهمتموه، فهذا الذي بيننا وبين الناس. فإن قالوا: هؤلاء يعبدون أصناما، ويدعونهم، يريدون منهم; ونحن عبيد مذنبون، وهم صالحون، ونبغي بجاههم، فقل لهم: عيسى نبي الله عليه السلام، وأمه صالحة، والعزير صالح، والملائكة كذلك; والذين يدعونهم أخبر الله عنهم، وأنهم ما أرادوا منهم ما أرادوا إلا بجاههم قربة وشفاعة. واقرأ عليه الآيات في الملائكة، في قوله تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ} الآية وفي الأنبياء، قوله: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} الآية [سورة النساء آية: 171] ، وفي الصالحين: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ} الآية [سورة الإسراء آية: 56] ، ولا فرق بينهم صلى الله عليه وسلم. وسئل عن قوله صلى الله عليه وسلم: " من قال لا إله إلا الله صادقا "1.   1 أحمد (4/402) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 130 والحديث الآخر: "مخلصا دخل الجنة" ما معنى الصدق؟ والإخلاص؟ والفرق بينهما؟ وأيضا حديث: البطاقة، كونها رجحت بتلك السجلات، لما تضمنت من الإخلاص، والصدق; ما معنى: الصدق في ذلك؟ فأجاب رحمه الله: المسألة كبيرة; ولما ذكر الإمام أحمد الصدق والإخلاص، قال: بهما ارتفع القوم، ولكن يقربهما إلى الفهم: التفكر في بعض أفراد العبادة، مثل الصلاة، فالإخلاص فيها، يرجع إلى إفرادها عما يخالطها كثيرا، من الرياء، والطبع، والعادة، وغيرها؛ والصدق يرجع إلى إيقاعها على الوجه المشروع ولو أبغضه الناس لذلك. وحديث البطاقة: أنه رزق عند الخاتمة قولها، على ذلك الوجه، والأعمال بالخواتيم; مع أن علي بقية إشكال، والله أعلم. وقال أيضا: الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى: بسم الله الرحمن الر حيم هذه: أمور خالف فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ما عليه أهل الجاهلية الكتابيين، والأميين، مما لا غنى للمسلم عن معرفتها. فالضد يظهر حسنه الضد ... وبضدها تتبين الأشياء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 131 فأهم ما فيها، وأشدها خطرا: عدم إيمان القلب بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، فإن انضاف إلى ذلك استحسان ما عليه أهل الجاهلية، تمت الخسارة، كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [سورة العنكبوت آية: 52] . المسألة الأولى: أنهم يتعبدون بإشراك الصالحين في دعاء الله وعبادته، يريدون شفاعتهم عند الله، كما قال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [سورة يونس آية: 18] ، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [سورة الزمر آية: 3] ، وهذه أعظم مسألة خالفهم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتى بالإخلاص، وأخبر أنه دين الله، الذي أرسل به جميع الرسل، وأنه لا يقبل من الأعمال إلا الخالص; وأخبر أن من فعل ما يستحسنونه، فقد حرم الله عليه الجنة، ومأواه النار; وهذه المسألة هي التي تفرق الناس لأجلها، بين مسلم وكافر; وعندها وقعت العداوة، ولأجلها شرع الجهاد، كما قال تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [سورة الأنفال آية: 39] . المسألة الثانية: أنهم متفرقون في دينهم، كما قال تعالى: {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [سورة المؤمنون آية: 53] ، وكذلك في دنياهم، ويرون ذلك هو الصواب، فأتى بالاجتماع في الدين بقوله: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً الجزء: 2 ¦ الصفحة: 132 وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [سورة الشورى آية: 13] ، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [سورة الأنعام آية: 159] ، ونهانا عن مشابهتهم بقوله: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} [سورة آل عمران آية: 105] ، ونهانا عن التفرق في الدين بقوله: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} [سورة آل عمران آية: 103] . المسألة الثالثة: أن مخالفة ولي الأمر عندهم، وعدم الانقياد له، فضيلة، والسمع والطاعة ذل ومهانة; فخالفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر بالصبر على جور الولاة، وأمر بالسمع والطاعة لهم، والنصيحة، وغلظ في ذلك، وأبدى فيه وأعاد. وهذه الثلاث التي جمع بينها فيما ذكر عنه، في الصحيحين أنه قال: " إن الله يرضى لكم ثلاثا، أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم "1 ولم يقع خلل في دين الناس، ودنياهم، إلا بسبب الإخلال بهذه الثلاث، أو بعضها. الرابعة: أن دينهم مبني على أصول، أعظمها التقليد، فهو القاعدة الكبرى لجميع الكفار، أولهم وآخرهم، كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى   1 أحمد (2/367) , ومالك: الجامع (1863) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 133 آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [سورة الزخرف آية: 23] ، وقال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} [سورة لقمان آية: 21] ، فأتاهم بقوله: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ} الآية [سورة سبأ آية: 46] ، وقوله: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} [سورة الأعراف آية: 3] . الخامسة: أن من أكبر قواعدهم: الاغترار بالأكثر، ويحتجون به على صحة الشيء، ويستدلون على بطلان الشيء بغربته وقلة أهله، فأتاهم بضد ذلك، وأوضحه في غير موضع من القرآن. السادسة: الاحتجاج بالمتقدمين، كقوله: {قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى} [سورة طه آية: 51] ، {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا} [سورة المؤمنون آية: 24] . السابعة: الاستدلال بقوم أعطوا قوى في الأفهام والأعمال، وفي الملك والمال والجاه; فرد الله ذلك بقوله: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ} الآية [سورة الأحقاف آية: 26] ، وقوله: {وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ} [سورة البقرة آية: 89] ، وقوله: {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} الآية [سورة البقرة آية: 146] . الثامنة: الاستدلال على بطلان الشيء، بأنه لم يتبعه إلا الضعفاء كقوله: {أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ} [سورة الشعراء آية: 111] ، وقوله: {أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا} [سورة الأنعام آية: 53] ، فرده الله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 134 بقوله: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} [سورة الأنعام آية: 53] . التاسعة: الاقتداء بفسقة العلماء فأتى بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [سورة التوبة آية: 34] ، وبقوله: {لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [سورة المائدة آية: 77] . العاشرة: الاستدلال على بطلان الدين بقلة أفهام أهله، وعدم حفظهم كقوله: {بَادِيَ الرَّأْيِ} [سورة هود آية: 27] . الحادية عشر: الاستدلال بالقياس الفاسد، كقوله: {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا} [سورة إبراهيم آية: 10] . الثانية عشر: إنكار القياس الصحيح. والجامع لهذا وما قبله: عدم فهم الجامع والفارق. الثالثة عشر: الغلو في العلماء، والصالحين كقوله: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} [سورة النساء آية: 171] . الرابعة عشر: أن كل ما تقدم مبني علي قاعدة وهي: النفي والإثبات، فيتبعون الهوى والظن، ويعرضون عما آتاهم الله. الخامسة عشر: اعتذارهم عن اتباع ما آتاهم الله بعدم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 135 الفهم، كقوله: {قُلُوبُنَا غُلْفٌ} ، {يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ} [سورة هود آية: 91] ، فأكذبهم الله، وبين أن ذلك بسبب الطبع على قلوبهم; والطبع بسبب كفرهم. السادسة عشر: اعتياضهم عما أتاهم من الله، بكتب السحر، كما ذكر الله ذلك، في قوله: {نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ} [سورة البقرة آية: 101"102] . السابعة عشر: نسبة باطلهم إلى الأنبياء، كقوله: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ} [سورة البقرة آية: 102] ، وقوله: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلا نَصْرَانِيّاً} [سورة آل عمران آية: 67] . الثامنة عشر: تناقضهم في الانتساب، ينتسبون إلى إبراهيم مع إظهارهم ترك اتباعه. التاسعة عشر: قدحهم في بعض الصالحين، بفعل بعض المنتسبين، كقدح اليهود في عيسى، وقدح اليهود والنصارى في محمد صلى الله عليه وسلم. العشرون: اعتقادهم في مخاريق السحرة وأمثالهم أنها من كرامات الصالحين، ونسبته إلى الأنبياء، كما نسبوه لسليمان. الحادية والعشرون: تعبدهم بالمكاء والتصدية. الثانية والعشرون: أنهم اتخذوا دينهم لهوا ولعبا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 136 الثالثة والعشرون: أن الحياة الدنيا غرتهم، فظنوا أن عطاء الله منها يدل على رضاه، كقوله: {نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} [سورة سبأ آية: 35] . الرابعة والعشرون: ترك الدخول في الحق إذا سبقهم إليه الضعفاء، تكبرا، وأنفة، فأنزل الله: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} الآيات [سورة الأنعام آية: 52] . الخامسة والعشرون: الاستدلال على بطلانه بسبق الضعفاء، كقوله: {لَوْ كَانَ خَيْراً مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ} [سورة الأحقاف آية: 11] . السادسة والعشرون: تحريف كتاب الله من بعد ما عقلوه وهم يعلمون. السابعة والعشرون: تصنيف الكتب الباطلة ونسبتها إلى الله، كقوله: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} الآية [سورة البقرة آية: 79] . الثامنة والعشرون: أنهم لا يعقلون من الحق إلا الذي مع طائفتهم، كقوله: {نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا} [سورة البقرة آية: 91] . التاسعة والعشرون: أنهم مع ذلك لا يعلمون بما تقوله الطائفة، كما نبه الله عليه بقوله: {فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [سورة البقرة آية: 91] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 137 الثلاثون:" وهي من عجائب آيات الله" أنهم لما تركوا وصية الله بالاجتماع، وارتكبوا ما نهى الله عنه من الافتراق، صار كل حزب بما لديهم فرحون. الحادية والثلاثون:" وهي من عجائب الله أيضا" معاداتهم الدين، الذي انتسبوا إليه، غاية العداوة، ومحبتهم دين الكفار الذين عادوهم وعادوا نبيهم، غاية المحبة، كما فعلوا مع النبي صلى الله عليه وسلم لما أتاهم بدين موسى، واتبعوا كتب السحر، وهي من دين آل فرعون. الثانية والثلاثون: كفرهم بالحق إذا كان مع من لا يهوونه، كما قال تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ} الآية [سورة البقرة آية: 113] . الثالثة والثلاثون: إنكارهم ما أقروا أنه من دينهم، كما فعلوا في حج البيت، فقال تعالى: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} [سورة البقرة آية: 130] . الرابعة والثلاثون: أن كل فرقة تدعي أنها الناجية، فأكذبهم الله بقوله: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [سورة البقرة آية: 111] ، ثم بين الصواب بقوله: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ} الآية [سورة البقرة آية: 112] . الخامسة والثلاثون: التعبد بكشف العورات، كقوله: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً} الآية [سورة الأعراف آية: 28] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 138 السادسة والثلاثون: التعبد بتحريم الحلال، كما تعبدوا بالشرك. السابعة والثلاثون: التعبد باتخاذ الأحبار والرهبان أربابا من دون الله. الثامنة والثلاثون: الإلحاد في الصفات كقوله تعالى: {وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ} [سورة فصلت آية: 22] . التاسعة والثلاثون: الإلحاد في الأسماء، كقوله: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ} [سورة الرعد آية: 30] . الأربعون: التعطيل، كقول آل فرعون. الحادية والأربعون: نسبة النقائص إليه. الثانية والأربعون: الشرك في الملك: كقول المجوس. الثالثة والأربعون: جحود القدر. الرابعة والأربعون: الاحتجاج على الله. الخامسة والأربعون: معارضة شرع الله بقدره. السادسة والأربعون: مسبة الدهر كقولهم: {وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [سورة الجاثية آية: 24] . السابعة والأربعون: إضافة نعم الله إلى غيره كقوله: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 139 {يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا} [سورة النحل آية: 83] . الثامنة والأربعون: الكفر بآيات الله. التاسعة والأربعون: جحد بعضها. الخمسون: قولهم ما أنزل الله على بشر من شيء. الحادية والخمسون: قولهم في القرآن: {إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَر} [سورة المدثر آية: 25] . الثانية والخمسون: القدح في حكمة الله تعالى. الثالثة والخمسون: أعمال الحيل الظاهرة والباطنة، في دفع ما جاءت به الرسل، كقوله: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ} [سورة آل عمران آية: 54] ، وقوله تعالى: {وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ} [سورة آل عمران آية: 72] . الرابعة والخمسون: الإقرار بالحق ليتوصلوا به إلى دفعه، كما قال في الآية. الخامسة والخمسون: التعصب للمذهب، كقوله فيها: {وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ} [سورة آل عمران آية: 73] . السادسة والخمسون: تسمية اتباع الإسلام شركا، كما ذكره في قوله تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ} الآيتين [سورة آل عمران آية: 79] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 140 السابعة والخمسون: تحريف الكلم عن مواضعه. الثامنة والخمسون: لي الألسنة بالكتاب. التاسعة والخمسون: تلقيب أهل الهدى، بالصباة، والحشوية. الستون: افتراء الكذب على الله. الحاديه والستون: التكذيب بالحق. الثانية والستون: كونهم إذا غلبوا بالحجة فزعوا إلى الشكوى للملوك، كما قال: {أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ} [سورة الأعراف آية: 127] . الثالثة والستون: رميهم إياهم بالفساد في الأرض، كما في الآية. الرابعة والستون: رميهم إياهم بانتقاص دين الملك، كما قال تعالى: {وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ} [سورة الأعراف آية: 127] ، وكما قال تعالى: {ِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ} الآية [سورة غافر آية: 26] . الخامسة والستون: رميهم إياهم بانتقاص آلهة الملك، كما في الآية. السادسة والستون: رميهم إياهم بتبديل الدين، كما قال: {إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ} [سورة غافر آية: 26] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 141 السابعة والستون: رميهم إياهم بانتقاص الملك، كقولهم: {وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ} [سورة الأعراف آية: 127] . الثامنة والستون: دعواهم العمل بما عندهم من الحق، كقوله: {نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا} [سورة البقرة آية: 91] ، مع تركهم إياه. التاسعة والستون: الزيادة في العبادة، كفعلهم يوم عاشوراء. السبعون: نقصهم منها، كتركهم الوقوف بعرفات. الحادية والسبعون: تركهم الواجب ورعا. الثانية والسبعون: تعبدهم بترك الطيبات من الرزق. الثالثة والسبعون: تعبدهم بترك زينة الله. الرابعة والسبعون: دعاؤهم الناس إلى الضلال بغير علم. الخامسة والسبعون: دعواهم محبة الله، مع تركهم شرعه، فطالبهم الله بقوله: {إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ} الآية [سورة آل عمران آية: 31] . السادسة والسبعون: دعاؤهم إياهم إلى الكفر، مع العلم. السابعة والسبعون: المكر الكبار، كفعل قوم نوح. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 142 الثامنة والسبعون: أن أئمتهم إما عالم فاجر، وإما عابد جاهل، كما في قوله: {وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ} [سورة البقرة آية: 75] إلى قوله: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ} . التاسعة والسبعون: تمنيهم الأماني الكاذبة، كقولهم: {لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً} [سورة البقرة آية: 80] ، وقولهم: {لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى} [سورة البقرة آية: 111] . الثمانون: دعواهم أنهم أولياء الله من دون الناس. الحادية والثمانون: اتخاذ قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد. الثانية والثمانون: اتخاذ آثار أنبيائهم مساجد، كما ذكر عن عمر. الثالثة والثمانون: اتخاذ السرج على القبور. الرابعة والثمانون: اتخاذها أعيادا. الخامسة والثمانون: الذبح عند القبور. السادسة والثمانون: التبرك بآثار المعظمين، كدار الندوة، وافتخار من كانت تحت يده، كما قيل لحكيم بن حزام: بعت مكرمة قريش؟ فقال: ذهبت المكارم إلا التقوى. السابعة والثمانون: الاستسقاء بالأنواء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 143 الثامنة والثمانون: الفخر بالأحساب. التاسعة والثمانون: الطعن في الأنساب. التسعون: النياحة. الحادية والتسعون: أن أجل فضائلهم الفخر بالأنساب، فذكر الله فيه ما ذكر. الثانية والتسعون: أن أجل فضائلهم الفخر أيضا، ولو بحق، فنهي عنه. الثالثة والتسعون: أن الذي لا بد منه عندهم، تعصب لإنسان لطائفته، ونصر من هو منها ظالما أو مظلوما، فأنزل الله في ذلك ما أنزل. الرابعة والتسعون: أن دينهم أخذ الرجل بجريمة غيره، فأنزل الله: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [سورة الأنعام آية: 164] . الخامسة والتسعون: تعيير الرجل بما في غيره، فقال: " أعيرته بأمه؟ إنك امرؤ فيك جاهلية "1. السادسة والتسعون: الافتخار بولاية البيت، فذمهم الله بقوله: {مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِراً تَهْجُرُونَ} [سورة المؤمنون آية: 67] . السابعة والتسعون: الافتخار بكونهم ذرية أنبياء، فأتى لله بقوله: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ} الآية [سورة البقرة آية: 134] . الثامنة والتسعون: الافتخار بالصنائع، كفعل أهل   1 البخاري: الإيمان (30) , ومسلم: الأيمان (1661) , وأبو داود: الأدب (5157) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 144 الرحلتين على أهل الحرث. التاسعة والتسعون: عظمة الدنيا في قلوبهم، كقولهم: {لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [سورة الزخرف آية: 31] . المائة: التحكم على الله، كما في الآية. الحادية بعد المائة: ازدراء الفقراء، فأتاهم بقوله: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} [سورة الأنعام آية: 52] . الثانية بعد المائة: رميهم أتباع الرسل بعدم الإخلاص وطلب الدنيا، فأجابهم بقوله: {مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} الآية [سورة الأنعام آية: 52] ، وأمثالها. الثالثة بعد المائة: الكفر بالملائكة. الرابعة بعد المائة: الكفر بالرسل. الخامسة بعد المائة: الكفر بالكتب. السادسة بعد المائة: الإعراض عن ما جاء عن الله. السابعة بعد المائة: الكفر باليوم الآخر. الثامنة بعد المائة: التكذيب بلقاء الله. التاسعة بعد المائة: التكذيب ببعض ما أخبرت به الرسل عن اليوم الآخر، كما في قوله: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ} [سورة الأعراف آية: 147] ، ومنها: التكذيب بقوله: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [سورة الفاتحة آية: 4] . وقوله: {لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ} [سورة البقرة آية: 254] ، وقوله: {إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [سورة الزخرف آية: 86] . العاشرة بعد المائة: الإيمان بالجبت والطاغوت; الجزء: 2 ¦ الصفحة: 145 الحادية عشر بعد المائة: تفضيل دين المشركين، على دين المسلمين. الثانية عشر بعد المائة: لبس الحق بالباطل. الثالثة عشر بعد المائة: كتمان الحق مع العلم به. الرابعة عشر بعد المائة: قاعدة الضلال وهي: القول على الله بلا علم. الخامسة عشر بعد المائة: التناقض الواضح لما كذبوا الحق، كما قال تعالى: {بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ} [سورة ق آية: 5] . السادسة عشر بعد المائة: الإيمان ببعض المنزل دون بعض. السابعة عشر بعد المائة: التفريق بين الرسل. الثامنة عشر بعد المائة: مخالفتهم فيما ليس لهم به علم. التاسعة عشر بعد المائة: دعواهم اتباع السلف، مع التصريح بمخالفتهم. العشرون بعد المائة: صدهم عن سبيل الله من آمن به. الحادية والعشرون بعد المائة: مودتهم الكفر والكافرين. الثانية والعشرون بعد المائة: والثالثة، والرابعة، والخامسة، والسادسة، والسابعة والعشرون بعد المائة: العيافة، والطرق، والطيرة، والكهانة، والتحاكم إلى الطاغوت، وكراهية التزويج بين العيدين; والله أعلم1.   1 صححت هذه الرسالة وعدلت أرقام مسائلها وفق ما ظهر من التحقيق لها في القسم الأول من مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله من صفحة 333 - إلى نهاية - 352. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 146 وقال أيضا: رحمه الله تعالى: ذكر بعض ما في قصة الجاهلية المذكورة في السيرة، من الفوائد: الأولى: ما في قصة ود، وسواع، ويغوث، ويعوق، ونسر من بيان الشرك بالله; وإزالة الشبهة التي أدلى بها المشركون، من قولهم: نريد الجاه والشفاعة، وقولهم: ليس دعوة الصالحين مثل الأصنام وقولهم: نحن نعلم أن الله هو النافع الضار وقولهم: هؤلاء ولو أشركوا، فهم من أمة محمد; وقول شياطينهم: هذا شرك أصغر. فكل هذا: يكشفه قصتهم. الثانية: مضرة البدع ولو صح قصد مبتدعها، وأنها سبب للخروج عن الإسلام. الثالثة: التحذير من الغلو. الرابعة: كون الحق في القلوب ينقص، والباطل يزيد. الخامسة: التحذير من الكذب على العلماء، وقد يكون الكاذب لم يتعمد. السادسة: معرفة أن الأصنام لم تعبد لذاتها; وإنما عبدت لأجل الصالحين. السابعة: أن الردة وعبادة الأصنام، قد يكون سببها فعل بعض الصالحين. الثامنة: التحذير من الفتنة بقبور الصالحين، لقوله: (عكفوا على قبورهم) . التاسعة: أن من أسباب الردة بعد الأمد عن النبوة. العاشرة: أن من أسبابها: نسيان العلم. الحادية عشر: ما في قصة عمرو بن لحي من التحذير من فتنة البلد الحرام. الثانية عشر: التحذير من فتنة أهل الشام. الثالثة عشر: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 147 التفطن لما أعطي عمرو من الأعمال. الرابعة عشر: ما أعطى من الكمال. الخامسة عشر: ما أعطى من الملك. السادسة عشر: ما أعطى من طاعة الناس له. السابعة عشر: التفطن للفرق بين: كرامات الأولياء، وتنزل الشياطين. الثامنة عشر: أن من علامات الباطل زيادته كل وقت، وعلامات الحق ثقله ونقصانه. التاسعة عشر: العبرة برؤية النبي صلى الله عليه وسلم له في النار. العشرون: اللطيفة: كون صور الصالحين يبعث عليها أول الرسل، ولم يكسرها إلا خاتم الرسل. الحادية والعشرون: معرفة أن الكفار لم يقصدوا بالشرك وعبادة الأصنام إلا الخير. الثانية والعشرون: كون بعض الأوثان عندهم أعظم من بعض. الثالثة والعشرون: تفرقهم واختلافهم، في تعظيم أوثانهم وفي عبادتها. الرابعة والعشرون: كونهم في أمر مريج وفي قول مختلف، يقولون: إن الأمر بيد الله لا يدبر إلا هو، ويقولون: {اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ} [سورة هود آية: 54] . الخامسة والعشرون: فعلهم العبادات1. [معنى قوله تعالى يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية] وسئل رحمه الله، عن قوله تعالى: {يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ} [سورة آل عمران آية: 154] ، وقوله: {الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ} [سورة الفتح آية: 6] ، وقوله: {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ} [سورة فصلت آية: 23] ، ما معنى سوء الظن بالله؟   1 آخر ما وجد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 148 وقوله: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ} [سورة النساء آية: 123] ، ما معناه؟ وما معنى: إدخال البخاري إياه في كتاب الطب؟ وكذلك: الحديث الذي أورده: " ما من مسلم يصيبه أذى "1 فإن فسرتم "الأذى" بجميع المكروهات، كما هو المشهور من معنى اللفظ الآخر: " ما يصيب المسلم، من نصب، ولا وصب، ولا هم، ولا حزن، ولا أذى "2 فعطف: "الأذى" على ما تقدم، والعطف يقتضي المغايرة، هل المراد: المسلم الذي لم يصدر منه شرك بالكلية; أم لا؟ وما معنى قولهم: من الشرك التصنع للمخلوق، وخوفه، ورجاؤه؟. وهل المراد به: الشرك الأكبر؟ أو الأصغر؟ وقوله: "أنا عند ظن عبدي بي، إن ظن بي خيرا فله، وإن ظن بي شرا فله "3 ما معناه؟ فأجاب: أما قوله تعالى: {يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ} [سورة آل عمران آية: 154] ، وقوله: {الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ} [سورة الفتح آية: 6] ، فقد بسط الكلام عليها في الهدى، على وقعة أحد، وقد فسره بأشياء كثيرة، نقولها ونعتقدها، ولا نظن إلا أنها عقل وصواب، فتأمل كلامه تأملا جيدا. وأما قوله: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ} [سورة النساء آية: 123] ، وإدخال البخاري لها في كتاب الطب، فمراد البخاري: أن هذه الأمراض، التي يكرهها العبد، هي مما يكفر الله بها عن المؤمن   1 البخاري: المرضى (5647) , ومسلم: البر والصلة والآداب (2571) , وأحمد (1/381 ,1/441 ,1/455) , والدارمي: الرقاق (2771) . 2 البخاري: المرضى (5642) , ومسلم: البر والصلة والآداب (2573) , والترمذي: الجنائز (966) , وأحمد (2/303 ,2/335 ,3/4 ,3/18 ,3/24 ,3/38 ,3/48 ,3/61 ,3/81) . 3 أحمد (2/391) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 149 سيئاته، ويطهره بها، لأن قوله: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ} [سورة النساء آية: 123] ، عام في جزاء الدنيا والآخرة; وأما: إدخاله هذا في كتاب الطب، فواضح، وأهل العلم: يذكرون في الباب، ما هو أبعد من هذا، تعلقا واستطرادا. وأما قوله: (ما من مسلم يصيبه أذى) فهو عام، وأما عطف: "الأذى" على الوصب، والنصب، والهم; فمن عطف العام على الخاص، وهو كثير جدا في كلام العرب، وفي كلامنا. وأما سؤالكم: هل هذا في المسلم الذي لم يصدر منه شرك بالكلية؟ فنقول: أما الشرك الذي يصدر من المؤمن وهو لا يدري، مع كونه مجتهدا في اتباع أمر الله ورسوله، فأرجو أن لا يخرجه هذا من الوعد. وقد صدر من الصحابة أشياء من هذا الباب، كحلفهم بآبائهم، وحلفهم بالكعبة، وقولهم: ما شاء الله وشاء محمد، وقولهم: اجعل لنا ذات أنواط; ولكن إذا بان لهم الحق اتبعوه، ولم يجادلوا فيه حمية الجاهلية لمذهب الآباء والعادات. وأما الذي يدعي الإسلام، وهو يفعل من الشرك الأمور العظام، فإذا تليت عليه آيات الله استكبر عنها، فليس هذا بالمسلم; وأما الإنسان الذي يفعلها بجهالة، ولم يتيسر له من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 150 ينصحه، ولم يطلب العلم الذي أنزله الله على رسوله، بل أخلد إلى الأرض، واتبع هواه، فلا أدري ما حاله. وأما قول من قال: من الشرك التصنع للمخلوق; فلعل مراده: التصنع بطاعة الله الذي يسمى: الرياء، وهو كثير جدا، فهذا صحيح في أمور لا يفطن لها صاحبها. وأما خوف المخلوق فالمراد به: الخوف الذي يحملك أن تترك ما فرض الله عليك، وتفعل ما حرم الله عليك، خوفا من ذلك المخلوق; وأما: الرجاء، فلعل المراد: الذي يخرج العبد عن التوكل على الله والثقة بوعده، وكل هذه الأمور كثيرة جدا. وأما قولك: هل المراد به الشرك الأصغر، أو الأكبر؟ فهذا يختلف باختلاف الأحوال، وقد يتصنع لمخلوق فيخافه، أو يرجوه، فيدخل في الشرك الأصغر، وقد يتزايد ذلك ويتوغل فيه، حتى يصل إلى الشرك الأكبر. وسئل رحمه الله: عن معنى عقد اللحية؟ والضرب في الأرض؟ هو الذي نعرف: أن بعضهم يخط خطوطا، ثم يعدها: إن ظهرت شفعا فكذا، وإن ظهرت وترا فكذا، أم غير ذلك؟ وتفسير: "الجبت" برنة الشيطان; ما رنة الشيطان؟. وحديث: "من ردته الطيرة فقد أشرك، وكفارة ذلك أن تقول: اللهم لا طير إلا طيرك" إلخ، أم كيف يزول ذلك الشرك بهذا اللفظ؟ مع أن الطيرة مخامرة باطنة، واللفظ وحده لا يفيد، أو فائدة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 151 قليلة؟ وما معنى: الفخر، والطعن؟ وما معنى مكر الله بالعبد؟ وما الفرق بين الروح، والرحمة؟ فأجاب رحمه الله: عقد اللحية: لا أعلمه، لكن ذكر في الآداب ما يقتضي أنه شيء يفعله بعض الناس في الحرب، على وجه التكبر. وأما الضرب، فهو مشهور جدا حتى إن بعض الناس يخط، فمن وافق خطه فذاك، والذي يبدو للذهن: أنه عام في كل أنواع الخط، وخط ذلك النبيِّ عُدِمَ، لا يوجد من يعرفه. ورنة الشيطان: لا أعرف مقصود الحسن، بل عادة السلف، يفسرون اللفظ العام ببعض أفراده، وقد يكون السامع يعتقد أن ذلك ليس من أفراده، وهذا كثير في كلامهم جدا، ينبغي التفطن له. وقوله في الطيرة: "وكفارة ذلك أن تقول" إلخ. فالطيرة تعم أنواعا، منها ما لا إثم فيه، كما قال عبد الله: (وما منا إلا، ولكن الله يذهبه بالتوكل) ; فإذا وقع في القلب شيء، وكرهه، ولم يعمل به، بل خالفه، وقال، لم يضره، فإن قال من الحسنات شيئا فهو أبلغ وأتم في الكفارة; فلو قدرنا أن تلك الطيرة من الشرك الخفي أو الظاهر، ثم تاب منه، وقال هذا الكلام على طريق التوبة، فكذلك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 152 وأما الفخر بالأحساب؛ فالأحساب: الذي يذكر عن مناقب الآباء السالفين، التي نسميها: المراجل; إذا تقرر هذا، ففخر الإنسان بعمله منهي عنه; فكيف افتخاره بعمل غيره؟! وأما الطعن في الأنساب، ففسر بالموجود في زماننا: ينتسب إنسان إلى قبيلة، ويقول بعض الناس: ليس منهم، من غير بينة، بل الظاهر أنه منهم. وأما مكر الله، فهو: أنه إذا عصاه وأغضبه، أنعم عليه بأشياء يظن أنها من رضاه عليه. وأما الفرق بين الروح والرحمة، فلا أعرفه، ولعله: فرق لطيف، لأن الروح فسر بالرحمة في مواضع. وسئل رحمه الله: عن الوعيد فيمن حفظ القرآن ثم نسيه، هل هو صحيح، أم غير ذلك؟. أيضا نبهني عبد الوهاب في خطه للموصلي: أنك ما رضيت قوله: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في مشيئته وإرادته، حتى إني أفكر فيها، ولا بان لي فيها شيء أيضا، سوى المذكور عند النووي: " اللهم إني أسلمت نفسي إليك "1 إلخ، بين لي معناه، جزاك الله خيرا. الجواب: الوعيد فيمن حفظ القرآن ثم نسيه ثابت عند أهل الحديث; فإن كنت قد حفظت القرآن، أو شيئا منه، ثم نسيته، فودي أن تعود إليه. وأما قوله في الخطبة:   1 البخاري: الدعوات (6311) , ومسلم: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2710) , والترمذي: الدعوات (3394 ,3574) , وأبو داود: الأدب (5046) , وابن ماجه: الدعاء (3876) , وأحمد (4/285 ,4/290 ,4/292 ,4/296 ,4/299 ,4/301) , والدارمي: الاستئذان (2683) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 153 أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك في مشيئته، وإرادته، فعجب! كيف يخفى عليك؟ هذا للألوهية، والمذكور في الخطبة توحيد الربوبية، الذي أقر به الكفار. وأما قوله: " اللهم إني أسلمت نفسي إليك "1 إلى آخره، فترجع إلى الإخلاص، والتوكل، ولو كان بينهما فروق لطيفة. والله أعلم. وسئل رحمه الله: عن الفقير الصابر، والغني الشاكر أيهما أفضل؟ وعن حد الصبر وحد الشكر؟. فأجاب: أما مسألة الغنى والفقر، فالصابر والشاكر كل منهما من أفضل المؤمنين; وأفضلهما: أتقاهما، كما قال تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [سورة الحجرات آية: 13] . وأما حد الصبر وحد الشكر، فلا عندي علم إلا المشهور بين العلماء، أن الصبر: عدم الجزع، والشكر: أن تطيع الله بنعمته التي أعطاك. [رسالة حسين وعبد الله ابني الشيخ إلى الحفظى في الحث على التوحيد] قال ابنا الشيخ محمد، رحمهم الله تعالى، ما نصه: بسم الله الرحمن الر حيم من حسين، وعبد الله، ابني الشيخ: محمد بن عبد الوهاب، إلى جناب: الأخ في الله: محمد بن أحمد الحفظي، سلمه الله تعالى من الآفات، واستعمله بالباقيات   1 البخاري: الدعوات (6311) , ومسلم: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2710) , والترمذي: الدعوات (3394 ,3574) , وأبو داود: الأدب (5046) , وابن ماجه: الدعاء (3876) , وأحمد (4/285 ,4/290 ,4/292 ,4/296 ,4/299 ,4/301) , والدارمي: الاستئذان (2683) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 154 الصالحات، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أما بعد: فإنا نحمد الله إليك، الذي لا إله إلا هو، وهو للحمد أهل، وهو على كل شيء قدير; والصلاة والسلام، على نبيه وحبيبه، محمد البشير النذير، وعلى آله وأصحابه أولي الفضل الشهير، والعلم المستطير، وقد وصل الله إلينا كتابك، وفهمنا ما حواه، من حسن خطابك; وتذكر أنك على هذا الدين، الذي نحن عليه، من إخلاص الدين لله، وترك عبادة ما سواه، وأنك لا ترضى بالإشراك والتخلف عن التوحيد، ولو قدر فواق. فالحمد لله الذي من علينا وعليك، وهذا هو أفرض الفرائض على جميع الخلق; ومن انتفع بهذا الدين، واستقام عليه، فله البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة وله العزة والرفعة والجاه، والملابس الفاخرة; وفي الحديث: عن الصادق المصدوق، صلوات الله وسلامه عليه، قال: " إن الله ليرفع بهذا الدين أقواما، ويضع به آخرين ". والذي نوصيك به، ونحضك عليه: التفقه في التوحيد، ومطالعة مؤلفات شيخنا رحمه الله، فإنها تبين لك حقيقة التوحيد الذي بعث الله به رسوله، وحقيقة الشرك الذي حرمه الله ورسوله، وأخبر أنه لا يغفره، وأن الجنة على فاعله حرام، وأن من فعله حبط عمله، والشأن كل الشأن، في معرفة حقيقة التوحيد، الذي بعث الله به رسوله، وبه يكون الرجل مسلما، مفارقا للشرك وأهله; وذلك لأن كثيرا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 155 من المصنفين، إذا ذكر التوحيد لم يبينه، وقد يفسره بتوحيد الربوبية، الذي أقر به المشركون; ومنهم من يفسره بتوحيد الذات، والصفات; وذلك وإن كان حقا، فليس هو المراد من توحيد العبادة، الذي هو معنى لا إله إلا الله. وكثير من المصنفين يفسر الشرك بالإشراك في توحيد الربوبية، الذي أقر به كفار العرب، وغيرهم من طوائف المشركين، كما قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [سورة العنكبوت آية: 61] ، وقال: {قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} [سورة المؤمنون آية: 88] ، إلى غير ذلك من الآيات التي تدل على أن المشركين يقرون بتوحيد الربوبية، وإنما الخلاف بينهم وبين الرسول صلى الله عليه وسلم هو في توحيد الإلهية، الذي هو توحيد العبادة; ولهذا لم يصيروا موحدين بمجرد الإقرار بتوحيد الربوبية; فإياك أن تغتر بما أحدثه المتأخرون وابتدعوه، كابن حجر: الهيتمي وأشباهه. واعتمد في هذا الأصل على كتاب الله الذي أنزله تبيانا لكل شيء، وهدى ورحمة وبشرى للمؤمنين، وعلى ما كان عليه السلف الصالح من أصحابه والتابعين لهم بإحسان، ولا تغتر بما حدث بعدهم من البدع المضلة في أصول الدين وفروعه، كما قال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 156 [سورة الأنعام آية: 153] . وبهذا تعرف أن حقيقة أصل الإسلام، شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وتحقيق شهادة أن لا إله إلا الله: أن لا نعبد إلا الله وحده لا شريك له. وتحقيق شهادة أن محمدا رسول الله، هو أن يطاع فيما أمر، وينتهى عما عنه نهى وزجر، ويكون هو الإمام المتبع، ومن سواه فيؤخذ من كلامه ويترك; فعلى أقواله وأفعاله: تعرض الأقوال والأفعال; فما وافق قوله، فهو: المقبول; وما خالفه فهو المردود; وكاتبه حمد بن ناصر بن معمر، وصلى الله على محمد. وسئل الشيخ: حمد بن ناصر، بن معمر، رحمه الله تعالى، عن الفرق بين الشفاعة المثبتة، والمنفية؟ فأجاب: أما الفرق بين الشفاعة المثبتة والشفاعة المنفية، فهي مسألة عظيمة، ومن لم يعرفها لم يعرف حقيقة التوحيد والشرك; والشيخ رحمه الله تعالى عقد لها بابا في كتاب التوحيد، فقال: باب الشفاعة، وقول الله تعالى: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ} [سورة الأنعام آية: 51] ، ثم ساق الآيات، وعقبه بكلام الشيخ تقي الدين. فأنت راجع الباب، وأمعن النظر فيه، يتبين لك حقيقة الشفاعة، والفرق بين ما أثبته القرآن وما نفاه، وإذا تأمل الإنسان القرآن، وجد فيه آيات كثيرة في نفي الشفاعة، وآيات كثيرة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 157 في إثباتها; فالآيات التي فيها نفي الشفاعة، مثل قوله: {لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ} [سورة الأنعام آية: 51] ، ومثل قوله: {أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ} [سورة البقرة آية: 254] ، وقوله: {مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ} [سورة السجدة آية: 4] ، وقوله: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً} [سورة الزمر آية: 44] ، إلى غير ذلك من الآيات. وأما الآيات التي فيها إثبات الشفاعة، فمثل قوله تعالى: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [سورة النجم آية: 26] ، وقوله: {وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سورة سبأ آية: 23] ، وقوله: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [سورة الأنبياء آية: 28] ، وقوله: {يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً} [سورة طه آية: 109] ، إلى غير ذلك من الآيات. فالشفاعة التي نفاها القرآن هي; التي يطلبها المشركون من غير الله، فيأتون إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم أو إلى قبر من يظنونه من الأولياء والصالحين; فيستغيث به، ويستشفع به إلى الله، لظنه أنه إذا فعل ذلك شفع له عند الله، وقضى الله حاجته، سواء أراد حاجة دنيوية أو حاجة أخروية، كما حكى الله عن المشركين في قوله: {وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [سورة يونس آية: 18] ، لكن كان الكفار الأولون، يستشفعون بهم في قضاء الحاجات الدنيوية; وأما المعاد، فكانوا مكذبين به، جاحدين له; وأما المشركون اليوم فيطلبون من غير الله حوائج الدنيا والآخرة; الجزء: 2 ¦ الصفحة: 158 ويتقربون بذلك إلى الله، ويستدلون عليه بالأدلة الباطلة، و {حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} [سورة الشورى آية: 16] . وأما الشفاعة: التي أثبتها القرآن، فقيدها سبحانه بإذنه للشافع، ورضاه عن المشفوع له; فلا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، لا ملك مقرب، ولا نبي مرسل، ولا يأذن للشفعاء أن يشفعوا إلا لمن رضي قوله وعمله; وهو سبحانه لا يرضى إلا التوحيد. وأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن أسعد الناس بشفاعته أهل التوحيد والإخلاص، فمن طلبها منه اليوم، حرمها يوم القيامة؛ والله سبحانه قد أخبر أن المشركين لا تنفعهم شفاعة الشافعين; وإنما تنفع من جرد توحيده، بحيث أن يكون الله وحده هو إلهه، ومعبوده؛ وهو سبحانه: لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصا، كما قال تعالى: {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [سورة الزمر آية: 3] . فإذا تأملت الآيات، تبين لك أن الشفاعة المنفية هي التي يظنها المشركون، ويطلبونها اليوم من غير الله. وأما الشفاعة المثبتة فهي التي لأهل التوحيد والإخلاص. كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن شفاعته نائلة من مات من أمته، لا يشرك بالله شيئا; والله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 159 وسئل أيضا: الشيخ حمد بن ناصر بن معمر، عن قوله: (أسألك بحق السائلين عليك) ... ؟ إلخ. فأجاب: أما السؤال عن قول الخارج إلى الصلاة: (اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك) ، فهذا ليس فيه دليل على جواز السؤال بالمخلوق، كما قد توهم بعض الناس فاستدل به على جواز التوسل بذوات الأنبياء والصالحين ; وإنما هو سؤال الله تعالى بما أوجبه على نفسه، فضلا وكرما، لأنه يجيب سؤال السائلين إذا سألوه، كما قال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [سورة البقرة آية: 186] . ونظيره قوله تعالى: {وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [سورة الروم آية: 47] ، وقوله: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [سورة هود آية: 6] ، وقوله: {وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} [سورة الأنبياء آية: 88] . هذا ما ذكره العلماء في الحديث الوارد في ذلك إن صح، وإلا فهو ضعيف، وعلى تقدير صحته فهو من باب السؤال بصفات الله، لا من باب السؤال بذوات المخلوقين، والله أعلم. سئل الشيخ سليمان بن عبد الله بن الشيخ: هل يجوز التوسل بجاه النبي صلى الله عليه وسلم، أو غيره من الأنبياء والمرسلين والصالحين في الدعاء؟ فأجاب: التوسل المشروع، الذي جاء به الكتاب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 160 والسنة، هو: التوسل إلى الله سبحانه وتعالى بالأعمال الصالحات، والأسماء والصفات اللائقة بجلال رب البريات، كقوله تعالى حاكيا عن عباده المؤمنين أنهم توسلوا إليه بصالح أعمالهم: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا} الآية [سورة آل عمران آية: 193] . وكما ثبت في الصحيحين من قصة الثلاثة الذين أووا إلى الغار، فانطبقت عليهم الصخرة، فتوسلوا إلى الله بصالح أعمالهم، الحديث; وكقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الإمام أحمد وابن أبي شيبة وابن حبان في صحيحه وغيره: " أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك "1. وفي الحديث الذي رواه الترمذي وغيره: "اللهم إني أسألك بأن لك الحمد، لا إله إلا أنت، المنان، بديع السماوات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام، يا حي يا قيوم "2، وفي الحديث الذي رواه الترمذي وحسنه: " أسألك يا الله يا رحمن بجلالك ونور وجهك" 3 الحديث، وأمثال ذلك. فهذا كله أمر مشروع، لا نزاع فيه، وهو من الوسيلة التي أمر الله بها في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} [سورة المائدة آية: 35] . وكذلك التوسل إلى الله بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم وشفاعته في حياته، وبدعاء غيره من الأنبياء والصالحين في حياتهم، فهذا كله مستحب، كما توسل   1 أحمد (1/452) . 2 النسائي: السهو (1300) , وأبو داود: الصلاة (1495) . 3 الترمذي: الدعوات (3570) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 161 الصحابة بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم وشفاعته في حياته، وتوسلوا بدعاء العباس بن عبد المطلب عم النبي صلى الله عليه وسلم، وبدعاء يزيد بن الأسود الجرشي. وأما التوسل بجاه المخلوقين، كمن يقول: اللهم إني أسألك بجاه نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، ونحو ذلك، فهذا لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأكثر العلماء على النهي عنه. وحكى ابن القيم رحمه الله تعالى أنه بدعة إجماعا، ولو كان الأنبياء والصالحون لهم جاه عند الله سبحانه وتعالى، فلا يقتضي ذلك جواز التوسل بذواتهم وجاههم، لأن الذي لهم من الجاه والدرجات أمر يعود نفعه إليهم، ولا ننتفع من ذلك إلا باتباعنا لهم ومحبتنا لهم، والله المجازي لنا على ذلك. وأما التوسل بذواتهم، مع عدم التوسل بالإيمان والطاعة، فلا يكون وسيلة، ولأن المتوسل بالمخلوق إن لم يتوسل بما يحصل من المتوسل به من الدعاء للمتوسل أو بمحبته واتباعه، فبأي شيء يتوسل؟! قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، في كتاب: الاستغاثة: ما زلت أبحث وأكشف ما أمكنني من كلام السلف والأئمة والعلماء، هل جوز أحد منهم التوسل بالصالحين في الدعاء، أو فعل ذلك أحد منهم، فما وجدته، ثم وقفت على فتيا للفقيه أبي محمد بن عبد السلام، أفتى بأنه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 162 لا يجوز التوسل بغير النبي صلى الله عليه وسلم، وأما بالنبي صلى الله عليه وسلم فجوز التوسل به إن صح الحديث في ذلك. وذكر القدوري في شرح الكرخي، عن أبي حنيفة وأبي يوسف أنه لا يجوز أن يسأل الله بالأنبياء. انتهى كلام الشيخ رحمه الله تعالى. قال القدوري: المسألة بخلقه لا تجوز، لأنه لا حق للمخلوق على الخالق، فلا تجوز معنى، وفاقا. انتهى. وقد احتج من أجاز المسألة بالمخلوقين بأمور: الأول: ما رواه الإمام أحمد عن أبي سعيد الخدري، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من خرج من بيته إلى الصلاة فقال: اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك، وبحق ممشاي هذا "1 الحديث. فالجواب: إن الحديث في إسناده عطية العوفي، وفيه كلام، ضعفه الإمام أحمد، والثوري، وهشيم، وأبو زرعة، وأبو حاتم، والجوزجاني والنسائي، وابن حبان، وقال: لا يحل كتب حديثه إلا على التعجب، وقال ابن معين: صالح; وقال ابن سعيد: كان ثقة إن شاء الله تعالى. وبتقدير ثبوته، هو من التوسل المستحب، فإن حق السائلين عليه أن يجيبهم، وحق المطيعين له أن يثيبهم، فالسؤال له، والطاعة سبب لحصول الإجابة وإثابته. والثاني: ما رواه الحاكم في المستدرك وصححه من   1 ابن ماجه: المساجد والجماعات (778) , وأحمد (3/21) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 163 حديث عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه عن جده، عن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لما اقترف آدم الخطيئة، قال: رب أسألك بحق محمد لما غفرت لي " الحديث. فالجواب: إن هذا الحديث ساقط، لأن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ضعيف بالاتفاق، ضعفه مالك، وأحمد، وابن معين، وابن المديني، وأبو زرعة، وأبو داود، وابن سعد، وأبو حاتم، وابن خزيمة، وابن حبان، قال ابن الجوزي: أجمعوا على ضعفه. فهذا كما ترى، تفرد به عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وهو: هو. وقال الحافظ الذهبي في تلخيص المستدرك لما ذكر الحاكم هذا الحديث فقال: هذا صحيح، قال الذهبي: أظنه موضوعا، ثم هو مخالف للقرآن، لأن الله عز وجل ذكر قصة آدم عليه السلام وتوبته وتوسله، ولم يذكر الله أنه توسل بالنبي صلى الله عليه وسلم. الثالث: ما رواه الترمذي والنسائي في اليوم والليلة، وابن شاهين والبيهقي وصححه الترمذي عن عثمان بن حنيف: " أن رجلا ضرير البصر أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ادع الله أن يعافيني، فقال: إن شئت دعوت وإن شئت صبرت فهو خير لك، قال: فادعه، فأمره أن يتوضأ فيحسن وضوءه، ويدعوه بهذا الدعاء: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، إني توجهت بك إلى ربي في حاجتي هذه لتقضى، اللهم فشفعه في "1 هذا حديث حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا   1 الترمذي: الدعوات (3578) , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1385) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 164 من حديث أبي جعفر، وهو غير الخطمي، هدا لفظ الترمذي، وقال بعضهم: هذا يدل على جواز التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم لا غير. والجواب: إن هذا التوسل هو الذي ذكره عمر رضي الله عنه لما استسقى بالعباس رضي الله عنه، فذكر أنهم يتوسلون بالنبي صلى الله عليه وسلم في الاستسقاء، ثم توسلوا بعمه العباس بعد موته؛ وتوسلهم به هو: دعاؤه، ودعاؤهم معه، فيكون وسيلتهم إلى الله تعالى، وهذا لم يفعله الصحابة في حق النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته، ولا في مغيبه. والنبي صلى الله عليه وسلم كان في مثل هذا شافعا لهم داعيا لهم، ولهذا قال في حديث الأعمى: اللهم فشفعه في، فعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم شفع له، فسأل الله أن يشفعه فيه. قلت: ومن تأمل هذا الحديث، علم صحة هذا، فإنه صريح في أن الأعمى أتاه فقال: ادع الله أن يعافيني، فقال: إن شئت دعوت، وإن شئت صبرت فهو خير لك; قال: فادعه، فهذا دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا له، وأن الأعمى سأل ربه أن يشفعه فيه، بأن يستجيب دعاءه صلى الله عليه وسلم وهذا كاف في حكم هذه المسألة. واعلم: أن التوسل بذات المخلوق أو بجاهه غير سؤاله ودعائه. فالتوسل بذاته أو بجاهه أن يقول: اللهم اغفر لي، وارحمني، وأدخلني الجنة بنبيك محمد صلى الله عليه وسلم أو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 165 بجاه نبيك محمد (، ونحو ذلك، فهذا بدعة ليس بشرك. وسؤاله ودعاؤه، هو أن يقول: يا رسول الله أسألك الشفاعة، أو أنا في كرب شديد فرِّج عني، أو استجرت بك من فلان فأجرني، ونحو ذلك، فهذا كفر وشرك أكبر ينقل صاحبه عن الملة، لأنه صرف حق الله لغيره، لأن الدعاء عبادة لا يصلح إلا لله، فمن دعاه فقد عبده، ومن عبد غير الله فقد أشرك والأدلة على هذا أكثر من أن تحصر. وكثير من الناس لا يميز ولا يفرق بين التوسل بالمخلوق أو بجاهه، وبين دعائه وسؤاله; فافهم ذلك، وفقنا الله وإياك لسلوك أحسن المسالك. وبهذا يظهر جواب المسألة الثانية، وهي: إذا وجد نحو ذلك في تصنيف بعض العلماء، هل له محمل أم لا، والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم. [رسالة عبد العزيز بن سعود إلى الحفظي يوصيه بتحقيق الشهادتين] وقال الإمام: عبد العزيز بن محمد بن سعود، رحمه الله تعالى: بسم الله الرحمن الر حيم من عبد العزيز بن سعود، إلى جناب الأخ في الله: محمد بن أحمد الحفظي، سلمه الله من جميع الأشرار، وجعله من عباده الصالحين الأبرار، الذين لا تأخذهم في الله لومة لائم من الفجار. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 166 أما بعد: فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو; وهو للحمد والثناء أهل، وأسأله أن يصلي على صفوته وخيرته من خلقه، محمد خير أنبيائه، وأمينه على إنبائه، وعلى آله وصحبه، الذين كانوا سيوفا قاطعة على رقاب أعدائه. وقد وصل إلينا كتابكم، وفهمنا ما تضمنه، من لطيف خطابكم، فإن سألت عن الأحوال، فلله الحمد والمنة، نحن في أحسن حال، وأسر بال، نسأل الله أن يزيدنا، وسائر إخواننا من النعم والإفضال. وما ذكرت من اتباعكم، هذه الدعوة الإيمانية، وإخلاصكم الدعوة والتوحي، لمن له الوحدانية، فهنيئا لمن كانت حاله كذلك، وأنقذه الله من الشرك والمهالك، لأن الإسلام عاد في هذه الأزمان غريبا كما بدأ، كما أخبر به الصادق المصدوق، كما ثبت في صحيح مسلم وغيره; نسأل الله أن يجعلنا وإياك من الغرباء، الذين ذكر أنهم يحيون من السنة ما أمات الناس. وما ذكرت من طلب الوصية في كتابك، فأعظم ما نوصيك به: تحقيق هذين الأصلين: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله; وذلك لأنهما أصل الإسلام; ولا ينفع علم، ولا يقبل عمل، بدون تحقيقهما قولا وعملا واعتقادا؛ وهما أصل التقوى، التي أوصى الله بها الأولين والآخرين، في كتابه، بقوله تعالى: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 167 الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [سورة النساء آية: 131] . وفسر التقوى من فسرها من السلف، بتفاسير; منها: أنها العمل بطاعة الله، على نور من الله، ترجو ثواب الله; واجتناب معصية الله، على نور من الله، تخاف عقاب الله; فأعظم ما نوصيك به: استحضار هذا. ثم الدعوة إلى الله، قال جل جلاله: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [سورة فصلت آية: 33] . وقال: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [سورة يوسف آية: 108] ، قال (لعلي ابن أبي طالب (" فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا، خير لك من حمر النعم "1 فإذا حققت هذه التقوى، وكنت من أهلها، فلا تخف ولا تحزن; وقد وردت البشرى من الله أنه معك حيث كنت، ناصرا، ومعينا، وحافظا، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [سورة النحل آية: 128] . وإذا كان الله معك، فمن تخاف؟ وإذا كان عليك، فمن ترجو؟ وكما قال بعضهم: من اتقى الله، كان الله معه، ومن كان الله معه: فمعه الفئة التي لا تغلب، والحارس الذي لا ينام، والهادي الذي لا يضل. نسأل الله أن يهدينا، وإياكم إلى صراطه المستقيم، ويدخلنا برحمته جنات النعيم، والسلام عليكم. ورحمة الله   1 البخاري: المناقب (3701) , ومسلم: فضائل الصحابة (2406) , وأحمد (5/333) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 168 وبركاته. وبعد ما فرغ أمير المؤمنين من جوابه، خطر لأحد خدام علماء المسلمين أن يذيل بكلمات لطيفة، غايتها ثناء على الله، وتحدث بنعمة الله، وترغيب في دين الله، مراعيا فيها ما قيل في المثل: خير الكلام ما قل ودل، ولم يطل فيمل; وقد اتفقت على روي المبتدي1 وبحره. فقال غفر الله له: تألق برق الحق في العارض النجدي ... فعم حياة الكون في الغور والنجد وأورقت الأشجار وانتضدت بها ... يوانع أنواع من الثمر الرغد وأشرقت الأنوار من زهر ورده ... وأعبقت الأقطار من طيب الند وغردت الأطيار بالذكر تطرب ال ... مسامع جهرا فوق أغصانها الملد وقام خطيب الكائنات لربها ... على الخصب بعد المحل بالشكر والحمد فذاك الحيا محيي القلوب ربيعها ... ومطعومها مشروبها طيبها الوردي فها نحن نجني من ثمار غراسه ... ونرجوا جناه العفو في جنة الخلد فإن كنت مشتاقا إلى ذلك الجنا ... فذقه تجد طعما ألذ من الشهدي هو الوحي دين الله عصمة أهله ... وحظهم الأوفى وجدهم المجدى به ينتجى والناس في هلكاتهم ... به يرتجى نيل الرغائب والرفد   1 المراد بالمبتدي الحفظي, أرسل قصيدة إلى الإمام عبد العزيز بن سعود, تتضمن إجابته واستبشاره بهذه الدعوة, وهذه القصيدة المذيل بها هنا جواب عليها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 169 به الأمن في الدنيا وفي الحشرواللقا ... ومن قبل عند الاحتضار وفي اللحد به تصلح الدنيا به تحقن الدما ... به يحتمى من كل باغ وذي حقد به زعزعت أركان كسرى وقيصر ... ولم يجد ما حازا من المال والجند ومثلهما في السالكين طريقهم ... أرانا كما قد قاله صادق الوعد فلله حمد يرتضيه لنفسه ... على نعم زادت عن الحصر والعد فأعظمها بعث الرسول محمد ... أمين إله الخلق واسطة العقد دعانا إلى الإسلام دين إلهنا ... وتوحيده بالقول والفعل والقصد هدانا به بعد الضلالة والعمى ... وأنقذنا بعد الغواية بالرشد حبانا وأعطانا الذي فوق وهمنا ... وأمكننا من كل طاغ ومعتد وأيدنا بالنصر واتسقت لنا ... ممالك لا تدعو سوى الواحد الفرد فنسأله إتمام نعمته بأن ... يثبتنا عند المصادر كالورد فيا فوز عبد قام لله جاهدًا ... على قدم التجريد يهدي ويستهدي وجدد في نصر الشريعة صارما ... بعزم يرى أمضى من الصارم الهندي وتابع هدي المصطفى الطهر مخلصًا ... لخالقه فيما يسر وما يبدي ويا حسرة المحروم رحمة ربه ... بإعراضه عن دين ذي الجود والمجد لقد فاته الخير الكثير وما درى ... وقد خاب واختار النحوس على السعد ومن بعد حمد الله أزكى صلاته ... وتسليمه الأوفى الكثير بلا حد على المصطفى خير الأنام وآله ... وأصحابه أهل السوابق والزهد قال الإمام: عبد العزيز بن محمد بن سعود، رحمه الله تعالى، وقد سئل عن رجل عبد الله على ظاهر دين الإسلام، يأتي بالواجبات، ويترك المقبحات، ولا يقلد في دينه أحدا من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 170 أرباب هذه المذاهب المشهورة، بل إن كان فيه أهلية النظر في أدلة الكتاب والسنة عمل بها، وإلا سأل من وجده من العلماء، فهل هذا ناج، أم لا؟ فنقول: بعد الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه، وعلى آله وسلم، قال الله تعالى في كتابه: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً} [سورة النساء آية: 69] . فأخبر الله سبحانه أن من أطاع الله ورسوله، من الأولين والآخرين، فهو ناج من العذاب، ويحصل جزيل الثواب، وهذا أمر مجمع عليه بين الأمة، ولله الحمد، لا اختلاف فيه، لكن الشأن في تحقيق ذلك، وتصديق القول بالعمل بما في كتاب الله، وسنة رسوله، عليه من الله أفضل الصلاة والسلام، وذلك: لأن الناس أحدثوا بعد نبيهم (والسلف الصالح محدثات، زعموا أنها من البدع الحسنة، فأقبح ذلك وأشده: دعوة غير الله، والاستغاثة بالصالحين، من الأحياء والأموات، في جلب الفوائد، وكشف الشدائد، وسؤالهم الحاجات، ليشفعوا لهم عند الله، ويقربوهم عنده. وكذلك كنا نفعله، قبل أن يمن الله علينا بدين الإسلام، نحن وغيرنا، حتى اشتهر ذلك في كثير من البلاد، وصار عند غالب الناس هو غاية تعظيم الصالحين ومحبتهم، ومن أنكره عليهم كفروه وخرجوه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 171 فلما ظهر الشيخ: محمد بن عبد الوهاب، أسكنه الله الجنة يوم المآب نهانا عن ذلك، وأخبر أن هذا هو الشرك الذي لا يغفره الله، إلا بالتوبة منه، وأنه هو فعل المشركين عبدة الأوثان، من العرب وغيرهم. وأتانا بالدلائل القطعية، من الكتاب، والسنة، وإجماع سلف الأمة، كقوله تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} [سورة الجن آية: 18] ، وقوله تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [سورة الأحقاف آية: 5"6] . وقال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [سورة غافر آية: 60] . والآيات في هذا المعنى كثيرة معروفة. فلما عرفنا أن هذا هو الشرك الذي بعث الله الرسل وأنزل الكتب، تنهى عنه، وتأمر بعبادة الله، وإخلاص الدعوة له وحده لا شريك له، وأن هذا هو تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله، تبرأنا من الشرك بالله وأهله، ومن دعوة غير الله، والاستغاثة بهم في الشدائد، وجلب الفوائد، وإخلاص الدعوة لله وحده لا شريك له. فلما فعلنا ذلك، وأزلنا جميع الأوثان والقباب التي في بلداننا، أنكر الناس ذلك، وكفرونا، وخرجونا، وبدعونا، ورمونا بعداوتهم عن قوس واحد، فاعتصمنا بالله، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 172 وتوكلنا عليه، وجاهدناهم في الله، وفي دين الله، فنصرنا الله عليهم، وأورثنا أرضهم وديارهم وأموالهم، والحمد لله على ذلك، فهو الذي هدانا لهذا، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، لقد جاءت رسل ربنا بالحق. إذا عرفتم ذلك، فنقول في جواب المسألة الكبرى: من عبد الله وحده لا شريك له، وأخلص جميع العبادة بأنواعها لله وحده لا شريك له، فلم يستغث إلا بالله، ولم يدع إلا الله وحده، ولم يذبح إلا لله وحده، ولم ينذر إلا لله وحده، ولم يتوكل إلا عليه، ويذب عن دين الله، وعمل بما عرف من ذلك بقدر استطاعته، فهو ناج بلا شك، وإن لم يعرف هذه المذاهب المشهورة. [نبذة للشيخ عبد العزيز الحصين في توحيد العبادة] قال الشيخ: عبد العزيز بن عبد الله الحصين رحمه الله تعالى: بسم الله الرحمن الر حيم الحمد لله المتفرد بالكمال والبقاء والعز والكبرياء، الموصوف بالصفات والأسماء، المنَزه عن الأشباه والنظراء، الذي سبق علمه في بريته بحكم القضاء، من السعادة والشقاء; وأكمل لنا ديننا، ولم يجعله ملتبسا علينا، وتفضل، فرضي لنا الإسلام دينا، فنحمده على ذلك ونشكره، ونؤمن به ونتوكل عليه، ونتوب إليه ونستغفره، وصلى الله وسلم على المبعوث بالمحجة البيضاء، والشريعة الغراء; محمد أفضل الرسل والأنبياء; وعلى آله وأصحابه الأتقياء، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 173 صلاة وسلاما دائمين متلازمين إلى يوم البعث والجزاء. أما بعد: فإن العبادة التي هي اسم جامع، لكل ما يحبه الله ويرضاه، هي الغاية التي خلق الله لها جميع العباد، من جهة أمر الله تعالى، ومحبته ورضاه، كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [سورة الذاريات آية: 56] ، وبها أرسل الرسل، وأنزل الكتب، وذلك أن الدين كله بأنواعه لله وحده، والأمر كله لله، مختص بجلاله وعظمته، ليس للخلق منه شيء البتة، لا ملك، ولا نبي، ولا ولي، بل حق لله تعالى، غير جنس حق المخلوق. فأما حقه تعالى: فتوحيده وإفراده بعبادته، التي أوجبها تعالى على عباده، وخلقهم ليعملوا بها، وإخلاصها له تعالى وتقدس، بعد نفيها عن غيره; وحصرها له وعليه; والدعاء بما لا يقدر على جلبه ودفعه إلا الله، مختصا به، لا يجوز أن يدعى في ذلك غيره تبارك وتعالى، ورجاؤه فيه، والتوكل عليه، وذبح النسك، والنذر، لجلب الخير، أو دفع الشر، والإنابة، والخضوع كله لله، مختص بجلاله، كالسجود، والتسبيح، والتكبير والتهليل. قال سبحانه وتعالى: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ} [سورة الرعد آية: 14] . وقال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} [سورة الجن آية: 18] . وقال لنبيه {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 174 يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ} [سورة يونس آية: 106] . وقال تعالى لأفضل خلقه: {قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً} [سورة الجن آية: 21"22] . وقال تعالى: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [سورة الأعراف آية: 188] . وقال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [سورة الأنعام آية: 162"163] . وقال تعالى: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [سورة هود آية: 123] . وحق الأنبياء: الإيمان بهم، وبما جاؤوا به، واتباع النور الذي أنزل معهم، وتعزيرهم، وتوقيرهم، وموالاتهم، وتقديم محبتهم على النفس والمال والبنين، والناس أجمعين; وعلامة التصديق في ذلك: اتباع هديهم، والإيمان بما جاؤوا به من عند ربهم، والإيمان بمعجزاتهم، وأنهم بلغوا رسالات ربهم، وأدوا الأمانة، ونصحوا الأمة، وأن محمدا (خاتمهم، وأفضلهم، وإثبات شفاعتهم، التي أثبتها الله سبحانه في كتابه، وهي من بعد إذن ربهم لهم فيها، ممن يرضى عنه من أهل التوحيد، وأن المقام المحمود، الذي ذكره الله في كتابه لنبينا محمد (. وكذلك حق أوليائه: محبتهم، والترضي عنهم، والإيمان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 175 بكرامتهم، لا عبادتهم ليجلبوا لمن دعاهم خيرا لا يقدر على جلبه إلا الله تبارك وتعالى، ويدفعوا عنهم سوءا لا يقدر على دفعه أو رفعه إلا الله، لأنه عبادة مختصة بجلاله سبحانه، قال الله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [سورة غافر آية: 60] ، فسماه عبادة، وأضافها إلى نفسه; وروى النعمان بن بشير، قال: قال رسول الله: "إن الدعاء هو العبادة، ثم قرأ رسول الله: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} " الآية [سورة غافر آية: 60] ، رواه أبو داود، والترمذي، وقال: حديث حسن صحيح. وكل ما في القرآن، من دعاء، أو دعوة، فهو إما بمعنى: اسألوني أعطكم، كما في هذا الحديث، وكقوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} الآية [سورة البقرة آية: 186] . وإما بمعنى: امتثال الأوامر، واجتناب المناهي، كما في قوله: {وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ} [سورة الشورى آية: 26] ، أي يثيبهم على أحد التفسيرين، لا أن يتخذوا في ذلك واسطة، بين الله، وبين من دعاهم، ولا سيما في حصول المطلوب، كالواسطة بين السلطان ورعيته; فإن ذلك دين المشركين الذين قال الله فيهم: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} الآية [سورة سبأ آية: 22] . وقال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 176 تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً} [سورة الإسراء آية: 56] . وإنما ذكر الله ذلك عنهم، لأنهم يدعون الملائكة والأنبياء، ويصورون صورهم محبة لهم، ويرجونهم ويلتجئون إليهم ليشفعوا لهم فيما دعوهم فيه، وذلك بطرق مختلفة; ففرقة قالت: ليس لنا أهلية مباشرة دعاء الله ورجائه، بلا واسطة تقربنا إليه، وتشفع لنا عنده، لعظمته; وفرقة قالت: الأنبياء والملائكة ذوو وجاهة عند الله، ومنْزلة عنده، فاتخذوا صورهم من أجل حبهم لهم، ليقربوهم إلى الله زلفى; وفرقة: جعلتهم قبلة في دعاء الله؛ وفرقة قالت: إن على كل صورة مصورة على صور الملائكة والأنبياء وكيلا موكلا بأمر الله، فمن أقبل على دعائه ورجائه، وتبتل إليه، قضى ذلك الوكيل ما طلب منه بأمر الله، وإلا أصابته نكبة بأمره; فالمشرك إنما يدعو غير الله، فيما لا يقدر عليه إلا الله تعالى، ويلتجئ إليه فيه ويرجوه منه، لما يحصل له في زعمه من النفع. وهو لا يكون إلا فيمن وجدت فيه خصلة من أربع: إما أن يكون مالكا لما يريد منه داعيه، فإن لم يكن مالكا، كان شريكا; فإن لم يكن، كان ظهيرا، فإن لم يكن ظهيرا، كان شفيعا. فنفى الله سبحانه هذه المراتب الأربع عن غيره نفيا مرتبا، منتقلا من الأعلى إلى الأدنى، فنفى الملك عن غيره، والشركة، والمظاهرة، والشفاعة، التي لأجلها وقعت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 177 العداوة والمخاصمة، بقوله تعالى: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً} [سورة الإسراء آية: 111] ، {قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ} [سورة المؤمنون آية: 88] . وقوله: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ} [سورة آل عمران آية: 26] . وقوله: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [سورة غافر آية: 16] . وقوله: {يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [سورة الانفطار آية: 19] . وقوله: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [سورة الفاتحة آية: 4] ، وقوله: {وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً} [سورة طه آية: 108] ، وقوله: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سورة سبأ آية: 22"23] . فأثبت سبحانه وتعالى ما لا نصيب فيها للمشرك البتة، وهي: الشفاعة بإذنه لمن رضي عنه سبحانه، الذي يعلم السر وأخفى، ولا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء; ولهذا لما قالت الصحابة رضي الله عنهم: يا رسول الله، أربنا قريب فنناجيه، أم بعيد فنناديه؟ أنزل الله تبارك وتعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} الآية [سورة البقرة آية: 186] "وقال تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 178 قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً} [سورة الزمر آية: 43"44] . وقال: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ} الآية [سورة الأنعام آية: 51] . فليس الموحد إلا من اجتمع قلبه ولسانه على الله، مخلصا له تعالى ألوهيته المقتضية لعبادته، بمحبته، وخوفه، ورجائه، ودعائه، والاستعانة به، والتوكل عليه، وحصر الدعاء بما لا يقدر على جلبه أو دفعه عنه إلا الله وحده، والموالاة في ذلك، والمعاداة فيه، وأمثال هذا، عالما بالفرق، بين حق: الخالق، والمخلوق، من الأنبياء، والأولياء، مميزا بين الحقين؛ وذلك واجب في علم القلب، وشهادته، وذكره، ومعرفته، وفي حال القلب أيضا، وعبادته، وقصده، وإرادته، ومحبته، وموالاته، وطاعته. فهذا من تحقيق معنى شهادة أن لا إله إلا الله، وأن معنى الإله عند الأولين: ما تألهه القلوب بالمحبة التي كحب الله، والتعظيم، والإجلال، والخضوع، والرجاء، والالتجاء، والتوكل، والدعاء، بما هو مختص بالله، وذبح النسك له. قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} [سورة البقرة آية: 165] ، وقالوا لمن أحبوه كحب الله {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [سورة الشعراء آية: 97"98] ، وهم ما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 179 ساووهم به في الصفات، ولا في الذات، ولا في الأفعال، كما حكى الله عنهم في الآية، في قوله: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} الآية [سورة يونس آية: 31] ، وقوله: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} الآيات [سورة المؤمنون آية: 84] . والشاهد لله، بأنه: لا إله إلا هو، وقائلها نافيا في قلبه ولسانه، ألوهية كل ما سواه من الخلق، ومثبتا الألوهية لمستحقها، وهو الله المعبود بالحق، فيكون معرضا عن ألوهية جميع المخلوقات، مقبلا على عبادة رب الأرض والسماوات؛ وذلك يتضمن: اجتماع القلب، في عبادته، ومعاملته، على الله تعالى، ومفارقته في ذلك ما سواه، فيكون مفرقا في علمه وقصده، وشهادته وإرادته، ومعرفته ومحبته، بين الخالق والمخلوق؛ بحيث يكون عالما بالله، ذاكرا له، عارفا به، وأنه تعالى مباين لخلقه، منفرد عنهم، بعبادته وأفعاله وصفاته. فيكون محبا له، مستعينا، به لا بغيره، متوكلا عليه لا على غيره، ممتنعا عن دعاء غيره، بما لا يقدر على إيجاده أو دفعه أو رفعه إلا الله; فلا يجعل ما هو مختص بجلاله تعالى، لغيره وهذا المقام، هو لمعنى في: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [سورة الفاتحة آية: 5] ؛ وهذا من خصائص ألوهيته تعالى، التي يشهد له بها عباده المؤمنون; كما أن رحمته تعالى لعبيده، وهدايته إياهم، وخلق السماوات الجزء: 2 ¦ الصفحة: 180 والأرض وما بينهما، وما فيهما من الآيات، من خصائص ربوبيته التي يشترك في معرفتها المؤمن والكافر، والبر والفاجر؛ حتى إبليس عليه اللعنة، معترف بها في قوله: {رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُون} [سورة الحجر آية: 36] . وقوله: {رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [سورة الحجر آية: 39] . وأمثال هذا الخطاب الذي يعرف فيه بأن الله ربه وخالقه ومليكه، وأن ملكوت كل شيء في يده تعالى وتقدس، وإنما كفر بعناده، وتكبره عن الحق، وطعنه فيه، وزعمه أنه فيما ادعاه وقاله، محق، وكذلك المشركون الأولون يعرفون ربوبيته تعالى، وهم له بها يعترفون. قال الله (آمرا نبيه (أن يسألهم عن ربهم الذي خلقهم، ورزقهم، ويحييهم، ويميتهم، ويدبر أمورهم كلها، فإذا عرفوه واعترفوا به، استحق أن يخص بألوهيته، فلا يدعوا مع الله إلها آخر، بل يتركوا تلك الآلهة التي يدعونها ويرجونها، وينسكون لها، لتقربهم إلى الله زلفى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ} الآية [سورة يونس آية: 31] . وقال تعالى: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} [سورة المؤمنون آية: 84"85] ، وقال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [سورة العنكبوت آية: 61] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 181 فهم قد أقروا واعترفوا بأن الله سبحانه: خالق الأشياء كلها، وموجدها، ومالكها، وأنه النافع، الضار، المعطي، المانع، الذي لا رازق سواه، ولا قابض، ولا باسط إلا هو، وحده لا شريك له في ذلك، قال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ} [سورة الأنعام آية: 40"41] . وقال تعالى: {وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ} الآية [سورة لقمان آية: 32] . وقال تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [سورة العنكبوت آية: 65] . وقال تعالى: {قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} [سورة المؤمنون آية: 88"89] . وقال: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ} الآيات [سورة الشعراء آية: 69"70] . وروى الإمام أحمد في مسنده، والترمذي، من حديث حصين بن منذر: أن رسول الله (قال: " يا حصين كم تعبد؟ قال; سبعة، ستة في الأرض، وواحد في السماء، قال: فمن الذي تعد لرغبتك ورهبتك؟ قال: الذي في السماء، فقال له رسول الله: أسلم حتى أعلمك كلمات، ينفعك الله بهن فأسلم، فقال: قل اللهم ألهمني رشدي، وقني شر نفسي ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 182 فبمجرد معرفتهم ربوبيته تعالى، واعترافهم بها، لم تنفعهم ولم تدخلهم في الإسلام، مع جعلهم مع الله آلهة أخرى يدعونها ويرجونها، لتقربهم من الله زلفى، وتشفع لهم عند الله، فبذلك كانوا مشركين في عبادته، ومعاملته، ولهذا كانوا يقولون في تلبيتهم: لا شريك لك، إلا شريك هو لك، تملكه وما ملك. وقد وصف الله سبحانه، دين المشركين، الذي قال الله فيه: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [سورة المائدة آية: 72] . وقال: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [سورة النساء آية: 48] . وقال تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [سورة الزمر آية: 65"66] . وقوله: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [سورة الزمر آية: 3] . وسيظهر تعالى المحق على المبطل، بحكمه بين الفريقين غدا، كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [سورة الزمر آية: 3] . وفي صحيحي: البخاري، ومسلم، عن عبد الله بن مسعود (قال: " سألت رسول الله (أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله ندا وهو خلقك. قال: قلت: ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 183 قال: قلت: ثم أى؟ قال: أن تزاني حليلة جارك " 1، فأنزل الله تصديقها: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ} الآية [سورة الفرقان آية: 68] ، فبين النبي (أن أعظم الذنب: الشرك بالله الذي هو جعل الأنداد واتخاذهم من خلقه ليقربوهم إليه. وفي صحيح مسلم، عن أبي هريرة، أن النبي (قال: " إن الله يرضى لكم ثلاثا: أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم " 2، فدين الله وسط، بين الغالي فيه، والجافي عنه. والشرك شركان؛ شرك أكبر، وهو: الذي تقدم بيانه آنفا، فهو محبط للأعمال، موجب للخسران والخلود في النيران، إلا بالتوبة منه والرجوع إلى دين الإسلام. وشرك أصغر: كالرياء، والسمعة، ففي صحيح مسلم، عن أبي هريرة (عن النبي (قال: "قال الله تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملا أشرك فيه غيري، تركته وشركه " 3. ومنه: الحلف بغير الله، روى الإمام أحمد، وأبو داود من حديث ابن عمر: " عن النبي أنه قال رجل: ما شاء الله وشئت، قال: أجعلتني لله ندا; قل: ما شاء الله وحده " 4، وروى الإمام أحمد في مسنده: " أن رجلا أتي به قد أذنب ذنبا، وهو أسير، فلما وقف بين يدي النبي (قال: اللهم إني أتوب إليك، ولا أتوب إلى محمد، فقال: النبي عرف   1 البخاري: الأدب (6001) , ومسلم: الإيمان (86) , والترمذي: تفسير القرآن (3182) , والنسائي: تحريم الدم (4013 ,4014) , وأبو داود: الطلاق (2310) , وأحمد (1/431) . 2 مسلم: الأقضية (1715) , وأحمد (2/367) , ومالك: الجامع (1863) . 3 مسلم: الزهد والرقائق (2985) . 4 أحمد (1/347) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 184 الحق لأهله " 1. والشرك الأصغر: ذنب تحت المشيئة، كسائر الذنوب، بل هو أكبرها، لعموم قوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [سورة النساء آية: 48] ، وحديث: " أي الذنب أعظم " 2، ولكن لا يكفر مرتكبها ولا يخرج عن الملة الإسلامية، إذا لم يستحل فعلها. فلم يبق إلا التوسل بالأعمال الصالحة، كتوسل المؤمنين بإيمانهم، في قولهم: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلْإِيمَانِ} [سورة آل عمران آية: 193] ، وكتوسل أصحاب الصخرة المنطبقة عليهم، وهم الثلاثه النفر، توسلوا إلى الله بأعمالهم الصالحة التي تقربهم وتحببهم إلى ربهم، رواه البخاري في صحيحه; لأنه وعد أنه: يستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله. وكسؤاله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى، قال الله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [سورة الأعراف آية: 180] . وكالأدعية المأثورة في السنن: " اللهم إني أسألك بأن لك الحمد، لا إله إلا أنت، الحنان، المنان، بديع السماوات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام " 3 وأمثال ذلك. وهذا معنى قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} [سورة المائدة آية: 35] ، فإنها القربة التي تقرب إلى الله، وتقرب فاعلها منه، وهي: الأعمال الصالحة، كما   1 أحمد (3/435) . 2 البخاري: تفسير القرآن (4477) , ومسلم: الإيمان (86) , والترمذي: تفسير القرآن (3182 ,3183) , والنسائي: تحريم الدم (4013 ,4014 ,4015) , وأبو داود: الطلاق (2310) , وأحمد (1/380 ,1/431 ,1/434 ,1/462 ,1/464) . 3 النسائي: السهو (1300) , وأبو داود: الصلاة (1495) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 185 روى البخاري في صحيحه، من حديث أبي هريرة، عن رسول الله (قال: " قال الله تعالى: من عادى لي وليا، فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه. وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها. ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه " 1 الحديث بتمامه. ولهذا كان رسول الله (إذا همه أمر فزع إلى الصلاة، فإنها أعظم التقرب إلى الله (كما قال تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [سورة البقرة آية: 45] . وليست الوسيلة بمخلوق يبتغى، ليجعل واسطة بينه وبين خلقه، يتقربون به إليه، لأن هذا عين ما نهى الله عنه في الآيات، وأنزل بقبحه الكتب، وأرسل الرسل، وهو ما قالت بنو إسرائيل لموسى، صلاة الله وسلامه عليه، يا موسى: اجعل لنا إلها كما لهم آلهة; فإن قصدهم يتقربون به إليه. وأما الإقسام على الله بمخلوق، فهو منهي عنه باتفاق العلماء، وهل هو منهي عنه، نهي تنْزيه، أو تحريم؟ على قولين، أصحهما أنه كراهة تحريم; قال بشر بن الوليد، سمعت أبا يوسف يقول، قال أبو حنيفة رحمه الله تعالى: لا ينبغي لأحد أن يدعو إلا به، وأكره: بمعاقد العز من عرشك،   1 البخاري: الرقاق (6502) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 186 وهو حق خلقك; وقال أبو يوسف: معاقد العز: هو الله، فلا أكره هذا; وأكره: بحق فلان، أو بحق أنبيائك ورسلك، وبحق البيت، والمشعر الحرام، قال رحمه الله: المسألة بحق المخلوق لا تجوز لهذا، فلا يقول: أسألك بفلان، أو بملائكتك، أو أنبيائك، ونحو ذلك، لأنه: لا حق للمخلوق على الخالق. وقال تعالى: {مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئاً} الآية [سورة الجاثية آية: 10] ، فإذا والى العبد ربه وحده، أقام له وليا من الشفعاء، وعقد الموالاة بينه وبين عباده المؤمنين، فصاروا أولياءه في الله; بخلاف من اتخذ مخلوقا من دون الله، فهذا لون، وذاك لون; كما أن الشفاعة الشركية الباطلة نوع، والشفاعة الحق الثابتة التي إنما تنال بالتوحيد نوع; وهذا موضع فرقان، بين أهل التوحيد، وأهل الشرك بالله; والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم. ومما استدل به الذين يدعون مع الله غيره، في المهمات من أهل القبور والأموات، ويقولون: المراد الوسيلة: " اللهم إني أسألك، وأتوجه إليك بنبيك محمد، نبي الرحمة; يا محمد إني، أتوجه بك إلى ربي، في حاجتي هذه لتقضى، اللهم شفعه في " 1 رواه الترمذي، والحاكم، وابن ماجه، عن عثمان بن حنيف، قال: " جاء رجل ضرير إلى النبي، فقال: ادع الله لي أن يعافيني، فقال: إن شئت اخترت لك، وهو خير، وإن شئت دعوت   1 الترمذي: الدعوات (3578) , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1385) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 187 لك. قال: فادعه، فأمره أن يتوضأ ويصلي ركعتين، ويدعو بهذا الدعاء " 1 قال الحاكم: صحيح. وهذا الحديث دليل للشيخ: محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى، لا عليه، لوجوه. الأول: أنه في غير محل النِّزاع، بل اختراع منكر، ووردت الأحاديث بحرمته، وهو عمارة القبور، وإلقاء الستور عليها، وتسريجها، وهذه كلها كبائر كما قال أهل العلم، حتى ابن حجر الهيتمي، وغيره; إن حدها: كل ما أتبع بلعنة، أو غضب، أو نار. روى البخاري، ومسلم، عن أبي هريرة (أن رسول الله (قال: " قاتل الله اليهود، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " 2. ولمسلم: " لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " 3. وفي صحيحه: عن جندب بن عبد الله البجلي، (قال " سمعت النبي (قبل: أن يموت بخمس، وهو يقول: إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل، فإن الله قد اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا. ولو كنت متخذا من أمتي خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا، ألا وإن من كان قبلكم، كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك " 4.   1 الترمذي: الدعوات (3578) , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1385) . 2 البخاري: الصلاة (437) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (530) , وأبو داود: الجنائز (3227) , وأحمد (2/284 ,2/396 ,2/453 ,2/518) . 3 البخاري: الجنائز (1390) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (531) , ولنسائي: المساجد (703) , وأحمد (1/218 ,6/34 ,6/121 ,6/146 ,6/255) , والدارمي: الصلاة (1403) . 4 مسلم: المساجد ومواضع الصلاة (532) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 188 وعن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، وعبد الله بن عباس، رضي الله عنهما، قال: " لما نزل برسول الله، طفق يطرح خميصة له على وجهه، فإذا اغتم بها كشفها، فقال وهو كذلك: لعنة الله على اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد. ولولا ذلك لأبرز قبره، غير أنه خشي أن يتخذ مسجدا " 1 متفق عليه. وروى الإمام أحمد في مسنده، بإسناد جيد، عن عبد الله بن مسعود، (أن النبي قال: "إن من شرار الناس، من تدركهم الساعة وهم أحياء، والذين يتخذون القبور مساجد " 2 وعن ابن عباس، رضي الله عنهما; قال: " لعن رسول الله زائرات القبور، والمتخذين عليها المساجد، والسرج" 3 رواه الإمام أحمد، وأهل السنن. وهذا حال من سجد لله عند قبر، فكيف بمن سجد للقبر نفسه؟ أو دعاه، وعدل عن أوضاع الشرع، إلى تعظيم أوضاع الجهال والطغام، وضعوها لأنفسهم بتلبيس إبليس عليهم، فسهلت لهم، وطابت بها قلوبهم، من تعظيم القبور وإكرامها بما نهى عنه الشرع، من عبادتها بدعائها، ورجائها، والالتجاء إليها، والتوكل عليها، والنذر لها، وكتب الرقاع فيها، وخطاب الموتى بالحوائج: يا سيدي، يا مولاي افعل بي كذا وكذا; وأخذ ترابها، وجعل الخرق عليها تبركا، وإيقاد السرج عليها، وتقبيلها، وتحليتها، وشد الرحال إليها؛ وينضاف إلى ذلك إلقاء الخرق على الشجر،   1 البخاري: الصلاة (436) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (531) , والنسائي: المساجد (703) , وأحمد (1/218 ,6/34) , والدارمي: الصلاة (1403) . 2 صحيح البخاري: كتاب الفتن (7067) , وسنن الترمذي: كتاب الطهارة (12) . 3 الترمذي: الصلاة (320) , والنسائي: الجنائز (2043) , وأبو داود: الجنائز (3236) , وابن ماجه: ما جاء في الجنائز (1575) , وأحمد (1/229 ,1/287 ,1/324 ,1/337) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 189 ودعاؤها، والذبح والنذر لها، اقتداء بمن عبد اللات، والعزى; والويل كل الويل عندهم، لمن عاب، أو أنكر عليهم. ومن جمع بين سنة رسول الله (في القبور، وما أمر ونهى، وما كان عليه أصحابه، وبين الذي عليه أكثر الناس اليوم رأى أحدهما مضادا للآخر، مناقضا له، بحيث لا يجتمعان أبدا; ودعاء المقبور عند المهمات شرك بالله (، قد ذكرنا أدلته فيما تقدم; وإن كان سبب قول الله {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [سورة البقرة آية: 22] ، مجيء خبر من اليهود، إلى رسول الله (والمسلمين، وقوله: "نعم القوم أنتم، لولا أنكم تجعلون لله أندادا; فتقولون: ما شاء الله وشاء فلان، فقال أما إنه قد قال حقا " 1، وأنزل الله {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً} الآية [سورة البقرة آية: 22] . وممن أخرج الحديث: جلال الدين السيوطي في: الدر المنثور، في تفسير الآية، وعن قتيلة" امرأة من جهينة" قالت: " أتى يهودي إلى النبي فقال: إنكم تنددون وتشركون، تقولون: ما شاء الله وشئت; وتقولون: والكعبة; فأمرهم النبي (أن يقولوا: ورب الكعبة، وما شاء الله، ثم شئت ;" رواه النسائي. وقد أقر النبي (قول اليهودي: إن هذا شرك، فكيف حال من نادى عند المهمات غير الله؟ إذ هو داخل تحت   1 ابن ماجه: الكفارات (2118) , وأحمد (5/72) , والدارمي: الاستئذان (2699) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 190 قوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} [سورة البقرة آية: 165] . وهؤلاء يحب أحدهم معتقده أكثر من حب الله، وإن زعم أنه لا يحبه كحب الله، فشواهد الحال تشهد عليه بذلك; فإنه يعظم القبر أعظم من بيت الله، ويحلف بالله كاذبا، ولا يحلف بمعتقده; ويحلف بالله تعالى في أي محل، ولا يحلف بمعتقد يعتقده; فلا جامع بين ما استدلوا به، وبين ما نهاهم عنه محمد بن عبد الوهاب، عافاه الله تعالى. الثاني: أن الحديث دليل للشيخ رحمه الله تعالى، أنه لا يدعى غير الله (فإن مسألة: (اللهم إني أتوجه إليك) ; المسؤول: الله (، وإنما توجه إليه بحبيبه المصطفى عنده، ونهايته: سؤال الله (أن يشفعه، فمستهله سؤال الله (، ونهايته سؤاله سبحانه; ووسطه: يا حبيبنا محمدا، إنا نتوسل بك إلى ربك، فاشفع لنا. فهذا خطاب لخاص معين في قوله، كقولنا في صلاتنا: السلام عليك أيها النبي، ورحمة الله وبركاته; وكاستحضار الإنسان محبه ومبغضه في قلبه، فيخاطبه بما يهواه لسانه، وهذا كثير في لسان الخاصة، دون العامة، ومعناه: أتوجه إليك بدعاء نبيك وشفاعته المشتملة على الدعاء; ولهذا قال في تمام الحديث: اللهم شفعه في; وهذا متفق على جوازه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 191 وقد مضت السنة أن الحي يطلب منه الدعاء، كما يطلب منه سائر ما يقدر عليه، سواء كان بلفظ الاستغاثة، أم بغيرها; ومنه ما قص الله عن الإسرائيلي المستغيث بموسى على القبطي، في قوله: {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى} الآية [سورة القصص آية: 15] . وكاستشفاع الأمة من أهل الموقف بالأنبياء، والطواف عليهم، يسألونهم أن يشفعوا إلى الله من أهل الموقف عامة. وأما: المخلوق الغائب أو الميت، فلا يستغاث به، ولا يطلب منه ما لا يقدر عليه إلا الله البتة; وهذا موافق لقوله تعالى {قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ} [سورة آل عمران آية: 154] . وإنما غاية طلب الشفاعة عند الله (أن يشفع نبيه فيه، وهو (قد انتقل من هذه الدار، إلى دار القرار، بنص الكتاب والسنة وإجماع الأمة. ولهذا استسقى أصحابه بعمه العباس بن عبد المطلب، وسألوه أن يدعو لهم في الاستسقاء عام القحط، أخرجه البخاري، عن أنس بن مالك (في: باب سؤال الناس الإمام الاستسقاء، إذا قحطوا; ولم يأتوا إلى قبره، ولا وقفوا عنده، مع أنه (حي في قبره حياة برزخية، أعلى من حياة الشهداء. وقد اتفق الصحابة والتابعون لهم بإحسان، على أن النبي (لا يسأل بعد موته، لا استغفارا، ولا دعاء ولا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 192 غيرهما; فإن الدعاء عبادة مبناها على التوقيف والاتباع، لا على الهوى والابتداع، ولو كان هذا من العبادة، لَسَنَّهُ رسولُ الله (، ولكان أصحابه أعلم بذلك وأتبع له. وقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً} الآية [سورة النساء آية: 64] ، فإتيانهم له (للاستغفار مخصوص بوجوده في الدنيا، ولهذا لم يفعله أحد من الصحابة ولا التابعين، مع شدة احتياجهم وكثرة مدلهماتهم، وهم أعلم بمعاني كتاب الله وسنة رسوله، وأحرص اتباعا لملته من غيرهم; بل كانوا ينهون عنه، وعن الوقوف عند القبر للدعاء عنده; منهم الإمام مالك، وأبو حنيفة، وأحمد، والشافعي; وهم من خير القرون التي قد نص (عليها في قوله: " خيركم قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم " 1 قال عمران: لا أدري أذكر اثنين أو ثلاثة بعد قرنه، رواه البخاري في صحيحه. الثالث: أنهم زعموا أنه دليل للوسيلة إلى الله تعالى بغير محمد (، فلا دليل فيه أصلا، لأنهم صرحوا بأنه لا يقاس مع فارق، فلا يجوز لنا أن نقول: اللهم إنا نسألك ونتوجه إليك برسولك نوح، يا رسول الله، يا نوح، إلى آخره، ولا أن نقول: اللهم إنا نسألك، ونتوجه إليك بخليلك إبراهيم، إلى آخره، ولا أن نقول: بكليمك موسى، ولا بروحك عيسى.   1 البخاري: الشهادات (2651) , ومسلم: فضائل الصحابة (2535) , والترمذي: الفتن (2221) , والنسائي: الأيمان والنذور (3809) , وأحمد (4/427 ,4/436) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 193 ونحن نقول: إن الجامع في نوح عليه الصلاة والسلام: الرسالة; وفي إبراهيم، عليه الصلاة والسلام: الخلة مع الرسالة; وفي موسى عليه الصلاة والسلام: الكلام مع الرسالة; وفي عيسى عليه الصلاة والسلام: كونه روح الله وكلمته، مع الرسالة; فليس لنا هذا، لأنه أولا: لم يرد، ولا حاجة لنا إلى فعل شيء لم يرد; ثانيا: إنما أبيح القياس عند من يقول به، للحاجة في حكم لم يوجد فيه نص; فإذا وجد النص، فلا يحل القياس، عند من يقول به، ولا حاجة بنا إلى قول هو مخترع، خصوصا مع ما ورد في الشرك، وأنه في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل. الرابع: أن الوسيلة ليست هي أن ينادي العبد غير الله ويطلب حاجته، التي لا يقدر على وجودها إلا الله، ممن لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا، ولا موتا، ولا حياة، ولا نشورا، {وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ} [سورة الحج آية: 73] ، بل هذا شرك بالله؛ وجعلوا دليلهم مع ما تقدم، بعد ارتكابهم أكبر المناكر، قوله ("يا عباد الله أعينوني" وقوله: "يا عباد الله احبسوا". وهذا من جملة الجهل والضلال، وإخراج المعاني عن مقاصدها، من وجوه: الأول: أن هذه ليست بوسيلة أصلا، إذ معنى الوسيلة: ما يتقرب به من الأعمال إلى الله (، وهذا ليس بقربة، لأنه ورد في أذكار السفر: أن العبد، إذا أراد عونا، بمعنى: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 194 أنه إذا أعيى من حمل متاعه، أو انفلتت دابته، فقد جعل الله عبادا من صالحي الجن أو من الملائكة، أو ممن لا يعلمه من جنده سواه {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [سورة المدثر آية: 31] ، واستعماله في كل المهمات، من أعظم الجور; وإن أراد فيما ورد الحديث به خاصة: امتثال قول رسول الله (فقد يكون بهذه الإرادة قربة. ولا دلالة فيه أن ينادي عبد القادر الجيلاني من قطر شاسع، بل ولا من عند قبره، ولا ينادي غيره، لا الأنبياء، ولا الأولياء، إنما غايته أن العبد يقول، كما قال رسول الله (: "يا عباد الله"، وإذا نادى شخصا باسمه، معينا، فقد كذب على رسول الله (ونادى من لم يؤمر بندائه، وليس ذلك في كل حركة وسكون، وقيام وقعود; وإنما أبيح له ذلك، إن أراد عونا على حمل متاعه، على الدابة، أو انفلتت. الثاني: أن الحديثين غير صحيحين; أما الأول: فرواه الطبراني في الكبير بسند منقطع، عن عتبة (وحديث: انفلات الدابة، عزاه النووي لابن السني، وفي إسناده: معروف بن حسان، قال ابن عدي: منكر الحديث; ولا دليل في الحديثين، مع ضعفهما، ولا في الحديث المتقدم قبلهما، على شيء يفعله عباد القبور، من دعائها، ورجائها، والتوكل عليها، والذبح، والنذر لها، والهتف بذكر من فيها، عند الشدائد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 195 الثالث: أن الله قال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [سورة المائدة آية: 3] ، فبعد أن أكمله بفضله ورحمته، فلا يحل لنا أن نخترع فيه ما ليس منه، ونقيس ما لا يقاس عليه. الرابع: أن الحديث الصحيح ما رواه العدل الضابط عن مثله، من غير شذوذ ولا علة، فكيف يعمل بالحديث المتكلم فيه، فيما لا يدل عليه دلالة مطابقة، ولا تضمن، ولا التزام؟! فهذا هو البهتان. الخامس: أنهم عمروا مواقفهم بذكر من يعتقدونه، ونسبوا الأفعال إليهم، وكل أحد يذكر ما وقع له من الاستغاثة بفلان، ومن أنجده، وكشف شدته، فإذا قال أحد: {فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ} [سورة يس آية: 83] ، {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} [سورة النور آية: 16] ، قامت عليه الجماعة، وقالوا: معلوم {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [سورة يونس آية: 62] . فإذا قال: نعم، وليس بيد أحد منهم ملكوت خردلة، والله يقول: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} [سورة فاطر آية: 13] . والقطمير: القشرة اللطيفة تكون على النواة {إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ} [سورة فاطر آية: 14] . فإذا كان فيهم من يدعي العلم والإنصاف، وهو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 196 واسع الصدر، يقول: هذه الآية نزلت في عباد الأصنام; فإذا قيل له: نعم، الأصنام: ود، وسواع، ونسر: أسماء رجال صالحين; وهذه الخرق على التوابيت، هي: فعل عباد الأصنام، وأسماء رجال صالحين; وقد قرر أهل العلم: أن العام لا يقصر على السبب; ولا يحل إلا أن نؤدي الأمانة. فإذا قيل: أدوا الأمانة، فإنه تعالى يقول: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ} [سورة النساء آية: 58] ، فلا نقول: هذه نزلت في مفتاح باب الكعبة، فلا نحتج بها; كذلك لا نقول: هذه نزلت في عباد الأصنام، ونفعل فعلهم، ونقول: لسنا بمشركين; وفي الأحاديث القدسية عن سيد البرية: "قال الله (: إني والجن والإنس في نبأ عظيم، أخلق ويعبد غيري، وأرزق ويشكر سواي " أخرجه الترمذي، والبيهقي في شعب الإيمان، عن أبي الدرداء (، فيجيب بأن الأمة مطبقة على هذا، والأمة لا تجتمع على ضلالة، يلزم من هذا تضليل الأمة وتسفيه الآثار. فيجاب عليه: أما إن الأمة مطبقة على هذا، فكذب على الأمة، وليست بمطبقة على هذا؛ وهذه كتب الفروع في كل مذهب، وكتب الحديث والتفسير، ليس فيها أنه يدعى غير الله (ولا يسن، ولا يستحب، ولا ينبغي، ولا يجوز، ولا يباح; بل الآيات البينات، والأحاديث، وأقوال العلماء ترشد إلى أن هذا شرك محقق; والله تعالى يقول لرسوله: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 197 أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} [سورة الأنعام آية: 151] . ويقول: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [سورة الإسراء آية: 23] . السادس: قد اختلف في التوسل إليه بشيء من مخلوقاته، فقال أبو محمد ابن عبد السلام في فتاويه: إنه لا يجوز التوسل إليه بشيء من مخلوقاته، لا الأنبياء، ولا غيرهم، وتوقف في حق نبينا (لاعتقاده أنه ورد في ذلك حديث، وأنه لم يعرف صحة هذا الحديث; وتقدم قول أبي حنيفة وأصحابه، رحمهم الله تعالى. السابع: أنهم يشترون أولادهم ممن يعتقدونه، ويجعلون له النذور، وإذا جاء المولود، جعلوا لمن ينتسب إلى ذلك المعتقد طعاما، وقد أوحى إليهم الشيطان أن يجعلوا زوايا لمن يعتقدونه، وفيها جماعة ينسبون أنفسهم إلى ذلك، كالعلوانية، والقادرية، والرفاعية، وأسماء ما أنزل الله بها من سلطان، بل قال تعالى: {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ} [سورة الحج آية: 78] ، في الكتب المنَزلة، كالتوراة، والإنجيل، وفي هذا القرآن؛ فاستبدلوا الذي هو أدنى، بالذي هو خير. وإذا مرض هذا المشترى من المعتقد، نذر أهله النذور، ولم يزل يستغيث به ليشفي سقمه، ويكشف شدته، ولم يلتزموا في فعلهم هذا أن يكون المشترى منه الولد ميتا في تلك البلدة; بل يشتري أهل مكة أولادهم من عبد القادر الجيلاني، ومن الجبرتي، المدفون في زبيد; الجزء: 2 ¦ الصفحة: 198 ويجهلون قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [سورة آل عمران آية: 6] ، فإن الشراء ممن يملك الشيء. وهذا الأمر سار في العلماء، والجهال; فهم قد غلبت عليهم العوائد، وسلبت عقولهم من تفهم المراد والمقاصد، ولم يجدوا هذا في كتاب فروع أحد من الأئمة، صانهم الله عن هذه الوصمة، فما استدلوا به مما تقدم، لا يكون دليلا على التوسل بالأموات، المعلوم حالهم أنهم في أعلى الجنان، فكيف غيرهم، ممن لا يعلم حاله، ولا يدرى أين مآله؟ أم كيف يكون دليلا على دعاء غير الله تعالى، في المهمات؟ ويقال: المراد الوسيلة، ويستدل لها بهذا؟! {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} [سورة النور آية: 16] ، وتحريف للكلم عن مواضعه. فبهذا تبين أن الشيطان اللعين نصب لأهل الشرك قبورا يعظمونها ويعبدونها أوثانا من دون الله; ثم يوحي إلى أوليائه أن من نهى عن عبادتها واتخاذها أعيادا، وجعلها" والحالة هذه" أوثانا، فقد انتقصها وغمصها حقها، وسبها; فيسعى الجاهلون المشركون في قتالهم وعقوباتهم، وما ذنبهم عند هؤلاء المشركين، إلا أنهم أمروهم بإخلاص توحيده، ونهوهم عن الشرك بأنواعه، وقالوا بتعطيله. فعند ذلك غضب المشركون، واشمأزت قلوبهم فهم لا يؤمنون، وقالوا: قد انتقصوا أهل المقامات والرتب، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 199 فاستحقوا الويل والعتب، وفي زعمهم أنهم لا حرمة لهم ولا قدر، ويسري ذلك في نفوس الجهال والطغام، وكثير ممن ينتسب إلى العلم والدين، وحب الأولياء وأتباع المرسلين. بسبب ذلك عادونا، وبالعظائم والكبائر والجرائم الغزار رمونا، ونسبوا كل قبيح إلينا، ونفروا الناس عنا وعما ندعو إليه، ووالوا أهل الشرك وظاهروهم علينا، وزعموا أنهم أولياء الله، وأنصار دينه ورسوله وكتابه. ويأبى الله ذلك: {وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ} [سورة الأنفال آية: 34] له، الموافقون له، العارفون به وبما جاء به، والعاملون به، والداعون إليه، لا المتشبعون بما لم يعطوا، اللابسون ثياب الزور، الذين يصدون الناس عن دينه وهديه وسنته {وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً} [سورة الأعراف آية: 45] . {وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} [سورة الكهف آية: 104] ، باتباعه واحترامه والعمل به، وتعظيم الأنبياء والأولياء، واحترامهم متابعتهم لهم فيما يحبونه، وتجنب ما يكرهونه; وهم: أعصى الناس لهم، وأبعدهم منهم، ومن هديهم ومتابعتهم، كالنصارى مع المسيح، واليهود مع موسى، والرافضة مع علي. وأهل التوحيد أين كانوا، أولى بهم وبمحبتهم، ونصرة طريقتهم وسنتهم، وهديهم، ومنهاجهم، وأولى بالحق قولا وعملا، من أهل الباطل؛ فالمؤمنون الجزء: 2 ¦ الصفحة: 200 والمؤمنات بعضهم أولياء بعض، والمنافقون والمنافقات، والمشركون والمشركات، بعضهم من بعض. ومن أصغى إلى كلام الله بكلية قلبه، وتدبره وتفهمه، أغناه عن اتباع الشيطان وشركه، الذي يصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وينبت النفاق في القلب، وكذلك من أصغى إليه وإلى حديث الرسول بكليته، وحدث نفسه بهما، وعمل باقتباس الهدى والعلم منه، لا من غيره، أغناه عن البدع والشرك، والآراء والتخرصات، والشطحات والخيالات، التي هي من وساوس الشيطان والنفوس، وتخيلات الهواء والبؤساء. ومن بعد عن ذلك، فلا بد أن يتعوض بما لا ينفعه، بل مضرة عليه; كما أن من عمر قلبه بمحبة الله وذكره، وخشيته والتوكل عليه، أغناه أيضا عن عشق الصور؛ وإذا خلا من ذلك، عبد هواه أي شيء استحسنه ملكه واستعبده؛ فالمعرض عن التوحيد عابد الشيطان، مشرك، شاء أم أبى، والمعرض عن السنة مبتدع، شاء أم أبى، والمعرض عن محبة الله وذكره، عابد الصور، شاء أم أبى. وفي صحيح: مسلم، عن أبي الهياج الأسدي، واسمه حيان بن حصين، قال: "قال لي علي ابن أبي طالب (: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله: أن لا أدع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 201 تمثالا إلا طمسته، ولا قبرا مشرفا إلا سويته " 1 وفي صحيحه أيضا; عن ثمامة بن شفي الهمداني قال: "كنا مع فضالة بن عبيد، بأرض الروم، فتوفى صاحب لنا، فأمر فضالة بقبره فسوي، فقال: سمعت رسول الله يأمر بتسويتها، وقد أمر به " 2 وفعله الصحابة، والتابعون، والأئمة المجتهدون. قال الشافعي، في الأم: رأيت الأئمة بمكة يأمرون بهدم ما يبنى على القبور ويؤيد الهدم، قوله: " ولا قبرا مشرفا إلا سويته " 3، وحديث جابر الذي في صحيح مسلم: "نهى (عن البناء على القبور"؛ ولأنها أسست على معصية الرسول، لنهيه عن البناء عليها، وأمره بتسويتها; فبناء أسس على معصيته، ومخالفته (، بناء غير محترم، وهو أولى بالهدم من بناء الغاصب قطعا، وأولى من هدم مسجد الضرار، المأمور بهدمه شرعا، إذ المفسدة أعظم، حماية للتوحيد; والله المستعان، وعليه التكلان، وهو حسبنا ونعم الوكيل، وصلى الله على محمد، وآله وصحبه وسلم. قال الشيخ: عبد الرحمن بن حسن رحمه الله تعالى، شرحا لكلام جده، الشيخ: محمد، رحمهما الله تعالى: بسم الله الرحمن الر حيم قوله رحمه الله تعالى: أصل دين الإسلام، وقاعدته أمران: الأول: الأمر بعبادة الله وحده لا شريك له، والتحريض على ذلك، والموالاة فيه، وتكفير من تركه.   1 مسلم: الجنائز (969) , والترمذي: الجنائز (1049) , والنسائي: الجنائز (2031) , وأبو داود: الجنائز (3218) , وأحمد (1/96 ,1/128) . 2 مسلم: الجنائز (968) , والنسائي: الجنائز (2030) , وأبو داود: الجنائز (3219) . 3 صحيح مسلم: كتاب الجنائز (969) , وسنن الترمذي: كتاب الجنائز (1049) , وسنن النسائي: كتاب الجنائز (2031) , وسنن أبي داود: كتاب الجنائز (3218) , ومسند أحمد (1/87 ,1/96 ,1/128) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 202 قلت: وأدلة هذا في القرآن أكثر من أن تحصر، كقوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} الآية [سورة آل عمران آية: 64] : أمر الله تعالى نبيه أن يدعو أهل الكتاب إلى معنى لا إله إلا الله، الذي دعا إليه العرب وغيرهم. والكلمة هي: لا إله إلا الله، ففسرها بقوله: {أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ} [سورة آل عمران آية: 64] ، فقوله: (ألا نعبد) ، فيه معنى: لا إله، وهو نفي العبادة عما سوى الله، وقوله: (إلا الله) ، هو المستثنى في كلمة الإخلاص; فأمره تعالى أن يدعوهم إلى قصر العبادة عليه وحده، ونفيها عمن سواه ومثل هذه الآية كثير، يبين أن الإلهية هي العبادة، وأنها لا يصلح منها شيء لغير الله، كما قال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [سورة الإسراء آية: 23] ، معنى قضى: أمر ووصى، قولان، ومعناهما واحد; وقوله: {أَلَّا تَعْبُدُوا} [سورة الإسراء آية: 23] ، فيه معنى: لا إله، وقوله: {إِلَّا إِيَّاهُ} [سورة الإسراء آية: 23] فيه معنى: إلا الله. وهذا هو توحيد العبادة، وهو دعوة الرسل، إذ قالوا لقومهم: {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [سورة المؤمنون آية: 32] . فلا بد من نفي الشرك في العبادة رأسا، والبراءة منه وممن فعله، كما قال تعالى، عن خليله إبراهيم عليه السلام: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي} [سورة الزخرف آية: 26"27] . فلا بد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 203 من البراءة من عبادة ما كان يعبد من دون الله. وقال عنه عليه السلام: {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [سورة مريم آية: 48] . فيجب اعتزال الشرك وأهله بالبراءة منهما، كما صرح به في قوله تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [سورة الممتحنة آية: 4] ، والذين معه هم الرسل، كما ذكره ابن جرير. وهذه الآية تتضمن جميع ما ذكره شيخنا رحمه الله، من التحريض على التوحيد، ونفي الشرك، والموالاة لأهل التوحيد، وتكفير من تركه بفعل الشرك المنافي له؛ فإن من فعل الشرك فقد ترك التوحيد؛ فإنهما ضدان لا يجتمعان، فمتى وجد الشرك انتفى التوحيد. وقد قال تعالى في حال من أشرك: {وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَاداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} [سورة الزمر آية: 8] ، فكفّره تعالى باتخاذ الأنداد، وهم الشركاء في العبادة؛ وأمثال هذه الآيات كثيرة، فلا يكون موحدا إلا بنفي الشرك، والبراءة منه، وتكفير من فعله. ثم قال رحمه الله تعالى: الثاني: الإنذار عن الشرك في عبادة الله، والتغليظ في ذلك، والمعاداة فيه، وتكفير من فعله، فلا يتم مقام التوحيد إلا بهذا ; وهو دين الرسل، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 204 أنذروا قومهم عن الشرك، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [سورة النحل آية: 36] . وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [سورة الأنبياء آية: 25] . وقال تعالى: {وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} [سورة الأحقاف آية: 21] . قوله في عبادة الله: العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة. قوله: والتغليظ في ذلك، وهذا موجود في الكتاب والسنة، كقوله تعالى: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} [سورة الذاريات آية: 50] ، {وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} [سورة الذاريات آية: 51] . ولولا التغليظ، لما جرى على النبي (وأصحابه من قريش ما جرى، من الأذى العظيم، كما هو مذكور في السير مفصلا، فإنه بادأهم بسب دينهم وعيب آلهتهم. قوله رحمه الله تعالى: والمعاداة فيه كما قال تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} [سورة التوبة آية: 5] ، والآيات في هذا كثيرة جدا، كقوله: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [سورة الأنفال آية: 39] . والفتنة: الشرك. ووسم تعالى أهل الشرك بالكفر فيما لا يحصى من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 205 الآيات، فلا بد من تكفيرهم أيضا، وهذا هو مقتضى لا إله إلا الله، كلمة الإخلاص؛ فلا يتم معناها إلا بتكفير من جعل لله شريكا في عبادته، كما في الحديث الصحيح: " من قال لا إله إلا الله، وكفر بما يعبد من دون الله، حرم ماله ودمه، وحسابه على الله " 1. فقوله: (وكفر بما يعبد من دون الله) : تأكيد للنفي، فلا يكون معصوم الدم والمال إلا بذلك، فلو شك أو تردد، لم يعصم دمه وماله. فهذه الأمور هي تمام التوحيد، لأن؛ لا إله إلا الله قيدت في الأحاديث بقيود ثقال: بالعلم، والإخلاص، والصدق، واليقين، وعدم الشك؛ فلا يكون المرء موحدا إلا باجتماع هذا كله، واعتقاده، وقبوله، ومحبته، والمعاداة فيه، والموالاة فبمجموع ما ذكره شيخنا، رحمه الله، يحصل ذلك. ثم قال رحمه الله تعالى: والمخالف في ذلك أنواع: فأشدهم مخالفة، من خالف في الجميع، فقبل الشرك واعتقده دينا، وأنكر التوحيد واعتقده باطلا، كما هو حال الأكثر؛ وسببه: الجهل بما دل عليه الكتاب والسنة، من معرفة التوحيد، وما ينافيه من الشرك والتنديد، واتباع الأهواء وما عليه الآباء، كحال من قبلهم من أمثالهم من أعداء الرسل، فرموا أهل التوحيد بالكذب والزور، والبهتان والفجور; وحجتهم: {بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} [سورة الشعراء آية: 74] .   1 مسلم: الإيمان (23) , وأحمد (3/472 ,6/394) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 206 وهذا النوع من الناس والذي بعده، قد ناقضوا ما دلت عليه كلمة الإخلاص، وما وضعت له، وما تضمنته من الدين الذي لا يقبل الله دينا سواه، وهو دين الإسلام الذي بعث الله به جميع أنبيائه ورسله، واتفقت دعوتهم عليه كما لا يخفى فيما قص الله عنهم في كتابه. ثم قال رحمه الله: ومن الناس من عبد الله وحده، ولم ينكر الشرك، ولم يعاد أهله. قلت: ومن المعلوم أن من لم ينكر الشرك، لم يعرف التوحيد، ولم يأت به، وقد عرفت أن التوحيد لا يحصل إلا بنفي الشرك، والكفر بالطاغوت المذكور في الآية. ثم قال رحمه الله تعالى: ومنهم من عاداهم ولم يكفرهم; فهذا النوع أيضا لم يأت بما دلت عليه لا إله إلا الله من نفي الشرك، وما تقتضيه من تكفير من فعله، بعد البيان إجماعا؛ وهو مضمون سورة الإخلاص، و {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [سورة الكافرون آية: 1] وقوله، في آية الممتحنة: {كَفَرْنَا بِكُمْ} [سورة الممتحنة آية: 4] ومن لم يكفر من كفر القرآن فقد خالف ما جاءت به الرسل من التوحيد، وما يوجبه. ثم قال رحمه الله: ومنهم من لم يحب التوحيد، ولم يبغضه، فالجواب: أن من لم يحب التوحيد لم يكن موحدا، لأنه هو الدين الذي رضيه الله تعالى لعباده، كما قال: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} [سورة المائدة آية: 3] ؛ فلو رضي بما رضي به الله، وعمل به لأحبه، ولا بد من المحبة، لعدم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 207 حصول الإسلام بدونها، فلا إسلام إلا بمحبة التوحيد. قال شيخ الإسلام، رحمه الله: الإخلاص: محبة الله، وإرادة وجهه؛ فمن أحب الله أحب دينه، وما لا فلا؛ وبالمحبة يترتب عليها ما تقتضيه كلمة الإخلاص من شروط التوحيد. ثم قال رحمه الله تعالى: ومنهم من لم يبغض الشرك ولم يحبه. قلت: ومن كان كذلك، فلم ينف ما نفته لا إله إلا الله من الشرك والكفر بما يعبد من دون الله، والبراءة منه، فهذا ليس من الإسلام في شيء أصلا، ولم يعصم دمه ولا ماله، كما دل عليه الحديث المتقدم. وقوله رحمه الله: ومنهم من لم يعرف الشرك ولم ينكره. قلت: من لم يعرف الشرك ولم ينكره، لم ينفه ; ولا يكون موحدا، إلا من نفى الشرك وتبرأ منه وممن فعله، وكفرهم؛ وبالجهل بالشرك لا يحصل شيء مما دلت عليه لا إله إلا الله، ومن لم يقم بمعنى هذه الكلمة ومضمونها، فليس من الإسلام في شيء، لأنه لم يأت بهذه الكلمة ومضمونها عن علم ويقين، وصدق وإخلاص، ومحبة وقبول، وانقياد; وهذا النوع، ليس معه من ذلك شيء، وإن قال لا إله إلا الله، فهو لا يعرف ما دلت عليه، ولا ما تضمنته. ثم قال رحمه الله تعالى: ومنهم من لم يعرف التوحيد ولم ينكره فأقول: هذا كالذي قبله، لم يرفعوا رأسا بما خلقوا له من الدين الذي بعحث الله به رسله وهذه الحال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 208 حال من قال الله فيهم: {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} [سورة الفرقان آية: 44] . وقوله رحمه الله: ومنهم" وهو أشد الأنواع خطرا" من عمل بالتوحيد ولم يعرف قدره، فلم يبغض من تركه ولم يكفرهم، فقوله رحمه الله: وهو أشد الأنواع خطرا، لأنه لم يعرف قدر ما عمل به، فلم يجيء بما يصحح توحيده، من القيود الثقال التي لا بد منها، لما علمت أن التوحيد يقتضي نفي الشرك، والبراءة منه، ومعاداة أهله، وتكفيرهم، مع قيام الحجة عليهم، فهذا قد يغتر بحاله، وهو لم يجيء بما عليه من الأمور التي دلت عليها كلمة الإخلاص، نفيا وإثباتا. وكذلك قوله رحمه الله: ومنهم من ترك الشرك وكرهه، ولم يعرف قدره; فهذا أقرب من الذي قبله، لكن لم يعرف قدر الشرك، لأنه لو عرف قدره لفعل ما دلت عليه الآيات المحكمات، كقول الخليل: {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي} [سورة الزخرف آية: 26"27] ، وقوله: {إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً} [سورة الممتحنة آية: 4] . فلا بد لمن عرف الشرك وتركه من أن يكون كذلك، من الولاء والبراء، من العابد والمعبود، وبغض الشرك وأهله، وعداوتهم، وهذان النوعان، هما الغالب على أحوال كثير ممن يدعى الإسلام، فيقع منهم من الجهل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 209 بحقيقته ما يمنع الإتيان بكلمة الإخلاص، وما اقتضته على الكمال الواجب الذي يكون به موحدا، فما أكثر المغرورين، الجاهلين بحقيقة الدين! فإذا عرفت أن الله كفر أهل الشرك، ووصفهم به في الآيات المحكمات، كقوله: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ} [سورة التوبة آية: 17] وكذلك السنة. قال شيخ الإسلام، رحمه الله تعالى: فأهل التوحيد، والسنة، يصدقون الرسل فيما أخبروا، ويطيعونهم فيما أمروا، ويحفظون ما قالوا، ويفهمونه، ويعملون به، وينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، ويجاهدون من خالفهم، تقربا إلى الله، وطلبا للجزاء من الله لا منهم. وأهل الجهل والغلو لا يميزون بين ما أمروا به ونهوا عنه، ولا بين ما صح عنهم، وما كذب عليهم، ولا يفهمون حقيقة مرادهم، ولا يتحرون طاعتهم، بل هم جهال لما أتوا به، معظمون لأغراضهم. قلت: ما ذكره شيخ الإسلام يشبه حال هذين النوعين الأخيرين ; بقي مسألة حدثت، تكلم بها شيخ الإسلام ابن تيمية، وهو: عدم تكفير، المعين ابتداء لسبب ذكره رحمه الله تعالى، أوجب له التوقف في تكفيره قبل إقامة الحجة عليه، قال رحمه الله تعالى: ونحن نعلم بالضرورة، أن النبي لم يشرع لأحد أن يدعو أحدا من الأموات، لا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 210 الأنبياء، ولا الصالحين، ولا غيرهم، لا بلفظ الاستغاثة، ولا بغيرها؛ كما أنه لم يشرع لأمته السجود لميت، ولا إلى ميت، ونحو ذلك، بل نعلم أنه نهى عن هذه الأمور كلها، وأن ذلك من الشرك الذي حرمه الله ورسوله (، ولكن لغلبة الجهل، وقلة العلم بآثار الرسالة في كثير من المتأخرين، لم يمكن تكفيرهم بذلك حتى يبين ما جاء به الرسول مما يخالفه، انتهى. قلت: فذكر رحمه الله تعالى ما أوجب له عدم إطلاق الكفر عليهم، على التعيين خاصة، إلا بعد البيان والإصرار فإنه قد صار أمة وحده; لأن من العلماء من كفره، بنهيه لهم عن الشرك في العبادة، فلا يمكن أن يعاملهم بمثل ما قال، كما جرى لشيخنا محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى، في ابتداء دعوته، فإنه إذا سمعهم يدعون زيدا بن الخطاب، قال: الله خير من زيد، تمرينا لهم على نفي الشرك، بلين الكلام، نظرا إلى المصلحة، وعدم النفرة، والله سبحانه أعلم، وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم. [تقرير الإلهية] وله أيضا: قدس الله روحه، ونور ضريحه، في تقرير الإلهية، ما نصه: بسم الله الرحمن الر حيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 211 المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وسلم تسليما. اعلم أن أعظم شهادة، وأفرضها على الخلق، قولا، وعملا، واعتقادا، ما شهد الله به لنفسه من اختصاصه بالإلهية، دون جميع خلقه، أزلا وأبدا، قال تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [سورة آل عمران آية: 18] . فكرر الشهادة به في هذه الآية; وأخبر أن ملائكته، وأولي العلم شهدوا له بذلك، جل وعلا; وأخبر عباده بهذه الشهادة، ودعاهم إلى أن يشهدوا له بها، قال تعالى: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً} [سورة النساء آية: 87] ، وقال تعالى: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [سورة طه آية: 8] ، وقال: {وَهُوَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ} [سورة القصص آية: 70] . وأخبر أنه بعث بهذه الشهادة الرسل جميعهم، فقال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [سورة الأنبياء آية: 25] ، فبين في هذه الآية وأمثالها كقوله: {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [سورة المؤمنون آية: 32] ، أن الإلهية هي العبادة; فإن الإله هو المألوه الذي تألهه القلوب، محبة، وتعظيما، وتذللا، وخضوعا، وتوكلا، ورغبة إليه، ورهبة، وخوفا، ورجاء، وغير ذلك من أنواع العبادة. وقال تعالى {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 212 شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} [سورة الأنعام آية: 102] ، وبين تعالى ما تضمنته هذه الشهادة من النفي والإثبات بقوله، عن خليله عليه السلام، أنه قال لأبيه وقومه: {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [سورة الزخرف آية: 26"28] . والكلمة هي: لا إله إلا الله، فعبر عنها الخليل بمعناها، فنفى ما نفته هذه الكلمة من الشرك في العبادة، بالبراءة من كل ما يعبد من دون الله، واستثنى الذي فطره، وهو الله سبحانه الذي لا يصلح من العبادة شيء لغيره، كما قال تعالى: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [سورة هود آية: 1] ، {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} [سورة هود آية: 2] ، فقوله: {أَلَّا تَعْبُدُوا} [سورة هود آية: 2] ، فيه معنى: لا إله، وقوله: {إِلَّا اللَّهَ} [سورة هود آية: 2] ، هو المستثنى في هذه الكلمة العظيمة، وفي هذه الآيات: نفي الإلهية عما سوى الله، نفيا عاما، بلا النافية للجنس، وأثبت الإلهية له وحده، دون كل ما سواه. والآيات في معنى هذه الكلمة كثيرة في القرآن، قال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [سورة الإسراء آية: 23] ، فقوله: {أَلَّا تَعْبُدُوا} [سورة الإسراء آية: 23] : نفي استحقاق العبادة لغيره، وأثبتها لنفسه بقوله: {إِلَّا إِيَّاهُ} [سورة الإسراء آية: 23] . وقال تعالى: {أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [سورة يوسف آية: 40] ، وأمر نبيه (أن يدعو أهل الكتاب إلى معنى هذه الكلمة، وما تضمنته من النفي والإثبات، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 213 فقال تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ} [سورة آل عمران آية: 64] ، فتضمنت هذه الآية معنى " لا إله إلا الله " من نفي الإلهية عما سوى الله وتفردة بالعبادة دون كل ما سواه. ومعنى: {تَعَالَوْا} [سورة آل عمران آية: 64] ، أي: هلموا وأقبلوا، إلى أن نكون نحن وأنتم في توحيد الله مجتمعين على ذلك، ثم قرر تعالى بقوله: {وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} الآية [سورة آل عمران آية: 64] . وهذه الكلمة هي التي دعا رسول الله (قريشا والعرب أن يقولوها، ويعملوا بها، وقال لهم: "قولوا لا إله إلا الله تفلحوا، كلمة تملكون بها العرب، وتدين لكم بها العجم، وتكونون بها ملوكا في الجنة " 1 فقالوا: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [سورة ص آية: 5] ، {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ} [سورة ص آية: 7] . وذلك أنهم نشؤوا في الفترة، بعد عبادة الأصنام، حين استخرجها عمرو بن لحي الخزاعي، وفرقها في القبائل، وهي الأصنام التي عبدها قوم نوح، فعبدوها، وكثرت عبادة الأوثان والأصنام; فصار عند الكعبة ثلاثمائة وستون صنما، على صورة من كانوا يعبدونه. وعبدوا اللات: والعزى، ومناة، وذا الخلصة، وغيرها مما لا يحصى كثرة، ولذلك أنكروا معنى لا إله إلا الله   1 أحمد (3/492) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 214 لما دعاهم النبي (إلى ترك عبادة ما كانوا يعبدونه من دون الله، فأبوا أن ينفوا ما نفته من عبادة الأوثان والأصنام، وأن يخلصوا العبادة لله وحده. ولمعرفتهم معنى هذه الكلمة نهوا أبا طالب عن أن يقولها عند موته، لما قال له رسول الله: " يا عم قل لا إله إلا الله، كلمة أحاج لك بها عند الله. قال له أبو جهل، وعبد الله بن أبي أمية: أترغب عن ملة عبد المطلب؟ " 1 علموا أنه لو قالها لترك عبادة غير الله، وأنكرها، لمعرفتهم ما دلت عليه من النفي والإثبات، قال الله تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} [سورة الصافات آية: 36] . وأما هذه الأمة، فلما كثر الشرك فيهم كما كثر في أولئك، وبنيت المساجد على القبور وعبدت، وبنيت المشاهد على اسم من بنيت باسمه من الصالحين وعبدت، صاروا يقولون: لا إله إلا الله، والشرك قد قام في قلوبهم، واتخذوه دينا، فأثبتوا ما نفته هذه الكلمة من عبادة غير الله، وأنكروا ما دلت عليه من الإخلاص. فعكسوا مدلول هذه الكلمة العظيمة، بكونهم أثبتوا ما نفته من الشرك، ونفوا ما أثبتته من الإخلاص الذي هو حق الله على عباده، فيقول قائلهم: لا إله إلا الله، وقد اعتقد عكس ما دلت عليه; وهذا غاية الجهل والضلال، يقول كلمة   1 البخاري: المناقب (3884) , ومسلم: الإيمان (24) , والنسائي: الجنائز (2035) , وأحمد (5/433) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 215 تتضمن النفي والإثبات، فلا يعرف ما نفت ولا ما أثبتت؛ هذا وهم فيما يقرءونه، ويقرؤونه في مذاهبهم، وما كانوا يتعاطونه من العلوم، لا يجهلون مثل هذا. وكثير منهم له في علم المعقول اليد الطولى، فسبحان الله! كيف جهلوا من ذلك ما دعت إليه الرسل من توحيد الله، ونفي الشرك الذي نهوا أممهم عنه، كما هو صريح في القرآن، لا يخفى على من له أدنى فهم إن وفق لفهمه، فوضعوا الشرك موضع التوحيد، بالقبول والعمل، ووضعوا التوحيد موضع الشرك، بالإنكار على من دعا إليه وعداوته! فبهذا يتبين لك معنى ما أخبر به النبي من قوله: " بدأ الإسلام غريبا، وسيعود غريبا كما بدا ". 1 فلا غربة للإسلام أعظم من هذه الغربة التي عليها الأكثرون في هذه القرون المتأخرة; وقد ذكر العلماء" رحمهم الله" من أهل السنة والجماعة في معنى: لا إله إلا الله، وبيان ما نفته وما أثبتته، ما يفيد العلم اليقيني بمعناها الذي أوجب الله تعالى معرفته، وما تضمنته من النفي والإثبات. قال الوزير: أبو المظفر في الإفصاح: قوله: شهادة أن لا إله إلا الله، يقتضي أن يكون الشاهد عالما بأنه لا إله إلا الله، كما قال تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [سورة محمد آية: 19] . قال: واسم الله مرتفع بعد { (إِلاَّ} [سورة محمد آية: 19] من   1 مسلم: الإيمان (145) , وابن ماجه: الفتن (3986) , وأحمد (2/389) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 216 حيث أنه الواجب له الإلهية، فلا يستحقها غيره سبحانه، قال: وجملة الفائدة في ذلك أن تعلم أن هذه الكلمة مشتملة على الكفر بالطاغوت والإيمان بالله، فإنك لما نفيت الإلهية وأثبت الإيجاب لله تعالى، كنت ممن كفر بالطاغوت وآمن بالله. قال ابن القيم رحمه الله في البدائع: فدلالتها" أي لا إله إلا الله" على إثبات الإلهية أعظم من دلالة قولنا الله إله، ولا يستريب أحد في هذا البتة. انتهى بمعناه. وقال رحمه الله: والإله هو: الذي تألهه القلوب، محبة وإجلالا، وإنابة، وإكراما، وتعظيما، وذلا، وخضوعا، وخوفا، ورجاء، وتوكلا عليه، وسؤالا منه، ودعاء له، لا يصلح ذلك كله إلا لله؛ فمن أشرك مخلوقا في شيء من هذه الأمور التي هي من خصائص الإلهية، كان ذلك قدحا في إخلاصه في قوله: لا إله إلا الله، وكان فيه من عبودية المخلوق بحسب ما فيه من ذلك، وقال: أبو عبد الله القرطبي، في تفسيره: لا إله إلا الله، أي: لا معبود إلا هو. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: الإله هو: المعبود المطاع، فإن الإله هو المألوه، والمألوه هو: الذي يستحق أن يعبد، وكونه يستحق هو، بما اتصف به من الصفات التي تستلزم أن يكون هو المحبوب غاية الحب، المخضوع له غاية الخضوع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 217 وقال رحمه الله تعالى: فإن الإله هو: المحبوب، المعبود الذي تألهه القلوب بحبها، وتخضع له، وتذل له، وتخافه، وترجوه، وتنيب إليه في شدائدها، وتدعوه في مهماتها، وتتوكل عليه في مصالحها، وتلجأ إليه، وتطمئن بذكره، وتسكن إلى حبه، وليس ذلك إلا لله وحده، وبهذا كانت لا إله إلا الله أصدق الكلام، وكان أهلها هم أهل الله وحزبه; والمنكرون لها أعداؤه، وأهل غضبه ونقمته. فإذا صحت، صح بها كل مسألة وحال وذوق، وإذا لم يصححها العبد، فالفساد لازم له في علومه وأعماله. وقال البقاعي: لا إله إلا الله، أي: انتفى انتفاء عظيما أن يكون معبودا بحق، غير الملك الأعظم; فإن هذا العلم، هو: أعظم الذكرى المنجية من أهوال الساعة ; وإنما يكون علما إذا كان نافعا، وإنما يكون نافعا إذا كان مع الإذعان والعمل بما تقتضيه; وإلا فهو جهل صرف ; وهذا الذي ذكرناه عن شيخ الإسلام والبقاعي، هو: الموجود في كلام أهل السنة جميعهم. إذا عرفت ذلك فمما يدل على غربة الإسلام ما أخبر به النبي (من وقوع الشرك في هذه الأمة، كما في الصحيح من حديث ثوبان: " وحتى تعبد فئام من أمتي الأوثان ". وأخرج أبو داود عن عبد الله بن مسعود، عن النبي (أنه قال: " تدور رحى الإسلام لخمس وثلاثين، أو ست وثلاثين، أو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 218 سبع وثلاثين، فإن يهلكوا، فسبيل من هلك، وإن يقم لهم دينهم، يقم تسعين عاما. قال: قلت: أمما بقي، أو مما مضى؟ قال: مما مضى " 1. ومما يبين غربة الإسلام وشدتها، ما جرى من الملوك والقضاة والرؤساء على شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، من العداوة والحبس، وشدة الإنكار عليه، لما دعاهم إلى ما تضمنته لا إله إلا الله، ومعناها الذي تقدم عنه وعن أمثاله من العلماء; وقد ردوا عليه بشبهات واهية، وضلالات في الضلال متناهية; رد عليهم رحمه الله تعالى في: منهاج السنة، واقتضاء الصراط المستقيم، وكتاب الاستغاثة في الرد على ابن البكري; ورد على أهل البدع جميعهم من الفلاسفة والمتكلمين، كالجهمية، والمعتزلة، والأشاعرة. وذكر رحمه الله أن هؤلاء كلهم، وإن كثرت أبحاثهم ومصنفاتهم، فما منهم من يعرف ما دلت عليه كلمة الإخلاص: " لا إله إلا الله "؛ فلم يعرفوا التوحيد الذي أثبتته، ولا الشرك الذي نفته؛ هذا معنى كلامه ولتلميذه العلامة ابن القيم، في بيان أنواع التوحيد والرد على أهل البدع، المصنفات الكثيرة المفيدة؛ فمن أحسنها: إغاثة اللهفان، وكتاب: الصواعق المرسلة في الرد على الجهمية والمعطلة. وللحافظ ابن عبد الهادي: الصارم المنكي في الرد   1 أبو داود: الفتن والملاحم (4254) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 219 علي السبكي ولهم أصحاب كثير أخذوا عنهم; فلما طال الأمد بعدهم صارت كتبهم في أيدي أناس جهلة، وفي خزائن الكتب الموقوفة، فلم يلتفتوا إليها، فرجعوا إلى ما كان عليه من قبلهم ممن مضى من المبتدعة، وكثر الشرك في القرى والأمصار; وصاروا لا يعرفون من التوحيد إلا ما تدعيه الأشاعرة من تأويل صفات الرب والإلحاد فيها، فصاروا كذلك حتى نسي العلم، وعم الشرك والبدع، إلى منتصف القرن الثاني عشر، فإنه لا يعرف إذ ذاك عالم أنكر شركا أو بدعة مما صار في آخر هذه الأمة. فشرح الله صدر شيخنا، فضلا من الله ونعمة عظيمة منَّ بها تعالى في آخر هذا الزمان، فعرف من الحق ما عرف شيخ الإسلام ابن تيمية وأصحابه، بتدبره الآيات المحكمات، وصحيحي البخاري ومسلم، والسن، والمسانيد، والآثار، ومعرفة ما كان عليه رسول الله (والتابعون، وأتباعهم، وما عليه سلف الأمة وأئمتها، والأئمة من أهل الحديث والتفسير، والفقهاء كالأئمة الأربعة ومن أخذ عنهم، فتبين له التوحيد وما ينافيه، والسنة وما يناقضها. فدعا الناس من أهل قريته وما قرب منها أن يتركوا عبادة أرباب القبور والطواغيت، وعبادة الأشجار والأحجار، والذبح للجن، ونحو ذلك; وكل هذا قد وقع في قرى نجد وغيرها كالبوادي؛ فلما أنكر ذلك كرهوا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 220 ذلك منه، وطرده أهل قريته عنها، وهي: حريملا، وصار في العيينة يدعو إلى دين الإسلام، وينهى عن الشرك وعبادة الأوثان، وقبل ذلك طائفة منهم ومن أهل الدرعية; ثم بعد ذلك ضاق نطاق أمير العيينة لما رآه قد أنكر قوله الخلق الكثير والجم الغفير، وقد نصب له العداوة أهل القرى والأمصار، والبادي والحاضر، فأمره أن ينتقل من بلده عنه. وصار في الدرعية عند محمد بن سعود وأولاده وإخوانه، وبعض الأعيان من جماعته؛ فصار لهم قبول لهذه الدعوة، فصبروا على عداوة الناس قريبهم وبعيدهم، وكل قصدهم بالحرب، فثبتهم الله على قلتهم وكثرة من خالقهم، وقتل من قتل من أعيانهم، فصبروا، وصارت الحرب بينهم سجالا، والله يحميهم ويقوي قلوبهم؛ وما جرى بينهم وبين عدوهم، مذكور في التاريخ. فأظهر الله هذا الدين في نجد، والبادية، حتى لم يكن فيهم من ينازع ويجادل، لأن الله أبطل كل شبهة، بما أبداه هذا الشيخ ببيانه، ومصنفاته التي صارت في أيدي المسلمين; وانتشرت دعوته في الأمصار، وقبلها القليل منهم ممن له التفات إلى ما ينفعه، بخلاف من لم يرفع بذلك رأسا، ولم يقبل هدى الله، وهم الأكثرون، فلله الحمد على هذه النعمة العظيمة، فيا سعادة من هدي إلى معرفة حقيقة دين الإسلام واتبعه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 221 وقد وجدت للعلامة ابن القيم رحمه الله كلاما في الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة، يتعين نقله هنا، لعظيم فائدته، وشدة الحاجة إليه، قال رحمه الله تعالى: فصل: عظيم النفع، جليل القدر; ينتفع به: من عرف نوعي التوحيد القولي العلمي الخبري والتوحيد القصدي الإرادي العملي، كما دل على الأول سورة: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [سورة الإخلاص آية: 1] ، وعلى الثاني سورة: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [سورة الكافرون آية: 1] . وكذلك دل على الأول، قوله: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ} الآية [سورة البقرة آية: 136] ، وعلى الثاني: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً} [سورة آل عمران آية: 64] ، ولهذا كان النبي (يقرأ بهاتين السورتين في سنة الفجر وسنة المغرب; ويقرأ بهما في ركعتي الطواف; ويقرأ بالآيتين في سنة الفجر، لتضمنهما التوحيد العلمي والعملي. والتوحيد العلمي أساسه: إثبات الكمال للرب، ومباينته لخلقه، وتنْزيهه عن العيوب والنقائص، والتمثيل; والتوحيد العملي أساسه: تجريد القصد بالحب، والخوف، والرجاء، والتوكل، والإنابة، والاستعانة، والاستغاثة، والعبودية بالقلب، واللسان، والجوارح، لله وحده. ومدار ما بعث الله به رسله وأنزل به كتبه، على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 222 هذين التوحيدين؛ وأقرب الخلق إلى الله: أقومهم بهما علما وعملا; ولهذا كانت الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أقرب الخلق إلى الله؛ وأقربهم إليه وسيلة، أولو العزم؛ وأقربهم الخليلان؛ وخاتمهم: سيد ولد آدم، وأكرمهم على الله، لكمال عبوديته وتوحيده. فهذان الأصلان هما قطب رحى الدين، وعليهما مداره، وبيانهما من أهم الأمور; والله سبحانه بينهما غاية البيان، بالطرق العقلية والنقلية، والفطرية والنظرية، والأمثال المضروبة؛ ونوع سبحانه الطرق بإثباتهما كل التنويع، بحيث صار معرفة القلوب الصحيحة والفطر السليمة لهما بمنْزلة: رؤية العين المبصرة التي لا آفة بها، للشمس، والقمر، والنجوم، والأرض والسماء، فذلك للبصيرة، بمنْزلة هذه للبصر. فإن تسلط التأويل على التوحيد الخبري، العلمي كان تسليطه على التوحيد العملي القصدي أسهل، وانمحت رسوم التوحيد، وقامت معالم التعطيل والشرك; ولهذا كان الشرك والتعطيل متلازمين، لا ينفك أحدهما عن صاحبه ; وإمام المعطلين المشركين: فرعون، فهو إمام كل معطل ومشرك إلى يوم القيامة، كما أن إمام الموحدين: إبراهيم، ومحمد عليهما السلام. وقال أيضا لما ذكر سبب عبادة الأصنام التي صورها قوم نوح، على صور الصالحين; وما زال الشيطان يوحي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 223 إلى عباد القبور ويلقي إليهم أن البناء والعكوف عليها، من محبة أهل القبور من الأنبياء والصالحين، وأن الدعاء عندها مستجاب، ثم ينقلهم من هذه المرتبة إلى الدعاء بالمقبور والإقسام به على الله; فإن شأن الله أعظم من أن يقسم به عليه، أو يسأل بأحد من خلقه; فإذا تقرر ذلك عندهم، نقلهم منه إلى دعائه، وعبادته، وسؤاله الشفاعة، واتخاذ قبره وثنا تعلق عليه القناديل والستور، ويطاف به ويستلم ويقبل، ويحج إليه ويذبح عنده. فإذا تقرر ذلك عندهم، نقلهم منه إلى دعاء الناس إلى عبادته، واتخاذه عيدا ومنسكا; ورأوا أن ذلك أنفع لهم في دنياهم وأخراهم؛ وكل هذا قد علم بالاضطرار من دين الإسلام، أنه مضاد لما بعث الله به رسوله (من تجريد التوحيد، وألا يعبد إلا الله. فإذا تقرر ذلك عندهم، نقلهم منه إلى أن من نهى عن ذلك فقد تنقص أهل الرتب العالية، وحطهم عن منْزلتهم، وزعم أنه لا حرمة لهم، ولا قدر، وغضب المشركون واشمأزت قلوبهم، كما قال تعالى: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [سورة الزمر آية: 45] . وسرى ذلك في نفوس كثير من الجهال والطغام، وكثير ممن ينتسب إلى العلم والدين، حتى عادوا أهل التوحيد ورموهم بالعظائم، ونفروا الناس عنهم، ووالوا أهل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 224 الشرك وعظموهم، وزعموا أنهم أولياء الله، وأنصار دينه ورسوله؛ ويأبى الله ذلك {وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ} [سورة الأنفال آية: 34] . انتهى كلامه، رحمه الله تعالى. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [سورة الحج آية: 73"74] . فتأمل هذا المثل الذي أمر الناس كلهم باستماعه" فمن لم يسمعه فقد عصى أمره" كيف تضمن إبطال الشرك وأسبابه، بأصح برهان، وأوجز عبارة وأحسنها وأحلاها، وسجل على جميع آلهة المشركين أنهم لو اجتمعوا كلهم في صعيد واحد، وساعد بعضهم بعضا، وعاونه بأبلغ المعاونة، لعجزوا عن خلق ذباب واحد؛ ثم بين ضعفهم وعجزهم عن استنقاذ ما يسلبه الذباب إياه، فأي إله أضعف من هذا الإله المطلوب، ومن عابده الطالب، فهل قدر القوي العزيز حق قدره من أشرك معه آلهة هذا شأنها؟ فأقام سبحانه حجة التوحيد، وبين إفك أهل الشرك والإلحاد، بأعذب الألفاط وأحسنها، لم يعترها غموض، ولم يشبها تطويل، ولم يعبها تعقيد، ولم يزر بها زيادة ولا تنقيص؛ بل بلغت في الحسن والفصاحة والإيجاز، ما لا يتوهم متوهم، ولا يظن ظان، أن يكون أبلغ في معناها منها، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 225 وتحتها من المعنى الجليل العظيم الشريف، البالغ في النفع، ما هو أجل من الألفاظ; انتهى، والله أعلم، وصلى الله على محمد. [معنى حديث من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله] وسئل: أيضا، قدس الله روحه، ونور ضريحه عما في الصحيح عن النبي (أنه قال: " من قال لا إله إلا الله، وكفر بما يعبد من دون الله، حرم ماله ودمه، وحسابه على الله " 1. فأجاب: اعلم أن لا إله إلا الله هي: كلمة الإسلام، ومفتاح دار السلام، وهي العروة الوثقى، وكلمة التقوى؛ وهي الكلمة التي جعلها إبراهيم الخليل، عليه السلام باقية في عقبه لعلهم يرجعون; ومعناها: نفي الشرك في الإلهية عما سوى الله، وإفراد الله تعالى بالإلهية. والإلهية هي: تأله القلب بأنواع العبادة، كالمحبة، والخضوع، والذل، والدعاء، والاستعانة، والرجاء، والخوف، والرغبة، والرهبة، وغير ذلك من أنواع العبادة التي ذكر الله في كتابه العزيز، أمرا وترغيبا للعباد، أن يعبدوا بها ربهم وحده. وهي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه، من الأقوال والأعمال، الظاهرة والباطنة؛ وكل فرد من أفراد العبادة لا يستحق أن يقصد به إلا الله وحده؛ فمن صرفه لغير الله فقد أشركه في حق الله، الذي لا يصلح لغيره، وجعل له أندادا.   1 مسلم: الإيمان (23) , وأحمد (3/472 ,6/394) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 226 وقد عمت البلوى بهذا الشرك الأكبر، بأرباب القبور والأشجار والأحجار، واتخذوا ذلك دينا، زعموا أن الله يحب ذلك ويرضاه، وهو: الشرك الذي لا يغفره الله، كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} الآية [سورة النساء آية: 48] . وقال تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} [سورة المائدة آية: 72] . وقال في معنى هذا التوحيد: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [سورة الإسراء آية: 23] ، أي: أمر ووصى; وهذا معنى: لا إله إلا الله; فقوله: {أَلَّا تَعْبُدُوا} [سورة الإسراء آية: 23] ، هو معنى: لا إله، في كلمة الإخلاص، وقوله: (إلا إياه) ، هو معنى الاستثناء، في لا إله إلا الله، ونظائر هذه الآية في القرآن كثير، كما سنذكر بعضه. وقال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} [سورة الجن آية: 18] ، وهذا نهي عام يتناول كل مدعو، من ملك، أو نبي، أو غيرهما، فإن: {أَحَداً} [سورة الجن آية: 18] نكرة في سياق النهي، وهي تعم؛ وأمثال هذه الآية كثير، كقوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً} [سورة الجن آية: 20] . وفي حديث معاذ الذي في الصحيحين: " فإن حق الله على العباد: أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا " 1، وفيهما أيضا: " من مات وهو يدعو لله ندا، دخل النار " 2. وإخلاص العبادة لله تعالى هو: التوحيد الذي   1 البخاري: الجهاد والسير (2856) , ومسلم: الإيمان (30) , والترمذي: الإيمان (2643) , وابن ماجه: الزهد (4296) , وأحمد (3/260 ,5/236 ,5/242) . 2 البخاري: تفسير القرآن (4497) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 227 جحده المشركون قديما وحديثا ولما قال رسول الله لقومه وغيرهم من أحياء العرب: " قولوا: لا إله إلا الله، تفلحوا " 1 قالوا: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلاقٌ} [سورة ص آية: 5"7] . فعرفوا معنى لا إله إلا الله، وأنه توحيد العبادة، لكن جحدوه، كما قال عن قوم هود: {أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ} [سورة الأعراف آية: 70] . وقال تعالى عن مشركي هذه الأمة: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} [سورة الصافات آية: 35"36] . عرفوا أن المراد من لا إله إلا الله ترك الشرك في العبادة، وأن يتركوا عبادة ما سواه مما كانوا يعبدونه من ملك، أو نبي، أو شجر، أو حجر، أو غير ذلك. فإخلاص العبادة لله هو: أصل دين الإسلام الذي بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه، وهو سر الخلق، قال تعالى لنبيه: {قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ} [سورة الرعد آية: 36] ، وقال تعالى: {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [سورة لقمان آية: 22] ، فإسلام الوجه هو: إخلاص الأعمال الباطنة والظاهرة كلها لله تعالى. وهذا هو توحيد الإلهية، وتوحيد العبادة، وتوحيد القصد   1 أحمد (3/492) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 228 والإرادة; ومن كان كذلك فقد استمسك بالعروة الوثقى، وهي: لا إله إلا الله; فإن مدلولها نفي الشرك، وإنكاره، والبراءة منه، وإخلاص العبادة لله وحده، وهو معنى قول الخليل عليه السلام: {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [سورة الأنعام آية: 79] . وهذا هو الإخلاص الذي هو دين الله، الذي لم يرض لعباده دينا سواه كما قال تعالى: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [سورة الزمر آية: 2"3] ، والدين هو: العبادة، وقد فسّره أبو جعفر بن جرير في تفسيره بالدعاء; وهو بعض أفراد العبادة، كما في السنن من حديث أنس: " الدعاء مخ العبادة " 1، وحديث النعمان بن بشير: " الدعاء هو العبادة " 2 أي: معظمها، وذلك أنه يجمع من أنواع العبادة، أمورا سنذكرها، إن شاء الله تعالى. وقال تعالى: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ} [سورة الزمر آية: 11] . وقال: {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي} [سورة الزمر آية: 14] . وقال تعالى: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [سورة غافر آية: 14] . والدعاء في هذه الآية هو الدعاء بنوعيه: دعاء العبادة، ودعاء المسألة. وقال: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [سورة البينة آية: 5] ، والحنيف هو: الراغب عن الشرك، المنكر له؛ وقد فسّره ابن القيم، رحمه الله، بتفسير شامل   1 الترمذي: الدعوات (3371) . 2 الترمذي: تفسير القرآن (3247) , وابن ماجه: الدعاء (3828) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 229 المدلول: لا إله إلا الله، فقال: الحنيف المقبل على الله، المعرض عن كل ما سواه، وهذا التوحيد هو الذي أنكره أعداء الرسل، من أولهم إلى آخرهم. وقد بين تعالى ضلالهم بالشرك، كما قال تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَيَاةً وَلا نُشُوراً} [سورة الفرقان آية: 3] . وقال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [سورة الأحقاف آية: 4] ، وهذا المذكور في هذه الآية هو: توحيد الربوبية، ومشركوا العرب، والأمم لم يجحدوه بل أقروا به لله، فصار حجة عليهم فيما جحدوه من الإلهية. ولهذا قال بعد هذه الآية: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} [سورة الأحقاف آية: 5] . وقال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} [سورة الحج آية: 71] . والآيات في هذا المعنى كثيرة جدا، بل القرآن من أوله إلى آخره يدل على هذا التوحيد، مطابقة، وتضمنا، والتزاما. وهو الدين الذي بعث به المرسلين، من أولهم إلى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 230 آخرهم، كما قال تعالى: {وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} [سورة الأحقاف آية: 21] ، فدلت هذه الآية وما قبلها على أن الله تعالى إنما أراد من عباده أن يخلصوا له العبادة، وهي أعمالهم، ونهاهم أن يجعلوا له شريكا في عباداتهم وإراداتهم، التي لا يستحقها غيره، كما تقدم، قال تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} [سورة النساء آية: 36] . وقال تعالى: {فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ} [سورة الحج آية: 34] . وقال تعالى: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [سورة الحج آية: 26] ، والمراد: تطهيره عن الشرك في العبادة، ولهذا قال تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [سورة الحج آية:30"31] . وقد بين الله تعالى في مواضع من القرآن، معنى كلمة الإخلاص: لا إله إلا الله، ولم يكل عباده في بيان معناها إلى أحد سواه، وهو صراطه المستقيم، كما قال تعالى: {وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} ، [سورة يس آية: 61] وقال تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 231 فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} ، فعبر عن معنى: لا إله، بقوله: {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ} [سورة الزخرف آية: 26] ، وعبر عن معنى: إلا الله، بقوله: {إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي} [سورة الزخرف آية: 27] . فتبين أن معنى لا إله إلا الله، هو: البراءة من عبادة كل ما سوى الله، وإخلاص العبادة بجميع أنواعها لله تعالى، كما تقدم; وهذا واضح بين لمن جعل الله له بصيرة، ولم تتغير فطرته، ولا يخفى إلا على من عميت بصيرته، بالعوائد الشركية، وتقليد من خرج من الصراط المستقيم، من أهل الأهواء والبدع والضلال {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [سورة النور آية: 40] . وقال تعالى في بيان معناها: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} [سورة آل عمران آية: 64] . والمعنى: أي بعض كان من نبي أو غيره، كالمسيح ابن مريم، والعزير، ونحوهما; وفي قوله: {أَلَّا نَعْبُدَ} [سورة آل عمران آية: 64] ، معنى: لا إله، وقوله: إلا الله، هو المستثنى في كلمة الإخلاص. وهذا التوحيد هو الذي دعا إليه النبي (أهل الكتاب وغيرهم من الإنس والجن، كما قال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [سورة يوسف آية: 108] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 232 وقد قال تعالى في معنى هذه الكلمة عن أصحاب الكهف: {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ} [سورة الكهف آية: 16] ، ففي قوله: {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ} [سورة الكهف آية: 16] ، معنى لا إله، وقوله: {إِلَّا اللَّهَ} [سورة الكهف آية: 16] ، هو المستثنى في كلمة الإخلاص، وقال تعالى: {وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا} [سورة الكهف آية: 14] ، إلى قوله: {لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهاً} [سورة الكهف آية: 14] . فتقرر بهذا أن الإلهية هي: العبادة ; وأن من صرف شيئا لغير الله فقد جعله لله ندا، والقرآن كله في تقرير معنى لا إله إلا الله، وما تقتضيه وما تستلزمه، وذكر ثواب أهل التوحيد وعقاب أهل الشرك. ومع هذا البيان الذي ليس فوقه بيان، كثر الغلط في المتأخرين من هذه الأمة في معنى هذه الكلمة، وسببه: تقليد المتكلمين الخائضين فظن بعضهم أن معنى لا إله إلا الله: إثبات وجود الله تعالى، ولهذا قدروا الخبر المحذوف في: لا إله إلا الله، وقالوا: لا إله موجود، إلا الله ; ووجوده تعالى قد أقر به المشركون الجاحدون لمعنى هذه الكلمة. وطائفة ظنوا أن معناها: قدرته على الاختراع. وهذا معلوم بالفطرة، وما يشاهد من عظيم مخلوقات الله تعالى كخلق السماوات والأرض، وما فيهما من عجائب المخلوقات; وبه استدل الكليم موسى عليه الصلاة والسلام على فرعون، لما قال: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ} [سورة الشعراء آية: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 233 23"26] . وفي سورة بني إسرائيل: {قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ} [سورة الإسراء آية: 102] . ففرعون يعرف الله، ولكن جحده مكابرة وعنادا. وأما غير فرعون من أعداء الرسل، من قومهم، ومشركي العرب، ونحوهم، فأقروا بوجود الله تعالى وربوبيته، كما قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} . [سورة الزخرف آية: 9] . وقال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [سورة الزخرف آية: 87] ، فلم يدخلهم ذلك في الإسلام، لما جحدوا ما دلت عليه لا إله إلا الله من إخلاص العبادة بجميع أفرادها لله وحده. وفي الحديث الصحيح: " من مات وهو يدعو لله ندا دخل النار " 1، وتقدم قول قوم هود: {أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ} [سورة الأعراف آية: 70] ، دليل على أنهم أقروا بوجوده وربوبيته، وأنهم يعبدونه، لكنهم أبوا أن يجردوا العبادة لله وحده دون آلهتهم التي كانوا يعبدونها معه. فالخصومة بين الرسل وأممهم، ليست في وجود الرب، وقدرته على الاختراع فإن الفطر والعقول دلتهم على وجود الرب، وأنه رب كل شيء ومليكه، وخالق كل شيء، والمتصرف في كل شيء; وإنما كانت الخصومة في ترك ما كانوا يعبدونه من دون الله، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ   1 البخاري: تفسير القرآن (4497) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 234 أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ} [سورة هود آية: 25"26] . وقال تعالى: {وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [سورة العنكبوت آية: 16] ، {إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [سورة العنكبوت آية: 17] ، {وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [سورة العنكبوت آية: 18] . فالشرك في العبادة هو الذي عمت به البلوى في الناس، قديما وحديثا، كما قال تعالى: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ} [سورة الروم آية: 42] . وقد أخبر النبي (أن هذه الأمة تأخذ مأخذ القرون قبلها، شبرا بشبر، وذراعا بذراع، ولهذا أنكر كثير من أعداء الرسل في هذه الأزمنة، وقبلها، على من دعاهم إلى إخلاص العبادة لله وحده وجحدوا ما جحدته الأمم المكذبة من التوحيد; واقتدوا بمن سلف من أعداء الرسل، في مسبتهم من دعاهم إلى إخلاص العبادة لله، ونسبته إلى الخطأ والضلال، كما رأينا ذلك في كلام كثير منهم، كـ " ابن كمال " المشهور بالشرك والضلال، وقد كمل في جهله وضلاله، وأتى في كلامه بأمحل المحال. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 235 وقد اشتهر عنه بأخبار الثقات أنه يقول: عبد القادر في قبره، يسمع، ومع سمعه ينفع؛ وما يشعره أنه في قبره الآن رفات، كحال الأموات، وهذا قول شنيع، وشرك فظيع; ألا ترى أن الحي الذي قد كملت قوته، وصحت حاسة سمعه وبصره، لو ينادى من مسافة فرسخ أو فرسخين، لم يمكنه سماع نداء من ناداه; فكيف يسمع ميت من مسافة شهر أو شهرين، أو دون ذلك أو أكثره، وقد ذهبت قوته، وفارقته روحه، وبطلت حواسه؟ هذا من أعظم ما تحيله العقول، وتنكره الفطر. وفي كتاب الله (ما يبطله، قال الله تعالى: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [سورة فاطر آية: 13"14] ، فأخبر الخبير جل وعلا أن سماعهم ممتنع، واستجابتهم لمن دعاهم ممتنعة. فهؤلاء المشركون لما استغرقوا في الشرك، ونشؤوا عليه، أتوا في أقوالهم بالمستحيل، ولم يصدقوا الخبير في إخباره، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [سورة فاطر آية: 13] ، فذكره تعالى أنهم أموات دليل على بطلان دعوتهم، وكذلك عدم شعورهم، يبين تعالى بهذا جهل المشرك، وضلاله، فأحق في كتابه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 236 الحق، وأبطل الباطل، ولو كره المشركون. لكن هؤلاء لما عظم شركهم نزلوا الأموات في علم الغيب، منْزلة علام الغيوب، الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وشبهوهم برب العالمين، سبحانه وتعالى عما يشركون; قال الله تعالى: {أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ} [سورة الأعراف آية: 191 192] . وليس عند هؤلاء الملاحدة ما يصدون به العامة عن أدلة الكتاب والسنة، التي فيها النهي عن الشرك في العبادة إلا قولهم: قال أحمد بن حجر الهيتمي، قال فلان، وقال فلان: يجوز التوسل بالصالحين، ونحو ذلك من العبارات الفاسدة. فنقول: هذا وأمثاله ليسوا بحجة تنفع عند الله وتخلصكم من عذابه، بل الحجة ما في كتاب الله وسنة رسوله الثابتة عنه، وما أجمع عليه سلف الأمة وأئمتها. وما أحسن ما قال الإمام مالك رحمه الله: وكلما جاءنا رجل أجدل من رجل، نترك ما نزل به جبرائيل على محمد لجدله؟! إذا عرف ذلك فالتوسل يطلق على شيئين ; فإن كان ابن حجر وأمثاله أرادوا سؤال الله بالرجل الصالح، فهذا ليس في الشريعة ما يدل على جوازه؛ ولو جاز، لما ترك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 237 الصحابة السابقون الأولون، من المهاجرين والأنصار، رضي الله عنهم، التوسل بالنبي (بعد وفاته، كما كانوا يتوسلون بدعائه في حياته إذا قحطوا. وثبت عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب أنه خرج بالعباس بن عبد المطلب، عام الرمادة، بمحضر من السابقين الأولين، يستسقون، فقال عمر: (اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا، فاسقنا، ثم قال: ارفع يديك يا عباس، فرفع يديه يسأل الله تعالى) ; ولم يسأله بجاه النبي ولا بغيره; ولو كان هذا التوسل حقا، كانوا إليه أسبق، وعليه أحرص. فإن كانوا أرادوا بالتوسل دعاء الميت، والاستشفاع به، فهذا هو شرك المشركين بعينه; والأدلة على بطلانه في القرآن كثيرة جدا، فمن ذلك قوله تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [سورة الزمر آية: 43"44] . فالذي له ملك السماوات والأرض، هو الذي يأذن في الشفاعة، كما قال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [سورة البقرة آية: 255] . وقال تعالى: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [سورة النجم آية: 26] ، وهو لا يرضى إلا الإخلاص في الأقوال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 238 والأعمال، الباطنة والظاهرة، كما صرح به النبي في حديث أبي هريرة وغيره; وأنكر تعالى على المشركين اتخاذ الشفعاء، فقال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [سورة يونس آية: 18] . فبين تعالى في هذه الآية أن هذا هو شرك المشركين، وأن الشفاعة ممتنعة في حقهم، لما سألوها من غير وجهها، وأن هذا شرك، نزه نفسه عنه، بقوله تعالى: {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} فهل فوق هذا البيان بيان; وقال تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} [سورة الزمر آية: 3] ، فكفرهم بطلبهم من غيره أن يقربوهم إليه. وقد تقدم بعض الأدلة على النهي عن دعوة غير الله، والتغليظ في ذلك، وأنه في غاية الضلال، وأنه شرك بالله، وكفر به، كما قال تعالى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [سورة المؤمنون آية: 117] . فمن أراد النجاة: فعليه بالتمسك بالوحيين، اللذين هما حبل الله، وليدع عنه بنيات الطريق، كما قال تعالى: {وَأَنَّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 239 هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [سورة الأنعام آية: 153] ، وقد مثل النبي الصراط المستقيم، وخط خطوطا عن يمينه وعن شماله، وقال: " هذه هي السبل، وعلى كل سبيل شيطان يدعو إليه " 1 والحديث في الصحيح وغيره، عن عبد الله بن مسعود، وكل من زاغ عن الهدى، وعارض أدلة الكتاب والسنة بزخرف أهل الأهواء، فهو شيطان. فصل: والعاقل، إذا تأمل ما عارض به أولئك الدعاة إلى الشرك بالله في عبادته، كابن كمال وغيره، من دعا الناس إلى إخلاص العبادة لله وحده لا شريك له، فالعاقل يعلم أن معارضتهم قد اشتملت على أمور كثيرة: الأمر الأول: أنهم أنكروا ما جاءت به الرسل من توحيد العبادة، وما نزلت فيه الكتب الإلهية من هذا التوحيد؛ فهم في الحقيقة إنما عارضوا الرسل والكتب المنْزلة عليهم من عند الله. الأمر الثاني: تضمنت معارضتهم قبول الشرك الأكبر ونصرته، وهو الذي أرسل الله رسله وأنزل كتبه بالنهي عنه، وقد خالفوا جميع الرسل والكتب، فهم في الحقيقة قد أنكروا على من دان بهذا التوحيد، ودعا إليه من الأولين والآخرين.   1 أحمد (1/435) , والدارمي: المقدمة (202) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 240 وقد تضمنت معارضتهم أيضا مسبة من دعا إلى التوحيد وأنكر الشرك، أسوة أعداء الرسل، كقوم نوح إذ قالوا: {إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [سورة الأعراف آية: 60] ، وقال قوم هود: {إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [سورة الأعراف آية: 66] ، وقول من قال من مشركي العرب، للنبي: {إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْماً وَزُوراً} [سورة الفرقان آية: 4] ، فالظلم والزور في كلام هؤلاء المنكرين للتوحيد أمر ظاهر، يعرفه كل عاقل منصف، فقد تناولت مسبتهم: كل من دعا إلى الإسلام وعمل به، من الأولين والآخرين، كما أن من كذب رسولا، بما جاء به من الحق، فقد كذب المرسلين، كما ذكره الله تعالى في قصص الأنبياء؛ فمن أنكر ما جاءت به الرسل، فهو عدو لهم. الأمر الرابع: وتضمنت معارضتهم أيضا الكذب، والإفك، والبهتان، وزخرف القول في ذلك، أسوة أعداء الرسل، الذين قال الله فيهم: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً} [سورة الأنعام آية: 112] ، فهذه حال كل داعية إلى الشرك بالله، في عبادته، من الأولين والآخرين، فإذا تأمل اللبيب ما زخرفوه وأتوا به من الفشر والأكاذيب، وجدها كما قال تعالى: {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 241 [سورة النور آية: 39] . والأمر الخامس: معارضة أولئك للآيات المحكمات البينات التي هي في غاية البيان والبرهان، وبيان ما ينافي التوحيد من الشرك والتنديد، فعارضوا بقول أناس من المتأخرين لا يجوز الاعتماد عليهم في أصول الدين؛ فيقولون: قال ابن حجر الهيتمي، قال البيضاوي، قال فلان، ولا ريب أن الزمخشري وأمثاله من المعطلة أعلم من هؤلاء، وأدرى في فنون العلم، لكنهم أخطؤوا كخطأ هؤلاء، وفي تفسير الزمخشري من دسائس الاعتزال ما لا يخفى، وليسوا بأعلم منه. وعلى كل حال فليسوا بحجة يعارض بها نصوص الكتاب والسنة، وما عليه سلف الأمة وأئمتها من الدين الحنيف، الذي هو ملة إبراهيم الخليل عليه السلام، ودين الرسل الذي قال الله تعالى فيه: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} [سورة الشورى آية: 13] ، فأولئك المعارضون للحق، ممن ذكرنا وأمثالهم، فيهم شبه بمن قال الله فيهم: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [سورة الزخرف آية: 23] ، {قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} [سورة الزخرف آية: 24] . وهذا على تقدير أنهم أصابوا في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 242 النقل عنهم، ولعلهم أخطؤوا وكذبوا عليهم، والله أعلم. والأدلة بالإجماع ثلاثة: الكتاب، والسنة، وإجماع سلف الأمة وأئمتها، وأما القياس الصحيح فعند بعض العلماء حجة إذا لم يخالف كتابا ولا سنة، فإن خالف نصا أو ظاهرا، لم يكن حجة، وهذا هو الذي أجمع عليه العلماء سلفا وخلفا، وتفصيل ذلك في كتب أصول الفقه. وأما قوله في الحديث الصحيح: " وكفر بما يعبد من دون الله " 1، فهذا شرط عظيم لا يصح قول لا إله إلا الله إلا بوجوده، وإن لم يوجد لم يكن من قال لا إله إلا الله معصوم الدم والمال; لأن هذا هو معنى لا إله إلا الله، فلم ينفعه القول بدون الإتيان بالمعنى الذي دلت عليه، من ترك الشرك والبراءة منه، وممن فعله فإذا أنكر عبادة كل ما يعبد من دون الله، وتبرأ منه، وعادى من فعل ذلك، صار مسلما، معصوم الدم والمال; وهذا معنى قول الله تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [سورة البقرة آية: 256] . وقد قيدت لا إله إلا الله، في الأحاديث الصحيحة، بقيود ثقال لا بد من الإتيان بجميعها، قولا، واعتقادا، وعملا فمن ذلك حديث عتبان الذي في الصحيح: " فإن   1 مسلم: الإيمان (23) , وأحمد (3/472 ,6/394) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 243 الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله، يبتغي بذلك وجه الله " 1، وفي حديث آخر: " صدقا من قلبه " "، خالصا من قلبه " 2 مستيقنا بها قلبه، غير شاك، فلا تنفع هذه الكلمة قائلها إلا بهذه القيود، إذا اجتمعت له مع العلم بمعناها ومضمونها، كما قال تعالى: {وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [سورة الزخرف آية: 86] . وقال تعالى لنبيه (: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [سورة محمد آية: 19] ، فمعناها يقبل الزيادة، لقوة العلم، وصلاح العمل. فلا بد من العلم بحقيقة معنى هذه الكلمة، علما ينافي الجهل، بخلاف من يقولها وهو لا يعرف معناها ولا بد من اليقين المنافي للشك، فيما دلت عليه من التوحيد؛ ولا بد من الإخلاص المنافي للشرك، فإن كثيرا من الناس يقولها وهو يشرك في العبادة، وينكر معناها، ويعادي من اعتقده وعمل به؛ ولا بد من الصدق المنافي للكذب، بخلاف حال المنافق الذي يقولها من غير صدق، كما قال تعالى: {يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} [سورة الفتح آية: 11] ؛ ولا بد من القبول المنافي للرد، بخلاف من يقولها ولا يعمل بها ولا بد من المحبة لما دلت عليه من التوحيد والإخلاص، وغير ذلك، والفرح بذلك، المنافي لخلاف هذين الأمرين ولا بد من الانقياد بالعمل بها وما دلت عليه مطابقة، وتضمنا، والتزاما. وهذا هو دين الإسلام، الذي لا يقبل الله دينا سواه.   1 البخاري: الصلاة (425) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (33) . 2 البخاري: العلم (99) , وأحمد (2/373) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 244 وأنت أيها الرجل: ترى كثيرا ممن يدعي العلم والفهم، قد عكس مدلول لا إله إلا الله، كابن كمال ونحوه من الطواغيت، فيثبتون ما نفته لا إله إلا الله من الشرك في العبادة، ويعتقدون ذلك الشرك دينا، وينكرون ما دلت عليه من الإخلاص، ويشتمون أهله، وقد قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [سورة الزمر آية: 2"3] . وهذا النوع من الناس، الذين قد فتنوا، وفتنوا يستجهلون أهل الإسلام، ويستهزؤون بهم، أسوة من سلف من أعداء الرسل، وقد قال الله تعالى في أمثال هؤلاء: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [سورة الزمر آية: 45] . وقال أيضا: شيخ الإسلام، الشيخ عبد الرحمن بن حسن، رحمه الله تعالى: الكلام في بيان ما أوردناه، على الجهمي، الذي في بني ياس. أما الكلام في معنى لا إله إلا الله، فأقول وبالله التوفيق: أما هذه الكلمة العظيمة، فهي التي شهد الله بها لنفسه، وشهد بها له ملائكته، وأولو العلم من خلقه، كما قال تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 245 قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [سورة آل عمران آية: 18] . فلا إله إلا الله هي: كلمة الإسلام، لا يصح إسلام أحد إلا بمعرفة ما وضعت له، ودلت عليه، وقبوله والانقياد للعمل به ; وهي: كلمة الإخلاص المنافي للشرك، وكلمة التقوى التي تقي قائلها من الشرك بالله، فلا تنفع قائلها إلا بشروط سبعة. الأول: العلم بمعناها، نفيا وإثباتا. الثاني: اليقين، وهو: كمال العلم بها، المنافي للشك والريب. الثالث: الإخلاص، المنافي للشرك. الرابع: الصدق، المانع من النفاق. الخامس: المحبة لهذه الكلمة، ولما دلت عليه، والسرور بذلك. السادس: القبول، المنافي للرد؛ فقد يقولها من يعرفها، لكن لا يقبلها ممن دعاه إليها، تعصبا، وتكبرا، كما قد وقع من كثير. السابع: الانقياد بحقوقها، وهي: الأعمال الواجبة إخلاصا لله، وطلبا لمرضاته. إذا عرفت ذلك؛ فقولك: لا إله إلا الله، فلا: نافية للجنس، والإله هو المألوه بالعبادة، وهو: الذي تألهه القلوب، وتقصده رغبة إليه في حصول نفع، أو دفع ضر، كحال من عبد الأموات، والغائبين، والأصنام; فكل معبود: مألوه بالعبادة، وخبر لا المرفوع محذوف، تقديره: حق، وقوله: إلا الله: استثناء من الخبر المرفوع، فالله سبحانه هو الحق، وعبادته وحده هي الحق، وعبادة غيره منتفية بلا في هذه الكلمة، قال الله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 246 وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ} [سورة الحج آية: 62] ، فإلهية ما سواه باطل، فدلت الآية على أن صرف الدعاء الذي هو مخ العبادة عنه لغيره، باطل. فتبين أن الإلهية هي العبادة، لأن الدعاء من أفرادها، فمن صرف منها شيئا لغيره تعالى، فهو باطل. والقرآن كله يدل على أن الإلهية هي العبادة، كما قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي} [سورة الزخرف آية: 26"27] . فذكر البراءة من كل معبود سوى الله، ولم يستثن إلا عبادة من فطره، ثم قال: {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} [سورة الزخرف آية: 28] ، أي: لا إله إلا الله، فعبر عن الإلهية بالعبادة، في النفي والإثبات. وقال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً} [سورة الجن آية: 20] . فقوله: {قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي} [سورة الجن آية: 20] ، هو معنى: إلا الله في كلمة الإخلاص. وقوله: {وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً} [سورة الجن آية: 20] ، هو: المنفي في كلمة الإخلاص بلا إله، فتبين: أن لا إله إلا الله دلت على البراءة من الشرك في العبادة، في حق كل ما سوى الله، وقال الله تعالى: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ} [سورة الزمر آية: 11] ، والدين، هو: العبادة. وقال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ} [سورة الرعد آية: 36] ، {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [سورة الكهف آية: 110] ، أي: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 247 الذي لا تصلح الإلهية إلا له وحده، فانتفت الإلهية وبطلت في حق كل ما سوى الله والقرآن يبين بعضه بعضا ويفسره، والرسل إنما يفتتحون دعوتهم بمعنى لا إله إلا الله: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [سورة الأعراف آية: 59] ، {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [سورة الأعراف آية: 65] . فتبين أن الإلهية هي: العبادة، ولهذا قال قوم هود لما قال: {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [سورة الأعراف آية: 59] ، {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} [سورة الأعراف آية: 70] . فتبين بالآية أنهم لم يستنكفوا من عبادة الله، لكنهم أبوا أن يخلصوا العبادة لله وحده، فلم ينفوا ما نفته لا إله إلا الله، فاستوجبوا ما وقع بهم من العذاب، لعدم قبولهم ما دعاهم إليه من إخلاص العبادة، كما قال تعالى: {وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ} [سورة الأحقاف آية: 21] ، وهم الرسل جميعهم {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} [سورة هود آية: 2] . وهذا هو معنى كلمة الإخلاص الذي اجتمعت عليه الرسل. فقوله: {أَلَّا تَعْبُدُوا} [سورة هود آية: 2] ، هو معنى: "لا إله"، وقوله {إِلَّا اللَّهَ} [سورة هود آية: 2] ، هو المستثنى في كلمة الإخلاص; فهذا هو تحقيق معناها بحمد الله; وإنذار الرسل جميعهم أممهم عن الشرك في العبادة، وأن يخلصوها لله وحده لا شريك له ; فما ذكرناه في هذه الآيات في معناها، كافٍ، وافٍ، شافٍ; ولله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 248 الحمد والمنة. وأما تعريف العبادة، فقد قال العلامة ابن القيم، رحمه الله في الكافية الشافية: وعبادة الرحمن غاية حبه ... مع ذل عابده هما قطبان وعليهما فلك العبادة دائر ... ما دار حتى قامت القطبان ومداره بالأمر أمر رسوله ... لا بالهوى والنفس والشيطان فذكر أصل العبادة التي يصلح العمل مع حصولها، إذا كان على السنة، فذكر قطبيها، وهما: غاية المحبة لله، في غاية الذل له؛ والغاية تفوت بدخول الشرك وبه يبطل هذا الأصل، لأن المشرك، لا بد أن يحب معبوده، ولا بد أن يذل له، ففسد الأصل بوجود الشرك فيه؛ ولا تحصل الغاية فيهما إلا بانتفاء الشرك، وقصر المحبة والتذلل لله وحده، وبهذا تصلح جميع الأعمال المشروعة، وهي المراد بقوله: وعليهما فلك العبادة دائر، والدائر هي الأعمال، ولا تصلح إلا بمتابعة السنة. وهذا معنى قول الفضيل بن عياض رحمه الله، في قوله تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [سورة هود آية: 7] ، قال: أخلصه وأصوبه، قالوا: يا أبا علي، ما أخلصه، وأصوبه; قال: إن العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا، لم يقبل وإذا كان صوابا، ولم يكن خالصا، لم يقبل، حتى يكون خالصا صوابا; والخالص: ما كان لله، والصواب: ما كان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 249 على السنة. وأما أقسام التوحيد، فهي: ثلاثة: توحيد الإلهية، وهي: العبادة كما تقدم، فهي تعلق بأعمال العبد، وأقواله الباطنة والظاهرة، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية: العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه، من الأقوال والأعمال، الباطنة والظاهرة، فمن صرف منها شيئا لغير الله، فهو مشرك بالله; فهذا هو الذي أرسلت الرسل، وأنزلت الكتب بالإنذار عنه، وترتبت عليه عقوبات الدنيا والآخرة، في حق من لم يتب منه. ويسمى هذا التوحيد، إذا كان لله وحده: توحيد القصد، والطلب، والإرادة; وهو الذي جحده المشركون من الأمم؛ وقد بعث الله نبينا محمدا بالأمر به، والنهي عما ينافيه من الشرك، فأبى المشركون إلا التمسك بالشرك الذي عهدوه من أسلافهم، فجاهدهم على هذا الشرك، وعلى إخلاص العبادة لله وحده، كما قال تعالى: {وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً} [سورة ص آية: 4"5] إلى قوله {وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ} [سورة ص آية: 6] . النوع الثاني: توحيد الربوبية، وهو: العلم والإقرار بأن الله تعالى رب كل شيء ومليكه، وهو المدبر لأمور خلقه جميعهم، كما قال تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 250 وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ} [سورة يونس آية: 31] إلى قوله: {وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} [سورة يونس آية: 31] . وقال: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [سورة المؤمنون آية: 84"85] إلى قوله: {فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} [سورة المؤمنون آية: 89] . وأمثال هذه الآيات في القرآن كثير، وهذا النوع قد أقر به المشركون، كما دلت عليه الآيات. والنوع الثالث: توحيد الأسماء والصفات، وهو: أن يوصف الله تعالى بما وصف به نفسه، ووصفه به رسوله من صفات الكمال التي تعرف بها سبحانه إلى عباده، وينفي ما لا يليق بجلاله وعظمته، وهذا النفي أقسام، ذكرها العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى، في الكافية الشافية. فأهل السنة والجماعة، سلفا وخلفا، يثبتون لله هذا التوحيد، على ما يليق بجلال الله وعظمته، إثباتا بلا تمثيل، وتنْزيها بلا تعطيل، وهذا النوع والذي قبله، هو: توحيد العلم والاعتقاد. وأما تعريف التوحيد، فقد ذكره ابن القيم، رحمه الله تعالى، في الكافية الشافية بقوله: فالصدق والإخلاص ركنا ذلك الت ... وحيد كالركنين للبنيان وحقيقة الإخلاص توحيد المرا ... د فلا يزاحمه مراد ثان والصدق توحيد الإرادة وهو بذ ... ل الجهد لا كسلا ولا متوان ثم ذكر توحيد المتابعة فقال: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 251 والسنة المثلى لسالكها فتوح ... يد الطريق الأعظم السلطان فلواحد كن واحدا في واحد ... أعني طريق الحق والإيمان وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، الإخلاص، بمثل ما ذكره ابن القيم، رحمه الله، فقال: الإخلاص: محبة الله، وإرادة وجهه. وأما أقسام العلم النافع، الذي يجب معرفته واعتقاده، فهو: يتضمن ما سبق ذكره؛ وهو ثلاثة أقسام، ذكرها العلامة ابن القيم، رحمه الله، في الكافية الشافية، قال: والعلم أقسام ثلاثة ما لها ... من رابع خلوا عن الروغان علم بأوصاف الإله وفعله ... وكذلك الأسماء للرحمن والأمر والنهي الذي هو دينه ... وجزاؤه يوم المعاد الثان وبهذا تم الجواب عما أوردناه، وصلى الله على محمد، وعلى آله وصحبه وسلم. [تعريف أقسام العلم النافع ومعرفة لا إله إلا الله وشروطها] وله أيضا رحمه الله تعالى: اعلم رحمك الله أن كلمة الإخلاص لا إله إلا الله لا تنفع قائلها إلا بمعرفة معناها، وهو نفي الإلهية عما سوى الله، والبراءة من الشرك في العبادة، وإفراد الله تعالى بجميع أنواع العبادة، كما قال تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} [سورة آل عمران الجزء: 2 ¦ الصفحة: 252 آية: 64] . ومعنى: {سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} [سورة آل عمران آية: 64] ، أي: نستوي نحن وأنتم في قصر العبادة على الله، وترك الشرك كله. وقال الخليل عليه السلام: {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ} [سورة الزخرف آية: 26] . {إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} [سورة الزخرف آية: 27] . {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} [سورة الزخرف آية: 28] . فهذا، هو حقيقة معنى: لا إله إلا الله; وهو البراءة من كل ما يعبد من دون الله، وإخلاص العبادة لله وحده وهذا هو معناها الذي دلت عليه هذه الآيات وما في معناها; فمن تحقق ذلك وعلمه، فقد حصل له العلم بها، المنافي لما عليه أكثر الناس، حتى من ينتسب إلى العلم، من الجهل بمعناها. فإذا عرف ذلك، فلا بد له من القبول لما دلت عليه، وذلك ينافي الرد، لأن كثيرا ممن يقولها ويعرف معناها، لا يقبلها، كحال مشركي قريش، والعرب، وأمثالهم، فإنهم عرفوا ما دلت عليه، لكن لم يقبلوا، فصارت دماؤهم، وأموالهم، حلالا لأهل التوحيد، فإنهم كما قال تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ} [سورة الصافات آية: 35] ، {وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} [سورة الصافات آية: 36] . عرفوا أن لا إله إلا الله توجب ترك ما كانوا يعبدونه من دون الله. ولا بد أيضا من الإخلاص المنافي للشرك، كما قال تعالى: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ} [سورة الزمر آية: 11"12] ، إلى قوله: {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ} [سورة الزمر آية: 14"15] ، وفي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 253 حديث عتبان: " من قال لا إله إلا الله، يبتغي بذلك وجه الله ". ولا بد أيضا من المحبة المنافية لضدها، فلا يحصل لقائلها معرفة وقبول إلا بمحبة ما دلت عليه من الإخلاص ونفي الشرك؛ فمن أحب الله أحب دينه، ومن لا فلا، كما قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} [سورة البقرة آية: 165] ، فصارت محبتهم لله ولدينه خاصة، فأحبوا لله ولدينه، ووالوا لله ولدينه، فأحبوا من أحبه الله، وأبغضوا من أبغضه الله. وفي الحديث: " وهل الدين إلا الحب والبغض "، ولهذا وجب أن يكون الرسول أحب إلى العبد من نفسه، وولده، ووالده، والناس أجمعين فإن شهادة ألا إله إلا الله تستلزم شهادة أن محمدا رسول الله، وتقتضي متابعته، كما قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [سورة آل عمران آية: 31] . ولا بد أيضا من الانقياد لحقوق لا إله إلا الله، بالعمل بما فرضه الله وترك ما حرمه الله، والتزام ذلك، وهو ينافي الشرك، فإن كثيرا ممن يدعي الدين يستخف بالأمر والنهي، ولا يبالي بذلك. والإسلام حقيقته أن يسلم العبد بقلبه وجوارحه لله تعالى، وينقاد له بالتوحيد والطاعة، كما قال تعالى: {بَلَى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 254 مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ} [سورة البقرة آية: 112] . وقال تعالى: {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [سورة لقمان آية: 22] ، وإحسان العمل لا بد فيه من الإخلاص، ومتابعة ما شرعه الله ورسوله. ولا بد أيضا لقائل هذه الكلمة من اليقين بمعناها، المنافي للشك والريب، كما في الحديث الصحيح: "مستيقنا بها قلبه، غير شاك فيها" ومن لم يكن كذلك فإنها لا تنفعه، كما دل عليه حديث: سؤال الميت في قبره. ولا بد أيضا من الصدق المنافي للكذب، كما قال تعالى عن المنافقين: {يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} [سورة الفتح آية: 11] ، فالصادق يعرف معنى هذه الكلمة، ويقبله، ويعمل بما تقتضيه، وما يلزم قائلها من واجبات الدين، فيصدق قلبه لسانه. فلا تصح هذه الكلمة، إلا إذا اجتمعت هذه الشروط؛ وبالله التوفيق. وقال أيضا: رحمه الله تعالى، في جواب له: وسرنا ما ذكرت من معرفتك جهل أكثر الناس بمعنى لا إله إلا الله، وإن تكلموا بها لفظا، فقد أنكروها معنى، فانتبه لأمور ستة أو سبعة، لا يسلم العبد من الكفر والنفاق إلا باجتماعها، وباجتماعها والعمل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 255 بمقتضاها، يكون العبد مسلما; إذ لا بد من مطابقة القلب للسان، علما، وعملا، واعتقادا، وقبولا، ومحبة، وانقيادا. فلا بد من العلم بها المنافي للجهل، ولا بد من الإخلاص المنافي للشرك; ولا بد من الصدق المنافي للكذب، بخلاف المشركين والمنافقين؛ ولا بد من اليقين المنافي للشك والريب; فقد يقولها وهو شاك في مدلولها ومقتضاها; ولا بد من المحبة المنافية للكراهة؛ ولا بد من القبول المنافي للرد، فقد يعرف معناها ولا يقبله، كحال مشركي العرب. ولا بد أيضا من الانقياد المنافي للشرك، لترك مقتضياتها، ولوازمها، وحقوقها، المصححة للإسلام والإيمان; فمن تحقق ما ذكرته، ووقع منه موقعا، صرف الهمة إلى تعلم معنى: لا إله إلا الله; وصار على بصيرة من دينه، وفرقان، ونور، وهدى، واستقامة. وبالله التوفيق. [رد قول أن المستثنى بإلا في لا إله إلا الله دخل في المنفي] وقال أيضا الشيخ عبد الرحمن بن حسن، رحمه الله تعالى: زعم من لا علم لديه: أن المستثنى بإلا في لا إله إلا الله، دخل في عموم المنفي، في اسم لا; وهذا خطأ بين، من وجوه:" الأول: أن النفي يناقض الإثبات، فاجتماع النفي والإثبات في جملة جمع بين النقيضين، وهما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 256 لا يجتمعان، فيمتنع الجمع بينهما. الثاني: أن لا النافية للجنس لها اسم وخبر، ولا بد، فلا تتم فائدة اسمها إلا بخبرها، والخبر الجزء المتم للفائدة، ف "لا" حرف نفي، و"إله" اسمها، مبني معها على الفتح، والخبر المقدر، وهو " حق " على الصحيح، كما في قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ} [سورة الحج آية: 6] ، والخبر وصف في المعنى، قيد في الاسم، وقد خص من الإلهية ما ليس بحق، وفائدته: إخراج الإله الحق من المنفي، لتخصيص المنفي بانتفاء حقيقته، وهذا ظاهر لمن له أدنى فهم، فالاستثناء من الخبر، المقيد في حقيقة المستثنى، وهو الله تعالى، دون ما يعبد من دونه، وكل ما يعبد من دونه هو المنفي بحرف النفي، فيكون النفي منصبا على كل مألوه ليس بحق، وأما الحق فثابت لم ينتف، بدليل الوصف المثبت له. الثالث: أن الآية، وهي قوله: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ} [سورة الزخرف آية: 26] ، {إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} [سورة الزخرف آية: 27] ، {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} [سورة الزخرف آية: 28] ، فأتى بمعناها، نفيا وإثباتا، فيجري في مدلولها ما جرى في الدال، وهو: لا إله إلا الله، فلا يجوز في قلب مسلم أن يعتقد أن إبراهيم عليه السلام، تبرأ من معبوده، الذي فطره، بقوله: {إِنَّنِي بَرَاءٌ} [سورة الزخرف آية: 26] ، ثم أثبته بقوله (إلا) ، هذا لا يقع اعتقاده من مسلم عرف هذه الكلمة ومعناها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 257 والحق الذي يجب اعتقاده، ويدان الله به: أن الخليل عليه السلام تبرأ من كل ما كانوا يعبدونه سوى الله سبحانه، المستحق للعبادة وحده، سبحانه وبحمده، فاستثناه تعالى من معبوداتهم، لأنهم كانوا يعبدون الله، ويعبدون غيره، والقرآن يدل على هذا، كما هو ظاهر في آيات التوحيد، كما قال تعالى عن الخليل عليه السلام أنه قال لقومه: {أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [سورة الصافات آية: 86"87] . وقال: {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي} [سورة مريم آية: 48] ، وقال عن أصحاب الكهف: {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ} [سورة الكهف آية: 16] ، لكن الجاهل أعمى، ولهذا تجد أكثرهم يتعصب لجهله {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [سورة النور آية: 40] . وصلى الله على محمد. [رسالة الشيخ ابن عبد الوهاب إلى الإمام فيصل في معنى لا إله إلا الله] وله أيضا رحمه الله تعالى: بسم الله الرحمن الر حيم الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، وصلى الله على سيد المرسلين، محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. من عبد الرحمن بن حسن، إلى الإمام المكرم: فيصل، كرمه الله بالتوحيد، وحماه من شبه أهل الشرك والإلحاد والتنديد، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 258 وبعد: فاعلم أن لا إله إلا الله لها معنى عظيم، يستضيء به قلوب أهل الإسلام والإيمان، وهو الذي بعث الله به جميع الرسل، من أولهم إلى آخرهم، وخلقهم لأجله والقرآن من أوله إلى آخره يبين معنى هذه الكلمة. ونذكر بعض ما دل عليه القرآن من معناها، وما ذكره العلماء من أئمة الإسلام فدونك كلام العماد ابن كثير، رحمه الله، في تفسير سورة {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [سورة الكافرون آية: 1] ، ذكر أن هذه السورة، سوره البراءة من العمل، الذي يعمله المشركون، وهي آمرة بالإخلاص، وأن قريشا دعوا رسول الله (إلى عبادة أوثانهم سنة، ويعبدون إلهه سنة، فأنزل الله هذه السورة، وأمره فيها أن يتبرأ من دينهم بالكلية، فقال: {لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} [سورة الكافرون آية: 2] ، يعني من الأصنام والأنداد، {وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} [سورة الكافرون آية: 3] ، وهو الله وحده؛ ولهذا كانت كلمة الإسلام: لا إله إلا الله، محمد رسول الله ; والمشركون يعبدون غير الله. قلت: فدلت هذه السورة الكريمة على البراءة من عبادة أصنام المشركين، وأوثانهم; فأمر الله نبيه (أن يتبرأ من دين المشركين وأصنامهم التي كانت موجودة في الخارج: اللات، والعزى، ومناة، وغيرها; وقد أخبر الله عن خليله إبراهيم، عليه السلام، أنه قال لأبيه، وقومه: {مَا} [سورة الشعراء آية: 70] ، إذا كنتم {تَعْبُدُونَ} ؟ [سورة الشعراء آية: 70] ، فصرح بعداوة أصنامهم بأعيانها، وهي موجودة في الخارج، واستثنى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 259 من معبوداتهم رب العالمين، لأنهم كانوا يعبدون الله، لكنهم يعبدون معه الأصنام. فاستثنى المعبود الحق الذي لا تصلح العبادة إلا له، فأخبر تعالى أنه قال لقومه: {أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ [سورة الصافات آية: 86] . وأخبر عنه أنه قال لقومه: {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} [سورة الزخرف آية: 26"28] ، وهي: "لا إله إلا الله" بإجماع أهل الحق، فعبر عنها بالبراءة من معبوداتهم التي كانوا يعبدونها في الخارج؛ فقوله: {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ} [سورة الزخرف آية: 26] ، هو معنى النفي في قوله: "لا إله" وقوله: {إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي} [سورة الزخرف آية: 27] ، هو معنى: " إلا الله ". وهذا كاف في البيان لمثلك، الذي قد عرفه الله معنى لا إله إلا الله. وهذا المعنى في هذه الكلمة يعرفه حتى المشركون، كما قال تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ} الآية [سورة الصافات آية: 35] . عرفوا أن "لا إله إلا الله"، علم على ترك عبادة آلهتهم التي كانوا يعبدونها، من أوثانهم وأصنامهم، وكل الفرق يعرفون معناها، حتى أعداء الرسل، كما قالت عاد: {أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} [سورة الأعراف آية: 70] ، عرفوا على شدة كفرهم أنه أراد منهم ترك عبادة ما كان يعبده آباوهم، فتبين بهذا أن "لا إله إلا الله"، نفت كل ما كان يعبد من دون الله من صنم ومن وثن، من حين حدوث الشرك في قوم نوح إلى أن تقوم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 260 الساعة. وهذا المعنى أكثر أهل العلم يسلمونه، يعرفونه، حتى الخوارج، والرافضة، والمعتزلة، والمتكلمون، من كل أشعري، وكرامي، وماتريدي; وإنما اختلفوا في العمل بلا إله إلا الله، فبعضهم يظن أن هذا في حق أناس كانوا فبانوا، فخفي عليهم حقيقة الشرك. وأما الفلاسفة وأهل الاتحاد، فإنهم لا يقولون بهذا المعنى، ولا يسلمونه، بل يقولون: إن المنفي بلا إله إلا الله كلي، لا يوجد منه في الخارج إلا فرد، وهو الله، فهو المنفي، وهو المثبت، بناء على مذهبهم الذي صاروا به أشد الناس كفرا، وهو قولهم: إن الله هو الوجود المطلق، فلم يخرجوا من ذلك صنما ولا وثنا. وشبيه قولهم هذا قول أهل وحدة الوجود، القائلين بأن الله تعالى هو الوجود بعينه، فيقولون: إن المنفي كلي، والمثبت بقوله: "إلا الله" هو الوجود بعينه; ولا فرق عند الطائفتين بين الخالق والمخلوق، ولا بين العابد والمعبود; كل شيء عندهم هو الله، حتى الأصنام والأوثان، وهو حقيقة قول هذا الرجل سواء. فخذ قولي، واقبله، وفقك الله، فلقد عرفت بحمد الله ما أرادوه من قولهم: إن المنفي كلي لا يوجد منه في الخارج إلا فرد; ويدعي هذا مثل ما ادعته هذه الطائفة، أن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 261 تقدير خبر " لا " موجود; وهذه الكلمة لم توضع لتقرير الوجود، وإنما وضعت لنفي الشرك، والبراءة منه، وتجريد التوحيد، كما دلت عليه الآيات المحكمات البينات، ودعوة الرسل من أولهم إلى آخرهم. وتقدير خبر "لا" موجود لا يجري إلا على مذهب الطائفتين، لعنهم الله، على قولهم: إن الله هو الموجود، فلا وجود إلا الله، فهذا معنى قوله: إنه كلي، لا يوجد منه في الخارج إلا فرد، فغير المعنى الذي دلت عليه لا إله إلا الله، من نفي جميع المعبودات التي تعبد من دون الله، والمنفي إنما هو حقيقتها، كما قال المسيح عليه السلام: {مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ} [سورة المائدة آية: 116] . ولا ريب أن كل معبود سوى الله فهو باطل. والمنفي بلا إله إلا الله هو المعبودات الباطلة، والمستثنى بإلا هو سبحانه ويدل على هذا قوله تعالى في سورة الحج: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى} الآية [سورة الحج آية: 6] . وقال في آخر السورة: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ} [سورة الحج آية: 62] . وقال في سورة لقمان: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ} [سورة لقمان آية: 30] . فقوله: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ} [سورة الحج آية: 6] ، هو المستثنى: إلا "الله"، وهو الحق، وقوله: {وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 262 الْبَاطِلُ} [سورة الحج آية: 62] ، هو المنفي بلا إله؛ وما بعد هذا إلا التلبيس على الجهال، وإدخال الشك عليهم في معنى كلمة الإخلاص، فكابر المعقول والمنقول، بدفعه ما جاء به كل رسول. نسأل الله لنا ولكم علما نستضيء به من جهل الجاهلين، وضلال المضلين، وزيغ الزائغين ; وفي الحديث: " رب لا تزغ قلبي بعد إذ هديتني " 1. وقد كان أبو بكر الصديق يقرأ في الركعة الأخيرة من المغرب: {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [سورة آل عمران آية: 8] . وهذا بحمد الله كاف في بيان الحق، وبطلان الباطل ; وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه أجمعين. [رسالة تتضمن الوصية بتقوى الله] وله أيضا، مع مشاركة: بسم الله الرحمن الر حيم من عبد الرحمن بن حسن، وعلي بن حسين، وإبراهيم بن سيف، إلى من يصل إليه هذا الكتاب من الإخوان، رزقنا الله وإياهم الفقه في الدين، والإيمان واليقين. سلام عليكم، ورحمة الله وبركاته. وبعد: فإنا نوصيكم بتقوى الله في الغيب والشهادة، والسر والعلانية، ونذكركم ما أنعم الله به علينا وعليكم، من دين الإسلام الذي رضيه لكم دينا; كما قال تعالى: {الْيَوْمَ   1 أبو داود: الأدب (5061) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 263 أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} [سورة المائدة آية: 3] . وهو الذي لا يقبل الله من أحد دينا سواه كما قال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [سورة آل عمران آية: 85] . وليس الإسلام بمجرد الدعوى والتلفظ بالقول، وإنما معناه: الانقياد لله بالتوحيد والخضوع، والإذعان له بالربوبية والإلهية، دون كل ما سواه، كما قال تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} الآية [سورة البقرة آية: 256] . وقال: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [سورة الروم آية: 30] ، إلى قوله: {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [سورة الروم آية: 32] . وقال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} الآية [سورة البينة آية: 5] . وقال: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} الآية [سورة يوسف آية: 40] . وهو الدين الذي بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه، كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [سورة الأنبياء آية: 25] ، وقال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ} [سورة فصلت آية: 6] . والإله: الذي تألهه القلوب، محبة، ورجاء، وتعظيما، وتوكلا، واستعانة، ونحو ذلك من أنواع العبادة، الباطنة، والظاهرة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 264 فالتوحيد هو إفراد الله بالإلهية، كما تقدم بيانه، ولا يحصل ذلك إلا بالبراءة من الشرك والمشركين باطنا وظاهرا، كما ذكر الله تعالى ذلك عن إمام الحنفاء، عليه السلام، بقوله: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ} الآية [سورة الزخرف آية: 26] ، وقوله: {يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [سورة الأنعام آية: 78"79] . فتأمل: كيف ابتدأهم بالبراءة من المشركين، وهذا هو حقيقة معنى لا إله إلا الله، ومدلولها، لا بمجرد قولها باللسان، من غير معرفة وإذعان، لما تضمنته كلمة الإخلاص، من نفي الشرك، وإثبات التوحيد ; والجاهلون من أشباه المنافقين يقولونها بألسنتهم، من غير معرفة لمعناها، ولا عمل بمقتضاها; ولهذا تجد كثيرا ممن يقولها باللسان، إذا قيل له: لا يعبد إلا الله، ولا يدعى إلا الله، اشمأز من هذا القول، كما قال تعالى: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [سورة الزمر آية: 45] . وقال تعالى لنبيه محمد (: {وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ} [سورة يونس آية: 105"106] ، والحنيف، هو: المقبل على الله، المعرض عن كل ما سواه، وقد قال تعالى: {فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 265 [سورة العنكبوت آية: 56] . وتقديم المعمول يفيد الحصر، كما في هذه الآية وأشباهها. قال: العماد ابن كثير، رحمه الله، في معنى قوله: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} : [سورة البقرة آية: 130] ، فيها الرد على المشركين المخالفين لملة إمام الحنفاء، فإنه جرد توحيد ربه، فلم يدع معه غيره، ولا أشرك به طرفة عين، وتبرأ من كل معبود سواه، وخالف في ذلك قومه، حتى تبرأ من أبيه، كما ذكر الله ذلك عنه في قوله: {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيّاً فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} الآية [سورة مريم آية: 48"49] ، وكيف بادأهم بذكر اعتزالهم أولا، ثم عطف عليه باعتزال معبوداتهم، كما في سورة الكهف: {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ} [سورة الكهف آية: 16] ؛ وهذا هو حقيقة التوحيد. وقد أرشد الله نبيه محمدا (والمؤمنين أن يأتموا بخليله في ذلك، ويتأسوا به، فقال: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [سورة الممتحنة آية: 4] . ولهذا الأصل العظيم، الذي هو ملة إبراهيم، شرع الله جهاد المشركين، فقال: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 266 يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [سورة التوبة آية: 36] ، وفي الحديث: " بعثت بالسيف بين يدي الساعة، حتى يعبد الله وحده لا شريك له " 1. ومع هذا حذر الله نبيه (وعباده المؤمنين من الركون إليهم، فقال: {وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً إِذاً لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً} [سورة الإسراء آية: 74"75] ، وقال تعالى: {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} الآية [سورة هود آية: 113] . وأظلم الظلم: الشرك بالله، كما قال تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [سورة لقمان آية: 13] . وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} الآية [سورة الممتحنة آية: 1] ، ومن المعلوم أن الذين نزلت هذه الآية في التحذير عن توليهم ليسوا من اليهود ولا من النصارى; ولا ريب أن الله تعالى أوجب على عباده المؤمنين البراءة من كل مشرك، وإظهار العداوة لهم والبغضاء، وحرم على المؤمنين موالاتهم والركون إليهم. ومعلوم أن مشركي العرب لا يقولون: إن آلهتهم تخلق وترزق، وتدبر أمر من دعاها، وشركهم إنما هو في التأله والعبادة، كما قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} الآية [سورة البقرة آية: 165] . وقال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ   1 أحمد (2/50) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 267 اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} [سورة الأحقاف آية: 5] ، والآية الثانية. وقال تعالى: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ} [سورة الرعد آية: 14] . وقال تعالى: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [سورة فاطر آية: 13"14] . والآيات في بيان الشرك في العبادة، وأنه دين المشركين، وما تضمنه القرآن من الرد عليهم، وبيان ضلالهم، وضياع أعمالهم أكثر من أن تحصر; ويكفي اللبيب الموفق لدينه بعض ما ذكرناه من الآيات المحكمات؛ وأما من لم يعرف حقيقة الشرك، لإعراضه عن فهم الأدلة الواضحة، والبراهين القاطعة، فكيف يعرف التوحيد؟ ومن كان كذلك، لم يكن من الإسلام في شيء، وإن صام وصلى، وزعم أنه مسلم. وأما من شرح الله صدره للإسلام، وأصغى قلبه إلى ذكر الله من الآيات المحكمات في بيان التوحيد المتضمن لخلع الأنداد التي تعبد من دون الله، والبراءة منها ومن عابديها، عرف دين المرسلين، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 268 فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [سورة النحل آية: 36] ، والطاغوت: ما تجاوز به العبد حده، من معبود، أو متبوع، أو مطاع. وكلما ازداد العبد تدبرا لما ذكره الله تعالى في كتابه، من أنواع العبادة التي يحبها الله من عبده ويرضاها، عرف أن من صرف شيئا منها لغير الله فقد أشرك، كما قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ} الآية [سورة الكهف آية: 110] ، ويجمع أنواع العبادة تعريفها بأنها: كل ما يحبه الله ورسوله، من الأقوال والأعمال، الظاهرة والباطنة. إذا فهمتم ذلك وعقلتموه، علمتم أن من المصائب في الدين ما يقع اليوم من كثير ممن يدعي الإسلام، مع هؤلاء الذين يأتونهم من أهل الشمال، وهم يعلمون أن الأوثان التي تعبد، وتقصد بأنواع العبادة، موجودة في بلادهم، وأن الشرك يقع عندهم، من الأقوال، والأعمال، ولا يحصل منهم نفرة ولا كراهة له; مثل هؤلاء الذين لا يعرف منهم أنهم عرفوا ما بعث الله به رسوله من توحيده، ولا أنكروا الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله، بل الواقع منهم إكرامهم وإعظامهم، بل زوجوهم نساءهم، فأي موالاة أعظم من هذا؟! وأي ركون أبين من هذا؟ أين العداوة لهم والبغضاء؟ هل كان ذلك الذي شرع الله وأوجبه على عباده، خاصا بأناس كانوا فبانوا؟ والناس بعد أولئك القرون الجزء: 2 ¦ الصفحة: 269 قد صلحوا; أم كان الشرك 1. [رسالة إلى أهل القصيم وذكر ما من الله به من التوحيد] وله أيضا قدس الله روحه: بسم الله الرحمن الر حيم من عبد الرحمن بن حسن، إلى الإخوان من أهل القصيم. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: اعلموا وفقنا الله وإياكم لمعرفة العلم النافع، والعمل به، تفهمون أن الله سبحانه منَّ على أهل نجد بتوحيده بالعبادة، وترك عبادة ما سواه وهذه نعمة عظيمة، خص الله أهل نجد بالقيام فيها، من الخاصة على العامة، لكن ما عرف قدرها. والغفلة ذمها الله في كتابه، وذكر أنها صفة أهل النار، نعوذ بالله من النار، بقوله: {أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [سورة الأعراف آية: 179] . وذم أهل الإعراض بقوله: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً} [سورة طه آية: 124] . وهو القرآن، ولا تعرفون العبادة التي خلقكم الله لها، إلا من القرآن؛ والقرآن من أوله إلى آخره يبين لكم كلمة الإخلاص: " لا إله إلا الله ". ولا يصح لأحد إسلام إلا بمعرفة ما دلت عليه هذه الكلمة، من نفي الشرك في العبادة، والبراءة منه، وممن فعله، ومعاداته، وإخلاص العبادة لله وحده لا شريك له; والموالاة في ذلك   1 آخر ما وجد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 270 فمن الآيات التي بين الله تعالى فيها، هذه الكلمة، قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً} [سورة الزخرف آية: 26"27"28] ، وهي: لا إله إلا الله، وقد افتتح قوله، بالبراءة مما كان يعبده المشركون عموما، ولم يستثن إلا الذي فطره، وهو: الله تعالى، الذي لا يصلح شيء من العبادة إلا له. ونوع تعالى البيان لمعنى هذه الكلمة في آيات كثيرة، يتعذر حصرها، كقوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ} [سورة آل عمران آية: 64] ، والكلمة هي: لا إله إلا الله; بالإجماع، ففسرها بقوله: {سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} [سورة آل عمران آية: 64] ، أي نكون فيها سواء، علما، وعملا، وقبولا، وانقيادا، فقال: {أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً} [سورة آل عمران آية: 64] ، فنفى ما نفته: لا إله إلا الله، بقوله: {أَلَّا نَعْبُدَ} [سورة آل عمران آية: 64] ، وأثبت ما أثبتته لا إله إلا الله، بقوله: {إِلَّا اللَّهَ} [سورة آل عمران آية: 64] ، وقال: {أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [سورة يوسف آية: 40] . فهذا أعظم أمر أمر الله به عباده، وخلقهم له ; ففي قوله: {أَلَّا تَعْبُدُوا} [سورة يوسف آية: 40] ، نفي الشرك الذي نفته: لا إله إلا الله، وقوله: {إِلَّا إِيَّاهُ} [سورة يوسف آية: 40] ، هو: الإخلاص الذي أثبتته: لا إله إلا الله، وقال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [سورة الإسراء آية: 23] ، قضى: أي أمر {أَلَّا تَعْبُدُوا} [سورة الإسراء آية: 23] ، فيه من النفي ما في معنى: لا إله، وقوله {إِلَّا إِيَّاهُ} [سورة الإسراء آية: 23] ، هذا هو الإثبات الجزء: 2 ¦ الصفحة: 271 الذي أثبتته "لا إله إلا الله"؛ وقال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ} [سورة الرعد آية: 36] ، فهذا هو الذي أمر به ودعا الناس إليه، وهو: إخلاص العبادة، وتخليصها من الشرك، قولا، وفعلا، واعتقادا. وقد فعل ذلك، ودعا الناس إليه، وجاهدهم عليه حق الجهاد، وهذا هو حقيقة دين الإسلام، كما قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [سورة الأنبياء آية: 108] ، بين تعالى أن توحيد الإلهية هو الإسلام، والأعمال كلها لا يصلح منها شيء إلا بهذا التوحيد، وهو أساس الملة ودعوة المرسلين؛ والدين كله من لوازم هذا الأصل، وحقوقه. وقد قال تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [سورة ص آية: 29] . فمن تدبر القرآن، وتذكر به، عرف حقيقة دين الإسلام الذي أكمله الله لهذه الأمة، كما قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} [سورة المائدة آية: 3] . هذا ما ننصحكم به، وندعوكم إليه، وبالله التوفيق، وصلى الله على محمد وآله وصحبه، وسلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 272 [رسالة إلى الأحساء فيما دلت عليه كلمة الإخلاص] وله أيضا، رحمه الله تعالى: بسم الله الرحمن الر حيم من عبد الرحمن بن حسن، إلى الإخوان: الأمير محمد بن أحمد، والشيخ عبد اللطيف بن مبارك، وأعيان أهل الأحساء، وعامتهم، رزقنا الله وإياهم الاعتصام بالكتاب والسنة، وجنبنا وإياهم سبل أهل البدع والأهواء، ووفقنا وإياهم لمعرفة ما بعث الله به رسوله من النور والهدى; سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فإن الباعث على هذا الكتاب هو النصيحة لله، ولكتابه ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم؛ وأوصيكم بما دلت عليه شهادة ألا إله إلا الله، وما تضمنته من نفي الإلهية عما سوى الله، وإخلاص العبادة لله وحده لا شريك له، والبراءة من كل دين يخالف ما بشر الله به رسله من التوحيد، كما قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ} [سورة فصلت آية: 6] . وقال تعالى: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 273 خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} [سورة فصلت آية: 13"14] . وهذه الآية وما في معناها تتضمن النهي عن الشرك في العبادة، والبراءة منه ومن المشركين، من الرافضة وغيرهم ; والقرآن من أوله إلى آخره يقرر هذا الأصل العظيم، فلا غناء لأحد عن معرفته، والعمل به باطنا وظاهرا. قال بعض السلف: كلمتان يسأل عنهما الأولون والآخرون: ماذا كنتم تعبدون؟ وماذا أجبتم المرسلين؟ وقال تعالى: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ} [سورة الزمر آية: 11"12] . وهذا هو مضمون شهادة ألا إله إلا الله، كما تقدمت الإشارة إليه. ومضمون شهادة أن محمدا رسول الله: وجوب اتباعه، والرضى به نبيا ورسولا، ونفي البدع، والأهواء المخالفة لما جاء به (؛ فلا غناء لأحد عن معرفة ذلك وقبوله، ومحبته والانقياد له، قولا وعملا، باطنا وظاهرا. [رسالة إلى الشتري وغيره ووصيتهم بتدبر الكتاب] وله: أيضا، رحمه الله تعالى: بسم الله الرحمن الر حيم من عبد الرحمن بن حسن، إلى الإخوان: صالح الشثري، وزيد بن محمد، وإخوانهم، سلمهم الله تعالى. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فموجب الخط إبلاغكم السلام، والسؤال عن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 274 الحال، جعلنا الله وإياكم ممن عرف الحق فاتبعه، وقابل النعم بشكرها; وأوصيكم بتدبر أنوار الكتاب، التي هي أظهر من الشمس في نحر الظهيرة، ليس دونها قتر ولا سحاب، لا سيما دوال التوحيد، والتفكر في مدلولاته، ولوازمه، وملزوماته، ومكملاته، ومقتضياته، ثم التفطن فيما يناقضه وينافيه من نواقضه ومبطلاته. فالخطر به شديد، ولا يسلم منه إلا من وفق للصبر والتأييد، والفعل الحميد، والقول السديد، وخالط قلبه آيات الوعد والوعيد، وعرف الله بأسمائه، وصفاته، التي تجلو الريب والشكن قلب كل مريد، واعتصم بها عن كل شيطان مريد، {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [سورة البروج آية:12" 16] . فقد عمت البلوى، بالجهل المركب والبسيط، {إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} [سورة آل عمران آية: 120] . فالله الله، في التحفظ على القلب، بكثرة الاستغفار من الذنب! جعلنا الله وإياكم ممن نجا من ظلمة الجهالة، وأخلص لله أقواله وأعماله. وسئل رحمه الله تعالى عمن يعرف التوحيد ويعتقده، ويقرأ في التفسير كتفسير البغوي ونحوه، هل له أن يحدث بما سمعه وحفظه، من العلم، ولو لم يقرأ في النحو، أو لا؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 275 فأجاب: من المعلوم أن كثيرا من العلماء من المحدثين والفقهاء، إنما كان دأبهم طلب ما هو الأهم، والنحو، إنما يراد لغيره، فيأخذ الرجل منه ما صلح لسانه ; فانشر ما علمت من العلم، خصوصا علم التوحيد، الذي هو في الآيات المحكمات كالشمس في نحر الظهيرة، لمن رغب فيه وأحبه وأقبل عليه. وقد عرفت أن كتمان العلم مذموم، بالكتاب والسنة، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} [سورة البقرة آية: 159] . وقد أرشد الله تعالى عباده إلى تدبر كتابه، وذم من لم يتدبره، وقد قال تعالى: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [سورة العنكبوت آية: 51] . وأخبر عن جن نصيبين، أنهم لما سمعوا قراءة النبي للقرآن بوادي نخلة، منصرفه من الطائف: {وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ} الآية [سورة الأحقاف آية: 29"30] ، وأخبر تعالى عنهم، في سورة الجن أنهم أنكروا الشرك الذي كان يفعله الإنس مع الجن، من الاستعاذة بهم، إذا نزلوا واديا. وأخبر تعالى عن هدهد سليمان، أنه أنكر الشرك، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 276 وهو طائر من جملة الطير، قال تعالى: {فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَأٍ بِنَبَأٍ يَقِينٍ إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} الآية [سورة النمل آية: 22"25] . فحدث الهدهد، سليمان عليه السلام، بما رآهم يفعلونه من السجود لغير الله، والسجود نوع من أنواع العبادة؛ فليت أكثر الناس عرفوا من الشرك ما عرف الهدهد ; فأنكروه، وعرفوا الإخلاص فالتزموه؛ وبالله التوفيق، وسبحان من غرس التوحيد في قلب من شاء من خلقه، وأضل من شاء عنه، بعلمه وحكمته وعدله. [فائدة في حقيقة التوحيد] وقال أيضا الشيخ: عبد الرحمن بن حسن، رحمه الله تعالى: فائدة عظيمة النفع لمن تدبرها وفهمها، في حقيقة التوحيد والمتابعة، قال العلامة ابن القيم رحمه الله في: كتاب المفتاح: الوجه الرابع والثلاثون بعد المائة: أن الله سبحانه خلق خلقه لعبادته، الجامعة لمحبته ومرضاته، المستلزمة لمعرفته؛ ونصب للعباد علما، لا كمال لهم إلا به، وهو: أن تكون حركاتهم كلها واقعة على وفق مرضاته ومحبته، ولذلك أرسل رسله، وأنزل كتبه، وشرع شرائعه؛ فكمال العبد، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 277 الذي لا كمال له إلا به، أن تكون حركاته موافقة لما يحبه الله ويرضاه، ولهذا جعل اتباع رسله دليلا على محبته، قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [سورة آل عمران آية: 31] . قال بعض العلماء: المحب الصادق إن نطق نطق بالله، وإن سكت سكت لله، وإن تحرك فبأمر الله، وإن سكن فسكونه استعانة على مرضاة الله، فهو لله وبالله، ومع الله ; ومعلوم أن صاحب هذا المقام أحوج خلق الله إلى العلم، فإنه لا تتميز له الحركة المحبوبة لله من غيرها، ولا السكون المحبوب له من غيره، إلا بالعلم، فليست حاجته إلى العلم كحاجة من طلب العلم لذاته، لأنه في نفسه صفة كمال، بل حاجته إلى العلم، كحاجته إلى الطعام والشراب. ولهذا اشتدت وصاة شيوخ العارفين لمريديهم بالعلم وطلبه، وأن من لم يطلب العلم لم يفلح، حتى كانوا يعدون من لا علم له من السفلة؛ قال ذو النون" وقد سئل عن السفلة" فقال: من لا يعرف الطريق إلى الله تعالى، ولا يتعرفه. وقال أبو يزيد: لو نظرتم إلى الرجل وقد أعطي من الكرامات حتى يترفع في الهواء، فلا تغتروا به حتى تنظروا كيف تجدونه عند الأمر والنهي، وحفظ الحدود، ومعرفة الشريعة. وقال أبو حمزة: من علم طريق الحق، سهل عليه سلوكه; ولا دليل إلى الله، إلا بمتابعة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 278 رسول الله " في أقواله، وأفعاله، وأحواله. وقال محمد بن فضل، الصوفي الزاهد: ذهاب الإسلام على يد أربعة أصناف: صنف: لا يعملون بما يعلمون. وصنف: يعملون بما لا يعلمون. وصنف: لا يعلمون ولا يعملون، وصنف: يمنعون الناس من التعلم. قلت: الصنف الأول: من له علم بلا عمل، فهو أضر شيء على العامة; فإنه حجة لهم في كل نقيصة ومنحسة. والصنف الثاني: العابد الجاهل، فإن الناس يحسنون الظن به لعبادته وصلاحه، فيقتدون به على جهله. وهذان الصنفان، هما اللذان ذكرهما بعض السلف في قوله: احذروا فتنة العالم الفاجر، والعابد الجاهل، فإن فتنتهما فتنة لكل مفتون، فإن الناس إنما يقتدون بعلمائهم وعبادهم، فإذا كان العلماء فجرة، والعباد جهلة عمت المصيبة بهما، وعظمت الفتنة على الخاصة والعامة. الصنف الثالث: الذين لا علم لهم ولا عمل، وإنما هم كالأنعام السائمة. الصنف الرابع: نواب إبليس في الأرض; وهم الذين يثبطون الناس عن طلب العلم والتفقه في الدين، فهؤلاء أضر عليهم من شياطين الجن، فإنهم يحولون بين القلوب وبين هدى الله وطريقه. فهؤلاء الأربعة الأصناف هم الذين ذكرهم هذا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 279 العارف، رحمه الله تعالى; وهؤلاء كلهم، على شفا جرف هار، وعلى سبيل هلكة، وما يلقى العالم الداعي إلى الله ورسوله ما يلقاه من الأذى والمحاربة إلا على أيديهم، والله يستعمل من يشاء في سخطه، كما يستعمل من يحب في مرضاته، {إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ} [سورة الشورى آية: 27] . ولا ينكشف سر هذه الطوائف وطريقتهم إلا بالعلم; فعاد الخير بحذافيره، إلى العلم وموجبه، والشر بحذافيره إلى الجهل وموجبه. انتهى. بسم الله الرحمن الر حيم من عبد الرحمن بن حسن، إلى الابن عبد اللطيف، سلمه الله تعالى. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته; وبعد: هذا الوجه 1 من أنفع ما رأيت في تحقيق التوحيد والمتابعة، فأنت اقرأه على الإمام، فيا سعادة من عقله وصار على باله، والله أعلم.   1 يشير إلى الوجه الرابع والثلاثين بعد المائة عند منتهاه في هذه الصفحة, وتقدمت بدايته في صفحة 277 , وهو من كلام ابن القيم رحمه الله في مفتاح دار السعادة ج/1 صفحة 159 - 160. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 280 [رسالة الإمام فيصل إلى أشراف اليمن يأمرهم بالإخلاص وترك الشرك] قال الإمام: فيصل بن تركي، رحمه الله تعالى: بسم الله الرحمن الر حيم من فيصل بن تركي بن سعود، إلى من يصل إليه هذا الكتاب، من أشراف اليمن، وعلمائهم، ووجوه القبائل ; سلمهم الله من النار، ومن غضب الجبار، ورزقهم إخلاص العبادة للواحد القهار، ووفقهم لاتباع سبيل محمد النبي المختار، صلى الله عليه، وعلى آله وأصحابه المقربين منهم والأبرار، وسلم تسليما. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أما بعد: فإنه قد وصل إلينا من جهتكم الشيخ صالح بن سعيد الجوني، فأحببت أن أكتب معه إليكم نصيحة مختصرة، وفي الحديث: " الدين النصيحة " 1، وهو من الأحاديث الصحيحة، فأعظم ما يستنصح به العبد، وينصح به غيره:3صض الإيمان بالله، والعمل له، والتواصي بالحق، والصبر عليه. فأصل دين الإسلام، وأساسه الذي تنبني عليه الأعمال، وتصح به الأقوال والأفعال، هو: إخلاص العبادة بجميع   1 مسلم: الإيمان (55) , والنسائي: البيعة (4197 ,4198) , وأبو داود: الأدب (4944) , وأحمد (4/102) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 281 أنواعها لله تعالى؛ وهي منقسمة على القلب، واللسان، والجوارح; ولا يكون مخلصا إلا بترك الشرك في العبادة، والبراءة منه. وأفضل الأعمال: الأركان الخمسة، التي أعظمها تجريد التوحيد، والبراءة من الشرك والتنديد، قال تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [سورة الشورى آية: 13] ، وهؤلاء الخمسة هم أولو العزم من الرسل، ثم قال: {فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} الآيات [سورة الشورى آية: 15] . وقال تعالى لنبيه محمد: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [سورة يوسف آية: 108] ، فسبيله، وسبيل أتباعه: النهي عن الشرك، والدعوة إلى الإخلاص; ولهذا قال: {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [سورة يوسف آية: 108] . وقد بين تعالى ما وصى به عباده من ذلك، وما نهى عنه من الشرك في العبادة، فأخبر عن رسوله نوح ومن بعده من الرسل، عليهم السلام، أنهم قالوا لقومهم: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [سورة الأعراف آية: 59] ، {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} [سورة هود آية: 2] . وقال خطابا لنبيه ولأمته: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 282 [سورة الإسراء آية: 23] . قال العلماء رحمهم الله تعالى: قضى: وصى، وقيل: أمر، وهما بمعنى واحد. وقال تعالى: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ} [سورة الزمر آية: 11"12] . والإسلام هو: الإخلاص، لأنه شرط لكل عمل، وكل عمل مفتقر إليه، وقد فسره علماء السلف بالإخلاص، كما في قوله تعالى: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ} [سورة البقرة آية: 112] ، وقوله: {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ} [سورة لقمان آية: 22] . قالوا: إسلام الوجه: الإخلاص، والإحسان، والمتابعة؛ والقرآن من أوله إلى آخره، وكذلك السنة، في تقرير هذين الأصلين. ومن تدبر سيرة النبي قبل هجرته، وبعدها، وما كان عليه الصحابة، والتابعون، وأتباعهم، والأئمة، عرف حقيقة دين الإسلام الذي لا يقبل الله من أحد دينا سواه، وتبين له كثرة المنحرفين عنه في هذه الأزمنة، وقبلها، فإن الأمة بعد القرون الثلاثة افترقت على ثلاث وسبعين فرقة، وذلك بعد ظهور دول الأعاجم، والقرامطة في المشرق; وبني عبيد القداح في مصر والمغرب، وظهرت الفلسفة، وغيرها من أصول البدع، وظهر الشرك. وكل قرن ينحل فيه عقد الإسلام، حتى اشتدت الغربة، وعظم الافتراق، وعاد المعروف منكرا، والمنكر معروفا، ونشأ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 283 عليه الصغير، وهرم عليه الكبير، وجهل الناس التوحيد الذي دعت إليه الرسل وبعث به إمامهم وسيدهم محمد (، ووقعوا في الشرك الذي نهى الله عنه ورسوله، حتى ظنوه من أفضل القربات {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} [سورة النجم آية: 23] . فيجب على من نصح نفسه، وطلب لها الخلاص من عذاب الله، أن يسعى في خلاصها بالإخلاص لله وحده، بجميع أنواع العبادة التي موردها القلب، واللسان، والجوارح، ويطلب العلم الذي ينجو به من النار، ويدخل به جنات تجري من تحتها الأنهار، ويصح به إيمانه، وتنفعه معه أعماله. ومن عرف ما جرى من الأمم مع الرسل، وما ذكره الله عن الأكثر، وما جرى من اليهود مع نبينا محمد، لم يغتر بكثرة المخالفين لهذا الدين، ولا يصدفه عن الحق المبين زخرف الملحدين المزخرفين، كما قال تعالى: {وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ} [سورة الأعراف آية: 102] ، وقال تعالى: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [سورة يوسف آية: 103] ، وقال في حال اليهود: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [سورة البقرة آية: 89] . وفي الحديث الصحيح عن النبي (أنه قال: "لتتبعن سنن من كان قبلكم، حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه. قالوا: يا رسول الله: اليهود الجزء: 2 ¦ الصفحة: 284 والنصارى؟ قال فمن ;" 1 يعني أنهم هم المراد، ولهذا قال سفيان بن عيينة، رحمه الله: من فسد من علمائنا، ففيه شبه من اليهود، ومن فسد من عبادنا، ففيه شبه من النصارى ; هذا وهو في القرن الثاني من القرون الثلاثة المفضلة، فما الظن بمن. بعدهم من القرون التي فيها هؤلاء الخلوف، الذين يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، بنص الحديث؟ وفي حديث أنس مرفوعا: " لا يأتي على الناس زمان إلا والذي بعده شر منه، حتى تلقوا ربكم 2 سمعته من نبيكم ". ولهذا لما اشتدت غربة الإسلام في هذه الأزمان وقبلها، عاد الأمر إلى: أن من دعا بدعوى المرسلين، وقال: لا يعبد إلا الله، ولا يدعى إلا هو، ولا يتوكل إلا عليه، قيل له: تنقصت الأنبياء والصالحين ; فأشبهوا من قال الله فيهم: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [سورة الزمر آية: 45] . وقد أمر الله تعالى بإخلاص العبادة له في مواضع كثيرة، من كتابه، ونهى نبيه (وأمته أن يدعوا أحدا من دونه، فقال: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ} الآية [سورة يونس آية: 106] . وقال: {فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ} [سورة الشعراء آية: 213] ، وقال: {وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا إِلَهَ   1 البخاري: أحاديث الأنبياء (3456) , ومسلم: العلم (2669) , وأحمد (3/84 ,3/89) . 2 البخاري: الفتن (7068) , والترمذي: الفتن (2206) , وأحمد (3/179) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 285 إِلَّا هُوَ} [سورة القصص آية: 88] ، وقال: {قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي} [سورة غافر آية: 66] ، وقال: {قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ} الآية [سورة الأنعام آية: 56] . وهذه الآيات تحقق أن الدعاء عبادة، وأن صرفه لغير الله شرك بالله، وقد قال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} [سورة الجن آية: 18] إلى قوله: {قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً} [سورة الجن آية: 20] . وقال: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [سورة المؤمنون آية: 117] ، فبين في هذه الآية أن دعوة غيره كفر، كما قال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [سورة الأحقاف آية: 5"6] ، وقال تعالى: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ} [سورة الرعد آية: 14] . فتدبروا: ما في هذه الآيات من النهي الأكيد، والوعيد الشديد، والبيان الذي لا يخفى حتى على البليد. وهذا النهي عام، يتناول كل مدعو من الأنبياء، فمن دونهم، كما قال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 286 يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} [سورة الإسراء آية: 56"57] . نزلت هذه الآيات فيمن يدعو: المسيح بن مريم وأمه، وعزيرا، والملائكة، على الصحيح من أقوال المفسرين; وعليه أكثرهم. يقول الله: هؤلاء عبيدي كما أنتم عبيدي، يرجون رحمتي كما ترجون رحمتي، ويخافون عذابي كما تخافون عذابي. ولا ريب أن المسيح بن مريم والملائكة أحياء، لكنهم غافلون عمن دعاهم، ولا يستجيبون لهم بشيء، وأما العزير ومريم فقد ماتا، فلا يدعى ميت ولا غائب: فبطل بهذه الآية كل ما ادعاه المشركون في معبوديهم، كقولهم: ندعوهم؛ لأن لهم صلاحا، وترجى شفاعتهم. ونظائر هذه الآية، في القرآن كثير في الرد على من دعا الأنبياء والصالحين والملائكة ونحوهم. ومع هذا البيان، فلا بد من وجود من يجادل في آيات الله، كما قال تعالى: {مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ} الآية [سورة غافر آية: 4"5] . وقال تعالى: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 287 أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [سورة الأنعام آية: 121] . يخبر تعالى أنه لا بد للحق من أعداء يجادلون في آيات الله وحججه، وبيناته، تحذيرا عنهم وعن الإصغاء إليهم وإلى شبهاتهم، وعن طاعتهم، فأقام تعالى الحجة على عباده، وحذر وأنذر، وبيَّن وأظهر: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [سورة الأنعام آية: 149] . وكل شبهة، يلقيها أهل الباطل على أهل الحق، ففي الكتاب والسنة ما يبطلها، كما قال تعالى: {وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً} [سورة الفرقان آية: 33] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 288 [جواب أبا بطين في تعريف العبادة والإخلاص] سئل الشيخ: عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين، رحمه الله تعالى: ما قولكم، دام فضلكم، في تعريف العبادة وتعريف توحيد العبادة، وأنواعه؟ وتعريف الإخلاص؟ وما بين الثلاثة من العموم والخصوص؟ وهل هو مطلق، أو وجهي؟ وما معنى الإله؟ وما معنى الطاغوت الذي أمرنا باجتنابه والكفر به؟ فأجاب: الحمد لله رب العالمين، أما العبادة في اللغة، فهي: من الذل; يقال; بعير معبد، أي: مذلل، وطريق معبد، إذا كان مذللا قد وطأته الأقدام، وكذلك الدين أيضا، من الذل، يقال دنته، فدان، أي: ذللته، فذل ; وأما تعريفها في الشرع، فقد اختلفت عباراتهم، في تعريفها، والمعنى واحد. فعرفها طائفة بقولهم هي: ما أمر به شرعا، من غير اطراد عرفي، ولا اقتضاء عقلي; وعرفها طائفة بأنها: كمال الحب مع كمال الخضوع ; وقال أبو العباس، رحمه الله تعالى: هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه، من الأقوال والأعمال، الباطنة والظاهرة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 289 فالصلاة، والزكاة، والحج، وصدق الحديث، وأداء الأمانة، وبر الوالدين، وصلة الأرحام، والوفاء بالعهد، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر وجهاد الكفار، والمنافقين، والإحسان إلى الجار واليتيم والمسكين والمملوك من الآدميين والبهائم، والدعاء، والذكر، والقراءة، وأمثال ذلك، من العبادة. وكذلك حب الله ورسوله، وخشية الله، والإنابة إليه، وإخلاص الدين له، والصبر لحكمه، والشكر لنعمته، والرضى بقضائه، والتوكل عليه، والرجاء لرحمته، والخوف من عذابه، وأمثال ذلك، فالدين كله داخل في العبادة. انتهى. ومن عرفها بالحب من الخضوع، فلأن الحب التام، مع الذل التام يتضمن طاعة المحبوب والانقياد له، فالعبد، هو الذي ذلله الحب والخضوع لمحبوبه، فبحسب محبة العبد لربه وذله له، تكون طاعته; فمحبة العبد لربه وذله له يتضمن عبادته وحده لا شريك له ; والعبادة المأمور بها تتضمن معنى الذل ومعنى الحب، فهي تتضمن غاية الذل لله، بغاية المحبة له، كما قال ابن القيم رحمه الله تعالى: ليس العبادة غير توحيد المـ ... حبة مع خضوع القلب والأركان والحب نفس وفاقه فيما يحب ... وبغض ما لا يرتضى بجنان ووفاقه نفس اتباعك أمره ... والقصد وجه الله ذي الإحسان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 290 فعرف العبادة بتوحيد المحبة مع خضوع القلب والجوارح، فمن أحب شيئا وخضع له، فقد تعبد قلبه له، فلا تكون المحبة المنفردة عن الخضوع عبادة، ولا الخضوع بلا محبة عبادة; فالمحبة والخضوع ركنان للعبادة، فلا يكون أحدهما عبادة بدون الآخر، فمن خضع لإنسان مع بغضه له، لم يكن عابدا له، ولو أحب شيئا، ولم يخضع له، لم يكن عابدا له، كما يحب ولده وصديقه. ولهذا لا يكفي أحدهما في عبادة الله تعالى، بل يجب أن يكون الله أحب إلى العبد من كل شيء، وأن يكون أعظم عنده من كل شيء، بل لا يستحق المحبة الكاملة والذل التام إلا الله سبحانه. إذا عرف ذلك، فتوحيد العبادة هو: إفراد الله سبحانه بأنواع العبادة المتقدم تعريفها، وهو نفس العبادة المطلوبة شرعا، ليس أحدهما دون الآخر; ولهذا قال ابن عباس: "كل ما ورد في القرآن من العبادة، فمعناه التوحيد" وهذا هو التوحيد الذي دعت إليه الرسل، وأبى عن الإقرار به المشركون. وأما العبادة من حيث هي، فهي أعم من كونها توحيدا عموما مطلقا، فكل موحد عابد لله، وليس كل من عبد الله يكون موحدا، ولهذا يقال عن المشرك: إنه يعبد الله، مع كونه مشركا، كما قال الخليل (: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} [سورة الشعراء آية:75" 77] . وقال عليه السلام: {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} [سورة الزخرف آية: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 291 29" 27] . فاستثنى الخليل ربه من معبوديهم، فدل على أنهم يعبدون الله. فإن قيل: ما معنى النفي في قوله سبحانه: {وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} [سورة الكافرون آية: 3] ؟ قيل: إنما نفى عنهم، الاسم الدال على الوصف والثبوت; ولم ينف وجود الفعل الدال على الحدوث والتجدد، وقد نبه ابن القيم، رحمه الله تعالى، على هذا المعنى اللطيف في بدائع الفوائد، فقال لما انجر كلامه على سورة {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [سورة الكافرون آية: 1] : وأما المسألة الرابعة، وهو أنه لم يأت النفي في حقهم إلا باسم الفاعل، وفي جهته جاء بالفعل المستقبل تارة، وباسم الفاعل أخرى. وذلك" والله أعلم" لحكمة بديعة، وهي: أن المقصود الأعظم، براءته من معبوديهم بكل وجه، وفي كل وقت ; فأتى أولا بصيغة الفعل، الدالة على الحدوث والتجدد، ثم أتى في هذا النفي بعينه بصيغة اسم الفاعل، الدالة على الوصف والثبوت، فأفاد في النفي الأول: أن هذا لا يقع مني، وأفاد في الثاني أن هذا ليس وصفي ولا شأني، فكأنه قال: عبادة غير الله لا تكون فعلا لي ولا وصفا، فأتى بنفيين لمنفيين مقصودين بالنفي. وأما في حقهم، فإنما أتى بالاسم الدال على الوصف والثبوت، دون الفعل; أي: الوصف الثابت اللازم للعابد لله، منتف عنكم، فليس هذا الوصف ثابتا لكم، وإنما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 292 يثبت لمن خص الله وحده بالعبادة، لم يشرك معه فيها أحدا، وأنتم لما عبدتم غيره، فلستم من عابديه، وإن عبدتموه في بعض الأحيان، فإن المشرك يعبد الله، ويعبد معه غيره، كما قال تعالى، عن أهل الكهف: {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ} [سورة الكهف آية: 16] ، أي اعتزلتم معبوديهم، إلا الله، فإنكم لم تعتزلوه، وكذا قول المشركين، عن معبوديهم: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [سورة الزمر آية: 3] ، فهم كانوا يعبدون الله، ويعبدون معه غيره، لم ينف عنهم الفعل لوقوعه منهم، ونفى الوصف؛ لأن من عبد غير الله لم يكن ثابتا على عبادة الله، موصوفا بها. فتأمل هذه النكته البديعة، كيف تجد في طيها أنه لا يوصف بأنه عابد لله، وإن عبده، ولا المستقيم على عبادته، إلا من انقطع إليه بكليته، وتبتل إليه تبتيلا، لم يلتفت إلى غيره، ولم يشرك به أحدا في عبادته؛ وأنه إن عبده وأشرك به غيره، فليس عابدا لله، ولا عبدا له؛ وهذا من أسرار هذه السورة العظيمة الجليلة، التي هي أحد سورتي الإخلاص، التي تعدل ربع القرآن، كما جاء في بعض السنن. وهذا لا يفهمه كل أحد، ولا يدركه إلا من منحه الله فهما من عنده، فله الحمد والمنة. انتهى كلامه رحمه الله تعالى. وأما الإخلاص فحقيقته: أن يخلص العبد لله، في أقواله، وأفعاله، وإرادته، ونيته، وهذه هي: الحنيفية، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 293 ملة إبراهيم التي أمر الله بها عباده كلهم، ولا يقبل من أحد غيرها، وهي: حقيقة الإسلام {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [سورة آل عمران آية: 85] ، وهي ملة إبراهيم التي من رغب عنها فهو من أسفه السفهاء: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} [سورة البقرة آية: 130] . وقد تظاهرت دلائل الكتاب، والسنة، وإجماع الأمة، على اشتراط الإخلاص للأعمال والأقوال الدينية، وأن الله لا يقبل منها إلا ما كان خالصا وابتغي به وجهه، ولهذا كان السلف الصالح يجتهدون غاية الاجتهاد في تصحيح نياتهم، ويرون الإخلاص أعز الأشياء وأشقها على النفس، وذلك لمعرفتهم بالله وما يجب له، وبعلل الأعمال وآفاتها، ولا يهمهم العمل لسهولته عليهم; وإنما يهمهم سلامة العمل وخلوصه من الشوائب المبطلة لثوابه، والمنقصة له. قال الإمام أحمد رحمه الله: (أمر النية شديد) . وقال سفيان الثوري: "ما عالجت شيئا، أشد علي من نيتي لأنها تتقلب علي". وقال يوسف بن إسباط: "تخليص النية من فسادها، أشد على العاملين من طول الاجتهاد". وقال سهل بن عبد الله: "ليس على النفس شيء أشق من الإخلاص، ولأنه ليس لها فيه نصيب". وقال يوسف بن الحسين: (أعز شيء في الدنيا: الإخلاص، وكم أجتهد في إسقاط الرياء عن قلبي، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 294 وكأنه ينبت فيه على لون آخر، فيجب على من نصح نفسه أن يكون اهتمامه بتصحيح نيته، وتخليصها من الشوائب، فوق اهتمامه بكل شيء، لأن الأعمال بالنيات، ولكل امرئ ما نوى) . وأما ما بين الثلاثة من العموم والخصوص، وهل هو وجهي، أو مطلق؟ فقد قدمنا أن العبادة من حيث هي أعم من توحيد العبادة، عموما مطلقا، وأن العبادة المطلوبة شرعا هي نفس توحيد العبادة ; ودل كلام ابن القيم رحمه الله أن توحيد العبادة أعم من الإخلاص، حيث قال: فلواحد كن واحدا في واحد ... أعني سبيل الحق والإيمان هذا وثاني نوعي التوحيد تو ... حيد العبادة منك للرحمن أن لا تكون لغيره عبدا ولا ... تعبد بغير شريعة الإيمان فتقوم بالإسلام والإيمان وال ... إحسان في سر وفي إعلان والصدق والإخلاص ركنا ذلك الت ... وحيد كالركنين للبنيان إلى أن قال: وحقيقة الإخلاص توحيد المرا ... د فلا يزاحمه مراد ثان والصدق توحيد الإرادة وهو بذ ... ل الجهد لا كسلا ولا متوان والسنة المثلى لسالكها فتو ... حيد الطريق الأعظم السلطان فقوله رحمه الله: والصدق، والإخلاص، ركنا ذلك التوحيد، جعل الإخلاص، أحد ركني العبادة، والصدق ركنه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 295 الآخر، وفسر الصدق بما ذكر. وقال في بعض كلامه: ومقام الصدق جامع للإخلاص; فعرفنا رحمه الله أن توحيد العبادة أعم من الإخلاص، ولم يذكر إلا عموما مطلقا. وأما العموم الوجهي، فالظاهر، أن المراد به: إذا كان أحد الشيئين أعم من وجه، وأخص من وجه ; والعموم الذي بين مطلق العبادة، وبين توحيد العبادة، والإخلاص، مطلق لا وجهي. وأما الإله، فهو: الذي تألهه القلوب، بالمحبة، والخضوع، والخوف، والرجاء، وتوابع ذلك من: الرغبة، والرهبة، والتوكل، والاستغاثة، والدعاء، والذبح، والنذر، والسجود; وجميع أنواع العبادة: الظاهرة والباطنة ; فهو إله، بمعنى: مألوه، أي: معبود. وأجمع أهل اللغة أن هذا معنى الإله، قال الجوهري: أله بالفتح، إلهة، أي: عبد عبادة، قال: ومنه قولنا: الله، وأصله: إله، على فعال، بمعنى مفعول، لأنه مألوه، بمعنى معبود، كقولنا: إمام، فعال، بمعنى: مفعول، لأنه مؤتم به; قال: والتأليه: التعبيد; والتآله: التنسك والتعبد; قال رؤبة: سبحن واسترجعن من تأله ... ......................................... انتهى وقال في القاموس: أله، إلهة، وألوهة: عبد، عبادة ; ومنه لفظ الجلالة ; واختلف فيه على عشرين قولا ; يعني في لفظ الجلالة، قال، وأصله: إله، بمعنى: مألوه; الجزء: 2 ¦ الصفحة: 296 وكل ما اتخذ معبودا، إله عند متخذه; قال، والتأله: التنسك والتعبد. انتهى. وجميع العلماء من المفسرين، وشراح الحديث، والفقه، وغيرهم، يفسرون الإله بأنه: المعبود. وإنما غلط في ذلك بعض أئمة المتكلمين، فظن أن الإله هو القادر على الاختراع، وهذه زلة عظيمة وغلط فاحش، إذا تصوره العامي العاقل تبين له بطلانه، وكأن هذا القائل، لم يستحضر ما حكاه الله عن المشركين في مواضع من كتابه، ولم يعلم أن مشركي العرب وغيرهم يقرون بأن الله هو القادر على الاختراع، وهم مع ذلك مشركون. ومن أبعد الأشياء أن عاقلا يمتنع من التلفظ بكلمة يقر بمعناها، ويعترف به، ليلا ونهارا، سرا وجهارا; هذا ما لا يفعله، من له أدنى مسكة من عقل. قال أبو العباس، رحمه الله تعالى: وليس المراد بالإله هو القادر على الاختراع، كما ظنه من ظنه من أئمة المتكلمين، حيث ظن أن الألوهية هي القدرة على الاختراع، وأن من أقر بأن الله هو القادر على الاختراع، دون غيره، فقد شهد ألا إله إلا الله; فإن المشركين كانوا يقرون بهذا التوحيد، كما قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [سورة لقمان آية: 25] . وقال تعالى: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 297 أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [سورة المؤمنون آية: 84"85] الآيات، وقال تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [سورة يوسف آية: 106] . قال ابن عباس: (تسألهم من خلق السماوات والأرض; فيقولون: الله; وهم مع هذا، يعبدون غيره) . وهذا التوحيد من التوحيد الواجب، لكن لا يحصل به الواجب، ولا يخلص بمجرده عن الإشراك الذي هو أكبر الكبائر، الذي لا يغفره الله، بل لا بد أن يخلص لله الدين، فلا يعبد إلا إياه، فيكون دينه لله. والإله، هو: المألوه، الذي تألهه القلوب; فهو إله بمعنى مألوه لا بمعنى أله. انتهى. وقد دل صريح القرآن على معنى الإله، وأنه هو المعبود، كما في قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} [سورة الزخرف آية: 26"28] ، قال المفسرون: هي كلمة التوحيد: لا إله إلا الله، {بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} [سورة الزخرف آية: 28] ، أي: ذريته ; قال قتادة: لا يزال في ذريته من يعبد الله ويوحده; والمعنى: جعل هذه الموالاة، والبراءة من كل معبود سواه، كلمة باقية في ذرية إبراهيم، يتوارثها الأنبياء وأتباعهم، بعضهم عن بعض، وهي كلمة: لا إله إلا الله. فتبين: أن موالاة الله بعبادته والبراءة من كل معبود سواه، هو معنى لا إله إلا الله. إذا تبين ذلك، فمن صرف لغير الله شيئا من أنواع العبادة المتقدم تعريفها، كالحب، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 298 والتعظيم، والخوف، والرجاء، والدعاء، والتوكل، والذبح، والنذر، وغير ذلك، فقد عبد ذلك الغير واتخذه إلها، وأشركه مع الله في خالص حقه، وإن فر من تسمية فعله ذلك تألها، وعبادة وشركا. ومعلوم عند كل عاقل أن حقائق الأشياء لا تتغير بتغير أسمائها، فلو سمى: الزنى، والربا، والخمر، بغير أسمائها، لم يخرجها تغيير الاسم عن كونها: زنى، وربا، وخمرا، ونحو ذلك. ومن المعلوم أن الشرك إنما حرم لقبحه في نفسه، وكونه متضمنا مسبة الرب وتنقصه، وتشبيهه بالمخلوقين؛ فلا تزول هذه المفاسد بتغيير اسمه، كتسميته: توسلا، وتشفعا، وتعظيما للصالحين، وتوقيرا لهم، ونحو ذلك; فالمشرك مشرك، شاء أم أبى، كما أن الزاني زان، شاء أم أبى، والمرابي مراب، شاء أم أبى. وقد أخبر النبي (أن طائفة من أمته يستحلون الربا، باسم البيع، ويستحلون الخمر، باسم آخر غير اسمها، وذمهم على ذلك؛ فلو كان الحكم دائرا مع الاسم، لا مع الحقيقة، لم يستحقوا الذم، وهذه من أعظم مكائد الشيطان لبني آدم، قديما وحديثا ; أخرج لهم الشرك في قالب تعظيم الصالحين وتوقيرهم; وغير اسمه بتسميته إياه: توسلا، وتشفعا، ونحو ذلك; والله الهادي إلى سواء السبيل. وأما: تعريف الطاغوت، فهو مشتق من طغا، وتقديره الجزء: 2 ¦ الصفحة: 299 طغوت، ثم قلبت الواو ألفا، قال النحويون: وزنه: فعلوت، والتاء زائدة، قال الواحدي: قال جميع أهل اللغة: الطاغوت: كل ما عبد من دون الله، يكون واحدا، وجمعا، ويذكر، ويؤنث ; قال تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ} [سورة النساء آية: 60] . فهذا في الواحد، وقال تعالى في الجمع: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ} [سورة البقرة آية: 257] . وقال في المؤنث: {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا} [سورة الزمر آية: 17] . قال: ومثله: في أسماء الفلك، يكون واحدا، وجمعا، ومذكرا، ومؤنثا; قال: قال الليث، وأبو عبيدة، والكسائي، وجماهير أهل اللغة، الطاغوت: كل ما عبد من دون الله، وقال الجوهري، الطاغوت: الكاهن، والشيطان، وكل رأس في الضلال; وقال مالك، وغير واحد من السلف، والخلف: كل ما عبد من دون الله، فهو طاغوت. وقال: عمر بن الخطاب وابن عباس رضي الله عنهما وكثير من المفسرين: "الطاغوت الشيطان" قال ابن كثير: وهو قول قوي جدا، فإنه يشمل كل ما عليه أهل الجاهلية من: عبادة الأوثان، والتحاكم إليها، والاستنصار بها ; وقال الواحدي، عند قول الله تعالى: {يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} [سورة النساء آية: 51] : كل معبود من دون الله فهو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 300 جبت وطاغوت; قال ابن عباس في رواية عطية: "الجبت: الأصنام، والطاغوت: تراجمة الأصنام، الذين يكونون بين أيديهم، يعبرون عنها الكذب ليضلوا الناس؟ " وقال" في رواية الوالبي": "الجبت: الكاهن، والطاغوت: الساحر". وقال بعض السلف في قوله سبحانه: {يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ} [سورة النساء آية: 60] : إنه كعب بن الأشرف; وقال بعضهم: حيي بن أخطب، وإنما استحقا هذا الاسم، لكونهما من رؤساء الضلال، ولإفراطهما في الطغيان، وإغوائهما الناس، ولطاعة اليهود لهما في معصية الله؛ فكل من كان بهذه الصفة، فهو طاغوت، قال ابن كثير رحمه الله تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ} [سورة النساء آية: 60] لما ذكر ما قيل إنها نزلت في من طلب التحاكم إلى كعب بن الأشرف، أو إلى حاكم الجاهلية، وغير ذلك، قال: والآية أعم من ذلك كله، فإنها ذامة لمن عدل عن الكتاب والسنة، وتحاكم إلى ما سواهما من الباطل، وهو المراد بالطاغوت هاهنا. فتحصل من مجموع كلامهم رحمهم الله: أن اسم الطاغوت يشمل كل معبود من دون الله، وكل رأس في الضلال، يدعو إلى الباطل، ويحسنه، ويشمل أيضا: كل من نصبه الناس للحكم بينهم بأحكام الجاهلية المضادة لحكم الله ورسوله ; ويشمل أيضا: الكاهن، والساحر، وسدنة الأوثان، الداعين إلى عبادة المقبورين وغيرهم، بما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 301 يكذبون من الحكايات المضلة للجهال، الموهمة أن المقبور ونحوه يقضي حاجة من توجه إليه وقصده، وأنه فعل كذا وكذا، مما هو كذب أو من فعل الشياطين، ليوهموا الناس أن المقبور ونحوه يقضي حاجة من قصده؛ فيوقعوهم في الشرك الأكبر وتوابعه. وأصل هذه الأنواع كلها، وأعظمها: الشيطان، فهو: الطاغوت الأكبر. والله سبحانه وتعالى أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 302 [رسالة الشيخ عبد الرحمن بن حسن في معنى العبادة] وقال أيضا رحمه الله تعالى: بسم الله الرحمن الر حيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد، وآله وصحبه، الطيبين الطاهرين; أما بعد: فقد ورد علينا رسالة من شيخنا العلامة، الشيخ: عبد الرحمن بن حسن، متعنا الله بوجوده، متضمنة للإفادة، أخرجها مخرج السؤال، بقوله: عرفونا، ما معنى: العبادة؟ ويكون التعريف جامعا مانعا، وكذلك الإله المنفي، بكلمة الإخلاص، والإلهية المثبتة للحق سبحانه وتعالى؟ فالجواب، وبالله التوفيق: أما تعريف العبادة، فقد عرفها شيخنا محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله، في فوائده على كتابه: كتابه التوحيد، بأن العبادة هي: التوحيد، لأن الخصومة فيه، وأن من لم يأت به لم يعبد الله، فدل على أن التجرد من الشرك، لا بد منه في العبادة، وإلا فلا يسمى عبادة. وقال الشيخ تقي الدين،: العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه، من الأقوال والأفعال، فهي الغاية الجزء: 2 ¦ الصفحة: 303 المحبوبة له تعالى: وبها أرسل الرسل وأنزل الكتب كما قال نوح عليه السلام، لقومه: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [سورة الأعراف آية: 59] ، ?وكذلك هود، وصالح; وذلك أن الإله، يطلق على كل معبود بحق وباطل; والإله الحق هو الله; قال الله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [سورة محمد آية: 19] . ويسمى هذا النوع: توحيد الإلهية، لأنه مبني على إخلاص التأله، وهو: أشد المحبة لله وحده لا شريك له؛ وذلك يستلزم إخلاص العبادة، وتوحيد العبادة، وتوحيد الإرادة، لأنه مبني على إرادة وجه الله بالأعمال، وتوحيد القصد، لأنه مبني على إخلاص القصد المستلزم لإخلاص العبادة لله وحده، وتوحيد العمل، لأنه مبني على إخلاص العمل لله وحده، قال الله تعالى: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [سورة الزمر آية: 2"3] . فالموحد: من جمع قلبه ولسانه، مخلصا لله تعالى في الإلهية المقتضية لعبادته، بمحبته، وخوفه، ورجائه، ودعائه، والاستغاثة به، والتوكل عليه، وحصر الدعاء، بما لا يقدر على جلبه أو دفعه إلا الله وحده، والموالاة في ذلك والمعاداة فيه، وامتثال أمره، ناظرا إلى حق الخالق والمخلوق من الأنبياء، والأولياء، مميزا بين الحقين، وذلك واجب في علم القلب، وشهادته، وذكره، ومعرفته، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 304 ومحبته; وموالاته، وطاعته، وهذا من تحقيق "لا إله إلا الله". لأن معنى "الإله" عند الأولين: ما تألهه القلوب بالمحبة التي كحب الله، والتعظيم، والإجلال، والخضوع; قال الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} الآية [سورة البقرة آية: 165] ؛ فالمحبة التي لله، غير المحبة التي مع الله، قال الله تعالى، عن الكفار: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [سورة الشعراء آية: 97"98] . فمعنى شهادة ألا إله إلا الله أن يقولها نافيا بقلبه ولسانه الإلهية عن كل ما سواه، ومثبتها لمستحقها، وهو الله المعبود بالحق؛ فيكون معرضا بقلبه عن جميع المخلوقات، لا يتألههم فيما لا يقدر عليه إلا الله، مقبلا على عبادة رب الأرض والسماوات؛ وذلك يتضمن إرادة القلب في عبادته ومعاملته، ومفارقته في ذلك كل ما سواه; فيكون مفرقا في علمه وقصده، وشهادته وإرادته، ومعرفته ومحبته، بين الخالق والمخلوق؛ بحيث يكون عالما بالله، ذاكرا له، عارفا به، وأنه تعالى مباين لخلقه، منفرد عنهم بعبادته وأفعاله، وصفاته; ويكون محبا له، مستعينا به لا بغيره، متوكلا عليه لا على غيره. وهذا هو معنى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [سورة الفاتحة آية: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 305 5] ، وهي من خصائص الإلهية، كما أن رحمته لعبيده، وهدايته إياهم، وخلقه السماوات والأرض وما فيهما من الآيات، من خصائص الربوبية التي يشترك في معرفتها المؤمن والكافر، والبر والفاجر، حتى إبليس لعنه الله معترف بها في قوله: {رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي} [سورة الحجر آية: 39] ، وقوله: {أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [سورة الأعراف آية: 14] مقر بأن كل شيء في يده سبحانه، وإنما كفر بعناده وتكبره عن الحق، وطعنه فيه؛ وكذلك المشركون الأولون، يعرفون ربوبيته، وهم بها له معترفون، كما ذكر الله ذلك عنهم في قوله تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} الآية [سورة يونس آية: 31] ، وغيرها من الآيات، وكما يقولون في تلبيتهم: لا شريك لك، إلا شريك هو لك. فمن ترك التوحيد، وارتكب ضده من الإقبال إلى غير الله، بالتوكل عليه، ورجائه فيما لا يمكن إلا من الله، والتجأ إلى ذلك الغير، مقبلا عليه بقلبه، طالبا شفاعته، متوكلا عليه، راغبا إليه فيها، تاركا ما هو المطلوب المتعين عليه، متعلقا على المخلوق لأجله، فإن هذا بعينه فعل المشركين واعتقادهم. ولا نشأت فتنة في الوجود، إلا بهذا الاعتقاد، فصار شقيا بالإرادة الكونية. والإرادة الدينية أصل في إيجاد المخلوق، والإرادة الكونية أصل فيمن كتبت عليه الشقاوة، فلا ييسر إلا لها، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 306 ولا يعمل إلا بها، قال تعالى: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [سورة هود آية: 118"119] . فهي الإرادة الكونية، وهي لا تعارض الإرادة الدينية، التى هي أصل إيجاد المخلوقات؛ فمن ذلك قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [سورة الذاريات آية: 56] ، فقد يعبدون، وقد لا يعبدون؟ وقوله: " اعملوا فكل ميسر لما خلق له " 1، وكما في حديث القبضتين؟ فبهذا يتبين الفرق، بين الإرادة الكونية، والإرادة الدينية. وأما تعريف الشرك وأنواعه، فقد عرفه شيخنا الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله، في: كتاب التوحيد، فذكر أنواعه وأقسامه، وجليه وخفيه، وأكبره وأصغره، خصوصا الشرك في العبادة، مما عساك لا تجده مجموعا في غيره من الكتب المطولات، فإن الإيمان النافع لا يوجد إلا بترك الشرك مطلقا. وأما أنواعه، فمنها: الشرك في الربوبية، وهو نوعان: شرك التعطيل كشرك فرعون، وشرك الذي حاج إبراهيم في ربه، ومنه شرك طائفة ابن عربي، ومنه: شرك من عطل أسماء الرب سبحانه وأوصافه، من غلاة الجهمية، ومنه: شرك من جعل مع الله إلها آخر، ولم يعطل ربوبيته، كشرك النصارى الذين جعلوه ثالث ثلاثة. النوع الثاني: الشرك في أسمائه وصفاته: ومنه تشبيه   1 البخاري: تفسير القرآن (4949) , ومسلم: القدر (2647) , والترمذي: القدر (2136) , وابن ماجه: المقدمة (78) , وأحمد (1/82 ,1/157) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 307 الخالق بالمخلوق، كمن يقول: يد كيدي; وهو شرك المشبهة. والنوع الثالث: الشرك في توحيد الإلهية والعبادة، فكل ما ذكرنا من توحيد الإلهية، وأنواع العبادة، والقصد، التي لا يستحقها إلا الله، صرفها إلى غيره شرك. النوع الثاني من شرك العبادة: الشرك الأصغر، كالرياء، والسمعة، والعمل لأجل الناس. وقد قال شيخنا محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله: إن الشرك الأصغر أكبر من الكبائر، ومنه: الشرك في الألفاظ، كقول: ما شاء الله وشئت، ونحوه. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: الشرك نوعان: أكبر، وأصغر. فمن خلص منهما وجبت له الجنة، ومن مات على الأكبر وجبت له النار. ومن خلص من الأكبر، وحصل له بعض الأصغر، مع حسنات راجحة، دخل الجنة. ومن خلص من الأكبر، لكن كثر الأصغر حتى رجحت به سيئاته، دخل النار، وذلك على سبيل الإشارة والاختصار. والله أعلم. وأجاب أيضا: وقولك: هل تعريف العبادة تعريف العبودية؟ المراد: هل معناهما واحد؟. فالعبادة أخص من العبودية، واسم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 308 العبودية عام. قال ابن القيم، رحمه الله، في المدارج: العبودية نوعان: عامة، وخاصة. فالعبودية العامة: عبودية أهل السماء والأرض كلهم: مؤمنهم وكافرهم، وبرهم وفاجرهم، وهي: عبودية القهر والملك، قال تعالى: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً} [سورة مريم آية: 93] ، فهذا يدخل فيه مؤمنهم وكافرهم. وأما النوع الثاني: فعبودية الطاعة، والمحبة، واتباع الأوامر، قال تعالى: {يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً} [سورة الفرقان آية: 63] . وسئل أيضا الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين، عن قول من يقول: إن الأمر بعبادة الله وحده لا يفيد النهي عن الشرك، بل لا بدّ من النهي عن الشرك. فأجاب: قول الجاهل، الكاذب على الله، الهاضم لكلام الله عما أريد منه، من قوله: إن الأمر بعبادة الله وحده لا يفيد النهي عن الشرك، بل لا بد من النهي عن الشرك، فهذا مخطئ ضال؛ والوعيد الشديد فيمن قال في القرآن برأيه ولو أصاب; فكيف بمن قال برأيه وأخطأ؟ وقد قال ابن عباس: (كل ما ورد في القرآن من الأمر بالعبادة، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 309 فمعناها التوحيد) ، وعلى هذا جميع المفسرين، والعلماء. فعلى قول هذا الجاهل: إن قوله سبحانه: {اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ} [سورة البقرة آية: 21] ، وقوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [سورة الفاتحة آية: 5] ، وقوله: {وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [سورة الأنبياء آية: 92] ، وقوله: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [سورة الذاريات آية: 56] ، وقوله: {فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} [سورة العنكبوت آية: 56] ، ونحو ذلك، لا يفيد النهي عن الشرك، فإذا كانت العبادة المأمور بها، هي التوحيد والتوحيد هو إفراد الله بالإلهية، ونفيها عمن سواه، وهو معنى لا إله إلا الله، التي حقيقتها إثبات العبادة لله وحده، ونفي الشركة عن الله سبحانه فيها، وهذا أمر واضح ما يحتاج إلى إيضاح، فقد تبين بطلان قوله بما ذكرناه. وسئل عن معنى: لا إله إلا الله؟ وما تنفي، وما تثبت؟ فأجاب رحمه الله: أول واجب على الإنسان: معرفة معنى هذه الكلمة، قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ [سورة محمد آية: 19] ، وقال: {وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ} [سورة الزخرف آية: 86] ، أي بلا إله إلا الله، {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [سورة الزخرف آية: 86] ، بقلوبهم ما شهدوا به بألسنتهم فأفرض الفرائض: معرفة معنى هذه الكلمة، ثم التلفظ بها والعمل بمقتضاها؛ فالإله هو: المعبود، والتأله: التعبد، ومعناها: لا معبود إلا الله ; نفت الإلهية عمن سوى الله، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 310 وأثبتتها لله وحده. فإذا عرفت أن الإله هو: المعبود، والإلهية هي: العبادة، والعبادة: اسم جامع لكل ما يحبه الله تعالى ويرضاه، من الأقوال والأفعال; فالإله، هو: المعبود المطاع؛ فمن جعل شيئا من العبادة لغير الله، فهو مشرك، وذلك كالسجود، والدعاء، والذبح، والنذر; وكذلك التوكل، والخوف، والرجاء، وغير ذلك من أنواع العبادة الظاهرة والباطنة؛ وإفراد الله سبحانه بالعبادة، ونفيها عمن سواه، هو حقيقة التوحيد، وهو معنى لا إله إلا الله. فمن قال: لا إله إلا الله، بصدق ويقين، أخرجت من قلبه كل ما سوى الله، محبة وتعظيما، وإجلالا، ومهابة، وخشية، وتوكلا. فلا يصير في قلبه محبة لما يكرهه الله، ولا كراهة لما يحبه؛ وهذا حقيقة الإخلاص، الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم: " من قال لا إله إلا الله، مخلصا من قلبه، دخل الجنة، أو حرم الله عليه النار " 1. "قيل للحسن البصري: إن ناسا، يقولون: من قال لا إله إلا الله، دخل الجنة، فقال، من قال: لا إله إلا الله، فأدى حقها، وفرضها" إلخ. وغالب من يقول لا إله إلا الله، إنما يقولها تقليدا، ولم يخالط الإيمان بشاشة قلبه، فلا يعرف الإخلاص فيها؛ ومن لا يعرف ذلك، يخشى عليه أن يصرف عنها عند الموت؛ وغالب من يفتن في القبور،   1 أحمد (5/236) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 311 أمثال هؤلاء، كما في الحديث: "سمعت الناس يقولون شيئا فقلته " 1. نسأل الله أن يثبتنا وإياكم بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة. والله أعلم. وسئل: أيضًا، عن معنى لا إله إلا الله، وعمن قالها ولم يكفر بما يعبد من دون الله، وهل من قالها ودعا نبيا أو وليا تنفعه؟ أو هو: مباح الدم والمال، ولو قالها؟ فأجاب رحمه الله: معنى "لا إله إلا الله" عند جميع أهل اللغة، وعلماء التفسير، والفقهاء كلهم، يفسرون الإله بالمعبود; والتأله: التعبد، وأما العبادة، فعرفها بعضهم بأنها: ما أمر به شرعا من غير اطراد عرفي، ولا اقتضاء عقلي، والمأثور عن السلف تفسير العبادة بالطاعة، فيدخل في ذلك فعل المأمور وترك المحظور، من واجب ومندوب، وترك المنهي عنه من محرم ومكروه. فمن جعل نوعا من أنواع العبادة لغير الله، كالدعاء، والسجود، والذبح، والنذر، وغير ذلك، فهو مشرك. ولا إله إلا الله متضمنة للكفر بما يعبدون من دونه، لأن معنى لا إله إلا الله: إثبات العبادة لله وحده، والبراءة من كل معبود سواه؛ وهذا معنى الكفر بما يعبد من دونه، لأن معنى الكفر بما يعبد من دونه: البراءة منه، واعتقاد بطلانه، وهذا معنى الكفر بالطاغوت في قوله تعالى: {فَمَنْ   1 البخاري: العلم (86) , ومسلم: الكسوف (905) , وأحمد (6/345 ,6/354) , ومالك: النداء للصلاة (447) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 312 يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [سورة البقرة آية: 256] . والطاغوت: اسم لكل معبود سوى الله، كما في قوله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [سورة النحل آية: 36] ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: " من قال لا إله إلا الله، وكفر بما يعبد من دون الله، حرم ماله، ودمه، وحسابه على الله " 1، فقوله: "وكفر بما يعبد من دون الله" الظاهر: أن هذا زيادة إيضاح; لأن لا إله إلا الله، متضمنة الكفر بما يعبد من دون الله. ومن قال: لا إله إلا الله، ومع ذلك يفعل الشرك الأكبر، كدعاء الموتى والغائبين، وسؤالهم قضاء الحاجات، وتفريج الكربات، والتقرب إليهم بالنذور، والذبائح، فهذا مشرك، شاء أم أبى، و {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [سورة النساء آية: 48] ، و {مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} [سورة المائدة آية: 72] ، ومع هذا فهو شرك، ومن فعله فهو كافر. ولكن كما قال الشيخ: لا يقال فلان كافر، حتى يبين له ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فإن أصر بعد البيان، حكم بكفره، وحل دمه وماله; وقال تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} [سورة الأنفال آية: 39] ، أي: شرك {وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [سورة الأنفال آية: 39] . فإذا كان في بلد وثن يعبد من دون الله، قوتلوا لأجل هذا   1 مسلم: الإيمان (23) , وأحمد (3/472 ,6/394) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 313 الوثن، أي لإزالته، وهدمه، وترك الشرك، حتى يكون الدين كله لله. والدعاء دين، سماه الله دينا كما في قوله تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [سورة العنكبوت آية: 65] ، أي: الدعاء، وقال صلى الله عليه وسلم: "بعثت بالسيف بين يدي الساعة، حتى يعبد الله وحده لا شريك له" 1 فمتى كان شيء من العبادة مصروفا لغير الله، فالسيف مسلول عليه، والله أعلم. وسئل الشيخ عبد الله أبا بطين، عن إنكار النبي على من قال نستشفع بالله عليك.. إلخ. فقال: وما سألت عنه، من إنكار النبي صلى الله عليه وسلم على من قال: نستشفع بالله عليك، ولم ينكر قوله: نستشفع بك على الله، لأن معنى قوله: نستشفع بك على الله، أي: نطلب منك، أن تدعو الله أن يغيثنا، لأن الداعي شافع; ومعنى نستشفع بالله عليك: نطلب من الله أن يطلب منك أن تدعو لنا، وتستسقي لنا؛ فالله سبحانه يشفع إليه، ولا يستشفع هو إلى أحد. وأما آخر الحديث الذي أشار إليه، بعد قوله: "لا يستشفع به على أحد، شأن الله أعظم من ذلك، إن الله على عرشه، إن عرشه على سماواته وأرضه، هكذا بأصابعه، مثل القبة" 2 وفي لفظ: "وإن عرشه فوق سماواته، وسماواته فوق   1 أحمد (2/50) . 2 أبو داود: السنة (4726) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 314 أرضه، هكذا وقال بأصابعه مثل القبة" وقوله في الحديث الآخر: "إنه لا يستغاث بي" الحديث. فكأن النبي صلى الله عليه وسلم أراد بهذا الحماية لجانب التوحيد، وإن كانت الاستغاثة بالمخلوق فيما يقدر عليه جائزة، كقوله تعالى: {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} [سورة القصص آية: 15] ؛ وإذا أقبل عليك عدو، واستغثت بأصحابك ليعينوك، فهذا استغاثة بهم، والاستغاثة بالمخلوق فيما يقدر عليه جائزة. وسئل: أيضا، رحمه الله، عن سؤال الله بحق الكعبة، وطوافي عليك يا رب! وبحق محمد، ومدينته، عليك يا رب! وبحق القرآن، عليك يا رب! وبحق جبرائيل، والملائكة، والجنة، والنار، والشمس، والقمر، والأقطاب، والأبدال، والأوتاد، وغيرها؟ فأجاب: السؤال بهذه الأشياء التي ذكرتم، باطل لا أصل له؛ والمشروع إنما هو سؤاله سبحانه بأسمائه وصفاته، كما في الأحاديث المشهورة، والله أعلم. [رسائل الشيخ عبد اللطيف أن الله خلق الخلق لعبادته] قال الشيخ: عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن، رحمه الله تعالى: بسم الله الرحمن الر حيم اعلم رحمك الله أن الله خلق الخلق لعبادته، الجامعة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 315 لمعرفته، ومحبته، والخضوع له، وتعظيمه، والإنابة إليه، والتوكل عليه، وإسلام الوجه له; وهذا، هو الإيمان المطلق، المأمور به في جميع الكتب السماوية، وسائر الرسالات النبوية؛ ويدخل في باب معرفة الله تعالى توحيد الأسماء، والصفات فيوصف سبحانه بما وصف به نفسه من صفات الكمال ونعوت الجلال، وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، لا يتجاوز ذلك، ولا يوصف إلا بما ثبت في الكتاب والسنة. وجميع ما في الكتاب والسنة يجب الإيمان به، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، قال الله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [سورة الأعراف آية: 180] ، فأسماؤه كلها حسنى، لأنها تدل على الكمال المطلق، والجلال المطلق، والصفات الجميلة؛ فنثبت ما أثبته الرب لنفسه، وما أثبته رسوله صلى الله عليه وسلم، لا نعطله، ولا نلحد فيه، ولا نشبه صفات الخالق بصفات المخلوق، فإن تعطيل الصفات، عما دلت عليه كفر، والتشبيه فيها كذلك كفر. وقد قال مالك بن أنس، رحمه الله، لما سأله رجل، فقال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [سورة طه آية: 5] ، كيف استوى؟ فاشتد ذلك على مالك رحمه الله.، حتى علته الرحضاء، إجلالا لله وهيبة له من الخوض في ذلك، ثم قال رحمه الله: الاستواء معلوم، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة. يريد رحمه الله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 316 تعالى السؤال عن الكيفية. وهذا الجواب: يقال في جميع الصفات، لأنه يجمع الإثبات والتنزيه ويدخل في الإيمان بالله ومعرفته، الإيمان به وبربوبيته العامة الشاملة لجميع الخلق والتكوين، وقيوميته العامة الشاملة لجميع التدبير والتيسير والتمكين؛ فالمخلوقات بأسرها، مفتقرة إلى الله، في قيامها، وبقائها، وحركاتها، وسكناتها، وأرزاقها، وأفعالها، كما هي مفتقرة إليه في خلقها، وإنشائها، وإبداعها، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} [سورة فاطر آية: 15"17] . ويدخل في الإيمان به إيمان العبد بتوحيد الإلهية الذي تضمنته شهادة الإخلاص: لا إله إلا الله. فقد تضمنت نفي استحقاق العبادة بجميع أنواعها عما سواه تعالى، من كل مخلوق. ومربوب؟ وأثبت ذلك على وجه الكمال الواجب والمستحب لله تعالى، فلا شريك له في فرد من أفراد العبادة، إذ هو الإله الحق المستحق، المستقل بالربوبية، والملك، والعز، والغنى، والبقاء. وما سواه فقير مربوب، معبد خاضع، لا يملك لنفسه نفعا، ولا ضرا; فعبادة سواه من أظلم الظلم، وأسفه السفه; والقرآن كله راد على من أشرك بالله، في هذا التوحيد، مبطل لمذهب جميع أهل الشرك والتنديد، آمر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 317 ومرغب في إسلام الوجه لله، والإنابة إليه، والتوكل عليه، والتبتل في عبادته؛ ومعنى العبادة في أصل اللغة لمطلق الذل والخضوع، ومنه: طريق معبد إذا كان مذللا، قد وطأته الأقدام، كما قال الشاعر: تبارى عتاقا ناجيات واتبعت ... وظيفا وظيفا فوق مور معبد واستعملها الشارع في العبادة الجامعة لكمال المحبة، وكمال الذل والخضوع. وأوجب الإخلاص له فيها، كما قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [سورة الزمر آية: 2"3] . وهذا هو التوحيد الذي جاءت به الرسل، ونزلت به الكتب. والعبادة إذا خالطها الشرك، أفسدها، وأبطلها; ولا تسمى عبادة، إلا مع التوحيد؟ قال ابن عباس: "ما جاء في القرآن من الأمر بعبادة الله إنما يراد به التوحيد". انتهى. ويدخل في العبادة الشرعية كل: ما شرعه الله ورضيه، من الأقوال والأعمال، الباطنة والظاهرة، كمحبة الله، وتعظيمه، وإجلاله، وطاعته، والتوكل عليه، والإنابة إليه، ودعائه خوفا وطمعا، وسؤاله رغبا ورهبا، وصدق الحديث، وأداء الأمانة، والوفاء بالعهود، وصلة الأرحام، والإحسان إلى الجار واليتيم والمملوك والمسكين وابن السبيل، وكذا النحر والنذر، فإنهما من أجل العبادات وأفضل الطاعات، وكذا الطواف ببيته تعالى، وحلق الرأس تعظيما وعبودية، وكذا سائر الواجبات الجزء: 2 ¦ الصفحة: 318 والمستحبات. فحق الله على العباد: أن يعبدوه وحده لا شريك له، ولا يشركوا به شيئا والشرك في العبادة ينافي هذا التوحيد ويبطله، كما قال تعالى، لما ذكر حال خواص أوليائه ومقربي رسله: {ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [سورة الأنعام آية: 88] . والشرك قد عرفه النبي صلى الله عليه وسلم بتعريف جامع، كما في حديث ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: " يا رسول الله، أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله ندا وهو خلقك " 1، والند: المثل والشبيه. فمن صرف شيئا من العبادات لغير الله، فقد أشرك به، شركا يبطل التوحيد وينافيه، لأنه شبه المخلوق بالخالق، وجعله في مرتبته، ولهذا كان أكبر الكبائر على الإطلاق، ولما فيه من سوء الظن به تعالى، كما قال الخليل عليه السلام: {أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [سورة الصافات آية: 86"87] . قال العلامة ابن القيم رحمه الله: أي: فما ظنكم أن يجازيكم إذا لقيتموه، وقد عبدتم غيره؟ وما ظننتم بأسمائه وصفاته، وربوبيته من النقص، حتى أحوجكم ذلك إلى عبودية غيره؟ فلو ظننتم به ما هو أهله، من أنه بكل شيء عليم، وعلى كل شيء قدير، وأنه غني عن كل ما سواه، وكل ما سواه فقير إليه، وأنه قائم بالقسط على خلقه، وأنه المتفرد   1 البخاري: الأدب (6001) , ومسلم: الإيمان (86) , والترمذي: تفسير القرآن (3182 ,3183) , والنسائي: تحريم الدم (4013 ,4014 ,4015) , وأبو داود: الطلاق (2310) , وأحمد (1/431 ,1/434 ,1/462 ,1/464) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 319 بتدبير خلقه، لا يشركه فيه غيره، والعالم بتفاصيل الأمور، فلا تخفى عليه خافية من خلقه، والكافي لهم وحده، لا يحتاج إلى معين، والرحمن بذاته، فلا يحتاج في رحمته إلى من يستعطفه. وهذا بخلاف الملوك وغيرهم من الرؤساء، فإنهم محتاجون من يعرفهم أحوال الرعية وحوائجهم، والذي يعينهم على قضاء حوائجهم إلى من يسترحمهم ويستعطفهم بالشفاعة، فاحتاجوا إلى الوسائط ضرورة، لحاجتهم، وعجزهم، وضعفهم وقصور علمهم. فأما القادر على كل شيء، الغني بذاته عن كل شيء، العالم بكل شيء، الرحمن الرحيم، الذي وسعت رحمته كل شيء، فإدخال الوسائط بينه وبين خلقه تنقص بحق ربوبيته وإلهيته وتوحيده، وظن به طن السوء، وهذا يستحيل أن يشرعه لعباده، ويمتنع في العقول والفطر، وقبحه مستقر في العقول السليمة فوق كل قبيح. انتهى. إذا عرفت هذا، فصلاح العبد وفلاحه، وسعادته ونجاته، وسروره ونعيمه، في إفراد الله بهذه العبادات، والإنابة إليه بما شرعه لعباده منها:" وهو أصلها" كمال المحبة، وكمال الذل والخضوع، كما تقدم. هذا سر العبادة وروحها، ولا بد في عبادة الله من كمال الحب، وكمال الخضوع، فأحب خلق الله إليه، وأقربهم منزلة عنده، من قام بهذه المحبة والعبودية، وأثنى عليه" سبحانه" بذكر أوصافه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 320 العلى، فمن أجل ذلك كان الشرك أبغض الأشياء إليه، لأنه ينقص هذه المحبة، والخضوع، والإنابة، والتعظيم، ويجعل ذلك بينه وبين من أشرك به. والله لا يغفر أن يشرك به، لأنه يتضمن التسوية بينه تعالى وبين غيره في المحبة والتعظيم، وغير ذلك من أنواع العبادة، قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} [سورة البقرة آية: 165] ، أخبر سبحانه أن من أحب شيئا دون الله كما يحب الله فقد اتخذه ندا، وهذا معنى قول المشركين لمعبوديهم: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [سورة الشعراء آية: 97"98] ، فهذه تسوية في المحبة والتأله، لا في الذات والأفعال والصفات؛ فمن صرف ذلك لغير إلهه الحق، فقد أعرض عنه، وأبق عن مالكه وسيده، فاستحق مقته وبغضه، وطرده عن دار كرامته ومنزل أحبابه. والمحبة: ثلاثة أنواع: محبة طبيعية، كمحبة الجائع للطعام، والظمآن للماء، وغير ذلك، وهذا لا يستلزم التعظيم. والنوع الثاني: محبة رحمة وإشفاق، كمحبة الوالد لولده الطفل، ونحوها، وهذه أيضا لا تستلزم التعظيم. والنوع الثالث: محبة أنس وألفة، وهي محبة المشتركين في صناعة، أو علم، أو مرافقة، أو تجارة، أو سفر، بعضهم لبعض، وكمحبة الإخوة بعضهم بعضا. فهذه المحبة التي تصلح للخلق بعضهم من بعض، ووجودها فيهم لا يكون الجزء: 2 ¦ الصفحة: 321 شركا في محبة الله سبحانه، ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب الحلوى والعسل، وكان أحب الشراب إليه الحلو البارد، وكان أحب اللحم إليه الذراع، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب نساءه، وكانت عائشة أحبهن إليه، وكان يحب أصحابه، وأحبهم إليه الصديق. وأما المحبة الخاصة، التي لا تصلح إلا لله وحده، ومتى أحب العبد بها غيره كان شركا لا يغفره الله، فهي محبة العبودية، المستلزمة للذل والخضوع، والتعظيم وكمال الطاعة، وإيثاره على غيره. فهذه المحبة لا يجوز تعليقها بغير الله أصلا، وهي التي سوى المشركون بين آلهتهم وبين الله فيها، وهي أول دعوة الرسل، وآخر كلام العبد المؤمن، الذي إذا مات عليه دخل الجنة، باعترافه وإقراره بهذه المحبة، وإفراد الرب بها. فهي أول ما يدخل به في الإسلام، وآخر ما يخرج به من الدنيا إلى الله. وجميع الأعمال كالأدوات والآلات لها; وجميع المقامات وسائل إليها، وأسباب لتحصيلها وتكميلها وتحصينها من الشوائب والعلل، فهي: قطب رحى السعادة، وروح الإيمان، وساق شجرة الإسلام؛ ولأجلها أنزل الله الكتاب، والحديد، فالكتاب هاد إليها ودال عليها، ومفصل لها; والحديد لمن خرج عنها، وأشرك مع الله غيره فيها، ولأجلها خلقت الجنة والنار، فالجنة دار، أهلها الذين أخلصوها لله وحده، وأخلصهم لها. والنار دار من أشرك فيها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 322 مع الله غيره، وسوى بينه وبين الله فيها. فالقيام بها واجب، علما وعملا وحالا، وتصحيحها هو تصحيح شهادة أن لا إله إلا الله. فحقيق لمن نصح نفسه، وأحب سعادتها ونجاتها، أن يتيقظ لهذة المسألة، وتكون أهم الأشياء عنده، وأجل علومه وأعماله، فإن الشأن كله فيها، والمدار عليها، والسؤال عنها يوم القيامة، كما قال تعالى: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [سورة الحجر آية: 92"93] ، قال غير واحد من السلف: عن قول لا إله إلا الله; وهذا حق، فإن السؤال كله عنها، وعن أحكامها وحقوقها، قال أبو العالية: "كلمتان يسأل عنهما الأولون والآخرون: ماذا كنتم تعبدون؟ ماذا أجبتم المرسلين؟ ". فالسؤال عما كانوا يعبدون السؤال عنها نفسها، والسؤال عن ماذا أجابوا المرسلين سؤال عن الوسيلة والطريقة المؤدية، هل سلكوها، وأجابوا الرسل لما دعوهم إليها فعاد الأمر كله إليها. وأمر هذا شأنه، حقيق أن تثنى عليه الخناصر، ويعض عليه بالنواجذ، ويقبض فيه على الجمر، ولا يؤخذ بأطراف الأنامل، ولا يطلب على فضلة، بل يجعل هو المطلوب الأعظم، وما سواه إنما يطلب على فضلة، والله المسؤول أن يمن علينا بتحقيق ذلك، علما وعملا وحالا. ونعوذ بالله أن يكون حظنا من ذلك مجرد حكايته ; وصلى الله على محمد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 323 وسئل أيضًا الشيخ: ٍعبد اللطيف بن عبد الرحمن، رحمهما الله تعالى، عن تفصيل ما يجب على الإنسان من التوحيد وأنواعه، وما يجب فيه، من المعاداة والموالاة؟ فأجاب: معرفة التفاصيل تتوقف على معرفة الأحكام الشرعية، من أدلتها التفصيلية. فالدين كله توحيد، لأن التوحيد إفراد الله بالعبادة، وأن تعبده مخلصا له الدين; والعبادة: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه، من الأقوال والأعمال، الظاهرة والباطنة فيدخل في ذلك قول القلب وعمله، وقول اللسان، وعمل الجوارح؛ وترك المحظورات والمنهيات داخل في مسمى العبادة، ولذلك فسر قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [سورة البقرة آية: 21] ، بالتوحيد في العبادة، لأن الخصومة فيه، وهو تفسير ابن عباس. إذا عرفت هذا، عرفت أن على العبد أن يخلص أقواله وأعماله لله؛ وأن من صرف شيئا من ذلك لغيره فقد أشرك في عبادة ربه، ونقص توحيده وإيمانه، وربما زال بالكلية إذا اقتضى شركه التسوية بربه، والعدل به، وتضمن مسبة الله; فإن الشرك الأكبر يتضمنهما، ولهذا ينزه الرب تعالى، ويقدس نفسه عن ذلك الشرك في مواضع من كتابه، كقوله تعالى: {سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [سورة القصص آية: 68] ، {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 324 [سورة الصافات آية: 180"182] ، {وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [سورة يوسف آية: 108] . ومحل تفاصيلها الكتب المصنفة في بيان الأحكام الشرعية، وواجباتها ومستحباتها; سواء كانت في معرفة القلوب وعلمها، أو عملها وسيرها، فالأول: العقائد، وهي: التوحيد العلمي. وقد صنف أهل السنة فيها مصنفات، من أحسنها: كتب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله. وأما الثاني، وهو: علم أعمال القلوب وسيرها، المسمى: علم السلوك، فقد بسط القول فيه ابن القيم رحمه الله تعالى، في شرح المنازل، وفي: سفر الهجرتين. وأما أعمال الجوارح الظاهرة، فالمصنفات فيها أكثر من أن تحصر; وبالجملة: فمعرفة جميع تفاصيل العبادة تتعذر، إذ ما من عالم إلا وفوقه من هو أعلم منه، حتى ينتهي العلم إلى الله تعالى. وأما الموالاة والمعاداة، فهي من أوجب الواجبات، وفي الحديث: " أوثق عرى الإيمان: الحب في الله، والبغض في الله " وأصل الموالاة: الحب، وأصل المعاداة: البغض؛ وينشأ عنهما من أعمال القلوب والجوارح ما يدخل في حقيقة الموالاة والمعاداة، كالنصرة، والأنس، والمعاونة، وكالجهاد، والهجرة، ونحو ذلك من الأعمال؛ والولي ضد العدو. [جواب الشيخ عبد اللطيف عن معنى لا إله إلا الله] وسئل أيضا الشيخ عبد اللطيف، عن معنى لا إله إلا الله، فأجاب: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 325 بسم الله الرحمن الر حيم الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى; وبعد: فقد خاض بعض الجاهلين في معنى كلمة الإخلاص وإعرابها، وأتى بخلط وجهل لا يسع السكوت عليه؛ فنقول: اعلم أن لا إله إلا الله هي كلمة التقوى، والعروة الوثقى، وأصل دين الإسلام، ومفتاح دار السلام; قد دلت بمنطوقها وموضوعها على نفي استحقاق الإلهية عن غيره تعالى، والبراءة من كل معبود سواه، قولا وفعلا، وإثبات استحقاق الإلهية على وجه الكمال لله تعالى. فالأول: وهو النفي، يستفاد من: لا واسمها وخبرها المقدر؛ والإثبات: يستفاد من الاستثناء، لأن الإثبات بعد النفي المتقدم أبلغ من الإثبات بدونه؛ وهذه طريقة القرآن، يقرن بين النفي والإثبات غالبا، كما في هذا الموضع، لأن المقصود لا يحصل إلا بهما، قال تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ} [سورة البقرة آية: 256] ، وقال: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [سورة النحل آية: 36] . وقال: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [سورة الإسراء آية: 23] ، وقال: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} [سورة هود آية: 1"2] ، وقال عن نبيه يوسف: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} [سورة يوسف آية: 40] ، وهذا هو معنى: لا إله إلا الله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 326 قال ابن القيم رحمه الله: وطريقة القرآن في مثل هذا، أن يقرن النفي بالإثبات، فينفي عبادة ما سوى الله، ويثبت عبادته: وهذا هو حقيقة التوحيد، والنفي المحض ليس بتوحيد، وكذلك الإثبات بدون النفي؛ فلا يكون التوحيد، إلا متضمنا للنفي والإثبات، وهذا حقيقة لا إله إلا الله. انتهى. ولذلك أفادت هذه الكلمة، الحصر والاختصاص؛ وقرر بعض المحققين لهذه الكلمة الطيبة، وما شابهها من الآيات التي ابتدأت بنفي الإلهية والعبادة عن غير الله، أن ذلك أبلغ وآكد في الإثبات والاختصاص; ومنه: لا رجل إلا زيد، أو: لا كريم إلا زيد، فإنه مع إفادته نفي الصفة عن غير المستثنى، أفاد إثباتها له على وجه الكمال الذي لا يتأتى بمجرد الإثبات، من غير نفي، فلا تقيده: زيد رجل; أو زيد كريم; ولأن بين النفي والإثبات هنا تلازم من كل وجه، فلا براءة من الشرك وعبادة غير الله إلا بتوحيده، ولا توحيد إلا بالبراءة من كل معبود سوى الله؛ وكما تضمنت العلم، فهي تتضمن العمل؛ ولا يتصور وجود شهادة، وإذعان وإتيان بمدلولها إلا مع العلم والعمل، وهذا الذي قررناه تدل عليه عبارات أهل العلم، من اللغويين والمفسرين وغيرهم. والإله وضع لكل معبود، حقا كان أو باطلا، لأنه مشتق من الإلهة، بمعنى: العبادة، قال في القاموس: أله، يأله، إلهة، وألوهية: عبد، يعبد، عبادة; وكل من عبد شيئا، فقد اتخذه إلها. انتهى، وقال غيره: إله، اسم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 327 جنس، يقع على كل معبود; والإله، بمعنى المألوه، كالكتاب بمعنى المكتوب. قال شيخ الإسلام: الإله هو الذي تألهه القلوب، محبة، وذلا وإنابة، وتعظيما، وتوكلا، وخوفا، ورجاء. وكذا قال ابن القيم، وابن رجب، وغيرهما من أهل العلم. وبعد التعريف، والتفخيم، صار علما على ربنا جل وعلا، قال سيبويه: هو أعرف المعارف; قال تعالى متمدحا بذلك: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} [سورة مريم آية: 65] ، والدليل على أنه بمعنى العبادة، قول رؤبة: لله در الغانيات المُدَّهِ ... سبحن واسترجعن من تأله يعني تعبد، وقرأ ابن عباس: {وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ} [سورة الأعراف آية: 127] ، أي: عبادتك، وزنا ومعنى) ; وأما التعبيد، فهو في الأصل: التذليل، كما قال الشاعر: تباري عتاقا ناجيات وأتبعت ... وظيفا وظيفا فوق مور معبد والمور المعبد هو: الطريق المذلل. وفي الاصطلاح: هي أخص، لأنه لا بد فيها من وجود الركن الأعظم، وهو الحب، قال في الكافية:" وعبادة الرحمن غاية حبه ... مع ذل عابده هما قطبان والقطب: الأس الذي عليه المدار. وبهذا يتبين أن المقصود: نفي استحقاق العبادة عن غيره تعالى، لا نفي وجود التأله والتعبد لسواه; فإن نفي وجوده مكابرة للحس والنص، قال تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 328 عِزّاً} [سورة مريم آية: 81] ، وقال: {أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ} [سورة الصافات آية: 86] ، وقال عن صاحب يس: {أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً} [سورة يس آية: 23] ، فسمى معبوداتهم على اختلاف أجناسها آلهة؛ وعبادة غير الله وجدت وانتشرت، واشتهرت في الأرض، من عهد قوم نوح، وقد تقدم أن من عبد شيئا، فقد اتخذه إلها؛ ويدل عليه، قوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [سورة الكافرون آية: 1] . وقد غلط هنا بعض الأغبياء، وقدر الخبر: "موجود"، وبعضهم قدره: "ممكن"، ومعناه: أنه لا يوجد، ولا يمكن وجود إله آخر، وهذا جهل بمعنى الإله; ولو أريد بهذا الاسم الإله الحق وحده، لما صح النفي من أول وهلة؛ والصواب: أن يقدر الخبر: "حق"، لأن النزاع بين الرسل وقومهم في كون آلهتهم حقا أو باطلا، قال تعالى: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [سورة سبأ آية: 24] ، وأما إلهية الله فلا نزاع فيها، ولم ينفها أحد ممن يعترف بالربوبية. لكن زعموا أن إلهية أندادهم وأصنامهم، حق أيضا، ولذلك قالت لهم رسلهم: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [سورة الأعراف آية: 59] ؛ وبادر منهم من جحد ذلك بقوله: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً} [سورة ص آية: 5] ، لما دعي إلى هذه الكلمة، فأنكروا إبطال عبادتها المستلزم لإبطال تسميتها، وهذا مستفيض عندهم، قد ارتاضت به الجزء: 2 ¦ الصفحة: 329 ألسنتهم، لا يحتاجون فيه إلى موقف ومعلم، بل عرفوه بمجرد الوضع، قال أبو جهل لأبي طالب لما دعاه النبي صلى الله عليه وسلم إلى كلمة الإخلاص: أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فعرف بعربيته أنها تبطل عبادة وإلهية من عبده عبد المطلب وقومه، وهذا قصر إفراد، لا قصر قلب، لأن المقصود إفراده بالإلهية واستحقاقها. فيكون النفي على هذا منصبا على الخبر، وهو: "حق" المقدر. وتقديره: موجود، أو ممكن، لا يفيد ما تقدم، إلا إذا وصف الاسم بحق; وقيل: لا إله حق موجود، فحينئذ يستقيم الكلام، ويرجع إلى ما قلنا. و"لا" هذه هي: النافية للجنس، واسمها يبنى معها على الفتح، على المشهور، والخبر ما مر تقريره، و"إلا" أداة استثناء، وما بعدها هو المستثنى، وهو مرفوع، والعامل فيه، هو العامل في الخبر لأنه بدل منه عند البصريين، وعند الكوفيين هو عطف نسق، قال ثعلب: كيف يكون بدلا، وهو موجب، ومتبوعه منفي يريد أن التابع والمتبوع لا بد أن يتوافقا نفيا وإثباتا، وأجيب عنه بأنه بدل منه في عمل العامل؛ وتخالفهما في النفي والإيجاب لا يمنع البدلية، وأجاب خالد الأزهري بأن محل اشتراط ذلك في غير بدل البعض. قلت: وبما قالوه، يعلم أن المستثنى مغاير للمستثنى منه معنى ولفظاً، فمن أجهل خلق الله وأضلهم من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 330 فهم دخول المثبت في المنفي، والمستثنى في المستثنى منه; فكيف يتوهم من يعقل ما يقول دخول الإله الحق في اسم: "لا" المنفي؟! وهل بعد هذا التوهم من الضلال، أمد ينتهي إليه؟ وقد ترد "إلا" بمعنى: غير، كما في قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [سورة الأنبياء آية: 22] ، وذلك إذا كان الموصوف جمعا أو شبهه، ويؤيده حديث الاستفتاح: "سبحانك اللهم وبحمدك .... ولا إله غيرك" وعاقبت "غير" "إلا" في هذا المحل، وهي تفيد مغايرة ما قبلها لما بعدها بالذات، كما إذا قلت: جاءني رجل غير زيد، وفي الصفات، كقولك: خرجت بوجه غير الذي دخلت. إذا عرفت ذلك، فاعلم أنه رفع إلي رسالة لرجل فارسي تكلم فيها على معنى: لا إله إلا الله، وأتى بخلط وضلال، يخالف ما عليه أهل العلم في هذا المقام، من ذلك: أنه افتتح رسالته بقوله: الحمد لله المتوحد بجميع الجهات، وهذه العبارة دائرة بين أمرين: إما سوء المعتقد، والقول بأنه تعالى في كل مكان، كما هو قول أهل الحلول، وإما الجهل بالعربية ومعاني الحروف، ولا يقال إن "الباء" بمعنى "من" لأنها لا تنوب إلا عن "من" التبعيضية، ويشترط في نيابتها أن تشرب معنى لا يستفاد من "من"، وقد اجتمع الأمران في قوله تعالى: {عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} [سورة الإنسان آية: 6] ، وقول الشاعر: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 331 شربن بماء البحر ثم ترفعت ... متى لجج خضر لهن نئيج ثم قال في رسالته: وبالله التمسك والاعتصام; والتمسك إنما يكون بدينه، وكتابه، وأمره، ولا يقال: تمسكت بالله، لأن التمسك بمعنى: الالتزام والأخذ والثبات; ولا تليق هذه المعاني هاهنا، وقال في رسالته: إن الإله وضع في اللغة للمعبود فقط، لا بقيد الحقيقة أو البطلان; وهذه العبارة كذب على اللغة، فإن كتب اللغة بأجمعها، دلت وقررت أن الإله موضوع لكل معبود، وأدلة ذلك تعرف في مواضعها، فلا نطيل بذكرها. وأيضا هذه العبارة فاسدة، من جهة المعنى، فإنه لا يتصور، ولا يوجد إله غير مقيد، ولا موصوف بحق أو باطل، هذا كلام لا يعقل، فكيف ينسب إلى اللغة، أو ينقل، فإن القسمة في مسمى الإله ثنائية، إما حق أو باطل؟ وتجويز الثالث مستحيل عقلا وشرعا، ولا يقول هذه العبارة إلا مخبول في عقله، جاهل في حكايته ونقله. وقال في رسالته: إن الإله في "لا إله إلا الله" واقع على الإله الحق، وسميت آلهة، باعتبار زعم من عبدها، وهذا منه جهل عريض، وظلمات مركبة، كيف يقع في ذهن من له أدنى تعقل وتفهم تجويز ذلك، وأن الله ورسوله يسميها آلهة، باعتبار زعمهم، ويجاريهم في هذا الزعم والتسمية، ثم يكفرهم بهذا، ويبيح دماءهم وأموالهم، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 332 ونساءهم، لعباده المؤمنين؟ ويرتب على تركه والبراءة منه، ما رتبه من الإسلام والإيمان، والأحكام الدنيوية والأخروية. ولو جارى قريشا، وسماها أسماء تختص بالحق، لما حصل التوحيد والإيمان، من مدلول هذه الكلمة، ولما قالوا له: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً} [سورة ص آية: 5] ؛ لأن المثبت عين المنفي، على زعم هذا، وهو الإله الحق; وهذا تغيير لدين الإسلام، وإلحاد في معنى كلمة الإخلاص، وتأييد لما زعمه عباد الأصنام، من أنها حق لا باطل {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [سورة يوسف آية: 40 والروم آية 30] . ولذلك راج بهرجه على جهلة المدعين للطلب، أتباع كل ناعق، الذين لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجؤوا إلى ركن وثيق في المعتقد، فأي ريح هبت مالت بهم، وأي غرض عرض عصفهم؛ فنعوذ بالله من الحور بعد الكور، ومن الضلال بعد الهدى، ومن الغي بعد الرشاد. ويرده قوله تعالى: {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [سورة الأنعام آية: 33] . وقوله: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ} الآية [سورة النمل آية: 14] ؛ فإن فيها أنهم يعرفون بطلانها، ولا يعتقدون في الباطن أنها حق، وهذا يبطل قوله: سميت آلهة باعتبار اعتقاد من عبدها، ويبطل قوله: وأن العبادة لا تسمى عبادة إلا مع اعتقاد العابد أنها حق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 333 وقال في رسالته: إن إله وضع للمفهوم الكلي، يريد به تقرير ما مر من الباطل، والكلي هو الذي لا يتقيد بذات، ولا بصفة. وهذه قضية كاذبة خاطئة، لم يوضع إلا للجنس الشايع في أفراده، والمعاني الكلية لا توجد إلا ذهنية، لا خارجية؛ ولذلك ضل من ضل من المتكلمين في إثبات وجود الرب، ووجود ذاته، وقال بنفي الصفات؛ بناء على أن الكلي لا يتقيد، ولا يتخصص بصفة من الصفات؛ وهذا من أكبر قواعدهم، وإفكهم الذي جر إليهم الكفر الجلي، وجحد ما في الكتاب والسنة من الصفات. وكلام السلف: في تكفيرهم وتضليلهم موجود مشهور، لا نطيل بذكره، فمن أقل ما قيل فيهم، قول محمد بن إدريس الشافعي: حكمي في أهل الكلام: أن يضربوا بالجريد والنعال، ويطاف بهم في العشائر والقبائل، ويقال: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة، وأقبل على علم الكلام. وأصل ضلال: جهم، أنه لقي قوما من السمنية، فجادلهم بالكلام والمنطق، فقالوا له: ألست تزعم أن لك إلها؟ قال: نعم. قالوا: فهل رأيته؟ هل سمعته؟ أو لمسته؟ أو ذقته؟ قال: لا; فتحير الخبيث أريعين يوما، لا يدري من يعبد. ثم استدرك حجة من جنس حجج النصارى، وقال لهم: أنتم تقولون بوجود الروح، هل رأيتموها؟ أو سمعتموها؟ أو لمستموها؟ أو ذقتموها؟ قالوا: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 334 لا، قال: فكذلك، هو، روح غائب عن الأبصار. وهذا الكلام الذي أورده السمنية على جهم، باطل مموه؛ وهؤلاء يقال لهم: السفسطائية، وأصل هذه الكلمة ومعناها: الحكمة المموهة. وحق الكلام أن يقال: ما لا يحس، ولا يمكن الإحساس به، لا يكون موجودا، فموهوا بأن ما لا يحسه هو، ويدركه بحواسه، لا يكون موجودا. فارتبك الغبي، ولم يفرق بين ما لا يمكن إحساسه، وما لا يدركه هو بحاسته، فأجاب بجوابه الفاسد المتقدم. ولو هدي للعقل والنقل، لفرق بين العبارتين، وقال لهم: الله تعالى يمكن الإحساس به، فيرى يوم القيامة، ويسمع كلامه، وقد أدرك موسى كلامه بحاسة سمعه، وسمعته ملائكته وما شاء من خلقه؛ والإنسان يقر ضرورة بوجود أشياء لا يحس بها هو، مما يعرف بضرورة العقل، كوجود بعض الأماكن والأمم، بل وأصله الذي تكون منه، وهو مادته، لا يحس به هو، ولا ينكره عاقل، لكنه يمكن أن يحس به غيره. فإحساس الإنسان نوع; وإمكان الإحساس نوع آخر؛ وبسبب عدم التفرقة، ضل جهم وشيعته; وجره الكلام المموه إلى الكفر البواح، والانسلاخ من الدين; فكيف يقول عاقل بقول لم يسبق إليه؟ ولا يصح له معنى، عند أهل العلم والإيمان؟ ويعتمد عبارة منطقية في مثل هذا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 335 الشأن، هذا لو سلم أن المناطقة أوردوها هنا. والصواب أنها مختلقة، لا محكية. مع أن عبارة صاحب هذه الرسالة فاسدة من جهة أخرى، وهو أنه زعم في أول رسالته أن المراد باسم الإله هو: الإله الحق، وأن آلهة المشركين سميت بذلك باعتبار اعتقادهم فيها، وقد تقدم هذا عنه، ولكن سيق هنا لبيان تناقضه؛ فإن التقييد ينافي المعنى الكلي. فكلامه تخريف، وظلمات بعضها فوق بعض {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [سورة النور آية: 40] . وفي آخر كلامه اضطرب: وقال: وضع للمفهوم الكلي، وإن لم يوجد منه إلا فرد، كالشمس; وهذا مع مخالفته ما تقدم، فهو غلط قبيح، من وجوه: منها: أنه يلزم عليه أن المنفي عين المثبت، وأنه مساو لاسم الله في معناه، ومدلوله. وهذا ضلال مبين، ولا يستقيم معه نفي إلهية ما سوى الله، ولا تدل الكلمة الطيبة على التوحيد على زعم هذا، لأن المنفي هو المثبت، فأي نفي وأي توحيد يبقى مع اتحادهما معنى. وقد تقدم إبطال هذا، ورده، وأن الله سمى معبودات المشركين آلهة، وأبطل عبادتها، وإلهيتها. وقد تقدم قوله تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزّاً} [سورة مريم آية: 81] ، وقوله عن صاحب يس: {أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً} [سورة يس آية: 23] ، فسماها آلهة مع الحكم بأنها لا تغني الجزء: 2 ¦ الصفحة: 336 عنهم شيئا، ولا ينقذونهم، وقال منكرا على من عبد سواه: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ} [سورة يس آية: 74] . وحكى عن خليله: إبراهيم، أنه قال لقومه: {أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ} [سورة الصافات آية: 86] ، جعلها إفكا، مع تسميتها آلهة، فأي شبهة تبقى مع هذا؟ وكيف يقول من يسمع هذه الآيات ويفهمهما: أن الله سماها آلهة باعتبار اعتقاد المشركين، وأن "إله" وضع للإله الحق، ولا يقال لغيره إله، فنعوذ بالله من الجهل والعمى. وقول المناطقة: إن الشمس وضعت لكل كوكب نهاري، مردود، لأن الله هو الذي وضع الأسماء، وعلمها آدم، وحين التعليم والوضع، لم يكن في الخارج إلا هذا الكوكب المعروف، فدعوى: دخول غيره، لو فرض وجوده، باطل. وقال في رسالته: إن الاستثناء وقع من الإخراج المنوي، يريد به الجواب عن الاعتراض، الذي مر، وهو: أن كلمة التوحيد، على تقريره، لا تفيد النفي والإبطال لآلهة المشركين، ولكل ما عبد من دون الله، وأن المثبت عين هذا المنفي، والمستثنى نفس المستثنى منه. وحاصل جوابه: أن الإخراج والإبطال وقع بالنية، فاستثني من المنوي، وهذا تصريح منه بأن لا إله إلا الله ما نفت، ولا أخرجت، ولا أبطلت شيئا، إلا بالنية; وأنها لم تدل على التوحيد باللفظ، وهذا الجهل العريض الجزء: 2 ¦ الصفحة: 337 الأكبر لم يسبقه إليه سابق، ولم يقل به من يعرف معنى الكلام؛ حتى المشركون يعرفون ويفهمون من هذه الكلمة إبطال آلهتهم، ونفي استحقاقها للعبادة، ولذلك قالوا: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً} [سورة ص آية: 5] ، فعرفوا النفي، أنه من اللفظ، وعرفوا المعنى المقصود من الإله، وعرفوا المراد من الاستثناء، وكل هذا عرفوه بمجرد اللغة، وكونهم عربا؛ فجاء هذا الفارسي الذي لا يعرف لغتهم، ولا يحسن شيئا منها، فخبط خبط عشواء، وهرول ولكنه في ظلماء؛ شعرا: ما كل داع بأهل أن يصاخ له ... كم قد أصم بنعي بعض من ناحا وهذا القول: لم يسبقه إليه عاقل، يفهم ما يقول. والنحاة مجمعون على أن الاستثناء من المذكور، لفظه وحكمه، إلا أن السهيلي قال: لم يدخل المستثنى في المستثنى منه، بل الاستثناء أثبت حكما مستقلا مغايرا لما قبله، وقال بعضهم: الاستثناء أخرج من الحكم المذكور، لا من اللفظ. ومذهب الجمهور: أن الاستثناء من اللفظ والحكم معا، الاسم من الاسم، والحكم من الحكم، ومن الممتنع: إخراج الاسم المستثنى منه، مع دخوله تحته في الحكم، فإنه لا يعقل الإخراج حينئذ البتة، فإنه لو شاركه في حكمه، لدخل معه في الحكم والاسم جميعا، فكان استثناؤه غير معقول. ورد أهل هذا القول: زعم من زعم أن المستثنى مسكوت عن حكمه قبل الاستثناء، نفيا وإثباتا، وأبطلوا ذلك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 338 من وجوه؛ منها: أنك إذا قلت: ما قام إلا زيد، وما ضربت إلا عمرا، ونحو ذلك من الاستثناءات المفرغة، لم يشك السامع أن الأحكام المذكورة أثبتت لما بعد "إلا" كما سلبت عن غيره؛ ولو قيل إنه مسكوت عنه، لما أفهم إثبات هذه الأفعال لما بعد "إلا". ومنها: أنه لو كان مسكوتا عنه لم يدخل الرجل في الإسلام بقول: لا إله إلا الله، لأنه على هذا التقدير الباطل، لم يثبت الإلهية لله. فهذه أعظم كلمة تضمنت بالوضع نفي الإلهية عما سوى الله، وإثباتها لله بوصف الاختصاص؛ فدلالتها على إثبات الإلهية أعظم من دلالة قولنا: الله إله، ولا يستريب أحد في هذا البتة انتهى ملخصا. وهو يبطل كلام الفارسي، ويبين جهله من وجوه: فالأول: إجماعهم على أن الاستثناء باللفظ، والإخراج باللفظ، خلافا له. والثاني: أنهم متفقون على مغايرة إلا لما قبلها في الحكم واللفظ. ومنها: اتفاقهم على سلب الحكم عما قبل "إلا" وإثباته لما بعدها، فتأمل؛ ثم أتى بطامة أخرى، كأخواتها، فقال: إنه لا حاجة إلى تقدير في الخبر، بل يقدر من الأفعال العامة، كالوجود، والإمكان، وهذا مبني على أساسه الفاسد، الواهي، وهو قوله: إن "إله" يستعمل ويراد به: الإله الحق، في الكلمة الطيبة، فكونه حقا، يستفاد عنده من اسم "لا" وهو: إله، فلا حاجة إلى أن يجعل الخبر حقا، وكل من تصور المعنى المراد أي تصور، يعرف أن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 339 المنفي كون هذه الآلهة التي عبدت من دون الله حقا، ويعرف فساد هذا القول، وقد مر تقريره في كلامنا. والنّزاع بين الرسل ومن خالفهم، في حقيقة معبوداتهم مع الله، لا في وجودها، فإن الوجود أمر محسوس لا ينكر، ولكن أهل الكلام يكذبون بالحسيات والبديهيات، ويزعمون أنهم أهل العلم والعقليات، ويسمون نصوص الكتاب والسنة ظنيات، وقواعد المناطقة قطعيات، فلا عجب من ضلالهم في معنى هذه الكلمة. وما أحسن ما حكى الله عن رسله من قولهم، لمن كذب بتوحيده، وشك فيما جاءت به رسله: {أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [سورة إبراهيم آية: 10] ، لأن هذا من أظهر الظاهرات، وأوضح الواضحات، وأبين البينات. وليس يصح في الأذهان شيء ... إذا احتاج النهار إلى دليل وأما قوله: إن المشتق يتحد مع المشتق منه في المعنى، فهي عبارة جاهلية تدل على إفلاس قائلها من العلم، لا سيما علم الصرف واللغة، كفى بالجهل قائلا: الله مشتق من: إله، أو من الآلهة، وهو لا يوافقه، ولا يتحد معه في المعنى، وضرب من الضرب، وشرف من الشرف، هذا في الاشتقاق الأصغر، والاشتقاق الأكبر مثل ذلك وأظهر، كما في خلق، وخرق، وأمثالهما؛ فإن المدار في ذلك على الاتفاق في معظم الحروف. واشتق عمرو" وهو دال على الذات" من التعمير، وهو المصدر، واشتق محمد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 340 من الحمد، وبينهما تفاوت في اللفظ والمعنى، ولو قيل: إنه يتضمنه وزيادة، لصح الكلام، واستقام. وبالجملة: فلا يقول هذا إلا من لا يعرف ما يتكلم به؛ وقال بعد ما سبق من الهذيان: وحاصل المعنى: سلب مفهوم الإله لما سوى الله، كأنه أراد عما سوى الله، فقال: لما; فلم يفرق بين معنى اللام، وعن ; ومن بلغت به الجهالة، إلى هذه الغاية والحالة، سقط معه البحث والمقالة. وذكر لي أنه يزعم، أو بعض تلامذته: أن هذا التخليط مأخوذ من كلام شيخ الإسلام، وهذا من أعجب العجب، كيف ينسب إليه هذا الجهل والضلال، مع وفور عقله وعلمه، ومتانة دينه وجودة بحثه، وامتيازه في العلوم. ولكن إن صح هذا، فله فيه سلف، نقل لنا عن داود بن جرجيس العراقي، أنه يزعم أنه يرد على شيخنا بكلام ابن تيمية، وابن القيم، فلما وقفنا على كلامه، إذا هو من أجهل خلق الله بكلامه ودينه، وبكلام نبيه، وبكلام أولي العلم من خلقه. وأبلغ من قول هذين وأعجب، قول اليهود: إن إبراهيم كان يهوديا، وقول النصارى: بل كان نصرانيا، فرد الله عليهم بقوله: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلا نَصْرَانِيّاً وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [سورة آل عمران آية: 67] . وأما قوله: هذا ما ظهر لي، فصدق في هذه، وهل يظهر الحق والصواب إلا لمن اعتصم بالسنة والكتاب; وأما من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 341 أعرض عن ذلك، فقد سد على نفسه الباب، وكشف حجابه عن فهم المراد والخطاب. وقال تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} الآية [سورة النساء آية: 160] . خاتمة، تتضمن النصيحة لله، ولرسوله، وكتابه، ولأئمة المسلمين، وعامتهم، لا سيما جهال الطلبة، الذين لا بصيرة لهم بدين الله، ولا معرفة لهم بحدود ما أنزل الله على رسوله، فاعلم أن أمر المسلمين ما زال مستقيما في القرن الأول، والقرن الثاني، على ما كان عليه السلف الصالح، في أفضل أبواب العلم، وأشرفها، وأوجبها، وهو: باب معرفة الله بصفات كماله، ونعوت جلاله، وفي: باب عبادته وحده لا شريك له. ثم دخل في أمور المسلمين، مع ولاة الأمور، من قصر في باب العلم باعه، وقل في شرع نبيه نظره واطلاعه، قوم أعيتهم السنن أن يحفظوها، وأبت عليهم الأحكام أن يعرفوها، فطلبوا علوم الأوائل من أهل منطق اليونان واستحسنوها؛ وتركوا السنة والقرآن وما فيهما من الأحكام، ولم يعظموها؛ منهم: بشر المريسي، وابن أبي دؤاد، وكانا قد تمكنا من عبد الله: المأمون، أمير المؤمنين الخليفة العباسي، وزينا لديه المنطق وحسناه، وأنه ميزان العقول والأفكار. فلهج به المأمون واشتغل، واعتقد أنه امتاز على من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 342 سبقه في باب معرفة الله، وما يجب له وما يستحيل عليه; وما زال به ذلك حتى ألزم الناس برأيه، ورفع شأن من وافقه وكان على طريقه، وولاهم الولايات، وعزل من خالفه وأهانه، وحبس وشرد وابتلي المؤمنون به، وجرى على الإسلام أعظم محنة، وأكبر بلية; وكتب إلى وزيره ببغداد يذم أهل السنة ويعيبهم، ويصفهم بالجهالة والضلالة، وأنهم حشو وسفلة، ولا نظر لهم ولا علم، ولا نور ولا فهم، يعني بذلك الإمام أحمد، ومن كان على طريقه المثبتين للصفات، القائلين بأن القرآن كلام الله غير مخلوق. ويقول في كتابه: إن الجمهور الأعظم، والسواد الأكبر، من حشو الرعية، وسفلة العامة، ممن لا نظر لهم ولا روية، ولا استضاءة بنور العلم وبرهانه، أهل جهالة بالله تعالى، وعمى عنه وضلالة عن حقيقة دينه، وأنهم انتسبوا إلى السنة والجماعة، وأنهم أهل الحق، وأن من سواهم أهل الباطل، والكفر، وإنما هم أوعية الجهالة وأعلام الكذب، ولسان إبليس الناطق في أوليائه، والهائل على أعدائه، من أهل دين الله. وأطال الكلام، وأمر وزيره بامتحانهم على موافقته على ما اعتقد من أن القرآن مخلوق، وأمره أن يحبس، ويفعل، ويفعل، بمن امتنع عن هذا القول. ولما بلغه أن أحمد بن حنبل، ومحمد بن نوح، وأحمد بن نصر، امتنعوا من الإجابة إلى رأيه، أمر بحملهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 343 إليه في القيود. وكان بطوس في بعض غزواته، فدعا الله أحمد بن حنبل أن لا يريه إياه، فمات المأمون قبل وصولهم، فردوا إلى بغداد. ثم امتحنهم أخوه المعتصم وابنه الواثق، وجرى على الإسلام والقرآن أعظم محنة من العناية بمنطق اليونان، حتى ضرب أحمد بن حنبل بالسياط، وقتل أحمد بن نصر، وبعض العلماء شرد، وهاجر. فلما تولى أمير المؤمنين أبو جعفر المتوكل رفع المحنة، ونشر السنة، وأمر بلعن الجهمية على المنابر، وقرب الإمام أحمد وأكرمه، وأخذ برأيه، ورفع شأن السنة والقرآن، فهو الذي هدم مشهد الحسين، وما عليه من البناء الذي أحدثه الناس، فجزاه الله عن الإسلام وأهله خيرا. فتأمل ما جرّ المنطق على أهله من البلايا والمحن، وما أوقعهم فيه من التعطيل والريب والفتن; فكيف يستجيز من له أدنى عقل أو دين، أن يقرأ كتب المنطق وعلوم اليونان؟! ويدع الاشتغال بعلوم السنة والقرآن؟! وهل هذا إلا زيغ في القلوب؛ ومثل هذا لا يوفق لطلب العلم، من كتاب الله وفهمه؛ قال ابن عيينة، في قوله تعالى: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [سورة الأعراف آية: 146] أي: عن فهم القرآن. فأي ذريعة وأي وسيلة إلى ترك كتاب الله، وسنة نبيه، ومعرفته وتوحيده، أضر وأقرب من المنطق، والأخذ عن أهله، وخلط دين الله به; فنسأل الله الثبات على دينه، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 344 وأن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، وأن يجعلنا من أوليائه وحزبه الذين ينصرونه ويذبون عن دينه وكتابه، وينفون عنه تحريف المبطلين، وتأويل الجاهلين، وزيغ الزائغين، إنه ولي ذلك وهو على كل شيء قدير. وصلى الله على محمد، وآله وصحبه وسلم. [رسالة للشيخ سليمان بن سمحان في التحذير من البدع] قال الشيخ: سليمان بن سحمان، رحمه الله تعالى: بسم الله الرحمن الر حيم الحمد لله الذي أوضح المحجة للسالكين، وأقام الحجة على جميع المكلفين، وأشهد ألا إله إلا الله، وحده لا شريك له، إله الأولين والآخرين، وقيوم السماوات والأرضين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وخليله، الصادق الأمين، الذي علم الله به من الجهالة، وهدى به من الضلالة، وفتح به أعينا عميا، وآذانا صما، وقلوبا غلفا، وبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وعبد الله حتى أتاه اليقين; فصلى الله عليه، وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا. أما بعد: فإن الله سبحانه وتعالى، قد أكمل لنا الدين، وبلغ رسوله صلى الله عليه وسلم البلاغ المبين، فليس لأحد من الناس أن يشرع في دين الله ما لم يأذن به الله، ولا أن يزيد فيه بعد أن أكمله الله، قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} [سورة المائدة آية: 3] ، وقال صلى الله عليه وسلم: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 345 " تركتكم على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك " 1، وقال صلى الله عليه وسلم: " عليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثه بدعة، وكل بدعة ضلالة ". وقال صلى الله عليه وسلم: " ما تركت من شيء يقربكم من الجنة إلا وقد حدثتكم به، ولا من شيء يبعدكم من النار إلا وقد حدثتكم به " وقال صلى الله عليه وسلم: " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد " 2 رواه البخاري، ومسلم، وفي رواية: " من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد " 3. وقال أبو ذر رضي الله عنه: "لقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما طائر يقلب جناحيه إلا ذكر لنا منه علما"، وفي صحيح مسلم: أن بعض المشركين، قالوا لسلمان: لقد علمكم نبيكم كل شيء حتى الخراءة؟ قال: أجل) . فإذا تحققت هذا وعلمته، فالواجب على المسلم أن يقتدي ولا يبتدي وأن يتبع، ولايبتدع; كما قيل: فخير الأمور السالفات على الهدى ... وشر الأمور المحدثات البدائع فقد حذر صلى الله عليه وسلم أصحابه عن البدع، ومحدثات الأمور، وأمرهم بالاتباع الذي فيه النجاة من كل محذور، ونهاهم عن الغلو في الدين، واتباع غير سبيل المؤمنين; قال صلى الله عليه وسلم: " إياكم والغلو في الدين، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين " 4، إلى غير ذلك من الأحاديث الواردة في هذا المعنى،   1 ابن ماجه: المقدمة (5) . 2 البخاري: الصلح (2697) , ومسلم: الأقضية (1718) , وأبو داود: السنة (4606) , وابن ماجه: المقدمة (14) , وأحمد (6/240 ,6/270) . 3 مسلم: الأقضية (1718) , وأحمد (6/146 ,6/180 ,6/256) . 4 النسائي: مناسك الحج (3057) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 346 وقال صلى الله عليه وسلم: " افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على ثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال: من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي ". فعلى من نصح نفسه، وأراد نجاتها أن يعتصم بكتاب الله وسنة رسوله، وأن يتمسك بما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنهم القدوة، وبهم الأسوة، وما من خير إلا وقد سبقونا إليه، قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "من كان منكم مستنا فليستن بمن قد مات، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة. أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا أبر هذه الأمة قلوبا، وأعمقها علما، وأقلها تكلفا، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه، ولإظهار دينه; فخذوا بهديهم، واعرفوا لهم فضلهم، فإنهم كانوا على الصراط المستقيم". وقال الإمام: محمد بن وضاح، في كتاب البدع والنهي عنها: أخبرنا الحكم بن المبارك، أخبرنا عمر بن يحيى قال: سمعت أبي يحدث عن أبيه، قال: "كنا نجلس على باب عبد الله بن مسعود قبل صلاة الغداة، فإذا خرج مشينا معه إلى المسجد، فجاءنا أبو موسى الأشعري، فقال: أخرج عليكم أبو عبد الرحمن بعد؟ قلنا: لا، فجلس معنا حتى خرج، فلما خرج: قمنا إليه جميعا، فقال: يا أبا عبد الرحمن، إني رأيت في المسجد آنفا أمرا أنكرته، ولم أر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 347 والحمد لله إلا خيرا، قال: فما هو؟ قال: إن عشت فستراه. قال: رأيت في المسجد قوماً حلقاً جلوساً، ينتظرون الصلاة، في كل حلقة رجل، وفي أيديهم حصى، فيقول: كبروا مائة، فيكبرون مائة؛ فيقول: هللوا مائة، فيهللون مائة؛ فيقول: سبحوا مائة، فيسبحون مائة؛ قال: فماذا قلت لهم؟ قال: ما قلت لهم شيئاً، أنتظر رأيك، وأنتظر أمرك، قال: أفلا أمرتهم أن يعدوا سيئاتهم، وضمنت لهم أن لا يضيع من حسناتهم شيء، ثم مضى، ومضينا معه، حتى أتى حلقة من تلك الحلق، فوقف عليهم، فقال: ما هذا الذي أراكم تصنعون؟ قالوا: يا أبا عبد الرحمن، حصى، نعد به التكبير والتهليل والتسبيح والتحميد، قال: فعدوا سيئاتكم، فأنا ضامن أن لا يضيع من حسناتكم شيء. ويحكم يا أمة محمد! ما أسرع هلكتكم! هؤلاء أصحابه متوافرون، وهذه ثيابه لم تبل، وآنيته لم تنكسر، والذي نفسي بيده، إنكم لعلى ملة هي أهدى من ملة محمد، أو مفتتحو باب ضلالة. قالوا: والله يا أبا عبد الرحمن، ما أردنا إلا الخير؛ قال: وكم من مريد للخير لم يصبه، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثنا أن قوما يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم." وأيم الله لا أدري لعل أكثرهم منكم، ثم تولى عنهم. فقال عمرو بن سلمة: رأينا عامة أولئك، يطاعنونا يوم النهروان، مع الخوارج" انتهى. فإذا كان هذا حال هؤلاء القوم، وهم إنما يكبرون الله، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 348 ويحمدونه، ويسبحونه، قد كانوا مفتتحين باب ضلالة لأنهم عملوا عملا لم يكن عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه، فأفضى بهم إلى الغلو في الدين، والمجاوزة للحد، أن مرقوا من الإسلام، فصار أكثرهم يطاعنون الصحابة مع الخوارج، يوم النهروان. فإذا تبين هذا، وما ذكرته قبل ذلك، مما تقدم بيانه، فاعلم أنه قد حدث في هذه الأزمان من بعض الإخوان، من الغلو والمجاوزة للحد، في بعض المسائل الدينية، والأوامر الشرعية، ما يجب على كل مسلم إنكاره، وبيان خطأ من أحدثه في الدين، من غير بينة ولا برهان ولا حجة يجب المصير إليها، من السنة والقرآن، ولا قال بها أحد من أئمة الإسلام الذين هم معالم الهدى، ومصابيح الدجى، وهم القدوة، وبهم الأسوة في بيان مراتب الدين والأحكام، إلى أن قال: وأذكر قبل الشروع في الكلام على هذه المسائل والجواب عنها، معنى لا إله إلا الله، وما ذكره العلماء في ذلك، وما ذكره شيخنا: الشيخ عبد الرحمن بن حسن، مفتي الديار النجدية، رحمه الله تعالى، من شروطها التي لا يصح إسلام أحد من الناس إلا إذا اجتمعت له هذه الشروط، وقال بها، علما، وعملا، واعتقادا، وكذلك نواقض الإسلام العشرة، التي ذكرها شيخ الإسلام: محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى، لأن هذا هو الأصل الذي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 349 تتفرع عليه هذه المسائل، وتنبني عليه أحكامها. فأقول، وبالله التوفيق، وبه العصمة والثقة: اعلم رحمك الله أن كلمة الإخلاص، لا إله إلا الله، هي الكلمة التي قامت بها الأرض والسماوات، وفطر الله عليها جميع المخلوقات، وعليها أسست الملة، ونصبت القبلة، ولأجلها جردت سيوف الجهاد، وبها أمر الله جميع العباد؛ فهي فطرة الله التي فطر الناس عليها، ومفتاح عبوديته التي دعا الأمم على ألسن رسله إليها، وهي كلمة الإسلام، ومفتاح دار السلام، وأساس الفرض والسنة. فإذا عرفت هذا، فاعلم أن لا إله إلا الله لا تنفع قائلها إلا بعد معرفة معناها، والعمل بمقتضاها، وأنها لا تنفعه إلا بعد الصدق، والإخلاص، واليقين، لأن كثيرا ممن يقولها في الدرك الأسفل من النار. فلا بدّ في شهادة ألا إله إلا الله من اعتقاد بالجنان، ونطق باللسان، وعمل بالأركان، فإن اختل نوع من هذه الأنواع لم يكن الرجل مسلما؟ فإذا كان الرجل مسلما. وعاملا بالأركان، ثم حدث منه قول، أو فعل أو اعتقاد يناقض ذلك، لم ينفعه قول: لا إله إلا الله؛ وأدلة ذلك في الكتاب والسنة، وكلام أئمة الإسلام، أكثر من أن تحصر. وقد أخرج البخاري في صحيحه، بسنده عن قتادة، قال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 350 حدثنا: أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم" ومعاذ، رضي الله عنه رديفه على الرحل" قال: "يا معاذ. قال: لبيك يا رسول الله، وسعديك، قال: يا معاذ. قال لبيك يا رسول الله وسعديك، ثلاثا، قال: ما من أحد يشهد ألا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، صدقا من قلبه، إلا حرم الله تعالى عليه النار. قال: يا رسول الله، أفلا أخبر الناس فيستبشروا؟ قال: إذا يتكلوا " فأخبر بها معاذ عند موته تأثما. قال شيح الإسلام، وغيره، في هذا الحديث ونحوه: أنه فيمن قالها، ومات عليها كما جاءت مقيدة، لقوله: " خالصا من قلبه " غير شاك فيها، بصدق ويقين، فإن حقيقة التوحيد انجذاب الروح إلى الله تعالى جملة، فمن شهد أن لا إله إلا الله، خالصا من قلبه، دخل الجنة، لأن الإخلاص، هو انجذاب القلب إلى الله تعالى، بأن يتوب من الذنوب توبة نصوحا، فإذا مات على تلك الحالة نال ذلك. فإنه قد تواترت الأحاديث بأنه يخرج من النار من قال لا إله إلا الله، وكان في قلبه من الخير ما يزن شعيرة، وما يزن خردلة، وما يزن ذرة؛ وتواترت بأن كثيرا ممن يقول لا إله إلا الله، يدخل النار، ثم يخرج منها؛ وتواترت بأن الله حرم على النار أن تأكل أثر السجود من ابن آدم، فهؤلاء كانوا يصلون، ويسجدون لله؛ وتواترت بأنه يحرم على النار من قال لا إله إلا الله، وشهد ألا إله إلا الله، وأن محمداً الجزء: 2 ¦ الصفحة: 351 رسول الله، لكن جاءت مقيدة بالقيود الثقال. وأكثر من يقولها لا يعرف الإخلاص، وأكثر من يقولها تقليدا وعادة، ولم يخالط الإيمان بشاشة قلبه، وغالب من يفتن عند الموت، وفي القبور، أمثال هؤلاء، كما في الحديث: " سمعت الناس يقولون شيئا فقلته " 1. وغالب أعمال هؤلاء إنما هو تقليد واقتداء بأمثالهم، وهم من أقرب الناس من قوله تعالى: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [سورة الزخرف آية: 23] . وحينئذٍ: فلا منافاة بين الأحاديث، فإنه إذا قالها بإخلاص ويقين تام، لم يكن في هذا الحال مصرا على ذنب أصلا، فإن كمال إخلاصه ويقينه يوجب أن يكون الله أحب إليه من كل شيء، فإذا لا يبقى في قلبه إرادة لما حرم الله، ولا كراهة لما أمر الله، وهذا هو الذي يحرم على النار، وإن كانت له ذنوب قبل ذلك، فإن هذا الإيمان، وهذا الإخلاص، وهذه التوبة، وهذه المحبة، وهذا اليقين لا تترك له ذنبا إلا محي عنه، كما يمحوا الليل النهار. فإذا قالها على وجه الكمال المانع من الشرك الأكبر والأصغر، فهذا غير مصر على ذنب أصلا، فيغفر له، ويحرم على النار، وإن قالها على وجه خلص به من الشرك الأكبر دون الأصغر، ولم يأت بعدها بما يناقض ذلك، فهذه الحسنة لا يقاومها شيء من السيئات، فيرجح بها ميزان الحسنات، كما في حديث البطاقة، فيحرم على النار، ولكن تنقص   1 البخاري: العلم (86) , ومسلم: الكسوف (905) , وأحمد (6/345 ,6/354) , ومالك: النداء للصلاة (447) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 352 درجته في الجنة بقدر ذنوبه. وهذا بخلاف من رجحت سيئاته بحسناته، ومات مصرا على ذلك، فإنه يستوجب النار، وإن قال لا إله إلا الله، وخلص بها من الشرك الأكبر، لكنه لم يمت على ذلك، بل أتى بعدها بسيئات رجحت على حسنة توحيده، فإنه في حال قولها كان مخلصا، لكنه أتى بذنوب أوهنت ذلك التوحيد والإخلاص، فأضعفته، وقويت نار الذنوب حتى أحرقت ذلك؛ بخلاف المخلص المستيقن، فإن حسناته لا تكون إلا راجحة على سيئاته، ولا يكون مصرا على سيئات، فإن مات على ذلك دخل الجنة. وإنما يخاف على المخلص أن يأتي بسيئة راجحة، فيضعف إيمانه، فلا يقولها بإخلاص ويقين مانع من جميع السيئات، ويخشى عليه من الشرك الأكبر والأصغر؛ فإن سلم من الأكبر، بقي معه من الأصغر، فيضيف إلى ذلك سيئات تنضم إلى هذا الشرك، فيرجح جانب السيئات؛ فإن السيئات تضعف الإيمان واليقين، فيضعف قول لا إله إلا الله، فيمتنع الإخلاص بالقلب، فيصير المتكلم بها كالهاذي أو النائم، أو من يحسن صوته بآية من القرآن، من غير ذوق طعم وحلاوة. فهؤلاء، لم يقولوها بكمال الصدق واليقين، بل يأتون بعدها بسيئات تنقص ذلك، بل يقولونها من غير يقين وصدق، ويموتون على ذلك، ولهم سيئات كثيرة تمنعهم من دخول الجزء: 2 ¦ الصفحة: 353 الجنة، فإذا كثرت الذنوب، ثقل على اللسان قولها، وقسا القلب عن قولها، وكره العمل الصالح، وثقل عليه سماع القرآن، واستبشر بذكر غيره، واطمأن إلى الباطل، واستحلى الرفث. ومخالطة أهل الباطل، وكره مخالطة أهل الحق. فمثل هذا إذا قالها قال بلسانه ما ليس في قلبه، وبفيه ما لا يصدقه عمله، قال الحسن: ليس الإيمان بالتحلي، ولا بالتمني، ولكن ما وقر في القلوب، وصدقته الأعمال، فمن قال خيرا قبل منه، ومن قال خيرا وعمل شرا لم يقبل منه. وقال أبو بكر بن عبد الله المزني: ما سبقهم أبو بكر بكثرة صيام، ولا صلاة، ولكن بشيء وقر في قلبه. فمن قال لا إله إلا الله، ولم يقم بموجبها، بل اكتسب مع ذلك ذنوبا، وكان صادقا في قولها، موقنا بها، لكن له ذنوب أضعفت صدقه ويقينه، وانضاف إلى ذلك الشرك الأصغر العملي، فرجحت هذه السيئات على هذه الحسنة، ومات مصرا على الذنوب؛ بخلاف من يقولها بيقين، وصدق ثابت، فإنه لا يموت مصرا على الذنوب; إما ألا يكون مصرا على سيئة أصلا، أو يكون توحيده المتضمن لصدقه ويقينه رجح حسناته. والذي يدخل النار ممن يقولها، إما أنهم لم يقولوها بالصدق واليقين التام المنافيين للسيئات، أو لرجحانها، أو قالوها واكتسبوا بعد ذلك سيئات رجحت على حسناتهم، ثم ضعف لذلك صدقهم ويقينهم، ثم لم يقولوها بعد ذلك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 354 بصدق ويقين تام، لأن الذنوب قد أضعفت ذلك الصدق واليقين من قلوبهم، فقولها من مثل هؤلاء لا يقوى على محو السيئات، فترجح سيئاتهم على حسناتهم. انتهى ملخصاً. وقال الوزير، أبو المظفر، في الإفصاح: قوله "شهادة أن لا إله إلا الله" يقتضي: أن يكون الشاهد عالما بلا إله إلا الله، كما قال تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [سورة محمد آية: 19] . قال: واسم (اللَّهِ) مرتفع بعد (إِلَّا) من حيث أنه الواجب له الإلهية، فلا يستحقها غيره سبحانه، قال: وجملة الفائدة في ذلك، أن تعلم أن هذه الكلمة مشتملة على الكفر بالطاغوت، والإيمان بالله؛ فإنك لما نفيت الإلهية، وأثبت الإيجاب لله سبحانه، كنت ممن كفر بالطاغوت وآمن بالله. وقال في البدائع، ردا لقول من قال: إن المستثنى مخرج من المنفي، قال: بل هو مخرج من النفي وحكمه، فلا يكون داخلا في المنفي، إذ لو كان كذلك لم يدخل الرجل في الإسلام بقوله: "لا إله إلا الله" لأنه لم يثبت الإلهية لله تعالى، وهذه أعظم كلمة تضمنت لنفي الإلهية عما سوى الله تعالى، إثباتها له بوصف الاختصاص، فدلالتها على إثبات الإلهية أعظم من دلالة قولنا: الله إله؛ ولا يستريب أحد في هذا البتة. انتهى بمعناه. وقال أبو عبد الله القرطبي، في تفسير " لَا إِلَهَ إِلَّا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 355 اللَّهُ ": أي: لا معبود إلا هو. وقال الزمخشرى: الإله من أسماء الأجناس، كالرجل، والفرس، يقع على كل معبود بحق أو باطل، ثم غلب على المعبود بحق. قال شيخ الإسلام: الإله هو: المعبود المطاع؛ فإن الإله هو: المألوه، والمألوه هو: الذي يستحق أن يعبد، وكونه يستحق أن يعبد، هو بما اتصف به من الصفات التي تستلزم أن يكون هو المحبوب غاية الحب، المخضوع له غاية الخضوع، قال: فإن الإله هو: المحبوب المعبود، الذي تألهه القلوب بحبها، وتخضع له، وتذل له، وتخافه وترجوه، وتنيب إليه في شدائدها، وتدعوه في مهماتها، وتتوكل عليه في مصالحها، وتلجأ إليه، وتطمئن بذكره، وتسكن إلى حبه، وليس ذلك إلا لله وحده. ولهذا كانت "لا إله إلا الله" أصدق الكلام، وكان أهلها أهل الله وحزبه، والمنكرون لها أعداؤه وأهل غضبه ونقمته؛ فإذا صحت صح بها كل مسألة وحال، وذوق، فإذا لم يصححها العبد فالفساد لازم له في علومه وأعماله. وقال ابن القيم: الإله الذي تألهه القلوب محبة وإجلالا، وإنابة وإكراما وتعظيما، وذلا وخضوعا وخوفا ورجاء، وتوكلاً. وقال ابن رجب: الإله هو الذي يطاع فلا يعصى، هيبة له وإجلالا، ومحبة وخوفا ورجاء، وتوكلا عليه وسؤالا منه، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 356 ودعاء له، ولا يصلح ذلك كله إلا لله عز وجل. فمن أشرك مخلوقا في شيء من هذه الأمور التي هي من خصائص الإلهية، كان ذلك قدحا في إخلاصه في قول لا إله إلا الله، وكان فيه من عبودية المخلوق بحسب ما فيه من ذلك. وقال البقاعي: لا إله إلا الله، أي انتفى انتفاء عظيما أن يكون معبودا بحق غير الملك الأعظم، فإن هذا العلم هو أعظم الذكرى المنجية من أهوال الساعة، وإنما يكون علما إذا كان نافعا، وإنما يكون نافعا إذا كان مع الإذعان والعمل بما تقتضيه، وإلا فهو جهل صرف. وقال الطيبي: الإله فعال بمعنى مفعول، كالكتاب بمعنى المكتوب، عن أله إلهة، أي: عبد عبادة، قال: الشارح: وهذا كثير في كلام العلماء، وإجماع منهم؛ فدلت: "لا إله إلا الله" على نفي الإلهية عن كل ما سوى الله تعالى، كائنا من كان، وإثبات الإلهية لله وحده، دون كل ما سواه؛ وهذا هو التوحيد الذي دعت إليه الرسل، ودل عليه القرآن من أوله إلى آخره، كما قال تعالى عن الجن: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَداً} [سورة الجن آية: 1"2] . فلا إله إلا الله لا تنفع إلا من عرف مدلولها نفيا وإثباتا، واعتقد ذلك وقبله، وعمل به. وأما من قالها من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 357 غير علم، واعتقاد، وعمل، فقد تقدم في كلام العلماء أن هذا جهل صرف، فهي حجة عليه بلا ريب؛ فقوله في الحديث: "وحده لا شريك له" تأكيد، وبيان لمضمون معناها، وقد أوضح عن ذلك وبينه في قصص الأنبياء والمرسلين في كتابه المبين. فما أجهل عباد القبور بحالهم! وما أعظم ما وقعوا فيه من الشرك، المنافي لكلمة الإخلاص: لا إله إلا الله! فإن مشركي العرب ونحوهم، جحدوا لا إله إلا الله لفظا ومعنى، وهؤلاء المشركون أقروا بها لفظا، وجحدوها معنى: فتجد أحدهم يقولها، وهو يأله غير الله بأنواع العبادة، كالحب، والتعظيم، والخوف، والرجاء، والتوكل، والدعاء، وغير ذلك، من أنواع العبادة. بل زاد شركهم على شرك العرب، بمراتب فإن أحدهم إذا وقع في شدة، أخلص الدعاء لغير الله تعالى، ويعتقدون أنه أسرع فرجا لهم من الله؛ بخلاف حال المشركين الأولين، فإنهم يشركون في الرخاء، وأما في الشدائد، فإنهم يخلصون لله وحده، كما قال تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} الآية [سورة العنكبوت آية: 65] . فبهذا تبين أن مشركي هذه الأزمان أجهل بالله وبتوحيده من مشركي العرب ومن قبلهم. انتهى من فتح المجيد، فهذا بعض ما ذكره بعض العلماء، في معنى لا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 358 إله إلا الله، وفيه كفاية: {لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [سورة ق آية: 37] . فصل: وأما شروطها التي ذكر شيخنا: الشيخ عبد الرحمن بن حسن، أنه لا بد منها في شهادة أن لا إله إلا الله، فقال رحمه الله: لا بد في شهادة أن لا إله إلا الله من سبعة شروط، لا تنفع قائلها إلا باجتماعها. الأول: العلم المنافي للجهل؛ فمن لم يعرف المعنى، فهو جاهل بمدلولها. الثاني: اليقين المنافي للشك، لأن من الناس من يقولها، وهو شاك فيما دلت عليه من معناها. الثالث: الإخلاص المنافي للشرك؛ فإن لم يخلص أعماله كلها لله، فهو مشرك شركا ينافي الإخلاص. الرابع: الصدق المنافي للنفاق، لأن المنافقين يقولونها، ولكنه لم يطابق ما قالوه، لما يعتقدونه، فصار قولهم كذبا، لمخالفة الظاهر للباطن. الخامس: القبول المنافي للرد، لأن من الناس من يقولها، مع معرفته معناها، لكن لا يقبل ممن دعاه إليه، إما كبرا، أو حسدا، أو غير ذلك من الأسباب المانعة من القول، فتجده يعادي أهل الإخلاص، ويوالي أهل الشرك ويحبهم. السادس: الانقياد المنافي للشرك، لأن من الناس من يقولها وهو يعرف معناها لكنه لا ينقاد للإتيان بحقوقها، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 359 ولوازمها من الولاء، والبراء، والعمل بشرائع الإسلام، ولا يلائمه إلا ما وافق هواه، أو تحصيل دنياه; وهذه حال كثير من الناس. السابع: المحبة المنافية لضدها. انتهى ما ذكره الشيخ. فإذا تبين لك هذا وعرفته، وتحققت أن لا إله إلا الله هي كلمة الإخلاص، وهي الفارقة بين الكفر والإسلام، وهي كلمة التقوى; وهي العروة الوثقى، فاعلم أن هذه الكلمة نفي وإثبات: نفي الإلهية عما سوى الله من المخلوقات، وإثباتها لله وحده لا شريك له، وأنها لا تنفع قائلها إلا باجتماع هذه الشروط التي تقدم ذكرها. فمن عرف معناها، وعمل بمقتضاها، وتحقق بها علما وعملا واعتقادا، فقد استمسك بالإسلام الذي قال الله فيه: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْأِسْلامُ} [سورة آل عمران آية: 19] ، وقال: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [سورة آل عمران آية: 85] . فإذا علمت هذا، فقد ذكر أهل العلم نواقض الإسلام، وذكر بعضهم أنها قريب من أربعمائة ناقض، ولكن الذي أجمع عليه العلماء هو ما ذكره شيخ الإسلام، وعلم الهداة الأعلام، الشيخ: محمد بن عبد الوهاب، من نواقض الإسلام، وأنها عشرة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 360 فقال رحمه الله: اعلم أن نواقض الإسلام عشرة نواقض: الأول: الشرك في عبادة الله وحده لا شريك له، قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [سورة النساء آية: 48] ، {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [سورة المائدة آية: 72] ، ومنه: الذبح لغير الله، كمن يذبح للجن أو للقبر. الثاني: من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم ويسألهم الشفاعة، ويتوكل عليهم، كفر إجماعا. الثالث: من لم يكفر المشركين، أو شك في كفرهم، أو صحح مذهبهم، كفر. الرابع: من اعتقد أن غير هدي النبي صلى الله عليه وسلم أكمل من هديه، أو أن حكم غيره أحسن من حكمه، كالذين يفضلون حكم الطواغيت، على حكمه، فهو كافر. الخامس: من أبغض شيئا مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ولو عمل به، كفر. السادس: من استهزأ بشيء من دين الله، أو ثوابه، أو عقابه، كفر، والدليل قوله تعالى: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [سورة التوبة آية: 65] . السابع: السحر، ومنه الصرف والعطف. فمن فعله أو رضي به، كفر، والدليل قوله تعالى: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ} [سورة البقرة آية: 102] . الثامن: مظاهرة المشركين ومعاونتهم على المسلمين، والدليل قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 361 يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [سورة المائدة آية: 51] . التاسع: من اعتقد أن بعض الناس يسعه الخروج عن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم كما وسع الخضر الخروج عن شريعة موسى عليه السلام، فهو كافر. العاشر: الإعراض عن دين الله، لا يتعلمه، ولا يعمل به، والدليل قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ} [سورة السجدة آية: 22] . ولا فرق في جميع هذه النواقض بين الهازل والجاد والخائف، إلا المكره. وكلها من أعظم ما يكون خطرا، وأكثر ما يكون وقوعا، فينبغي للمسلم أن يحذرها، ويخاف منها على نفسه، نعوذ بالله من موجبات غضبه، وأليم عقابه. انتهى. [جواب الشيخ سليمان عن الفرق بين التوحيد العلمي والإرادي] وسئل الشيخ سليمان بن سحمان رحمه الله: عن الفرق بين التوحيد العلمي الخبري، والتوحيد الإرادي الطلبي؟ فأجاب: الفرق بينهما "الأول: هو توحيد الأسماء والصفات والثاني: هو توحيد الإلهية. ثم وجدت لابن القيم رحمه الله ما لفظه: وأما التوحيد الذي دعت إليه الرسل، وأنزلت به الكتب، فهو نوعان: توحيد في المعرفة والإثبات، وتوحيد في الطلب والقصد. فالأول هو إثبات حقيقة ذات الرب تعالى، وأسمائه وصفاته، وأفعاله، وعلوه فوق سماواته على عرشه وتكلمه. وتكليمه، لمن شاء من عباده، وإثبات عموم قضائه وقدره وحكمه، وقد أفصح القرآن عن هذا النوع حد الإفصاح، كما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 362 في أول سورة الحديد، وسورة طه، وآخر الحشر، وأول تنزيل السجدة، وأول آل عمران، وسورة الإخلاص، بكمالها، وغير ذلك. النوع الثاني: ما تضمنته سورة: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [سورة الكافرون آية: 1] ، و {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} الآية [سورة آل عمران آية: 64] ، وأول سورة تنزيل الكتاب وآخرها، وأول سورة يونس، ووسطها، وآخرها، وأول سورة الأعراف وآخرها، وجملة سورة الأنعام، وغالب سور القرآن، بل كل سورة في القرآن، فهي متضمنة لنوعي التوحيد. بل نقول قولا كليا: إن كل آية في القرآن، فهي متضمنة للتوحيد، شاهدة به، داعية إليه؛ فإن القرآن إما خبر عن الله وأسمائه وصفاته، وأفعاله، فهو التوحيد العلمي الخبري؛ وإما دعوة إلى عبادته وحده لا شريك له، وخلع ما يعبد من دونه، فهو التوحيد الإرادي الطلبي، إلى آخر كلامه رحمه الله تعالى. وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم آخر الجزء الثاني، ويليه: الجزء الثالث، كتاب الأسماء والصفات. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 363 المجلد الثالث: ( كتاب الأسماء والصفات ) كتاب الأسماء والصفات ... قال الحبر الحجة الثقة، الإمام الأعظم، شيخ الإسلام والمسلمين، محيي السنة في العالمين، الشيخ: محمد بن عبد الوهاب، أجزل الله له الثواب. بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد بن عبد الوهاب، إلى عبد الله بن سحيم حفظه الله تعالى، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته أما بعد: فقد وصل كتابك تطلب شيئا من معنى كتاب المويس، الذي أرسل لأهل الوشم، وأنا أجيبك عن الكتاب جملة، فإن كان الصواب فيه، فنبهني وأرجع إلى الحق، وإن كان الأمر كما ذكرت لك، من غير مجازفة، بل أنا مقتصر، فالواجب على المؤمن أن يدور مع الحق حيث دار؛ وذلك أن كتابه مشتمل على الكلام، في ثلاثة أنواع من العلوم: الأول: علم الأسماء والصفات الذي يسمى: علم أصول الدين ; ويسمى أيضا: العقائد، والثاني: الكلام على التوحيد والشرك، والثالث: الاقتداء بأهل العلم، واتباع الأدلة، وترك ذلك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 5 أما الأول: فإنه أنكر على أهل الوشم إنكارهم على من قال: ليس بجوهر، ولا جسم، ولا عرض ; وهذا الإنكار جمع فيه بين اثنتين، إحداهما: أنه لم يفهم كلام ابن عيدان وصاحبه الثانية: أنه لم يفهم صورة المسألة، وذلك أن مذهب الإمام أحمد وغيره من السلف، أنهم لا يتكلمون في هذا النوع، إلا بما تكلم الله به ورسوله، فما أثبته الله لنفسه أو أثبته رسوله، أثبتوه، مثل: الفوقية، والاستواء، والكلام، والمجيء، وغير ذلك، وما نفاه الله عن نفسه ونفاه عنه رسوله، نفوه، مثل: المثل، والند، والسمي، وغير ذلك. وأما ما لا يوجد عن الله ورسوله إثباته ولا نفيه، مثل: الجوهر، والجسم، والعرض، والجهة، وغير ذلك، لا يثبتونه؛ فمن نفاه، مثل صاحب الخطبة التي أنكرها ابن عيدان وصاحبه، فهو عند أحمد والسلف مبتدع؛ ومن أثبته مثل هشام بن الحكم وغيره، فهو عندهم مبتدع ; والواجب عندهم: السكوت عن هذا النوع، اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه؛ هذا معنى كلام الإمام أحمد الذي في رسالة المويس، أنه قال: لا أرى الكلام إلا ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم فمن العجب استدلاله بكلام الإمام أحمد على ضده؛ ومثله في ذلك كمثل حنفي، يقول: الماء الكثير، ولو بلغ قلتين، ينجس بمجرد الملاقاة من غير تغير، فإذا سئل عن الدليل، قال قوله صلى الله عليه وسلم " الماء طهور لا ينجسه شيء "1، فيستدل   1 الترمذي: الطهارة (66) , وأبو داود: الطهارة (66) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 6 بدليل خصمه؛ فهل يقول هذا من يفهم ما يقول؟ وأنا أذكر لك كلام الحنابلة في هذه المسألة. قال الشيخ تقي الدين - بعد كلام له على من قال: إنه ليس بجوهر، ولا عرض، ككلام صاحب الخطبة - قال رحمه الله: فهذه الألفاظ، لا يطلق إثباتها ولا نفيها، كلفظ: الجوهر، والجسم، والتحيز، والجهة، ونحو ذلك من الألفاظ؛ ولهذا لما سئل ابن سريج عن التوحيد، فذكر توحيد المسلمين، قال: وأما توحيد أهل الباطل فهو الخوض في الجواهر والأعراض، وإنما بعث النبي صلى الله عليه وسلم بإنكار ذلك؛ وكلام السلف والأئمة في ذم الكلام وأهله مبسوط في غير هذا الموضع. والمقصود: أن الأئمة، كأحمد وغيره، لما ذكر لهم أهل البدع الألفاظ المجملة، كلفظ: الجسم، والجوهر، والحيز، لم يوافقوهم، لا على إطلاق الإثبات، ولا على إطلاق النفي. انتهى كلام الشيخ تقي الدين. إذا تدبرت هذا، عرفت أن إنكار ابن عيدان وصاحبه، على الخطيب الكلام في هذا، هو عين الصواب؛ وقد اتبعا في ذلك إمامهما أحمد بن حنبل وغيره، في إنكارهم ذلك على المبتدعة، ففهم صاحبكم أنهما يريدان إثبات ضد ذلك، وأن الله جسم، وكذا وكذا، تعالى الله عن ذلك، وظن أيضا أن عقيدة أهل السنة هي نفي أنه لا جسم ولا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 7 جوهر، ولا كذا ولا كذا ; وقد تبين لكم الصواب أن عقيدة أهل السنة هي السكوت ; من أثبت بدّعوه، ومن نفى بدّعوه، فالذي يقول: ليس بجسم، ولا، ولا، هم الجهمية، والمعتزلة ; والذين يثبتون ذلك هو: هشام وأصحابه؛ والسلف بريئون من الجميع، من أثبت بدّعوه، ومن نفى بدّعوه. فالمويس لم يفهم كلام الأحياء، ولا كلام الأموات، وجعل النفي الذي هو مذهب الجهمية والمعتزلة، مذهب السلف ; وظن أن من أنكر النفي أنه يريد الإثبات، كهشام وأتباعه، ولكن أعجب من ذلك: استدلاله على ما فهم بكلام أحمد المتقدم ; ومن كلام أبي الوفاء ابن عقيل قال: أنا أقطع أن أبا بكر وعمر ماتا، ما عرفا الجوهر والعرض، فإن رأيت أن طريقة أبي علي الجبائي وأبي هاشم، خير لك من طريقة أبي بكر وعمر، فبئس ما رأيت، انتهى. وصاحبكم يدعي أن الرجل لا يكون من أهل السنة حتى يتبع أبا علي وأبا هاشم، بنفي الجوهر والعرض، فإن أنكر الكلام فيهما، مثل أبي بكر وعمر، فهو عنده على مذهب هشام الرافضي؛ فظهر بما قررناه أن الخطيب الذي يتكلم بنفي العرض والجوهر، أخذه من مذهب الجهمية والمعتزلة، وأن ابن عيدان وصاحبه أنكرا ذلك مثل ما أنكره أحمد والعلماء كلهم على أهل البدع. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 8 وقوله في الكتاب: ومذهب أهل السنة: إثبات من غير تعطيل، ولا تجسيم، ولا كيف، ولا أين، إلى آخره ; وهذا من أبين الأدلة على أنه لم يفهم عقيدة الحنابلة، ولم يميز بينها وبين عقيدة المبتدعة ; وذلك أن إنكار الأين من عقائد أهل الباطل، وأهل السنة يثبتونه، اتباعا لرسول الله صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح أنه قال للجارية: " أين الله؟ " فزعم هذا الرجل أن إثباتها مذهب المبتدعة ; وأن إنكارها مذهب أهل السنة، كما قيل، وعكسه بعكسه. وأما الجسم فتقدم الكلام أن أهل الحق لا يثبتونه ولا ينفونه ; فغلط عليهم في إثباته؛ وأما التعطيل والكيف، فصدق في ذلك، فجمع لكم أربعة ألفاظ، نصفها حق من عقيدة الحق، ونصفها باطل من عقيدة الباطل، وساقها مساقا واحدا، وزعم: أنه مذهب أهل السنة ; فجهل وتناقض. وقوله أيضا: ويثبتون ما أثبته الرسول صلى الله عليه وسلم من السمع، والبصر، والحياة، والقدرة، والإرادة، والعلم، والكلام، إلى آخره، وهذا أيضا من أعجب جهله؛ وذلك أن هذا مذهب طائفة من المبتدعة، يثبتون الصفات السبع، وينفون ما عداها ولو كان في كتاب الله، ويؤلونه ; وأما أهل السنة، فكل ما جاء عن الله ورسوله أثبتوه ; وذلك صفات كثيرة، لكن أظنه نقل هذا من كلام المبتدعة، وهو لا يميز بين كلام أهل الحق من كلام أهل الباطل. إذا تقرر هذا فقد ثبت خطؤه من وجوه: الأول: أنه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 9 لم يفهم الرسالة التي بعثت إليه. الثاني: أنه بهت أهلها، بإثبات الجسم وغيره. الثالث: أنه نسبهم إلى الرافضة ; ومعلوم أن الرافضة من أبعد الناس عن هذا المذهب وأهله. الرابع: أنه نسب من أنكر هذه الألفاظ إلى الرفض والتجسيم، وقد تبين أن الإمام أحمد وجميع السلف ينكرونه ; فلازم كلامه: أن مذهب الإمام أحمد وجميع السلف مجسمة على مذهب الرفض. الخامس: أنه نسب كلامهما إلى الفرية الجسمية ; فجعل عقيدة إمامه وأهل السنة فرية جسمية. السادس: أنه زعم أن البدع اشتعلت في عصر الإمام أحمد، ثم ماتت حتى أحياها أهل الوشم، فمفهوم كلامه بل صريحه: أن عصر الإمام أحمد وأمثاله، عصر البدع والضلال ; وعصر ابن إسماعيل عصر السنة والحق. السابع: أنه نسبهما إلى التعطيل ; والتعطيل إنما هو جحد الصفات. الثامن: بهتهما أنهما نسبا من قبلهما من العلماء إلى التعطيل، لكونهما أنكرا على خطيب من المبتدعة، وهذا من البهتان الظاهر. التاسع: أنه نسبهما إلى وراثة هشام الرافضي. العاشر: أن المسلم أخو المسلم، فإذا أخطأ أخوه، نصحه سرا، وبين له الصواب، فإذا عاند أمكنه المجاهرة بالعداوة ; وهذا لما راسلاه، صنف عليهما ما علمت، وأرسله إلى البلدان، اعرفوني، اعرفوني، فإني قد جئت من الشام. وأما التناقض، وكون كلامه يكذب بعضه بعضا، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 10 فمن وجوه: منها: أنه نسبهما تارة إلى التجسيم، وتارة إلى التعطيل؛ ومعلوم أن التعطيل ضد التجسيم، وأهل هذا أعداء لأهل هذا، والحق وسط بينهما. ومنها: أنه نسبهما إلى الجهمية وإلى المجسمة ; والجهمية والمجسمة بينهما من التناقض والتباعد، كما بين السواد والبياض، وأهل السنة وسط بينهما. ومنها: أنه يقول مذهب أهل الحق إثبات الصفات، ثم يقول: ولا أين، ولا، ولا، وهذا تناقض. ومنها: أنه يقول: ما أثبته الله ورسوله أثبت، ثم يخص ذلك بالصفات السبع، فهذا عين التناقض. فعقيدته التي نسب لأهل السنة، جمعها من نحو أربع فرق من المبتدعة، يناقض بعضهم بعضا، ويسب بعضهم بعضا ; ولو فهمت حقيقة هذه العقيدة، لجعلتها ضحكة. ومنها: أنه يذكر عن أحمد أن الكلام في هذه الأشياء مذموم، إلا ما نقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وتابعيهم، ثم ينقل لكم إثبات كلام المبتدعة ونفيهم، ويتكلم بهذه العقيدة المعكوسة، ويزعم أنها عقيدة أهل الحق، هذا ما تيسر كتابته عجلا، على السراج في الليل. والمأمول فيك: أنك تنظر فيها بعين البصيرة، وتتأمل هذا الأمر، واعرض هذا عليه، واطلب منه الجواب عن كل كلمة من هذا، فإن أجابك بشيء فاكتبه وإن عرفته باطلا، وإلا فراجعني فيه أبينه لك؛ ولا تستحقر هذا الأمر، فإن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 11 حرصت عليه جدا، عرفك عقيدة الإمام أحمد وأهل السنة، وعقيدة المبتدعة، وصارت هذه الواقعة أنفع لك من القراءة في علم العقائد، شهرين أو ثلاثة، بسبب أن الخطأ والاختلاف، مما يوضح الحق، ويبين الخطأ فيه. وسئل عن قول الشيخ، في تسمية المعبودات أربابا، إذ الرب يطلق على المالك، والمعبود، وعلى الإله، وكل اسم من أسمائه جل وعلا له معنى يخصه بالتخصيص، دون التداخل والتعميم. فأجاب: الرب، والإله، في صفة الله تبارك وتعالى، متلازمة غير مترادفة ; فالرب، من الملك، والتربية بالنعم، والإله، من التأله وهو: القصد لجلب النفع، ودفع الضر بالعبادة ; وكانت العرب تطلق الرب على الإله، فسموا معبوداتهم أربابا لأجل ذلك، أي: لكونهم يسمون الله ربا، بمعنى: إلها. والله أعلم. [جواب أبناء الشيخ ابن عبد الوهاب عن آيات الصفات الواردة في الكتاب] سئل أبناء الشيخ محمد بن عبد الوهاب، والشيخ حمد بن ناصر رحمه الله تعالى، عن آيات الصفات الواردة في الكتاب، كقوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [سورة طه آية: 5] ، وكذلك قوله: {لِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [سورة طه آية: 39] ، وقوله: {بِأَعْيُنِنَا} ، وقوله: {أَسْمَعُ وَأَرَى} ، وقوله: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [سورة المائدة آية: 64] ، وقوله: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [سورة ص آية: 75] وقوله: {وَجَاءَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 12 رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} [سورة الفجر آية: 22] ، وقوله: {وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [سورة الزمر آية: 67] ، وغير ذلك في القرآن، ومن السنة قوله صلى الله عليه وسلم: " قلب المؤمن بين أصبعين، من أصابع الرحمن "1، وكذلك النفس، وقوله: "إن ربكم ليضحك "، وقوله: " حتى يضع رجله فيها، فتقول: قط قط "2، وغير ذلك مما لا يحصره هذا القرطاس، على ما تحملون هذه الآيات، وهذه الأحاديث في الصفات؟ فأجابوا بما نصه: الحمد لله رب العالمين، قولنا فيها: ما قال الله ورسوله، وما أجمع عليه سلف الأمة، وأئمتها من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن اتبعهم بإحسان، وهو: الإقرار بذلك. والإيمان من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، كما قال الإمام مالك، لما سئل عن قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [سورة طه آية: 5] كيف استوى؟ فأطرق مالك، وعلته الرحضاء، يعني: العرق، وانتظر القوم ما يجيء منه فيه ; فرفع رأسه إليه وقال: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة ; وأحسبك رجل سوء، وأمر به فأخرج ; ومن أَوّل الاستواء بالاستيلاء، فقد أجاب بغير ما أجاب به مالك، وسلك غير سبيله. وهذا الجواب من مالك في الاستواء، شاف كاف، في جميع الصفات، مثل: النّزول، والمجيء، واليد،   1 الترمذي: القدر (2140) , وابن ماجه: الدعاء (3834) . 2 البخاري: تفسير القرآن (4850) , ومسلم: الجنة وصفة نعيمها وأهلها (2846 ,2847) , وأحمد (2/276 ,2/314 ,2/507) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 13 والوجه، وغيرها، فيقال في النّزول: النّزول معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وهذا يقال في سائر الصفات الواردة في الكتاب والسنة. وثبت عن محمد بن الحسن، صاحب أبي حنيفة، أنه قال: اتفق الفقهاء كلهم، من الشرق إلى الغرب، على الإيمان بالقرآن، والأحاديث التي جاء بها الثقات، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في صفة الرب عز وجل من غير تفسير، ولا تشبيه؛ فمن فسر شيئا من ذلك، فقد خرج عما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وفارق الجماعة؛ فإنهم لم يشبهوا، ولم يفسروا، ولكن آمنوا بما في الكتاب والسنة، فمن قال بقول جهم فارق الجماعة. انتهى كلامه. وقد قال تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى} [سورة النساء آية: 115] الآية، وهذا أمر قد اتفق عليه السلف والأئمة رضي الله عنهم؛ ولكن الذين في قلوبهم زيغ، من أهل الأهواء والبدع، كالجهمية والمعتزلة، ومن اتبعهم من المتأخرين، لا يفهمون من صفات الله الواردة في الكتاب والسنة، إلا التأويلات المستكرهة ; ويجحدون ما وصف الله به نفسه، ووصفه به رسوله. وما أحسن ما قال نعيم بن حماد، شيخ البخاري: من شبه الله بخلقه فقد كفر، ومن جحد ما وصف الله به نفسه، فقد كفر، وليس ما وصف الله به نفسه ورسوله تشبيها ; وقد قال الله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} الجزء: 3 ¦ الصفحة: 14 [سورة الشورى آية: 11] فقوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [سورة الشورى آية: 11] رد على المشبهة، وقوله: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [سورة الشورى آية: 11] رد على المعطلة؛ والكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات؛ فكما أن المؤمنين يقولون في ذات الله: لا تشبه الذوات ; فكذلك يقولون في صفات الله: لا تشبه الصفات. [فصل في القرآن: صفة لله غير مخلوق] وأما القرآن، فهو صفة لله غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود، هذا هو مذهب أهل السنة والجماعة من هذه الأمة، من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، والله سبحانه وتعالى هو الذي تكلم به، وسمعه جبرائيل من الله، وبلغه جبرائيل إلى محمد ; وبلغه محمد صلى الله عليه وسلم إلى أمته. فالكلام كلام الباري، والصوت صوت القاري ; وهذا أمر مفهوم معقول عند من لم تغير فطرته التي فطره الله عليها، كما يقال: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى "1 هذا كلام رسول الله، وأما الصوت والنغمة والحركة، فهو: صوت المبلغ ونغمته وحركته، وقد قال تعالى: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [سورة هود آية: 1] ، وقوله تعالى: {حم تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [سورة الزمر آية: 1] ، وقوله تعالى: {تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [سورة فصلت آية: 1-2] ، وقوله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [سورة التوبة آية: 6] . وأما قوله تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ   1 البخاري: بدء الوحي (1) , ومسلم: الإمارة (1907) , والترمذي: فضائل الجهاد (1647) , والنسائي: الطهارة (75) والطلاق (3437) والأيمان والنذور (3794) , وأبو داود: الطلاق (2201) , وابن ماجه: الزهد (4227) , وأحمد (1/25 ,1/43) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 15 ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} [سورة التكوير آية: 19-21] الآية فقال العلماء رحمهم الله: أضافه سبحانه إلى جبرائيل إضافة تبليغ، لأنه هو الذي بلغه إلى محمد صلى الله عليه وسلم ردا على المشركين الذين يقولون: إنه تعلمه من الشيطان، أو من البشر، كما أضافه إلى محمد صلى الله عليه وسلم كآية الحاقة، إضافة تبليغ، لا إضافة إنشاء، قال تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [سورة آية: 40-41-42-43] . فتارة يضيفه سبحانه إلى الرسول الملكي، كما في سُوَرٍ ; وتارة يضيفه إلى الرسول البشري، كما في الحاقة؛ وأما الذي تكلم به ابتداء، وإنشاء، فهو الله سبحانه وتعالى. [فصل في صفات الله قديمة أذلية لا ابتداء لها] فصل: واعلم أن صفة الكلام لله تعالى قديمة أزلية، لا ابتداء لها، كسائر صفات الله تعالى، من الحياة، والعلم، والقدرة، والسمع، والبصر، وسائر الصفات ; لأنه تبارك وتعالى هو الأول فليس قبله شيء، بجميع صفاته، لم تتجدد بوصفه، كما يقوله بعض أهل الأهواء والبدع، من الكرامية ومن سلك سبيلهم. وأما أهل السنة والجماعة، فمجمعون على ما ذكرنا، من أن الله تعالى قديم بجميع صفاته، الكلام وغيره، قال الإمام أحمد رحمه الله في كتاب: الرد على الزنادقة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 16 والجهمية: لم يزل الله تعالى متكلما إذا شاء، ومتى شاء، ولا نقول: إنه كان لا يتكلم حتى خلقه ; ولا نقول: إنه قد كان لا يعلم، حتى خلق علما يعلم، ولا نقول: إنه قد كان ولا قدرة، حتى خلق لنفسه قدرة، ولا نقول: إنه قد كان ولا نور له، حتى خلق لنفسه نورا، ولا نقول: إنه قد كان ولا عظمة، حتى خلق لنفسه عظمة، انتهى كلامه. وهذا الذي قاله إمام السنة والجماعة هو الصواب الذي لا يجوز غيره، والقرآن تكلم به سبحانه بمشيئته وقدرته، وذلك أن أهل السنة والجماعة يثبتون الأفعال الاختيارية، من الكلام وغيره من الصفات، كما أنه سبحانه كلم موسى بمشيئته وقدرته ; ويكلم من شاء من خلقه بمشيئته وقدرته، إذا شاء، ومتى شاء، بلا كيف. والله أعلم. المسألة الثانية: أن الإمام الغزالي من أئمة السنة، ومن أكابر المصنفين، وصنف إحياء علوم الدين، فهل تنقمون على هذا الكتاب شيئا مخالفا لما جاء به الكتاب؟ الجواب: أبو حامد، رحمه الله، كما قال فيه بعض أئمة الإسلام: تجد أبا حامد، مع ما له من العلم، والفقه، والتصوف، والكلام، والأصول، وغير ذلك، ومع الزهد، والعبادة، وحسن القصد، وتبحره في العلوم الإسلامية، يذكر في كتاب الأربعين ونحوه، ككتاب: "المظنون به على غير الجزء: 3 ¦ الصفحة: 17 أهله ". فإذا طلبت ذلك الكتاب، وجدته قول الصابئة المتفلسفة بعينه، قد غيرت عباراته، إلى أن قال: فإن أبا حامد كثيرا ما يحيل على ذلك النور الإلهي، وعلى ما يعتقد أنه يوجد للصوفية والعباد، برياضتهم وديانتهم، من إدراك الحقائق، وكشفها لهم، حتى يزنوا بذلك ما ورد به الشرع، وسبب ذلك: أنه قد علم بذكائه، وصدق طلبه، ما في طريق المتكلمين والمتفلسفة، من الاضطراب ... إلى أن قال: ولهذا كان كثير الذم لهذه الحوائل، وإنما ذلك لعلمه الذي سلكه، والذي حجب به عن حقيقة المتابعة للرسالة، وليس هو بعلم، قال أبو يوسف: من طلب العلم بالكلام تزندق، ولهذا صار طائفة ممن يرى فضيلته وديانته، يدفعون وجود هذه الكتب عنه. وأما أهل الخبرة به وبحاله، فيعلمون أن هذا كله كلامه، لعلمهم بمراد كلامه، ومشابهة بعضه بعضا، ولكن كان هو وأمثاله كما قدمت، مضطربين لا يثبتون على قول ثابت، لأنه ليس عندهم من الذكاء والطلب، ما يتعرفون به إلى طريق خاصة هذه الأمة، من الذين ورثوا من الرسول العلم والإيمان، وهم أهل حقائق الإيمان والقرآن، وهم أهل الفهم لكتاب الله، والفهم لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولهذا: كان أبو عمرو بن الصلاح يقول فيما رأيت بخطه: أبو حامد كثر القول فيه، ومنه ; فأما هذه الكتب - يعني المخالفة للحق - فلا يلتفت إليها، وأما الرجل فيسكت الجزء: 3 ¦ الصفحة: 18 عنه، ويفوض أمره إلى الله، ومقصوده أنه لا يذكر بسوء، لأن عفو الله عن الناسي، والمخطئ، وتوبة المذنب، تأتي على كل ذنب، ولأن مغفرة الله بالحساب منه، ومن غيره، وتكفيره الذنوب بالمصائب، تأتي على محقق الذنوب ; فلا يقدم الإنسان على انتفاء ذلك في حق معين، إلا ببصيرة، لا سيما مع كثرة الإحسان، والعلم الصحيح، والعمل الصالح، والقصد الحسن. وهو رحمه الله يميل إلى الفلسفة، لكنه أظهره في قالب التصوف، والعبارات الإسلامية، ولهذا رد عليه علماء المسلمين، حتى أخص أصحابه أبو بكر ابن العربي المالكي، قال فيه: أبو حامد دخل في بطن الفلاسفة، ثم أراد أن يخرج منهم فما قدر. ورد عليه أبو عبد الله المازري، وأبو بكر الطرطوشي، وأبو الحسن المرغيناني، رفيقه، والشيخ أبو البيان، والشيخ أبو عمرو بن الصلاح، وحذر من كلامه في ذلك، وأبو زكريا النواوي، وابن عقيل، وابن الجوزي، وأبو محمد المقدسي، وغيرهم. وأما كتابه الإحياء، فمنه ما هو مردود عليه، ومنه ما هو مقبول، ومنه ما هو متنازع فيه، وفيه فوائد كثيرة، لكن فيه موارد مذمومة؛ فإن فيه موارد فاسدة، من كلام الفلاسفة، تتعلق بالتوحيد، والنبوة، والمعاد، فإذا ذكرت معارف الصوفية، كان بمنْزلة من أخذ عدوا للمسلمين، فألبسه ثياب المسلمين، وقد أنكر أئمة الدين، على أبي حامد هذا في كتبه، وقالوا: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 19 أمرضه الشفاء، وفيه أحاديث وآثار موضوعة، وفيه أشياء من أغاليط الصوفية، وفيه أشياء من كلام العارفين المستقيمين، وفيه من أعمال القلوب الموافق للكتاب والسنة ما هو أكثر مما يرد منه، فلهذا اختلف فيه اجتهاد الناس، انتهى ملخصا. وفيما ذكرنا يتبين لك حال هذا الرجل، وحال كتابه في إحياء علوم الدين، وهذا غاية ما نعتقده فيه، لا نرفعه فوق منزلته فعل الغالين، ولا نضعه من درجته كما وضعه بعض المقصرين، فإن من الناس من يغلو فيه وفي كلامه الغلو العظيم، ومنهم من يذمه ويهدر محاسنه، ويرى تحريق كتابه؛ وسمعنا أن منهم من يقول: ليس هذا إحياء علوم الدين، بل إماتة علوم الدين؛ والصراط المستقيم: حسنة بين سيئتين، وهدى بين ضلالتين. وورد عليهم سؤال، هذا نصه: بلغنا: أنكم تكفرون أناسا من العلماء المتقدمين، مثل ابن الفارض، وغيره، وهو مشهور بالعلم، من أهل السنة. فأجابوا: ما ذكرت أنا نكفر ناسا من المتقدمين، وغيرهم، فهذا من البهتان الذي أشاعه عنا أعداؤنا، ليجتالوا به الناس عن الصراط المستقيم، كما نسبوا إلينا غير ذلك من البهتان أشياء كثيرة، وجوابنا عليها أن نقول: {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} [سورة النور آية: 16] ؛ ونحن لا نكفر إلا رجلا عرف الجزء: 3 ¦ الصفحة: 20 الحق وأنكره، بعدما قامت عليه الحجة، ودعي إليه فلم يقبل، وتمرد وعاند، وما ذكر عنا من أنا نكفر غير من هذا حاله، فهو كذب علينا. وأما ابن الفارض وأمثاله من الاتحادية، فليسوا من أهل السنة بل لهم مقالات شنع بها عليهم أهل السنة، وذكروا أن هذه الأقوال المنسوبة إليه كفريات، منها قول ابن الفارض في التائية، شعرا: وإن خر للأصنام في البيد عاكف ... فلا تعني بالإنكار للعصبية وإن عبد النار المجوس فما انطفت ... كما جاء في الأخبار من ألف حجة فما عبدوا غيري وما كان قصدهم ... سواي وإن لم يضمروا عقد نية فمن أهل العلم من أساء به الظن، بهذه الألفاظ وأمثالها، ومنهم من تأول ألفاظه، وحملها على غير ظاهرها، وأحسن فيه الظن. ومن أهل العلم والدين من أجرى ما صدر منه على ظاهره، وقال: هذه الأشعار ونحوها، تتضمن مذهب أهل الاتحاد من القائلين بوحدة الوجود والحلول، كقصيدته المسماة: نظم السلوك، ومثل كثير من شعر ابن إسرائيل، وابن عربي، وابن سبعين، والتلمساني، وما يوافقها من النثر الموافق لمعناها. فهذه الأشعار من فهمها، علم أنها كفر وإلحاد، وأنها مناقضة للعقل والدين، ومن لم يفهمها وعظم أهلها، كان بمنْزلة من سمع كلاما لا يفهمه، وعظمه، وكان ذلك من دين الجزء: 3 ¦ الصفحة: 21 اليهود والنصارى والمشركين، وإن أراد أن يحرفها ويبدل مقصودهم بها، كان من الكذابين البهاتين المحرفين لكلم هؤلاء عن مواضعه؛ فلا يعظم هؤلاء وكلامهم، إلا أحد رجلين: جاهل ضال، أو زنديق منافق ; وإلا فمن كان مؤمنا بالله ورسوله، عالما بمعاني كلامهم، لا يقع منه إلا بغض هذا الكلام وإنكاره، والتحذير منه، وهذا كقول ابن الفارض: لها صلواتي في المقام أقيمها ... وأشهد فيها أنها لي صَلَّت كلانا مصل واحد ساجد إلى ... حقيقته بالجمع في كل سجدة وما كان لي صلى سواي ولم تكن ... صلاتي لغيري في أداء كل ركعة وما زلت إياها وإياي لم تزل ... ولا فرق بل ذاتي لذاتي أحبت إلي رسولا كنت مني مرسلا ... وذاتي بآياتي علي استدلت وقد رفعت تاء المخاطب بيننا ... وفي فرقها عن فرقة الفرق رفعت فإن دُعِيت كنتُ المجيب، وإن أكن ... منادى أجابت من دعاني ولبّت وإن نال بالتنْزيل محراب مسجد ... فما نال بالإنجيل هيكل بعثت إن خر للأصنام ... إلخ، البيت السابق، وذكر أبياتا لابن إسرائيل وغيره، ثم قال: وحقيقة قول هؤلاء أنهم قالوا في مجموع الوجود أعظم مما قالته النصارى في المسيح، فإن النصارى ادعوا أن اللاهوت الذي هو الله، اتحد مع الناسوت، وهو ناسوت المسيح، أو حَلّ فيه، مع كفرهم الذي أخبر الله به، كما قال: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} [سورة المائدة آية: 17] ، فهم مع هذا الكفر، يقرون أن الله خلق السماوات والأرض، وأنه مغاير للسماوات الجزء: 3 ¦ الصفحة: 22 والأرض، ويقولون: إنه قد حلّ في المسيح، واتحد به، وهؤلاء يقولون بالحلول والاتحاد في جميع العالم، ولا يقرون أن للعالم صانعا مباينا له، بل يقولون: وجود المخلوق هو وجود الخالق، ويقولون في جميع المخلوقات نظير قول النصارى في المسيح، لكن النصارى يثبتون خالقا كان مباينا للمسيح، وهؤلاء لا يثبتون خالقا مباينا للمخلوقات، فقولهم أعظم حلولا واتحادا، وأكبر فسادا وإلحادا من قول النصارى انتهى. فتأمل كونه رحمه الله أطلق على هذا القول أنه كفر، ولم يتعرض لتكفير قائله، فافهم الفرق، لأن إطلاق الكفر على المعين الذي لم تقم عليه الحجة، لا يجوز، وأظن هذا الإمام الذي قال فيهم هذا الكلام رحمه الله، ظن أن الحجة لم تقم على قائل هذا الكلام، وأن ابن الفارض وأمثاله، لجهالتهم، لا يعلمون ما في كلامهم، ومذهبهم من الكفر، ومن أحسن فيهم الظن من العلماء، كما قدمنا، حمل كلامهم على محامل غير هذه، وأولها تأويلا حسنا، على غير ظاهرها. وقال السائل أيضا: السنوسي المغربي، مصنف السنوسية، هو من أئمة أهل السنة والجماعة، وتكلم بالسنوسية المعروفة بعلم الصفات، فهل تنقمون عليه شيئا من ذلك؟ إلخ. الجواب: السنوسي ليس من أئمة السنة والجماعة، فإن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 23 أهل السنة والجماعة هم الذين نعتهم النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر " أن بني إسرائيل افترقت على ثنتين وسبعين فرقة، وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة، قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال: من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي " والسنوسي المذكور، صنف كتابه: أم البراهين، على مذهب الأشاعرة، وفيها أشياء كثيرة مخالفة ما عليه أهل السنة، فإن الأشاعرة قد خالفوا ما عليه السلف الصالح في مسائل؛ منها: مسألة العلو، ومسألة الصفات، ومسألة الحرف والصوت. فالسلف والأئمة يصفون الله بما وصف به نفسه، في كتابه، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تحريف، ولا تعطيل، ومن غير تكييف، ولا تمثيل، بل يثبتون ما أثبت لنفسه من الأسماء الحسنى والصفات العلى، ويعلمون أنه ليس كمثله شيء، لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله؛ فإنه كما أن ذاته ليست كالذوات المخلوقات، فصفاته ليست كالصفات المخلوقات، بل هو سبحانه موصوف بصفات الكمال، منَزه عن كل نقص وعيب. فهم متفقون على أن الله فوق سمواته، على عرشه، بائن من خلقه، ليس في مخلوقاته شيء من ذاته، ولا في ذاته شيء من مخلوقاته. وقد قال مالك بن أنس: إن الله في السماء، وعلمه في كل مكان، وقالوا لعبد الله بن المبارك: "بماذا نعرف ربنا؟ قال: بأنه فوق سماواته، على عرشه، بائن من خلقه". وقال الجزء: 3 ¦ الصفحة: 24 أحمد بن حنبل كما قال هذا، وهذا ; وقال الشافعي: "خلافة أبي بكر حق، قضاها الله فوق سماواته، وجمع عليها قلوب أوليائه"، وقال الأوزاعي: "كنا والتابعون متوافرون، نقول بأن الله فوق عرشه، ونؤمن بما وردت به السنة من صفاته". والسنوسي قد خالف أئمة السنة في هذه المسألة ; وعبارته في أم البراهين قال: ومما تستحيل في صفته تعالى عشرون صفة، فذكر منها: وأن يكون في جهة ; قال الشارح لها، وهو محمد بن عمر التلمساني: هذا أيضا من أنواع المماثلة المستحيلة، وهي كونه تعالى في جهة، فلا يقال: إنه تعالى فوق العرش ; فقد تبين لك مخالفته السلف الصالح، ومنها: مسألة الصفات، فإن السنوسي أثبت الصفات السبع فقط. وأما أهل السنة والجماعة فيصفون الله بجميع ما وصف به نفسه، كما يليق بجلاله وعظمته، فيثبتون النّزول، كما وردت بذلك السنة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ينْزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا، حين يبقى ثلث الليل "1 إلخ، ويثبتون صفة اليدين، كما يليق بجلاله وعظمته، وكذلك صفة الوجه الكريم، كما يليق بجلاله وعظمته، وكذلك الضحك الذي وردت به السنة، والتعجب، والغضب، والرضى، والقبضتان، والأصابع، فيصفون الله بما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله، ولا يفهمون من جميع ذلك إلا ما يليق بالله وعظمته، لا ما يليق بالمخلوقات من   1 البخاري: الجمعة (1145) والتوحيد (7494) , ومسلم: صلاة المسافرين وقصرها (758) , والترمذي: الصلاة (446) والدعوات (3498) , وأبو داود: الصلاة (1315) , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1366) , وأحمد (2/258 ,2/264 ,2/267 ,2/282 ,2/419 ,2/487 ,2/504 ,2/521) , ومالك: النداء للصلاة (496) , والدارمي: الصلاة (1478 ,1479) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 25 الأعضاء والجوارح، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. فيحصل بذلك: إثبات ما وصف به نفسه في كتابه، وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ ويحصل أيضا نفي التشبيه والتكييف في صفاته، ويحصل أيضا ترك التأويل، والتحريف، المؤدي إلى التعطيل، ويحصل أيضا إثبات الصفات على ما يليق بجلال الله وعظمته، لا على ما نعقله نحن من صفات المخلوقين، وأما الأشاعرة فيؤلون النصوص الواردة في كتاب الله وسنة رسوله، فيؤلون الاستواء بالاستيلاء، والنّزول بنُزول الأمر، واليدين بالقدرتين والنعمتين، والقدم بقدم صدق، وأمثال ذلك. وأما أهل السنة والجماعة فيصفون الله بهذه الصفات، وغيرها، مما وصف به نفسه، ولا يحرفون الكلم عن مواضعه، ولا يكيفون، ولا يشبهون; والكلام عندهم في الصفات فرع على الكلام في الذات، فكما أن ذاته لا تشبه ذوات خلقه، فكذلك صفاته لا تشبه صفات خلقه، فإذا ثبت وصفه تعالى بالصفات السبع، على ما يليق بجلاله، فكذلك باقي الصفات. وأما مسألة الحرف والصوت، فتساق هذا المساق، فإن الله تعالى: قد تكلم بالقرآن المجيد، وبجميع حروفه، فقال: "الم"، وقال: "المص"، وقال: " ق "؛ وكذلك جاء في الحديث: " فينادي يوم القيامة بصوت يسمعه من بعد، كما يسمعه من قرب "1، وفي الحديث: " لا أقول الم حرف، ولكن   1 أحمد (3/495) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 26 ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف"1 فهؤلاء، أي الأشاعرة، ما فهموا من كلام الله، إلا ما فهموا من كلام المخلوقين، فقالوا: إذا قلنا بالحرف، أدى ذلك إلى القول بالجوارح واللهوات ; وكذلك: إذا قلنا بالصوت، أدى ذلك إلى الحلق والحنجرة، عملوا في هذا من التخبيط، كما عملوا فيما تقدم من الصفات. والتحقيق هو أن الله تكلم بالحروف، كما يليق بجلاله وعظمته ; فإنه قادر لا يحتاج إلى جوارح، ولا إلى لهوات؛ وكذلك له صوت كما يليق به، يسمع، ولا يفتقر ذلك الصوت المقدس إلى الحلق والحنجرة ; كلام الله يليق به، وصوته كما يليق به ; ولا ننفي الحروف والصوت عن كلامه، لافتقارهما هنا إلى الجوارح واللهوات، فإنهما في جناب الحق لا يفتقران إلى ذلك، وهذا ينشرح الصدر له، ويستريح الإنسان به من التعسف والتكلف ; لا قوله: هذا عبارة عن ذلك. فإن قيل: هذا الذي يقرأ القارئ، هو عين قراءة الله، وعين تكلمه به هو؟ قلنا: لا، بل القارئ يؤدي كلام الله، والكلام إنما ينسب إلى من قاله مبتديا، لا إلى من قاله مؤديا مبلغا، ولفظ القاري في غير القرآن مخلوق، وفي غير القرآن لا يتميز اللفظ المؤدي عن الكلام المؤدى عنه، ولهذا منع   1 الترمذي: فضائل القرآن (2910) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 27 السلف عن قول: لفظي بالقرآن مخلوق لأنه يتميز، كما منعوا عن قول: لفظي بالقرآن غير مخلوق ; فإن لفظ العبد في غير التلاوة مخلوق، وفي التلاوة مسكوت عنه، لئلا يؤدي الكلام في ذلك إلى القول بخلق القرآن، وأما ما أمر السلف بالسكوت عنه، فيجب السكوت عنه. انتهى من قول بعض مشايخ الإسلام. [جواب أبناء الشيخ ابن عبد الوهاب عن رؤية الله تعالى ورؤية النبي ربه في الدنيا] وسئل أيضا أبناء الشيخ، وحمد بن ناصر، عن الرؤية: فأجابوا: وأما رؤية الله تعالى يوم القيامة، فهي ثابتة عندنا، وأجمع عليها أهل السنة والجماعة، والدليل على ذلك الكتاب والسنة، والإجماع; أما الكتاب، فقوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [سورة آية: 22-23] وقال المفسرون المعنى: أنها تنظر إلى الله عز وجل كرامة لهم من الله، ومن أعظم ما يتنعم به أهل الجنة يوم القيامة، كما ورد ذلك في الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال تعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [سورة المطففين آية: 15] ووجه الدلالة من هذه الآية الكريمة: أن الله أخبر أن الكفار يحجبون عن الله، فدل ذلك على أن ذلك خاص بهم، وأن المؤمنين ليسوا كذلك، بل يرون الله يوم القيامة، والدليل الذي من القرآن قوله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [سورة يونس آية: 26] ثبت في صحيح مسلم من حديث صهيب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 28 رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أن ذلك هو النظر إلى وجه الله. وأما قوله: {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} [سورة الأنعام آية: 103] فمن أحسن الأجوبة فيها: جواب حبر الأمة، وترجمان القرآن، عبد الله بن عباس - لما قال: إن محمدا رأى ربه - فقال له السائل: أليس الله يقول: {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} [سورة الأنعام آية: 103] فقال: {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} [سورة الأنعام آية: 103] أي: لا تحيط به، ألست ترى السماء؟ قال: بلى، قال: أفتدركها كلها؟ قال: لا، أو كما قال. وأما قوله تبارك وتعالى لموسى: {لَنْ تَرَانِي} الآية فذكر العلماء أن المراد لن تراني في الدنيا، وأيضا: الآية دليل واضح على جوازها، وإمكانها، لأن موسى عليه السلام أعلم بالله من أن يسأله ما لا يجوز عليه، أو يستحيل، خصوصا ما يقتضي الجهل، ولذلك رد بقوله تعالى: {لَنْ تَرَانِي} دون لن أرى، ولن أريك، ولن تنظر إلي ; فبذلك تبين لك، أنها دالة على مذهب أهل السنة والجماعة، القائلين بإثبات رؤية الله يوم القيامة ; ورادة لمذهب الجهمية والمعتزلة، ومن تبعهم من أهل الأهواء والبدع. وأما السنة: فثبت في الصحيحين، والسنن، والمسانيد، من حديث جرير بن عبد الله، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لما سأله: هل نرى ربنا يوم القيامة؟ قال: " إنكم سترون الجزء: 3 ¦ الصفحة: 29 ربكم، كما ترون القمر ليلة البدر، لا تضامون في رؤيته "1. وكذلك ثبت ذلك في أحاديث متعددة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأما الإجماع، فقد أجمع أهل السنة والجماعة على ذلك، وقد حكى الإجماع غير واحد من العلماء؛ والخلاف الذي وقع بين الصحابة في رؤية محمد صلى الله عليه وسلم ربه، إنما ذلك رؤيته في الدنيا، فابن عباس وغيره أثبتها، وعائشة تنفيها، والله أعلم. [جواب الشيخ عبد الله عن رجلين تنازعا في تكليم الله لموسى] سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد، رحمهما الله، عن رجلين تنازعا، فقال أحدهما: إن الله كلم موسى تكليما، وسمعته أذناه، ووعاه قلبه، وإن الله كتب التوراة بيده، وناولها من يده إلى يده، وقال الآخر: إن الله كلم موسى بواسطة، وإن الله لم يكتب التوراة بيده، ولم يناولها من يده إلى يده. فأجاب: القائل إن الله كلم موسى تكليما، كما أخبر في كتابه، فمصيب؛ وأما الذي قال: كلم موسى بواسطة، فهذا ضال مخطئ، بل نص الأئمة على أن من قال ذلك فإنه يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، فإن هذا إنكار لما قد علم بالاضطرار من دين الإسلام، ولما ثبت بالكتاب والسنة والإجماع، قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [سورة الشورى آية: 51] الآية ففرق بين تكليمه من وراء حجاب كما كلم موسى، وبين تكليمه بواسطة كما أوحى إلى غير موسى، قال تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} [سورة النساء آية: 163] ، إلى قوله: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} [سورة النساء آية: 164] .   1 البخاري: الأذان (806) والرقاق (6574) , ومسلم: الإيمان (182) والزهد والرقائق (2968) , والترمذي: صفة الجنة (2554) , وأبو داود: السنة (4730) , وابن ماجه: المقدمة (178) , وأحمد (2/275 ,2/389 ,2/533) , والدارمي: الرقاق (2801) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 30 والأحاديث بذلك كثيرة في الصحيحين، والسنن، وفي الحديث المحفوظ عن النبي صلى الله عليه وسلم " التقى آدم وموسى، قال آدم: أنت موسى، الذي كلمك الله تكليما، لم يجعل بينك وبينه رسولا من خلقه "1، وسلف الأمة وأئمتها كفروا الجهمية الذين قالوا: إن الله خلق كلاما، في بعض الأجسام، سمعه موسى ; وفسروا التكليم بذلك. وأما قوله: "إن الله كتب التوراة بيده" فهذا قد روي في الصحيحين، فمن أنكر ذلك فهو مخطئ ضال، وإذا أنكره بعد معرفته بالحديث الصحيح، فإنه يستحق العقوبة، وأما قوله ناولها من يده إلى يده ; فهذا مأثور عن طائفة من التابعين، وهو كذلك عند أهل الكتاب، لكن لا أعلم هذا اللفظ مأثورا عن النبي صلى الله عليه وسلم، فالمتكلم به إن أراد ما يخالف ذلك، فقد أخطأ، والله أعلم. [الأخذ بالإجماع السكوتي عن الصحابة] وسئل أيضا الشيخ عبد الله بن الشيخ، رحمهما الله: هل يتأكد الأخذ بالإجماع السكوتي عن الصحابة رضي الله عنهم ... إلخ؟ فأجاب: الذي عليه أكثر الفقهاء، من الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة، أن الأمر إذا اشتهر بين الصحابة رضي الله عنهم، فلم ينكره منهم أحد، كان إجماعا، كما قال ابن مسعود رضي الله عنه: "إن الله نظر في قلوب العباد، فوجد خيرهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فاختارهم   1 أبو داود: السنة (4702) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 31 لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم، فما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن". انتهى. وباتباع السلف الصالح، والأخذ بهديهم وسلوك طريقتهم، والسكوت عما سكتوا عنه، يزول عن المؤمن شبهات كثيرة، وبدع وضلالات شهيرة، أحدثها المتأخرون بعدهم، كالكلام في تأويل آيات الصفات وأحاديثها، بالتأويلات المستكرهة التي لم تعهد عن الصحابة والتابعين لهم بإحسان، فإنهم سكتوا عن تفسير ذلك بالتأويلات الباطلة ; وقالوا: أمروها كما جاءت. وقال بعضهم في صفة الاستواء، لما سأله سائل عن قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [سورة طه آية: 5] كيف استوى؟ قال: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، كما تواتر ذلك عن الإمام مالك رحمه الله، وما أجاب به مالك رحمه الله في هذه المسألة، هو جواب أهل السنة والجماعة في آيات الصفات وأحاديثها، فيقال في النّزول: النّزول معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وهكذا يقال في سائر الصفات، مثل المجيء، واليد والوجه، والمحبة، والغضب والرضى، وغير ذلك من الصفات الواردة في الكتاب والسنة. وما أحسن ما جاء عن عبد العزيز بن عبد الله بن أبي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 32 سلمة الماجشون، أنه قال: عليك بلزوم السنة، فإنها لك بإذن الله عصمة، فإن السنة إنما جعلت ليستن بها، ويقتصر عليها، وإن سنة من قدم قد علم ما في خلافها من الزلل، والخطأ، والحمق، والتعمق ; فارض لنفسك ما رضوا به، فإنهم عن علم وقفوا، وببصر ناقد كفوا، ولهم كانوا على كشفها أقوى، وبتفصيلها أحرى، وإنهم لهم السابقون، وقد بلغهم عن نبيهم ما يجري من الاختلاف، فلئن كان الهدى ما أنتم عليه، لقد سبقتموهم إليه، ولئن قلتم حدث بعدهم، فما أحدثه إلا من اتبع غير سبيلهم، ورغب بنفسه عنهم، واختار ما نحته فكره على ما تلقوه من نبيهم، وتلقاه عنهم من اتبعهم بإحسان، ولقد وصفوا منه ما يكفي، وتكلموا فيه بما يشفي، فمن دونهم مقصر، ومن فوقهم مفرط، ولقد قصر دونهم أناس فجفوا، وطمح آخرون فغلوا، إنهم فيما بين ذلك لعلى هدى مستقيم. [بحث في آيات الصفات وأحاديثها] وله: أيضا قدس الله روحه، ونور ضريحه: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، الجواب - وبالله التوفيق - عن المبحث الأول عن آيات الصفات وأحاديثها التي اختلف فيها علماء الإسلام، فنقول: الذي نعتقد وندين الله به، هو مذهب سلف الأمة وأئمتها، من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، من الأئمة الأربعة وأصحابهم، رضي الله عنهم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 33 أجمعين، وهو: الإيمان بذلك، والإقرار به، وإمراره كما جاء، من غير تشبيه، ولا تمثيل، ولا تعطيل، قال الله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} [سورة النساء آية: 115] . وقد شهد الله تعالى لأصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم ومن تبعهم بإحسان بالإيمان، فعلم قطعا أنهم المراد بالآية الكريمة، فقال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ} [سورة التوبة آية: 100] الآية، وقال تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ} [سورة الفتح آية: 18] الآية. فثبت بالكتاب لهم أن من اتبع سبيلهم فهو على الحق، ومن خالفهم فهو على الباطل، فمن سبيلهم في الاعتقاد: الإيمان بصفات الله تعالى وأسمائه التي وصف بها نفسه، وسمى بها نفسه في كتابه وتنْزيله، أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم من غير زيادة عليها، ولا نقصان منها، ولا تجاوز لها، ولا تفسير، ولا تأويل لها بما يخالف ظاهرها، ولا تشبيه بصفات المخلوقين، ولا سمات المحدثين؛ بل أقروها كما جاءت، وردوا علمها إلى قائلها، ومعناها إلى المتكلم بها، صادق لا شك في صدقه فصدقوه، ولم يعلموا حقيقة معناها، فسكتوا عما لم يعلموه، وأخذ ذلك الآخر عن الأول، ووصى بعضهم بعضا بحسن الاتباع، والوقوف حيث الجزء: 3 ¦ الصفحة: 34 وقف أولهم، وحذروا من التجاوز لها والعدول عن طريقهم، وبينوا لنا سبيلهم ومذهبهم، وحذرونا من اتباع طريق أهل البدع والاختلاف والمحدثات الذين قال الله فيهم: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [سورة الأنعام آية: 159] ، {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [سورة آل عمران آية: 105] . ونرجوا أن يجعلنا الله تعالى ممن يقتدي بهم، في بيان ما بينوه، وسلوك الطريق الذي سلكوه. والدليل على أن مذهبهم ما ذكرنا أنهم نقلوا إلينا القرآن العظيم، وأخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم نقل مصدق لها مؤمن بها، قابل لها غير مرتاب فيها، ولا شاك في صدق قائلها، ولم يفسروا ما يتعلق بالصفات منها، ولا تأولوه، ولا شبهوه بصفات المخلوقين، إذ لو فعلوا شيئا من ذلك لنقل عنهم، بل بلغ من مبالغتهم في السكوت عن هذا أنهم كانوا إذا رأوا من يسأل عن المتشابه بالغوا في كفه وتأديبه، تارة بالقول العنيف، وتارة بالضرب، وتارة بالإعراض الدال على شدة الكراهة لمسألته. ولما سئل مالك بن أنس عن الاستواء كيف هو؟ فقيل له: يا أبا عبد الرحمن {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [سورة طه آية: 5] كيف استوى؟ فأطرق مالك رحمه الله، وعلاه الرحضاء - يعني العرق - وانتظر القوم ما يجيء منه، فرفع رأسه إليه، فقال: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان الجزء: 3 ¦ الصفحة: 35 به واجب، والسؤال عنه بدعة، وأحسبك رجل سوء، وأمر به فأخرج. ومن أول الاستواء بالاستيلاء، فقد أجاب بغير ما أجاب به مالك، وسلك غير سبيله. وهذا الجواب من مالك رضي الله عنه في الاستواء شاف كاف في جميع الصفات، مثل النّزول، والمجيء، واليد، والوجه، وغيرها، فيقال في النّزول: النّزول معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وهكذا يقال في سائر الصفات، إذ هي بمثابة الاستواء الوارد به الكتاب والسنة. وثبت عن الربيع بن سليمان قال: سألت الشافعي رضي الله عنه عن صفات الله تعالى، فقال: حرام على العقول أن تمثل الله تعالى، وعلى الأوهام أن تحده، وعلى الظنون أن تقطع، وعلى النفوس أن تفكر، وعلى الضمائر أن تعمق، وعلى الخواطر أن تحيط، وعلى العقول أن تعقل، إلا ما وصف به نفسه على لسان نبيه عليه الصلاة والسلام. وثبت عن إسماعيل بن عبد الرحمن الصابوني أنه قال: إن أصحاب الحديث المتمسكين بالكتاب والسنة، يصفون ربهم تبارك وتعالى بصفاته التي نطق بها كتابه وتنْزيله، وشهد له بها رسوله صلى الله عليه وسلم على ما وردت به الأخبار الصحاح، ونقله العدول الثقات، ولا يعتقدون به تشبيها بصفات خلقه، ولا يكيفونها تكييف المشبهة، ولا يحرفون الكلم عن مواضعه، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 36 تحريف المعتزلة والجهمية، وقد أعاذ الله أهل السنة من التحريف والتكييف، ومن عليهم بالتفهيم والتعريف، حتى سلكوا سبيل التوحيد، والتنْزيه ; وتركوا القول بالتعطيل والتشبيه، واكتفوا في نفي النقائص بقوله عز وجل {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [سورة الشورى آية: 11] ، وبقوله: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [سورة الإخلاص آية: 3-4] . وثبت عن الحميدي شيخ البخاري، وغيره من أئمة الحديث، أنه قال: أصول السنة، فذكر أشياء، وقال: ما نطق به القرآن والحديث، مثل: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} [سورة المائدة آية: 64] ، ومثل: {وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [سورة الزمر آية: 67] ، وما أشبه هذا من القرآن والحديث، لا نرده، ولا نفسره ; ونقف على ما وقف عليه القرآن والسنة، ونقول: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [سورة طه آية: 5] ، ومن زعم غير هذا فهو جهمي. فمذهب السلف رحمة الله عليهم: إثبات الصفات وإجراؤها على ظاهرها، ونفي الكيفية عنها، لأن الكلام في الصفات، فرع على الكلام في الذات، يحتذي فيه حذوه؛ كما أن إثبات الذات، إثبات وجود، لا إثبات كيفية، ولا تشبيه، فكذلك الصفات؛ وعلى هذا مضى السلف كلهم، ولو ذهبنا نذكر ما اطلعنا عليه من كلام السلف في ذلك، لطال الكلام جدا؛ فمن كان قصده الحق، وإظهار الصواب، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 37 اكتفى بما قدمناه، ومن كان قصده الجدال والقيل والقال، لم يزده التطويل إلا الخروج عن سواء السبيل، والله الموفق. وقد بعث الله تعالى نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق، ليخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد، وشهد له بأنه بعثه داعيا إليه بإذنه وسراجا منيرا، وأمره أن يقول: {هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [سورة يوسف آية: 108] ، ومن المحال في العقل والدين، أن يكون السراج المنير، الذي أخرج الله به الناس من الظلمات إلى النور، وأنزل معه الكتاب ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، وأمر الناس أن يردوا ما تنازعوا فيه من دينهم إلى ما بعث به من الكتاب والحكمة، وهو يدعو إلى الله، وإلى سبيله، بإذن ربه على بصيرة، وقد أخبر الله بأنه قد أكمل له ولأمته دينهم، وأتم عليهم نعمته، محال مع هذا وغيره، أن يكون قد ترك باب الإيمان بالله والعلم به ملتبسا مشتبها، ولم يميز ما يجب لله من الأسماء الحسنى والصفات العلى، وما يجوز عليه، وما يمتنع عليه؛ فإن معرفة هذا أصل الدين، وأساس الهداية، وأفضل وأوجب ما اكتسبته القلوب، وحصلته النفوس، وأدركته العقول، فكيف يكون ذلك الكتاب وذلك الرسول، وأفضل خلق الله بعد النبيين، لم يحكموا هذا الباب اعتقادا، وقولا؟! ومن المحال أيضا أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد علم أمته الجزء: 3 ¦ الصفحة: 38 كل شيء حتى الخراءة، وقال: " تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك "1، وقال فيما صح عنه أيضا: " ما بعث الله من نبي إلا كان حقا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم، وينهاهم عن شر ما يعلمه لهم "2، وقال أبو ذر: "لقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما طائر يقلب جناحيه في السماء، إلا ذكر لنا منه علما"، وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقاما، فذكر به بدء الخلق، حتى دخل أهل الجنة منازلهم، وأهل النار منازلهم؛ حفظ ذلك من حفظه، ونسيه من نسيه" رواه البخاري، محال مع هذا أن يترك تعليمهم ما يقولونه بألسنتهم وقلوبهم، في ربهم ومعبودهم رب العالمين، الذي معرفته غاية المعارف، وعبادته أشرف المقاصد، والوصول إليه غاية المطالب؛ بل هذا خلاصة الدعوة النبوية، وزبدة الرسالة الإلهية، فكيف يتوهم من في قلبه أدنى مسكة من إيمان وحكمة أو يظن أنه قد وقع من الرسول صلوات الله وسلامه عليه إخلال بهذا؟! ثم إذا كان قد وقع ذلك منه، فمن المحال أن يكون خير أمته وأفضل قرونها، قصروا في هذا الباب، زائدين فيه أو ناقصين عنه. ثم من المحال أن تكون القرون الفاضلة، القرن الذي بعث فيه الرسول صلى الله عليه وسلم ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، كانوا غير عالمين، وغير قائلين في هذا الباب بالحق المبين،   1 ابن ماجه: المقدمة (44) , وأحمد (4/126) . 2 مسلم: الإمارة (1844) , والنسائي: البيعة (4191) , وابن ماجه: الفتن (3956) , وأحمد (2/191) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 39 لأن ضد ذلك إما لعَدَم العلم والقول، وإما اعتقاد نقيض الحق وقول خلاف الصدق، وكلاهما ممتنع ; أما الأول: فلأن من في قلبه أدنى حياة في طلب العلم، أو همة في العبادة، يكون البحث عن هذا الباب، والسؤال عنه، ومعرفة الحق فيه، أكبر مقاصده، وأعظم مطالبه، وليست النفوس الزكية إلى شيء أشوق منها إلى معرفة هذا الباب، وهذا أمر معلوم بالفطرة الوجدية، فكيف يتصور مع قيام هذا المقتضي، الذي هو أقوى المقتضيات، أن يتخلف عنه مقتضاه في أولئك السادة، في مجموع عصورهم؟ هذا، لا يكاد يقع في أبلد الخلق، وأشدهم إعراضا عن الله، وأعظمهم إكبابا على الدنيا، وغفلة عن ذكر الله ; فكيف يقع في أولئك الفضلاء، والسادة النجباء؟! وأما كونهم كانوا معتقدين فيه غير الحق، أو قائلينه، فهذا لا يعتقده مسلم، عرف حال القوم، ولا يجوز أيضا أن يكون الخالفون أعلم من السابقين، كما قد يقوله بعض الأغبياء، ممن لم يعرف قدر السلف، بل ولا عرف الله ورسوله، والمؤمنين به حقيقة المعرفة المأمور بها، من أن طريقة الخلف أعلم وأحكم، وطريقة السلف أسلم; فإن هؤلاء المبتدعة الذين يفضلون طريقة الخلف على طريقة السلف، إنما أُتُوا من حيث ظنوا أن طريقة السلف هي مجرد الإيمان بألفاظ القرآن والحديث، من غير فقه لذلك، بمنْزلة الأميين الذين قال الله فيهم: {ومِنهم أمّيّونَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 40 لايَعلَمونَ الكِتابَ إلاّ أمَانيّ وإنْ هُم إلاّ يَظنّون} . وأن طريقة الخلف هي استخراج معانى النصوص المصروفة عن حقائقها، بأنواع المجازات وغرائب اللغات. فهذا الظن الفاسد أوجب تلك المقالة التي مضمونها نبذ الإسلام وراء الظهر، وقد كذبوا على طريقة السلف، وضلوا في تصويب طريقة الخلف، فجمعوا بين الجهل بطريقة السلف في الكذب عليهم، وبين الجهل والضلال بتصويب طريقة الخلف، وسبب ذلك اعتقادهم أنه ليس في نفس الأمر صفة دلت عليها هذه النصوص، بالشبهات الفاسدة التي شاركوا فيها أهل الجهل والضلال، من الجهمية والمعتزلة والرافضة، ومن سلك سبيلهم من الضالين، فلما اعتقدوا انتفاء الصفات في نفس الأمر، وكان مع ذلك لا بد للنصوص من معنى، بقوا مترددين بين الإيمان باللفظ وتفويض المعنى، وهي التي يسمونها طريقة السلف، وبين صرف اللفظ إلى معان بنوع تكلف؛ وصار هذا الباطل مركبا من فساد العقل والكفر بالسمع؛ فإن النفي إنما اعتمدوا فيه على أمور عقلية، ظنوها بينات وبراهين قاطعات، وهي شبهات وضلالات متناقضات، والسمع حرفوا فيه الكلم عن مواضعه. فلما انبنى أمرهم على هاتين المقدمتين الكاذبتين الكفريتين، كانت النتيجة استجهال السابقين الأولين والتابعين لهم بإحسان، واستبلاههم، واعتقاد أنهم كانوا قوما الجزء: 3 ¦ الصفحة: 41 أميين، بمنْزلة الصالحين من العامة، لم يتبحروا في حقائق العلم، ولم يتفطنوا لدقيق العلم الإلهي، وأن الخلف الفضلاء حازوا قصب السبق في هذا كله، وهذا القول إذا تدبره الإنسان، وجده في نهاية الجهالة، بل في غاية الضلالة، كيف يكون هؤلاء المتأخرون، لا سيما والإشارة بالخلف إلى ضرب من المتكلمين، الذين كثر في باب الدين اضطرابهم، وغلظ عن معرفة الله حجابهم، وأخبر الواقف على نهايات إقدامهم، بما انتهى إليه من مرامهم، حيث يقول: لعمري لقد طفت المعاهد كلها ... وسيرت طرفي بين تلك المعالم فلم أر إلا واضعا كف حائر ... على ذقن أو قارعا سن نادم وأقروا على أنفسهم بما قالوه متمثلين به، أو منشئين له، فيما صنفوه من كتبهم، كقول بعض رؤسائهم، حيث يقول: نهاية إقدام العقول عقال ... وأكثر سعي العالمين ضلال وأرواحنا في وحشة من جسومنا ... وحاصل دنيانا أذى ووبال ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا ... سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا لقد تأملت الطرق الكلامية، والمناهج الفلسفية، فما رأيتها تشفي عليلا، ولا تروي غليلا، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن، أقرأ في الإثبات {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [سورة فاطر آية: 10] ، {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 42 اسْتَوَى} [سورة طه آية: 5] . وأقرأ في النفي: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [سورة الشورى آية: 11] {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} [سورة طه آية: 110] . قال: ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي. ويقول الآخر منهم: لقد خضت البحر الخضم، وتركت أهل الإسلام وعلومهم، وخضت في الذي نهوني عنه، والآن إن لم يتداركني ربي برحمته، فالويل لفلان، وها أنا أموت على عقيدة أمي. ويقول الآخر منهم: أكثر الناس شكا عند الموت، أرباب الكلام. كيف يكون هؤلاء أعلم بالله وآياته، من السابقين الأولين؟ ! ومن تأمل ما ذكرنا علم أن الضلال والتهوك، إنما استولى على كثير من المتأخرين، بسبب نبذهم كتاب الله وراء ظهورهم، وإعراضهم عما بعث الله به محمدا صلى الله عليه وسلم من البينات والهدى، وتركهم البحث عن طريق السابقين والتابعين لهم بإحسان، والتماسهم علم معرفة الله ممن لم يعرف الله، بإقراره على نفسه، وشهادة الأمة على ذلك ; وإذا كان كذلك، فهذا كتاب الله من أوله إلى آخره، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من أولها إلى آخرها، ثم عامة كلام الصحابة والتابعين، ثم عامة كلام سائر الأمة مملوء بما هو إما نص، وإما ظاهر، في أن الله هو العلي الأعلى، وهو فوق كل شيء، وهو عال على كل شيء، وأنه فوق العرش وأنه فوق السماء. وقد فطر الله على ذلك جميع الأمم، عربهم، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 43 وعجمهم، في الجاهلية والإسلام، إلا من اجتالته الشياطين عن فطرته، ثم عن السلف في ذلك من الأقوال، ما لو جمع لبلغ مئين أو ألوفا؛ ثم ليس في كتاب الله، ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا عن أحد من سلف الأمة، لا من الصحابة ولا من التابعين لهم بإحسان، حرف واحد يخالف ذلك، لا نص، ولا ظاهر؛ ولم يقل أحد منهم: إن الله ليس في السماء، ولا أنه ليس على العرش، ولا أنه بذاته في كل مكان، ولا أن جميع الأمكنة بالنسبة إليه سواء، ولا أنه لا داخل العالم ولا خارجه، ولا متصل ولا منفصل، ولا أنه لا تجوز إليه الإشارة الحسية. بل قد ثبت في الصحيح، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل يقول: " ألا هل بلغت؟ فيقولون: نعم، فيرفع إصبعه إلى السماء، وينكتها إليهم، ويقول: اللهم اشهد، غير مرة "1. فإن كان الحق فيما يقوله هؤلاء السالبون، النافون للصفات الثابتة في الكتاب والسنة دون ما يفهم من الكتاب والسنة، إما نصا، وإما ظاهرا، لقد كان ترك الناس بلا كتاب ولا سنة أهدى لهم وأنفع على هذا التقدير، بل كان وجود الكتاب والسنة، ضررا محضا في أصل الدين، فكيف يجوز على الله، ثم على رسوله، ثم على الأمة أنهم يتكلمون دائما بما هو نص، أو ظاهر في خلاف الحق؟! ثم الحق الذي يجب اعتقاده لا يبوحون به، ولا   1 البخاري: الحج (1741) , ومسلم: القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1679) , وأحمد (5/37 ,5/39 ,5/49) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 44 يدلون عليه، حتى يجيء أنباط الفرس، وفروخ الفلاسفة، فيبينون للأمة العقيدة الصحيحة، التي يجب على كل مكلف أو فاضل اعتقادها! وهم مع ذلك أحيلوا في معرفتها على مجرد عقولهم، وأن يدفعوا بمقتضى قياس عقولهم ما دل عليه الكتاب والسنة، نصا أو ظاهرا; يا سبحان الله! كيف لم يقل الرسول صلى الله عليه وسلم يوما من الدهر، ولا أحد من سلف الأمة: هذه الأحاديث والآيات، لا تعتقدوا ما دلت عليه، لكن اعتقدوا الذي تقتضيه مقاييسكم، فإنه الحق، وما خالفه فلا تعتقدوا ظاهره، وانظروا فيها، فما وافق قياس عقولكم فاعتقدوه، وما لا فتوقفوا فيه، أو انفوه! ثم الرسول صلى الله عليه وسلم قد أخبر أن أمته ستفترق ثلاثا وسبعين فرقة، فقد علم ما سيكون في أمته من الاختلاف، ثم قال: " إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا، كتاب الله "1، وروي أنه قال في صفة الفرقة الناجية " هي من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي "2، فهلا قال: من تمسك بالقرآن، أو بدلالة القرآن، أو بمفهوم القرآن، أو بظاهر القرآن، في باب الاعتقاد فهو ضال، وإنما الهدى رجوعكم إلى مقاييس عقولكم، وما يحدثه المتكلفون منكم بعد القرون الثلاثة؟ ! ثم أصل مقالة التعطيل للصفات إنما أخذت عن تلامذة اليهود والمشركين وضلال الصابئين ; فإن أول من حفظ عنه أنه قال هذه المقالة في الإسلام: الجعد بن درهم، وأخذها عنه الجهم بن صفوان وأظهرها، فنسبت مقالة   1 الترمذي: المناقب (3788) , وأحمد (3/17 ,3/26 ,3/59) . 2 الترمذي: الإيمان (2641) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 45 الجهمية إليه ; وقيل: إن الجعد أخذ مقالته عن أبان بن سمعان، وأخذها أبان عن طالوت بن أخت لبيد بن الأعصم، وأخذها طالوت عن لبيد بن الأعصم اليهودي الذي سحر النبي صلى الله عليه وسلم. وإذا كان أصل هذه المقالة، مقالة التعطيل والتأويل، مأخوذة من تلامذة المشركين والصابئين واليهود، فكيف تطيب نفس مؤمن، بل نفس عاقل أن يسلك سبيل هؤلاء المغضوب عليهم والضالين، ويدع سبيل الذين أنعم الله عليهم من النبيين والشهداء والصالحين؟ ! وجماع الأمر: أن الأقسام الممكنة في آيات الصفات وأحاديثها ستة أقسام، كل قسم عليه طائفة من أهل القبلة، قسمان يقولون: تجرى على ظواهرها، وقسمان يقولون: هي على خلاف ظواهرها، وقسمان يسكتون. أما الأولون فقسمان، أحدهما: من يجريها على ظاهرها، من جنس صفات المخلوقين، فهؤلاء المشبهة، وإليهم توجه الرد بالحق ; والثاني: من يجريها على ظاهرها اللائق بجلال الله تعالى، كما يجري اسم الله: العليم، والقدير، والرب، والموجود، والذات، على ظاهرها اللائق بجلال الله. فإن ظواهر هذه الصفات في حق المخلوقين إما جوهر محدث، وإما عرض قائم، كالعلم، والقدرة، والكلام، والمشيئة، والرحمة، والرضى، والغضب، ونحو ذلك، في حق العبد أعراض؛ والوجه، واليد والعين في حقه أجسام. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 46 فإذا كان الله موصوفا عند عامة أهل الإثبات بأن له علما، وقدرة، وكلاما، ومشيئة، وإن لم تكن أعراضا يجوز عليها ما يجوز على صفات المخلوقين، جاز أن يكون وجه الله، ويداه، ليست أجساما يجوز عليها ما يجوز على صفات المخلوقين ; وهذا هو المذهب الذي حكاه الخطابي وغيره عن السلف، وعليه يدل كلام جمهورهم ; وكلام الباقين لا يخالفه، وهو أمر واضح لمن هداه الله، فإن الصفات كالذات. فكما أن ذات الله ثابتة حقيقية، من غير أن تكون من جنس المخلوقات، فصفاته ثابتة حقيقية، من غير أن تكون من جنس صفات المخلوقين، فمن قال: لا أعقل علما ويدا إلا من جنس العلم واليد المعهودة، قيل له: فكيف تعقل ذاتا من غير جنس ذوات المخلوقين؟ ومن المعلوم: أن صفات كل موصوف تناسب ذاته، وتلائم حقيقته، فمن لم يفهم من صفات الرب الذي: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [سورة الشورى آية: 11] إلا ما يناسب المخلوقين، فقد ضل في عقله ودينه. وما أحسن ما قال بعضهم: إذا قال لك الجهمي: كيف استوى؟ أو كيف ينْزل إلى سماء الدنيا؟ أو كيف يداه؟ ونحو ذلك، فقل له: كيف هو في نفسه؟ فإذا قال: لا يعلم ما هو إلا هو، وكنه الباري غير معقول للبشر، فقل له: فالعلم بكيفية الصفة مستلزم للعلم بكيفية الموصوف، فكيف يمكن أن يعلم كيفية صفة لموصوف لم تعلم كيفيته؟ وإنما تعلم الذات والصفات من حيث الجملة، على الوجه الذي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 47 ينبغي؛ بل هذه المخلوقات في الجنة، قد ثبت عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: "ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء"، وقد أخبر الله سبحانه أنه {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [سورة السجدة آية: 17] ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم "يقول الله عز وجل أعددت لعبادي الصالحين، ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر "1. فإذا كان نعيم الجنة، وهو خلق من خلق الله تعالى، كذلك، فما الظن بالخالق سبحانه وتعالى؟ وهذه الروح التي في بني آدم، قد علم العاقل اضطراب الناس فيها، وإمساك النصوص عن بيان كيفيتها، أفلا يعتبر العاقل بها عن الكلام في كيفيته تعالى؟ مع أنا نقطع أن الروح في البدن، وأنها تخرج منه، وتعرج إلى السماء، وأنها تسل منه وقت النّزع كما نطقت بذلك النصوص الصحيحة. وأما القسمان اللذان ينفيان ظاهرها، أعني الذين يقولون: ليس لها في الباطن مدلول هو صفة لله تعالى، وأن الله تعالى لا صفة له ثبوتية، بل صفاته إما سلبية، وإما إضافية، وإما مركبة منهما، ويثبتون بعض الصفات، وهي السبع، أو الثمان، أو الخمس عشرة، على ما قد عرف من مذاهب المتكلمين من الأشعرية وغيرهم، فهؤلاء قسمان: قسم يتأولونها، ويعينون المراد، مثل قولهم: استوى بمعنى: استولى، أو بمعنى: علو المكانة والقدر، أو بمعنى: طهور نوره للعرش، أو بمعنى: انتهاء الخلق إليه، إلى غير   1 البخاري: بدء الخلق (3244) , ومسلم: الجنة وصفة نعيمها وأهلها (2824) , والترمذي: تفسير القرآن (3197) , وابن ماجه: الزهد (4328) , وأحمد (2/313 ,2/438 ,2/466 ,2/495) , والدارمي: الرقاق (2828) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 48 ذلك من معاني المتكلمين، وقسم يقولون: الله أعلم بما أراد بها، لكنا نعلم أنه لم يرد إثبات صفة خارجة عما علمناه. وأما القسمان الواقفان، فقسم يقولون: يجوز أن يكون المراد بظاهرها اللائق بالله، ويجوز أن لا يكون المراد صفة الله، ونحو ذلك ; وهذه طريقة كثير من الفقهاء وغيرهم. وقسم يمسكون عن هذا كله، ولا يزيدون على تلاوة القرآن، وتلاوة الحديث، معرضين بقلوبهم وألسنتهم عن هذه التقديرات كلها ; فهذه الأقسام الستة، لا يمكن أن يخرج الرجل عن قسم منها. والصواب في ذلك: القطع بالطريقة السلفية، وهي: اعتقاد الشافعي، ومالك، والثوري، والأوزاعي، وابن المبارك، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وهي: اعتقاد المشايخ المقتدى بهم، كالفضيل بن عياض، وأبي سليمان الداراني، وسهل بن عبد الله التستري، وغيرهم؛ فإنه ليس بين هؤلاء الأئمة نزاع في أصول الدين، وكذلك أبو حنيفة رحمه الله. واعتقاد هؤلاء، هو ما كان عليه الصحابة والتابعون لهم بإحسان، وهو: ما نطق به الكتاب والسنة، في التوحيد، والقدر، وغير ذلك. قال الشافعي رحمه الله، في أول خطبة الرسالة: الحمد لله الذي هو كما وصف به نفسه، وفوق ما يصفه به خلقه، فبين رحمه الله، أن الله تعالى يوصف بما وصف به نفسه في الجزء: 3 ¦ الصفحة: 49 كتابه، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، وكذلك قال أحمد بن حنبل: لا يوصف الله إلا بما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله، لا يتجاوز القرآن والحديث، وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للجارية: " أين الله؟ قالت: في السماء ; قال: من أنا؟ قالت: رسول الله، قال: أعتقها فإنها مؤمنة "1 وهذا الحديث رواه الشافعي، ومالك، وأحمد بن حنبل، ومسلم في صحيحه، وغيرهم. وأهل السنة يعلمون أن ليس معنى ذلك، أن الله في جوف السماء، وأن السماوات تحصره وتحويه ; فإن هذا لم يقله أحد من سلف الأمة وأئمتها، بل هم متفقون على أن الله فوق سماواته، على عرشه، بائن من خلقه، ليس في مخلوقاته شيء من ذاته، ولا في ذاته شيء من مخلوقاته، وقد قال مالك بن أنس: إن الله في السماء، وعلمه في كل مكان. وقالوا لعبد الله بن المبارك: بماذا نعرف ربنا؟ قال: بأنه فوق سماواته، على عرشه، بائن من خلقه. وقال أحمد بن حنبل كما قال هذا وهذا. وقال الأوزاعي: كنا، والتابعون متوافرون، نقر بأن الله فوق عرشه، ونؤمن بما وردت به السنة من صفاته. فمن اعتقد أن الله في جوف السماء، محصور محاط به، أو أنه مفتقر إلى العرش، أو غير العرش من المخلوقات، أو أن استواءه على عرشه كاستواء المخلوق على سريره، فهو ضال   1 مسلم: المساجد ومواضع الصلاة (537) , والنسائي: السهو (1218) , وأبو داود: الأيمان والنذور (3282) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 50 مبتدع جاهل، ومن اعتقد أنه ليس فوق السماوات إله يعبد، ولا على العرش رب يصلى له ويسجد، فهو معطل فرعوني، ضال مبتدع. فإن فرعون كذب موسى في أن ربه فوق السماوات، وقال: {يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِباً} [سورة آية: 36] ومحمد صلى الله عليه وسلم صدق موسى في أن ربه فوق السماوات، فإنه لما كان ليلة المعراج وعرج به إلى السماء، وفرض عليه ربه خمسين صلاة، ذكر أنه رجع إلى موسى وقال له: ارجع إلى ربك فسله التخفيف لأمتك، فإن أمتك لا تطيق ذلك، فرجع إلى ربه فخفف عنه عشرا، ثم رجع إلى موسى فأخبره بذلك، فقال: ارجع إلى ربك فسله التخفيف لأمتك، وهذا الحديث في الصحاح، فمن وافق فرعون وخالف موسى ومحمدا صلى الله عليه وسلم فهو ضال، ومن مثل الله بخلقه فهو ضال مشبه. قال نعيم بن حماد: من شبه الله بخلقه فقد كفر، ومن جحد ما وصف الله به نفسه فقد كفر، وليس ما وصف الله به نفسه، ولا رسوله تشبيها، انتهى. ومن تكلم في الله وأسمائه وصفاته بما يخالف الكتاب والسنة، فهو من الخائضين في آيات الله بالباطل، وقد قال تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} [سورة الأنعام آية: 68] . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 51 واعلم أن كثيرا من المصنفين ينسب إلى أئمة الإسلام ما لم يقولوه، فينسبون إلى الشافعي، ومالك، وأحمد، وأبي حنيفة، من الاعتقادات الباطلة ما لم يقولوه، ويقولون لمن تبعهم: هذا الذي نقوله اعتقاد الإمام الفلاني، فإذا طولبوا بالنقل الصحيح عن الأئمة، تبين كذبهم في ذلك، كما تبين كذب كثير من الناس فيما ينقلونه عن الرسول صلى الله عليه وسلم ويضيفونه إلى سنته، من البدع، والأقوال الباطلة. ومنهم من إذا طولب بتحقيق نقله يقول: هذا القول قاله العقلاء، والإمام الفلاني لا يخالف العقلاء، ويكون أولئك العقلاء من أهل الكلام الذين ذمهم الأئمة؛ فقد قال الشافعي رحمه الله: حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد والنعال، ويطاف بهم في القبائل والعشائر، ويقال: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة، وأقبل على الكلام. فإذا كان هذا حكمه فيمن أعرض عنهما، فكيف حكمه فيمن عارضهما بغيرهما؟ وقال أبو يوسف، صاحب أبي حنيفة: من طلب الدين بالكلام تزندق. وقال أحمد بن حنبل: ما ارتدى أحد بالكلام فأفلح ; وقال: علماء الكلام زنادقة ; وكثير من هؤلاء، قرؤوا كتبا من كتب الكلام فيها شبهات أضلتهم، ولم يهتدوا لجوابها، فإنهم يجدون في تلك الكتب: أن الله لو كان فوق الخلق لزم التجسيم، والتحيز، والجهة، وهم لا يعلمون حقائق هذه الألفاظ، وما أراد بها أصحابها. ومن اشتبه عليه ذلك أو غيره، فليدع بما رواه مسلم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 52 في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل، يصلي يقول: " اللهم رب جبرائيل، وميكائيل، وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك، فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم "1، فإذا افتقر العبد إلى الله ودعاه، وأدمن النظر في كلام الله، وكلام رسوله، وكلام الصحابة، والتابعين، وأئمة المسلمين، انفتح له الباب، وتبين له الصواب، بمشيئة الملك الوهاب، وصلى الله على محمد. [جواب الشيخ حمد بن معمر عن آيات الصفات والأحاديث الواردة في ذلك] سئل الشيخ: حمد بن ناصر بن معمر، رحمه الله تعالى: ما قولكم أدام الله النفع بعلومكم، في آيات الصفات، والأحاديث الواردة في ذلك، مثل قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [سورة طه آية: 5] ، ومثل قوله: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [سورة الفتح آية: 10] وقول النبي صلى الله عليه وسلم: " ينْزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا " 2 وقوله صلى الله عليه وسلم: "قلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمن"، إلى غير ذلك مما ظاهره يوهم التشبيه؟ فأفيدونا عن اعتقاد الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى، في ذلك؟ وكيف مذهبه؟ ومذهبكم من بعده؟ هل تمرون ما ورد من ذلك على ظاهره، مع التنْزيه؟ أم تؤولون؟ وابسطوا الكلام على ذلك، وأجيبوا جوابا شافيا، تغنموا أجرا وافيا.   1 مسلم: صلاة المسافرين وقصرها (770) , والترمذي: الدعوات (3420) , والنسائي: قيام الليل وتطوع النهار (1625) , وأبو داود: الصلاة (767) , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1357) , وأحمد (6/156) . 2 البخاري: الجمعة (1145) والتوحيد (7494) , ومسلم: صلاة المسافرين وقصرها (758) , والترمذي: الصلاة (446) والدعوات (3498) , وأبو داود: الصلاة (1315) , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1366) , وأحمد (2/258 ,2/264 ,2/267 ,2/282 ,2/419 ,2/487 ,2/504 ,2/521) , ومالك: النداء للصلاة (496) , والدارمي: الصلاة (1478 ,1479) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 53 فأجاب بما نصه: الحمد لله رب العالمين، قولنا في آيات الصفات، والأحاديث الواردة في ذلك، ما قاله الله ورسوله، وما قاله سلف الأمة وأئمتها، من الصحابة، والتابعين، والأئمة الأربعة، وغيرهم من علماء المسلمين، فنصف الله تعالى بما وصف به نفسه في كتابه، وبما وصفه به رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل ; بل نؤمن بأن الله سبحانه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [سورة الشورى آية: 11] فلا ننفي عنه ما وصف به نفسه، ولا نحرف الكلم عن مواضعه، ولا نلحد في أسماء الله وآياته، ولا نكيف، ولا نمثل صفاته بصفات خلقه ; لأنه سبحانه لا سمي له، ولا كفو له، ولا ند له، ولا يقاس بخلقه؛ سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا ; فهو فسبحانه ليس كمثله شيء في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، بل يوصف بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله، من غير تكييف ولا تمثيل خلافا للمشبهة، ومن غير تحريف ولا تعطيل خلافا للمعطلة. فمذهبنا مذهب السلف: إثبات بلا تشبيه، وتنْزيه بلا تعطيل، وهو مذهب أئمة الإسلام، كمالك، والشافعي، والثوري، والأوزاعي، وابن المبارك، والإمام أحمد، وإسحاق بن راهويه، وهو اعتقاد المشايخ المقتدى بهم، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 54 كالفضيل بن عياض، وأبي سليمان الداراني، وسهل بن عبد الله التستري، وغيرهم، فإنه ليس بين هؤلاء الأئمة نزاع في أصول الدين، وكذلك أبو حنيفة رضي الله عنه، فإن الاعتقاد الثابت عنه موافق لاعتقاد هؤلاء، وهو الذي نطق به الكتاب والسنة، قال الإمام أحمد رحمه الله: لا يوصف الله إلا بما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم لا يتجاوز القرآن، والحديث؛ وهكذا مذهب سائرهم، كما سننقل عباراتهم بألفاظها إن شاء الله تعالى. ومذهب شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى، هو ما ذهب إليه هؤلاء الأئمة المذكورون، فإنه يصف الله بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا يتجاوز القرآن والحديث، ويتبع في ذلك سبيل السلف الماضين، الذين هم أعلم هذه الأمة بهذا الشأن، نفيا وإثباتا ; وهم أشد تعظيما لله، وتنْزيها له، عما لا يليق بجلاله، فإن المعاني المفهومة من الكتاب والسنة لا ترد بالشبهات، فيكون ردها من باب تحريف الكلم عن مواضعه. ولا يقال: هي ألفاظ لا تعقل معانيها، ولا يعرف المراد منها، فيكون ذلك مشابهة للذين لا يعلمون الكتاب إلا أماني، بل هي آيات بينات دالة على أشرف المعاني وأجلها، قائمة حقائقها في صدور الذين أوتوا العلم والإيمان، إثباتا بلا تشبيه، وتنْزيها بلا تعطيل، كما قامت حقائق سائر صفات الكمال في قلوبهم كذلك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 55 فكان الباب عندهم بابا واحدا، قد اطمأنت به قلوبهم، وسكنت إليه نفوسهم، فأنسوا من صفات كماله ونعوت جلاله بما استوحش منه الجاهلون المعطلون، وسكنت قلوبهم إلى ما نفر منه الجاحدون، وعلموا أن الصفات حكمها حكم الذات؛ فكما أن ذاته سبحانه لا تشبه الذوات، فصفاته لا تشبه الصفات، فما جاءهم من الصفات عن المعصوم تلقوه بالقبول، وقابلوه بالمعرفة والإيمان والإقرار، لعلمهم بأنه سبحانه لا شبيه لذاته ولا لصفاته. قال الإمام أحمد لما سئل عن التشبيه: هو أن يقول: يد كيدي، ووجه كوجهي، فأما إثبات يد ليست كالأيدي، ووجه ليس كالوجوه، فهو كإثبات ذات ليست كالذوات، وحياة ليست كغيرها من الحياة، وسمع وبصر ليسا كالأسماع والأبصار؛ وهو سبحانه موصوف بصفات الكمال، منَزه عن كل نقص وعيب، وهو سبحانه في صفات الكمال لا يماثله شيء، فهو حي قيوم، سميع بصير، عليم خبير، رؤوف رحيم {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [سورة الفرقان آية: 59] ، وكلم موسى تكليما، وتجلى للجبل فجعله دكا. لا يماثله شيء من الأشياء في شيء من صفاته، فليس كعلمه علم أحد، ولا كقدرته قدرة أحد، ولا كرحمته رحمة أحد، ولا كاستوائه استواء أحد، ولا كسمعه وبصره سمع أحد ولا بصره، ولا كتكليمه تكليم أحد، ولا كتَجَلِّيه تجلّي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 56 أحد، بل نعتقد أن الله جل اسمه في عظمته وكبريائه، وحسن أسمائه، وعلو صفاته، ولا يشبه به شيء من مخلوقاته، وأن ما جاء من الصفات مما أطلقه الشرع على الخالق وعلى المخلوق، فلا تشابه بينهما في المعنى الحقيقي، إذ صفات القديم بخلاف صفات المخلوق، فكما أن ذاته لا تشبه الذوات فكذلك صفاته لا تشبه الصفات، وليس بين صفاته وصفات خلقه إلا موافقة اللفظ. والله سبحانه قد أخبر أن في الجنة لحما، ولبنا، وعسلا، وماء، وحريرا، وذهبا، وقد قال ابن عباس: "ليس في الدنيا مما في الآخرة إلا الأسماء"، فإذا كانت المخلوقات الغائبة ليست مثل هذه الموجودة مع اتفاقها في الأسماء، فالخالق جل وعلا أعظم علوا ومباينة لخلقه، من مباينة المخلوق للمخلوق، وإن اتفقت الأسماء. وأيضا فإن الله سبحانه قد سمي نفسه، حيا، عليما، سميعا، بصيرا، ملكا رؤوفا، رحيما ; وقد سمى بعض مخلوقاته حيا، وبعضها عليما، وبعضها سميعا بصيرا، وبعضها رؤوفا رحيما، وليس الحي كالحي، ولا العليم كالعليم. ولا السميع كالسميع، ولا البصير كالبصير، ولا الرءوف كالرءوف، ولا الرحيم كالرحيم. قال الله سبحانه وتعالى: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [سورة البقرة آية: 255] ، وقال: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 57 وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} [سورة يونس آية: 31] ، وقال: {وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [سورة التحريم آية: 2] ، وقال: {وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ} [سورة الذاريات آية: 28] ، وقال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً} [سورة النساء آية: 58] ، وقال: {إِنَّا خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً} [سورة الإنسان آية: 2] ، وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [سورة البقرة آية: 143] ، وقال تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [سورة التوبة آية: 128] ، وليس بين صفة الخالق والمخلوق مشابهة، إلا في اتفاق الاسم. وقد أجمع سلف الأمة وأئمتها، على أن الله سبحانه فوق سماواته، على عرشه، بائن من خلقه، والعرش وما سواه فقير إليه، وهو غني عن كل شيء، لا يحتاج إلى العرش ولا إلى غيره، ليس كمثله شيء لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله. فمن قال: إن الله ليس له علم، ولا قدرة، ولا كلام، ولا يرضى، ولا يغضب، ولا استوى على العرش، فهو معطل ملعون، ومن قال: علمه كعلمي، أو قدرته كقدرتي، أو كلامه مثل كلامي، أو استواؤه كاستوائي، ونزوله كنُزولي، فإنه ممثل ملعون، ومن قال هذا فإنه يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، باتفاق أئمة الدين. فالممثل يعبد صنما ; والمعطل يعبد عدما؛ والكتاب والسنة فيهما الهدى والسداد، وطريق الرشاد، فمن اعتصم بهما هدي، ومن تركهما ضل. وهذا كتاب الله من أوله إلى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 58 آخره، وهذه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا كلام الصحابة والتابعين وسائر الأئمة، قد دل ذلك بما هو نص، أو ظاهر، في أن الله سبحانه فوق العرش، مستو على عرشه، ونحن نذكر من ذلك بعضه، قال الله سبحانه وتعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [سورة طه آية: 5] وقال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [سورة السجدة آية: 4] . وقد أخبر سبحانه باستوائه على عرشه، في سبعة مواضع من كتابه، فذكر في سورة الأعراف، ويونس، والرعد، وطه، والفرقان، وتنْزيل السجدة، والحديد، وقال تعالى: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [سورة آل عمران آية: 55] ، وقال: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} [سورة النساء آية: 158] ، وقال: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [سورة فاطر آية: 10] ، وقال: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ} [سورة الملك آية: 16] . وأخبر عن فرعون أنه قال: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِباً} [سورة غافر آية: 36] ، ففرعون كذب موسى في قوله: إن الله في السماء، وقال تعالى: {تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [سورة فصلت آية: 42] ، وقال: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} [سورة النحل آية: 102] . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 59 وتأمل قوله تعالى في سورة الحديد: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [سورة الحديد آية: 4] ، فقوله: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} [سورة هود آية: 7] ، يتضمن إبطال قول الملاحدة، القائلين بقدم العالم، وأنه لم يزل، وأنه لم يخلقه بقدرته ومشيئته، ومن أثبت منهم وجود الرب، جعله لازما لذاته، أزلا وأبدا، غير مخلوق، كما هو قول ابن سينا، وأتباعه الملاحدة. وقوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [سورة الأعراف آية: 54] يتضمن إبطال قول المعطلة الذين يقولون: ليس على العرش سوى العدم، وأن الله ليس مستويا على العرش، ولا ترفع إليه الأيدي، ولا تجوز الإشارة إليه بالأصابع إلى فوق، كما أشار النبي صلى الله عليه وسلم في أعظم مجامعه، وجعل يرفع أصبعه إلى السماء وينكبها إلى الناس، ويقول: "اللهم اشهد"، وسيأتي الحديث إن شاء الله تعالى ; فأخبر في هذه الآية الكريمة أنه على عرشه، وأنه: {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا} [سورة سبأ آية: 2] ، ثم قال: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [سورة الحديد آية: 4] ، فأخبر أنه مع علوه على خلقه، وارتفاعه، ومباينته لهم، معهم بعلمه أينما كانوا. قال الإمام مالك: الله في السماء، وعلمه في كل مكان، لا يخلو منه شيء. وقال نعيم بن حماد لما سئل عن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 60 معنى هذه الآية: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [سورة الحديد آية: 4] معناه: أنه لا يخفى عليه خافية بعلمه، وسيأتي هذا مع ما يشابهه من كلام الإمام أحمد، وأبي زرعة، وغيرهما، وليس معنى قوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [سورة الحديد آية: 4] أنه: مختلط بالخلق، فإن هذا لا توجبه اللغة، وهو خلاف ما أجمع عليه سلف الأمة وأئمتها، وخلاف ما فطر الله عليه الخلق، بل القمر آية من آيات الله، من أصغر مخلوقاته، هو موضوع في السماء، وهو مع المسافر وغير المسافر أينما كان. وهو سبحانه فوق العرش، رقيب على خلقه، مهيمن عليهم، مطلع عليهم، إلى غير ذلك من معاني ربوبيته ; وأخبر تعالى أنه ذو المعارج تعرج الملائكة والروح إليه، وأنه القاهر فوق عباده، وأن ملائكته يخافون ربهم من فوقهم، فكل هذا الكلام الذي ذكره الله، من أنه فوق عباده، على عرشه، وأنه معنا، حق على حقيقته، لا يحتاج إلى تحريف، ولكن يصان عن الظنون الكاذبة. وهو سبحانه، قد أخبر أنه قريب من خلقه، كقوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} [سورة البقرة آية: 186] الآية، وقوله: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [سورة ق آية: 16] ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته "1، وقوله تعالى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ   1 أحمد (4/402) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 61 إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} [سورة المجادلة آية: 7] . وكل ما في الكتاب والسنة، من الأدلة الدالة على قربه ومعيته، لا ينافي ما ذكر من علوه وفوقيته ; فإنه سبحانه علي في دنوه، قريب في علوه ; وقد أجمع سلف الأمة، على أن الله سبحانه وتعالى فوق سماواته، على عرشه، وهو مع خلقه بعلمه أينما كانوا، يعلم ما هم عاملون، وقال حنبل بن إسحاق: قيل لأبي عبد الله: ما معنى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [سورة الحديد آية: 4] قال: علمه محيط بالكل، وربنا على العرش بلا حد ولا صفة، وسيأتي الكلام مع زيادة عليه من كلام الإمام أحمد، وغيره إن شاء الله تعالى. وأما الأحاديث الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الباب، فكثيرة جدا، منها ما رواه مسلم في صحيحه، وأبو داود، والنسائي، وغيرهم، عن معاوية بن الحكم السلمي، قال: " لطمت جارية لي، فأخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعظم ذلك علي، فقلت: يا رسول الله أفلا أعتقها؟ قال: بلى، ائتني بها. قال: فجئت بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لها: أين الله؟ فقالت: في السماء، فقال: فمن أنا؟ قالت: أنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أعتقها فإنها مؤمنة "1 وفي الحديث مسألتان، إحداهما: قول الرجل لغيره: أين الله؟ وثانيهما: قول المسئول: في السماء، فمن أنكر هاتين المسألتين، فإنما ينكر على الرسول صلى الله عليه وسلم. وفي صحيح البخاري، عن أنس بن مالك رضي الله   1 مسلم: المساجد ومواضع الصلاة (537) , والنسائي: السهو (1218) , وأبو داود: الصلاة (930) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 62 عنه، قال: " كانت زينب تفخر على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم تقول: زوجكن أهاليكن، وزوجني الله من فوق سبع سماوات" 1، وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لما خلق الله الخلق، كتب كتابا، فهو عنده فوق العرش، إن رحمتي تغلب غضبي "2، وفي لفظ آخر: " كتب في كتابه على نفسه، فهو موضوع عنده، إن رحمتي تغلب غضبي "3، وفي لفظ: "فهو مكتوب عنده فوق العرش "4، وهذه الألفاظ كلها في صحيح البخاري. وفي صحيح مسلم عن أبي موسى، قال: " قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس كلمات، فقال: إن الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور، لو كشفه لأحرق سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه "5. وفي الصحيحين، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الفجر، وصلاة العصر، ثم يعرج الذين باتوا فيكم، فيسألهم الرب وهو أعلم بهم، كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم وهم يصلون، وأتيناهم وهم يصلون "6. وعن أبي الدرداء قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من   1 الترمذي: تفسير القرآن (3213) . 2 البخاري: بدء الخلق (3194) , ومسلم: التوبة (2751) , والترمذي: الدعوات (3543) , وابن ماجه: المقدمة (189) والزهد (4295) , وأحمد (2/259) . 3 البخاري: بدء الخلق (3194) والتوحيد (7404 ,7422 ,7453 ,7553 ,7554) , ومسلم: التوبة (2751) , والترمذي: الدعوات (3543) , وابن ماجه: المقدمة (189) والزهد (4295) , وأحمد (2/257 ,2/259 ,2/313 ,2/358 ,2/381 ,2/397 ,2/433 ,2/466) . 4 البخاري: بدء الخلق (3194) , ومسلم: التوبة (2751) , وأحمد (2/257 ,2/259 ,2/313 ,2/358 ,2/381) . 5 مسلم: الإيمان (179) , وأحمد (4/405) . 6 البخاري: مواقيت الصلاة (555) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (632) , والنسائي: الصلاة (485) , وأحمد (2/257 ,2/312 ,2/486) , ومالك: النداء للصلاة (413) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 63 اشتكى منكم أو اشتكى أخ له، فليقل: ربنا الله الذي في السماء تقدس اسمك، أمرك في السماء والأرض؛ كما رحمتك في السماء اجعل رحمتك في الأرض، واغفر لنا ذنوبنا وخطايانا أنت رب الطيبين، أنزل رحمة من رحمتك، وشفاء من شفاك، على هذا الوجع فيبرأ "1 أخرجه أبو داود. وفي الصحيحين في قصة المعراج، وهي متواترة: "وتجاوز النبي صلى الله عليه وسلم السماوات سماء سماء، حتى انتهى إلى ربه تعالى، فقربه وأدناه، وفرض عليه خمسين صلاة، فلم يزل يتردد بين موسى وبين ربه، ينْزل من عند ربه إلى موسى، فيسأله: كم فرض عليك؟ فيخبره، فيقول: ارجع إلى ربك فسله التخفيف". وذكر البخاري في كتاب التوحيد من صحيحه، حديث أنس، حديث الإسراء، وقال فيه: " ثم علا به جبريل فوق ذلك، بما لا يعلم إلا الله، حتى جاوز سدرة المنتهى، ودنا الجبار رب العزة، فتدلى حتى كان قاب قوسين أو أدنى، فأوحى إليه فيما أوحى خمسين صلاة كل يوم وليلة، ثم هبط حتى بلغ موسى، فاحتبسه موسى، فقال: يا محمد، ماذا عهد إليك ربك؟ قال عهد إلي خمسين صلاة كل يوم وليلة، قال: إن أمتك لا تستطيع ذلك، فارجع، فليخفف عنك ربك، فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم إلى جبريل كأنه يستشيره، فأشار عليه جبريل: أن نعم إن شئت، فعلا به إلى الجبار تبارك وتعالى، فقال وهو في مكانه: يا رب خفف عنا "2 وذكر الحديث.   1 أبو داود: الطب (3892) . 2 البخاري: التوحيد (7517) , ومسلم: الإيمان (162) , والنسائي: الصلاة (449) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 64 ولما حكم سعد بن معاذ في بني قريظة، بأن تقتل مقاتلهم، وتسبى ذريتهم، وتغنم أموالهم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: " لقد حكمت فيهم بحكم الملك من فوق سبعة أرقعة "، وفي لفظ: " من فوق سبع سماوات "، وأصل القصة في الصحيحين، وهذا السياق لمحمد بن إسحاق في المغازي. وفي الصحيحين من حديث أبي سعيد قال: بعث علي بن أبي طالب إلى النبي صلى الله عليه وسلم بذهيبة في أديم مقروض، لم تحصل من ترابها، قال: فقسمها بين أربعة: بين عيينة بن حصن بن بدر، والأقرع بن حابس، وزيد الخيل، والرابع إما علقمة، وإما عامر بن الطفيل، فقال رجل من أصحابه: كنا أحق بهذا من هؤلاء، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء؟ يأتيني خبر السماء صباحا ومساء "1. وفي سنن أبي داود من حديث جبير بن مطعم، قال: "جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله هلكت الأنفس، وجاع العيال، وهلكت الأموال، فاستسق لنا ربك، فإنا نستشفع بالله عليك، وبك على الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: سبحان الله! سبحان الله! ! فما زال يسبح، حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه، فقال: ويحك! أتدري ما الله؟ إن شأنه أعظم من ذلك، إنه لا يستشفع به على أحد من خلقه، إنه لفوق سماواته على عرشه، وإنه عليه لهكذا، وإنه ليئط به أطيط الرحل بالراكب"، وقد ساق الذهبي هذا الحديث في كتاب العلو، من رواية محمد بن إسحاق، ثم قال: هذا   1 البخاري: المغازي (4351) , ومسلم: الزكاة (1064) , والنسائي: تحريم الدم (4101) , وأبو داود: السنة (4764) , وأحمد (3/4 ,3/68 ,3/73) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 65 حديث غريب جدا ; وابن إسحاق حجة في المغازي، إذا أسند ; وله مناكير، وعجائب، فالله أعلم، قال النبي صلى الله عليه وسلم هذا، أم لا؟ والله عز وجل ليس كمثله شيء، جل جلاله، وتقدست أسماؤه، ولا إله غيره ; والأطيط الواقع بذات العرش، من جنس الأطيط الحاصل في الرحل، فذاك صفة للرحل وللعرش، ومعاذ الله أن نعده صفة الله عز وجل، ثم لفظ الأطيط لم يأت به نص ثابت، وقولنا في هذه الأحاديث: إنا نؤمن بما صح منها، وبما اتفق السلف على إمراره وإقراره، فأما ما في إسناده مقال، واختلف العلماء في قبوله وتأويله، فإنا لا نتعرض له بتقرير، بل نرويه في الجملة، ونبين حاله، وهذا الحديث إنما سقناه لما فيه مما تواتر، من علو الله على عرشه، مما يوافق آيات الكتاب. وفي سنن أبي داود، ومسند الإمام أحمد، من حديث العباس بن عبد المطلب، قال: " كنت جالسا بالبطحاء، في عصابة فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمرت سحابة، فنظر إليها، فقال: ما تسمون هذه؟ قالوا: السحاب، قال: والمزن. قالوا؟ والمزن، قال: والعنان قالوا: والعنان. قال: هل تدرون بُعْد ما بين السماء والأرض؟ قالوا: لا ندري، قال: إن بُعْدَ ما بينهما إما واحدة وإما اثنتان أو ثلاث وسبعون سنة، ثم السماء فوقها كذلك، حتى عد سبع سماوات، ثم فوق السابعة بحر بين أسفله وأعلاه مثل ما بين السماء إلى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 66 السماء، ثم فوق ذلك ثمانية أوعال، بين أظلافهم وركبهم مثل ما بين سماء إلى سماء، ثم على ظهورهم العرش، أسفله وأعلاه مثل ما بين سماء إلى سماء، ثم الله عز وجل فوق ذلك، وليس يخفى عليه شيء من أعمال بني آدم "1. وفي مسند الإمام أحمد، من حديث أبي هريرة: " أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم بجارية سوداء أعجمية، فقال: يا رسول الله إن علي رقبة مؤمنة، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: أين الله؟ فأشارت بأصبعها السبابة إلى السماء، فقال لها: من أنا؟ فأشارت بأصبعها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى السماء، أي: أنت رسول الله، فقال: أعتقها فإنها مؤمنة "2. وفي جامع الترمذي عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء "3 قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وفي جامع الترمذي أيضا عن عمران بن حصين، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبيه حصين: " كم تعبد اليوم إلها قال: سبعة، ستة في الأرض، وواحد في السماء، قال: فمن الذي تعد لرغبتك ورهبتك؟ قال الذي في السماء، قال: يا حصين أما إنك لو أسلمت، علمتك كلمتين ينفعانك. قال: فلما أسلم حصين، قال: يا رسول الله، علمني الكلمتين اللتين وعدتني، قال: قل اللهم ألهمني رشدي، وقني شر نفسي "4 وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة   1 الترمذي: تفسير القرآن (3320) , وأبو داود: السنة (4723) , وابن ماجه: المقدمة (193) . 2 أبو داود: الأيمان والنذور (3284) , وأحمد (2/291) . 3 الترمذي: البر والصلة (1924) , وأبو داود: الأدب (4941) . 4 الترمذي: الدعوات (3483) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 67 رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " والذي نفسي بيده، ما من رجل يدعو امرأته إلى فراشه، فتأبى عليه، إلا كان الذي في السماء ساخطا عليها، حتى يرضى عنها "1. وفي حديث الشفاعة، الطويل، عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " فأدخل على ربي تبارك وتعالى وهو على عرشه "، وذكر الحديث، وفي بعض ألفاظ البخاري: " فأستأذن على ربي في داره فيؤذن لي عليه "2 وصح عن أبي هريرة، بإسناد مسلم، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن لله ملائكة سيارة، يتتبعون مجالس الذكر، فإذا وجدوا مجلس ذكر جلسوا معهم، فإذا تفرقوا صعدوا إلى ربهم "3 وأصل الحديث في صحيح مسلم، ولفظه: " فإذا تفرقوا صعدوا إلى السماء، فيسألهم الله عز وجل وهو أعلم بهم، من أين جئتم؟ "4 الحديث. والأحاديث في هذا الباب كثيرة جدا، لا يتسع هذا الجواب لبسطها، وفيما ذكرنا كفاية لمن هداه الله، وألهمه رشده ; وأما من أراد الله فتنته، فلا حيلة فيه، بل لا تزيده كثرة الأدلة إلا حيرة وضلالا، كما قال تعالى: {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً} [سورة المائدة آية: 64] وقال: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَاراً} [سورة الإسراء آية: 82] ، وقال جل ذكره: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ} [سورة البقرة آية: 26] ، وقال تبارك وتعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً   1 مسلم: النكاح (1736) . 2 البخاري: التوحيد (7410) , ومسلم: الإيمان (193) , وابن ماجه: الزهد (4312) , وأحمد (3/244) . 3 البخاري: الدعوات (6408) , ومسلم: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2689) , والترمذي: الدعوات (3600) , وأحمد (2/251 ,2/358 ,2/382) . 4 مسلم: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2689) , وأحمد (2/382) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 68 إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ} [سورة التوبة آية: 125] ، وقال سبحانه وتعالى: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمىً أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} [سورة فصلت: 44] . والمقصود: أن نصوص الكتاب والسنة قد نطقت; بل قد تواترت بإثبات علو الله على خلقه، وأنه فوق سماواته، مستو على عرشه استواء يليق بجلاله، لا يعلم كيفيته إلا هو؛ فإن قال السائل: كيف استوى على عرشه؟ قيل له: كما قال ربيعة ومالك وغيرهما: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عن الكيفية بدعة، وكذلك إذا قال: كيف ينْزل ربنا؟ قيل له: كيف هو؟ فإذا قال: أنا لا أعلم كيفيته، قيل: ونحن لا نعلم كيف نزوله، إذ العلم بكيفية الصفة يستلزم العلم بكيفية الموصوف، وهو فرع له، فكيف تطالبني بكيفية استوائه على عرشه، وتكليمه، ونزوله، وأنت لا تعلم كيفية ذاته؟ وإذا كنت تقر بأن له ذاتا حقيقة، ثابتة في نفس الأمر، مستوجبة لصفات الكمال، لا يماثلها شيء، فاستواؤه ونزوله وكلامه ثابت في نفس الأمر، ولا يشابهه فيها استواء المخلوقين وكلامهم ونزولهم، فإنه ليس كمثله شيء، لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله؛ فإذا كان له ذات حقيقة لا تماثل الذوات، فالذات متصفة بصفات الجزء: 3 ¦ الصفحة: 69 حقيقة لا تماثل سائر الصفات، فإن الكلام في الصفات فرع على الكلام في الذات، فإذا كانت ذاته لا تشبه ذوات المخلوقين، فصفات الخالق لا تشبه صفات المخلوقين. وكثير من الناس يتوهم في كثير من الصفات أو أكثرها، أو كلها، أنها تماثل صفات المخلوقين، ثم يريد أن ينفي ذلك الذي فهمه، فيقع في محاذير، منها: أنه مثّل ما فهم من النصوص بصفات المخلوقين، وظن أن مدلول النصوص هو التمثيل ; ومنها: أن ينفي تلك الصفات عن الله بلا علم، فيكون معطلا لما يستحقه الرب من صفات الكمال، ونعوت الجلال، فيكون قد عطل ما أثبته الله ورسوله، من صفات الإلهية اللائق بجلال الله وعظمته. ومنها: أن يصف الرب بنقيض تلك الصفات، من صفات الجمادات، وصفات المعدومات، فيكون قد عطل صفات الكمال التي يستحقها الرب، ومثله بالنقوصات والمعدومات، وعطل النصوص عما دلت عليه من الصفات، وجعل مدلولها هو التمثيل بالمخلوقات، فجمع في الله وفي كلام الله من التعطيل والتمثيل، فيكون ملحدا في أسمائه وآياته؛ ومثال ذلك: أن النصوص كلها قد دلت على وصف الإله تبارك وتعالى بالفوقية، وعلوه على المخلوقات، واستوائه على عرشه، وليس في كتاب الله والسنة، وصف له بأنه لا داخل العالم، ولا خارجا عنه، ولا مباينه، ولا مداخله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 70 فيظن المتوهم أنه إذا وصف الله تعالى بالاستواء على العرش، كان الاستواء كاستواء الإنسان على ظهر الفلك والأنعام، كقوله: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ} [سورة الزخرف آية: 12-13] ، فيخيل لهذا الجاهل بالله وصفاته، أنه إذا كان مستويا على العرش كان محتاجا إليه، كحاجة المستوي على الفلك والأنعام، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، بل هو غني عن العرش وغيره، وكل ما سواه مفتقر إليه، فكيف يتوهم أنه إذا كان مستويا على العرش كان محتاجا إليه، تعالى الله عن ذلك وتقدس. وأيضا فقد علم أن الله تعالى خلق العالم بعضه فوق بعض، ولم يجعل عاليه مفتقراً إلى سافله، فالهواء فوق الأرض، وليس مفتقرا إلى أن تحمله الأرض، والسحاب أيضا فوق الأرض، وليس مفتقرا إلى أن تحمله، والسماوات فوق الأرض، وليست مفتقرة إلى حمل الأرض لها، فالعلي الأعلى رب كل شيء ومليكه، إذا كان فوق جميع خلقه، كيف يجب أن يكون محتاجا إلى عرشه أو خلقه؟ أو كيف يستلزم علوه على خلقه هذا الافتقار؟ وهو ليس يستلزم في المخلوقات ; وكذلك قوله: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ} [سورة الملك آية: 16] وقول النبي صلى الله عليه وسلم " ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء "1؟ وقوله في رقية المريض: "ربنا الله الذي في السماء تقدس اسمك "2، فمن توهم من هذه   1 البخاري: المغازي (4351) , ومسلم: الزكاة (1064) , والنسائي: تحريم الدم (4101) , وأبو داود: السنة (4764) , وأحمد (3/4 ,3/68 ,3/73) . 2 أبو داود: الطب (3892) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 71 النصوص أن الله في داخل السماوات، فهو جاهل ضال، باتفاق العلماء. فلو قال القائل: العرش في السماء أو في الأرض؟ لقيل: في السماء، ولو قيل: الجنة في السماء، أم في الأرض؟ لقيل: في السماء، ولم يلزم من ذلك أن يكون العرش داخل السماوات، بل ولا الجنة، فإن السماء يراد به العلو، سواء كان فوق الأفلاك أو تحتها، قال تعالى: {فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ} [سورة الحج آية: 15] ، وقال: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً} [سورة الفرقان آية: 48] . ولما كان قد استقر في نفوس المخاطبين أن الله هو العلي الأعلى، كان المفهوم من قوله: في السماء أنه في العلو، وأنه كان فوق كل شيء؛ وكذا الجارية، لما قال لها: "أين الله؟ قالت: في السماء "1 إنما أرادت العلو، مع عدم تخصيصه بالأجسام المخلوقة وحلوله فيها. وإذ قيل: العلو، فإنه يتناول ما فوق المخلوقات كلها، فما فوقها كلها هو في السماء، ولا يقتضي هذا أن يكون هناك ظرف وجودي يحيط بها، إذ ليس فوق العالم إلا الله، كما لو قيل: العرش في السماء، كان المراد أنه عليها، كما قال تعالى: {فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ} [سورة آل عمران آية: 137] ، وكما قال: {فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ} [سورة التوبة آية: 2] ، وقال عن فرعون: {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [سورة طه آية: 71] .   1 مسلم: المساجد ومواضع الصلاة (537) , والنسائي: السهو (1218) , وأبو داود: الأيمان والنذور (3282) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 72 وبالجملة، فمن قال: إن الله في السماء، وأراد أنه في جوف السماء، بحيث تحصره وتحيط به، فقد أخطأ، وضل ضلالا بعيدا؛ وإن أراد بذلك أن الله فوق سماواته، على عرشه، بائن من خلقه فقد أصاب، وهذا اعتقاد شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى، وهو الذي نطق به الكتاب والسنة، واتفق عليه سلف الأمة وأئمتها. ومن لم يعتقد ذلك، كان مكذبا الرسل، متبعا غير سبيل المؤمنين، بل يكون في الحقيقة معطلا لربه، نافيا له، ولا يكون له في الحقيقة إله يعبده، ولا رب يقصده ويسأله؛ وهذا قول الجهمية. والله تعالى قد فطر العباد، عربهم وعجمهم، على أنهم إذا دعوا الله توجهت قلوبهم إلى العلو، ولهذا قال بعض العارفين: ما قال عارف قط: يا الله، إلا وجد في قلبه قبل أن يتحرك لسانه، معنى طلب العلو، لا يلتفت يمنة ولا يسرة، بل قد فطر الله على ذلك جميع الأمم، في الجاهلية والإسلام،; إلا من اجتالته الشياطين عن فطرته، قال ابن قتيبة: ما زالت الأمم عربها وعجمها، في جاهليتها وإسلامها، معترفة بأن الله في السماء، أي على السماء. فهو سبحانه قد أخبر في كتابه، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم بأنه استوى على عرشه، استواء يليق بجلاله، ويناسب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 73 كبرياءه، وهو غني عن العرش، وعن حملة العرش، والاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، كما قالت أم سلمة، وربيعة، ومالك؛ وهذا مذهب أئمة المسلمين، وهو الظاهر من لفظ (استوى) ، عند عامة المسلمين الباقين على الفطرة السليمة التي لم تنحرف إلى تعطيل، ولا إلى تمثيل. وهذا هو الذي أراده يزيد بن هارون الواسطى، المتفق على إمامته وجلالته وفضله، وهو من أتباع التابعين، حيث قال: من زعم، أن الرحمن على العرش استوى، خلاف ما يقر في نفوس العامة، فهو جهمي، فإن الذي أقره الله في فطر عباده وجبلهم عليه: أن ربهم فوق سماواته. وقد جمع العلماء في هذا الباب مصنفات كبارا وصغارا، وسنذكر بعض ألفاظهم في آخر هذه الفتوى إن شاء الله تعالى وليس في كتاب الله، ولا سنة رسول الله، ولا عن أحد من سلف الأمة لا من الصحابة ولا من التابعين ولا عن أئمة الدين، حرف واحد يخالف ذلك؛ ولم يقل أحد منهم قط: إن الله ليس في السماء، ولا أنه ليس على العرش، ولا أنه في كل مكان، ولا أنه لا داخل العالم ولا خارجه، ولا متصل ولا منفصل، ولا أنه لا تجوز الإشارة الحسية إليه بالأصابع ونحوها؛ بل قد ثبت في الصحيح عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم لما الجزء: 3 ¦ الصفحة: 74 خطب خطبته العظيمة، يوم عرفات، في أعظم مجمع حضره رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل يقول: " اللهم هل بلغت فيقولون: نعم، فيرفع أصبعه إلى السماء وينكبها إليهم ويقول: اللهم اشهد " وقد تقدمت الإشارة إلى هذا الحديث. واعلم أن كثيرا من المتأخرين يقولون: هذا مذهب السلف في آيات الصفات وأحاديثها، إقرارها على ما جاءت، مع اعتقاد أن ظاهرها غير مراد، وهذا لفظ مجمل، فإن قول القائل: ظاهرها غير مراد، يحتمل أنه أراد بالظاهر نعوت المخلوقين، وصفات المحدثين، فلا شك أن هذا غير مراد، ومن قال هذا فقد أصاب، لكن أخطأ في إطلاق القول أن هذا ظاهر النصوص، فإن هذا ليس هو الظاهر، فإن إيماننا بما ثبت من نعوته كإيماننا بالذات المقدسة، إذ الصفات تابعة للموصوف، فنعقل وجود الباري، وننَزه ذاته المقدسة عن الأشباه، من غير أن نتعقل الماهية، فكذلك القول في صفاته: نؤمن بها، ونعقل وجودها، ونعلمها في الجملة، من غير أن نتعقلها، أو نشبهها أو نكيفها، أو نمثلها بصفات خلقه، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. فلا نقول: إن معنى اليد القدرة، ولا أن معنى الاستواء الاستيلاء، ولا معنى نزوله كل ليلة إلى سماء الدنيا نزول رحمته، ونحو ذلك؛ بل نؤمن بأنها صفات الجزء: 3 ¦ الصفحة: 75 حقيقة، والكلام فيها كالكلام في الذات، يحتذي فيه حذوه؛ فإذا كانت الذات تثبت إثبات وجود لا إثبات كيفية، فكذلك إثبات الصفات إثبات وجود لا إثبات كيفية. ومن ظن أن نصوص الصفات لا يُعقَل معناها ولا يدري ما أراد الله ورسوله منها، ولكن يقرؤها ألفاظا لا معاني لها، ويعلم أن لها تأويلا لا يعلمه إلا الله، وأنها بمنْزلة (كهيعص، حم، عسق، المص) وظن أن هذه طريقة السلف، وأنهم لم يكونوا يعرفون حقائق الأسماء والصفات، ولا يعلمون حقيقة قوله: {وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [سورة الزمر آية: 67] ، وقوله: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [سورة ص آية: 75] ، وقوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [سورة طه آية: 5] ، ونحو ذلك، فهذا الظان من أجهل الناس بعقيدة السلف. وهذا الظن يتضمن استجهال السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار وسائر الصحابة، وأنهم كانوا يقرؤون هذه الآيات ويروون حديث النّزول وأمثاله ولا يعرفون معنى ذلك، ولا ما أريد به، ولازم هذا الظن أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يتكلم بذلك ولا يعرف معناه، فمن ظن أن هذه عقيدة السلف، فقد أخطأ في ذلك خطأ بينا ; بل السلف رضي الله عنهم أثبتوا لله حقائق الأسماء والصفات، ونفوا عنه مماثلة المخلوقات؛ فكان مذهبهم مذهبا بين مذهبين وهدى بين ضلالين، خرج من مذهب المعطلين والمشبهين، كما الجزء: 3 ¦ الصفحة: 76 خرج اللبن: {مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خَالِصاً سَائِغاً لِلشَّارِبِينَ} [سورة النحل آية: 66] . وقالوا: نصف الله بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تشبيه ولا تمثيل، بل طريقتنا إثبات حقائق الأسماء والصفات، ونفي مشابهة المخلوقات، فلا نعطل، ولا نمثل، ولا نؤول، ولا نقول: ليس لله يدان ولا وجه ولا سمع ولا بصر، ولا نقول: له يد كأيدي المخلوقين، ولا أن له وجها كوجوههم، ولا سمعا وبصرا كأسماعهم وأبصارهم، بل نقول: له ذات حقيقة ليست كالذوات، وله صفات حقيقة لا مجازا، ليست كصفات المخلوقين، فكذلك قولنا في وجهه ويديه وكلامه واستوائه. وهو سبحانه قد وصف نفسه بصفات الكمال ونعوت الجلال، وسمى نفسه بأسماء، وأخبر عن نفسه بأفعال، فسمى نفسه بـ {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [سورة الفاتحة آية: 3] ، {الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ} [سورة الحشر آية: 23] ، إلى سائر ما ذكر من أسمائه الحسنى ; ووصف نفسه بما ذكره من الصفات، كسورة الإخلاص، وأول الحديد، وأول طه، وغير ذلك، ووصف نفسه، بأنه يحب ويكره، ويمقت، ويرضى، ويغضب، ويأسف، ويسخط، ويجيء، ويأتي، وأنه استوى على عرشه، وأن له علما وحياة، وقدرة، وإرادة، وسمعا، وبصرا، ووجها، ويدا، وأن له يدين، وأنه فوق عباده، وأن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 77 الملائكة تعرج إليه، وتنزل بالأمر من عنده، وأنه قريب، وأنه مع المحسنين، ومع الصابرين، ومع المتقين، وأن السماوات مطويات بيمينه. ووصفه رسوله صلى الله عليه وسلم بأنه ينْزل إلى السماء الدنيا، وأنه يفرح، ويضحك، وأن قلوب العباد بين أصبعين من أصابعه، وغير ذلك، مما وصف به نفسه، ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم؛ وكل هذه الصفات تساق مساقا واحدا، وقولنا فيها، كقولنا في صفة العلو والاستواء، فيجب علينا الإيمان بكل ما نطق به الكتاب والسنة من صفات الرب جل وعلا، ونعلم أنها صفات حقيقة لا تشبه صفات المخلوقين، فكما أن ذاته لا تشبه الذوات فصفاته لا تشبه الصفات؛ فلا نمثل ولا نعطل. وكل ما أخبر الله به وأخبر به رسوله، فيجب الإيمان به سواء عرفنا معناه أو لم نعرفه، وكذلك ما ثبت باتفاق سلف الأمة، وأئمتها، مع أن عامته منصوص عليه في الكتاب والسنة. وأما ما تنازع فيه المتأخرون نفيا وإثباتا، فليس على أحد، بل ولا له أن يوافق أحدا على إثبات لفظ أو نفيه حتى يعرف مراده، فإن أراد حقا قبل منه، وإن أراد باطلا رد عليه، وإن اشتمل كلامه على حق وباطل لم يقبل مطلقا ولم يرد جميع معناه، بل يوقف اللفظ ويفسر المعنى؛ كما تنازع الناس في الجهة والتحيز وغير ذلك، فيقول بعض الناس: ليس في جهة، ويقول آخر: بل هو في الجزء: 3 ¦ الصفحة: 78 جهة، فإن هذه الألفاظ مبتدعة في النفي والإثبات، وليس على أحدهما دليل من الكتاب ولا من السنة، ولا من كلام الصحابة والتابعين ولا أئمة الإسلام؛ فإن هؤلاء لم يقل أحد منهم: إن الله سبحانه وتعالى في جهة، ولا قال: إن الله ليس في جهة، ولا قال: هو متحيز، ولا قال: ليس بمتحيز. والناطقون بهذه الألفاظ يريدون معنى صحيحا، وقد يريدون معنى فاسدا، فإذا قال: إن الله في جهة ; قيل له: ما تريد بذلك؟ أتريد أنها تحصره وتحيط به؟ أم تريد أمرا عدميا، وهو ما فوق العالم؟ فإنه ليس فوق العالم شيء من المخلوقات ; فإن أردت الجهة الوجودية، وجعلت الله محصورا في المخلوقات، فهذا باطل ; وإن أردت أن الله تعالى فوق المخلوقات، بائن عنها، فهذا حق، وليس في ذلك أن شيئا من المخلوقات حصره، ولا أحاط به، ولا علا عليه ; بل هو العالي عليها، المحيط بها. وقد قال تعالى: {وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [سورة الزمر آية: 67] ، وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله يقبض الأرض يوم القيامة، ويطوي السماوات بيمينه ثم يهزهن فيقول: أنا الملك، أين ملوك الأرض؟ "1، فمن تكون جميع المخلوقات بالنسبة إلى قبضته تعالى في هذا الصغر والحقار كيف تحيط به وتحصره؟ ومن قال: إن الله ليس في جهة ; قيل له: ما تريد بذلك؟ فإن أراد بذلك: أنه ليس فوق   1 مسلم: صفة القيامة والجنة والنار (2787) , والدارمي: الرقاق (2799) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 79 السماوات رب يعبد، ولا على العرش إله يصلى له ويسجد، ومحمد لم يعرج بذاته إليه، فهذا معطل؛ وإن قال: مرادي بنفي الجهة، أنه لا تحيط به المخلوقات، فقد أصاب، ونحن نقول به. وكذلك من قال: إن الله متحيز، إن أراد أن المخلوقات تحوزه وتحيط به، فقد أخطأ، وإن أراد أنه محتاز عن المخلوقات، بائن عنها، عال عليها، فقد أصاب ; ومن قال: إنه ليس بمتحيز، إن أراد أن المخلوقات لا تحوزه، فقد أصاب، وإن أراد بذلك أنه ليس ببائن عنها، بل هو لا داخل العالم ولا خارجه، فقد أخطأ ; فإن الأدلة كلها متفقة على أن الله فوق مخلوقاته، عال عليها، فقد فطر الله على ذلك الأعراب والصبيان، كما فطرهم على الإقرار بالخالق تعالى، ولهذا قال عمر بن عبد العزيز: عليك بدين الأعراب، والصبيان ; أي: عليك بما فطرهم الله عليه، فإن الله فطر عباده على الحق، كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: " كل مولود يولد على الفطرة "1 الحديث. [فصل في قوله تعالى يد الله فوق أيديهم] فصل: وأما قوله تعالى: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [سورة الفتح آية: 10] ، فاعلم أن لفظ اليد جاء في القرآن على ثلاثة أنواع: مفرد كهذه وكقوله: {بِيَدِهِ الْمُلْكُ} ، وجاء مثنى كقوله: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [سورة المائدة آية: 64] ، وكقوله: {مَا   1 البخاري: الجنائز (1385) , ومسلم: القدر (2658) , والترمذي: القدر (2138) , وأبو داود: السنة (4714) , وأحمد (2/233 ,2/253 ,2/275 ,2/282 ,2/315 ,2/346 ,2/393 ,2/410 ,2/481) , ومالك: الجنائز (569) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 80 مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [سورة ص آية: 75] . وجاء مجموعا كقوله: {عَمِلَتْ أَيْدِينَا} . فحيث ذكر اليد مثناة، أضاف الفعل إلى نفسه بضمير الإفراد، وعدى الفعل بالباء إليها، فقال: {خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} . وحيث ذكرها مجموعة، أضاف العمل إليها ولم يعد الفعل بالباء؛ فلا يحتمل {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [سورة ص آية: 75] من المجاز ما يحتمله {عَمِلَتْ أَيْدِينَا} ، فإن كل أحد يفهم من قوله: عملت أيدينا، ما يفهمه من قوله: عملنا، وخلقنا، كما يفهم من قوله: {فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [سورة الشورى آية: 30] . وأما قوله: {خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} فلو كان المراد منه مجرد الفعل، لم يكن لذكر اليد - بعد نسبة الفعل إلى الفاعل - معنى، فكيف وقد دخلت الباء، فالفعل قد يضاف إلى يد ذي اليد، والمراد الإضافة إليه، كقوله: {فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [سورة الشورى آية: 30] ، وأما إذا أضيف إليه الفعل، ثم عدي بالباء إلى يده مفردة، أو مثناة، فهو ما باشرته يده. ولهذا قال عبد الله بن عمرو بن العاص: "إن الله لم يخلق بيده إلا ثلاثا: خلق آدم بيده، وغرس جنة الفردوس بيده، وكتب التوراة بيده" فلو كانت اليد هي القدرة، لم يكن لها اختصاص بذلك، ولا كانت لآدم فضيلة بذلك على شيء مما خلق بالقدرة. وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم: " أن أهل الموقف يأتون آدم، فيقولون: أنت أبو البشر، خلقك الله بيده، ونفخ فيك من الجزء: 3 ¦ الصفحة: 81 روحه، وأسجد لك ملائكته، وعلمك أسماء كل شيء "1، فذكروا أربعة أشياء كلها خصائص، وكذلك قال آدم لموسى عليهما السلام، في محاجته له: " اصطفاك الله بكلامه، وخط لك الألواح بيده" 2، وفي لفظ آخر: " كتب الله لك التوراة بيده " 3، وهو من أصح الأحاديث، وكذلك في الحديث المشهور "إن الملائكة قالوا: يا رب، خلقت بني آدم يأكلون، ويشربون، وينكحون، ويركبون، فاجعل لهم الدنيا، ولنا الآخرة، فقال الله: لا أجعل صالح من خلقت بيدي، ونفخت فيه من روحي، كمن قلت له كن فكان". وأيضا فإنه لو كان قوله {خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} مثل قوله: {عَمِلَتْ أَيْدِينَا} لكان آدم والأنعام سواء، وأهل الموقف قالوا: "أنت أبو البشر، خلقك الله بيده"4 يعلمون لآدم تخصيصا وتفضيلا، بكونه مخلوقا باليدين، وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم:" يقبض الله سماواته بيده اليمنى، والأرض بيده الأخرى "5 وقال صلى الله عليه وسلم: " يمين الله ملأى، لا يغيضها نفقة "6 الحديث، وفي صحيح مسلم في أعلى أهل الجنة منْزلة " أولئك الذين غرست كرامتهم بيدي، وختمت عليها "7 وقال عبد الله بن الحارث: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " خلق الله ثلاثة أشياء بيده: خلق آدم بيده، وكتب التوراة بيده، وغرس الفردوس بيده، ثم قال: وعزتي لا يسكنها مدمن الخمر، ولا ديوث ". وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم: " تكون الأرض يوم القيامة خبزة   1 البخاري: أحاديث الأنبياء (3340) . 2 البخاري: القدر (6614) , ومسلم: القدر (2652) , والترمذي: القدر (2134) , وأبو داود: السنة (4701) , وابن ماجه: المقدمة (80) , وأحمد (2/248 ,2/264 ,2/268 ,2/287 ,2/314 ,2/392 ,2/398 ,2/448 ,2/464) , ومالك: الجامع (1660) . 3 مسلم: القدر (2652) , وأبو داود: السنة (4701) , وابن ماجه: المقدمة (80) . 4 البخاري: أحاديث الأنبياء (3340) , ومسلم: الإيمان (194) , والترمذي: صفة القيامة والرقائق والورع (2434) . 5 البخاري: التوحيد (7413) , ومسلم: صفة القيامة والجنة والنار (2788) , وابن ماجه: المقدمة (198) والزهد (4275) , وأحمد (2/87) . 6 البخاري: التوحيد (7419) , ومسلم: الزكاة (993) , والترمذي: تفسير القرآن (3045) , وابن ماجه: المقدمة (197) , وأحمد (2/242 ,2/313 ,2/500) . 7 مسلم: الإيمان (189) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 82 واحدة، يتكفاها الجبار، كما يتكفأ أحدكم خبزته في السفر، نزلا لأهل الجنة "1، وفي الصحيح مرفوعا: " إن الله يبسط يده بالليل، ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل "2، وفي الصحيح أيضا مرفوعا: " المقسطون عند الله يوم القيامة على منابر من نور عن يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين "3، وقال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " خلق الله آدم، ثم مسح ظهره بيمينه، ثم استخرج ذريته منه، قال: خلقت هؤلاء للجنة، وبعمل أهل الجنة يعملون "4 الحديث، وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ما تصدق أحد بصدقة من كسب طيب - ولا يقبل الله إلا طيبا - إلا أخذها الرحمن بيمينه، فتربو في كف الرحمن، حتى تكون أعظم من الجبل "5 متفق على صحته. وقال نافع: عن ابن عمر: سألت ابن أبي مليكة6 عن يد الله، أواحدة؟ أم اثنتان؟ فقال، اثنتان، وقال عبد الله بن عباس: " ما السماوات السبع، والأرضون السبع، وما فيهما في يد الله، إلا كخردلة في يد أحدكم "، وقال ابن عمر، وابن عباس: "أول شيء خلق الله القلم، فأخذه بيمينه، وكلتا يديه يمنى، فكانت الدنيا وما فيها من عمل معمول، في بر، وبحر، ورطب، ويابس، فأحصاه عنده"، وقال ابن وهب عن أسامة عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ على المنبر: {وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ}   1 البخاري: الرقاق (6520) . 2 مسلم: التوبة (2759) , وأحمد (4/395 ,4/404) . 3 مسلم: الإمارة (1827) , والنسائي: آداب القضاة (5379) , وأحمد (2/160) . 4 الترمذي: تفسير القرآن (3075) , وأبو داود: السنة (4703) , وأحمد (1/44) , ومالك: الجامع (1661) . 5 مسلم: الزكاة (1014) , والنسائي: الزكاة (2525) , وابن ماجه: الزكاة (1842) , وأحمد (2/538) . 6 الصواب (نافع بن عمر الجمحي سالت ابن أبي مليكة) كما في كتاب النقض للدارميص 286، وابن أبي مليكة تلميذ لابن عمر رضي الله عنهما (انظر التهذيب لابن حجر 5/307) وليس العكس. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 83 [سورة الزمر آية: 67] ، قال: "مطوية في كفه يرمي بها، كما يرمي الغلام بالكرة" وهذه النصوص التي ذكرنا هي غيض من فيض، وفيما ذكرنا كفاية لمن هداه الله "ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور} . فصل في ذكر بعض ما ورد عن الصحابة، والتابعين، وأتباع التابعين في مسألة علو الرب تبارك وتعالى على خلقه، وأنه على عرشه المجيد، فوق سماواته: روى ابن أبي شيبة عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، قال: لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أبو بكر رضي الله تعالى عنه: "يا أيها الناس إن كان محمد إلهكم الذي تعبدون، فإن إلهكم قد مات، وإن كان إلهكم الذي في السماء، فإن إلهكم لم يمت، ثم تلا: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} [سورة آل عمران آية: 144] الآية. وروى البخاري في تاريخه، عن ابن عمر، أن أبا بكر قال: "من كان يعبد محمدا، فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله، فإن الله في السماء حي لا يموت" وروى ابن أبي شيبة عن قيس قال: لما قدم عمر الشام، استقبله الناس، وهو على بعير، فقالوا: "يا أمير المؤمنين، لو ركبت برذونا يلقاك عظماء الناس، ووجوههم، فقال عمر رضي الله عنه: ألا أراكم ههنا؟ إنما الأمر من ههنا، وأشار بيده إلى السماء". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 84 وروى عثمان بن سعيد الدارمي أن امرأة لقيت عمر بن الخطاب وهو يسير مع الناس، فاستوقفته، فوقف لها ودنا منها، وأصغى لها، حتى انصرفت، فقال رجل: يا أمير المؤمنين، حبست رجالا من قريش، على هذه العجوز، قال: "ويلك! أتدري من هذه؟ قال: لا، قال: هذه امرأة، سمع الله شكواها من فوق سبع سماوات، هذه خولة بنت ثعلبة، والله لو لم تنصرف مني إلى الليل ما انصرفت، حتى تقضي حاجتها، إلا أن تحضرني صلاة، فأصليها ثم أرجع إليها حتى تقضي حاجتها" وقال ابن عبد البر في كتاب الاستيعاب، روينا من وجوه صحيحة: أن "عبد الله بن رواحة، رضي الله تعالى عنه، مشى إلى أمة له، فنالها، فرأته امرأته، فجحدها، فقالت: إن كنت صادقا فاقرأ القرآن، فإن الجنب لا يقرأ القرآن، فقال: شهدت بأن وعد الله حق ... وأن النار مثوى الكافرينا وأن العرش فوق الماء طاف ... وفوق العرش رب العالمينا وتحمله ملائكة شداد ... ملائكة الإله مسومينا فقالت: آمنت بالله، وكذبت عيني، وكانت لا تحفظ القرآن" وروى الدارمي بإسناده عن ابن مسعود، قال: "العرش فوق الماء والله فوق العرش، لا يخفى عليه شيء من أعمالكم"، قال الحافظ الذهبي: رواه عبد الله بن الإمام أحمد، وابن المنذر، والطبراني، وأبو الشيخ واللالكائي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 85 والبيهقي، وابن عبد البر، وإسناده صحيح. وروى الأعمش عن خيثمة عن عبد الله إن العبد ليهم بالأمر من التجارة، حتى إذا استيسرت له، نظر الله إليه من فوق سبع سماوات، فيقول للملَك: اصرفه عنه، فيصرفه عنه. وقال عبد الله بن عباس: "تفكروا في كل شيء، ولا تفكروا في ذات الله، فإن بين السماوات السبع إلى كرسيه سبعة أنوار، والله فوق ذلك" ورواه عبد الله بن الإمام أحمد، وروى الدارمي: أن ابن عباس قال لعائشة، حين استأذن عليها، وهي تموت: "وأنزل الله براءتك من فوق سبع سماوات"، وروى الدارمي عن نافع قال: قالت عائشة: "وأيم الله لو كنت أحب قتله لقتلته - يعني عثمان - وقد علم الله فوق عرشه أني لا أحب قتله". وفي الصحيحين: أن زينب كانت تفتخر على أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم تقول: "زوجكن أهاليكن وزوجني الله من فوق سبع سماوات"، وقد تقدم ذلك، وفي لفظ لغيرها كانت تقول: "زوجني الرحمن من فوق عرشه كان جبرائيل السفير بذلك، وأنا ابنة عمتك". وقال علي بن الأقمر: كان مسروق إذا حدثته عائشة، قال: "حدثتني الصديقة بنت الصديق، حبيبة حبيب الله المبرأة من فوق سبع سماوات"، وقال قتادة: قالت بنوا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 86 إسرائيل: "يا رب أنت في السماء، ونحن في الأرض، فكيف لنا أن نعرف رضاك، وغضبك؟ قال: "إذا رضيت عليكم استعملت عليكم خياركم، وإذا غضبت استعملت عليكم أشراركم "" رواه الدارمي. وقال سليمان التيمي: لو سئلت أين الله؟ لقلت في السماء ; وقال كعب الأحبار، قال الله عز وجل في التوراة: "أنا الله فوق عبادي، وعرشي فوق جميع خلقي، وأنا على عرشي، أدبر أمور عبادي، لا يخفى علي شيء من أعمالهم"، وقال مقاتل في قوله تعالى: {وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} [سورة المجادلة آية: 7] ، قال: بعلمه، يعلم نجواهم، ويسمع كلامهم، وهو فوق عرشه، وعلمه معهم ; وقال الضحاك في الآية: هو الله على العرش، وعلمه معهم. وقال عبيد بن عمير: " ينْزل الرب شطر الليل إلى السماء الدنيا، فيقول: هل من سائل فأعطيه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ حتى إذا كان الفجر، صعد الرب عز وجل "1 أخرجه عبد الله بن الإمام أحمد، وقال الحسن: "ليس شيء عند ربك من الخلق أقرب من إسرافيل، وبينه وبينه سبعة حجب، كل حجاب منها مسيرة خمسمائة عام، وإسرافيل دون هؤلاء، ورأسه من تحت العرش ورجلاه في تخوم السابعة". وروى البيهقي بإسناد صحيح إلى الأوزاعي قال: "كنا والتابعون متوافرون، نقول: إن الله تعالى جل ذكره فوق   1 أحمد (4/81) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 87 عرشه، ونؤمن بما وردت به السنة من صفاته". وقال أبو عمر بن عبد البر في التمهيد: علماء الصحابة الذين حمل عنهم التأويل، قالوا في تأويل قوله تعالى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ} [سورة المجادلة آية: 7] الآية هو: على العرش وعلمه في كل مكان ; وما خالفهم في ذلك أحد يحتج بقوله. وروى أبو بكر الخلال، في كتاب السنة، عن الأوزاعي، قال: سئل مكحول والزهري، عن تفسير الأحاديث، فقالا: "أمروها كما جاءت" ; وروي أيضا: عن الوليد بن مسلم، قال سألت الأوزاعي، ومالك بن أنس، وسفيان الثوري، والليث بن سعد، عن الأخبار التي جاءت في الصفات، فقالوا: أمروها كما جاءت، وفي رواية، فقالوا: "أمروها كما جاءت بلا كيف". فقولهم رضي الله عنهم: أمروها كما جاءت، رد على المعطلة، وقولهم: بلا كيف، رد على الممثلة؛ والزهري ومكحول، هما أعلم التابعين في زمانهم، والأربعة الباقون، هم أئمة الدنيا في عصر تابعي التابعين ; فمالك إمام الحجاز، والأوزاعي إمام أهل الشام، والليث إمام أهل مصر، وسفيان الثوري إمام أهل العراق. وقال الأوزاعي: "عليك بآثار من سلف وإن رفضك الناس، وإياك وآراء الرجال وإن زخرفوه لك بالقول"، وقال الجزء: 3 ¦ الصفحة: 88 سفيان الثوري في قوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [سورة الحديد آية: 4] قال: "علمه؟ ?" وروى الخلال بإسناد كل رجاله أئمة، عن سفيان بن عيينة، قال سئل ربيعة بن عبد الرحمن، عن قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [سورة طه آية: 5] كيف استوى؟ قال "الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، ومن الله الرسالة، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التصديق" ; وهذا الكلام مروي عن مالك، تلميذ ربيعة، كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى. وقال عبد الرحمن بن مهدي: إن الجهمية أرادوا أن ينفوا أن الله كلم موسى، وأن يكون على العرش، أرى أن يستتابوا، فإن تابوا وإلا ضربتم أعناقهم. وابن مهدي هذا، هو الذي قال فيه علي بن المديني: "لو حلِّفت بين الركن والمقام، إني ما رأيت أعلم منه لحلفت" وروى ابن أبي حاتم، عن سعيد ابن عامر الضبعي، أنه ذكر عنده الجهمية، فقال: هم أشر قولا من اليهود والنصارى وقد أجمع أهل الأديان، مع المسلمين، على أن الله على العرش، وقالوا هم: ليس على العرش شيء. وقال عباد بن العوام - أحد أئمة الحديث بواسط - كلمت بشرا المريسي وأصحابه، فرأيت آخر كلامهم: ليس على العرش شيء. أرى والله أن لا يناكحوا، ولا يوارثوا. وقال: علي بن عاصم، شيخ الإمام أحمد: احذروا من الجزء: 3 ¦ الصفحة: 89 المريسي وأصحابه، فإن كلامهم الزندقة، وأنا كلمت أستاذهم فلم يثبت أن في السماء إلها، وقال حماد بن زيد: الجهمية إنما يحاولون أن يقولوا: ليس في السماء شيء؛ وكان من أشد الناس على الجهمية، وقال وهب بن جرير: إياكم ورأي جهم وأصحابه، فإنهم يحاولون أن ليس في السماء شيء ; وما هو إلا من وحي إبليس، وما هو إلا الكفر. وقال عبد العزيز بن يحيى الكناني، صاحب الشافعي، له كتاب في الرد على الجهمية، قال فيه: باب قول الجهمي في قول الله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [سورة طه آية: 5] . زعمت الجهمية أن معنى استوى استولى ; قال: فيقال له: هل يكون خلق من خلق الله أتت عليه مدة ليس بمستول عليه؟ فإذا قال: لا، قيل له: فمن زعم ذلك فهو كافر ; ويقال له: يلزمك أن تقول: إن العرش أتت عليه مدة ليس الله بمستول عليه، وذلك لأنه أخبر سبحانه وتعالى أنه خلق العرش قبل السماوات والأرض، ثم استوى عليه بعد خلقهن، فيلزمك أن تقول: المدة التي كان العرش قبل خلق السماوات والأرض ليس الله بمستول عليه فيها، ثم ذكر كلاما طويلا في تقرير العلو، والاحتجاج عليه. وقال عبد الله، بن الزبير الحميدي شيخ البخاري: وما نطق به القرآن والحديث، مثل قوله: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [سورة المائدة آية: 64] ، ومثل قوله: {وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} الجزء: 3 ¦ الصفحة: 90 [سورة الزمر آية: 67] ، وما أشبه هذا، من القرآن والحديث، لا نزيد فيه، ولا نفسره، ونقف على ما وقف عليه القرآن والسنة ; ونقول: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [سورة طه آية: 5] ، ومن زعم غير هذا فهو مبطل جهمي. وروى ابن أبي حاتم، قال: جاء بشر بن الوليد، إلى أبي يوسف، فقال: تنهاني عن الكلام، وبشر المريسي، وعلي الأحول، وفلان يتكلمون؟ فقال: وما يقولون؟ قال: يقولون: إن الله في كل مكان ; فبعث أبو يوسف، وقال: عليّ بهم، فانتهوا إليهم، وقد قام بشر، فجيء بعلي الأحول، والشيخ الآخر، فنظر: أبو يوسف إلى الشيخ، فقال: لو أن فيك موضع أدب لأوجعتك؟ وأمر به إلى الحبس، وضرب عليا الأحول، وطوف به، وقد استتاب أبو يوسف بشرا المريسي لما أنكر أن يكون الله فوق عرشه. وهي قصة مشهورة، ذكرها ابن أبي حاتم وغيره، وأصحاب أبي حنيفة المتقدمون على هذا. وقال محمد بن الحسن: اتفق الفقهاء كلهم، من المشرق إلى المغرب، على الإيمان بالقرآن، والأحاديث التي جاءت بها الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في صفة الرب عز وجل، من غير تفسير، ولا وصف ولا تشبيه؛ فمن فسر شيئا من ذلك، فقد خرج مما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وفارق الجماعة كلهم ; فإنهم لم يصفوا ولم يفسروا، ولكن آمنوا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 91 بما في الكتاب والسنة، ثم سكتوا. فمن قال بقول جهم فقد فارق الجماعة؛ لأنه وصفه بصفة لا شيء. وقال محمد أيضا في الأحاديث التي جاءت: "إن الله يهبط إلي السماء الدنيا" ونحو هذه الأحاديث، قد رواها الثقات، فنحن نؤمن بها، ولا نفسرها، ذكر ذلك عنه أبو القاسم اللالكائي، وقال سفيان بن عيينة وقد سئل عن حديث: " إن الله يحمل السماوات على أصبع " وحديث: " القلب بين أصبعين من أصابع الرحمن "1 فقال سفيان: هي كما جاءت نقر بها، ونحدث بها بلا كيف، وذكر ابن أبي حاتم بإسناده عن الأصمعي قال: قدمت امرأة جهم، فقال رجل عندها: الله على عرشه، فقالت: محدود على محدود، فقال الأصمعي: هذه كافرة بهذه المقالة. أما هذا الرجل وامرأته فما أولاهما بأن: {سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} [سورة المسد آية: 3-4] وقال إسحاق بن راهويه إمام أهل المشرق، نظير أحمد، وقيل له: ما تقول في قوله تعالى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} [سورة المجادلة آية: 7] ، قال: حيث ما كنت فهو أقرب إليك من حبل الوريد، وهو بائن من خلقه، ثم قال: وأعلى شيء في ذلك وأثبته قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [سورة طه آية: 5] وروى الخلال في كتاب السنة، قال: قال إسحاق بن راهويه، قال الله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [سورة طه آية: 5] : إجماع أهل العلم أنه فوق العرش استوى، ويعلم كل شيء أسفل الأرض السابعة، في   1 سنن الترمذي: كتاب القدر (2140) وكتاب الدعوات (3522) , ومسند أحمد (3/112 ,4/182 ,6/91 ,6/301 ,6/315) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 92 قعور البحار، وفي كل موضع، كما يعلم ما في السماوات السبع، وما دون العرش، أحاط بكل شيء علما. وقال قتيبة بن سعيد: هذا قول أئمة الإسلام والسنة والجماعة: نعرف ربنا بأنه في السماء السابعة على عرشه كما قال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [سورة طه آية: 5] . وقتيبة هذا أحد أئمة الإسلام، وحفاظ الحديث ; وقال عبد الوهاب الورّاق: من زعم أن الله هاهنا، فهو جهمي خبيث، إن الله فوق العرش، وعلمه محيط بالدنيا والآخرة، صح ذلك عنه ; وهو الذي قال فيه الإمام أحمد، وقد قيل له: من نسأل بعدك؟ فقال: عبد الوهاب، وقال خارجة بن مصعب: الجهمية كفار، أبلغ نساءهم أنهن طوالق لا يحللن لهم، ثم تلا " طه " إلى قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [سورة طه آية: 5] . وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم: سألت أبي، وأبا زرعة، عن مذهب أهل السنة في أصول الدين، وما أدركا عليه العلماء في جميع الأمصار، وما يعتقدون من ذلك؟ فقال: أدركنا العلماء في جميع الأمصار، حجازا وعراقا، ومصرا وشاما، ويمنا، فكان مذهبهم: أن الله تبارك وتعالى على عرشه، بائن من خلقه، كما وصف نفسه، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم بلا كيف، وأحاط بكل شيء علما. وقال أبو زرعة أيضا: هو على العرش استوى، وعلمه في كل مكان. من قال غير هذا فعليه لعنة الله. وقال الجزء: 3 ¦ الصفحة: 93 علي بن المديني الذي سماه البخاري: سيد المسلمين، وقيل: ما تقول الجماعة في الاعتقاد؟ فقال: يثبتون الكلام، والرؤية، ويقولون: إن الله على العرش استوى. فقيل له: ما تقول في قوله تعالى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} [سورة المجادلة آية: 7] فقال: اقرأ أول الآية، يعني: بالعلم، لأن أول الآية: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ} [سورة المجادلة آية: 7] . وقال عبد الله بن المبارك: "نعرف ربنا، بأنه فوق سبع سماوات، على العرش استوى بائن من خلقه، لا نقول كما قالت الجهمية" رواه عنه الدارمي، والحاكم، والبيهقي، بأصح إسناد وصح عن ابن المبارك أيضا أنه قال: "إنا لنستطيع أن نحكي كلام اليهود، والنصارى ولا نستطيع أن نحكي كلام الجهمية". وقال نعيم بن حماد الخزاعي الحافظ في قوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [سورة الحديد آية: 4] معناه: أنه لا يخفى عليه خافية بعلمه، ثم تلا قوله تعالى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} [سورة المجادلة آية: 7] الآية وقال محمد بن إسماعيل - البخاري -: سمعت نعيم بن حماد يقول: من شبه الله بخلقه فقد كفر، ومن جحد ما وصف الله به نفسه فقد كفر، وليس ما وصف به نفسه ولا رسوله تشبيها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 94 فصل في ذكر أقوال الأئمة الأربعة رضي الله عنهم [في علو الرب واستوائه فوق العرش] ذكر قول الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه: روى البيهقي في كتاب الصفات عن نعيم بن حماد، قال: سمعت نوح بن أبي مريم يقول: كنت عند أبي حنيفة، أول ما ظهر، إذ جاءته امرأة من ترمذ، كانت تجالس جهما فدخلت الكوفة، فأظنني أقل ما رأيت عليها عشرة آلاف نفس، فقيل لها: إن ههنا رجلا قد نظر في المعقول يقال له أبو حنيفة، فأتته فقالت: أنت الذي تعلم الناس المسائل، وقد تركت دينك، أين إلهك الذي تعبد؟ فسكت عنها. ثم مكث سبعة أيام لا يجيبها. ثم خرج إلينا وقد وضع كتابا: إن الله عز وجل في السماء دون الأرض. فقال له رجل: أرأيت قول الله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [سورة الحديد آية: 4] ؟ قال هو كما تكتب إلى الرجل، إني معك، وأنت غائب. عنه ثم قال البيهقي: لقد أصاب أبو حنيفة رحمه الله، فيما نفى عن الله عز وجل من الكون في الأرض، وأصاب فيما ذكر من تأويل الآية، واتبع مطلق السمع، بأن الله تعالى في السماء. وفي كتاب الفقه الأكبر المشهور، المروي بالأسانيد، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 95 عن أبي مطيع الحكم بن عبد الله البلخي قال: سألت أبا حنيفة، عمن يقول: لا أعرف ربي، في السماء أو الأرض؟ قال: قد كفر. إن الله تعالى يقول: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [سورة طه آية: 5] ، وعرشه فوق سماواته، فقلت: إنه يقول: أقول: إنه على العرش، ولكنه قال: لا أدري العرش في السماء، أم في الأرض؟ قال إذا أنكر أنه في السماء، فقد كفر، لأن الله تعالى في أعلى عليين، وأنه يدعى من أعلى لا من أسفل. وفي لفظ: سألت أبا حنيفة عمن يقول: لا أعرف ربي، في السماء أو في الأرض؟ قال: قد كفر، لأن الله تعالى يقول: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [سورة طه آية: 5] ، وعرشه فوق سماواته، روى هذا شيخ الإسلام، أبو إسماعيل الأنصاري في كتاب: الفاروق ; وقال الإمام: أبو محمد موفق الدين بن قدامة: بلغني عن أبي حنيفة رحمه الله، أنه قال: من أنكر أن الله عز وجل في السماء، فقد كفر. فتأمل هذا الكلام المشهور عن أبي حنيفة عند أصحابه، أنه كفّر الواقف، الذي يقول: لا أعرف ربي في السماء أو في الأرض; فكيف يكون حكم الجاحد النافي، الذي يقول: ليس في السماء، ولا في الأرض؟ واحتج أبو حنيفة على كفره، بقوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [سورة طه آية: 5] ، بين أن الله فوق السماوات، فوق العرش، فقال: وعرشه فوق سماواته، وبين بهذا أن قوله: {عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [سورة طه آية: 5] فوق العرش، ثم أردف ذلك بكفر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 96 من توقف في كون العرش في السماء أو في الأرض، قال: لأنه أنكر أن يكون الله في السماء، وأن الله في أعلى عليين، وأنه يدعى من أعلى، لا من أسفل. وذكر أصحاب أبي حنيفة من بعده، كأبي يوسف، ومحمد، كما قدمنا، ما روينا عنهم، وكذلك هشام بن عبد الله، كما روى ابن أبي حاتم وشيخ الإسلام بإسنادهما أن هشام بن عبيد الله، صاحب محمد بن الحسن، قاضي الري، حبس رجلا في التجهّم، فتاب، فجيء به ليمتحنه، فقال: الحمد لله على التوبة؛ فامتحنه هشام، فقال: أتشهد أن الله على عرشه، بائن من خلقه؟ فقال: أشهد أن الله على عرشه، ولا أدري ما بائن من خلقه؟ فقال ردوه إلى الحبس، فإنه لم يتب، وسيأتي كلام الطحاوي، إن شاء الله تعالى. وفي الفقه الأكبر أيضا، عن أبي حنيفة: لا يوصف الله بصفات المخلوقين، ولا يقال إن يده قدرته، ولا نعمته، لأن فيه إبطال الصفة، وهو قول أهل القدر والاعتزال، ولكن يده صفته بلا كيف ; وقال في الفقه الأكبر {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [سورة طه آية: 5] ليست كأيدي خلقه، وهو خالق الأيدي جل وعلا، ووجهه ليس كوجوه خلقه، وهو خالق كل الوجوه، ونفسه ليست كنفوس خلقه، وهو خالق النفوس {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [سورة الشورى آية:11] . وقال في الفقه الأكبر أيضا: وله تعالى يد، ووجه، ونفس، بلا كيف، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 97 ذكرها الله تعالى في القرآن، وغضبه ورضاه، وقضاه وقدرته، من صفاته تعالى، بلا كيف، ولا يقال: غضبه عقابه، ولا رضاه ثوابه، انتهى. ذكر قول الإمام مالك بن أنس إمام دار الهجرة، رضي الله عنه قال عبد الله بن نافع: قال مالك بن أنس: الله في السماء، وعلمه في كل مكان، لا يخلو منه شيء، رواه عبد الله، بن الإمام أحمد. وروى أبو الشيخ الأصبهاني، وأبو بكر البيهقي، عن يحيى بن يحيى، قال: كنا عند مالك بن أنس، فجاءه رجل، فقال يا أبا عبد الله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [سورة طه آية: 5] كيف استوى؟ فأطرق مالك برأسه حتى علاه الرحضاء ثم قال: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، ولا أراك إلا مبتدعا، فأمر به أن يخرج. وتقدم عن شيخه ربيعة، مثل هذا الكلام. فقول ربيعة ومالك: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، موافق لقول الباقين: أمروها كما جاءت بلا كيف؛ فإنما نفوا الكيفية، ولم ينفوا حقيقة الصفة، ولو كان القوم آمنوا باللفظ المجرد من غير فهم لمعناه، على ما يليق بالله، لما قالوا: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، ولما قالوا أمروها بلا كيف، فإن الاستواء حينئذ لا يكون معلوما، بل مجهولا بمنْزلة حروف المعجم، وأيضا: فإنه لا يحتاج إلى نفي الكيفية إذا لم يفهم من اللفظ معنى، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 98 وإنما يحتاج إلى نفي الكيفية إذا أثبتت الصفات ; وأيضا فإن من ينفي الصفات لا يحتاج أن يقول بلا كيف، فلو كان مذهب السلف نفي الصفات في نفس الأمر لما قالوا بلا كيف ; فمن قال: إن الله ليس على العرش، لا يحتاج أن يقول بلا كيف. وأيضا فقولهم: أمّروها كما جاءت، يقتضي إبقاء دلالتها على ما هي عليه، فإنها جاءت ألفاظا دالة على معان، فلو كانت دلالتها منفية لكان الواجب أن يقال: أمروا لفظها، مع اعتقاد أن المفهوم منها غير مراد، أو يقال: أمروا لفظها مع اعتقاد أن الله لا يوصف بما دلت عليه حقيقة، وحينئذ فلا تكون قد أمرت كما جاءت، ولا يقال حينئذ بلا كيف، إذ نفي الكيف عما ليس بثابت، لغو من القول. قال الذهبي، بعد ما ذكر كلام مالك وربيعة الذي قدمناه: وهذا قول أهل السنة قاطبة، أن كيفية الاستواء لا نعقلها، بل نجهلها، وأن استواءه معلوم، كما أخبر به في كتابه، وأنه كما يليق به، ولا نتعمق، ولا نتحذلق، ولا نخوض في لوازم ذلك، نفيا، ولا إثباتا، بل نسكت، ونقف، كما قد وقف السلف، ونعلم أنه لو كان له تأويل لبادر إليه الصحابة والتابعون، ولما وسعهم إقراره، وإمراره، والسكوت عنه؛ ونعلم يقينا مع ذلك أن الله جل جلاله، لا مثل له في صفاته، ولا في استوائه، ولا في الجزء: 3 ¦ الصفحة: 99 نزوله، سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا ; وقد تقدم ما رواه الوليد بن مسلم عن مالك بما أغنى عن إعادته. وقال أبو حاتم الرازي: حدثني ميمون بن يحيى البكري قال: قال مالك: من قال القرآن مخلوق، يستتاب، فإن تاب وإلا ضربت عنقه. ذكر قول الإمام محمد بن إدريس الشافعي رضي الله عنه. روى شيخ الإسلام أبو الحسن الهكاري، عن أبي شعيب، وأبي ثور، كلاهما عن محمد بن إدريس، رحمه الله، قال: القول في السنة التي أنا عليها، ورأيت عليها الذين رأيتهم، مثل سفيان، ومالك، وغيرهما: الإقرار بشهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وأن الله على عرشه في سمائه، يقرب من خلقه كيف شاء، وينْزل إلى السماء الدنيا كيف شاء، وذكر سائر الاعتقاد. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا يونس بن عبد الأعلى، قال: سمعت الشافعي يقول: لله تعالى أسماء وصفات جاء بها كتابه وأخبر بها نبيه أمته، لا يسع أحدا من خلق الله قامت عليه الحجة ردها، لأن القرآن نزل بها وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم القول بها، فيما روى عنه العدول، فإن خالف أحد ذلك بعد ثبوت الحجة عليه فهو كافر، وأما قبل ثبوت الحجة عليه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 100 فمعذور بالجهل، لأن علم ذلك لا يدرك بالعقل، ولا بالرؤية والفكر; ولا يكفر بالجهل بها أحد، إلا بعد انتهاء الخبر إليه بها. ونثبت هذه الصفات، وننفي عنها التشبيه، كما نفى سبحانه التشبيه عن نفسه، فقال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [سورة الشورى آية: 11] . وصح عن الشافعي أنه قال: خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه حق، قضاها الله في سمائه، وجمع عليها قلوب عباده; انتهى; ومعلوم أن المقضي في الأرض، والقضاء فعله سبحانه المتضمن لمشيئته وقدرته; وقال في خطبة رسالته: الحمد لله الذي هو كما وصف به نفسه، وفوق ما يصفه به خلقه. ذكر قول الإمام: أحمد بن حنبل رضي الله عنه: قال الخلال في كتاب السنة: حدثنا يوسف بن موسى قال: أخبرنا عبد الله بن أحمد، قلت لأبي: ربنا تبارك وتعالى فوق السماء السابعة على عرشه، بائن من خلقه، وقدرته وعلمه بكل مكان؟ قال: نعم، لا يخلو شيء من علمه. قال الخلال: وأخبرني الميموني قال: سألت أبا عبد الله، عمن قال: إن الله ليس على العرش فقال: كلامهم كله يدور على الكفر. وقال حنبل: قيل لأبي عبد الله، ما معنى قوله: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} [سورة المجادلة آية: 7] الجزء: 3 ¦ الصفحة: 101 وقوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ} ؟ قال: علمه محيط بالكل، وربنا على العرش بلا حد، ولا صفة {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} [سورة البقرة آية: 255] . وقال أبو طالب: سألت أحمد عن رجل قال: إن الله معنا، وتلا: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} [سورة المجادلة آية: 7] ، قال: يأخذون بآخر الآية، ويدعون أولها، هلا قرأت عليه: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ} [سورة المجادلة آية: 7] بالعلم معهم، وقال في سورة (ق) : {وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [سورة ق آية: 16] وقال المروذي: قلت لأبي عبد الله: إن رجلا يقول: أقول كما قال الله: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} [سورة المجادلة آية: 7] أقول هذا، ولا أجاوزه إلى غيره; فقال أبو عبد الله: هذا كلام الجهمية، قلت: فكيف تقول: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ} [سورة المجادلة آية: 7] ؟ قال: علمه في كل مكان، وعلمه معهم، وقال: أول الآية يدل على أنه علمه. وقال في موضع آخر: وأن الله عز وجل على عرشه فوق السماء السابعة، يعلم ما تحت الأرض السفلى، وأنه غير مختلط بشيء من خلقه هو تبارك وتعالى بائن من خلقه، وخلقه بائنون منه. وقال في كتاب الرد على الجهمية الذي رواه الخلال وقال: كتب هذا الكتاب من خط عبد الله بن الإمام أحمد، وكتبه عبد الله من خط أبيه، قال فيه: باب بيان ما أنكرت الجهمية، أن يكون الله على العرش; وقد قال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [سورة طه آية: 5] . قلنا لهم: ما أنكرتم أن يكون الله على الجزء: 3 ¦ الصفحة: 102 العرش؟ فقالوا: هو تحت الأرض السابعة، كما هو تحت العرش، وفي السماوات، وفي الأرض; قال أحمد: فقلنا: قد عرف المسلمون أماكن كثيرة، ليس فيها من عظمة الرب شيء: أجسامكم، وأجوافكم، والحشوش، والأماكن القذرة، ليس فيها شيء من عظمته، وقد أخبرنا الله عز وجل أنه في السماء، فقال: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ} [سورة الملك آية: 16] ، الآيتين وقال: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [سورة فاطر آية: 10] ، {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [سورة آل عمران آية: 55] ، {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} [سورة النساء آية: 158] . وقال أيضا في الكتاب المذكور:، ومما أنكرت الجهمية الضلال أن الله على العرش، وقد قال تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [سورة طه آية: 5] ، وقال: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [سورة الأعراف آية: 54] . ثم ساق أدلة القرآن، ثم قال: ومعنى قوله: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ} [سورة الأنعام آية: 3] ، يقول: هو إله من في السماوات، وإله من في الأرض، وهو على العرش، وقد أحاط علمه بما دون العرش، لا يخلو من علمه مكان، ولا يكون علم الله في مكان دون مكان، وذلك لقوله تعالى: {لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً} [سورة الطلاق آية: 12] . قال الإمام أحمد: ومن الاعتبار في ذلك، لو أن رجلا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 103 كان في يده، قدح من قوارير وفيه شيء، كان ابن آدم قد أحاط بالقدح، من غير أن يكون ابن آدم في القدح، فالله سبحانه - وله المثل الأعلى - قد أحاط بجميع ما خلق علما، من غير أن يكون في شيء مما خلق; قال: مما تأولت الجهمية من قول الله تعالى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} [سورة المجادلة آية: 7] فقالوا: إن الله معنا، وفينا; فقلنا لهم: قطعتم الخبر من أوله، لأن الله افتتح الخبر بعلمه، وختمه بعلمه. قال أحمد: وإذا أردت أن تعلم أن الجهمي كاذب على الله حين زعم أنه في كل مكان، ولا يكون في مكان دون مكان; فقل له: أليس شيئا؟ فيقول: نعم; فقل له: فحين خلق الشيء، خلقه في نفسه أو خارجا عن نفسه؟ فإنه يصير إلى أحد ثلاثة أقاويل: إن زعم أن الله خلق الخلق في نفسه كفر، حين زعم أن الجن والإنس، والشياطين، وإبليس في نفسه; وإن قال: خلقهم خارجا عن نفسه، ثم دخل فيهم، كفر أيضا، حين زعم أنه دخل في كل مكان وحش وقذر; وإن قال: خلقهم خارجا عن نفسه، ثم لم يدخل فيهم، رجع عن قوله أجمع، وهو قول أهل السنة. قال أحمد: وقلنا للجهمية: حين زعمتم أن الله في كل مكان، أخبرونا عن قول الله عز وجل: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً} [سورة الأعراف آية: 143] أكان في الجبل بزعمكم؟ فلو كان فيه كما تزعمون لم يكن تجلى له; بل كان سبحانه على العرش، فتجلى لشيء لم يكن فيه، ورأى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 104 الجبل شيئا ما رآه قط قبل ذلك. انتهى كلام الإمام أحمد، الذي نقلناه من كتاب الرد على الجهمية. وروى الخلال عن حنبل، قال: قال أبو عبد الله - يعني أحمد -: نؤمن أن الله على العرش بلا كيف، بلا حد ولا صفة يبلغها واصف أو يحده حاد; وصفات الله له ومنه، وهو كما وصف نفسه، لا تدركه الأبصار بحد ولا غاية. وقال حنبل أيضا: سألت أبا عبد الله، عن الأحاديث التي تروى: " إن الله سبحانه ينْزل إلى السماء الدنيا "1 و " إن الله يُرى في الآخرة " و " إن الله يضع قدمه " وأشباه هذه الأحاديث; فقال أبو عبد الله: نؤمن بها، ونصدق، ولا نرد منها شيئا، ونعلم: أن ما جاء به الرسول حق، ولا نرد على الله قوله، ولا يوصف بأكثر مما وصف به نفسه، بلا حد ولا غاية {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [سورة الشورى آية: 11] . وقال حنبل في موضع آخر، عن أحمد: ليس كمثله شيء في ذاته، كما وصف نفسه; قد أجمل الله الصفة لنفسه، فحد لنفسه صفة، ليس يشبه شيئا; وصفاته غير محدودة، ولا معلومة، إلا بما وصف به نفسه، قال: فهو سَمِيعٌ بَصِيرٌ بلا حد، ولا تقدير، ولا يبلغ الواصفون صفته، ولا نتعدى القرآن والحديث،   1 البخاري: الجمعة (1145) والدعوات (6321) , ومسلم: صلاة المسافرين وقصرها (758) , وأبو داود: الصلاة (1315) , وأحمد (2/258 ,2/419) , ومالك: النداء للصلاة (496) , والدارمي: الصلاة (1478 ,1479) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 105 فنقول كما قال، ونصفه بما وصف نفسه، ولا نتعدى ذلك، ونؤمن بالقرآن كله، محكمه ومتشابهه، ولا نزيل صفة من صفاته لشناعة شنعت، وما وصف به نفسه، من كلام، ونزول، وخلوة بعبده يوم القيامة، ووضع كنفه عليه، فهذا كله يدل على أن الله سبحانه يرى في الآخرة، والتحديد في هذا كله بدعة، والتسليم فيه بغير صفة ولا حد إلا بما وصف به نفسه، سميع، بصير، لم يزل متكلما، عليم، غفور {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} [سورة الأنعام آية: 73] {عَلاَّمُ الْغُيُوبِ} . فهذه صفات وصف بها نفسه، لا تدفع، ولا ترد، وهو على العرش بلا حد، كما قال تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [سورة الأعراف آية: 54] ، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [سورة الشورى آية: 11] وهو {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [سورة الأنعام آية: 102] وهو: سميع بصير بلا حد ولا تقدير; ولا نتعدى القرآن والحديث، تعالى الله عما تقول الجهمية والمشبهة; قلت له: المشبهة ما تقول؟ قال: من قال بصر كبصري، ويد كيدي وقدم كقدمي فقد شبه الله بخلقه. انتهى. وكلام الإمام أحمد رحمه الله في هذا كثير، فإنه امتحن بالجهمية رضي الله عنه وعن إخوانه من أئمة الدين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 106 فصل: [الشيخ محمد وأتباعه يصفون الله بما وصف به نفسه] قد بينا فيما تقدم عقيدة شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، أسكنه الله الفردوس يوم المآب، وبينا عقيدته هو وأتباعه، عقيدة السلف الماضين، من الصحابة والتابعين، وسائر أئمة الدين، الذين رفع الله منارهم في العالمين، وجعل لهم لسان صدق في الآخرين. فشيخنا رحمه الله وأتباعه يصفون الله بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا يتجاوزون القرآن والحديث، لأنهم متبعون لا مبتدعون، ولا يكيفون ولا يشبهون ولا يعطلون، بل يثبتون جميع ما نطق به الكتاب من الصفات، وما وردت به السنة مما رواه الثقات، يعتقدون أنها صفات حقيقة منَزّهة عن التشبيه والتعطيل، كما أنه سبحانه له ذات حقيقة، منَزّهة عن التشبيه والتعطيل؛ فالقول عندهم في الصفات، كالقول في الذات; فكما أن ذاته ذات حقيقة لا تشبه الذوات، فصفاته صفات حقيقة لا تشبه الصفات; وهذا هو اعتقاد سلف الأمة وأئمة الدين; وهو مخالف لاعتقاد المشبهين، واعتقاد المعطلين، فهو كالخارج: {مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خَالِصاً سَائِغاً لِلشَّارِبِينَ} [سورة النحل آية: 66] ، فهو وسط بين طرفين، وهدى بين ضلالتين، وحق بين باطلين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 107 فلما قررنا عقيدتنا، في أول الجواب، وأوردنا على ذلك الأدلة، من الكتاب والسنة، أتبعنا ذلك بفصل ذكرنا فيه بعض ما ورد، عن الصحابة، والتابعين وتابعيهم، يؤيد ما ذكرناه، ويحقق ما قلناه، لأنهم مصابيح الدين، وقدوة العالمين; وهم أهل اللغة الفصحاء، واللسان العربي; فإن الصحابة رضي الله عنهم قد شاهدوا نزول القرآن، ونقلوه إلينا وفسروه; فهم قد تلقوا ذلك عن نبيهم صلى الله عليه وسلم وتلقاه عنهم التابعون; فتعلموا من الصحابة ألفاظ القرآن ومعانيه; فنقلوا عنهم تأويله كما نقلوا تنْزيله; ونقلوا الأحاديث الواردة في الصفات، ولم يتأولوها كما تأولها النفاة، بل أثبتوها صفات حقيقة لرب العالمين، منَزّهة عن تعطيل المعطلين، وتشبيه المشبهين; فإن الصحابة رضي الله عنهم أبر هذه الأمة قلوبا، وأعمقها علما، وأقلها تكلفا; وهم سادات الأمة، وكاشفو الغمة; فالمسلمون بهديهم يهتدون، وعلى منهاجهم يسلكون. [فصل ما قاله العلماء في علو الله سبحانه واستوائه] ثم إنا لما نقلنا كلام الصحابة، والتابعين، وتابعيهم، أتبعناه بفصل ذكرنا فيه كلام الأئمة الأربعة، أئمة المذاهب المتبعة، ليتبين صحة ما قلناه، وما إليهم نسبناه، ويعلم من كان قصده الحق أن الأئمة على عقيدة واحدة مجمعون، وللسلف الصالح متبعون. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 108 فلما تبين ما قلناه، واتضح ما قررناه: أحببت أن أختم هذا الجواب بفصل أذكر فيه بعض ما قاله العلماء بعدهم، ليعلم الواقف على هذا الجواب أن هذا الاعتقاد الذي ذكرناه، هو اعتقاد أهل السنة والجماعة قاطبة، متقدميهم ومتأخريهم، لأن إجماعهم حجة قاطعة، لا تجوز مخالفته، فكيف وقد شهدت له النصوص القرآنية والسنة النبوية؟ وقد قال تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} [سورة النساء آية: 115] . فصل: قال الإمام حافظ الشرق، وشيخ الإسلام: عثمان بن سعيد الدارمي، في كتاب النقض على بشر المريسي، قال الذهبي: وهو مجلد سمعناه من أبي حفص القواس قال فيه: وقد اتفقت الكلمة من المسلمين، على أن الله فوق عرشه فوق سماواته، لا ينْزل قبل يوم القيامة إلى الأرض، ولم يشُكّوا أنه ينْزل يوم القيامة، ليفصل بين عباده ويحاسبهم، وتشقق السماوات لنُزوله، فلما لم يشك المسلمون أن الله لا ينْزل إلى الأرض قبل يوم القيامة لشيء من أمور الدنيا، علموا يقينا أن ما يأتي الناس من العقوبات، إنما هو أمره وعذابه، كقوله: {فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ} [سورة النحل آية: 26] وإنما هو: أمره وعذابه، انتهى من هذا الكتاب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 109 قال وقد ذكر الحلول وحكى هذا المذهب، إنزاه لله من السوء عن مذهب من يقول به هو بكماله وجماله، وعظمته وبهائه، فوق عرشه، فوق سماواته، فوق جميع الخلائق، في أعلى مكان وأظهر مكان، حيث لا خلق هناك ولا إنس، ولا جان، أي الحزبين أعلم بالله؟ وأشد تعظيما وإجلالا له؟ وقال في هذا الكتاب: علمه بهم محيط، وبصره فيهم نافذ، وهو بكماله فوق عرشه، ومع بعد المسافة بينه وبين الأرض، يعلم ما في الأرض. وقال في موضع آخر: والقرآن كلام الله، وصفة من صفاته خرج منه كما شاء أن يخرج، والله بكلامه، وعلمه، وقدرته، وسلطانه، وجميع صفاته غير مخلوق; وهو بكماله على عرشه. وقال في موضع آخر، وقد ذكر حديث البراء بن عازب الطويل، في شأن الروح، وقبضها، وفيه: "فتصعد روحه، حتى تنتهي إلى السماء السابعة" وذكر الحديث، ثم قال: وفي قوله: {لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ} [سورة الأعراف آية: 40] دلالة ظاهرة أن الله فوق السماء، لأنه لو لم يكن فوق السماء، لما عرج بالأرواح والأعمال، ولما أغلقت أبواب السماء عن قوم، وفتحت لآخرين. وقال في موضع آخر: ولكنا نقول: رب عظيم، وملك كبير، نور السماوات والأرض، وإله السماوات والأرض، على عرش مخلوق عظيم، فوق السماء السابعة، دون ما سواها من الأماكن; من لم يعرفه بذلك، كان كافرا به وبعرشه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 110 قال: وقد اتفقت كلمة المسلمين والكافرين، على أن الله في السماء، وعرفوه بذلك، إلا المريسي وأصحابه، حتى الصبيان، الذين لم يبلغوا الحنث; وساق حديث حصين: " كم تعبد؟ قال: ستة في الأرض، وواحدا في السماء فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من الذي تعده لرغبتك ورهبتك؟ قال: الذي في السماء "1 وقال أيضا في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم للجارية: " أين الله؟ " فيه تكذيب لمن يقول: هو في كل مكان، وإن الله لا يوصف بـ (أين) بل يستحيل أن يقال: أين هو؟ والله فوق سماواته، بائن من خلقه; فمن لم يعرفه بذلك، لم يعرف إلهه الذي يعبده; هذا كله كلام عثمان بن سعيد في كتابه المذكور; وهو قال فيه أبو الفضل القراب: ما رأيت مثل عثمان بن سعيد، ولا رأى عثمان مثل نفسه; أخذ الأدب عن ابن الأعرابي، والفقه عن البويطي، والحديث عن يحيى بن معين، وعلي بن المديني، وأثنى عليه أهل العلم. وقال الإمام الحافظ أبو عيسى الترمذي في جامعه، لما روى حديث أبي هريرة، وهو حديث منكر، قاله الذهبي: " لو أدلى أحدكم بحبل، لهبط على الله "2 قال معناه: لهبط على علم الله، قال: وعلم الله، وقدرته، وسلطانه، في كل مكان، وهو على العرش، كما وصف نفسه في كتابه، وقال في حديث أبي هريرة: " إن الله يقبل الصدقة، ويأخذها بيمينه "3 قال غير واحد من أهل العلم في هذا الحديث وما   1 الترمذي: الدعوات (3483) . 2 الترمذي: تفسير القرآن (3298) . 3 الترمذي: الزكاة (662) , وأحمد (2/404) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 111 يشبهه من الصفات، ونزول الرب تبارك وتعالى، إلى سماء الدنيا، قالوا: ثبتت الروايات في هذا، ونؤمن به، ولا نتوهم، ولا نقول كيف; هكذا روي عن مالك، وابن عيينة، وابن المبارك; قالوا في هذه الأحاديث: أمروها بلا كيف; وهكذا قول أهل العلم، من أهل السنة والجماعة. وأما الجهمية فأنكرت هذه الروايات; وقالوا: هذا تشبيه، وفسروها على غير ما فسرها أهل العلم; وقالوا: إن الله لم يخلق آدم بيده، وإن معنى اليد ههنا النعمة; وقال إسحاق بن راهويه: إنما يكون التشبيه، إذا قال: يد كيدي، أو مثل يدي، أو سمع كسمعي، فهذا التشبيه; وأما إذا قال كما قال الله: يد، وسمع، وبصر، ولا يقول: كيف; ولا يقول: مثل سمع، وكسمع، فهذا لا يكون تشبيها; قال الله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [سورة الشورى آية: 11] هذا كله كلام الترمذي. وقال الإمام أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، في كتاب صريح السنة: وحسب امرئ أن يعلم أن ربه هو الذي على العرش استوى، فمن تجاوز إلى غير ذلك فقد خاب وخسر. وقال في تفسيره الكبير في قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [سورة الأعراف آية: 54] قال: علا وارتفع; وقال في قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} [سورة البقرة آية: 29] عن الربيع بن أنس، أنه يعني: ارتفع; وقال في قوله الجزء: 3 ¦ الصفحة: 112 عز وجل {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِباً سورة آية: 36-37] يقول: وإني لأظن موسى كاذبا فيما يقول، ويدعي أن له ربا في السماء، أرسله إلينا; وتفسيره هذا مشحون بأقوال السلف على الإثبات. وقال في كتاب التبصير في معالم الدين: القول فيما أدرك علمه من الصفات خبرا، وذلك نحو إخباره أنه سميع بصير، وأن له يدين بقوله: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [سورة المائدة آية: 64] ، وأن له وجها بقوله: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ} [سورة الرحمن آية: 27] ، وأن له قدما بقول النبي صلى الله عليه وسلم " حتى يضع رب العزة فيها قدمه "1، وأنه يضحك بقوله: "لقي الله وهو يضحك إليه "، وأنه يهبط إلى سماء الدنيا، بخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، وأن له أصبعا بقوله صلى الله عليه وسلم: " ما من قلب إلا وهو بين إصبعين من أصابع الرحمن "2 فإن هذه المعاني، التي وصفت ونظائرها، مما وصف الله به نفسه ورسوله، مما لا يثبت حقيقة علمه بالفكر والروية، لا نكفر بالجهل بها أحدا إلا بعد انتهائها. ذكر هذا الكلام عنه أبو يعلى في كتاب: إبطال التأويل. ومن أراد معرفة أقوال السلف التي حكاها عنهم في تفسيره فليطالع كلامه عند تفسير قوله تعالى: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ} [سورة الأعراف آية: 143] ، وقوله: {اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [سورة الأعراف آية: 54] ، وقوله: {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ} [سورة الشورى آية: 5] .   1 البخاري: الأيمان والنذور (6661) , ومسلم: الجنة وصفة نعيمها وأهلها (2848) , والترمذي: تفسير القرآن (3272) , وأحمد (3/234) . 2 ابن ماجه: المقدمة (199) , وأحمد (4/182) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 113 وقال إمام الأئمة أبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة: من لم يقر بأن الله على عرشه استوى، فوق سبع سماوات، بائن من خلقه، فهو كافر يستتاب؛ فإن تاب وإلا ضربت عنقه، وألقي على مزبلة، لئلا يتأذى بريحه أهل القبلة وأهل الذمة. ذكر قول إمام الشافعية في وقته: أبو العباس بن سريج رضي الله عنه: ذكر أبو القاسم سعد بن علي بن محمد الزنجاني، في جوابات المسائل التي سئل عنها بمكة، فقال: الحمد لله أولا وآخرا، وظاهرا وباطنا، وعلى كل حال، وصلى الله على محمد المصطفى، وعلى الأخيار الطيبين من الأصحاب والآل. سألت - أيدك الله بتوفيقه - بيان ما صح لدي من مذهب السلف، وصالحي الخلف، في الصفات الواردة في الكتاب، والسنة؟ فاستخرت الله، وأجبت عنه بجواب بعض الأئمة الفقهاء، وهو: أبو العباس بن سريج، رحمه الله، وقد سئل مثل هذا السؤال. فقال: أقول وبالله التوفيق: حرام على العقول أن تمثل الله، وعلى الأوهام أن تحده، وعلى الظنون أن تقع، وعلى الضمائر أن تعمق، وعلى النفوس أن تفكر، وعلى الأفكار أن تحيط، وعلى الألباب أن تصف، إلا بما وصف به نفسه في كتابه، أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم. وقد صح وتقرر واتضح عند جميع أهل الديانة، والسنة والجماعة، من السلف الماضين، والصحابة والتابعين، من الأئمة المهديين الراشدين، المشهورين إلى زماننا هذا، أن جميع الآي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 114 الواردة عن الله في ذاته وصفاته، والأخبار الصادقة الصادرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في صفاته، التي صححها أهل النقل: يجب على المرء المسلم، الإيمان بكل واحد منه كما ورد، وتسليم أمره إلى الله كما أمر، وذلك مثل قوله سبحانه: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} [سورة البقرة آية: 210] ، وقوله: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} [سورة الفجر آية: 22] ، وقوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [سورة طه آية: 5] ، وقوله: {وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [سورة الزمر آية: 67] . ونظائرها مما نطق به القرآن، كالفوقية، والنفس، واليدين، والسمع، والبصر، والكلام، والعين، والنظر، والإرادة، والرضى، والغضب، والمحبة، والكراهة، والعناية، والقرب، والبعد، والسخط، والاستحياء، والدنو كقاب قوسين أو أدنى، وصعود الكلام الطيب إليه، وعروج الملائكة والروح إليه، ونزول القرآن منه، وندائه الأنبياء، وقوله للملائكة، وقبضه، وبسطه، وعلمه، ووحدانيته، وقدرته، ومشيئته، وصمدانيته، وفردانيته، وأوليته، وآخريته، وظاهريته، وباطنيته، وحياته، وبقائه، وأزليته، ونوره، وتجليه، والوجه، وخلق آدم بيده، ونحو قوله: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [سورة الملك آية: 16] وسماعه من غيره، وسماع غيره منه، وغير ذلك من صفاته المذكورة في كتابه المنزل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 115 وجميع ما لفظ به المصطفى من صفاته، كغرس جنة الفردوس بيده، وشجرة طوبى بيده، وخط التوراة بيده، والضحك، والتعجب، ووضعه القدم، وذكر الأصابع، والنّزول كل ليلة إلى سماء الدنيا، وكغيرته، وفرحه بتوبة العبد، وأنه ليس بأعور، وأنه يعرض عما يكره ولا ينظر إليه، وأن كلتا يديه يمين، وحديث القبضتين، وله كل يوم كذا وكذا نظرة في اللوح المحفوظ، وأنه يوم القيامة يحثو ثلاث حثيات من حثياته، فيدخلهم الجنة. وحديث القبضة، التي يخرج بها من النار قوما لم يعملوا خيرا قط، وحديث: " إن الله خلق آدم على صورته "1، وفي لفظ: " على صورة الرحمن "، وإثبات الكلام بالحرف والصوت، وكلامه للملائكة، ولآدم ولموسى ومحمد، وللشهداء وللمؤمنين عند الحساب وفي الجنة، ونزول القرآن إلى سماء الدنيا، وكون القرآن في المصاحف، وما أذن الله لشيء إذنه لنبي يتغنى بالقرآن، وصعود الأقوال والأعمال والأرواح إليه، وحديث معراج الرسول صلى الله عليه وسلم ببدنه ونفسه، وغير هذا مما صح عنه صلى الله عليه وسلم من الأخبار المتشابهة، الواردة في صفات الله سبحانه ما بلغنا وما لم يبلغنا، مما صح عنه، اعتقادنا فيه وفي الآي المتشابه في القرآن: أن نقبلها ولا نردها، ولا نتأولها بتأويل المخالفين، ولا نحملها على تشبيه المشبهين، ولا نزيد عليها، ولا ننقص منها، ولا نفسرها، ولا نكيفها، ولا نشير إليها بخواطر القلوب، بل   1 مسلم: البر والصلة والآداب (2612) , وأحمد (2/251 ,2/434 ,2/463 ,2/519) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 116 نطلق ما أطلقه الله، ونفسر ما فسره النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، والتابعون، والأئمة المرضيون، من السلف، المعروفين بالدين والأمانة. ونجمع على ما أجمعوا عليه، ونمسك عما أمسكوا عنه، ونسلم الخبر لظاهره، والآية لظاهرها، لا نقول بتأويل المعتزلة، والأشعرية، والجهمية، والملحدة، والمجسمة، والمشبهة، والكرامية، والمكيفة; بل نقبلها بلا تأويل، ونؤمن بها بلا تمثيل، ونقول: الإيمان بها واجب، والقول سنة، وابتغاء تأويله بدعة; هذا آخر كلام أبي العباس بن سريج، الذي حكاه أبو القاسم الزنجاني في أجوبته. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 117 ذكر قول الإمام الطحاوي، إمام الحنفية في وقته، في الحديث، والفقه، ومعرفة أقوال السلف قال في عقيدته المعروفة عند الحنفية: ذكر بيان اعتقاد أهل السنة والجماعة، على مذهب فقهاء الملة: أبي حنيفة، وأبي يوسف، ومحمد، رضي الله عنهم. نقول في توحيد الله، معتقدين بتوفيق الله: أن الله واحد لا شريك له، ولا شيء مثله، ما زال بصفاته قديما قبل خلقه، وأن القرآن كلام الله، منه بدأ، بلا كيفية قولا، وأنزله على نبيه وحيا، وصدقه المؤمنون على ذلك حقا، وأيقنوا أنه كلام الله بالحقيقة، ليس بمخلوق، فمن سمعه، وزعم أنه كلام البشر، فقد كفر; والرؤية لأهل الجنة حق، بغير إحاطة ولا كيفية، وكل ما جاء في ذلك من الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو كما قال، ومعناه على ما أراد، لا ندخل في ذلك متأولين بآرائنا، ولا يثبت قدم الإسلام، إلا على ظهر التسليم والاستسلام، فمن رام ما حضر عنه علمه، ولم يقنع بالتسليم فهمه، حجبه مرامه خالص التوحيد، وصحيح الإيمان; ومن لم يتوق النفي والتشبيه، زل ولم يصب التنْزيه ... إلى أن قال: والعرش، والكرسي، حق، كما بين في كتابه، وهو مستغن عن العرش، وما دونه، محيط بكل شيء وفوقه، وذكر سائر الاعتقاد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 118 ذكر قول الإمام، أبي محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب، إمام الطائفة الكلابية، وكان من أعظم الناس إثباتا للصفات، والفوقية، وعلو الله على عرشه، منكرا لقول الجهمية؛ وهو أول من عرف عنه إنكار قيام الأفعال الاختيارية بذات الرب، وأن القرآن معنى قائم بالذات، وهو أربع معان; ونصر طريقته أبو العباس القلانسي، وأبو الحسن الأشعري، وخالفه في بعض الأشياء، ولكنه على طريقه في إثبات الصفات، والفوقية، وعلو الله على عرشه كما سيأتي حكاية كلامه بألفاظه إن شاء الله تعالى. حكى ابن فورك في كتابه المجرد، فيما جمعه من كلام ابن كلاب، أنه قال: وأخرج من النظر والخبر، قول من قال: لا هو في العالم، ولا خارجا منه; فنفاه نفيا مستويا، لأنه لو قيل له صفه بالعدم، لما قدر أن يقول أكثر من هذا; ورد أخبار الله أيضا، وقال في ذلك ما لا يجوز في نص ولا معقول، ثم قال: ورسول الله صلى الله عليه وسلم وهو صفوة الله من خلقه، وخيرته من بريته، أعلمهم بالأين واستصوب قول القائل: إنه في السماء، وشهد له بالإيمان عند ذلك، وجهم بن صفوان وأصحابه لا يجيزون: الأين ويحيلون القول به. قال: ولو كان خطأ، لكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق بالإنكار له، وكان ينبغي أن يقول لها: لا تقولي ذلك، فتوهمي أنه محدود، وأنه في مكان دون مكان، ولكن قولي إنه في كل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 119 مكان، لأنه هو الصواب، دون ما قلت. كلا! فلقد أجازه رسول الله صلى الله عليه وسلم مع علمه بما فيه، وأنه من الإيمان، بل الأمر الذي يجب به الإيمان لقائله ومن أجله شهد لها بالإيمان حين قالته، وكيف يكون الحق في خلاف ذلك؟ ! والكتاب ناطق بذلك، وشاهد له. وقد غرس في بنية الفطرة، ومعارف الآدميين من ذلك، ما لا شيء أبين منه، ولا أوكد، لأنك لا تسأل أحدا من الناس، عربيا ولا عجميا، ولا مؤمنا ولا كافرا، فتقول أين ربك؟ إلا قال: في السماء، أفصح، أو أومى بيده، أو أشار بطرفه، إن كان لا يفصح، ولا يشير إلى غير ذلك; ولا رأينا أحدا إذا عن له الدعاء، إلا رافعا يده إلى السماء، ولا وجدنا أحدا غير الجهمية يُسأل عن ربه فيقول: في كل مكان، كما يقولون، وهم يدعون أنهم أفضل الناس، فتاهت العقول، وسقطت الأخبار، واهتدى جهم، وخمسون رجلا معه، نعوذ بالله من مضلات الفتن، انتهى كلامه. ذكر قول الإمام أبي الحسن الأشعري، صاحب التصانيف، إمام الطائفة الأشعرية: قال في كتابه الذي سماه اختلاف المصلين، ومقالات الإسلاميين لذكر فرق الخوارج، والروافض، والجهمية، وغيرهم ... إلى أن قال: ذكر مقالة أهل السنة، وأصحاب الحديث، جملة قولهم: الإقرار بالله وملائكته، وكتبه ورسله وبما جاء عن الله الجزء: 3 ¦ الصفحة: 120 وما رواه الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يردون من ذلك شيئا، وأن الله على عرشه كما قال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [سورة طه آية: 5] ، وأن له يدين بلا كيف كما قال: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [سورة ص آية: 75] ، وكما قال: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [سورة المائدة آية: 64] ، وأن أسماء الله لا يقال إنها غير الله، كما قالت المعتزلة والخوارج. وأقروا أن لله علما، ولم ينفوا ذلك عن الله، كما نفته المعتزلة، ويقولون: القرآن كلام الله غير مخلوق؛ ويصدقون بالأحاديث التي جاءت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم " أن الله ينْزل إلى سماء الدنيا، فيقول: هل من مستغفر "1 كما جاء الحديث; ويُقرّون أن الله يجيء يوم القيامة، كما قال: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} [سورة الفجر آية: 22] ، وأن الله يقرب من خلقه كيف شاء ... إلى أن قال: فهذا جملة ما يأمرون به، ويستعملونه، ويروونه، وبكل ما ذكرنا من قولهم نقول، وإليه نذهب، وما توفيقنا إلا بالله. وذكر الاستواء في هذا الكتاب المذكور، في باب: هل الباري تعالى في مكان دون مكان؟ فقال: اختلفوا في ذلك على سبع عشرة مقالة، منها: قال أهل السنة، وأصحاب الحديث: إن الله ليس بجسم ولا يشبه الأشياء; وأنه على العرش استوى كما قال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [سورة طه آية: 5] ، ولا نتقدم بين يدي الله بالقول، بل نقول: استوى بلا كيف؛ وإن له يدين، كما قال: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [سورة ص آية: 75] ، وإنه يَنْزل إلى سماء   1 البخاري: الجمعة (1145) والدعوات (6321) والتوحيد (7494) , ومسلم: صلاة المسافرين وقصرها (758) , والترمذي: الصلاة (446) والدعوات (3498) , وأبو داود: الصلاة (1315) والسنة (4733) , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1366) , وأحمد (2/264 ,2/267 ,2/282 ,2/433) , ومالك: النداء للصلاة (496) , والدارمي: الصلاة (1479) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 121 الدنيا كما جاء في الحديث، ثم قال: وقالت المعتزلة: استوى على عرشه، بمعنى: استولى، وتأولوا اليد بمعنى: النعمة; وقوله: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [سورة القمر آية: 14] أي: بعلمنا. وقال أبو الحسن الأشعري في كتاب جمل المقالات: هذه حكاية جملة قول أصحاب الحديث وأهل السنة، جملة ما عليه أصحاب الحديث وأهل السنة: الإقرار بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، وما جاء من الله، وما تلقاه الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يردون شيئا من ذلك، وأن الله واحد أحد، فرد، صمد، لم يتخذ صاحبة ولا ولدا، وأنه على عرشه كما قال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [سورة طه آية: 5] ، وأن له يدين بلا كيف، كما قال: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [سورة ص آية: 75] ، وكما قال: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [سورة المائدة آية: 64] ، وأن له عينين، بلا كيف، كما قال: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [سورة القمر آية: 14] وأن له وجها كما قال: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ} [سورة الرحمن آية: 27] . وأن القرآن كلام الله غير مخلوق، والكلام في الوقف واللفظ: من قال بالوقف أو باللفظ فهو مبتدع عندهم، لا يقال اللفظ بالقرآن مخلوق، ولا يقال غير مخلوق، ويقولون: إن الله يُرى بالأبصار يوم القيامة كما يرى القمر ليلة البدر، يراه المؤمنون ولا يراه الكافرون لأنهم عن الله محجوبون؛ ثم ساق بقية قولهم. وقال في هذا الكتاب: وقالت المعتزلة: إن الله استوى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 122 على عرشه بمعنى: استولى، هذا نص كلامه; وقال في هذا الكتاب أيضا: وقالت المعتزلة في قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [سورة طه آية: 5] يعني: استولى. قال: وتأولت اليد بمعنى: النعمة، وقوله: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [سورة القمر آية: 14] أي: بعلمنا. فالأشعري رحمه الله، إنما حكى تأويل الاستواء بالاستيلاء عن المعتزلة والجهمية، وصرح بخلافه، وأنه خلاف قول أهل السنة. وقال الأشعري أيضا: في كتابه: الإبانة، في أصول الديانة في باب الاستواء: فإن قال قائل: ما تقولون في الاستواء؟ قيل له: نقول: إن الله مستو على عرشه كما قال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [سورة طه آية: 5] ، وقال: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [سورة فاطر آية: 10] ، وقال: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} [سورة النساء آية: 158] ، وقال حكاية عن فرعون: {يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِباً} [سورة آية: 36-37] كذب موسى، في قوله: إن الله فوق السماوات، وقال عز وجل: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ} [سورة الملك آية: 16] ، فالسماوات فوقها العرش. فلما كان العرش فوق السماوات قال: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [سورة الملك آية: 16] لأنه مستو على العرش الذي فوق السماوات، وكل ما علا فهو سماء، فالعرش أعلى السماوات، وليس إذا قال: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [سورة الملك آية: 16] يعني: جميع السماوات; الجزء: 3 ¦ الصفحة: 123 وإنما أراد العرش الذي هو أعلى السماوات; قال: ورأينا المسلمين جميعا يرفعون أيديهم إذا دعوا نحو السماء لأن الله مستو على العرش، الذي هو فوق السماوات؛ فلولا أن الله على العرش، لم يرفعوا أيديهم نحو العرش; وقد قال قائلون - من المعتزلة، والجهمية، والحرورية - إن معنى استوى: استولى، وملك، وقهر، وأنه تعالى في كل مكان، وجحدوا أن يكون على عرشه، وذهبوا في الاستواء إلى القدرة. فلو كان كما قالوا، كان لا فرق بين العرش، وبين الأرض السابعة، لأنه قادر على كل شيء، وكذا لو كان مستويا على العرش بمعنى: الاستيلاء، لجاز أن يقال: هو مستو على الأشياء كلها; ولم يجز عند أحد من المسلمين أن يقول: إن الله مستو على الأخلية، والحشوش; فبطل أن يكون الاستواء على العرش: الاستيلاء، وذكر أدلة من الكتاب والسنة، والعقل، سوى ذلك; وكتاب الإبانة من أشهر تصانيف أبي الحسن، شهره الحافظ ابن عساكر، واعتمد عليه، ونسخه بخطه الإمام محي الدين النواوي. فانظر - رحمك الله - إلى هذا الإمام، الذي ينتسب إليه الأشاعرة اليوم، لأنه إمام الطائفة المذكورة، كيف صرح بأن عقيدته في آيات الصفات وأحاديثها اعتقاد أهل السنة والجماعة، من الصحابة والتابعين وأئمة الدين; ولم يحك تأويل الاستواء بالاستيلاء، واليد بمعنى النعمة، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 124 والعين بمعنى العلم، إلا عن المعتزلة والجهمية; وصرح أنه خلاف قوله، لأنه خلاف قول أهل السنة والجماعة. ثم تجد المنتسبين إلى عقيدة الأشعري قد صرحوا في عقائدهم، ومصنفاتهم، من التفاسير وشروح الحديث، بالتأويل الذي أنكره إمامهم، وبين أنه قول المعتزلة والجهمية، وينسبون هذا الاعتقاد إلى الأشعري وهو قد أنكره ورده وأخبر أنه على غير عقيدة السلف من الصحابة والتابعين والأئمة بعدهم; وأنه على عقيدة الإمام أحمد، كما سيأتي لفظه بحروفه إن شاء الله. وأعجب من هذا: أنهم يذكرون في مصنفاتهم أن عقيدة السلف أسلم، وعقيدة الخلف أعلم وأحكم! فسبحان مقلب القلوب كيف يشاء، كيف يجتمع في قلب من له عقل ومعرفة، أن الصحابة أبر هذه الأمة قلوبا وأعمقها علما، وأنهم الذين شاهدوا التَنْزيل وعلموا التأويل، وأنهم أهل اللغة الفصحاء، واللسان العربي الذي نزل القرآن بلغتهم وأنهم الراسخون في العلم حقا، وأنهم متفقون على عقيدة واحدة، لم يختلف في ذلك اثنان. ثم التابعون بعدهم سلكوا سبيلهم، واتبعوا طريقهم، ثم الأئمة الأربعة وغيرهم مثل الأوزاعي، والسفيانين، وابن المبارك، وإسحاق، وغيرهم من أئمة الدين الذين رفع الله قدرهم بين العالمين، وجعل لهم لسان صدق في الآخرين، كل هؤلاء على عقيدة واحدة مجمعون، ولكتاب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 125 ربهم وسنة نبيهم متبعون. ثم بعد معرفته لهذا وإقراره، يقوم في قلبه أن عقيدة الخلف أعلم وأحكم من طريقة السلف؟ ! فسبحان من يحول بين المرء وقلبه، فيهدي من يشاء بفضله ويضل من يشاء بعدله {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [سورة الأنبياء آية: 23] . وكيف يكون الخالفون أعلم من السابقين؟ ! بل من زعم هذا فهو لم يعرف قدر السلف; بل ولا عرف الله ورسوله والمؤمنين، حقيقة المعرفة المطلوبة; فإن هؤلاء الذين يفضلون طريقة الخلف، إنما أتوا من حيث ظنوا أن طريقة السلف هي مجرد الإيمان بألفاظ القرآن والحديث، من غير فقه لذلك، بمنْزِلة الأميين الذين قال الله فيهم: {لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ} [سورة البقرة آية: 78] ، وأن طريقة الخلف هي استخراج معاني النصوص المصروفة عن حقائقها، بأنواع الاحتمالات، وغرائب اللغات; فهذا الظن الفاسد أوجب تلك المقالة، كما قدمناه; وقد كذبوا على طريقة السلف، وضلوا في تصويب طريقة الخلف، فجمعوا بين الجهل بطريقة السلف، وبين الجهل والضلال بتصويب طريقة الخلف. وكيف يكون الخلف أعلم بالله وأسمائه وصفاته، وأحكم في باب ذاته وآياته، من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان، من أهل العلم والإيمان، الذين هم أعلام الهدى، ومصابيح الدجى؟! فنسأل الله أن لا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 126 يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، وأن يهب لنا ولإخواننا المسلمين من لدنه رحمة، إنه هو الوهاب. وإنما ذكرنا هذا في أثناء كلام أبي الحسن الأشعري لأن أهل التأويل اليوم الذين أخذوا بطريقة الخلف، ينتسبون إلى عقيدة الأشاعرة، فيظن من لا علم عنده، أن هذا التأويل طريقة أبي الحسن الأشعري، وهو رضي الله عنه قد صرح بأنه على طريقة السلف، وأنكر على من تأول النصوص، كما هو مذهب الخلف; وذكر أن التأويل مذهب المعتزلة والجهمية. قال الإمام الذهبي في كتاب العلو: قال الأستاذ أبو القاسم القشيري: سمعت أبا علي الدقاق يقول: سمعت زاهر بن أحمد الفقيه يقول: مات الأشعري رحمه الله، ورأسه في حجري، فكان يقول شيئا في حال نزعه: لعن الله المعتزلة، موهوا ومخرقوا. وقال الحافظ أبو القاسم ابن عساكر، في كتاب تبيين كذب المفتري فيما نسب إلى الأشعري: فإذا كان أبو الحسن رحمه الله كما ذكر عنه من حسن الاعتقاد، مستصوب المذهب عند أهل المعرفة والانتقاد، موافقه في أكثر ما يذهب إليه أكابر العباد، ولا يقدح في مذهبه غير أهل الجهل والعناد، فلا بد أن يحكى عنه معتقده على وجهه بالأمانة، ليعلم حاله في صحة عقيدته في الديانة. فاسمع ما ذكره في كتابه الإبانة، فإنه قال: الحمد لله الجزء: 3 ¦ الصفحة: 127 الواحد العزيز، الماجد المتفرد بالتوحيد، المتمجد بالتمجيد، الذي لا تبلغه صفات العبيد، وليس له مثل ولا نديد، وساق خطبة رد فيها على المعتزلة والقدرية والجهمية والحرورية والرافضة والمرجئة، وبين فيها مخالفة المعتزلة لكتاب الله وسنة رسوله، وإجماع الصحابة ... إلى أن قال: فإن قال قائل: قد أنكرتم قول المعتزلة، والقدرية، والجهمية، والحرورية، والرافضة، والمرجئة، فعرفونا قولكم الذي به تقولون، وديانتكم التي بها تدينون؟ قيل له: قولنا الذي به نقول، وديانتنا التي بها ندين: التمسك بكتاب الله، وسنة نبيه صلى لله عليه وسلم، وما روي عن الصحابة، والتابعين، وأئمة الحديث; ونحن بذلك معتصمون، وبما كان عليه أحمد بن حنبل، نضر الله وجهه، قائلون، ولمن خالف قوله مجانبون، لأنه الإمام الفاضل، والرئيس الكامل، الذي أبان الله به الحق عند ظهور الضلال، وأوضح به المنهاج، وقمع به بدع المبتدعين، وزيغ الزائغين، وشك الشاكين; فرحمة الله عليه من إمام مقدم، وكبير مفهم، وعلى جميع أئمة المسلمين. وجملة قولنا: أنا نقر بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، وما جاء من عند الله، وما رواه الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا نرد من ذلك شيئا، وأن الله إله واحد أحد، فرد صمد، لا إله غيره، لم يتخذ صاحبة ولا ولدا، وأن محمدا عبده ورسوله; وأن الجنة حق، والنار حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 128 وأن الله يبعث من في القبور; وأن الله تعالى مستو على عرشه، كما قال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [سورة طه آية: 5] ، وأن له وجها كما قال: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ} [سورة الرحمن آية: 27] ، وأن له يدين كما قال: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [سورة المائدة آية: 64] ، وأن له عينين بلا كيف كما قال: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [سورة القمر آية: 14] ، وأن من زعم أن اسم الله غيره كان ضالا، وأن لله علما كما قال: {أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ} [سورة النساء آية: 166] . ونثبت لله قدرة، ونثبت له السمع، والبصر، ولا ننفي ذلك كما نفته المعتزلة، والخوارج، والجهمية; ونقول: إن كلام الله عز وجل غير مخلوق، وأنه لا يكون شيء في الأرض، من خير، أو شر إلا ما شاء الله، وأن أعمال العباد مخلوقة لله، مقدرة له، كما قال: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [سورة الصافات آية: 96] وأن الخير والشر بقضاء الله وقدره ونقول: إن القرآن كلام الله غير مخلوق، وأن من قال بخلق القرآن كان كافرا؛ وندين أن الله يرى بالأبصار يوم القيامة، كما يرى القمر ليلة البدر، يراه المؤمنون كما جاءت به الروايات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونقول: إن الكافرين - إذا رآه المؤمنون - هم عنه محجوبون، كما قال الله: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [سورة المطففين آية: 15] . ونقول: إن الإسلام أوسع من الإيمان، وليس كل إسلام إيمانا، وندين أن الله تعالى مقلب القلوب، وأن القلوب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 129 بين أصبعين من أصابعه، وأنه يضع السماوات على أصبع، والأرضين على أصبع كما جاءت الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص; ونصدق جميع الروايات التي رواها أهل النقل، من النّزول إلى سماء الدنيا، وأن الرب يقول: " هل من سائل؟ هل من مستغفر؟ "1، وسائر ما نقلوه وأثبتوه، خلافا لما قاله أهل الزيغ والتضليل; ولا نبتدع في دين الله بدعة لم يأذن الله بها، ولا نقول على الله ما لا نعلم. ونقول: إن الله يجيء يوم القيامة كما قال: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} [سورة الفجر آية: 22] ، وأن الله يقرب من عباده كيف شاء كما قال: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [سورة ق آية: 16] وكما قال: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} [سورة النجم آية: 8-9] ... إلى أن قال: ونرى مفارقة كل داعية إلى بدعة، ومجانبة أهل الأهواء، ونحتج لما ذكرناه من قولنا، وما بقي منه، بابا بابا، وشيئا شيئا. ثم قال ابن عساكر: فتأملوا رحمكم الله هذا الاعتقاد، ما أوضحه وأبينه، واعترفوا بفضل هذا الإمام الذي شرحه وبينه. انتهى; قال شمس الدين الذهبي رحمه الله: فلو انتهى أصحابنا المتكلمون، إلى مقالة أبي الحسن ولزموها، لأحسنوا، ولكنهم خاضوا كخوض حكماء الأوائل في الأشياء، ومشوا خلف المنطق، فلا حول ولا قوة إلا بالله. ذكر قول أبي الحسن علي بن مهدي الطبراني   1 مسلم: صلاة المسافرين وقصرها (758) , وأحمد (2/433 ,3/94) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 130 المتكلم، تلميذ الأشعري: قال في كتاب مشكل الآيات له في باب قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [سورة طه آية: 5] : اعلم أن الله فوق السماء، فوق كل شيء، مستو على عرشه بمعنى أنه عال عليه، ومعنى الاستواء: الاعتلاء، كما تقول العرب: استويت على ظهر الدابة، واستويت على السطح، بمعنى علوته، واستوت الشمس على رأسي، واستوى الطير على قمة رأسي، بمعنى علا في الجو، فوجد فوق رأسي; فالقديم جل جلاله، عال على عرشه، يدلك على أنه في السماء، عال على عرشه، قوله: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [سورة الملك آية: 16] ، وقوله: {يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [سورة آل عمران آية: 55] ، وزعم البلخي: أن استواء الله على العرش، هو الاستيلاء عليه مأخوذ من قول العرب: استوى بشر على العراق .... أي استولى عليها. قال: ويدل على أن الاستواء - هاهنا - ليس بالاستيلاء، لأنه لو كان كذلك لم يكن ينبغي أن يخص العرش بالاستيلاء عليه دون سائر خلقه، إذ هو مستول على العرش وعلى الخلق، ليس للعرش مزية على ما وصفته; فبان بذلك فساد قوله; ثم يقال له أيضا: إن الاستواء ليس هو الاستيلاء الذي هو من قول العرب: استوى فلان، أي: استولى، إذا تمكن بعد أن لم يكن متمكنا، فلما كان الباري عز وجل لا يوصف بالتمكن بعد أن لم يكن متمكنا، لم يصرف معنى الاستواء إلى الاستيلاء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 131 ثم قال: فإن قيل: ما تقولون في قوله: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [سورة الملك آية: 16] ؟ قيل له: معنى ذلك أنه فوق السماء على العرش كما قال: {فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ} [سورة التوبة آية: 2] بمعنى على الأرض، وقال: {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [سورة طه آية: 71] . فإن قيل: ما تقولون في قول الله تعالى: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ} [سورة الأنعام آية: 3] ؟ قيل له: إن بعض القراء يجعل الوقف في (السماوات) ثم يبتدئ: {وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ} [سورة الأنعام آية: 3] ، وكيفما كان، فلو أن قائلا قال: فلان بالشام والعراق، ملك، لدل على أن ملكه بالشام والعراق، لا أن ذاته فيهما. ذكر قول الإمام الزاهد: أبي عبد الله بن بطة، قال في كتاب الإبانة - وهو ثلاثة مجلدات -: باب الإيمان بأن الله على عرشه، بائن من خلقه، وعلمه محيط بخلقه. أجمع المسلمون من الصحابة والتابعين، على أن الله على عرشه، فوق سماواته، بائن من خلقه; فأما قوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ} [سورة الحديد آية: 4] فهو كما قالت العلماء، واحتج الجهمي بقوله: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} [سورة المجادلة آية: 7] فقال: معنا وفينا; وقد فسر العلماء أن ذلك علمه; ثم قال تعالى في آخرها: {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [سورة المجادلة آية: 7] . ثم إن ابن بطة سرد بأسانيده أقوال من قال إنه علمه، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 132 فذكره عن الضحاك، والثوري، ونعيم بن حماد، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه. وكان ابن بطة، من كبار الأئمة رضي الله عنه، سمع من البغوي وطبقته، وتوفي سنة سبع وثمانين وثلاثمائة. ذكر قول الإمام أبي محمد بن أبي زيد القيرواني، شيخ المالكية في وقته، قال في أول رسالته المشهورة، في مذهب الإمام مالك: وأنه تعالى فوق عرشه المجيد، بذاته، وأنه في كل مكان بعلمه، قال الإمام أبو بكر محمد بن وهب المالكي، شارح رسالة ابن أبي زيد، لما ذكر قوله - وأنه فوق عرشه المجيد -: معنى (فوق) و (على) واحد عند جميع العرب; ثم ساق الآيات، والأحاديث - إلى أن قال -: وقد تأتي لفظة (في) في لغة العرب، بمعنى (فوق) ، كقوله: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا} [سورة الملك آية: 15] {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [سورة الملك آية: 16] قال أهل التأويل، يريد فوقها; وهو قول مالك مما فهمه عن التابعين، مما فهموه عن الصحابة، مما فهموه عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله في السماء، يعني فوقها; فكذلك قال الشيخ أبو محمد، إنه فوق عرشه; ثم بين أن علوه فوق عرشه، إنما هو بذاته، بائن عن جميع خلقه، بلا كيف، وهو بكل مكان بعلمه، لا بذاته، فلا تحويه الأماكن، لأنه أعظم منها، انتهى كلام الشارح. وذكر ابن أبي زيد في كتابه المفرد في السنة تقرير الجزء: 3 ¦ الصفحة: 133 العلو، واستواء الرب على العرش بذاته، وقرره أتم تقرير; وقال في مختصر المدونة: وأنه تعالى فوق عرشه بذاته، فوق سماواته دون أرضه. قال الحافظ الذهبي، لما ذكر قول ابن أبي زيد: وأنه تعالى فوق عرشه المجيد بذاته، قد تقدم مثل هذه العبارة، عن أبي جعفر بن أبي شيبة، وعثمان بن سعيد الدارمي. وكذلك أطلقها يحيى بن عمار، واعظ سجستان في رسالته، والحافظ أبو نصر السجزي في كتاب الإبانة له، فإنه قال: وأئمتنا كالثوري، ومالك، والحمادين، وابن عيينة، وابن المبارك، والفضيل، وأحمد، وإسحاق، متفقون على أن الله فوق العرش بذاته، وأن علمه بكل مكان; وكذلك أطلقها ابن عبد البر، وكذا عبارة شيخ الإسلام: أبي إسماعيل الأنصاري، فإنه قال في أخبار شتى: إن الله في السماء السابعة، على العرش بنفسه، وكذا قال أبو الحسن الكرجي، الشافعي، تلك القصيدة: عقائدهم أن الإله بذاته على عرشه مع علمه بالغوائب وعلى هذه القصيدة مكتوب بخط العلامة تقي الدين ابن الصلاح: هذه عقيدة أهل السنة، وأصحاب الحديث وكذا أطلق هذه اللفظة: أحمد بن ثابت الطرقي الحافظ، والشيخ عبد القادر الجيلي، والفتى عبد العزيز القحيطي وطائفة، والله تعالى خالق كل شيء، ومدبر الخلائق بذاته، لا معين الجزء: 3 ¦ الصفحة: 134 ولا موازر وإنما أراد ابن أبي زيد وغيره التفرقة بين كونه معنا، وبين كونه فوق العرش، فهو معنا بالعلم، وهو على العرش، كما أعلمنا حيث يقول: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [سورة طه آية: 5] ، وقد تلفظ بالكلمة المذكورة جماعة من العلماء، كما قدمنا، وبلا ريب أن فضول الكلام تركه من حسن الإسلام; وكان ابن أبي زيد من العلماء العاملين بالمغرب، وكان يلقب بمالك الصغير، وكان غاية في معرفة الأصول، وقد نقموا عليه في قوله بذاته، فليته تركه، انتهى كلام الذهبي. ذكر قول القاضي أبي بكر ابن الطيب الباقلاني، الأشعري: قال في كتابه التمهيد في أصول الدين - وهو من أشهر كتبه -:فإن قال قائل: فهل تقولون إن الله في كل مكان؟ قلنا: معاذ الله، بل هو مستو على عرشه كما أخبر في كتابه، فقال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [سورة طه آية: 5] وقال: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ} [سورة الملك آية: 16] ، ولو كان في كل مكان لكان في جوف الإنسان، وفي فمه، وفي الحشوش، والمواضع القذرة، التي يرغب عن ذكرها، تعالى الله عن ذلك. ثم قال في قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ} [سورة الزخرف آية: 84] ، المراد: أنه إله عند أهل السماء، وإله عند أهل الأرض، كما تقول العرب: فلان الجزء: 3 ¦ الصفحة: 135 نبيل، مطاع في المصرين; أي: عند أهلهما، وليس يعنون أن ذات المذكور، بالحجاز والعراق موجودة; وقوله: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [سورة النحل آية: 128] يعني: بالحفظ، والنصر، والتأييد; ولم يرد أن ذاته معهم، تعالى; وقوله: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [سورة طه آية: 46] محمول على هذا التأويل; وقوله: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} [سورة المجادلة آية: 7] يعني أنه عالم بهم، وبما خفي من سرهم ونجواهم. وهذا إنما يستعمل كما ورد به القرآن، فلذلك لا يجوز أن يقال، قياسا على هذا: إن الله بالقيروان، ومدينة السلام، ودمشق، وإنه مع الثور، والحمار، وإنه مع الفساق، ومع المصعدين إلى حلوان، قياسا على قوله: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا} [سورة النحل آية: 128] فوجب: التأويل على ما وصفنا أولا، ولا يجوز أن يكون معنى استوائه على العرش هو استيلاؤه، كما قال الشاعر: قد استوى بشر على العراق ... .................. لأن الاستيلاء هو القدرة والقهر; والله تعالى لم يزل قادرا قاهرا; وقوله: {ثُمَّ اسْتَوَى} يقتضي: استفتاح هذا الوصف بعد أن لم يكن، فبطل ما قالوه. ثم قال: باب فإن قال قائل: ففصلوا لنا صفات ذاته من صفات أفعاله، لنعرف ذلك; قيل له: صفات الجزء: 3 ¦ الصفحة: 136 ذاته هي التي لم يزل، ولا يزال موصوفا بها، وهي: الحياة، والقدرة، والإرادة، والسمع، والبصر، والكلام، والبقاء، والوجه، واليدان، والعينان، والغضب، والرضاء; وصفات فعله، هي: الخلق، والرزق، والعدل، والإحسان، والتفضل، والإنعام، والثواب، والعقاب، والحشر، والنشر; وكل صفة كان موجودا قبل فعله لها; ثم ساق الكلام في الصفات. وقال في كتاب الذب عن أبي الحسن الأشعري: كذلك في قولنا، في جميع المروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في صفات الله; إذ صح من إثبات اليدين، والوجه، والعينين، ونقول: إن الله يأتي يوم القيامة في ظلل من الغمام وإنه يَنْزل إلى السماء الدنيا كما في الحديث، وإنه مستو على عرشه ... إلى أن قال: وقد بينا دين الأئمة وأهل السنة أن هذه الصفات تمر كما جاءت بغير تكييف ولا تحديد ولا تجنيس، ولا تصوير، كما روي عن الزهري، عن مالك في الاستواء، فمن تجاوز هذا، فقد تعدى، وابتدع، وضل. انتهى. قال الحافظ شمس الدين الذهبي - لما ذكر كلامه هذا - فهذا: نص هذا الإمام، وأين مثله في تبحره، وذكائه، وتبصره بالملل والنحل؟ فلقد امتلأ الوجود بقوم لا يدرون ما السلف، ولا يعرفون إلا السلب، ونفي الصفات وردها، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 137 صم، بكم، غتم، عجم، يدعون إلى العقل، ولا يكونون على النقل; فإنا لله وإنا إليه راجعون. ذكر قول الإمام أبي عمر: محمد بن عبد الله الأندلسي الطلمنكي المالكي: قال في كتاب الأصول - وهو مجلدان -: أجمع المسلمون من أهل السنة أن الله استوى على عرشه بذاته. وقال في هذا الكتاب أيضا: أجمع أهل السنة أن الله على العرش على الحقيقة، لا على المجاز; ثم ساق بسنده عن مالك، قوله: الله في السماء، وعلمه في كل مكان; ثم قال في هذا الكتاب: وأجمع المسلمون من أهل السنه، على أن معنى قوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [سورة الحديد آية: 4] ونحو ذلك من القرآن، أن ذلك علمه، فإن الله فوق السماوات بذاته، مستو على عرشه كيف شاء، هذا لفظه في كتابه. فانظر إلى حكاية إجماع المسلمين من أهل السنة، على أن الله استوى على عرشه بذاته، وأطلق هذه اللفظة غير واحد من أئمة السنة، وحكاها كثير من العلماء عن الأئمة الكبار، كما تقدم عن الحافظ أبي نصر السجزي وغيره; فكيف نقموها على ابن أبي زيد وحده لما ذكرها في رسالته؟ ! كما ذكره الذهبي; وكان الطلمنكي هذا من كبار الحفاظ، وأئمة القراء بالأندلس، عاش بضعا وثمانين سنة، وتوفي سنة تسع وعشرين وأربعمائة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 138 ذكر قول شيخ الإسلام أبي عثمان إسماعيل بن عبد الرحمن النيسابوري الصابوني: قال في رسالته في السنة: ويعتقد أصحاب الحديث ويشهدون أن الله فوق سبع سماواته، على عرشه، كما نطق به كتابه، وعلماء الأمة، وأعيان الأئمة من السلف، لم يختلفوا أن الله على عرشه، وعرشه فوق سماواته، وإمامنا الشافعي احتج في المبسوط، في مسألة إعتاق الرقبة المؤمنة في الكفارة بخبر معاوية بن الحكم: "فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمة السوداء، ليعرف أمؤمنة أم لا، فقال لها: أين ربك؟ فأشارت إلى السماء، إذ كانت أعجمية، فقال: أعتقها فإنها مؤمنة "، حكم بإيمانها لما أقرت بأن ربها في السماء، وعرفت ربها بصفة العلو والفوقية. كان الصابوني هذا: فقيها محدثا، وصوفيا واعظا، كان شيخ نيسابور في زمانه، له تصانيف حسنة، سمع من أصحاب ابن خزيمة، والسراج، وتوفي سنة تسع وأربعين وأربعمائة. ذكر قول الإمام، العالم العلامة، حافظ المغرب، إمام السنة في زمانه، أبي عمر يوسف بن عبد الله بن عبد البر النمري الأندلسي، صاحب التمهيد والاستذكار، والتصانيف النفيسة. قال في كتاب التمهيد في شرح الحديث الثامن لابن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 139 شهاب: حديث النّزول هذا صحيح الإسناد لا يختلف أهل الحديث في صحته وفيه دليل على أن الله عز وجل في السماء، على العرش من فوق سبع سماوات كما قالت الجماعة، وهو حجتهم على المعتزلة والجهمية في قولهم: إن الله في كل مكان وليس على العرش. والدليل على صحة ما قاله أهل الحق في ذلك قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [سورة طه آية: 5] ، وقوله: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [سورة الملك آية: 16] ، ومعنى: {مَنْ فِي السَّمَاءِ} يعني على العرش، وقد تكون (في) بمعنى (على) ، ألا ترى إلى قوله: {فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ} [سورة التوبة آية: 2] أي: على الأرض، وكذلك قوله: {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [سورة طه آية: 71] ، وهذا يعضده قوله: {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [سورة المعارج آية: 4] وما كان مثله في الآيات، وهذه الآيات كلها واضحات في إبطال قول المعتزلة. وأما دعواهم المجاز في الاستواء، وقولهم في تأويل استوى: استولى، فلا معنى له، لأنه غير ظاهر في اللغة، ومعنى الاستيلاء في اللغة: المغالبة، والله لا يغلبه أحد، ومن حق الكلام أن يحمل على الحقيقة، حتى تتفق الأمة أنه أريد به المجاز، إذ لا سبيل إلى اتباع ما أنزل إلينا من ربنا إلا على ذلك، ولو ساغ ادعاء المجاز لكل مدع، ما ثبت شيء من العبادات، وجل الله أن يخاطب الأمة إلا بما تفهمه العرب، من معهود مخاطباتها، مما يصح معناه عند الجزء: 3 ¦ الصفحة: 140 السامعين. والاستواء معلوم في اللغة مفهوم، وهو: العلو والارتفاع على الشيء، والاستقرار، والتمكن فيه، قال أبو عبيدة في قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [سورة طه آية: 5] قال: علا، وتقول العرب: استويت فوق الدابة، واستويت فوق البيت، وقال غيره: استوى أي: استقر، واحتج بقوله: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى} [سورة القصص آية: 14] أي: انتهى شبابه واستقر، فلم يكن في شبابه مزيد; قال ابن عبد البر: والاستواء الاستقرار في العلو، وبهذا خاطبنا الله عز وجل فقال: {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ} [سورة الزخرف آية: 13] الآية، وقال: {فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ} [سورة المؤمنون آية: 28] ، وقال: {وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ} [سورة هود آية: 44] . وأما من نزع منهم بحديث يرويه عبد الله بن داود الواسطي، عن إبراهيم بن عبد الصمد، عن عبد الله بن مجاهد عن أبيه، عن ابن عباس، في قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [سورة طه آية: 5] استولى على جميع بريته، فلا يخلو منه مكان. فالجواب: أن هذا حديث منكر، ونقلته مجهولون، ضعفاء; فأما عبد الله بن داود الواسطي، وابن مجاهد، فضعيفان، وإبراهيم بن عبد الصمد مجهول لا يعرف; وهم لا يقبلون أخبار الآحاد العدول، فكيف يسوغ لهم الاحتجاج بمثل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 141 هذا الحديث لو عقلوا؟! أما سمعوا قول الله تعالى: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِباً} [سورة آية: 36] فدل على أن موسى عليه السلام كان يقول: إلهي في السماء، وفرعون يظنه كاذبا. فإن احتج بقوله: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ} [سورة الزخرف آية: 84] وبقوله: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ} [سورة الأنعام آية: 3] ، وبقوله: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} [سورة المجادلة آية: 7] ، زعموا أن الله في كل مكان بنفسه، وبذاته، تبارك اسمه وتعالى جده. قيل لهم: لا خلاف بيننا وبينكم، وبين سائر الأمة أنه ليس في الأرض دون السماء بذاته، فوجب حمل هذه الآيات، على المعنى الصحيح المجمع عليه، وذلك: أنه في السماء إله معبود أهل السماء، وفي الأرض إله معبود أهل الأرض، وكذا قال أهل العلم بالتفسير، وظاهر التّنْزيل، يشهد أنه على العرش; فالاختلاف في ذلك ساقط، وأسعد الناس به من ساعده الظاهر; وأما قوله في الآية الأخرى: {وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ} [سورة الزخرف آية: 84] ، فالإجماع والاتفاق قد بين أن المراد بأنه معبود أهل الأرض، فتدبر هذا فإنه قاطع. ومن الحجة أيضا: في أنه عز وجل على العرش، فوق السماوات السبع، أن الموحدين أجمعين، من العرب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 142 والعجم، إذا كربهم أمر ونزلت بهم شدة، رفعوا وجوههم إلى السماء، ونصبوا أيديهم رافعين لها، مشيرين بها إلى السماء، يستغيثون الله ربهم تبارك وتعالى; هذا أشهر وأعرف عند الخاصة والعامة، من أن يحتاج إلى أكثر من حكايته; وقد " قال صلى الله عليه وسلم للأمة السوداء: أين الله؟ فأشارت إلى السماء، ثم قال لها: من أنا؟ قالت رسول الله، قال: فأعتقها، فإنها مؤمنة "1 فاكتفى رسول الله صلى الله عليه وسلم منها برفعها رأسها إلى السماء. قال: وأما احتجاجهم بقوله: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} [سورة المجادلة آية: 7] ، فلا حجة لهم في ظاهر هذه الآية، قال: هو على العرش، وعلمه في كل مكان، وذكر سنيد عن الضحاك في هذه الآية، قال: هو على العرش، وعلمه معهم أينما كانوا; قال: وبلغني عن سفيان الثوري مثله; وقال عبد الله بن مسعود: "ما بين السماء والأرض، مسيرة خمسمائة عام، وما بين كل سماء إلى أخرى مسيرة خمسمائة عام، وما بين السماء السابعة إلى الكرسي مسيرة خمسمائة عام، وما بين الكرسي إلى الماء، مسيرة خمسمائة عام، والعرش فوق الماء، والله تبارك وتعالى على العرش، يعلم أعمالكم" وقد ذكر هذا الكلام، أو قريبا منه، في كتاب الاستذكار. وقال أبو عمر أيضا: أجمع علماء الصحابة والتابعين، الذين حمل عنهم التأويل، قالوا في تأويل قوله تعالى: {مَا   1 أبو داود: الأيمان والنذور (3284) , وأحمد (2/291) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 143 يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} [سورة المجادلة آية: 7] هو على العرش، وعلمه في كل مكان; وما خالفهم في ذلك أحد يحتج بقوله، وقال أيضا: أهل السنة مجمعون، على الإقرار بالصفات، الواردة في الكتاب والسنة، وحملها على الحقيقة، لا على المجاز، إلا أنهم لم يكيفوا شيئا من ذلك. وأما الجهمية، والمعتزلة، والخوارج، فكلهم ينكرها، ولا يحمل منها شيئا على الحقيقة; ويزعمون: أن من أقر بها مشبه; وهم عند من أقر بها نافون للمعبود; قال الحافظ الذهبي: صدق والله، فإن من تأول سائر الصفات، وحمل ما ورد منها على مجاز الكلام، أداه ذلك السلب إلى تعطيل الرب، وأن يشابه المعدوم ولقد كان أبو عمر بن عبد البر، من بحور العلم، ومن أئمة الأثر، قل أن ترى العيون مثله; واشتهر فضله في الأقطار، مات سنة ثلاث وستين وأربعمائة، عن ست وسبعين سنة. ذكر قول الإمام أبي القاسم عبد الله بن خلف المقري الأندلسي: قال في شرح الملخص - لما ذكر حديث النّزول -: وفي هذا الحديث دليل على أنه تعالى في السماء على العرش فوق سبع سماوات من غير مماسة1 ولا تكييف كما قال أهل العلم، ودليل قولهم قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [سورة طه آية: 5] ، وقوله: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ}   1 لفظ المماسة مبتدع, لم يرد بنفيه ولا إثباته كتاب ولا سنة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 144 [سورة الأعراف آية: 54] ، وقوله: {لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ} [سورة المعارج آية: 2-3] والعروج هو الصعود; قال مالك بن أنس: الله عز وجل في السماء، وعلمه في كل مكان، لا يخلو من علمه مكان; يريد بقوله: في السماء أي: على السماء - إلى أن قال -: وكل ما قدمت دليل واضح في إبطال قول من قال بالمجاز في الاستواء; وأن الاستواء بمعنى الاستيلاء; لأن الاستيلاء في اللغة بعد المغالبة، والله لا يغالبه أحد; ومن حق الكلام أن يحمل على حقيقته، حتى تتفق الأمة على أنه أريد به المجاز، إذ لا سبيل إلى اتباع ما أنزل إلينا من ربنا إلا على ذلك; وإنما يوجه كلام الله إلى الأشهر والأظهر من وجوهه، ما لم يمنع ادعاء ذلك ما يجب التسليم له; ولو ساغ ادعاء المجاز لكل مدع ما ثبت شيء من العبادات، وجل الله أن يخاطب إلا بما تفهمه العرب في معهود مخاطباتها، مما يصح معناه عند السامعين; والاستواء معلوم في اللغة، وهو العلو والارتفاع، والتمكن في الشيء. فإن احتج أحد عليه وقال: لو كان كذلك لأشبه المخلوقات، لأن ما أحاطت به الأمكنة، واحتوت فهو مخلوق; قيل: لا يلزم ذلك، لأنه تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [سورة الشورى آية: 11] ، ولأنه لا يقاس بخلقه، كان قبل الأمكنة; وقد صح في العقول وثبت بالدلائل أنه كان في الأزل، لا في مكان، وليس بمعدوم، فكيف يقاس على شيء من خلقه؟ ! أو يجري الجزء: 3 ¦ الصفحة: 145 بينه وبينهم تمثيل، أو تشبيه؟ تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا. فإن قال قائل: وصفنا ربنا بأنه كان في الأزل لا في مكان، ثم خلق الله الأماكن، فصار في مكان; وفي ذلك إقرار منا بالتغيير والانتقال، إذا زال عن صفته في الأزل، صار في مكان دون مكان، قيل له: وكذلك زعمت أنت أنه كان لا في مكان، ثم صار في كل مكان، فقد تغير عندك معبودك، وانتقل من لا مكان إلى كل مكان، فإن قال: إنه في الأزل في كل مكان كما هو الآن; فقد أوجد الأشياء والأماكن معه في أزليته، وهذا فاسد. فإن قال: فهل يجوز عندك أن ينتقل من لا مكان في الأزل إلى مكان؟ ! قيل له: أما الانتقال وتغير الحال، فلا سبيل إلى إطلاق ذلك عليه، لأن كونه في الأزل لا يوجب مكانا، وكذلك نقلته لا توجب مكانا، وليس هو في ذلك كالخلق، ولكنا نقول: استوى من لا مكان، ولا نقول انتقل، وإن كان المعنى في ذلك واحد، كما نقول: له عرش، ولا نقول له سرير; ونقول: هو الحليم، ولا نقول هو العاقل; ونقول: خليل إبراهيم، ولا نقول صديق إبراهيم; لأنا لا نسميه، ولا نصفه، ولا نطلق عليه إلا ما سمى به نفسه، ولا ندفع ما وصف به نفسه، لأنه دفع للقرآن. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 146 ذكر قول الحافظ: أبي بكر الخطيب رحمه الله تعالى قال: أما الكلام في الصفات، فمذهب السلف: إثباتها وإجراؤها على ظواهرها، ونفي الكيفية والتشبيه عنها، والكلام في الصفات فرع على الكلام في الذات، ويحتذي في ذلك حذوه ومثاله; فإذا كان إثبات رب العالمين معلوما، فإنما هو إثبات وجود، لا إثبات تحديد وتكييف، فكذلك إثبات صفاته، إنما هو إثبات وجود لا إثبات تحديد وتكييف; فإذا قلنا: يد، وسمع، وبصر، فإنما هو إثبات صفات أثبتها الله لنفسه، ولا نقول إن معنى اليد: القدرة، ولا أن معنى، السمع، والبصر: العلم; ولا نقول: إنها جوارح وأدوات للفعل، ولا تشبه بالأيدي، والأسماع، والأبصار التي هي جوارح، ونقول: إنما وجب إثباتها لأن التوقيف ورد بها، ووجب نفي التشبيه عنها، لقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [سورة الشورى آية: 11] ، وقوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [سورة الإخلاص آية: 4] . انتهى. قال الحافظ الذهبي: المراد بظاهرها أي: لا باطن لألفاظ الكتاب والسنة، غير ما وضعت له; كما قال مالك وغيره: الاستواء معلوم; وكذلك القول في السمع، والبصر، والكلام، والإرادة، والوجه، ونحو ذلك، هذه الأشياء معلومة فلا تحتاج إلى بيان وتفسير، لكن الكيف في الجزء: 3 ¦ الصفحة: 147 جميعها مجهول عندنا; قال: والمتأخرون من أهل النظر قالوا مقالة مولدة، ما علمت أحدا سبقهم إليها; قالوا: هذه الصفات تمر كما جاءت ولا تؤول، مع اعتقاد أن ظاهرها غير مراد. فتفرع من هذا أن الظاهر يعنى به أمران: أحدهما: أنه لا تأويل غير دلالة الخطاب، كما قال السلف: الاستواء معلوم; وكما قال سفيان، وغيره: قراءتها تفسيرها، يعني أنها بينة معروفة، واضحة في اللغة، لا يبتغى بها مضائق التأويل والتحريف، وهذا مذهب السلف، مع اتفاقهم أنها لا تشبه صفات البشر بوجه، إذ الباري لا مثل له في ذاته ولا في صفاته. الثاني: أن ظاهرها هو الذي يتشكل في الخيال من الصفة، كما يتشكل في الذهن من وصف البشر، فهذا غير مراد; فإن الله فرد صمد ليس له نظير، وإن تعددت صفاته فإنها حق، ولكنها ما لها مثل ولا نظير، فمن الذي عاينه ونعته لنا؟ والله إنا لعاجزون، كالون، حائرون، باهتون، في حد الروح التي فينا، وكيف تعرج كل ليلة، إذا توفاها باريها، وكيف يرسلها، وكيف تنتقل بعد الموت؟ وكيف حياة الشهيد المرزوق عند ربه بعد قتله؟ وكيف حياة النبيين الآن؟ وكيف شاهد النبي صلى الله عليه وسلم أخاه موسى يصلي في قبره؟ ثم رآه في السماء السادسة، وحاوره، وأشار إليه بمراجعة رب العالمين، وطلب التخفيف منه؟ وكيف ناظر موسى أباه آدم؟ وحجه آدم بالقدر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 148 السابق؟ وبأن اللوم بعد التوبة وقبولها لا فائدة فيه؟ وكذلك نعجز عن وصف هيئاتنا في الجنة، ووصف الحور العين، فكيف بنا إذا انتقلنا إلى الملائكة وذواتهم، وكيفيتها، وأن بعضهم يمكنه أن يلتقم الدنيا في لقمة، مع رونقهم، وحسنهم، وصفاء جوهرهم النوراني؟ فالله أعلى وأعظم; وله المثل الأعلى، والكمال المطلق، ولا مثل له، وأصلا: {آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [سورة آل عمران آية: 52] . انتهى كلام الذهبي; توفي الخطيب سنة ثلاث وستين وأربعمائة، ولم يكن ببغداد مثله في معرفة هذا الشأن. ذكر قول الإمام عالم المشرق أبي المعالي عبد الملك بن عبد الله الجويني الشافعي. قال في كتاب الرسالة النظامية: اختلف مسالك العلماء في هذه الظواهر، فرأى بعضهم: تأويلها والتزام ذلك في آي الكتاب، وما يصح من السنن; وذهب أئمة السلف إلى الانكفاف عن التأويل، وإجراء الظواهر على مواردها، وتفويض معانيها إلى الرب عز وجل، والذي نرتضيه دينا، وندين الله به عقيدة: اتباع سلف الأمة، والدليل القاطع السمعي في ذلك، وأن إجماع الأمة حجة متبعة، فلو كان تأويل هذه الظواهر مسوغا أو محتوما، لأوشك أن يكون اهتمامهم بها فوق اهتمامهم بفروع الشريعة. وإذا انصرم عصر الصحابة والتابعين على الإضراب عن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 149 التأويل، كان ذلك هو الوجه المتبع، فلتجر آية الاستواء، وآية المجيء، وقوله: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [سورة ص آية: 75] على ذلك. قال الإمام أبو الفتح محمد بن علي: دخلنا على الإمام أبي المعالي الجويني نعوده في مرض موته، فقال لنا: اشهدوا علي أني قد رجعت عن كل مقالة قلتها أخالف فيها ما قال السلف الصالح، وإني أموت على ما تموت عليه عجائز نيسابور; توفي إمام الحرمين سنة ثمان وسبعين وأربعمائة، وله ستون سنة، وكان من بحور العلم في الأصول والفروع، يتوقد ذكاء. ذكر قول الإمام الحافظ أبي القاسم إسماعيل بن محمد بن الفضل التيمي الإصبهاني مصنف كتاب: الترغيب والترهيب: قال في كتاب الحجة: قال علماء السنة: إن الله عز وجل على عرشه، بائن من خلقه وقالت المعتزلة: هو بذاته في كل مكان. قال: وروي عن ابن عباس، في تفسير قوله: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} [سورة المجادلة آية: 7] قال: هو على عرشه، وعلمه في كل مكان، ثم ساق الآثار; قال: وزعم هؤلاء، أن معنى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [سورة طه آية: 5] أي ملكه، وأنه لا اختصاص له بالعرش أكثر مما له بالأمكنة، وهذا إلغاء لتخصيص العرش وتشريفه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 150 قال أهل السنة: استوى على العرش، بعد خلق السماوات والأرض، على ما ورد به النص، وليس معناه: المماسة، بل هو مستو على عرشه بلا كيف، كما أخبر عن نفسه; قال: وزعم هؤلاء، أنه لا يجوز الإشارة إلى الله بالرؤوس، والأصابع، فإن ذلك يوجب التحديد؛ وأجمع المسلمون على أن الله هو العلي الأعلى، ونطق بذلك القرآن، فزعم هؤلاء، أن ذلك بمعنى: علو الغلبة، لا علو الذات; وعند المسلمين إن لله علو الغلبة، والعلو من سائر وجوه العلو; لأن العلو صفة مدح، فثبت أن لله تعالى علو الذات، وعلو الصفات، وعلو القهر والغلبة. وفي منعهم الإشارة إلى الله تعالى من جهة الفوق، خلاف لسائر الملل لأن جماهير المسلمين وقع منهم الإجماع على الإشارة إلى الله من جهة الفوق في الدعاء والسؤال واتفاقهم بأجمعهم على ذلك حجة وقد أخبر عن فرعون أنه قال: {يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى} [سورة آية: 36-37] فكان فرعون قد فهم عن موسى أنه يثبت إلها فوق السماء، حتى رام بصرحه أن يطلع إليه; واتهم موسى بالكذب في ذلك; والجهمية لا تعلم أن الله فوقها بوجود ذاته، فهم أعجز فهما من فرعون، بل وأضل; وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه حكم بإيمان الجارية حين قالت: إن الله في السماء، وحكم الجهمي بكفر من يقول ذلك. انتهى كلام أبي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 151 القاسم رحمه الله، توفي سنة خمس وثلاثين وخمسمائة. ذكر كلام الإمام العالم العلامة أبي عبد الله القرطبي، صاحب التفسير الكبير. قال في تفسير قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [سورة الأعراف آية: 54] : هذه مسألة: قد بينا فيها كلام العلماء في كتاب الأسني في شرح الأسماء الحسنى، وذكرنا فيها أربعة عشر قولا ... إلى أن قال: وقد كان السلف الأول رضي الله عنهم لا يقولون بنفي الجهة ولا ينطقون بذلك، بل نطقوا هم والكافة بإثباتها لله تعالى كما نطق كتابه وأخبرت رسله، ولم ينكر أحد من السلف الصالح أنه استوى على العرش حقيقة، وخص عرشه بذلك لأنه أعظم المخلوقات، وإنما جهلوا كيفية الاستواء، فإنه لا تعلم حقيقته، كما قال الإمام مالك: الاستواء معلوم - يعني في اللغة - والكيف مجهول، والسؤال عن ذلك بدعة. قال الحافظ الذهبي: وقال القرطبي أيضا في الاستواء: الأكثر من المتقدمين، والمتأخرين المتكلمين يقولون: إذا وجب تنْزيه الباري جل جلاله عن الجهة والتحيز فمن ضرورة ذلك ولواحقه اللازمة أنه متى اختص بجهة، أن يكون في مكان وحيز، ويلزم على المكان والحيز الحركة والسكون للتحيز والتغير والحدوث; هذا قول المتكلمين. ثم قال الذهبي: قلت: نعم، هذا ما اعتمده نفاة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 152 الرب عز وجل، أعرضوا عن الكتاب والسنة وأقوال السلف، وفطر الخلائق; وإنما يلزم ما ذكروه في حق الأجسام، والله تعالى لا مثل له، ولازم صرائح النصوص حق، ولكنا لا نطلق عبارة إلا بأثر. ثم نقول: لا نسلم أن كون الباري على عرشه فوق السماوات يلزم منه أنه في حيز وجهة، إذ ما دون العرش يقال فيه حيز وجهات، وما فوقه فليس هو كذلك، والله فوق عرشه كما أجمع عليه الصدر الأول، ونقله عنهم الأئمة، وقالوا ذلك رادين على الجهمية القائلين بأنه في كل مكان، محتجين بقوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ} [سورة الحديد آية: 4] ؛ فهذان القولان هما اللذان كانا في زمن التابعين وتابعيهم. فأما القول الثالث المتولد بآخره بأنه تعالى ليس في الأمكنة، ولا خارجا عنها، ولا فوق عرشه، ولا هو متصل بالخلق، ولا بمنفصل عنهم، ولا ذاته المقدسة متميزة، ولا بائنةعن مخلوقاته، ولا في الجهات، ولا خارجا عن الجهات، ولا، ولا، فهذا شيء لا يعقل ولا يفهم، مع ما فيه من مخالفات الآيات والأخبار؛ ففر بدينك، وإياك وآراء المتكلمين؛ وآمن بالله وما جاء عن الله على مراد الله، وفوض أمرك إلى الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله. انتهى كلام الذهبي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 153 ذكر قول الإمام محيي السنة: أبي محمد الحسين بن مسعود البغوي، صاحب معالم التنْزيل، قال عند قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [سورة الأعراف آية: 54] : قال الكلبي ومقاتل: استقر; وقال أبو عبيدة: صعد; وأولت المعتزلة الاستواء بالاستيلاء; وأما أهل السنة فيقولون: الاستواء على العرش صفة الله بلا كيف يجب الإيمان به، وقال في قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} [سورة البقرة آية: 29] : قال ابن عباس وأكثر المفسرين من السلف: ارتفع إلى السماء وقال في قوله: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} [سورة البقرة آية: 210] : الأولى في هذه الآية وما شاكلها أن يؤمن الإنسان بظاهرها، ويكل علمها إلى الله ويعتقد أن الله منَزّه عن سمات الحدوث؛ على ذلك مضت أئمة السلف وعلماء السنة. وقال في قوله: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} [سورة المجادلة آية: 7] : بالعلم. كان محيي السنة من كبار أئمة مذهب الشافعي، زاهدا ورعا، توفي سنة عشر وخمسمائة، وقد قارب الثمانين. قال الحافظ الذهبي - لما ذكر قول الكلبي، ومقاتل المتقدم -: لا يعجبني قوله: استقر; بل أقول كما قال الإمام مالك: الاستواء معلوم. انتهى كلامه رحمه الله. وهذا الذي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 154 حكاه البغوي عن الكلبي ومقاتل، ذكره ابن جرير، في قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [سورة طه آية: 5] قال: ارتفع وعلا، وقال الشيخ أبو العباس بن تيمية رحمه الله: وقد علم أن بين مسمى الاستواء، والاستقرار، والقعود، فروقا معروفة. ذكر قول الإمام، العالم العلامة، الحافظ عماد الدين إسماعيل بن عمر بن كثير: قال في تفسيره في سورة الأعراف: وأما قوله: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [سورة الأعراف آية: 54] ، فللناس في ذلك المقام مقالات كثيرة جدا، ليس هذا موضع بسطها، وإنما نسلك في هذا المقام مذهب السلف الصالح: مالك، والأوزاعي، والثوري، والليث بن سعد، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وغيرهم من أئمة المسلمين، قديما وحديثا، وهو: إمرارها كما جاءت، من غير تكييف، ولا تشبيه، ولا تعطيل; والظاهر المتبادر إلى أذهان المشبهين منفي عن الله، فإن الله لا يشبهه شيء من خلقه; و {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [سورة الشورى آية: 11] . بل الأمر كما قال الأئمة، منهم نعيم بن حماد الخزاعي، شيخ البخاري: من شبه الله بخلقه فقد كفر، وليس فيما وصف الله به نفسه ولا رسوله تشبيها; فمن أثبت لله تعالى ما وردت به الآيات الصريحة والأخبار الصحيحة، على الوجه الذي يليق بجلال الله تعالى، ونفى عن الله النقائص، فقد سلك سبيل الهدى. انتهى كلام الحافظ ابن كثير، وفيما نقلناه من كلام الأئمة خير كثير. ولو تتبعنا كلام العلماء في الجزء: 3 ¦ الصفحة: 155 هذا الباب، لحصل منه مجلد كبير. وقد أضربنا عن كلام الحنابلة صفحا، فلم ننقل منه إلا اليسير، لأنه قد اشتهر عنهم إثبات الصفات، ونفي التكييفات; فمذهبهم بين الناس مشهور، وفي كتبهم مسطور، وكلامهم في هذا الباب أشهر من أن يذكر، وأكثر من أن يسطر، ولهذا كان أهل البدع يسمونهم الحشوية، لأنهم قد أبطلوا التأويل، واتبعوا ظاهر التَنْزيل، وخالفوا أهل البدع والتأويل. وأما غيرهم من أهل المذاهب، فكثير منهم قد خالفوا طريقة السلف، وسلكوا مسلك الخلف; فلهذا نقلنا كلام أئمة الحنفية، والمالكية، والشافعية، وأئمة أهل الكلام، كابن كلاب، والأشعري، وأبي الحسن بن مهدي، والباقلاني، ليعلم الواقف على ذلك، أن هؤلاء الأئمة متبعون للسلف، يثبتون لله الصفات، وينفون عنه مشابهة المخلوقات، ويعرف أن هذا الاعتقاد الذي حكيناه عن شيخنا محمد بن عبد الوهاب وأتباعه، هو الاعتقاد الحق الذي دل عليه الكتاب والسنة، وكلام الصحابة وسائر الأمة. فنحن لا نصف الله إلا بما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله; لا نتجاوز القرآن والحديث؛ وما تأوله السابقون الأولون تأولناه، وما أمسكوا عنه أمسكنا عنه; ونعلم أن الله سبحانه ليس كمثله شيء، لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، فكما نتيقن أن الله سبحانه له ذات حقيقة، وله الجزء: 3 ¦ الصفحة: 156 أفعال حقيقة، فكذلك له صفات حقيقة، وليس كمثله شيء، وكل ما أوجب نقصا أو حدوثا، فإن الله منَزّه عنه حقيقة; فإنه سبحانه مستحق للكمال الذي لا غاية فوقه، ويمتنع الحدوث لامتناع العدم عليه; فلا نمثل صفات الله بصفات الخلق، كما أنا لا نمثل ذاته بذات الخلق، ولا ننفي عنه ما وصف به نفسه، ولا نعطل أسماءه الحسنى وصفاته العلى; بخلاف ما عليه أهل التعطيل والتمثيل. فالمعطلون لم يفهموا من صفات الله إلا ما هو اللائق بالمخلوق، فشرعوا في نفي تلك المفهومات بأنواع التأويل، فعطلوا حقائق الأسماء والصفات، وشبهوا الرب تبارك وتعالى بالجمادات العارية عن صفات الكمال ونعوت الجلال; فجمعوا بين التعطيل والتمثيل; عطلوا أولا، ومثلوا آخرا; والممثلون عطلوا حقيقة ما وصف الله به نفسه من صفات الكمال ونعوت الجلال; وشبهوا صفاته بصفات خلقه; فمثلوا أولا، وعطلوا آخرا. فمن فهم من نصوص الكتاب والسنة في صفات الرب جل وعلا ما يفهمه من صفات المخلوقين، فقد ضل في عقله ودينه، وشبه الله بخلقه، تعالى الله عما يقول الظالمون والجاحدون علوا كبيرا {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [سورة الشورى آية: 11] . ومن نفى ظاهر النصوص، وزعم أنه ليس لها في الباطن مدلول، هو صفة لله، وأن الله لا صفة له ثبوتية، أو يثبت بعض الصفات كالصفات السبع، ويؤول ما عداها، كقوله: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 157 استوى بمعنى استولى، أو بمعنى علو المكانة والقدر، وكقوله: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [سورة المائدة آية: 64] أي: نعمتاه، نعمة الدنيا، ونعمة الآخرة، ونحو ذلك مما قد عرف من مذهب المتكلمين، فهؤلاء نفاة الصفات. ومذهبهم مأخوذ عن جهم بن صفوان؛ فإن أول من حفظ عنه إنكار الصفات هو الجعد بن درهم، وأخذها عنه الجهم بن صفوان وأظهرها، فنسبت مقالة الجهمية إليه; والجعد أخذ مقالته عن أبان بن سمعان، وأخذها أبان عن طالوت ابن أخت لبيد بن الأعصم، وأخذها طالوت عن لبيد بن الأعصم اليهودي الساحر الذي سحر النبي صلى الله عليه وسلم. وكان انتشار مقالة الجهمية في المائة الثانية بسبب بشر بن غياث المريسي وطبقته; وكلام الأئمة، مثل مالك، وسفيان بن عيينة، وأبي يوسف، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وغيرهم، في ذمه وتضليله كثير جدا. وهذه التأويلات الموجودة اليوم بأيدي الناس، هي بعينها التأويلات التي ذكرها بشر المريسي في كتابه، وتلقاها عنه الخلف، ونصروها، وقرروها; وكثير منهم يحكي القولين، فيذكر مذهب السلف ومذهب الخلف; ثم يقول: مذهب السلف أسلم، ومذهب الخلف أعلم وأحكم، فصدق في قوله: مذهب السلف أسلم; وكذب وافترى في قوله: ومذهب الخلف أعلم وأحكم; بل مذهب السلف أسلم، وأعلم، وأحكم، كما تقدم تقريره. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 158 فنسأل الله أن يهدينا وإخواننا إلى الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم، من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين; وأن يجنبنا طريق المنحرفين عن المنهج القويم، من المغضوب عليهم والضالين، وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه، وسلم تسليما كثيرا. [جواب الشيخ عبد الرحمن بن حسن في الصفات] سئل الشيخ: عبد الرحمن بن حسن، رحمه الله تعالى، عما وصف الله به نفسه، ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم من صفات الكمال ونعوت الجلال، هل يقال في جميعها: صفات قائمة بالذات فقط؟ أو يقال ذلك في بعضها؟ ويقال في بعضها: صفات أفعال؟ فأجاب: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، يظهر بذكر ما كان عليه السلف الصالح، رضي الله عنهم، ومتبوعيهم من أهل السنة والجماعة، وذكر اختلاف مَنْ بعد السلف في الأفعال الاختيارية، فنقول: اعلم أن السلف رضي الله عنهم، من الصحابة والتابعين وأتباعهم، لا يرون توسعة الكلام في ذلك، لما قام في قلوبهم من معرفة الله بأسمائه وصفاته; ولم يكونوا يتحاشون عن إثبات ما وصف الله به نفسه، ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم على ما يليق بالله سبحانه، تمسكا بالقرآن والأثر; فلا يشبهون الله بخلقه، ولا يحرفون معاني أسمائه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 159 وصفاته بلا علم. وعلى هذا أئمة الإسلام بعدهم، كالأئمة الأربعة ومن في طبقتهم، ومن بعدهم من أئمة الحديث وغيرهم ممن سلك سبيلهم في العلم والدين، كما ينقله العلماء رحمهم الله ويروونه، كالأثرم صاحب الإمام أحمد، في كتاب السنة، وأبي بكر الخلال في كتاب السنة، بالسند المتصل عن الفضيل بن عياض رحمه الله، أنه كان يقول: ليس لنا أن نتوهم في الله كيف وكيف، لأن الله وصف نفسه فأبلغ، فقال: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْوَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [سورة آية: 1-2-3-4] . فلا صفة أبلغ مما وصف به نفسه ... إلخ. وقال أبو عثمان الصابوني، الملقب شيخ الإسلام، في رسالته المشهورة في السنة: ويثبت أصحاب الحديث نزول الرب سبحانه وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا، من غير تشبيه له بنُزول المخلوقين، ولا تمثيل، ولا تكييف; بل: يثبتون له ما أثبته رسوله صلى الله عليه وسلم وينتهون فيه إليه; وروى بإسناده عن إسحاق بن إبراهيم، قال: قال لي الأمير عبد الله بن طاهر: يا أبا يعقوب، هذا الحديث الذي ترويه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ينزل ربنا كل ليلة إلى السماء الدنيا "1 كيف ينزل؟ قال: قلت: أعز الله الأمير، لا يقال لأمر الرب: كيف؟ إنما ينْزل بلا كيف. وبإسناده عن عبد الله بن المبارك، أنه سأله سائل عن النّزول ليلة النصف من شعبان؟ فقال   1 البخاري: التوحيد (7494) , ومسلم: صلاة المسافرين وقصرها (758) , والترمذي: الصلاة (446) والدعوات (3498) , وأبو داود: الصلاة (1315) والسنة (4733) , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1366) , وأحمد (2/264 ,2/267 ,2/282 ,2/419 ,2/487 ,2/504) , ومالك: النداء للصلاة (496) , والدارمي: الصلاة (1478 ,1479) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 160 عبد الله: يا ضعيف! ليلة النصف! يَنْزل في كل ليلة، فقال الرجل: يا أبا عبد الرحمن، كيف يَنْزل؟ أليس يخلو ذلك المكان؟ فقال عبد الله بن المبارك: يَنْزل كيف شاء. وقال أبو عثمان الصابوني: فلما صح خبر النّزول، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقر به أهل السنة، وقبلوا الخبر، وأثبتوا النّزول، على ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يعتقدوا تشبيها له بنُزول خلقه، وعلموا، وعرفوا، وتحققوا، واعتقدوا: أن صفات الرب تبارك وتعالى لا تشبه صفات الخلق، كما أن ذاته لا تشبه ذوات الخلق، تعالى الله عما تقوله المشبهة والمعطلة، علوا كبيرا، ولعنهم لعنا كبيرا; فقلت: قد صنف الناس من أهل الحديث أتباع السلف في هذا المعنى مصنفات كثيرة، كالإمام أحمد، وبعض أصحابه، وعثمان بن سعيد الدارمي، وإمام الأئمة محمد بن خزيمة، وأبي بكر الأثرم، واللالكائي، وأبي عثمان الصابوني، وغيرهم من أئمة الإسلام، وردوا على معتزلة الجهمية ونحوهم ما نفوه من قيام الأفعال الاختيارية بالله تعالى. قال شيخ الإسلام، في كتاب العقل والنقل: أهل السنة والجماعة يثبتون ما يقوم بالله من الصفات والأفعال التي تتعلق بمشيئته وقدرته؛ والجهمية من المعتزلة وغيرهم تنكر هذا; وأثبت ابن كلاب قيام الصفات اللازمة به، ونفى أن يقوم به ما يتعلق بمشيئته وقدرته من الأفعال وغيرها، ووافقه على هذا أبو العباس القلانسي، وأبو الحسن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 161 الأشعري، وغيرهما. وأهل السنة والجماعة على إثبات النوعين; وهو الذي ذكره عنهم من نقل مذهبهم، كحرب الكرماني، وعثمان بن سعيد، وغيرهما. ولما كان الإثبات هو المعروف عند أهل السنة والحديث، كالبخاري، وأبي زرعة، وأبي حاتم، ومحمد بن يحيى الذهلي، وغيرهم من العلماء الذين أدركهم محمد بن إسحاق بن خزيمة، كان المستقر عنده ما تلقاه عن أئمته من أن الله تعالى لم يزل متكلما إذا شاء وهذه المسألة كانت المعتزلة تلقبها بمسألة حلول الحوادث; ويقولون: إن الله منَزّه عن الأعراض، والأبعاض، والحوادث، والحدود; ومقصودهم نفي الصفات، ونفي الأفعال، ونفي مباينته للخلق، وعلوه على العرش. وكانوا يعبرون عن مذاهب أهل الإثبات، أهل السنة، بالعبارات المجملة التي تشعر الناس بفساد المذهب; فإنهم إذا قالوا: إن الله مُنَزه عن الأعراض، لم يكن في ظاهر هذه العبارة ما ينكر، لأن الناس يفهمون من ذلك أنه منَزّه عن الاستحالة والفساد كالأعراض التي تعرض لبني آدم من الأمراض والأسقام; ولا ريب أن الله مُنَزّه عن ذلك، ولكن مقصودهم أنه ليس له علم، ولا قدرة، ولا حياة، ولا كلام قائم به، ولا غير ذلك من الصفات التي يسمونها هم أعراضا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 162 وكذلك إذا قالوا: إن الله مُنَزّه عن الحدود، والأحياز، والجهات، أوهموا الناس أن مقصودهم بذلك أنه لا تحصره المخلوقات، ولا تحويه المصنوعات، وهذا المعنى صحيح; ومقصودهم أنه ليس مباينا للخلق، ولا منفصلا عنه، وأنه ليس فوق السماوات رب، ولا على العرش إله، وأن محمدا لم يعرج به إليه، ولم يَنْزل منه شيء، ولا يصعد إليه شيء، ولا يتقرب إليه بشيء، ولا ترفع الأيدي إليه في الدعاء ولا غيره، ونحو ذلك من معاني الجهمية. وإذا قالوا: إنه ليس بجسم، أوهموا الناس أنه ليس من جنس المخلوقات، ولا مثل أبدان الخلق; وهذا المعنى صحيح; ولكن مقصودهم بذلك أنه لا يرى، ولا يتكلم بنفسه، ولا يقوم به صفة، ولا هو مباين للخلق، وأمثال ذلك; وإذا قالوا: لا تحله الحوادث، أوهموا الناس أن مرادهم أنه لا يكون محلا للتغيرات والاستحالات، ونحو ذلك من الأحداث التي تحدث للمخلوقين، فتحيلهم وتفسدهم، وهذا معنى صحيح؛ ولكن مقصودهم بذلك أنه ليس له فعل اختياري يقوم بنفسه، ولا له كلام، ولا فعل يقوم به يتعلق بمشيئته وقدرته، وأنه لا يقدر على استواء، أو نزول، أو إتيان، أو مجيء، وأن المخلوقات التي خلقها، لم يكن منه عند خلقها فعل أصلا; بل عين المخلوقات هي الفعل، ليس هناك فعل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 163 ومفعول، وخلق ومخلوق، بل المخلوق عين الخلق، والمفعول عين الفعل، ونحو ذلك، وابن كلاب ومن اتبعه وافقوهم على هذا، وخالفوهم في إثبات الصفات; وكان ابن كلاب، والحارث المحاسبي، وأبو العباس القلانسي، وغيرهم يثبتون مباينة الخالق للمخلوق، وعلوه بنفسه فوق المخلوقات. والأشعري وأئمة أصحابه، كأبي الحسن الطبري، وأبي عبد الله بن مجاهد الباهلي، والقاضي أبي بكر متفقون على إثبات الصفات الخبرية التي ذكرت في القرآن، كالاستواء، والوجه، واليدين، وإبطال تأويلها، ليس لهم في ذلك قولان أصلا; ولم يذكر أحد عن الأشعري في ذلك قولين أصلا، بل جميع من يحكي المقالات من أتباعه وغيرهم، يذكر أن ذلك قوله. وأما مسألة: قيام الصفات الاختيارية، فإن ابن كلاب، والأشعري، وغيرهما ينفونها، وعلى ذلك بنوا قولهم في مسألة القرآن وبسبب ذلك وغيره تكلم الناس فيهم، بما هو معروف في كتب أهل العلم، ونسبوهم إلى البدعة وبقايا بعض الاعتزال فيهم، وشاع النّزاع في ذلك بين عامة المنتسبين إلى السنة من أصحاب أحمد وغيرهم. وممن كان يوافق على نفي ما يقوم به من الأمور المتعلقة بمشيئته وقدرته: القاضي أبو يعلى، وأتباعه كابن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 164 عقيل، وأبي الحسن بن الزاغوني، وأمثالهم، وإن كان في كلام القاضي ما يوافق هذا تارة، وهذا تارة; وممن يخالفهم في ذلك: أبو عبد الله بن حامد، وأبو بكر عبد العزيز، وأبو عبد الله بن بطة، وأبو عبد الله بن مندة، وأبو نصر السجزي، ويحيى بن عمار السجستاني، وأبو إسماعيل الأنصاري، وأبو عمر بن عبد البر، وأمثالهم; وقد ذكر أبو عبد الله الرازي عن بعض المتفلسفة أن إثبات ذلك يلزم جميع الطوائف، وإن أنكروه، وقرر ذلك. وكلام السلف والأئمة ومن نقل مذهبهم في هذا الأصل كثير، يوجد في كتب التفسير والأصول; قال إسحاق بن راهويه: حدثنا بشر بن عمر، سمعت غير واحد من المفسرين يقول: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [سورة طه آية: 5] أي: ارتفع; وقال البخاري في صحيحه: قال أبو العالية: استوى إلى السماء: ارتفع; قال: وقال مجاهد: استوى: علا على العرش; قال الحسين بن مسعود البغوي في تفسيره المشهور: قال ابن عباس، وأكثر مفسري السلف: "اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ ارتفع إلى السماء"، وكذلك قال الخليل بن أحمد; وروى البيهقي في كتاب الصفات: قال الفراء: {ثُمَّ اسْتَوَى} أي: صعد، قاله ابن عباس، وهو كقولك للرجل: كان قاعدا، فاستوى قائما; وروى الشافعي في مسنده عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عن يوم الجمعة: " وهو اليوم الذي استوى فيه ربكم على العرش ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 165 والتفاسير المأثورة، عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين، مثل تفسير محمد بن جرير الطبري، وتفسير عبد الرحمن بن إبراهيم المعروف بدحيم، وتفسير عبد الرحمن بن أبي حاتم، وتفسير ابن المنذر، وتفسير أبي بكر عبد العزيز، وتفسير أبي بكر بن مردويه; وما قبل هؤلاء من التفاسير، مثل تفسير أحمد بن حنبل، وإسحاق بن إبراهيم، وبقي بن مخلد، وغيرهم، ومن قبلهم، مثل تفسير عبد بن حميد، وتفسير عبد الرزاق، وتفسير سنيد، ووكيع بن الجراح، فيها من هذا الباب والموافق لقول المثبتين ما لا يكاد يحصى; وكذلك الكتب المصنفة في السنة، التي فيها آثار النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة، والتابعين. وقال أبو محمد حرب بن إسماعيل الكرماني، في مسائله المعروفة، التي نقلها عن أحمد وإسحاق، وغيرهما، وذكر معهما من الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة، وغيرهم، ما ذكر، وهو كتاب كبير صنفه على طريقة الموطأ ونحوه من المصنفات، قال في آخره في الجامع، باب القول في المذهب: هذا مذهب أئمة العلم وأصحاب الأثر وأهل السنة المعروفين بها المقتدى بهم فيها; وأدركت من أدركت من علماء أهل العراق، والحجاز، والشام، وغيرهم عليها؛ فمن خالف شيئا من هذه المذاهب، أو طعن فيها، أو عاب قائلها، فهو مبتدع، خارج من الجماعة، زائل عن منهج السنة، وسبيل الحق; وهو مذهب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 166 أحمد، وإسحاق بن إبراهيم بن مخلد، وعبد الله بن الزبير الحميدي، وسعيد بن منصور، وغيرهم، ممن جالسنا وأخذنا عنهم العلم. وذكر الكلام في الإيمان، والقدر، والوعيد، والإمامة، وما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم من أشراط الساعة، وأمر البرزخ، والقيامة، وغير ذلك - إلى أن قال -: وهو سبحانه بائن من خلقه، لا يخلو من علمه مكان، ولله عرش، وللعرش حملة يحملونه، وله حد، والله أعلم بحده; والله على عرشه عز ذكره، وتعالى جده، ولا إله غيره؛ والله تعالى سميع لا يشك، بصير لا يرتاب، عليم لا يجهل، جواد لا يبخل، حليم لا يعجل، حفيظ لا ينسى، يقظان لا يسهو، رقيب لا يغفل، يتكلم، ويتحرك، ويسمع، ويبصر، وينظر، ويقبض، ويبسط، ويفرح، ويحب، ويكره، ويبغض، ويرضى، ويسخط ويغضب، ويرحم ويعفو، ويغفر ويعطي، ويمنع وينْزل كل ليلة إلى سماء الدنيا كيف شاء وكما شاء، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [سورة الشورى آية: 11] ... إلى أن قال: ولم يزل الله متكلما عالما {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [سورة المؤمنون آية: 14] . قال البخاري: وقال الفضيل بن عياض: "إذا قال لك الجهمي: أنا كافر برب يزول عن مكانه فقل: أنا أومن برب يفعل ما يشاء" قال البخاري: وحديث يزيد بن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 167 هارون عن الجهمية، فقال: من زعم أن {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [سورة طه آية: 5] على خلاف ما تقرر في قلوب العامة، فهو جهمي. وقال أبو الحسن الأشعري في كتاب المقالات، لما ذكر مقالة أهل السنة وأهل الحديث، فقال: ويصدقون بالأحاديث التي جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم: " إن الله ينْزل إلى سماء الدنيا فيقول: هل من مستغفر ... "1 كما جاء الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، ويأخذون بالكتاب والسنة كما قال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [سورة النساء آية: 59] ، ويرون اتباع من سلف من أئمة الدين، وأن لا يحدثوا في دينهم ما لم يأذن به الله; ويقرون أن الله يجيء يوم القيامة كما قال: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} [سورة الفجر آية: 22] وأن الله يقرب من خلقه كيف يشاء كما قال: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [سورة ق آية: 16] قال الأشعري: وبكل ما ذكرناه من قولهم نقول، وإليه نذهب. وقال أبو بكر الخلال في كتاب السنة: أخبرني يوسف بن موسى أن أبا عبد الله أحمد بن حنبل قيل له: أهل الجنة ينظرون إلى ربهم عز وجل؟ ويكلمونه؟ ويكلمهم؟ قال: نعم ينظر إليهم وينظرون إليه، ويكلمهم ويكلمونه، كيف شاء وإذا شاء. قال: وأخبرني عبد الله بن حنبل، أخبرني أبي حنبل بن إسحاق قال: قال عمي: نحن نؤمن بأن الله على العرش كيف شاء، وكما شاء، بلا   1 مسلم: صلاة المسافرين وقصرها (758) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 168 حد ولا صفة يبلغها واصف، أو يحده حاد; فصفات الله له ومنه; وهو كما وصف نفسه، لا تدركه الأبصار بحد ولا غاية، وهو يدرك الأبصار; وهو عالم الغيب والشهادة وعلام الغيوب ولا يدركه وصف واصف; وهو كما وصف نفسه، وليس من الله شيء محدود، ولا يبلغ علم قدرته أحد، غلب الأشياء كلها بعلمه وقدرته، وسلطانه {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [سورة الشورى آية: 11] . وكان الله قبل أن يكون شيء، والله هو الأول، وهو الآخر، ولا يبلغ أحد حد صفاته. قال: وأخبرني علي بن عيسى أن حنبلا حدثهم، قال: سألت أبا عبد الله عن الأحاديث التي تروى أن الله تبارك وتعالى: " ينْزل إلى السماء الدنيا "1، " وأن الله يضع قدمه " 2، أو ما أشبه هذه الأحاديث، فقال أبو عبد الله: نؤمن بها، ونصدق بها، ولا كيف، ولا معنى، أي: لا نكيفها، ولا نحرفها بالتأويل، فنقول معناها كذا، ولا نرد منها شيئا، ونعلم أن ما جاء به الرسول حق، إذا كان بأسانيد صحاح، ولا نرد على الله قوله، ولا يوصف الله بأكثر مما وصف به نفسه، بلا حد ولا غاية {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [سورة الشورى آية: 11] . وقال حنبل في موضع آخر، عن أحمد قال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [سورة الشورى آية: 11] في ذاته، كما وصف به نفسه، قد أجمل تبارك وتعالى بالصفة لنفسه، فحد لنفسه صفة ليس يشبهه شيء، فنتعبد الله بصفاته، غير محدودة، ولا معلومة، إلا بما وصف   1 البخاري: الجمعة (1145) , ومسلم: صلاة المسافرين وقصرها (758) , والترمذي: الصلاة (446) والدعوات (3498) , وأبو داود: الصلاة (1315) والسنة (4733) , وأحمد (2/264 ,2/267 ,2/282 ,2/419 ,2/487 ,2/504) , ومالك: النداء للصلاة (496) , والدارمي: الصلاة (1479) . 2 البخاري: تفسير القرآن (4848) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 169 به نفسه; قال: فهو سميع بصير، بلا حد ولا تقدير، ولا يبلغ الواصفون صفته، وصفاته منه وله، ولا نتعدى القرآن والحديث، فنقول كما قال، ونصفه كما وصف نفسه، ولا نتعدى ذلك، ولا تبلغه صفة الواصفين; نؤمن بالقرآن كله، محكمه ومتشابهه، ولا نزيل عنه صفة من صفاته، لشناعة شنعت; وما وصف به نفسه، من كلام، ونزول، وخلوة بعبده يوم القيامة، ووضع كنفه عليه، هذا كله يدل على أن الله تبارك وتعالى يرى في الآخرة، والتحديد في هذا كله بدعة. والتسليم لله بأمره، بغير صفة ولا حد، إلا ما وصف به نفسه، سميع، بصير، لم يزل متكلما، عليما، غفورا، عالم الغيب والشهادة، علام الغيوب; فهذه صفات، وصف بها نفسه، لا تدفع ولا ترد. وهو على العرش بلا حد، كما قال تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [سورة الأعراف آية: 54] كيف شاء، المشيئة إليه عز وجل، والاستطاعة له {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [سورة الشورى آية: 11] وهو: {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [سورة الأنعام آية: 102] ، وهو كما وصف نفسه سميع بصير، بلا حد ولا تقدير، قال إبراهيم لأبيه: {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ} [سورة مريم آية: 42] فنثبت: أن الله سميع بصير، صفاته منه، لا نتعدى القرآن والحديث، والخبر " يضحك الله "1 ولا نعلم كيف ذلك إلا بتصديق الرسول صلى الله عليه وسلم وبتثبيت القرآن، لا يصفه الواصفون، ولا يحده أحد تعالى الله عما تقول الجهمية والمشبهة; قلت له: والمشبهة ما يقولون؟   1 البخاري: الجهاد والسير (2826) , ومسلم: الإمارة (1890) , والنسائي: الجهاد (3166) , وابن ماجه: المقدمة (191) , وأحمد (2/318 ,2/463 ,2/511) , ومالك: الجهاد (1000) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 170 قال: من قال بصر كبصري، ويد كيدي، وقدم كقدمي، فقد شبه الله بخلقه، وهذا كلام سوء، وهذا محدود، والكلام في هذا لا أحبه. فقول أحمد: إنه ينظر إليهم كيف شاء، وإذا شاء، وقوله: هو على العرش كيف شاء، وكما شاء، وقوله: هو على العرش بلا حد كما قال: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [سورة الأعراف آية: 54] كيف شاء، المشيئة إليه، والاستطاعة له، ليس كمثله شيء، يبين أن نظره، وتكليمه، وعلوه على العرش، واستواءه على العرش، مما يتعلق بمشيئته، واستطاعته; وقوله: بلا حد ولا صفة يبلغها واصف، أو يحده حاد، نفى به إحاطة علم الخلق به، وأن يحدوه، أو يصفوه، على ما هو عليه، إلا بما أخبر به عن نفسه، ليبين أن عقول الخلق لا تحيط بصفاته، كما قال الشافعي في خطبة الرسالة: الحمد لله الذي هو كما وصف به نفسه، وفوق ما يصفه به خلقه; ولهذا قال أحمد: لا تدركه الأبصار بحد، ولا غاية، فنفى أن يدرك له حد أو غاية، وهذا أصح القولين، في تفسير الإدراك. وذكر الخلال أيضا: قال المروذي: قال: وأخبرنا إسحاق بن إبراهيم بن راهويه، قال الله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [سورة طه آية: 5] : إجماع أهل العلم أنه فوق العرش استوى، ويعلم كل شيء، في أسفل الأرض السابعة، وفي قعور البحار، ورؤوس الآكام، وبطون الأودية، وفي كل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 171 موضع، كما يعلم ما في السماوات السبع، وما فوق العرش، أحاط بكل شيء علما، فلا تسقط من ورقة إلا يعلمها، ولا حبة في ظلمات البر والبحر إلا قد عرف ذلك كله، وأحصاه، فلا يعجزه معرفة شيء، عن معرفة غيره؛ فهذا وأمثاله مما نقل عن الأئمة، كما قد بسط في غير هذا الموضع، بينوا أن ما أثبتوه له من الحد لا يعلمه غيره، كما قال مالك، وربيعة، وغيرهما: الاستواء معلوم، والكيف مجهول; فبين أن كيفية استوائه مجهولة للعباد، فلم ينفوا ثبوت ذلك في نفس الأمر، ولكن نفوا علم الخلق به، وكذلك مثل هذا في كلام عبد العزيز بن عبد الله الماجشون، وغير واحد من السلف والأئمة ينفون علم الخلق بقدره، وكيفيته. وبنحو ذلك قال عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون في كلامه المعروف، وقد ذكره ابن بطة في الإبانة، وأبو عمر الطلمنكي في كتابه في الأصول; ورواه أبو بكر الأثرم، قال: حدثنا عبد الله بن صالح عن عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة، أنه قال: أما بعد، فقد فهمت ما سألت عنه، فيما تتابعت فيه الجهمية ومن خالفها، في صفة الرب العظيم، الذي فاقت عظمته الوصف والتقدير، وكَلّت الألسن عن تفسير صفته، وانحسرت العقول عن معرفة قدره ... إلى أن قال: فإنه لا يعلم كيف هو إلا هو، وكيف يُعرَف قدر من لا يموت ولا يبلي، وكيف يكون لصفة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 172 شيء منه حد أو منتهى يعرفه عارف، أو يحد قدره واصف؟ ! والدليل على عجز العقول عن تحقيق صفته، عجزها عن تحقيق صفة أصغر خلقه ... إلى أن قال: اعرف رحمك الله غناك عن تكلف صفة ما لا يصف الرب من نفسه، بعجزك عن معرفة قدر ما وصف منها; إذا لم تعرف قدر ما وصف، فما تكلفك علم ما لم يصف؟ هل تستدل بشيء من ذلك على شيء من طاعته؟ أو تَنْزجر به عن شيء من معصيته؟ وذكر كلاما طويلا - إلى أن قال: - فأما الذي جحد ما وصف الرب من نفسه، تعمقا وتكلفا قد: {اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ} [سورة الأنعام آية: 71] ، فصار يستدل بزعمه على جحد ما وصف الرب، وسمى من نفسه، بأن قال: لا بد إن كان له كذا، من أن يكون له كذا; فعمي عن البين بالخفي، فجحد ما سمى الرب من نفسه، ووصف الرب بما لم يسم، فلم يزل يملي له الشيطان، حتى جحد قول الله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [سورة آية: 22-23] فقال: لا يراه أحد يوم القيامة; فجحد - والله - أفضل كرامة الله التي أكرم بها أولياءه يوم القيامة، من النظر إلى وجهه {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [سورة القمر آية: 55] قد قضى أنهم لا يموتون، فهم بالنظر إليه ينظرون; وذكر كلاما طويلا، كتب في غير هذا الموضع. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 173 وقال الخلال في السنة: أخبرني علي بن عيسى أن حنبلا حدثهم قال: سمعت أبا عبد الله يقول: من زعم أن الله لم يكلم موسى فقد كفر بالله، وكذب القرآن، ورد على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره، يستتاب في هذه المقالة، فإن تاب وإلا ضربت عنقه. قال: وسمعت أبا عبد الله قال: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى} [سورة النساء آية: 164] ، فأثبت الكلام لموسى، كرامة منه لموسى ثم قال تعالى بعد كلامه: تكليما. قلت لأبي عبد الله: الله عز وجل يكلم عبده يوم القيامة؟ قال: نعم; فمن يقضي بين الخلائق إلا الله عز وجل، يكلم عبده ويسأله، الله متكلم، لم يزل الله يأمر بما شاء ويحكم، وليس له عدل ولا مثل، كيف شاء، وإذا شاء. قال الخلال: أخبرنا محمد بن علي بن بحر، أن يعقوب بن بختان حدثهم، أن أبا عبد الله سئل: عمن زعم أن الله لم يتكلم. قال: بلى، تكلم بصوت; وهذه الأحاديث كما جاءت، نرويها، لكل حديث وجه; يريدون أن يموهوا على الناس; من زعم أن الله لم يكلم موسى، فهو كافر; حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي، عن الأعمش، عن مسلم، عن مسروق، عن عبد الله، يعني ابن مسعود، قال: "إذا تكلم الله بالوحي، سمع صوته أهل السماء، فيخرون سجدا، حتى إذا فزع عن قلوبهم، قال: سكن عن قلوبهم، نادى أهل السماء: ماذا قال ربكم؟ قالوا: الحق، قال: كذا، وكذا". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 174 قال الخلال: وحدثنا أبو بكر المروذي قال: سمعت أبا عبد الله، وقيل له: إن عبد الوهاب قد تكلم، وقال: من زعم أن الله كلم موسى بلا صوت، فهو جهمي، عدو لله، وعدو للإسلام; فتبسم أبو عبد الله، وقال: ما أحسن ما قال! عافاه الله. وقال عبد الله بن أحمد، سألت أبي، عن قوم يقولون: لما كلم الله موسى، لم يتكلم بصوت; فقال أبي: بل تكلم تبارك وتعالى بصوت، وهذه الأحاديث نرويها كما جاءت; وحديث ابن مسعود: إذا تكلم الله بالوحي، سمع له صوت كجر السلسلة على الصفوان ; قال أبي: الجهمية تنكره; قال أبي: وهؤلاء كفار، يريدون أن يموهوا على الناس، من زعم أن الله لم يتكلم، فهو كافر; إنما نروي هذه الأحاديث كما جاءت. قلت: وهذا الصوت الذي تكلم الله به، ليس هو الصوت المسموع من العبد; بل ذلك صوته، كما هو معلوم لعامة الناس; وقد نص على ذلك الأئمة، أحمد وغيره; فالكلام المسموع منه هو كلام الله، لا كلام غيره، كما قال تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [سورة التوبة آية: 6] ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " ألا رجل يحملني إلى قومه، لأبلغ كلام ربي؟ فإن قريشا منعوني أن أبلغ كلام ربي "1 رواه أبو داود وغيره. وقال البخاري في كتاب خلق الأفعال: يذكر عن   1 الترمذي: فضائل القرآن (2925) , وأبو داود: السنة (4734) , وابن ماجه: المقدمة (201) , وأحمد (3/390) , والدارمي: فضائل القرآن (3354) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 175 النبي صلى الله عليه وسلم: " أن الله ينادي بصوت يسمعه من بعد، كما يسمعه من قرب "1، وليس هذا لغير الله عز وجل، قال أبو عبد الله البخاري: وفي هذا دليل على أن صوت الله لا يشبه أصوات الخلق، لأن صوت الله يسمع من بعد، كما يسمع من قرب، وأن الملائكة يصعقون من صوته، فإذاً ينادى الملائكة، ثم يصعقون قال: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً} [سورة البقرة آية: 22] فليس لصفة الله ند ولا مثل، ولا يوجد شيء من صفاته في المخلوقين. ثم روى بإسناده حديث عبد الله بن أنيس، الذي استشهد به في غير موضع من الصحيح، تارة يجزم به، وتارة يقول: ويذكر عن عبد الله بن أنيس قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "يحشر الله العباد، فيناديهم بصوت يسمعه من بعد، كما يسمعه من قرب: أنا الملك، أنا الديان; لا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة، وأحد من أهل النار يطلبه بمظلمة " وذكر الحديث الذي رواه في صحيحه، عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يقول الله يوم القيامة: يا آدم، فيقول: لبيك، وسعديك; فينادى بصوت: إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثا إلى النار; قال: يا رب، وما بعث النار؟ قال: من كل ألف - أراه قال - تسعمائة وتسعة وتسعين، فحينئذ تضع الحامل حملها {وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} "2. وروى أبو جعفر بن جرير في تفسيره، عن ابن   1 أحمد (3/495) . 2 البخاري: تفسير القرآن (4741) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 176 عباس، في قوله: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} [سورة سبأ آية: 23] الآية قال:?"لما أوحى الله تعالى ذكره إلى محمد صلى الله عليه وسلم ودعا الرسول من الملائكة، فبعث بالوحي، سمعت الملائكة صوت الجبار يتكلم بالوحي، فلما كشف عن قلوبهم، سألوا عما قال الله، فقالوا: الحق، وعلموا أن الله لا يقول إلا حقا، وأنه منجز ما وعد، قال ابن عباس: وصوت الوحي، كصوت الحديد على الصفا، فلما سمعوه خروا سجدا، فلما رفعوا رؤوسهم {قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سورة سبأ آية: 23] ". وقال الحافظ أبو نصر السجزي، في رسالته المعروفة إلى أهل زبيد في الواجب من القول في القرآن: اعلموا، أرشدنا الله وإياكم، أنه لم يكن خلاف بين الخلق على اختلاف نحلهم، من أول الزمان إلى الوقت الذي ظهر فيه ابن كلاب، والقلانسي، والأشعري، وأقرانهم، الذين تظاهروا بالرد على المعتزلة، وهم معهم بل أحسن حالا منهم في الباطن من أن الكلام لا يكون إلا حرفا وصوتا ذا تأليف واتساق وإن اختلفت به اللغات. وعبر عن هذا المعنى الأوائل، الذين تكلموا في العقليات، وقالوا: الكلام حروف متسقة، وأصوات مقطعة; وقالت - يعني علماء العربية-: الكلام، اسم، وفعل، وحرف جاء لمعنى; فالاسم، مثل: زيد وعمرو; والفعل، مثل: جاء، وذهب؛ والحرف: الذي يجيء لمعنى، مثل: هل، وبل، وقد، وما شاكل ذلك; فالإجماع منعقد بين الجزء: 3 ¦ الصفحة: 177 العقلاء، على كون الكلام حرفا وصوتا. فلما نبغ ابن كلاب وأضرابه، وحاولوا الرد على المعتزلة من طريق مجرد العقل، وهم لا يجيزون أصول أهل السنة، ولا ما كان السلف عليه، ولا يحتجون بالأخبار الواردة في ذلك زعما منهم أنها أخبار أحاد، وهي لا توجب علما، وألزمتهم المعتزلة الاتفاق على أن الاتفاق حاصل على أن الكلام: حرف وصوت، ويدخله التعاقب والتأليف، وذلك لا يوجد في الشاهد إلا بحركة وسكون، ولا بد له من أن يكون ذا أجزاء وأبعاض; وما كان بهذه المثابة، لا يجوز أن يكون من صفات الله تعالى، لأن ذات الحق لا توصف بالاجتماع والافتراق، والكل والبعض، والحركة والسكون، وحكم الصفة الذاتية حكم الذات; قالوا: فعلم بهذه الجملة أن الكلام المضاف إلى الله تعالى، خلق له، أحدثه وأضافه إلى نفسه، كما تقول: خلق الله، وعبد الله، وفعل الله. قال: فضاق بابن كلاب وأضرابه النفس عند هذا الإلزام، لقلة معرفتهم بالسنن، وتركهم قبولها، وتسليمهم العنان إلى مجرد العقل، فالتزموا ما قالته المعتزلة، وركبوا مكابرة العيان، وخرقوا الإجماع المنعقد بين الكافة، المسلم والكافر; وقالوا للمعتزلة: الذي ذكرتموه ليس بحقيقة، وإنما سمي ذلك كلاما على المجاز، لكونه حكاية وعبارة عنه، وحقيقة الكلام: معنى قائم بذات المتكلم; فمنهم من اقتصر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 178 على هذا القول، ومنهم من احترز عما علم دخوله على هذا الحد، فزاد فيه: تنافي السكوت والخرس، والآفات المانعة من الكلام; ثم خرجوا من هذا إلى أن إثبات الحرف والصوت في كلام الله تجسيم، وإثبات اللغة فيه تشبيه. وتعلقوا بشبه، منها قول الأخطل: إن البيان من الفؤاد وإنما جعل اللسان على الفؤاد دليلا فغيروه وقالوا: إن الكلام من الفؤاد، وزعموا أن لهم حجة على مقالتهم، في قول الله تعالى: {وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ} [سورة المجادلة آية: 8] ، وفي قول الله عز وجل {فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ} [سورة يوسف آية: 77] ، واحتجوا بقول العرب: أرى في نفسك كلاما، وفي وجهك كلاما; فألجأهم الضيق مما دخل عليهم في مقالتهم إلى أن قالوا: الأخرس متكلم، وكذلك الساكت، والنائم; ولهم في حال الخرس، والسكوت، والنوم، كلام هم متكلمون به، ثم أفصحوا بأن الخرس والسكوت والآفات المانعة من النطق ليست بأضداد الكلام; وهذه مقالة تبين فضيحة قائلها في ظاهرها، من غير رد عليه; ومن علم منه خرق إجماع الكافة، ومخالفة كل عقلي وسمعي قبله، لم يناظر، بل يجاب ويقمع. وقال أيضا أبو نصر: خاطبني بعض الأشعرية يوما في هذا الفصل، فقال: التجزؤ على القديم غير جائز، فقلت له: أتقر بأن الله أسمع موسى كلامه، على الحقيقة بلا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 179 ترجمان؟ فقال: نعم، وهم يطلقون ذلك، ويموهون على من لا يخبر مذهبهم، وحقيقة سماع كلام الله من ذاته، على أصل الأشعري محال، لأن سماع الخلق على ما جبلوا عليه من البينة، وأجروا عليه من العادة، لا يكون البتة، إلا لما هو صوت، أو في معنى الصوت; وإذا لم يكن كذلك، كان الواصل إلى معرفة من العلم والفهم، وهما يقومان في وقت مقام السماع، لحصول العلم بهما، كما يحصل بالسماع، وربما سمي ذلك سماعا على التجوز، لقربه من معناه; فأما حقيقة السماع لما يخالف الصوت، فلا يتأتى للخلق في العرف الجاري. قال: فقلت لمخاطبي الأشعري: قد علمنا جميعا أن حقيقة السماع لكلام الله منه، على أصلكم، محال، وليس هاهنا من تتقيه وتخشى تشنيعه، وإنما مذهبك أن الله يفهم من شاء كلامه، بلطيفة منه، حتى يصير عالما متيقنا بأن الذي فهمه كلام الله; والذي أريد: أن ألزمك، وارد على الفهم وروده على السماع، فدع التمويه، ودع المصانعة; ما تقول في موسى عليه السلام، حيث كلمه الله، أفهم كلام الله مطلقا؟ أم مقيدا؟ فتلكأ قليلا، ثم قال: ما تريد بهذا؟ فقلت: دع إرادتي، وأجب بما عندك، فأبى، وقال: ما تريد بهذا؟ فقلت أريد: أنك إن قلت، إنه عليه السلام فهم كلام الله مطلقا، اقتضى أن لا يكون لله كلام، من الأزل إلى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 180 الأبد، إلا وقد فهمه موسى; وهذا يؤول إلى الكفر; فإن الله تعالى يقول: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} [سورة البقرة آية: 255] ، ولو جاز ذلك لصار من فهم كلام الله عالما بالغيب، وبما يقول الله تعالى; وقد نفى الله تعالى ذلك بما أخبر به عن عيسى عليه السلام، أنه يقول: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} [سورة المائدة آية: 116] . وإذا لم يجز إطلاقه، وألجئت إلى أن تقول: أفهمه الله ما شاء من كلامه، دخلت في التبعيض الذي هربت منه، وكفرت من قال به، ويكون مخالفك أسعد منك، لأنه قال بما اقتضاه النص الوارد من قبل الله، ومن قبل رسول الله; وأنت أبيت ألا تقبل ذلك، وادعيت أن الواجب المصير إلى حكم العقل في هذا الباب، وقد ردك العقلاء إلى موافقة النص خاسرا، فقال: هذا يحتاج إلى تأمل، وقطع الكلام. وقال الشيخ أبو الحسن محمد بن عبد الملك الكرجي الشافعي، في كتابه الذي سماه: الفصول في الأصول عن الأئمة الفحول، وذكر اثني عشر إماما: الشافعي، ومالكا، والثوري، وأحمد، وابن عيينة، وابن المبارك والأوزاعي والليث بن سعد، وإسحاق بن راهويه والبخاري، وأبا زرعة، وأبا حاتم، ثم قال فيه: سمعت الإمام أبا منصور محمد بن أحمد يقول: سمعت الشيخ أبا حامد الإسفرائيني يقول: مذهبي، ومذهب الشافعي، وفقهاء الجزء: 3 ¦ الصفحة: 181 الأمصار: أن القرآن كلام الله، غير مخلوق ومن قال: مخلوق، فهو كافر. والقرآن حمله جبرائيل مسموعا من الله تعالى، والنبي صلى الله عليه وسلم سمعه من جبرائيل، والصحابة سمعوه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الذي نتلوه نحن بألسنتنا، وفيما بين الدفتين وفي صدورنا، مسموعا، ومكتوبا، ومحفوظا، ومنقوشا، وكل حرف منه، كالألف، والباء، كله كلام الله غير مخلوق؛ ومن قال: مخلوق، فهو كافر، عليه لعائن الله والملائكة، والناس أجمعين. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وأبو إسحاق الشيرازي، وغير واحد، بينوا مخالفة الشافعي، وغيره من الأئمة، لقول ابن كلاب والأشعري، في مسألة الكلام، التي امتاز بها ابن كلاب والأشعري عن غيرهما، وإلا فسائر المسائل ليس لابن كلاب والأشعري بها اختصاص، بل ما قالاه قاله غيرهما، إما من أهل السنة وإما من غيرهم، بخلاف ما قاله ابن كلاب، في مسألة الكلام، واتبعه عليه الأشعري، فإنه لم يسبق ابن كلاب إلى ذلك أحد، ولا وافقه عليه أحد من رؤوس الطوائف. وأصله في ذلك هي: مسألة الصفات الاختيارية، ونحوها من الأمور المتعلقة بمشيئته وقدرته، هل تقوم بذاته؟ أم لا؟ وكان السلف والأئمة يثبتون ما يقوم بذاته من الصفات والأفعال مطلقا; والجهمية من المعتزلة وغيرهم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 182 تنكر ذلك مطلقا، فوافق ابن كلاب السلف والأئمة في إثبات الصفات، ووافق الجهمية في نفي قيام الأفعال به، وما يتعلق بمشيئته وقدرته؛ ولهذا وغيره تكلم الناس فيمن اتبعه، كالقلانسي، والأشعري، ونحوهما، بأن في أقوالهم: بقايا من الاعتزال، وهذه البقايا، أصلها هو الاستدلال على حدوث العالم بطريقة الحركات، فإن هذا الأصل هو الذي أوقع المعتزلة في نفي الصفات والأفعال. وقد ذكر الأشعري في رسالته، إلى أهل الثغر، بباب الأبواب: إنه طريق مبتدع في دين الرسول، محرم عندهم، وكذلك غير الأشعري، كالخطابي، وأمثاله، يذكرون ذلك، لكن مع هذا وافق ابن كلاب، لأنه يرى بطلان هذه الطريقة عقلا، وإن لم يقل أن الدين محتاج إليها، فلما رأى من رأى صحتها، لزمه إما قول ابن كلاب أو ما يضاهيه؛ ومنشأ اضطراب الفريقين اشتراكها في أنه: لا يقوم به ما يكون بإرادته وقدرته; فلزم هؤلاء إذا جعلوه يتكلم بقدرته واختياره، أن يكون كلامه مخلوقا منفصلا عنه; ولزم هؤلاء إذا جعلوه غير مخلوق أن لا يكون قادرا على الكلام، ولا يتكلم بمشيئته وقدرته، ولا يتكلم بما يشاء. والمقصود هنا أن عبد الله بن سعيد بن كلاب وأتباعه، لما وافقوا سلف الأمة وسائر العقلاء، في أن كلام المتكلم لا بد أن يقوم به، فما لا يكون إلا بائنا عنه لا يكون كلامه، كما قال الأئمة كلام الله من الله، ليس ببائن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 183 عنه; وقالوا: إن القرآن كلام الله غير مخلوق، منه بدا وإليه يعود; فقالوا: منه بدا، ردا على الجهمية الذين يقولون: بدا من غيره، ومقصودهم أنه هو المتكلم به، كما قال تعالى: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [سورة الزمر آية: 1] ، وقال تعالى: {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي} [سورة السجدة آية: 13] ، وأمثال ذلك. ثم إنهم مع موافقتهم للسلف والأئمة والجمهور على هذا، اعتقدوا هذا الأصل; وهو أنه لا يقوم به ما يكون مقدورا له، متعلقاً بمشيئته، بناء على هذا الأصل، الذي وافقوا فيه المعتزلة; فاحتاجوا حينئذ إلى أن يثبتوا ما لا يكون مقدورا مرادا; قالوا: والحروف المنظومة والأصوات لا تكون إلا مقدورة مرادة، فأثبتوا معنى واحدا، لم يمكنهم إثبات معان متعددة، خوفا من إثبات ما لا نهاية له; فاحتاجوا أن يقولوا معنى واحدا، فقالوا القول الذي لزمته تلك اللوازم التي عظم فيها نكير جمهور المسلمين، بل جمهور العقلاء عليهم. وأنكر الناس عليهم أمورا: إثبات معنى واحد، هو الأمر والخبر; وجعل القرآن العزيز ليس من كلام الله الذي تكلم به، وأن الكلام المنَزّل ليس هو كلام الله، وأن التوراة، والإنجيل، والقرآن، إنما تختلف عباراتها; فإذا عبروا عن التوراة بالعربية كان هو القرآن، وأن الله لا يقدر أن يتكلم، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 184 ولا يتكلم بمشيئته واختياره; وتكليمه لمن كلم من خلقه، كموسى وآدم، ليس إلا خلق إدراك ذلك المعنى لهم؛ فالتكلم هو خلق الإدراك فقط. ثم منهم من يقول: السمع يتعلق بذلك المعنى وبكل موجود، فكل موجود يمكن أن يرى ويسمع، كما يقوله أبو الحسن. ومنهم من يقول: بل كلام الله لا يسمع بحال، لا منه ولا من غيره إذ هو معنى، والمعنى يفهم ولا يسمع، كما يقوله أبو بكر ونحوه. ومنهم من يقول: إنه يسمع ذلك المعنى من القارئ، مع صوته المسموع منه، كما يقول ذلك طائفة أخرى. وجمهور العقلاء يقولون: إن هذه الأقوال معلومة الفساد بالضرورة، وإنما ألجأ إليها القائلين بها ما تقدم من الأصول التي استلزمت هذه المحاذير; وإذا انتفى اللازم، انتفى الملزوم. وكذلك من قال: لا يتكلم إلا بأصوات قديمة أزلية ليست متعاقبة، وهو لا يقدر على التكلم بها، ولا له في ذلك مشيئة ولا فعل، من أهل الحديث والفقهاء، وأهل الكلام، المنتسبين إلى السنة; فجمهور العقلاء يقولون: إن قول هؤلاء معلوم الفساد بالضرورة; وإنما ألجأهم إلى ذلك اعتقادهم أن الكلام لا يتعلق بمشيئة المتكلم وقدرته، مع علمهم بأن الكلام يتضمن حروفا منظومة، وصوتا مسموعا من المتكلم; وأما من قال: إن الصوت المسموع من القارئ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 185 قديم، أو سمع منه صوت قديم، أو محدث، فهذا أظهر فسادا من أن يحتاج إلى الكلام عليه; وكلام السلف والأئمة والعلماء في هذا الأصل كثير منتشر، ليس هذا موضع استقصائه. وأما دلالة الكتاب والسنة على هذا الأصل، فأكثر من أن تحصر; وقد ذكر منها الإمام أحمد وغيره من العلماء في الرد على الجهمية ما جمعوه، كما ذكر الخلال في كتاب السنة قال: أخبرنا المروذي قال: هذا ما احتج به أبو عبد الله على الجهمية من القرآن، وكتبه بخطه، وكتبته من كتابه، فذكر المروذي آيات كثيرة دون ما ذكر الخضر بن أحمد عن عبد الله بن أحمد، وقال فيه: سمعت أبا عبد الله يقول: في القرآن عليهم من الحجج في غير موضع، يعني الجهمية. قال الخلال: وأنبأنا الخضر بن أحمد بن المثنى الكندي، سمعت عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: وجدت هذا الكتاب بخط أبي، فيما احتج به على الجهمية، وقد ألف الآيات إلى الآيات في السور، فذكر آيات كثيرة تدل على هذا الأصل، مثل قوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [سورة البقرة آية: 186] ، وقوله تعالى: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} الجزء: 3 ¦ الصفحة: 186 سورة البقرة آية: 117] ، وقوله تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [سورة آل عمران آية: 59] ، وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ} [سورة آل عمران آية: 77] . وقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ} [سورة الأنعام آية: 73] ، {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} [سورة النساء آية: 164] ، {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} [سورة الأعراف آية: 143] ، {وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ} [سورة هود آية: 110] ، {وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [سورة يونس آية: 19] ، {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [سورة هود آية: 119] ، {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} [سورة يوسف آية: 3] ، وقوله تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي} [سورة الكهف آية: 109] . وقال تعالى: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [سورة طه آية: 11-14] إلى قوله: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} الجزء: 3 ¦ الصفحة: 187 [سورة طه آية: 46] . {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [سورة طه آية: 39] ، {وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَاماً وَأَجَلٌ مُسَمّىً} [سورة طه آية: 129] ، {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ} [سورة آية: 83-84] . وقوله تعالى: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ} [سورة الأنبياء آية: 87-88-89-90] ، وقوله: {الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً} [سورة الفرقان آية: 59] ، وقوله تعالى: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [سورة القصص آية: 30] ، وقوله: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [سورة يس آية: 82] . وقوله تعالى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [سورة الصافات آية: 171-173] ، وقوله: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [سورة الزمر آية: 67] ، وقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 188 يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [سورة غافر آية: 68] ، {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [سورة غافر آية: 60] ، {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ} [سورة الشورى آية: 14] ، {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} [سورة الشورى آية: 51] ، وقوله: {فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ} [سورة الزخرف آية: 55] ، وقوله: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا} [سورة المجادلة آية: 1] . قال شيخ الإسلام: وفي القرآن مواضع كثيرة تدل على هذا الأصل، كقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [سورة البقرة آية: 29] ، وقوله تعالى: {أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [سورة فصلت آية: 9] ، وقوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [سورة فصلت آية: 11] ، وقوله: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} [سورة البقرة آية: 210] ، وقوله: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} [سورة الأنعام آية: 158] ، وقوله: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ} [سورة النحل آية: 33] ، وقوله تعالى: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 189 {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} [سورة الفجر آية: 22] ، وقوله تعالى: {وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ} [سورة التوبة آية: 94] ، وقوله: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} [سورة التوبة آية: 105] ، وقوله: {ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [سورة يونس آية: 14] ، وقوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [سورة الأعراف آية: 54] ، في غير موضع من القرآن. وقوله تعالى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [سورة النحل آية: 40] ، وقوله تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً} [سورة الإسراء آية: 16] ، وقوله: {وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ} [سورة الرعد آية: 11] ، وقوله تعالى: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [سورة الرحمن آية: 29] ، وقوله: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} [سورة القصص آية: 62] ، {وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [سورة الشعراء آية: 10] ، {وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ} [سورة الأعراف آية: 22] ، وقوله تعالى: {كَلَّا فَاذْهَبَا بِآياتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ} [سورة الشعراء آية: 15] ، وقوله: {سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} [سورة يس آية: 58] ، وقوله تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ} [سورة الزمر آية: 23] ، {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ} [سورة الجاثية آية: 6] ، {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً} الجزء: 3 ¦ الصفحة: 190 [سورة النساء آية: 87] . وأمثال ذلك كثير في كتاب الله تعالى بل يدخل في ذلك: عامة ما أخبر الله به من أفعاله، لا سيما المرتبة، كقوله تعالى: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [سورة الضحى آية: 5] ، وقوله: {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} [سورة الليل آية: 7] ، وقوله: {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [سورة الليل آية: 10] ، وقوله: {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ} [سورة الغاشية آية: 25-26] ، وقوله: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [سورة القيامة آية: 17] ، وقوله تعالى: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً} [سورة الانشقاق آية: 8] ، {فَحَاسَبْنَاهَا حِسَاباً شَدِيداً} [سورة الطلاق آية: 8] ، وقوله: {أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبّاً ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقّاً} [سورة عبس آية: 25-26] ، وقوله: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [سورة الروم آية: 27] ، وقوله: {أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ} [سورة المرسلات آية: 16-17] ، ونحو ذلك؛ لكن الاستدلال بمثل هذا مبني على أن الفعل ليس هو المفعول، والخلق ليس هو المخلوق، وهو قول جمهور الناس على اختلاف أصنافهم; وقد قرر هذا في غير هذا الموضع. ثم هؤلاء على قولين: منهم من يقول: إن الفعل قديم، لازم للذات، لا يتعلق بمشيئته وقدرته. ومنهم من يقول: يتعلق بمشيئته، وقدرته، وإن قيل إن نوعه متقدم، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 191 فهؤلاء يحتجون بما هو الظاهر المفهوم من النصوص، وإذا تأول من ينازعهم أن المتجدد إنما هو المفعول المخلوق فقط، من غير تجدد فعل، كان هذا بمنْزلة من يتأول نصوص الإرادة، والحب، والبغض، والسخط، على أن التجدد ليس أيضا إلا للمخلوقات التي تراد، وتحب، وتسخط; وكذلك نصوص القول، والكلام، والحديث، ونحو ذلك، على أن المتجدد ليس إلا إدراك الخلق، والإتيان، والمجيء، وليس إلا مخلوقا من المخلوقات; فهذه التأويلات كلها من نمط واحد، ولا نزاع بين الناس أنها خلاف المفهوم الظاهر الذي دل عليه القرآن والحديث. ثم ملاحدة الباطنية يقولون: إن الرسل أرادوا إفهام الناس ما يتخيلونه، وإن لم يكن مطابقا للخارج، ويجعلون ذلك بمنْزلة ما يراه النائم، فتفسير القرآن عندهم يشبه تعبير الرؤيا التي لا يفهم تعبيرها من ظاهرها، كرؤيا يوسف، والملك، بخلاف الرؤيا التي يكون ظاهرها مطابقا لباطنها; وأما المسلمون من أهل الكلام، فهم وإن كانوا يكفرون من يقول بهذا، فإما أن يتأولوا تأويلات يعلم بالضرورة أن الرسول لم يردها، وإما أن يقولوا لا ندري ما أراد; فهم إما في جهل بسيط، أو مركب; ومدار هؤلاء كلهم، على أن العقل عارض ما دلت عليه النصوص; وقد بين أهل الإثبات: أن العقل مطابق موافق لما جاءت به النصوص، لا معارضا له، لكن المقصود هنا أن نبين أن القرآن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 192 والسنة فيهما من الدلالة على هذا الأصل ما لا يكاد يحصر. فمن له فهم في كتاب الله يستدل بما ذكر من النصوص على ما ترك، ومن عرف حقيقة قول النفاة، علم أن القرآن مناقض لذلك، مناقضة لا حيلة لهم فيها، وأن القرآن يثبت ما يقدر الله عليه ويشاؤه من أفعاله التي ليست هي نفس المخلوقات، وغير أفعاله; ولولا ما وقع في كلام الناس من الالتباس والإجمال، لما كان يحتاج أن يقال: الأفعال ليست هي نفس المخلوقات، فإن المعقول عند جميع الناس أن الفعل المتعدي إلى مفعول ليس هو نفس المفعول; لكن النفاة عندهم: إن المخلوقات هي نفس فعل الله، ليس له فعل عندهم إلا نفس المخلوقات; فلهذا احتيج إلى البيان. ومما يدل على هذا الأصل ما علق بشرط، كقوله: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [سورة الطلاق آية: 2-3] ، وقوله: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [سورة آل عمران آية: 31] ، وقوله: {إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً} [سورة الأنفال آية: 29] ، وقوله: {لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً} [سورة الطلاق آية: 1] ، وقوله تعالى: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [سورة الكهف آية: 23-24] ، وقوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 193 وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ} [سورة محمد آية: 28] . وبالجملة: فهذا في كتاب الله أكثر من أن يحصر; وكذلك الأحاديث الصحيحة المتلقاة بالقبول، كقوله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه: " ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه" 1، وقوله: "أتدرون ماذا قال ربكم الليلة؟ "2، وقوله في حديث الشفاعة: " إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله "3، وقوله: " إذا تكلم الله بالوحي، سمع أهل السماوات كجر السلسلة على الصفا "4، وقوله: " إن الله يحدث من أمره ما شاء، وإن مما أحدث أن لا تكلموا في الصلاة "5. وقوله في حديث التجلي: " فيقولون هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا، فإذا جاء ربنا عرفناه، فيأتيهم الله في صورته التي يعرفون "6، وقوله: " لله أشد فرحا بتوبة عبده من أحدكم أضل راحلته بأرض دوية مهلكة، عليها طعامه وشرابه، فطلبها فلم يجدها، فنام تحت شجرة ينتظر الموت، فلما استيقظ إذا هو بدابته عليها طعامه وشرابه، فالله أشد فرحا بتوبة عبده من هذا براحلته "7، وهذا الحديث: مستفيض عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين من غير وجه، من حديث ابن مسعود وأبي هريرة; وقوله: " يضحك الله لرجلين يقتل أحدهما صاحبه، كلاهما يدخل الجنة "، وفي حديث: آخِر من يدخل الجنة، قال: " فيضحك الله منه "، وقوله: " ما منكم من أحد إلا   1 البخاري: الرقاق (6502) . 2 البخاري: المغازي (4147) , ومسلم: الإيمان (71) , والنسائي: الاستسقاء (1525) , وأبو داود: الطب (3906) , وأحمد (4/117) , ومالك: النداء للصلاة (451) . 3 البخاري: أحاديث الأنبياء (3340) , ومسلم: الإيمان (194) , والترمذي: صفة القيامة والرقائق والورع (2434) . 4 أبو داود: السنة (4738) . 5 سنن أبي داود: كتاب الصلاة (924) , ومسند أحمد (1/435) . 6 البخاري: الأذان (806) , ومسلم: الإيمان (182) . 7 مسلم: التوبة (2747) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 194 سيكلمه ربه، ليس بينه وبينه حجاب، ولا ترجمان "1. وفي حديث: " قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين،. فإذا قال: العبد {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [سورة الفاتحة آية: 2] ، قال الله: حمدني عبدي، فإذا قال: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [سورة الفاتحة آية: 3] ، قال: أثنى علي عبدي، فإذا قال: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [سورة الفاتحة آية: 4] ، قال: مجدني عبدي "، وقوله صلى الله عليه وسلم: " يقول الله تعالى: من تقرب إلي شبرا تقربت إليه ذراعا، ومن تقرب إلي ذراعا تقربت إليه باعا" 2، وقوله صلى الله عليه وسلم "ينْزل الله تعالى إلى سماء الدنيا شطر الليل، أو ثلث الليل الآخر، فيقول: من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فاغفر له؟ "3، وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث الأنصاري الذي أضاف رجلا وآثره على نفسه وأهله، فلما أصبح الرجل، وغدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " لقد ضحك الله الليلة، أو عجب من فعالكما "4، وأنزل الله تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [سورة الحشر آية: 9] . وهذه الأحاديث كلها في الصحيحين. وفي السنن: من حديث علي عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث الركوب على الدابة، قال: " فقلت؟ يا رسول الله، من أي شيء تضحك؟ قال: ربك يضحك إلى عبده إذا قال: رب اغفر لي ذنوبي، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت. قال: علم عبدي أنه لا يغفر الذنوب غيري "، وفي لفظ: " إن ربك ليعجب من عبده إذا قال: رب اغفر لي ذنوبي، يعلم أنه لا   1 البخاري: التوحيد (7443) , ومسلم: الزكاة (1016) , وأحمد (4/256) . 2 البخاري: التوحيد (7405) , ومسلم: التوبة (2675) , والترمذي: الدعوات (3603) , وابن ماجه: الأدب (3822) , وأحمد (2/251 ,2/413) . 3 البخاري: الجمعة (1145) , ومسلم: صلاة المسافرين وقصرها (758) , والترمذي: الصلاة (446) والدعوات (3498) , وأبو داود: الصلاة (1315) والسنة (4733) , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1366) , وأحمد (2/258 ,2/264 ,2/267 ,2/282 ,2/383 ,2/419 ,2/487 ,2/504 ,2/521) , ومالك: النداء للصلاة (496) , والدارمي: الصلاة (1478 ,1479) . 4 البخاري: المناقب (3798) , ومسلم: الأشربة (2054) , والترمذي: تفسير القرآن (3304) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 195 يغفر الذنوب غيره"1، وفي حديث أبي رزين، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ضحك ربنا من قنوط عباده، وقرب غيره، ينظر إليكم أزلين قنطين، فيظل يضحك، يعلم أن فرجكم قريب فقال له أبو رزين، أو يضحك الرب؟ قال: نعم. فقال: لن نعدم من رب يضحك، خيرا "2. وفي الصحيحين وغيرهما في حديث التجلي الطويل المشهور، الذي روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه متعددة، فهو في الصحيحين من حديث أبي هريرة، وأبي سعيد، وفي مسلم من حديث جابر، ورواه أحمد من حديث ابن مسعود، وغيره، قال في حديث أبي هريرة، قال: " أولست قد أعطيت العهود والمواثيق، أن لا تسأل غير الذي أعطيت؟ فيقول: يا رب لا تجعلني أشقى خلقك، فيضحك الله تبارك وتعالى منه، ثم يأذن له في دخول الجنة ". وفي صحيح مسلم، عن ابن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " فيقول الله يا ابن آدم، أترضى إن أعطيتك الدنيا، ومثلها معها؟ فيقول: أي رب أتستهزئ بي وأنت رب العالمين؟ وضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ألا تسألوني مم ضحكت؟ فقالوا: مم ضحكت يا رسول الله؟ قال: من ضحك رب العالمين، حين قال: أتستهزئ بي وأنت رب العالمين؟ فيقول: إني لا أستهزئ بك، ولكني على ما أشاء قادر "3 وفي الصحيحين، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يضحك الله إلى   1 الترمذي: الدعوات (3446) , وأبو داود: الجهاد (2602) . 2 ابن ماجه: المقدمة (181) , وأحمد (4/11 ,4/12) . 3 مسلم: الإيمان (187) , وأحمد (1/410) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 196 رجلين، يقتل أحدهما الآخر، كلاهما يدخل الجنة، قالوا: كيف يا رسول الله؟ قال: يقتل هذا فيلج الجنة، ثم يتوب الله على الآخر، فيهديه الله إلى الإسلام، ثم يجاهد في سبيل الله فيستشهد ". وفي الصحيح أيضا عنه صلى الله عليه وسلم قال: " عجب الله من قوم يقادون إلى الجنة بالسلاسل "1، وفي حديث معروف: " لا يتوضأ أحدكم فيحسن وضوءه، ويسبغه، ثم يأتي إلى المسجد لا يريد إلا الصلاة، إلا تبشبش الله له، كما يتبشبش أهل الغائب بطلعته "2، وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " الدنيا حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها، فناظر كيف تعملون "3، وفي لفظ: "مستخلفكم فيها، لينظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا، واتقوا النساء "4، وفي الصحيح أيضا عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم "5. وفي الصحيحين: عن أبي واقد الليثي، " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قاعدا في أصحابه، إذ جاء ثلاثة نفر، فأما رجل فوجد فرجة في الحلقة فجلس; وأما رجل فجلس، يعني خلفهم; وأما رجل فانطلق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:. ألا أخبركم عن هؤلاء النفر؟ أما الرجل الذي جلس في الحلقة، فرجل آوى إلى الله، فآواه الله; وأما الرجل الذي جلس خلف الحلقة، فاستحيا، فاستحيا الله منه; وأما الرجل الذي انطلق، فأعرض، فأعرض الله عنه " وعن سلمان الفارسي موقوفا،   1 البخاري: الجهاد والسير (3010) , وأبو داود: الجهاد (2677) , وأحمد (2/302 ,2/448) . 2 أحمد (2/340) . 3 مسلم: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2742) , والترمذي: الفتن (2191) , وابن ماجه: الفتن (4000) , وأحمد (3/19 ,3/22) . 4 مسلم: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2742) , والترمذي: الفتن (2191) , وابن ماجه: الفتن (4000) , وأحمد (3/19 ,3/22 ,3/61) . 5 مسلم: البر والصلة والآداب (2564) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 197 ومرفوعا، قال: " إن الله يستحي أن يبسط العبد يديه إليه، يسأله فيهما خيرا، فيردهما صفرا خائبتين "1. وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه تبارك وتعالى: " لا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته، كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي; ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذ بي لأعيذنه; وما ترددت عن شيء أنا فاعله، ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره إساءته، ولا بد له منه ". وفي الصحيح عن عبادة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه. فقالت عائشة: إنا نكره الموت، قال: ليس بذاك، ولكن المؤمن إذا حضره الموت بشر برضوان الله وكرامته، وإذا بشر بذلك أحب لقاء الله، وأحب الله لقاءه، إن الكافر إذا حضره الموت بشر بعذاب الله وسخطه، وكره لقاء الله، وكره الله لقاءه "2. وفي الصحيحين: عن البراء بن عازب، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " الأنصار لا يحبهم إلا مؤمن، ولا يبغضهم إلا منافق، من أحبهم أحبه الله، ومن أبغضهم أبغضه الله "3 وفي الصحيحين: عن أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله تبارك وتعالى يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة; فيقولون: لبيك وسعديك; فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا   1 أحمد (5/438) . 2 البخاري: الرقاق (6507) , ومسلم: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2683 ,2684) , والترمذي: الجنائز (1066) والزهد (2309) , والنسائي: الجنائز (1836 ,1837) , وأحمد (5/316 ,5/321) , والدارمي: الرقاق (2756) . 3 البخاري: المناقب (3783) , ومسلم: الإيمان (75) , والترمذي: المناقب (3900) , وابن ماجه: المقدمة (163) , وأحمد (4/283 ,4/292) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 198 نرضى، وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك; فيقول عز وجل أنا أعطيكم أفضل من ذلك; قالوا: يا ربنا، وأي شيء أفضل من ذلك؟ قال أحل عليكم رضواني، فلا أسخط عليكم بعده أبدا "1، وفي الصحيحين عن أنس قال: " نزل علينا، ثم كان من المنسوخ: أبلغوا قومنا، أنا قد لقينا ربنا فرضي عنا، وأرضانا" 2 وفي حديث عمر بن مالك الرواسي، قال: " أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله، إن الرب ليرضى فيرضي، فارض عني، فرضي عني ". وفي الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من حلف على يمين صبر، ليقتطع بها مال امرء مسلم - وهو فيها فاجر -، لقي الله وهو عليه غضبان "3 وفي الصحيحين: عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " اشتد غضب الله على قوم فعلوا هذا برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو حينئذ يشير إلى رباعيته، وقال: اشتد غضب الله على رجل يقتله رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبيل الله "4. وفي صحيح مسلم: عن حذيفة بن أسيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة، بعث الله ملكا فصورها، وخلق الله سمعها، وبصرها، وجلدها، ولحمها، وعظامها، ثم قال: يا رب، ذكر أو أنثى؟ فيقضي ربك ما شاء، ويكتب الملك. ثم يقول: يا رب أجله؟ فيقول ربك ما شاء، ويكتب الملك; فيقول: يا رب رزقه؟ فيقضي ربك ما شاء، ويكتب الملك، ثم يخرج الملك الصحيفة في يده،   1 البخاري: الرقاق (6549) , ومسلم: الجنة وصفة نعيمها وأهلها (2829) , والترمذي: صفة الجنة (2555) , وأحمد (3/88) . 2 البخاري: المغازي (4091) , وأحمد (3/210 ,3/288) . 3 البخاري: تفسير القرآن (4550) , ومسلم: الإيمان (138) , وأحمد (1/442) . 4 مسلم: الجهاد والسير (1793) , وأحمد (2/317) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 199 ولا يزيد على ما أمر، ولا ينقص "1. وفي الصحيح عن عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في سجوده: " أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك "2. وفي حديث آخر: " أعوذ بكلمات الله التامة، من غضبه، وعقابه، وشر عباده "3، وفي الصحيحين: عن أنس في حديث الشفاعة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "فإذا رأيت ربي وقعت له ساجدا، فيدعني ما شاء الله أن يدعني، ثم يقول لي: يا محمد، ارفع رأسك، وسل تعطه، واشفع تشفع. وذكر مثل هذه ثلاث مرات "4. وفي الصحيحين، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر، ثم يعرج الذين باتوا فيكم، فيسألهم - وهو أعلم بهم -: كيف تركتم عبادي؟ قالوا: تركناهم وهم يصلون، وأتيناهم وهم يصلون "5. وفي الصحيحين أيضا: عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن لله ملائكة، فضلا عن كتّاب الناس، سياحين في الأرض، فإذا وجدوا قوما يذكرون الله تنادوا: هلموا إلى حاجتكم، قال: فيخرجون حتى يحفوا بهم إلى السماء الدنيا، قال: فيقول الله عز وجل أي شيء تركتم عبادي يصنعون؟ قال، فيقولون: تركناهم يحمدونك،   1 مسلم: القدر (2645) . 2 مسلم: الصلاة (486) , والترمذي: الدعوات (3493) , والنسائي: التطبيق (1100) , وأبو داود: الصلاة (879) , وابن ماجه: الدعاء (3841) , ومالك: النداء للصلاة (497) . 3 أحمد (4/57) . 4 البخاري: التوحيد (7410) , وابن ماجه: الزهد (4312) , وأحمد (3/116) . 5 البخاري: مواقيت الصلاة (555) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (632) , والنسائي: الصلاة (485) , وأحمد (2/257 ,2/312 ,2/486) , ومالك: النداء للصلاة (413) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 200 ويسبحونك، ويمجدونك، قال: فيقول: هل رأوني؟ فيقولون: لا، قال: فيقول: كيف لو رأوني؟ قال: فيقولون: لو رأوك لكانوا أشد تمجيدا وأشد ذكرا، قال: فيقول: فأي شيء يطلبون؟ قالوا: يطلبون الجنة، قال: فيقول: هل رأوها؟ قال: فيقولون: لا، قال: فيقول: كيف لو رأوها؟ قال: فيقولون: لو رأوها لكانوا أشد عليها حرصا، وأشد لها طلبا; قال: فيقول: من أي شيء يتعوذون؟ قال: فيقولون: يتعوذون من النار; قال: فيقول: وهل رأوها؟ قال: فيقولون: لا; قال: فيقول: فكيف لو رأوها؟ قال: فيقولون: لو رأوها كانوا أشد منها تعوذا، وأشد منها هربا; قال: فيقول: إني أشهدكم أني قد غفرت لهم; قال: فيقولون: إن فيهم فلانا الخطاء، لم يردهم، إنما جاء لحاجة، قال: فيقول: هم القوم لا يشقى بهم جليسهم ". وفي الصحيحين: عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله إذا أحب عبدا نادى جبرائيل: إني قد أحببت فلانا فأحبه، قال: فيحبه جبرائيل. ثم ينادي في السماء: إن الله يحب فلانا فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض "1 وقال في البغض مثل ذلك; وفي الصحيحين: عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يقول الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه حين يذكرني، فإن ذكرني في نفسه، ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم، وإن   1 البخاري: بدء الخلق (3209) , ومسلم: البر والصلة والآداب (2637) , ومالك: الجامع (1778) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 201 اقترب إلي شبرا اقتربت إليه ذراعا، وإن اقترب إلي ذراعا اقتربت إليه باعا، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة "1. وفي صحيح مسلم: عن أبي هريرة، وأبي سعيد، أنهما شهدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ما جلس قوم مجلسا يذكرون الله، إلا حفت بهم الملائكة، وغشيتهم الرحمة، وذكرهم الله فيمن عنده "2. وفي الصحيحين: عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم " أن رجلا أصاب ذنبا، فقال: رب إني أصبت ذنبا، فاغفره لي، فقال ربه: علم عبدي أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به، قد غفرت لعبدي; ثم مكث ما شاء الله. ثم أذنب ذنبا آخر، فقال: أي رب، إني قد أذنبت ذنبا، فاغفره لي، فقال ربه: علم عبدي أن له ربا يغفر الذنب، ويأخذ بالذنب، قد غفرت لعبدي، فليفعل ما يشاء "3 وفي الصحيحين: عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يقبض الله الأرض، ويطوي السماء بيمينه، ثم يقول: أنا الملك، أين ملوك الأرض؟ "4. وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه، ليس بينه وبينه حجاب ولا ترجمان، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا شيئا قدمه وينظر أشأم منه فلا يرى إلا شيئا قدمه، وينظر أمامه، فتستقبله النار، فمن استطاع منكم أن يتقي النار ولو بشق تمرة، فليفعل، فإن لم يجد، فبكلمة طيبة "5. وفي صحيح مسلم: عن أبي هريرة رضي الله عنه عن   1 البخاري: التوحيد (7405) , ومسلم: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2675) , والترمذي: الدعوات (3603) . 2 أحمد (3/49) . 3 البخاري: التوحيد (7507) , ومسلم: التوبة (2758) , وأحمد (2/405) . 4 البخاري: الرقاق (6519) , ومسلم: صفة القيامة والجنة والنار (2787) , وابن ماجه: المقدمة (192) , وأحمد (2/374) , والدارمي: الرقاق (2799) . 5 البخاري: التوحيد (7443) , ومسلم: الزكاة (1016) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 202 النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الرؤية، قال فيه: " فيلقى العبد فيقول: أي فلان، ألم أكرمك، وأسودك، وأزوجك، وأسخر لك الخيل، والإبل، وأذرك ترأس، وتربع؟ فيقول: بلى يا رب; قال: فيقول: أفظننت أنك ملاقي؟ فيقول: لا، فيقول: إني أنساك كما نسيتني; ثم يلقى الثاني فيقول: أي فلان، فذكر مثل ما قال الأول. وبلغ الثالث، فيقول: آمنت بك، وبكتابك، وبرسولك، وصليت، وصمت، وتصدقت، ويثني بخير ما استطاع، قال: فيقول: فهاهنا إذن. قال: ثم يقال: ألا نبعث شاهدا عليك؟ ففكر في نفسه، من الذي يشهد عليه؟ فيختم على فيه، ويقال لفخذه: انطقي، فتنطق فخذه، ولحمه، وعظامه، بعمله، وذلك ليعذر من نفسه، وذلك المنافق " فذكر الحديث. وفي صحيح مسلم، عن أنس رضي الله عنه قال: " كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فضحك، فقال: هل تدرون مم أضحك؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: من مخاطبة العبد ربه، يقول: يا رب ألم تجرني من الظلم؟ قال: فيقول: بلى، قال: فيقول: فإني لا أجيز على نفسي إلا شاهدا مني، قال: فيقول: فكفى بنفسك عليك شهيدا، والكرام الكاتبين عليك شهودا، قال: فيختم على فيه، ويقال لأركانه: انطقي، فتنطق بأعماله. قال: ثم يخلي بينه وبين الكلام، قال: فيقول: بعدا لكن، وسحقا، فعنكن كنت أناضل "1، وفي الصحيحين، عن أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:   1مسلم: الزهد والرقائق (2969) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 203 " يقول الله لأهون أهل النار عذابا يوم القيامة: لو كان لك ما على الأرض من شيء، أكنت تفتدي به؟ فيقول: نعم، فيقول له: قد أردت منك ما هو أهون من هذا، وأنت في صلب آدم: أن لا تشرك بي، فأبيت إلا أن تشرك بي "1. وفي الصحيحين، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يدنو أحدكم من ربه، حتى يضع كنفه عليه، فيقول: عملت كذا وكذا، فيقول: نعم يا رب، فيقرره، ثم يقول: قد سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم، قال: ثم يعطى كتاب حسناته، وهو قوله: {هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ} وأما الكفار والمنافقون فينادون: {هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} ". وفي صحيح مسلم وغيره، عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " يقول الله يوم القيامة: يا ابن آدم، مرضت فلم تعدني، فيقول: يا رب، كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ قال: فيقول: أما علمت أن عبدي فلانا مرض فلم تعده، أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده؟ قال: فيقول: يا ابن آدم، استسقيتك فلم تسقني، فيقول: أي رب، كيف أسقيك وأنت رب العالمين؟ فيقول تبارك وتعالى: أما علمت أن عبدي فلانا استسقاك فلم تسقه؟ أما إنك لو سقيته لوجدت ذلك عندي، قال: ويقول: يا ابن آدم، استطعمتك فلم تطعمني، فيقول: أي رب، وكيف أطعمك وأنت رب العالمين؟ قال: فيقول: أما علمت أن   1 البخاري: أحاديث الأنبياء (3334) , ومسلم: صفة القيامة والجنة والنار (2805) , وأحمد (3/129) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 204 عبدي فلانا استطعمك فلم تطعمه؟ أما إنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي "1. وفي الصحيحين، عن أبي سعيد الخدري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن الله تعالى يقول: يا أهل الجنة، فيقولون: لبيك ربنا وسعديك، والخير في يديك، فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: ربنا وما لنا لا نرضى، وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك؟ فيقول: أعطيكم أفضل من ذلك، فيقولون: يا ربنا، وأي شيء أفضل من ذلك؟ قال: أحل عليكم رضواني، فلا أسخط عليكم بعده أبدا "2، وهذا فيه ذكر المخاطبة، وذكر الرضوان جميعا; وفي الصحيحين: عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " آخر أهل الجنة دخولا الجنة، وآخر أهل النار خروجا من النار: رجل يخرج حبوا، فيقول له ربه: ادخل الجنة; فيقول: إن الجنة ملأى; فيقول له ذلك ثلاث مرات، كل ذلك يعيد: الجنة ملأى; فيقول: إن لك مثل الدنيا عشر مرات "3. وفي الصحيحين: عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ثلاثة لا يكلمهم الله، ولا ينظر إليهم يوم القيامة، ولهم عذاب أليم: رجل حلف على يمين على مال امرئ مسلم، فاقتطعه، ورجل حلف على يمين بعد العصر أنه أعطي بسلعته أكثر مما أعطي وهو كاذب; ورجل منع فضل ماء؛ يقول الله: اليوم أمنعك من فضلي، كما منعت فضل ما لم تعمل يداك "4 وفي صحيح مسلم: عن أبي ذر، عن   1 مسلم: البر والصلة والآداب (2569) , وأحمد (2/404) . 2 البخاري: الرقاق (6549) , ومسلم: الجنة وصفة نعيمها وأهلها (2829) , والترمذي: صفة الجنة (2555) , وأحمد (3/88) . 3 البخاري: التوحيد (7511) . 4 البخاري: المساقاة (2369) , والنسائي: البيوع (4462) , وأبو داود: البيوع (3474) , وابن ماجه: التجارات (2207) والجهاد (2870) , وأحمد (2/253 ,2/480) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 205 النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ث لاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم "1 قال: فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أبو ذر: خابوا وخسروا، من هم يا رسول الله؟ قال: " المسبل، والمنان، والمنفق سلعته بالحلف الكاذبة "2، وهذان الحديثان: فيهما نفي التكليم والنظر عن بعض الناس، كما في القرآن مثل ذلك؛ وأما نفي التكليم وحده، ففي غير حديث، وهذا الباب فيه: أحاديث كثيرة جدا يتعذر استقصاؤها، ولكن نبهنا ببعضه على نوعه. والأحاديث جاءت في هذا الباب، كما جاءت الآيات، مع زيادة تفسير في الحديث، كما أن أحاديث الأحكام، تجيء موافقة لكتاب الله، مع تفسيرها لمجمله، ومع ما فيها من الزيادة التي لا تعارض القرآن، فإن الله سبحانه وتعالى أنزل على نبيه الكتاب والحكمة، وأمر أزواج نبيه أن يذكرن ما يتلى في بيوتهن من آيات الله والحكمة، وامتن على المؤمنين بأن {بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [سورة آل عمران آية: 164] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " ألا وإني أوتيت الكتاب، ومثله معه " 3: وفي رواية: "ألا وإنه مثل القرآن أو أكثر ". فالحكمة التي أنزل الله عليه مع القرآن، وعلمها لأمته تتناول ما تكلم به في الدين من غير القرآن، من أنواع   1 البخاري: الشهادات (2672) , ومسلم: الإيمان (108) , والترمذي: السير (1595) , والنسائي: البيوع (4462) , وأبو داود: البيوع (3474) , وابن ماجه: التجارات (2207) والجهاد (2870) , وأحمد (2/253 ,2/480) . 2 مسلم: الإيمان (106) , والترمذي: البيوع (1211) , والنسائي: الزكاة (2563 ,2564) والبيوع (4458 ,4459) والزينة (5333) , وأبو داود: اللباس (4087) , وابن ماجه: التجارات (2208) , وأحمد (5/148 ,5/158 ,5/162 ,5/168 ,5/177) , والدارمي: البيوع (2605) . 3 أبو داود: السنة (4604) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 206 الخبر والأمر; فخبره موافق لخبر الله، وأمره فكأنه يأمر بما في الكتاب، وبما هو تفسير ما في الكتاب، وبما لم يذكر بعينه في الكتاب; فجاءت أخباره في هذا الباب يذكر فيها أفعال الرب، كخلقه، ورزقه، وعدله، وإحسانه، وإثابته، ومعاقبته، ويذكر فيها أنواع كلامه، وتكليمه لملائكته وأنبيائه وغيرهم من عباده، ويذكر فيها ما يذكره من رضاه، وسخطه، وحبه، وبغضه، وفرحه، وضحكه، وغير ذلك من الأمور، التي تدخل في هذا الباب. وما أحسن ما قال العلامة ابن القيم في كافيته: وهو المقدم والمؤخر ذانك الـ ... صفتان للأفعال تابعتان وهما صفات الذات أيضا إذ هما ... بالذات لا بالغير قائمتان ولذاك قد غلط المقسم حين ظـ ... ـن صفاته نوعين مختلفان إن لم يرد هذا ولكن قد أرا ... د قيامها بالفعل ذي الإمكان والفعل والمفعول شيء واحد ... عند المقسم ما هما شيئان فلذاك وصف الفعل ليس لديه إلا ... نسبة عدمية ببيان فجميع أسماء الفعال لديه ليـ ... ست قط ثابتة ذوات معان موجودة لكن أمور كلها ... نسب ترى عدمية الوجدان هذا هو التعطيل للأفعال كالتـ ... عطيل للأوصاف بالميزان فالحق أن الوصف ليس بمورد التـ ... قسيم هذا مقتضى البرهان بل مورد التقسيم ما قد قام بالذا ... ت التي للواحد الرحمن فهما إذا نوعان أوصاف وأفـ ... عال فهذي قسمة التبيان فالوصف بالأفعال يستدعي قيا ... م الفعل بالموصوف بالبرهان الجزء: 3 ¦ الصفحة: 207 كالوصف بالمعنى سوى الأفعال ما ... إن بين ذينك قط من فرقان ومن العجائب أنهم ردوا على ... من أثبت الأسماء دون معان قامت بمن هي وصفه هذا محا ... ل غير معقول لذي الأذهان وأتوا إلى الأوصاف باسم الفعل قا ... لوا لم تقم بالواحد الديان فانظر إليهم بطلوا الأصل الذي ... ردوا به أقوالهم بوزان إن كان هذا ممكنا فكذاك قو ... ل خصومكم أيضا فذو إمكان [جواب الشيخ عبد الرحمن بن حسن عن فرق الجهمية والرافضة والمعتزلة] وسئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن، عن الجهمية، والرافضة، والمعتزلة. فأجاب: لا ريب أن هذه الفرق الثلاث، هي أصل ضلال من ضل من هذه الأمة، فأصل الرافضة خرجوا في خلافة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، فلما اطلع على سوء معتقدهم خد الأخاديد، وجعل فيها الحطب، وأضرمها بالنار، فقذفهم فيها. وهم الذين أحدثوا الشرك في صدر هذه الأمة، بنوا على القبور، وعمت بهم البلوى، ولهم قواعد سوء يطول ذكرها. وأما المعتزلة، فأولهم نفاة القدر، جحدوا أصلا من أصول الإيمان، الذي في سؤال جبريل للنبي، قال: "فأخبرني عن الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، وباليوم الآخر، والقدر خيره وشره "1. وأنكر الصحابة رضي الله عنهم: ما أحدثوا من هذه البدعة، ولهم عقائد سوء، يقولون بتخليد أهل المعاصي في النار; ونفوا   1 مسلم: الإيمان (8) , وأبو داود: السنة (4695) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 208 صفات الرب تعالى، ووافقوا الجهمية. فخرج أولهم في عصر التابعين; وأولهم الجعد بن درهم، أنكر الصفات، وزعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا، ولم يكلم موسى تكليما، فضحى به خالد بن عبد الله القسري، أمير واسط، يوم الأضحى. وظهر بعده جهم بن صفوان الذي تنسب إليه الجهمية، وهذا المذهب الخبيث; وانتشرت مقالته في خلافة بني العباس، في خلافة المأمون بن الرشيد، فعطلوا الصفات، ونفوا الحكمة، وقالوا بالجبر. فهذه الطوائف الثلاث هم أصل الشر في هذه الأمة، وصارت فتنة الجهمية أكثر انتشارا، ودخل فيها من يدعي أنه على السنة وليس كذلك، فخالف الكتاب والسنة، وسلف الأمة وأئمتها؛ وعم ضررهم، فجحدوا الصفات، وتوحيد الإلهية، الذي بعث الله به رسله وأنزل به كتبه. فهم خصوم أهل التوحيد والسنة إلى اليوم، فإياكم أن تغتروا بمن هذه حاله، ولو كان له صورة ودعوى في العلم، ممن امتلأ قلبه من فرث التعطيل، وحال بينه وبين فهم الأدلة الصحيحة الصريحة، شبهات التأويل. قال الإمام أحمد رحمه الله: أكثر ما يخطئ الناس من جهة التأويل والقياس; فصنف المتأخرون من هؤلاء على مذهبهم الفاسد مصنفات، كالأرجوزة التي يسمونها: جوهرة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 209 التوحيد; وهي إلحاد وتعطيل، لا يجوز النظر إليها، ولهم مصنفات أخر نفوا فيها علو الرب تعالى؛ وأكثر صفات كماله نفوها، ونفوا حكمة الرب تعالى. والكتاب والسنة يرد بدعتهم، ويبطل مقالتهم; فإن الله تعالى أثبت استواءه على عرشه، في سبعة مواضع من كتابه، كقوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً} [سورة الفرقان آية: 59] ، وقوله: {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [سورة المعارج آية: 4] ، وقوله: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} [سورة النحل آية: 50] ، {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [سورة آل عمران آية: 55] ، {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [سورة التوبة آية: 6] إلى غير ذلك من أدلة الصفات الصريحة في الكتاب والسنة، ولا تتسع هذه الرسالة لذكرها. وهذه الطائفة التي تنتسب إلى أبي الحسن الأشعري وصفوا رب العالمين بصفات المعدوم والجماد؛ فلقد أعظموا الفرية على الله، وخالفوا أهل الحق من السلف والأئمة وأتباعهم; وخالفوا من ينتسبون إليه، فإن أبا الحسن الأشعري، صرح في كتابه الإبانة، والمقالات، بإثبات الصفات; فهذه الطائفة المنحرفة عن الحق قد تجردت شياطينهم لصد الناس عن سبيل الله، فجحدوا توحيد الله في الإلهية، وأجازوا الشرك الذي لا يغفره الله، فجوزوا أن يعبد غيره من دونه، وجحدوا توحيد صفاته بالتعطيل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 210 فالأئمة من أهل السنة وأتباعهم لهم المصنفات المعروفة في الرد على هذه الطائفة الكافرة المعاندة، كشفوا فيها كل شبهة لهم، وبينوا فيها الحق الذي دل عليه كتاب الله وسنة رسوله، وما عليه سلف الأمة وأئمتها من كل إمام رواية ودراية. ومن له نهمة في طلب الأدلة على الحق، ففي كتاب الله وسنة رسوله ما يكفي ويشفي; وهما سلاح كل موحد ومثبت; لكن كتب أهل السنة، تزيد الراغب، وتعينه على الفهم; وعندكم من مصنفات شيخنا رحمه الله، ما يكفي مع التأمل; فيجب عليكم هجر أهل البدع، والإنكار عليهم. وأما الإفغانية الذين جاؤونا ووصلوا إلى جهتكم، فهم أهل تشديد وغلو، مع جهل كثيف، أشبهوا الخوارج الذين كفروا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بمروقهم، وأمر أصحابه بقتلهم، ولهم عبادة وزهد; لكنهم: أخطؤوا في فهم الكتاب والسنة، واستغنوا بجهلهم عن أن يأخذوا العلم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال العلامة ابن القيم رحمه الله: ولهم نصوص قصروا في فهمها ... فأتوا من التقصير في العرفان وقد ناظر ابن عباس رضي الله عنه أهل النهروان، فرجع بعضهم إلى الحق، واستمر بعضهم على الباطل، حتى قتلهم علي رضي الله عنه بالنهروان; وفيهم المخدج الذي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 211 أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم. فإذا كانت هذه الطائفة قد خرجت في عهد الخلفاء الراشدين، فلا بد أن يكون لهم أشباه في هذه الأمة، فاحذروهم; وتأمل قوله تعالى في حق سادات الأمة، أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْأِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [سورة الحجرات آية: 7-8] ، فليس العجب ممن هلك، كيف هلك، إنما العجب ممن نجا، كيف نجا، والله أعلم. [الجواب عن أسئلة من عمان صدرت من جهمي ضال] وله أيضا رحمه الله: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد النبي الصادق الأمين، وعلى آله وصحبه، وسلم تسليما. أما بعد: فقد وردت علينا أسئلة من عمان، صدرت من جهمي ضال، يستعجز بها بعض المسلمين، فينبغي أن نجيب عنها بما يفيد طالب العلم، وما لا فائدة فيه لا يحتاج إلى الاشتغال بالجواب عنه. فمما ينبغي أن نجيب عنه، قوله: إن الاسم مشتق من السمو، أو من السمة، واشتقاق الاسم من هذين، ذكره العلماء رحمهم الله تعالى في كتبهم، لكن يتعين أن نسأله عن كيفية هذا الاشتقاق؟ وما معنى الاشتقاق الذي يذكره الجزء: 3 ¦ الصفحة: 212 العلماء؟ فنطلب منه الجواب عن هذين الأمرين؟ وإن كانا مذكورين في كتب النحاة، وغيرهم; وقد ذكرته في فتح المجيد شرح كتاب التوحيد. وأما سؤاله عن الفرق بين القضاء والقدر؟ فالقدر أصل من أصول الإيمان، كما في سؤال جبريل عليه السلام، وما أجابه به رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سأله، قال: " الإيمان: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الأخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره "، وفي الحديث الصحيح: "إن أول ما خلق الله القلم، فقال له: اكتب، فجرى بما هو كائن إلى يوم القيامة"1 أي: جرى بما يكون مما يعلم الله تعالى، فإنه تعالى يعلم ما كان وما يكون، وما لم يكن، لو كان كيف يكون {لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [سورة سبأ آية: 3] . وأما القضاء: فيطلق في القرآن ويراد به إيجاد المقدر، كقوله: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ} [سورة فصلت آية: 12] ، وقوله: {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ} [سورة سبأ آية: 14] ؛ ويطلق ويراد به: الإخبار بما سيقع مما قدر، كقوله: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرائيلَ فِي الْكِتَابِ} [سورة الإسراء آية: 4] أخبرهم في كتابهم أنهم يفسدون في الأرض مرتين؛ ويطلق ويراد به الأمر والوصية، كما قال: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ}   1 الترمذي: تفسير القرآن (3319) , وأحمد (5/317) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 213 [سورة الإسراء آية: 23] ، أي: أمر ووصى؛ ويطلق ويراد به: الحكم، كقوله: {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ} [سورة الزمر آية: 69] ؛ ويطلق ويراد به القدر، ونحو ذلك. وأما ما زعمه من أن الأدلة الدالة على استوائه على عرشه، لا تمنع أن يكون مستويا على غيره. فالجواب، أن نقول: قد أجمع أهل السنة والجماعة، قديما وحديثا، على أنه لا يجوز أن يوصف الله بما لم يصف به نفسه، ولا وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن وصفه بغير ما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم فهو جهمي، ضال مضل، يقول على الله بلا علم; وقد ذكر سبحانه استواءه على عرشه، في سبعة مواضع من كتابه: في سورة "الأعراف"، وفي سورة "يونس"، وفي سورة "الرعد"، وفي سورة "طه"، وفي سورة "الفرقان"، وفي سورة "السجدة"، وفي سورة "الحديد". ولم يذكر تعالى أنه استوى على غير العرش، ولا ذكره رسوله صلى الله عليه وسلم، فعلم أنه ليس من صفاته التي يجوز أن يوصف بها; فمن أدخل في صفات الله ما لم يذكر في كتاب الله، ولا في سنة رسوله، فهو جهمي، يقول على الله ما لا يعلم. وقد قال الله تعالى: {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [سورة المعارج آية: 4] ، {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [سورة فاطر آية: 10] ، {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} [سورة النحل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 214 آية: 50] {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [سورة آل عمران آية: 55] ، {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} [سورة النساء آية: 158] {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [سورة البقرة آية: 255] ، {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سورة سبأ آية: 23] علو القدر، وعلو القهر، وعلو الذات; لا يجوز أن يوصف إلا بذلك كله، لكماله تعالى في أوصافه؛ فله الكمال المطلق، في كل صفة وصف بها نفسه، ووصفه بها رسوله صلى الله عليه وسلم وقال تعالى: {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ} [سورة غافر آية: 15] ، فذكر العرش عند هذه الصفة، من أدلة فوقيته تعالى، كما هو صريح فيما تقدم من الآيات; وكقوله تعالى: {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} [سورة الشورى آية: 5] الآية. وذكر النبي صلى الله عليه وسلم في معنى قول الله تعالى: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ} [سورة الحديد آية: 3] الآية: " اللهم: أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء "1 فقوله: "فليس فوقك شيء" نص في أنه تعالى فوق جميع المخلوقات; وهو الذي ورد عن الصحابة، والتابعين من المفسرين وغيرهم، في معنى قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [سورة طه آية: 5] إن معنى استوى: استقر، وارتفع، وعلا، وكلها بمعنى واحد؛ لا ينكر هذا إلا جهمي زنديق، يحكم على الله وعلى أسمائه وصفاته بالتعطيل، قاتلهم الله أنى يؤفكون، والنصوص الدالة على   1 مسلم: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2713) , والترمذي: الدعوات (3400 ,3481) , وأبو داود: الأدب (5051) , وابن ماجه: الدعاء (3831) , وأحمد (2/381 ,2/404 ,2/536) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 215 إثبات الصفات، كثيرة جدا. وقد صنف أهل السنة من المحدثين والعلماء، مصنفات كبارا، ومن ذلك: كتاب "السنة" لعبد الله بن الإمام أحمد، ذكر فيه أقوال الصحابة والتابعين والأئمة; وكتاب "التوحيد" لإمام الأئمة: محمد بن خزيمة; وكتاب "السنة" للأثرم صاحب الإمام أحمد، و "كتاب" عثمان بن سعيد الدارمي، في رده على المريسي; وكتاب "السنة" للخلال، وكتاب "العلو" للذهبي; وغير ذلك مما لا يحصى كثرة، ولله الحمد والمنة. ونذكر بعض الأحاديث الصريحة في المعنى، فمن ذلك: ما رواه ابن أبي حاتم، عن النواس بن سمعان، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا أراد الله تعالى أن يوحي بالأمر، تكلم بالوحي، أخذت السماوات منه رجفة، أو قال رعدة شديدة، خوفا من الله عز وجل. فإذا سمع ذلك أهل السماوات، صعقوا، وخروا لله سجدا. فيكون أول من يرفع رأسه جبرائيل، فيكلمه الله من وحيه بما أراد. ثم يمر جبرائيل على الملائكة، كلما مر على سماء، سأله ملائكتها: ماذا قال ربنا يا جبرائيل؟ فيقول جبرائيل: قال الحق، وهو العلي الكبير; فيقولون كلهم مثل ما قال جبرائيل، فينتهي جبرائيل بالوحي، إلى حيث أمره الله عز وجل ". ففي هذا الحديث التصريح بأن جبرائيل ينْزل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 216 بالوحي من فوق السماوات السبع، فيمر بها كلها نازلا إلى حيث أمره الله، وهذا صريح بأن الله تعالى فوق السماوات على عرشه، بائن من خلقه، كما قال عبد الله بن المبارك لما قيل له: بم نعرف ربنا؟ قال: "بأنه على عرشه، بائن من خلقه" وهذا قول أئمة الإسلام قاطبة، خلافا للجهمية الحلولية، والفلاسفة، وأهل الوحدة، وغيرهم من أهل البدع، فرحم الله أهل السنة والجماعة، المتمسكين بالوحيين. وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: " إن الله كتب كتابا قبل أن يخلق الخلق: إن رحمتي سبقت غضبي، فهو عنده فوق العرش "1، وفي حديث العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه الذي رواه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه: أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر سبع سماوات وما بينهما، ثم قال: " وفوق ذلك بحر، بين أعلاه وأسفله كما بين سماء إلى سماء، ثم فوق ذلك ثمانية أوعال، ما بين أظلافهن وركبهن كما بين سماء إلى سماء، ثم فوق ظهورهن العرش، ما بين أعلاه وأسفله كما بين سماء إلى سماء، والله تعالى فوق ذلك "2. وفي حديث ابن مسعود، الذي رواه عبد الرحمن بن مهدي، شيخ الإمام أحمد، عن حماد بن سلمة، عن عاصم، عن زر، عن عبد الله بن مسعود، قال: " بين السماء   1 البخاري: التوحيد (7554) , ومسلم: التوبة (2751) , وابن ماجه: الزهد (4295) , وأحمد (2/259 ,2/313 ,2/358 ,2/381 ,2/397 ,2/433 ,2/466) . 2 الترمذي: تفسير القرآن (3320) , وأبو داود: السنة (4723) , وابن ماجه: المقدمة (193) , وأحمد (1/206) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 217 الدنيا والتي تليها خمسمائة عام، وبين كل سماء إلى سماء خمسمائة عام، وبين السماء السابعة والكرسي خمسمائة عام، وبين الكرسي والماء خمسمائة عام، والعرش فوق الماء، والله تعالى فوق العرش، لا يخفى عليه شيء من أعمالكم ". والجهمية جحدوا هذه النصوص، وعاندوا في التكذيب، فصاروا بذلك كفارا عند أكثر أهل السنة والجماعة. وهذا القدر الذي ذكرنا كاف في بيان ما عليه أهل السنة والجماعة، من علو الله تعالى على جميع المخلوقات، واستوائه على عرشه؛ وقد تظاهرت الأدلة من الكتاب والسنة على ذلك; ولو ذهبنا نذكر ما ورد في ذلك، لاحتمل مجلدا، فالحمد لله الذي حفظ على الأمة دينها، في كتابه وسنة رسوله، وبنقل العلماء الذين هم في هذه الأمة كأنبياء بني إسرائيل، وهدانا إلى ذلك؛ فأبطل الله بالعلماء كل بدعة وضلالة، حدثت في هذه الأمة، فيا لها من نعمة، ما أجلها في حق من تلقى الحق بالقبول، وعرفه، ورضي به! نسأل الله أن يجعلنا شاكرين لنعمه، مثنين بها عليه، فله الحمد لا نحصى ثناء عليه، هو كما أثنى على نفسه، وفوق ما يثني عليه خلقه. فأهل السنة والجماعة عرفوا ربهم بما تعرف به إليهم من صفات كماله اللائقة بجلال الله، فأثبتوا له الجزء: 3 ¦ الصفحة: 218 تعالى ما أثبته لنفسه، وأثبته له رسوله إثباتا بلا تمثيل، وتنْزيها بلا تعطيل، وعرفوه بأفعاله وعجائب مخلوقاته; وبما أظهره لهم من عظيم قدرته، وبما أسبغه عليهم من عظيم نعمه، فعبدوا ربا أحدا صمدا، إلها واحدا، وهو الله الذي الإلهية وصفه; فالخلق خلقه، والملك ملكه، لا شريك له في إلهيته، ولا في ربوبيته، ولا في ملكه، تعالى وتقدس، كما قال تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ ?مَلِكِ النَّاسِ إِلَهِ النَّاسِ} [سورة الناس آية: 1-2] ، ونزهوه عما تنَزه عنه، وعن كل ما فيه عيب ونقص، وعن كل ما وصفته الجهمية وأهل البدع، مما لا يليق بجلاله وعظمته. وأما الجهمية، فعطلوه من صفات الكمال، وصاروا إنما يعبدون عدما، لأنهم وصفوه بما ينافي الكمال، ويوقع في النقص العظيم، فشبهوه بالناقصات تارة، وبالمعدوم تارة، فهم أهل التشبيه، كما عرفت من حالهم وضلالهم ومحالهم. وأما ما أورده هذا الجهمي الجاهل من آيات العلم، كقوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [سورة الحديد آية: 4] ، وقوله: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} [سورة المجادلة آية: 7] ، فلا منافاة بين استوائه على عرشه وإحاطة علمه بخلقه، والسياق يدل على ذلك: أما الآية الأولى، فهي مسبوقة بقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 219 سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا} [سورة الحديد آية: 4] . ذكر استواءه على عرشه، وذكر إحاطة علمه بما في الأرض والسماوات، ثم قال: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [سورة الحديد آية: 4] ، أي بعلمه المحيط بما كان وما يكون. وأما الآية الثانية: فهي كذلك مسبوقة بالعلم، وختمها تعالى به، فقال: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} [سورة المجادلة آية: 7] إلى قوله: {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [سورة المجادلة آية: 7] ، فعلم أن المراد: علمه بخلقه، وأنه لا يخفى عليه شيء من أعمالهم، كما قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً} [سورة الطلاق آية: 12] ، وهذا المعنى الذي ذكرنا، هو الذي عليه المفسرون من الصحابة والتابعين والأئمة، وجميع أهل السنة والجماعة. وأما الجهمية وأهل البدع، فحرموا معرفة الحق، لانحرافهم عنه، وجهلهم به، وبالقرآن والسنة، كما قال العلامة بن القيم، رحمه الله تعالى: ثقل الكتاب عليهم لما رأوا تقييده بشرائع الإيمان. ومن المعلوم أنه لا يقبل الحق إلا من طلبه، وأما أهل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 220 البدع، فأشربوا في قلوبهم ما وقعوا فيه من البدع، والضلال، وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق، فأبى الله إلا أن يتم نوره، ولو كره الكافرون. فإذا عرف ذلك، فيتعين أن نسأل هذا الجهمي وغيره من المبتدعة، عن أمور لا يسع مسلما أن يجهلها، لأن الإسلام يتوقف على معرفتها. فمن ذلك، ما معنى كلمة الإخلاص، لا إله إلا الله؟ وما الإلهية المنفية بلا النافية للجنس؟ وما خبرها؟ وما معنى الإلهية التي ثبتت لله وحده، دون ما سواه؟ وما أنواع التوحيد؟ وألقابه؟ وأركانه؟ وما معنى الإخلاص، الذي أمر الله به عباده، وأخبرهم أنه له وحده؟ وما تعريف العبادة التي خلقوا لها؟ وما أقسام العلم النافع، الذي لا يسع أحدا جهله؟ وما معنى اسم الله تعالى، الذي لا يسمى بهذا الاسم غيره؟ وما صفة اشتقاقه من المصدر الذي هو معناه؟ فالجواب عن هذا مطلوب; والله المستعان، وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله على محمد سيد المرسلين، وإمام المتقين، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 221 [رسالة الشيخ عبد الرحمن بن حسن إلى راشد بن مطر] وله أيضا، قدس الله روحه: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، محمد وعلى آله وصحبه، ومن أحبه ووده; من عبد الرحمن بن حسن، إلى أخيه: راشد بن مطر، سلمه الله تعالى، وزاده علما وإيمانا، وتوفيقا، وتحقيقا، وإذعانا. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فقد وصل إلي خطك، وسرنا ما أشعر به من حسن الحال، من معرفة الإسلام، ومحبته، وقبوله، فتلك النعمة التي لا أشرف منها، ولا أنفع {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [سورة يونس آية: 58] ، ففضله: الإسلام والإيمان; وقيل: القرآن، وهما متلازمان; ورحمته: أن جعلكم من أهله، كما فسر الصحابي رضي الله عنه الآية بهذا. وما ذكرت من قيام الجهمية، والرافضة، والمعتزلة، عليكم، فلا يخفاك أن هذه الفرق الثلاث، قد ابتلى بهم أهل السنة والجماعة، قديما وحديثا، وتشعبت هذه الأهواء شعبا; الجزء: 3 ¦ الصفحة: 222 وكل من أقامه الله بدينه والدعوة إليه، ناله منهم عناء ومشقة؛ فهم أعداء أهل الحق في كل زمان ومكان، حكمة بالغة يمتحن حزبه بحربه، كما جرى للرسل من أعدائهم في الدين، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ} [سورة الفرقان آية: 31] ليتميز الصادق بصدقه وصبره على دينه، وليتخلف من ليس كذلك ممن ليس له قدم راسخ في الإيمان {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [سورة العنكبوت آية: 3] . وبعد الابتلاء والامتحان يحصل النصر والتمكين للمؤمنين الصادقين الصابرين، كما قال تعالى: {وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [سورة الصافات آية: 173] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ} [سورة محمد آية: 7] . فمن قامت عليه الحجة فلم يقبل وجادل بالباطل، وجبت عداوته والبراءة منه، ومفارقته بالقلب والبدن. وأما قول الأشاعرة في نفي علو الله تعالى على عرشه فهو قول الجهمية، سواء بسواء; وذلك يرده ويبطله نصوص الكتاب والسنة، كقوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [سورة طه آية: 5] {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [سورة الأعراف آية: 54] في ستة مواضع، وكقوله: {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [سورة المعارج آية: 4] والعروج إنما هو من أسفل إلى فوق; وقوله: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} [سورة النحل آية: 50] ، {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [سورة آل عمران آية: 55] ، و {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} الجزء: 3 ¦ الصفحة: 223 [سورة الملك آية: 16] الآيتين؛ وكل هذه الآيات نصوص في علو الله تعالى على خلقه، واستوائه على عرشه، على ما يليق بجلاله، بلا تكييف. وقول هؤلاء الأشاعرة: إنه من الجهات الست خالي، قد وصفوه بما يوصف به المعدوم; وهو قد وصف نفسه بصفات الموجود، القائم على كل نفس بما كسبت; وفي الأحاديث من أدلة العلو ما لا يكاد يحصر إلا بكلفة، كقوله في حديث الرقية: "ربنا الله الذي في السماء تقدس اسمك "1 الحديث; وجوهرة السنوسي، ذكر فيها مذهب الأشاعرة، وأكثره مذهب الجهمية المعطلة، لكنهم تصرفوا فيه تصرفا لم يخرجهم عن كونهم جهمية. ومذهبهم: أن القرآن عبارة عن كلام الله، لا أنه كلامه تكلم به; وخالفوا الكتاب والسنة; قال تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ} [سورة الفتح آية: 15] ، {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [سورة التوبة آية: 6] ، {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} [سورة النساء آية: 164] ، {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} [سورة لقمان آية: 27] ، والأدلة على هذا كثيرة جدا; والأشعري له كتب في إثبات الصفات، وهذا المذهب الذي نسبه إليه هؤلاء، تبرأ منه في كتابه الإبانة، والمقالات، وغيرها.   1 أبو داود: الطب (3892) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 224 وكثير من أهل العلم يكفرون نفاة الصفات، لتركهم ما دل عليه الكتاب والسنة، وعدم إيمانهم بآيات الصفات; وأما من جحد توحيد الإلهية ودعا غير الله، فلا شك في كفره، وقد كفره القرآن; والسنوسي، وأمثاله من المتأخرين، ليسوا من السلف، ولا من الخلف المعروفين بالنظر والبحث، بل هو من جهلة المتأخرين المقلدين لأهل البدع، وهؤلاء ليسوا من أهل العلم. والخلف فيهم من انحرف عن السنة إلى البدع، وفيهم من تمسك بالسنة، فلا يسب منهم إلا من ظهرت منه البدعة، وأما ابن حجر الهيتمي فهو من متأخري الشافعية، وعقيدته عقيدة الأشاعرة النفاة للصفات، ففي كلامه حق وباطل. وأما الدعاء بعد المكتوبة ورفع الأيدي، فليس من السنة، وقد أنكره شيخ الإسلام لعدم وروده على هذا الوجه؛ وأما أهل البدع، فيجب هجرهم والإنكار عليهم، إذا ابتليتم بهم; وتأملوا مصنفات الشيخ، وتأملوا كلامه رحمه الله، تجدوا فيه البيان، والفرقان; وحديث افتراق الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، وهي التي تمسكت بما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه. وأما الأفغانية، الذين جاؤونا، فبلغنا أنهم يرون رأي الخوارج، معهم غلو، وقد شدد النبي صلى الله عليه وسلم في الغلو، وأخبر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 225 عن الخوارج أنهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، وأمر بقتلهم; وسبب غلوهم: الجهل بما دل عليه الكتاب والسنة، فأداهم جهلهم، وقصورهم في الفهم، إلى أن كفروا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من السابقين الأولين. فإذا كان قد جرى في عهد النبوة من يطعن على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويكفر أصحابه، فلا يبعد أن يجيء في آخر هذه الأمة من يقول بقولهم ويرى رأيهم; والذين هاجروا إلينا وبايعونا، ما ندري عن حقيقة أمرهم; وعلى كل حال، إذا عملتم بالتوحيد، وأنكرتم الشرك والضلال، وفارقتم البدع، فلا يلزمكم هجرة عن الوطن والمال، بل يجب عليكم الدعوة إلى الله، وطلب أدلة التوحيد في كتاب الله، وتأمل كلام الشيخ في مصنفاته؛ فإنه رحمه الله بين، وحقق، والسلام. وأجاب أيضا: وأما قول أهل التأويل للصفات: إن الله تعالى منَزه عن الجهات، فهذه شبهة، أرادوا بها نفي علو الرب على خلقه، واستوائه على عرشه، وقد ذكر استواءه على عرشه في سبعة مواضع من كتابه، قال الله تعالى: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [سورة البقرة آية: 255] في آية الكرسي وغيرها من القرآن; فأثبت لنفسه العلو بأنواعه الثلاثة: علو القهر والقدرة، وعلو الذات; ومن نفى علو الذات، فقد سلب الله تعالى وصفه، وقد قال الجزء: 3 ¦ الصفحة: 226 تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [سورة فاطر آية: 10] ، وقال: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} [سورة النساء آية: 158] ، وقال: {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [سورة المعارج آية: 4] ، وحديث المعراج الذي تواترت به السنة يدل على علو الله على خلقه، وأنه على عرشه فوق سماواته، وهذا مذهب سلف الأمة، وأئمتها; ومن تبعهم من أهل السنة والجماعة يثبتون لله ما أثبته لنفسه، وما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم من صفات كماله ونعوت جلاله، على ما يليق بجلال الله وعظمته، إثباتا بلا تمثيل، وتنْزيها بلا تعطيل، تعالى الله عما يقول المحرفون المنحرفون علوا كبيرا. وقال أيضا على قول الشيخ ابن غنام رحمه الله، في كتابه "العقد الثمين" وقوله: "وكتبه" أي: أنها منَزلة من عنده، وأنها كلامه القديم، قال: اعلم أن مذهب أهل السنة والجماعة أن الله تعالى يتكلم إذا شاء; وقوله: وأنها كلامه القديم، هذا قول الكرامية ; وأهل السنة لا يقولون هذا، بل يقولون: إنها وحيه أوحاه إلى جبريل، وسمع كلام الرب تعالى، وبلغه رسله، وكتب تعالى التوراة بيده، كما صح ذلك على ما يليق بجلاله، وهذا قول السلف؛ وجميع ما وصف الله به نفسه ووصفه به رسوله، يثبتون ذلك إثباتا بلا تمثيل، وتنْزيها بلا تعطيل، فلا ينفون ما أثبته، ولا يثبتون ما نفاه،1 والله أعلم.   1 وتقدم في صفحة 339 , 340 ج1. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 227 [جواب الشيخ عبد الرحمن بن حسن عن قول الخطيب الحمد لله الذي تحيرت العقول في مبدأ أنواره] بسم الله الرحمن الرحيم وسئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن، رحمه الله تعالى عن قول الخطيب: الحمد لله الذي تحيرت العقول في مبدأ أنواره، وتاهت الألباب في صمديته، وكنه ذاته؟ فأجاب: هذه الألفاظ، ابتدعها من تمسك بقول أهل الكلام الحادث المذموم; فإنهم الذين تاهوا، وتحيروا في الإيمان الذي دعت إليه الرسل، ونزلت به الكتب، وإلا فطريقة القرآن حمد الله لنفسه بأسمائه وصفاته، وما يعرف به، ويوجب الإيمان به ومعرفته وإثبات ربوبيته وصفات كماله؛ فهذا هو توحيد المعرفة والإثبات الذي هو توحيد المرسلين، ودعوا به الأمم إلى توحيد الإرادة والقصد، الذي هو توحيد الإلهية; فإن الرب الذي أبدع لخلقه ما يشاهدونه من عظيم مخلوقاته، وتعرف إليهم بذلك، وبما دلهم عليه من كمال صفاته وتصرفه في مخلوقاته، هو الرب الذي لا يستحق العبادة غيره. فالرسل وأتباع الرسل كمل الله إيمانهم بذلك العلم، والعمل; فقد قال تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} [سورة الأنعام آية: 1] فحمد نفسه بما يوجب الإيمان به ومعرفته، من عظيم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 228 مخلوقاته، واستدل بأدلة ربوبيته على ما يستلزمه من إلهيته، فقال: {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [سورة الأنعام آية: 1] فأنكر الشرك في حق من هذا وصفه، وإنكار الشرك يقتضي توحيد العبادة، بأن لا يراد غيره، ولا يقصد سواه، فانتظم ذلك نوعي التوحيد. وقال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا قَيِّماً} [سورة الكهف آية: 1] فحمد نفسه على إنزال الكتاب الذي هو أعظم نعمة أنعمها على أهل الأرض، وهو يقتضي الإيمان بالكتب والرسل؛ وهو صراط الله المستقيم الذي لا تزيغ به الأهواء; فهذا وأمثاله هو طريقة القرآن; يحمد نفسه على ما يتعرف به إلى خلقه، ليعرفوه بذلك الذي أبدعه، وأوجده، وأنعم به، كقوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [سورة فاطر آية: 1] الآية، وأمثال هذا في القرآن. وبتدبره والعلم به يحصل به كمال الإيمان، وتنتفي الحيرة، ويحصل كمال الهداية، ويعصم القلوب أن تتيه في ربها، وصفاته; فكل ما وصف به نفسه، فلا حيرة فيه عند أهل الإيمان الذين عرفوه بما تعرف به إليهم في كتابه، واطمأنت قلوبهم بالإيمان به، وجعلوه قصدهم ومرادهم. وأما أهل الجدل من أهل الكلام، فهم الذين تحيروا وتاهوا، كما أخبر بذلك نفر من متقدميهم، كما هو معروف لديكم بحمد الله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 229 كتب بعض تلامذة الشيخ: عبد الرحمن بن حسن له كتابا، وقال في آخره: إنه على ما يشاء قدير، فقال الشيخ عبد الرحمن: هذه كلمة اشتهرت على الألسن من غير قصد، وهو قول الكثير، إذا سأل الله شيئا قال: وهو القادر على ما يشاء، وهذه الكلمة يقصد بها أهل البدع شرا، وكل ما في القرآن: {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [سورة المائدة آية: 120] وليس في القرآن والسنة، ما يخالف ذلك أصلا، لأن القدرة شاملة كاملة، وهي والعلم: صفتان شاملتان، يتعلقان بالموجودات والمعدومات; وإنما قصد أهل البدع بقولهم: وهو القادر على ما يشاء، أي: القدرة لا تتعلق إلا بما تعلقت المشيئة به. وكتب إليه أيضا يهنيه بقدوم ابنه الشيخ عبد اللطيف من مصر، وتوسل إلى الله في دعائه بصفاته الكاملة التي لا يعلمها إلا هو. فكتب إليه قال: وذكرت في وسيلة دعوتك، جزاك الله أحسن الجزاء عن تلك الدعوات، قلت: وأتوسل إليك بصفاتك الكاملة التي لا يعلمها إلا أنت; فاعلم: أن الذي لا يعلمها إلا هو كيفية الصفة; وأما الصفة فيعلمها أهل العلم بالله، كما قال الإمام مالك: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، ففرق هذا الإمام بين ما يعلم منه معنى الصفة، على ما يليق بالله، فيقال: استواء لا يشبه استواء المخلوق، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 230 ومعناه ثابت لله، كما وصف به نفسه، وأما الكيف، فلا يعلمه إلا الله، فتنبه لمثل هذا، فالإمام مالك تكلم بلسان السلف. [رسائل الشيخ أبي بطين] قال الشيخ: عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين، رحمه الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم تسليما كثيرا. أما بعد: فقد جرت مناظرة بيننا وبينكم في كلام الله تعالى، هل هو مخلوق، أم لا؟ فذكرت أن اختياركم الوقف: فلا تقولون مخلوق، ولا غير مخلوق; وزعمت أن الخلاف في ذلك لفظي. فأما قولكم: إن الخلاف في ذلك لفظي، فليس الأمر كذلك; وإنما يقال: الخلاف لفظي بين المعتزلة والأشاعرة; لأن المعتزلة يقولون: كلام الله مخلوق; والأشاعرة يقولون: ليس بمخلوق; والكلام عندهم: المعنى; ويقولون: الحروف مخلوقة; فقالت المعتزلة: لا خلاف بيننا وبينكم، لأن الكلام هو الحروف، فإذا أقررتم بأن الحروف مخلوقة، ارتفع النّزاع، فيكون الخلاف بين الفريقين الجزء: 3 ¦ الصفحة: 231 لفظيا. وأما مذهب أهل السنة والجماعة، فهو مخالف للمذهبين خلافا معنويا، لأنهم يقولون: كلام الله غير مخلوق; والكلام عندهم: اسم للحروف والمعاني; فتبين بذلك غلط من قال: إن الخلاف في ذلك لفظي. ومذهب أهل التوحيد والسنة: أن الله يتكلم بحرف وصوت ; وأن القرآن كلام الله: حروفه ومعانيه; وأن موسى سمع كلام الله منه بلا واسطة; والقرآن والسنة يدلان على ذلك دلالة صريحة، ولله الحمد والمنة، قال الله تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} [سورة النساء آية: 163] إلى قوله: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} [سورة النساء آية: 164] ، ففرق بين الإيحاء المشترك، وبين التكليم الخاص. وقال تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} [سورة الأعراف آية: 143] ، وقال تعالى: {يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي} [سورة الأعراف آية: 144] ، وقال تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي} [سورة الكهف آية: 109] ، وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} [سورة لقمان آية: 27] ، وقال: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً} [سورة الأنعام آية: 115] ، وقال تعالى: {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ} [سورة البقرة آية: 75] ، وقال تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 232 كَلامَ اللَّهِ} [سورة التوبة آية: 6] . والآيات في ذلك كثيرة. وأما السنة فأكثر من أن تحصى; منها: أمره صلى الله عليه وسلم بالاستعاذة بكلمات الله، في عدة أحاديث، وقوله صلى الله عليه وسلم " ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه، ليس بينه وبينه حجاب ولا ترجمان "1. فمن قال: إن الله لا يتكلم، فقد رد على الله ورسوله، وكفره ظاهر; وقد ذكرتم أن العرب يضيفون الفعل إلى غير الفاعل، فهذا لا ينكر، أعني وجود المجاز في لغة العرب. وأما وقوع المجاز في القرآن، ففيه خلاف بين الفقهاء، حكاه شيخ الإسلام ابن تيمية، وذكر أن أكثر الأئمة لم يقولوا: إن في القرآن مجازا؛ ورد القول بوجود ذلك في القرآن، واستدل بأدلة كثيرة؛ وعلى تقدير جواز وجوده في القرآن، فمن المعلوم أنه لا يجوز صرف الكلام عن حقيقته حتى تجمع الأمة على أنه أريد به المجاز، إذ لا سبيل إلى اتباع ما أنزل إلينا من ربنا إلا على ذلك؛ ولو ساغ ادعاء المجاز لكل أحد، ما ثبت شيء من العبادات، ولبطلت العقود كلها، كالأنكحة، والطلاق، والأقارير، وغيرها، وجل الله أن يخاطب الأمة إلا بما تفهمه العرب من معهود مخاطباتها مما يصح معناه عند السامعين. وأيضا فالكلام إذا قام الدليل على أن المتكلم به عالم ناصح مرشد، قصده البيان والهدي والدلالة، والإيضاح بكل طريق، وحسم مواد اللبس ومواقع الخطأ،   1 البخاري: التوحيد (7443) , ومسلم: الزكاة (1016) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 233 وأن هذا هو المعروف المألوف من خطابه، وأنه اللائق بحكمته، لم يشك السامع في أن مراده هو ما دل عليه ظاهر كلامه. قال شيح الإسلام ابن تيمية، في أثناء كلام له: ومعلوم باتفاق العقلاء أن المخاطب المبين، إذا تكلم بمجاز، فلا بد أن يقرن بخطابه ما يدل على إرادة المعنى المجازي، فإذا كان الرسول المبلغ المبين، الذي بين للناس ما أنزل إليهم، يعلم أن المراد بالكلام خلاف مفهومه أو مقتضاه، كان عليه أن يقرن بخطابه ما يصرف القلوب عن فهم المعنى الذي لم يرده، لا سيما إذا كان لا يجوز اعتقاده في الله، فإنه عليه أن ينهاهم عن أن يعتقدوا في الله ما لا يجوز اعتقاده، وإذا كان ذلك مخوفا عليهم، ولو لم يخاطبهم بما يدل على ذلك، فكيف إذا كان خطابه هو الذي يدلهم على ذلك الاعتقاد الذي تقول النفاة هو اعتقاد باطل ... إلى أن قال: وهذا كلام بين لا مخلص لأحد عنه، انتهى. وأيضا فالأدلة الدالة على أن الله يتكلم حقيقة، أكثر من أن يمكن ذكرها ها هنا؛ فإن الله سبحانه فرق بين الإيحاء المشترك بين الأنبياء، وبين التكليم الخاص لموسى، فقال تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} [سورة النساء آية: 163] إلى قوله: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} [سورة النساء آية: 164] ، فلو لم يكن موسى عليه السلام سمع كلام الله منه بلا واسطة، لم يكن له مزية على غيره من الجزء: 3 ¦ الصفحة: 234 الرسل، ولم يكن في تخصيصه بالتكليم فائدة، ولم يسم كليم الله; وقد قال تعالى: {يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي} [سورة الأعراف آية: 144] . وأيضا، فقد قال الفراء: إن الكلام إذا أكد بالمصدر، ارتفع المجاز، وثبتت الحقيقة، وقد أكد الفعل بالمصدر، في قوله: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} [سورة النساء آية: 164] ، وقال تعالى: {وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى} [سورة الشعراء آية: 10] ، وقال: {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً} [سورة مريم آية: 52] ، وقال: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ} [سورة طه آية: 11-12] ، وقال تعالى: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ} [سورة القصص آية: 30] ، الآية، ففي هذا ونحوه، دلالة صريحة أن الله كلم موسى وناداه بنفسه بلا واسطة، وموسى سمع كلام الله ونداءه، لأنه لا يجوز لغير الله أن يقول: {إني أنا الله رب العالمين} . وقد ذكر الإمام أحمد، رحمه الله، في كتاب: الرد على الجهمية، عن الزهري، قال: لما سمع موسى كلام الله قال: يا رب هذا الكلام الذي سمعته، هو كلامك؟ قال: نعم يا موسى، هو كلامي; وإنما كلمتك بقوة عشرة آلاف لسان; ولي قوة الألسن كلها، وأنا أقوى من ذلك، وإنما كلمتك بقدر ما يطيق بدنك، ولو كلمتك بأكثر من ذلك لمت. فلما رجع موسى إلى قومه، قالوا: صف لنا كلام ربك; فقال: سبحان الله، وهل أستطيع أن أصفه لكم؟! الجزء: 3 ¦ الصفحة: 235 قالوا: فشبهه; قال: هل سمعتم أصوات الصواعق، التي تقبل في أحلى حلاوة سمعتموها؟ فكأنه مثله; وروى عبد الله بن أحمد، في كتاب: السنة قال: حدثني محمد بن بكار قال: أخبرنا أبو معشر، عن محمد بن كعب، قال: قال بنو إسرائيل لموسى: بم شبهت صوت ربك، حين كلمك من هذا الخلق؟ قال: شبهت صوته، بصوت الرعد حين لا يترجع. وأيضا في الصحيحين عن عدي بن حاتم، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" ما منكم من أحد إلا سيكلمه الله يوم القيامة، ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا شيئا قدمه، ثم ينظر أشأم منه فلا يرى إلا شيئا قدمه، ثم ينظر تلقاء وجهه فتستقبله النار، فمن استطاع منكم أن يقي وجهه النار ولو بشق تمرة، فليفعل "1، وروى جابر بن عبد الله، قال لما قتل عبد الله بن عمرو بن حرام، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يا جابر ألا أخبرك ما قال الله لأبيك؟ قال: بلى، قال: وما كلم الله أحدا إلا من وراء حجاب، وكلم أباك كفاحا، قال يا عبد الله، تمن علي أعطك، قال: يا رب، تحييني فأقتل فيك ثانية، قال: إنه سبق مني أنهم إليها لا يرجعون، قال: فأبلغ من ورائي، فأنزل الله عز وجل: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} 2") رواه ابن ماجه وغيره; ففي هذين الحديثين ما يبطل دعوى مدعي المجاز، ويدحض   1 أحمد (4/377) . 2 الترمذي: تفسير القرآن (3010) , وابن ماجه: المقدمة (190) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 236 حجته، ويرغم أنفه. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " ما تقرب العباد إلى الله بمثل ما خرج منه "1 يعني: القرآن، وقال خباب بن الأرت: يا هنتاه تقرب إلى الله بما استطعت، فلن تتقرب إليه بشيء أحب إليه مما خرج منه، وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه لما قرأ عليه قرآن مسيلمة الكذاب، فقال: إن هذا كلام لم يخرج من إل، يعني: رب; فوضح بما ذكرناه: أن الله يتكلم حقيقة، وأن من ادعى المجاز بعد هذا البيان، فقد شاق الله ورسوله، {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} [سورة النساء آية: 115] . [فصل ما استدل به بعض المعتزلة على أن كلام الله مخلوق] فصل: وقد ذكرتم ما استدل به بعض المعتزلة على أن كلام الله مخلوق، وهو قوله تعالى: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ} [سورة الحديد آية: 3] ، ولا يشك من له عقل أن من دل الخلق على أن كلام الله مخلوق، بقوله: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ} [سورة الحديد آية: 3] لقد أبعد النجعة; وهو إما ملغز، وإما مدلس، لم يخاطبهم بلسان عربي مبين، وقد قال تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} [سورة آل عمران آية: 7] ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " وإذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه، فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم "2، مع أنه ليس في هذه الآية شبهة لمن احتج بها، فلله الحمد والمنة; ولا يشبه بها على رعاع الناس إلا من أزاغ الله قلبه، نسأل الله العافية.   1 الترمذي: فضائل القرآن (2911) , وأحمد (5/268) . 2 البخاري: تفسير القرآن (4547) , ومسلم: العلم (2665) , والترمذي: تفسير القرآن (2994) , وأبو داود: السنة (4598) , وابن ماجه: المقدمة (47) , وأحمد (6/48 ,6/124 ,6/132 ,6/256) , والدارمي: المقدمة (145) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 237 وقلتم: الحروف يلزمها التعاقب، ويتقدم بعضها بعضا، فيلزم أن تكون مخلوقة، قلنا: إنما يلزم التعاقب في حق من يتكلم من المخارج; والله سبحانه وتعالى غير موصوف بذلك. وأيضا: فواجب على كل مكلف التسليم لما جاء في الكتاب والسنة، ولا يعارض بزخارف المبطلين وهذيان الملحدين، قال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [سورة النساء آية: 65] ؛ فمن الله الرسالة، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التسليم. [فصل في القول بأن القرآن غير مخلوق لم يقله السلف] فصل: وقلتم: إن القول بأن القرآن غير مخلوق، لم يقله السلف، وإن عدم القول بذلك هو الصواب، وأنه هو اعتقادكم، فلا تقولون مخلوقا ولا غير مخلوق. فأما قولكم: إن هذا القول لم يقله السلف; فلا ندري، من يعني بالسلف عندكم؟ فإن كان يعني بالسلف عندكم: جعد، وجهم، وابن أبي دؤاد، وأتباعهم، كأبي علي الجبائي، وأبي هاشم، وأتباعهم من الجهمية والمعتزلة، فصدقتم بأن هؤلاء لم يقولوا هذه المقالة، وإنما قالوا: القرآن مخلوق، وبعدا لمن كان هؤلاء سلفه، واستبدل سبيلهم بسبيل النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته. وما عوض لنا منهاج جهم ... بمنهاج ابن آمنة الأمين الجزء: 3 ¦ الصفحة: 238 وإن كان يعني بالسلف عندكم: الصحابة، والتابعون، وأئمة الإسلام، الذين لهم لسان صدق في الأمة، الذين رفع الله قدرهم وأعلى منْزلتهم، الذين هم سلف الأمة حقا، فأخطأتم في نسبة عدم القول بذلك إليهم; فإنهم كلهم مجمعون على أن القرآن كلام الله غير مخلوق; قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه في القرآن: "ليس بخالق، ولا مخلوق; ولكنه كلام الله، منه بدا وإليه يعود" ذكر هذا الكلام عن علي، الشيخ الحافظ عبد الغني المقدسي، وذكر أيضا عن عبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عباس رضي الله عنهما، أنهما قالا: القرآن كلام الله، منه بدا وإليه يعود. فقولهم رضي الله عنهم: منه بدا، أي: هو المتكلم به، وهو الذي أنزله من لدنه; ليس هو كما تقوله الجهمية: أنه خلق في الهواء، أو غيره، أو بدا من غير الله. وأما إليه يعود، فإنه يسرى به في آخر الزمان من المصاحف والصدور، فلا يبقى منه كلمة ولا في المصاحف منه حرف. وقال سفيان بن عيينة: سمعت عمرو بن دينار يقول: أدركت مشايخنا، والناس، منذ سبعين سنة يقولون: "القرآن كلام الله، غير مخلوق، منه بدا، وإليه يعود" رواه محمد بن جرير، وهبة الله بن الحسن، الطبريان في كتاب السنة لهما، وقد أدرك عمرو بن دينار: أبا هريرة، وابن عباس، وابن عمر، وغيرهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فهذا يدل على الجزء: 3 ¦ الصفحة: 239 شهرة القول بذلك في زمن الصحابة رضي الله عنهم، الذين أدركهم عمرو بن دينار، على شهرته عند التابعين، وأنهم كلهم على ذلك. وقال البخاري: حدثنا سفيان ابن عيينة قال: "أدركت مشيختنا، منذ سبعين سنة، منهم عمرو بن دينار، يقولون: القرآن كلام الله، غير مخلوق". فعمرو بن دينار حكاه عن مشيخته والناس، وسفيان حكاه أيضا عن مشيخته; فهذا صريح في الدلالة على اشتهار هذا القول في القرون التي أثنى عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكلام أئمة الإسلام في ذلك أكثر من أن يمكن ذكره هنا; كأبي حنيفة، ومالك، والأوزاعي، والليث، والثوري، والشافعي، وابن المبارك، وأحمد، وإسحاق، وأبي عبيد، والبخاري، وغيرهم من أئمة الحديث، وكلهم على ذلك مجمعون، ولكتاب ربهم وسنة نبيهم متبعون، وحكى غير واحد الإجماع على ذلك. قال الإمام أبو محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم: سألت أبي وأبا زرعة عن مذاهب أهل السنة في أصول الدين، وما أدركا عليه العلماء، في جميع الأمصار، حجازا، وعراقا، ومصرا، وشاما، ويمنا، فكان في مذاهبهم: أن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، والقرآن كلام الله، غير مخلوق بجميع جهاته، والقدر خيره وشره من الله، وأن الله تعالى على عرشه، بائن من خلقه، كما وصف نفسه في كتابه، وعلى لسان رسوله، بلا كيف {أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 240 {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [سورة الشورى آية: 11] . وقد ذكرتم: أن بعض السلف قال بخلق القرآن، كابن المديني; فلا شك أن ابن المديني وابن معين، وغيرهما من أئمة الحديث، أجابوا في المحنة كرها، واعتذروا بالإكراه، لما عاب عليهم الأئمة، وهجرهم الإمام أحمد، ولم يعذرهم، واحتج عليه ابن معين بعمار رضي الله عنه حين أكرهه أهل مكة على كلام الكفر; ورد عليه أحمد، بأن قال: إن عمارا ضرب، وأنتم قيل لكم نريد أن نضربكم، ومن المعلوم: أنه لم يثبت في المحنة إلا القليل، والأكثرون: أجابوا مكرهين; ومن نسب القول بذلك إلى ابن المديني أو غيره من أهل الحديث، بعد تصريحهم بأنهم إنما أجابوا كرها، فقد قال ما لا يعلم، ونسب إليهم ما هم براء منه. وذكرتم أن ابن علية قال بذلك، فهذا لا ينكر; وابن علية معروف عند أهل السنة بالبدعة; وكلام الأئمة في ذمه كثير; والبخاري وإن روى عنه، فهو عنده من أهل البدع; وقد روى البخاري عن غيره من أهل البدع، لأن الرجل إذا عرف منه الصدق والإتقان لما روى، جازت الرواية عنه، ولا يخرجه ذلك عن كونه مبتدعا، قال البيهقي في مناقبه: ذكر الشافعي إبراهيم ابن علية، فقال: أنا مخالف له في كل شيء، وفي قول: لا إله إلا الله، لست أقول كما الجزء: 3 ¦ الصفحة: 241 يقول، أنا أقول: لا إله إلا الله، الذي كلم موسى من وراء حجاب، وذلك يقول: لا إله إلا الله الذي خلق كلاما، أسمعه موسى من وراء حجاب. وأما قولكم: إن الصواب في هذه المسألة، الوقف، وإنه هو اعتقادكم، لا تقولون مخلوق، ولا غير مخلوق; فمضمون هذه المقالة: أن الله يحب منا أن نقف موقف الحيارى الشاكين، ونبقى في الجهل البسيط، لا نعرف الحق من الباطل، ولا الهدى من الضلال، مذبذبين بين ذلك، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، وأن الله يحب عدم العلم بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ويحب منا الحيرة والشك. ومن المعلوم أن الله لا يحب الجهل، ولا الشك، ولا الحيرة، ولا الضلال، وإنما يحب الدين، والعلم، واليقين; وقد ذم الله الحيرة، بقوله تعالى: {قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ} [سورة الأنعام آية: 71] . ومن المعلوم أنه لا بد أن يكون كلام الله في نفس الأمر، مخلوقا، أو غير مخلوق، لا غير، وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتقد أحد الأمربن، لا غير; وإذا كان الأمر كذلك، فلابد أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم قد دل أمته على ما يعتقدونه من ذلك، قال صلى الله عليه وسلم: " تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك "1، وقال فيما صح عنه أيضا: " ما بعث الله من نبي، إلا كان حقا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه   1 ابن ماجه: المقدمة (44) , وأحمد (4/126) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 242 لهم، وينهاهم عن شر ما يعلمه لهم "1، وقال أبو ذر رضي الله عنه: "لقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما طائر يقلب جناحيه في السماء، إلا ذكر لنا منه علما"2؛ محال مع تعليمهم كل شيء لهم فيه منفعة في الدين- وإن دقت- أن يترك تعليمهم ما يقولونه بألسنتهم، ويعتقدونه بقلوبهم، في ربهم ومعبودهم، الذي معرفته غاية المعارف، وعبادته أشرف المقاصد، والوصول إليه غاية المطالب، فكيف يتوهم من في قلبه أدنى مسكة من إيمان وحكمة، أن لا يكون بيان هذا الباب قد وقع من الرسول صلى الله عليه وسلم على غاية التمام؟!. وقد أخبر صلى الله عليه وسلم بأن أمته ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة، فقد علم ما سيكون، ثم قال: " إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا، كتاب الله "3، فالرب سبحانه وتعالى عالم بما سيقع من التنازع، فقال: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [سورة النساء آية: 59] ، ومن المحال أن يأمرهم برد ما تنازعوا فيه إلى ما لا يفصل النّزاع، ويبين الحق من الباطل. وقد أمرنا الله سبحانه، أن نقول: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [سورة الفاتحة آية: 6-7] وفي صحيح مسلم: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا قام من الليل يصلي: " اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه   1 مسلم: الإمارة (1844) , والنسائي: البيعة (4191) , وابن ماجه: الفتن (3956) , وأحمد (2/191) . 2 أحمد (5/153) . 3 الترمذي: المناقب (3788) , وأحمد (3/17 ,3/26 ,3/59) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 243 يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم "1، فهو: يسأل ربه أن يهديه لما اختلف فيه من الحق، فكيف يكون محبوب الله عدم الهدى في مسائل الخلاف؟! وقد قال الله له: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً} [سورة طه آية: 114] . وأيضا فالشك والحيرة ليست محمودة في نفسها، باتفاق المسلمين، غاية ما في الباب أن من لم يكن عنده علم بالنفي ولا الإثبات، يسكت; فأما من علم الحق بدليله، الموافق لبيان رسول الله صلى الله عليه وسلم، فليس للواقف الشاك الحائر أن ينكر على هذا العالم المتبع للرسول صلى الله عليه وسلم العالم بالمنقول والمعقول، قال الإمام أحمد رحمه الله: من لم يقل القرآن كلام الله، غير مخلوق، فهو يقول مخلوقا. والأمر كما قال رحمه الله، فإنا نجد بعض من يقول بالوقف، يعيب على من ينفي الخلق عن كلام الله، ويحتج عليه بحجج القائلين بالخلق، كما أوردتم شيئا من ذلك، وعبتم على الإمام أحمد رحمه الله في كلامه في هذه المسألة; قلتم: إن أحمد جعل هذه المسألة عديلة التوحيد; قلتم ذلك اتباعا لمن استوفى نصيبه من الحمق والجهل، صاحب الكتاب، المسمى: بـ "العلم الشامخ" وقد عاب في كتابه ذلك على الإمام أحمد، ونسبه إلى التعصب، وطعن أيضا على غيره من أئمة الحديث وأهل السنة; ولقد أحسن القائل:   1 مسلم: صلاة المسافرين وقصرها (770) , والترمذي: الدعوات (3420) , والنسائي: قيام الليل وتطوع النهار (1625) , وأبو داود: الصلاة (767) , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1357) , وأحمد (6/156) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 244 وإذا أتتك مذمتي من ناقص فهي الشهادة لي بأني فاضل. فلو أن هذا المسكين أمسك لسانه عن تنقص أئمة الإسلام، لكان أستر له، وهو لم يضر إلا نفسه، لا يضرهم كلامه كما قيل: وهل حط قدر البدر عند طلوعه كلاب إذا ما أنكرته فهرت. وما أن يضر البحر إن قام أحمق على شطه يرمي إليه بصخرة. والذي ينبغي لهذا وأمثاله، إذا هجمت بهم ذنوبهم عن استبانة الحق، أن يمسكوا ألسنتهم عن عيب أهل السنة، والطعن عليهم، ويلجؤوا إلى الله في سؤال الهداية; نسأل الله أن يهدينا وإخواننا المسلمين الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم عليهم، غير المغضوب عليهم ولا الضالين. [فصل في قول الجهمية إن موسى لم يسمع كلام الله منه] وقد ذكرتم قول الجهمية إن موسى لم يسمع كلام الله منه، إنما سمعه من غيره، من الشجرة أو غيرها، لأن الكلام لا يكون إلا من جوف وفم ولسان وشفتين. فأما قولكم: إن موسى لم يسمع كلام الله منه حقيقة، وإنما سمعه من غيره، فهذا ظاهر البطلان لأنه لا يجوز لغير الله أن يقول: {يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [سورة القصص آية: 30] {يَا مُوسَى? إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 245 إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [سورة طه آية: 11-12-13-14] . فمن زعم ذلك، فقد زعم أن غير الله ادعى الربوبية والإلهية; ولو كان - كما زعم - القائل، المخاطب لموسى غير الله، كان يقول ذلك المخاطب: يا موسى إن الله رب العالمين، يا موسى الله ربك، لا يجوز له أن يقول: {إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [سورة القصص آية: 30] ، {إِنِّي أَنَا رَبُّكَ} [سورة طه آية: 12] ، وهذا مما احتج به الإمام أحمد على الجهمية، فيا له من بيان ما أوضحه! وحجة ما أقطعها للمنازع! وأما قولكم: إن الكلام لا يكون إلا من جوف، وفم، ولسان، وشفتين، فهذا باطل لأن الله تعالى قال للسماوات والأرض: {ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [سورة فصلت آية: 11] أتراها قالت: بفم، ولسان، وشفتين؟ والجوارح إذا شهدت على الكافر، قالوا: {لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} [سورة فصلت آية: 21] أتراها نطقت بلسان وأدوات؟ قال: {وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [سورة يس آية: 65] أتراها: تكلمت بجوف، وفم، ولسان، وشفتين؟! ولكن الله أنطقها كيف شاء، فكذلك تكلم الله كيف شاء، من غير أن نقول بجوف، ولا فم، ولا لسان. ولا شفتين. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " إني لأعرف حجرا كان يسلم علي "1، وسبح الحصى في كف رسول الله صلى الله عليه وسلم وكف أبي بكر،   1 مسلم: الفضائل (2277) , والترمذي: المناقب (3624) , وأحمد (5/89 ,5/95 ,5/105) , والدارمي: المقدمة (20) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 246 وعمر، وعثمان. وقال ابن مسعود: كنا نسمع تسبيح الطعام، وهو يؤكل; وجاء: إن في آخر الزمان يكلم الرجل سوطه، ونحو ذلك كثير، ولا خلاف في أن الله قادر على أن ينطق الحجر الأصم، من غير مخارج، فبطل ما ادعوه من أن الحروف لا تكون إلا من مخارج. ومن الدليل على اتصاف الله بالكلام حقيقة، قوله تعالى: {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً} [سورة الأعراف آية: 148] ، نبه بهذا الدليل على أن من لا يكلم، ولا يهدي، لا يصلح أن يكون إلها؛ وكذلك قوله تعالى في الآية الأخرى، عن العجل: {أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً} [سورة طه آية: 89] ، فجعل امتناع صفة الكلام والتكلم، وعدم ملك الضر والنفع، دليلا على عدم الإلهية; وهذا دليل عقلي سمعي، على أن الإله لا بد أن يكلم، ويتكلم ويملك لعابده النفع والضر; وإلا لم يكن إلها. ومما استدل به أحمد وغيره من الأئمة، على أن كلام الله غير مخلوق، قوله تعالى: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} [سورة الأعراف آية: 54] قالوا: فلما قال: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ} لم يبق شيء مخلوق إلا كان داخلا في ذلك، ثم ذكر ما ليس بمخلوق فقال: {وَالْأَمْرُ} وأمره، هو: قوله تبارك وتعالى، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 247 فلا يكون خلقا. واستدل الإمام أحمد على الجهمية لما قالوا: إن كلام الله مخلوق، فقال: وكذلك بنو آدم، كلامهم مخلوق; فشبهتم الله بخلقه، حين زعمتم أن كلامه مخلوق; ففي مذهبكم أن الله قد كان في وقت من الأوقات لا يتكلم، حتى خلق التكلم فتكلم، وكذلك بنو آدم كانوا لا يتكلمون حتى خلق لهم كلاما، فجمعتم بين كفر وتشبيه، فتعالى الله عن هذه الصفة. ومما يبين أن السلف كانوا يعتقدون أن كلام الله غير مخلوق، أنهم أوجبوا الكفارة على من حلف بالقرآن إذا حنث في يمينه; قال بعض الصحابة: عليه بكل آية كفارة; سمع ابن مسعود رجلا يحلف بالقرآن، فقال: أتراه مكفرا؟ إن عليه بكل آية كفارة; وقد أجمعوا: على أنه لا يجوز الحلف بالمخلوق، ولا تنعقد به اليمين، فلو كان القرآن مخلوقا عندهم، لم يجز الحلف به، ولم يوجبوا على الحالف به إذا حنث كفارة، لأنه حلف بشيء مخلوق. وأيضا: من زعم أن القرآن مخلوق، فقد زعم أن اسم الله في القرآن مخلوق، فيلزمه أن من حلف بالله الذي لا إله إلا هو، لا يحنث، لأنه حلف بشيء مخلوق; قال الإمام أحمد، في كتاب "الرد على الجهمية": وزعمت أن اسم الله في القرآن إنما هو اسم مخلوق، فقلنا: قبل أن يخلق هذا الاسم، ما كان اسمه؟ قالوا: لم يكن له اسم، فقلنا: قبل أن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 248 يخلق العلم، أكان جاهلا لا يعلم، حتى خلق لنفسه علما؟ وكان لا نور له حتى خلق لنفسه نورا؟ وكان لا قدرة له حتى خلق لنفسه قدرة؟ فعلم الخبيث: أن الله قد فضحه، وأبدى عورته للناس، حين زعم أن "الله" سبحانه في القرآن، إنما هو اسم مخلوق. فقلنا للجهمي: لو أن رجلا حلف بالله الذي لا إله إلا هو كاذبا، لا يحنث، لأنه حلف بشيء مخلوق ولم يحلف بالخالق، ففضحه الله في هذه. وقلنا للجهمي: أليس النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، والخلفاء من بعدهم، والقضاة، والحكام، إنما كانوا يحلفون الناس بالله الذي لا إله إلا هو؟ وكانوا مخطئين في مذهبكم، إنما كان ينبغي للنبي صلى الله عليه وسلم ولمن بعده في مذهبكم أن يحلفوا بالذي اسمه الله، وإذا أرادوا أن يقولوا: لا إله إلا الله، قالوا: لا إله إلا الذي خلق الله، وإلا لم يصح توحيدهم، ففضحه الله لما ادعى على الله الكذب. وأيضا: فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم الإستعاذة بكلمات الله، وأرشد الأمة إلى ذلك، فقال فيما ثبت في صحيح مسلم، عن خولة بنت حكيم: "من نزل منْزلا، فقال: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، لم يضره شيء حتى يرحل من منْزله ذلك "1 ففي هذا دليل صريح على أن كلام الله غير مخلوق، لأن الإستعاذة بالمخلوق شرك، والنبى صلى الله عليه وسلم أبعد عن الشرك.   1 مسلم: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2708) , والترمذي: الدعوات (3437) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 249 [فصل مذهب أهل السنة أن الله يتكلم بحرف وصوت] فصل: وقد ذكرنا فيما تقدم، أن مذهب أهل السنة أن الله يتكلم بحرف وصوت، فيصفون الله تعالى بالصوت، والصوت هو ما يتأتى سماعه؛ والقرآن والسنة: يدلان على أن الله يتكلم بصوت، قال الله تعالى: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ} [سورة القصص آية: 30] الآية، وقال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا} [سورة النمل آية: 8] ، إلى قوله: {يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [سورة النمل آية: 9] ، وقال تعالى: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ} [سورة طه آية: 11-12] ، وقال تعالى: {وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى} [سورة الشعراء آية: 10] ، وقال تعالى: {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً} [سورة مريم آية: 52] ، والنداء لا يكون إلا بصوت. فدل على أنه كلمه بصوت، وموسى لم يسمع إلا الحرف والصوت; هذا مما يعلم بالاضطرار، وقال تعالى: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} [سورة القصص آية: 62] ، {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} [سورة القصص آية: 65] وقال: {وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ} [سورة الأعراف آية: 22] ، الآية والآيات في ذلك كثيرة. وأما السنة: ففي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري الجزء: 3 ¦ الصفحة: 250 رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يقول الله تعالى يوم القيامة، يا آدم: فيقول لبيك وسعديك، فينادي بصوت: إن الله يأمرك أن تبعث بعثا إلى النار " الحديث. وروى عبد الله بن أنيس، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يحشر الله الناس يوم القيامة- وأشار بيده إلى الشام- عراة، غرلا، بهما. قال: قلت، ما بهما؟ قال: ليس معهم شيء، فيناديهم بصوت يسمعه من بعد، كما يسمعه من قرب: أنا الملك، أنا الديان، لا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة، وأحد من أهل النار يطلبه بمظلمة، ولا ينبغي لأحد من أهل النار أن يدخل النار، وأحد من أهل الجنة يطلبه بمظلمة، حتى أقصه منه قالوا: وكيف؟ وإنما نأتي الله عراة غرلا؟ قال: بالحسنات، والسيئات"1 رواه أحمد، وجماعة من الأئمة. وقال عبد الله بن أحمد: سألت أبي فقلت: إن الجهمية يزعمون أن الله لا يتكلم بصوت، فقال: "كذبوا، إنما يدورون على التعطيل"، ثم قال: حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي، حدثنا سليمان بن مهران الأعمش، قال: حدثنا أبو الضحى، عن مسروق، عن عبد الله، قال: "إذا تكلم الله بالوحي، سمع صوته أهل السماء، فيخرون سجدا. حتى إذا فزع عن قلوبهم- قال سكن عن قلوبهم- نادى أهل السماء أهل السماء: ماذا قال ربكم؟ قالوا: الحق، قال: كذا، وكذا " ذكره عبد الله في كتاب السنة، بهذا الإسناد;   1 أحمد (3/495) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 251 ورواه أبو بكر الخلال، وروى ابن أبي حاتم في الرد على الجهمية، قال: أخبرنا أبو زرعة، أخبرنا عثمان ابن أبي شيبة، أخبرنا جرير، عن يزيد بن أبي زياد، عن عبد الله ابن الحارث، عن ابن عباس، قال: " إن الله تبارك وتعالى، إذا تكلم بالوحي، سمع أهل السماوات له صوتا كصوت الحديد، إذا وقع على الصفا، فيخرون له سجدا، فإذا فزع عن قلوبهم، قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا: الحق وهو العلي الكبير ". وقد قدمنا ما حكاه الإمام أحمد عن الزهري، قال: "لما سمع موسى كلام الله، قال يا رب: هذا الكلام الذي سمعته، هو كلامك؟ قال: يا موسى، هو كلامي- إلى أن قال- فلما رجع موسى إلى قومه، قالوا: صف لنا كلام ربك; قال: سبحان الله! وهل: أستطيع أن أصفه لكم؟ قالوا: فشبهه، قال: هل سمعتم أصوات الصواعق، التي تقبل في أحلى حلاوة سمعتموها؟ فكأنه مثله". وتقدم أيضا ما رواه عبد الله بن أحمد، عن محمد بن كعب، قال: قال بنو إسرائيل لموسى، بم شبهت صوت ربك حين كلمك، من هذا الخلق؟ قال: شبهت صوته بصوت الرعد، حين لا يترجع. وفيما ذكرناه كفاية لمن أراد الله هدايته، ومن يضلل الله، فلن تجد له وليا مرشدا. وذكر أبو الفرج عبد الرحمن بن الفقيه نجم الدين الجزء: 3 ¦ الصفحة: 252 الحنبلي، قال: كنت يوما عند القاضي، فتناظروا في مسألة القرآن، وعندنا "طرحان" الضرير، فقال لنا: اسمعوا مني حكاية، قلنا: هات; قال: تناظر أشعري وحنبلي، فقال الأشعري للحنبلي: أخبرني إذا أوقفك الله غدا بين يديه، فقال لك: من أين قلت إن كلامي بحرف وصوت؟ فماذا يكون في جوابك؟ فقال الحنبلي: أقول: يا رب هو ذا أنا أسمع كلامك، بحرف وصوت; قال: ثم سكت فلم يرد هذا شيئا، فبهت القاضي، ولم يدر ما يقول، وانقطع الكلام على هذا. واحتج من ينفي الصوت، بأن قال: الصوت إنما هو أنين جُرمين، والله سبحانه متقدس عن ذلك. والجواب أن يقال: فهذا قياس منكم على خلقه، وتشبيه له بعباده، والله تعالى لا يقاس على مخلوقاته، ولا يشبه بمصنوعاته {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [سورة الشورى آية: 11] وأيضا فإنه يلزمهم سائر الصفات التي أثبتوها، فإن العلم في حقنا لا يكون إلا من قلب، والنظر لا يكون إلا من حدقة، والسمع لا يكون إلا من انخراق; والحياة لا تكون إلا في جسم، والله سبحانه وتعالى يوصف بهذه الصفات من غير أن يوصف بهذه الأدوات، فكذلك الصوت وإلا فما الفرق. واتفق سلف الأمة وأئمتها على أن القرآن الذي يقرأه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 253 المسلمون كلام الله تعالى، فالصوت المسموع صوت القارئ، والكلام كلام الباري، فهم يميزون ما قام بالعبد، وما قام بالرب تبارك وتعالى، ولم يقل أحد منهم: إن أصوات العباد، ولا مداد المصاحف قديم، مع اتفاقهم أن المثبت بين لوحي المصحف كلام الله، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: " زينوا القرآن بأصواتكم "1، فالكلام الذي يقرأه المسلمون كلام الله، والأصوات التي يقرؤون بها أصواتهم، فالكلام شيء والصوت شيء آخر، هذا مما لا يخفى على من لم يرسخ التعطيل في قلبه. ثم ليعلم أن معتقدنا في إثبات الصفات، على الكتاب والسنة، فمهما جاء فيها، فهو الحق والصدق، لا يجوز التعريج على ما سواه، ولا الالتفات إلى هذيان يخالفه، فإن الله تعالى أمرنا بالأخذ بكتابه والاقتداء برسوله، وأخبر عن رسوله أنه قال: {إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} [سورة الأنعام آية: 50] ، وقال: {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} [سورة الزمر آية: 55] ، وقال سبحانه وتعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ} [سورة الأعراف آية: 157] إلى قوله: {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [سورة الأعراف آية: 157] ، وقال: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [سورة النور آية: 63] . وها نحن قد بينا أن قولنا في الكتاب، والسنة، وإجماع الأمة، فهاتوا أن في الكتاب، أو السنة، أو قول   1 النسائي: الافتتاح (1015) , وأبو داود: الصلاة (1468) , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1342) , وأحمد (4/283 ,4/285 ,4/296) , والدارمي: فضائل القرآن (3500) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 254 صحابي، أو إمام مرضي، أن الله لم يتكلم، أو أنه يتكلم مجازا، أو أن كلامه مخلوق، أو أنه لا يتكلم بحرف وصوت، ولن تجدوا إلى ذلك سبيلا؛ فرحم الله من عقل عن الله، ورجع عن المعقول الذي يخالف الكتاب والسنة، وقال بقول أهل السنة، وترك دين جهم وشيعته؛ جعلنا الله سبحانه ممن هدى إلى صراطه المستقيم، ووفقنا لاتباع رضى رب العالمين، والاقتداء بنبيه محمد صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين والسلف الصالحين، والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. [قول شراح عقيدة الشيباني على قول الناظم وخص موسى ربنا بكلامه] وسئل الشيخ: عبد الله أبا بطين، قدس الله روحه، عن قول بعض شراح عقيدة الشيباني على قول الناظم: وخصص موسى ربنا بكلامه على الطور ناداه وأسمعه الندا قال الشارح: خص الله موسى بتكليمه على الطور، وأسمعه نداءه، إذ لم تكن لموسى جهة يسمع منها الكلام، ولا يرى منها النار، أو سمع في الوادي المقدس كلاما بلا حرف ولا صوت، ونارا لا في جهة محدودة، وإنما يعرف ذلك أهله، وأما غير أهله فلا يدري كيف ذلك. وقال على قول الناظم: ومنه بدا قولا قديما، وإنه ... إلخ. أي: وهو منه، أي: من الرحمن بدا، قولا، أي: قاله في القدم، حيث لا أكوان ولا أزمان، ويعود إليه كما بدأ منه، وهذه الحروف والأصوات التي تعبر عن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 255 القرآن، ليس هي القرآن، لأن القرآن صفة الحق، والصفة لا تنفصل عن موصوفها، والحروف والأصوات تتصل وتنفصل، فهي صفات لا صفاته، لأنه بائن، أي: منفرد عن خلقه بذاته وصفاته، وبذلك اغتر من اغتر. فأجاب: ما ذكره هذا الشارح بناء على أصلين فاسدين للأشعرية: أحدهما: إنكار علو الرب سبحانه فوق سماواته واستوائه على عرشه; والثاني: إنكارهم تكلم الرب سبحانه وتعالى بالحرف والصوت; والكلام عندهم هو المعنى النفسي القائم بذات الرب سبحانه وتعالى; فلما رأى الشارح كلام المفسرين وقولهم: إن النار التي رأى موسى هي نور الرب تعالى، وأن القرآن يدل على أن ذلك النور في مكان، قالوا: يلزم من كون نور الرب في مكان جواز كون الله سبحانه في مكان، فيلزم إثبات علوه سبحانه فوق السماء، واستوائه على العرش، فقال: لم يكن لموسى جهة يسمع منها ولا يرى منها النار، وسمع كلاما بلا حرف ولا صوت، ونارا لا في جهة محدودة. قلت: القرآن صريح في أن موسى عليه السلام رأى نارا في موضع معين، قال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ} [سورة النمل آية: 8] ، وقال تعالى: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ} [سورة طه آية: 11] ، فدل قوله: {أَتَاهَا} و {جَاءَهَا} أنها في موضع مخصوص، قال تعالى: {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً} [سورة مريم آية: 52] ، وقال تعالى: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 256 الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ} [سورة القصص آية: 30] . قال شيح الإسلام تقي الدين رحمه الله: وقوله: {مِنَ الشَّجَرَةِ} هو بدل من قوله: {شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ} [سورة القصص آية: 30] ، فالشجرة كانت فيه؛ فالنداء كان من الجانب الأيمن من الطور ومن الوادي، فإن شاطيء الوادي: جانبه، فذكر: أن النداء كان من موضع معين، وهو الوادي المقدس طوى، من شاطئه الأيمن، من جانب الطور الأيمن، من الشجرة. انتهى. فالآيات تدل على أن النور كان في موضع معين، وأن النداء كان من موضع معين. قال ابن عباس، في قوله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ} [سورة النمل آية: 8] قال: الله تعالى في النور، ونودي من النور; وروى عطية عن ابن عباس: {فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ} [سورة النمل آية: 8] يعني: نفسه، قال: كان نور رب العالمين في الشجرة ومن حولها، وقال عكرمة: {أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ} قال: "كان الله في نوره"، وقال سعيد بن جبير: {أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ} قال: "ناداه وهو في النور"، وقال ابن ضمرة: {أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ} قال: "إنها لم تكن نارا، ولكنه كان نور الله، وهو الذي كان في ذلك النور، وإنما كان ذلك النور منه، وموسى حوله" وقال ابن عباس، في قوله: {ومن حولها} قال: "الملائكة"، وروي عن عكرمة، والحسن، وسعيد بن جبير، وقتادة: مثل ذلك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 257 وقول الشارح: وإنما يعرف ذلك أهله، لما كان قولهم هذا ظاهر البطلان، وأنه ليس لهم حجة شرعية على صحته، أراد التمويه بقوله ذلك، إشارة إلى أن لقولهم هذا وجها صحيحا، ومحملا يخفى على من لم ير رأيهم، وأما قوله: ومنه بدا، قولا قديما، وإنه ... إلخ، فهذا ما عليه الأشاعرة المخالفون للكتاب والسنة وسلف الأمة; فقد أجمع أهل السنة والجماعة على ما دل عليه كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم من أن الله يتكلم بحرف وصوت، وأن القرآن كلام الله، حروفه ومعانيه؛ وعند الأشعرية أن الكلام هو: المعنى النفسي، وأن الله لا يتكلم بحرف ولا صوت. وقد صنف شيخ الإسلام، تقي الدين رحمه الله، مصنفا ذكر فيه تسعين وجها في بيان بطلان هذا القول، منها: أن الله سبحانه قال: كذا; يقول: كذا; ونادى; وينادي; والقول: إنما يكون حروفا، والنداء إنما هو بحرف وصوت، وكذلك الكلام، لا يكون إلا قولا، لا حديث نفس، قال النبي صلى الله عليه وسلم " إن الله عفا لأمتي ما حدثت به أنفسها، ما لم تعمل أو تتكلم "1 فجعل الكلام غير حديث النفس؛ وأجمع العلماء على أن المصلي إذا تكلم في صلاته، عالما عامدا، لغير مصلحتها، أن صلاته فاسدة، مع إجماعهم أن حديث النفس لا يبطلها; ففي ذلك وما أشبهه دلالة صريحة على أن المعنى الذي يكون في النفس ليس بكلام.   1 البخاري: الطلاق (5269) , ومسلم: الإيمان (127) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 258 وعند الأشاعرة أن الله لم يكلم موسى، وإنما اضطره إلى معرفة المعنى القائم بالنفس، من غير أن يسمع منه كلمة، وما يقرأه القارئون ويتلوه التالون، فهو عبارة عن ذلك المعنى، وأن الحروف مخلوقة. وفي حديث عبد الله بن أنيس المشهور: " فيناديهم بصوت، يسمعه من بعد، كما يسمعه من قرب، أنا الملك، أنا الديان "1 الحديث; وقال عبد الله بن الإمام أحمد: سألت أبي، فقلت: إن الجهمية يزعمون أن الله لا يتكلم بصوت، فقال: كذبوا، إنما يدورون على التعطيل; ثم قال: حدثنا عبد الله بن محمد المحاربي قال: حدثني الأعمش، عن أبي الضحى، عن مسروق، عن عبد الله قال: "إذا تكلم الله بالوحي سمع صوته أهل السماء". وعند الأشاعرة أن المعنى النفسي، القائم بذات الرب الذي يسمونه كلاما، شيء واحد لا يتبعض، وأن معنى الأمر والنهي والخبر، واحد; وأن معنى القرآن، والتوراة، والإنجيل، واحد، إن عبر عنه بالعربية فهو القرآن، وإن عبر عنه بالعبرانية فهو التوراة; وإن عبر عنه بالسريانية فهو الإنجيل; فهذا مما يقطع ببطلانه. وقول الشارح: وبذلك اغتر من اغتر، فقد قال الله تعالى: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً} [سورة فاطر آية: 8] ، {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ} [سورة النمل آية: 24] ، فنسأل الله أن   1 أحمد (3/495) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 259 يهدينا صراطه المستقيم. [جواب الشيخ أبا بطين عن حديث خلق الله آدم بيده على صورته] وسئل أيضا الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين، عن قوله: خلق الله آدم بيده على صورته، هل الكناية في قوله: على صورته، راجعة إلى آدم ... إلخ؟ فأجاب: هذا الحديث المسؤول عنه، ثابت في صحيح البخاري ومسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " خلق الله آدم على صورته، طوله ستون ذراعا "1 وفي بعض ألفاظ الحديث: " إذا قاتل أحدكم فليتق الوجه، فإن الله خلق آدم على صورته "2، قال النووي: هذا الحديث من أحاديث الصفات، ومذهب السلف أنه لا يتكلم في معناه; بل يقولون: يجب علينا أن نؤمن بها، ونعتقد لها معنى يليق بجلال الله تعالى، مع اعتقادنا أنه ليس كمثله شيء. انتهى. قال بعض أهل التأويل: الضمير في قوله: "صورته" راجع إلى آدم، وقال بعضهم: الضمير راجع على صورة الرجل المضروب، ورد هذا التأويل بأنه إذا كان الضمير عائدا على آدم فلا فائدة في ذلك، إذ ليس يشك أحد أن الله خالق كل شيء على صورته; وأنه خلق الأنعام والسباع على صورها; فأي فائدة في الحمل على ذلك؟ ورد تأويله بأن الضمير عائد على ابن آدم المضروب، بأنه لا فائدة فيه، إذ الخلق عالمون بأن آدم خلق على خلق ولده، وأن وجهه كوجوههم، فيرد هذا التأويل كله بالرواية   1 البخاري: الاستئذان (6227) , ومسلم: الجنة وصفة نعيمها وأهلها (2841) , وأحمد (2/315) . 2 أحمد (2/244) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 260 المشهورة: " لا تقبحوا الوجه، فإن ابن آدم خلق على صورة الرحمن ". وقد نص الإمام أحمد على صحة الحديث، وإبطال هذه التأويلات; فقال في رواية إسحاق بن منصور: " لا تقبحوا الوجه، فإن الله خلق آدم على صورته " صحيح، وقال في رواية أبي طالب: من قال: إن الله خلق آدم على صورة آدم، فهو جهمي، وأي صورة كانت لآدم قبل أن يخلقه؟! وعن عبد الله بن الإمام أحمد قال: قال رجل لأبي: إن فلانا يقول في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله خلق آدم على صورته"، فقال: على صورة الرجل; فقال أبي: كذب، هذا قول الجهمية، وأي فائدة في هذا؟ وقال أحمد في رواية أخرى: فأين الذي يروي: "إن الله خلق آدم على صورة الرحمن"؟ وقيل لأحمد، عن رجل إنه يقول: على صورة الطين، فقال: هذا جهمي، وهذا كلام الجهمية. واللفظ الذي فيه على صورة الرحمن، رواه الدارقطني، والطبراني، وغيرهما، بإسناد رجاله ثقات; قاله ابن حجر عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأخرجها ابن أبي عاصم، عن أبي هريرة مرفوعا، قال: " من قاتل فليجتنب الوجه، فإن صورة وجه الإنسان، على صورة وجه الرحمن "1 وصحح إسحاق بن راهويه اللفظ فيه: على صورة الرحمن; وأما أحمد، فذكر أن بعض الرواة وقفه على ابن عمر، وكلاهما حجة; وروى ابن مندة، عن ابن راهويه، قال: قد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه   1 البخاري: العتق (2560) , ومسلم: البر والصلة والآداب (2612) , وأحمد (2/244 , 2/327 ,2/347 ,2/449 ,2/519) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 261 قال: " إن آدم خلق على صورة الرحمن " وإنما علينا أن ننطق به. قال القاضي أبو يعلى، والوجه فيه أنه ليس في حمله على ظاهره ما يزيل صفاته، ولا يخرجها عما تستحقه، لأننا نطلق تسمية الصورة عليه، لا كالصور، كما أطلقنا تسمية: ذات، ونفس، لا كالذوات، والأنفس; وقد نص أحمد في رواية يعقوب بن بختان، قال: " خلق آدم على صورته "1 لا نفسره، كما جاء الحديث. وقال الحميدي لما حدث بحديث: " إن الله خلق آدم على صورته "2 قال: لا نقول غير هذا، على التسليم والرضى بما جاء به القرآن والحديث، ولا نستوحش أن نقول كما قال القرآن والحديث. وقال ابن قتيبة: الذي عندي - والله أعلم - أن الصورة ليست بأعجب من اليدين والأصابع والعين، وإنما وقع الألف لمجيئها في القرآن، ووقعت الوحشة من هذا لأنها لم تأت في القرآن; ونحن نؤمن بالجميع، هذا كلام ابن قتيبة; وقد ثبت في الصحيحين، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "فيأتيهم الله في صورة غير الصورة التي يعرفون، فيقول: أنا ربكم، فيقولون نعوذ بالله منك، هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا، فإذا أتانا ربنا عرفناه، فيأتيهم الله في الصورة التي يعرفون "3 وفي لفظ آخر: " صورته التي يعرفون، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: أنت ربنا، فيعرفونه "4 الحديث; فالذي ينبغي في هذا ونحوه: إمرار الحديث كما جاء، على الرضى   1 البخاري: الاستئذان (6227) , ومسلم: الجنة وصفة نعيمها وأهلها (2841) , وأحمد (2/315 ,2/323) . 2 مسلم: البر والصلة والآداب (2612) , وأحمد (2/251 ,2/434 ,2/463 ,2/519) . 3 البخاري: الرقاق (6574) , ومسلم: الإيمان (182) , وأحمد (2/275) . 4 البخاري: التوحيد (7438) , ومسلم: الإيمان (182) , وأحمد (2/275) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 262 والتسليم، مع اعتقاد أنه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [سورة الشورى آية: 11] . وأجاب أيضا: وأما السؤال عن الحديث الصحيح: " إن الله خلق آدم على صورته "1 فقال إسحاق بن منصور: سئل أحمد بن حنبل، عن الحديث: "لا تقبحوا الوجه، فإن الله خلق آدم على صورته" فقال: صحيح; وقال في رواية يعقوب ابن بختان: " خلق آدم على صورته "2 لا نفسره، كما جاء الحديث، وأنكر الإمام أحمد على من قال: إن "الهاء" في قوله "على صورته" عائدة على آدم; فقال في رواية أبي طالب، من قال: إن الله خلق آدم على صورة آدم، فهو جهمي; وأي صورة لآدم قبل أن يخلقه؟ وروى ابن مندة، عن عبد الله بن أحمد، قال: قال رجل لأبي، إن فلانا يقول في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: " خلق آدم على صورته "3 فقال: على صورة الرجل، قال أبي: كذب، هذا قول الجهمية، وأي فائدة في هذا؟ وقال في رواية أخرى، فأين الذي يروي: " أن الله خلق آدم على صورة الرحمن "؟ وقيل له عن رجل إنه يقول: خلقه على صورة الطين; فقال: هذا جهمي، وهذا كلام الجهمية; واللفظ الذي فيه: "على صورة الرحمن" رواه الدارقطني، والبخاري، وابن بطة، مرفوعا; وبعضهم وقفه   1 مسلم: البر والصلة والآداب (2612) , وأحمد (2/251 ,2/434 ,2/463 ,2/519) . 2 البخاري: الاستئذان (6227) , ومسلم: الجنة وصفة نعيمها وأهلها (2841) , وأحمد (2/315 ,2/323) . 3 البخاري: الاستئذان (6227) , ومسلم: الجنة وصفة نعيمها وأهلها (2841) , وأحمد (2/315 ,2/323) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 263 على ابن عمر، هذا كلام القاضي أبي يعلى في كتاب إبطال التأويل. قال: وروى ابن مندة عن إسحاق بن راهويه، قال: قد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أن الله خلق آدم على صورة الرحمن" وإنما علينا أن ننطق به، ثم ذكر القاضي أن ابن قتيبة ذكره في مختلف الحديث، فقال: الذي عندي - والله أعلم - أن الصورة ليست بأعجب من اليدين، والأصابع والعين، وإنما وقع الألف لمجيئها في القرآن، ووقعت الوحشة من هذه لأنها لم تأت في القرآن، ونحن نؤمن بالجميع; هذا كله كلام ابن قتيبة والقاضي ملخصا; وقال بشر بن موسى: حدثنا الحميدي، وذكر الحديث: " أن الله خلق آدم على صورته "، فقال: لا نقول غير هذا، على التسليم والرضا، بما جاء في القرآن والحديث، ولا نستوحش أن نقول: كما قال القرآن والحديث. [جواب أبا بطين عن قول السيوطي على قوله تعالى {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} ] سئل: أيضا الشيخ عبد الله أبا بطين رحمه الله، عن قول السيوطي، على قوله: {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [سورة المائدة آية: 120] في آخر سورة المائدة من الجلالين، قال: وخص العقل ذاته، فليس عليها بقادر. فأجاب: الظاهر أن مراده أن الرب سبحانه وتعالى، يستحيل عليه ما يجوز على المخلوق، من العدم والعيب، والنقص، وغير ذلك من خصائص المخلوقين; فلكون ذلك الجزء: 3 ¦ الصفحة: 264 يستحيل على ذات الرب سبحانه وتعالى، عبر عنه بأنه لا يدخل تحت القدرة، وأنا ما رأيت هذه الكلمة لغيره، والنفس تنفر منها. وقد روي عن ابن عباس، حكاية على غير هذا الوجه، وهي أن الشياطين، قالوا لإبليس: يا سيدنا، ما لنا نراك تفرح بموت العالم ما لا تفرح بموت العابد؟! والعالم لا نصيب منه، والعابد نصيب منه؟! قال: انطلقوا، فانطلقوا إلى عابد، فأتوه في عبادته، فقالوا: إنا نريد أن نسألك، فانصرف، فقال إبليس: هل يقدر ربك أن يخلق مثل نفسه؟ فقال: لا أدري; فقال: أترونه لم تنفعه عبادته مع جهله؟! فسألوا عالما عن ذلك؟ فقال: هذه المسألة محال، لأنه لو كان مثله، لم يكن مخلوقا، فكونه مخلوقا وهو مثل نفسه مستحيل، فإذا كان مخلوقا لم يكن مثله، بل كان عبدا من عبيده; فقال: أترون هذا يهدم في ساعة ما أبنيه في سنين؟! والله أعلم. وقال أيضا: والذي ذكره السيوطى لفظة لم تأت في الكتاب ولا في السنة، ولا رأينا أحدا من أهل السنة ذكرها في عقائدهم; ولا ريب أن ترك فضول الكلام من حسن الإسلام; وهذه كلمة ما نعلم مراد قائلها; يحتمل أنه أراد بها معنى صحيحا، ويحتمل أن يراد بها باطل; فالواجب: اعتقاد ما نطق به القرآن من أن الله على كل شيء قدير، وأنه إذا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 265 أراد شيئا قال له: كن، فيكون كما أراد; وأنه ليس كمثله شيء، ولا يكون شيء مثله، سبحانه وتعالى وتقدس; وجواب العالم الذي قال: لا يكون المخلوق مثل الخالق، جواب صحيح، لأنه الذي غاظ الشيطان، وهو نتيجة العلم; ويدل على أنه لو قال: قادرا، أو غير قادر، لم يكن جوابا صحيحا; وما ذكرنا من جواب هذا العالم، فيه مشابهة لكلام السيوطي، من بعض الوجوه. واعلم أن طريقة أهل السنة أن كل لفظ لا يوجد في الكتاب، ولا في السنة، ولا في كلام أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وسائر أئمة المسلمين، لا نفيه ولا إثباته، لا يثبت، ولا ينفى، إلا بعد الاستفسار عن معناه; فإن وجد معناه مما أثبته الرب لنفسه، أثبت; وإن وجد مما نفاه الرب عن نفسه، نفى; وإن وجد اللفظ مجملا يراد به حق وباطل، فهذا اللفظ لا يطلق نفيه ولا إثباته; وذلك كلفظ: الجسم، والجوهر، والجهة، ونحوها; وكره السلف والأئمة الكلام المحدث، لاشتماله على كذب وباطل، وقول على الله بلا علم; وما ذكره السيوطي من هذا النوع; وضد القدرة العجز، وهل يسوغ أن يقال: إن الله عاجز عن كذا؟! وإنما يقال: إنه سبحانه يستحيل وصفه بما يتضمن النقص والعيب، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا; والله أعلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 266 [رسالة أبي بطين إلى الشيخ عبد الرحمن بن حسن] وله أيضا: قدس الله روحه. بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين، إلى الأخ الشيخ: عبد الرحمن بن حسن، وفقه الله للعمل الصالح، والقول الحسن، وثبتنا وإياه على خير الهدى، وأعدل السنن; سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فموجب الخط إبلاغ الشيخ السلام، والسؤال عن الحال، أصلح الله لنا وله الدين، والدنيا، والآخرة. وغير ذلك، ذكرت لي أن أكتب على كلام الدرويش الذي عندكم، بيان بعض ما فيه من العيب، والذي كتبتم عليه فيه كفاية. لكن نذكر على بعض ألفاظه، بيان مخالفته للحق، منها: قول الحمد لله المتوحد بجميع الجهات ; فنقول: لا يشك من سمع هذا الكلام في أن المراد بالجهات الجهات الست التي يقول المعطل فيها: إن الرب سبحانه من الجهات الست خالي; والاتحادي، يقول: إنه سبحانه متحد بها; والحلولي يقول: إنه سبحانه حال فيها; تعالى الله عما يقول الجميع علوا كبيرا. وأهل السنة والجماعة يقولون: إن الرب سبحانه مستو على عرشه، بائن من خلقه ; وظاهر قول هذا الرجل: المتوحد بجميع الجهات، يشبه قول الاتحادية; وإن حملت الجزء: 3 ¦ الصفحة: 267 الباء على الظرفية، أشبه قول الحلولية، وربما يظن أنه لعجميته، يعبر عبارات لا يعرف معناها; لكن سمعت أنه قد شرع في وضع حاشية على النونية، ولا يتنزل لذلك إلا من يدعي تمام المعرفة; وحكي عنه، أنه يقول: مرادي بالجهات جهات التوحيد الثلاث; وهي: توحيد الربوبية، والإلهية، والأسماء والصفات; وهذا بعيد من كلامه، لأن هذه تسمى أنواعا، لا جهات. وبكل حال: فظاهر كلامه يخالف ما عليه أهل السنة والجماعة; لكن ينبغي: أولا إحضاره، ويبين له ما في كلامه مما ظاهره خلاف الحق، وتبين له الأدلة الشرعية على خلاف ما توهمه في كلامه; فإن اعترف فهو المطلوب، والحمد لله; وفي كلامه من العيب والركاكة كثير، كقوله: لا شريك له في الذات، ولا في الصفات; فنفى الشركة في الذات، ولم يقل أحد من بني آدم إن لله سبحانه شريكا في ذاته، حتى يحتاج إلى نفي ذلك; وإنما يقول أهل الحق: لا شبيه له في ذاته ولا في صفاته، ردا لقول المشبهة; فقوله: لا شريك له في ذاته، يدل على قلة معرفته في هذا الباب; وكذلك قوله: لا شريك له في الملك، فضلا عن الملكوت; فأشار بقوله: فضلا عن الملكوت إلى بعد ما بينهما; وقد ذكر العلماء: أن الملكوت هو الملك، وإنما زيدت التاء للمبالغة في التعظيم. وكذلك قوله في إعراب: لا إله إلا الله، من قبيل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 268 استثناء الجزء من الكل، فجَعْل استثناء الاسم الكريم، من نوع استثناء الجزئي، غلط; بل الجزئي مقابل الكلي وقسيمه، لا قسم منه; فالكلي ما اشترك في معناه كثيرون، كالإنسان والحيوان; والجزئي: يراد به أسماء الأعلام، كزيد وعمرو; والاسم الكريم، أعرف المعارف، كما قاله سيبويه وغيره; وكذلك قوله في إعراب: لا إله إلا الله، إنه كقولنا: لا شمس إلا الشمس; لأن قول القائل لا شمس إلا الشمس، لفظ لا فائدة فيه; وأيضا: فاسم الشمس من الألفاظ الكلية، لقولهم في تعريف الكلي: إن ما لا يمنع تصور معناه من وقوع الشركة فيه، فهو الكلي، سواء وقعت فيه الشركة كالإنسان، أم لم تقع وأمكنت، كالشمس، أو استحالت كالإله، فإن استحالة ذلك للأدلة القاطعة عليه. فجعله الاسم الكريم، الذي هو أرفع الأعلام، وأعرف المعارف، مثل الشمس التي هي من الألفاظ الكلية، غلط; بل الموافق لقولنا: لا شمس إلا الشمس، قول القائل: لا إله إلا الإله، وهذا اللفظ مع الإطلاق، لا يستفاد منه توحيد الإلهية لله رب العالمين; هذا وكثير من كلامه، كما يقال: جعجعة بلا طحن! نسأل الله: أن يهدينا وإياكم، وجميع المسلمين، صراطه المستقيم. [جواب أبا بطين على قول من قال في قول الخضر لموسى: ما نقص علمي وعلمك من علم الله] وسئل أيضا: الشيخ عبد الله أبا بطين عن قول من قال في قول الخضر لموسى: ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا كما نقص هذا العصفور من البحر ; وقال: إن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 269 المراد بعلم الله معلومه. فأجاب: هذا على طريق أهل التأويل في صفات الرب سبحانه، كما يقول: البيضاوي وأمثاله، في قوله سبحانه وتعالى: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ} [سورة البقرة آية: 255] أي: من معلومه; وأما مفسرو أهل السنة، كابن جرير، والبغوي، وابن كثير، فأقروه على ظاهره، فقالوا: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} [سورة البقرة آية: 255] أي: لا يطلع أحد من علم الله على شيء، إلا بما علمه الله تعالى وأطلعه عليه; وقول الخضر يشهد له قول الله عز وجل: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً} [سورة الإسراء آية: 85] ، وهل يسغ أن يقال: وما أوتيتم من المعلوم إلا قليلا؟! وقال تعالى: {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ} [سورة النساء آية: 166] . قال ابن كثير: أنزله بعلمه، أي فيه علمه، الذي أراد أن يطلع العباد عليه، من البينات، والهدى، والفرقان، وما يحبه الله، ويكرهه، وما فيه من العلم بالغيوب، وما فيه من ذكر صفاته المقدسة، كما قال تعالى: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} [سورة البقرة آية: 255] . وقال الخضر لموسى: إني على علم من علم الله، لا تعلمه أنت; وأنت على علم من علم الله، علمك إياه، لا أعلمه; فهذا كله يبطل قول من تأول العلم بالمعلوم; وأي محذور في إجرائه على ظاهره؟!. [جواب أبا بطين على قول الشيخ عثمان إن الصفة تعتبر من حيث هي هي] وسئل: عن قول الشيخ عثمان، إن الصفة تعتبر من حيث هي هي، وتارة من حيث قيامها به تعالى، وتارة من الجزء: 3 ¦ الصفحة: 270 حيث قيامها بغيره; وليست الاعتبارات الثلاث متماثلة، إذ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [سورة الشورى آية: 11] . فأجاب: قول الشيخ عثمان: إن الصفة تعتبر من حيث هي هي; يعني: لها ثلاث اعتبارات، تارة تعتبر من حيث هي، هي; أي تعتبر: منفردة من غير تعلقها بمحل، مثال ذلك: البصر، فيقال: البصر من حيث هو، هو ما تدرك به المبصرات، ومن حيث تعلقه بمخلوق، فيقال: هو نور في شحمة، تسمى: إنسان العين، تحت سبع طبقات في حدقة، ينطبق عليها جفنان; وأما بالنسبة إلى الرب سبحانه، فنقول: هو سبحانه: سميع، يسمع; بصير، يبصر، ليس كسمع المخلوق، ولا كبصر المخلوق، وهكذا سائر الصفات. [جواب أبا بطين على حديث الخوارج هل يوجد في ألفاظه على خير فرقة] وسئل عن حديث الخوارج الذي أخرجه البخاري، عن أبي سعيد، فيه: " يخرجون على حين فرقة من الناس "1، هل في بعض ألفاظه: " على خير فرقة من الناس "2؟ فأجاب: وأما حديث الخوارج، فلا نعلم فيه لفظة "خير"، والمعروف: "على حين فرقة من الناس " وربما وقع في بعض الألفاظ "خير"، والله أعلم. وذكر النووي في شرح مسلم أن المشهور بالحاء والنون، وضم الفاء، أي: وقت افتراق; وقيل بالخاء، والراء، وكسر الفاء، وذكر الرواية " يقتلهم أولى الطائفتين بالحق "، والرواية الأخرى " أدنى الطائفتين إلى الحق "3.   1 البخاري: المناقب (3610) , ومسلم: الزكاة (1064) , والنسائي: تحريم الدم (4101) , وأبو داود: السنة (4764) , وأحمد (3/4 ,3/73) . 2 البخاري: استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم (6933) , ومسلم: الزكاة (1064) , والنسائي: الزكاة (2578) , وأحمد (3/56) . 3 مسلم: الزكاة (1065) , وأحمد (3/82 ,3/97) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 271 سئل الشيخ: عبد الله أبا بطين، عن حديث: " لو أن أحدكم أدلى بحبل لهبط على الله "1؟ فأجاب: حديث: " لو أن أحدكم أدلى بحبل لهبط على الله "2 رواه الترمذي من رواية الحسن عن أبي هريرة. وللشيخ تقي الدين رحمه الله على هذا الحديث كلام طويل، قال: فإن كان ثابتا، فقوله: " لو أن أحدكم أدلى بحبل لهبط على الله "3 إنما هو تقدير مفروض، أي: لو وقع الإدلاء، لوقع عليه، لكنه لا يمكن أن يدلي أحد على الله سبحانه وتعالى شيئا، لأنه عال بالذات، وإذا هبط شيء إلى جهة الأرض، وقف في المركز من الجزء ... إلى أن قال: فكما أن ما يهبط إلى جوف الأرض يمتنع صعوده إلى تلك الناحية لأنها عالية، فترد الهابط بعلوها، كما أن الجهة العليا من عندنا ترد ما يصعد إليها من الثقيل، فلا يصعد الثقيل إلا برافع يرفعه يدافع به ما في قوته من الهبوط، فكذلك ما يهبط من أعلى الأرض إلي أسفلها وهو المركز، لا يصعد من هناك إلى ذلك الوجه إلا برافع يرفعه، يدافع به ما في قوته من الهبوط إلى المركز؛ فإن قدر أن الرافع أقوى، كان صاعدا به إلى الفلك من تلك الناحية، وصعد به إلى الله. وإنما يسمى هبوطا: باعتبار ما في أذهان المخاطبين، من أن ما يحاذي أرجلهم، يكون هابطا، ويسمى هبوطا، مع   1 الترمذي: تفسير القرآن (3298) . 2 الترمذي: تفسير القرآن (3298) . 3 الترمذي: تفسير القرآن (3298) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 272 تسمية إهباطه إدلاء، وهو إنما يكون إدلاء حقيقيا إلى المركز، ومن هناك إنما يكون مدا للحبل، والدلو لا إدلاء له، ولكن الجزاء والشرط مقدران، لا محققان; فإنه قال: لو أدلى لهبط; أي: لو فرض أن هناك إدلاء، لفرض أن هناك هبوطا، وهو يكون إدلاء وهبوطا، إذا قدر أن السماوات تحت الأرض، وهذا منتف، ولكن فائدته: بيان الإحاطة، والعلو من كل جانب. وهذا المفروض ممتنع في حقنا لا نقدر عليه، فلا يتصور أن ندلي، فلا يتصور أن يهبط على الله شيء; لكن الله قادر، على أن يخرق من هناك بحبل، لكن لا يكون في حقه إدلاء، فلا يكون في حقه هبوطا عليه، كما لو خرق بحبل من القطب إلى القطب، أو من مشرق الشمس إلى مغربها، وقدرنا أن الحبل مر في وسط الأرض، فإن الله قادر على ذلك كله ... إلى أن قال: فعلى كل تقدير قد خرق بالحبل من جانب المحيط إلى جانب الآخر، مع خرق المركز; وبتقدير إحاطة قبضته بالسماوات والأرض، فالحبل الذي قدر أنه خرق به العالم وصل إليه، ولا يسمى شيئا بالنسبة إليه، لا إدلاء، ولا هبوطا، وأما بالنسبة إلينا: فإنما تحت أرجلنا، تحت لنا; وما فوق رؤوسنا، فوق لنا; وما ندليه من ناحية رؤوسنا، إلى ناحية أرجلنا، نتخيل أنه هابط؛ فإذا قدر أن أحدنا أدلى بحبل، كان هابطا على ما هناك، لكن هذا التقدير ممتنع في حقنا; والمقصود به بيان الجزء: 3 ¦ الصفحة: 273 إحاطة الخالق تعالى، كما بين أنه يقبض السماوات، ويطوي الأرض، ونحو ذلك، مما فيه بيان إحاطته بالمخلوقات. ولهذا قرأ في تمام هذا الحديث {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [سورة الحديد آية: 3] ، وهذا كله كلام على تقدير صحته، فإن الترمذي لما رواه قال: وفسر بعض أهل العلم بأنه هبط على علم الله; ثم قال الشيخ: وتأويله بالعلم، تأويل ظاهر الفساد; قال: وبتقدير ثبوته، يكون دالا على الإحاطة، والإحاطة قد علم أن الله قادر عليها، وعلم أنها تكون يوم القيامة، بالكتاب والسنة; فليس في إثباتها في الجملة ما يخالف العقل ولا الشرع، لكن لا نتكلم إلا بما نعلمه، وما لا نعلم أمسكنا عنه. [جواب أبا بطين على حديث إن لله تسعة وتسعين اسما] وله أيضا، رحمه الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين، إلى الإخوان: محمد آل عمر، وصالح آل عثمان، ومحمد آل إبراهيم، ثبتهم الله على الإسلام، ووفقهم للتمسك بسنة سيد الأنام، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فموجب الخط إبلاغ السلام، والوصية بالتمسك بما من الله به عليكم من معرفة التوحيد الذي هو حق الله على العبيد؛ فاعرفوا حق هذه النعمة، وتواصوا بالصبر، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم، ممن إذا أنعم عليه شكر، وإذا ابتلي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 274 صبر، إذا أذنب استغفر. وما سألتم عنه من معنى، قوله صلى الله عليه وسلم: " إن لله تسعة وتسعين اسما، من أحصاها دخل الجنة "1، فقد ذكر ابن القيم رحمه الله، ما معناه: إن الإحصاء يتناول ثلاثة أمور: الأول: حفظها; الثاني: معرفة معانيها; الثالث: اعتقاد ما دلت عليه، والعمل بمقتضاه. وأما معنى محاجة آدم موسى عليهما السلام، ولوم موسى لآدم، فذكر شيخ الإسلام وغيره أن لوم موسى لآدم إنما هو على المصيبة التي لحقت الذرية بسبب الذنب; وآدم إنما احتج بالقدر على المصيبة، لا على الذنب. يوضح ذلك أنه لو جاز الاحتجاج بالقدر على الذنب، وأنه حجة صحيحة، لكان حجة لإبليس وجميع العصاة، وهذا باطل بدلائل الكتاب والسنة، بإجماع أهل الحق من الأمة، والله سبحانه أعلم. [رسالة الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى ابن عون جوابا لأوراق وردت من عمان] قال الشيخ عبد اللطيف، بن عبد الرحمن بن حسن، قدس الله روحه، ونور ضريحه، ما نصه: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأخ المكرم: محمد بن عون، سلمه الله تعالى، وأعانه على ذكره وشكره، ووفقه للجهاد في سبيله، ومراغمة من تجهم، أو نافق، أو ارتد، من أهل دهره وعصره; سلام عليكم ورحمة الله وبركاته; وبعد: فنحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو،   1 البخاري: الشروط (2736) , ومسلم: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2677) , والترمذي: الدعوات (3508) , وابن ماجه: الدعاء (3860) , وأحمد (2/258 ,2/267 ,2/427 ,2/499 ,2/503 ,2/516) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 275 على ما من به من سوابغ إنعامه، وجزيل فضله وإكرامه. والواجب على المكلفين في كل زمان ومكان، الأخذ بما صح وثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس لأحد أن يعدل عن ذلك إلى غيره، ومن عجز عن ذلك في شيء من أمر دينه فعليه بما كان عليه السلف الصالح والصدر الأول، فإن لم يدر شيئا من ذلك، وصح عنده عن أحد الأئمة الأربعة المقلدين الذين لهم لسان صدق في الأمة، فتقليدهم سائغ حينئذ; فإن كان المكلف أنزل قدرا، وأقل علما، وأنقص فهما، من أن يعرف شيئا من ذلك، فليتق الله ما استطاع، وليقلد الأعلم من أهل زمانه، أو من قبلهم، خصوصا من عرف بمتابعة السنة، وسلامة العقيدة، والبراءة من أهل البدع; فهؤلاء أحرى الناس وأقربهم إلى الصواب، وأن يلهموا الحكمة، وتنطق بها ألسنتهم; فاعرف هذا، فإنه مهم جدا. ثم لا يخفاك أنه قد ألقي إلينا أوراق وردت من جهة عمان، كتبها بعض الضالين، ليلبس ويشوش بها على عوام المسلمين، ويتشبع بما لم يعط من معرفة الإيمان والدين؛ وبالوقوف على أوراقهم، يعرف المؤمن حقيقة حالهم، وبعد ضلالهم، وكثافة أفهامهم، وأنهم ملبوس عليهم، لم يعرفوا ما جاءت به الرسل، ولم يتصوروه، فضلا عن أن يدينوا به ويلتزموه; وأسئلتهم وقعت لا لطلب الفائدة والفهم، بل للتشكيك والتمويه، والتحلي بالرسم والوهم; ومن السنن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 276 المأثورة عن سلف الأمة وأئمتها، وعن إمام السنة أبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل، قدس الله روحه: التشديد في هجرهم، وإهمالهم، وترك جدالهم، واطراح كلامهم، والتباعد عنهم حسب الإمكان، والتقرب إلى الله بمقتهم، وذمهم، وعيبهم. وقد ذكر الأئمة من ذلك جملة في كتب السنة، مثل: كتاب "السنة" لعبد الله بن الإمام أحمد، و "السنة" للخلال، و "السنة" لأبي بكر الأثرم، و"السنة" لأبي القاسم، اللالكائي، وأمثالهم; فالواجب نهي أهل الإسلام عن سماع كلامهم ومجادلتهم; لا سيما وقد أقفر ربع العلم في تلك البلاد، وانطمست أعلامه; قال في الكافية الشافية: فانظر ترى لكن نرى لك تركها حذرا عليك مصائد الشيطان فشباكها والله لم يعلق بها من ذي جناح قاصر الطيران إلا رأيت الطير في شبك الردى يبكي له نوح على الأغصان إذا عرف هذا، فإحدى الورقتين المشار إليهما ابتدأها الملحد الجاهل بسؤال يدل على إفلاسه من العلم، ويشهد بجهالته وضلالته; وهو قوله: الرؤية الثابتة عند أهل السنة والجماعة في الجنة، هل هي بصفات الجلال، أو الجمال، أو الكمال؟! ولم يشعر هذا الجاهل الضال أن الرؤية تقع على الذات المتصفة بكل وصف يليق بعظمته، وإلهيته، وربوبيته، من جلال، وجمال، وكمال; الجزء: 3 ¦ الصفحة: 277 وأن صفات الجلال ترجع إلى الملك، والمجد، والسلطان، والعزة; والجمال وصف ذاتي، كما أن الجلال كذلك، والكمال حاصل بكل صفة من صفاته العلى. فله الجلال الكامل، والجمال الكامل، والمجد، والعزة التي لا تضاهى ولا تماثل; فهذه أوصاف ذاتية لا تنفك عنه في حال من الأحوال، وإنما يقال: تجلى بالجلال، والمجد، والعزة، والسلطان، إذا ظهرت آثار تلك الصفات; كما يقال تجلى بالرحمة، والكرم، والعفو، والإحسان، إذا ظهرت آثار تلك الصفات في العالم; ويستحيل أن يرى تعالى، وقد تخلو عنه صفة جلال، أو جمال، أو كمال. ولو وقف هذا الغبي على ما جاء في الكتاب والسنة، من إثبات الرؤية، وتقريرها، ولم يتجاوز ذلك إلى تخليط صدر عمن لا يدري السبيل، ولم يقم بقلبه عظمة الرب الكبير الجليل، لكان أقرب إلى إيمانه وإسلامه. وأما قوله: وما الفرق بين صفات المعاني، والمعنوية؟ فهذه الكلمة، لو فرضت صحتها، فالجهل بها لا يضر، ولم تأت الرسل بما يدل بحال أن من صفات الله ما هو من المعاني وما هو من الصفات المعنوية; وهذا التقسيم: يطالب به الأشعرية والكرامية ونحوهم; فلسنا منهم في شيء; والعلم آية محكمة، أو فريضة عادلة، أو سنة متبعة; وما ليس هكذا سبيله، فالواجب اطراحه وتركه; الجزء: 3 ¦ الصفحة: 278 والعلم كل العلم في الوقوف مع السنة، وترك ما أحدثه الناس من العبارات المبتدعة. ومن الأصول المعتبرة والقواعد المقررة عند أهل السنة والجماعة أن الله تعالى لا يوصف إلا بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله، لا يتجاوز ذلك أهل العلم والإيمان، ولا يتكلفون علم ما لم يصف الرب تبارك وتعالى به نفسه، وما لم يصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم؛ والله أكبر، وأجل، وأعظم، في صدور أوليائه وعباده المؤمنين، من أن يتكلموا في صفاته، بمجرد آرائهم، واصطلاحاتهم، وعبارات متكلميهم. وأما قول السائل: وهل صفات المعاني ثابتة في ذات الله؟ فهذه عبارة نبطيه أعجمية، لأنه إن أريد بالإضافة إضافة الدال على المدلول، فكل صفاته تعالى لها معان ثابتة لذاته المقدسة، وأي وصف ينفك عن هذا، لو كانوا يعلمون؟ وإن أريد بالإضافة إضافة الصفة للموصوف، أي: المعاني الموصوفة، فالمعاني الموصوفة منها صفات أفعال، وصفات ذات. وأما قوله: وما الاعتبارات الأربع؟ فهذه كلمة ملحونة أعجمية; والعرب تقول: الاعتبارات الأربعة، لا الأربع; والحكم معروف في باب العدد; وأما معناها، فهو إلى الألغاز والأحاجي أقرب منه إلى الكشف والإيضاح في الجزء: 3 ¦ الصفحة: 279 السؤال; فالحساب تجري فيه اعتبارات أربعة، من جهة لفظه، وإفراده، وجمعه، وتصحيحه، وكسره، وضربه، وطرحه; وتجري الاعتبارات الأربعة فما فوق في أبواب الفقه من كتب الفروع، من كتاب الطهارة، إلى أبواب العتق، والإقرار، وكثير من عباراته تختلف مفهوماتها، باختلاف عباراتها. وكذلك المقدمات العقلية، والأدلة النظرية، والبديهيات الذهنية، والضروريات الحسية، لها اعتبارات، ولها حالات، ولها مراتب، ودرجات، يطلق عليها لفظ الاعتبارات. وكذلك قوله: وما الوجود الأربع؟ عبارة ملحونة أعجمية، فقد يراد بها ما يوجد في الأعيان، والأذهان، واللسان، والبنان; وقد يراد بها غير ذلك، من مراتب وجود العلم، أو وجود الوحي، فإنه قسم هذا التقسيم باعتبار إدخال الإلهام في مسمى الوحي. وكذلك الجهل، له مراتب أربع: فمنه الجهل المركب، ومنه البسيط، وكل منهما، إما في السمعيات، أو العقليات; وكذلك الأخبار قطعية وظنية، وبالجملة: فالاعتبارات الأربعة، والوجود، ونحو ذلك، تقع كل ما تناله العبارة، ويصدق عليه اللفظ في أي فن، وأي حكم. فإن قال: المراد بالاعتبارات والوجود، باعتبار صفاته تعالى. قلنا: تقسيم الاعتبارات والوجود، يختلف باختلاف الجزء: 3 ¦ الصفحة: 280 المقاصد، والإصلاح; وليس في كلام السلف ما يجيز الخوض في اصطلاحات المتكلمين والأشاعرة. وأما الفرق بين الدليل والبرهان; فالدليل في اصطلاح الأصوليين والفقهاء: ما يستدل به على إثبات الحكم وصحته; والبرهان: ذكر الحجة بدليلها; وأما الفرق بين العهد والميثاق، فهو اعتباري، والمفهوم واحد، قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ} [سورة البقرة آية: 83] الآية، وقال تعالى: {لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ} [سورة المائدة آية: 70] ، وقال تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ} [سورة يس آية: 60] ، وقال: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} [سورة النحل آية: 91] ، وقال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ} [سورة آل عمران آية: 81] إلى قوله: {وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي} [سورة آل عمران آية: 81] ، وطالع عبارات المفسرين. وأما العهود التي أخذها الله من عباده، فلا يسأل عن كميتها، إذ لا يعلمها إلا الله، قال تعالى: {وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ} [سورة النساء آية: 164] ، وكل رسول يؤخذ عليه، وعلى قومه العهد; فكيف يسأل عن كميتها؟ ومن ادعى علمها فهو كاذب; نعم، ما ذكر في القرآن من أخذ العهد على الأنبياء، وعلى الأمم كبني إسرائيل، وعلى بني آدم كافة، كما في آية "يس"، وأخذ العهد على الذرية، فهذا معروف الجزء: 3 ¦ الصفحة: 281 محصور. وأما قوله: وما العهود التي عاهدها معهم؟ فهذه عبارة أعجمية، جاهلية; فالله عهد إليهم، ولم يعاهدهم هو، بل هم عاهدوه، كما قال تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ} [سورة التوبة آية: 75] ولم يقل عاهدهم الله أبدا، فالمعاهدون هم العباد، والله عهد إليهم، وعاهدوه هم، ولم يعاهدهم هو; فاعرف: جهل السائل وعجمته. وأما قوله: وكم من تعلقات للقدرة، والإرادة، والعلم، والكلام؟ فاللفظ: أعوج ملحون، لا تأتي: "من" بعد "كم" الاستفهامية أبدا; والرجل غلبت عليه: العجمة في الفهم والتعبير; فإن أريد بالتعلق، كون الأشياء، بالقدرة، والإرادة، والعلم، والكلام; فأي فرد من أفراد الكائنات، يخرج عن هذا؟ ولا يتعلق به؟! وأما قوله: وما علة نفي الحروف السبعة، من فاتحة الكتاب؟ فهذا: عدم، لا نفي، والعدم لا يعلل; فلا يقال: لم عدمت بقية حروف الهجاء من سورة الإخلاص؟ مثلا، أو من (بسم الله الرحمن الرحيم) ؟ لأن المعنى المراد حاصل بالحروف المذكورة، والتراكيب المسطورة، والعدم لا يعلل; وإن علل فعلته عدمية؛ والسائل رأى كلمات مسطورة فظنها داخلة في مسمى العلة ومذكورة; وإنما هي: جهالات، وضلالات، وخيالات {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 282 يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً} 1 [النور 39] . [رسالة الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى صالح الشثري، وتفسير السبحات] وله أيضا قدس الله روحه، ونور ضريحه: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأخ: صالح بن محمد الشثري، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فأحمد إليك الله، الذي لا إله إلا هو، على سوابغ نعمه، ونهنيك بما هنيتنا به، جعلنا الله وإياك من الفائزين برضاه، والمسارعين إلى العمل بما يحبه ويرضاه، ومن علينا باغتنام الصحة والفراغ، وأعاذنا من الغبن في هاتين النعمتين، اللتين هما سفينة النجاة، ومركب أهل الصدق في المعاملات. وتسأل عن تفسير السبحات بالنور، هل هو من التأويل المردود أو لا؟ فلا يخفاك أن التأويل بالمعنى الأعم، يدخل فيه مثل هذه، وقد حكاه جمع من أهل الإثبات; وأما التأويل بالمعنى الأخص، عند الجهمية ومن نحا نحوهم، فليس هذا منه; لأنهم أولوا "النور" الذي هو اسمه وصفته، بما يرجع إلى فعله وخلقه; وليس هذا منه; وقد فسرت "السبحات" بالعظم، لأن أصل السبحة، من التنْزيه والتقديس; وفسرت: بضوء الوجه المقدس; وفسرت: بمحاسنه، لأن من رأى   1 آخر ما وجد من هذه الرسالة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 283 الشيء الحسن، والوجه الحسن، سبح بارئه وخالقه; وقيل: هي باقية على أصلها، لأن التسبيح التنْزيه. وقيل: "سبحات وجهه" في الحديث، جملة معترضة، يريد قائل هذا: إسناد الفعل إلى الوجه المنَزّه، حكاه ابن الأثير; وقال: الأقرب أن المعنى، لو انكشف من أنواره - التي تحجب العباد - شيء، لأهلك كل من وقع عليه ذلك النور، كما خر موسى صعقا وتقطع الجبل لما تجلى سبحانه; وهذا لا يبعد، إن أريد نور الذات، هذا ما ظهر لي، والسلام. [رسالة الشيخ عبد اللطيف إلى محمد الجبري فيمن آمن بلفظ الاستواء ونازع في المعنى] وله أيضا: رحمه الله تعالى، وعفا عنه: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأخ: محمد بن راشد الجابري، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته; وبعد: فنحمد إليكم الله، الذي لا إله إلا هو، وهو للحمد أهل، وهو على كل شيء قدير; والسؤالات وصلت. فأما: السؤال الأول، فيمن آمن بلفظ "الاستواء" الوارد في كتاب الله، لكن نازع في المعنى، وزعم أنه هو: الاستيلاء; فهذا جهمي، معطل، ضال، مخالف لنصوص الكتاب والسنة، وإجماع سلف الأمة; وهذا القول هو المعروف عند السلف، عن جهم وشيعته الجهمية; فإنهم لم يصرحوا برد ألفاظ القرآن، كالاستواء، وغيره، من الصفات; وإنما خالفوا السلف في المعنى المراد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 284 وقولهم هذا لا يعرف في المسلمين إلا عن الجهم بن صفوان، تلميذ الجعد بن درهم; وكان الجعد قد سكن حران وخالط الصابئة واليهود، وأخذ عنهم من المقالات والمذاهب المكفرة ما أنكره عليه كافة أهل الإسلام، وكفروه بذلك، حتى إن خالد بن عبد الله القسري، أمير واسط في خلافة بني أمية، قتل الجعد وضحى به يوم العيد الأكبر، فقال وهو على المنبر: أيها الناس، ضحوا تقبل الله ضحاياكم، فإني مضح بالجعد بن درهم، إنه زعم أن الله لم يكلم موسى تكليما، ولم يتخذ إبراهيم خليلا; ثم نزل فذبحه. وشكره على هذا الفعل، وصوبه جميع أهل السنة; وإنما قال الجعد هذه المقالة لاعتقاده أن الخلة، والتكليم، والاستواء، ونحو ذلك من الصفات، لا تكون إلا من صفات المخلوقات، وخصائص المحدثات. وهذا المذهب نشأ من سوء اعتقادهم وعدم فهمهم لما يراد، وما يليق من المعنى المختص بالله، فظنوا ظن السوء بالله وصفاته، ثم أخذوا في نفيها وتعطيلها، وتحريف الكلم عن مواضعه، والإلحاد في أسمائه؛ ولو عرفوا أنما يثبت لله من الصفات لا يشبه صفات المخلوقات، بل هو بحسب الذات، وكل شيء صفاته بحسب ذاته، فكما أننا نثبت له ذاتا لا تشبه الذوات، فكذلك نثبت له صفات لا تشبه صفات المخلوقات; لو عرفوا هذا، لسلموا من التعطيل; وعلى قولهم ومذهبهم الخبيث لا يعبدون ربا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 285 موصوفا بصفات الكمال، وصفات العظمة والجلال; وإنما يعبدون ذاتا مجردة عن الصفات؛ فهم كما قال بعض العلماء: لا يعبدون واحدا، أحدا، فردا صمدا، وإنما يعبدون خيالا عدما. وهذا المذهب اشتهر بعد الجعد بن درهم عن تلميذه: جهم بن صفوان; ولذلك يسمى أهل هذا المذهب، عند السلف وأئمة الأمة: مذهب الجهمية، نسبة إلى جهم. ثم أعلن به وأظهره: بشر المريسي وأصحابه، في أوائل المائة الثالثة، لأنهم تمكنوا من بعض ملوك بني العباس، وصار لهم عنده جاه ومنْزلة، فقويت بذلك شوكة الجهمية، وكثر شرهم، وعظم على الإسلام وأهله كيدهم وضررهم، حتى امتحنوا من لم يوافقهم على بدعتهم وضلالتهم، فشردوا بعض أهل السنة عن أوطانهم، وحبسوا وضربوا، وقتلوا على هذا المذهب. وجرى على إمام السنة الإمام أحمد بن حنبل من ذلك أشد امتحان وأعظم بلية، وضرب حتى أغشي عليه من الضرب، وإذا جادله منهم مجادل، قال: ائتوني بشيء من كلام الله، وكلام رسوله، حتى أجيبكم إليه، فيأبون ويعرضون، ويرجعون إلى شبه الفلاسفة واليونان، وهو مع ذلك يكشف لهم الشبه، ويبين بطلانها بأدلة الكتاب والسنة، وإجماع الأمة، والأدلة العقلية الصريحة، وصنف في الجزء: 3 ¦ الصفحة: 286 ذلك كتابه المعروف في الرد على الزنادقة والجهمية، وهو كتاب جليل لا يستغني عنه طالب العلم. والمقصود أن علماء الأمة أنكروا مذهب الجهمية أشد الإنكار، وصرحوا بأنه من مذاهب الضلال والكفار، ولم يخالف في ذلك أحد منهم، وقد جمع الإمام اللالكائي جملة من كلام السلف في تكفيرهم وتضليلهم، في كتابه الذي سماه: "كاشف الغمة عن معتقد أهل السنة". ومختصر كتابه موجود عندكم في الساحل، قدم به عبد الله بن معيذر، عام اثنين وسبعين، وهو وقف على طلبة العلم الشريف. إذا عرف هذا، فأهل السنة متفقون في كل مصر وعصر على أن الله موصوف بصفات الكمال ونعوت الجلال، التي جاء بها الكتاب والسنة; يثبتون لله ما أثبته لنفسه المقدسة، وما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تمثيل، ولا تعطيل، ومن غير تكييف، ولا تشبيه; لا يبتدعون لله وصفا لم يرد به كتاب ولا سنة، فإن الله تعالى: أعظم، وأجل، وأكبر في صدور أوليائه المؤمنين، من أن يتجاسروا على وصفه ونعته بمجرد عقولهم، وآرائهم، وخيالات أوهامهم; بل هم منتهون في ذلك إلى حيث انتهى بهم الكتاب والسنة، لا يتجاوزون ذلك بزيادة على ما وصف الرب به نفسه، أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 287 ولا يعطلون ما ورد في الكتاب والسنة من صفات الكمال ونعوت الجلال؛ وينكرون تعطيل معنى الاستواء، وتفسيره بالاستيلاء، ويتبرؤون من مذهب من قال ذلك، وعطل الصفات من الجهمية وأتباعهم; وقد وقع في هذا كثير ممن ينتسب إلى أبي الحسن الأشعري; وظنه بعض الناس من مذاهب عقيدة أهل السنة والجماعة ; وسبب ذلك: هو الجهل بالمقالات والمذاهب، وما كان عليه السلف; قال حذيفة رضي الله عنه: " كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر، مخافة الوقوع فيه ". فالواجب على من له نهمة في الخير وطلب العلم، أن يبحث عن مذاهب السلف وأقوالهم في هذا الأصل العظيم، الذي قد يكفر الإنسان بالغلط فيه، ويعرف مذاهب الناس في مثل ذلك، وأن يطلب العلم من معدنه ومشكاته، وهو ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من الكتاب والحكمة، وما كان عليه سلف الأمة; قال الله تعالى: {المص كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} [سورة الأعراف آية: 1-2-3] ، وقال تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [سورة الأنعام آية: 155] . فإذا وفق العبد لهذا، وبحث عن تفاسير السلف وأئمة الهدى، ورزق مع ذلك معلما من أهل السنة، فقد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 288 احتضنته السعادة، ونزلت به أسباب التوفيق والسيادة، وإن كان نظر العبد وميله، إلى كلام اليونان وأهل المنطق والكلام، ومشايخه من أهل البدعة والجدل، فقد احتوشته أسباب الشقاوة، ونزلت وحلت قريبا من داره موجبات الطرد عن مائدة الرب وكتابه; ومن عدم العلم فليبتهل إلى معلم إبراهيم، في أن يهديه صراطه المستقيم، وليتفطن لهذا الدعاء إذا دعا به في صلاته، ويعرف شدة فقره إليه وحاجته. وأما من جحد لفظ الاستواء ولم يؤمن به، فهو أيضا كافر; وكفره أغلظ وأفحش من كفر من قبله، وهو كمن كفر بالقرآن كله; ولا نعلم أحدا قال هذا القول ممن يدعي الإسلام ويؤمن برسالة محمد صلى الله عليه وسلم. والجهمي يوافق على كفر هذا، ولا يشكل كفر هذا، على من عرف شيئا من الإسلام، قال الله تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ} [سورة هود آية: 17] ، أي: بالقرآن. وأما قول القائل: استوى من غير مماسة للعرش; فقد قدمنا: أن مذهب السلف وأئمة الإسلام عدم الزيادة والمجاوزة لما في الكتاب والسنة، وأنهم يقفون وينتهون حيث وقف الكتاب والسنة، وحيث انتهيا. قال الإمام أحمد، رحمه الله: لا يوصف الله تعالى إلا بما وصف به نفسه، ووصفه به رسوله. انتهى; وذلك لعلمهم بالله وعظمته في الجزء: 3 ¦ الصفحة: 289 صدورهم، وشدة هيبتهم له، وعظيم إجلاله. ولفظ: "المماسة " لفظ مخترع مبتدع، لم يقله أحد ممن يقتدى به ويتبع، وإن أريد به نفي ما دلت عليه النصوص، من الاستواء، والعلو، والارتفاع، والفوقية، فهو قول باطل، ضال قائله، مخالف للكتاب والسنة، ولإجماع سلف الأمة، مكابر للعقول الصحيحة، والنصوص الصريحة، وهو جهمي لا ريب، من جنس ما قبله; وإن لم يرد هذا المعنى، بل أثبت العلو، والفوقية، والارتفاع، الذي دل عليه لفظ الاستواء، فيقال فيه: هو مبتدع ضال، قال في الصفات قولا مشتبها موهما، فهذا اللفظ: لا يجوز نفيه، ولا إثباته، والواجب في هذا الباب: متابعة الكتاب والسنة، والتعبير بالعبارات السلفية الإيمانية، وترك المتشابه. وأما من قال: إذا قلتم إن الله على العرش استوى، فأخبروني قبل أن يخلق العرش كيف كان؟ وأين كان؟ وفي أي مكان؟!. وجوابه: أن يقال: أما كيف كان؟ فقد أجاب عنها: إمام دار الهجرة التي تضرب إليه أكباد الإبل في طلب العلم النبوي والميراث المحمدي، قال له السائل: يا أبا عبد الرحمن: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [سورة طه آية: 5] ، كيف استوى؟ فقال مالك: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والسؤال عنه بدعة، وأمر بالسائل فأخرج عنه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 290 فأخبر رحمه الله: أن الكيف غير معلوم، لأنه لا يعلم إلا بعلم كيفية الذات، وقد حجب العباد عن معرفة ذلك لكمال عظمته، وعظيم جلاله؛ وعقول العباد، لا يمكنها إدراك ذلك، ولا تحمله، وإنما أمروا بالنظر والتفكر فيما خلق وقدر; وإنما يقال: كيف هو؟ لمن لم يكن ثم كان; فأما الذي لا يحول، ولا يزول، ولم يزل، وليس له نظير، ولا مثل، فإنه لا يعلم كيف هو إلا هو; وكيف يعرف قدر من لم يبد، ولا يموت، ولا يبلى؟ وكيف يكون لصفة شيء منه حد ومنتهى، يعرفه عارف، أو يحد قدره واصف؟ لأنه الحق المبين، لا حق أحق منه، ولا شيء أبين منه; والعقول عاجزة قاصرة عن تحقيق صفة أصغر خلقه كالبعوض وهو لا يكاد يرى، ومع ذلك يحول، ويزول، ولا يرى له سمع ولا بصر، فما يتقلب به ويحتال من عقله، أخفى وأعضل، مما ظهر من سمعه وبصره، {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [سورة المؤمنون آية: 14] ، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [سورة الشورى آية: 11] . وقد قال بعضهم، مخاطبا للزمخشري، منكرا عليه نفي الصفات، شعرا: قل لمن يفهم عني ما أقول ... قصر القول فذا شرح يطول أنت لا تفهم إياك ولا ... من أنت ولا كيف الوصول لا ولا تدري خفايا ركبت ... فيك حارت في خباياها العقول أنت أكل الخبز لا تعرفه ... كيف يجري منك أم كيف تبول الجزء: 3 ¦ الصفحة: 291 أين منك الروح في جوهرها ... كيف تسري فيك أم كيف تجول فإذا كانت طواياك التي ... بين جنبيك كذا فيها ضلول كيف تدري من على العرش استوى ... لا تقل كيف استوى كيف النّزول وبالجملة: فهذا السؤال سؤال مبتدع جاهل بربه; وكيف يقول: إذا قلتم: إن الله على العرش استوى؟ وهو يسمع إثبات الاستواء، في سبعة مواضع من القرآن. وأما قوله: أين كان قبل أن يخلق العرش؟ فهذه المسألة: ليس فيها تكييف، ولا ابتداع، وقد خرج الترمذي جوابها، مرفوعا، من حديث: أبي رزين العقيلي، أنه قال: "يا رسول الله، أين كان ربنا، قبل أن يخلق الخلق؟ قال: في عماء، ما فوقه هواء، وما تحته هواء"1 انتهى الحديث، فهذا جواب مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم قد قبله الحفاظ، وصححوه; والعماء هو: السحاب الكثيف، قال يزيد بن هارون، إمام أهل اليمن، من أكابر الطبقة الثالثة، من طبقات التابعين ومن ساداتهم، معناه: ليس معه شيء. وأما قول السائل: وفي زعم هذا القائل، إنه بذلك ينبغي حاجة الرب إلى العرش ; فيقال: ليس في إثبات الاستواء على العرش ما يوجب الحاجة إليه أو فقر الرب تعالى وتقدس إلى شيء من خلقه; فإنه سبحانه هو الغني بذاته عما سواه، وغناه من لوازم ذاته، والمخلوقات بأسرها - العرش فما دونه - فقيرة محتاجة إليه تعالى، في إيجادها   1 الترمذي: تفسير القرآن (3109) , وابن ماجه: المقدمة (182) , وأحمد (4/11) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 292 وفي قيامها، لأنه لا قيام لها إلا بأمره، قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ} [سورة الروم آية: 25] والسماء: اسم لما علا وارتفع; فهو اسم جنس، يقع على العرش، قال تعالى: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [سورة الملك آية: 16] الآية، وبحوله وقوته حمل العرش، وحمل حملة العرش; وهو الذي: {يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا} [سورة فاطر آية: 41] الآية، وجميع المخلوقات مشتركون في الفقر والحاجة، إلى بارئهم وفاطرهم. وقد قرر سبحانه كمال غناه وفقر عباده إليه في مواضع من كتابه، واستدل بكمال غناه المستلزم لأحديته، في الرد على النصارى وإبطال ما قالوه من الإفك العظيم، والشرك الوخيم، قال تعالى: {قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ} [سورة يونس آية: 68] الآية، وكمال غناه يستلزم نفي الصاحبة والولد، ونفي الحاجة إلى جميع المخلوقات. ولا يظن أحد يعرف ربه أو شيئا من عظمته وغناه ومجده، أنه محتاج إلى العرش أو غيره; وإنما يتوهم هذا من هو في غاية الجهالة والضلالة، أو من لم يعرف شيئا من آثار النبوة والرسالة، أو من فسدت فطرته ومسخ عقله، بنظره في كلام الجهمية وأشباههم، حتى اجتالته الشياطين، فلم يبق معه أثارة من علم، ولا نصيب من فهم; بل استواؤه على عرشه صفة كمال، وعز، وسلطان; وهو من معنى اسمه (الظاهر) ، ومعناه: الذي ليس فوقه شيء; والعلو علو الجزء: 3 ¦ الصفحة: 293 الذات، وعلو القدر، وعلو السلطان; كلها ثابتة لله، وهي صفات كمال تدل على غناه، وعلى فقر المخلوقات إليه. والذي ينبغي لأمثالنا ترك الخوض مع هؤلاء المبتدعة الضلال، وترك مجالستهم، قال تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} [سورة الأنعام آية: 68] . وأكثر المعطلة يزعمون أن تعطيلهم، تنْزيه للرب عما لا يليق به، فساء ظنهم، وغلظ حجابهم، حتى توهموا أن إثبات ما في الكتاب والسنة على ما فهمه سلف الأمة مما ينَزّه الرب، تبارك وتعالى عنه. [رسالة الشيخ عبد اللطيف إلى ابن عون، وثناؤه عليه بجهاد أهل البدع] وله أيضا: قدس الله روحه، ونور ضريحه: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأخ: محمد بن عون، سلمه الله تعالى، وأعانه، وبالعلم كمله وزانه، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته; وبعد: فنحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، على نعمه، جعلنا الله وإياكم من عباده الشاكرين. وقد بلغني ما من الله به عليك، من جهادك أهل البدع، والإغلاظ في الإنكار على الجهمية المعطلة ومن والاهم; وهذا من أجل النعم وأشرف العطايا، وهو من أوجب الواجبات الدينية. فإن الجهاد بالعلم والحجة مقدم على الجهاد باليد والقتال، وهو من أظهر شعائر السنة وآكدها، وإنما يختص الجزء: 3 ¦ الصفحة: 294 به في كل عصر ومصر أهل السنة، وعسكر القرآن، وأكابر أهل الدين والإيمان؛ فعليك بالجد والاجتهاد، واعتد به من أفضل الزاد للمعاد، قال تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [سورة غافر آية: 51-52] . هذا وقد ألقى إلي ورقة جاءت من نحوكم، سودها بعض الجهمية المعطلة، مشتملة على إنكار علو الله على خلقه واستوائه على عرشه ; كما هو رأي جهم وأشياعه; محتجا صاحبها بشبهات كسراب بقيعة، من نظر إليها من أهل العلم والمعرفة تيقن أنه من الأدلة على أن قائله قد عدم العلم والإيمان، والحقيقة، وأنه أضل ممن: {ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} [سورة الكهف آية: 104] ؛ وقد أبداه قائله، ليتشبع بما لم يعط من العلم، ويتزيا بغير زيه، فكشف الله سوأته، وأبدى خزيته، وصار كلامه دليلا على جهله وعماه، وضلاله عن سبيل رشده وهداه. فأول ما رسم في هذه الورقة المشار إليها قوله: وفقك الله لأقوم طريق، هل لكلمة التوحيد، وهي "لا إله إلا الله" شروط، وأركان، وآداب؟ فإن قلت: نعم، فما هي؟ هذا لفظه. وقد عرفت: أن هذا الرجل ليس من أهل هذا الفن، ولا يدري ما هنالك. والتوحيد عند هذه الفرقة الجهمية، حقيقته تعطيل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 295 الأسماء والصفات، لأن عندهم تعدد الصفات يقتضي تعدد الموصوف; والوحدة عندهم والتوحيد ينافي ذلك، فيثبتون ذاتا مجردة، وحقيقة مطلقة، غير موصوفة بصفة ثبوتية; ويفسرون الواحد بأنه الذي لا يقبل الانقسام، هذا كلام شيوخه وأسلافه من الجهمية الضالين، الذين ينكرون العلو والاستواء; ويزعمون أنه بذاته مستو في كل مكان; فما نزهوه عن شيء من الأماكن القذرة، التي ينَزه عنها آحاد خلقه، فما أجرأهم! وما أكفرهم! وما أضلهم عن سواء السبيل! ومنكر الاستواء هذا توحيده، وهذا رأيه. وأما التوحيد الذي اشتملت عليه كلمة الإخلاص، فهو أجنبي عنه لا يدريه، وكيف يدري ذلك من أنكر أظهر الصفات التي بنيت عليها كلمة الإخلاص، واستحق بها الرب ما له من صفات الإلهية والربوبية، والكمال المطلق; فما للجهمية وهذا؟! وهم إنما يعبدون عدما; وإنما يبحث عن هذا ويدريه من يعبد إلها واحدا، فردا صمدا. وشروط كلمة الإخلاص يعرفها بحمد الله صغار الطلبة من المسلمين، أهل الإثبات، ويتبين ذلك بتعريف الشرط، وهو أنه ما يلزم من عدمه العدم، ولا يلزم من وجوده الوجود لذاته; وإذا عرف هذا، فالعقل يلزم من عدمه العدم; والتمييز يلزم من عدمه العدم، والعلم يلزم من عدمه العدم; هذه شروط الصحة; وأما شروط القبول: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 296 فالالتزام، والإيثار، والرضاء; وإذا اجتمعت هذه الشروط، حصل القول المنجي، والشهادة النافعة; ومصدر هذه الشروط عن علم القلب وعمله; وهناك يصدر التلفظ بها، عن يقين وصدق; والجهمية لم يتصفوا بشرط من هذه الشروط; وقد صرح أهل السنة بذلك، وحاجة معطلة الصفات إلى معرفة التوحيد في العبادات، كحاجة من عدم الرأس من الحيوانات إلى الرسن; قال أبو الطيب: فقر الجهول بلا عقل إلى أدب فقر الحمار بلا رأس إلى رسن. ولها أيضا: شروط; منها: معرفة الإله الحق بصفات كماله ونعوت جلاله، التي علوه، وارتفاعه، واستواؤه على عرشه، من أظهرها، وأوجبها; وكذلك معرفة أمره ونهيه، ودينه الذي شرعه، والوقوف مع أمر رسوله، وحدوده. ومنها: كون الطبيعة لينة، منقادة، سلسة، قابلة; وهذه الشروط معدومة في السائل، قد اتصف بضدها; معبوده مسلوب الصفات، لا وجود له في الحقيقة، وأمره ونهيه منبوذ عند هذه الطائفة، لا يهتدون بكتابه، ولا يأتمرون بأمره، والمعول عندهم على شبهات منطقية، وخيالات كلامية، يسمونها: قواطع عقلية، ومقدمات يقينية؛ ونصوص الكتاب، والسنة، عندهم: ظواهر لفظيه، وأدلة ظنية. وأما طبائعهم: فأقسى الخلق، وأعتاهم، وأعظمهم ردا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 297 على الرسل، اعتمادا على أقوال الصابئة والفلاسفة، وأمثالهم من شيوخ القوم الذين لم يلتفتوا إلى ما جاءت به الرسل، ولم يرفعوا به رأسا، فضلا عن معرفته وقبوله، فما لهذا السائل وآداب كلمة الإخلاص؟!. وأما الأركان فركناها: النفي، والإثبات; نفي استحقاق الإلهية عما سوى الله، وإثباتها لله وحده، على وجه الكمال; وأما الآداب، فالدين كله يدخل في مدلولها، وآدابها. وأرفع مراتب الآداب وأعلاها: مرتبة الإحسان، وهي أعلى مقامات الدين; وبسطها يعلم من معرفة شعب الإيمان، وواجباته، ومستحباته; وعندهم: أن الإيمان مجرد التصديق، فلا يشترط عمل القلب وعمل الأركان، في حصول الحقيقة المميزة بين المسلم والكافر: هذا رأي الجهمية الجبرية; فالأعمال عندهم ليست من مسماه، والتصديق والإخلاص ليسا من أركانه; وهذا يعرفه صغار الطلبة، فكيف يترشح هذا الجهمي لما ليس من فنه، ولا من علمه; وفي المثل: ليس هذا عشك، فادرجي; والمقصود: إفادة مثلك; وأما السائل: فليس كفوا للرشاد إلى الهدى. ثم قال الجهمي في ورقته: وقوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [سورة طه آية: 5] ما معناه: استواؤه مختص بالعرش أو به وبغيره، لأنه تعالى ما نفى استواءه عن غيره; الجزء: 3 ¦ الصفحة: 298 فإذا زعمت أن استواءه مختص بالعرش، فمن أي شيء علم ذلك؟ وهل أتى سبحانه بحرف الحصر؟ وحرف الاختصاص؟ وهل تعرف حروف الاختصاص؟ وحروف الحصر أم لا؟ وما هي؟ فإذا قلت، مثلا: زيد استوى على الدار، فهل علم منه: أنه لا يستوي على غيره؟ والعاقل: يعلم ذلك بأدنى تأمل. وجوابه، أن يقال: قد ثبت من غير طريق، عن مالك بن أنس رحمه الله، وعن شيخه ربيعة بن عبد الرحمن، بل ويروى عن أم سلمة، أم المؤمنين، أنهم قالوا: الاستواء معلوم، والكيف مجهول; وفي بعض طرقه: والكيف غير معقول، والسؤال عنه بدعة; وزاد مالك، فقال للسائل: وما أراك إلا رجل سوء، وأمر به فأخرج; وعلى هذا درج أهل العلم وأهل السنة، من عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى وقتنا هذا، ولم يخالف في ذلك إلا الطائفة الضالة الملعونة الجهمية، وأشياخهم من غلاه الاتحادية، والحلولية. وأما أهل السنة فعرفوا المراد وعقلوه، ومنعتهم الخشية، والهيبة، والإجلال، والتعظيم، من الخوض، والمراء، والجدال، والكلام الذي لم يؤثر، ولم ينقل; وقد عرفوا المراد من الاستواء، وصرح به أكابر المفسرين، وأهل اللغة; فثبت عنهم تفسيره بالعلو، والارتفاع، وبعض أكابرهم صرح بأنه صعد; ولكنهم أحجموا عن مجادلة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 299 السفهاء الجهمية، تعظيما لله، وتنْزيها لرب البرية; وإذا أخبر - جل ذكره - أنه استوى على العرش، وعلا، وارتفع، وكل المخلوقات، وسائر الكائنات، تحت عرشه، وهو بذاته فوق ذلك; وفي الحديث: " وأنت الظاهر فليس فوقك شيء "1. فإذا عرف هذا، عرف معنى اختصاص العرش بالاستواء، وأن هذه الصفة، مختصة بالعرش. وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال للرجل، الذي قال له: إنا نستشفع بك على الله، وبالله عليك; قال: " الله أكبر، الله أكبر، إن شأن الله أعظم من ذلك، ويحك! أتدري ما الله؟! إنه على عرشه - وأشار بيده كالقبة - وإنه ليئط به أطيط الرحل الجديد براكبه "2، وهذا الحديث لا يستطيع سماعه الجهمي، ولا يؤمن به إلا أهل السنة والجماعة الذين عرفوا الله بصفات كماله، وعرفوا عظمته، وأنه لا يليق به غير ما وصف به نفسه، من استوائه على عرشه، ونزهوه أن يستوي على ما لا يليق بكماله وقدسه، من سائر مخلوقاته. ومن أصول أهل السنة والجماعة: أنه سبحانه لا يوصف إلا بما وصف به نفسه، ولم يصف نفسه بأنه استوى على شيء غير العرش، وكذلك رسله، وأنبياؤه، وورثتهم، لم يصفوه إلا بما وصف به نفسه، فإنكار هذا الجهمي اختصاص الاستواء بالعرش، تكذيب لما جاءت به الرسل، ورد لما فطر الله عليه بني آدم، من التوجه إلى جهة العلو،   1 مسلم: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2713) , والترمذي: الدعوات (3400 ,3481) , وأبو داود: الأدب (5051) , وابن ماجه: الدعاء (3831) , وأحمد (2/381 ,2/404 ,2/536) . 2 أبو داود: السنة (4726) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 300 وطلب معبودهم وإلههم، فوق سائر الكائنات {فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [سورة المؤمنون آية: 41] . وتخصيص العرش بالاستواء نص في أنه لم يستو على غيره، والسائل أعجمي، لا خبرة له بموضوع الكلام، ودلالته؟ قال الحسن في مثل هؤلاء: دهتهم العجمة; ونفي الاستواء عن غير العرش معلوم من السياق، مع دلالة النص، والإجماع، والفطرة، وكذلك دلالة الأسماء الحسنى، كالعلي، والأعلى، والظاهر، ونحو ذلك، ولفظ: العلو، والارتفاع، والصعود، يشعر بذلك. ويستحيل أن يستوي على شيء مما دون العرش، لوجوب العلو المطلق، والفوقية المطلقة. وأما قوله: وهل أتى سبحانه بحرف الحصر والاختصاص؟ فدلالة الكلام على الحصر، والاختصاص، تارة تكون بالحروف، وتارة تكون بالتقديم والتأخير، وتارة تكون من السياق، وتارة تكون بالاقتصار على المذكور في الحكم، ولا يختص الاختصاص بالحروف، قال تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [سورة الفاتحة آية: 5] ، وهذا الضمير الظاهر ليس من حروف الحصر، وإنما عرف واستفيد من التقديم والتأخير، وتارة يستفاد من الحروف، كقوله: " إنما الأعمال بالنيات "1، وقوله تعالى: {أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [سورة الكهف آية: 110] ، وتارة من الاستثناء بإلا بعد النفي،   1 البخاري: بدء الوحي (1) , ومسلم: الإمارة (1907) , والترمذي: فضائل الجهاد (1647) , والنسائي: الطهارة (75) والطلاق (3437) والأيمان والنذور (3794) , وأبو داود: الطلاق (2201) , وابن ماجه: الزهد (4227) , وأحمد (1/25 ,1/43) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 301 كقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [سورة الأنبياء آية: 107] ، {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ سورة آل عمران آية: 144] ونحو ذلك. والسائل حصرها، يظنها منحصرة في الحروف، وهذا من جهله، ثم يسأل هنا عن أقسام الحصر، كم هي؟ وما الفرق بين حصر الأفراد، وحصر القلب، والحصر الادعائي، ومقابله؟ ويسأل: هل دلالة الحصر، نصية أو ظاهرية؟ وهل هي: لفظية أو عقلية؟ وما أظنه يحسن شيئا من ذلك، وإذا أخبر تعالى: أنه استوى على العرش، فلا يجوز أن يقال: إنه استوى على غيره، لوجوه: منها: أنه لا يوصف إلا بما وصف به نفسه، والتجاسر على مقام الربوبية بوصفه بما لم يصف به نفسه، وزيادة نعت لم يعرف عنه، ولا عن رسله، قول على الله بغير علم، وهو فوق الشرك في عظم الذنب والإثم؛ وأكذب الخلق من كذب على الله، قال الله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [سورة الأعراف آية: 33] الآية. الوجه الثاني: أن الله سبحانه وتعالى، يستحق من الصفات أعلاها، وأجلها، وأشرفها. والعرش: أعظم المخلوقات، وهو سقفها الأعلى، وقد وصفه الله تعالى بالعظم، فقال: {رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [سورة التوبة آية: 129] ، وقال: {ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ} [سورة البروج آية: 15] ، ووصفه بالسعة، فقال: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُودُهُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 302 حِفْظُهُمَا} [سورة البقرة آية: 255] الآية. فكيف يوصف بالاستواء على ما دونه، وقد تمدح، وأثنى على نفسه باستوائه عليه، ووصفه بما لم يصف به غيره من مخلوقاته؟ الوجه الثالث: أن تمثيله بقول القائل: زيد استوى على الدار، وأن ذلك لا يعلم منه أنه لا يستوي على غيرها، فهذا جهل عظيم، والكلام يختلف باختلاف حال الموصوف، وما يليق له من الصفات. وأصل ضلال هذه الطائفة أنهم فهموا من صفات الله الواردة، في الكتاب والسنة، ما يليق بالمخلوق ويختص به، فلذلك أخذوا في الإلحاد، تشبيه المخلوق بالخالق. الوجه الرابع: أن هذا التمثيل الذي أبداه السائل، قد نص القرآن على إبطاله، قال تعالى: {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [سورة النحل آية: 74] ؛ وأصل الشرك والتعطيل، شبهوا أولا، وعطلوا ثانيا. فصل: قال الجهمي في ورقته: وإذا أقررت لله مكانا معينا، فما معنى قوله تعالى {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} ، وقال: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [سورة ق آية: 16] ، وقال: إنه قريب، وقال صلى الله عليه وسلم: " حيثما كنتم فإنه معكم " فإذا قلت: هذه الآيات مؤولة، وأقررت بالتأويل، فالآية الأولى أولى به، لأنها بلا تأويل تخالف الإجماع، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 303 وتعارض الآيات والأحاديث، أم آيات الأخيرة، فقد قيل في الأولى: لأنها ليست من المتشابهات، لأن الاستواء معلوم، والكيف مجهول، وما نفى الاستواء عن غير العرش. هذا كلامه بحروفه، نقلناه على ما فيه من التحريف، واللحن، ليعتبر الناظر، ويعرف المؤمن المثبت، حال هؤلاء الجهال، الضلال، الحيارى. فأما قوله: إذا أقررت لله مكانا معينا، فاعلم: أن أهل السنة والجماعة، ورثة الرسل وأعلام الهدى، لا يصفون الله إلا بما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم من غير زيادة ولا نقص، ينتهون حيث انتهى بهم، تعظيما للموصوف، وخشية، وهيبة، وإجلالا. وأما أهل البدع، فيخوضون في ذلك، ويصفونه بما لم يصف به نفسه، ويلحدون فيما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا يتحاشون من الكلام في ذلك بالبدع التي لا تعرف؟ وقد ذم الله هذا الصنف في كتابه، ووصفهم بالخوض بما لم يأتهم عنه ولا عن رسله، وذكر الله عن أصحاب النار أنهم قالوا، لما قيل لهم: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ} [سورة المدثر آية: 42-43-44-45] ، فوصفهم بالعتو عن طاعته، وعدم الانقياد لعبادته، بقوله: {لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} [سورة المدثر آية: 43] ، ووصفهم بعدم الإحسان والمعروف بقوله: {وَلَمْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 304 نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ} [سورة المدثر آية: 44] ، ووصفهم بالخوض في شأن دينهم وما جاءت به رسلهم، وعدم وقوفهم مع ما أمروا به، وتعديهم إلى ما يرونه ويهوونه، بقوله: {وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ} [سورة المدثر آية: 45] . وهذا حال أهل البدع والضلالات، الذين لم يؤسسوا دينهم على ما جاءت به الرسل؛ إذا عرف ذلك، فلفظ المكان لم يرد، لا نفيا، ولا إثباتا، وقد يراد به معنى صحيحا، كالعلو، والاستواء، والظهور; وقد يراد به غير ذلك من الأماكن المحصورة; فالواجب ترك المشتبه، والوقوف مع نصوص الكتاب والسنة. فيقال لهذا الجهمي: نحن لا نقر لله من الصفات، إلا ما نطق به الكتاب العزيز، وصحت به السنة النبوية; ولا يلزم من أثبت ذلك شيء من البدعيات والأوضاع المختلقة; وأما قوله: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [سورة البقرة آية: 115] فسياق الآية الكريمة يدل على أنها في شأن القبلة، قال ابن عباس: "خرج نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، قبل تحويل القبلة، فأصابهم الضباب، وحضرت الصلاة، وصلوا، وتحروا القبلة، فلما ذهب الضباب، استبان لهم أنهم لم يصيبوا، فلما قدموا سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فنَزلت هذه الآية". وقال ابن عمر: "نزلت في المسافر، يصلي التطوع، حيثما توجهت به راحلته". وقال عكرمة: نزلت في تحويل القبلة. وقال أبو الجزء: 3 ¦ الصفحة: 305 العالية: عيرت اليهود المؤمنين، لما صرفت القبلة، فنَزلت هذه الآية. وقال مجاهد والحسن: نزلت في الداعي، يستقبل أي جهة كان، لأنهم قالوا لما نزلت {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [سورة غافر آية: 60] : أين ندعوه؟ قال الكلبي: {فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [سورة البقرة آية: 115] فثم الله يعلم ويرى، والوجه صلة، كقوله تعالى: {هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ} [سورة القصص آية: 88] أي: إلا هو، وقال الحسن، ومجاهد، وقتادة، ومقاتل بن حيان: فثم قبلة الله، والوجه، والوجهة، والجهة: القبلة. وقوله: {إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [سورة البقرة آية: 115] ختم هذه الآية، بهذين الاسمين الشريفين، يشعر بما قاله الكلبي، من أنه يعلم ويرى، ومن كان له أدنى شعور بعظمة الله وجلاله عرف صغر المخلوقات بأجمعها، في جنب ما له تعالى، من الصفات المقدسة، ولم يختلج في قلبه ريب ولا شك في الإيمان بهذه النصوص كلها، وعرف الجمع بينها وبين ما تقدم. فسبحان من جلت صفاته وعظمت أن يحاط بشيء منها. وأما قوله: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [سورة ق آية: 16] ، فهذا القرب لا ينافي علوه على خلقه، واستواءه على عرشه، وفي الحديث: " وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء "1، ولا يعرف هذا من ضاق نطاقه عن الإيمان بما جاءت به الرسل؛ وإنما يعرفه رجال آمنوا بالله، وصدقوا المرسلين، ومن أسمائه: العلي الأعلى، ومن   1 مسلم: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2713) , والترمذي: الدعوات (3400 ,3481) , وأبو داود: الأدب (5051) , وابن ماجه: الدعاء (3831) , وأحمد (2/381 ,2/404 ,2/536) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 306 أسمائه: القريب المجيب، ومن أسمائه: الظاهر الباطن. وكذلك قوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} [سورة البقرة آية: 186] ، وقد حرف هذا السائل هذه الآية، وقال: إنه قريب، وهذا قرب خاص بداعيه; وفي الحديث: " أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد "1 لأن حال السجود غاية في العبودية والخضوع، ولذلك صار له قرب خاص لا يشبهه سواه، وهذا مما يبين لك بطلان قول الجهمي: إنه بذاته في كل مكان، ولو كان الأمر كما قال الضال، لم يكن للمصلي والداعي خصوصية بالقرب، ولكان المصلي وعابد الصنم سواء في القرب إليه، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا. وقال العلامة ابن القيم رحمه الله: المعية نوعان: عامة، وهي: معية العلم، والإحاطة، كقوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [سورة الحديد آية: 4] ، وقوله: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} [سورة المجادلة آية: 7] ، وخاصة، وهي: معية القرب، كقوله: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [سورة النحل آية: 128] ، {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [سورة البقرة آية: 153] ، {وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [سورة العنكبوت آية: 69] . فهذه معية قرب، تتضمن الموالاة، والنصر، والحفظ، وكلا المعيتين مصاحبة منه للعبد، لكن هذه مصاحبة اطلاع وإحاطة، وهذه مصاحبة موالاة ونصر   1 مسلم: الصلاة (482) , والنسائي: التطبيق (1137) , وأبو داود: الصلاة (875) , وأحمد (2/421) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 307 وإعانة؛ فـ "مع" في لغة العرب، للصحبة اللائقة، لا تشعر بامتزاج، ولا اختلاط، ولا مجاورة، ولا مجانبة، فمن ظن شيئا من هذا، فمن سوء فهمه أتى. وأما القرب فلم يقع في القرآن إلا خاصا، وهو: نوعان; قربه من داعيه بالإجابة، وقربه من عابده بالإثابة. فالأول: كقوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [سورة البقرة آية: 186] ولهذا نزلت جوابا للصحابة رضي الله عنهم، وقد سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ربنا قريب فنناجيه؟ أم بعيد فنناديه؟ فأنزل الله عز وجل هذه الآية". والثاني: كقوله صلى الله عليه وسلم: " أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد" 1 "وأقرب ما يكون العبد من ربه في جوف الليل"، فهذا قربه من أهل طاعته. وفي الصحيح عن أبي موسى رضي الله عنه قال: " كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فارتفعت أصواتنا بالتكبير، فقال: يا أيها الناس، اربعوا على أنفسكم، فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا، إن الذي تدعونه سميع قريب، أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته "2 فهذا قرب خاص بالداعي، دعاء العبادة، والثناء، والحمد; وهذا القرب لا ينافي كمال مباينة الرب لخلقه، واستواءه على عرشه، بل يجامعه ويلازمه، فإنه ليس كقرب الأجسام بعضها من بعض، تعالى الله علوا كبيرا، ولكنه نوع آخر، والعبد في الشاهد يجد روحه قريبة جدا من محبوب بينه وبينه مفاوز، تنقطع فيها أعناق المطي، ويجده   1 مسلم: الصلاة (482) , والنسائي: التطبيق (1137) , وأبو داود: الصلاة (875) , وأحمد (2/421) . 2 البخاري: القدر (6610) , ومسلم: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2704) , وأبو داود: الصلاة (1526) , وأحمد (4/402) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 308 أقرب إليه من جليسه، كما قيل: ألا رب من يدنو ويزعم أنه يحبك والنائي أحب وأقرب وأهل السنة أولياء رسول الله صلى الله عليه وسلم وورثته وأحباؤه، الذي هو عندهم أولى بهم من أنفسهم وأحب إليهم منها، يجدون نفوسهم أقرب إليه، وهم في الأقطار النائية عنه، من جيران حجرته في المدينة، والمحبون المشتاقون للكعبة البيت الحرام، يجدون قلوبهم وأرواحهم أقرب إليها من جيرانها ومن حولها، هذا مع عدم تأتي القرب منها; فكيف بمن يقرب من خلقه كيف يشاء وهو مستو على عرشه؟ وأهل الذوق لا يلتفتون في ذلك، إلى شبهة مبطل بعيد من الله، خلا من محبته ومعرفته. والقصد: أن هذا القرب يدعو صاحبه إلى ركوب المحبة، وكلما ازداد حبا ازداد قربا، فالمحبة بين قربين: قرب قبلها، وقرب بعدها، وبين معرفتين: معرفة قبلها حملت عليها، ودعت إليها، ودلت عليها، ومعرفة بعدها هي من نتائجها وآثارها. [جواب الشيخ عبد اللطيف على من يرى أن أحاديث الصفات تجري على ظاهرها، ويسكت ويتستر بالتفويض] وسئل الشيخ: عبد اللطيف بن عبد الرحمن، رحمه الله، عمن يرى أن أحاديث الصفات تجري على ظاهرها، ويسكت، ومعناه من غير اعتماد حقيقة، ويتستر بالتفويض ... إلخ. فأجاب: اعلم أرشدك الله، أنه لا بد من الإيمان، بأن الله مستو على عرشه، بائن من خلقه، قاهر فوق عباده، ليس الجزء: 3 ¦ الصفحة: 309 في ذاته شيء من مخلوقاته، ولا في مخلوقاته شيء من ذاته، كما دلت على هذه الكتب السماوية والنصوص النبوية، والقواطع العقلية، وأجمعت عليه الأمم التي تؤمن بوجود الله وبربوبيته العامة؛ ولكن لما خاض بعض الناس في علم الكلام، وعربت كتب اليونان وقدماء الفلاسفة الذين هم من أجهل خلق الله وأضلهم في النظريات والضروريات، فضلا عن السمعيات مما جاءت به النبوات، حدث بسبب ذلك من الخوض والجدال في صفات الله ونعوت جلاله، التي جاءت بها الكتب، وأخبرت بها الرسل، ما أوجب لكثير من الناس تعطيل وجود ذاته وربوبيته، كما جرى للاتحادية والحلولية. فمن باب الكلام والمنطق، دخلوا في هذا الكفر الشنيع، والإفك الفظيع. ومنهم من عطل صفات كماله ونعوت جلاله التي وصف بها نفسه، ووصفته بها رسله، وتمدح بها، وأثنى عليه بها صفوة خلقه وخلاصة بريته، حتى آل هذا القول والتعطيل بأهله، إلى أن شبهوه بالعدم المحض، فلم يصفوه إلا بصفات سلبية، ولم يثبتوا له من صفات كماله ونعوت جلاله ما هو عين الكمال والتعظيم، والإيمان والإجلال. واختلف أهل هذا القسم اختلافا كثيرا، في أصول المقالات وفروعها. فمنهم من طرد الباب في جميع الصفات، ومنهم من أثبت بعضها، زعما منه أن العقل لا يثبت سواها، ونفى ما عداها من الصفات، كما هو الجزء: 3 ¦ الصفحة: 310 المعروف عمن ينتسب إلى الأشعري والكرامي; ثم هؤلاء قد يقولون في آيات الصفات وأحاديثها: تجرى على ظاهرها، يريدون أنها تتلى، ولا يتعرض لإثبات ما دلت عليه من المعنى المراد والحقيقة المقصودة; بل يصرحون برد ذلك ونفيه; ومقصود السلف بقولهم: أمروها كما جاءت، وقول من قال: تجرى على ظاهرها، إثبات ما دلت عليه من الحقيقة، وما يليق بجلال الله وعظمته، وكبريائه، ومجده، وقيوميته وحده، كما ذكر الوليد بن مسلم، عن مالك، والليث، وسفيان الثوري، والأوزاعي، أنهم قالوا: أمروها كما جاءت بلا كيف. فقولهم: أمروها كما جاءت، رد على المعطلة الذين لا يرون ما دلت عليه وجاءت به من الحقيقة المقصودة والمعنى المراد، وقولهم: بلا كيف، رد على الممثلة الذين يعتقدون أن ظاهرها فيه تمثيل وتكييف، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا؛ ومذهب السلف: إثبات ما دلت عليه الآيات والأحاديث، على الوجه اللائق بجلال الله وعظمته، وكبريائه، ومجده. ومن قال: تجرى على ظاهرها، وأنكر المعنى المراد، كمن يقول في قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [سورة طه آية: 5] إنه بمعنى: استولى، وفي قوله: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [سورة ص آية: 75] إنه بمعنى: القدرة، ومع ذلك الجزء: 3 ¦ الصفحة: 311 يقول: تجرى على ظاهرها، فهذا جاهل متناقض، لم يفهم ما أريد من قولهم: تجرى على ظاهرها. ولم يفهم أن الظاهر هو ما دلت عليه نصا أو ظاهرا في معناه المراد، ولا يكفي في الإيمان الإتيان بقول ظاهر، يوافق ما كان عليه السلف وأهل العلم، مع اعتقاد نقيضه في الباطن؛ بل هذا عين النفاق، وهو من أفحش الكفر في نصوص الكتاب والسنة. وأهل السنة وأهل العلم والفتوى لا يكتفون بمجرد الإيمان بألفاظ الكتاب والسنة في الصفات، من غير اعتقاد لحقيقتها وما دلت عليه من المعنى; بل لا بد من الإيمان بذلك، وكذا الاستواء على العرش، العلو، والارتفاع; وحديث الجارية: نص في أن اعتقاد العلو والفوقية، لا بد منه في الإيمان، وكما دلت عليه النصوص المتظاهرة من الكتاب والسنة، كقوله تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [سورة الأنعام آية: 18] ، {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [سورة فاطر آية: 10] ، {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [سورة المعارج آية: 4] ، {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [سورة غافر آية: 2] ، وحديث الأوعال، وحديث الرقية، وحديث الاستسقاء، وغير ذلك مما لا يكاد يحصى. قال أبو مطيع: قال أبو حنيفة في الفقه الأكبر: من قال لا أعرف ربي في السماء أم في الأرض، فقد كفر، لأن الله يقول: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [سورة طه آية: 5] ، وعرشه فوق الجزء: 3 ¦ الصفحة: 312 السماوات، قلت: فإن قال إنه على العرش استوى، ولكن لا أدري، العرش في السماء أم في الأرض؟ قال: هو كافر، لأنه أنكر أن يكون الله في السماء، لأنه تعالى في أعلى عليين، وأنه يدعى من أعلى لا من أسفل؛ وهذا يدل على أن من آمن بنفس اللفظ، ونفى ما يدل عليه من العلو، فهو كافر عنده؛ وغيره من الأئمة لا يخالفه. وقال مالك رحمه الله: الله في السماء، وعلمه في كل مكان. وقد بسط اللالكائي - رحمه الله - أقوال الأئمة من السلف ومن بعدهم، على تكفير هذا الضرب من الناس. وقد حبس هشام بن عبد الله الرازي، قاضي الري، رجلا في التجهم، فأظهر التوبة، فأحضر عنده، فقال: الحمد لله على التوبة، فقال هشام: أتشهد أن الله على عرشه، بائن من خلقه؟ فقال: أشهد أن الله على عرشه، ولا أدري ما بائن من خلقه، فقال: ردوه، فإنه لم يتب. وذكر الحاكم بإسناد صحيح، عن محمد بن إسحاق بن خزيمة، رحمه الله، أنه قال: "من لم يقل إن الله فوق سماواته، على عرشه، بائن من خلقه، وجب أن يستتاب، فإن تاب، وإلا ضربت عنقه، ثم ألقي في مزبلة، لئلا يتأذى بنتن ريحه، أهل القبلة وأهل الذمة". وبهذا تعلم أن التفويض عند السلف، إنما هو في العلم بالكيفية، لا فيما دلت عليه النصوص من إثبات الجزء: 3 ¦ الصفحة: 313 صفات الكمال، كالعلو، والارتفاع، والفوقية، فإن هذا لا بد من اعتقاده، والإيمان به; وقال ابن أبي زيد، القيرواني، في قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [سورة طه آية: 5] أي: بذاته وقد أنكر عليه من لا علم له، ولا اطلاع على مذهب السلف، والأئمة المقلدين، رضي الله عنهم أجمعين; وخبط في هذا المقام، بما لا طائل تحته، من فضول الكلام، الدال على فساد القصد، وعدم رسوخ الأفهام؟ فنعوذ بالله من معرة الجهل، والأوهام، ونستجير به، من مزلة الأقدام. [جواب الشيخ عبد اللطيف على تفسير النور في حديث أعوذ بنور وجهك] وقال أيضا: الشيخ عبد اللطيف، رحمه الله تعالى: وأما السؤال عن قوله صلى الله عليه وسلم: " أعوذ بنور وجهك " وقوله في حديث أبي موسى: " حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه، ما انتهى إليه بصره من خلقه "1، وقول السائل: هل يفسر هذا النور، أو لا؟ فالجواب: أن النور يضاف إلى الله إضافة الصفة إلى الموصوف، ويضاف إليه إضافة المفعول إلى فاعله، كما أشار إليه العلامة ابن القيم رحمه الله، في نونيته; وما في دعائه صلى الله عليه وسلم مخرجه من الطائف، من الأول بلا ريب، فهو صفة ذات; وكذلك تسمى تعالى وتقدس بهذا الاسم الأنفس; وأما ما في حديث أبي موسى من ذكر السبحات المضافة إلى وجه الله تعالى، فهي من إضافة الصفة إلى الموصوف، على ما يأتي تفسيره.   1 مسلم: الإيمان (179) , وأحمد (4/400 ,4/405) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 314 وأما قوله: حجابه النور فقد ذكر السيوطي وغيره في الحجب آثارا عن السلف، تدل على أن الله احتجب بحجب من نور، مخلوقة له، وكلام صاحب الكافية الشافية يشير إليه، لأنه عطفه في الذكر على ما تقدم، من أوصاف الذات; والأصل في العطف أن يكون للمغايرة; وقال في الجيوش الإسلامية: والله سبحانه سمى نفسه نورا، وجعل كتابه نورا، ورسوله صلى الله عليه وسلم نورا، ودينه نورا، واحتجب من خلقه بالنور، وجعل دار أوليائه نورا; قال تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [سورة النور آية: 35] الآية، وقد فسر بكونه: منور السماوات والأرض، وهذا إنما هو فعل، وإلا فالنور الذي هو من أوصافه قائم به، ومنه اشتق له اسم النور الذي هو أحد الأسماء الحسنى. فالنور يضاف إليه سبحانه على أحد وجهين: إضافة صفة إلى موصوفها، وإضافة فعل إلى فاعله، فالأول، كقوله: {وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا} [سورة الزمر آية: 69] ، إذا جاء لفصل القضاء، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم في الدعاء المشهور: " أعوذ بنور وجهك الكريم، أن تضلني، لا إله إلا أنت " وفي الأثر الآخر: " أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات " فأخبر صلى الله عليه وسلم أن الظلمات أشرقت بنور وجهه; كما أخبر تعالى: أن الأرض تشرق يوم القيامة بنوره. وفي معجم الطبراني، والسنة له، وكتاب عثمان الجزء: 3 ¦ الصفحة: 315 الدارمي، وغيرهما، عن ابن مسعود رضي الله عنه: " ليس عند ربكم ليل ولا نهار، نور السماوات والأرض من نور وجهه "، وهذا الذي قاله ابن مسعود، رضي الله عنه أقرب إلى تفسير الآية، من قول من فسرها: إنه هادي أهل السماوات والأرض; وأما من فسرها بأنه: منور السماوات والأرض، فلا تنافي بينه، وبين قول ابن مسعود، والحق أنه نور السماوات والأرض، بهذه الاعتبارات كلها. وفي صحيح مسلم وغيره، من حديث أبي موسى الأشعري، رضي الله عنه قال: "قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس كلمات: إن الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام"1 فذكرها، وفي صحيح مسلم، عن أبي ذر رضي الله عنه قال: " سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل رأيت ربك؟ قال: نور أنى أراه "2، قال شيخ الإسلام: معناه: كان ثم نور، أو حال دون رؤيته نور، وأنى أراه; قال ويدل عليه: أن في بعض الألفاظ الصحيحة: هل رأيت ربك؟ قال: "رأيت نورا" وذكر الكلام في الرؤية، ثم قال: ويدل على صحته، ما قال شيخنا، في معنى حديث أبي ذر رضي الله عنه. قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث: "حجابه النور": فهذا النور - والله أعلم - هو النور المذكور في حديث أبي ذر: " رأيت نورا "3 وأما السبحات، فهي نور الذات المقدسة العلية، وهي: النور الذي استعاذ به صلى الله عليه وسلم، وكلامه فيه إيماء إلى أنه   1 مسلم: الإيمان (179) , وابن ماجه: المقدمة (195) , وأحمد (4/405) . 2 مسلم: الإيمان (178) , والترمذي: تفسير القرآن (3282) , وأحمد (5/157 ,5/170 ,5/175) . 3 مسلم: الإيمان (178) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 316 تعالى احتجب بهذا النور المذكور، وهو الذي حجبه صلى الله عليه وسلم عن رؤية البارئ تعالى وتقدس، وهذا النور، الذي رآه صلى الله عليه وسلم كما تقدم في حديث أبي ذر: " رأيت نورا " وقد احتجب سبحانه وتعالى بحجب عن خلقه، من نور ومن غيره، كما ذكر في آثار مروية عن السلف، جمع كثيرا منها السيوطي، في كتاب الهيئة السنية؛ فإذا فسرت السبحات بنور وجهه الكريم، جازت الاستعاذة بها، لأنها وصف ذات. ويؤيد ما إليه أومأ ابن القيم، رحمه الله تعالى، قول ابن الأثير: سبحات الله جل جلاله، عظمته; وهي في الأصل: جمع سبحة، وقيل: ضوء وجهه، وقيل: سبحات وجهه، محاسنه; وقيل معناه: تنْزيهه له; أي: سبحان وجهه; وقيل: إن سبحات الوجه، كلام معترض، بين الفعل والمفعول، أي: لو كشفها، لأحرقت كل شيء أبصرت. قلت: يريد أن السبحات هي النور الذي احتجب به ولذلك، قال: لو كشفها; قال: وأقرب من هذا، أن المعنى: لو انكشف من أنوار الله تعالى - التي تحجب العباد - شيء، لأهلك كل من وقع عليه ذلك النور، كما خر موسى صعقا وتقطع الجبل دكا، لما تجلى الله سبحانه وتعالى؛ ففي كلام ابن الأثير: ما يدل على أن الحجاب نفس أنوار الذات، فتأمله. وذكر ابن الأثير وغيره، أن جبرائيل، "قال: لله دون العرش سبعون حجابا، لو دنونا من الجزء: 3 ¦ الصفحة: 317 أحدها، لأحرقتنا سبحات وجهه". انتهى. ومقتضى ما قال القرطبي، في حديث أبي موسى: " حجابه النور، أو النار ": أن هذا حجاب منفصل عن أنوار الذات، لكنه يجري في هذه المباحث على طريق المتكلمين، فيما جاء في هذا الباب من صفات الكمال، ونعوت الجلال. [الاشتغال بكتاب الإحياء للغزالي وكلام الأئمة فيه] وله أيضا: قدس الله روحه، ونور ضريحه، ما نصه: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الملك الحق المبين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الصادق الأمين، صلى الله عليه، وعلى آله وأصحابه، صلاة دائمة مستمرة إلى يوم الدين. وبعد: فإني رأيت بعض أهل وقتنا يشتغل بكتاب الإحياء للغزالي، ويقرأ فيه عند العامة، وهو لا يحسن فهم معانيه، ولا يعرف ما تحت جمله ومبانيه، ليست له أهلية في تمييز الخبيث من الطيب، ولا دراية بما تحت ذلك البارق من ريح عاتية أو صيب; فكتبت إليه نصيحة وأرسلت إليه بعض أصحابه، وأرشدته إلى الدواوين الإسلامية المشتملة على الأحاديث النبوية والسير السلفية، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 318 والرقائق الوعظية، فلم يقبل، واستمر على رأيه، وأعجب بنفسه، وأظهر ذلك لبعض من يجالسه، وحط من قدر الناهي له. فكتبت إليه كتابا، فلم يصغ، ولم يلتفت، وزعم أنه على بصيرة; وأبدى من جهله الأعاجيب الكثيرة، فأحببت أن أذكر للطلبة والمستفيدين بعض ما قاله أئمة الإسلام والدين في هذا الكتاب، المسمى بالإحياء ليكون الطالب على بصيرة من أمره، ولئلا يلتبس عليه ما تحت عباراته من زخرف القول. وصورة ما كتبت، أولا: من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأخ عبد الله، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: فقد بلغني عنك ما يشغل كل من له حمية إسلامية، وغيرة دينية على الملة الحنيفية، وذلك أنك اشتغلت بالقراءة في كتاب الإحياء للغزالي، وجمعت عليه من لديك من الضعفاء والعامة الذين لا تمييز لهم بين مسائل الهداية والسعادة، ووسائل الكفر والشقاوة، وأسمعتهم ما في الإحياء من التحريفات الجائرة، والتأويلات الضالة الخاسرة، والشقاشق التي اشتملت على الداء الدفين، والفلسفة في أصل الدين. وقد أمر الله تعالى وأوجب على عباده أن يتبعوا رسله، وأن يلتزموا سبيل المؤمنين، وحرم اتخاذ الولائج من الجزء: 3 ¦ الصفحة: 319 دون الله ورسوله، ومن دون عباده المؤمنين، وهذا الأصل المحكم، لا قوام للإسلام إلا به. وقد سلك في الإحياء طريق الفلاسفة والمتكلمين في كثير من مباحث الإلهيات وأصول الدين، وكسا الفلسفة لحاء الشريعة، حتى ظنها الأغمار والجهال بالحقائق من دين الله الذي جاءت به الرسل، ونزلت به الكتب، ودخل به الناس في الإسلام; وهي في الحقيقة محض فلسفة منتنة، يعرفها أولو الأبصار، ويمجها من سلك سبيل أهل العلم كافة، في القرى والأمصار. قد حذر أهل العلم والبصيرة عن النظر فيها، ومطالعة خافيها وباديها؛ بل أفتى بتحريقها علماء المغرب ممن عرف بالسنة، وسماها كثير منهم إماتة علوم الدين. وقام ابن عقيل أعظم قيام في الذم والتشنيع، وزيف ما فيه من التمويه والترقيع، وجزم بأن كثيرا من مباحثه زندقة خالصة، لا يقبل لصاحبها صرف ولا عدل. قال شيخ الإسلام: ولكن أبو حامد دخل في أشياء من الفلسفة، وهي عند ابن عقيل زندقة، وقد رد عليه بعض ما دخل فيه من تأويلات الفلاسفة، ورد عليه شيخ الإسلام في السبعينية، وذكر قوله في العقول والنفوس، وأنه مذهب الفلاسفة، فأفاد وأجاد. ورد عليه غيره من علماء الدين، وقال فيه تلميذه بن العربي المالكي: شيخنا أبو حامد دخل في جوف الفلسفة، ثم أراد الخروج فلم يحسن; وكلام الجزء: 3 ¦ الصفحة: 320 أهل العلم معروف في هذا، لا يشكل إلا على من هو مزجى البضاعة، أجنبي من تلك الصناعة. ومشايخنا - تغمدهم الله برحمته- مضوا على هذا السبيل والسنن، وقطعوا الوسائل إلى الزندقه والفلسفة والفتن، وأدبوا على ما هو دون ذلك، وأرشدوا الطالب إلى أوضح المناهج والمسالك، وشكرهم على ذلك كل صاحب سنة وممارسة للعلم النبوي. وأنت قد خالفت سبيلهم، وخرجت عن مناهجهم، وضللت المحجة، وخالفت مقتضى البرهان والحجة، واستغنيت برأيك، وانفردت بنفسك، عن المتوسمين بطلب العلم، المنتسبين إلى السنة: ما أقبح الحور بعد الكور! وما أوحش زوال النعم، وحلول النقم! إذا سمعت بعض عباراته المزخرفة، قلت: كيف ينهانا عن هذا فلان، أو يأمر بالإعراض عن هذا الشأن. كأنك سقطت على الدرة المفقودة، والضالة المنشودة، وقد يكون ما أطربك، وهز أعطافك وحركك، فلسفة منتنة، وزندقة مبهمة، أخرجت في قالب الأحاديث النبوية، والعبارات السلفية، فرحم الله عبدا عرف نفسه، ولم يغتر بجاهه، وأناب إلى الله، وخاف الطرد عن بابه، والإبعاد عن جنابه. وينبغي للإمام، أيده الله، أن ينْزع هذا الكتاب من الجزء: 3 ¦ الصفحة: 321 أيديكم; ويلزمكم بكتب السنة، من الأمهات الست وغيرها، والله يقول الحق، وهو يهدي السبيل. ثم جمعت بعض أقوال أهل العلم، وما أفتوا به في هذا الكتاب، وتحذيرهم للطالب والمسترشد; فمن ذلك: قول الذهبي - في ترجمته للغزالي -: وأخذ في تأليف الأصول، والفقه، والكلام، والحكمة، وأدخله سيلان ذهنه، في مضائق الكلام، ومزال الأقدام، ولله سر في خلقه، وساق الكلام - إلى أن قال -: ذكر هذا عبد الغافر - إلى أن قال -: ثم حكى عنه أنه راجع العلوم، وخاض في الفنون الدقيقة، والتقى بأربابها، حتى تفتحت له أبوابها، وبقي مدة، وفتح عليه باب من الخوف، بحيث شغله عن كل شيء - إلى أن قال - ومما كان يعترض عليه به، وقوع خلل من جهة النحو، في أثناء كلامه، وروجع فيه، فأنصف واعترف بأنه ما مارسه. ومما نقم عليه، ما ذكر من الألفاظ المستبشعة بالفارسية في كيمياء السعادة والعلوم، وشرح بعض الصور والمسائل، بحيث لا يوافق مراسم الشرع، وظواهر ما عليه قواعد الملة. وكان الأولى به، والحق أحق ما يقال: ترك ذلك التصنيف، والإعراض عن الشرح له. فإن العوام ربما لا يحكمون أصول القواعد بالبراهين والحجج، فإذا سمعوا شيئا من ذلك، تخيلوا منه ما هو أضر بعقائدهم، وينسبون ذلك إلى بيان مذهب الأوائل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 322 قال الذهبي: ما نقله عبد الغافر على أبي حامد في الكيمياء، فله أمثاله في غضون تواليفه، حتى قال أبو بكر بن العربي: شيخنا أبو حامد بلع الفلاسفة، وأراد أن يتقيأهم فما استطاع. انتهى. ومن معجم أبي علي الصدفي، في تأليف القاضي عياض له، قال الشيخ: أبو حامد، ذو الأنباء الشنيعة، والتصانيف العظيمة، غلا في طريق التصوف، وتجرد لنصر مذهبهم، وصار داهية في ذلك، وألف فيه تآليفه المشهورة؛ أخذ عليه فيها مواضع، وساءت به ظنون أمة، والله أعلم بسره، ونفذ أمر السلطان عندنا بالمغرب، وفتوى الفقهاء بإحراقها، والبعد عنها، فامتثل ذلك. انتهى. ونقل أبو المظفر يوسف، سبط ابن الجوزي، المتهم بالتشيع، في كتابه: رياض الأفهام قال: ذكر أبو حامد في كتابه: سر العالمين، وكشف ما في الدارين، وقال في حديث: " من كنت مولاه فعلي مولاه " إن عمر قال: بخ، بخ، أصبحت مولى كل مؤمن ومؤمنة، قال أبو حامد: وهذا تسليم ورضى، ثم بعد هذا غلب عليه الهوى، حبا للرياسة، وعقد البنود، وأمر الخلافة، ونهيها، فحملهم على الخلاف {فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} [سورة آل عمران آية: 187] ، وسرد كثيرا من هذا الكلام الفسل الذي تزعمه الإمامية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 323 قال الذهبي: وما أدري ما عذره في هذا، الظاهر أنه رجع عنه، وتبع الحق. قلت: هذا إن لم يكن من وضع هذا، وما ذاك ببعيد، ففي هذا التأليف بلايا لا تستطاب، قلت: ما ذكره الذهبي ممكن، والغرض: أن ما ينسب إلى هذا الرجل، لا يغتر به، ويجب هجره واطراحه، لما في كتبه من الداء العضال، والعثرات التي لا تقال. قال الذهبي: قد ألف الرجل في ذم الفلاسفة كتاب التهافت، وكشف عوراتهم، ووافقهم في مواضع، ظنا منه أن ذلك حق، أو موافق للملة، ولم يكن له علم بالآثار، ولا خبرة بالسنن النبوية، القاضية على العقل، وحبب إليه إدمان النظر في كتاب رسائل إخوان الصفا، وهو داء عضال، وجرب مردئ، وسم قاتل، ولولا أن أبا حامد من الأذكياء وخيار المخلصين، لتلف. فالحذر، الحذر، من هذه الكتب! واهربوا بدينكم من شبه الأوائل، وإلا وقعتم في الحيرة، فمن رام النجاة والفوز، فليلزم العبودية، وليكثر الاستغاثة بالله، وليبتهل إلى مولاه، في الثبات على الإسلام، وأن يتوفى على إيمان الصحابة وسادة التابعين، والله الموفق، فبحسن قصد العالم، يغفر له، وينجو إن شاء الله تعالى. وقال أبو عمر بن الصلاح: فصل في بيان أشياء مهمة أنكرت على أبي حامد; ففي تواليفه أشياء لم يرتضها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 324 أهل مذهبه من الشذوذ. منها قوله في المنطق: هو مقدمة العلوم كلها، ومن لا يحيط به فلا ثقة له بمعلوم أصلا، قال: فهذا مردود، إذ كل صحيح الذهن منطقي بالطبع، وكم من إمام ما رفع بالمنطق رأسا. فأما كتاب: المضنون به على غير أهله; فمعاذ الله أن يكون له، شاهدت على نسخة منه بخط القاضي كمال الدين محمد بن عبد الله الشهرزوري، أنه موضوع على الغزالي، وأنه مخترع من كتاب: مقاصد الفلاسفة، وقد نقضه الرجل بكتاب: التهافت. وقال أحمد بن صالح الجبلي في تاريخه: وقد رأيت كتاب: الكشف والإنباء عن كتاب الإحياء، للمازري: الحمد لله الذي أنار الحق وأداله، وأباد الباطل وأزاله ... ثم أورد المازري أشياء مما انتقده على أبي حامد، يقول: ولقد أعجب من قوم مالكية، يرون الإمام مالكا يهرب من التحديد، وإيجاب أن يرسم رسما، وإن كان فيه أثر ما، أو قياس ما، تورعا وتحفظا من الفتوى، فيما يحمل الناس عليه، ثم يستحسنون من الرجل فتاوى مبناها على ما لا حقيقة له، وفيه كثير عن النبي صلى الله عليه وسلم لفق منه الثابت، بغير الثابت. وكذا ما أورد عن السلف، لا يمكن ثبوته كله، وأورد من نزعات الأولياء، ونفثات الأصفياء، ما يجل موقعه، لكن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 325 مزج فيه النافع بالضار، كإطلاقات يحكيها عن بعضهم، لا يجوز إطلاقها لشناعتها، وإن أخذت معانيها على ظواهرها كانت كالرموز لقدح الملحدين، ولا تنصرف معانيها إلى الحق إلا بتعسف، على أن اللفظ مما لا يتكلف العلماء مثله، إلا في كلام صاحب الشرع الذي اضطرت المعجزات الدالة على صدقه، - المانعة من جهله. وكذبه إلى طلب التأويل1 كقوله: " إن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن "2 " وإن السماوات على أصبع " وكقوله: " لأحرقت سبحات وجهه "3 وكقوله: " يضحك الله " إلى غير ذلك من الأحاديث الواردة، ظاهرها مما أحاله العقل4 - إلى أن قال - فإذا كانت العصمة غير مقطوع بها في حق الولي، فلا وجه لإضافة ما لا يجوز إطلاقه إليه، إلا أن يثبت، وتدعو ضرورة إلى نقله، فيتأول ... إلى أن قال: ألا ترى: لو أن منصفا أخذ يحكي عن بعض الحشوية، مذهبه في قدم الصوت والحرف، وقدم الورق، لما حسن به أن يقول: قال بعض المحققين: إن القارئ، إذا قرأ كتاب الله، عاد القارئ في نفسه قديما بعد أن كان محدثا; وقال   1 قوله: إلى طلب التأويل ... إلخ, مردود على قائله, والذي عليه السلف: أن هذه الأحاديث, ونحوها, تجري على ظواهرها, مع اعتقاد ما دلت عليه. 2 الترمذي: القدر (2140) , وابن ماجه: الدعاء (3834) . 3 مسلم: الإيمان (179) , وأحمد (4/400 ,4/405) . 4 لا تحيله العقول السليمة, فإنها حق على حقيقتها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 326 بعض الحذاق: إن الله محل للحوادث، إذا أخذ في حكاية مذاهب الكرامية. وقال قاضي الجماعة أبو عبد الله محمد بن أحمد القرطبي: إن بعض من يعظ، ممن كان ينتحل رسم الفقه، ثم تبرأ منه شغفا بالشريعة الغزالية، والنحلة الصوفية، أنشأ كراسة تشتمل على معنى التعصب لكتاب أبي حامد، إمام بدعتهم، فأين هو من تشنيع مناكيره؟ وتضليل أساطيره المباينة للدين، وزعم: أن هذا من علم المعاملة، المفضي إلى علم المكاشفة، الواقع بهم على سر الربوبية، الذي لا يسفر عن قناعه ولا يفوز باطلاعه، إلا من تمطى إلى شيخ ضلالته، التي رفع لهم أعلامها، وشرع أحكامها. قال أبو حامد: وأدنى من هذا العلم التصديق به، وأقل عقوبته أن لا يرزق المنكر منه شيئا فأعرض من قوله، على قوله: ولا يشتغل بقراءة قرآن، ولا بكتب حديث، لأن ذلك يقطعه عن الوصول إلى إدخال رأسه في كم جيبه، والتدثر بكسائه، فيسمع نداء الحق، فهو يقول: ذروا ما كان السلف عليه، وبادروا إلى ما أمركم به، ثم إن القاضي أقذع، وسب، وكفر. وقال أبو حامد: وصدور الأحرار قبور الأسرار، ومن أفشى سر الربوبية كفر، ورأى مثل قتل الحلاج خيرا من إحياء عشرة، لإطلاقه ألفاظا، ونقل عن بعضهم قال: للربوبية الجزء: 3 ¦ الصفحة: 327 سر لو ظهر لبطلت النبوة; وللنبوة سر لو كشف لبطل العلم; وللعلم سر لو كشف لبطلت الأحكام; قلت: سر العلم قد كشف بصوفية أشقياء، فانحل النظام، وبطل لديهم الحلال والحرام. قال ابن أحمد: ثم قال الغزالي، القائل بهذا إن لم يرد إبطال النبوة في حق الضعفاء، فما قال ليس بحق; فإن الصحيح لا يتناقض، وإن الكامل لا يطفئ نور معرفته نور ورعه، وقال الغزالي: العارف، يتجلى له أنوار الحق، وتنكشف له العلوم المرموزة المحجوبة عن الخلق، فيعرف معنى النبوة، وجميع ما وردت به ألفاظ الشريعة، التي لحن منها على ظاهرها، قال عن بعضهم: إذا رأيته في البداية قلت صدّيقا، وإذا رأيته في النهاية قلت زنديقا، ثم فسره الغزالي، فقال: إذا رأيتم الزنديق لا يلصق إلا بمعطل الفرائض، لا بمعطل النوافل، وقال: وذهبت الصوفية إلى العلوم الإلهامية دون التعليمية; فيجلس فارغ القلب، مجموع الهم، فيقول: الله، الله، الله، على الدوام; فيتفرغ قلبه، ولا يشتغل بتلاوة، ولا كتب حديث; فإذا بلغ هذا الحد، التزم الخلوة ببيت مظلم، ويتدثر بكسائه، فحينئذ يسمع نداء الحق: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} [سورة المزمل آية: 1] ، {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} [سورة المدثر آية: 1] . قلت: إنما سمع شيطانا، أو سمع شيئا لا حقيقة له، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 328 من طيش دماغه، والتوفيق في الاعتصام بالكتاب، والسنة، والإجماع. قال أبو بكر الطرطوشي: شحن أبو حامد كتاب الإحياء بالكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما على بسيط الأرض أكثر كذبا منه، شبكه بمذاهب الفلاسفة، ومعاني رسائل إخوان الصفاء، وهم قوم يرون النبوة مكتسبة; وزعموا أن المعجزات حيل ومخاريق. قال ابن عساكر: حج أبو حامد، وأقام بالشام نحوا من عشرين سنة، وصنف، وأخذ نفسه بالمجاهدة، وكان مقامه بدمشق، في المنارة الغربية من الجامع، سمع صحيح البخاري، من أبي سهل الحمصي، وقدم دمشق في سنة تسع وثمانين. وقال ابن خلكان: بعثه النظام على مدرسته ببغداد، في سنة أربع وثمانين، وتركها في سنة ثمان وثمانين، وزهد، وحج، وأقام بدمشق مدة بالزاوية الغربية. ثم انتقل إلى بيت المقدس يتعبد، ثم قصد مصر، وأقام مدة بالإسكندرية، فقيل: عزم على المضي إلى يوسف بن تاشفين، سلطان مراكش، فبلغه نعيه. ثم عاد إلى طوس، وصنف: البسيط، والوسيط، والوجيز، والخلاصة، والإحياء، وألف المستصفى في أصول الفقه، والمنخول، واللباب، والمنتحل في الجدل، وتهافت الفلاسفة، ومحك النظر، ومعيار العلم، وشرح الأسماء الحسنى، ومشكاة الأنوار، والمنقذ من الضلال، وحقيقة القولين، وأشياء أخرى. انتهى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 329 قال عبد الله بن علي الأثيري: سمعت عبد المؤمن بن علي القيسي، سمعت عبد الله بن تومرت، يقول: أبو حامد الغزالي قرع الباب، وفتح لنا. قال أبو محمد العثماني وغيره: سمعنا محمد بن يحيى العذري المؤدب يقول: رأيت بالإسكندرية، سنة خمسمائة، كأن الشمس طلعت من مغربها، فعبرها لي عابر، ببدعة تحدث فيهم، فبعد أيام وصل الخبر بإحراق كتب الغزالي من البريد. قال أبو بكر بن العربي، في شرح الأسماء الحسنى: قال شيخنا أبو حامد قولا عظيما، انتقده عليه العلماء، وقال: وليس في قدرة الله أبدع من هذا العالم، في الإتقان والحكمة، ولو كان في القدرة أبدع أو أحكم منه ولم يفعله، لكان ذلك قضاء للجور، وذلك محال. ثم قال: والجواب: أنه باعد في اعتقاد عموم القدرة ونفي النهاية عن تقدير المقدرات المتعلقة بها، ولكن في تفصيل هذا العلم المخلوق، لا في سواه; وهذا رأي فلسفي، قصدت به الفلاسفة قلب الحقائق، ونسبة الإتقان إلى الحياة مثلا; والوجود إلى السمع والبصر، حتى لا يبقى في القلوب سبيل إلى الصواب؛ واجتمعت الأمة على خلاف هذا الاعتقاد، وقالت عن بكرة أبيها: إن المقدورات لا نهاية لها بكل مقدور الوجود، لا بكل حاصل الوجود، إذ القدرة صالحة. ثم قال: هذه وهلة لألعابها، ومزلة لا تماسك فيها، ونحن وإن كنا نقطة من بحره، فإنا لا نرد عليه إلا بقوله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 330 ومما أخذ عليه، قوله: إن للقدر سرا نهينا عن إفشائه; فأي سر للقدر؟! فإن كان مدركا بالنظر وصل إليه ولا بد، وإن كان مدركا بالخبر فما ثبت فيه شيء، وإن كان يدرك بالحيل والعرفان فهذه دعوى محضة، فلعله عنى بإفشائه: أن تعمق في القدر وبحث فيه. قال الذهبي: أنبأنا محمد بن عبد الكريم، أنبأنا أبو الحسن السخاوي، أنبأنا خطاب بن قمرية الصوفي، أنبأنا سعد بن أحمد الإسفرائيني بقراءتي، أنبأنا أبو حامد محمد بن محمد الطوسي، قال: اعلم أن الدين شطران: أحدهما ترك المناهي، والآخر فعل الطاعات؛ وترك المناهي هو الأشد، والطاعات يقدر عليه كل أحد، وترك الشهوات لا يقدر عليه إلا الصديقون، ولذلك قال أبو عامر العبدي: سمعت أبا نصر أحمد بن محمد بن عبد القاهر الطوسي يحلف بالله أنه أبصر في نومه، كأنه ينظر في كتب الغزالي، فإذا هي كلها تصاوير. وقال ابن الوليد الطرطوشي في رسالته إلى ابن المظفر: فأما ما ذكرت من أبي حامد، فقد رأيته وكلمته، ورأيته جليلا من أهل العلم، واجتمع فيه العقل والفهم، ومارس العلوم طول عمره، وكان على ذلك معظم زمانه، ثم بدا له عن طريقة العلماء، ودخل في غمار العمال، ثم تصوف، وهجر العلوم، وأهلها، ودخل في علوم الخواطر، وأرباب القلوب، ووساوس الشيطان، ثم شابها بآراء الجزء: 3 ¦ الصفحة: 331 الفلاسفة، ورموز الحلاج، وجعل يطعن على الفقهاء والمتكلمين؛ ولقد كاد أن ينسلخ من الدين، فلما عمل الإحياء عمد يتكلم في علوم الأحوال، ومرامز الصوفية، وكان غير أنيس بها، ولا خبير بمعرفتها، فسقط على أم رأسه، وشحن كتابه بالموضوعات. قال الذهبي، بعد أن ساق كلام ابن الوليد الطرطوشي، قلت: أما الإحياء ففيه من الأحاديث الباطلة جملة، وفيه خير كثير، لولا ما فيه من آداب ورسوم، وزهد من طرائق الحكماء ومنحرف الصوفية، نسأل الله علما نافعا; تدري ما العلم النافع؟ هو ما نزل به القرآن، وفسره رسول الله صلى الله عليه وسلم قولا، وفعلا، ولم يأت نهي عنه، قال عليه السلام: " من رغب عن سنتي فليس مني "1. فعليك يا أخي بتدبر كتاب الله، وبإدمان النظر في الصحيحين، وسنن النسائي، ورياض النووي، وأذكاره، تفلح وتنجح، وإياك وآراء عباد الفلاسفة، ووظائف أهل الرياضات، وجوع الرهبان، وخطاب طيش رؤوس أصحاب الخلوات; فكل الخير في متابعة الحنيفية السمحة، فواغوثاه بالله! اللهم اهدنا الصراط المستقيم. انتهى. ولمحمد بن علي المازني الصقيلي، كلام على الإحياء، قال فيه: قد تكررت مكاتبتكم في استعلام مذهبنا في الكتاب المترجم بإحياء علوم الدين، وذكرتم أن آراء الناس فيه قد اختلفت، فطائفة انتصرت وتعصبت لإشهاره، وطائفة حذرت منه ونفرت، وطائفة لكتبه أحرقت. وكاتبني   1 البخاري: النكاح (5063) , ومسلم: النكاح (1401) , والنسائي: النكاح (3217) , وأحمد (3/241 ,3/259 ,3/285) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 332 أهل المشرق أيضا يسألوني، ولم يتقدم لي قراءة هذا الكتاب، سوى نبذة منه، فإن نفس الله في العمر، مددت منه الأنفاس، وأزلت عن القلوب الالتباس، اعلموا: أن هذا الرجل، رأيت تلامذته، فكل منهم حكى لي نوعا من حاله، ما قام مقام العيان، فأنا أقتصر على ذكر حاله، وحال كتابه، وأذكر جملا من مذاهب الموحدين، والمتصوفة، وأصحاب الإشارات، والفلاسفة، فإن كتابه متردد بين هذه الطوائف. ثم قال: وأما علم الكلام الذي هو أصل الدين، فإنه صنف فيه، وليس بالمتبحر فيها، ولقد فطنت لعدم استبحاره فيها، وذلك أنه قرأ علوم الفلسفة قبل استبحاره في فن الأصول، فأكسبته الفلسفة جراءة على المعاني، وتسهيلا للهجوم على الحقائق، لأن الفلاسفة تمر مع خواطرها لا يزعها شرع; وعرفني صاحب له أنه كان له عكوف على رسائل إخوان الصفا، وهي إحدى وخمسون رسالة; ألفها من قد خاض في علم الشرع، والنقل، وفي الحكمة; فمزج بين العلمين، وقد كان رجل يعرف بابن سينا، ملأ الدنيا تصانيف، أدته قوته في الفلسفة إلى أن حاول رد أصول العقائد إلى علم الفلسفة، وتلطف جهده حتى تم له ما لم يتم لغيره. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 333 [رسالة الشيخ إسحاق بن عبد الرحمن] قال الشيخ: إسحاق بن عبد الرحمن، بن حسن رحمه الله: بسم الله الرحمن الرحيم من إسحاق بن عبد الرحمن، إلى الأخ المكرم، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وموجب الكتاب: النصيحة لله، التي هي من ألزم اللوازم، وفي الحديث: "الدين النصيحة ... "1 إلخ. وبعد حمد الله الذي هو للحمد أهل، فالذي أوصيك به: تقوى الله تعالى، واتباع كتابه الذي جعله للناس نورا وروحا، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْأِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [سورة الشورى آية: 52] ، فكما أن الروح حياة البدن، فالقرآن حياة القلوب; فإذا عرف الإنسان، أن القلب يموت بفقد القرآن، كما يموت البدن بفقد الروح، عرف قدر القرآن، وأن طلب الهدى من غيره ضلال وهوان، فالروح للحياة، والنور للهداية. وأما قوله {نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [سورة الشورى آية: 52] ففيه خوف   1 مسلم: الإيمان (55) , والنسائي: البيعة (4197 ,4198) , وأبو داود: الأدب (4944) , وأحمد (4/102) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 334 المؤمن على نفسه أن لا يوفق لذلك; وفيه بيان التوكل على الله في كل الأمور، خصوصا في هداية القلوب وغفران الذنوب، فما قدر الله حق قدره من استعان بغيره في حاجاته; وفيه الفرق بين هداية الإرشاد، وهداية التوفيق، كما في قوله: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [سورة القصص آية: 56] . إذا تقرر ذلك، فالرسول صلى الله عليه وسلم جعله الله إماما للناس، فكما أنزل عليه القرآن، أنزل عليه السنة، موافقة للقرآن مبينة له; فما وافق هديه فهو الصراط المستقيم، وما خالفه فهو البدعة والضلال الوخيم، وكل بدعة ضلالة، إذ لا طريق إلى الحق إلا من طريقه، ولا شرب إلا من حوضه ورحيقه، وجميع الطرق مسدودة، وجميع الآراء مردودة، إلا ما وافق الكتاب والسنة. قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته، يذهبون إلى رأي سفيان، والله يقول: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ} [سورة النور آية: 63] الآية، فانظر إلى إنكاره على من وافق رأي سفيان، فكيف بمن اتبع رأي فلان وفلتان، وترك النظر في السنة والقرآن؟ ! وقد حضر إلى الواثق في أيام المحنة، رجل من البادية، فقال: هل علم الرسول صلى الله عليه وسلم هذا الرأي الذي دعوتم إليه الناس، ولم يدع الأمة إليه، أو هو لم يعلمه؟ فقال القاضي: بل علمه، فقال: وكيف وسعه أن يترك الناس ولم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 335 يدعهم إليه، وأنتم لا يسعكم؟ فترك الواثق المحنة. والمقصود: أن طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم واجبة الاتباع، وطاعة الغير سائغة الاتباع، وقد عكس الناس القضية، بآراء غير مرضية. قال بعض العلماء: مات أبو بكر، وعمر، ولم يعرفا الجوهر والعرض ولا لفظ الجهة، ولا الحيز؛ بل درجا على ما عليه صاحبهما درج، وتركا ما فيه الضيق والحرج. وقد سد السلف رضوان الله عليهم باب الخوض والكلام فيما لم يكن على عهد السلف الكرام، لأنهم أعرف بالله، وبأسمائه، وصفاته، ولم يتكلموا فيها بما يحيلها عن ظاهرها المراد اللائق بالله لا بالعباد، وهم أزكى الأمة عقولا، وأوفرها علوما، وأرسخها إيمانا، أثبتوا لله ما أثبته لنفسه وما أثبته رسوله صلى الله عليه وسلم وكانوا أشد الناس في ذلك، وفي سد تلك الطرق والمسالك المفضية إلى المهالك. روى عثمان بن سعيد الدارمي قال: حدثنا الحسن بن الصباح قال: حدثنا علي بن الحسن بن شقيق، عن ابن المبارك، قيل له: "كيف نعرف ربنا؟ قال: بأنه فوق السماء السابعة، بائن من خلقه". قال الواسطي رحمه الله، واعلم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بعث بأفصح اللغات، وأبين الألسنة والعبارات، وقد صرح ببيان صفات الله، مخبرا بها عن ربه، واصفا له بها؛ وكان الجزء: 3 ¦ الصفحة: 336 يحضر مجلسه الشريف العالم، والجاهل، والذكي، والبليد، والأعرابي الجافي; وقد أوجب عليهم أن يتدبروا ذلك الكتاب، ويعتقدوا موجب ذلك الخطاب، ليزدادوا به معرفة، مع الفطرة السليمة. فهل يتصور عاقل أن هناك دليلا خفيا لا يستنبطه إلا أفراد الناس؟ ويدع الأمة في حيرة والتباس، ويترك تبليغه الأمة، ويدعهم في جهالة وضلالة وغمة، حتى إذا انقرض عصر الصحابة والتابعين، ظفر ببيانه من أخذ عن اليونان والصابئين، كجهم وبشر وغيرهما من المبتدعين؟! هذا والله نقيض البيان، وضد الهدى والبرهان، كيف يتكلم هو، وهم، بكلام يريدون به خلاف ظاهره المراد، المخالف لما يتوهمه أهل الفساد، ويندرجون على خلاف هذا الاعتقاد، وأن صرفه إلى التأويلات المحدثة هو المراد؟ !. من لم يكن يكفيه ذان فلا كفاه الله شر حوادث الأزمان بل السلف رضوان الله عليهم أنصح للأمة، وأبين للسنة، وقد فهموا: أن بعض العلم جهالة، قال صلى الله عليه وسلم: " إن من العلم جهلا "1 وقال في دعائه: " أعوذ بالله من علم لا ينفع "2، وقال علي: "حدثوا الناس بما يعرفون، أتريدون أن يكذب الله ورسوله"3؟ وقد علم أن ما كان في الكتاب والسنة، لا يخالف ظاهره باطنه، فقد عرفوا دليله، ووضحوا سبيله، إما بأن   1 أبو داود: الأدب (5012) . 2 مسلم: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2722) , والنسائي: الاستعاذة (5458 ,5538) . 3 البخاري: العلم (127) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 337 يكون عقليا ظاهرا، مثل قوله تعالى: {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} [سورة النمل آية: 23] فإن كل أحد يعلم من عقله أن المراد وأوتيت من جنس ما يؤتاه مثلها، وكذلك قوله تعالى: {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [سورة الأنعام آية: 102] فإنه قد علم بالضرورة أن الخالق لا يدخل في هذا العموم، أو سمعيا ظاهرا، مثل الدلالات في الكتاب والسنة، التي تصرف عن الظاهر، كالمعية الخاصة، والعامة; فإن الإجماع من الصحابة والتابعين انعقد على أن المراد به العلم، لأن الله بدأها بالعلم وختمها به. وقد أجمع العقلاء أنه لا بد من دليل سمعي أو عقلي، يوجب الصرف عن الحقيقة إلى المجاز، وإن ادعى ظهور الدليل، فلا بد من دليل مرجح لحمله على ذلك. ومن الموانع: الاشتراك في اللفظ، ومن أراد هذا وجده في مظانه؛ ومن جعل السنة معياره أدرك المأمول، وعرف جنايات المجازات والعقول، على صريح المنقول. ومن تغذى بكلام المتأخرين من غير إشراف على كتب أهل السنة المشتهرين، ككتاب السنة لعبد الله بن الإمام أحمد، وكتاب السنة للخلال، وكتاب السنة للالكائي، والدارمي، وغيرهم، بقي في حيرة وضلال؛ وسأذكر لك طرفا من كلام العلماء، في بيان الاستواء. قال الواسطي: ظن القوم أن إثبات الجهة في حق الجزء: 3 ¦ الصفحة: 338 الباري وجودية، تحيط به وتحوطه، إحاطة الظرف بالمظروف; وهو سبحانه أعظم من ذلك وأكبر {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} [سورة طه آية: 110] ، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [سورة الشورى آية: 11] ، لا طريق إلى العلم بذلك، ولا نتجاوز ما علمناه في كتابه وما قاله رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا يلزم من كونه فوق عرشه هذا المعنى؛ وإثبات جهة الفوقية لا محيد عنه {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [سورة الروم آية: 30] ، وهو بحسب الكون وحدوثه، لا بحسب المكون، تعالى وتقدس. وتكون الإشارة إلى السماء إشارة حقيقية، وهي واقفة على أعلى جزء من الكون، وتقع على عظمة الإله على ما يليق به، وإنكاركم للجهة التي المقصود بها مباينة الخالق للمخلوق، وعلوه على خلقه، واستواؤه على عرشه، إنكار باطل، وتسميته جهة اصطلاح منكم نفرتم به الجهال، وسوغتم به الضلال، ونفيتم به صفات الكمال. قال بعض العلماء: وقد توصل الجهمية إلى نفي ما دل عليه العقل والنقل، فسموا ما فوق العالم جهة وقالوا: منَزّه عن الجهة، وسموا العرش حيزا وقالوا: منَزّه عن التحيز; وسموا الصفات أعراضا وقالوا: منَزّه عن قيام الأعراض؛ وسموا حكمته غرضا وقالوا: منَزّه عن الأغراض؛ وسموا كلامه، ونزوله إلى السماء، ومجيئه يوم القيامة لفصل القضاء، ومشيئته، وإرادته، وغير ذلك حوادث، وقالوا: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 339 منَزّه عن الحوادث; وحقيقة هذا التنْزيه، أنه منَزه عن الوجود، وعن الربوبية، وعن الملك، وعن كونه فعالا لما يريد، إذ لا حرج ولا عار في الإقرار بما في كتابه العزيز وصحيح الأخبار. فانظر ما تحت تنْزيه المعطلة، وما تحت تشبيه المجسمة، من عزل الكتاب والسنة، وسلب الصفات، أو جعلها كصفات المخلوقات، تجد الحق وسطا بين طرفين، وهدى بين ضلالتين; ومن خبيث صنيعهم أنهم لما علموا أن النصوص قاضية عليهم، قالوا: هي ظنية، والعقول قطعية، وقد علم كل من وفقه الله أن العقل الصريح لا يخالف النقل الصحيح. ولكن على تلك القلوب أكنة فليست وإن أصغت تجيب المناديا والحاصل: أنه ما من اسم يسمى الله به، إلا والظاهر الذي يستحقه المخلوق غير مراد، وأنه سبحانه منَزه عن كل ما يلزم منه حدوثه أو نقصه، فكما أن علمنا، وقدرتنا، وإرادتنا، وحياتنا، وكلامنا، ونحوها من الصفات أعراض تدل على حدوثنا، امتنع أن يوصف الله سبحانه بمثلها، فنعوذ بالله من تأويل يفضي إلى تعطيل، ومن تكييف يفضي إلى تمثيل. وقد أطلق غير واحد ممن حكى إجماع السلف كالخطابي، أن الصفات تجرى على ظاهرها، مع نفي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 340 الكيفية والتشبيه، وذلك أن الكلام في الصفات كالكلام في الذات، لأنه فرع عنه، يحتذى فيه حذوه، ويتبع فيه مثاله؛ فإذا كان إثبات الذات إثبات وجود، لا إثبات كيفية، فكذلك إثبات الصفات إثبات وجود، لا إثبات كيفية، فنقول: إن له يدا، وسمعا، وبصرا، ولا نقول: إن معنى اليد القدرة، ومعنى السمع العلم، والسلام. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 341 [جواب الشيخ محمد بن عبد اللطيف في إطلاق لفظة تبارك على غير الله] بسم الله الرحمن الرحيم سئل الشيخ محمد بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن: هل يجوز إطلاق لفظة (تبارك) على غير الله؟ مثل من يقول: تبارك علينا فلان، أو تباركت الدابة، ونحو ذلك؟ وهل هو دعاء، أو إخبار، فلا يمنع منه؟ أو صفة من الصفات، فلا تطلق إلا على الله؟ فأجاب: الحمد لله، هذه المسألة قد كفانا جوابها شمس الدين ابن القيم، رحمه الله تعالى، في بدائع الفوائد، بأوضح عبارة وأبينها، لمن أراد الإنصاف، وسلم من التعصب والاعتساف، وصرف المعاني عن حقائقها إلى ما لا تدل عليه، ولا تفهم منه. قال رحمه الله: فصل: وأما البركة، فهي نوعان: أحدهما: بركة هي فعله تبارك وتعالى، والفاعل منه مبارك يتعدى بنفسه تارة، وبأداة (على) تارة، وبأداة (في) تارة، والمفعول منها مبارك وهو ما جعله كذلك، فكان مباركا يجعله تعالى; والنوع الثاني: بركة تضاف إليه تعالى، إضافة الرحمة، والعزة، والفعل منها (تبارك) ولهذا لا يقال لغيره ذلك، ولا يصلح إلا له عز وجل؛ فهو سبحانه المتبارك، وعبده، ورسوله المبارك، كما قال المسيح: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً الجزء: 3 ¦ الصفحة: 342 أَيْنَ مَا كُنْتُ} [سورة مريم آية: 31] فمن بارك الله فيه، وعليه، فهو: المبارك. وأما صيغة (تبارك) فمختصة به تعالى، كما أطلقها على نفسه، بقوله: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [سورة المؤمنون آية: 14] ، {وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} [سورة الزخرف آية: 85] ، {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} [سورة الفرقان آية: 1] ، {تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذَلِكَ} [سورة الفرقان آية: 10] ، {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً} [سورة الفرقان آية: 61] ، أفلا تراها، كيف اطردت في القرآن، جارية عليه، مختصة به لا تطلق على غيره؛ وجاءت على بناء السعة والمبالغة، كتعالى، وتعاظم، ونحوها; فجاء بناء تبارك على بناء تعالى الذي هو دال على كمال العلو ونهايته، فكذلك تبارك دال على كمال بركته، وعظمها وسعتها، وهذا معنى قول من قال من السلف: تبارك: تعاظم; وقال آخر: إن معناه: مجيء البركات من قِبَله، فالبركة كلها منه; وقال غيره: كثرة خيره وإحسانه إلى خلقه; وقيل: اتسعت رأفته ورحمته بهم، وقيل: تزايد على كل شيء، وتعالى عنه في صفاته وأفعاله، ومن هنا قيل معناه: تعالى، وتعاظم. وقيل: تبارك: تقدس، والقدس الطهارة، وقيل: تبارك أي: باسمه يبارك في كل شيء، وقيل: تبارك: ارتفع، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 343 والمبارك المرتفع، ذكره البغوي، وقيل: تبارك، أي: البركة تكتسب وتنال بذكره; وقال ابن عباس: حاز كل بركة; وحقيقة اللفظة: أن البركة كثرة الخير ودوامه، ولا أحق بذلك وصفا، وفعلا، منه تبارك وتعالى، وتفسير السلف، يدور على هذين المعنيين، وهما متلازمان، لكن الأليق باللفظ، معنى الوصف لا الفعل; فإنه فعل لازم، مثل: تعالى، وتقدس، وتعاظم; ومثل هذه الألفاظ، لا يصح أن يكون معناها، أنه جعل غيره عاليا، ولا قدوسا، ولا عظيما; وهذا مما لا يحتمله اللفظ بوجه، وإنما معناها في نفس من نسبت إليه. وهو: المتعالي، المتقدس في نفسه، فكذلك: تبارك، لا يصح أن يكون معناها، بارك في غيره، وأين أحدهما من الآخر، لفظا ومعنى، هذا لازم، وهذا متعد، فعلمت: أن من فسر تبارك، بمعنى: ألقى البركة، وبارك في غيره، لم يصب معناها، وإن كان هذا من لوازم كونه تعالى متباركا، فتبارك، من باب مجد والمجد: كثرة صفات الجلال، والكمال، والسعة، والفضل، وبارك من باب أعطى وأنعم. ولما كان المتعدي في ذلك، يستلزم اللازم، من غير عكس، فسر من فسر من السلف اللفظة بالمتعدي، لينتظم المعنيان، فقال: مجيء البركة كلها من عنده، أو البركة كلها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 344 من قِبَله، وهذا فرع على تباركه في نفسه، وتدبر قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ثوبان الذي رواه مسلم في صحيحه، عند انصرافه من الصلاة: " اللهم أنت السلام ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام" 1 فتأمل هذه الألفاظ الكريمة، كيف جمعت نوعي الثناء، أعني: ثناء التنْزيه والتسبيح، وثناء الحمد، والتمجيد، بأبلغ لفظ وأوجزه، وأتمه معنى; فأخبر أنه السلام، ومنه السلام، فالسلام له وصفا وملكا، وقد تقدم بيان هذا في وصفه تعالى بالسلام، وأن صفات كماله، ونعوت جلاله، وأفعاله، وأسمائه، كلها سلام؛ وكذلك الحمد، كله له وصفا، وملكا؛ فهو المحمود في ذاته، وهو الذي يجعل من يشاء من عباده محمودا؛ وكذلك العزة، كلها له وصفا، وملكا؛ وهو العزيز الذي لا شيء أعز منه، ومن عز من عباده، فبإعزازه له; وكذلك الرحمة، كلها له وصفا وملكا؛ وكذلك البركة، فهو المتبارك في ذاته، والذي يبارك فيمن يشاء من خلقه، وعليه، فيصير بذلك مباركا {تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [سورة الأعراف آية: 54] ، {وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [سورة الزخرف آية: 85] . وهذا بساط، وإنما غاية معارف العلماء الدنو من أول حواشيه، وأطرافه; وأما ما وراء ذلك، فكما قال أعلم الخلق، وأقربهم إلى الله، وأعظمهم عنده جاها: " لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك "2. وقال في حديث   1 مسلم: المساجد ومواضع الصلاة (591) , والترمذي: الصلاة (300) , وأبو داود: الصلاة (1512) , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (928) , وأحمد (5/279) , والدارمي: الصلاة (1348) . 2 مسلم: الصلاة (486) , والترمذي: الدعوات (3493) , والنسائي: التطبيق (1100 ,1130) , وأبو داود: الصلاة (879) , وابن ماجه: الدعاء (3841) , وأحمد (6/58) , ومالك: النداء للصلاة (497) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 345 الشفاعة الطويل: " فأخر ساجدا لربي، فيفتح علي من محامده بما لا أحسنه الآن "1، وفي دعاء الهم والغم: " أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك "2، فدل على أن لله سبحانه أسماء وصفات استأثر بها في غيبه دون خلقه، لا يعلمها ملك مقرب ولا نبي مرسل؛ وحسبنا الإقرار بالعجز، والوقوف عندما أذن لنا فيه من ذلك، فلا نغلو فيه، ولا نجفو عنه. [رسالة الشيخ حمد بن عتيق في الفرق المبين] وقال الشيخ: حمد بن عتيق، رحمه الله تعالى:3. بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله على إعانته وتسديده، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، شهادة من عادى كل مشرك، ودان بإبطال تنديده; وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد، خير خلقه وأفضل عبيده، المبعوث بالدعوة إلى دين ربه وبيان توحيده. أما بعد: فإنه قد وصل إلينا رسالة من بعض الإخوان من أهل القصيم، ذكر أنه ألقى إليه ما فيها بعض الملحدين، أن الإمام أحمد، ومالكاً، والشافعي، وأبا   1 البخاري: تفسير القرآن (4712) , ومسلم: الإيمان (194) , والترمذي: صفة القيامة والرقائق والورع (2434) . 2 أحمد (1/452) . 3 وقد سمى هذه الرسالة "الفرق المبين, بين مذهب السلف, وابن سبعين, وإخوانه الاتحادية الملحدين". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 346 حنيفة، والعلماء مثلهم، تكلموا في الصفات، كابن عربي، وابن الفارض، وابن سبعين، والتلمساني، كلهم خاضوا في الصفات: فالأئمة الأربعة، قالوا: سميع، بصير، غفور، رحيم، عليم، حليم، وأن كلامهم مشابه لكلام ابن عربي، وإخوانه; لأنهم يقولون ذلك; وكلهم، أطلقوا أن لله صفات مشابهة لصفات العبد; لأن العبد يسمى سميعا، بصيرا، حليما، عليما. فإذا قلتم: إنهم في القول سواء، فكيف وجه تبديعهم وتضليلهم وتكفيرهم؟ وقد وصفوا الله بما وصف به نفسه؟ ! فإن ابن عربي، والإمام أحمد، كلهم مسلمون، يقتدى بهؤلاء، مثلما يقتدى بهؤلاء; وما الحكم في هذا القائل؟ والحديث الذي يروى عن أبي هريرة: "أن الله لما خلق الخلق، أخذ الرحم بحقوه، فقال: مه. فقالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة "1 وهل صح أنه قال: " خلق الله آدم على صورته " 2؟ وهل يفسر العجب بالرضى؟ فنقول: {سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [سورة البقرة آية: 32] . مورد هذا السؤال: إما يكون من أبله الناس وأشدهم بلادة، فكأنه لا شعور له بالمحسوسات; فإن الفرق بين ما عليه الصحابة والتابعون، وأتباعهم، والأئمة الأربعة وإخوانهم، وما عليه ابن عربي، وابن الفارض، والتلمساني،   1 البخاري: تفسير القرآن (4832) . 2 البخاري: الاستئذان (6227) , ومسلم: الجنة وصفة نعيمها وأهلها (2841) , وأحمد (2/315) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 347 وابن سبعين، وأتباعهم: أمر معلوم عند من قرأ القرآن، ودخل في قلبه الإيمان; فإما أن يكون هذا المورد من جنس الأنعام السارحة، أو يكون من أتباع ابن عربي، وإخوانه، من أهل وحدة الوجود، وأراد التلبيس على خفافيش البصائر، فينبغي بيان ما عليه الطائفتان. فاعلم أن الذي عليه الصحابة، والتابعون، وأتباعهم، والأئمة الأربعة، وجميع أهل السنة والجماعة، في جميع الأعصار، والأقطار، أنهم يعتقدون ما دل عليه الكتاب والسنة من أسماء الرب تعالى وصفاته، وأفعاله، ويثبتونه لله على ما يليق بجلاله، مع اعتقادهم: أنه دال على معان كاملة، ثابتة في نفس الأمر، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، بل يعتقدون أن الله لا يشبهه شيء، لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله; فمن شبه الله بخلقه فقد كفر; ومن جحد ما وصف الله به نفسه فقد كفر، وليس ما وصف الله به نفسه، أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم تشبيها; ويعتقدون أن الله مستو على عرشه، بائن من خلقه، ليس في مخلوقاته شيء من ذاته، ولا في ذاته شيء من مخلوقاته، وأن العرش فوق جميع المخلوقات. ويؤمنون بعموم مشيئة الرب، وسبق قضائه وقدره، وأن جميع ما في الكون من خير وشر، كله بقضاء الله وقدره، وداخل تحت مشيئته الكونية القدرية، وأنه أمر بالإيمان به الجزء: 3 ¦ الصفحة: 348 وطاعته وطاعة رسوله، ويحب الإيمان والمؤمنين، ويحب المتقين، ويحب الصابرين، ونحو ذلك، ويبغض الكفر والمعاصي، وينهى عنها; ورتب على ذلك الثواب والعقاب; هذا حاصل معتقد أهل السنة والجماعة; وهم: الفرقة الناجية; وهم: أهل الصراط المستقيم; وأما من خالفهم من أهل البدع والضلالات، فلهم أهواء مختلفة وآراء متشتتة; وهي التي قال الله فيها: {وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [سورة الأنعام آية: 153] . والكلام الآن فيما عليه أهل وحدة الوجود ابن عربي، وابن الفارض، والتلمساني، وإخوانهم، لأنه الذي تضمنه السؤال; فنقول: مذهب هذه الطائفة الملعونة أن الرب تعالى وتقدس هو عين الوجود، ويصرحون في كتبهم: أن وجود الرب هو عين وجود السماوات، والأرض، والجبال، والبحار، وجميع الموجودات هي عين الرب، عندهم! فليس عندهم رب وعبد! ولا خالق ومخلوق! ! وقد قال العلامة: ابن القيم، رحمه الله تعالى آمين: فالقوم ما صانوه عن إنس ولا ... جن ولا شجر ولا حيوان لكنه المطعوم والملبوس والـ ... مشموم والمسموع بالآذان وكذلك قالوا إنه المنكوح والـ ... مذبوح بل عين الغوي الزاني والكفر عندهم هدى ولو أنه ... دين المجوس وعابدي الأوثان الجزء: 3 ¦ الصفحة: 349 قالوا وما عبدوا سواه وإنما ... ضلوا بما خصوا من الأعيان ولو أنهم عَمّوا وقالوا: كلها ... معبودة ما كان من كفران قالوا: ولم يك كافرا في قوله ... أنا ربكم فرعون ذو الطغيان بل كان حقا قوله إذ كان عـ ... ين الحق مضطلعا بهذا الشأن قالوا: ولم يك منكرا موسى لما ... عبدوه من عجل لذي الخوران إلا على من كان ليس بعابد ... معهم وأصبح ضيق الأعطان ولقد رأى إبليس عارفهم فأهـ ... وى بالسجود هوي ذي خضعان قالوا له: ماذا صنعت؟ فقال: ... هل غير الإله وأنتم عميان ما ثَمّ غيرٌ فاسجدوا إن شئتم ... للشمس والشيطان والأصنام فالكل عين الله عند محقق ... والكل معبود لذي العرفان هذا هو المعبود عندهم فقل ... سبحانك اللهم ذا السبحان وقال أيضا: واحتج يوما بالقرآن عليهم شخص فقالوا: الشرك في القرآن فلينظر اللبيب إلى ما قاله هؤلاء من الكفر العظيم، من كونهم يقولون: إن ربهم هو المطعوم، والملبوس، والمشموم، والمنكوح، والمذبوح، ونحو ذلك، تعالى الله وتقدس، وأن الكفر هو الهدى، وأن المجوس إنما عبدوا الله، وإنما ضل من ضل بتخصيصه عبادته ببعض المخلوقات، ولا يكون موحدا عندهم إلا من عبد جميع الموجودات. ومن قولهم: إن فرعون صادق في قوله: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [سورة النازعات آية: 24] وأن موسى إنما أنكر على من ترك عبادة العجل، وأنكر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 350 على هارون إنكاره عليهم، وكذلك لما سجد بعض أعيانهم للشيطان، وقال له بعضهم: كيف تسجد له؟ أجابه: بأنه عين الإله، وأن من سجد للشمس، والأوثان، والشيطان، فقد سجد لله! ! ويقولون: إن جميع ما في الوجود من الكلام هو عين كلام الله، فجميع الأغاني، والأشعار، والسباب، كله كلام الله، كما قال بعضهم: وكل كلام في الوجود كلامه سواء علينا نثره ونظامه ويقولون: إن القرآن كله شرك، لأنه يفرق بين الخالق والمخلوق، والعابد والمعبود، فتعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا. وإذا تبين ذلك، فمن لم يعرف الفرق بين هؤلاء وما ذهبوا إليه، وما يقولونه في رب العزة والجلال، وبين ما يقوله رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعون لهم، فلا حيلة فيه. فقول هذا الملبس: ابن عربي وأتباعه مسلمون; والإمام أحمد وأتباعه مسلمون، يقتدى بهؤلاء مثلما يقتدى بهؤلاء، من أعظم الزور وأقبح الفجور، فإن الفرق بين الطائفتين والمقالتين أبعد مما بين المشرق والمغرب. وقد قال الله تعالى: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [سورة ص آية: 28] ، وقال تعالى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 351 مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [سورة القلم آية: 35-36] ، وقال: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لا يَسْتَوُونَ} [سورة السجدة آية: 18] ، وقال تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلا الْمُسِيءُ قَلِيلاً مَا تَتَذَكَّرُونَ} [سورة غافر آية: 58] ، ونحو ذلك في القرآن كثير. وأما قول هذا الزايغ: إن الأئمة الأربعة خاضوا في الصفات، فقد كذب في ذلك، وافترى، فإن الله: قد ذم الخوض وأهله، كما قال تعالى: {وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا} [سورة التوبة آية: 69] ، وقال عن الكفار: {وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ} [سورة المدثر آية: 45] ، وقال: {فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا} [سورة الزخرف آية: 83] ، وقال: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا} [سورة الأنعام آية: 68] الآية، في مواضع من كتابه. والأئمة الأربعة إنما تكلموا في صفات الرب، بإثباتها وإمرارها كما جاءت، واعتقاد دلالة النصوص على معاني عظيمة، تليق بجلال الرب وعظمته، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل؛ فمن سمى هذا خوضا فهو من أعظم الملبسين، ومن أكبر المفترين. وقول هذا المفتري: إن كلام الأئمة يشبه كلام ابن عربي، كذب ظاهر، يعرفه كل مؤمن. وأما قوله: إنهم أطلقوا أن لله صفات مشابهة لصفات الجزء: 3 ¦ الصفحة: 352 العبد لأن الله سمى نفسه: سميعا، بصيرا، رحيما، عليما، حليما، وسمى بعض خلقه بذلك، فهذا من أعظم التلبيس، لوجهين: الأول: أنه كذب على السلف والأئمة، فإنهم لم يقولوا: إن أسماء الرب تشبه أسماء الخلق. والثاني: أنه إذا قيل: إن الله سميع، بصير، عليم، حليم، وقيل في بعض المخلوقين مثل ذلك، لم يلزم أن يكون الرب مشابها لخلقه، ولا أن أسماءه، وصفاته مشابهة لأسماء خلقه وصفاتهم. فليس الرحيم كالرحيم، ولا الحليم كالحليم، ولا السميع كالسميع، ولا البصير كالبصير، كذلك ليس العلم كالعلم، ولا السمع كالسمع، ولا الحلم كالحلم; ولا البصر كالبصر، فمن قال: إن علم الرب، وحلمه، وسمعه، وبصره، كعلم العبد، وحلمه، وسمعه، وبصره، فهو كافر بالله العظيم، بلا ريب؛ بل علم الرب تعالى، وحلمه، وسمعه، وبصره، وجميع صفاته، كاملة، مبرأة من جميع العيوب والنقائص، منَزهة عن ذلك، ولا يعلم كيف هي إلا هو؛ وعلم الكيفية ممتنع على جميع الخلق، كما قال أعلم خلقه به: " سبحانك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك "1.   1 مسلم: الصلاة (486) , والترمذي: الدعوات (3493) , والنسائي: التطبيق (1100 ,1130) , وأبو داود: الصلاة (879) , وابن ماجه: الدعاء (3841) , وأحمد (6/58) , ومالك: النداء للصلاة (497) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 353 وأما المخلوق فهو ناقص، ذاته وصفاته وأفعاله، كلها ناقصة، ويتطرق إليها الخلل، ويجوز عليها العدم، بخلاف صفات الرب سبحانه وبحمده، ولا يلزم من الاتفاق في التسمية الاتفاق في الحقيقة والمسمى؛ وهذا هو الفرقان المبين بين أهل السنة والجماعة، وأهل البدعة والضلالة، فإن أهل البدع لما لم يفهموا من أسماء الرب وصفاته إلا ما يليق بالمخلوق، وظنوا أنهم إذا أثبتوا لله سمعا، وبصرا، وقدرة، وحلما، أن ذلك يلزم منه التشابه بين الخالق والمخلوق - تعالى الله وتقدس -، فعند ذلك ذهبوا إلى تحريف النصوص وتأويلها، ونفي ما دلت عليه مما يليق بالرب تعالى; فأول مذهبهم: تشبيه وتمثيل; وآخره: تحريف وتعطيل. وأما أهل السنة والجماعة فقالوا: نثبت لله ما أثبته لنفسه وأثبته له رسوله، مع اعتقادهم أن ما يثبت لله لا يشبه ما يثبت لخلقه، لأنهم عرفوا كيفية المخلوق فعرفوا كيفية صفاته; والرب يتعالى ويتقدس عن أن يعلم أحد كيفية ذاته أو صفاته، ولهذا قال الإمام مالك، وقبله ربيعة، ويروى عن أم سلمة: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة. وأما قوله: إذا قلتم: إنهم في القول سواء، فما وجه تبديعهم؟ وتكفيرهم؟ وتضليلهم؟ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 354 فنقول: معاذ الله أن نقول: إنهم سواء، بل بينهم من الفرق، أبعد مما بين السماء والأرض، كما قال ابن القيم رحمه الله: والله ما استويا ولن يتلاقيا ... حتى تشيب مفارق الغربان ولا يقول: إن قول أهل السنة والجماعة كقول ابن عربي وأصحابه - أهل وحدة الوجود - إلا من يقول: إن قول موسى عليه السلام وقول فرعون اللعين سواء; وما عليه أبو جهل وإخوانه نظير ما عليه الرسول وأصحابه، سبحانك هذا بهتان عظيم. وأما قوله: ما وجه تبديعهم، وتكفيرهم؟ فنقول: قال الله تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} [سورة المائدة آية: 17] في موضعين، وقال تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} [سورة المائدة آية: 73] وقال تعالى: {وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [سورة آل عمران آية: 80] . فإذا كان الله قد كفّر من قال: إن الله هو المسيح ابن مريم، ومن قال: إن الله ثالث ثلاثة، ومن اتخذ الملائكة والنبيين أربابا; فكيف لا يكفر من جعل جميع الخلق أربابا، وقال: إن كل مخلوق هو الله، حتى يسجد للشمس، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 355 ويقول: إن المشركين إنما عبدوا الله، ويقول: إن المخلوقات التي يستحيا من ذكرها هي الله! يا لله العجب! ولقد أحسن من قال من السلف: إن كفر هؤلاء أغلظ من كفر اليهود والنصارى، وقد قال ابن القيم: رحمه الله تعالى: حاشا النصارى أن يكونوا مثلهم وهم الحمير، أئمة الكفران هم خصصوه بالمسيح، وأمه وأُلاءِ ما صانوه عن حيوان وأما الحديث الذي فيه: " أن الله لما خلق الخلق، قامت الرحم "1 إلخ، وقوله: " خلق الله آدم على صورته "2 فهذه الأحاديث ثابتة، ليس فيها - ولله الحمد - إشكال عند أهل السنة والجماعة; وقد قال: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} [سورة آل عمران آية: 7] . وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله، فاحذروهم "3. وقد كان السلف يكرهون كثرة البحث عن مثل هذا، ويقولون: آمنا بالله، وما جاء عن الله، على مراد الله; وآمنا برسول الله، وما جاء عن رسول الله، على مراد رسول الله; وقال الراسخون في العلم: {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [سورة آل عمران آية: 7] .   1 البخاري: تفسير القرآن (4832) والتوحيد (7502) , ومسلم: البر والصلة والآداب (2554) , وأحمد (2/330) . 2 البخاري: الاستئذان (6227) , ومسلم: الجنة وصفة نعيمها وأهلها (2841) , وأحمد (2/315 ,2/323) . 3 البخاري: تفسير القرآن (4547) , ومسلم: العلم (2665) , والترمذي: تفسير القرآن (2994) , وأبو داود: السنة (4598) , وأحمد (6/256) , والدارمي: المقدمة (145) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 356 فالنصوص الصريحة في إثبات صفات الرب، على ما يليق بجلاله وكماله، واستوائه على عرشه، وأنه فوق جميع مخلوقاته. ونفي النقائص والعيوب عنه وعن صفاته، معلومة مقررة، وما أشكل من بعضها على بعض الناس يكفيه الإيمان به، مع القطع بأنه لا يخالف ما ظهر له، ولا يناقضه؛ وليحذر طالب الحق من كتب أهل البدع، كالأشاعرة، والمعتزلة، ونحوهم، فإن فيها من التشكيك، والإيهام، ومخالفة نصوص الكتاب والسنة ما أخرج كثيرا من الناس عن الصراط المستقيم، نعوذ بالله من الخذلان. وأما هذا الذي ألقى هذه الشبهة إليكم، فيجب تعريفه، وإقامة الحجة عليه، بكلام الله تعالى وكلام رسوله، وكلام أئمة الدين; فإن اعترف بالحق وببطلان ما عليه أهل البدع من الاتحادية وغيرهم، فهو المطلوب، والحمد لله؛ وإن لم يفعل، وجب هجره ومفارقته، إن لم يتيسر قتله وإلقاؤه على مزبلة، لئلا يتأذى بنتن ريحه أهل الإسلام. وأما قوله: هل يفسر العجب بالرضى؟ جوابه: أن يقال: ما جاء إطلاقه على الرب سبحانه، من العجب، والرضى، والغضب، والسخط، ونحو ذلك، فما يتعلق بمشيئته وإرادته يجب إثباته على ما يليق بالله الجزء: 3 ¦ الصفحة: 357 تعالى، مع نفي التشبيه والتمثيل; وإبطال التحريف والتعطيل؛ وأهل البدع: قابلوا ذلك، بالتأويل، كما فعلوا بالأسماء والصفات؛ والباب باب واحد عند أهل السنة والجماعة، لا يحرفون ولا يشبهون، ولا يعطلون ولا يكيفون؛ فعليك بطريقهم، فإنها الصراط المستقيم الذي من سلكه فاز بالنعيم المقيم، ومن أعرض عنه فهو من أصحاب الجحيم. فهذا بعض ما حضرني في هذه المسألة، مع قلة العلم وعدم المساعد، وكثرة الاشتغال، والمحل يقتضي مجلدا أو أكثر، لشدة الحاجة، وظهور الجهل، وغربة السنة ومن يعرفها، والله المستعان. وليعلم الناظر إليه أن فيه مواضع قد يقال: إن فيها نوع تكرير، والحامل عليه: خفاء الحق، وقلة الاهتداء إلى الصواب، ونسأل الله لنا ولكم التوفيق، وصلى الله على محمد، وعلى آله وصحبه، وسلم تسليما كثيرا. [جواب الشيخ سعد بن حمد على قول السفاريني وليس ربنا بجوهر] سئل الشيخ: سعد بن حمد بن عتيق، رحمه الله تعالى، عن قول السفاريني: وليس ربنا بجوهر ولا جسم ولاعرض تعالى ذو العلا فأجاب: إطلاق لفظ الجوهر والعرض والجسم على الرب سبحانه وتعالى إثباتا أو نفيا ليس الجزء: 3 ¦ الصفحة: 358 من عبارات السلف الصالح المقتدى بهم، في باب أسماء الرب سبحانه وتعالى وصفاته، ومثل ذلك لفظ: الجهة والحيز، وغير ذلك من الألفاظ المجملة التي تحتمل حقا وباطلا، لا يوجد شيء من ذلك في كلام السلف الصالح؛ ومن نسب ذلك وما شابهه إلى السلف، فهو مخطئ في ذلك، لأن الطريقة المعلومة من السلف الصالح، والجادة المسلوكة المعتبرة عندهم في باب أسماء الرب تعالى وصفاته، أنهم لا يتكلمون في ذلك إلا بما تكلم الله به، أو تكلم به رسوله، كما قال الإمام أحمد رحمه الله: لا يوصف الله إلا بما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، لا يتجاوز القرآن والحديث. ولفظ: الجوهر، والعرض، والجسم، فيما يتعلق بذات الرب سبحانه وتعالى، وأسمائه، وصفاته، إثباتا أو نفيا، سجية مذمومة، وقد نص جماعة من أهل السنة على أن إطلاق مثل هذه الألفاظ في هذا الباب أمر مبتدع، وكلام مخترع، لا يجوز للمنتسب إلى السنة إطلاقه على الرب سبحانه وتعالى، إثباتا أو نفيا; ولا يجوز نسبته إلى السلف الصالح. ونحن نقتصر على ما وجدنا من كلام شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، ونذكره مختصرا، مقتصرين على المقصود منه، قال رحمه الله: وأما ما لا يوجد عن الله ورسوله، إثباته ونفيه، مثل: الجوهر، والجسم، والجهة، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 359 وغير ذلك، لا يثبتونه ولا ينفونه، فمن نفاه فهو عند أحمد والسلف مبتدع، ومن أثبته فهو عندهم مبتدع، والواجب عندهم السكوت عن هذا النوع، اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، هذا معنى كلام الإمام أحمد ... إلى أن قال: وأنا أذكر لك كلام الحنابلة في هذه المسألة. قال الشيخ تقي الدين، بعد كلام له في الرد على من قال: إنه ليس بجسم، ولا جوهر، ولا عرض، قال رحمه الله: فهذه الألفاظ، لا يطلق إثباتها ولا نفيها، كلفظ الجوهر، والجسم، والحيز، ونحو ذلك من الألفاظ ... إلى أن قال - شيخ الإسلام: والمقصود أن الأئمة كأحمد وغيره، ذكر لهم أهل البدع الألفاظ المجملة، كلفظ: الجسم، والجوهر، والحيز، ولم يوافقوهم لا على إطلاق الإثبات، ولا على إطلاق النفي. انتهى كلام الشيخ تقي الدين. وهذا آخر ما نقلنا من رسالة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، ومن كلام أبي الوفا ابن عقيل، قال: وأنا أقطع أن أبا بكر وعمر ماتا ما عرفا الجوهر والعرض. انتهى. وفي هذا كفاية لمن أراد الله هدايته، والله أعلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 360 [رسالة الشيخ سليمان بن سحمان لعلي بن عيسى] قال الشيخ: سليمان بن سحمان، رحمه الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم. من سليمان بن سحمان، إلى الشيخ: علي بن عبد الله بن عيسى، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد: فقد وقفت على الورقة التي كتبتها في الاعتراض على ما نظمته في الرد على دحلان، إمام الكفر والطغيان، وسنح لي أولا: أن اعتراضك على النظم، من جهة أنه لا يجوز التعبير عن كلام الله عز وجل بأنه صفة قول; فسألتك عن وجه الاعتراض، ما هو؟ مع أنه ورد ذلك في نصوص الكتاب والسنة، وأقوال سلف الأمة، وأئمتها، فأجبتني بهذا الجواب، فعلمت أنك لم تتصور كلامي على ما هو عليه، وما أردته به، وما قصدته بالرد على أعداء الله ورسوله، فبادرت بالاعتراض قبل أن تسأل عن المراد، وقبل تأمل موضوع الكلام، وما هكذا يا سعد تورد الإبل. بل الواجب أولا: تأمل ما يراد من الكلام وموضوعه; وثانيا: سؤال أخيك عن وجه ما أشكل عليك من كلامه، وما أراد به، فإن كان حقا صوابا أثنيت به عليه، وإن كان خطأ أرشدته إلى الحق ودللته عليه، فإن الحق ضالة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 361 المؤمن، أينما وجده أخذه، وليس في الرجوع إلى الحق غضاضة على مريد الحق والإنصاف; وهذا نص كلامي، لتعلم أنك ما فهمت مرامي، فقلت على ما أورده من جواز التوسل بحق الأنبياء والأولياء والسؤال بهم، لما استدل على جواز ذلك، بحديث أبي سعيد، بقوله: " اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك، وبحق ممشاي هذا "1 الحديث. فمعناه إن صح الحديث فإنه ... على غير ما قد لاح في وهم ذي اللد فحق العباد السائلين إذا دعوا ... بغير اعتداء باذلي الجد والجهد إجابتهم منّا وفضلا ورحمة ... وجودا وإحسانا من المنعم المسدي وحق المشاة الطائفين لربهم ... إثابتهم والله ذو الفضل والمد إذا صح هذا فالتوسل لم يكن ... بغير صفات الله يا فاقد الرشد هما صفتا قول وفعل لربنا ... فسبحانه من ماجد واحد فرد ولم يك من باب التوسل بالورى ... كما قلته يا فاسد الرأي والقصد وطاعته سبحانه وسؤاله ... هما سببا تحصيل ذلك للعبد إجابته للسائلين وكونه ... يثيب المشاة الطائعين ذوي الرشد فلم يبق في نص الحديث دلالة ... تدل على ما قال من رأيه المردي ومرادي بهذا الكلام: إبطال ما استدل به، على جواز التوسل بحق الأنبياء والأولياء، والسؤال بهم، وذلك أن موضوع الكلام فيه، وفي جوازه، وليس الكلام معه في تقرير إثبات الصفات، أو تقسيمها إلى قولية وفعلية، وذكر ما يقابل الفعلية، من الصفات الذاتية اللازمة، كالحياة، والعلم، والسمع، والبصر، ونحو ذلك; ولا بيان صفات الأفعال   1 ابن ماجه: المساجد والجماعات (778) , وأحمد (3/21) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 362 الاختيارية المتعلقة بالمشيئة والقدرة، فإن ذلك كله ليس من موضوع الكلام، ولا له ذكر في كلام الملحد، حتى أذكر ذلك، أو ما يرد علي مما يلزمني به الخصم، وليس فيه ذكر أقوال أهل البدع والأهواء، المخالفة لما عليه أهل السنة والجماعة، كالاتحادية، والكلابية، والأشعرية، والكرامية، وغيرهم، فإن في ذكر ذلك إذ كان، لم يكن من مقصودنا خروجا عن المقصود، ينافي مطابقة الكلام الواقع لمقتضى الحال. وأما ما سنح لك من الاعتراض، مما هو خارج عن موضوع الكلام، من أني جعلت صفات الباري - جل ثناؤه - قسمين: فعلية، وقولية; وأنه يلزمني على ذلك أن تكون الصفة القولية مغايرة للصفات الفعلية، قسيمة لها، مباينة لها، فهذا لم يخطر مني على بال، ولا قصدت ذلك، ولا أردته بكلامي، كما تقدم بيان ذلك، وإنما نظمت ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله، على حديث أبي سعيد، وقد ذكرته لك، فأعرضت عنه، وعن مقتضى كلامه. وهذا نص كلامه، ليتبين لك أني لم أقل من عندي شيئا، يناقض كلام شيخ الإسلام، أو يخالفه، قال رحمه الله: وأما قوله في حديث أبي سعيد " أسألك بحق السائلين عليك، وبحق ممشاي هذا "1 فهذا الحديث رواه عطية العوفي، وفيه ضعف، لكن بتقدير ثبوته هو من هذا الباب، فحق السائلين عليه سبحانه أن يجيبهم; وحق المطيعين له أن   1 ابن ماجه: المساجد والجماعات (778) , وأحمد (3/21) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 363 يثيبهم، فالسؤال له والطاعة له سبب لحصول إجابته وإثابته، فهو من التوسل به، والتوجه به، والتسبب به، ولو قدر أنه قسم، لكان قسما بما هو من صفاته، فإن إجابته وإثابته، من أفعاله وأقواله، فصار هذا: كقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك "1 إلخ كلامه رحمه الله. فتأمل رحمك الله قولي: وهما صفتا فعل وقول لربنا; هل بينه، وبين قول شيخ الإسلام - ولو قدر أنه قسم، لكان قسما بما هو من صفاته، فإن إجابته، وإثابته، من أقواله، وأفعاله - فرق؟ وأن هاتين الصفتين: ليستا من أقواله وأفعاله، بل يقال: إنها صفة واحدة، فبينه لي، فإن كان الواو من قولي: هما صفتا قول وفعل، يقتضي المغايرة، وأنها بذلك تكون قسيمة لها مباينة، فما وجه كلام شيخ الإسلام؟ ! وقد قال ذلك، كما هو في كلام غيره من أئمة الإسلام. فتبين أني لم أقل من عند نفسي شيئا اخترعته، أو قولا افترعته، حتى يعترض علي، بأني جعلتها قسيمة لها؛ وإذا تبين هذا وعرف، فليس هذا المبحث من موضوع كلامي، وإنما موضوعه في إبطال دعوى من ادعى أنه يجوز التوسل بحق الأنبياء والأولياء، والسؤال بهم; فإن شيخ الإسلام ذكر أنه لا يعرف قائلا بذلك، ولا يجوز القسم   1 مسلم: الصلاة (486) , والترمذي: الدعوات (3493) , والنسائي: التطبيق (1100 ,1130) والاستعاذة (5534) , وأبو داود: الصلاة (879) , وابن ماجه: الدعاء (3841) , وأحمد (6/58) , ومالك: النداء للصلاة (497) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 364 بنبينا صلى الله عليه وسلم إلا ما يذكر عن العز بن عبد السلام، على تقدير صحة الحديث وثبوته، ولا يصح، فأما ما كان قسما بما هو من صفاته، فلا محذور فيه، ولا مانع من ذلك; فأين هذا من هذا، لو كان هناك تصور لما يراد من الكلام؟ ! وأما ما ذكرته من كلام ابن القيم رحمه الله، وأن الإمام أحمد جعل كلام الله صفات فعل، قائم بالذات، فهو الحق الذي لا مرية فيه، لكن لا ينافي ذلك أن يوصف الله تعالى بهاتين الصفتين معا، كما ذكر ذلك ابن القيم بعد هذا، بنحو من ثمانية وعشرين سطرا، حيث قال: والله عاب المشركين بأنهم ... عبدوا الحجارة في رضى الشيطان ونعى عليهم كونها ليست بخا ... لقة وليست ذات نطق بيان فأبان أن الفعل والتكليم من ... أوثانهم لا شك مفقودان وإذا هما فقدا فما مسلوبها ... بإله حق وهو ذو بطلان والله فهو إله حق دائما ... أفعنه ذا الوصفان مسلوبان إلى أن قال: وكذاك أيضا لم يزل متكلما ... بل فاعلا ما شاء ذو الإحسان فذكر رحمه الله أن الفعل والتكليم من أوثانهم مفقودان، وأنهما وصفان للإله الحق، غير مسلوبان عنه، فتأمله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 365 [رسالة سليمان بن سمحان إلى عبد العزيز العلجي] وله أيضا رحمه الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم من سليمان بن سحمان، إلى عبد العزيز العلجي، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد: فقد بلغني أنك استدركت علي فيما تزعم، كلمات في أبيات، وذلك في قولي: على السيد المعصوم والآل كلهم وأصحابه مع تابعي نهجهم بعد فزعمت أنا ننكر ونشدد على من قال: سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وأن هذا مذهبنا، أهل نجد، وهذا كذب وافتراء علينا، ما أنكر ذلك منا أحد، ولا كان ذلك مذهبنا، بل إنما ينقل ذلك عن إمام مذهبك: مالك رحمه الله، فإن كان ذلك خطأ وعيبا، فعلى إمامك، وعلى نفسها تجني براقش. وأما نحن: فلا ننكر ذلك، لقوله صلى الله عليه وسلم " أنا سيد ولد آدم ولا فخر "1، وقوله: " إن ابني هذا سيد "2، وقوله للأنصار: " قوموا إلى سيدكم " 3، وقوله: "من سيدكم يا بني سلمة فقالوا له: الجد بن قيس، على أنا نبخله فينا، ثم قال صلى الله عليه وسلم بل سيدكم عمرو بن الجموح"؛ إذا فهمت هذا، فمن أين لك أنا ننكر ذلك ونشدد فيه؟ ومن حدثك بهذا؟ أو نقل عنا؟ وفي أي كتاب وجدت ذلك؟ وقد كان لي عدة رسائل ومناظيم، وكل ذلك قد ذكرته فيها، فإذا تحققت هذا، وعلمت أن هذا   1 الترمذي: تفسير القرآن (3148) , وابن ماجه: الزهد (4308) . 2 البخاري: الصلح (2704) , والترمذي: المناقب (3773) , والنسائي: الجمعة (1410) , وأبو داود: السنة (4662) , وأحمد (5/37 ,5/44 ,5/51) . 3 البخاري: الجهاد والسير (3043) , ومسلم: الجهاد والسير (1768) , وأبو داود: الأدب (5215) , وأحمد (3/22 ,3/71) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 366 من سوء فهمك، واختلاج وهمك، وقصور باعك، وعدم اطلاعك، فاعلم: أن العلماء قد اختلفوا في ذلك. قال العلامة ابن القيم في بدائع الفوائد: اختلف الناس في جواز إطلاق السيد على البشر، فمنعه قوم، ونقل عن مالك، واحتجوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم لما قيل له: يا سيدنا، قال: " السيد الله تبارك وتعالى "1، وجوزه قوم، واحتجوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: " قوموا إلى سيدكم "2، وهذا أصح من الحديث الأول; قال هؤلاء: السيد أحد ما يضاف إليه; فلا يقال للتميمي: سيد كنده، ولا يقال للملك: سيد البشر; قال: وعلى هذا، فلا يجوز أن يطلق على الله هذا الاسم، وفي هذا نظر، فإن السيد، إذا أطلق عليه تعالى، فهو في منْزلة المالك، والمولى، والرب; لا بمعنى الذي يطلق على المخلوق. انتهى. وفي هذه المسألة بحث، ليس هذا موضع ذكره، إذ الغرض من ذكر هذا، نفي ما نسبه إلينا من لا معرفة له بحقيقة ما لدينا، وليس عندهم إلا الظن {وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً} [سورة النجم آية: 28] بل الذي ينبغي أن ينكر، وأن ينشر: خزي قائله في الخافقين، ويذكر قول القائل منكم: ومذهبنا: تفويض آي صفاته وتحريمنا ما ثم أن نتكلما وغير ذلك من الأوهام، مما قد نبهنا عليه في الجواب، ومذهب أهل التفويض، من أشر المذاهب، وأخبثها، كما ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله، لأن مذهب   1 أبو داود: الأدب (4806) . 2 البخاري: الجهاد والسير (3043) , ومسلم: الجهاد والسير (1768) , وأبو داود: الأدب (5215) , وأحمد (3/22 ,3/71) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 367 هؤلاء يتضمن تجهيل الرسول، وأنه لا يعلم معاني ما أنزل الله عليه، من ذكر أسمائه، وصفاته، ونعوت جلاله؛ وحقيقة ما يقوله هؤلاء: يا معشر العباد، لا تطلبوا معرفة الله، ولا ما يستحقه من الصفات، نفيا وإثباتا، لا من الكتاب ولا من السنة، ولا من طريق سلف الأمة، ولكن انظروا أنتم فيما وجدتموه مستحقا له من الصفات فصفوه به، سواء كان موجودا في الكتاب والسنة، أو لم يكن، وما لم تجدوه مستحقا له في عقولكم فلا تصفوه به. ثم هم هنا فريقان: أكثرهم يقول: ما لم تثبته عقولكم فانفوه; ومنهم من يقول: بل توقفوا فيه، وما نفاه قياس عقولكم، الذي أنتم فيه مختلفون، ومضطربون اختلافا أكثر من جميع اختلاف على وجه الأرض، فانفوه، وإليه عند التنازع فارجعوا، فإنه الحق الذي تعبدتم به، وما كان مذكورا في الكتاب والسنة مما يخالف قياسكم هذا، ويثبت ما لم تدركه عقولكم، على طريقة أكثرهم، فاعلموا أنما امتحنتم بتنْزيله، لا لتأخذوا الهدى منه، لكن اجتهدوا في تخريجه على شواذ اللغة، ووحشي الألفاظ، وغرائب الكلام، أو أن تسكتوا عنه مفوضين علمه. هذا حقيقة الأمر على رأي المتكلمين الذين كثر في باب معرفة الله اضطرابهم، وغلظ عن معرفة الله حجابهم، وإلا فقد كان من المعلوم أنه لم ينقل عن أحد من سلف الأمة، ولا من الأئمة، لا أحمد بن حنبل ولا غيره، أنه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 368 أدخل أسماء الله وصفاته أو بعض ذلك في المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلا الله، أو اعتقد أن ذلك هو المتشابه الذي استأثر الله بعلم تأويله، ولا نفى أحد منهم أن يعلم أحد معناه، ولا جعل أسماء الله وصفاته بمنْزلة الكلام الأعجمي الذي لا يفهم، ولا قالوا: إن الله ينْزل كلاما لا يفهم أحد معناه، وإنما قالوا: كلمات لها معان صحيحة. قالوا في أحاديث الصفات: تمر كما جاءت، ونهوا عن تأويلات الجهمية وردوها وأبطلوها، التي مضمونها: تعطيل النصوص عما دلت عليه. ونصوص أحمد والأئمة قبله، بينة في أنهم كانوا يبطلون تأويلات الجهمية، ويقرون النصوص على ما دلت عليه من معناها، ويفهمون منها بعض ما دلت عليه، كما يفهمون ذلك في سائر نصوص الوعد، والوعيد، والفضائل، وغير ذلك; وأحمد قد قال في غير أحاديث الصفات: تمر كما جاءت في أحاديث الوعيد، مثل قوله: " من غشنا فليس منا "1، وأحاديث الفضائل، ومقصودهم في ذلك: أن الحديث لا يحرف كلمه عن مواضعه، كما يفعله من يحرفه، ويسمي تحريفه تأويلا بالعرف المتأخر. وعلى هذا فما بقي للتفويض معنى يصار إليه، على قول الناظم إلا تعطيل النصوص عما دلت عليه من المعاني اللائقة بجلال الله وعظمته، لأن ذلك عنده من المتشابه، أو   1 ابن ماجه: التجارات (2225) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 369 مما استأثر الله بعلم تأويله، فهذا الذي ينبغي أن يعترض على صاحبه ويزجر، وينشر خطؤه في العالمين ويذكر; والله يقول الحق وهو يهدي السبيل، وحسبنا الله ونعم الوكيل، وصلى الله على محمد. جواب أبيات، أرسل بها التلمساني وله أيضا: جواب أبيات أرسل بها التلمساني، وقد أجاب عنها شيخ الإسلام بنثر، ولكن أراد المشاركة مع علماء أهل السنة، فقال: يا طالبا مني جوابا ... يشفي عليلا قد دهاه الفاتن إن الجواب عن السؤال محرر ... ومقرر وهو الجواب الضامن وهو الصواب فرد معينا صافيا ... ما ماؤه نزر ولا هو آسن قد قاله حبر إمام عالم ... بحر خضم زاخر لا آجن أعني تقي الدين من يكنى أبا الـ ... عباس من في الدين ليس يداهن فخذ الجواب مفصلا عن قوله ... وجوابه والحق منه بائن لكنما قول النفاة مخالف ... للحق حقا فهو قول واهن والحق حتما أنه سبحانه ... عن كل مخلوق تعالى بائن من فوق عرش فوق سبع قد علا ... هذا هو الحق الصواب الكائن هو أول هو آخر سبحانه ... هو ظاهر سبحانه هو باطن ما فوق عرش فوق سبع خالق ... غير الإله الحق يا ذا الفاتن إن الجهات جميعها عدمية ... في حقه والله عنها بائن1   1 مراده -رحمه الله- الجهات الوجودية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 370 ما ثم غير الله موجود ولا ... رب سواه معاون أو كائن لكن نفاة صفاته وعلوه ... في كل أمر باطل قد شاحنوا ويقدرون لوازما هي كلها ... ما قالها في الله إلا مائن كالجسم والأحياز والجهة التي ... ينفونها ذاك الفريق الفاتن ألفاظها بدعية يعنى بها ... معنى صحيح وهو فيها كامن إذ أوهمونا أنما مقصودهم ... بالنفي عنها أنه لا ساكن أو تحصر الخلاق مخلوقاته ... بل لا تحيط به وفيها قاطن كلا ولا تحويه فيما أظهروا ... للناس تنْزيها وهذا البائن لكنهم قد أبطنوا معنى سوى ... ما أظهروا والقصد منهم واهن أن ليس فوق العرش رب قد علا ... بالذات فوق الخلق عنهم بائن بل ليس تعرج نحوه أملاكه ... والروح لم يعرج ولا ذا كائن والمصطفى المعصوم لم يعرج به ... نحو السماء كما يقول المائن كلا ولا كلم إليه صاعد ... حقا وما منهم بهذا دائن والرب لم ينْزل وما هو نازل ... فيما لديهم وهو أمر واهن فالقول بالتجسيم أمر محدث ... كالقول في جهة وفيها ساكن وكذا التحيز والحدود فإنها ... ليست لها في الشرع أصل كائن كالقول بالأعراض والأغراض ... والأبعاض في ذا كله قد باينوا أهل الهدى والدين في أديانهم ... في الله مما قد نماه الآفن لسنا نقول بنفيها حتما ولا ... إثباتها فالشر فيها كامن والحق قد يعنى بها أيضا فما ... ندري بما يعني المهين الفاتن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 371 لكننا إن قال هذا قائل ... واضطرنا عنه الجواب الصائن للحق عما قيل باستفسارهم ... عن قصدهم حتى يبين الباطن إن فسروا معنى صحيحا واضحا ... قلنا لهم هذاك حق كائن واللفظ والإطلاق بدعي ولا ... نرضى بما قال الجهول الماجن أو فسروا معنى خبيثا واهيا ... في ضمنه التعطيل حقا كامن قلنا لهم هذاك أمر سيئ ... إنكاره الحق المبين البائن والكفر لا ندعوا به من قالها ... بدءا وجهلا حين يدهى المائن إلا إذا قامت عليه حجة ... فالكفر والتعطيل منه كائن هذا الذي أدى إليه علمنا ... وبه لذي العرش المهيمن دائن والقول بالتفصيل فيما قاله ... شيخ الهدى والحق منه بائن فانظر إلى تبيينه ما موهوا ... من قيلهم والكل منهم آفن حتى اغتدى نهج الهدى كالشمس لا ... يخفيه قول من مريب شائن فاشكر له في رده أقوالهم ... لما نفاها وارتضاها الماجن بالعلم والتحقيق لا ما قاله ... أضداده والكل منهم مائن هم في طريق بالدعاوى والهوى ... والحق والتحقيق عنهم ظاعن والقوم بالتضليل دأبا دائما ... ذا شأنهم والكل منهم طاعن والحمد لله الذي ما زاغنا ... عن منهح فيه المجاري آمن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 372 [رسالة الشيخ سليمان بن سحمان للشيخ عبد الله بن عبد العزيز العنقري] وكتب الشيخ: سليمان بن سحمان، للشيخ: عبد الله بن عبد العزيز العنقري: بسم الله الرحمن الرحيم اعلم: أنه جرى بيننا البحث فيما ذكره ابن القيم في سفر الهجرتين على قوله صلى الله عليه وسلم: "اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء "1 قال: فقوله صلى الله عليه وسلم الظاهر الذي ليس فوقه شيء، والباطن الذي ليس دونه شيء، يدلان العبد على معرفة إحاطة الرب سبحانه بالعالم، وعظمته، وأن العوالم كلها في قبضته، وأن السماوات السبع والأرضين السبع في يده كخردلة في يد العبد، قال تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ} [سورة الإسراء آية: 60] ، وقال: {وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ} [سورة البروج آية: 20] ، ولهذا يقرن سبحانه بين هذين الاسمين، الدالين على هذين المعنيين، اسم العلو الدال على أنه الظاهر، وأنه لا شيء فوقه، واسم العظمة الدال على الإحاطة، وأنه لا شيء دونه، كما قال تعالى: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سورة آية: 23] ، وقال: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [سورة البقرة آية: 115] . وهو تبارك وتعالى، كما أنه العالي على خلقه بذاته   1 مسلم: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2713) , والترمذي: الدعوات (3400) , وأبو داود: الأدب (5051) , وابن ماجه: الدعاء (3831) , وأحمد (2/381 ,2/536) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 373 فليس فوقه شيء، فهو الباطن بذاته فليس دونه شيء، بل ظهر على كل شيء فكان فوقه، وبطن فكان أقرب إلى كل شيء من نفسه، وهو محيط به حيث لا يحيط الشيء بنفسه، وكل شيء في قبضته، وليس في قبضة نفسه، فهذا قرب الإحاطة العامة. انتهى. وقد ذكرت لي أني إذا ظفرت بشيء يبين حقيقة ما ذكره الشيخ، ويوضحه، أني أذكر لك ذلك، فاعلم: أني تأملت كلامه، ووضح لي مقصوده ومرامه، ورأيت ما يوضح ذلك في كتابه الصواعق المرسلة في بحث الإحاطة، وأحببت أن أكتب إليك بذلك. قوله: " الظاهر الذي ليس فوقه شيء، والباطن الذي ليس دونه شيء " يدلان العبد على معرفة إحاطة الرب سبحانه بالعالم وعظمته، وأن العوالم كلها في قبضته، وأن السماوات السبع والأرضين السبع في يده كخردلة في يد العبد، فإذا كان من المعلوم بالضرورة من دين الإسلام وضرورة العقل أنه الأول بذاته قبل كل شيء، وأنه الآخر بذاته بعد كل شيء، والظاهر بذاته فوق كل شيء، فكذلك هو الباطن بذاته دون كل شيء، ولا نفرق بين أسمائه بآرائنا القاصرة وأفهامنا الباردة، لأنه لم يقل في الحديث: والباطن الذي هو تحت كل شيء، لأن ذلك ينافي قوله: "والظاهر الذي ليس فوقه شيء "1، بل قال: " والباطن الذي ليس دونه شيء "2 لأنه لا تواري منه سماء سماء، ولا أرض أرضا، ولا   1 صحيح البخاري: كتاب الزكاة (1476) وكتاب أحاديث الأنبياء (3364) وكتاب الذبائح والصيد (5478 ,5488 ,5496) وكتاب الأدب (6099) وكتاب التمني (7228) , وصحيح مسلم: كتاب الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان (1930) وكتاب الفضائل (2354) وكتاب التوبة (2762) , وسنن الترمذي: كتاب الزكاة (669) وكتاب الحج (858) وكتاب فضائل الجهاد (1669) وكتاب البر والصلة (1988) وكتاب الأدب (2840) وكتاب فضائل القرآن (2913) وكتاب تفسير القرآن (3364) وكتاب الدعوات (3370 ,3455) , وسنن النسائي: كتاب الصيد والذبائح (4266) وكتاب الاستعاذة (5491) , وسنن أبي داود: كتاب الصيد (2849 ,2855) وكتاب الأشربة (3730) , وسنن ابن ماجه: كتاب الصيد (3207) وكتاب الدعاء (3829) وكتاب الزهد (4266) , ومسند أحمد (1/160 ,1/217 ,1/223 ,1/225 ,1/332 ,2/260 ,2/362 ,2/457 ,3/6 ,3/310 ,3/470 ,4/80 ,4/84 ,4/193 ,4/195 ,5/367 ,6/351 ,6/448) , وموطأ مالك: كتاب الجامع (1775) , وسنن الدارمي: كتاب الزكاة (1615) وكتاب الرقاق (2775) وكتاب فضائل القرآن (3306 ,3307) . 2 صحيح البخاري: كتاب الأذان (806) وكتاب الزكاة (1476) وكتاب أحاديث الأنبياء (3364) وكتاب الذبائح والصيد (5478 ,5488 ,5496) وكتاب الأدب (6099) وكتاب الرقاق (6574) وكتاب التمني (7228) , وصحيح مسلم: كتاب الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان (1930) وكتاب الفضائل (2354) وكتاب التوبة (2762) , وسنن الترمذي: كتاب الزكاة (669) وكتاب الحج (858) وكتاب فضائل الجهاد (1669) وكتاب البر والصلة (1988) وكتاب الأدب (2840) وكتاب فضائل القرآن (2913) وكتاب تفسير القرآن (3364) وكتاب الدعوات (3370 ,3455) , وسنن النسائي: كتاب الصيد والذبائح (4266) وكتاب الاستعاذة (5491) , وسنن أبي داود: كتاب الصيد (2849 ,2855) وكتاب الأشربة (3730) , وسنن ابن ماجه: كتاب الصيد (3207) وكتاب الدعاء (3829) وكتاب الزهد (4266) , ومسند أحمد (1/160 ,1/217 ,1/223 ,1/225 ,1/332 ,2/260 ,2/275 ,2/333 ,2/362 ,2/457 ,2/533 ,3/6 ,3/16 ,3/310 ,3/470 ,4/80 ,4/84 ,4/193 ,4/195 ,5/367 ,6/351 ,6/448) , وموطأ مالك: كتاب الجامع (1775) , وسنن الدارمي: كتاب الزكاة (1615) وكتاب الرقاق (2775 ,2801) وكتاب فضائل القرآن (3306 ,3307) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 374 يحجب عنه ظاهر باطنا، بل الباطن له ظاهر، والغيب عنده شهادة، والبعيد منه قريب، والسر عنده علانية. وقد بين رحمه الله معنى البطون بقوله: وبطن فكان أقرب إلى كل شيء من نفسه، وهو محيط به حيث لا يحيط الشيء بنفسه، وكل شيء في قبضته، وليس في قبضة نفسه; فهذا قرب الإحاطة العامة; فبين رحمه الله معنى قوله: " وأنت الباطن فليس دونك شيء "1 بقوله: وبطن فكان أقرب إلى كل شيء من نفسه، وهو محيط به، حيث لا يحيط الشيء بنفسه، وكل شيء في قبضته، وليس في قبضة نفسه، يوضح ذلك، قوله: وأن العوالم كلها في قبضته، وأن السماوات السبع والأرضين السبع في يده، كخردلة في يد العبد، فكانت جميع العوالم والسماوات والأرض في قبضته كخردلة في يد العبد. وقال الشيخ عبد الله بن عبد العزيز العنقري، وفقه الله: قال شيخ الإسلام في المنهاج في رده على الرازي، وكذلك إذا تكلم في المطر - يعني: الرازي - يذكر قول أولئك الذين يجعلونه حاصلا عن مجرد البخار المتصاعد، والمنعقد في الجو; وقول من يقول: إنه أحدثه الفاعل المختار بلا سبب، ويذكر قول من يقول: إنه نزل من الأفلاك، وقد يرجح هذا القول في تفسيره، ويجزم بفساده في موضع آخر، وهذا القول، لم يقله أحد من الصحابة ولا   1 مسلم: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2713) , والترمذي: الدعوات (3400 ,3481) , وأبو داود: الأدب (5051) , وابن ماجه: الدعاء (3831) , وأحمد (2/381 ,2/404 ,2/536) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 375 التابعين لهم بإحسان، ولا أئمة المسلمين، بل سائر أهل العلم من المسلمين من السلف والخلف يقولون: إن المطر نزل من السماء. ولفظ السماء في اللغة والقرآن، اسم: لكل ما علا، فهو: اسم جنس للعالي، لا يتعين في شيء إلا بما يضاف إلى ذلك، وقد قال: {فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ} [سورة الحج آية: 15] ، وقال: {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} [سورة الرعد آية: 17] وقال: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [سورة الملك آية: 16] والمراد بالجميع: العلو، ثم يتعين هنا بالسقف ونحوه، وهناك: بالسحاب; وهناك: بما فوق العالم كله، فقوله: {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ} [سورة الرعد آية: 17] أي: من العلو، مع قطع النظر عن جسم معين، لكن قد صرح في مواضع أخر، بنُزوله من السحاب، كما في قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ} [سورة الواقعة آية: 68-69] ، والمزن: السحاب، وقال: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً} [سورة النور آية: 43] الآية، والودق: المطر، وقال: {اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً} [سورة الروم آية: 48] إلى قوله: {فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ} [سورة آية: 43] . فأخبر سبحانه أنه يبسط السحاب في السماء، وهذا مما يبين أنه لم يرد بالسماء هنا الأفلاك، فإن السحاب لا يبسط في الأفلاك، بل الناس يشاهدون السحاب يبسط في الجو، وقد يكون الرجل في موضع عال، إما على جبل، أو الجزء: 3 ¦ الصفحة: 376 على غيره; والسحاب يبسط أسفل منه، وينْزل منه المطر، والشمس فوقه ... إلى أن قال: وكذلك المطر، معروف عند السلف والخلف، أن الله تبارك وتعالى يخلقه من الهواء، ومن البخار المتصاعد، لكن خلقه للمطر من هذا، كخلق الإنسان من نطفة، وخلقه للشجر والزرع من الحب والنوى، فهذا معرفته بالمادة التي خلق منها. ونفس المادة لا توجب ما خلق منها، باتفاق العقلاء; بل لا بد من ما به يخلق تلك الصورة على ذلك الوجه; وهذا هو الدليل على القادر المختار الحكيم ... إلى أن قال: على قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ} [سورة السجدة آية: 27] فهذه الآية يستدل بها على علم الخالق، وقدرته، ومشيئته، وحكمته، وإثبات المادة التي خلق منها المطر، والشجر، والإنسان، والحيوان، مما يدل على حكمته، ونحن لا نعرف شيئا قط خلق إلا من مادة، ولا أخبر الله في كتابه بمخلوق، إلا من مادة. انتهى كلامه. قال في الصواعق: الوجه الثامن: أن الله سبحانه ذكر الإنزال على ثلاث درجات: إنزال مطلق، كقوله: {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ} فأطلق الإنزال، ولم يذكر مبدأه، وقوله: {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} [سورة الزمر آية: 6] الثانية: الإنزال من السماء، كقوله: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً} [سورة الفرقان آية: 48] الثالثة: إنزال منه سبحانه، كقوله: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [سورة الزمر آية: 1] . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 377 وقوله: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ} [سورة النحل آية: 102] الآية، وقال: {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} [سورة الأنعام آية: 114] . فأخبر: أن القرآن منزل منه، والمطر نزل من السماء، والحديد والأنعام، منزلان نزولا مطلقا، وبهذا يظهر تلبيس المعطلة، والجهمية، والمعتزلة، حيث قالوا: إن كون القرآن منزلا، لا يمنع أن يكون مخلوقا، كالماء، والحديد، والأنعام، حتى غلا بعضهم، فاحتج على كونه مخلوقا بكونه منزلا، وقال: الإنزال بمعنى الخلق، وجوابه: أن الله سبحانه فرق بين النّزول منه، والنّزول من السماء، فجعل القرآن منزلا منه، والمطر منزلا من السماء، وحكم المجرور بمن في هذا الباب حكم المضاف. والمضاف إليه سبحانه نوعان: أحدهما: أعيان قائمة بأنفسها، كبيت الله، وناقة الله، وروح الله، وعبده، فهذا إضافة مخلوق إلى خالقه، وهي إضافة اختصاص وتشريف، الثاني: إضافة صفة إلى موصوفها، كسمعه، وبصره، وحياته، وعلمه، وقدرته، وكلامه، ووجهه، ويده ... إلخ. وإنما أطلنا النقل، لأنك قد تفهم منه شيئا لم يظهر لنا. وراجعنا حاشية على المصابيح قوله: "حديث عهد بربه" أي: قريب العهد من عند ربه، لم يخالطه ما يغسل به الأيدي الظالمة، والأكف العادية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 378 وقال في الهدى، بعد قوله: " هذا حديث عهد بربه "1 قال الشافعي: أخبرني من لا أتهم عن يزيد بن الهاد، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سال السيل، قال: " اخرجوا بنا إلى هذا الذي جعله الله طهورا، فنتطهر منه، ونحمد الله عليه " وأخبرنا من لا أتهم، عن إسحاق بن عبد الله: "أن عمر كان إذا سال السيل، ذهب بأصحابه إليه، وقال: ما كان ليجيء من مجيئه أحد، إلا تمسحنا به". انتهى من هديه صلى الله عليه وسلم في الاستسقاء. والذي نفهم: أن الإنزال، والخلق، من صفات الأفعال من غير إشكال، فإن كان مقصود النووي: تأويل صفات الأفعال، فلا شك في بطلانه، وإن كان مقصوده: بيان أن المطر جديد الخلق، مع قطع النظر عن التعرض لصفات الرب، فلم يظهر لنا في ذلك منع; والذي فهمنا من كلامكم: أن النووي متعرض لتأويل صفات الأفعال، وهذا لا شك في بطلانه; وصلى الله على محمد، وآله وصحبه وسلم. تم الجزء الثالث ويليه الجزء الرابع: كتاب العبادات   1 مسلم: صلاة الاستسقاء (898) , وأبو داود: الأدب (5100) , وأحمد (3/133 ,3/267) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 379 المجلد الرابع: (القسم الأول من كتاب العبادات) * فصل: في أصول مأخذهم ... فصل في أصول مأخذهم أربع قواعد من قواعد الدين التي تدور الأحكام عليها قال شيح الإسلام: محمد بن عبد الوهاب، قدس الله روحه، ونور ضريحه: هذه أربع قواعد، من قواعد الدين، التي تدور الأحكام عليها، وهي: من أعظم ما أنعم الله به على محمد صلى الله عليه وسلم وأمته، حيث جعل دينهم ديناً كاملاً وافياً، أكمل وأكثر علماً من جميع الأديان؛ ومع ذلك، جمعه لهم في لفظ قليل، وهذا مما ينبغي التفطن له، قبل معرفة القواعد الأربع، وهو أن تعلم قول النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر ما خصه الله به على الرسل، يريد منا أن نعرف منة الله علينا، ونشكرها. قال لما ذكر الخصائص: " وأُعطيت جوامع الكلم " 1، قال إمام الحجاز، محمد بن شهاب الزهري: معناه: أن يجمع الله له المسائل الكثيرة، في الألفاظ القليلة. القاعدة الأولى: تحريم القول على الله بلا علم، لقوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} إلى قوله: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [سورة الأعراف آية: 33] .   1 البخاري: الجهاد والسير (2977) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (523) , والنسائي: الجهاد (3087, 3089) , وأحمد (2/264, 2/268, 2/314) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 5 القاعدة الثانية: أن كل شيء سكت عنه الشارع، فهو عفو، لا يحل لأحد أن يحرمه، أو يوجبه، أو يستحبه، أو يكرهه، لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا} [سورة المائدة آية: 101] . وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " وسكت عن أشياء رحمة لكم غير نسيان، فلا تبحثوا عنها ". القاعدة الثالثة: أن ترك الدليل الواضح، والاستدلال بلفظ متشابه، هو طريق أهل الزيغ، كالرافضة والخوارج، قال الله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} [سورة آل عمران آية: 7] . والواجب على المسلم: اتباع المحكم؛ فإن عرف معنى المتشابه، وجده لا يخالف المحكم بل يوافقه، وإلا فالواجب عليه اتباع الراسخين في العلم في قولهم: {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [سورة آل عمران آية: 7] . القاعدة الرابعة: أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر أن: "الحلال بين والحرام بين، وبينهما مشتبهات " 1؛ فمن لم يفطن لهذه القاعدة، وأراد أن يتكلم على كل مسألة بكلام فاصل، فقد ضل وأضل. فهذه أربع قواعد، ثلاث ذكرها الله في كتابه، والرابعة ذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم. واعلم رحمك الله، أن أربع هذه الكلمات، مع اختصارها، يدور عليها الدين، سواء كان المتكلم يتكلم في علم التفسير، أو في علم الأصول، أو في علم أعمال   1 البخاري: الإيمان (52) , ومسلم: المساقاة (1599) , والترمذي: البيوع (1205) , والنسائي: البيوع (4453) والأشربة (5710) , وأبو داود: البيوع (3329) , وابن ماجة: الفتن (3984) , وأحمد (4/269, 4/270) , والدارمي: البيوع (2531) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 6 القلوب الذي يسمى: علم السلوك، أو في علم الحديث، أو في علم الحلال والحرام والأحكام، الذي يسمى: علم الفقه، أو في علم الوعد والوعيد، أو في غير ذلك من أنواع علوم الدين. أنا أمثل لك مثلاً، تعرف به صحة ما قلته، وتحتذى عليه إن فهمته، وأمثله لك في فن من فنون الدين، وهو علم الفقه، وأجعله كله في باب واحد منه، وهو الباب الأول. قلت: يأتي في باب 1 الطهارة إن شاء الله تعالى. وقال أيضاً: ومن أعظم ما منّ الله به عليه صلى الله عليه وسلم وعلى أمته: إعطاء جوامع الكلم: فيذكر الله تعالى في كتابه كلمة واحدة، تكون قاعدة جامعة يدخل تحتها من المسائل ما لا يحصر؛ وكذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد خصه الله بالحكمة الجامعة؛ ومن فهم هذه المسألة فهماً جيداً فهم قول الله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [سورة المائدة آية: 3] . وهذه الكلمة أيضاً من جوامع الكلم، إذ الكامل لا يحتاج إلى زيادة، فعُلم منه بطلان كل محدث بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، كما أوصانا به في قوله: " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، وإياكم ومحدثات الأمور! فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار " 2.   1 أي: في باب المياه, من كتاب الطهارة صفحة: 135. 2 أبو داود: السنة (4607) , والدارمي: المقدمة (95) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 7 وتفهم أيضاً: معنى قوله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [سورة النساء آية: 59] . فإذا كان الله سبحانه قد أوجب علينا أن نرد ما تنازعنا فيه إلى الله، أي: إلى كتاب الله، وإلى الرسول صلى الله عليه وسلم أي: إلى سنته، علمنا قطعا: أن من رد إلى الكتاب والسنة ما تنازع الناس فيه، وجد فيهما ما يفصل النّزاع. وقال أيضاً: إذا اختلف كلام أحمد، وكلام الأصحاب، فنقول في محل النزاع: التراد إلى الله وإلى رسوله، لا إلى كلام أحمد، ولا إلى كلام الأصحاب، ولا إلى الراجح من ذلك؛ بل قد يكون الراجح والمرجح من الروايتين والقولين خطأ قطعاً، وقد يكون صواباً؛ وقولك: إذا استدل كل منهما بدليل، فالأدلة الصحيحة لا تتناقض، بل الصواب يصدق بعضه بعضاً، لكن قد يكون أحدهما أخطأ في الدليل: إما يستدل بحديث لم يصح، وإما فهم من كلمة صحيحة مفهوماً مخطئاً؛ وبالجملة: فمتى رأيت الاختلاف، فرده إلى الله والرسول؛ فإذا تبين لك الحق فاتبعه، فإن لم يتبين لك، واحتجت إلى العمل، فخذ بقول من تثق بعلمه ودينه. وأما قول من قال: لا إنكار في مسائل الاجتهاد، فجوابها يعلم من القاعدة المتقدمة؛ فإن أراد القائل مسائل الخلاف، فهذا باطل يخالف إجماع الأمة؛ فما زال الصحابة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 8 ومن بعدهم ينكرون على من خالف وأخطأ كائناً من كان، ولو كان أعلم الناس وأتقاهم. وإذا كان الله بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق، وأمرنا باتباعه وترك ما خالفه، فمن تمام ذلك أن من خالفه من العلماء مخطئ ينبه على خطئه، وينكر عليه. وإن أريد بمسائل الاجتهاد مسائل الخلاف التي لم يتبين فيها الصواب، فهذا كلام صحيح، لا يجوز للإنسان أن ينكر الشيء لكونه مخالفاً لمذهبه أو لعادة الناس؛ فكما لا يجوز للإنسان أن يأمر إلا بعلم، لا يجوز أن ينكر إلا بعلم; وهذا كله داخل في قوله تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [سورة الإسراء آية: 36] . وأما قول من قال: اتفاق العلماء حجة، فليس المراد الأئمة الأربعة، بل إجماع الأمة كلهم، وهم علماء الأمة. وأما قولهم: اختلافهم رحمة، فهذا باطل؛ بل الرحمة في الجماعة، والفرقة عذاب، كما قال تعالى: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} [سورة هود آية: 118-119] . ولما سمع عمرُ ابنَ مسعود، وأُبَيّاً اختلفا في صلاة الرجل في الثوب الواحد، صعد المنبر، وقال: "اثنان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعن أي فتياكم يصدر المسلمون؟ لا أجد اثنين اختلفا بعد مقامي هذا، إلا فعلت وفعلت "; لكن قد روي عن بعض التابعين، أنه قال: ما أحسب اختلاف الجزء: 4 ¦ الصفحة: 9 أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا رحمة للناس، لأنهم لو لم يختلفوا لم تكن رخصة، ومراده شيء آخر غير ما نحن فيه؛ ومع هذا، فهو قول مستدرك، لأن الصحابة ذكروا اختلافهم عقوبة وفتنة. وقال أيضاً: قد تبين لكم في غير موضع، أن دين الإسلام حق بين باطلين، وهدى بين ضلالتين؛ وهذه المسائل 1 وأشباهها مما يقع الخلاف فيه بين السلف والخلف من غير نكير من بعضهم على بعض؛ فإذا رأيتم من يعمل ببعض هذه الأقوال المذكورة بالمنع، مع كونه قد اتقى الله ما استطاع، لم يحل لأحد الإنكار عليه، اللهم إلا أن يتبين الحق، فلا يحل لأحد أن يتركه لقول أحد من الناس. وقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يختلفون في بعض المسائل من غير نكير، ما لم يتبين النص؛ فينبغي للمؤمن أن يجعل همه وقصده معرفة أمر الله ورسوله في مسائل الخلاف، والعمل بذلك، ويحترم أهل العلم، ويوقرهم ولو أخطؤوا، لكن لا يتخذهم أرباباً من دون الله؛ هذا طريق المنعم عليهم، وأما إطراح كلامهم، وعدم توقيرهم، فهو طريق المغضوب عليهم. واتخاذهم أرباباً من دون الله، وإذا قيل:   1 أي: إخراج العروض زكاة, والمضاربة بها. وكذا المغشوش, وتأتي إن شاء الله تعالى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 10 قال الله، قال رسول الله، قال: هم أعلم منا، فهذا هو طريق الضالين. ومِن أهم ما على العبد وأنفع ما يكون له: معرفة قواعد الدين على التفصيل؛ فإن أكثر الناس يفهم القواعد ويقر بها على الإجمال، ويدعها عند التفصيل. وقال أيضاً: اختلفوا في الكتاب، وهل يجب تعلمه واتباعه على المتأخرين لإمكانه؟ أم لا يجوز للمتأخرين، لعدم إمكانه؟ فحكم الكتاب بينهم بقوله تعالى: {وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْراً} الآية [سورة طه آية: 99-100] ، وقوله: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً} [سورة طه آية: 124] ، وقوله: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} [سورة الزخرف آية: 36] . وسئل: عن قول الشيخ تقي الدين: ولتكن همته فهم مقاصد الرسول، في أمره ونهيه، ما صورته؟ فأجاب: مراده ما شاع وذاع: أن الفقه عندهم هو: الاشتغال بكتاب فلان وفلان; فمراده التحذير من ذلك. وقال أيضاً: كذلك غيركم، إنما اتباعهم لبعض المتأخرين لا الأئمة؛ فهؤلاء الحنابلة، من أقل الناس بدعة، وأكثر الإقناع والمنتهى مخالف لمذهب أحمد ونصه، فضلاً عن نص رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ يعرف ذلك من عرفه. وقال أيضاً: ذكر الشيخ تقي الدين، رحمه الله، قواعد: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 11 الأولى: أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا سن أمرين، وأراد أحد يأخذ بأحدهما ويترك الآخر، أنه لا ينكر عليه، كالقراءات الثابتة، ومثل الذين اختلفوا في آية، فقال أحدهما: ألم يقل الله كذا؟ وقال الآخر: ألم يقل الله كذا؟ وأنكر النبي صلى الله عليه وسلم عليهم، وقال: " كل منكما محسن "؛ فأنكر الاختلاف، وصوب الجميع في الآية. الثانية: إذا أم رجل قوماً، وهم يرون القنوت، أو يرون الجهر بالبسملة، وهو يرى غير ذلك، والأفضل ما رأى؛ فموافقتهم أحسن، ويصير المفضول، هو الفاضل. وقال ابنا الشيخ: الشيخ حسين، والشيخ عبد الله، رحمهم الله: عقيدة الشيخ، رحمه الله، التي يدين الله بها هي عقيدتنا، وديننا الذي ندين الله به، وهي عقيدة سلف الأمة وأئمتها، من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وهو: اتباع ما دل عليه الدليل، من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وعرض أقوال العلماء على ذلك؛ فما وافق كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم قبلناه، وأفتينا به، وما خالف ذلك، رددناه على قائله. وهذا هو الأصل الذي أوصانا به في كتابه حيث قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} الآية [سورة النساء آية: 59] ، أجمع المفسرون على أن الرد إلى الله هو: الرد إلى كتابه، وأن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 12 الرد إلى الرسول هو: الرد إليه في حياته، وإلى سنته بعد وفاته. والأدلة على هذا الأصل كثيرة في الكتاب والسنة؛ وإذا تفقه الرجل في مذهب من المذاهب الأربعة، ثم رأى حديثاً يخالف مذهبه، فاتبع الدليل، وترك مذهبه، كان هذا مستحباً، بل واجباً عليه إذا تبين له الدليل، ولا يكون بذلك مخالفاً لإمامه الذي اتبعه؛ فإن الأئمة كلهم متفقون على هذا الأصل: أبو حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد، رضي الله عنهم أجمعين. قال الإمام مالك: كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال الشافعي لأصحابه: إذا صح الحديث عندكم فاضربوا بقولي الحائط، وفي لفظ: إذا صح الحديث عندكم فهو مذهبي. وقال الإمام أحمد، رحمه الله: عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته، يذهبون إلى رأي سفيان؛ والله يقول: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [سورة النور آية: 63] . أتدري ما الفتنة؟ الفتنة: الشرك، لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك. وقال لبعض أصحابه: لا تقلدوني، ولا تقلدوا مالكاً، ولا الشافعي، وتعلموا كما تعلمنا. وكلام الأئمة في هذا كثير جداً، ومبسوط في غير هذا الموضع. وأما إذا لم يكن عند الرجل دليل في المسألة، يخالف القول الذي نص عليه العلماء أصحاب المذاهب، فنرجو الجزء: 4 ¦ الصفحة: 13 أنه يجوز له العمل به، لأن رأيهم لنا خير من رأينا لأنفسنا، وهم إنما أخذوا الأدلة من أقوال الصحابة فمن بعدهم؛ ولكن لا ينبغي الجزم بأن هذا شرع الله ورسوله، حتى يتبين الدليل الذي لا معارض له في المسألة; وهذا عمل سلف الأمة وأئمتها قديماً وحديثاً؛ والذي ننكره هو التعصب للمذاهب، وترك اتباع الدليل. وقالا أيضاً: اعلم أن مسائل الخلاف بين الأئمة، لا إنكار فيها، إذا لم يتبين الدليل القاطع; والصحابة، رضي الله عنهم، قد اختلفوا في أشياء من مسائل الفروع، ولم ينكر بعضهم على بعض؛ وكذلك العلماء بعدهم، وأن كلاً منهم قد قال بما عنده من العلم. وقالا أيضاً، لما سئلا عن العمل بصريح الحديث: الذي ينبغي لطالب العلم: أن يبحث عن كلام أهل العلم في المسألة التي دل عليها الحديث، وهل هو معمول به عندهم، أم هو منسوخ؟ أم قد عارضه ما هو أقوى منه؟ فإذا فعل ذلك، وعرف مذاهب العلماء في المسألة، وتبين له أن الحديث محكم صحيح، وجب عليه العمل به؛ هذا إذا كان الإنسان من أهل المعرفة بالحديث، وكلام العلماء، وكان قد سبقه إليه من أهل العلم من يقتدى به، ولو خالف مذهبه الذي ينتسب إليه؛ وإذا كان الرجل ليس له معرفة بالحديث، وكلام العلماء، وترجيح الأقوال، فإنما وظيفته تقليد أهل العلم، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 14 قال الله تعالى: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [سورة النحل آية: 43] . وقال أيضاً الشيخ: عبد الله ابن الشيخ: ونحن في الفروع على مذهب الإمام أحمد بن حنبل، ولا ننكر على من قلد أحد الأئمة الأربعة دون غيرهم، لعدم ضبط مذاهب الغير، كالرافضة، والزيدية، والإمامية، ونحوهم؛ بل لا نقرهم ظاهراً على شيء من مذاهبهم الفاسدة، ولا نستحق مرتبة الاجتهاد المطلق، ولا أحد منا يدعيها، إلا أنا في بعض المسائل إذا صح لنا نص جلي، من كتاب أو سنة، غير منسوخ، ولا مخصص، ولا معارض بأقوى منه، وقال به أحد الأئمة الأربعة، أخذنا به، وتركنا المذهب. وعندنا: أن الإمام ابن القيم، وشيخه: إماما حق، من أهل السنة، وكتبهم من أعز الكتب، إلا أنا غير مقلدين لهم في كل مسألة، فإن كل أحد يؤخذ من قوله ويترك، إلا نبينا صلى الله عليه وسلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 15 [الرد إلى الكتاب والسنة عند الاختلاف] وقال أيضاً الشيخ: عبد الله بن الشيخ محمد، رحمه الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي نزل الكتاب على النبي المختار، وبينه صلى الله عليه وسلم وحمله عنه أصحابه الأخيار، ثم التابعون لهم من الأبرار. إلى: عبد الله بن عبد الله الصنعاني، سلمه الله من الشرك والبدع، ووفقه للإنكار على من أشرك وابتدع؛ والصلاة والسلام على محمد، الذي قامت به على الخلق الحجة، وبين وأوضح لهم المحجة، وعلى آله وصحبه القدوة بعده. أما بعد: فقد وصل جوابكم، وسر الخاطر، وأقر الناظر، حيث أخبرتم أنكم على ما نحن عليه من الدين، وهو عبادة الله وحده لا شريك له، ومتابعة الرسول الأمجد، سيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم، وما أوردتم على ذلك من الآيات الواضحات، والأحاديث الباهرات، وأن الرد عند الاختلاف إلى كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ثم إلى أقوال الصحابة، ثم التابعين لهم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 16 بإحسان، فذلك ما نحن عليه، وهو ظاهر عندنا؛ لكن كل قول له حقيقة، وحقيقة العلم وثمرته: العمل: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [سورة آل عمران آية: 31] ، {لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ} [سورة الصف آية: 2] . وكل يدّعي وصلاً لليلى ... وليلى لا تقر لهم بذاكا فنحن: أقمنا الفرائض، والشرائع، والحدود، والتعزيرات، ونصبنا القضاة، وأمرنا بالمعروف ونهينا عن المنكرات، ونصبنا علَم الجهاد على أهل الشرك والعناد، فلله الحمد والمنة. وأما استفصالكم عن قولنا: مذهبنا مذهب الإمام أحمد، وقولكم: إن تريد أن نسلك في أخذ المسائل من الكتاب والسنة مثل مسلكه، فنعم ما قلتم، وإن تريدوا بقولكم ذلك التقليد له فيما رآه وقال، من غير نظر إلى الحجة من الكتاب والسنة، كما سلك بعض أتباع الأئمة الأربعة، من جعل آرائهم وأقوالهم أصولاً لمسائل الدين، واطرحوا الاحتجاج من الكتاب والسنة، وسدوا بابهما، إلى آخره. انتهى ملخص كلامكم. فالجواب عليه من وجوه، وبالله التوفيق: الوجه الأول: إن في رسالتنا التي عندكم ما رد هذا التوهم، وهو قولنا فيها: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 17 يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [سورة آل عمران آية: 31] ، وقوله صلى الله عليه وسلم: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد " 1، رواه البخاري ومسلم؛ فتوزن الأقوال والأفعال بأقواله وأفعاله، فما وافق منها قُبل، وما خالف رُد على قائله وفاعله كائناً من كان ... إلخ. فتضمن هذا الكلام: أنه لا يقدم رأي أحد على كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم والعجب: كيف نبا فهمكم عنها؟! الوجه الثاني: قد صرح العلماء، أن النصوص الصحيحة الصريحة، التي لا معارض لها ولا ناسخ، وكذا مسائل الإجماع، لا مذاهب فيها؛ وإنما المذاهب فيما فهمه العلماء من النصوص، أو علمه أحد دون أحد، أو في مسائل الاجتهاد، ونحو ذلك. الوجه الثالث: قد ذكر العلماء، أن لفظة: "المذهب" لها معنيان: معنى في اللغة، ومعنى في الاصطلاح: فالمذهب في اللغة: مفعل، ويصح للمصدر، والمكان، والزمان، بمعنى الذهاب، وهو المرور، أو محله أو زمانه. واصطلاحاً: ما ترجح عند المجتهد في أيما مسألة من المسائل بعد الاجتهاد، فصار له معتقداً، أو مذهباً. وعند بعضهم: ما قاله مجتهد بدليل، ومات قائلاً به. وعند بعضهم: أنه المشهور في مذهبه، كنقض الوضوء بأكل لحم الجزور، ومس الذكر ونحوه عند أحمد؛ ولا يكاد يطلق إلا على ما فيه خلاف. وقال بعضهم: هو في عرف الفقهاء:   1 البخاري: الصلح (2697) , ومسلم: الأقضية (1718) , وأبو داود: السنة (4606) , وابن ماجة: المقدمة (14) , وأحمد (6/240, 6/270) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 18 ما ذهب إليه إمام من الأئمة المجتهدين. ويطلق عند المتأخرين من أئمة المذاهب على ما به الفتوى، وهو ما قوي دليله; وقيل: ما كثر قائله. فقد تلخص من كلامهم: أن المذهب في الاصطلاح: ما اجتهد فيه إمام بدليل، أو قول جمهور، أو ما ترجح عنده، ونحو ذلك، وأن المذهب لا يكون إلا في مسائل الخلاف، التي ليس فيها نص صريح، ولا إجماع؛ فأين هذا من توهمكم أن قولنا: مذهبنا مذهب الإمام أحمد أنا نقلده فيما رأى وقال، وإن خالف الكتاب والسنة والإجماع؛ فنعوذ بالله من ذلك، والله المستعان. الوجه الرابع: قال ابن القيم في: إعلام الموقعين - لما ذكر المفتين بمدينة السلام - وكان بها إمام أهل السنة على الإطلاق، أحمد بن حنبل، الذي ملأ الأرض علماً وحديثاً وسنة - إلى أن قال - وكانت فتواه مبنية على خمسة أصول، أحدها: النصوص، فإذا وجد النص أفتى بموجبه، ولم يلتفت إلى ما خالفه، ولا من خالفه، كائناً من كان. ثم ذكر أحاديث تمسك بها الإمام أحمد، ولم يلتفت إلى ما خالفها - إلى أن قال - الأصل الثاني من فتوى الإمام أحمد: ما أفتى به الصحابة، فإنه إذا وجد لبعضهم فتوى لا يعرف له مخالف منهم فيها لم يعْدها إلى غيرها، ولم يقل إن ذلك إجماع؛ بل من ورعه في العبارة يقول: لا أعلم شيئاً الجزء: 4 ¦ الصفحة: 19 يدفعه، ونحو هذا - إلى أن قال - الأصل الثالث من أصوله: إذا اختلف الصحابة، تخير من أقوالهم ما كان أقربها إلى الكتاب والسنة، ولم يخرج عن أقوالهم. فإن لم يتبين له موافقة أحد الأقوال، حكى الخلاف فيها، ولم يجزم بقول - إلى أن قال - الأصل الرابع: الأخذ بالمرسل، والحديث الضعيف، إذا لم يكن في الباب شيء يدفعه، وهو الذي رجحه على القياس، وليس المراد بالضعيف عنده الباطل، ولا المنكر، ولا ما في رواته متهم، بل الحديث الضعيف عنده قسيم الصحيح، فإذا لم يجد في الباب أثراً يدفعه، ولا قول صاحب، ولا إجماعاً على خلافه، كان العمل به عنده أولى من القياس؛ وليس أحد من الأئمة إلا وهو موافقه على هذا الأصل من حيث الجملة. فإذا لم يكن عند الإمام أحمد نص، ولا قول الصحابة، ولا أحد منهم، ولا أثر مرسل أو ضعيف، عدل إلى الأصل الخامس، وهو: القياس، فاستعمله للضرورة; وقال الشافعي: إنما يعار إليه عند الضرورة. وقال الإمام أحمد - في رواية أبي الحارث -: ما تصنع بالرأي والقياس، وفي الحديث ما يغنيك عنه؟! وقد يتوقف في الفتوى، لتعارض الأدلة عنده، أو لاختلاف الصحابة فيها; وقال أبو داود: سمعت أحمد سئل عن كثير مما فيه الاختلاف في العلم، فيقول: لا أدري. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 20 انتهى كلام ابن القيم ملخصاً؛ فهذا ما أشرنا إليه من قولنا: مذهبنا مذهب الإمام أحمد. وأما ما ذكرتم: من ذم من قلد الإمام أحمد وغيره، وأطلقتم الذم، فليس الأمر على إطلاقكم؛ فإن تريدوا بذم التقليد تقليد من أعرض عما أنزل الله، وعن سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ومن قلد بعد ظهور الحجة له، ومن قلد من ليس بأهل أن يؤخذ بقوله، ومن قلد واحداً من الناس فيما قال دون غيره، فنعم المسلك سلكتم. وإن تريدوا بذلك الإطلاق: منع الناس، لا ينقل بعضهم عن بعض، ولا يفتي أحد لأحد إلا مجتهد، فقد قال تعالى: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [سورة النحل آية: 43] ، قال علي بن عقيل، صاحب الفنون، ورؤوس المسائل: يجب سؤال أهل الفقه بهذه الآية; وأمر الله بطاعته، وطاعة رسوله، وأولي العلم، وهم العلماء، أو العلماء والأمراء; وأرشد النبي صلى الله عليه وسلم من لا يعلم إلى سؤال من يعلم، فقال في حديث صاحب الشجة: " ألا سألوا إذا لم يعلموا؟ فإنما شفاء العي السؤال " 1. وأيضاً، فأين تدرك هذه في هذه الأزمنة التي قل العلم في أهلها، وقل فيه المجتهدون؛ وقد صرح العلماء أن تقليد الإنسان لنفسه جائز وربما كان واجباً، وكذا المفتي للضرورة، وعدم المجتهد يجوز أن يفتي بالتقليد.   1 أبو داود: الطهارة (336) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 21 قال ابن القيم، في أول الجزء الثاني من إعلام الموقعين: ذكر تفصيل القول في التقليد وانقسامه إلى ما يحرم القول والإفتاء به، وإلى ما يجب المصير إليه، وإلى ما يسوغ من غير إيجاب; فأما الأول فهو ثلاثة أنواع: الأول: الإعراض عما أنزل الله، وعدم الالتفات إليه، اكتفاء بتقليد الآباء; الثاني: تقليد من لا يعلم المقلد أنه أهل أن يؤخذ بقوله; الثالث: التقليد بعد قيام الحجة وظهور الدليل، على خلاف قول المقلد. وقد ذم الله هذه الأنواع الثلاثة من التقليد، في غير موضع من كتابه، ثم ذكر آيات في ذم التقليد - إلى أن قال - وهذا القدر من التقليد، هو مما اتفق السلف والأئمة الأربعة على ذمه، وتحريمه; وأما تقليد من بذل جهده في اتباع ما أنزل الله، وخفي عليه بعضه، وقلد فيه من هو أعلم منه، فهذا محمود غير مذموم، ومأجور غير مأزور، كما سيأتي بيانه عند ذكر التقليد الواجب والسائغ، إن شاء الله تعالى. وقال أيضاً في الجزء الأول من إعلام الموقعين: قلت: وهذه المسألة، فيها ثلاثة أقوال لأصحاب أحمد: أحدها: أنه لا يجوز الفتوى بالتقليد، لأنه ليس بعلم؛ والفتوى بغير علم حرام، وهذا قول أكثر الأصحاب. والثاني: أن ذلك يجوز فيما يتعلق بنفسه، فيجوز له أن يقلد غيره من العلماء، إذا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 22 كانت الفتوى لنفسه، ولا يجوز أن يقلد العالم فيما يفتي به غيره؛ فهذا قول ابن بطة، وغيره من أصحابنا. والقول الثالث: أنه يجوز ذلك عند الحاجة، وعدم المجتهد؛ وهو أصح الأقوال، وعليه العمل. قال القاضي: ذكر أبو حفص في تعاليقه، قال: سمعت أبا علي الحسن بن عبد الله النجاد، يقول: سمعت أبا الحسن بن بشار، يقول: ما أعيب على رجل يحفظ لأحمد خمس مسائل، استند إلى بعض سواري المسجد أن يفتي الناس بها. انتهى كلام ابن القيم ملخصاً. وقال في الإقناع وشرحه، في شروط القاضي: وأن يكون مجتهداً إجماعاً، ذكره ابن حزم; وأنهم أجمعوا أنه لا يحل لحاكم ولا مفت، تقليد رجل لا يحكم ولا يفتي إلا بقوله، لأنه فاقد الاجتهاد، ولو كان اجتهاده في مذهب إمامه، إذا لم يوجد غيره للضرورة، كما قال في الإفصاح: إن الإجماع انعقد على تقليد كل من المذاهب الأربعة، فإن الحق لا يخرج عنهم، ثم ذكر أن الصحيح في هذه المسألة: أن قول من قال: لا يجوز إلا تولية مجتهد، فإنه إنما عنى به ما كانت الحال عليه، قبل استقرار ما أقرت عليه هذه المذاهب. وقال الإمام موفق الدين، أبو محمد، عبد الله بن أحمد المقدسي، في خطبة المغني: النسبة إلى إمام في الجزء: 4 ¦ الصفحة: 23 الفروع، كالأئمة الأربعة، ليست بمذمومة؛ فإن اختلافهم رحمة، واتفاقهم حجة قاطعة. واختار في الإفصاح والرعاية: أو مقلداً; قال في الإنصاف: وعليه العمل من مدة طويلة، وإلا انقطعت أحكام الناس، وكذا المفتي; قال ابن بشار: ما أعيب على من يحفظ لأحمد خمس مسائل يفتي بها، ونقل عبد الله: يفتي غير مجتهد؛ ذكره القاضي، وحمله أبو العباس ابن تيمية: على الحاجة. انتهى كلام صاحب الإقناع، وشرحه. وقال في الإنصاف: قال الشيخ تقي الدين أحمد بن تيمية، في شروط القاضي: ويجب تولية الأمثل فالأمثل، وعلى هذا يدل كلام أحمد وغيره، فيولى للعدم أعدل المقلدين، وأعرفهما للتقليد؛ قال في الفروع: وهو كما قال. انتهى كلام الإنصاف، ملخصاً. وأما ما ذكرتم عن الأئمة، وقول أبي حنيفة: إذا قلت قولاً، وفي كتاب الله، وسنة رسول الله، ما يخالف قولي، فاعملوا به، واتركوا قولي; وقول الشافعي: إذا صح الحديث على خلاف قولي فاضربوا بقولي الحائط، واعملوا بالحديث; وكذا ما ذكرتم عن الأئمة الأربعة: أنهم صرحوا بعرض أقوالهم، على الكتاب والسنة، فما خالف منها رد؛ وقد تقدم في أصول أحمد أنه إذا صح الحديث لم يقدم عليه قول أحد؛ فهذا قد تقرر عندنا ولله الحمد والمنة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 24 وأما قولكم: إن مرادنا بقولنا: لا ننكر على أتباع الأئمة الأربعة ولو أشركوا وابتدعوا، فنعوذ بالله من ذلك؛ بل نترك الباطل، ونقبل الحق ممن جاء به، فإن كل أحد يُؤخذ من قوله ويترك، إلا سيد الأولين والآخرين صلى الله عليه وسلم. وأما قولكم: والمختار: أن العمل بالحديث بحسب ما بدا لصاحب الفهم المستقيم، فينظر في صحة الحديث أولاً، فإذا صح، نظرنا في معناه ثانياً، فإذا تبين، فهو الحجة. انتهى كلامكم. فهل أنتم مجتهدون؟ أم تأخذون عن أقوال المفسرين، وشراح الحديث، وأتباع الأئمة الأربعة؟ فإن كان الثاني: فأخبرونا عن أكثر من تأخذون عنه، وترضون قوله من علماء أهل السنة؟ وفقنا الله وإياكم من العمل ما يرضيه، وجنبنا وإياكم العمل بمناهيه، وسامحنا وإياكم عند الوقوف بين يديه، وجعل أعمالنا مقبولة لديه، والله أعلم. وقال أيضاً الشيخ: عبيد الله بن الشيخ، رحمهما الله تعالى: وأما قولكم: إن أهل هذا الدين، بلغنا أنهم يعتمدون على مذاهب الأئمة الأربعة، وأنكروا علم أهل البيت، وأقوالهم ومذاهبهم؛ فالذي نحن عليه: اتباع كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والاعتماد على تفسير الأئمة لكتاب الله وسنة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 25 رسوله، لأنهم أعلم بكتاب الله منا. فإذا اختلفوا في مسائل الفروع، عرضنا أقوالهم، ورددناها إلى كتاب الله وسنة رسوله: فما كان أقرب إلى ذلك اتبعناه، كما أمرنا الله بذلك في قوله: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [سورة النساء آية: 59] ؛ والرد إلى الله هو: الرد إلى كتابه، وكذلك الرسول صلى الله عليه وسلم فالرد إليه في حياته، وبعد موته إلى ما صح من سنته، كما فسره بذلك المفسرون من السلف والخلف. وقال أيضاً: هو، والشيخ إبراهيم، وحسين، وعلي، وحمد بن ناصر: وأما قولكم: هل يجب على المكلف التقليد، في المسائل المختلف فيها، فهذا يحتاج إلى تفصيل وبسط، ليس هذا موضعه، لكن الواجب على المكلف: أن يتقي الله ما استطاع، كما قال تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [سورة التغابن آية: 16] ، وقال تعالى: {لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا} [سورة البقرة آية: 233] ؛ فإن كان المكلف فيه أهلية لمعرفة دلائل المسائل، من الكتاب والسنة، وجب عليه ذلك، باتفاق العلماء، وإن لم يكن فيه أهلية، كحال العوام الذين لا معرفة لهم بأدلة الكتاب والسنة، فهؤلاء يجب عليهم التقليد، وسؤال أهل العلم فقط، كما قال تعالى: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 26 إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [سورة النحل آية: 43] ؛ وهذا في غير أصول الدين. وأما الأصول، فلا يجوز التقليد فيها بالإجماع، بل يجب على كل مكلف معرفة الله تبارك وتعالى، ومعرفة الرسول صلى الله عليه وسلم وما بعث به من التوحيد، وما أخبر به عن الله من البعث بعد الموت، والجنة والنار، ومثل وجوب الفرائض، من الصلاة، والزكاة، والحج، والصيام، ونحو هذا؛ فلا يجوز التقليد في هذا، والمقلد فيه ممن يعذب في البرزخ، كما ثبت ذلك في الأحاديث منها قوله: " وأما المنافق والمرتاب، فيقول: هاه، هاه، لا أدري؛ سمعت الناس يقولون شيئا فقلته " 1. وسئل الشيخ حمد بن ناصر بن معمر، رحمه الله تعالى: ما قولكم، نور الله قلوبكم لفك المعضلات، ووفقكم للأعمال الصالحات، هل يلزم المبتدئين المتعلمين، الترقي إلى معرفة الدليل الناص على كل مسألة؟ ومعرفة طرقه، وصحته؟ أم تقليد المخرجين للحديث، إنه صحيح أو حسن؟ أو يكفيهم العلم بالفقهيات المجردة عن الدليل ويغنيهم؟ هذا فيمن طلب العلم، وتأهل له، فما الحال في العوام، هل يجزئهم مجرد التقليد؟ وأيضاً: حكى بعض المتأخرين الإجماع على تقليد الأئمة الأربعة: أبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد؛   1 البخاري: العلم (86) , ومسلم: الكسوف (905) , ومالك: النداء للصلاة (447) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 27 فأفيدونا واحتسبوا فإن الحاجة ماسة إلى هذه المباحث. فإن تفضلتم بطول الجواب، وذكر الدليل، ومن قال به، فهو المطلوب. فأجاب: لا ريب أن الله سبحانه فرض على عباده طاعته، وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} [سورة الأعراف آية: 3] ، وقال تعالى: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} إلى قوله: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [سورة النور آية: 54] ، ولم يوجب الله على هذه الأمة طاعة أحد بعينه، في كل ما يأمر به، وينهى عنه، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم. واتفق العلماء، على أنه: ليس أحد معصوماً إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهؤلاء الأئمة الأربعة قد نهوا الناس عن تقليدهم في كل ما يقولون: فقال أبو حنيفة: علمنا هذا رأي، وهو أحسن ما قدرنا عليه، ومن جاءنا بأحسن منه قبلناه منه. وقال معن بن عيسى: سمعت مالكاً يقول: إنما أنا بشر، أخطئ وأصيب؛ فانظروا في قولي، فكل ما خالف الكتاب والسنة، فاتركوه. وقال ابن القاسم: كان مالك يكثر أن يقول: إن نظن إلا ظناً وما نحن بمستيقنين. وقال الشافعي: إذا صح الحديث فاضربوا بقولي الحائط; وإذا رأيت الحجة على الطريق فهي قولي. والإمام أحمد كان يقول: لا تقلدوني، ولا تقلدوا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 28 مالكاً، ولا الشافعي، ولا الثوري، وتعلموا كما تعلمنا؛ وكان يقول: من قلة علم الرجل أن يقلد في دينه الرجال. وقال: لا تقلد دينك الرجال، فإنهم لن يسلموا من أن يغلطوا. وقال ابن عبد البر: أجمع الناس على أن المقلد ليس معدوداً من أهل العلم، وأن العلم معرفة الحق بدليله؛ ولهذا جعل الفقهاء من شروط القاضي أن يكون مجتهداً، فلا يصح أن يتولاه المقلد؛ هذا الذي عليه جمهور العلماء؛ قال في الإفصاح: اتفقوا على أنه لا يجوز أن يولى القضاء من ليس من أهل الاجتهاد، إلا أبا حنيفة، فإنه قال: يجوز ذلك. وقال الموفق في المغنى: يشترط في القاضي ثلاثة شروط: أحدها: الكمال; وهو نوعان: كمال الأحكام، وكمال الخلقة; والثاني: العدالة؛ والثالث: أن يكون من أهل الاجتهاد؛ وبهذا قال مالك، والشافعي، وبعض الحنفية. وقال بعضهم: يجوز أن يكون عامياً، فيحكم بالتقليد، لأن الغرض فصل الخصومات، فإذا أمكنه ذلك بالتقليد جاز، كما يحكم بقول المقومين. ولنا: قوله تعالى {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [سورة المائدة آية: 49] ، ولم يقل بالتقليد، وقال: {لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} [سورة النساء آية: 105] ، وقال: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [سورة النساء آية: 59] . وروى بريدة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 29 عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " القضاة ثلاثة: اثنان في النار، وواحد في الجنة: رجل علم الحق فقضى به فهو في الجنة، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار، ورجل جار في الحكم فهو في النار " 1، رواه ابن ماجة. والعامي يقضي على جهل، ولأن الحكم آكد من الفتيا، لأنه فتيا وإلزام، والمفتي لا يجوز أن يكون مقلداً، فالحكم أولى. انتهى. وقال في الإنصاف: ويشترط في القاضي أن يكون مجتهداً؛ هذا المذهب المشهور، وعليه معظم الأصحاب; قال ابن حزم: يشترط كونه مجتهداً إجماعاً، وقال: أجمعوا على أنه لا يحل لحاكم ولا لمفت، تقليد رجل لا يحكم ولا يفتي إلا بقوله، وقال في الإفصاح: الإجماع انعقد على تقليد كل من المذاهب الأربعة، وأن الحق لا يخرج عنهم; واختار في الترغيب: ومجتهداً في مذهب إمامه للضرورة، واختار في الإفصاح والرعاية: ومقلداً. قلت: وعليه العمل من مدة طويلة، وإلا تعطلت أحكام الناس؛ وقيل في المقلد: يفتي ضرورة. وذكر القاضي: أن ابن شاقلا اعترض عليه بقول الإمام أحمد: لا يكون فقيهاً حتى يحفظ أربعمائة ألف حديث، فقال إن كنت لا أحفظه فإني أفتي بقول من يحفظ أكثر منه; قال القاضي: لا يقتضي هذا إن كان يقلد أحمد، لمنعه الفتيا بلا علم; قال بعض الأصحاب: ظاهره تقليده، إلا أن يحمل على أخذ طرق   1 أبو داود: الأقضية (3573) , وابن ماجة: الأحكام (2315) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 30 العلم عنه; وقال ابن بشار - من الأصحاب -: لا أعيب على من يحفظ خمس مسائل لأحمد يفتي بها، قال القاضي: هذا منه مبالغة في فضله، وظاهر نقل عبد الله يفتي غير مجتهد، ذكره القاضي، وحمله الشيخ تقي الدين على الحاجة. انتهى ملخصاً. وذكر ابن القيم في مسألة التقليد في الفتيا ثلاثة أقوال: أحدها: أنه لا يجوز الفتوى بالتقليد، لأنه ليس بعلم، والفتوى بغير علم حرام؛ ولا خلاف بين الناس: أن التقليد ليس بعلم، وأن المقلد لا يطلق عليه اسم عالم، وهذا قول أكثر الأصحاب، وهو قول جمهور الشافعية. والثاني: أن ذلك يجوز فيما يتعلق بنفسه، فيجوز أن يقلد غيره من العلماء، إذا كانت الفتوى لنفسه، ولا يجوز أن يقلد العالم فيما يفتي به لغيره؛ وهذا قول ابن بطة وغيره من أصحابنا. الثالث: أنه يجوز ذلك عند الحاجة وعدم العالم المجتهد؛ وهذا أصح الأقوال، وعليه العمل. انتهى كلام ابن القيم، رحمه الله. فتبين بما ذكرناه: أن المقلد ليس بعالم، وأن التقليد إنما يصار إليه عند الحاجة للضرورة؛ ولكن قد دعت الحاجة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 31 والضرورة إليه من زمان طويل، لا سيما في هذا الوقت، وحينئذ فيقال: التقليد ثلاثة أنواع: أحدها: التقليد بعد قيام الحجة وظهور الدليل على خلاف قول المقلد، فهذا لا يجوز؛ وقد اتفق السلف والأئمة على ذمه وتحريمه. قال الشافعي، رحمه الله: أجمع المسلمون على أنه من استبانت له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد من الناس. النوع الثاني: التقليد مع القدرة على الاستدلال والبحث عن الدليل، فهذا مذموم أيضاً لأنه عمل على جهل، وإفتاء بغير علم، مع قدرته وتمكنه من معرفة الدليل المرشد، والله تعالى قد أوجب على عباده أن يتقوه بحسب استطاعتهم، فقال تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [سورة التغابن آية: 16] ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " إذا أمرتكم بأمر، فأتوا منه ما استطعتم " 1. فالواجب على كل عبد: أن يبذل جهده في معرفة ما يتقيه مما أمره الله به ونهاه عنه، ثم يلتزم طاعة الله ورسوله؛ ولم يكلف الله عباده ما لا يطيقونه، بل الواجب على العبد ما يستطيعه من معرفة الحق، فإذا بذل جهده في معرفة الحق، فهو معذور فيما خفي عليه. النوع الثالث: التقليد السائغ، وهو: تقليد أهل العلم   1 البخاري: الاعتصام بالكتاب والسنة (7288) , ومسلم: الحج (1337) , وابن ماجة: المقدمة (2) , وأحمد (2/258 ,2/428) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 32 عند العجز عن معرفة الدليل; وأهل هذا النوع، نوعان أيضاً: أحدهما: من كان من العوام الذين لا معرفة لهم بالفقه والحديث، ولا ينظرون في كلام العلماء، فهؤلاء: لهم التقليد بغير خلاف; بل حكى غير واحد: إجماع العلماء على ذلك. النوع الثاني: من كان محصلاً لبعض العلوم، وقد تفقه في مذهب من المذاهب، وتبصر في كتب متأخري الأصحاب كالإقناع والمنتهى، في مذهب الحنابلة، أو المنهاج ونحوه في مذهب الشافعية أو مختصر خليل ونحوه في مذهب المالكية أو الكنْز ونحوه في مذهب الحنفية، ولكنه قاصر النظر عن معرفة الدليل، ومعرفة الراجح من كلام العلماء، فهذا له التقليد أيضاً، إذ لا يجب عليه إلا ما يقدر عليه و {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} [سورة البقرة آية: 286] . ونصوص العلماء على جواز التقليد لمثل هذا كثيرة مشهورة، وذلك لقوله تعالى: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [سورة النحل آية: 43] ، وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: " ألا سألوا إذا لم يعلموا؟ فإنما شفاء العي السؤال " 1؛ ولم تزل العامة في زمن الصحابة والتابعين ومن بعدهم يستفتون العلماء، ويتبعونهم في الأحكام الشرعية، والعلماء يبادرون إلى إجابة سؤالهم، من غير إشارة إلى ذكر الدليل، ولا ينهونهم عن   1 أبو داود: الطهارة (336) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 33 ذلك من غير نكير، فكان إجماعاً على جواز اتباع العامي العلماء المجتهدين. ويلزم هذا العامي: أن يقلد الأعلم عنده، كما يلزمه في مسألة القبلة; فإذا اجتهد مجتهدان عند اشتباه القبلة، فاختلفا في الجهة، اتبع المقلد أوثقهما عنده; ولا يجوز له أن يتبع الرخص، بل يحرم ذلك عليه، ويفسق به; قال ابن عبد البر: لا يجوز للعامي تتبع الرخص إجماعاً، ولا يلزم العامي أن يتمذهب بمذهب يأخذ بعزائمه ورخصه، قال الشيخ تقي الدين: في الأخذ برخص المذهب وعزائمه، طاعة لغير النبي صلى الله عليه وسلم في كل أمره ونهيه، وهو خلاف الإجماع؛ وتوقف أيضاً في جوازه. وبالجملة: فالعامي الذي ليس له من العلم حظ ولا نصيب، فَرْضُه التقليد؛ فإذا وقعت له حادثة، استفتى من عرفه عالماً عدلاً، أو رآه منتصباً للإفتاء والتدريس; واعتبر الشيخ تقي الدين، وابن الصلاح الاستفاضة بأنه أهل للفتيا، ورجحه النووي في الروضة، ونقله عن أصحابه. وقال الشيخ تقي الدين: لا يجوز أن يستفتي إلا من يفتي بعلم وعدل; فعلى هذا لا يكتفى بمجرد انتسابه إلى العلم، ولو بمنصب تدريس أو غيره، لا سيما في هذا الزمان، الذي غلب فيه الجهل، وقل فيه طلب العلم، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 34 وتصدى فيه جهلة الطلبة للقضاء والفتيا; فتجد بعضهم يقضي ويفتي، وهو لا يحسن عبارة الكتاب، ولا يعلم صورة المسألة; بل لو طولب بإحضار تلك المسألة، وهي في الكتاب، لم يهتد إلى موضعها، فإنا لله وإنا إليه راجعون. شعرا: لقد هزلتْ حتى بدا من هزالها ... كلاها وحتى استامها كل مفلسِ قال في شرح مختصر التحرير: ويلزم ولي الأمر منع من لم يعرف بعلم، أو جهل حاله، من الفتيا; قال ربيعة: بعض من يفتي أحق بالضرب من السراق; ولا تصح الفتيا من مستور الحال; وما يجيب به المقلد من حكم، فإخبار عن مذهب إمامه، لا فتيا، قاله أبو الخطاب، وابن عقيل، والموفق، ويعمل بخبره إن كان عدلاً، لأنه ناقل كالراوي. ولعامي تقليد مفضول من المجتهدين، عند الأكثر من أصحابنا، منهم القاضي، وأبو الخطاب، وصاحب الروضة; وقاله الحنفية، والمالكية، وأكثر الشافعية، وقيل: يصح إن اعتقده فاضلاً، أو مساوياً، لا إن اعتقده مفضولاً، لأنه ليس من القواعد أن يعدل عن الراجح إلى المرجوح. وقال ابن عقيل، وابن سريج، والقفال، والسمعاني: يلزمه الاجتهاد، فيقدم الأرجح، ومعناه: قول الخرقي، والموفق في المقنع; ولأحمد: روايتان. ويلزمه إن بان له الأرجح تقليده في الأصح، زاد بعض الجزء: 4 ¦ الصفحة: 35 أصحابنا وبعض الشافعية: في الأظهر، ويقدم الأعلم على الأورع، ويخير في تقليد أحد مستورين عند أكثر أصحابنا; قال في الرعاية: ولا يكفيه من تسكن نفسه إليه، بل لا بد من سكون النفس والطمأنينة به، ويحرم عليه تتبع الرخص، ويفسق به. وإن اختلف مجتهدان بأن أفتاه أحدهما بحكم، والآخر بخلافه، يخير في الأخذ بأيهما شاء، على الصحيح؛ اختاره القاضي، والمجد، وأبو الخطاب; وذكر أنه ظاهر كلام أحمد; وقيل: يأخذ بقول الأفضل منهما علماً وديناً، وهذا اختيار الموفق في الروضة. ويحرم تساهل مفت، وتقليد معروف به، لأن الفتيا أمر خطر، فينبغي أن يتبع السلف الصالح في ذلك، فقد كانوا يهابون الفتيا كثيراً؛ وقد قال الإمام أحمد رضي الله عنه: إذا هاب الرجل شيئاً لا ينبغي أن يحمل على أن يقول به. قال بعض الشافعية: من اكتفى في فتياه بقول أو وجه في المسألة، من غير نظر في الترجيح، فقد جهل وخرق الإجماع; وذكر عن أبي الوليد الباجي أنه ذكر عن بعض أصحابهم، أنه كان يقول: الذي لصديقي علي أن أفتيه بالرواية التي توافقه، قال أبو الوليد: وهذا لا يجوز عند أحد يعتد به في الإجماع. انتهى كلامه في شرح المختصر ملخصاً. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 36 وهذا الذي ذكره أبو الوليد: ذكر مثله الشيخ تقي الدين، وصاحب الإنصاف، وغيرهما; قال في الاختيارات: وأجمع العلماء على تحريم الحكم والفتيا بالهوى، أو بقول أو وجه من غير نظر في الترجيح، ويجب العمل بموجب اعتقاده فيما له وعليه إجماعاً; وشروط القضاء تعتبر حسب الإمكان. ويجب تولية الأمثل فالأمثل; وعلى هذا يدل كلام أحمد، وغيره، فيولى مع عدم العدل أنفع الفاسقين، وأقلهما شراً، وأعدل المقلدين وأعرفهما بالتقليد. فإن كان أحدهما أعلم، والآخر أورع، قدم فيما قد يظهر حكمه ويخاف الهوى فيه الأورع، وفيما ندر حكمه، ويخاف فيه الاشتباه الأعلم. انتهى. وقول السائل، وفقه الله: هل يلزم المبتدئين المتعلمين، الترقي إلى معرفة الدليل، الناص على كل مسألة؟ جوابه: يعلم مما تقدم، وهو أن عليه أن يتقي الله بحسب استطاعته، فيلزمه من ذلك ما يمكنه، ويسقط عنه ما يعجز عنه و {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} [سورة البقرة آية: 286] ؛ فلا يهجم على التقليد، ويخلد إلى أرضه، مع قدرته على معرفة الدليل، لا سيما إذا كان قاضياً أو مفتياً، وله ملكة قوية يقوى بها على الاستدلال ومعرفة الراجح. فإن الرجل النبيه، الذي له فهم، وفيه ذكاء، إذا سمع الجزء: 4 ¦ الصفحة: 37 اختلاف العلماء، وأدلتهم في الكتب التي يذكر فيها أقوال العلماء وأدلتهم، كالمغنى، والشرح، والتمهيد لابن عبد البر، ونحو هذه الكتب، يحصل عنده في الغالب ما يعرف به رجحان أحد القولين؛ فإذا كان طالب العلم متمذهباً بأحد المذاهب الأربعة، ثم رأى دليلاً مخالفاً لمذهب إمامه، وذلك الدليل قد أخذ به بعض أئمة المذاهب ولم يعلم له ناسخاً، ولا معارضاً، فخالف مذهبه واتبع الإمام الذي قد أخذ بالدليل، كان مصيباً في ذلك; بل هذا الواجب عليه، ولم يخرج بذلك عن التقليد، فهو مقلد لذلك الإمام، فيجعل إماماً بإزاء إمام، ويبقى له الدليل بلا معارض. قال في الاختيارات: من كان متبعاً لإمام، فخالفه في بعض المسائل، لقوة الدليل، أو لكون أحدهما أعلم أو أتقى، فقد أحسن; وقال أبو العباس في موضع آخر: بل يجب عليه، وإن أحمد نص عليه، ولم يقدح ذلك في عدالته بلا نزاع. وقال أيضاً: أكثر من يميز في العلم من المتوسطين، إذا نطر، وتأمل أدلة الفريقين، بقصد حسن، ونظر تام، ترجح عنده أحدهما؛ لكن قد لا يثق بنظره، بل يحتمل أن عنده ما لا يعرف جوابه; والواجب على مثل هذا: موافقته للقول الذي ترجح عنده، بلا دعوى منه للاجتهاد، كالمجتهد في أعيان المفتين والأئمة، إذا ترجح عنده أحدهما قلده؛ والدليل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 38 الخاص الذي يرجح به قول على قول، أولى بالاتباع من دليل عام، على أن أحدهما أعلم أو أدين، لأن الحق واحد ولا بد، ويجب أن ينصب على الحكم دليلاً. انتهى. وقال الشيخ تقي الدين في بعض أجوبته: قد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين " 1، ولازم ذلك: أن من لم يفقهه في الدين لم يرد به خيراً، فيكون التفقه في الدين فرضاً; والفقه في الدين: معرفة الأحكام الشرعية بأدلتها السمعية; فمن لم يعرف ذلك لم يكن متفقهاً; لكن من الناس من قد يعجز عن الأدلة التفصيلية في جميع أموره، فيسقط عنه ما يعجز عن معرفته، ويلزمه ما يقدر عليه. وأما القادر على الاستدلال، فقيل: يحرم عليه التقليد مطلقاً، وقيل: يجوز مطلقاً، وقيل: يجوز عند الحاجة، كما إذا ضاق الوقت عن الاستدلال، وهذا القول أعدل الأقوال; والاجتهاد: ليس هو أمراً واحداً لا يقبل التجزؤ والانقسام، بل قد يكون الرجل مجتهداً في فن أو باب أو مسألة، دون فن وباب ومسألة. وكل أحد فاجتهاده بحسب وسعه; فمن نظر في مسألة تنازع فيها العلماء، ورأى مع أحد القولين نصوصاً لم يعلم لها معارضاً، بعد نظر مثله، فهو بين أمرين: إما أن يتبع قول القائل الأخير لمجرد كونه الإمام الذي اشتغل   1 البخاري: العلم (71) , ومسلم: الزكاة (1037) , وابن ماجة: المقدمة (221) , وأحمد (4/93, 4/95, 4/98) , ومالك: الجامع (1667) , والدارمي: المقدمة (224, 226) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 39 على مذهبه، ومثل هذا ليس بحجة شرعية، بل مجرد عادة يعارضها عادة غيره باشتغاله على مذهب إمام آخر، وإما أن يتبع القول الذي ترجح في نظره بالنصوص الدالة عليه، وحينئذ فيكون موافقته لإمام يقاوم به ذلك الإمام، وتبقى النصوص سالمة في حقه عن المعارض بالعمل؛ فهذا هو الذي يصلح. وإنما تنَزّلنا هذا التنزل، لأنه قد يقال: إن نظر هذا قاصر، وليس اجتهاده تاماً في هذه المسألة، لضعف آلة الاجتهاد في حقه. أما إذا قدر على الاجتهاد التام، الذي يعتقد معه أن القول الآخر ليس معه ما يدفع به النصوص، فهذا يجب عليه اتباع النصوص; وإن لم يفعل كان متبعاً للظن وما تهوى الأنفس، وكان من أكبر العصاة لله ورسوله، بخلاف من يقول: قد يكون للقول الآخر حجة راجحة على هذا النص، وأنا لا أعلمها، فهذا يقال له: قد قال الله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [سورة التغابن آية: 16] ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم " 1؛ والذي تستطيعه من العلم والفقه في هذه المسألة قد دلك على أن هذا القول هو الراجح، فعليك أن تتبع ذلك، ثم إن تبين لك فيما بعد أن للنص معارضاً راجحا، ً كان حكمك في ذلك حكم المجتهد المستقل إذا تغير اجتهاده؛ وانتقال الإنسان من قول إلى قول لأجل ما تبين له   1 البخاري: الاعتصام بالكتاب والسنة (7288) , ومسلم: الحج (1337) , وابن ماجة: المقدمة (2) , وأحمد (2/258, 2/428) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 40 من الحق، هو محمود فيه، بخلاف إصراره على قول لا حجة معه عليه، وترك القول الذي ترجحت حجته. وأما الانتقال عن قول إلى قول لمجرد عادة، واتباع هوى، فهذا مذموم. وإذا كان الإمام المقلد قد سمع الحديث وتركه، لا سيما إن كان قد رواه أيضاً، فمثل هذا لا يكون عذراً في ترك النص، فقد بينا فيما كتبناه في "رفع الملام عن الأئمة الأعلام" نحو عشرين عذراً للأئمة، في ترك العمل ببعض الحديث، وبينا أنهم يعذرون في الترك لتلك الأعذار. وأما نحن فلسنا معذورين في تركنا لهذا القول؛ فمن ترك الحديث، لاعتقاده أن ظاهر القرآن يخالفه، أو القياس، أو عمل بعض أهل الأمصار، وقد تبين لآخر أن ظاهر القرآن لا يخالفه، وأن نص الحديث الصحيح مقدم على الظواهر، ومقدم على القياس والعمل، لم يكن عذر ذلك الرجل عذراً في حقه. فإن ظهور المدارك الشرعية للأذهان، وخفاءها عنها أمر لا ينضبط طرفاه، لا سيما إذا كان التارك للحديث معتقداً أنه قد ترك العمل به المهاجرون والأنصار من أهل المدينة المنورة النبوية، الذين يقال إنهم لا يتركون الحديث إلا لاعتقادهم أنه منسوخ، أو له معارض راجح، وقد بلغ مَن بَعدَه أن المهاجرين والأنصار لم يتركوه، بل عمل به طائفة منهم، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 41 أو من سمعه منهم، ونحو ذلك مما يقدح في هذا المعارض. وإذا قيل لهذا المستهدي المسترشد: أنت أعلم، أم الإمام الفلاني؟ كانت هذه معارضة فاسدة، لأن الإمام الفلاني قد عارضه في هذه المسألة من هو نظيره من الأئمة؛ فكما أن الصحابة بعضهم لبعض أكفاء في موارد النّزاع، إذا تنازعوا في شيء رد ما تنازعوا فيه إلى الله والرسول، وإن كان بعضهم قد يكون أعلم في مواضع أخر، فكذلك موارد النّزاع بين الأئمة. وقد ترك الناس قول عمر وابن مسعود، في مسألة تيمم الجنب، وأخذوا بقول مَن هو دونهما كأبي موسى الأشعري وغيره، لما احتج بالكتاب والسنة، وتركوا قول عمر في دية الأصابع، وأخذوا بقول معاوية، لما كان معه من السنة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " هذه وهذه سواء " 1. وقد كان بعض الناس يناظر ابن عباس في التمتع، فقال له: "إن أبا بكر وعمر يقولان، فقال ابن عباس: يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء؛ أقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقولون: قال أبو بكر وعمر! "; وكذلك ابن عمر لما سألوه عنها فأمر بها، فعارضوه بقول عمر، فبين أن عمر يرد ما يقولونه، فألحوا عليه، فقال: "أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق أن يتبع، أم أمر عمر؟ " مع علم الناس أن أبا بكر وعمر أعلم ممن هو فوق ابن عمر، وابن عباس.   1 البخاري: الديات (6896) , والترمذي: الديات (1392) , والنسائي: القسامة (4847) , وأبو داود: الديات (4558) , وابن ماجة: الديات (2652) , وأحمد (1/227, 1/339, 1/345) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 42 ولو فتح هذا الباب، لوجب أن يعرض عن أمر الله ورسوله، ويبقى كل إمام في أتباعه بمنزلة النبي في أمته، وهذا تبديل للدين، يشبه ما عاب الله به النصارى في قوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} [سورة التوبة آية: 31] . انتهى كلام الشيخ، رحمه الله تعالى. وأما سؤال السائل: عن الترقي إلى معرفة طرق الحديث وصحته؟ أم تقليد المخرجين للحديث، في أنه صحيح أو حسن، يكفيهم؟ فجوابه: أن ذلك يكفيهم، قال في شرح مختصر التحرير: ويشترط في المجتهد: أن يكون عالماً بصحة الحديث، وضعفه، سنداً ومتناً، ولو كان علمه بذلك تقليداً، كنقله من كتاب صحيح من كتب الحديث المنسوبة إلى الأئمة، كمالك، وأحمد، والبخاري، ومسلم، وأبي داود، والترمذي، والدارقطني، والحاكم، ونحوهم، لأنهم أهل المعرفة بذلك، فجاز الأخذ بقولهم، كما يؤخذ بقول المقومين في القيم. انتهى. وقال في مسودة ابن تيمية: العامي الذي ليس معه آلة الاجتهاد في الفروع يجوز له التقليد فيها، عند الشافعية والجمهور؛ وقال أبو الخطاب: يجوز له الرجوع إلى أهل الحديث في الخبر، وكون سنده صحيحاً أو فاسداً، ولا يلزمه أن يتعلم ذلك بالإجماع. انتهى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 43 وقال عبد الرحيم ابن الحسين العراقي في ألفيته: وأخذ متن من كتاب لعملْ ... أو احتجاج حيث ساغ قد جعلْ عرضاً له على أصول يشترطْ ... وقال يحيى النووي أصل فقطْ ثم قال المؤلف في شرحه: أي وأخذ الحديث من كتاب، من الكتب المعتمدة لعمل به، أو احتجاج به، إن كان ممن يسوغ له العمل بالحديث والاحتجاج به، جعل ابن الصلاح شرطه: أن يكون ذلك الكتاب، مقابلاً بمقابلة ثقة، على أصول صحيحة متعددة، مروية روايات متنوعة; قال النووي: فإن قابلها بأصل معتمد محقق أجزأه. وقال ابن الصلاح في قسيم الحسن، حين ذكر أن نسخ الترمذي تختلف في قوله: حسن، أو حسن صحيح، ونحو ذلك: فينبغي أن تصحح أصلك بجماعة أصول، وتعتمد على ما اتفقت عليه; فقوله: ينبغي، قد يشير إلى عدم اشتراط ذلك، وإنما هو مستحب؛ وهو كذلك. انتهى كلام العراقي. وقال أبو الحسن البكري الشافعي، في كتابه: "كنْز المحتاج على المنهاج" لما ذكر أن من شروط القاضي أن يكون مجتهداً إلا إذا فوضت إليه واقعة خاصة: فيكفي الاجتهاد في تلك الواقعة، بناء على تجزؤ الاجتهاد، وهو الأصح - إلى أن قال: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 44 وقد يحصل الاجتهاد في باب دون باب آخر؛ ولا حاجة لتتبع الأحاديث، بل يكفي أصل مصحح، اعتني فيه بجميع أحاديث الأحكام، كسنن أبي داود، ولا أن يعرف مواقع كل باب فيراجعه عند الحاجة، ولا إلى البحث عن رواة حديث أجمع السلف على قبوله، أو تواترت عدالة رواته ويقظتهم; وما عداه يكتفى في رواته بتعديل إمام مشهور، عرفت صحة مذهبه جرحاً وتعديلاً، ولا إلى ضبط جميع مواضع الإجماع والاختلاف; بل يكفي معرفته بعدم مخالفة قوله الإجماع، لموافقته بتقدم عليه، أو غلبة ظن بتولدها في عصره، وكذا في معرفة الناسخ والمنسوخ. انتهى. وقال في شرح الروض، للقاضي زكريا، لما ذكر أن من شروط القاضي أن يكون مجتهداً، قال: والمجتهد: من علم ما يتعلق بالأحكام، من الكتاب والسنة، وعرف منها العام والخاص، والمطلق والمقيد، والمجمل والمبين، والنص والظاهر، والناسخ والمنسوخ، والمتواتر والآحاد، والمرسل والمتصل، وعدالة الرواة وجرحهم، وأقاويل الصحابة فمن بعدهم - إلى أن قال: ولا يشترط التبحر في هذه العلوم، بل يكفي معرفة جمل منها، وأن يكون له في كتب الحديث أصل صحيح، يجمع أحاديث الأحكام، أي غالبها، كسنن أبي داود، فيعرف كل باب، فيراجعه إذا احتاج إلى العمل به، ويكتفى في البحث الجزء: 4 ¦ الصفحة: 45 عن الأحاديث بما قبله منها السلف، وتواترت أهلية رواته، من العدل والضبط، وما عداه يكتفى في أهلية رواته بتأهل إمام مشهور، عرفت صحة مذهبه في الجرح والتعديل. ثم اجتماع هذه العلوم إنما يشترط في المجتهد المطلق، الذي يفتي في جميع أبواب الشرع. ويجوز أن يتبعض الاجتهاد، بأن يكون العالم مجتهداً في باب دون باب، فيكفيه علم ما يتعلق بالباب الذي يجتهد فيه. انتهى كلام القاضي. فتبين بما ذكرناه من المنقول: جواز الاعتماد على نقل الأحاديث من الكتب الصحيحة، وكذا التقليد لأهل الجرح والتعديل، في تصحيح الحديث أو تضعيفه; والله سبحانه أعلم. وأما قول السائل - وفقه الله لفهم المسائل -: حكى بعض المتأخرين: الإجماع على تقليد الأئمة الأربعة: أبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد، رحمهم الله. فنقول: هذا الإجماع حكاه غير واحد من المتأخرين، وكلهم نسبوه إلى الوزير أبي المظفر، يحيى بن هبيرة، صاحب "الإفصاح عن معاني الصحاح"؛ فإنه ذكر نحواً من هذه العبارة، وليس مراده أن الإجماع منعقد على وجوب تقليد هؤلاء الأئمة الأربعة، وأن الاجتهاد بعد استقرار هذه المذاهب لا يجوز; فإن كلامه يأبى ذلك. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 46 وإنما أراد الرد على من اشترط في القاضي أن يكون مجتهداً، وأن المقلد لا ينفذ قضاؤه، كما هو مذهب كثير من العلماء المتقدمين والمتأخرين; وحمل كلام من اشترط في القاضي أن يكون مجتهداً على ما كانت عليه الحال قبل استقرار هذه المذاهب الأربعة، وأما بعد استقرار هذه المذاهب فتجوز تولية المقلد لأهلها، وينفذ قضاؤه. وليس في كلامه ما يدل على أنه يجب التقليد لهؤلاء الأئمة، بحيث أن يلزم الرجل أن يتمذهب بأحد هذه المذاهب الأربعة، ولا يخرج عن مذهب من قلده، كما قد يتوهم; بل كلامه يخالف ذلك، ولا يوافقه. وعبارته في الإفصاح: اتفقوا على أنه لا يجوز أن يولى القضاء من ليس من أهل الاجتهاد، إلا أبا حنيفة، فإنه قال يجوز ذلك؛ قال الوزير: والصحيح في هذه المسألة: أن قول من قال: لا يجوز تولية قاض حتى يكون من أهل الاجتهاد، فإنه إنما عنى به ما كانت الحال عليه قبل استقرار هذه المذاهب الأربعة التي أجمعت الأمة أن كل واحد منها يجوز العمل به، لأنه مستند إلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. فالقاضي الآن، وإن لم يكن من أهل الاجتهاد، ولا يسعى في طلب الأحاديث، وابتغاء طرقها، ولا عرف من لغة الناطق بالشريعة صلى الله عليه وسلم ما لا يعوزه معه معرفة ما يحتاج إليه فيه، وغير ذلك من شروط الاجتهاد، فإن ذلك مما قد فرغ منه، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 47 ودأب له فيه سواه، وانتهى له الأمر من هؤلاء الأئمة المجتهدين، إلى ما أراحوا به من بعدهم، وانحصر الحق في أقاويلهم، ودونت العلوم وانتهت إلى ما اتضح فيه الحق، فإذا عمل القاضي في أقضيته بما يأخذ عنهم، أو عن الواحد منهم، فإنه في معنى من كان أداه اجتهاده إلى قول قاله. وعلى ذلك، فإنه إذا خرج من خلافهم، متوخياً مواطن الاتفاق ما أمكنه، كان آخذاً بالحزم، وعاملاً بالأولى، وكذلك إذا قصد في مواطن الخلاف، وتوخى ما عليه الأكثر منهم، والعمل بما قاله الجمهور دون الواحد، فإنه قد أخذ بالحزم والأحوط والأولى، مع جواز علمه أن يعمل بقول الواحد. إلا أنني أكره له أن يكون ذلك، من حيث إنه قد قرأ مذهب واحد منهم، أو نشأ في بلدة لم يعرف فيها إلا مذهب إمام واحد منهم، أو كان شيخه ومعلمه على مذهب فقيه من الفقهاء، فقصر نفسه على اتباع ذلك المذهب، حتى إنه إذا حضر عنده خصمان، وكان ما تشاجرا فيه مما يفتي الفقهاء الثلاثة فيه بحكم، نحو التوكيل بغير رضى الخصم، وكان الحاكم "حنفياً"، وقد علم أن مالكاً والشافعي وأحمد اتفقوا على جواز هذا التوكيل، وأن أبا حنيفه يمنعه، فعدل عما اجتمع عليه هؤلاء الأئمة الثلاثة، إلى ما ذهب إليه أبو حنيفة، بمجرد أنه قاله فقيه، هو في الجملة من فقهاء الأتباع له، ومن غير أن يثبت عنده بالدليل ما قاله، ولا أداه اجتهاده الجزء: 4 ¦ الصفحة: 48 إلى أن أبا حنيفة أولى بالاتباع مما اتفق الجماعة عليه، فإني أخاف على هذا من الله عز وجل بأنه اتبع في ذلك هواه، وأنه ليس من {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [سورة الزمر آية: 18] . وكذلك إن كان القاضي "مالكياً" فاختصم إليه اثنان في سؤر الكلب، فقضى بطهارته مع علمه بأن الفقهاء كلهم قضوا بنجاسته، فعدل إلى مذهبه؛ وكذلك إن كان القاضي "شافعياً" فاختصم إليه اثنان في متروك التسمية عمداً، فقال أحدهما: هذا منعني بيع شاة مذكاة، فقال الآخر: إنما منعته من بيع الميتة، فقضى عليه بمذهبه، وهو يعلم أن الأئمة الثلاثة على خلافه. وكذلك: إن كان القاضي "حنبليا" فاختصم إليه اثنان، فقال أحدهما: لي عليه مال، فقال الآخر: كان له علي مال فقضيته، فقضى عليه بالبراءة من إقراره، مع علمه بأن الأئمة الثلاثة على خلافه; فإن هذا وأمثاله، مما توخي اتباع الأكثرين فيه، أقرب عندي إلى الإخلاص، وأرجح في العمل؛ وبمقتضى هذا، فإن ولايات الحكام في وقتنا هذا صحيحة، وأنهم قد سدوا ثغراً من ثغور الإسلام، سده فرض كفاية. ولو أهملت هذا القول ولم أذكره، ومشيت على الطريق التي يمشي عليها الفقهاء، الذين يذكر كل منهم في كتاب إن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 49 صنفه، أو كلام إن قاله، أنه لا يصح أن يكون قاضياً إلا من كان من أهل الاجتهاد، ثم يذكر من شروط الاجتهاد أشياء، ليست موجودة في الحكام، فإن هذا كالإحالة، والتناقض، وكأنه تعطيل للأحكام، وسد لباب الحكم، وأن لا ينفذ حق، ولا يكاتب به، ولا يقام بينة، إلى غير ذلك من القواعد الشرعية. وهذا غير صحيح; بل الصحيح في المسألة: أن ولايات الحكام جائزة وأن حكوماتهم اليوم صحيحة نافذة، وولاياتهم جائزة شرعاً. انتهى كلام ابن هبيرة، رحمه الله تعالى. فقد تضمن هذا الكلام: أن تولية المقلد جائزة، إذا تعذرت تولية المجتهد، لأنه ذكر أن شروط الاجتهاد ليست موجودة في الحكام، وأن هذا كالإحالة، وكأنه تعطيل للأحكام، وسد لباب الحكم، فينفذ قضاء المقلد للحاجة، لئلا تتعطل الأحكام؛ وهكذا قال غير واحد من المتأخرين، الذين يذكرون أن من شروط القاضي أن يكون مجتهداً، يذكر هذا، ثم يذكر القول الثاني: أنه يجوز تولية المقلد للضرورة، كما ذكره متأخرو الحنابلة، والمالكية، والشافعية. وتضمن أيضاً كلام ابن هبيرة، أن إجماع الأئمة الأربعة حجة، وأن الحق لا يخرج عن أقوالهم؛ فلا يخرج الجزء: 4 ¦ الصفحة: 50 القاضي عما أجمعوا عليه; فإن اختلفوا، فالأولى أن يتبع ما عليه الأكثر; وصرح بأنه يكره له أن يقضي بما انفرد به الواحد منهم عما عليه الثلاثة، لكونه مذهب شيخه أو أهل بلده، وذكر أنه يخاف على هذا أن يكون متبعاً لهواه. وتضمن كلامه أيضاً: أن الإجماع انعقد على تقليد كل واحد من المذاهب الأربعة دون من عداهم من الأئمة، لأن مذاهبهم مدونة، قد حررت، ونقحها أتباعهم، بخلاف أقوال غيرهم من الأئمة؛ فلأجل هذا جاز تقليدهم. فليس في كلامه إلا حكاية الإجماع على جواز تقليدهم، لا على وجوبه؛ بل صرح بأن القاضي لا ينبغي له الاقتصار على مذهب واحد منهم، لا يفتي إلا به. بل ذكر أن الأولى للقاضي أن يتوخى مواطن الاتفاق إن وجده، وإلا توخى ما عليه الأكثر، فيعمل بما قاله الجمهور، لا بما قاله الواحد منهم مخالفاً الأكثر. فقضية كلامه: أن المقلد لا يخرج عن أقوال الأئمة الأربعة، بل يجتهد في أقوالهم، ويتوخى ما عليه أكثرهم، إلا أن يكون للواحد منهم دليل، فيأخذ بقول من كان الدليل معه، فيكون من {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [سورة الزمر آية: 18] ، وهذا من جنس ما أشرنا إليه فيما تقدم، من أن المقلد إذا كان نبيهاً، وله ملكة قوية، ونظر فيما تنازع فيه الأئمة، وأمعن النظر في أدلتهم وتعليلاتهم، تبين له الجزء: 4 ¦ الصفحة: 51 الراجح من المرجوح، وحينئذ فيعمل بما ترجح عنده أنه الصواب، ولا يخرج بذلك عن التقليد. فإذا كان الرجل شافعياً أو حنبلياً، ونظر في كتب الخلاف، ووجد دليلاً صحيحاً قد استدل به مالك، فعمل بالدليل، كان هذا هو المناسب في حقه، فيجعل إماماً بإزاء إمام، ويسلم له الدليل بلا معارض؛ وليس هذا من الاجتهاد المطلق، بل هو من الاجتهاد المقيد؛ فهو يتبع الدليل، ويقلد الإمام الذي قد أخذ به. وأما الأخذ بالدليل، من غير نظر إلى كلام العلماء، فهو وظيفة المجتهد المطلق؛ وأما المقلد الذي لم تجتمع فيه الشروط، ففرضه التقليد وسؤال أهل العلم؛ قال عبد الله بن الإمام أحمد: سألت أبي عن الرجل تكون عنده الكتب المصنفة، فيها قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، واختلاف الصحابة والتابعين، وليس للرجل بصر بالحديث الضعيف المتروك، ولا الإسناد القوي من الضعيف، أفيجوز أن يعمل بما شاء؟ ويتخير ما أحب منها، فيفتي به ويعمل به؟ قال: لا; لا يعمل حتى يسأل ما يؤخذ به منها، فيكون يعمل على أمر صحيح، يسأل عن ذلك أهل العلم. انتهى كلامه. وأما إذا وجد الحديث قد عمل به بعض الأئمة المجتهدين ولم يعلم عند غيره حجة يدفع بها الحديث، فعمل به، كان قد عمل بالحديث وقلد هذا الإمام المجتهد في الجزء: 4 ¦ الصفحة: 52 تصحيحه وعدم ما يعارضه، فيكون متبعاً للدليل، غير خارج عن التقليد. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله: طالب العلم يمكنه معرفة الراجح من الكتب الكبار التي يذكر فيها مسائل الخلاف، ويذكر فيها الراجح، مثل كتاب "التعليق" للقاضي أبي يعلى، و"الانتصار" لأبي الخطاب، و "عمد الأدلة" لابن عقيل، و"تعليق القاضي" يعقوب البرزبيني، وأبي الحسن الزاغوني; ومما يعرف منه ذلك: كتاب "المغني" للشيخ أبي محمد، وكتاب "شرح الهداية" لجدنا أبي البركات. ومن كان خبيراً بأصول أحمد ونصوصه، عرف الراجح في مذهبه في عامة المسائل، ومن كان له بصر بالأدلة الشرعية، عرف الراجح في الشرع؛ وأحمد، رحمه الله، أعلم من غيره بالكتاب والسنة وأقوال الصحابة، رضي الله عنهم، والتابعين لهم بإحسان، رحمهم الله، ولهذا لا يكاد يوجد له قول يخالف نصاً كما يوجد لغيره; ولا يوجد له قول ضعيف في الغالب إلا وفي مذهبه ما يوافق القول القوي، وأكثر مفاريده التي لا يختلف فيها مذهبه، يكون قوله فيها راجحاً. انتهى كلامه، رحمه الله. وهو موافق لما ذكره صاحب الإفصاح من أن القاضي عليه أن يتوخى إصابة الحق، فيتوخى مواطن الاتفاق، فيعمل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 53 بما اتفقوا عليه، فإن لم يكن الحكم متفقاً عليه، نظر فيما عليه الجمهور، إذا لم يكن مع مخالفهم دليل; فليس الناظر في كتب الخلاف، ومعرفة الأدلة بخارج عن التقليد; وليس في كلام صاحب الإفصاح ما يقتضي التمذهب بمذهب لا يخرج عنه؛ بل كلامه صريح في ضد ذلك. وهذه الشبهة ألقاها الشيطان على كثير ممن يدعي العلم، وصال بها أكثرهم، فظنوا أن النظر في الأدلة أمر صعب لا يقدر عليه إلا المجتهد المطلق، وأن من نظر في الدليل، وخالف إمامه لمخالفة قوله لذلك الدليل، فقد خرج عن التقليد، ونسب نفسه إلى الاجتهاد المطلق. واستقرت هذه الشبهة في قلوب كثير، حتى آل الأمر بهم إلى أن {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [سورة المؤمنون آية: 53] ، وزعموا أن هذا هو الواجب عليهم، وأن من انتسب إلى مذهب إمام، فعليه أن يأخذ بعزائمه ورخصه، وإن خالف نص كتاب أو سنة؛ فصار إمام المذهب عند أهل مذهبه كالنبي في أمته، لا يجوز الخروج عن قوله، ولا تجوز مخالفته. فلو رأى واحداً من المقلدين قد خالف مذهبه، وقلد إماماً آخر في مسألة لأجل الدليل الذي استدل به، قالوا: هذا قد نسب نفسه إلى الاجتهاد، ونزل نفسه منْزلة الأئمة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 54 المجتهدين، وإن كان لم يخرج عن التقليد، وإنما قلد إماماً دون إمام آخر، لأجل الدليل، وعمل بقوله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [سورة النساء آية: 59] . فالمتعصبون للمذاهب إذا وجدوا دليلاً ردوه إلى نص إمامهم، فإن وافق الدليل نص الإمام قبلوه، وإن خالفه ردوه واتبعوا نص الإمام، واحتالوا في رد الأحاديث بكل حيلة يهتدون إليها. فإذا قيل لهم: هذا حديث رسول الله، قالوا: أنت أعلم بالحديث من الإمام الفلاني؟! أمثال ذلك: إذا حكمنا بطهارة بول ما يؤكل لحمه، وحكم الشافعي بنجاسته، وقلنا له: قد دل على طهارته حديث العرنيين، وهو حديث صحيح. وكذلك حديث أنس في الصلاة في مرابض الغنم، فقال هذا المنجس لأبوال مأكول اللحم: أنت أعلم بهذه الأحاديث من الإمام الشافعي؟ فقد سمعها ولم يأخذ بها; فنقول له: قد خالف الشافعي في هذه المسألة من هو مثله، أو هو أعلم منه، كمالك والإمام أحمد، رحمهما الله، وغيرهما من كبار الأئمة، فنجعل هؤلاء الأئمة بإزاء الشافعي ونقول: إمام بإمام، وتسلم لنا الأحاديث، ونرد الأمر إلى الله والرسول عند الجزء: 4 ¦ الصفحة: 55 تنازع هؤلاء الأئمة، ونتبع الإمام الذي أخذ بالنص، ونعمل بقوله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [سورة النساء آية: 59] ، فنمتثل ما أمر الله به؛ وهذا هو الواجب علينا. ولسنا في هذا العمل خارجين عن التقليد، بل خرجنا من تقليد إمام، إلى تقليد إمام آخر، لأجل الحجة التي أدلى بها من غير معارض لها ولا ناسخ؛ فالانتقال من مذهب إلى مذهب آخر، لأمر ديني، بأن تبين له رجحان قول على قول، فيرجع إلى القول الذي يرى أنه أقرب إلى الدليل، مثاب على فعله، بل واجب على كل أحد، إذا تبين له حكم الله ورسوله، في أمر، أن لا يعدل عنه، ولا يتبع أحداً في مخالفة حكم الله ورسوله؛ فإن الله فرض على الخلق طاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم في كل حال، كما تقدم ذكره. وقد ذكرنا أن الشافعي، رحمه الله، قال: أجمع المسلمون على أن من استبانت له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد من الناس؛ وأما الانتقال من مذهب إلى مذهب، لمجرد الهوى، أو لغرض دنيوي، فهذا لا يجوز، وصاحبه يكون متبعاً لهواه. وقد نص الإمام أحمد، رحمه الله، على أنه: ليس لأحد أن يعتقد الشيء واجباً، أو محرماً، ثم يعتقده غير واجب أو محرم، بمجرد هواه، وذلك مثل: أن يكون طالباً للشفعة بالجوار، فيعتقدها أنها حق، ويقول: مذهب أبي حنيفة في الجزء: 4 ¦ الصفحة: 56 هذه المسألة أرجح من مذهب الجمهور، ثم إذا طلبت منه الشفعة بالجوار، اعتقد أنها ليست ثابتة، وقال: مذهب الجمهور في هذه المسألة أرجح. ومثل من يعتقد: إذا كان أخاً مع جد، أن الإخوة تقاسم الجد، كما هو مذهب الأئمة الثلاثة، فإذا كان جد، مع أخ، اعتقد أن الجد يسقط الإخوة كما هو مذهب أبي حنيقة؛ فهذا ونحوه لا يجوز، وصاحبه مذموم، بل يجب عليه أن يعتقد الحق فيما له وعليه، ولا يتبع هواه، ولا يتبع الرخص؛ فمتبع الرخص مذموم، والمتعصب للمذهب مذموم، وكلاهما متبع هواه. والمتعصبون لمذاهب الأئمة تجدهم في أكثر المسائل قد خالفوا نصوص أئمتهم، واتبعوا أقوال المتأخرين من أهل مذهبهم، فهم يحرصون على ما قاله الآخر، فالآخر; وكلما تأخر الرجل أخذوا بكلامه، وهجروا أو كادوا يهجرون كلام من فوقه; فأهل كل عصر إنما يقضون بقول الأدنى فالأدنى إليهم، وكلما بعد العهد، ازداد كلام المتقدمين هجراً ورغبة عنه، حتى إن كتب المتقدمين لا تكاد توجد عندهم، فإن وقعت في أيديهم، فهي مهجورة. فالحنابلة قد اعتمدوا على ما في الإقناع، والمنتهى، ولا ينظرون فيما سواهما، ومن خالف مذهب المتأخرين، فهو عندهم مخالف لمذهب أحمد، رحمه الله، مع أن كثيراً من الجزء: 4 ¦ الصفحة: 57 المسائل التي جزم بها المتأخرون مخالفة لنصوص أحمد، يعرف ذلك من عرفه، وتجد كتب المتقدمين من أصحاب أحمد مهجورة عندهم؛ بل قد هجروا كتب المتوسطين، ولم يعتمدوا إلا على كتب المتأخرين. ف "المغني" و "الشرح" و "الإنصاف" و "الفروع" ونحو هذه الكتب، التي يذكر فيها أهلها خلاف الأئمة، أو خلاف الأصحاب، لا ينظرون فيها؛ فهؤلاء في الحقيقة أتباع الحجاوي وابن النجار، لا أتباع الإمام أحمد. وكذلك متأخرو الشافعية، هم في الحقيقة أتباع ابن حجر الهيتمي صاحب "التحفة" وأضرابه من شراح المنهاج؛ فما خالف ذلك من نصوص الشافعي، لا يعبؤون به شيئاً. وكذلك متأخرو المالكية، هم في الحقيقة: أتباع خليل، فلا يعبؤون بما خالف مختصر خليل شيئاً، ولو وجدوا حديثاً ثابتاً في الصحيحين، لم يعملوا به إذا خالف المذهب، وقالوا: الإمام الفلاني أعلم منا بهذا الحديث، {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [سورة المؤمنون آية: 53] ؛ وكل أهل مذهب اعتمدوا على كتب متأخريهم، فلا يرجعون إلا إليها، ولا يعتمدون إلا عليها. وأما كتب الحديث، كالأمهات الست، وغيرها من كتب الجزء: 4 ¦ الصفحة: 58 الحديث، وشروحها، وكتب الفقه الكبار، التي يذكر فيها خلاف الأئمة وأقوال الصحابة والتابعين، فهي عندهم مهجورة، بل هي في الخزانة مسطورة، للتبرك بها لا للعمل. ويعتذرون بأنهم قاصرون عن معرفتها، فالأخذ بها وظيفة المجتهدين، والاجتهاد قد انطوى بساطه من أزمنة متطاولة، ولم يبق إلا التقليد، والمقلد يأخذ بقول إمامه، ولا ينظر إلى دليله وتعليله. ولم يميزوا بين المجتهد المطلق، الذي قد اجتمعت فيه شروط الاجتهاد، فهو يستقل بإدراك الأحكام الشرعية من الأدلة الشرعية من غير تقليد ولا تقييد، وبين المجتهد في مذهب إمامه أو في مذاهب الأئمة الأربعة، من غير خروج عنها؛ فهو ملتزم لمذهب إمام من الأئمة، وينظر في كتب الخلاف، ويمعن النظر في الأدلة، فإذا رأى الدليل بخلاف مذهبه، قلد الإمام الذي قد أخذ بالدليل؛ فهو اجتهاد مشوب بالتقليد. فينظر إلى ما اتفقوا عليه ويأخذ به، فإن اختلفوا نظر في الأدلة؛ فإن وجد مع أحدهم دليلاً أخذ بقوله، فإن لم يجد في المسألة دليلاً من الجانبين، أخذ بما عليه الجمهور، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 59 فإن لم يجد ذلك، بل قوي الخلاف عنده من الجانبين، التزم قول إمامه، إذا لم يترجح عنده خلافه. فأكثر المقلدين لا يميزون بين المجتهد المستقل من غيره، وجعلوهما نوعاً واحداً; وهذا غلط واضح; فإن من كان قاصراً في العلم، لا يستقل بأخذ الأحكام من الأدلة، بل يسأل أهل العلم، كما نص عليه الإمام أحمد، رحمه الله، في رواية ابنه عبد الله؛ وقد ذكرناه فيما تقدم. وأما الاجتهاد المقيد بمذاهب الأئمة، وتوخي الحق بما دل عليه الدليل، وبما عليه الجمهور، فهذا هو الذي لا ينبغي العدول عنه، وهو الذي ذكره صاحب الإفصاح. وأما لزوم التمذهب بمذهب بعينه بحيث لا يخرج عنه، وإن خالف نص الكتاب أو السنة، فهذا مذموم غير ممدوح؛ وقد ذمه صاحب الإفصاح كما تقدم ذكره، بل قد ذمه الأئمة، رضي الله عنهم. قال الشافعي، قدس الله روحه: طالب العلم بلا حجة، كحاطب ليل، يحمل حزمة حطب وفيها أفعى تلدغه، وهو لا يدري. وقال أبو حنيفة، وأبو يوسف: لا يحل لأحد أن يقول بقولنا، حتى يعلم من أين قلناه؛ وقد صرح مالك بأن من ترك قول عمر بن الخطاب، لقول إبراهيم النخعي، أنه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 60 يستتاب، فكيف بمن ترك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لقول من هو دون إبراهيم أو مثله؟! قال جعفر الفريابي: حدثني أحمد بن إبراهيم الدورقي، حدثني الهيثم بن جميل، قلت لمالك بن أنس رضي الله عنه: يا أبا عبد الله، إن عندنا قوماً وضعوا كتباً، يقول أحدهم: حدثنا فلان عن فلان، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه بكذا وكذا، وفلان عن إبراهيم بكذا، ويأخذ بقول إبراهيم; قال مالك: وصح عندهم قول عمر؟ قلت: إنما هي رواية، كما صح عندهم قول إبراهيم، فقال: هؤلاء يستتابون. وقال أبو عمر بن عبد البر: يقال لمن قال بالتقليد: لم قلت به، وخالفت السلف في ذلك؟ فإنهم لم يقلدوا. فإن قال: قلدت، لأن كتاب الله لا علم لي بتأويله، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم أحصها; والذي قلدته قد علم ذلك، فقلدت من هو أعلم مني. قيل له: أما العلماء إذا أجمعوا على تأويل شيء من الكتاب، أو حكاية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو اجتمع رأيهم على شيء، فهو الحق لا شك فيه، ولكن قد اختلفوا فيما قلدت فيه بعضهم، دون بعض؛ فما حجتك في تقليد بعضهم دون بعض، وكلهم عالم؟ ولعل الذي رغبت عن قوله أعلم من الذي ذهبت إلى مذهبه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 61 فإن قال: قلدته لأني أعلمه على صواب، قيل له: علمت ذلك من كتاب الله، أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، أو إجماع؟ فإن قال: نعم، أبطل التقليد، وطولب بما ادعاه من الدليل؛ وإن قال: قلدته لأنه أعلم مني، قيل له: فقلد كل من هو أعلم منك، فإنك تجد من ذلك خلقاً كثيراً، ولا تخص من قلدته، إذ علتك فيه أنه أعلم منك. فإن قال: قلدته لأنه أعلم الناس، قيل له: فهو إذاً أعلم من الصحابة، رضي الله عنهم؛ فكفى بقول مثل هذا قبحاً; فإن قال: أنا أقلد بعض الصحابة، قيل له: فما حجتك في ترك من لم تقلد منهم؟ ولعل من تركت منهم أفضل ممن أخذت بقوله، على أن القول لا يصح بفضل قائله، وإنما يصح بدلالة الدليل عليه. وقد ذكر ابن معين عن عيسى بن دينار عن القاسم عن مالك، قال: ليس كلما قال الرجل قولاً - وإن كان له فضل - يتبع عليه، لقوله عز وجل: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [سورة الزمر آية: 18] . فإن قال: قصري وقلة علمي تحملني على التقليد، قيل له: أما من قلد فيما ينزل به من أحكام الشريعة عالماً يتفق له على علمه، فيصدر في ذلك عما يخبره به، فمعذور، لأنه قد أتى ما عليه، وأدى ما لزمه فيما نزل به لجهله، ولا بد له من تقليد عالم فيما جهله، لإجماع الجزء: 4 ¦ الصفحة: 62 المسلمين أن المكفوف يقلد من يثق بخبره في القبلة، لأنه لا يقدر على أكثر من ذلك. ولكن من كانت هذه حاله، هل يجوز له الفتوى في شرائع دين الله؟ فيحمل غيره على إباحة الفروج، وإراقة الدماء، واسترقاق الرقاب، وإزالة الأملاك، يصيرها إلى غير من كانت في يده بقول لا يعرف صحته ولا قام له الدليل عليه، وهو مقر أن صاحبه يخطئ ويصيب، وأن مخالفه في ذلك ربما كان المصيب فيما يخالفه فيه؛ فإن أجاز الفتوى لمن جهل الأصل والمعنى، لحفظه الفروع، لزمه أن يجيزه للعامة، وكفى بذلك جهلاً ورداً للقرآن، قال الله عز وجل: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [سورة الإسراء آية: 36] ، وقال تعالى: {أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [سورة الأعراف آية: 28] . وقد أجمع العلماء: على أن ما لم يتبين ولم يستيقن، فليس بعلم; وإنما هو ظن، والظن لا يغني من الحق شيئاً؛ ثم ذكر حديث ابن عباس رضي الله عنه: "من أفتى بفتيا، وهو يعمى عنها، كان إثمها عليه "، موقوفاً ومرفوعاً، قال: وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم: " إياكم والظن‍! فإن الظن أكذب الحديث " 1، قال: ولا خلاف بين أئمة الأمصار في فساد التقليد. انتهى كلام أبي عمر، رحمه الله تعالى. فتأمل ما في هذا الكلام من الرد على من يقول   1 البخاري: النكاح (5144) , ومسلم: البر والصلة والآداب (2563) , والترمذي: البر والصلة (1988) , وأحمد (2/287, 2/312, 2/342, 2/517) , ومالك: الجامع (1684) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 63 بلزوم التمذهب بمذهب من هذه المذاهب الأربعة، لا يخرج عن ذلك المذهب، ولو وجد دليلاً يخالفه، لأن الإمام صاحب المذهب أعلم بمعناه، ويجعل هذا عذراً له في رد الحديث، أو ترك العمل به إذا خالف المذهب. وتأمل قوله: لا خلاف بين أئمة الأمصار في فساد التقليد؛ ومراده إذا كان المقلد قادراً على الاستدلال، وأما العاجز عنه، فهو كالأعمى يقلد في جهة القبلة، فهو معذور إذا كان عاجزا. وقد حكى الإمام أبو محمد ابن حزم الإجماع على أنه لا يجوز التزام مذهب بعينه، لا يخرج عنه، فقال: أجمعوا على أنه لا يجوز لحاكم ولا لمفت تقليد رجل، فلا يحكم ولا يفتي إلا بقوله. انتهى. فحكاية الإجماع من هذين الإمامين، أعني أبا عمر بن عبد البر، وأبا محمد ابن حزم كاف في إبطال قول المتعصبين للمذهب؛ والله سبحانه وتعالى أعلم، ونسأل الله أن يهدينا لما اختلف فيه من الحق بإذنه، فإنه يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه، وسلم تسليماً كثيراً. وقال الشيخ عبد الرحمن بن حسن، فيمن ترك العمل بالحديث الصحيح، إذا خالف المذهب: هذا من محدثات الأمور، التي ما أنزل الله بها من سلطان، قال تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 64 تَذَكَّرُونَ} [سورة الأعراف آية: 3] ، وقال: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} الآية [سورة النساء آية: 59] . وهذا أصل عظيم من أصول الدين; قال العلماء، رحمهم الله: كل يؤخذ من قوله ويترك، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذا القول الذي يقوله هؤلاء، يفضي إلى هجران الكتاب والسنة، وتبديل النصوص; والتقليد المفضي إلى هذا الإعراض عن تدبر الكتاب والسنة، فيه شبه بمن قال الله فيهم: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} [سورة التوبة آية: 31] ، وقوله: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [سورة الشورى آية: 21] . وأهل الاجتهاد من العلماء، وإن كانوا معذورين باجتهادهم، إنما هو في معنى أدلة الكتاب والسنة، وينهون عن تقليدهم؛ فالأئمة، رحمهم الله، اجتهدوا، ونصحوا; قال الشافعي، رحمه الله: إذا صح الحديث بخلاف قولي، فاضربوا بقولي الحائط؛ فهو مذهبي. وسئل الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين، رحمه الله تعالى: ما قولكم أدام الله النفع بعلومكم، فيمن اعتمد على كتب المتأخرين، من غير التفات إلى ما خالفها، من نصوص القرآن والسنة، وكلام السلف، والعلماء المتقدمين؟ ورأى أن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 65 ما حوته هو الذي شرعه الله لرسوله، وأوجب أن يعبد به؟ وإن قيل له في ذلك، قال: قد اختار هذه الكتب من هو أعلم منا، وأبصر بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم. وما يقال في مثل هذا؟ وما يخاف عليه منه؟ فأجاب: لا ريب، أن الله سبحانه فرض على عباده طاعته، وطاعة رسوله، قال تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} [سورة الأعراف آية: 3] ، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ} [سورة الأنفال آية: 20] ، وقال تعالى: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [سورة النور آية: 54] ، ولم يوجب الله سبحانه على الأمة طاعة أحد بعينه في كل ما يأمر به، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ قال ابن عبد البر: أجمع العلماء على أن المقلد ليس معدوداً من أهل العلم، وأن العلم معرفة الحق بدليله; وقال الشافعي، رحمه الله تعالى: أجمع المسلمون على أن من استبانت له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد من الناس. انتهى. وقال ابن هبيرة في الإفصاح: اتفقوا على أنه لا يجوز أن يولى القضا من ليس من أهل الاجتهاد، إلا أبا حنيفة فإنه قال: يجوز ذلك. وقال الشيخ أبو محمد في المغني: يشترط في الجزء: 4 ¦ الصفحة: 66 القاضي أن يكون من أهل الاجتهاد; وبهذا قال مالك، والشافعي، وبعض الحنفية; وقال بعضهم: يجوز أن يكون عامياً فيحكم بالتقليد، لأن الغرض منه فصل الخصومات، فإذا أمكنه ذلك بالتقليد، جاز، كما يحكم بقول المقومين. ولنا قول الله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [سورة المائدة آية: 49لا] ، ولم يقل بالتقليد; وقال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [سورة النساء آية: 59] . وروى بريدة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " القضاة ثلاثة: اثنان في النار، وواحد في الجنة: رجل علم الحق فقضى به فهو في الجنة، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار، ورجل جار في الحكم فهو في النار " 1، رواه ابن ماجة. قال: والعامي يقضي على جهل، ولأن الحكم آكد من الفتيا، لأنه فتيا وإلزام، والمفتي لا يجوز أن يكون مقلداً، فالحكم أولى. وقال في الإنصاف: ويشترط في القاضي أن يكون مجتهداً؛ هذا المذهب - إلى أن قال - واختار في الترغيب: ومجتهد في مذهب إمامه للضرورة; واختار في الإفصاح والرعاية: ومقلداً. قلت: وعليه العمل من مدة طويلة، وإلا لتعطلت أحكام الناس. انتهى. وذكر ابن القيم - في مسألة التقليد في الفتيا - ثلاثة أقوال: أحدها: أنه لا يجوز الفتوى في التقليد، لأنه ليس بعلم، وأن المقلد لا يطلق عليه اسم عالم؛ وهذا قول أكثر   1 أبو داود: الأقضية (3573) , وابن ماجة: الأحكام (2315) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 67 الأصحاب، وهو قول جمهور الشافعية. والثاني: أن ذلك يجوز فيما يتعلق بنفسه، فيجوز أن يقلد غيره من العلماء، إذا كانت الفتوى لنفسه، ولا يجوز أن يقلد العالم فيما يفتي به لغيره; وهذا قول ابن بطة وغيره من أصحابنا. والقول الثالث: أنه يجوز ذلك عند الحاجة والضرورة، ولكن قد دعت الحاجة والضرورة إليه من زمان طويل لا سيما في هذا الوقت. وحينئذ فيقال: التقليد ثلاثة أنواع: أحدها: التقليد بعد قيام الحجة وظهور الدليل، فهذا لا يجوز، كما قال الشافعي، رحمه الله: أجمع المسلمون على أن من استبانت له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد من الناس. النوع الثاني: التقليد مع القدرة على الاستدلال والبحث عن الدليل، بأن يكون متأهلاً لذلك، فهذا مذموم أيضاً، لقدرته وتمكنه من معرفة الدليل. النوع الثالث: التقليد السائغ، وهو نوعان: أحدهما: من كان من العوام الذين لا معرفة لهم بالحديث والفقه، وليس لهم نظر في كلام العلماء، فهؤلاء لهم التقليد بغير خلاف؛ فإذا وقعت له حادثة استفتى من علمه عالماً عدلاً، ورآه منتصباً للإفتاء والتدريس؛ واشترط الشيخ تقي الدين مع ذلك الاستفاضة بأنه أهل للفتيا. النوع الثاني: من كان متأهلًا لبعض العلوم، قد تفقه في مذهب من الجزء: 4 ¦ الصفحة: 68 المذاهب، وتبصر في بعض كتب متأخري الأصحاب، كالإقناع، والمنتهى عند الحنابلة، لكنه قاصر النظر عن معرفة الدليل، ومعرفة الراجح من كلام العلماء، فهذا له التقليد أيضاً؛ إذ لا يجب عليه إلا ما يقدر عليه و {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} [سورة البقرة آية: 286] . ونصوص العلماء على جواز التقليد لمثل هذا كثيرة، وذلك لقول الله تعالى: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [سورة النحل آية: 43] ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " ألا سألوا إذا لم يعلموا؟ فإنما شفاء العي السؤال " 1؛ ولكن هذا لا ينبغي له التسرع إلى إفتاء غيره، فإن دعت الحاجة إلى فتواه، فهو إخبار عن مذهب إمامه الذي ينتسب إليه، لا فتيا؛ قاله جماعة من الأصحاب; وعليه أن يتقي الله ما استطاع، فإن كان له فهم قوي وإدراك، بحيث إذا نظر المسائل الخلافية، ورأى أدلة كل من المختلفين، وكان فيه ذكاء وفطنة، يدرك بها الراجح من المرجوح فيما يراه، عمل بما ترجح عنده؛ فإذا كان طالب العلم متمذهباً بأحد المذاهب الأربعة، ثم رأى دليلاً مخالفاً لمذهب إمامه، وذلك الدليل قد أخذ به بعض أئمة المذاهب، ولم يعلم له معارضاً، فخالف مذهبه وتبع ذلك الإمام الذي أخذ بالدليل، كان مصيباً؛ بل هذا هو الواجب عليه، ولا يخرج بذلك عن التقليد، فهو مقلد لذلك الإمام، فيجعل إماماً بإزاء إمام، ويبقى له الدليل بلا معارض.   1 أبو داود: الطهارة (336) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 69 قال الشيخ تقي الدين، رحمه الله تعالى: من كان متبعاً لإمام فخالفه في بعض المسائل، لقوة الدليل، أو لكون أحدهما أعلم أو أتقى، فقد أحسن; وقال في موضع آخر: بل يجب عليه، وإن أحمد نص على ذلك. انتهى. وعلى كل حال، فلا ينبغي التسرع والجسرة بقول: هذا حلال، هذا حرام، هذا واجب؛ قال الله تعالى: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} [سورة النحل آية: 116] ؛ فمن عرف أحوال السلف، وهيبتهم الإفتاء، مع علمهم وفضلهم، أفاده ذلك اتهام فهمه، وعدم التسرع إلى الفتوى، لأنه يخبر عن الله تعالى، والمقلد: إنما يحكي عن غيره، فالأولى إذا دعت الضرورة إلى فتواه، أن يقول: ذكر أصحاب المذهب الفلاني، أو ذكر في الكتاب الفلاني: كذا، وكذا. وأما قول القائل: قد اختار هذه الكتب وما حوته، من هو أعلم منا، فيقال: حق، هم أعلم منا، لكن لا يلزم من ذلك تقليدهم في كل ما وضعوه; فإذا قال كل أهل مذهب هذه المقالة، في كتب من تقدمهم، فالمصيب عند الله واحد، فمن هو الذي يجب اتباعه؟! فإذا اختلفت المذاهب في حكم مسألة، فالمصيب منهم واحد، والمجتهد المخطئ إذا كان أهلاً مأجور على اجتهاده، ولا يجوز له تقليده إذا بان له خطؤه، مع كونه أعلم ممن بعده، والله الجزء: 4 ¦ الصفحة: 70 سبحانه إنما أمر بالرد عند التنازع، إلى كتابه، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. فمن قال: إن ما أودع في بعض الكتب المصنفة، هو الذي يجب اتباعه، فهو مخطئ يخاف عليه العقوبة في قلبه; ولازم هذه المقالة: أنه إذا وجد عن المعصوم صلوات الله وسلامه عليه ما يخالف بعض ما فيها، أن الذي في هذه الكتب هو الواجب الاتباع، دون ما جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم؛ بل كثير منهم يصرحون بذلك ويلتزمونه، مع أنه مخالف للكتاب، والسنة; فهو مخالف لقول الأئمة الأربعة الذين صنفت هذه الكتب على مذاهبهم، لأنهم نهوا عن تقليدهم. قال أبو حنيفة، وأبو يوسف: لا يحل لأحد أن يقول بقولنا، حتى يعلم من أين قلناه; وصرح مالك بأن من ترك قول عمر بن الخطاب لقول إبراهيم النخعي، أنه يستتاب; وقال الشافعي: إذا صح الحديث فاضربوا بقولي الحائط; وقال الإمام أحمد: لا تقلدوني، ولا تقلدوا مالكاً، ولا الشافعي، ولا الثوري، وتعلموا كما تعلمنا، وقال: لا تقلد دينك الرجال، فإنهم لن يسلموا أن يغلطوا. وقال الإمام أحمد: عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته، يذهبون إلى رأي سفيان، والله تعالى يقول: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [سورة آية: 63] . أتدري ما الفتنة؟ الفتنة: الشرك؛ لعله إذا رد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 71 بعض قوله، أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك. ويقال أيضاً لمن قال: وضع هذه الكتب من هو أعلم منا، إذا كان ممن ينتسب إلى الحنابلة، فوضع كتب الشافعية، والمالكيه، والحنفية من هو أعلم منك، فما الذي أوجب اتباع بعضها دون بعض؟! فلو قال صاحب هذه المقالة: أنا أعلم أن التقليد ليس بعلم، وأن الواجب اتباع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن قصور أفهامنا وضعف إدراكنا أوجب لنا التقليد، وألجأت الضرورة إليه؛ فلو تبين لي في بعض ما قلدت فيه أنه مخالف للسنة، اتبعت السنة; وهذا هو الواجب علي، لكني قليل التمييز، لقصور فهمي، وأعتقد أن الواجب اتباع السنة، ولا عذر لأحد في مخالفتها إذا ثبتت عنده. وقائل ذلك يرجى له السلامة; وهذا كله في غير أصول الدين، فأما أصول الدين، من التوحيد، ومعرفة الرسالة، وسائر الأصول، فلا يجوز فيها التقليد عند جميع العلماء; فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم، رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أن يهدينا لما اختلف فيه من الحق بإذنه، إنه يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم; والله أعلم، وصلى الله على محمد، وآله وصحبه وسلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 72 [رد الشيخ عبد اللطيف قول ابن منصور اختلاف الأمة رحمة] وقال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن، رحمهما الله تعالى، في رده على عثمان بن منصور مدحه الاختلاف، وزعمه أنه رحمة، وإيجابه صوم يوم الشك: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا؛ من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له; وأشهد: أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له; وأن محمداً عبده ورسوله، أرسله بين يدي الساعة بشيراً ونذيراً، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد، فقد وقفت على كلام، كتبه بعض من يدعي العلم، في مسألة اختلاف الأمة، يزعم أنه رحمة، ويشنع على من ذمه; وقال: الرحمة في الجماعة والاتفاق؛ فرأيت له من الكلام في هذه المباحث، ما يوجب للمؤمن المعافى مما ابتلي به هذا، أن يكثر من حمد الله وشكره، ومن سؤال العافية; وأي بلية أعظم من القول على الله بلا علم؟! وخلوّ الذهن من العلم، وعدم الشعور بشيء منه أخف ضرراً، وأقل خطراً مما ابتلي به هذا الرجل، من تحريف الكلم، والخروج عما عليه أهل العلم، وما يعرفه أهل هذه الصناعة من العدل والإنصاف، ومصاحبة التقوى، فيما يعانونه من الأحكام والفتوى; ومن نظر في كلام هذا من الجزء: 4 ¦ الصفحة: 73 أهل العلم والبصيرة، وتأمل أبحاثه واستدلاله في الإفتاء وتسطيره، عرف أنه أجنبي من هذه الصناعة، معدم من تلك التجارة والبضاعة. وقد يتزيا بالهدى غير أهله ... ويستصحب الإنسان من لا يلائمهْ لكنه، عافاه الله، يخرج عما عليه أهل التحقيق والعلم، ويظن أنه من ذوي الإصابة والفهم، ويتجاسر على تجهيل مشائخ الإسلام، ويعرض عند ذكرهم بقبيح المنطق والكلام؛ وهذا أعدل شاهد ودليل على أنه لم يتأهل للتوقيع عن الله ورسوله، والتسجيل; وعن عائشة رضي الله عنها قالت: لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاحشاً ولا متفحشاً. انتهى. وإنما يلجأ إلى مثل هذا ناقص العلم والدين، إذا أفلس من الأدلة والبراهين، وقد نبهنا هنا على بعض ما في رسالته، مما يتعلق بالعلم وأبحاثه، وأعرضنا عما فيه من الغيبة والبهت، وفضول الكلام، الذي لا يصدر عن العقلاء من العوام. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 74 فصل فأما مدحه الاختلاف وزعمه أنه رحمة، فالعبارة فيها عموم لا يخفى، وهي متناولة مدح جميع أهل الشقاق والأهواء، الذين تواترت النصوص النبوية بذمهم وعيبهم، ودلت عليه الآيات القرآنية، كقوله تعالى: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ} [سورة البينة آية: 4] ، وقوله: {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [سورة المؤمنون آية: 53] ، والزبر: الكتب، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} الآية [سورة الأنعام آية: 159] ، وقال تعالى: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} الآية [سورة هود آية: 118-119] . وقال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} [سورة آل عمران آية: 103] ، وقال تعالى: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} [سورة آل عمران آية: 105] ، وقال تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ} الآية [سورة البقرة آية: 213] ، ونحو هذه الآيات التي فيها إطلاق ذم الاختلاف، وعيب أهله، وخروجهم عما جاءت به الرسل. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 75 وفي الحديث: " افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة: كلها في النار، إلا واحدة " 1، وحديث العرباض بن سارية قال: " صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الغداة، فأقبل علينا، ووعظنا موعظة بليغة، ذرفت منها الأعين، ووجلت منها القلوب، فقال قائل: يا رسول الله، كأن هذه موعظة مودع، فأوصنا، قال: أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة، وإن كان عبداً حبشياً مجدعاً؛ فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً. فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ! وإياكم ومحدثات الأمور! فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة ". وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: هجرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً، فسمع أصوات رجلين اختلفا في آية، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يرى في وجهه الغضب، قال: " إنما أهلك من كان قبلكم اختلافهم في الكتاب " 2، أخرجه مسلم. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: " خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نتنازع في القدر، فغضب حتى كأنما في وجهه حب الرمان حمرة من الغضب، فقال: أبهذا أمرتكم؟ أم بهذا أرسلت إليكم؟ وإنما أهلك من كان قبلكم كثرة التنازع في أمر دينهم، واختلافهم على أنبيائهم ". وقال ابن سيرين: كانوا يقولون: "ما دام على الأثر، فهو   1 ابن ماجة: الفتن (3992) . 2 صحيح البخاري: كتاب الإيمان (22) وكتاب الوكالة (2316) وكتاب الخصومات (2410) وكتاب الجزية (3158) وكتاب أحاديث الأنبياء (3473, 3476) وكتاب المغازي (4015) وكتاب تفسير القرآن (4498) وكتاب فضائل القرآن (5062) وكتاب الدعوات (6329) وكتاب الرقاق (6425 ,6560) وكتاب الفرائض (6787) وكتاب الاعتصام بالكتاب والسنة (7288, 7320) وكتاب التوحيد (7509, 7510) , وصحيح مسلم: كتاب البر والصلة والآداب (2578) , وسنن الترمذي: كتاب البر والصلة (1998، 1999) وكتاب القدر (2133) وكتاب الفتن (2180) وكتاب صفة القيامة والرقائق والورع (2491) وكتاب صفة جهنم (2598) وكتاب العلم (2679) , وسنن النسائي: كتاب مناسك الحج (3057) , وسنن أبي داود: كتاب الزكاة (1698) وكتاب اللباس (4091) وكتاب الأدب (4893) , وسنن ابن ماجة: كتاب المناسك (3029) , ومسند أحمد (1/178, 1/419, 1/421, 1/452, 2/159, 2/191, 2/195, 3/323) , وموطأ مالك: كتاب الجامع (1656) , وسنن الدارمي: كتاب المقدمة (479) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 76 على الطريق "، وعن جابر بن عبد الله: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا فرغ من خطبته قال: إن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدى هدى محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها " 1، وزاد في طريق آخر: " وكل بدعة ضلالة " 2، وقال ابن مسعود رضي الله عنه: "اتبعوا ولا تبتدعوا، فقد كفيتم؛ وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار "، وعنه: "إنكم اليوم على الفطرة، وإنكم ستُحْدِثون ويحدث لكم؛ فإذا رأيتم ذلك، فعليكم بالهدى الأول ". كتب عمر بن عبد العزيز إلى الناس: "أنه لا رأي لأحد مع سنة سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم ". وعن أبي سعيد الخدري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لتتبعنّ سنن من كان قبلكم، شبراً بشبر، وذراعاً بذراع، حتى لو سلكوا جحر ضب لسلكتموه. قلنا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟ " 3، ومثله عن أبي هريرة رضي الله عنه. وقال علي لعبيدة السلماني: "اقضوا ما كنتم تقضون، فإني أكره الخلاف". جمع عثمان رضي الله عنه الناس على حرف واحد، وألزمهم القراءة به، عن رأي واتفاق من الصحابة، خشية الاختلاف في القرآن. فهذه الآيات الكريمات، وهذه الأحاديث النبويات دلت على ذم الاختلاف، وعيبه، وتحريمه، والتشديد فيه، والوعيد عليه بالنار، وبلغت من الشهرة، والتواتر، وقبول أهل العلم لها، واحتجاجهم بها، ما يورث العلم الضروري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قالها وصدرت عنه؛ وإن زعم هذا المفتي أنه   1 مسلم: الجمعة (867) , والنسائي: صلاة العيدين (1578) , وأحمد (3/310, 3/319, 3/371) , والدارمي: المقدمة (206) . 2 مسلم: الجمعة (867) , والنسائي: صلاة العيدين (1578) , وابن ماجة: المقدمة (45) , وأحمد (3/310) , والدارمي: المقدمة (206) . 3 البخاري: أحاديث الأنبياء (3456) , ومسلم: العلم (2669) , وأحمد (3/84, 3/89, 3/94) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 77 أراد خصوص أهل السنة والفتوى، فهو لا يعرف لما خرج من بين شفتيه حقيقة، ولا معنى; فإن عبارته صريحة في العموم، والحكم به في مقام البحث والإفتاء مسطور معلوم. وأهل العلم يبحثون مع المتكلم، ويحكمون بما دل عليه كلامه، من النص والعموم الظاهر، ولا بحث فيما انطوت عليه الضمائر، وأخفته السرائر؛ بل ذلك أمره إلى الله، كما يعرفه ذوو العلم والبصائر; وفي الحديث: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله " 1؛ وهذا الوجه كاف في إبطال عبارته وردها، لأنه أطلق مدح ما أطلق الله ورسوله ذمه وعيبه، وفي هذا من الخروج عما دلت عليه النصوص، ما لا يخفى على أهل العلم والفتوى. ويقال أيضاً: لو سلمنا أنه أراد خلاف أهل العلم والفتوى، لا أهل البدع والأهواء، فهو ضال مخطئ في فتواه، لأن ما تقدم من النصوص عام لكل اختلاف وقع في الأصول والفروع؛ والفقيه يعرف بفقهه وفطنته، ما قرره أهل العلم الأصوليون وغيرهم، من اعتبار العمومات القرآنية، والألفاظ النبوية؛ وبعضهم جزم أن العموم نص في الحكم، لكنهم يتكلمون ويبحثون في المخصصات. وقد أجمعوا على أن لا تخصيص لكتاب الله وسنة رسوله بقول أحد، كائناً من كان، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وعندهم من الأحكام الثابتة في الأصول والفروع بعمومات النصوص، ما   1 الترمذي: تفسير القرآن (3341) , وأحمد (3/300, 3/332, 3/394) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 78 لا يمكن حصره؛ والفقيه يعرف ذلك في كتب أصول الدين، وكتب فروعه، من كتاب الطهارة إلى آخر العتق والإقرار. وقد أجمعوا على أنه لا تخصيص بالحديث الضعيف، وأنه لا يصلح أن يكون مخصصاً، ولا ينهض لذلك، لأنه نوع نسخ، والناسخ يشترط فيه المساواة في الحجة والقوة والدلالة؛ بل قال بعض العلماء لا يثبت به حكم شرعي، والقياس أولى منه، لكن أحمد يقول: الحديث الضعيف خير من القياس؛ والضعيف عندهم ما قصرت رتبته عن الصحيح والحسن. وأما ما احتج به هذا من أن النووي ذكر عن الخطابي قوله: جاء الحديث، أو روى "أن اختلاف أمتي رحمة "، فهذا ليس بحجة بالإجماع؛ فإن على من نسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم قولاً أو فعلاً أن يصحح ما نسب وما ادعى، ويثبته بطريق تثبت به الأحكام، وإلا فمجرد الدعوى لا يفيد ولا يجدي; ولو فتح هذا الباب وأعطي الناس بدعواهم، لذهبت أحكام هذه الشريعة، وادعى كل مخالف ما ينصر دعواه، وفي الحديث: " من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار " 1. والخطابي قال: قد روي، ولم يتعرض لتصحيح ولا تضعيف، والنووي عزاه إلى الخطابي وخرج من عهدته؛ فأخذه وتلقيه بالقبول، ومصادمة النصوص له والحالة هذه، طريقة أحمق متهوك، لا يعقل شيئاً في هذا الباب، والأولى به أن يساس بسياسة الدواب.   1 البخاري: العلم (110) , ومسلم: مقدمة (3) , وأحمد (2/410, 2/469) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 79 وقد تكلم الديبع والسيوطي، على هذا الحديث بما يكفي ويشفي، وكشفوا عن وجه الصواب، وكذا السخاوي في المقاصد الحسنة والديبع في تمييز الطيب من الخبيث فيما يجري على ألسنة العوام من الحديث; بل صرح جمع من صيارفة الفن، بأنه لا أصل له؛ وأبو سليمان الخطابي لم يدع الصحة، لكنه جرى على ألسنة قوم عزب عنهم ضبط الحقائق، بل أورد الديبع في مختصر المقاصد، ما حاصله: خرج عبد الله بن أحمد، من حديث النعمان بن بشير مرفوعاً، بإسناد لا بأس به: "الجماعة رحمة، والفرقة عذاب " 1، أورده مستشهداً به على رد الأول؛ فاعرف هذا، ولا تلتفت إلى من لا عناية له ولا دراية بهذه الصنعة. وقال شيخنا، رحمه الله، - في أثناء كلام له -: وأما قولهم: واختلافهم رحمة، فهذا باطل؛ بل الرحمة في الجماعة، والفرقة عذاب، قال تعالى: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} [سورة هود آية: 118-119] . لما سمع عمر أن ابن مسعود وأُبَيّاً اختلفا في صلاة الرجل في الثوب الواحد، صعد المنبر وقال: "اثنان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم اختلفا، فعن أي فتياكم يصدر المسلمون؟ لا أجد اثنين اختلفا بعد مقامي هذا، إلا فعلت وفعلت "؛ لكن قد روي عن بعض التابعين أنه قال: "ما أحسب اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا رحمة للناس، لأنهم لو لم يختلفوا لم تكن رخصة "،ومراده غير ما نحن فيه، ومع هذا فهو قول مستدرك، لأن الصحابة بأنفسهم ذكروا أن اختلافهم عقوبة وفتنة.   1 أحمد (4/278) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 80 وأما قوله في حديث: " أصحابي كالنجوم ": وروى البيهقي من رواية جويبر عن الضحاك عن ابن عباس، فقد أسقط منه السند؛ وانظر ما النكتة في ذلك، هل هو الجهل أو التدليس؟ ثم قد عارض البيهقي من هو أجل منه باتفاق الأمة، ونص على أنه موضوع كما سيأتي، فأي مزية رجحت حكاية البيهقي وروايته، على غيره ممن هو أجل منه من أئمة النقد والتصحيح. ثم البيهقي بتنبيهه على ضعفه خرج من عهدته وأدى ما عليه، وهو يعلم أن الحديث الضعيف لا تقوم به حجة، ولا تثبت به أحكام شرعية عند المحققين. وأما أنت فتعرضت لهدم الأصول به، ومخالفة أهل العلم; فإن من أكبر أصولهم وقواعدهم: رد مسائل النّزل إلى الكتاب والسنة، وأن لا يحكم بأنها أهدى إلا بشاهدي عدل من الكتاب والسنة، قال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} الآية [سورة النساء آية: 59] ، والشرط يفيد انتفاء العمل إذا انتفى الجواب، وقال تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [سورة الشورى آية: 10] . ونص أهل الأصول، وأهل الحديث، على أن قول الصحابي ليس بحجة إذا خالفه من هو مثله؛ والبيهقي وغيره إذا ذكروا الحديث وسكتوا عنه، لا يحكم عليه بالصحة عندهم، ولا بأنه حجة، إلا إذا بينوا ذلك وصححوه، فكيف إذا جزموا بضعفه؛ وهذا الحديث، قد نص الحافظ أبو بكر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 81 البزار، ويوسف بن عبد الله النمري، وابن قيم الجوزية، وأبو محمد ابن حزم، وغيرهم، على أنه موضوع، وسيأتيك كلامهم. قال ابن القيم، رحمه الله: قولهم يكفي في صحة التقليد الحديث المشهور: "أصحابي كالنجوم، بأيهم اقتديتم اهتديتم "، جوابه من وجوه: أحدها: أن الحديث هذا قد روي من طريق الأعمش، عن أبي سفيان عن جابر، ومن حديث سعيد بن المسيب عن ابن عمر، ومن طريق حمزة الجزري عن نافع عن ابن عمر، ولا يثبت شيء منها؛ قال ابن عبد البر: حدثنا محمد بن إبراهيم بن سعيد، أن أبا عبد الله بن مفرح حدثهم: حدثنا محمد بن أيوب الصموت، قال: قال لنا البزار: وأما ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: " أصحابي كالنجوم، بأيهم اقتديتم اهتديتم "، فهذا الكلام لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم. وهذا يوجب تقليد من ورث الجد مع الأخوة ومن أسقط الأخوة به معاً، وتقليد من قال: الحرام يمين ومن قال: هو طلاق، وتقليد من حرم الجمع بين الأختين بملك اليمين ومن أباحه، وتقليد من جوز للصائم أكل البرد ومن منع منه، وتقليد من قال: تعتد المتوفى عنها بأقصى الأجلين ومن قال بوضع الحمل، وتقليد من قال: يحرم على المحرم استدامة الطيب وتقليد من أباحه، وتقليد من جوز بيع الدرهم بالدرهمين وتقليد من حرمه، وتقليد من أوجب الغسل من الجزء: 4 ¦ الصفحة: 82 الإكسال وتقليد من أسقطه، وتقليد من ورث ذوي الأرحام ومن أسقطهم، وتقليد من رأى التحريم برضاع الكبير ومن لم يره، وتقليد من منع تيمم الجنب ومن أوجبه، وتقليد من رأى الطلاق الثلاث واحدة ومن لم يره ثلاثاً، وتقليد من أوجب فسخ الحج إلى العمرة ومن منع منه، وتقليد من أباح لحوم الحمر الأهلية ومن منع منه، وتقليد من رأى النقض بمس الذكر ومن لم يره، وتقليد من رأى بيع الأمة طلاقها ومن لم يره، وتقليد من وقف المولى عند الأجل ومن لم يقفه; وأضعاف أضعاف ذلك، مما اختلف فيه الصحابة. فإن سوغت هذا، فلا تحتج بقول على قول، ومذهب على مذهب، بل اجعل الرجل مخيراً في الأخذ بأي قول شاء من أقوالهم، ولا تنكروا على من خالف مذاهبكم، واتبع قول أحدهم، وإن لم تسوغوه، فأنتم أول مبطل لهذا الدليل، ومخالف له، وقائل بضد مقتضاه؛ وهذا مما لا انفكاك لكم عنه; الرابع: أن الاقتداء بهم اتباع القرآن والسنة، والقبول من كل من دعا إليهما، فالاقتداء بهم يحرم التقليد، ويوجب الاستدلال وتحكيم الدليل، كما كان عليه القوم، رضي الله عنهم. انتهى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 83 وقال: أبو محمد ابن حزم في أثناء كلام له: وحدثت طائفة يكثرون الاعتراض بما روي مسنداً: " أصحابي كالنجوم، بأيهم اقتديتم اهتديتم "، وهذا خبر لو صح لكان مبطلاً لكل ما ينصره الحنفيون، والمالكيون، والشافعيون، لأنهم في كل مسألة من مسائل اختلافهم ينصرون قوله، ويبطلون خلافه من أقوال الصحابة، رضي الله عنهم؛ فعلى هذا يبطلون الهدى، وإبطال الهدى ضلال. ولكن إن حدث من يقول بهذا الخبر ويطرده، ويصوب كل قول روي عن أحد من الصحابة، رضي الله عنهم، وإن ضاده غيره عن آخر منهم، فليعلم أولاً أنه خبر مكذوب، موضوع، باطل، لم يصح قط؛ وساق بالسند المتقدم إلى البزار، سألتم عما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم مما في أيدي العامة، يروونه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إنما مثل أصحابي كمثل النجوم، بأيها اقتدوا اهتدوا "، وهذا كلام لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم، رواه عبد الرحيم بن زيد العمي عن أبيه عن سعيد بن المسيب عن ابن عمر، وإنما أتى ضعف هذا الحديث من قبل عبد الرحيم، لأن أهل العلم سكتوا عن الرواية لحديثه، والكلام أيضاً منكر عن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يثبت، والنبي صلى الله عليه وسلم لا يبيح الاختلاف بعده بين أصحابه. قلت: قف على قول البزار أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يبيح الاختلاف بعده بين أصحابه، تعرف موافقته لما قررناه قبل. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 84 ثم قال ابن حزم: قال ابن معين: عبد الرحيم بن زيد كذاب خبيث، ليس بشيء، وقال البخاري هو متروك؛ ورواه أيضاً: حمزة الجزري، وحمزة هذا ساقط هالك متروك؛ قال أبو محمد: بل هو مما يقطع على أنه كذب موضوع، لأن الصحابة، رضي الله عنهم، اختلفوا، فحرم واحد منهم، وحلل آخر منهم ذلك الشيء الذي حرمه صاحبه، وأوجب بعضهم، وأبطل غيره منهم ما أوجب صاحبه. فلو كان هذا الخبر صحيحاً، لكانت أحكام الله تعالى متضادة في الدين، مختلفة، حراماً وحلالاً، معاذ الله تعالى، فقد كذب بقوله تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} [سورة النساء آية: 82] ، فصح أن الاختلاف ليس إلا من عند غير الله. وأيضاً، فإنه لا يقدر أحد على اعتقاد تصحيح المتضادات معاً، ولا على القول والعمل بالمختلفات معاً; ونوه بعض فساقهم هاهنا فقال: وجدنا المرأة حلالاً لبعلها حراماً على غيره، وحراماً على بعلها حلالاً لغيره، فما ينكر؛ مثل هذا فتيا فقيه لعمرو، وفتيا فقيه آخر لزيد بمثلها، فقلنا: ينكر ذلك في حكم الله الذي: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [سورة الأنبياء آية: 23] ، وإنما أنكر أشد النكير من حكم من دونه برأيه بغير نص. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 85 ثم قال أبو محمد: وأيضاً، فقد أبطل النبي صلى الله عليه وسلم فتاوى قوم من الصحابة، كأبي السنابل بن بعكك في المتوفى عنها زوجها، وقد قال بعد ذلك بقول أبي السنابل ابن عباس وغيره، وأبطل قول من قال: حبط عمل عامر بن الأكوع; وقد أجمعت الأمة على أنه قد كان من بعض الصحابة، رضي الله عنهم، أشياء مغفورة لهم: فقد رجم ماعز والغامدية، وهما والله من أهل الجنة. وقال مسطح ما قال، وهو بدري مقطوع له بالجنة، ولو أن امرأ يقول بذلك اليوم لكان كافراً؛ وقد جلد قدامة بن مظعون في الخمر، وهو بدري من أهل الجنة، أفيحل الأخذ بقول من اقتدى بشيء من هذه الأمور بهؤلاء المتقدمين فهو مهتد؟ حاشا لله، بل يكون من قال ذلك في بعضه كافراً، وفي بعضه فاسقاً، بخلاف الفضلاء المغفور لهم بعض ذلك، أو كله، الذين فازوا، ولو تصدق من بعدهم بمثل جبل أحد من ذهب، لم يبلغ نصف مد شعير يتصدق به أحدهم. وفي صحيح مسلم عن عائشة، رضي الله عنها، قالت: "قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم لأربع مضين من ذي الحجة، أو خمس، فدخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو غضبان، وقلت: من أغضبك يا رسول الله؟ أدخله الله النار، فقال: أو ما شعرت أني أمرت الناس بأمر، فإذا هم يترددون؟ ولو أني استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي حتى اشتريته، ثم أحل كما أحلوا " 1، قال أبو   1 مسلم: الحج (1211) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 86 محمد، رحمه الله: فنعوذ بالله من شيء أغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن كان من أولئك ففاضل مغفور له؛ ومن كان يتهم ويخطئ فلا يجوز أن يؤخذ من قوله وعمله، إلا من شهد له بالصحة، من لا يتهم في الشريعة، ولا يخطئ ولا يجوز فيها، وهو القرآن والسنة. وأيضاً، فإن من حرم من الصحابة شيئاً فقد خطأ من حلله، ومن حلله فقد خطأ من حرمه، ومن أوجب منهم شيئاً فقد خطأ من لم يوجبه، ومن لم يوجبه فقد خطأ من أوجبه؛ هذا موجود نصاً حتى إن ابن عباس، رضي الله عنهما دعا إلى المباهلة باللعنة عند الحجر الأسود لمن خالفه. فلو كان ما قالوه في الفتيا، أو فيما يتعلق بها صواباً، وقد خطأ بعضهم بعضاً، لكان كلهم مخطئاً، لأن المخطئ لصاحبه منهم مصيب عند هذا؛ وأطال الكلام، رحمه الله، وفيما ذكرناه عنه كفاية. وأما دعوى هذا المفتي: أن عثمان بن سعيد الدارمي ذكره في كتاب الرد على الجهمية، فأول الحديث وما فيه من الرد على الجهمية شاهد له، وقصده منه وجوب متابعة الإجما؛، ومثل هذا يذكر في المتابعات والشواهد، ويتسامحون فيه لأن الاعتماد على غيره، وأما قول: "أصحابي كالنجوم، بأيهم اقتديتم اهتديتم "، فالجملة ليست من مراد الدارمي، ولا فيها ما يقصده من الرد، فإن الحجة في قول الجزء: 4 ¦ الصفحة: 87 الصحابي إذا لم يخالفه غيره؛ وينبغي النظر في كلام الدارمي وسياقه حتى يظهر مراده; ثم الاحتجاج بالحديث نوع، والحكم عليه بالصحة نوع آخر، يعرف من فن المصطلح، ولا ينبغي أن يتكلم في هذا من لا يدري اصطلاحهم. وأما قوله: إن عمر بن عبد العزيز، قال: "ما يسرني أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يختلفوا، لأنهم لو لم يختلفوا لم تكن رخصة "، فالاحتجاج بهذا على مدح الخلاف، وتصويب المختلفين، من أعجب الأشياء عند من استصحب أصول الكتاب والسنة، وعرف ما في الاختلاف والافتراق من المفاسد؛ وأهل العلم لهم من الأعذار إذا اجتهدوا، ما لا يخفى على طالب العلم، وقد ذكر شيخ الإسلام في كتابه رفع الملام ما فيه كفاية لمن وفقه الله. وإنما الشأن فيمن مدح الاختلاف، وجعله من الدين الذي أمر الله به ورسوله، وقول عمر يريد به، رحمه الله: أن اختلافهم من أدلة الرخصة في الاجتهاد، وطلب الحق من مظانه ومعدنه؛ فمن أتى بعدهم ورزق فهماً في كتاب الله وسنة رسوله، فلا عليه أن يأخذ بذلك، ويدع التقليد، لأن الصحابة مضوا على ذلك وسنوه لمن بعدهم، ويشهد له قول علي رضي الله عنه لمن سأله، هل خصكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء؟ فقال: "لا، والذي برأ النسمة، وفلق الحبة؛ ما خصنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء إلا ما في هذه الصحيفة، أو فهماً يؤتيه الله الجزء: 4 ¦ الصفحة: 88 من يشاء "، وكان في الصحيفة: العقل، وفك الأسير، وأن لا يقتل مسلم بكافر. والمقصود: أن الفهم عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم من أجلّ النعم وأشرفها، وهو مراد عمر؛ ويشهد لهذا قول عمر نفسه: "لا رأي لأحد مع سنة سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم ". وإنما يعرف هذه النعمة ويشكرها، أهل العلم بالله ودينه وشرعه، الذين يستنبطون الأحكام، ويستخرجونها من نصوص الكتاب والسنة. وفي المثل السائر: كم ترك الأول للآخر، ومائدة الله مبسوطة لعباده المؤمنين، ليست ممنوعة ولا محظورة، ولا يزال يهب من العلوم والفهوم، ما لم يخطر على بال كثير من أهل الدعاوي والرسوم، قال تعالى: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} [سورة الأنعام آية: 83] ، فهو سبحانه يرفع درجة عبده بالفهم والعلم، ومصدر ذلك عن حكمته وعلمه. اللهم إنا نتوسل إليك بما توسل به عبادك الصالحون، وأولياؤك المقربون، أن تجعل لنا من الفهم عنك، وعن رسولك ما نبلغ به منازل الصديقين، ونحشر به في زمرة العلماء العاملين، ونكتب به في ديوان السلف الصالحين. وما أحسن ما قيل: لكل بني الدنيا مراد ومقصد ... وإن مرادي صحة وفراغُ لأبلغ في علم الشريعة مبلغاً ... يكون به لي في الجنان بلاغُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 89 وبنحوه ما قلناه في كلام عمر، يقال في قول القاسم بن محمد، إن صح عنه؛ وأما قول الليث بن سعد: أهل العلم أهل توسعة، فليس معناه أنهم يأخذون بكل قول، من غير نظر للتحقيق والتأصيل، بل المراد: أنهم يراعون قاعدة اليسر، ورفع الحرج، قال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [سورة الحج آية: 78] ، فيسقط الوجوب للعجز؛ وقد يسقط بالجهل والنسيان، بل وبالمشقة في بعض الصور، ويباح المحظور لمقتضٍ راجح. وليس المقصود أنهم يأخذون بالرخص، ويتبعون مسائل الخلاف؛ قال بعضهم: من تتبع الرخص تزندق. وقد أنكر الليث، رحمه الله، على الإمام مالك مسائل معروفة، ورسالته إليه حكاها العلامة ابن القيم في إعلام الموقعين. ثم المقرر في كتب الأصول والفقه: أن لا حجة في مسائل النّزاع، إلا بالكتاب والسنة، والإجماع، والقياس قد قيل فيه ما قيل; هذا هو المقرر عند أهل العلم سلفاً وخلفاً، ثم جاء في هذه الأوقات من يحتج بكل قول رآه، ويمكن كل أحد أن يورد مثل هذه الأقوال، فإن كانت حجة في محل النزاع، تعذر إقامة الدليل والبرهان على كل مخالف ومنازع. وأما قوله: قال: شرف الدين البوصيري، فذكر هذا اللقب هنا ظاهر في مراغمة عباد الله الموحدين المؤمنين، الذين أنكروا قوله في منظومته المشهورة: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 90 يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به ... سواك ................. الأبيات وقد عرف وعهد هذا وأمثاله عن الرجل، ونقل عنه ما هو أبلغ وأشد من هذا، وإلى الله تصير الأمور، وعنده تنكشف السرائر، وتبدو مخبآت الضمائر،: {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} [سورة الشعراء آية: 227] . ونسأل الله أن يمن علينا وعلى هذا الرجل بتوبة نصوح، تمحو ما كان قبل ذلك. وقد رأيت لهذا فيما كتبه على كتاب التوحيد، نقلاً عن تفسير قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [سورة الذاريات آية: 56] : وأن العبادة هي: موافقة القدر والقضاء وجريانهما على العبد، وأن ابن عباس قال: كفر الكافر تسبيح؛ فنعوذ بالله من الخذلان. ثم أي حجة في قول البوصيري، لو كان هذا يعقل، وقد مضت القرون المفضلة والتي بعدها إلى القرن السادس، ولم يعرف هذا عندهم، بل يختارون للقضاء غالباً، من له معرفة بالكتاب والسنة، وأقوال الأئمة، ومعرفة لغة العرب وعلوم الآلة. وأما جعل أربعة قضاة من أتباع الأئمة الأربعة، فهذا محدث؛ ونص أحمد على أن من شروط القاضي أن يكون مجتهداً، عارفاً بالكتاب والسنة، وأقوال أهل العلم من الصحابة والتابعين؛ فما مدحه البوصيري من نصب المقلدين خلاف ما عليه أهل العلم، من اشتراط الاجتهاد في القاضي. وسيأتيك عن هذا ما نقل عن الإمام أحمد وغيره، أنه لا يفتي إلا العالم بأقوال العلماء؛ وهذا مدح المقلدين، وجعل مدح البوصيري الجزء: 4 ¦ الصفحة: 91 حجة على ذلك، وزعم أنهم هم أركان الشريعة وطبائعها، فناقض أول الورقة آخرها، شعراً: حجج تهافت كالزجاج تخالها ... حقاً وكل كاسر مكسورُ وأما احتجاجه بقول النووي: العلماء إنما ينكرون ما أجمع عليه، وأما المختلف فيه فلا إنكار فيه، لأن على أحد المذهبين: كل مجتهد مصيب؛ قال: وهذا هو المختار عند كثير من المحققين أو أكثرهم. انتهى ما حكاه. فيقال في جوابه: أنت لم تستكمل عبارة النووي، بل تصرفت فيها، وأخذت ما تهوى وتركت بقية العبارة، لأنه عليك، مع اتصالها وتقييد بعضها ببعض؛ قال النووي - بعد ما تقدم -: لكن إن أريد به على جهة النصيحة إلى الخروج من الخلاف، فهو حسن محبوب، مندوب إلى فعله برفق؛ فإن العلماء متفقون على الحث إلى الخروج من الخلاف، إذا لم يلزم منه إخلال بالسنة، أو وقوع في خلاف آخر، ثم ذكر كلام الماوردي فيمن تولى الحسبة، وذكر الخلاف في حمله الناس على مذهب غيره، ثم قال: ولذلك قالوا: ليس للمفتي ولا للقاضي، أن يعترض على من خالفه، إذا لم يخالف نصاً، أو إجماعاً أو قياساً جلياً، والله أعلم؛ هذا كلام النووي. فقد استبان لك أن مراده: إذا لم يظهر دليل، ولم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 92 يترجح جانب الإنكار، بكتاب أو سنة، أو إجماع أو قياس جلي؛ والأمانة في نقل العلم مشترطة، والخيانة فيه أعظم من الخيانة في المال ونحوه، ثم هو احتجاج بما لا يجدي، ولا يثبت به حكم شرعي، فإن الأحكام تؤخذ عن الله ورسوله، وما أجمع عليه سلف الأمة وأئمتها. وأما أقوال الآحاد من العلماء، فليست بحجة إذا لم يقترن بها دليل شرعي، وما زال أهل العلم يردون على من هو أجل منه؛ قال مالك: ما منا إلا راد ومردود عليه، إلا صاحب هذا القبر، يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال ابن عباس: "أقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقولون: قال أبو بكر وعمر؟! يوشك أن تنْزل عليكم حجارة من السماء، ". وقال عمر رضي الله عنه: "أيها الناس، ألا إن أصحاب الرأي أعداء السنة، أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها، وثقلت عليهم أن يعوها، واستحيوا إذا سألهم الناس أن يقولوا: لا ندري، فعاندوا السنن برأيهم، فضلوا وأضلوا كثيراً "؛ وهذا ظاهر. وإن كان قوله هو أو مثله حجة عند هذا المفتي، عارضناه بمن هو أجل منه، وأعلم بشهادة أهل العلم، فإن أقوال أهل العلم تذكر وتورد في المعارضات والالتباس، والعلم بها من أسباب الفهم عن الله ورسوله؛ وقد ثبت عن الصحابة ومن بعدهم من الأئمة، من الإنكار في مسائل الخلاف والتعزير على ذلك ما يعز حصره، فإن القوم قصدوا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 93 تجريد المتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم والوقوف مع سنته، ولم يلتفتوا إلى خلاف أحد؛ بل أنكروا على من خالف السنة، كائناً من كان، كما أنكروا على من منع التمتع بالعمرة، وعلى من أتم في السفر، وعلى من أباح وطء المرتدة بملك اليمين، وعلى من حرق الغالية، مع أن القائلين بهذه الأقوال هم أفضل الأمة وخيرها، ولا يدانيهم من بعدهم في علم ولا غيره. وهذه العبارة فاسدة من جهة قوله: كل مجتهد مصيب؛ وقد رد هذا غير واحد من المحققين، وفي كتب الأصول من بيان فساده ما لا يخفى على طالب العلم؛ وقد أشار ابن تيمية إلى ذلك في بعض كتبه، فإن أراد قائل هذا، رفع الإثم والحرج عمن اجتهد، وأن هذا معنى الإصابة، فهذا له وجه، لكن ليس الكلام في كون المجتهد مصيباً للحكم الشرعي، أو مخطئاً له، فقول النووي: هذا هو المختار عند المحققين أو أكثرهم، خلاف التحقيق؛ بل المحققون على خلاف ما قال. ومن هذا الباب، نقل هذا المفتي عن صاحب كتاب الحجة على تارك المحجة، ونقله عن البيهقي، والحسن الحلبي، والقاضي حسين، وإمام الحرمين، فهؤلاء ليسوا بحجة، وليسوا من أصحاب الوجوه في مذاهبهم؛ فسرد هذا العدد لا يجدي شيئاً، وكون هؤلاء ذكروا أن اختلاف الأمة رحمة، لا يفيد صحته، وقد تقدم ذكر الحديث، ومجرد روايته ليس بحجة، والحجة في تصحيحه، وهؤلاء ليسوا من الجزء: 4 ¦ الصفحة: 94 أئمة النقد والتصحيح، كالبخاري، ومسلم، وأصحاب السنن والمسانيد الثمانية، وكيحيى بن سعيد، ويحيى بن معين، وابن المديني، وأبي حاتم، وأمثالهم. وقد انتقد على الجويني في مسائل الصفات وغيرها من أصول الدين، ما يعرفه أهل العلم بأقوال الناس ومذاهبهم، فإن كان قوله هو وأمثاله حجة، لزم ترك ما عليه الإمام أحمد، وما عليه السلف والأئمة، في كثير من مسائل توحيد الصفات؛ بل قد انتقدوا على البيهقي ما يعرفه أهل المعرفة بهذا الشأن. وبالجملة، كل ما ذكر هذا من أدلته، لا يفيده شيئاً عند النقد، وإنما هو مجرد بهرج وحكاية; وأما قوله في حديث: "أصحابي كالنجوم ... إلخ ": إن البيهقي قد أسنده في المدخل، فهذا تكرير منه، وإلا فهو بعينه ما تقدم. وأما قوله: قد صنف أحد أعيان الشافعية كتابا سماه: "رحمة الأمة في اختلاف الأئمة"، فالاستدلال بهذا عجيب جداً، وصاحب هذا الكتاب رجل من أهل حلب متأخر، ليس من أعيان الشافعية، واسمه: محمد بن عبد الرحمن بن الحسين، قاضي صفد، وإنما قصد المفتي البهرجة والترويج، في نسبة هذا الكلام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويحتمل أن المصنف قصد بهذه التسمية نفس الاطلاع على الاختلاف، والفرق بينهما ظاهر. وأما استدلاله بقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 95 مِنْ حَرَجٍ} [سورة الحج آية: 78] ، أن العلماء يذكرون الخلاف، فهو يشير بهذا إلى أن الآية تدل على جواز الأخذ بكل قول من أقوال العلماء، وأن هذا هو رفع الحرج، ومن نسب هذا إلى كتاب الله، وجعله دالاً عليه، فقد قال على الله ما لا يعلمه، وخالف ما أجمع عليه المفسرون وأهل العلم في هذه الآية; وحكاية هذا عنه تكفي في رده، وأنه ممن يقول على الله وكتابه ورسوله بغير علم ولا برهان. وأما تشنيعه بعد ذلك على خصمه، ونسبته إلى الجهل، فهذا عليه لا له؛ وباب الدعوى واسع، أوسع من المشرق إلى المغرب، يسلكه كل أحد، عاقلاً أو سفيهاً، محقاً أو مبطلاً، عالماً أو جاهلاً. وأما قوله تعالى: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ} الآية [سورة الأنبياء آية: 78] ، فهذه الآية حجة عليه؛ فإن الله خص سليمان بالإفهام، فبطل قوله: كل مجتهد مصيب، لأن هذه من حجج أهل العلم على أن المصيب واحد، وهي أيضاً حجة في ترك التقليد، وحجة في نقض حكم الحاكم إذا لم يوافق، وهذا أبلغ من مجرد الإنكار؛ وقد ترجم النسائي بهذا، فقال: باب نقض حكم الحاكم إذا لم يطابق; وهذا هو معنى قول الحسن: لولا هذه الآية ما اجترأ أحد منا على الفتيا؛ وقد استدل هذا بقول الحسن على أن الاختلاف رحمة، وهو يدل على خلافه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 96 وأما قول الإمام أحمد: الذي يفتي الناس يتقلد أمراً عظيماً ... إلخ، فهذا المفتي ينقل من أقوال العلماء ما هو عليه لا له، وما يهدم أصله ويرد قوله، وهو لا يشعر؛ وهذا من نصر الله للحق، وإظهاره على لسان من يجادل فيه ويماحل. فقول الإمام أحمد يرد على من قال: الاختلاف رحمة، لا يتجه إلا على القول بأن الاختلاف نقمة لا رحمة، فحينئذ يخاف على المفتي، ويتقلد أمراً عظيماً؛ هذا وجه التعظيم والتحذير في كلام أحمد، ويشهد له قوله: ينبغي لمن أفتى أن يكون عالماً بقول من تقدمه، وإلا فلا يفتي; يريد أن العلم بأقوال العلماء سبب للإصابة، ومعرفة الحق في نفس الأمر، وليس المقصود أنه يأخذ بكل قول ويفتي به، فيكون اختلافهم رحمة كما زعمه هذا. وكذلك فيه رد لقول من قال: كل مجتهد مصيب، لأنه إذا اجتهد فلا محذور عليه، فلا يتجه قوله: يتقلد أمراً عظيماً، يدل عليه قوله بعده: من تكلم في شيء ليس له فيه إمام أخاف عليه الخطأ; وكلام الإمام من جنس واحد في ذم الخطإ والاختلاف، ولو كان الاختلاف ممدوحاً ورحمة لم يكن لهذا الخوف معنى. وهذا المفتي دائماً يضع كلام أهل العلم في غير موضعه، ويزيل بهجته وطلاوته; وأعجب من هذا: أنه حكى عبارة الفروع، وهي قوله: وليس لحاكم أو غيره أن يبتدي الناس بقهرهم على ترك ما يسوغ، وإلزامهم برأيه اتفاقاً، فلو جاز هذا لجاز لغيره مثله، وأفضى إلى التفرق والاختلاف؛ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 97 فقف على هذا وانظر هذه العبارة، وطابق بينها وبين ما يدعيه هذا من مدح الاختلاف وأنه رحمة، وانظر ما بينهما من التباين والتخالف؛ من ذلك أنه منع الحكام كالمفاتي ونحوهم من إلزام بمذاهبهم السائغة، وفي هذا أن قوله الذي منع من الإلزام به ليس برحمة، بل ولا يحكم عليه بأنه صواب، وإلا فما المانع من إلزام الناس بالرحمة والصواب؟ وفيه أن المنهي عنه الإلزام بترك ما يسوغ، ومن خالف كتاباً أو سنة أو إجماعاً أو قياساً جلياً، فقوله غير سائغ، فيلزم بترك ما لا يسوغ ويتعين عليه ذلك، وعند هذا المفتي: أن كل الاختلاف رحمة فلا إنكار فيه. وقوله: فلو جاز هذا لجاز لغيره مثله، وأفضى إلى التفرق والاختلاف، يقال للمفتي أنقذه الله من أوحاله: متى كان التفرق والاختلاف عندك مذموماً، حتى تورد هذه العبارة؟! فإن مذهبك إلى أن التفرق والاختلاف رحمة، وهذا نص في ذمه وأنه ليس برحمة، ولذلك نهى عنه؛ فينبغي للرجل إن فاته العلم أن يتعقل ما يقول، أو يدع الناس من شره. وكذلك ما نقله أبو الحارث عن الإمام أحمد من أنه لا يجوز الاختيار، إلا لعالم بالكتاب والسنة مميز فيهما، يقال في جوابه: فأين اختلاف العلماء الذي هو رحمة؟ أما أفادت الرحمة جواز الاختيار؟ هذا أقل أحوال الرحمة، فكيف حصر الإمام أحمد الجواز لعالم بالكتاب والسنة مميز فيهما، والاختلاف الذي هو رحمة قد شاع وذاع، وملأ البقاع؟! قد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 98 ضيق الإمام أحمد على زعمك واسعاً يا أخا العرب; ويعجبني قول ربيعة بن عبد الرحمن: إن بعض من يفتي ببلدنا أحق بالحبس من اللصوص، وإذا فشا الجهل وعهد لم تنكره قلوب الأكثرين؛ فسبحان من منع وحجب من شاء من عباده أن يصيب الحق أو يعرفه، في كل قولة أوردها، أو نكتة بحثها. وأما قوله: وما ذكرناه هو الذي أوجب قول العلماء، لا إنكار في مسائل الاختلاف، فبهذا صح أن اختلاف الصحابة رحمة، وكذلك الأئمة، لأن اختلافهم تابع لاختلاف الصحابة. انتهى. فهذا الكلام كلام واه ساقط، هجنته تكفي عن جوابه، ولا يقوله من شم رائحة العلم وعرف شيئاً مما هنالك. فأما زعمه أن العلماء قالوا: لا إنكار في مسائل الاختلاف، فالحكاية غير صحيحة، والمعنى فاسد: أما عدم الصحة، فالمعروف عن بعضهم قوله: لا إنكار في مسائل الاجتهاد، ولم يقل مسائل الاختلاف؛ فالنقل غير صحيح، وفي عبارته أنه أضاف القول بذلك إلى العلماء، وهذا مفرد مضاف، فيعم جميع العلماء، والجمهور على إنكار هذا، فكيف ينسب إليهم؟ سبحان الله ما أحسن الحياء! ثم اعلم: أن المحققين منعوا من قول: لا إنكار في مسائل الاجتهاد، وأوردوا عن الصحابة فمن بعدهم من الأئمة وعلماء الأمة من الإنكار ما لم يمكن حصره؛ قال شيخ الإسلام أبو العباس، رحمه الله: قولهم: مسائل الاجتهاد لا إنكار فيها، ليس بصحيح؛ فإن الإنكار إما أن يتوجه إلى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 99 القول بالحكم، أو العمل. أما الأول، فإذا كان القول يخالف سنة، أو إجماعاً قديماً، وجب إنكاره وفاقاً، وإن لم يكن كذلك فإنه منكر بمعنى ضعفه، عند من يقول: المصيب واحد، وهم عامة السلف والفقهاء; وأما العمل، إذا كان على خلاف سنة أو إجماع، وجب إنكاره أيضاً، بحسب درجات الإنكار، وكما ينقض حكم الحاكم إذا خالف سنة. وأما إذا لم يكن في المسألة سنة ولا إجماع، وللاجتهاد فيها مساغ، فلا ينكر على من عمل بها مجتهداً، أو مقلداً. انتهى. وقال في الفروع: وفي كلام الإمام أحمد وبعض الأصحاب، ما يدل على أنه إن ضعف الخلاف أنكر فيها، وإلا فلا; وللشافعية أيضاً خلاف، ولهم وجهان في الإنكار على من كشف عن فخذيه؛ قال ابن هبيرة في قول حذيفة، وقد رأى رجلاً لا يتم ركوعه ولا سجوده: "ما صليت، ولو مت مت على غير الفطرة التي فطر الله عليها محمداً صلى الله عليه وسلم "، فيه: أن إنكار المنكر في مثل هذا يغلظ له لفظ الإنكار؛ قال في حاشية الإقناع:، قال الشيخ في قولهم: لا إنكار في مسائل الاجتهاد، أي: المسائل التي ليس فيها دليل بحسب العمل به، وجوباً ظاهراً، مثل حديث لا معارض له من جنسه ... إلى آخر عبارته. وقول هذا المفتي: فبهذا صح أن اختلاف الصحابة، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 100 رضي الله عنهم، رحمة، وكذا الأمة ... إلخ، فالمقدمة باطلة، والتأصيل فاسد، والتفريع عليه أبطل وأفسد، وجميع ما تقدم لا يدل على هذه الدعوى; وقولهم: لا إنكار في مسائل الاجتهاد، لم يعرف هذا غوره ومغزاه، وأن المراد منه: أن لا يقال على الله وعلى رسوله وعلى كتابه إلا الحق، قال تعالى: {أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} [سورة الأعراف آية: 169] ؛ وإذا لم يكن للمنكر مستند سوى رأيه واجتهاده، فلا يسوغ له الإنكار، لأنه لا يجب على غيره المصير إليه والأخذ به، بخلاف الكتاب والسنة والإجماع؛ هذا مرادهم، وهذا لا ينتج ولا يصحح أن اختلاف الصحابة والأمة رحمة. وقوله: وكذا الأمة، يدخل فيه كل خلاف في الأصول والفروع، حتى من أفتى بجهل، وقال على الله ما لا يعلم؛ كل هذا رحمة على رأي هذا المفتي، وقد قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [سورة الأعراف آية: 33] ، فجعل القول عليه تعالى بغير علم في الدرجة العليا، فإن في الآية الانتقال من الأدنى إلى الأعلى، فهو أكبر من الشرك؛ وهذا يقول: وكذا اختلاف الأمة. وأيضاً، فهذه العبارة تأتي على جميع ما نقل عن الإمام الجزء: 4 ¦ الصفحة: 101 أحمد، وعن النووي وغيره، بالهدم والإبطال، كما تقدمت الإشارة إليه؛ فكيف ينقل عن أحمد أنه لا يفتي إلا العالم، وقد صوب كل مفت، وجعل خلافه رحمة؟ وأما قوله: فبهذا يتضح خطأ هذا المتكلم الجاهل ... إلى آخر العبارة، بما فيها من التعريف بمن نقل خصمه كلامهم، فهذا الرجل مولع بمسبة أهل العلم، وعيبهم وتجهيلهم؛ ومن عادة أهل البدع إذا أفلسوا من الحجة، وضاقت عليهم السبل، تروحوا إلى عيب أهل السنة وذمهم، ومدح أنفسهم؛ والواجب أن يتكلم الإنسان بعلم وعدل، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ} الآية [سورة المائدة آية: 8] . وهذا الرجل يحمل خشبته منذ سنين، ولا يجد من يصلبه، وأهل السنة والحديث في كل مكان وزمان، هم محنة أهل الأرض، يمتاز أهل السنة والجماعة بمحبتهم، والثناء عليهم، ويعرف أهل البدع والاختلاف، بعيبهم وشنايتهم، وما أحسن ما قيل في إمام السنة، شعراً: أضحى ابن حنبل محنة مأمومة ... وبحب أحمد يعرف المتنسكُ وإذا رأيت لأحمد متنقّصاً ... فاعلم بأن ستوره ستهتّكُ وما ذكره عن المناوي: أن شرط الإنكار أن يكون مجمعاً عليه، فمنقوض بما صح عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 102 والتابعين وتابعيهم، في كل مصر وعصر، وما تقدم عن النووي وغيره، يرد هذا ويبطله، وأدلة إبطاله أكثر من أن تحصر. ونحيل طالب العلم، شريف النفس والهمة، على ما نجده من كلام أهل العلم والدين، وهو قريب المأخذ، سهل التناول؛ وفي النفس من هذا شيء، فإن صح، فالجواب ما تقدم من كلام النووي وغيره، من أن المخالف للكتاب والسنة ينكر عليه، وهل كلام النووي على هذا يتعين إحساناً للظن به؟ ثم إطلاق هذا، وأخذه على عمومه، فيه من تعطيل ما أمر الله به ورسوله من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ما لا يخفى؛ بل هو سد لهذا الباب، وهدم لهذا الأصل، بل إطلاق هذا فيه تخطئة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم من أهل العلم، وفيه تخطئة الإمام، لأنه أنكر كثيراً من مسائل الخلاف التي لم يجمع عليها، بل أنكر بعض الأقوال التي قال بها من قال من الصحابة؛ ومن لم يعرف معنى الكلام، وما يترتب عليه من الأحكام، فالسكوت حسبه. ثم ذكر عن ابن حجر، وابن فرج الأندلسي، من هذا النوع ما لا يفيد شيئاً، ثم زعم أن أصحاب الإمام أحمد نصوا على أنه لا إنكار في مسائل الاختلاف، وتقدم ما فيه، وأن بعضهم قال: مسائل الاجتهاد، لا مسائل الخلاف، وفرق بين العبارتين، وما أحسن ما قيل شعراً: وليس كل خلاف جاء معتبراً ... إلا خلاف له حظ من النظرِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 103 ثم استدل بقول صاحب الفروع: وتصح الصلاة خلف من خالف في فروع، ولا أدري ما وجه الاستدلال إن كان يظن أن الصلاة خلف المخالف تقتضي مدح الخلاف، وتصويب من ذهب إليه، فهذا الظن لا يصدر من سليم العقل، فضلاً عن طالب العلم. وما ذكره عن حمزة الجزري، تقدم ما فيه، مع أن المراد إذا لم يخالف كتاباً ولا سنة ولا إجماعاً، وهذا مراد من أطلق؛ وعبارة هذا الرجل ودعواه، أعم من هذا، فالدليل أخص من المدعى، ولا ينهض للاستدلال إلا عكس هذا، بأن يكون الدليل أعم من المدعى. وقول عمر بن عبد العزيز تقدم جوابه، لكن هذا المفتي زاد هنا بقوله: ولو اختلفوا فأخذ رجل بقول أحدهم أخذ بالسنة، فإن هذا من لبس هذا الرجل لا من كلام عمر، فإنه أجل من أن يقول هذا، ولم ينقله أحد فيما علمنا، والمحفوظ عنه قوله: لا رأي لأحد مع سنة سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقدم هذا؛ والمفتي عافاه الله وجد كتباً، وهجم على ما فيها من غير نظر وأهلية للتحقيق والتأصيل، ولهذا ينقل أقوالاً متضادة يرد بعضها بعضاً؛ وقد رغب عمر عن كثير من الأقوال أن يأخذ بها، لرجحان الدليل، كما يعرفه من عرف شيئا من سيرته وعلمه. 1   1 انتهى ما يناسب هذا الرد في هذا المقام، ويأتي باقيه إن شاء الله تعالى في الجزء الخامس من كتاب الصيام صفحة 287. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 104 وقال أيضاً الشيخ: عبد اللطيف، في جواب له: والواجب على المكلفين في كل زمان ومكان: الأخذ بما صح وثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا لأحد أن يعدل عن ذلك إلى غيره؛ ومن عجز عن ذلك في شيء من أمر دينه، فعليه بما كان عليه السلف الصالح، والصدر الأول، فإن لم يدر شيئاً من ذلك، وصح عنده عن أحد الأئمة الأربعة المقلدين الذين لهم لسان صدق في الأمة، فتقليدهم سائغ حينئذ؛ فإن كان المكلف أنزل قدراً، وأقل علماً، وأنقص فهماً من أن يعرف شيئاً من ذلك، فليتق الله ما استطاع، وليقلد الأعلم من أهل زمانه، أو من قبلهم، خصوصاً من عُرف بمتابعة السنة، وسلامة العقيدة، والبراءة من أهل البدع، فهؤلاء أحرى الناس، وأقربهم إلى الصواب، وأن يلهموا الحكمة، وتنطق بها ألسنتهم؛ فاعرف هذا، فإنه مهم جداً. وقال الشيخ: عبد الله بن الشيخ عبد اللطيف، بعد كلام له: ولو كان هنا عناية بما استقر عليه الحال، في زمن الدعوة الإسلامية، وعلمائنا ومشايخنا، رحمهم الله، لكان بهم قدوة ولنا فيهم أسوة، خصوصاً بعدما فهموا من تقريرات شيخهم محمد، رحمه الله، وقوله في رسائله أكثر ما في الإقناع والمنتهى، مخالف لنص أحمد، فضلاً عن نص رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ يعرف ذلك من عرفه. وقال الشيخ إبراهيم بن الشيخ عبد اللطيف، رحمهما الجزء: 4 ¦ الصفحة: 105 الله: واختيار بعض المتأخرين لا يقضي بأولويته، ولا رجحانه؛ ولو ذهب المخالف إلى الأخذ بكل ما صححوه، وإلزام الناس بجميع ما رجحوه لأوقعهم في شباك، وأفضى بهم إلى مفاوز الهلاك؛ وهذا على سبيل التنبيه، والإشارة تكفي اللبيب. وقال الشيخ محمد بن الشيخ عبد اللطيف، وفقه الله تعالى: ونعتقد أن الله أكمل لنا الدين، وأتم نعمته على العالمين، ببعثة محمد الرسول الأمين، خاتم الأنبياء والمرسلين، صلاة الله وسلامه عليه دائماً إلى يوم الدين؛ قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلامَ دِيناً} [سورة المائدة آية: 3]- إلى أن قال- وإذا بانت لنا سنة صحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عملنا بها، ولا نقدم عليها قول أحد كائناً من كان؛ بل نتلقاها بالقبول والتسليم، لأن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدورنا أجل وأعظم من أن نقدم عليها قول أحد؛ فهذا الذي نعتقده وندين الله به. وقال الشيخ سعد بن حمد بن عتيق، رحمهم الله تعالى: نور الشريعة يهدي قلب ملتمسٍ ... للحق من ساطع للأنوار مقتبسِ والجهل والصدف عن نهج الهدى كفلا ... لا شك للشخص بالخذلان والفلسِ وبالشقا والردى والبعد عن سبل ... تفضي إلى جنة المأوى بملتمسِ فخذ بنص من التنزيل أو سنن ... جاءت عن المصطفى الهادي بلا لبسِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 106 وسنة الخلفاء الراشدين فهم ... أكرِمْ بم لمريد الحق من قبسِ فإن خير الأمور السالفات على ... نهج الهدى والهدى يبدو لمقتبِسِ والشر في بدع في الدين منكرة ... تحلو لدى كل أعمى القلب منتكسِ فاصغ للحق واردد ما سواه على ... أربابه من أخي نطق وذي خرسِ وقال الشيخ: سليمان بن سحمان، رحمه الله تعالى: فالواجب على من نصح نفسه، وأراد نجاتها، وكان من أهل العلم: أن ينظر القول الذي يدل عليه الكتاب والسنة من الأقوال المتنازع فيها، اتباعاً لقوله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [سورة النساء آية: 59] ؛ فإن طاعة الله ورسوله واجبة على كل أحد في كل حال; وأقوال أهل الإجماع، والمفتين، والحكام وغيرهم، إنما اتبعت لكونها تدل على طاعة الله ورسوله، وإلا فلا تجب طاعة مخلوق لم يأمر الله بطاعته؛ وطاعة الرسول طاعة لله. وهذا حقيقة التوحيد الذي يكون كله لله؛ وإذا عرف أن القول قد قاله بعض أهل العلم، ومعه دلالة الكتاب والسنة، كان هو الراجح؛ وإن كان قد قال غيره ممن هو أكبر من قائل ذلك القول، فإن ذلك القول هو الذي ظهر أن فيه طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. سئل بعضهم: هل إجماع الصحابة حجة، أم لا؟ فأجاب: إجماعهم حجة قاطعة، يجب الأخذ بها بإجماع أهل العلم؛ واستدلوا على ذلك بقوله تعالى: {وَمَنْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 107 {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} [سورة النساء آية: 115] ، وقوله: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [سورة التوبة آية: 100] ، وقوله في أعظم سورة في القرآن: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [سورة الفاتحة آية: 6-7] ، وهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورضى الله عنهم. وقول الواحد منهم، فهو حجة عند العلماء، يأخذ به الإمام أحمد وغيره، إذا لم يخالفه مثله؛ وأما إذا خالفه غيره من الصحابة، فليس قول أحدهما على الآخر حجة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 108 فصل: في أصول الفقه سئل الشيخ حمد بن ناصر بن معمر، رحمه الله تعالى: عن صفة الواجب وحدّه، والمسنون وحَدِّه، والمكروه وحدّه، والحرام وحدّه؟ فأجاب: الحمد لله رب العالمين، الواجب في الشرع: ما ذم تاركه إذا تركه قصداً، وأثيب فاعله. وهو يرادف الفرض عند الحنابلة، والشافعية، وأكثر الفقهاء؛ وعن أحمد رواية: أن الفرض آكد من الواجب، وهو قول أبي حنيفة. وأما المسنون فهو: ما أثيب فاعله، ولم يذم تاركه؛ والسنة في اللغة: الطريقة والسيرة، وإذا أطلقت في الشرع، فإنما يراد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 108 بها: ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم وندب إليه قولاً وفعلاً، ما لم ينطق به الكتاب العزيز. وأما المكروه فهو: ضد المندوب، وهو لغة: ضد المحبوب، وشرعا: ما مدح تاركه ولم يعاقب فاعله؛ ومنه ما نهى عنه الشارع لرجحان تركه على فعله، كالصوم في السفر إذا وجدت المشقة في الصوم، ونحو ذلك. وأما المكروه، فهو في عرف المتأخرين: ما نهي عنه نهي تنْزيه، ويطلق على الحرام أيضاً، وهو كثير في كلام المتقدمين، كالإمام أحمد وغيره، كقول الإمام أحمد: أكره المتعة، والصلاة في المقابر، وهما محرمان؛ وقد ورد المكروه بمعنى الحرام في قوله تعالى: {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً} [سورة الإسراء آية: 38] . والحرام فهو: ضد الحلال، وهو: ما حرمه الله في كتابه، أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، من ترك الواجبات، وفعل المحرمات. وأصل التحريم في اللغة: المنع، ومنه قوله تعالى: {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ} [سورة القصص آية: 12] ، وَحَدُّه شرعاً: ما ذم فاعله، ولو قولاً، كالغيبة والنميمة ونحوهما مما يحرم التلفظ به، أو عمل القلب، كالنفاق والحقد ونحوهما. [الفرق بين المندوب والمستحب والباطل والفاسد] وسئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن، رحمه الله: عن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 109 الفرق بين المندوب، والمستحب، والمباح، والجائز، والباطل، والفاسد، والصحيح، والمكروه؟ فأجاب: اعلم أن جميع الأحكام الشرعية لا تخلو، إما أن تكون واجبة، أو مستحبة، أو مباحة، أو مكروهة، أو محرمة؛ يعني: منها ما هو كذا، ومنها ما هو كذا ... إلخ. وهذه هي الأحكام الخمسة المشهورة عند أهل العلم. فالواجب: ما يثاب على فعله ويعاقب على تركه؛ وضده الحرام، وهو: ما يثاب على تركه ويعاقب على فعله. والمستحب يرادف المندوب، والمسنون عند الأصوليين والفقهاء، ويقابل المكروه؛ فالمستحب وما يرادفه، هو: ما يثاب على فعله، ولا يعاقب على تركه، والمكروه: ما يثاب على تركه ولا يعاقب على فعله. والخامس: المباح، وهو: ما لا يثاب على فعله، ولا يعاقب على تركه في الجملة؛ وقد يثاب على فعله مع النية الصالحة، إذا أراد به الاستعانة على الطاعة. وأما الفرق بين الباطل والفاسد، فإن الذي عليه الأصوليون: أنهما مترادفان; وقال أبو حنيفة: الباطل ما نهي عنه لذاته، كبيع المضامين والملاقيح، والفاسد ما نهي عنه لوصف فيه، ولولا ذلك الوصف لصح، كالربا، إنما حرم الفضل فيه، وهو الفضل فيما يحرم فيه الفضل، والنساء فيما يحرم بيع بعضه ببعض نسيئة مثلاً، والله أعلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 110 وإن كانت فاسدة، كالنكاح بغير ولي، ونحو ذلك، فالغالب أن الفقهاء يعبرون عن مثل هذا بالفاسد، لكون التعبير جارياً على القوانين، والذي يعبر منهم بالفاسد يقال باطل؛ فتدبر، والله أعلم. وسئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن، رحمه الله تعالى: ما الفرق بين الباطل والفاسد عند الأصوليين ... إلخ؟ فأجاب: هما مترادفان عند الأصوليين، والفقهاء من الحنابلة والشافعية. وقال أبو حنيفة: إنهما متباينان؛ فالباطل عنده: ما لم يشرع بالكلية، كبيع المضامين والملاقيح، والفاسد: ما شرع أصله ولكن امتنع لاشتماله على وصف محرم كالربا. وعند الجمهور: كل ما كان منهياً عنه، إما لعينه أو وصفه، ففاسد وباطل؛ لكن ذهب بعض الفقهاء من الحنابلة إلى التفرقة بين ما أجمع على بطلانه، وما لم يجمع عليه، فعبروا عن الأول بالباطل، وعن الثاني بالفاسد، ليتميز هذا من هذا، لكون الثاني تترتب عليه أحكام الصحيح غالباً، أو أنهم قصدوا الخروج من الخلاف في نفس التعبير، لأن من عادة الفقهاء من أهل المذاهب مراعاة الخروج من الخلاف؛ وبعضهم يعبر بالباطل عن المختلف فيه، مراعياً للأصل، ولعل من فرق بينهما في التعبير، لا يمنع من تسمية المختلف فيه باطلاً، فلا اختلاف، ومثل ذلك: خلافهم في الفرض والواجب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 111 قال في القواعد الأصولية: إنهما مترادفان شرعاً في أصح الروايتين عن أحمد؛ اختارها جماعة منهم ابن عقيل، وقاله الشافعية. وعن أحمد: الفرض آكد؛ اختارها جماعة، وقاله الحنفية. فعلى هذه الرواية، الفرض: ما ثبت بدليل مقطوع به، وذكره ابن عقيل عن أحمد، وقيل: ما لا يسقط في عمد ولا سهو. وحكى ابن عقيل عن أحمد رواية: أن الفرض ما لزم بالقرآن، والواجب ما كان بالسنة؛ وفائدة الخلاف: أنه يثاب على أحدهما أكثر، وأن طريق أحدهما مقطوع به والآخر مظنون؛ ذكره القاضي وذكرهما ابن عقيل على الأول، وقال غير واحد: والنّزاع لفظي. وعلى هذا الخلاف: ذكر الأصحاب مسائل فرقوا فيها بين الفرض والواجب. تعارض الأصل والظاهر مسألة: في تعارض الأصل والظاهر. قال ابن رجب، رحمه الله، في قواعده: إذا تعارض معنا أصلان، عملنا بالأرجح منهما لاعتضاده بما يرجحه؛ فإن استويا خرج في المسألة وجهان غالباً. وإذا تعارض الأصل والظاهر، فإن كان الظاهر حجة يجب قبولها شرعاً، كالشهادة والرواية أو الأخبار، فهو مقدم على الأصل بغير خلاف، وإن لم يكن كذلك، بل كان مستنده العرف والعادة الغالبة والقرائن، أو غلبة الظن ونحو ذلك، فتارة يعمل بالأصل ولا يلتفت إلى هذا الظاهر، وتارة يعمل بالظاهر ولا يلتفت إلى الأصل، وتارة يخرج في المسألة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 112 خلاف؛ فهذه أربعة أقسام. ومن صور الأول: إخبار الثقة العدل بالكلب ولغ في هذا الإناء. ومن صور الثاني: إذا تيقن الطهارة أو النجاسة في ماء، أو ثوب، أو أرض، أو بدن، وشك في زوالها، وكذلك في النكاح والطلاق، فإنه يبنى على الأصل، إلا أن يتبين زواله. ومن صور الثالث: النوم المستثقل ينقض الوضوء، لأنه مظنة خروج الحدث، وإن كان الأصل عدم الخروج وبقاء الطهارة. والرابع يكون غالباً عند تقاوم الظاهر والأصل وتساويهما؛ فمن صوره: لو أدخل الكلب رأسه في إناء فيه ماء، وشك هل ولغ فيه أو لا، وكان فمه رطباً، فهل يحكم بنجاسة الماء لأن الظاهر ولوغه؟ أم بطهارته لأنها الأصل؟ على وجهين. انتهى ملخصاً، وفيه نوع تصرف من خط الشيخ عبد الرحمن بن حسن، نقله عنه الشيخ حمد بن عتيق. وقال الشيخ عبد الرحمن بن حسن، رحمه الله تعالى: وأما القياس إذا صح، فهو أحد أدلة الأصول الخمسة، التي هي الكتاب والسنة والإجماع والقياس والاستصحاب؛ فكل واحد من هذه الخمسة دليل مستقل بنفسه، إلا أنه وقع من بعض الأصوليين خلاف في الاستصحاب. وقال ابن عبد الهادي: ذكره المحققون إجماعاً، فالتحق بالأصول الجزء: 4 ¦ الصفحة: 113 الأربعة. وقد عرف القياس اصطلاحاً بأنه: حمل فرع على أصل في حكم، بجامع بينهما؛ قال ابن عبد الهادي: وأركانه أربعة: الأصل، والفرع، وحكم الأصل، والوصف الجامع. انتهى. قال أبو العباس ابن تيمية، رحمه الله تعالى: لا تناقض دلالة القياس إذا كانت صحيحة. انتهى. وقال الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين، رحمه الله تعالى: القواعد جمع قاعدة، وهي: حكم كلي ينطبق على جزئيات لتعرف أحكامها 1. الواجب: ما يستحق الثواب بفعله، والعقاب بتركه. والحرام بالعكس، أي: ما يستحق العقاب بفعله، والثواب بتركه. والمندوب: ما يستحق الثواب بفعله، ولا عقاب بتركه. والمكروه بالعكس، أي: ما يستحق الثواب بتركه، ولا عقاب في فعله. والمباح: ما لا ثواب ولا عقاب في فعله ولا تركه. والفرض، والواجب: مترادفان، خلافاً للحنفية. وينقسم الواجب إلى: فرض عين، وفرض كفاية، وإلى معين ومخير، وإلى مطلق وموقت، والموقت إلى مضيق   1 كذا بالأصل, ولعله سقط منه الفاء في قوله الواجب, وفي المصباح: القاعدة في الاصطلاح بمعنى الضابط, وهي الأمر الكلي المنطبق على جميع جزئياته. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 114 وموسع. والمندوب والمستحب مترادفان. والمسنون أخص منهما. والجائز يطلق على: المباح وعلى الممكن، وعلى ما يستوي فعله وتركه عقلًا، وعلى المشكوك فيه. والرخصة: ما شرع لعذر مع بقاء مقتضى التحريم; والعزيمة بخلافها. والاعتقاد: هو الجزم بالشيء من دون سكون النفس؛ فإن طابق فصحيح كاعتقاد أن الله مستو على عرشه بائن من خلقه، والفاسد عكسه، لأنه اعتقاد الشيء على غير ما هو عليه. وقد يطلق الجهل على عدم العلم. والدليل: ما يمكن التوصل بصحيح النظر فيه إلى العلم بالغير، وهو المدلول؛ وأما ما يحصل عنده الظن فهو ما قد يسمى دليلاً توسعاً. والأصل: ما يبنى عليه غيره، والفرع عكسه. والفقه: معرفة الأحكام الشرعية التي طريقها الاجتهاد. والمسنون: ما لازمه النبي صلى الله عليه وسلم أو أمر به، مع بيان كونه غير واجب؛ وقد تطلق السنة على الواجب، نحو: عشر من السنة. والمجاز: هو الكلمة المستعملة في غير ما وضعت له في اصطلاح التخاطب لعلاقة مع قرينة، وهو نوعان: مرسل، كاليد للنعمة، والعين للرؤية، واستعارة كالأسد للرجل الشجاع؛ وقد يكون مركباً، كما يقال للمتردد في أمر: أراك تقدم رجلاً وتؤخر أخرى؛ وقد يقع في الإسناد، مثل جد جده، ولاستيفاء الكلام في إبدالك من آخر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 115 والحقيقة: هي الكلمة المستعملة فيما وضعت له في اصطلاح التخاطب. والتأويل: صرف اللفظ عن حقيقته إلى مجازه، أو قصره على بعض مدلولاته لقرينة اقتضتها؛ وقد يكون قريباً، فيكفي فيه أدنى مرجح، وبعيداً فيحتاج إلى الأقوى، ومتعسفاً فلا يقبل. والاجتهاد: استفراغ الفقيه الوسع في تحصيل ظن بحكم شرعي. والفقيه: من يتمكن من استنباط الأحكام الشرعية عن أدلتها، وأماراتها التفصيلية؛ وإنما يتمكن من ذلك من حصل ما يحتاج إليه فنه من علوم الغريب، والأصول، والكتاب والسنة، ومسائل الإجماع. والتقليد: هو اتباع قول الغير من دون حجة ولا شبهة؛ ولا يجوز التقليد في الأصول ولا في العلميات، ويجب في العملية المحضة الظنية، والقطعية على غير المجتهد، ولا يجوز له تقليد غيره مع تمكنه من الاجتهاد، ولو أعلم منه ولو صحابياً، ولا فيما يخصه، ويحرم بعد أن اجتهد اتفاقاً. [الرخصة والعزيمة] سئل الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن، رحمهم الله تعالى: عن قول الفقهاء في الرخصة: إنها ما ثبت على خلاف دليل شرعي، لمعارض راجح، وضدها العزيمة؟ فأجاب: اعلم أن العزيمة شرعاً: حكم ثابت بدليل شرعي خال عن معارض راجح؛ فقوله بدليل شرعي: احتراز عما ثبت بدليل عقلي، وقوله: خال عن معارض، احتراز عما ثبت بدليل شرعي، لكن لذلك الدليل معارض مساو، أو الجزء: 4 ¦ الصفحة: 116 راجح، لأنه إن كان المعارض مساوياً لزم الوقوف، وانتفت العزيمة، ووجب طلب المرجح الخارجي، وإن كان راجحاً لزم العمل بمقتضاه وانتفت العزيمة، وثبتت الرخصة، كتحريم الميتة عند عدم المخمصة؛ فالتحريم فيها عزيمة، لأنه حكم ثبت بدليل شرعي خال عن معارض; فإذا وجدت المخمصة حصل المعارض لدليل التحريم، وهو راجح عليه حفظاً للنفس؛ فجاز الأكل وحصلت الرخصة. وأما الرخصة: فهي ما ثبت على خلاف دليل شرعي، لمعارض راجح، فقوله: ما ثبت على خلاف دليل شرعي احتراز عما ثبت على وفق الدليل، فإنه لا يكون رخصة بل عزيمة، كالصوم في الحضر، وقوله: لمعارض راجح، احتراز عما كان لمعارض غير راجح، بل إما مساوياً فيلزم الوقوف على حصول المرجح، أو قاصراً عن مساواة الدليل الشرعي، فلا يؤثر وتبقى العزيمة بحالها. وعلى التعريف المذكور، يدخل في العزيمة الأحكام الخمسة الثابتة بالأدلة الشرعية، ويدخل في الرخصة ما عارض تلك الأحكام وخالفها لمعارض راجح عليها، كأكل الميتة عند المخمصة. قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى: وأما الحديث إذا ذكره بعض المقبولين، ونسبه إلى الصحاح أو المسانيد، فقد ذكر أنه يجوز العمل به، ولو لم يوقف على الأصل، وأظن بعضهم حكى الإجماع على جواز العمل به. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 117 المسند، والمرسل، أيهما أقوى؟ سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد، رحمه الله: عن المسند والمرسل، أيهما أقوى؟ فأجاب: المسند أقوى من المرسل، وذلك أن المسند: ما اتصل سنده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإذا كان السند كلهم ثقات، وليس فيهم شذوذ، فأجمع العلماء على الاحتجاج به إذا لم يعارضه مثله، أو أقوى منه. وأما المرسل: فهو ما رواه التابعي عن النبي صلى الله عليه وسلم، كقول الحسن: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا، وقول محمد بن شهاب الزهري: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقول عطاء: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فسقط رجل بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكثير من أهل العلم لا يحتج بالمرسل إلا إذا اتصل وأسند من وجه صحيح. فإذا كان كذلك، تبين لك: أن المسند أقوى وأصح من المرسل بكثير. وقولك: ما معناهما؟ فيتبين لك ذلك من جواب المسألة قبلها. ومن أصح المراسيل عندهم، مراسيل سعيد بن المسيب القرشي المدني عالم المدينة؛ وقيل: إنه أعلم التابعين وأفضلهم. إذا جاء خبران عن النبي صلى الله عليه وسلم: أحدهما يدل على الأمر، والآخر يدل على النهي، أيهما أرجح؟ وسئل: إذا جاء خبران عن النبي صلى الله عليه وسلم: أحدهما يدل على الأمر، والآخر يدل على النهي، أيهما أرجح؟ فأجاب: الراجح ما صح سنده عن النبي صلى الله عليه وسلم بنقل العدول الثقات الضابطين؛ فإن قدر اتحادهما في الصحة، فإن أمكن معرفة الآخر منهما أخذ بالآخر لأنه هو الناسخ، وإنما يؤخذ بالآخر فالآخر من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أو قوله؛ فإن لم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 118 يمكن معرفة ذلك، وأمكن الجمع بينهما فذاك؛ فإن لم يكن ذلك أخذ بالأحوط، والذي عليه الأكثرون من العلماء والفقهاء. الغريب والمتصل وسئل الشيخ أحمد بن ناصر: عن الغريب والمتصل؟ فأجاب: الغريب: الذي ليس له إلا سند واحد، كما يقول الترمذي في بعض الأحاديث: هذا غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه؛ وقد يكون صحيحاً إذا كان رواته موثقين، وقد يكون ضعيفاً؛ فعلى كل تقدير هو ضعف في الحديث. والمتصل: هو ما اتصل سنده إلى منتهاه، سواء كان مرفوعاً أو موقوفاً أو مقطوعاً؛ فيخرج المرسل، والمنقطع، والمعضل. الفرق بين المرفوع والمسند والمتصل وسئل الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن: عن الفرق بين المرفوع والمسند والمتصل؟ فأجاب: اعلم أن المرفوع: ما أضيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم قولاً أو فعلاً أو حكماً؛ واشترط الخطيب البغدادي: كون المضيف صحابياً، والجمهور على خلافه. والمسند: هو المرفوع، فهو مرادف له؛ وقد يكون متصلاً، كمالك عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد يكون منقطعاً، كمالك عن الزهري، عن ابن عباس، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إذ الزهري لم يسمع من ابن عباس، فهو مسند منقطع؛ وقد صرح ابن عبد البر بترادفهما؛ والانقطاع يدخل عليهما جميعاً. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 119 وقيل: إن المسند: ما وصل إسناده إلى الصحابي ولو موقوفاً عليه؛ فالمسند والمتصل سواء، إذ هذا بعينه هو تعريف المتصل، فعلى هذا يفارق المرفوع بقولنا: ولو موقوفاً، فبينه وبين المرفوع على هذا القول عموم وخصوص وجهي، يجتمعان فيما اتصل سنده ورفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وينفرد المرفوع في المنقطع المرفوع، وينفرد المسند في الموقوف؛ والأكثر على التعريف الأول؛ والعموم والخصوص الوجهي كذلك يجري أيضاً بين المتصل والمرفوع، كما يعرف مما تقدم. وأما قولك: أيهما أصح؟ فاعلم: أن الصحة غير راجعة لهذه الأوصاف باعتبار حقيقتها؛ وإنما الصحة والحسن والضعف أوصاف تدخل على كل من المرفوع والمسند والمتصل، فمتى وجدت، حكم بمقتضاها لموصوفها، لكن المرفوع أولى من المتصل إذا لم يرفع، ومن المسند على القول الثاني إذا لم يرفع أيضاً، لا من حيث الصحة، بل من حيث رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ وأما الصحة فقد ينفرد بها بعض هذه الأقسام لا من حيث ذاته، والمرفوع إذا لم يبلغ درجة الصحة احتج به في الشواهد والمتابعات كما عليه جمع، والله أعلم وصلى الله على محمد. أصح الأسانيد قال الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله: اختلف العلماء في أصح الأسانيد: فقال الإمام الجزء: 4 ¦ الصفحة: 120 محمد بن إسماعيل البخاري أصح الأسانيد: مالك عن نافع مولى ابن عمر عن ابن عمر رضي الله عنهم. القول الثاني: قول الإمام أحمد، رحمه الله: أصحها: الزهري عن سالم بن عبد الله عن أبيه، رضي الله عنهما. الثالث: قول عبد الرزاق بن همام اليماني: أصحها: ما رواه زين العابدين علي بن الحسين عن أبيه حسين عن علي، رضي الله عنهم. الرابع: قول عمرو بن علي الفلاس: أصحها: ما رواه محمد بن سيرين البصري عن عبيدة السلماني الكوفي عن علي رضي الله عنه. الخامس: قول يحيى بن معين: أصحها: ما رواه سليمان بن مهران الأعمش عن إبراهيم النخعي عن علقمة بن وقاص عن ابن مسعود، رضي الله عنهم أجمعين. قال زكريا الأنصاري في شرح ألفية العراقي: والصواب: عدم التعميم مطلقاً، بل يقال: أصح أسانيد ابن عمر: الزهري عن سالم عن أبيه، وأصح أسانيد المكيين: سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن جابر، رضي الله عنهم أجمعين، وأصح أسانيد المدنيين: مالك عن نافع عن ابن عمر، وأصح أسانيد المصريين: الليث بن سعد عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الخير عن عقبة بن عامر، رضي الله عنهم، وأصح أسانيد اليمانيين: معمر عن همام بن منبه عن أبي هريرة، رضي الله عنهم. قال: وأوهى أسانيد أبي هريرة: السري بن إسماعيل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 121 عن داود بن يزيد الأودي عن أبيه عن أبي هريرة، وأوهى أسانيد ابن مسعود: شريك عن أبي فزارة عن أبي زيد عن ابن مسعود رضي الله عنه، وأوهى أسانيد أنس: داود بن المحبر عن أبيه عن أبان بن عياش عن أنس رضي الله عنه. الفرق بين: حدثنا، وأخبرنا، وأنبأنا سئل الشيخ حسن بن حسين بن الشيخ: عن الفرق بين حَدَّثَنا وأخبرنا وأنبأنا؟ فأجاب: بينهما فرق اصطلاحي عند المحدثين: فإذا قال المحدث: حدثنا، حمل على السماع من الشيخ، وإذا قال أخبرنا حمل على سماع الشيخ؛ فلفظ الإخبار أعم من التحديث، فكل تحديث إخبار ولا ينعكس، قاله ابن دقيق العيد. وأنبأنا من حيث اللغة واصطلاح المتقدمين بمعنى: أخبرنا، إلا في عرف المتأخرين، فهو للإجازة كعنه، فلما كثر واشتهر استغنى المتأخرون عن ذكره؛ قاله خاتمة المحدثين ابن حجر العسقلاني، والله أعلم. قول من يقول من المصنفين: رواه الجماعة أو الخمسة ... إلخ سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عن قول مَن يقول من المصنِّفين: رواه الجماعة أو الخمسة ... إلخ؟ فأجاب: المراد بالخمسة: الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجة. والجماعة: هؤلاء الخمسة المذكورون مع البخاري ومسلم؛ هذا اصطلاح صاحب المنتقى. وإذا قالوا في الحديث مرفوعا،: فالمراد: أنه مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم من قوله، وضده الموقوف: وهو قول الصحابي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 122 نفسه. والحديث الغريب: الذي ما يروى إلا من طريق واحد. وإذا قالوا فيه: ليِّن، فهو ضد القوي. وإذا قالوا: على شرط الشيخين، فالمراد بالشيخين البخاري ومسلم، وشرطهما معروف. وإذا قالوا: على شرطهما، أو شرط البخاري، أو مسلم، فالمراد: أن رجال هذا السند يروي لهم البخاري، أو مسلم. وأما أصحاب الرأي، فهم عند المتقدمين: فقهاء الكوفة، كأبي حنيفة وأصحابه، سموا أصحاب الرأي لأنهم توسعوا في القياس، والسلف يسمون القياس رأياً؛ وجميع الأئمة يعتمدون القياس، لكن أهل الكوفة توسعوا فيه، فخصوا بهذا الاسم. ومن جواب الشيخ سليمان بن علي بن مشرف، قال: وأما أصحاب الرأي فهم خمسة: أبو حنيفة، وزفر، ومحمد بن الحسن، وعثمان البتي، وربيعة؛ وسبب تسميتهم بذلك لأنهم إذا لم يجدوا في المسألة نصاً قاسوها، فإذا أجمعوا عليها بما يرون أثبتوها. انتهى. هل ينسخ القرآن بعضه بعضاً سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد، رحمهما الله تعالى: هل ينسخ القرآن بعضه بعضاً؟ وهل ينسخ السنة، والسنة تنسخه؟ فأجاب: الذي عليه أئمة أهل العلم أن القرآن ينسخ بعضه بعضاً، وفيه آيات معروفة منسوخة، والآية التي نسختها معروفة؛ يعرف ذلك من طلبه من مظانه. وكذلك القرآن ينسخ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 123 السنة. وأما نسخ القرآن بالسنة، فالذي عليه المحققون من العلماء، أن السنة لا تنسخ القرآن، لكن السنة تفسر القرآن، وتبينه، وتفصل مجمله، لأن الله امتن على أزواج نبيه بالكتاب والحكمة، فقال: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} [سورة الأحزاب آية: 34] ؛ قال كثير من العلماء: كان جبرائيل ينْزل على النبي صلى الله عليه وسلم بالسنة، كما ينْزل عليه بالقرآن، ولا يسمون ذلك نسخاً، بل تفسيراً له وتوضيحاً وتشريعاً للأمة، لأن الله ضمن لنبيه صلى الله عليه وسلم جمع القرآن في صدره وبيان معناه، كما قال تعالى: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [سورة القيامة آية: 17-19] . الرواية بالمعنى للكتاب والسنة وسئل: هل تجوز الرواية بالمعنى للكتاب والسنة؟ فأجاب: أما قراءة القرآن بالمعنى، فما علمت أحداً يجوز ذلك، وكيف يجوز تغيير كلام الله، وتغيير نظمه الذي أعجز الله به جميع الخلق، وجعله آية ودلالة باهرة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم؟ هذا لا يقوله أحد. وأما رواية الحديث بالمعنى، فهذا مما اختلف فيه العلماء؛ فأجازه طائفة، ومنعه كثيرون من أهل الحديث، والفقهاء وغيرهم. [معنى الاشتقاق وما يراد به عند المحققين] قال الشيخ: عبد اللطيف، رحمه الله تعالى، في أثناء جواب له: فأما مسألة الاشتقاق فينبغي أولاً أن يسأل هذا: ما معنى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 124 الاشتقاق؟ وما يراد به عند المحققين؟ وإن زعم أنه أخذ الأسماء من مصادرها، وأن المصادر متقدمة، فهذا يلزم عليه سبق مادة أخذ منها الاسم، ومجرد القول بهذا لا يرتضى عند المحققين من أئمة الهدى. فإن عرف ذلك، وأجابك عن معنى الاشتقاق على الوجه الذي أشرنا إليه، فأخبره أن البصريين والكوفيين اختلفوا في الاسم من حيث هو، هل هو مشتق من السمو، أو من السمة؟ ذهب البصريون إلى الأول، والكوفيون إلى الثاني. وأصله عند البصريين: سمو على وزن فعل، فحذفت لام الكلمة وهي الواو، ثم سكن أوله تخفيفاً، ثم أتي بهمزة الوصل توصلاً بالنطق بالساكن، فصار اسماً. وعليه، فوزنه افع، ففيه إعلالات ثلاثة وهي: الحذف، ثم الإسكان، ثم الإتيان بهمزة الوصل. وأما على مذهب الكوفيين، فأصله: وسم على وزن فعل، حذفت فاء الكلمة وهي الواو اعتباطاً، ثم عوض عنها همزة الوصل. وعلى هذا، فوزنه اعل. ويسأل عن معنى الإعلال وما يقابله، وعن الاشتقاق الأكبر والأصغر والكبير، وعن معنى الاشتقاق الأكبر، مع المباينة في أكثر الحروف ما معناه؟ فإذا أجابك عن هذا، فأجبه عن سؤاله، وإلا فكيف يسأل عن التفاصيل من أضاع القواعد والجمل. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 125 ثم قال، رحمه الله: وأما ما فيه من جهة اللسان العربي، فإن "هل" لا تقابل بـ"أم" لأن ما يقابل بـ"أم" همزة الاستفهام، كما يعلم من محله. وأما قوله: لا تثبت من الرسول، فإن الإثبات يتعدى بـ"عن" لا بـ"من". وكذلك قوله: ولا ممن يعتبر بهم، فإن الاعتبار نوع، والاعتداد نوع آخر، فيعتد بالصالحين وأهل العلم، والاعتبار لا يختص بهم، بل لما ذكر فعل بني النضير بأنفسهم وديارهم قال: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} [سورة الحشر آية: 2] . [الترشيح والإطلاق والتجريد، ما يراد به عند أهل الفن] وأما قول السائل: سؤال عن الترشيح والإطلاق أيهما أبلغ؟ وكذلك الإطلاق والتجريد، فينبغي ان يسأل عن الترشيح والإطلاق والتجريد، ما يراد به عند أهل الفن؟ فإن عبارته تفيد عدم معرفته، إذ لا مقابلة بين الترشيح، والإطلاق، والتجريد، في الأبلغية؛ فسؤاله نص ظاهر في جهله. فإن الترشيح يراد به: تقوية الشبه بين المشبه والمشبه به، بأن يذكر ما هو من خواص المشبه به، كقوله: انشبت المنية أظفارها؛ فإن هذا فيه ذكر التقوية بما هو من خواص المشبه به، وهي الأظفار، فالترشيح قوى المعنى المراد. وأما الإطلاق في الاستعارة، فيقابله التقييد. والتجريد معناه: أن يتجرد المتكلم من نفسه مخاطباً، كقول الشاعر: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 126 يؤدون التحية من بعيد ... إلى قمر من الإيوان بادِ والبلاغة تختلف باختلاف الأحوال، فتوصف بها الكلمة والكلام والمتكلم؛ وحقيقتها: مطابقة الكلام مقتضى الحال، فإن كان الحال يقتضي الترشيح فهو أبلغ، وإلا فلكل مقام مقال. وأما الإخبار عن الاسم بـ"الذي"، فهو كثير في القرآن وغيره، قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ} [سورة الأعراف آية: 54] ، فأخبر بـ"الذي" عن اسمه الشريف الذي هو أعرف المعارف، و"الذي" اسم أيضاً، بخلاف ما يفيده السؤال. وأما الإخبار عن الاسم بـ"أل" فكقول الشاعر: ما أنت بالحكم الّترضى حكومته ... .................................... وكذا كل فعل مضارع دخلت عليه "أل". وأما الإخبار عن اسم من الأسماء بـ"الذين"، فكقوله تعالى {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ} [سورة آل عمران آية: 172] . وأما الإخبار بـ"الذين"، فكقوله: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالأِنْسِ} [سورة فصلت آية: 29] ، وقال: {وَالَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا} [سورة النساء آية: 16] . وأما الكل، والكلي، فالكل يراد به الجميع، كقوله: "كل المؤمنين يدخلون الجنة"، والكلي ما يقع على الأكثر والغالب، كقولك: "كل بني تميم يحملون الصخرة العظيمة". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 127 [أما بالتخفيف تأتي على وجهين] وسئل الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن، رحمهما الله تعالى، عن "أما" بالتخفيف؟ فأجاب: "أما" بالتخفيف تأتي على وجهين: أحدهما: أن تكون حرف تنبيه، كما في قوله: "أما إني لم أكن في صلاة". ويكثر ذلك قبل القسم كما في قوله: أما والذي أبكى وأضحك والذي ... أمات وأحيا والذي أمره الأمرُ لقد تركتني أحسد الوحش أن أرى ... أليفين منها لا يروعهما الذعرُ وقال الآخر: أما والذي حجت له العيس وارتمى ... لمرضاته شعث طويل ذميلها لئن نائبات الدهر يوماً أدلن لي ... على أم عمرو دولة لا أقيلها وقال الآخر: أما يستفيق القلب أن ما بدا له ... توهم صيف من سعاد ومربع أخادع عن إطلالها العين أنه ... متى تعرف الأطلال عيني تدمع عهدت بها وحشاً عليها براقع ... وهذي وحوش أصبحت لم تبرقع وهذا إذا قصد به تنبيه المخاطب لما بعدها، والإشارة إلى أن ما بعدها مما يهتم به ويلتفت إليه، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: " ألا لعنة الله على اليهود والنصارى " 1، " ألا هل بلغت؟ " 2، " ألا ليبلغ الشاهد منكم الغائب " 3، وكقول الشاعر: ألا لا يجهلنْ أحدٌ علينا ... ....................................   1 البخاري: الصلاة (436) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (531) , والنسائي: المساجد (703) , وأحمد (6/80, 6/146, 6/252, 6/255) , والدارمي: الصلاة (1403) . 2 البخاري: العلم (105) , ومسلم: القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1679) , وأحمد (5/37, 5/39, 5/49) . 3 البخاري: العلم (105) , ومسلم: القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1679) , وابن ماجة: المقدمة (233) , وأحمد (5/37, 5/39, 5/49) , والدارمي: المناسك (1916) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 128 وكما في قوله: ألا ليت حظي من عطاياك أنني ... علمت وراء الرمل ما أنت صانعُ والثاني بمعنى: "حقاً" أو "أحق"، وزعم بعض الناس أنها تكون حرف عرض بمعنى "لولا"، فيختص بالفعل كما في قولك: أما يقوم، أما يقعد، ونحوه. و"أما" نحو: أما كان فيهم من يفهم؟ فالهمزة للاستفهام، وما: حرف نفي؛ وليست مما نحن فيه، فتنبه! وأما قولك: ما وجه نصب "عدد خلقه ورضى نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته"؟ فاعلم: أن نصب هذه المصادر على أنها نعت لـ"سبحان"، لأنه اسم محذوف العامل وجوباً، لكونه بدلاً من اللفظ بفعل مهمل، كقول الشاعر: ثم قالوا تحبها قلت بهراً ... عدد الرمل والحصى والترابِ فبهرا هنا: اسم منصوب على المفعولية المطلقة، لكونه هنا بمعنى "عجباً" لكن فعله مهمل غير مستعمل، فلذلك حذف وجوباً. وعدد الرمل في البيت: نعت له، ويحتمل أن عدداً وما عطف عليه نصب على المفعولية المطلقة. والعامل يقدر "سبحته" أو "نزهته"، فهو كقوله: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [سورة النور آية: 4] ، لأن "سبحان": علم على معنى التنْزية والبراءة، أو على لفظه فلا يعمل في المفعول؛ ويمكن أن يقال: لا حاجة إلى هذا التقدير، لأن الاسم قد يعمل لما فيه من رائحة الفعل، ويكون النصب لسبحان، ويقويه قول ابن مالك: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 129 بمثله أو فعل أو وصف نصبْ ... وكونه أصلاً لهذين انتخبْ وأما "زنة" فمعناها الموازنة والثقل، بخلاف "ما" إذا كان من بعده الفعل مستعملاً، كقوله: أذلاّ إذا شب العدى نار حربهم ... وزهواً إذا ما يجنحون إلى السلمِ وقول الآخر: خمولاً وإهمالاً وغيرك مولع ... بتثبيت أسباب السيادة والمجدِ استعمال الماضي موضع المضارع وسئل أيضاً: الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن: عن استعمال الماضي موضع المضارع؟ فأجاب: مسألة استعمال الماضي موضع المضارع لهم فيها وجهان: أحدهما: أن في استعمال الصيغة الماضية بدل المضارعية تنبيهاً وإشارة إلى تحقيق النفي في الحال والاستقبال، كتحقيق مضي الماضي من الأفعال والأحوال، وذلك باستعارة ما وضع للماضي لما قصد به الحال والاستقبال، تقوية وتأكيداً لمضمون الجملة المنفية؛ وذلك شائع في لسانهم، وفي التنْزيل: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ} [سورة النحل آية: 1] ، {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ} ، والمعنى: يأتي، ويقول. ومنه استعمال المضارع بدل الماضي، إشارة إلى التجدد والاستمرار شيئاً فشيئاً، فقوله تعالى: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ} [سورة الأنعام آية: 33] ، {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ} [سورة الحجر آية: 97] ، {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 130 الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ} [سورة الأحزاب آية: 18] ، والمعنى: قد علمنا، ومنه قول الأعشى: وأرى من عصاك أصبح محرو ... باً وكعب الذي يطيعك عالِ ولقد أسبي الفتاة فتعصي ... وكل واش يريد جزم حبالِ يريد: رأيت وسبيت. والوجه الثاني: أن الكلمة إن دلت على معنى في نفسها، واقترنت بزمان ففعل، فإن كان الزمان الذي دلت عليه ماضياً فالفعل ماض، وإن كان للحال والاستقبال فالفعل مضارع، وإن كان مستقبلاً فقط فالفعل أمر، كما هو مقرر في موضعه؛ فلو عبر بالمضارع وقال: لا ألبس، مثلاً، لاحتمل أنه قصد النفي في الحال فقط، أو فيما يستقبل فقط، لأن ذلك جرى في لسانهم، ومنه {لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ} [سورة التوبة آية: 92] ، {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ} [سورة الأنبياء آية: 47] ، واحتمل وقوع استثناء يعقبه، فلما عبر بالماضي زال الاحتمال، وانقطع التوقع، وقصد المعنى الأصلي، وهو النفي في الماضي، لئلا يتوهم النفي في الحال والاستقبال؛ تقول: لا لبست، لا ضربت، لا ظلمت، قاصداً الحال والاستقبال، بخلاف: ما ضربت، ما لبست، فإنها للنفي في الماضي. وقولك: ما معنى النفي في قولهم: لا قتلت الميت؟ فالذي في الحلف بالطلاق وتعلقه بالمستحيل: "لأقتلن" بلام التوكيد الموطئة للقسم، والفعل بعدها مؤكد بنون التوكيد الثقيلة، ولا نفي فيها؛ فتنبه! الجزء: 4 ¦ الصفحة: 131 باب الطهارة ... بسم الله الرحمن الرحيم كتاب الطهارة أحكام المياه قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى، بعد ذكره القواعد التي تدور الأحكام عليها مثلاً يحتذى عليه - وقد تقدمت - 1: باب المياه. فنقول: قال بعض أهل العلم: الماء كله طهور إلا ما تغير بنجاسة أو خرج عنه اسم الماء، كماء ورد أو باقلا ونحوه. وقال آخرون: الماء ثلاثة أنواع: طهور، وطاهر، ونجس؛ والدليل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم: " لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم " 2؛ فلولا أنه يفيد منعاً لم ينه عنه. ودليله من النظر: أنه لو وكله في شراء ماء، فاشترى ماء مستعملاً، أو متغيراً بطاهر، لم يلزمه قبوله؛ فدل على أنه لا يدخل في الماء المطلق. قال الأولون: النبي صلى الله عليه وسلم " نهى أن يغتسل الرجل في الماء الدائم " 3، وإن عصى وفعل فالقول في نجاسة الماء لا تعرض لها في الحديث بنفي ولا إثبات، وعدم قبول الموكل لا يدل؛ فلو اشترى له ماء من ماء البحر لم يلزمه قبوله، ولو اشترى له ماء متقذراً طهوراً لم يلزمه قبوله؛ فانتقض ما قلتموه. فإن   1 أي: هذه القواعد, في صفحة: 5, 6, 7 مع الإشارة إلى التمثيل بهذا الباب. 2 مسلم: الطهارة (283) , والنسائي: الطهارة (220) والغسل والتيمم (396) , وابن ماجة: الطهارة وسننها (605) . 3 مسلم: الطهارة (283) , والنسائي: الطهارة (220) والغسل والتيمم (396) , وأبو داود: الطهارة (70) , وابن ماجة: الطهارة وسننها (605) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 135 كنتم معترفين أن هذه الأدلة لا تفيدكم إلا الظن، وقد ثبت أن"الظن أكذب الحديث "، فقد وقعتم في المحرم يقيناً أصبتم أم أخطأتم، لأنكم أتيتم بظن مجرد، فإن قوله: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} [سورة النساء آية: 43] كلام عام من جوامع الكلم، فإن دخل فيه هذا خالفتم النص، وإن لم يدخل فيه وسكت عنه الشارع لم يحل الكلام فيه، وعصيتم قوله تعالى: {لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} الآية [سورة المائدة آية: 101] ؛ وكذلك إذا حرفتم هذا اللفظ العام الجامع، مع قوله صلى الله عليه وسلم: " الماء طهور لا ينجسه شيء " 1، وتركتم هذه الألفاظ الواضحة العامة، وزعمتم أن الماء ثلاثة أنواع بالأدلة التي ذكرتموها، وقعتم في طريق أهل الزيغ، في ترك المحكم واتباع المتشابه. فإن قلتم: لم يتبين لنا أنه طهور، وخفنا أن النهي يؤثر فيه، قلنا: قد جعل الله لنا منه مندوحة، وهو الوقف، وقول: لا ندري، وألحق بمسألة المتشابهات؛ وأما الجزم بأن الشرع جعل هذا طاهراً غير مطهر، فقد وقعتم في القول بلا علم، والبحث عن المسكوت عنه، واتباع المتشابه، وتركتم قوله: "وبينهما مشتبهات ". المسألة الثانية: قولهم: إن الماء الكثير ينجسه البول والعذرة لنهيه عليه السلام عن البول فيه، فيقال لهم: الذي ذكر النهي عن البول إذا كان راكداً، وأما نجاسة الماء وطهارته فلم يتعرض لها، وتلك مسألة أخرى يستدل عليها بدليل آخر،   1 الترمذي: الطهارة (66) , وأبو داود: الطهارة (66) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 136 وهو قوله: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} [سورة النساء آية: 43] ، وهذا ماء، وقول النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن بئر بضاعة، وهي يلقى فيها الحيض وعذرة الناس: " الماء طهور لا ينجسه شيء " 1؛ فمن ترك هذا المحكم، وقع في القول بلا علم واتبع المتشابه، لأنه لا يجزم أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد نجاسة الماء لما نهى عن البول فيه، وإنما غاية ما عنده الظن؛ فإن قدرنا أن هذا لا يدخل في العموم الذي ذكرنا، وتكلم فيه بالقياس، فقد خالف قوله: {لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ} [سورة المائدة آية: 101] ؛ وإن تعلل بقوله: لم يبن لي دخوله في العموم، وأخاف لأجل النهي عن نجاسته، قيل لك مندوحة عن القول بلا علم، وهو إلحاقه بالمتشابهات، ولا تزعم أن الله شرع نجاسته وحرم شربه. ومن ذلك: فضلة المرأة، زعم بعضهم أنه لا يرفع الحدث، وولدوا عليه من المسائل ما يشغل الإنسان، ويعذب الحيوان. وقال كثير من أهل العلم، أو أكثرهم: إنه مطهر رافع للحدث. فإن لم يصح الحديث فلا كلام، كما يقوله البخاري وغيره؛ وإن قلنا بصحة الحديث، فنقول: في صحيح مسلم حديث أصح منه أن النبي صلى الله عليه وسلم " توضأ واغتسل بفضل ميمونة " 2؛ وهذا داخل في قوله: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} [سورة النساء آية: 43] قطعاً، وداخل في قوله: " طهور لا ينجسه شيء " 3، وإنما نهي الرجل عن استعمال الماء نهي تنْزيه وتأديب إذا قدر على غيره، للأدلة القاطعة التي ذكرنا. فإذا قال من منع من استعماله: أخاف أن النهي إذا سلمتم صحته يفسد الوضوء، قلنا: إذا خفت   1 الترمذي: الطهارة (66) , وأبو داود: الطهارة (66) . 2 مسلم: الحيض (323) , وأحمد (1/366) . 3 الترمذي: الطهارة (66) , وأبو داود: الطهارة (66) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 137 ذلك فألحقه بالمتشابهات، ولا تقل على الله بلا علم، ولا تولد مسائل كثيرة سكت الشارع عنها في صفة الخلوة وغيرها. ومن ذلك: الماء الذي دون القلتين، إذا وقعت فيه نجاسة، فكثير من أهل العلم أو أكثرهم على أنه طهور، داخل في تلك القاعدة الجامعة: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} [سورة النساء آية: 43] ؛ وسئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الماء إذا وقعت فيه نجاسة؟ فقال: " الماء طهور لا ينجسه شيء " 1، لكن حمله الآخرون على الكثير، لقوله: " إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث " 2؛ قال الأولون: إن سلكنا في الحديث مسلك من قدح فيه من أهل الحديث فلا كلام، ولكن نتكلم فيه على تقدير ثبوته، ونحن نقول بثبوته، لكن لا يدل على ما قلتموه، ومن زعم أن القليل ينجس فقد قال ما لا يعلم قطعاً، لأن اللفظ صرح أنه إن كثر لا يحمل الخبث، ولم يتكلم فيما دون، فيحتمل أنه ينجس على ما ذكرتم، ويحتمل أنه أراد إن كان دونهما فقد يحمل وقد لا يحمل؛ فإذا لم تقطع على مراده بالتحديد، فقد حرم الله القول عليه بلا علم، وإن زعمتم أن أدلتنا لا تشمل هذا فهو باطل، فإنها عامة، وعلى تقدير ذلك يكون من المسكوت عنه، الذي نهينا عن البحث عنه. فلو أنكم قلتم كمن قال من كرهه من العلماء: أكرهه ولا أستحبه مع وجود غيره، ونحو هذه العبارة التي يقولها من شك في نجاسته، ولم يجزم بأن حكم الشرع نجاسة هذا   1 الترمذي: الطهارة (66) , وأبو داود: الطهارة (66) . 2 الترمذي: الطهارة (67) , وابن ماجة: الطهارة وسننها (517) , والدارمي: الطهارة (731) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 138 الماء، كنتم قد أصبتم وعملتم بقول نبيكم صلى الله عليه وسلم، سواء كان في نفس الأمر طاهراً أم لا؛ فإن من شك في شيء وتورع عنه، فقد أصاب، ولو تبين بعد ذلك أنه حلال. وعلى كل حال: فمن زعم أن النبي صلى الله عليه وسلم الذي أرسله الله ليبين للناس ما نزل إليهم، أراد أن يشرع لأمته أن كل ماء دون القلتين بقلال هجر، إذا لاقى شيئاً نجساً أنه يتنجس، ويصير شربه حراماً، ولا يقبل صلاة من توضأ به، ولا من باشره شيء منه، حتى يغسله، ولم يبين ذلك لهم حتى أتاه أعرابي يسأل عن الماء بالفلاة ترده السباع التي تأكل الميتات، ويسيل فيه من ريقها ولعابها، فأجابه بقوله: " إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث " 1، أراد بهذا اللفط أن يبين لأمته، أنه إذا بلغ خمسمائة رطل بالعراقي لا ينجس إلا بالتغير، وما نقص نجس بالملاقاة، وصار كما وصفنا، فمن زعم ذلك فقد أبعد النجعة، وقال ما لا يعلم، وتكلم فيما سكت عنه، واتبع المتشابه، وجعل المتشابه من الحرام البين. ونسأل الله أن يوفقنا وإخواننا المسلمين لما يحب ويرضى، ويعلمنا الكتاب والحكمة، ويرينا الحق حقاً ويوفقنا لاتباعه، ويرينا الباطل باطلاً ويوفقنا لاجتنابه، ولا يجعله علينا ملتبساً فنضل؛ وهذه القواعد في جميع أنواع العلوم الدينية عامة، وفي علم الفقه من كتاب الطهارة إلى باب الإقرار خاصة.   1 الترمذي: الطهارة (67) , وابن ماجة: الطهارة وسننها (517) , والدارمي: الطهارة (731) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 139 وسئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد، رحمهما الله تعالى: عما إذا كان الماء دون القلتين، ووقعت فيه نجاسة، هل ينجس بمجرد وقوع النجاسة؟ أو بالتغير؟ فأجاب: إذا لم يتغير الماء بالنجاسة لم ينجس، سواء كان قليلاً أو كثيراً؛ وهو قول مالك وأهل المدينة، وهو إحدى الروايات عن الإمام أحمد، اختارها بعض أصحابه. وفي المسألة نحو خمسة أقوال، وهذا هو الذي نختار؛ والدليل عليه: ما رواه الترمذي وغيره عن أبي سعيد، فقال: " أن النبي صلى الله عليه وسلم قيل: له أنتوضأ من بئر بضاعة؟ وهي بئر يلقى فيها الحيض، ولحوم الكلاب والنتن؟ فقال: الماء طهور لا ينجسه شيء " 1، صححه الإمام أحمد، رحمه الله تعالى. وعن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " الماء طهور لا ينجسه شيء " 2، وعن أبي أمامة الباهلي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الماء لا ينجسه شيء، إلا ما غلب على ريحه ولونه وطعمه " 3، رواه ابن ماجة، وضعفه أبو حاتم؛ وللبيهقي: "الماء طهور، إلا أن يتغير لونه أو طعمه أو ريحه بنجاسة تحدث فيه ". وسئل: عن الماء الذي يجوز الطهارة به ويرفع الحدث؟ فأجاب: هو كل ماء طاهر باق على ما خلقه الله عليه ولم يتغير، فإن تغير بالنجاسة طعمه أو لونه أو ريحه لم تجز الطهارة به.   1 الترمذي: الطهارة (66) , وأبو داود: الطهارة (66) . 2 الترمذي: الطهارة (66) , وأبو داود: الطهارة (66) . 3 ابن ماجة: الطهارة وسننها (521) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 140 وسئل أيضاً: عن ماء راكد فوق القلتين، بال فيه إنسان وحان وقت الصلاة واضطر إليه، هل يتوضأ منه؟ فأجاب: إذا بال الإنسان في ماء راكد، وحان وقت الصلاة، إذا اضطر إليه ولم يجد غيره وهو فوق القلتين ولم تغيره رائحة النجاسة، فالظاهر أنه يتوضأ منه ويرتفع به حدثه. وسئل: إذا تردت بهيمة في بئر، وتغيرت رائحة الماء، هل يجوز استعماله؟ فأجاب: متى علم بتغير رائحة الماء، لم يجز له استعماله ولا تباح به الصلاة. وسئل: عمن حضرته الصلاة، ولم يجد إلا ماء زمزم، فهل يجوز له استعماله ... إلخ؟ فأجاب: المسألة فيها خلاف، والظاهر أنه يجوز له استعماله من غير كراهة؛ وأما إذا وجد غيره، ففيه ثلاث روايات: الأولى: لا يكره، والثانية: يكره، والثالثة: يكره الغسل دون الوضوء، اختارها الشيخ. وسئل بعضهم: عن الماء المتنجس بالتغير وهو كثير، إذا حوض وترك حتى صفا، هل يطهر؟ فأجاب: الذي ذكر الفقهاء أن الماء المتنجس بالنجاسة، إذا تغير طعمه أو لونه أو ريحه، فإنه لا يطهر حتى يزول التغير بنَزحه، أو بمكاثرته بالماء، أو بزوال تغيره بنفسه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 141 إذا كان كثيراً؛ والكثير عند الحنابلة وغيرهم: ما كان قلتين فأكثر، وأما التراب: فالمشهور عندهم أنه لا يطهره، لأنه لا يدفع النجاسة عن نفسه فعن غيره أولى؛ قال في الفروع: وقيل بلى، وأطلق في الإيضاح روايتين، وللشافعي قولان؛ فعلى هذا، إذا زال عنه أثر النجاسة بالكلية، ولم يبق فيه لون، ولا طعم، ولا ريح، فإنه يطهر لزوال النجاسة منه، كالخمرة إذا انقلبت بنفسها خلاً، وكذلك النجاسة إذا استحالت. وسئل الشيخ عبد الله أبا بطين: إذا بلغ الماء قلتين، ووقع فيه بول آدمي، أو عذرته؟ فأجاب: وأما ما بلغ قلتين فأكثر، إذا وقع فيه بول آدمي أو عذرته، فعند أكثر العلماء أنه لا فرق بين بول الآدمي وعذرته، وبين سائر النجاسات؛ وهو إحدى الروايتين عن أحمد. وعن أحمد رواية أخرى: أن الماء ينجس ببول الآدمي وعذرته، إلا أن يكون مثل المصانع التي بطريق مكة ونحوها، لحديث أبي هريرة " لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل فيه " 1. والجمهور يخصون هذا الحديث بحديث القلتين، ويقوي ذلك: أن بول الآدمي لا يزيد على بول الكلب، وهو لا ينجس القلتين؛ فيجمع بين الحديثين: بأن يحمل حديث أبي هريرة على ما دون القلتين، مع أن الحديث ليس فيه صراحة بأنه ينجس بالبول فيه؛ والقول بأن حكم بول الآدمي كغيره هو الصحيح إن شاء الله تعالى.   1 البخاري: الوضوء (239) , ومسلم: الطهارة (282) , والنسائي: الطهارة (58) والغسل والتيمم (397) , وأبو داود: الطهارة (70) , وأحمد (2/316, 2/346, 2/362, 2/433) , والدارمي: الطهارة (730) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 142 وأما الفرق بين الجاري وغيره، ففيه خلاف؛ والمشهور في المذهب أنه لا فرق بين الجاري وغيره، فينجس القليل إذا لاقته النجاسة وإن كان جارياً؛ وعن أحمد رواية أخرى: أن الجاري لا ينجس إلا بالتغير، اختارها جماعة من الأصحاب، وهو مذهب أبي حنيفة. كما أن في أصل المسألة رواية مشهورة اختارها ابن عقيل والشيخ تقي الدين وغيرهما: أن الماء مطلقاً لا ينجس إلا بالتغير وفاقاً لمالك، وعلى القول بأنه لا فرق بين الجاري وغيره، إذا كان مجموع الجاري يبلغ قلتين لم ينجس إلا بالتغير على المذهب؛ وهذا أيضاً لو خالطه مستعمل كثير لم يؤثر، وإن كان مجموع الجاري لا يبلغ قلتين وخالطه مستعمل، لو قدرنا أن هذا المستعمل المخالط أحمر أو أصفر مثلاً، ولم يغير الطهور تغيراً كثيراً، لم يضره؛ وقد نص أحمد فيمن انتضح من وضوئه في إنائه لا بأس. وسئل أيضاً: الشيخ عبد الله أبا بطين: عن الماء إذا كان قدره أربعين صاعاً أو أكثر، ووجد فيه أثر كلب، هل يجوز الوضوء منه؟ فأجاب: يجوز الوضوء منه، لأن الصحيح من أقوال العلماء أن الماء لا ينجس إلا أن يتغير بالنجاسة؛ قال في الشرح: الرواية الثانية: لا ينجس الماء إلا بالتغير؛ روي عن حذيفة وأبي هريرة وابن عباس، ومالك وابن المنذر، وهو قول الجزء: 4 ¦ الصفحة: 143 الشافعي، لقوله صلى الله عليه وسلم لما سئل عن بئر بضاعة: " الماء طهور لا ينجسه شيء " 1، رواه أبو داود والنسائي، والترمذي وحسنه، وصححه أحمد، وهو اختيار الشيخ تقي الدين، والشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمهم الله تعالى. وسئل: عن الماء القليل إذا خالطته نجاسة ولم تغيره؟ فأجاب: الذي يترجح عندنا طهارته، وأنه لا ينجس إلا بالتغير؛ لكن الاحتياط حسن، نفعله خروجاً من الخلاف. وسئل: عن تغير الماء بزبل ما يؤكل لحمه؟ فأجاب: هو طاهر عند جمهور العلماء، كمالك وأحمد بن حنبل؛ وقد دل على ذلك الأدلة الشرعية الكثيرة، كما قد بسط القول في ذلك، وذكر فيه بضعة عشر حجة؛ وإن تيقن أن تغيره بنجاسة فإنه ينجس، وإن شك هل الروث روث ما يؤكل لحمه، أو ما لا يؤكل لحمه، ففيه قولان في مذهب أحمد وغيره. وسئل أيضاً: عن ماء وردت عليه إبل وغنم وهو كثير، وتغير بأبوالها، هل يسلب ذلك طهوريته؟ فأجاب: الماء إذا خالطه بول أو روث طاهر فلا يضره، إذا كان باقياً على إطلاقه، وما تلقيه الريح والسيول يعفى عنه.   1 الترمذي: الطهارة (66) , وأبو داود: الطهارة (66) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 144 وسئل الشيخ حمد بن عتيق: عن الجثجاث أو غيره إذا وضع في اللزاء 1 أو غيره؟ فأجاب: لا بأس بالماء الذي يجعل فيه جثجاث، والذي يتغير، مثل ماء الألزية، من الظل الذي يجعل عليه إذا أصابه المطر. سئل الشيخ حمد بن ناصر بن معمر، رحمه الله، عن البرك، هل يغتسل فيها ... إلخ؟ فأجاب: والبرك الذي فيها ماء ساكن، لا يغتسل فيها من الجنابة؛ والأحسن أن يأخذ الماء ويغتسل به خارجاً، أو يستنجي به؛ وأما غسل الأعضاء فلا بأس به. وقال الشيخ عبد الرحمن بن حسن، رحمه الله تعالى: ينبغي التنبيه على أمر مهم عمت به البلوى ويتعين إنكاره، وهو الاستنجاء في البرك ونحوها، وفيه خطر عظيم لا سيما على الرواية المشهورة في مذهب أحمد، اختارها أكثر المتقدمين والمتوسطين، وهي: أن الماء ينحس بملاقاة بول الآدمي، وعذرته المائعة أو الجامدة إذا ذابت فيه، واستدلوا بحديث أبي هريرة مرفوعاً: " لا يبولن أحدكم في الماء الدائم، ولا يغتسل فيه من الجنابة " 2؛ والنهي يقتضي الفساد. وعلى كلا الروايتين هو كالبول، لأنه في معنى البول؛ وقد نص العلماء أنه مثل البول، كالحافظ العراقي في التقريب وغيره، فيتعين لذلك أن تعلنوا بالنهي على رؤوس الأشهاد في مجامع الناس،   1 وهو: مصب ماء السواني. 2 البخاري: الوضوء (239) , ومسلم: الطهارة (282) , والنسائي: الطهارة (220, 221) , وأبو داود: الطهارة (70) , وابن ماجة: الطهارة وسننها (605) , وأحمد (2/433) , والدارمي: الطهارة (730) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 145 لما فيه من خطر التنجيس، والوقوع في المنهي عنه من تقذير الماء. وسئل: عن غمس يد القائم من نوم الليل، هل يسلب الماء الطهورية؟ فأجاب: اعلم أن أحمد نص في رواية أخرى على أن غمسهما في الماء القليل لا يسلبه الطهورية، واختاره من أصحابه الخرقي، والموفق، وأبو البركات ابن تيمية، وابن أبي عمر في شرح المقنع، وجزم به في الوجيز وفاقاً لأكثر الفقهاء، وقال في شرح مسلم: الجماهير من العلماء المتقدمين والمتأخرين على أنه نهي تنْزيه، لا نهي تحريم؛ فلو خالف وغمس لم يفسد الماء، ولم يأثم الغامس؛ وأما الحديث فمحمول على التنْزيه. سئل الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن، رحمهم الله تعالى، عن قول شارح الزاد: غير تراب ونحوه، ما نحوه؟ فأجاب: اعلم أن نحو التراب هنا، ما كان من الأجزاء الأرضية، كالرمل والنورة، أو من المائعات الطاهرة، وكذا كل ما لا يدفع النجاسة عن نفسه، فإنه لو أضيف أحد هذه الأشياء إلى الماء الكثير المتنجس لم يطهر بإضافته إليه، لكون المضاف لا يدفع عن نفسه، فعن غيره أولى، ولو زال به التغير على أظهر الوجهين. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 146 باب الاستنجاء وسئل الشيخ عبد اللطيف عن قول شارح الزاد، نقلاً عن صاحب النظم: وتحرم القراءة في الحش وسطحه، وهو متوجه على حاجته؟ فأجاب: اعلم أن قوله: متوجه، من كلام صاحب الفروع، ومعناه: أن التحريم يتوجه إذا كان المتخلي جالساً على حاجته بهذا القيد؛ فافهم ذلك وتفطن؛ والكلام في التحريم والكراهة، وبيان المختار، يستدعي بسطاً طويلاً. وسئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: عن السلام على المتخلي؟ فأجاب: أما السلام على الذي فى الخلاء فمكروه، ولا يرد على المسلِّم. وسئل الشيخ محمد بن الشيخ إبراهيم بن عبد اللطيف: عن السلام على المستجمر ورده؟ فأجاب: الظاهر عدم كراهية ذلك، وإنما يكره ذلك في حق المتخلي. قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله: وأنا أضرب الجزء: 4 ¦ الصفحة: 147 لك مثلاً بمسألة واحدة، وهي مسألة الاستجمار ثلاثاً فصاعدا من غير عظم ولا روث؛ وهو كاف مع وجود الماء، عند الأئمة الأربعة وغيرهم، وهو إجماع الأمة لا خلاف في ذلك، ومع هذا لو يفعله أحد لصار هذا عند الناس أمراً عظيماً، ولنهوا عن الصلاة خلفه وبدعوه، مع إقرارهم بذلك لأجل العادة. وأجاب الشيخ حمد بن ناصر بن معمر، رحمه الله: الاستجمار بثلاثة أحجار أو أكثر، إذا أزال الإنسان بذلك النجاسة وبلتها يكفي عن الاستنجاء باتفاق العلماء، لكن الاستنجاء بالماء مع الاستجمار أفضل وأكمل؛ والاستجمار لا يحتاج إلى نية للصلاة، لأنه من التروك، والتروك لا تحتاج إلى نية. سئل الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين: عن كراهية بعض الناس الاستجمار في الأرض لأنه خلق منها؟ فأجاب: هذا وسواس شيطاني ما يلتفت إليه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 148 باب السواك وسنن الفطرة سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: عن الختان؟ فأجاب: أما الختان فهو أخذ القلفة، ومن زاد على ذلك فقد خالف المشروع، فيؤدب ويضرب. وأجاب أيضاً: وأما مسألة بعض الناس، الذين ختانهم بالسلخ، فهذا لا يجوز في دين الإسلام؛ فأنتم انهوا الناس عن فعل هذا، وأغلظوا عليهم الكلام، وأخبروهم أن من فعل هذا يؤدب أدباً بليغاً. وأجاب أيضاً: وكذلك من اختتن غير ختان السنة، فإن كان فعله وهو جاهل فلا أدب عليه. سئل الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين: عن قص الشارب وحفه؟ فأجاب: قص الشارب وحفه سنة مؤكدة، ويكره تركه؛ وصرح بعضهم بوجوب القص، فيكون عدم القص محرماً، لحديث: " من لم يأخذ شاربه فليس منا " 1. وأجاب أيضاً: وأما قصه على اختلاف بينهم في الأول، ى سوى ابن حزم، فإنه حكى الإجماع على أن قص الشارب   1 الترمذي: الأدب (2761) , والنسائي: الطهارة (13) والزينة (5047) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 149 وإعفاء اللحية فرض، واستدل عليه بحديث زيد بن أرقم المرفوع: " من لم يأخذ من شاربه فليس منا " 1؛ قال في الفروع: وهذه الصيغة تقتضي عند أصحابنا التحريم، قال: وعبر أصحابنا وغيرهم بالاستحباب؛ وأما أمره صلى الله عليه وسلم بذلك مخالفة للمجوس والمشركين، فلا يلزم منه الوجوب، لأن مخالفتهم قد تكون واجبة، وقد تكون غير واجبة، كقوله صلى الله عليه وسلم: " إن اليهود لا يصبغون فخالفوهم " 2، وكأمره بالصلاة في النعال والخفاف مخالفة لليهود. وسئل: عن أخذ الرجل من طول لحيته إذا كانت دون القبضة؟ فأجاب: الظاهر الكراهة، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: " أعفوا اللحى " 3، وفي حديث آخر: " أرخوا اللحى "؛ والسنة عدم الأخذ من طولها مطلقاً، وإنما رخص بعض العلماء في أخذ ما زاد عن القبضة لفعل ابن عمر رضي الله عنه، وبعض العلماء يكره ذلك، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: " أعفوا اللحى ". وأما حلق ما على الخدين من الشعر فلا شك في كراهته، لمخالفة قول النبي صلى الله عليه وسلم: " أعفوا اللحى "؛ واللحية في اللغة: اسم للشعر النابت على الخدين والذقن؛ ومعنى قوله: " أعفوا اللحى " أي: وفروها واتركوها على حالها، مع أنه ورد حديث في النهي عن ذلك، فروى الطبراني عن ابن   1 الترمذي: الأدب (2761) , والنسائي: الطهارة (13) والزينة (5047) . 2 البخاري: اللباس (5899) , ومسلم: اللباس والزينة (2103) , والنسائي: الزينة (5069, 5071, 5072) , وأبو داود: الترجل (4203) , وابن ماجة: اللباس (3621) , وأحمد (2/240, 2/309, 2/401) . 3 البخاري: اللباس (5888, 5893) , ومسلم: الطهارة (259) , والترمذي: الأدب (2763, 2764) , والنسائي: الزينة (5046) , وأبو داود: الترجل (4199) , وأحمد (2/16, 2/52, 2/156) , ومالك: الجامع (1764) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 150 عباس رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من مثل بالشعر ليس له عند الله خلاق " 1؛ قال الزمخشري، معناه: صيره مثلة بأن نتفه، أو حلقه من الخدود، أو غيره بسواد، وقال في النهاية، مثل بالشعر: حلقه من الخدود، وقيل نتفه أو تغييره بسواد؛ فهذا الحديث ظاهر في تحريم هذا الفعل، والله أعلم. وقال أصحابنا: يباح للمرأة حلق وجهها وحفه، ونص أحمد على كراهة حف الرجل شعر وجهه، والحف أخذه بالمقراض، والحلق بالموسى؛ فإذا كره الحف فالحلق أولى بالكراهة، ويكفي في ذلك أنه مخالف لسنة النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: "أعفوا اللحى "، وفي الحديث: " وفروا اللحى، خالفوا المشركين " 2. وسئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى: عن معنى عقد اللحية في حديث: " إن من عقد لحيته ... " 3 ... إلخ؟ فأجاب: عقد اللحية لا أعلمه، لكن ذكر في الآداب كلاماً يقتضي أنه شيء يفعله بعض الناس في الحرب على وجه التكبر.   1 صحيح البخاري: كتاب الشهادات (2685) وكتاب الجهاد والسير (2795) وكتاب المناقب (3895) وكتاب المغازي (4418) وكتاب النكاح (5078, 5125) وكتاب الأيمان والنذور (6625) وكتاب التعبير (7011 ,7012) وكتاب الاعتصام بالكتاب والسنة (7363) وكتاب التوحيد (7523) , وصحيح مسلم: كتاب الأيمان (1655) وكتاب اللباس والزينة (2069) وكتاب فضائل الصحابة (2438) وكتاب التوبة (2769) , وسنن الترمذي: كتاب فضائل الجهاد (1643) وكتاب تفسير القرآن (3102) , وسنن النسائي: كتاب الصلاة (461) وكتاب الزينة (5312) , وسنن أبي داود: كتاب الصلاة (1420) وكتاب السنة (4643) , وسنن ابن ماجة: كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها (1401) وكتاب الكفارات (2114) وكتاب الزهد (4268) , ومسند أحمد (1/36, 2/278, 2/317, 3/456, 4/267, 4/268, 4/271, 4/380, 5/315, 5/317, 5/414, 6/25, 6/41, 6/128, 6/139, 6/161, 6/387) , وموطأ مالك: كتاب النداء للصلاة (270) , وسنن الدارمي: كتاب الصلاة (1577) . 2 البخاري: اللباس (5892) , ومسلم: الطهارة (259) . 3 النسائي: الزينة (5067) , وأبو داود: الطهارة (36) , وأحمد (4/109) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 151 سئل أبناء الشيخ محمد، وحمد بن ناصر: عن حلق بعض شعر الرأس، وترك بعضه؟ فأجابوا: الذي تدل عليه الأحاديث: النهي عن حلق بعضه وترك بعضه؛ فأما تركه كله فلا بأس إذا أكرمه الإنسان، كما دلت عليه السنة الصحيحة. وأما حديث كليب فهو يدل على الأمر بالحلق عند دخوله في الإسلام، إن صح الحديث، ولا يدل على أن استمرار الحلق سنة. وأما تعزير من لم يحلق وأخذ ماله فلا يجوز، وينهى فاعله عن ذلك، لأن ترك الحلق ليس منهياً عنه، وإنما نهى عنه ولي الأمر، لأن الحلق هو العادة عندنا، ولا يتركه عندنا إلا السفهاء، فنهي عن ذلك نهي تنْزيه، لا نهي تحريم، سداً للذريعة. سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: عن الحناء إذا اختضب به الرجل؟ فأجاب: الحناء لا بأس به إذا اختضب به الرجل في يديه، ورجليه، غير قاصد للتشبه بالنساء، ولا يريد به الزينة. وسئل: عن الوشم؟ فأجاب: أما الوشم فهو حرام فعله، وصح أن النبي صلى الله عليه وسلم " لعن الواشمة والمستوشمة " 1؛ فالمرأة التي تفعل الوشم تؤدب وتضرب إلى أن تنتهي.   1 البخاري: الطلاق (5347) , وأحمد (4/308) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 152 سئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ محمد: عن قولهم: إذا استعمل الماء ولم يدخل يده في الإناء لم يصح وضوؤه، وفسد الماء ... إلخ؟ فأجاب: فساد الماء هنا سلب طهوريته، فما حصل في يده قبل غسلها ثلاثاً بنية من نوم ليل فسد وإن لم يدخلها الإناء، هذا معنى ما جزم به في الإقناع والمنتهى وشرح الزاد. وقال الشيخ عثمان في حاشية المنتهى: ومعنى قوله: وفسد الماء، أي: الذي حصل في يده، وهو مبني فيما يظهر على القول بأن حصوله في بعضها كحصوله في كلها، كما اختاره جمع؛ أما على الصحيح فينبغي صحة الوضوء ونحوه، حيث لم يحصل في جميع اليد. انتهى؛ وهو مفرع على ما هو الصحيح من المذهب أن غسلهما لمعنى فيهما. وقال في الشرح: وذكر أبو الحسن رواية أنه لأجل إدخالها الإناء، فيصح وضوؤه، ولم يفسد الماء إذا استعمله من غير إدخال. وسئل: هل يكفي غسل إحدى اليدين؟ فأجاب: الذي مشى عليه العلماء، رحمهم الله، أن هذا الحكم يتعلق باليدين معاً، فلا تختص به اليمنى دون الشمال، مع أن الوارد في الحديث الإفراد؛ فلنذكر الحديث ببعض ألفاظه، منسوباً إلى مخرجيه إن شاء الله تعالى، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 153 فأقول: أخرجه الإمام مالك، والشافعي، وأحمد، والبخاري، ومسلم، وأهل السنن وغيرهم، من حديث أبي هريرة مرفوعاً: " إذا استيقظ أحدكم من نومه، فليغسل يده قبل أن يدخلها في وضوئه، فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده " 1، هذا لفظ مالك، والبخاري، وللشافعي نحوه؛ وللنسائي: " فلا يغمس يده في وضوئه حتى يغسلها ثلاثاً " 2، وله والدارقطني: " فإنه لا يدري أين باتت يده منه " 3. وللدارمي في الوضوء، ولأبي داود: " إذا استيقظ أحدكم من الليل " 4، وكذا للترمذي، وفي الباب عن جابر وابن عمر، رضي الله عنهم. ووجه تعميم اليدين بهذا الحكم - والله أعلم - لكونه مفرداً مضافاً، وهو يعم، وهو ظاهر على ما ذهب إليه الإمام أحمد تبعاً لعلي وابن عباس، والمحكي عن الشافعية والحنفية خلافه، ذكره في القواعد الأصولية؛ فعلى قولهم، لا يظهر لي وجهه، والله أعلم.   1 البخاري: الوضوء (162) . 2 مسلم: الطهارة (278) , والنسائي: الطهارة (1) , وأبو داود: الطهارة (103, 105) , وأحمد (2/241, 2/253, 2/259) , والدارمي: الطهارة (766) . 3 البخاري: الوضوء (162) . 4 البخاري: الوضوء (162) , ومسلم: الطهارة (278) , والترمذي: الطهارة (24) , والنسائي: الطهارة (1) والغسل والتيمم (441) , وأبو داود: الطهارة (105) , وابن ماجة: الطهارة وسننها (393) , وأحمد (2/253, 2/348, 2/382) , ومالك: الطهارة (40) , والدارمي: الطهارة (766) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 154 باب الوضوء قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى: الشرط الرابع - يعني من شروط الصلاة -: رفع الحدث، وهو الوضوء المعروف؛ وموجبه الحدث؛ وشروطه عشرة: الإسلام، والعقل، والتمييز، والنية، واستصحاب حكمها، بأن لا ينوي قطعها حتى تتم الطهارة، وانقطاع موجب، واستنجاء أو استجمار قبله، وطهورية الماء وإباحته، وإزالة ما يمنع وصوله إلى البشرة، ودخول وقت على من حدثه دائم لفرضه. وأما فروضه فستة: غسل الوجه، ومنه المضمضة والاستنشاق، وحدّه طولاً من منابت شعر الرأس إلى الذقن، وعرضاً إلى فروع الأذنين، وغسل اليدين إلى المرفقين، ومسح جميع الرأس ومنه الأذنان، وغسل الرجلين إلى الكعبين، والترتيب، والموالاة؛ والدليل: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} الآية [سورة المائدة آية: 6] . ودليل الترتيب: الحديث: "ابدؤوا بما بدأ الله به ". ودليل الموالاة: حديث صاحب اللمعة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رأى رجلاً في قدمه لمعة قدر الدرهم لم يصبها الماء، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 155 فأمره بالإعادة. وواجبه التسمية مع الذكر. سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد، رحمهما الله: عن الحناء في مواضع الوضوء؟ فأجاب: وأما الحناء، فيغسل إذا دخل وقت الصلاة. سئل الشيخ عبد العزيز بن الشيخ حمد بن ناصر بن معمر، رحمهم الله: إذا غسل يديه ثم استنجى، ثم أراد أن يتوضأ، فهل يغسل يديه بعد الاستنجاء وقبل الوضوء؟ فأجاب: هذه المسألة لم أرها في كلام أحد من الأصحاب، وإنما ذكروا استحباب غسلهما عند الوضوء، وإن تيقن طهارتهما، لعموم الأدلة؛ قاله في الإنصاف، وقيل: لا يغسلهما إذا تيقن طهارتهما، بل يكره، ذكره في الرعاية. وقال القاضي: إن شك فيهما غسلهما، وإن تحقق طهارتهما خُيِّر. انتهى. والأول هو قول أكثر أهل العلم، لأن عثمان وعلياً وعبد الله بن زيد، وصفوا وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكروا أنه غسل كفيه ثلاثاً؛ لكن يقال: إذا غسل الإنسان كفيه عند الاستنجاء، ثم استنجى وتوضأ في الحين من غير فصل، وهو الصورة المسؤول عنها، فقد حصل المقصود من غسلهما قبل الوضوء؛ والفقهاء عللوا الأمر بغسلهما بإرادة نقل الماء إلى الأعضاء، ففي غسلهما احتياط لجميع الوضوء، وهذا حاصل بغسلهما قبل الاستنجاء. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 156 ويدل على هذا: أن عائشة وميمونة، رضي الله عنهما، وصفتا وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكرتا أنه يغسل يديه قبل أن يستنجي، ولم يذكرا ذلك عند إرادته الوضوء، وفي لفظ حديث عائشة، رضي الله عنها: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اغتسل من الجنابة يبدأ فيغسل يده، ثم يفرغ بيمينه على شماله فيغسل فرجه، ثم يتوضأ وضوء الصلاة " 1، وحديث ميمونة: " أدنيت لرسول الله صلى الله عليه وسلم غسله من الجنابة، فغسل كفيه مرتين أو ثلاثاً، ثم أدخل يده في الإناء، ثم أفرغ على فرجه فغسله بشماله، ثم ضرب بشماله الأرض فدلكها دلكاً شديداً، ثم توضأ وضوء الصلاة، ثم أفرغ على رأسه " 2، وذكر تمام غسله في كلا الحديثين، ولم يذكر أنه غسل كفيه بعد الغسل الأول؛ وهو دليل على ما ذكرنا. سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عن قول الشيخ، رحمه الله: فإن الله أمر في الوضوء والتيمم بالمسح بالعضو لا مسح العضو. فأجاب: مراده أن الأمر بالمسح بالعضو، أبلغ من مسح العضو، وأن الباء تقتضي أن يكون هناك شيء يمسح به العضو، بخلاف إذا لم تذكر الباء، وهذه الباء تسمى: باء الإلصاق، أي: إلصاق الفعل بالمفعول، إذ المسح إلصاق ماسح بممسوح، فكأنه قيل: ألصقوا المسح برؤوسكم، أي: المسح بالماء في الوضوء، وبالصعيد في التيمم، وهذا   1 مسلم: الحيض (316) . 2 البخاري: الغسل (265) , ومسلم: الحيض (317) , والترمذي: الطهارة (103) , والنسائي: الغسل والتيمم (419) , وأبو داود: الطهارة (245) , وابن ماجة: الطهارة وسننها (573) , وأحمد (6/329) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 157 بخلاف ما لو قيل: امسحوا رؤوسكم، فإنه لا يدل على أن ثم شيئاً ملصقاً كما يقال: مسحت رأس اليتيم. سئل الشيخ سعيد بن حجي: عمن توضأ لنافلة، هل يصلى به الفرض؟ فأجاب: يصلي به ما شاء، فرضاً أو نفلاً؛ قال في الشرح الكبير: ولا بأس أن يصلي الصلوات بالوضوء الواحد، لا نعلم فيه خلافاً. وسئل: عن الأذكار التي تقولها العامة عند الوضوء على كل عضو؟ فأجاب: لا يجوز، لأنه بدعة؛ قال ابن القيم، رحمه الله تعالى: الأذكار التي تقولها العامة عند غسل كل عضو، لا أصل لها. سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عمن يقرأ سورة القدر بعد الوضوء؟ فأجاب: أما قراءة سورة القدر بعد الوضوء، فلا أصل له. سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ: عن السلام على الذي يتوضأ، أو يستنجي؟ فأجاب: أما السلام على الذي يتوضأ، فلا أعلم فيه كراهة، فإذا سلم عليه، رد عليه السلام؛ وأما السلام على الذي يستنجي بالماء في المطهرة، فلا أعلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 158 باب المسح على الخفين سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد، رحمهما الله: هل يشترط تقدم الطهارة للجبيرة؟ فأجاب: المسألة فيها خلاف، والأظهر: أنه لا يشترط تقدم الطهارة للجبيرة؛ والمسح يكفي عن التيمم، والجمع بينهما أحسن، خروجا من الخلاف. وأجاب الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ: دليلهم في اشتراط ذلك: القياس على الخف والعمامة، بجامع الحائل؛ فننظر: هل هذا القياس صحيح باجتماع أركان القياس الصحيح فيه، أو لا؟ وإنما يتضح ذلك بنقل عبارة أهل الأصول المحررة، وتمهيد قواعدهم المقررة؛ ولو ذهبنا لنقلها في هذا الموضع، لأدى بنا ذلك إلى التزام ما لا يلزم. إذا علمت ذلك، فما اعتمده متأخرو الأصحاب من هذا الاشتراط، هو إحدى الروايتين عن أحمد؛ والثانية: لا يشترط لمسح الجبيرة تقدم الطهارة، اختارها الخلال، وابن عقيل، وأبو عبد الله ابن تيمية في التلخيص، والموفق، وجزم به في الوجيز، للأخبار، والمشقة، لكون الجرح قد يقع في الجزء: 4 ¦ الصفحة: 159 حال يتضرر منها; ففي اشتراط تقدم الطهارة لها، إفضاء إلى الحرج الموضوع. وسئل: إذا سقطت الجبيرة بنفسها من غير برء، هل تنتقض الطهارة بذلك؟ فأجاب: قال في الفروع: إذا زالت الجبيرة فكالخف؛ وقيل: طهارته باقية قبل البرء، واختاره شيخنا مطلقاً، كإزالة شعر. انتهى. وعني بشيخه: أبا العباس ابن تيمية. قال العسكري: فلو خلع الجبيرة على طهارة، لم ينتقض وضوؤه بمجرد خلعها، وقال في الإقناع، والمنتهى، وشرح المفردات: وزوال جبيرة كخف. انتهى. وكذا عبر غيرهم بلفظ: زلت، وزوال، وكلا اللفظين أعم من أن يكون بفعل؛ فعلى هذا، إن كان سقوطها على طهارة، لم تنتقض الطهارة به، وإن كان بعد حدث، انتقضت؛ وعلى الثانية، هي باقية مطلقاً، ما لم يبرأ. سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: إذا شك هل مسح قبل الظهر، أو بعده، وقلنا ابتداء المدة من المسح؟ فأجاب: إذا شك هل مسح قبل الظهر أو بعده، لم تلزمه الإعادة، لأن الأصل المسح. وقيل: يلزمه إعادة الظهر، ويخلع من الغد قبل الظهر، فيرد كل شيء إلى أصله. سئل الشيخ حمد بن عتيق: عمن نسي المسح على خفيه؟ فأجاب: إذا نسي المسح على خفيه، فعليه الإعادة، لأنه ترك عضوين. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 160 باب نواقض الوضوء قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله: ونواقضه ثمانية: الخارج من السبيلين، والخارج الفاحش النجس من الجسد، وزوال العقل، ومس المرأة بشهوة، ومس الفرج باليد، قُبلاً كان أو دبراً، وأكل لحم الجزور، وتغسيل الميت، والردة عن الإسلام، أعاذنا الله من ذلك. سئل الشيخ حمد بن ناصر: عن نقض الوضوء بالقيء؟ فأجاب: وأما نقض الوضوء بالقيء، ففيه خلاف؛ والمشهور عن أحمد: أنه ينقض إذا كان كثيراً، ولا ينقض اليسير منه; وذهب مالك، والشافعي، وغيرهما، إلى أنه لا ينقض الوضوء، ولو كثر، لكن يستحب الوضوء منه، وهذا اختيار الشيخ تقي الدين ابن تيمية، رحمه الله. وأما الخروج من الصلاة لأجل الخارج اليسير من القيء أو الدم، فإن كان يسيراً صلى ولم يقطع الصلاة، ولا إعادة عليه، لأنه روي عن الصحابة نحو ذلك؛ "فابن أبي أوفى بزق دماً، ثم قام فصلى "، "وابن عمر عصر بثرة فخرج دم، فصلى ولم يتوضأ "، وأبو هريرة كان يدخل أصابعه في أنفه. وأجاب الشيخ حمد بن عتيق، رحمه الله: القيء الجزء: 4 ¦ الصفحة: 161 والرعاف لا ينقض إذا كان خفيفاً، ولا ينفتل من صلاته إذا كان يسيراً. سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ: هل ينقض النظر، أو مس المرأة بشهوة؟ فأجاب: النظر ليس بناقض، وأما المس فينقض الوضوء؛ وفرقوا، هل ينقض الماس والممسوس؟ أم الماس فقط؟ على روايتين؛ والأظهر من ذلك أنه ينقض الكل. وسئل الشيخ عبد الله أبا بطين: هل ينقض مس فرج الحيوان؟ فأجاب: لمس فرج الحيوان غير الآدمي لا ينقض الوضوء، حياً ولا ميتاً، باتفاق الأئمة، وذكر بعض المتأخرين من أصحاب الشافعي فيه وجهين؛ وإنما تنازعوا في مس فرج الإنسان خاصة، بظهر الكف وباطنه كله، الأصابع والراحة ; ومنهم من يقول: لا ينقض، كأبي حنيفة وأحمد في رواية عنه. سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: إذا تيقن الطهارة، وشك في الحدث ... إلخ. فأجاب: إذا تيقن الطهارة وشك في الحدث، بنى على ما تيقنه. سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: هل يمكن الصبي من اللوح ... إلخ؟ فأجاب: أما مس الصبي المكتوب من القرآن في اللوح فالمشهور في المذهب: أنه لا يجوز، لكن لا يمكن التحرز من ذلك؟ وفيه رواية عن أحمد بالجواز. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 162 باب الغسل سئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ: هل يكفي غسل اليد بنية القيام من نوم الليل، أو من الجنابة أو الأعلى يرتفع به الأدنى ... إلخ؟ فأجاب: النية هنا ليست مرادة للقيام، وإنما تراد لأجل النوم، فافهم. ولا يكفي نية غسلها من نوم الليل عن الجنابة كالعكس، على الأصح فيه، لأنهما أمران مختلفان، فيعتبر لكل منهما نية؛ أما على الوجه الثاني، وهو: أن غسلهما من النوم لا يفتقر إلى نية، فيجزي عنه نية الحدث الأكبر، وكذا على قول الجمهور، أنه لا يجب غسلهما من نوم الليل بل يستحب. وقوله: أو الأعلى يرتفع به الأدنى، جوابه يظهر مما قبله. وقوله: وما الأعلى منهما؟ أقول: اتفقوا على أن ما يوجب الوضوء وحده يسمى أصغر، وما يوجب الغسل يسمى أكبر، ونصوا على أن الحدث الأصغر يقوم بالبدن كله، ويرتفع بغسل الأعضاء الأربعة بشرطه، فكيف يقال: إن غسل اليدين من نوم الليل أكبر، مع كونه خاصاً بالكفين، على أنه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 163 مختلف في وجوبه، والقائلون بالوجوب لم يسموه حدثاً، فافهم. وأجاب الشيخ حسن بن حسين بن الشيخ محمد، رحمهم الله: إذا قلنا بما اعتمده المتأخرون من الروايات في هذه المسألة، واشترطنا النية لغسلهما، كما هو مقطوع به عندهم، فإن غسلهما بنية القيام من نوم الليل لا يرفع الحدث عنهما، لأنهم صرحوا بأن غسلهما من نوم الليل طهارة مفردة، يجوز تقديمها على الوضوء والغسل بالزمن الطويل، لكن وجوب غسلهما منه تعبدي غير معقول لنا، لاحتمال ورود النجاسة عليهما، وغسلهما لمعنى فيهما، لا كما يقوله بعضهم؛ وحكاه أبو الحسين ابن القاضي رواية عن أحمد، من أن غسلهما لإدخالهما في الإناء، فقد عرفت أنه لا بد لرفع الحدث عنهما من نية وفعل، على المذهب خاصة. سئل الشيخ حمد بن عتيق: عن الوضوء للجنابة قبل الغسل، هل يجب؟ فأجاب: لا يجب، بل هو سنة. سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد، رحمه الله: هل يجوز غسل شعر رأس الرجل والمرأة مضفوراً لم ينقضاه؟ فأجاب: وأما غسل الجنابة فيجوز للرجل والمرأة أن يغسلا رؤوسهما من الجنابة وهو معقود، إذا وصل الماء إلى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 164 أصول الشعر، ويحثوا على رؤوسهما ثلاث حثيات من الماء، ويجوز لهما أن يغتسلا من إناء واحد. وسئل: عن المرأة المجدورة، إذا عجزت عن الغسل ... إلخ؟ فأجاب: المرأة إذا حاضت وهي مجدورة، فإذا انقطع عنها الدم اغتسلت، فإن عجزت عن ذلك، أو خافت الضرر، تيممت ثم صلت وصامت؛ ولا يلزمها إعادة إذا برأت من مرضها، بل عليها أن تغتسل متى قدرت على الغسل بلا ضرر يلحقها. سئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن: إذا نوى الغسل هل يرتفع ما دونه ... إلخ؟ فأجاب: نية الغسل لا يرتفع بها الحدث، لأنها ليست من الصور المعتبرة في الطهارة، وسنذكرها إن شاء الله تعالى. وقول السائل: أم لا بد من التخصيص بالفعل، أو بالنية، أو بهما؟ أقول: لا معنى للتخصيص بالفعل هنا دون نية أصلاً؛ والصور المعتبرة في الغسل ست: نية رفع الحدث الأكبر، نية رفع الحدثين، نية فعل الحدث ويطلق، نية استباحة أمر يتوقف على الوضوء والغسل معاً، نية أمر يتوقف على الغسل وحده، نية ما يسن له الغسل ناسياً للواجب؛ ففي هذه كلها يرتفع الأكبر، ويرتفع الأصغر أيضاً فيما عدا الأولى والأخيرتين، أفاده الشيخ عثمان. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 165 قلت: واختار شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله، أنه يرتفع الأصغر في الأولى أيضاً. وهذه الست يتأتى نظيرها في الأصغر، ويزيد بأنه يرتفع إذا قصد بطهارته ما تسن له الطهارة ذاكراً الحدث، فافهم الفرق بين البابين، فإنه مهم جداً، قاله الشيخ عثمان. انتهى ملخصاً. وأجاب الشيخ حسن بن حسين بن محمد، رحمهم الله: إذا نوى من عليه موجب أكبر رفعه بغسله، فإنه يرتفع المنوي وما كان من جنسه، ووصفه، كما إذا نوت من عليها غسل حيض وجنابة رفع الحدثين، فيرتفعان معاً بنية رفع أحدهما بالغسل، لتداخلهما وتساويهما موجباً وحكماً، وكما إذا نوى رفع الحدث وأطلق، ونوى الصلاة ونحوها، مما يحتاج لوضوء وغسل، ويسقط الترتيب والموالاة، لكون البدن فيه بمنْزلة العضو الواحد. وأما الحدث الأصغر، فلا يرتفع بنية الأكبر فقط، لما بينهما من تباين الأوصاف، واختلاف الأصناف التي لا يجامعها تداخل؛ هذا منصوص أحمد، والمعتمد عند أكثر أصحابه، وهو من مفردات مذهبه. قال ناظمها: والغسل للكبرى فقط لا يرفع ... صغرى وإن نوى ففيه ينفع قال في شرحه: وإن نوى بالغسل الطهارة الكبرى، أي: رفع الحدث الأكبر، لم يرتفع حدثه الأصغر، لقول الجزء: 4 ¦ الصفحة: 166 رسول الله صلى الله عليه وسلم: " وإنما لكل امرئ ما نوى " 1، وهذا لم ينو الوضوء؛ هذا الصحيح من المذهب، وعليه جماهير الأصحاب، وقطع به كثير منهم. انتهى. وحكى في الفروع والمبدع والإنصاف، عن الأزجي وأبي العباس ابن تيمية: الأصغر يرتفع بنية الأكبر، وجزم به ابن اللحام في الاختيارات، لأنه أدرج الأصغر في الأكبر، فيدخل فيه ويضمحل معه، ومبنى الطهارة على التداخل، فماهية الأصغر انعدمت بانعدام أجزائها، وسواء تقدم الأصغر الأكبر أو تأخر عنه. وروى البيهقي عن عمر أنه كان يقول: "وأي وضوء أتم من الغسل إذا أجنب الفرج، وعن يحيى بن سعيد قال: "سئل سعيد بن المسيب: عن الرجل يغتسل من الجنابة، يكفيه ذلك من الوضوء؟ قال: نعم "، واستأنسوا - أعني القائلين بدخوله في الأكبر - بحديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه: " أن أهل الطائف قالوا: يا رسول الله، إن أرضنا باردة، فما يجزينا من غسل الجنابة؟ فقال: أما أنا، فأفرغ على رأسي ثلاثاً "، وبقوله صلى الله عليه وسلم لأم سلمة، رضي الله عنها: " إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات، ثم تفيضين عليك الماء فتطهرين " 2، أو قال: "فإذا أنت قد طهرت " 3، رواهما مسلم؛ لكن الدلالة من هذين الحديثين ليست بصريحة.   1 البخاري: بدء الوحي (1) , ومسلم: الإمارة (1907) , والترمذي: فضائل الجهاد (1647) , والنسائي: الطهارة (75) والطلاق (3437) والأيمان والنذور (3794) , وأبو داود: الطلاق (2201) , وابن ماجة: الزهد (4227) , وأحمد (1/43) . 2 مسلم: الحيض (330) , والترمذي: الطهارة (105) , والنسائي: الطهارة (241) , وأبو داود: الطهارة (251) , وابن ماجة: الطهارة وسننها (603) . 3 الترمذي: الطهارة (105) , وأبو داود: الطهارة (251) , وابن ماجة: الطهارة وسننها (603) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 167 سئل الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن: عن الجنب إذا أصابه المطر حتى غسل بدنه وأنقاه، هل يرتفع حدثه؟ فأجاب: نعم يرتفع إذا نوى رفع الحدث عند إصابة المطر، لحديث: "إنما الأعمال بالنيات " 1. سئل الشيخ عبد الله بن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب: عن الجنب الذي يأتي الخبرا الكبيرة من الماء، والثغب، ويجلس على جاله، ثم يغرف على جسده، وينفصل ماؤه في الثغب الذي هو يغتسل فيه، هل ذلك جائز، أم لا؟ فأجاب: الجنب الذي يتناول الماء من الثغب إن كان يقدر على الاغتسال، من غير رجوع المنفصل إلى الثغب، بأن يحفر له حفيرة، أو يجعل بينه وبين الماء حداداً، فيفعل ذلك؛ فإن لم يقدر، فلا عليه إلا ما يقدر عليه، و {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} [سورة البقرة آية: 286] ، و {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [سورة التغابن آية: 16] ؛ هذا إذا كان الماء كثيراً، وأما إذا كان دون القلتين، فلا. وسئل: ما صفة غسل الجنب في البير، والثغب؟ هل له أن يغمس جميع بدنه في وسطه، ويغتسل فيه؟ أم يكون خارج الماء؟ أم غير ذلك؟ وهل إذا فعل ذلك إنسان أجزأه؟   1 البخاري: بدء الوحي (1) , والترمذي: فضائل الجهاد (1647) , والنسائي: الطهارة (75) والطلاق (3437) والأيمان والنذور (3794) , وأبو داود: الطلاق (2201) , وابن ماجة: الزهد (4227) , وأحمد (1/25, 1/43) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 168 وهل ينهى عن ذلك من فعله؟ أو مما يؤمر به؟ أم هذا جائز؟ فأجاب: الجنب إذا انغمس في ماء دائم: ثغب، أو ركية، أو غيرهما، مذهب الحنابلة: أن الماء يكون مستعملاً، ولا يرتفع الحدث؛ هذا إذا كان دون القلتين. ومذهب الشافعي: أنه يرتفع حدثه، ويكون الماء مستعملاً. ومذهب شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله: ارتفاع حدثه، أما إذا كان الماء كثيراً، فهو كما ذكرنا لك في المسألة قبلها. وسئل أيضاً: الشيخ عبد الله بن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب: إذا احتلم الرجل في المنام، ووجب عليه الغسل، وأراد أن يجامع قبل الاغتسال لأجل أنه يريد أن يغتسل، هل يجامع على هذه الحال قبل الاغتسال؟ فأجاب: الرجل إذا أراد معاودة الجماع قبل الاغتسال، فله المعاودة قبل الاغتسال، قل أو كثر، لما ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف على نسائه بغسل واحد. وسئل: إذا وطئ الرجل امرأته، ووجب عليه الغسل، أو احتلم، هل له أن يجامع مرتين، أو أكثر قبل الاغتسال، ويجعل ذلك بغسل واحد؟ وكذلك إذا جامع في البيت، ثم خرج، ثم رجع وأراد المعاودة قبل الاغتسال، هل له ذلك، أم لا؟ وهل يفرق بين الخارج، وعدمه؟ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 169 فأجاب: أما الجماع بعد الاحتلام وقبل الغسل، فحكمه عند أهل العلم حكم الوطء، وأما من جهة الطب فأنا قد سمعت أن الأطباء يكرهونه، ويذكرون فيه بعض الضرر; وأما الذي يجامع ثم يخرج من البيت، ثم يعود فيجامع، فهذا أمر جائز، وسواء فيه من خرج ومن لم يخرج. سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عمن يمنعه الحياء من الغسل ... إلخ؟ فأجاب: وأما الجنب الذي عنده ماء، ويمنعه الحياء من الغسل، فإنه يستر عورته ويغتسل، وحياؤه مذموم في الشرع في مثل هذا، ويحرم عليه تأخير الغسل إذا خاف خروج الوقت; ولو كان عزباً ويخاف من ظنهم، فإنه يحصل له أجر من جهتين، من فعل المأمور به، ومن غيبتهم له. وسئل الشيخ حمد بن عتيق: عمن اغتسل عرياناً بين الناس؟ فأجاب: ومن اغتسل عرياناً بين الناس لم يجز، وإن كان وحده جاز; وقال أحمد: لا يعجبني أن يدخل الماء إلا مستتراً، لأن للماء سكاناً. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 170 باب التيمم سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد، رحمهما الله: هل يجوز التيمم مع وجود الماء؟ فأجاب: التيمم لا يجوز إلا عند عدم الماء، قال الله تعالى {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً} الآية [سورة النساء آية: 43] . وسئل: هل التراب بدل لكل ما يفعل بالماء؟ فأجاب: أما التراب فهو بدل لكل ما يفعل بالماء؛ فمن عجز عن استعمال الماء، أو عدم الماء، فالصعيد الطيب له طهور. وسئل: هل التيمم عند عدم الماء مبيح أو رافع؟ فأجاب: الذي عليه الأكثر أنه مبيح. سئل بعضهم: إذا خاف برد الماء، هل يتيمم ... إلخ؟ فأجاب: نعم، يتيمم، لحديث عمرو بن العاص، لما بعث في غزوة ذات السلاسل، وصلى بأصحابه وهو جنب بسبب البرد، ولم ينكر عليه صلى الله عليه وسلم؛ قال في الشرح الكبير: وإن خاف البرد، ولم يمكنه استعمال الماء على وجه يأمن الضرر، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 171 تيمم في قول أكثر العلماء. انتهى. ومما يستدل به لذلك: قوله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً} [سورة النساء آية: 29] ، وحديث عمرو بن العاص. وأجاب الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين: وأما الرجل إذا احتلم أو جامع وخشي برد الماء، فإن أمكنه تسخينه والاغتسال به لزمه ذلك؛ فإن خاف الضرر باستعماله غسل ما لا يتضرر به، وتيمم للباقي وصلى، ويكون قد فعل ما أمر به من غير تفريط منه ولا عدوان. سئل الشيخ سعيد بن حجي، رحمه الله: عمن أصاب ثوبه أو بدنه نجاسة، وعدم الماء، هل يتيمم؟ فأجاب: قال الشيخ تقي الدين، رحمه الله تعالى: أما التيمم للنجاسة على الثوب، فلا نعلم به قائلاً من العلماء؛ وإن كانت النجاسة في البدن، فهل يتيمم لها؟ فيه قولان، هما روايتان عن أحمد: إحداهما: لا يتيمم لها، وهذا قول جمهور العلماء، كمالك وأبي حنيفة والشافعي - إلى أن قال - لما كان عاجزاً عن إزالة النجاسة سقط وجوب إزالتها، وجازت الصلاة معها بدون تيمم. انتهى ملخصاً. وقال في الكافي: في وجوب الإعادة روايتان: إحداهما: لا تجب، لقوله: "التراب كافيك ما لم تجد الماء " 1، قياساً على التيمم، والأخرى: تجب الإعادة.   1 أحمد (5/146) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 172 وسئل الشيخ حمد بن عتيق: عن الرجل يكون معه ماء قليل، وفي بدنه أو ثوبه نجاسة، والماء لا يكفي لغسل الجميع؟ فأجاب: يغسل به النجاسة، ويتيمم للباقي. سئل الشيخ حسن بن حسين بن الشيخ محمد: هل يشترط الترتيب والموالاة بين الوضوء والتيمم؟ فأجاب: قال في المبدع: وإن كان حدث الجريح أصغر، راعى الترتيب والموالاة، ويعيد غسل الصحيح عند كل تيمم في وجه، وفي الآخر: لا ترتيب ولا موالاة؛ فعلى هذا، لا يعيد الغسل إلا إذا أحدث. انتهى. والأول هو الذي اعتمده المتأخرون، فأوجبوا الترتيب والموالاة بين الوضوء والتيمم، لاشتراط الترتيب في الوضوء، فلا ينقله عن عضو حتى يكمله غسلاً وتيمماً، عملاً بقضية الترتيب؛ فعلى هذا: لا يضر نداوة التراب في يديه، كما هو ظاهر كلامهم، وصرح به الشافعية. وحكى في الفروع عن المجد: أن قياس المذهب أن الترتيب سنة، وحكى في الإنصاف وغيره عن أبي العباس: ينبغي أن لا يرتب. وقال غيره: لا تلزمه مراعاة الترتيب، وهو الصحيح من مذهب أحمد وغيره، قال: والفصل بين أبعاض الوضوء بتيمم بدعة، وجزم به ابن اللحام في الاختيارات، والنفس تميل إلى ما قال، لا سيما وقد حكى هو وغيره من فقهاء الحديث: أن الأصل في العبادات التوقيف، فلا يشرع منها إلا ما الجزء: 4 ¦ الصفحة: 173 شرعه الله، اللهم إلا أن يكون بين إيجاب الترتيب والموالاة من الأدلة الشرعية رابط خفى علينا، ففوق كل ذي علم عليم. وأجاب الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين، رحمه الله: وأما اشتراط الترتيب بين الوضوء والتيمم، إذا كان في بعض أعضاء الوضوء جرح مما يتيمم له، فالذي يظهر لي عدم وجوب الموالاة، فيعيد التيمم إذا خرج الوقت الذي تيمم فيه لبعض أعضاء الوضوء فقط، والله أعلم. سئل الشيخ حمد بن ناصر بن معمر: عن التيمم بالرمل؟ فأجاب: أما التيمم بالرمل وتراب المسجد، فلا بأس به. وأجاب الشيخ حمد بن عتيق: التيمم بالرمل لا بأس به، للحديث: " أيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فعنده مسجده وطهوره " 1. سئل الشيخ عبد اللطيف بن الشيخ عبد الرحمن بن حسن: عن قول شارح الزاد: أو عدل شعير، 2 ونحوه. فأجاب: هو ما كان له غبار يعلق باليد. سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد، رحمهم الله: هل يتيمم لكل صلاة؟ فأجاب: وأما التيمم، فيصلي به ما لم يحدث كما يصلي بالماء؛ والاحتياط أن يتيمم لكل صلاة. وسئل: إذا مر إنسان بالماء في الوقت، فلم يستعمله وصلى بالتيمم، هل يعيد؟ فأجاب: إذا مر المسافر بالماء في الوقت، فلم يستعمله   1 البخاري: التيمم (335) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (521) , والنسائي: الغسل والتيمم (432) والمساجد (736) , وأحمد (3/304) , والدارمي: الصلاة (1389) . 2 العدل هنا: وعاء له عرى يعلق على الدابة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 174 وصلى بالتيمم، فالمسألة فيها خلاف بين الفقهاء، وفيها وجهان للأصحاب؛ والمذهب: أنه لا إعادة عليه، لأنه في تلك الحالة عادم للماء. وسئل الشيخ سعد بن حمد بن عتيق، رحمهما الله: إذا وجد الجنب الماء في غير وقت الصلاة وقد نسي حدثه، ثم جاوز الماء، فلما دخل وقت الصلاة إذا هو عادم للماء، هل تصح صلاته بالتيمم؟ فأجاب: نعم، تصح صلاته بالتيمم. وسئل بعضهم: عن رجل في سفر، ودخل وقت الظهر وهو عادم الماء، فأخر الظهر ناوياً التأخير إلى العصر، فوجد الماء في وقت الظهر ولم يستعمله، وعدم الماء وقت العصر، هل يعيد؟ فأجاب: المشهور عند الحنابلة أن مثل هذا لا إعادة عليه، لأنه يجوز له تأخير صلاة الظهر إلى وقت العصر إذا كان ناوياً الجمع؛ قال في الشرح الكبير: وإذا كان معه ماء فأراقه قبل الوقت، أو مر بماء قبل الوقت فتجاوزه وعدم الماء في الوقت، صلى بالتيمم من غير إعادة، وهو قول الشافعي. وقال الأوزاعي: إن ظن أنه يدرك الماء في الوقت كقولنا، وإلا صلى بالتيمم وعليه الإعادة، لأنه مفرط؛ ولنا أنه لم يجب عليه استعماله، أشبه ما لو ظن أنه يدرك الماء في الوقت. وفي شرح منصور على المنتهى: ومن في الوقت أراقه، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 175 أي: الماء، أو مر به وأمكنه الوضوء منه ولم يفعل، وهو يعلم أنه لا يجد غيره، أو باعه، أو وهبه في الوقت لغير من يلزمه بذله له، حرم عليه ذلك، ولم يصح العقد من بيع أو هبة لتعلق حق الله تعالى بالمعقود عليه، فلم يصح نقل الملك فيه كأضحية معينة؛ ثم إن تيمم لعدم غيره، ولم يقدر على رد المبيع والموهوب، وصلى، لم يعد، لأنه عادم للماء حال التيمم، أشبه ما لو فعل ذلك قبل الوقت. انتهى. فإذا كان لا يعيد إذا مر به في الوقت ولم ينو الجمع، فكيف إذا كان ناوياً للجمع؟ والله أعلم. سئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ: عن قوله صلى الله عليه وسلم في شأن الرجل الذي صلى بالتيمم ولم يعد لما وصل إلى الماء: " أصبت السنة، وأجزأتك صلاتك " 1، وقال للذي أعاد: " لك الأجر مرتين " 2 ... إلخ؟ فأجاب: لا شك أن الذي لم يعد قد أصاب الحكم الشرعي، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: " أصبت السنة، وأجزأتك صلاتك " 3؛ وأما الذي أعاد فهو مجتهد فيما فعل، يثاب على الصلاة الأولى والثانية، وهي كونه صلى الثانية مجتهداً، فأثيب على اجتهاده للصلاة الثانية كما أثيب الأول؛ ومن المعلوم أن الفريضة أفضل من التطوع من جنسه وغير جنسه، إلا في أربعة أشياء ليس هذا محل ذكرها 4.   1 النسائي: الغسل والتيمم (433) , وأبو داود: الطهارة (338) , والدارمي: الطهارة (744) . 2 أبو داود: الطهارة (338) , والدارمي: الطهارة (744) . 3 النسائي: الغسل والتيمم (433) , وأبو داود: الطهارة (338) , والدارمي: الطهارة (744) . 4 أي: الطهر قبل الوقت, والابتداء بالسلام, وإبراء المعسر, والختان قبل البلوغ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 176 سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: عمن عدم الماء والتراب ... إلخ؟ فأجاب: إذا عدم الجميع، فإنه يصلي على حسب حاله. سئل الشيخ سعيد بن حجي: إذا دخل الوقت على عادم الماء، فهل الأفضل التأخير؟ فأجاب: إذا دخل الوقت على عادم الماء، فمال في الشرح: يستحب تأخير التيمم لآخر الوقت لمن يرجو وجود الماء؛ روي ذلك عن علي وعطاء والحسن وأصحاب الرأي. وقال الشافعي - في أحد قوليه -: التقديم أفضل. وأجاب الشيخ حمد بن عتيق: يستحب تأخير التيمم آخر الوقت لمن يرجو وجود الماء؛ وروي عن علي وعطاء والحسن وأصحاب الرأي، وقال الشافعي - في أحد قوليه -: التقديم أفضل. وسئل أيضاً: الرجل يتيمم وهو يدرك الماء في آخر الوقت؟ فأجاب: هو مخير. وسئل الشيخ سعد بن حمد بن عتيق: إذا تحقق وجود الماء آخر الوقت، هل يتيمم أول الوقت ويصلي أو لا؟ فأجاب: يتيمم ويصلي أول الوقت. سئل الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين: الحاقن أيما أفضل: يصلي بوضوء، أو يحدث ثم يتيمم؟ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 177 فأجاب: صلاته بالتيمم بلا احتقان أفضل من صلاته بالوضوء مع الاحتقان؛ فإن هذه الصلاة مع الاحتقان مكروهة منهي عنها، وأما صلاة المتيمم فصحيحة بلا كراهة بالاتفاق. وسئل أيضاً: عن صفة تيمم مقطوع اليد؟ فأجاب: مقطوع اليد يمكنه أن يضرب بيده على التراب، ثم يضعها على ثوبه أو بعض بدنه، ويقلبها على ظاهرها وباطنها ماسحاً لها، ويقلب أصابعه. وسئل الشيخ عبد الله بن عبد العزيز العنقري: عن صفة تيمم من في إحدى يديه علة؟ فأجاب: يتيمم ولو بواحدة - يعني السالمة - ويمسحها بأطراف أصابع المعتلة، أو بأسفل كفها، لقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [سورة التغابن آية: 16] . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 178 باب إزالة النجاسة سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: هل يجزئ إزالة النجاسة بغير الماء من المائعات؟ فأجاب: في هذه المسألة ثلاثة أقوال: أحدها: أنه يجوز للحاجة كما هو قول ثالث لمالك وأحمد؛ قال شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله: والسنة قد جاءت بالأمر بالماء في قوله: " اغسليه بالماء " 1، وقوله في آنية المجوس: " ثم اغسلوها بالماء "، وقوله فى حديث الأعرابي الذي بال في المسجد: " صبوا على بوله ذنوباً من ماء " 2، فأمر بالإزالة بالماء في قضايا معينة، ولم يأمر أمراً عاماً بأن تزال النجاسة بالماء؛ وقد أذن بإزالتها بغير الماء في مواضع، منها الاستجمار بالأحجار، ومنها قوله في النعلين: "ثم ليدلكهما بالتراب، فإن التراب لهما طهور "، ومنها قوله في الذيل: "يطهره ما بعده " 3، وذكر لها نظائر؛ قلت: وهذا القول هو الصواب إن شاء الله تعالى. سئل الشيخ سعيد بن حجي: عن حكم نجاسة الكلب، والخنْزير ... إلخ؟ فأجاب: أما نجاسة الكلب والخنْزير وما تولد منهما، إذا أصابت غير الأرض، فيجب غسلها سبعاً إحداهن بالتراب،   1 ابن ماجة: الطهارة وسننها (628) , وأحمد (6/355) . 2 البخاري: الأدب (6128) , والترمذي: الطهارة (147) , والنسائي: الطهارة (56) والمياه (330) , وأبو داود: الطهارة (380) , وأحمد (2/239) . 3 الترمذي: الطهارة (143) , وأبو داود: الطهارة (383) , وابن ماجة: الطهارة وسننها (531) , وأحمد (6/290) , ومالك: الطهارة (47) , والدارمي: الطهارة (742) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 179 سواء من ولوغه أو غيره، لأنهما نجسان وما تولد منهما، لقوله صلى الله عليه وسلم: " إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعاً " 1، متفق عليه، ولمسلم: " أولاهن بالتراب " 2. وأما النجاسات على الأرض، فيطهرها أن يغمرها بالماء فيذهب عينها ولونها، لقوله صلى الله عليه وسلم: " صبوا على بول الأعرابي ذنوباً من ماء " 3، متفق عليه. وأما باقي النجاسات، ففيه عن أحمد ثلاث روايات: الأولى: تغسل سبعاً، والثانية: ثلاثاً، والثالثة: تكاثر بالماء حتى تذهب عينها ولونها من غير عدد، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: " اغسليه بالماء " 4، ولم يذكر عدداً؛ وهذا مذهب الشافعي، واختاره شيخ الإسلام أحمد بن تيمية، رحمه الله، وهو المفتى به عندنا. سئل الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن: عن قوله: نحو تراب؟ فأجاب: نحو التراب هو كل جامد منق، كالأشنان والصابون والسدر. وسئل: هل تفتقر إزالة النجاسة إلى نية؟ فأجاب: لا تقتقر إلى نية، بل متى زالت النجاسة بالماء طهر المحل لأنها من التروك، بخلاف الأوامر فإنها تفتقر إلى نية، لقوله عليه السلام: " إنّما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى " 5 الحديث، لكن عليه أن يزيل النجاسة عن أعضائه، وعن بدنه قبل الغسل.   1 البخاري: الوضوء (172) , ومسلم: الطهارة (279) , والنسائي: المياه (338, 339) , وأبو داود: الطهارة (73) , وابن ماجة: الطهارة وسننها (363, 364) , وأحمد (2/245, 2/253, 2/265, 2/271) , ومالك: الطهارة (67) . 2 مسلم: الطهارة (279) , والنسائي: المياه (338, 339) , وأبو داود: الطهارة (71) , وأحمد (2/427, 2/489) . 3 البخاري: الأدب (6128) , والترمذي: الطهارة (147) , والنسائي: الطهارة (56) والمياه (330) , وأحمد (2/239, 2/282) . 4 ابن ماجة: الطهارة وسننها (628) , وأحمد (6/355) . 5 البخاري: بدء الوحي (1) , والترمذي: فضائل الجهاد (1647) , والنسائي: الطهارة (75) والطلاق (3437) والأيمان والنذور (3794) , وأبو داود: الطلاق (2201) , وابن ماجة: الزهد (4227) , وأحمد (1/25, 1/43) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 180 سئل بعضهم: إذا وقعت فأرة في دهن وألقيت منه ... إلخ؟ فأجاب: إذا وقعت فأرة في دهن أو غيره، وألقيت قبل أن تتغير أحد أوصافه الثلاثة، فهو طاهر. سئل الشيخ حمد بن ناصر: عن صفة الخل؟ فأجاب: صفة الخل يذكر أهل العلم أنه يعمل من التمر، أو العنب، أو غيرهما، ويطرح فيه ملح أو شيء حامض حتى لا يتخمر، ويذكرون أن هذا صفة الخل المباح؛ وعندنا ناس يعملونه على ما ذكرنا لك. وسئل: عن القيء؟ فأجاب: أما القيء فالمشهور أنه نجس. سئل الشيخ حسن بن حسين بن الشيخ: عن حكم قيء الغلام؟ فأجاب: حكم قيئه حكم بوله إلا أنه أخف منه، صرح به في الإقناع وغيره، وهو ظاهر الروض وغيره. سئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن، رحمه الله: عن حكم الدم المحتقن في جوف الذبيحة؟ فأجاب: أما الدم المحتقن في جوف الذبيحة، فقال في الإنصاف وغيره - نقلاً عن القاضي-: إن الدم الذي يبقى في خلل اللحم بعد الذبح، وفي العروق مباح؛ قال الشيخ تقي الدين: لا أعلم خلافاً في العفو عنه، وأنه لا ينجس المرقة، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 181 بل يؤكل معها، والله أعلم. قالوا: فظاهر كلام القاضي في الخلاف، وابن الجوزي، أن المحرم هو الدم المسفوح، كما دلت عليه الآية الكريمة، قال أهل التفسير في معنى قوله تعالى: {أَوْ دَماً مَسْفُوحاً} [سورة الأنعام آية: 145] ، أي: مهراقاً سائلاً؛ قال ابن عباس، رضي الله عنهما: "يريد ما يخرج من الحيوانات وهي حية، وما يخرج من الأوداج عند الذبح ". وممن قال بطهارة بقية الدم، وإن ظهرت حمرته: المجد في شرحه، والناظم، وصاحب الفائق، وغيرهم، والله أعلم. وأجاب الشيخ، عبد الله أبا بطين: وأما دم الذبيحة الذي يبقى في مذبحها ولحمها بعد الذبح، فإنه طاهر، لأن الله إنما حرم الدم المسفوح، والمسفوح هو الذي يسيل؛ فالذي ليس بمسفوح ليس بحرام، وحله يدل على طهارته. سئل الشيخ محمد بن محمود: إذا خرج اللبن متغيراً بدم، هل هو نجس؟ فأجاب: الدم نجس، فإذا ظهر أثره في اللبن نجس به، وإن كان الأثر يسيراً، لأن المائعات ما يعفى فيها عن يسير النجاسة. وسئل الشيخ حمد بن عبد العزيز بن محمد، رحمه الله: عن اللبن إذا كان فيه خطوط دم، هل يحرم؟ فأجاب: خطوط الدم تذهب بالتركيد، فيجوز زل الحليب والدم يهراق. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 182 وأجاب الشيخ عبد الله بن حمد الحجازي، رحمه الله: وأما الحليب المتغير بالدم، فالظاهر أنه إذا خلا من حمرة الدم ولو بالتركيد، فلا بأس إن شاء الله تعالى. سئل الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين: عن حكم موضع النجاسة إذا خفي في الثوب؟ فأجاب: وأما الثوب إذا خفي موضع النجاسة فيه، وجب غسل ما يتيقن به زوالها إن أمكن إذا أراد الصلاة. وسئل: عن المذي؟ فأجاب: وأما المذي فنجس يجب عليه غسله عند الجمهور، لحديث علي قال فيه: " يغسل ذكره ثم يتوضأ " 1، وعن أحمد رواية: يجزئ نضحه، لحديث سهل، اختاره الشيخ تقي الدين. وسئل عن اشتراط بعضهم: أن طهارة المني لا تكون إلا بعد استنجاء، أو استجمار، وكذا رطوبة فرج المرأة ... إلخ؟ فأجاب: أما القول بطهارة المني فهو مذهب أحمد والشافعي، لكن الشافعية يشترطون: كون خروجه بعد الاستنجاء بالماء؛ والحنابلة يقولون بطهارته ولو كان خروجه بعد استجمار بالحجر ونحوه، فإن لم يتقدمه استجمار شرعي،   1 مسلم: الحيض (303) , والنسائي: الغسل والتيمم (439) , وأبو داود: الطهارة (206) , وأحمد (1/80) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 183 ففي النفس منه شيء، ولم أر من صرح بحكمه والحالة هذه. واستدلوا على طهارة رطوبة فرج المرأة، بدلالة السنة على طهارة المني ولو كان من جماع، لحديث عائشة، رضي الله عنها: أنها كانت تفرك المني من ثوب رسول الله إذا كان يابساً، وهو صلى الله عليه وسلم لا يحتلم، والحديث مطلق، ومني الرجل في الجماع يباشر رطوبة فرج المرأة، فدل على طهارتها؛ لكن صرح الشافعي: بأن رطوبة فرج المرأة إذا انفصلت عن محلها تنجس ما أصابته، ولم أر لأصحابنا تصريحاً بذلك، والله أعلم. وأجاب بعضهم: وأما المني ففيه اختلاف، والأحسن فيه العمل بالحديث، وهو إن كان رطباً غسل، وإن كان يابساً فرك، ولا يتبين لي فيه نجاسة، وهو مذهب الشافعي. سئل الشيخ عبد الله بن محمد: عن الترعة 1؟ فأجاب: الترعة يغسل الذي أصاب سلبه منها. سئل الشيخ عبد العزيز بن الشيخ حمد بن ناصر، رحمهما الله: عن المنفصل عن محل الاستنجاء وما في معناه؟ فأجاب: الحمد لله، هذه المسألة بني حكمها على   1 هي: القلس. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 184 القول في محل النجاسات المعفو عنها، كمحل الاستجمار بعد الإنقاء، وأسفل الخف والحذاء إذا أصابته نجاسة ودلك حتى أنقى؛ فإن قيل: إنه طاهر، فما انفصل عنه طاهر، وإن قيل: نجس فنجس إذا كان المنفصل قليلاً. وقلنا: ينجس بالملاقاة وإن لم يتغير بالنجاسة؛ والمذهب المشهور عند الأصحاب: أن محل الاستجمار نجس، وهو قول أبي حنيفة والشافعي. فلو قعد المستجمر في ماء قليل نجسه، ولو عرق كان عرقه نجساً. وعن أحمد رواية أخرى: أنه طاهر، وذكره في الإنصاف قول جماعة من الأصحاب منهم ابن حامد؛ قال في المغني: ظاهر كلام أحمد أن محل الاستجمار بعد الإنقاء طاهر، فإن أحمد بن الحسن قال: سألت أبا عبد الله عن الرجل يبول ويستجمر ويستبرئ، يعرق في سراويله؟ قال: إذا استجمر ثلاثاً فلا بأس. وسأله رجل: إذا استنجيت من الغائط يصيب ذلك الماء مني موضعاً آخر، فقال أحمد: قد جاء في الاستنجاء بثلاثة أحجار، فاستنج أنت بثلاثة أحجار، ثم لا تبال ما أصابك من ذلك الماء. واحتج أبو محمد لهذا القول، بقول النبي صلى الله عليه وسلم: " لا تستنجوا بعظم ولا بروث، فإنهما لا يطهران " 1، قال: فمفهومه أن غيرهما يطهر، قال: ولأن الصحابة كان الغالب عليهم الاستجمار، حتى إن جماعة منهم أنكروا الاستنجاء بالماء، وسماه بعضهم بدعة، وبلادهم حارة؛ والظاهر أنهم لا   1 أحمد (3/487) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 185 يسلمون من العرق، فلم ينقل عنهم توقي ذلك، ولا الاحتراز منه، ولا ذكر لذلك أصل; وقد نقل عن ابن عمر أنه بالمزدلفة فأدخل يده فنضح فرجه من تحت ثيابه، وعن إبراهيم النخعي نحو ذلك، ولولا أنهما اعتقدا طهارته ما فعلا ذلك. انتهى. وفي الاقناع: أن مني الآدمي طاهر، ولو خرج بعد الاستجمار، قال في شرحه: لعموم ما سبق، قال في الإنصاف: سواء كان من احتلام أو جماع، من رجل أو امرأة، لا يجب فيه فرك ولا غسل - ثم قال - وقيل: مني المستجمر نجس دون غيره، فعبارة الإقناع صريحة في طهارته بعد أثر الاستجمار، ولكن كلام صاحب الإنصاف ظاهر فيه؛ هذا مع أنهم صرحوا: أن محل الاستجمار نجس يعفى عنه في محله دون غيره، واستثنوا هذه الصورة لما ذكرنا من حجة القول الثاني، وهو لازم لهم في بقية صور المسألة لاتحاد العلة. وأما أسفل الخف والنعل إذا أصابته نجاسة، فالمذهب عند المتأخرين أنه لا يكفي فيه إلا الغسل بالماء؛ وهو رواية عن الإمام أحمد، وعنه: يجزي دلكه بالأرض، اختاره الموفق، والمجد، والشيخ تقي الدين، لما روى أبو داود عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إذا وطأ أحدكم الأذى بخفيه، فطهورهما التراب " 1، وفي أحاديث أخر. وعن أحمد رواية ثالثة: يجب غسله من البول والعذرة دون غيرهما، والأول أولى   1 أبو داود: الطهارة (385) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 186 لعموم الأدلة عليه؛ فهل يطهر بالدلك أو يصير معفواً عنه في محله دون غيره، الذي عليه أكثر أهل العلم: أنه لا يطهر بل يصير معفواً عنه في محله فقط، فلو لاقى غيره من المائعات، فله حكم غيره من المتنجسات. وعن أحمد: أنه يطهر بذلك، اختاره ابن حامد في جماعة من الأصحاب، ومال إليه في المغني، قال في الإنصاف: وهو من مفردات المذهب، ووجهه ما قدمناه من الدليل، فقوله: طهورهما التراب ظاهر في ذلك. سئل الشيخ سليمان بن عبد الله بن الشيخ: هل عظم الآدمي طاهر؟ فأجاب: الصحيح أنه طاهر إذ لا موجب لتنجيسه، وكذلك عظم الميتة، لأن المقتضي للتنجيس الدم في العظام؛ وأظن هذا اختيار الشيخ تقي الدين وابن القيم وغيرهما، ويحكى عن أبي حنيفة، رحمهم الله، والله أعلم. سئل الشيخ سعيد بن حجي، رحمه الله تعالى: عن عَرَق الحمار والبغل والتدخن بالروث. فأجاب: اعلم أن في طهارة البغل والحمار في مذهب الحنفية والحنابلة خلافاً يطول ذكره، والحاصل: أن فيهما عن أحمد روايتين: إحداهما: أنهما نجسان، فعليها يعفى عن ريقهما وعرقهما وما تولد منهما، غير الخارج من سبيلهما فهو نجس. والثانية: أنهما طاهران، اختاره الموفق، لأنه صلى الله عليه وسلم كان الجزء: 4 ¦ الصفحة: 187 يركبهما ويركبان في زمانه، ولأنه لا يمكن التحرز منهما لمقتنيهما فكانا طاهرين كالسنور. انتهى من المبدع. وقال في المغني: الصحيح عندي طهارة البغل والحمار، لأنه عليه السلام كان يركبهما، ويركبان في عصر الصحابة، ولو كانا نجسين لبينه صلى الله عليه وسلم. انتهى. وقال في الإنصاف: ومال الشيخ تقي الدين إلى طهارة البغل والحمار. انتهى. وروى الدارقطني: " أنتوضأ مما أفضلت الحمر؟ فقال عليه الصلاة والسلام: نعم " 1. اهـ. وروى ابن ماجة من حديث أبي سعيد معناه، وفيه قال: " لها ما أخذت في أفواهها، ولنا ما غبر طهور " 2، وقول عمر: "يا صاحب الحوض لا تخبرنا، فإنا نرد عليها وترد علينا "، رواه مالك. انتهى من المبدع. وقد اختار طهارة البغل والحمار المالكية والشافعية. وقال في العناية شرح الهداية للحنفية - لما ذكر الخلاف في سؤر البغل والحمار-: وسؤر البغل والحمار مشكوك فيه، وأبو طاهر أنكر أن يكون شيء من أحكام الله مشكوكاً فيه، وقال: سؤر الحمار طاهر؛ والشافعي يجعله طاهراً وطهوراً، لأن كل حيوان ينتفع بجلده فسؤره طهور عنده. قال القدوري: عرق الحمار طاهر في الرواية المشهورة، وكذا سؤره، وروى عن ابن عباس أنه قال "لا بأس بالتوضي بسؤر البغل والحمار ". انتهى كلام صاحب العناية ملخصاً.   1 صحيح مسلم: كتاب الحج (1221) , وسنن النسائي: كتاب الإمامة (778) , وسنن أبي داود: كتاب البيوع (3394) , ومسند أحمد (4/348) . 2 ابن ماجة: الطهارة وسننها (519) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 188 إذا ثبت هذا، فما خرج منهما من الفضولات، كالعرق والريق والدمع والمخاط، فهو طاهر. والقول الآخر: معفو عنه. فقد علمت أن الذي عليه الأكثرون من العلماء طهارة البغل والحمار وفضولاتهما. وأما فرخ بيضة المأكول: إن كان حياً فهو طاهر، وإن كان ميتاً أو دماً فهو نجس. ويجوز التدخن بروث الفرس، لأنه طاهر، بخلاف الحمار فإنه نجس، ودخان النجاسة نجس؛ وفيه تفصيل: قال في الكافي: دخان النجاسة نجس، فإن اجتمع منها شيء، أو لاقاها جسم صقيل فصار ماء فهو نجس، وما أصاب الإنسان من دخان النجاسة وغبارها فلم يجتمع منه شيء، ولا ظهر له صفة، فهو معفو عنه، لعدم إمكان التحرز منه. وسئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عن سؤر الحمار؟ فأجاب: عند المتقدمين من أهل العلم أنه طاهر لا ينجس، وعند المتأخرين أنه نجس. وسئل: عن زرق الصقر؟ فأجاب: وأما زرق الصقر فإنه نجس، لكن يعفى عن يسيره لمشقة التحرز منه؛ فإن مقتنى هذا الحيوان وأمثاله لا يكاد يسلم منه فعفي عن يسيره كالدم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 189 باب الحيض سئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن: عن أقل الطهر، وأكثره؟ فأجاب: الجمهور على أن أقل الطهر بين الحيضتين: ثلاثة عشر يوماً، واختار شيخ الإسلام: أنه قد يكون أقل إذا كان عادة. وأكثر الحيض: خمسة عشر يوماً، وأقله: يوم وليلة؛ وأبو حنيفة يقول: أقله: ثلاثة أيام بلياليها، وأكثره: عشرة أيام. ومذهب مالك والشافعي في أكثر الحيض كمذهب أحمد، والشافعي كذلك في أقله، وأما مالك فيقول: لا حد لأقله. سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد، رحمهما الله: هل يجوز للحائض الجلوس في المسجد مع أمن التلويث؟ فأجاب: الحائض لا يحل لها الجلوس في المسجد ولو أمنت التلويث، بل تمنع من الجلوس فيه بالكلية؛ وقد نص الفقهاء على أن الحائض لا تجلس في المسجد، ولو بعد انقطاع الدم حتى تغتسل؛ وأما النفساء فحكمها حكم الحائض، والله أعلم. وسئل: هل يجوز وطء الحائض إذا طهرت قبل أن تغتسل؟ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 190 فأجاب: لا يجوز ذلك حتى تغتسل أو تتيمم إن عدمت الماء، كما هو قول مالك والشافعي وأحمد؛ وهو معنى ما يروى عن الصحابة حيث قالوا في المعتدة: هو أحق بها ما لم تغتسل من الحيضة الثالثة. وقال أبو حنيفة: إذا انقطع الدم لأكثر الحيض عنده، وهو عشرة أيام، جاز وطؤها؛ والقول الأول هو الصواب، لأن الله تعالى قال: {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [سورة البقرة آية: 222] ، قال مجاهد يعني: ينقطع الدم؛ {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} [سورة البقرة آية: 222] اغتسلن بالماء. وسئل: عن المجدورة إذا حاضت وانقطع الدم ولم تغتسل، هل تصلي وتصوم ولا يلزمها إعادة؟ وكذلك هل يجب عليها الغسل من الجنابة والحيض إذا أصابها؟ فأجاب: المرأة إذا حاضت وهي مجدورة فإذا انقطع عنها الدم اغتسلت، فإن عجزت عن ذلك أو خافت الضرر تيممت ثم صلت وصامت، ولا يلزمها إعادة إذا برأت من مرضها؛ بل عليها أن تغتسل متى قدرت على الغسل بلا ضرر يلحقها. سئل الشيخ حمد بن ناصر بن معمر: عمن اغتسلت من الحيض فوطئها زوجها ثم رأى على ذكره أثر الدم؟ فأجاب: إذا اغتسلت من الحيض فوطئها، ثم رأى على ذكره أثر الدم، فالخطب في ذلك يسير إن شاء الله تعالى، لأن قصاراه أن الدم عاودها بعد الطهر، وذلك حيض عند الجزء: 4 ¦ الصفحة: 191 الجمهور إذا لم تبلغ خمسة عشر يوماً، وقد وطئها في حال جريان الدم جاهلاً، فيكون معذوراً ولا إثم عليه، لقوله صلى الله عليه وسلم " عفي لأمتي الخطأ والنسيان ". وأما الكفارة: ففيها خلاف هل تجب على العامد دون المخطئ والناسي، أم تجب على الجميع؟ والذي عليه الجمهور: أنه لا كفارة على الجميع، بل من تعمد ذلك أثم وليس عليه إلا التوبة. وعن أحمد في ذلك روايتان: إحداهما: كقول الجمهور، والثانية: عليه الكفارة إذا تعمد، لحديث ابن عباس المرفوع أنه " يتصدق بدينار، أو نصف دينار " 1، والحديث رواه أبو داود والترمذي والنسائي، لكن مداره على عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب، وقد قيل لأحمد: في نفسك منه شيء؟ قال: نعم، لأنه من حديث فلان، أظنه قال: عبد الحميد، وقال لو صح ذلك الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم كنا نرى عليه الكفارة، وقال في موضع: ليس به بأس قد روى الناس عنه؛ فاختلاف الرواية في الكفارة مبني على اختلاف قول أحمد في الحديث، وهذه الروايتان عن أحمد في العامد، وأما الجاهل والناسي، فعلى وجهين للأصحاب: أحدهما: تجب، وهي المذهب لعموم الخبر. والثاني: لا تجب لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: " عفي لأمتي الخطأ والنسيان "؛ فعلى هذا، لو وطئ طاهراً فحاضت في أثناء وطئه فلا كفارة عليه، وعلى الأول عليه الكفارة.   1 النسائي: الطهارة (289) والحيض والاستحاضة (370) , وأبو داود: الطهارة (264) , وابن ماجة: الطهارة وسننها (640) , وأحمد (1/229, 1/237, 1/286) , والدارمي: الطهارة (1106, 1107) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 192 وسئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عن الوطء بعد الحيض قبل الغسل؟ فأجاب: الوطء بعد الحيض قبل الغسل، الظاهر أنه لا كفارة فيه. سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: عن الحامل إذا رأت الدم؟ فأجاب: إذا رأت الحامل الدم، فهذا ينظر في حال المرأة، فإذا كان ذلك ليس بعادة لها إذا حملت، فهذا لا تلتفت إليه، بل تصلي فيه وتصوم، وتكون حكمها حكم المستحاضة؛ وليس في هذا اختلاف. وإنما الاختلاف فيما إذا كان عادة المرأة أنها تحيض وهي حامل ويتكرر، ويأتيها في عادة الحيض، وتطهر في عادة الطهر؛ فهذا الذي اختلف فيه العلماء، والراجح في الدليل أنه حيض إذا كان على ما وصفنا، ولكنه قليل الوقوع، وكثير الوقوع على الصفة الأولى. فأنت، افهم الفرق بين من هو لها عادة متكررة، وبين من ليس لها عادة ويضطرب عليها الدم، فإنها تشتبه على كثير من الطلبة. سئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله: عن المرأة إذا بلغت سن الإياس؟ وما قدر سن الإياس والدم يأتيها على عادتها، هل تصوم وتصلي وتقضي الصوم؟ أو لا بد من انقطاع الدم عنها؟ فأجاب: الإياس لا يقدر بشيء إلا إذا تغير الدم، أو انقطع، صامت ولا تقض. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 193 وأجاب ابنه الشيخ عبد الله: والإياس له حد، بل متى انقطع الحيض لأجل الكبر وأيست من عوده، فهي الآيسة. وأجاب: الشيخ عبد الله أبا بطين: إذا بلغت فوق خمسين سنة وأتاها الدم، ففيها ثلاثة أقوال: الجمهور يقولون: متى بلغت خمسين فلا تجلس، بل تصوم وتصلي. والقول الآخر: إذا بلغت خمسين فلا تنظر إليه. وأما شيخ الإسلام وأبو حنيفة فيقولان: تجلس على عادة جلوسها في عادة حيضها، ولا تصوم حتى ينقطع عنها الدم، ولا تسمى آيسة حتى ينقطع عنها الدم، لقول الله تعالى: {وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ} [سورة الطلاق آية: 4] ؛ وقول شيخ الإسلام وأبي حنيفة هو الراجح، والعمل عليه. سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد، رحمهما الله: عمن رأت الطهر ساعة ثم عاودها الدم؟ فأجاب: إذا رأت المرأة الطهر ساعة ثم عاودها الدم، فإن كان ذلك في العادة جلست عن الصلاة، سواء كان دماً أو صفرة أو كدرة، وإن كان بعد انقضاء العادة، فإن كان صفرة أو كدرة لم تلتفت إليه، وإن كان دماً أسود ففيه اختلاف بين العلماء: فبعضهم يقول: لا تلتفت إليه حتى يتكرر ثلاثاً، وبعضهم يقول: تجلس عن الصلاة حتى يبلغ خمسة عشر يوماً من أول الحيض؛ هذا هو الذي عليه الجمهور. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 194 سئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن: عمن رأت النقاء في أيام الحيض؟ فأجاب: إذا رأت النقاء في أيام الحيض، فالمذهب أن النقاء طهر وإن لم تر معه بياضاً، فعليها أن تغتسل وتصلي؛ وفيه قول: أن البياض الذي يأتي المرأة عقب انقطاع الحيض هو الطهر، وهو الصحيح، وإليه يميل شيخنا، رحمه الله، فيما نرى، والله أعلم. سئل الشيخ حسن بن حسين بن محمد، رحمهم الله تعالى: عن دليل اشتراطهم دخول الوقت لمن حدثه دائم؟ فأجاب: دليل ما ذكروه من اشتراط دخول الوقت لمن حدثه دائم، كسلس البول، ودائم الريح، والجروح التي لا يرقى دمها، والقروح السيالة، هو: القياس على المستحاضة، بجامع العذر؛ وقد أسلفنا لك: أن القياس إذا صح، دليل مستقل بنفسه، ونحن نذكر حكم المسألة من كلامهم: قال في شرح المفردات، عند قول الناظم: وبدخول وقت طهر يبطلُ ... من بها استحاضة قد نقلوا لا بالخروج منه لو تطهرتْ ... للفجر لم يبطل بشمس طلعتْ يعني: أن المستحاضة ومن به سلس البول ونحوه، يتوضأ لوقت كل صلاة، إلا أن لا يخرج منه شيء؛ وهو قول أصحاب الرأي، لحديث عدي ابن ثابت عن أبيه عن جده في الجزء: 4 ¦ الصفحة: 195 المستحاضة: "ت دع الصلاة أيام أقرائها، ثم تغتسل وتصوم وتصلي، وتتوضأ عند كل صلاة " 1، وعن عائشة، رضي الله عنها، قالت: جاءت فاطمة بنت أبي حبيش إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فذكرت خبرها، ثم قال: " توضئي لكل صلاة حتى يجيء ذلك الوقت " 2، رواه أحمد وأبو داود والترمذي، وقال: حسن صحيح. فإذا توضأ أحد هؤلاء قبل الوقت، ثم دخل الوقت بطلت طهارته، لأن دخوله يخرج به الوقت الذي توضأ فيه؛ والحدث مبطل للطهارة، وإنما عفي عنه مع الحاجة إلى الطهارة، ولا حاجة قبل الوقت. وإن توضأ بعد الوقت صح وضوؤه، ولم يؤثر فيه ما يتجدد من الحدث الذي لا يمكن التحرز منه. ولا تبطل الطهارة بخروج الوقت، إذا لم يدخل وقت صلاة أخرى؛ فمتى تطهرت لصلاة الصبح لم يبطل وضوؤها بطلوع الشمس، لأنه لم يدخل وقت صلاة أخرى؛ قال المجد في شرح الهداية: ظاهر كلام أحمد أن طهارة المستحاضة تبطل بدخول الوقت دون خروجه، قال أبو يعلى: تبطل بكل واحد منهما - ثم قال - والأول أولى. انتهى. ومشى على الثاني في الإقناع. والمشهور عند الحنفية: أنه يبطل بخروج الوقت لا بدخوله، فلو توضأت بعد طلوع الشمس لم يبطل حتى يخرج وقت الظهر. انتهى كلامه. وقال أبو العباس: أظهر قولي العلماء أن مثل هؤلاء يتوضؤون لوقت كل صلاة، ولكل صلاة.   1 النسائي: الطهارة (210) , وابن ماجة: الطهارة وسننها (626) , والدارمي: الطهارة (768) . 2 البخاري: الوضوء (228) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 196 كتاب الصلاة : حكم ترك الصلاة وإخراجها عن وقتها سئل الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن: متى يؤمر المميز بالصلاة ... إلخ؟ فأجاب: العبادات كلها لا تجب إلا بعد البلوغ؛ وأما ولي الصغير فيجب عليه أمره، وتدريبه على العبادات إذا ميز وعقلها، ليعتادها ويألف الخير. وسئل: عمن جن وترك الصلاة ستة عشر يوماً؟ فأجاب: الذي جن وترك الصلاة ستة عشر يوماً، ثم بعد ذلك صحا، فإنه لا يقضي ما فاته على الصحيح. سئل الشيخ محمد بن عمر بن سليم: عمن أخر صلاة الفجر إلى وقت الظهر؟ فأجاب: الذي أخر صلاة الفجر إلى وقت الطهر آثم، لأن تأخير الصلاة عن وقتها حرام باتفاق العلماء. قال شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله: اتفق المسلمون كلهم على أن عليه أن يصلي الظهر والعصر بالنهار، ويصلي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 197 الفجر قبل طلوع الشمس، لا يترك ذلك لصناعة، ولا لصيد ولا لهو، ولا لزراعة، ولا لجنابة ولا نجاسة، ولا غير ذلك؛ والنبي صلى الله عليه وسلم أخر صلاة العصر يوم الخندق، لاشتغاله بجهاد الكفار، ثم صلاها بعد المغرب، فأنزل الله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [سورة البقرة آية: 238] ، أي: صلاة العصر؛ ولهذا قال جمهور العلماء: إن ذلك التأخير منسوخ لهذه الآية، فلم يجز تأخير الصلاة حال القتال، بل أوجب عليه الصلاة في الوقت حال القتال؛ هذا مذهب مالك والشافعي وأحمد في المشهور عنه. وعن أحمد رواية أخرى: يخير حال القتال بين الصلاة وبين التأخير، ومذهب أبي حنيفة: يشتغل بالقتال ويصلي بعد الوقت. وأما تأخير الصلاة لغير الجهاد، لصناعة أو زراعة أو عمل أو صيد، فلا يجوز ذلك عند أحد من العلماء، بل قال الله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} [سورة الماعون آية: 4-5] ، قال طائفة من السلف: هم الذين يؤخرونها عن وقتها، وقال بعضهم: هم الذين لا يؤدونها على الوجه المأمور به، وإن صلوها في الوقت. فتأخيرها عن الوقت حرام باتفاق العلماء، والعلماء متفقون على أن تأخير صلاة الليل إلى النهار، وصلاة النهار إلى الليل، بمنْزلة تأخير شهر رمضان إلى شوال؛ وإنما يعذر بالتأخير النائم والناسي، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: " من نام عن صلاة أو نسيها، فليصلها إذا ذكرها؛ لا كفارة لها إلا ذلك " 1.   1 البخاري: مواقيت الصلاة (597) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (684) , والترمذي: الصلاة (178) , والنسائي: المواقيت (613, 614) , وأبو داود: الصلاة (442) , وابن ماجة: الصلاة (695, 696) , وأحمد (3/100, 3/269, 3/282) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 198 وأما الجنب، والمحدث، ومن عليه نجاسة، إذا عدم الماء أو خاف الضرر باستعماله، لمرض أو برد، فإنه يتيمم ويصلي في الوقت وجوباً، ولا يؤخر الصلاة حتى يصلي في غير الوقت باغتسال، قال النبي صلى الله عليه وسلم: " الصعيد الطيب طهور المسلم، ولو لم يجد الماء عشر سنين؛ فإذا وجدت الماء فأمسه بشرتك، فإنه خير لك " 1. فكل ما يباح بالماء يباح بالتيمم عند عدم الماء، أو عدم القدرة على استعماله؛ فإذا تيمم للصلاة يقرأ القرآن داخل الصلاة وخارجها، وإن كان جنباً. وقال شيخ الإسلام أيضاً: ومن امتنع عن الصلاة بالتيمم فإنه من جنس اليهود والنصارى؛ فإن التيمم إنما أبيح لهذه الأمة خاصة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: " فضلنا على الناس بثلاث: جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي " 2. قال: ومما يزيد ما تقدم وضوحاً، قول النبي صلى الله عليه وسلم لعمران بن الحصين: " صل قائماً، فإن لم تسطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب " 3. فتبين بهذا: أن المريض يصلي في الوقت على حسب حاله، قاعداً أو على جنب، إذا كان القيام يزيد في مرضه، ولا يصلي بعد خروج الوقت قائماً؛ هذا مما اتفق عليه العلماء، وهذا كله لأن فعل الصلاة في وقتها فرض، والوقت أوكد فرائض الصلاة، كما أن صيام شهر رمضان أوجب في   1 الترمذي: الطهارة (124) , وأبو داود: الطهارة (333) . 2 مسلم: المساجد ومواضع الصلاة (522) , وأحمد (5/383) . 3 البخاري: الجمعة (1117) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 199 وقته ليس لأحد أن يؤخره عن وقته؛ لكن يجوز الجمع بين الظهر والعصر بعرفة وبين المغرب والعشاء، وبين الظهر والعصر عند كثير من العلماء للسفر والمرض ونحو ذلك من الأعذار. وأما تأخير صلاة النهار إلى الليل، والليل إلى النهار، والفجر بعد طلوع الشمس، فلا يجوز ذلك لمرض ولا لسفر، ولا لشغل ولا لصناعة باتفاق العلماء، قال عمر رضي الله عنه: "الجمع بين الصلاتين لغير عذر من الكبائر "، وفي وصية أبي بكر لعمر، رضي الله عنهما: "إن لله حقاً بالنهار لا يقبله بالليل، وحقاً بالليل لا يقبله بالنهار "؛ ومن ظن أن الصلاة بعد خروج الوقت بالماء، خير من الصلاة في الوقت بالتيمم، فهو جاهل ضال. سئل أبناء الشيخ، وحمد بن ناصر: عمن ترك الصلاة كسلاً من غير جحود لها؟ فأجابوا: يستتاب، فإن تاب وإلا قتل كافراً مرتداً، كما روى مسلم في صحيحه من حديث بريدة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر " 1، وعن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ليس بين العبد وبين الشرك والكفر إلا ترك الصلاة " 2، وعن عبد الله بن شقيق قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرون شيئاً من الأعمال ترْكه كفر إلا الصلاة، رواه الترمذي؛ فدلت   1 الترمذي: الإيمان (2621) , والنسائي: الصلاة (463) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1079) , وأحمد (5/346, 5/355) . 2 مسلم: الإيمان (82) , والترمذي: الإيمان (2618, 2620) , وأبو داود: السنة (4678) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1078) , وأحمد (3/370, 3/389) , والدارمي: الصلاة (1233) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 200 هذه الأحاديث: على أن ترك الصلاة كفر مستقل، من غير اقترانه بجحد الوجوب؛ وذلك لأن جحد الوجوب لا يختص بالصلاة وحدها، فإن من جحد شيئاً من فرائض الإسلام فهو كافر بالإجماع. وأجاب الشيخ حمد بن ناصر بن معمر: اختلف العلماء، رحمهم الله، في تارك الصلاة كسلاً من غير جحود: فذهب أبو حنيفة والشافعي في أحد قوليه، ومالك، إلى أنه لا يحكم بكفره; واحتجوا بما رواه عبادة. وذهب إمامنا أحمد بن حنبل والشافعي في أحد قوليه، وإسحاق بن راهويه وعبد الله بن المبارك والنخعي، والحكم وأيوب السختياني وأبو داود الطيالسي، وغيرهم من كبار الأئمة والتابعين، إلى أنه كافر، وحكاه إسحاق بن راهويه إجماعاً، وذكره في كتاب الزواجر عن جمهور الصحابة والتابعين. وقال الإمام محمد بن حزم: سائر الصحابة والتابعين ومن بعدهم يكفِّرون تارك الصلاة مطلقاً، ويحكمون عليه بالارتداد، وذكر الأحاديث - ثم قال - وعن عبد الله بن شقيق قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرون شيئاً من الأعمال ترْكه كفر غير الصلاة. فهذه الأحاديث كما ترى صحيحة في كفر تارك الصلاة، مع ما تقدم من إجماع الصحابة، كما حكاه إسحاق وابن حزم وعبد الله بن شقيق، وهو مذهب الجمهور من التابعين ومن بعدهم؛ ثم إن العلماء كلهم مجمعون على قتل تارك الصلاة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 201 كسلاً، إلا أبا حنيفة والزهري وداود، فإنهم قالوا: يحبس تارك الصلاة حتى يموت أو يتوب. واحتج الجمهور على قتله بالكتاب والسنة، وذكر الأدلة - ثم قال - وأما كلام الفقهاء: فقال الشيخ علي الأجهوري في شرح المختصر: من ترك فرضاً أخره لبقاء ركعة بسجدتيها من الضروري، قتل بالسيف حداً على المشهور. وقال ابن حبيب وجماعة خارج المذهب كافراً، واختاره ابن عبد السلام. فانظر تصريحهم: أن تارك الصلاة يقتل باتفاق أصحاب مالك، وإنما اختلفوا في كفره، وأن ابن حبيب وابن عبد السلام اختارا أنه يقتل كافراً. وقال الأذرعي في كتاب قوت المحتاج في شرح المنهاج: من ترك الصلاة جاحداً وجوبها كفر إجماعاً، وإن تركها كسلاً قتل حداً على الصحيح. والصحيح قتله بصلاة واحدة، بشرط إخراجها عن وقت الضرورة؛ فانظر كلامه في قتل من ترك الصلاة كسلاً، وأن الربيع روى عن الشافعي أن ماله يكون فيئاً، ولا يدفن في مقابر المسلمين. وقال الشيخ أحمد بن الهيتمي: إن ترك الصلاة جاحداً وجوبها كفر بالإجماع، أو تركها كسلاً مع اعتقاد وجوبها قتل، لآية: {فَإِنْ تَابُوا} [سورة التّوبة آية: 5 و11] ، وخبر "أمرت "؛ فانظر كلامه في قتل تارك الصلاة كسلاً، وأن الآية والحديث شرطان في الكف عن القتل. وقال في الإقناع وشرحه: من جحد وجوبها كفر؛ فإن تركها تهاوناً وتكاسلاً لا جحوداً يهدده، فإن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 202 أبى أن يصليها حتى تضايق وقت التي بعدها وجب قتله. فتأمل كلامه في ترك الصلاة من غير جحود أنه يستتاب، فإن تاب وإلا قتل كافراً مرتداً. انتهى كلامه ملخصاً. وأجاب أيضاً: وأما تارك الصلاة مع إقراره بوجوبها، فاختلف العلماء فيه: فبعضهم يقول: يقتل حداً بعد ما يستتاب، وبعضهم يقول: يستتاب فإن تاب وإلا قتل كافراً؛ وهذا هو الصواب الذي تدل عليه السنة، وهو قول جمهور السلف من الصحابة والتابعين، بل قد نقل إسحاق بن راهويه الإجماع على أنه كافر. والدليل على كفره ما في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " بين العبد وبين الكفر والشرك ترك الصلاة " 1، وفي صحيح مسلم أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر " 2. وفي المسند أنه صلى الله عليه وسلم ذكر الصلاة فقال: " من أتى بها كانت له نوراً ونجاة يوم القيامة، ومن لم يأت بها لم تكن له نوراً ولا نجاة، وكان يوم القيامة مع قارون وفرعون وهامان وأبي بن خلف " 3، وفي المسند عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من ترك الصلاة متعمداً فقد برئت منه ذمة رسول الله صلى الله عليه وسلم " 4. وقال ابن مسعود في قوله تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ} [سورة مريم آية: 59] ، قال: هم الذين يؤخرونها عن وقتها، ولو تركوها لكانوا كفاراً.   1 مسلم: الإيمان (82) , والترمذي: الإيمان (2620) , وأبو داود: السنة (4678) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1078) , وأحمد (3/370, 3/389) , والدارمي: الصلاة (1233) . 2 الترمذي: الإيمان (2621) , والنسائي: الصلاة (463) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1079) , وأحمد (5/346, 5/355) . 3 أحمد (2/169) , والدارمي: الرقاق (2721) . 4 أحمد (6/421) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 203 وقال الشيخ عبد الرحمن بن حسن: المشهور في مذهب الإمام أحمد، أن من ترك الصلاة تهاوناً وكسلاً يكفر، ويقتل كفراً إذا دعي إليها فأصر؛ ومنها صلاة الجمعة، نصوا على أن من تركها تهاوناً وكسلاً ولو مرة واحدة أنه يكفر؛ ويوجد أناس في أطراف البلدان يتركونها مراراً، وهذا أمر عظيم وخطره كبير، وقد يكون الإنسان كافراً مرتداً بترك فريضة وهو لا يشعر. فاحذروا، رحمكم الله، التهاون بمثل هذه الأمور الخطيرة، التي إذا وقعت من سفيه ضرت العامة إذا تركوه عليها. وأعظم الناس خطراً في مثل هذه الأمور: الأمراء والنواب، إذا تركوا القيام بما أوجب الله عليهم من القيام بأمر الله على الداني والقاصي، والقريب والبعيد، والعدو والصديق كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [سورة النساء آية: 135] ؛ وهذا هو الواجب على ولاة الأمور، فنسأل الله لنا ولكم التوفيق. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 204 باب الأذان قال الشيخ حمد بن معمر، رحمه الله: قد صرح العلماء، رحمهم الله، أن أهل البلد إذا تركوا الأذان والإقامة يقاتَلون؛ قال الأجهوري في شرح المختصر في فضل الأذان: قال المازري: في الأذان معنيان: أحدهما: إظهار الشعائر، والتعريف بأن الدار دار إسلام؛ وهو فرض كفاية، يقاتل أهل القرية حتى يفعلوه إن عجزوا عن قهرهم على إقامته إلا بالقتال. والثاني: الدعاء للصلاة والإعلام بوقتها؛ وقال الأبي في شرح مسلم: والمشهور أن الأذان فرض كفاية على أهل المصر، لأنه شعار الإسلام، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إن لم يسمع الأذان أغار، وإلا أمسك. وقال ابن حجر الهيتمي في باب الأذان والإقامة: سنة، وقيل فرض كفاية، فيقاتل أهل بلد تركوهما، بحيث لم يظهر الشعار. وقال في الإقناع وشرحه: وإن تركوهما، أي: الأذان والإقامة، أهل بلد، قوتلوا، أي: قاتلهم الإمام أو نائبه حتى يفعلوهما، لأنهما من أعلام الدين الظاهرة، فيقاتَلون على تركهما كسلاً. فتأمل كلامهم في أهل البلدان إذا تركوا الأذان والإقامة، أنهم يقاتَلون بمجرد ترك ذلك؛ فهذا كلام الجزء: 4 ¦ الصفحة: 205 المالكية، وهذا كلام الشافعية، وهذا كلام الحنابلة، الكل منهم قد صرح بما ذكرناه. سئل الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين: عن أخذ الأجرة على الأذان؟ فأجاب: وأما أخذ الأجرة على الأذان، فقال صلى الله عليه وسلم لبعض أصحابه اتخذ مؤذناً، لا يأخذ على أذانه أجراً. انتهى. قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله: ذكر أن التكبير مناسب في الأذان، لأنه مشروع على الأمكنة العالية، كقوله: إذا هبطنا سبحنا، وإذا علونا كبرنا. سئل ابنه: الشيخ عبد الله بن محمد، رحمهما الله، عن عدد كلمات الأذان؟ فأجاب: الثابت أن الأذان خمس عشرة كلمة: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن محمداً رسول الله، حي على الصلاة، حي على الصلاة، حي على الفلاح، حي على الفلاح، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله؛ فهذا هو الثابت أن رسول الله أمر بلالاً أن يؤذن به، كما ذكر ذلك أهل السنن والمسانيد. وأما "حي على خير العمل"، فليس بثابت، ولا عمل عليه عند أهل السنة. وأجاب أيضاً: الذي يقول في الأذان: حي على خير الجزء: 4 ¦ الصفحة: 206 العمل، ينكر عليه، ويعلم أن هذا من مبتدعات الرافضة، التي ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم فيها شيء، ولا عن أهل بيته، ولا عن أصحابه، رضي الله عنهم أجمعين. والذي يفعله عقب ما يعلم، يؤدب الأدب الذي يزجره وأمثاله. سئل الشيخ علي بن الشيخ محمد: عن قول المؤذن: الصلاة خير من النوم، وما الدليل على ذلك؟ فأجاب: دليله ما روى أهل السنن: قال: كان بلال إذا أذن أيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم لصلاة الفجر، فقيل له: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نائم، فقال: الصلاة خير من النوم، ورفع بها صوته، قال ابن المسيب: فأدخلت هذه الكلمة في أذان الفجر؛ واتفق الأئمة الأربعة على استحباب ذلك. وأجاب أيضاً: وما ذكرت من جهة مسألة التثويب في أذان الفجر، هل هو في الأول، أو في الثاني؟ وما الموجب لكونه عندنا في الثاني؟ على أن في سنن أبي داود ما يدل على كونه فى الأول، فإن الأمر عندنا في ذلك على السعة؛ فإذا جعله في الأول أو في الثاني، فالكل - إن شاء الله - حسن، ولكن الأحسن لمن أراد الاقتصار في التثويب على أحد الأذانين أن يكون في الأول، لما ذكرت من الحديث. وأحسن منهما التّثويب الجزء: 4 ¦ الصفحة: 207 في الأذانين، جمعاً بين الأحاديث، وعملاً بظاهر إطلاقات الفقهاء. فأما ما يدل على أن التثويب في الأول: فالحديث الذي ذكرت في سنن أبي داود، دليل على ذلك، وفي رواية للنسائي: " الصلاة خير من النوم، الصلاة خير من النوم، في أذان الأول من الصبح " 1. قال ابن رسلان في شرح سنن أبي داود: وهاتان الروايتان صريحتان في أن التثويب بالصلاة خير من النوم، مخصوص بالأذان الأول، دون الثاني، لأن الأذان الأول إنما شرع لإيقاظ النائم، كما في الحديث: "ليوقظ نائمكم " 2، وأما الثاني: فإنما هو للإعلام بدخول الوقت لمن أراد أن يصلي في أول الوقت، ولكون المصلين فيه غالباً قد استيقظوا بالأذان الأول، واستعدوا للصلاة بالوضوء وغيره. انتهى. ولكن قوله: إن الروايتين صريحتان في التخصيص بالأول، ليس كذلك، بل ظاهرتان. وأما ما يدل على أنه في الثاني، فقال ابن ماجة في سننه: حدثنا عمر بن رافع، حدثنا عبد الله بن المبارك عن معمر، عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن بلال: " أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم يؤذنه بصلاة الفجر، فقيل هو نائم، فقال: الصلاة خير من النوم، فأقرت في تأذين الفجر، فثبت الأمر على ذلك " 3، صحيح الإسناد، وفيه انقطاع؛ ووجه الاستدلال به على أنه في الثاني: أن بلالاً إنما كان يؤذن النبي صلى الله عليه وسلم بالصلاة بعد طلوع الفجر، فإذا طلع الفجر جاءه بلال فآذنه بالصلاة، لا يقال إن هذه في أذان بلال، وبلال إنما كان يؤذن قبل الفجر،   1 أبو داود: الصلاة (500) , وأحمد (3/408) . 2 مسلم: الصيام (1093) , والنسائي: الأذان (641) . 3 ابن ماجة: الأذان والسنة فيه (716) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 208 كما في الصحيح: " إن بلالاً يؤذن بليل " 1، لأن ذلك في بعض الأوقات لا في كل السنة؛ يدل على ذلك ما روى سعيد بن منصور في سننه، قال: حدثنا أبو عوانة عن عمران بن مسلم قال: "قال سويد بن غفلة: اذهب إلى مؤذننا رباح، فمره أن لا يثوب إلا في صلاة الفجر بعد الفجر، إذا فرغ من أذان الفجر فليقل: الصلاة خير من النوم، الصلاة خير من النوم، وليقل في آخر أذانه وإقامته: لا إله إلا الله والله أكبر، هذا أذان بلال "، فهذا مرسل يدل على أن بلالاً يؤذن بعد الفجر، وأنه يثوب في أذانه. وقال ابن أبي شيبة: حدثنا وكيع عن جعفر بن برقان، عن شداد مولى عياض بن عامر، عن بلال أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا يؤذن حتى يرى الفجر هكذا، ومد يديه " 2، حدثنا أبو خالد عن حجاج عن طلحة عن سويد عن بلال قال: "كان لا يؤذن حتى ينشق الفجر "؛ فهذا يدل على أن بلالاً يؤذن بعض الأوقات بعد طلوع الفجر بلا ريب، وأيضاً: فإنه كان يسافر ويغزو مع النبي صلى الله عليه وسلم حيث لا يوجد ابن أم مكتوم، وكان هو المؤذن، فلا بد من أذانه بعد طلوع الفجر. وقد ثبت أنه كان يقولها في أذانه، فتعين عدم الإنكار على من جعلها في الأول، أو الثاني؛ أما الأول: فلأن ظاهر حديث أبي محذورة يدل   1 البخاري: الأذان (617) , ومسلم: الصيام (1092) , والترمذي: الصلاة (203) , والنسائي: الأذان (637, 638) , وأحمد (2/9, 2/57) , ومالك: النداء للصلاة (163) , والدارمي: الصلاة (1190) . 2 أبو داود: الصلاة (534) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 209 عليه، وأما الثاني: فلما ذكرنا من الآثار وغيرها أيضاً؛ فلا يجوز الإنكار لأنها مسألة اجتهاد، وأما كون جعلها في الأول أحسن لمن أراد الاقتصار، فلأن الحديث فيه دلالة أظهر من كونها في الثاني، وأما كون الجمع بينهما أحسن فلأن فيه جمعاً بين هذه الآثار، وعملاً بإطلاقات الفقهاء؛ فإن الفقهاء من الحنابلة قالوا: ويقول في أذان الصبح: الصلاة خير من النوم، فظاهره أنه يقوله في الأذانين، لأن كليهما أذان الصبح. وقال النواوي من الشافعية في شرح المهذب: ظاهر إطلاق الأصحاب أنه لا فرق بين الأول والثاني، وصرح بتصحيحه في التحقيق. وقال الأسنوي مثله أيضاً؛ ففي هذا العمل بالأحاديث جميعاً، والله أعلم. سئل الإمام عبد العزيز بن محمد بن سعود: عن ألفاظ الأذان، هل ورد من طريق مقبول: حي على خير العمل؟ فأجاب: لم نقف على شيء من ذلك، بل الذي ثبت في الصحاح والمساند والسنن: أذان بلال، المشهور عند الناس اليوم، وأذان أبي محذورة، وفيه زيادة على أذان بلال، وليس في لفظ الأذانين شيء من ذلك فيما وقفنا عليه. ولو فرض أنه ورد في حديث ضعيف، لم يجز أن يترك الحديث المشهور، أو يزاد فيه شيء لم يصح عند أهل الحديث ونقاده، كالبخاري، ومسلم، وأهل السنن، والله أعلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 210 قال الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: فمن البدع المذمومة التي ننهى عنها: رفع الصوت في مواضع الأذان بغير الأذان، سواء كان آيات أو صلاة على النبي صلى الله عليه وسلم أو ذكرا أو غير ذلك بعد أذان، أو في ليلة جمعة، أو رمضان أو العيدين؛ فكل ذلك بدعة مذمومة. وقد أبطلنا ما كان مألوفا بمكة من التذكير والترحيم ونحوه، واعترف علماء المذاهب أنه بدعة. سئل الشيخ عبد الله بن عبد العزيز العنقري عن النداء بـ"جاءت الراجفة"؟ فأجاب: يكتفى بالأذان، لأن النداء بقول: "جاءت الراجفة" ما نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا نعلم أحداً فعله، لا من الصحابة ولا من غيرهم؛ فالله أعلم بمراد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد شق صلى الله عليه وسلم الجريدة بين قبرين، فلما لم يفعله أحد من الصحابة حملناه على الخصوصية، ومسألة النداء بـ"جاءت الراجفة" تشبه ذلك، فإن نقل عن أحد من الصحابة فهي سنة بلا شك، وإلا فالأولى ترك ذلك. وأما انتياب المكان المرتفع للنداء بها، فلم يحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فعله، لأنه ليس يؤذن للصلاة بنفسه، بل كان مؤذنه بلالاً، وابن أم مكتوم. سئل الشيخ سعيد بن حجي: عن الأذان إلى غير القبلة؟ فأجاب: قال في الشرح: قال ابن المنذر: أجمع أهل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 211 العلم على أن من السنة أن يستقبل القبلة في الأذان. وكره طائفة من أهل العلم الكلام في الأذان، وقال الأوزاعي: لا نعلم أحداً يقتدى به فعله، ورخص فيه سليمان بن صرد، وغيره. قيل لأحمد: الرجل يتكلم في أذانه؟ قال: نعم، قال: في الإقامة؟ قال: لا. وعن الأوزاعي: إذا تكلم في الإقامة أعادها؛ وأكثر أهل العلم أنها تجزئ، قياساً على الأذان. انتهى. فظهر: أن استقبال القبلة في الأذان سنة، وأن تركه لا يبطله، وأن الكلام في الأذان والإقامة مكروه، وأن فعل المكروه لا يبطلها. سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عن الأذان قبل الوقت في غير الفجر؟ فأجاب: أما الأذان قبل الوقت فلا يجزئ، بل يعاد في الوقت. سئل الشيخ حمد بن عتيق: عن الإمام إذا لم يسمع الإقامة، هل تجزئ؟ فأجاب: إن كان أمر المقيم ولا سمعها فقد أجزأت، وإن كان بغير أمره ولا سمعها فتعاد. سئل الشيخ سعيد بن حجي: عمن إذا سمع النداء قام ... إلخ؟ فأجاب: قال في الإقناع: يستحب أن لا يقوم إذا أخذ المؤذن في الأذان، بل يصبر قليلاً لأن في التحرك عند النداء الجزء: 4 ¦ الصفحة: 212 تشبهاً بالشيطان، فلعل مراده قوله صلى الله عليه وسلم: " إذا نودي بالصلاة، أدبر وله ضراط حتى لا يسمع التأذين " 1، رواه البخاري ومسلم. وسئل: إذا سمع النداء وهو يقرأ القرآن، أو يسبح، هل يقطع ويجيب أم لا؟ فأجاب: قال في الأذكار إذا كان يقرأ القرآن، أو يسبح أو يقرأ حديثاً، أو علماً آخر، أو غيره، فإنه يقطع جميع هذه ويجيب المؤذن، ثم يعود إلى ما كان فيه، وحيث لم يتابعه حتى فرغ المؤذن، يستحب أن يتدارك المتابعة ما لم يطل الفصل. وقال في الإقناع: فيقطع التلاوة ويجيب لأنه يفوت والقراءة لا تفوت. انتهى. فظهر أن المختار قطع القراءة، ومتابعة المؤذن، وأنه إذا لم يتابعه يتدارك بالقضاء إن لم يطل الفصل. وسئل الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين: عن مجيب المؤذن هل يجوز له الكلام بين كلمات الإجابة أو يكره؟ فأجاب: لم أر في ذلك كلاماً لأحد، والظاهر عدم الكراهة، مع أن الأولى عندي أن لا يشوبه بغيره من الكلام، بخلاف تالي القرآن، فالذي أرى كراهة الإجابة بين الكلمات أو الآيات، فلا يدخل بين أبعاضه ذكراً غير متعلق بالقراءة، كسؤال عند آية رحمة واستعاذة عند آية عذاب، يدل لذلك   1 البخاري: الأذان (608) والجمعة (1222 ,1231) وبدء الخلق (3285) , ومسلم: الصلاة (389) , والنسائي: الأذان (670) والسهو (1253) , وأبو داود: الصلاة (516) , وأحمد (2/313, 2/460, 2/531) , ومالك: النداء للصلاة (154) , والدارمي: الصلاة (1204, 1494) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 213 قول من قال من العلماء: إن القارئ إذا سمع الأذان يقدم إجابة المؤذن على القراءة، لأن ذلك يفوت، والقراءة لا تفوت، ولم يقولوا يجمع بينهما. سئل الشيخ سعيد بن حجي: ما يقول إذا سمع المؤذن؟ فأجاب: قال في الشرح: يستحب لمن سمع المؤذن أن يقول كما يقول، إلا في الحيعلة فإنه يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله؛ وهذا مستحب لا نعلم فيه خلافاً، ثم يقول: "اللهم رب هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة، آت محمداً الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته " 1، رواه البخاري. انتهى. وقال بعض العلماء: كذلك عند الإقامة. سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد، عمن يمر بالمسجد بعد الأذان ... إلخ؟ فأجاب: الذي يمر بالمسجد بعد الأذان فلا يتعداه حتى يصلي، إلا أن يكون في طريقه مسجد آخر يصلي فيه فهذا لا بأس به، إلا أن يكون قد دخل المسجد بعد الأذان، فلا يخرج منه حتى يصلي فيه.   1 البخاري: الأذان (614) , والترمذي: الصلاة (211) , والنسائي: الأذان (680) , وأبو داود: الصلاة (529) , وابن ماجة: الأذان والسنة فيه (722) , وأحمد (3/354) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 214 باب شروط الصلاة قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى: شروط الصلاة تسعة: الإسلام، والعقل، والتمييز، ورفع الحدث، وإزالة النجاسة، وستر العورة، ودخول الوقت، واستقبال القبلة، والنية. الشرط الأول: الإسلام، وضده الكفر؛ والكافر عمله مردود ولو عمل أي عمل، والدليل: قوله تعالى: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ} [سورة التوبة آية: 17] ، وقوله تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} [سورة الفرقان آية: 23] . الثاني: العقل، وضده الجنون؛ والمجنون مرفوع عنه القلم حتى يفيق، والدليل: الحديث: " رُفع القلم عن ثلاثة: النائم حتى يستيقظ، والمجنون حتى يفيق، والصغير حتى يبلغ ". الثالث: التمييز، وضده الصغر، وحدّه سبع سنين؛ ثم يؤمر بالصلاة لقوله صلى الله عليه وسلم: " مروا أبناءكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع " 1.   1 أبو داود: الصلاة (495) , وأحمد (2/180, 2/187) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 215 وقال: الشرط السابع: دخول الوقت، والدليل من السنة: حديث جبريل عليه السلام، أنه أم النبي صلى الله عليه وسلم في أول الوقت، وفي آخره، ثم قال: يا محمد الصلاة ما بين هذين الوقتين، والدليل: قوله تعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً} [سورة النساء آية: 103] ، أي: مفروضاً في الأوقات. ودليل الأوقات: قوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً} [سورة الإسراء آية: 78] . وسئل ابنه: الشيخ عبد الله: عن أوقات الصلوات الخمس؟ فأجاب: وقت صلاة الصبح: إذا طلع الفجر المعترض الأبيض، وآخره: عند طلوع الشمس. والظهر: إذا زالت الشمس، وآخر وقتها: إذا صار ظل كل شيء مثله من غير ظل الزوال. ووقت صلاة العصر: من خروج وقت الظهر إلى أن يصير ظل كل شيء مثله مرتين. والمغرب: إذا غربت الشمس. والعشاء: إذا غاب الشفق، وآخره: ثلث الليل. وأجاب أيضاً: وأما الصلاة فوقت النهار لا أعرف ضبطه بالأقدام، لأن الأقدام تختلف اختلافاً كثيراً مع تغير الفصول. والموجود في كلام الرسول صلى الله عليه وسلم أن وقت الظهر: إذا زالت الشمس إلى أن يصير ظل كل شيء مثله. ووقت العصر: بعد ذلك إلى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 216 أن يصير ظل كل شيء مثليه؛ ويعرف ذلك في جميع الأيام بأن ينصب عوداً في مكان مستو، فما دام ظل العود ينقص فالشمس لم تزل حتى يزيد، فإذا زاد فقد زال الظل. سئل بعضهم: عن المواقيت، وحديث جبريل، وكلام أهل العلم فيهما، فإن الحاجة داعية إلى ذلك؟ فأجاب: الأصل في المواقيت، الكتاب والسنة والإجماع. أما الكتاب: قال الله سبحانه وتعالى: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَعَشِيّاً وَحِينَ تُظْهِرُونَ} [سورة الروم آية: 17-18] ، قال ابن عباس، رضي الله عنهما: أراد بـ: {حِينَ تُمْسُونَ} صلاة المغرب والعشاء، و {وَحِينَ تُصْبِحُونَ} صلاة الصبح، {وَعَشِيّاً} صلاة العصر، {وَحِينَ تُظْهِرُونَ} صلاة الظهر. وأما السنة: عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم " جاءه جبريل، فقال له: قم فصلّه، فصلى الظهر حين زالت الشمس. ثم جاءه العصر فقال: قم فصلّه، فصلى العصر حين صار ظل كل شيء مثله. ثم جاءه المغرب فقال: قم فصلّه، فصلى المغرب حين وجبت الشمس. ثم جاءه العشاء فقال: قم فصلّه، فصلى العشاء حين غاب الشفق. ثم جاءه الفجر فقال: قم فصلّه، فصلى الفجر حين برق الفجر، أو قال سطع الفجر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 217 ثم جاءه من الغد للظهر، فقال: قم فصلّه، فصلى الظهر حين صار ظل كل شيء مثله. ثم جاءه العصر، فقال: قم فصلّه، فصلى العصر حين صار ظل كل شيء مثليه. ثم جاءه المغرب وقتاً واحداً لم يزل عنه. ثم جاءه العشاء حين ذهب نصف الليل، أو قال ثلث الليل فصلى العشاء. ثم جاءه: حين أسفر جداً، فقال: قم فصلّه، فصلى الفجر. ثم قال: ما بين هذين الوقتين وقت " 1، رواه أحمد والنسائي، والترمذي بنحوه، وقال البخاري: هو أصح شيء في المواقيت. فتأمل أيها المسترشد: ما في هذا الحديث من البيان لمواقيت الصلاة، فإنه صرح لكل صلاة ثلاثة أحوال: أول، وأوسط، وآخر. فالأول للفضيلة، والأوسط هو المختار، والآخر للجواز، إلا المغرب فإن وقته واحد. فأما أول وقت الظهر: فإنه في أول زوال الشمس إلى جهة المغرب، ويمتد وقتها إلى أن يصير ظل كل شيء مثله. فإذا زال الظل عن ذلك ولو قدر عرض إصبع، دخل وقت العصر، وامتد إلى غروب الشمس. وهكذا سائر الأوقات بين الوقتين حاجز، إلا الفجر والظهر؛ لكن مما ينبغي معرفة الظل، الذي به دخول الوقت، أنه ظل الزوال الزائد على الظل الذي قبله، فإن الله سبحانه وتعالى جعل في السماء بروجاً، كما قال تعالى: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ} [سورة البروج آية: 1] ، وقد ذكرها أهل التفسير أنها اثنا عشر   1 أحمد (3/330) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 218 برجاً، والشمس تنْزل في كل برج أياماً معلومة عند أهل المعرفة. الحمل تنزله 31 يوماً، والثور تنْزله 31 يوماً، والجوزاء 31 يوماً، والسرطان 31 يوماً، والأسد 31 يوماً، والسنبلة 31 يوماً، والميزان 31 يوماً، والعقرب 31 يوماً، والقوس 29 يوماً، والجدي 29 يوماً، والدلو 30 يوماً، والحوت 30 يوماً، وفي كل برج للظل حكم غير حكم الأول. فالظل الذي قبل الزوال يزيد وينقص بحسب منْزلة الشمس في هذه البروج؛ فإذا كانت الشمس في برج السرطان - وهو أول بروج فصل الصيف - فينتهي علوها الشاخص لا ظل له، ولو يزيد ظله عرض إصبع دخل وقت الظهر. وإذا كانت الشمس في برج الجدي - وهو أول بروج فصل الشتاء - فالظل حينئذ ثمانية أقدام، وإذا زاد ولو شيئاً يسيراً دخل وقت الظهر، والشمس في منتهى الانحطاط. والحاصل: أن أول وقت الظهر: زوال الشمس، وآخره: إذا صار ظل كل شيء مثله، غير الظل الذي قبل الزوال. وأول وقت العصر: إذا زاد الظل عن مثله ولو شيئاً يسيراً غير الظل الذي قبل الزوال؛ وإنما يعرف هذا من له اعتناء بأقوال العلماء المبلغين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم هديه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 219 قال صاحب تحفة الحبيب: إذا أردت معرفة الزوال، فاعتبرها بقامتك، أو شاخص تقيمه في أرض مستوية، وعلم على رأس الظل، فما زال الظل ينقص من الخط، فهو قبل الزوال، وإن أخذ الظل في الزيادة علم أن الشمس زالت. قال العلماء: وقامة كل إنسان ستة أقدام ونصف، والله أعلم. وأجاب الشيخ سعيد بن حجي: تجب معرفة أوقات الصلاة، لأنها من شروطها؛ قال في الإفصاح: اختلفوا في وقت وجوب الصلاة: فقال مالك، والشافعي، وأحمد: تجب بأول وقت الظهر إذا زالت الشمس، وأنه لا يجوز أن يصلي قبل الزوال. انتهى. وقال الموفق في الكافي: الأولى: الظهر، لما روى أبو برزة قال: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الهجير التي تدعونها الأولى حين تدحض الشمس، يعني تزول " 1، متفق عليه. وأول وقتها: إذا زالت الشمس، وآخره: إذا صار ظل كل شيء مثله، بعد القدر الذي زالت الشمس عليه، لما روى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أمني جبرئيل عند البيت مرتين، فصلى بي الظهر في المرة الأولى حين زالت الشمس والفيء مثل الشراك، ثم صلى بي المرة الأخيرة حين صار ظل كل شيء مثله، وقال: الوقت ما بين هذين " 2، رواه أبو داود والترمذي وحسنه؛ ويعرف زوال الشمس بطول الظل بعد تناهي قصره.   1 البخاري: مواقيت الصلاة (547) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (647) , والنسائي: المواقيت (530) , وابن ماجة: الصلاة (674) , والدارمي: الصلاة (1300) . 2 الترمذي: الصلاة (149) , وأبو داود: الصلاة (393) , وأحمد (1/333) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 220 وقال الشارح - يعني صاحب الشرح الكبير على المقنع -: والظهر هي الأولى، ووقتها: من زوال الشمس إلى أن يصير ظل كل شيء مثله، بعد الذي زالت عليه الشمس؛ ومعنى زوال الشمس: ميلها عن وسط السماء، وإنما يعرف ذلك بطول الظل بعد تناهي قصره، لأن الشمس حين تطلع يكون الظل طويلاً، وكلما ارتفعت الشمس قصر الظل، فإذا مالت عن كبد السماء شرع في الطول، فذلك علامة زوال الشمس؛ فمن أراد معرفة ذلك فليقدر ظل شيء، ثم ليصبر قليلاً ثم يقدر ثانيا، فإن نقص لم يتحقق، وإن زاد فقد زالت الشمس، وكذلك إن لم ينقص، لأن الظل لا يقف فيكون قد نقص. وتعجيلها في غير شدة الحر والغيم أفضل، بغير خلاف علمناه؛ ويستحب تأخيرها في شدة الحر، قال القاضي: إنما يستحب الإبراد بثلاثة شروط: شدة الحر، وأن يكون في البلاد الحارة، ومساجد الجماعات. فأما صلاة الجمعة فلم ينقل أنه صلى الله عليه وسلم أخرها، بل كان يعجلها. ثم العصر وهي الوسطى، وأول وقتها: من خروج وقت الظهر، وآخره: إذا صار ظل كل شيء مثليه سوى ظل الزوال. انتهى. وهو قول مالك، والشافعي; وعنه: ما لم تصفر الشمس. قال ابن عبد البر: أجمع العلماء على أن من صلى العصر والشمس بيضاء نقية فقد صلاها لوقتها، وتعجيلها أفضل بكل حال. انتهى. وقال في الكافي: تعجيلها أفضل بكل حال، لقول الجزء: 4 ¦ الصفحة: 221 أبي برزة في حديثه: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي العصر ثم يرجع أحدنا إلى رحله في أقصى المدينة والشمس حية "، متفق عليه 1. وقد نظم بعض العلماء معرفة وقت الظهر والعصر، فقال: أيا سائلي عن زائد الظل والقصر ... وظل زوال هاك وصفاً على العصرِ فخذ أنت عوداً ذا اعتدال وطوله ... كشبر وإن زاد القياس على الشبرِ ومن بعد فانصبه بأرض سوية ... لتعلم كون الظل في دائم الدهرِ فما زال في نقص فزده بنقصه ... إلى أن تراه واقفاً زائد القدر فأول وقت للزوال زيادة ... وحين زوال الشمس من أول الظهر وكن عارفاً للظل كم قد مضى له ... لتعلم تحقيق الصواب من القدر وصف سبعة الأقدام فوق الذي مضى ... فذلك حقاً أول الوقت للعصر وقال في الإقناع: طول ظل كل إنسان سبعة أقدام بقدم نفسه تقريباً، إلا ثلث قدم. انتهى. فقد عرفت، رحمك الله، مما مر أن أول وقت الظهر: الزوال بالإجماع، وأن الزوال يعرف بطول الظل بعد تناهي قصره، وأن آخره: إذا صار ظل كل شيء مثله بعد ظل الزوال، وأن تعجيلها أفضل بكل حال إلا ما استثني، وأن أول وقت العصر: من حين خروج وقت الظهر، وأن تعجيلها أفضل بكل حال.   1 البخاري: مواقيت الصلاة (547, 599) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (647) , والنسائي: المواقيت (530) , وأحمد (4/420, 4/425) , والدارمي: الصلاة (1300) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 222 سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عن الشفق هل هو الحمرة الساطعة؟ فأجاب: وما ذكرت من حال غلط بعض الناس في معرفة الشفق، فعلى ما ذكرت، يسمعون أن الشفق الحمرة، ويظنونه حمرة ساطعة؛ وإنما هو بياض تخالطه حمرة، ثم تذهب ويبقى بياض خالص، والذي بينهما زمن قليل؛ ولهذا قال في المغني: يستدل بغيبة البياض على مغيب الحمرة، فيعتبر غيبة البياض، لدلالته على مغيب الحمرة لا لنفسه. سئل الشيخ عبد الله بن عبد العزيز العنقري: عن صلاة النساء بعد الزوال قبل الأذان؟ فأجاب: وأما صلاة النساء بعد الزوال قبل الأذان، فدخول الوقت شرط في صحة الصلاة، فإذا حصل شرطها صحت لا سيما في حق النساء، لأنهن لا تجب عليهن الجماعة. وأما قولك عن بعض العامة: ما لهن صلاة إلا بعد فراغ الرجال من صلاتهم، فلا أصل لذلك. سئل الشيخ حمد بن عتيق: عن المرأة إذا رأت الدم في آخر الوقت؟ فأجاب: تجب عليها الصلاة إذا طهرت، وإذا رأت الطهر قبل غروب الشمس فعليها أن تغتسل وتصلي إذا أمكنها الجزء: 4 ¦ الصفحة: 223 قبل الغروب، وتصلي الظهر والعصر. وكذلك إذا رأت الطهر قبل طلوع الفجر فتغتسل وتصلي المغرب والعشاء، وإذا رأت الطهر قبل طلوع الشمس فتغتسل وتصلي الفجر. سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: عن قضاء الفوائت بالتيمم ... إلخ؟ فأجاب: أما المجدور الذي عليه صلوات فائتة، هل يقضيها إذا قدر بالتيمم؟ فالأمر كذلك يلزمه القضاء بالتيمم، والقضاء واجب على الفور، ويتيمم، ويقضي الفوائت ولا يؤخرها حتى يقدر على الماء، لأن الواجب لا يؤخر عن وقته. وأما قولك: هل يصلي كل وقت مع وقته؟ فليس الأمر كذلك، بل ذكروا أنه يجب عليه القضاء متتابعاً إلا أن يضر به ذلك بحيث لا يقدر، فيقضيها بحسب الاستطاعة، في وقتين، أو ثلاثة، أو يومين، أو ثلاثة؛ وعبارتهم: ومن فاتته صلوات لزمه قضاؤها على الفور مرتباً، ما لم يتضرر بذلك في بدنه، أو يشتغل به عن معيشة هو محتاج إليها. وأجاب الشيخ حمد بن ناصر بن معمر: وأما قضاء الفوائت، فالمشهور وجوب القضاء على الفور مرتباً، قَلَّتِ الفوائت أو كثرت. وإذا صلى الحاضرة قبل الفائتة، فإن كان ناسياً للفائتة سقط الترتيب، ويصلي الفائتة ولا يقضي الحاضرة، لأن الترتيب يسقط بالنسيان. انتهى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 224 وسئل الشيخ حسين بن الشيخ محمد، رحمهم الله: عمن صلى محدثاً، أو صلى صلاة فاسدة ثم صلى بعدها صلوات صحيحة قبل أن يقضي تلك الصلاة الفاسدة، ما حكم الترتيب؟ فأجاب: هذه المسألة فيها تفصيل: فإن كان لم يذكر الصلاة الفاسدة إلا بعد فراغه من الصلاة فليس عليه ترتيب، لأن الترتيب يسقط بالنسيان، قَلَّتِ الصلوات أو كثرت، لقوله عليه السلام: " عفي لأمتي الخطأ والنسيان " 1. وإن ذكر أن عليه صلاة وهو في أخرى، كما لو ذكر أن عليه صلاة الظهر وقد شرع في صلاة العصر، فإنه يتم العصر؛ ثم هل يجب عليه إعادة العصر، فيه قولان للعلماء، والأحوط: الإعادة كما هو المشهور عن أحمد، لأنه عليه السلام عام الأحزاب " صلى المغرب، فلما فرغ قال: هل علم أحد منكم أني صليت العصر؟ قالوا: يا رسول الله ما صليتها، فأمر المؤذن فأقام الصلاة فصلى العصر، ثم صلى بعدها المغرب " 2، رواه أحمد. وسئل الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين: عمن صلى ناسياً حدثه ... إلخ؟ فأجاب: من صلى صلاة ناسياً حدثه بالصلوات الخمس، ولم يذكر إلا بعد ما صلى الظهر، فإنه يعيد الفجر فقط؛ قال في الفروع لما ذكر أن الترتيب يسقط بالنسيان على   1 ابن ماجة: الطلاق (2045) . 2 أحمد (4/106) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 225 الأصح، قال: وقال أبو المعالي وغيره: تبين بطلان الصلاة الماضية كالنسيان، ولما ذكر أيضاً أن المذهب عدم سقوط الترتيب بالجهل بالوجوب، قال: فلو صلى الظهر، ثم الفجر جاهلاً، ثم العصر في وقتها، صحت عصره لاعتقاده ألا صلاة عليه، كمن صلاها ثم تبين له أنه صلى الظهر بلا وضوء أعاد الظهر، والله أعلم. وجدت بخط الشيخ عبد اللطيف بن الشيخ عبد الرحمن بن حسن، رحمهم الله، وعليه ختمه ما نصه: ذكر ابن عقيل فيمن عليه فائتة وخشي فوات الجماعة روايتين: إحداهما: يسقط الترتيب، لأنه اجتمع واجبان لا بد من تفويت أحدهما، فكان مخيراً فيهما. والثانية: لا يسقط؛ قال شيخنا: وهذه الرواية أحسن وأصح، إن شاء الله تعالى. سئل الشيخ حمد بن عتيق: عن القضاء وقت النهي؟ فأجاب: من نام عن الصلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها لا كفارة لها إلا ذلك، ولو في وقت النهي، للحديث. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 226 فصل قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى: الشرط السادس: ستر العورة، أجمع أهل العلم على فساد صلاة من صلى عرياناً وهو يقدر؛ وَحَدُّ عورة الرجل: من السرة إلى الركبة، والأَمَة كذلك، والحرة كلها عورة إلا وجهها، والدليل قوله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [سورة الأعراف آية: 31] ، أي: عند كل صلاة. سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: عمن يصلي مكشوف الرأس ... إلخ؟ فأجاب: الذي يصلي وهو مكشوف الرأس، فلا أرى عليه بأساً؛ وستر الرأس في الصلاة ليس بواجب، لأن الرأس ليس بعورة في حق الرجل، وإنما هو عورة في حق المرأة. فإذا عرفت أن الذي يصلي ورأسه مكشوف أن صلاته جائزة، فالذي يصلي وعلى رأسه قلنسوة أولى وأحرى. وسئل: عن المجدور هل يصلي في سلبه؟ فأجاب: المجدور إذا كان في أسلابه نجاسة لزمه أن يصلي في غيرها، فإن عجز عن غيرها بحيث أنه لم يكن له الجزء: 4 ¦ الصفحة: 227 إلا سلب واحد، ولا يقدر على غيره والذي عليه لا يقدر على أن يحفظه عن النجاسة، فإنه يصلي فيه ولا يصلي عرياناً. ولكن كثيرا من الناس يتساهل في هذا: فتجد من يقدر أن ينْزع سلبه ويصلي في غيره لا يفعل ذلك، وهذا أمر كبير؛ بل تجد من الناس من يقدر على الوضوء والغسل من الجنابة، ولا يغتسل ولا يتوضأ، ويعدل إلى التيمم بلا مشقة. ومنهم من يصلي قاعداً مع قدرته على القيام. وكل هذه أمور خطرة على العوام؛ فينبغي لطالب العلم أن يفطنهم لما يجب عليهم من هذا، ويبين لهم حالة العذر التي تباح فيها الرخصة. وأجاب أيضاً: إن كانت النجاسة في ثيابه، وقدر على خلعها ويلبس ثياباً طاهرة، وجب عليه ذلك، لقوله صلى الله عليه وسلم: " إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم " 1، فإن لم يقدر على خلعها صلى فيها، ولا إعادة عليه في أصح القولين. وأجاب بعضهم: وأما مسألة من حضرته الصلاة وليس عنده إلا ثوب نجس أو ثوب حرير، فقال في الشرح: ومن لم يجد إلا ثوباً نجساً صلى فيه، لأن ستر العورة آكد من إزالة النجاسة. قال الشافعي: يصلي عرياناً؛ والمفتى به الأول. وأجاب الشيخ عبد الله أبا بطين: أما إذا صلى إنسان في ثوب نجس، لكونه لا يجد غيره، أو على بدنه نجاسة لا يمكنه إزالتها، فهذا يصلي على حسب حاله؛ وهل يجب عليه   1 البخاري: الاعتصام بالكتاب والسنة (7288) , ومسلم: الحج (1337) , وابن ماجة: المقدمة (2) , وأحمد (2/258, 2/428) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 228 إعادة أم لا؟ فقد حكوا فيمن لم يجد إلا ثوباً نجساً، وصلى فيه، هل عليه إعادة؟ حكوا في المسألة قولين للعلماء، هما روايتان عن أحمد، والمشهور عن أحمد أنه يعيد. سئل الشيخ حمد بن عتيق: عن المرأة إذا بلغت هل تصلي بغير خمار؟ فأجاب: من بلغت - يعني حاضت - فلا تجزيها الصلاة إلا بخمار. سئل الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن: عمن صلى وعلى رأسه عمامة حرير؟ فأجاب: المشهور في مذهب الحنابلة صحة الصلاة - بخلاف ما إذا ستر عورته بحرير فإنها لا تصح -، وقال بعض أهل العلم بعدم الصحة. سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: هل تصح الصلاة في النعل؟ فأجاب: وأما الصلاة في النعل فجائزة إذا لم يكن فيها نجاسة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 229 فصل قال الشيخ حسين وإبراهيم وعبد الله وعلي، أبناء الشيخ محمد بن عبد الوهاب، والشيخ حمد بن ناصر، رحمهم الله: علامة القزية مغفول عنها مدة طويلة، وسبب الغفلة عدم استحضارنا أنها حرير، وأنها مما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم تبين لنا أنها حرير، ونبيكم صلى الله عليه وسلم أخبر أن لبس الحرير حرام على الرجال، وأن من لبسه في الدنيا لم يلبسه في الآخرة، ولم يرخص إلا في موضع أصبعين أو ثلاث، أو أربع؛ هذا ثابت في أحاديث صحيحة ليس لها معارض. ففي الصحيحين عن ابن عمر، رضي الله عنهما، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من لبس الحرير في الدنيا فلن يلبسه في الآخرة " 1، رواه البخاري ومسلم. وعن أبي موسى رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أحل الذهب والحرير للإناث من أمتي، وحرم على ذكورها " 2، قال الترمذي: حديث صحيح، وفي البخاري عن حذيفة قال: " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لبس الحرير والديباج، وأن يجلس عليه " 3، وفي الصحيحين أيضاً عن عمر رضي الله عنه قال: " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن   1 البخاري: اللباس (5832) , ومسلم: اللباس والزينة (2073) , وابن ماجة: اللباس (3588) , وأحمد (3/101, 3/281) . 2 الترمذي: اللباس (1720) , والنسائي: الزينة (5148) , وأحمد (4/392) . 3 البخاري: اللباس (5837) , وأحمد (5/398, 5/400, 5/408) , والدارمي: الأشربة (2130) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 230 لبس الحرير إلا هكذا، ورفع لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إصبعيه الوسطى والسبابة وضمهما " 1، وفي صحيح مسلم عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم " نهى عن لبس الحرير إلا موضع اصبعين" أو ثلاث أو أربع 2. فهذه أحاديث صحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم في النهي عن لبس الحرير، إلا في هذا القدر اليسير، وهو موضع إصبعين، وفي الحديث الذي عند مسلم: " أو ثلاث أو أربع "، وما زاد على ذلك فلا يباح 3. ويكون عندكم معلوماً: أنا طالعنا كتب الحديث وشروحها، وكلام السلف والأئمة، فوجدنا كلامهم على ما ذكرنا. ونص الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة وغيرهم، على أن علم الحرير لا تجوز الزيادة فيه على أربع أصابع مضمومة، وأما: ما زاد على أربع الأصابع فلا يباح؛ وكذلك سناجيف الجوخة، وسناجيف القباء وأمثاله، والكلاه والطربوش، كل هذا حكمه حكم العلم، لا تجوز الزيادة فيه على أربع أصابع، فمن زاد على هذا القدر الذي رخص فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد أساء وتعدى وظلم. ويكون عندكم معلوما أيضاً: أن علامة القطنية مثل القزية ما يزاد فيها على قدر أربع أصابع، لأن الحكم عند أكثر أهل العلم على ما ظهر من الحرير؛ فإن كان الظاهر الحرير والسدى قطن، فهو عندهم مثل الحرير الخالص، لأنهم يعتبرون الظهور ولا يعتبرون الوزن، ومن اعتبر الوزن فقد خالف ظواهر الأدلة. واستدلوا على ذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم "نهى   1 البخاري: اللباس (5829) , ومسلم: اللباس والزينة (2069) , وأبو داود: اللباس (4042) , وأحمد (1/15, 1/43, 1/50, 1/51) . 2 مسلم: اللباس والزينة (2069) , والنسائي: الزينة (5313) , وأحمد (1/51) . 3 مسلم: اللباس والزينة (2069) , والنسائي: الزينة (5313) , وأحمد (1/51) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 231 عن حلة السيراء، ونهى عن القسي " 1 وهو ثياب مضلعة بالحرير فنهى عنها، ولم يعتبر الوزن بل جعل الحكم للظهور. فالذي نوصيكم به: تقوى الله تعالى وطاعته، وطاعة رسوله فيما أمر به، وفيما نهى عنه؛ قال الله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [سورة الحشر آية: 7] ، ولا يعارض بقول أحد من الناس أو فعله. ومن أشد ما يكون خطراً على الإنسان مثل أن يقول: علامة القطنية متقدم حدوثها ولبسها فلان ولبسها فلان؛ وهذا أمر عظيم وخطره خطر كبير، {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} [سورة النور آية: 15] . والواجب على من سمع حكم الرسول صلى الله عليه وسلم: المبادرة إلى طاعته فيما أمر، والانتهاء عما عنه زجر؛ فلا يحل أن يعارض كلام الرسول صلى الله عليه وسلم بكلام أحد ولا فعله، وكل أحد ولو كان من أعلم الناس يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال ابن عباس، رضي الله عنهما، للذي عارض الحديث بقول أبي بكر وعمر: "يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء، أقول: قال رسول الله، وتقولون: قال أبو بكر وعمر ". وقال الإمام أحمد: عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته، يذهبون إلى رأي سفيان، والله تعالى يقول: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [سورة النور آية: 63] ، أتدري ما   1 مسلم: اللباس والزينة (2078) , والترمذي: الصلاة (264) واللباس (1725, 1737, 1786) , والنسائي: التطبيق (1040, 1042) والزينة (5169, 5170, 5172, 5173 5183, 5270, 5271) , وأبو داود: اللباس (4044) , وأحمد (1/119) , ومالك: النداء للصلاة (177) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 232 الفتنة؟ الفتنة: الشرك؛ لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك. فالواجب على الإنسان: حفظ لسانه عما يهلكه وهو لا يدري، كما في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: " إن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً، يهوى بها في النار أبعد مما بين المشرق والمغرب " 1. وأما من كان عنده علم عن الله، أو عن رسوله في هذه المسألة، أو في غيرها، فيعرضه علينا ونقبله، ونرجع إلى الحق؛ فإن الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل، ونسأل الله العظيم: أن يهدينا وإياكم صراطه المستقيم. ثم كتب الإمام عبد العزيز بن محمد بن سعود إلى الإخوان: هذا كتاب آل الشيخ، تشرفون على ما فيه من الأدلة التي لا تنكر في مسألة العلامة التي تجعل في العبي وغيرها من الحرير، فيكون عندكم معلوماً أن إخوانكم من أهل الدرعية، عملوا على ما في الورقة، فأنتم اعملوا على مثل ما عملوا؛ ومن وجد دليلاً يخالف ما فيها، فالحق مقبول متبوع، والرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل. وأجاب أيضاً: الشيخ حمد بن ناصر بن معمر: أما لبس الحرير فذكر العلماء: أنه يباح لبسه وقت الملاقاة للعدو، كما يباح للتبختر في المشي عند ملاقاة العدو، كما صح بذلك الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رأى رجلاً يتبختر بين   1 سنن ابن ماجة: كتاب الفتن (3970) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 233 الصفين، فقال: "إن هذه المشية يبغضها الله، إلا في هذا الموضع " 1. وسئل: عن علامة القطنية؟ فأجاب: وما سألت عنه من علامة القطنية، فإذا غطيت بخرقة أو صوف وخيطت عليها من داخل العباءة ومن ظاهرها، فلا بأس، لأنها تصير حشواً. وأجاب الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ محمد، رحمهم الله تعالى: الأحاديث النبوية والآثار السلفية قد تواترت بتحريم الحرير على ذكور الأمة، فمنها ما أخرجه: الإمام أحمد، والترمذي، والنسائي، عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أحل الذهب والحرير لإناث أمتي? وحرم على ذكورها " 2. ولأبي داود والنسائي وابن ماجة، عن علي رضي الله عنه قال: " رأيت النبي صلى الله عليه وسلم أخذ حريراً فجعله في يمينه، وذهباً فجعله في شماله، ثم قال: إن هذين حرام على ذكور أمتي " 3، زاد ابن ماجة: "حل لإناثهم ". وللبخاري ومسلم والنسائي، عن حذيفة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " لا تلبسوا الحرير ولا الديباج، ولا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحافها، فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة " 4. ولأحمد والنسائي، عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يستمتع بالحرير من يرجو أيام الله " 5. وللبخاري ومسلم وأهل السنن، عن عمر بن الخطاب   1 صحيح البخاري: كتاب أحاديث الأنبياء (3463) وكتاب المغازي (4418) وكتاب تفسير القرآن (4644, 4661) , وصحيح مسلم: كتاب التوبة (2769) , وسنن الترمذي: كتاب الجنائز (966, 1018) وكتاب صفة جهنم (2583) وكتاب الأدب (2787, 2791) وكتاب تفسير القرآن (3256) وكتاب الدعوات (3507, 3574) وكتاب المناقب (3803) , وسنن النسائي: كتاب الطلاق (3475) وكتاب البيوع (4587) , وسنن أبي داود: كتاب الملاحم (4325) , ومسند أحمد (3/292, 3/456, 4/280) . 2 الترمذي: اللباس (1720) , والنسائي: الزينة (5148) . 3 النسائي: الزينة (5144) , وأبو داود: اللباس (4057) , وابن ماجة: اللباس (3595) . 4 البخاري: الأطعمة (5426) , ومسلم: اللباس والزينة (2067) , والترمذي: الأشربة (1878) , والنسائي: الزينة (5301) , وأبو داود: الأشربة (3723) , وأحمد (5/385, 5/390) , والدارمي: الأشربة (2130) . 5 أحمد (5/267) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 234 رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إنما يلبس الحرير من لا خلاق له " 1، زاد البخاري وابن ماجة والنسائي في رواية: " في الآخرة "، والخلاق: النصيب، وقيل: الحظ، أي: لا نصيب له ولا حظ له في الآخرة. وللإمام أحمد والنسائي، عن المقدام بن معد يكرب رضي الله عنه قال: " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحرير والذهب وسائر النمور " 2. وللدارمي والطيالسي عن أبي عبيدة ابن الجراح رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله بدأ هذا الأمر بنبوة ورحمة، وكائن خلافة ورحمة، وكائن ملكاً عضوضاً، وكائن عتواً وجبرية وفساداً في الأمة، يستحلون الفروج والخمور والحرير، ويرزقون مع ذلك وينصرون حتى يلقوا الله عز وجل "، قال الحافظ السخاوي، رحمه الله: حديث حسن. فهذه الأحاديث، منها ما هو صريح في التحريم، ومنها ما هو ظاهر فيه؛ وما لم أذكره من الأحاديث أضعاف ما ذكرت. وقد أجمع العلماء، رحمهم الله: على تحريم الحرير على الرجال سلفاً وخلفاً، وذكر عن ابن الزبير رضي الله عنه تحريمه على الرجال والنساء، وحكى غير واحد من العلماء بعد ابن الزبير رضي الله عنه الإجماع على تحريمه على الرجال دون النساء. قال أبو عمر بن عبد البر، رحمه الله تعالى: أجمع المسلمون على تحريم الحرير، يعني على الرجال. وسيأتي في حديث عمر، ما يبين تحريمه إلا ما استثني؛ وأَحْسَنَ من   1 البخاري: الأدب (6081) , ومسلم: اللباس والزينة (2068) , وابن ماجة: اللباس (3591) , وأحمد (2/20) , ومالك: الجامع (1705) . 2 النسائي: الفرع والعتيرة (4254) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 235 قال من العلماء، رحمهم الله: إذا لم تفد هذه الأحاديث التحريم، فما في الدنيا محرم. وخرج الإمام أحمد، رحمه الله تعالى، عن أنس بن مالك رضي الله عنه " أن أكيدر دومة أهدى إلى النبي صلى الله عليه وسلم جبة سندس أو ديباج - قبل أن ينهى عن الحرير - فلبسها، فتعجب الناس منها، فقال: والذي نفسي بيده، لمناديل سعد بن معاذ في الجنة أحسن منها " 1، وهذا الحديث صريح بأن الحرير قد أبيح أولاً ثم نهي عنه. وأخرج الإمام أحمد من حديث مبارك بن فضالة بن عبيد، عن الحسن البصري، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إنما يلبس الحرير في الدنيا من لا يرجو أن يلبسه في الآخرة " 2؛ قال الحسن، رحمه الله: "فما بال أقوام يبلغهم هذا عن نبيهم، فيجعلون الحرير في ثيابهم وبيوتهم ". والأحاديث الواردة في تحريم الحرير والوعيد فيه أكثر من أن يتسع لها هذا المختصر، وكفى بهذه الأحاديث زاجراً لمن نهى النفس عن الهوى. قال في شرح المنتقى: وقد عرفت مما سلف من الأحاديث الواردة في تحريم الحرير بدون تقييد، بالظاهر منها تحريم ماهية الحرير، سواء وجدت منفردة أو مختلطة بغيرها؛ ولا يخرج عن التحريم إلا ما استثناه الشارع من مقدار الأربع الأصابع من الحرير الخالص، وسواء وجد ذلك القدر مجتمعاً   1 أحمد (3/234) . 2 أحمد (2/329) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 236 كما في القطعة الخالصة، أو مفرقاً كما في الثوب المشوب. انتهى. وهذا الذي ذكره هو التحقيق، وعليه تجتمع الأحاديث الصحيحة الصريحة؛ فيجب الانقياد لها والتسليم، وتقديمها على كل رأي، كما قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً} [سورة الأحزاب آية: 36] . وقال تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [سورة القصص آية: 50] . وهذا السراج المنير الذي بعثه الله ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، لما شرع لأمته اجتناب الحرير وحرمه على ذكورها، بين لنا مقدار ما يحل منه فيما صح عنه؛ فروى البخاري في صحيحه بسنده عن قتادة، قال: سمعت أبا عثمان النهدي يقول: أتانا كتاب عمر بن الخطاب رضي الله عنه ونحن مع عتبة بن فرقد بأذربيجان: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الحرير إلا هكذا، وأشار بإصبعيه اللتين تليان الإبهام " 1، قال: فيما علمنا، إنه يعني الأعلام، ورواه من طريق الزهري عن عاصم. قال الحافظ، رحمه الله: ولم يقع في رواية أبي عثمان في الصحيح، إلا ذكر الأصبعين، لكن وقع عند أبي داود في هذا الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم " نهى عن الحرير، إلا هكذا   1 البخاري: اللباس (5828) , ومسلم: اللباس والزينة (2069) , والنسائي: الزينة (5312) , وأبو داود: اللباس (4042) , وأحمد (1/15, 1/43) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 237 وهكذا: أصبعين أو ثلاثاً أو أربعاً " 1. ولمسلم من طريق سويد بن غفلة - بضم المعجمة والفاء - أن عمر رضي الله عنه خطب فقال: " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لبس الحرير، إلا موضع أصبعين أو ثلاث أو أربع " 2. وهذا الذي دلت عليه الأحاديث هو المقرر في كتب الأحكام لأئمة الإسلام، ولم يوجد عنهم ما يخالفه; ومن ظن أن في كتبهم ما يناقض ذلك، فقد ظن بهم سوءاً، ونسبهم إلى الجهل، وإنما أُتِيَ من قِبل سوء فهمه وقلة علمه، وقد قال تعالى: {وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ وَذَرُوا ظَاهِرَ الْأِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الأِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ} [سورة الأنعام آية: 119-120] . وأنا أذكر طرفاً من كلام الفقهاء في مذهب الإمام أحمد: قال في الإنصاف: ويباح علَم الحرير إذا كان أربع أصابع فما دونها، يعني مضمومة؛ هذا المذهب ونص عليه، وجزم به في المغني والشرح. وقال في المبدع: ويباح علَم الحرير إذا كان أربع أصابع فما دونها، وفي شرح العمدة: وتعتبر الأصابع عرضاً لا طولاً؛ قلت: القياس بالطول يدخل في المباح ما ليس منه، فلهذا نصوا على أن القياس بعرض الأصابع لا بطولها. وفي جمع الجوامع: ولبنة الجيب، وسجف الفراء، كالعلَم في الإباحة والقدر، وفي حاشية المنتهى على قول المتن: "لا فوق أربع أصابع، يعني: أن ما   1 أبو داود: اللباس (4042) , وأحمد (1/50, 1/51) . 2 مسلم: اللباس والزينة (2069) , والترمذي: اللباس (1721) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 238 ذكر من العلم والرقاع والسجف ولبنة الجيب، إنما يباح إذا كان أربع أصابع معتدلة مضمومة فما دون، لا إذا كانت أكثر. قلت: ومثل هذا في الفروع، والكافي وغيرهما من كتب الأصحاب، لا اختلاف بينهم في ذلك. واعلم: أن موضع الأربع الأصابع، هو ما يتسع لوضعها فيه بغير زيادة ولا نقصان طولاً وعرضاً، فلو زاد الحرير عما توضع عليه الأصابع الأربع، يصلح أن يكون موضعاً لغيرها من الأصابع، فيقال: موضع خمس، أو ست مثلاً، وهكذا كل ما زاد؛ وتخصيص بعض من لا علم عنده، العرض بالحكم، دون الطول، تحكم بلا دليل ولا مستند أصلاً، فلو طولب بالدليل فليس إلى وجوده من سبيل، على أن هذه المحارم التي كثر فيها الحرير، الزيادة فيها على المباح متحققة طولا ًوعرضاً. فصل ويزيد هذا بياناً، ما خرجه البخاري وأبو داود والنسائي، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "أنه رأى حلة سيراء تباع فقال: يا رسول الله، لو ابتعتها تلبسها للوفد إذا أتوك، والجمعة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما يلبس هذا من لا خلاق له " 1. ولمسلم عن علي رضي الله عنه قال: "أهديت لرسول الله صلى الله عليه وسلم حلة سيراء فبعث بها إلي فلبستها، فعرفت   1 البخاري: الجمعة (886) , ومسلم: اللباس والزينة (2068) , والنسائي: الزينة (5295) , وأبو داود: الصلاة (1076) , وابن ماجة: اللباس (3591) , وأحمد (2/103) , ومالك: الجامع (1705) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 239 الغضب في وجهه، وقال: إني لم أعطكها لتلبسها " 1، فأمرني فأطرتها بين نسائي؛ قال أبو داود: السيراء: المضلع بالقز، وقال في النهاية: السيراء بكسر السين، وفتح الياء، ومد: نوع من البرود يخالطه حرير، كالسيور. وفي شرح البخاري للعيني، عن الأصمعي والخليل وآخرين: أنها ثياب فيها خطوط من حرير أو قز. انتهى. قلت: وأنت ترى هذه المحارم مضلعة بالحرير الخالص، لأن السدى كله حرير، واللحمة مضلعة بحرير، فهي أشد من السيراء؛ فإن ضلوع الحرير في السيراء إنما هو في اللحمة الظاهرة فقط، وهذا ظاهر من تفسير العلماء للسيراء، وفيها أمر زائد على ما في السيراء أيضاً، وهو ما يترك من السدى للأهداب، فإنه ذراع في ذراعين من كلا جانبيها من الحرير الخالص. وقد عرفت من الأحاديث الصحيحة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبح من الحرير إلا موضع أربع أصابع فما دون، قال الحافظ في شرح البخاري: وبعد الاستثناء يقتصر على القدر المستثنى، فالزائد عليه حرام عند أهل العلم من الفقهاء وغيرهم، لقوة الدليل قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً} [سورة الأحزاب آية: 36] .   1 البخاري: الهبة وفضلها والتحريض عليها (2614) والنفقات (5366) واللباس (5840) , ومسلم: اللباس والزينة (2071) , والنسائي: الزينة (5298) , وأبو داود: اللباس (4043) , وأحمد (1/90, 1/92, 1/118, 1/153) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 240 فصل وقد تقدم أن الحكم يتناول الخالص، والمشوب المنسوج بغيره، على الصحيح من أقوال العلماء، رحمهم الله، وعند بعضهم: أن المشوب المختلط بغير المنسوج، يعتبر بالقلة والكثرة، كما هو مذكور في كتب الفقه في مذهب أحمد، وأبي حنيفة، والشافعي، ولهم طريقان: أحدهما: أن الاعتبار بالوزن، وهذا هو المشهور عند الشافعية، والأول ذكره صاحب التحفة عن القفال وجمع من متقدميهم، وذكره الزيلعي في شرح الكنْز عن بعض الحنفية، وهو المشهور عند متأخري الحنابلة. فإن استوى فوجهان، اختلف الترجيح عند بعضهم، قال ابن عقيل: الأشبه أن يحرم لعموم الخبر، قال: وهو الأشبه بكلام أحمد، رحمه الله، ولأن النصف كثير، وليس تغليب التحليل بأولى من التحريم. قلت: وهذان الطريقان ضعيفان عند المحققين، كما تقدم بيانه عن شارح المنتقى، من أنه لا يباح من الحرير إلا مقدار أربع أصابع، سواء وجد ذلك مجتمعاً أو مفرقاً، ونسب هذا القول إلى شيخ الإسلام ابن دقيق العيد. قلت: ومثله للشيخ أحمد بن تيمية، رحمه الله، فإنه قال: وحديث القسي والسيراء، يستدل به على تحريم ما الجزء: 4 ¦ الصفحة: 241 ظهر فيه الحرير، لأن فيه خطوط حرير، وسيور الأبدان تنسج مع غيرها من الكتان والقطن؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم حرمها لظهور الحرير فيها، ولم يسأل هل وزن ذلك الموضع من الكتان والقطن أكثر أم لا، مع أن العادة أنه أقل. انتهى. وقال الحافظ في الفتح: واستدل بالنهي عن لبس القسي على منع لبس ما خالطه الحرير من الثياب لتفسير القسي بأنه: ما خالط غير الحرير فيه الحرير؛ ويؤيده عطف الحرير على القسي في حديث البراء، ووقع كذلك في حديث علي عند أحمد، وأبي داود والنسائي، بسند صحيح على شرط الشيخين، من طريق عبيدة عن ابن عمرة وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القسي والحرير " 1؛ فعلى هذا، يحرم لبس الثوب الذي خالطه الحرير. انتهى. وحديث النهي عن القسي، أخرجه مسلم أيضاً عن علي رضي الله عنه. قال الخطابي، رحمه الله، القسي: ثياب يؤتى بها من مصر، فيها حرير، وإنما حرمت هذه على الرجال دون النساء. انتهى. فانظر كيف جزم هؤلاء الأئمة بتحريم ما خالطه الحرير على الرجال، من غير اعتبار كثرة ولا قلة تمسكاً بما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وناهيك بهؤلاء علماً وتحقيقاً؛ فلا تعدل عن سبيلهم.   1 النسائي: التطبيق (1040) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 242 وقد ذكر ابن حزم وغيره، عن ابن عمر رضي الله عنهما، أنه قال:" اجتنبوا من الثياب ما خالطه الحرير "، وممن قال به من التابعين: الحسن رضي الله عنه وابن سيرين، رحمه الله. وقد يورد بعض أهل الوقت: أنه كان عند بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم جبة مكفوفة بحرير، وذكرت أنه كان يلبسها. فأقول: قد أجاب الحافظ ابن حبان، رحمه الله، عن مثل ذلك، بأنه لو جمع ما في القباء الذي لبسه النبي صلى الله عليه وسلم لم يجاوز أربع أصابع، هذا معنى كلامه، وهو مشهور عنه؛ والظاهر: أن المكفوف بالحرير، الخيوط التي يخاط بها حاشية الجبة ونحوها، وهذا هو المعروف في عرف الخياطين، وغيرهم. فلا تمسك له بهذا الحديث لما قد عرفت، على أنه معارض بما أخرج البزار والطبراني، عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: " رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم جبة مجيبة بحرير، فقال: طوق من نار يوم القيامة " 1، قال الحافظ المنذري: رواته كلهم ثقات. وأخرج أبو داود بسند صحيح، عن عمران بن حصين رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا أركب الأرجواني، ولا ألبس المعصفر، ولا القميص المكفوف بالحرير " 2، قال- يعني قتادة -: فأومأ الحسن إلى جيب قميصه. انتهى.   1 سنن أبي داود: كتاب العلم (3658) , ومسند أحمد (2/263, 2/305, 2/344) . 2 أبو داود: اللباس (4048) , وأحمد (4/442) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 243 فأخبر الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم أنه لا يلبس المكفوف بالحرير، فيجب تصديقه فيما أخبر به عن ربه، وعن نفسه، لا يمتري في شيء من أخباره مؤمن قط، فما تركه ونهى عنه، يجب تركه طاعة لله ورسوله، قال تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [سورة النور آية: 52] . فصل وأما الخز، فذهب الإمام أحمد وأكثر الفقهاء، إلى إباحة لبسه، وذكر في الشرح: أنه قول ابن عمر، وأنس، وأبي هريرة، والحسن بن علي، وابن عباس، وغيرهم من الصحابة. قال المجد في شرحه: الخز: ما سدي بالإبريسم، وألحم بوبر، أو صوف ونحوه، لغلبة اللحمة على الحرير. انتهى. وذهب ابن حزم إلى أنه لا يجوز لبس الخز، قال: ولا يصح في ثوب سداه حرير خبر أصلاً، لأن الرواية فيه عن ابن عباس انفرد به حصين، وهو ضعيف. انتهى. ومن الدليل لذلك، ما خرجه الإمام أحمد عن علي بن زيد، قال: قدمت المدينة فدخلت على سالم بن عبد الله وعلي جبة خز، فقال لي سالم: ما تصنع بهذه الثياب؟ سمعت أبي يحدث عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 244 رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إنما يلبس الحرير من لا خلاق له " 1. قال في شرح المنتقى: ولا متمسك للقائلين بحل المشوب إذا كان الحرير مغلوباً، إلا قول ابن عباس فيما أعلم; فانظر أيها المنصف، هل يصلح كونه جسراً تذاد عنه الأحاديث الواردة في تحريم مطلق الحرير ومقيده؟ وهل ينبغي التعويل عليه في مثل هذا الأصل العظيم، مع أن في إسناده ما يوجب سقوط الاستدلال به، على فرض تجرده عن المعارضات. انتهى. قلت: والمعارضات لحديث ابن عباس، رضي الله عنهما، هذا كثيرة، صحيحة من رواية الأكابر من الصحابة، رضي الله عنهم، من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، الذين شاهدوا أقوال رسول الله صلى الله عليه وسلم وشهدوا معه المشاهد كلها. ومن المعلوم: أن ابن عباس، رضي الله عنهما، من صغار الصحابة، وقدمه رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة جمع مع ضعفه أهله لصغر سنه، وروايته عن النبي صلى الله عليه وسلم قليلة، وأكثر رواياته الأحاديث عن الصحابة، ومن حفظ حجة على من لم يحفظ. وكان رضي الله عنه إذا اختلف هو وغيره في مسألة سألوا عنها أكابر الصحابة، وكان هو وغيره يحيلون المستفتي على عائشة وغيرها، مع ما أعطاه الله من الفهم العظيم وحفظ ما رواه. وسيأتي بقية الجواب عن حديثه هذا، الذي تقدمت الإشارة إليه في كلام شارح المنتقى، بعون الله تعالى.   1 البخاري: الأدب (6081) , ومسلم: اللباس والزينة (2068) , وابن ماجة: اللباس (3591) , وأحمد (2/20) , ومالك: الجامع (1705) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 245 وقد أخرجه الإمام أحمد وأبو داود، وفي إسناده خصيف بن عبد الرحمن، وهو ضعيف، أن ابن عباس، رضي الله عنهما، قال: " إنما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الثوب المصمت من الحرير " 1. فأما العلم من الحرير، وسدى الثوب فلا بأس بهما، وأجيب عن هذا الحديث: بأنه معارض بما هو صحيح ثابت، وهذا ضعيف كما عرفت؛ والذي تقرر عند العلماء من أهل الحديث والفقهاء: أن الصحيح يقضي على الضعيف، ولا يعارض به أصلاً. الوجه الثاني: أن المعارض له من الأحاديث الصحيحة بلغت حد التواتر كثرة، فلا يعارض ما صح وتواتر من الكثير عن الصحابة، بحديث واحد ضعيف. الوجه الثالث: أن لفظة "إنما" لا تفيد الحصر الحقيقي عند أكثر النحاة. الوجه الرابع: أنه لا قائل بمفهومه، فإن الثوب من الحرير إذا كان فيه قليل من غيره، لا يكون مصمتاً، فإذا لم يكن مصمتاً أبيح، ولو كان الغالب حريراً؛ وهذا لا قائل به، وقد انعقد الإجماع على خلافه، فلا يكون حجة لمن اعتبر في حل الثوب المشوب بالحرير، كونه مغلوباً بغيره بالطهور، أو بالوزن؛ فتدبره، فإن الدليل أعم من المدعى. الوجه الخامس: قوله فأما العلم من الحرير وسدى الثوب فلا بأس به، فمفهوم هذه الجملة: أن ما عدا المذكور فيه بأس، فعارض مفهوم آخر الحديث مفهوم أوله.   1 أبو داود: اللباس (4055) , وأحمد (1/313) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 246 وقد عرفت أن العلم المباح أربع أصابع فما دون، فيحمل المطلق على المقيد، وأما السدى، فتقدم الخلاف فيه، ودليل المنع فيه؛ وقد ذهب إلى المنع جمع، منهم ابن حزم الظاهري من الفقهاء، ومن الصحابة ابن عمر رضي الله عنهما، ومن التابعين سالم بن عبد الله. وأنت ترى هذه المحارم سداها كله حرير، وفي اللحمة من الحرير نحو الربع حرير خالص، كالسيور وأعظم، مع ما يظهر من السدى للأهداب من الجانبين نحو النصف، فإن قدرته بالأجزاء صار الحرير تسعة أجزاء، والقطن ثلاثة، ومن المعلوم أن التسعة أكثر من الثلاثة وزناً، وأما من جهة الظهور فيظهر فيها خمسة أجزاء كلها حرير خالص، والخمسة أكثر من الثلاثة ظهوراً. وقد اعتبرت ما في تلك المحارم الحادثة، التي عمت بها البلوى في هذه الأزمان، فوجدت الأهداب من الجانبين، وهي من خالص الحرير، ذراعين عرضاً وذراعاً طولاً من كل جانب، فبسطت أربع أصابع عليها، فبلغت مائتين وثمانين أصبعاً. ثم اعتبرت خطوط الحرير الأصفر الذي في اللحمة وما تحته، فصارت بذلك حريراً خالصاً في جانبيها، وهو قريب من ثلث اللحمة، يبلغ ستة وتسعين أصبعاً. فجميع ما فيها من الحرير الخالص، ثلاثمائة وستة وسبعون أصبعاً؛ وهذا حرام باتفاق المذاهب الأربعة وغيرها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 247 فانتبه لنفسك، واتبع نبيك المعصوم، الذي أرسله الله: {مُبَشِّراً وَنَذِيراً وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً} [سورة الأحزاب آية: 45-46] ، {وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} [سورة الجاثية آية: 18-19] . وقد عرفت حكمه صلى الله عليه وسلم في ماهية الحرير، وأنه نهى عنه إلا موضع أصبعين أو ثلاث أو أربع، وكن من عبادة الأهواء على حذر، ومن أنذر فقد أعذر، ولقد أحسن من قال: وعبادة الأهواء في تطويحها ... بالدين مثل عبادة الأوثانِ والله يهدى من يشاء إلى صراط مستقيم. وأجاب أيضاً: اعلم أن الأحاديث قد تظاهرت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنهي عن الحرير وتحريمه، على ذكور هذه الأمة؛ فقد أخرج البخاري ومسلم والنسائي، عن حذيفة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " لا تلبسوا الحرير ولا الديباج، ولا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحافها، فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة " 1. وأخرج الإمام أحمد والترمذي والنسائي، عن أبي موسى رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أحل الذهب والحرير لإناث أمتي، وحرم على ذكورها " 2. وأخرج أبو داود والنسائي وابن ماجة، عن علي رضي الله عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ   1 البخاري: الأطعمة (5426) , ومسلم: اللباس والزينة (2067) , والترمذي: الأشربة (1878) , والنسائي: الزينة (5301) , وأبو داود: الأشربة (3723) , وأحمد (5/385, 5/390) , والدارمي: الأشربة (2130) . 2 الترمذي: اللباس (1720) , والنسائي: الزينة (5148) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 248 حريراً فجعله في يمينه، وذهباً فجعله في شماله، ثم قال: "إن هذين حرام على ذكور أمتي " 1. وأحاديث هذا الباب يتعذر استقصاؤها، فنبهت ببعضها على نوعها. وقد حكى الإجماع على تحريم الحرير على الذكور، غير واحد من الأئمة، إلا ما استثناه الشارع، كما في حديث عمر، وهو عند البخاري ومسلم وأهل السنن، عن أبي عثمان النهدي، أتانا كتاب عمر ونحن مع عتبة بن فرقد بأذربيجان " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الحرير، إلا هكذا، وأشار بأصبعيه اللتين تليان الإبهام " 2، قال: فيما علمنا أنه يعني الأعلام. ولأبي داود في الحديث: " نهى عن الحرير، إلا هكذا وهكذا: أصبعين أو ثلاث أو أربع " 3. وبهذا الحديث: احتج أهل العلم على أنه لا يباح من الحرير في الثوب ونحوه إلا مقدار أربع أصابع؛ قال في الفروع: ويباح منه العلَم إذا كان أربع أصابع مضمومة فما دون، نص عليه، وجزم به في المغنى والشرح. وقال في الإنصاف: ويباح علَم الحرير في الثوب إذا كان أربع   1 النسائي: الزينة (5144) , وأبو داود: اللباس (4057) , وابن ماجة: اللباس (3595) . 2 البخاري: اللباس (5828) , ومسلم: اللباس والزينة (2069) , والنسائي: الزينة (5312) . 3 مسلم: اللباس والزينة (2069) , والترمذي: اللباس (1721) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 249 أصابع فما دون. وقال في جمع الجوامع: ولبنة الجيب وسجف الفراء، كالعلَم في الإباحة والقدر. وفي حاشية المنتهى على قول المصنف: لا فوق أربع أصابع، يعني: أن ما ذكر من العلم والرقاع والسجف ولبنة الجيب، أنها تباح إذا كان أربع أصابع معتدلة مضمومة فما دون، لا إن كان أكثر منها. انتهى. وهذا الذي ذكره هؤلاء كغيرهم من الفقهاء، إنما هو فيما إذا كان الحرير منفرداً متميزاً، سواء كان منسوجاً في الثوب كالعلم، أو مجعولاً فيه بعد النسج، كلبنة الثوب، والسجف، وسواء كان مفرقاً، أو مجموعاً، وكذا إذا كان مشوباً بغيره، على الصحيح المعتمد عند جمع من أكابر الأئمة المحققين، كما صرح به شارح المنتقى، ونقله عن تقي الدين بن دقيق العيد. قال الشارح: وقد عرفت مما سلف من الأحاديث الواردة في تحريم الحرير بدون تقييد، والظاهر منها تحريم ماهية الحرير، سواء وجدت منفردة، أو مختلطة بغيرها، ولا يخرج من التحريم إلا ما استثناه الشارع، من مقدار الأربع الأصابع من الحرير الخالص، سواء وجد ذلك القدر مجتمعاً، كما في القطعة الخالصة، أو متفرقاً كما في الثوب المشوب. وقد نقل الحافظ في الفتح، عن العلامة ابن دقيق العيد: إنما يجوز من المخلوط ما كان مجموع الحرير فيه أربع أصابع، لو كانت منفردة، بالنسبة إلى جميع الثوب. انتهى. قلت: وقد قرر هذا الحافظ في فتح الباري بأدلته، فقال: واستدل بالنهي عن لبس القسي، على منع لبس ما خالطه الحرير من الثياب، لتفسير القسي بأنه ما خالط غير الجزء: 4 ¦ الصفحة: 250 الحرير فيه الحرير، ويؤيده عطف الحرير على القسي في حديث البراء، ووقع كذلك في حديث علي عند أحمد، وأبي داود والنسائي، بسند صحيح على شرط الشيخين، من حديث عبيدة عن ابن عمر، وعن علي رضي الله عنه قال: " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القسي والحرير " 1؛ فعلى هذا يحرم الذي يخالطه الحرير. انتهى. فهذا حافظ الدنيا في عصره: صرح بتحريم لبس ما خالطه الحرير، وهذا مقتضى الدليل. وقال البخاري في صحيحه: قال عاصم عن أبي بردة: "قلنا لعلي: ما القسية؟ قال ثياب أتتنا من الشام أو مصر، مضلعة، فيها حرير، وفيها أمثال الأترج". وقال جرير عن يزيد: ثياب مضلعة، يجاء بها من مصر، فيها الحرير، ثم ساق بسنده حديث البراء بن عازب، قال: " نهانا النبي صلى الله عليه وسلم عن المياثر الحمر والقسي " 2، وفي رواية له: " ونهانا عن لبس الحرير، والديباج، والقسي والاستبرق، ومياثر الحمر " 3. انتهى. وقال النسائي: القسى ثياب من كتان، مخلوط بحرير يؤتى بها من مصر، نسبت إلى قرية على ساحل البحر- قريب من تنيس- يقال لها "القس" بفتح القاف انتهى، وقال أبو عبيد: هي ثياب يؤتى بها من مصر فيها حرير، قال في جمع الجوامع، قال: شيخ الإسلام: وقد   1 النسائي: التطبيق (1040) . 2 البخاري: اللباس (5838) , ومسلم: اللباس والزينة (2066) , والنسائي: الجنائز (1939) والزينة (5309) , وأحمد (4/299) . 3 البخاري: اللباس (5849) , والنسائي: الجنائز (1939) والزينة (5309) , وأحمد (4/287, 4/299) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 251 اتفقوا كلهم على أنها ثياب فيها حرير، وليست بحرير مصمت انتهى. وأخرج البخاري، وأبو داود، والنسائي عن عمر رضي الله عنه " أنه رأى حلة سيراء تباع فقال يا رسول الله: لو ابتعتها تلبسها للوفد إذا أتوك، والجمعة؟ فقال: إنما يلبس هذا من لا خلاق له في الآخرة " 1، قال: أبو داود والنسائي، السيراء: المضلع بالقز. وقال في النهاية: السيراء: بكسر السين وفتح الياء والمد: نوع من البرود، يخالطه حرير، كالسيور، وأخرجه الأئمة من حديث علي رضي الله عنه. قال شيخ الإسلام، رحمه الله: حديث السيراء، والقسي، يستدل به على تحريم ما ظهر فيه الحرير، لأن ما فيه خيوط أو سيور، لا بد أن تنسج مع غيرها من الكتان والقطن؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم حرمها لظهور الحرير فيها، ولم يسأل هل وزن ذلك الموضع من الكتان والقطن أكثر أم لا، مع أن عادته أنه أقل. انتهى. وقال: والمنصوص عن أحمد، وقدماء الأصحاب، إباحة الخز، دون الملحم وغيره. انتهى من جمع الجوامع. ومما يدل لما قرره هؤلاء الأئمة الحفاظ، ما أخرجه البزار والطبراني عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم جبة مجيبة، بضم الميم وفتح الجيم، بعدها ياء   1 البخاري: الهبة وفضلها والتحريض عليها (2619) , ومسلم: اللباس والزينة (2068) , والنسائي: الجمعة (1382) وصلاة العيدين (1560) والزينة (5295) , وأبو داود: اللباس (4040) , وابن ماجة: اللباس (3591) , وأحمد (2/20, 2/103) , ومالك: الجامع (1705) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 252 مثناة تحت مفتوحة، ثم باء موحدة، أي: لها جيب من حرير، وهو الطوق. انتهى. وبهذا تبين لك أن هذه المحارم المسماة بـ"أخضر قز" ونحوها، لا يجوز استعمالها للذكور مطلقاً، لما فيها من الحرير الخالص، الزائد على أربع أصابع بأضعاف كثيرة؛ وتسميتها بهذا الاسم، من باب الإضافة البيانية، وتعريفها بأخضر قز، من الإضافة البيانية، والقز من الحرير، فلا يجوز استعمال ما ظهر فيه الحرير، إذا زاد على القدر المستثنى في حديث عمر، وتقدم تقريره. اللهم اجعلنا ممن يقبل هداك، ويتبع رضاك. ولقد أحسن أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز، حيث يقول: "لا عذر لأحد بعد السنة، في ضلالة ركبها، يحسب أنه على هدى ". وقال أبو الوفاء ابن عقيل في الفنون: من أعظم منافع الإسلام، وآكد قواعد الأديان: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتناصح؛ فهذا أشق ما تحمله المكلف، لأنه مقام الرسل، حيث يثقل صاحبه على الطباع، وتنفر منه نفوس أهل اللذات، ويمقته أهل الخلاعة. وهو إحياء السنن، وإماتة البدع - إلى أن قال - لو سكت المحقون، ونطق المبطلون، لتعود النشء على ما شاهدوا، وأنكروا ما لم يشاهدوا؛ فمتى رام المتدين إحياء سنة، أنكرها الناس، فظنوها بدعة، وقد رأينا ذلك. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 253 وفي جمع الجوامع: وكل ما حرم من الثياب وغيرها، حرم بيعه وخياطته وأجرته، نص عليه، كبيع عصير لمن يتخذه خمراً. قال: ويحرم بيع الحرير، والمنسوج بالذهب والفضة للرجل؛ قطع به جماعة من أصحابنا، والمراد به إذا كان يلبسه، وكذا خياطته، وأخذ أجرتها. وذكر ابن أبي المجد: ما حرم استعماله من حرير ومصور وغيرهما، حرم بيعه وشراؤه وعمله، وأخذ أجرته، لإعانته على الإثم. انتهى. وما أحسن ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية: ثم لو فرض أنا علمنا أن الناس لا يتركون المنكر، ولا يعرفون بأنه منكر، لم يكن ذلك مانعاً من إبلاغ الرسالة، وبيان العلم، بل ذلك لا يسقط وجوب الإبلاغ، ولا وجوب الأمر والنهي في إحدى الروايتين عن أحمد، وقول كثير من أهل العلم. انتهى. قال الشيخ عبد الله أبا بطين: نظرت في هذه الرسالة، لوحيد دهره، وفريد عصره، شيخنا: الشيخ عبد الرحمن بن حسن، فرأيت صحة ما ضمنها من تحريم "المحرمة" المسماة "بأخضر قز"، وفقنا الله وإياه للصواب. انتهى. وأجاب أيضاً: الشيخ عبد الرحمن بن حسن: وأما "المحرمة" التي أخضرها حرير، فلا شك في أنها حرام، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن لبس الحرير، فقال: "إنما يلبس هذا من لا خلاق له في الآخرة " 1. وقال: " من لبسه في الدنيا   1 البخاري: الهبة وفضلها والتحريض عليها (2619) , ومسلم: اللباس والزينة (2068) , والنسائي: الجمعة (1382) , وأبو داود: الصلاة (1076) , وابن ماجة: اللباس (3591) , وأحمد (2/103) , ومالك: الجامع (1705) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 254 لم يلبسه في الآخرة " 1. وفي الصحيح أنه أخذ حريراً فجعله في يمينه، وذهباً فجعله في يساره، ثم قال: "إن هذين حرام على ذكور أمتي " 2. وفي حديث عمر: " نهى عن الحرير، إلا موضع أصبعين أو ثلاثة أو أربعة " 3، وبعد الاستثناء يقتصر على القدر المستثنى، فما زاد على الأربع الأصابع حرام، سواء كان مفرقاً أو مجتمعاً، كما عليه جماهير العلماء؛ وهو ظاهر الأحاديث، وفيها ما يدل على المنع منه، وإن لم يكن مجموعاً. فاجتنب هذه "المحرمة" فإنها محرمة، فإن كان عندك منها شيء، فلا تبعها على مسلم، بعها في غير بلاد المسلمين. وسئل الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين: عن المركب من حرير وغيره؟ فأجاب: وأما قول الأصحاب فيما لا يجوز لبسه من الحرير المركب من حرير وغيره: إن الممنوع منه ما كان الحرير أكثر ظهوراً، يتناول ما سدي بغير الحرير وألحم بحرير وغيره; وظاهر كلامهم: تناوله لغير تلك الصورة. سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: عن لبس السواد للرجال؟ فأجاب: أما لبس السواد إذا كان من عادة أهل البلاد، فلا بأس به، إلا أن يكون حريراً فلا يجوز.   1 البخاري: اللباس (5834) . 2 النسائي: الزينة (5144) , وأبو داود: اللباس (4057) , وابن ماجة: اللباس (3595) . 3 مسلم: اللباس والزينة (2069) , وأحمد (1/51) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 255 سئل الشيخ عبد الله بن عبد العزيز العنقري: عن العمامة، هل هي سنة؟ وما الفرق بينها وبين العقال؟ فأجاب: العمامة المسؤول عنها من المباحات، التي أباحها الله ورسوله، وإنما يستحب منها: ما قصد به موافقة رسول الله صلى الله عليه وسلم في هيئة لبسه، كلبسها مع ارخاء الذؤابة، دون لبسها على هيئة العصابة، فإنها حينئذ: لا فرق بينها وبين العقال المعروف؛ ولهذا نص العلماء، رحمهم الله، من أصحابنا وغيرهم، على أنه يشترط لجواز المسح عليها، أن تكون محنكة، أو ذات ذؤابة، وأما العصابة فلا يجوز المسح عليها عندهم. وقصد موافقة رسول الله صلى الله عليه وسلم في أفعاله، من لبس، وأكل، وشرب وغير ذلك: سنة، ولكن لا يقصر على العمامة فقط، وهذا كقول العلماء: سنة الأكل كذا، سنة الشرب كذا، سنة اللبس كذا، ثم يذكرون ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك من الأخبار الصحيحة. وأما جعل هذه العصائب التي تشبه العقال سنة، فلا يظهر لي، بل هو مباح، من جملة اللباس المباح، ومن قال: إنها مسنونة، فقد أخطأ، وأفتى بجهل; فلا ينبغي الأخذ عنه، وتلقي ما يمليه من جهالاته وترهاته؟ كذلك جعل لبسها مطلقاً، على أي وجه كان، دليلاً وعلامة على الدخول في الجزء: 4 ¦ الصفحة: 256 الإسلام، ويوالي على ذلك، ويعادي عليه، أو يجعل ضابطاً، يحب على فعله، ويبغض على تركه، فهذا أمر لا يجوز اعتقاده، ولا نسبته إلى الشريعة المطهرة؛ هذا ما ظهر لي، والله أعلم. وكتب تحته الشيخ عبد الرحمن بن عبد الله بن سالم، رحمه الله، ما نصه: ما أجاب به الشيخ عبد الله بن عبد العزيز العنقري، هو الحق والصواب، الذي ندين الله به ونعتقده، وهو: أن العمامة لا تكون عمامة، ويطلق عليها هذا الاسم، إلا إذا كانت ذات ذؤابة، أو محنكة، وأن تكون على قلنسوة ساترة لجميع الرأس، إلا ما جرت العادة بكشفه، لأنها في الأصل لباس معتاد، مما اعتاده العرب، كالإزار، والسراويل، والأردية، ليست من العبادات المشروعة؛ ومن نسب هذه العصائب الخالية مما ذكرنا، إلى السنة المطهرة، فقد أخطأ. وكتب أيضاً: الشيخ محمد بن الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن، ما نصه: ليعلم الواقف على هذا: أن ما كتبه صاحبنا، الشيخ عبد الله بن عبد العزيز العنقري، في شأن العمامة، أنه هو الحق الذي لا مرية فيه، ولا التباس، لأن العمائم من قسيم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 257 العادات المباحة، التي كانت العرب تلبسها، وليست من السنن المشروعة التي شرعت في الإسلام، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يلبسها هو وأصحابه، كما كان العرب يلبسونها؛ فمن لبسها على قلنسوة، وجعلها محنكة، أو جعل لها ذؤابة وأرخاها، فقد أصاب السنة، ومن لبسها على هذه الكيفية، فلا ينكر عليه، ومن تركها فلا ينكر عليه. وأما جعل هذه العصائب من السنن المشروعة، فهو خطأ وابتداع شرع لم يشرعه الله ولا رسوله، واعتقاد أن لبس هذه العصائب، سيما، وشعاراً للمتدينين، خطأ أيضاً; فالواجب على من أراد طلب الحق، واتباع الهدى، أن يتحرى العدل في أقواله، وأفعاله، وأعماله، ويحذر من التعصب للهوى، بغير حجة ولا برهان. وكتب أيضا: ً الشيخ سليمان بن سحمان: قد تأملت ما كتبه المشائخ - وفقهم الله - في شأن هذه العصائب، التي أحدثها من أحدثها، فإذا هو الحق والصواب، الذي لا شك فيه ولا ارتياب، لأن هذه العصائب التي زعم من أحدثها أنها سنة سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته وشرعها، لم تكن هي العمائم التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وسائر العرب يلبسونها في الجاهلية والإسلام، لأن تلك كانت ساترة لجميع الرأس، وكانت الجزء: 4 ¦ الصفحة: 258 محنكة، ثم سن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك إرخاء الذؤابة بين الكتفين. إذا فهمت هذا، فاعلم: أنه ليس المقصود بلبس هذه العصائب الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه؛ ولو كان المقصود الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم لجعلوها ساترة لجميع الرأس، على قلنسوة، وجعلوها محنكة، أو ذات ذؤابة، ولبسوا الرداء والإزار، وغير ذلك مما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبسه، وأصحابه، ولكن المقصود الأعظم عند من أحدثها: إحداث شعار في الإسلام، وزي يتميز به من دخل في هذا الدين عمن لم يدخل فيه، على زعمهم؛ وإذا كان العلماء، قد تكلموا في كراهية هذه العمائم، التي هي ساترة لجميع الرأس، لأنها غير محنكة، فكيف بهذه العصائب التي لا مشابهة بينها وبين العمائم إلا بالاسم. قال: شيخ الإسلام، في اقتضاء الصراط المستقيم: قال الميموني: رأيت أبا عبد الله، عمامته، تحت ذقنه، ويكره غير ذلك، وقال: العرب أعمتها تحت أذقانها; وقال أحمد في رواية الحسن بن محمد: يكره ألا تكون العمامة تحت الحنك كراهية شديدة، وقال: إنما يتعمم بمثل ذلك: اليهود، والنصارى، والمجوس. وأما كونها زياً وشعاراً، فقال شيخ الإسلام، في كتاب الفرقان: وليس لأولياء الله المتقين، شيء يتميزون به في الجزء: 4 ¦ الصفحة: 259 الظاهر، من الأمور المباحات، فلا يتميزون بلباس دون لباس، إذا كان كلاهما مباحاً، ولا يحلق شعراً، أو يقصره، أو يضفره، إذا كان كلاهما مباحاً، كما قيل: كم صديق في قباء، وكم زنديق في عباء ... إلى آخر كلامه، رحمه الله. والمقصود: أن هذه العصائب، بل العمائم المعروفة المعهودة، من الأمور المباحات، والعادات الطبيعية، لا من العبادات الدينية الشرعية. وقد كتبت في شأن هذه العصائب، ما هو معلوم مشهور، كما هو مذكور في: إرشاد الطالب إلى أهم المطالب، وفي رسالة مفردة أيضاً؛ فمن أراد الوقوف عليها، فليراجعها هناك. سئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن: عن التزعفر للرجال؟ فأجاب: وأما التزعفر، فقد ورد ما يدل على جوازه، فلا ينكر والحالة هذه. سئل الشيخ سعد بن حمد بن عتيق: عن لبس الخناجر المحلاة بالذهب، هل هو مباح أو محرم؟ فأجاب: الحمد لله، قد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم نهي الرجال عن لبس الذهب في حديث أبي موسى رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " أحل الذهب والحرير لإناث أمتي، وحرم على ذكورها " 1، رواه الإمام أحمد، رحمه الله، والترمذي،   1 الترمذي: اللباس (1720) , والنسائي: الزينة (5148) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 260 والنسائي، وصححه بعض أئمة الحديث؛ وبه استدل العلماء على تحريم الذهب على الرجال، ولم يرخص إلا في اليسير منه، كقبيعة السيف، وهي التي في طرف القبضة، ونحو المسمار في السيف، على حسب ما ورد من الرخصة في ذلك، فقد روي " أن قبيعة سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت من ذهب، وورد أنها كانت من فضة " 1. قال في الإقناع وشرحه: ويباح له - أي الذكر - من الذهب قبيعة السيف، "لأن عمر رضي الله عنه كان له سيف فيه سبائك من ذهب"وعثمان ابن حنيف كان في سيفه مسمار من ذهب "، ذكرهما أحمد. وذكر ابن عقيل: " أن قبيعة سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانية مثاقيل " 2، وخطأه في المبدع عن الإمام، قال: فيحتمل أنها كانت ذهباً وفضة، فقد رواه الترمذي كذلك. انتهى كلام صاحب الإقناع. وقال أبو محمد في المغني: فقد روي عن أحمد في الرخصة في السيف، قال الأثرم: قال أحمد: روي أنه كان في سيف عثمان بن حنيف مسمار من ذهب، ثم ذكر ما روي عن عمر، وذكر ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - إلى أن قال - وروي عن أحمد رواية أخرى تدل على تحريم ذلك. قال الأثرم: قلت لأبي عبد الله: يخاف عليه أن يسقط،   1 الترمذي: الجهاد (1691) , وأبو داود: الجهاد (2583) , والدارمي: السير (2457) . 2 النسائي: الزينة (5375) , وأبو داود: الجهاد (2584) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 261 فيجعل فيه مسمار من ذهب، قال: إنما رخص في الأسنان، وذلك إنما هو للضرورة. انتهى. وحاصل ما ذكر عن الإمام أحمد، رحمه الله: أن في إباحة الذهب للرجل روايتين: إحداهما: إباحة اليسير منه. الثانية: المنع مطلقاً. وقد عرف مما ذكرنا من الدليل ومن كلام العلماء، رحمهم الله: أن لبس الخناجر المحلاة بالذهب الكثير، وتحلية السيف بذلك واستعمالها ممنوع، لا يليق بالمتشرع، الطالب للحق المتبع للسنة، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. فصل قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى: الشرط الخامس: إزالة النجاسة من ثلاث: من البدن، والثوب، والبقعة؛ والدليل: قوله تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [سورة المدثر آية: 4] . سئل ابنه: الشيخ عبد الله: عمن صلى وفي ثوبه نجاسة نسيها، هل يعيد؟ فأجاب: إذا صلى الرجل، وفي سلبه نجاسة نسيها، ولا علم إلا بعد فراغه من الصلاة، فليس عليه إعادة. وسئل أيضاً: الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: عما إذا أصاب ثوب المسافر نجاسة فلم يجد الماء؟ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 262 فأجاب: يصلي فيه، وإن وجد الماء غسله، ويزيلها بما استطاع، فإن كان عليه ثوب آخر، صلى في الطاهر وترك النجس. وأجاب أيضاً: المريض الذي في بدنه نجاسة لا يقدر على إزالتها، يصلي على حسب استطاعته، ولا يعيد. وأجاب الشيخ سعيد بن حجي: إذا صلى من في بدنه أو ثوبه نجاسة، نسيها أو جهلها، ولم يعلم بها إلا بعد انقضاء صلاته، فهذه المسألة فيها عن أحمد روايتان: إحداهما: لا تفسد صلاته، وهو قول ابن عمر وعطاء، لحديث النعلين، وفيه: يصلي بأصحابه، إذ خلع نعليه - إلى أن قال - " إن جبرئيل أتاني، فأخبرني أن فيهما قذراً " 1، رواه أبو داود، ولو بطلت لاستأنفها. والثانية: يعيد، وهو مذهب الشافعي، فإن علم بها في أثناء الصلاة، وأمكنه إزالتها من غير عمل كثير، كخلع النعال، والعمامة، ونحوهما، أزالهما، وبنى على ما مضى من صلاته، وإلا بطلت. وأجاب الشيخ عبد الرحمن بن حسن، رحمه الله: عدم صحة صلاته، هي الصحيح من المذهب، لأن اجتناب النجاسات شرط للصلاة، فلم تسقط بالنسيان ولا بالجهل، كطهارة الحدث. وعن الإمام أحمد: أنها تصح إذا نسي أو جهل؛ قال في الإنصاف: وهي الصحيحة عند أكثر   1 أبو داود: الصلاة (650) , وأحمد (3/20) , والدارمي: الصلاة (1378) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 263 المتأخرين، اختارها المصنف، والمجد، والشيخ تقي الدين، لكن قال الشيخ: الروايتان في الجاهل، أما الناسي فليس عن الإمام نص فيه. قال في الإنصاف: والصحيح: أن الخلاف جار في الجاهل والناسي، قاله المجد، وحكى الخلاف فيها أكثر المتأخرين؛ وأما المأموم فصلاته صحيحة. وأجاب الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين: أما الذي صلى بنجاسة، ناسياً أو جاهلاً بها، ولم يعلم إلا بعد سلامه، فالقول بصحة صلاته قوي، والإعادة أحوط. وسئل الشيخ حمد بن عتيق: عن الرجل يحتلم، ثم يغتسل ويصلي ويجد بللاً من ذكره؟ فأجاب: إن وجد البلل في الصلاة، فيتوضأ ويصلي، وليس عليه غسل، وإن وجده بعد فراغه من الصلاة، فلا إعادة عليه. وسئل: عن رشاش البول، يذكره الرجل بعد الصلاة؟ فأجاب: لا إعاة عليه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 264 فصل سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: عن الصلاة في مسجد فيه قبر؟ فأجاب: إن كان مبنياً قبل أن يجعل فيه قبر، فينبش القبر، ويبعد عن المسجد; فإن كان المسجد لم يبن إلا لأجل القبر، فالمسجد يهدم، ولا يصلى فيه، لأنه ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لعن الذين يتخذون المساجد على القبور؛ ولا تصح الصلاة فيه، ولا تجوز الصلاة عند القبور، ولا عليها، لأنه عليه السلام نهى عن الصلاة في المقبرة. وأجاب أيضاً: المسجد الذي بني على القبور، يجب هدمه، ولا تجوز الصلاة فيه. وأما القبر الذي وضع في المسجد بعد بنائه، فينقل من المسجد. وأجاب الشيخ محمد بن الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن، والشيخ سليمان بن سحمان: مسجد الطائف، الذي في شقه الشمالي قبر ابن عباس، رضي الله عنهما، الصلاة في المسجد، إذا جعل بين القبر وبين المسجد جدار يرفع، يخرج القبر عن مسمى المسجد، فلا تكره الصلاة فيه; وأما القبر، إذا هدمت القبة التي عليه، فيترك على حاله، ولا ينبش، ولكن يزال ما عليه من بناء وغيره، ويسوى حتى يصير كأحد قبور المسلمين. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 265 سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: إذا احتيح إلى أرض مسجداً ... إلخ؟ فأجاب: إذا احتاج أهل بلد إلى أرض إنسان يجعلونها مسجداً، فطلبوا من صاحب المال أن يبيعها، أو يوقفها، فأبى، فالظاهر: أنه لا يجبر. سئل الشيخ حسن بن حسين بن الشيخ محمد، رحمهم الله: عن ضابط معاطن الإبل؟ فأجاب: ضابط معاطن الإبل هي التي تقيم فيها، وتأوي إليها، قاله أحمد، وقيل: مكان اجتماعها إذا صدرت عن المنهل، زاد بعضهم: وما تقف فيه لميراد الماء; قال في المغني والشرح: والأول أجود، لأنه جعله في مقابلة مراح الغنم، لا نزولها في سيرها، قاله في المبدع. سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد، رحمه الله: عن الصلاة في المنْزل الذي توقد فيه النار للطبخ، أو للقهوة، أو أسطحتهما؟ فأجاب: أما الصلاة في ذلك، فلا علمت فيه بأساً، لكن لا يستقبل النار، وكذلك في سطحهما، لا بأس بذلك. سئل الشيخ سعيد بن حجي: هل يجوز زخرفة المساجد بالنقوش، والجص، وفرش الحصر بها، وتخليقها بالطيب، أم لا؟ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 266 فأجاب: أصل بناء المساجد، بناؤه صلى الله عليه وسلم ثم بناء عمر، ثم بناء عثمان، رضي الله عنهم؛ قال في الهدى، لما ذكر اتخاذ المسجد: ثم بنوه باللبن، وجعل صلى الله عليه وسلم يبني معهم، وجعل له ثلاثة أبواب، وعمده الجذوع، وسقفه بالجريد، وقيل له: ألا تسقفه؟ فقال: لا; عريش كعريش موسى. انتهى. وقال في المنتقى: باب الاقتصاد في بناء المساجد، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما أمرت بتشييد المساجد " 1، قال ابن عباس:"لتزخرفنّها كما زخرفت اليهود والنصارى "، رواه أبو داود. وعن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس في المساجد " 2، رواه الخمسة إلا الترمذي. وقال البخاري: قال أبو سعيد: "كان سقف المسجد من جريد النخل، وأمر عمر ببناء المسجد، وقال: أَكِنَّ الناس عن المطر، وإياك أن تُحَمِّر أو تُصَفِّر فتفتن الناس ". انتهى. الزخرفة: التزيين، والضمير في: "لتزخرفنها" للمساجد. وعن ابن عمر قال: "كان المسجد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مبنياً باللبن، وسقفه بالجريد، وعمده خشب النخل، فلم يزد فيه أبو بكر شيئاً، وزاد فيه عمر، وبناه على بنائه على عهده صلى الله عليه وسلم ثم غيره عثمان رضي الله عنه وزاد فيه زيادة كثيرة، وبني جدره بالحجارة المنقوشة والقصة، وجعل عمده من حجارة منقوشة، وسققه ساجاً "، أخرجه البخاري وأبو داود، والقصة: الجص بلغة أهل الحجاز. انتهى من تيسير الأصول.   1 أبو داود: الصلاة (448) . 2 أبو داود: الصلاة (449) , وابن ماجة: المساجد والجماعات (739) , وأحمد (3/134, 3/145, 3/152, 3/230, 3/283) , والدارمي: الصلاة (1408) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 267 وقال في الإقناع: وتحرم زخرفته بذهب أو فضة، وتجب إزالته، ويكره بنقش وصبغ وكتابة، وغير ذلك مما يلهي المصلي. وفي الغنية: لا بأس بتجصيصه. انتهى. أي: يباح تجصيص حيطانه، وهو تبييضها به، وصححه الحارثي، ولم يره أحمد بن حنبل، وقال: هو زينة الدنيا. انتهى. إذا تقرر هذا، فليعلم السائل: أن من أراد بناء مسجد، فليبنه على الاقتصاد، وأن الزخرفة مكروهة، وأن من بنى بها لا ينكر عليه لقصة عثمان. وأما فرش الحصر فيها، فقال في المنتقى: باب الصلاة على الفرش والبسط وغيرهما من الفرش، عن ابن عباس " أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على بساط " 1، رواه أحمد وابن ماجة. وعن المغيرة بن شعبة قال: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي على الحصير، والفروة المدبوغة " 2، رواه أحمد وأبو داود. وعن أبي سعيد أنه " دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فرأيته يصلي على حصير يسجد عليه " 3، رواه مسلم. وعن ميمونة، قالت: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي على الخمرة " 4، رواه الجماعة. انتهى. وقال الشيخ تقي الدين: وأما الصلاة على السجادة، واتخاذ السجادة ديناً وطريقة، بحيث لا يصلي إلا عليها في المساجد وغيرها، فبدعة مكروهة؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة وسلف الأمة، لم يكونوا يتخذون هذه السجادة، بل يصلون حيث تناهت الصلاة؛ وتقييد الصلاة بها، تعبد أهل الكتاب في الكنائس، وقد قال نبينا صلى الله عليه وسلم: " جعلت لي الأرض مسجداً   1 ابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1030) , وأحمد (1/232) . 2 أبو داود: الصلاة (659) , وأحمد (4/254) . 3 مسلم: الصلاة (519) , والترمذي: الصلاة (332) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1029) , وأحمد (3/52) . 4 البخاري: الصلاة (381) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (513) , والنسائي: المساجد (738) , وأبو داود: الصلاة (656) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1028) , وأحمد (6/330, 6/335) , والدارمي: الصلاة (1373) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 268 وطهوراً؛ فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فعنده مسجده وطهوره " 1- إلى أن قال- وقد " كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي على الخمرة " 2، وهي شيء ينسج من الخوص، فيسجد عليه يتقي به حر الأرض وأذاها؛ فإنه لم يكن مسجده مفروشاً، إنما كانوا يصلون على التراب والرمل والحصى، فهذا من جنس الأرض، لأن الصلاة على الحصر ونحوها لدفع الأذى، والله سبحانه جعله لدفع الأذى، فهذا حسن، ولهذا اتفق العلماء على أنه لا بأس بالصلاة على ما كان من جنس الأرض كالحصير ونحوه. وأما الصلاة على المتخذ من الصوف والشعر ونحو ذلك، كالبسط والطنافس، وعلى الحشايا المبطنة، فرخص فيه أكثر العلماء، كأبي حنيفة والشافعي وأحمد، وروى ذلك عن جماعة من الصحابة، وفيه أحاديث مرفوعة، وكرهه مالك. انتهى. فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على هذه الأشياء المذكورة، وأن أكثر العلماء رخص فيها، فمن أنكر فرش المساجد بذلك كلف الدليل، والله أعلم. وأما تخليقها بالطيب، فقالت عائشة: " أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ببناء المساجد في الدور، وأن تنظف وتطيب " 3، رواه أبو داود والترمذي وأحمد وابن ماجة. وقال في الإقناع: ويسن كنسه يوم الخميس، وإخراج كناسته، وتنظيفه، وتطييبه فيه، وتجميره في الجمع، ويستحب شعل القناديل فيه كل ليلة.   1 الترمذي: السير (1553) , وأحمد (5/248) . 2 البخاري: الصلاة (381) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (513) , والنسائي: المساجد (738) , وأبو داود: الصلاة (656) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1028) , وأحمد (6/330, 6/331, 6/335, 6/336) , والدارمي: الصلاة (1373) . 3 الترمذي: الجمعة (594) , وأبو داود: الصلاة (455) , وابن ماجة: المساجد والجماعات (759) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 269 انتهى. قوله: في الدور جمع دار، والمراد هنا: المحلات، أي أمر أن يبنى في كل محلة مسجد، وهو محمول على اتخاذ بيت للصلاة، كالمسجد يصلي فيه أهل البيت. انتهى. فدل هذا على استحباب تطييبها، وتنظيفها، والله أعلم. وأجاب الشيخ محمد بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن، والشيخ سليمان بن سحمان: وأما ما زخرف به المسجد، من التحمير والتصفير، فيطمس بالآجر الأبيض، وكذلك الصور والكتابة التي في الحيطان. سئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن: عمن أنكر دخول المسجد بالنعال؟ فأجاب: إنكار دخول المسجد بالنعال، إنما نشأ عن الجهل بالسنة؛ وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يصلي في نعليه، وكذلك الصحابة، رضي الله عنهم. ثم إنه صلى الله عليه وسلم في بعض الصلوات خلع نعليه، فخلع الصحابة نعالهم، فلما سلم سألهم عن ذلك، فقالوا: رأيناك خلعت نعليك فخلعنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أتاني جبرائيل، فأخبرني أن فيهما أذى " 1، فدل الحديث على جواز دخول المسجد بالنعال والصلاة فيها، ما لم يعلم أنها نجسة، فإذا لم يعلم أنه وطأ بها نجاسة، فالأصل الطهارة، وهذا بحمد الله ظاهر. وسئل الشيخ سعد بن الشيخ حمد بن عتيق، رحمهم الله   1 أبو داود: الصلاة (650) , وأحمد (3/20) , والدارمي: الصلاة (1378) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 270 تعالى: عن قوله صلى الله عليه وسلم: " خالفوا اليهود، صلوا في نعالكم " 1، ما الحكمة في ذلك؟ فأجاب: الحكمة: مخالفة اليهود في الأعمال الظاهرة، لأن موافقتهم في الأعمال الظاهرة، تفضي إلى موالاتهم. سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: عن فرش المساجد من صوف وغيره؟ فأجاب: أما فرش المساجد فيجوز أن يتخذ فيها فرش من جميع الفرش الطاهرة، من الصوف وغيره. سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عن التقدم للمسجد، والقيلولة فيه ... إلخ؟ فأجاب: أما مسألة التقدم للمسجد في مثل الظهر، والقيلولة فيه، فإن كان الإنسان قصد المسجد لانتظار الصلاة المفروضة، فصلى ما تيسر من النوافل، ثم جلس في المسجد يقرأ القرآن، أو يذكر الله، وهذا قصده، ولكن في نيته إن حدث عليه نعاس نام في المسجد، لم يقصد القيلولة فيه عادة، فهذا حسن إن شاء الله تعالى. وأما إن كان نيته أنه قصد المسجد ليضع عصاه في الصف، ويصلي ما تيسر، ثم ينام، أعني أنه قصد النوم فيه، وعزم عليه، فهذا مكروه، أعني: اتخاذ المسجد مقيلاً؛ فالأفضل في حق هذا أن يقيل في بيته، فإذا قضى حاجته من   1 أبو داود: الصلاة (652) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 271 النوم، تطهر وقصد المسجد. وأما جلوسه في سطح المسجد، بين العشائين لأجل البراد ونحوه، فلا بأس بذلك. سئل الشيخ محمد بن الشيخ إبراهيم بن عبد اللطيف: عن الجمع بين حديث النهي عن الاستلقاء في المسجد، وحديث عبد الله بن زيد أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم مستلقياً في المسجد ... إلخ؟ فأجاب: حديث النهي محمول على حالة لا يأمن معها انكشاف العورة، وأما إذا أمن انكشافها فلا بأس؛ وعليه يحمل حديث عبد الله بن زيد، قال: في الإقناع: ولا بأس بالاستلقاء لمن له سراويل، وكذا لو احتبى بحيث يأمن كشف عورته. انتهى. وقال الحافظ في الفتح، بعد أن ذكر قول من ادعى نسخ النهي ورده، وبعد أن ذكر أن الجمع بين الحديثين بمثل ما تقدم أولى من ادعاء النسخ: والظاهر أن فعله صلى الله عليه وسلم كان لبيان الجواز، وكان ذلك في وقت الاستراحة لا عند مجتمع الناس. انتهى. فتبين أن للجمع بينهما طريقين: أحدهما: أن فعله صلى الله عليه وسلم لبيان الجواز، وأن النهي للتنْزيه، كما ذكر الحافظ. والثاني: حمل النهي على حالة لا تؤمن معها انكشاف العورة، والله أعلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 272 فصل قال الشيخ: محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى: الشرط الثامن: استقبال القبلة، والدليل قوله تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ} [سورة البقرة آية: 144] . وسئل بعضهم: عما ذكر في الهدى، لما ذكر نسخ القبلة، قال ابن سعد: أنبأنا هاشم بن القاسم، أنبانا أبو معشر، عن محمد بن كعب القرظي قال: "ما خالف نبي قط في قبلة قط، ولا إسلام، إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استقبل بيت المقدس حين قدم المدينة "، مع قوله: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا} [سورة البقرة آية: 148] . فأجاب: الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، لم يختلفوا في الدين، بل دينهم واحد كما صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إنا معاشر الأنبياء ديننا واحد، الأنبياء إخوة لعلات " 1، فأما القبلة فلم يكن يخالف بعضهم بعضاً فيها، بل كلهم يميلون إلى قبلة إبراهيم عليه السلام. فأما محمد صلى الله عليه وسلم فقد أمر حين قدم المدينة أن يصلي قبل صخرة بيت المقدس، تألفاً لقلوب اليهود، ليكون أقرب إلى تصديقهم إياه، فصلى ستة عشر أو سبعة عشر شهراً، والكعبة على حالها بالنسبة إلى أنها قبلة   1 البخاري: أحاديث الأنبياء (3442) , ومسلم: الفضائل (2365) , وأبو داود: السنة (4675) , وأحمد (2/406) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 273 أبيه من قبله، واستقباله بيت المقدس للحاجة العارضة لا ينافيها، ولذلك كان صلى الله عليه وسلم يحب أن يوجه إلى الكعبة، فإنها قبلته وقبلة أبيه إبراهيم. وأما من خالف من الأنبياء، فحصلت موافقته بالميل إلى قبلة إبراهيم وتفضيلها، فإنها الأصل في الاستقبال للأفضلية؛ فموافقته في القلب حاصلة على كل حال، وفي الجهة في بعض الأحيان، ففي الميل والأفضلية حصل عدم الاختلاف، كما لم يختلفوا في أصل الدين قط، وهذا - والله أعلم - مراد محمد بن كعب القرظي؛ فمن ذلك يعلم معنى قوله: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ} أي: لكل أهل ملة من الملل قبلة، والوجهة اسم للمتوجه إليه، {هُوَ مُوَلِّيهَا} ، ووليت عنه إذا أدبرت عنه، والمعنى: لكل ملة من الملل جهة يستقبلونها بأمر الله. سئل الشيخ محمد بن إبراهيم: عن حكم الصلاة في الطيارة، من جهة استقبال القبلة؟ فأجاب: راكب الطيارة لا يخلو، من أن يكون قادراً على شروط الصلاة وأركانها وواجباتها، أو لا؛ فإن كان قادراً على ذلك، صحت صلاته، إذا أتى بها كذلك مطلقاً؛ وإن لم يقدر على الإتيان بها على هذا الوجه، فلا يخلو من أن يمكن النُزول بها إلى الأرض مع انتفاء الضرر، أو لا؛ فإن أمكنه النُزول بها إلى الأرض مع انتفاء الضرر، لزمته الصلاة في الأرض، ولم تصح صلاته في الطيارة؛ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 274 فإن لم يمكنه ذلك، أو كان في ذلك ضرر، أو وجد شيء من الأعذار التي تصح معها الصلاة على الراحلة، فإنه يصلي حينئذ في الطيارة على حسب حاله، ويفعل ما يقدر عليه، ويسقط عنه ما لا يقدر عليه؛ فإن أمكنه استقبال القبلة لزمه ذلك، ويستدير إلى القبلة إذا استدارت. وهذا التفصيل في صلاة المكتوبة، وأما النافلة فحكمها معلوم، والتفصيل فيها غير هذا التفصيل، والله أعلم. فصل وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى: الشرط التاسع: النية، ومحلها القلب، والتلفظ بها بدعة؛ والدليل: الحديث: " إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى " 1. وسئل ابنه: الشيخ عبد الله: عمن قال: إن التلفظ بالنية سنة؟ فأجاب: قول من قال: إن التلفظ بالنية سنة عند الصلاة، خطأ وجهالة، والقائل ذلك مخطئ؛ فإن السنة هو ما واظب عليه النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال ابن القيم: ولم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من الصحابة أنه تلفظ بالنية، ولا استحبها أحد من   1 البخاري: بدء الوحي (1) , والترمذي: فضائل الجهاد (1647) , والنسائي: الطهارة (75) والطلاق (3437) والأيمان والنذور (3794) , وأبو داود: الطلاق (2201) , وابن ماجة: الزهد (4227) , وأحمد (1/25, 1/43) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 275 الأئمة الأربعة، ولا غيرهم. انتهى. وإنما استحبها بعض المتأخرين من أصحاب الشافعي وغيره، فرد عليهم المحققون من أهل مذهبه وغيرهم؛ وكل أحد يؤخذ من قوله ويترك، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا ينبغي للمسلم أن يتبع غلطات العلماء، بل يعرض أقوالهم على الهدى النبوي، فما وافق ذلك قبله، وما خالفه رده على قائله، كائناً من كان. وسئل: عن تعيين الإمام ... إلخ؟ فأجاب: أما تعيين الإمام، فإذا عين إماماً وقصده أنه لا يصلي خلف غيره، فهذا إذا بان أنه غيره لم تصح صلاته، لأنه نوى أن لا يصلي خلفه. وأما إذا عين إماماً، ونيته أن يصلي خلف من يصلي بالجماعة، وليس له قصد في تعيين الإمام، كما هو الواقع في المساجد التي أئمتها راتبون، فهذا إذا بان له أنه غير الإمام الراتب، صحت صلاته، لأن قصده الصلاة مع الجماعة، وليس له قصد في تعيين الإمام. وسئل: إذا نوى كل منهما أنه إمام صاحبه؟ فأجاب: إذا نوى كل منهما أنه إمام صاحبه، فهذه على روايتين: الأولى: عدم الصحة. والثانية: أنها صحيحة، ويصليان فرادى. وسئل: عما إذا نوى كل منهما أنه مأموم؟ فأجاب: إذا نوى كل منهما أنه مأموم، فهي كالتي قبلها على روايتين. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 276 وسئل بعضهم: عن مسبوق ائتم بمثله، هل ينويان حالة دخولهما مع الإمام أنه يأتم أحدهما لصاحبه بعد المفارقة؟ أو تكفي بعد السلام، لأنه وقت ائتمامه به؟ فأجاب: هذه المسألة فيها وجهان لأصحاب أحمد، وبعضهم حكى فيها روايتين؛ قال في الإنصاف: وإن سبق اثنان ببعض الصلاة، فأتم أحدهما بصاحبه في قضاء ما فاتهما، فعلى وجهين. وحكى بعضهم الخلاف روايتين، منهم ابن تميم: إحداهما: يجوز ذلك، وهو المذهب؛ قال المصنف، والشارح، وصاحب الفروع، وغيرهم - لما حكوا الخلاف -: هذا بناء على الاستخلاف، وتقدم جواز الاستخلاف على الصحيح من المذهب، وجزم بالجواز هنا في الوجيز، والإفادات، والمنور، وغيرهم، وصححه في التصحيح والنظم. والوجه الثاني: لا يجوز، قال المجد في شرحه هذا منصوص أحمد، في رواية صالح. وعنه: لا يجوز هنا، وإن جوزنا الاستخلاف، اختاره المجد في شرحه، فرق بينها وبين مسألة الاستخلاف. والذي يترجح عندنا هو الوجه الأول، سواء نويا ذلك في حال دخولهما مع الإمام، أو لا، والله أعلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 277 سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: عمن أحرم منفرداً وحضر جماعة ... إلخ؟ فأجاب: إذا أحرم منفرداً، وحضر جماعة فدخل معهم، فالظاهر عدم الصحة في أصح الروايتين. وسئل الشيخ حمد بن عتيق: عن رجل ينوي صلاة فرض وحده، فكبر وجاء آخر فدخل معه ... إلخ؟ فأجاب: هذا سنة محمد صلى الله عليه وسلم، فقيل له: وإن صلى شيئاً من صلاته؟ فقال: وإن صلى شيئاً من صلاته. سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: إذا انفرد مأموم لعذر؟ فأجاب: إذا انفرد مأموم لعذر، فالظاهر الصحة، لحديث معاذ. سئل الشيخ حمد بن عتيق: عن الرجل يصلي الفريضة، ثم يصلي بقوم هي لهم فريضة، وله نافلة؟ فأجاب: لا بأس به، وفيه حديث معاذ، فقال له السائل: إن كان إماماً في صلاته الأولى؟ فقال: إن كان إماماً في الأولى. سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: عن صحة ائتمام من يؤدي الصلاة بمن يقضيها؟ والمتنفل بالمفترض؟ ومن يصلي الظهر بمن يصلي العصر؟ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 278 فأجاب: الراجح عندنا صحة إئتمام من يؤدي الصلاة بمن يقضيها، وكذلك الراجح: صحة ائتمام المفترض بالمتنفل، وعكسه، وكذلك من يصلي الظهر بمن يصلي العصر. سئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله: عمن ذكر حدثه في الصلاة، هل يستخلف؟ فأجاب: إذا ذكر حدثه في الصلاة، فلا يستخلف. سئل ابنه: الشيخ عبد الله: إذا سبق الإمام الحدث واستخلف، هل تصح؟ فأجاب: إذا سبق الإمام الحدث ثم استخلف، فالظاهر أنها صحيحة. وأجاب بعضهم: وأما إذا دخل الإمام في الصلاة طاهراً فأحدث في نفس الصلاة، يعني غلبه الحدث، فإنه يستخلف من يتم بهم صلاتهم قبل أن يغلبه أو يسبقه الحدث، ويبتدئ الخليفة من موقف الإمام في القراءة وفي أفعال الصلاة؛ فإن لم يكن وراءه من يصلح للإمامة، وقال: أتموا صلاتكم، فأتم كل واحد صلاته وحده، جاز. وأجاب الشيخ عبد الله أبا بطين: وأما قول من قال من الفقهاء: إن صلاة المأموم تبطل ببطلان صلاة إمامه، فمرادهم كما لو أحدث في صلاته فبطلت، فتبطل صلاة المأموم إذا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 279 علم حدث إمامه، مع أن كثيراً من العلماء لا يرون بطلان صلاة المأموم إذا بطلت صلاة إمامه؛ وهو رواية عن أحمد، وفاقاً لمالك والشافعي. وأجاب الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن، رحمهم الله: الاستخلاف قبل حدث الإمام، وأما إذا سبق الحدث، سواء كان في الصلاة أو حدثه قبل الدخول فيها، فلا يصح استخلافه، وصلاة المأمومين في هذه الصورة فاسدة، والله أعلم. وأجاب الشيخ عبد الله بن عبد العزيز العنقري: أما الإمام إذا سبقه الحدث وهو في الصلاة، فقد اختلف العلماء فيها: فمنهم من رأى جواز الاستخلاف والبناء على صلاة الإمام مطلقاً. ومنهم من فرق بين الخارج من السبيلين وغيرهما، وحمل أثر عمر على ذلك. ومنهم من فرق بين ما إذا خرج الحدث، وبين ما إذا لم يخرج، ولم يفرق بين الخارج من السبيلين وغيرهما. والذي أرى: أنه إن كان الخارج من السبيلين فلا استخلاف، وإن كان الخارج من غيرهما، جاز له الاستخلاف، لقصة عمر رضي الله عنه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 280 باب صفة الصلاة سئل الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين: عن الدعاء قبل الإقامة، وبعدها؟ فأجاب: أما الدعاء قبل الإقامة ففعله بعض من يقتدى به، وأما الدعاء بعد الإقامة فلم يرد فيه شيء، والأولى عدم فعله. سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد، رحمهما الله: عما إذا صف بعض المأمومين في الثاني ولم يتم الأول، هل تصح صلاتهم، أم تلزمهم الإعادة؟ فأجاب: بل تصح صلاتهم ولا إعادة عليهم، لكن يؤمرون بإتمام الصف الأول، فالأول، للأحاديث الواردة في ذلك. قال الشيخ عبد الله أبا بطين، رحمه الله تعالى: مسألة أظنها من كلام الشيخ تقي الدين، وهي وقوف المأموم بحيث يسمع قراءة الإمام، وإن كان في الصف الثاني أو الثالث، أفضل من الوقوف في طرف الصف الأول، مع البعد عن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 281 سماع قراءة الإمام، لأن الأول صفة في نفس العبادة، فهي أفضل من مكانها، كما رجحنا الرمل مع البعد في الطواف على الدنو مع ترك الرمل. انتهى. سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: عن الأمير إذا كان له مكان خلف الإمام، وهو يتقدم لذلك أكثر الأحيان، وأحياناً يتأخر، إما لشغل، أو نوم، أو نحو ذلك، إذا أخر الإمام لأجله شق على الجماعة، وإن صلى غضب الأمير؟ فأجاب: أما إذا تأخر الأمير عن الصلاة، إلى حد تضيق به صدور الجماعة، فإمام المسجد يصلي ويتركه، ولا يرفع به رأساً، ولو غضب؛ هذا إذا حضر أكثر الجماعة في المسجد. وأمر العبادات إلى الشارع صلى الله عليه وسلم لا تُطَيَّب بها نفس أحد، لا أمير ولا غيره، ويسار فيها على ما سن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا تجعل العادات إلا تبعاً للشرع؛ فالشرع متبوع لا تابع. والذي لا يرضى بهذا، فعساه لا يرضى. فإذا كان إمام المسجد بنفسه إذا غاب صلى الجماعة، كما كان العمل عليه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فكيف بالأمير؟ ويبين للأمير ويفطن أن هذا أمر لا يجوز له. قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى: اعلم، أرشدك الله لطاعته، وأحاطك بحياطته، وتولاك في الدنيا والآخرة: أن مقصود الصلاة، وروحها ولبها، هو: إقبال الجزء: 4 ¦ الصفحة: 282 القلب على الله تعالى فيها؛ فإذا صليت بلا قلب، فهي كالجسد الذي لا روح فيه. ويدل لهذا قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} [سورة الماعون آية: 4-5] ، ففسر السهو بالسهو عن وقتها أي: إضاعته، والسهو عما يجب فيها، والسهو عن حضور القلب؛ ويدل على ذلك الحديث الذي في صحيح مسلم، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "تلك صلاة المنافق، تلك صلاة المنافق، تلك صلاة المنافق: يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني شيطان، قام فنقر أربعاً لا يذكر الله فيها إلا قليلاً " 1، فوصفه بإضاعة الوقت بقوله: "يرقب الشمس "، وبإضاعة الأركان بذكره النقر، وبإضاعة حضور القلب بقوله:" لا يذكر الله فيها إلا قليلاً ". سئل الشيخ عبد الله بن محمد: عن رفع اليدين؟ فأجاب: أما رفع اليدين في الصلاة عند التكبير، فثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يرفع يديه في ثلاثة مواضع في الصلاة: عند تكبيرة الإحرام يرفع يديه، حتى يكونا حذو منكبيه، وإذا أراد أن يركع رفعهما كذلك، وإذا رفع رأسه من الركوع رفعهما كذلك، فإذا فرغ من رفع اليدين وضع يمينه على شماله، على مفصل الكف، تحت السرة، كما في سنن أبي داود عن علي قال: "من السنة وضع الكف على الكف في الصلاة، تحت السرة ". وأجاب بعضهم، رحمه الله: رفع اليدين في الصلاة،   1 مسلم: المساجد ومواضع الصلاة (622) , والترمذي: الصلاة (160) , والنسائي: المواقيت (511) , وأبو داود: الصلاة (413) , وأحمد (3/185) , ومالك: النداء للصلاة (512) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 283 وجعل اليمين على الشمال، سنة مؤكدة ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة في الصحاح والسنن والمسانيد؛ ومن أشهر ذلك حديث عبد الله بن عمر المتفق على صحته، قال: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفع يديه إذا افتتح الصلاة، وإذا أراد أن يركع، وإذا رفع رأسه من الركوع " 1. وأما وضع اليمين على الشمال، ففي حديث سهل بن سعد، في صحيح البخاري، قال: " كان الناس يؤمرون: أن يضع الرجل اليد اليمنى على ذراعه اليسرى في الصلاة " 2 الحديث. وسئل: عن الاستفتاح في الصلاة بما الناس عليه، وما الدليل على ذلك؟ فأجاب: قد ثبت في السنن الأربعة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يستفتح الصلاة بـ" سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك "، وصح في صحيح مسلم: أن عمر كان يجهر بهؤلاء الكلمات، يعلمهن الناس في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بحضرة الأكابر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار؛ فلأجل ذلك أخذ به الإمام أحمد، وجماعة من أهل الحديث. قال أحمد: أنا أختاره، وإن استفتح أحد بغيره مما صح عنه صلى الله عليه وسلم فحسن. وأجاب عبد الله بن الشيخ، رحمه الله: قوله: " وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض " 3 إلى قوله " وأنا من المسلمين " 4 هو في صحيح مسلم وغيره من كتب الحديث،   1 البخاري: الأذان (735) , ومسلم: الصلاة (390) , والترمذي: الصلاة (255) , والنسائي: الافتتاح (878) , وأبو داود: الصلاة (721) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (858) , وأحمد (2/8) , والدارمي: الصلاة (1308) . 2 البخاري: الأذان (740) , وأحمد (5/336) , ومالك: النداء للصلاة (378) . 3 مسلم: صلاة المسافرين وقصرها (771) , والترمذي: الدعوات (3421, 3422, 3423) , والنسائي: الافتتاح (897) , وأبو داود: الصلاة (760) , وأحمد (1/102) , والدارمي: الصلاة (1238) . 4 مسلم: صلاة المسافرين وقصرها (771) , والترمذي: الدعوات (3421, 3422) , والنسائي: الافتتاح (897) , وأبو داود: الصلاة (760) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 284 ولا يقال إلا بعد تكبيرة الإحرام، يستفتح به قبل الشروع في قراءة الفاتحة. وأجاب الشيخ عبد الله أبا بطين: أما الاستفتاح في الصلاة، فلا يشرع إلا في الركعة الأولى، فرضاً كانت أو نفلاً، وكذلك التعوذ في المشهور؛ والشافعي يرى التعوذ في كل ركعة فرضاً أو نفلاً. قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن: قوله في الاستفتاح: "ولا إله غيرك " أي: لا يستحق أن يعبد غيرك، وهو يؤيد ما قد قلته، من أن المقدر في كلمة الإخلاص، إذا قال الموحد: لا إله إلا الله، أي: لا إله حق إلا الله، والعامل في هذا المقدر "لا" على أنه خبرها في قول الأخفش. وعلى قول سيبويه لم تعمل فيه "لا" وإنما عمل فيه المبتدأ، وهو "لا" مع اسمها؛ فإن "لا" مع اسمها في محل رفع على الابتداء. والمقصود: أن المقدر "حق" ليطابق ما في الآيتين في سورة الحج ولقمان. سئل الشيخ حسين، والشيخ عبد الله، ابنا الشيخ محمد، رحمهم الله: عن الجهر بالبسملة؟ فأجاب: الصواب عندنا ترك الجهر بالبسملة، وهذا هو الثابت عندنا من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وفعل خلفائه الراشدين، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 285 كما هو مذكور في الكتب الصحيحة، كالصحيحين وغيرهما، والله أعلم. وأجاب أيضاً: الشيخ عبد الله بن محمد: أكثر الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يخفيها ولا يجهر بها، وإن جهر أحد لم ينكر عليه، لأن في بعض الأحاديث أنه جهر بها. وأجاب بعضهم، رحمهم الله: اختلف الفقهاء: هل البسملة آية من الفاتحة وغيرها من السور؟ أو هي آية من الفاتحة دون غيرها من السور؟ أو ليست من الفاتحة ولا غيرها من السور، بل هي آية من القرآن، تكتب في أول كل سورة، سوى براءة؟ هذه أقوال ثلاثة، ذهب إلى كل قول طائفة من العلماء؛ والذي يترجح عندنا القول الأخير، وبه قال أحمد بن حنبل وغيره من فقهاء الحديث. وأما الجهر بها في الصلاة، فالأحاديث الصحيحة، تدل على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يجهر بها، لا هو ولا خلفاؤه؛ فإنه قد روي في بعض الأحاديث، كما قد ثبت في الصحيح عن أنس بن مالك، خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين في الحضر والسفر، قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر، وعمر، يستفتحون القراءة بـ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ، لا يذكرون: {ِبسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} في أول قراءة ولا في الجزء: 4 ¦ الصفحة: 286 آخرها " 1. يعنى: أن أول ما يجهرون به في الصلاة من القراءة: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ، وبذلك أخذ الإمام أحمد وجماعة من فقهاء الحديث، واستحبوا ترك الجهر بها من غير إنكار على من جهر بها. وأما القراءة في الصلاة، فالواجب من ذلك قراءة الفاتحة لا غير، لمن قدر على تعلمها، واستدلوا على ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: " لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب " 2، أخرجه مسلم في صحيحه، وفيه دلالة واضحة. قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله، بعد ذكره مقصود الصلاة ولبها وتقدم قريباً: إذا فهمت ذلك، فافهم نوعاً واحداً من الصلاة، وهو قراءة الفاتحة، لعل الله أن يجعل صلاتك في الصلوات المقبولة المكفرة للذنوب. ومن أحسن ما يفتح لك الباب في فهم الفاتحة، حديث أبي هريرة الذي في صحيح مسلم، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " يقول الله تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل: فإذا قال العبد: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} قال الله: حمدني عبدي، فإذا قال: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} قال الله: أثنى عليّ عبدي، فإذا قال: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} قال: مجدني عبدي، فإذا قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} قال الله: هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل، فإذا قال: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} قال الله: هذا لعبدي، ولعبدي ما سأل " 3.   1 البخاري: الأذان (743) , ومسلم: الصلاة (399) , والترمذي: الصلاة (246) , والنسائي: الافتتاح (902) , وأبو داود: الصلاة (782) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (813) , وأحمد (3/101, 3/114, 3/168, 3/223) , والدارمي: الصلاة (1240) . 2 البخاري: الأذان (756) , ومسلم: الصلاة (394) , والترمذي: الصلاة (247) , والنسائي: الافتتاح (910) , وأبو داود: الصلاة (822) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (837) . 3 مسلم: الصلاة (395) , والترمذي: تفسير القرآن (2953) , وأحمد (2/241, 2/285, 2/460) , ومالك: النداء للصلاة (189) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 287 فإذا تأمل العبد هذا، وعلم أنها نصفان: نصف لله، وهو أولها إلى قوله {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} ، ونصف للعبد، دعاء يدعو به لنفسه. وتأمل أن الذي علمه هذا هو الله تعالى، وأمره أن يدعو به، ويكرره في كل ركعة، وأنه سبحانه من فضله وكرمه: ضمن إجابة هذا الدعاء إذا دعاه بإخلاص وحضور قلب، تبين له ما أضاع أكثر الناس. قد هيئوك لأمر لو فطنتَ له ... فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهملِ وها أنا أذكر لك بعض معاني هذه السورة العظيمة، لعلك تصلي بحضور قلب، ويعلم قلبك ما نطق به لسانك، لأن ما نطق به اللسان ولم يعقد عليه القلب ليس بعمل صالح، كما قال تعالى {يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} [سورة الفتح آية: 11] . وأبدأ بمعنى الاستعاذة، ثم البسملة، على طريق الاختصار والإيجاز. فمعنى: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ألوذ واعتصم بالله، وأستجير بجنابه من شر هذا العدو، أن يضرني في ديني، أو دنياي، أو يصدني عن فعل ما أُمرت به، أو يحثني على ما نُهيت عنه، لأنه أحرص ما يكون على العبد إذا أراد عمل الخير، من صلاة، أو قراءة، أو غير ذلك؛ وذلك أنه لا حيلة لك في دفعه إلا بالاستعاذة بالله، لقوله تعالى: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ} [سورة الأعراف آية: 27] ، فإذا طلبت من الله أن يعيذك منه، واعتصمت به، كان هذا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 288 سبباً في حضور القلب. فاعرف معنى هذه الكلمة، ولا تقلها باللسان فقط، كما عليه أكثر الناس. وأما البسملة، فمعناها: أَدْخُلُ في هذا الأمر من قراءة، أو دعاء، أو غير ذلك {ِبسْمِ اللَّهِ} ، لا بحولي ولا بقوتي؛ بل أفعل هذا الأمر مستعيناً بالله، متبركاً باسمه تبارك وتعالى. هذا في كل أمر تسمي في أوله، من أمر الدين وأمر الدنيا؛ فإذا أحضرت في نفسك: أن دخولك في القراءة، مستعيناً به، متبرئاً من الحول والقوة، كان هذا أكبر الأسباب في حضور القلب، وطرد الموانع من كل خير. {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} : اسمان مشتقان من الرحمة، أحدهما أبلغ من الآخر، مثل العلام والعليم؛ قال ابن عباس: "هما اسمان رقيقان، أحدهما أرق من الآخر، أي أكثر رحمة ". وأما الفاتحة فهي سبع آيات: ثلاث ونصف لله، وثلاث ونصف للعبد. فأولها: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ، فاعلم أن الحمد هو: الثناء باللسان على الجميل الاختياري، فأخرج بقوله الثناء باللسان، الثناء بالفعل، الذي يسمى لسان الحال؛ فذلك من نوع الشكر. وقوله: على الجميل الاختياري: الذي يفعله الإنسان بإرادته، وأما الجميل الذي لا صنع له فيه، مثل الجمال، ونحوه، فالثناء به يسمى: مدحاً لا حمداً. والفرق بين الحمد والشكر، أن الحمد يتضمن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 289 المدح والثناء على المحمود بذكر محاسنه، سواء كان إحساناً إلى الحامد أو لم يكن، والشكر لا يكون إلا على إحسان المشكور؛ فمن هذا الوجه الحمد أعم من الشكر، لأنه يكون على المحاسن، والإحسان؛ فإن الله يحمد على ما له من الأسماء الحسنى، وما خلقه في الآخرة والأولى، ولهذا قال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً} الآية [سورة الإسراء آية: 111] ، قال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ} [سورة الأنعام آية: 1] إلى غير ذلك من الآيات. وأما الشكر، فإنه لا يكون إلا على الإنعام، فهو أخص من الحمد من هذا الوجه، لكنه يكون بالقلب واليد واللسان، ولهذا قال تعالى: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْراً} [سورة سبأ آية: 13] ، والحمد إنما يكون بالقلب واللسان؛ فمن هذا الوجه الشكر أعم من جهة أنواعه، والحمد أعم من جهة أسبابه. والألف واللام في قوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} للاستغراق، أي: جميع أنواع الحمد لله لا لغيره؛ فأما الذي لا صنع للخلق فيه، مثل خلق الإنسان، وخلق السمع والبصر، والسماء والأرض، والأرزاق، وغير ذلك، فواضح، وأما ما يحمد عليه المخلوق، مثل ما يثنى على الصالحين، والأنبياء، والمرسلين، وعلى من فعل معروفاً، خصوصاً إن أسداه إليك، فهذا كله لله أيضاً، بمعنى: أنه خلق ذلك الفاعل، وأعطاه ما فعل به، وحببه إليه، وقواه عليه، فصار الحمد كله لله بهذا الاعتبار. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 290 وأما قوله: {لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [سورة الفاتحة آية: 2] ، فالله: علَمٌ على ربنا تبارك وتعالى، ومعناه: الإله، أي: المعبود، لقوله: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ} [سورة الأنعام آية: 3] ، أي: المعبود في السماوات، والمعبود في الأرض، {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً} [سورة مريم آية: 93] الآيتين. وأما الرب، فمعناه: المالك المتصرف. وأما العالمين، فهو: اسم لكل ما سوى الله تبارك وتعالى، فكل ما سواه من ملك، ونبي، وإنسي، وجني، وغير ذلك، مربوب مقهور، يتصرف فيه، فقير محتاج؛ كلهم صامدون إلى واحد لا شريك له في ذلك، وهو الغني الصمد. وذكر بعد ذلك: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [سورة الفاتحة آية: 4] ، وفي قراءة أخرى: {مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ} فذكر في أول هذه السورة التي هي أول المصحف، الألوهية والربوبية والملك، كما ذكره في آخر سورة في المصحف: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ مَلِكِ النَّاسِ إِلَهِ النَّاسِ} [سورة الناس آية: 1-3] . فهذه ثلاثة أوصاف لربنا تبارك وتعالى، ذكرها مجموعة في موضع واحد في أول القرآن، ثم ذكرها مجموعة في موضع واحد، في آخر ما يطرق سمعك من القرآن. فينبغي لمن نصح نفسه: أن يعتني بهذا الموضع، ويبذل جهده في البحث عنه، ويعلم أن العليم الخبير لم يجمع بينها في أول القرآن، ثم في آخره، إلا لما يعلم من شدة حاجة العباد إلى معرفتها، ومعرفة الفرق بين هذه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 291 الصفات؛ فكل صفة لها معنى غير معنى الصفة الأخرى، كما يقال محمد رسول الله، وخاتم النبيين، وسيد ولد آدم، فكل وصف له معنى، غير معنى الوصف الآخر. إذا عرفت أن معنى الله هو: الإله، وعرفت أن الإله هو: المعبود، ثم دعوت الله، أو ذبحت له، أو نذرت له، فقد عرفت أنه الله، فإن دعوت مخلوقاً طيباً أو خبيثاً، أو ذبحت له، أو نذرت له، فقد زعمت أنه الله; فمن عرف أنه قد جعل "شمسان" أو "تاجاً" برهة من عمره هو الله، عرف ما عرفت بنو إسرائيل لما عبدوا العجل، فلما تبين لهم ارتاعوا، وقالوا ما ذكر الله عنهم: {وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [سورة الأعراف آية: 149] . وأما الرب، فمعناه: المالك المتصرف، فالله تعالى مالك كل شيء، وهو المتصرف فيه؛ وهذا حق، ولكن أقرّ به عباد الأصنام الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما ذكر الله عنهم في القرآن في غير موضع، كقوله تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} إلى قوله: {فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} [سورة يونس آية: 31] . فمن دعا الله في تفريج كربته، وقضاء حاجته، ثم دعا مخلوقاً في ذلك، خصوصاً إن اقترن بدعائه نسبة نفسه إلى عبوديته، مثل قوله في دعائه: فلان عبدك، أو قول: عبد علي، أو عبد النبي، أو عبد الزبير، فقد أقر له الجزء: 4 ¦ الصفحة: 292 بالربوبية، وفي دعائه علياً، أو الزبير، وإقراره له بالعبودية ليأتي له بخير، أو ليصرف عنه شراً، مع تسمية نفسه عبداً له، قد أقَرّ له بالربوبية، ولم يقر لله بأنه رب العالمين كلهم، بل جحد بعض ربوبيته. فرحم الله عبداً نصح نفسه، وتفطن لهذه المهمات، وسأل عن كلام أهل العلم، وهم أهل الصراط المستقيم، هل فسروا السورة بهذا، أم لا. وأما الملك فيأتي الكلام عليه، وذلك أن قوله تعالى: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [سورة الفاتحة آية: 4] ، وفي القراءة الأخرى: {مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ} فمعناه عند جميع المفسرين كلهم، ما فسره الله به في قوله: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [سورة الانفطار آية: 17-19] . فمن عرف تفسير هذه الآية، وعرف تخصيص الملك بذلك اليوم، مع أنه سبحانه مالك كل شيء، ذلك اليوم وغيره، عرف أن التخصيص لهذه المسألة الكبيرة العظيمة، التي بسبب معرفتها دخل الجنة من دخلها، وبسبب الجهل بها دخل النار من دخلها. فيا لها من مسألة لو رحل الرجل فيها أكثر من عشرين سنة لم يوفها حقها! فأين هذا المعنى والإيمان به، والإيمان بما صرح به القرآن، مع قوله صلى الله عليه وسلم: " يا فاطمة بنت محمد، لا أغني عنك من الله شيئاً " 1، من قول صاحب البردة؟ ولن يضيق رسول الله جاهك بي ... إذا الكريم تجلى باسم منتقمِ   1 البخاري: الوصايا (2753) , ومسلم: الإيمان (206) , والنسائي: الوصايا (3646, 3647) , وأحمد (2/398, 2/519) , والدارمي: الرقاق (2732) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 293 فإن لي ذمة منه بتسميتي ... محمداً وهو أوفى الخلق بالذممِ إن لم تكن في معادي آخذاً بيدي ... فضلاً وإلا فقل يا زلة القدمِ فليتأمل من نصح نفسه هذه الأبيات ومعناها، ومن فتن بها من العباد، وممن يدعي أنه من العلماء، واختاروا تلاوتها على تلاوة القرآن، هل يجتمع في قلب عبد: التصديق بهذه الأبيات، والتصديق بقوله: {يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [سورة الانفطار آية: 19] ، وقوله: "يا فاطمة بنت محمد، لا أغني عنك من الله شيئاً " 1؟ لا والله! لا والله! لا والله! إلا كما يجتمع في قلبه أن موسى صادق، وأن فرعون صادق، وأن محمداً صادق على الحق، وأن أبا جهل صادق على الحق. فلا والله ما استويا ولن يتلاقيا ... حتى تشيب مفارق الغربانِ فمن عرف هذه المسألة، وعرف البردة ومن فتن بها، عرف غربة الإسلام، وعرف أن العداوة، واستحلال دمائنا وأموالنا ونسائنا، ليس عند التكفير والقتال؛ بل هم الذين بدؤونا بالتكفير والقتال، بل عند قوله: {فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} [سورة الجن آية: 18] ، وعند قوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} [سورة الإسراء آية: 57] ، وقوله: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ} [سورة الرعد آية: 14] .   1 البخاري: الوصايا (2753) , ومسلم: الإيمان (206) , والنسائي: الوصايا (3646, 3647) , وأحمد (2/398, 2/519) , والدارمي: الرقاق (2732) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 294 فهذا بعض المعاني في قوله: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [سورة الفاتحة آية: 4] بإجماع المفسرين كلهم؛ وقد فسرها الله سبحانه في سورة: {إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ} [سورة الانفطار آية: 1] كما قدمت لك. واعلم، أرشدك الله، أن الحق لا يتبين إلا بالباطل، كما قيل: وبضدها تتبين الأشياء. فتأمل ما ذكرت لك، ساعة بعد ساعة، ويوماً بعد يوم، وشهراً بعد شهر، وسنة بعد سنة، لعلك أن تعرف ملة أبيك إبراهيم، ودين نبيك، فتحشر معهما، ولا تصد عن الحوض يوم الدين، كما يصد عنه من صد عن طريقهما؛ ولعلك أن تمر على الصراط يوم القيامة، ولا تزل عنه، كما زل عن صراطهما المستقيم في الدنيا من زل. فعليك بإدامة دعاء الفاتحة، مع حضور قلب وخوف وتضرع. وأما قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [سورة الفاتحة آية: 5] ، فالعبادة: كمال المحبة وكمال الخضوع والخوف والذل. وقدم المفعول، وهو: إياك، وكرر للاهتمام والحصر، أي: لا نعبد إلا إياك، ولا نتوكل إلا عليك؛ وهذا هو كمال الطاعة. والدين كله يرجع إلى هذين المعنيين: فالأول: التبرؤ من الشرك، والثاني: التبرؤ من الحول والقوة. فقوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [سورة الفاتحة آية: 5] ، أي: إياك نوحد، ومعناه: أنك تعاهد ربك أن لا تشرك في عبادته أحداً، لا ملكاً ولا نبياً ولا غيرهما، كما قال للصحابة: {وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [سورة آل عمران آية: 80] . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 295 فتأمل هذه الآية، واعرف ما ذكرت لك في الربوبية، أنها التي نسبت إلى تاج، ومحمد بن شمسان؛ فإذا كان الصحابة لو يفعلونها مع الرسل كفروا بعد إسلامهم، فكيف بمن فعلها في تاج، وأمثاله؟ وقوله: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [سورة الفاتحة آية: 5] ، هذا فيه أمران: أحدهما: سؤال الإعانة من الله، كما مر أنها من نصف العبد. وأما قوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [سورة الفاتحة آية: 6] ، فهذا هو الدعاء الصريح، الذي هو حظ العبد من الله، وهو التضرع إليه، والإلحاح عليه أن يرزقه هذا المطلب العظيم، الذي لم يعط أحد في الدنيا والآخرة أفضل منه، كما من الله على رسوله صلى الله عليه وسلم بعد الفتح بقوله: {وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً} [سورة الفتح آية: 2] . والهداية ها هنا: التوفيق والإرشاد. وليتأمل العبد ضرورته إلى هذه المسألة، فإن الهداية إلى ذلك تتضمن العلم النافع، والعمل الصالح، على وجه الاستقامة والكمال، والثبات على ذلك إلى أن يلقى الله. والصراط: الطريق الواضح، والمستقيم: الذي لا عوج فيه؛ والمراد بذلك: الدين الذي أنزله الله على رسول صلى الله عليه وسلم، وهو: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [سورة الفاتحة آية: 7] ، وهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه. وأنت في كل ركعة تسأل الله أن يهديك إلى طريقهم، وعليك من الفرائض أن تصدق الله أنه هو المستقيم، وكل ما خالفه من طريق أو علم أو عبادة فليس الجزء: 4 ¦ الصفحة: 296 بمستقيم؛ وهذه أول الواجبات من هذه الآية، وهو اعتقاد ذلك بالقلب. وليحذر المؤمن من خدع الشيطان، وهو: اعتقاد ذلك مجملاً، وتركه مفصلاً، فإن أكفر الناس من المرتدين، يعتقدون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحق، وأن ما خالفه باطل، فإذا جاء بما لا تهوى أنفسهم، فكما قال تعالى: {فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ} [سورة المائدة آية: 70] . وأما قوله: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [سورة الفاتحة آية: 7] ، فالمغضوب عليهم هم: العلماء الذين لم يعملوا بعلمهم، والضالون: العاملون بغير علم؛ فالأول صفة اليهود، والثاني صفة النصارى. وكثير من الناس إذا رأى في التفسير: أن اليهود مغضوب عليهم، وأن النصارى ضالون، ظن الجاهل أن ذلك مخصوص بهم، وهو يقر أن ربه فارض عليه أن يدعو بهذا الدعاء، ويتعوذ من طريق أهل هذه الصفات، فيا سبحان الله! كيف يعلمه الله ويختار له، ويفرض عليه أن يدعو به دائماً، مع أنه لا حذر عليه منه، ولا يتصور أنه يفعله؛ هذا من ظن السوء بالله، والله أعلم. هذا آخر الفاتحة، وأما "آمين" فليست من الفاتحة، ولكنها تأمين على الدعاء، معناها: اللهم استجب. فالواجب تعليم الجاهل، لئلا يظن أنها من كلام الله. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 297 وأجاب ابنه: الشيخ عبد الله: وأما التأمين بعد الفاتحة، فثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إذا قال الإمام: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} ، فقولوا: آمين؛ فإن الملائكة في السماء تقول: آمين. فمن وافق قوله قول الملائكة، غفر له ما تقدم من ذنبه " 1. ويسن للإمام والمأمومين أن يقولوها جهراً. وأجاب بعضهم: التأمين سنة مؤكدة، وصح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم " كان إذا قرأ: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} قال: آمين، يجهر بها " 2. وصح من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إذا قال الإمام: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} فقولوا: آمين؛ فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة، غفر له ما تقدم من ذنبه " 3. وأجمع العلماء، رحمهم الله، على استحباب ذلك. سئل بعضهم: كم الواجب من القراءة في الصلاة؟ وما الدليل على ذلك؟ فأجاب: الواجب من ذلك قراءة الفاتحة لا غير، لمن قدر على تعلمها، واستدلوا على ذلك، بقوله صلى الله عليه وسلم: " لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب " 4، أخرجه مسلم في صحيحه؛ وفيه دلالة واضحة. سئل الشيخ حمد بن عتيق: عمن قرأ سورة مرتين في ركعة من الفرض؟ فأجاب: لا بأس به.   1 البخاري: تفسير القرآن (4475) , ومسلم: الصلاة (410) , والترمذي: الصلاة (250) , والنسائي: الافتتاح (927, 928, 929, 930) , وأبو داود: الصلاة (935, 936) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (851) , وأحمد (2/233, 2/238, 2/270, 2/312, 2/449, 2/459) , ومالك: النداء للصلاة (195, 196, 197) , والدارمي: الصلاة (1246) . 2 الترمذي: الصلاة (248) , وأبو داود: الصلاة (932) , والدارمي: الصلاة (1247) . 3 البخاري: الأذان (782) , ومسلم: الصلاة (410) , والترمذي: الصلاة (250) , والنسائي: الافتتاح (927, 928, 929, 930) , وأبو داود: الصلاة (935, 936) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (851, 853) , وأحمد (2/233, 2/270, 2/312, 2/449, 2/459) , ومالك: النداء للصلاة (195, 196, 197) , والدارمي: الصلاة (1246) . 4 البخاري: الأذان (756) , ومسلم: الصلاة (394) , والترمذي: الصلاة (247, والنسائي: الافتتاح (910) , وأبو داود: الصلاة (822) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (837) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 298 سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد، رحمهم الله: ما يقول بين السجدتين؟ فأجاب: إذا جلس بين السجدتين، قال: رب اغفر لي، وارحمني، واهدني، وارزقني، وعافني، واعف عني. وسئل: عن التحيات؟ فأجاب: وأما صفة التحيات، فالذي نختاره: ما ثبت في الصحيحين وغيرهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم " أنه كان يعلم أصحابه التشهد في الصلاة، كما يعلمهم السورة من القرآن: التحيات لله، والصلوات، والطيبات. السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته. السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين. أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم وآله، ويدعو بما تيسر، ثم يسلم " 1. قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله: "التحيات لله "، ومن التحيات الخضوع، والركوع، والكتوف 2، والخشوع، والدوام، والبقاء، وأمثال ذلك، "والصلوات " هي: الدعوات؛ فأولها: الشهادتان، ومنها الخوف والرجاء، والتوكل، والإنابة، والخشية، والرغبة، والرهبة، والذبح، والنذر ونحو ذلك، "والطيبات " وأولها: الصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، والأمر بالمعروف والنهي عن   1 البخاري: التوحيد (7381) , ومسلم: الصلاة (402) , والترمذي: الصلاة (289) والنكاح (1105) , والنسائي: التطبيق (1162, 1163, 1164, 1166, 1167, 1170, 1171) والسهو (1298) , وأحمد (1/376, 1/450, 1/459, 1/464) , والدارمي: الصلاة (1340, 1341) . 2 وضع إحدى يديه على الأخرى, ذلاً بين يدي الله. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 299 المنكر، وكل عمل، كالجهاد، والنفقة، والكلام، وكل عمل تعمله لله؛ فهذا كله لا حق فيه لا لملك مقرب، ولا نبي مرسل، فضلاً عن غيرهم. "السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته " ومعناها: تدعو بالسلامة والرحمة والبركة، ثم تدعو لنفسك وكل عبد صالح في السماوات والأرض، من الأحياء والأموات، ثم تختمها بالشهادتين. سئل الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن، عن رفع اليدين إذا قام بعد التشهد الأول؟ فأجاب: هو في هذا الموضع ثابت في الصحيح، من حديث عبد الله بن عمر، وثابت أيضاً من حديث علي عند الإمام أحمد، خرجه في المسند، وكذلك هو في سنن أبي داود، والنسائي، وابن ماجة، وهو أصح الروايتين عند أصحاب الإمام أحمد. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 300 فصل قال الشيخ: عبد الرحمن بن حسن في أثناء جواب له: قال ابن القيم، رحمه الله: فصل فيما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله بعد انصرافه من الصلاة، وجلوسه بعدها، وسرعة انفتاله منها، وما شرعه لأمته من الأذكار، والقراءة بعدها: كان إذا سلم استغفر ثلاثاً، وقال: " اللهم أنت السلام ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام " 1، ولم يمكث مستقبل القبلة إلا مقدار ما يقول ذلك، بل يسرع الانفتال إلى المأمومين. وكان ينفتل عن يمينه، وعن يساره؛ قال ابن مسعود: " رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيراً ما ينصرف عن يساره " 2. وقال أنس: " أكثر ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينصرف عن يمينه " 3، والأول في الصحيحين، والثاني في مسلم. وقال عبد الله بن عمر: " رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينفتل عن يمينه، وعن يساره في الصلاة. ثم كان يقبل على المأمومين بوجهه، ولا يخص ناحية منهم دون ناحية " 4. " وكان إذا صلى الفجر جلس في مصلاه حتى تطلع الشمس " 5. " وكان يقول في دبر كل صلاة مكتوبة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد " 6. وكان يقول: " لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له   1 مسلم: المساجد ومواضع الصلاة (591) , والترمذي: الصلاة (300) , وأبو داود: الصلاة (1512) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (928) , وأحمد (5/279) , والدارمي: الصلاة (1348) . 2 البخاري: الأذان (852) , والنسائي: السهو (1360) , وأبو داود: الصلاة (1042) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (930) , وأحمد (1/383, 1/408, 1/429, 1/459, 1/464) , والدارمي: الصلاة (1350) . 3 مسلم: صلاة المسافرين وقصرها (708) , والنسائي: السهو (1359) , وأحمد (3/179, 3/217) , والدارمي: الصلاة (1351, 1352) . 4 ابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (931) , وأحمد (2/190, 2/215) . 5 مسلم: المساجد ومواضع الصلاة (670) , والترمذي: الجمعة (585) , والنسائي: السهو (1357, 1358) , وأحمد (5/100) . 6 البخاري: الأذان (844) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (593) , والنسائي: السهو (1341) , وأبو داود: الصلاة (1505) , وأحمد (4/250) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 301 الملك وله الحمد، وهو كل على كل شيء قدير، لا حول ولا قوة إلا بالله، لا إله إلا الله ولا نعبد إلا إياه، له النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن، لا إله إلا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون " 1. وذكر أبو داود عن علي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا سلم من الصلاة قال: اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، وما أنت أعلم به مني. أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت " 2. وذكر الإمام أحمد عن زيد بن أرقم: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في دبر كل صلاة: اللهم ربنا ورب كل شيء، أنا شهيد أنك الرب وحدك لا شريك لك. اللهم ربنا ورب كل شيء، أنا شهيد أن محمداً عبدك ورسولك. اللهم ربنا ورب كل شيء، أنا شهيد أن العباد كلهم إخوة. اللهم ربنا ورب كل شيء، اجعلني مخلصاً لك وأهلي في كل ساعة من الدنيا والآخرة. يا ذا الجلال والإكرام اسمع واستجب. الله أكبر. الله أكبر. الله نور السماوات والأرض. الله أكبر. الله أكبر. حسبي الله ونعم الوكيل. الله أكبر الأكبر " 3، رواه أبو داود. وندب أمته إلى أن يقولوا في دبر كل صلاة: "سبحان الله" ثلاثاً وثلاثين، و"الحمد لله" ثلاثاً وثلاثين، و"الله أكبر" كذلك، وتمام المائة: "لا إله إلا الله وحده لا شريك   1 مسلم: المساجد ومواضع الصلاة (594) , والنسائي: السهو (1339) , وأحمد (4/4) . 2 الترمذي: الدعوات (3421) , وأبو داود: الصلاة (1509) , وأحمد (1/94, 1/102) . 3 أبو داود: الصلاة (1508) , وأحمد (4/369) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 302 له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ". وفي صفة أخرى: " التكبير" أربعاً وثلاثين، فتتم المائة. وفي صفة أخرى: خمساً وعشرين تسبحية، ومثلها تحميداً، ومثلها تكبيراً، ومثلها "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ". وفي صفة أخرى: عشر تسبيحات، وعشر تحميدات، وعشر تكبيرات. وفي السنن من حديث أبي ذر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من قال في دبر صلاة الفجر، وهو ثان رجليه قبل أن يتكلم: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، عشر مرات، كتب له عشر حسنات، ومحي عنه عشر سيئات، ورفع له عشر درجات، وكان يومه ذلك في حرز من الشيطان، ولم ينبغِ لذنب أن يدركه ذلك اليوم إلا الشرك بالله " 1، قال الترمذي: حديث صحيح. وذكر أبو حاتم في صحيحه: " أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول عند انصرافه من صلاته: اللهم أصلح لي ديني الذي جعلته عصمة أمري، وأصلح لي دنياي التي جعلت فيها معاشي. اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبعفوك من عقوبتك، وأعوذ بك منك. لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد " 2. وذكر الحاكم في مستدركه عن أبي أيوب، قال: "ما صليت وراء نبيكم صلى الله عليه وسلم إلا سمعته حين ينصرف من صلاته   1 الترمذي: الدعوات (3474) . 2 النسائي: السهو (1346) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 303 يقول: اللهم اغفر لي ذنوبي وخطاياي كلها. اللهم أنعشني وأحيني وارزقني، واهدني لصالح الأعمال والأخلاق، إنه لا يهدي لصالحها إلا أنت، ولا يصرف سيئها إلا أنت ". وذكر ابن حبان في صحيحه عن الحارث بن مسلم التميمي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا صليت الصبح فقل قبل أن تتكلم: اللهم أجرني من النار، سبع مرات؛ فإنك إن مت من يومك كتب الله لك جواراً من النار. وإذا صليت المغرب فقل قبل أن تتكلم: اللهم أجرني من النار، سبع مرات؛ فإنك إن مت من ليلتك كتب الله لك جواراً من النار " 1. وقد ذكر النسائي في السنن الكبير، من حديث أبي أمامة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من قرأ آية الكرسي في دبر كل صلاة مكتوبة، لم يمنعه من دخول الجنة إلا أن يموت "، تفرد به محمد بن حمير، عن محمد بن زياد الألهاني، عن أبي أمامة; ورواه النسائي عن الحسين بن بشر، عن محمد بن حمير، وهذا الحديث من الناس من صححه، ومنهم من يقول: هو موضوع، وأدخله ابن الجوزي في كتابه في الموضوعات، وتعلق على محمد بن حمير، وأن أبا حاتم الرازي قال: لا يحتج به، وقال يعقوب بن سفيان: ليس بقوى; وأنكر ذلك بعض الحفاظ، ووثقوا محمداً، وقد احتج به البخاري، ووثقه يحيى بن معين; وقد رواه الطبراني في معجمه أيضاً، من حديث عبد الله بن حسن، عن أبيه عن جده، قال: قال   1 أحمد (4/234) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 304 رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من قرأ آية الكرسي في دبر الصلاة المكتوبة، كان في ذمة الله إلى الصلاة الأخرى ". وقد روي هذا الحديث من حديث عبد الله بن عمر، والمغيرة بن شعبة، وجابر بن عبد الله، وأنس بن مالك، رضي الله عنهم؛ وفي كلها ضعف، ولكن إذا انضم بعضها إلى بعض مع تباين طرقها واختلاف مخارجها، دل على أن الحديث له أصل، وليس بموضوع. وفي المسند والسنن عن عقبة بن عامر، قال: " أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقرأ بالمعوذات في دبر كل صلاة " 1، ورواه أبو حاتم ابن حبان في صحيحه، والحاكم في مستدركه، وقال: صحيح على شرط مسلم; ولفظ الترمذي "بالمعوذتين". وفي معجم الطبراني، ومسند أبي يعلى، من حديث عمر بن نبهان - وقد تكلم فيه - عن جابر يرفعه: " ثلاث من جاء بهن مع الإيمان، دخل من أي أبواب الجنة شاء، وزوج من الحور العين حيث شاء: من عفا عن قاتله، وأدى ديناً خفياً، وقرأ دبر كل صلاة مكتوبة عشر مرات: قل هو الله أحد ". وقال أبو بكر: وإحداهن يا رسول الله؟ قال: "وإحداهن ". وأوصى معاذاً أن يقول في دبر كل صلاة: " اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك " 2. وأجاب الشيخ سليمان بن سحمان: قد رأيت ورقة لا أعرف من قالها، ولكن لما كان في نقله ما يشعر برد   1 الترمذي: فضائل القرآن (2903) , والنسائي: السهو (1336) , وأبو داود: الصلاة (1523) . 2 النسائي: السهو (1303) , وأبو داود: الصلاة (1522) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 305 النصوص الواردة في الجهر بالذكر حين ينصرف الناس من المكتوبة، وسمى هذه المتروكة تشويشاً على الناس، وجعلها من البدع والمحدثات، فيقال لهذا الجاهل: ليس ما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم مما سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الجهر بالذكر بعد المكتوبة تشويشاً على الناس؛ بل هذا القول هو التشويش على الناس والتلبيس عليهم، بل هو من أبطل الباطل وأعظم المنكرات، لأن ذلك دفع في نحر النصوص، ورد لها بالتمويه والسفسطة، والقول بلا علم، وقلب للحقائق؛ فإن هذا القول لا يقوله من في قلبه تعظيم للنصوص وتوقير لها. وهذه السنة الواردة في الجهر بالذكر عقب الفرائض، قد انقسم الناس فيها في هذه الأزمان على ثلاثة أصناف: طرفان، ووسط: الأول: يلزمون الناس بها، ويغلظون في ذلك، ويعادون ويوالون على ذلك؛ ومن تركها فليس عندهم من أهل السنة. والثاني: من لا يرى سنيتها، وبعضهم يقول: إنها من البدع، ويرون أن الفاعل لها مشوش على الناس، وبعضهم يدخل هذا الجهر في مسمى الرياء. والثالث: - وهم الوسط -، فهم يقولون: ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم من فعله وتقريره؛ فكان الصحابة يفعلون ذلك على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد تعليمهم إياه، ويقرهم على ذلك، فعلموه بتعليم الرسول إياهم، وعملوا به، وأقرهم على ذلك العمل بعد العلم به، ولم ينكره عليهم. ثم ترك العمل به كما ترك الجزء: 4 ¦ الصفحة: 306 العمل بكثير من سنن الأقوال والأفعال. وهذا الصنف من الناس يقولون: من فعله فقد أحسن، وفعل سنة يثاب عليها، ومن لا فلا حرج عليه ولا إثم، ولا عقاب على من ترك ذلك، لأنه لا واجب إلا ما أوجبه الله ورسوله، وينكرون على من أنكره، يخبرون بأنه سنة. إذا عرفت هذا، فما نقله عن ابن كثير أنه قد استحبه طائفة، كابن حزم وغيره فهو كذلك؛ وقد نقل صاحب الإقناع استحبابه عن شيخ الإسلام ابن تيمية، وعن طائفة من أهل العلم من الحنابلة وغيرهم، كما ذكر ذلك في المغني والشرح الكبير وغيرهما، وهو الحق والصواب، وعليه تدل السنة، وعمل الصحابة، رضي الله عنهم. وهذا الرجل وأحزابه لا يعرفون إلا ما ألفوه من العادات، فينكرون ما ثبت النص به في الجهر بالذكر عقب الصلاة، لأنهم ما ألفوا ذلك ولا اعتادوه، ويجهرون بالتهليلات العشر بعد صلاة المغرب والفجر؛ ولم يرد في تخصيصها بالجهر بذلك حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم. انتهى ملخصاً. وأجاب الشيخ حمد بن ناصر، رحمه الله: فأما السؤال عن التهليلات العشر بعد صلاة الصبح والمغرب، إذا كان قد ثبت في الأحاديث من قال: قبل أن ينصرف، وفي لفظ دبر المغرب والصبح " لا إله إلا الله وحده لا شريك له " إلخ، وهو الذي يفعله الناس اليوم من الجهر، هل كان من هديه صلى الله عليه وسلم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 307 وفعله أصحابه والتابعون؟ وما أصل هذه التهليلات العشر؟ فهذا ما أشار إليه السائل من الأحاديث الواردة فيه، فروى الترمذي في سننه حديث أبي ذر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من قال دبر صلاة الصبح، وهو ثان رجليه قبل أن يتكلم: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، عشر مرات، كتب له عشر حسنات، ومحي عنه عشر سيئات، ورفع له عشر درجات " 1 الحديث. وروى الترمذي والنسائي في اليوم والليلة، من حديث عمارة بن شبيب مرفوعاً: " من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، على أثر المغرب، بعث الله له مسلحة يحفظونه حتى يصبح " 2 الحديث، قال الترمذي: غريب. فهذان الحديثان هما أصل التهليلات العشر بعد صلاة الصبح والمغرب، وهما حجة على استحباب هذه التهليلات؛ ولهذا استحبها العلماء، وذكروها في الأذكار المستحبة دبر الصلاة، وأن المصلي يهلل بهن دبر صلاة الفجر، وصلاة المغرب. وأما قول السائل: هل هذا من هديه صلى الله عليه وسلم وفعله أصحابه؟ فهذا لم يبلغنا من فعله صلى الله عليه وسلم، والذي ثبت عنه الترغيب في ذلك وترتيب الأجر العظيم على فعله، وذلك كاف   1 الترمذي: الدعوات (3474) . 2 أحمد (5/420) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 308 في استحبابه؛ وهذا له نظائر في السنة، فإذا وردت الأحاديث بالحث على شيء من العبادات، ورغب فيه الشارع، ثبت أنها مستحبة وإن لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فعلهما؛ ومن تأمل الأحاديث عرف ذلك، وليس في هذا اختلاف بين العلماء، وإنما الخلاف بينهم في استحباب رفع الصوت بالذكر عقب الصلاة المكتوبة، لأنه قد ثبت في الصحيحين من حديث ابن عباس، رضي الله عنهما: أن رفع الصوت بالذكر حين ينصرف الناس من المكتوبة، كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ قال ابن عباس: كنت أعلم إذا انصرفوا بذلك - يعني بالجهر -؛ ولهذا اختلف العلماء: هل الأفضل الإسرار، كما هو المشهور عند أتباع الأئمة؟ أم الجهر أفضل، لهذا الحديث الصحيح؟ قال في الفروع: وهل يستحب الجهر لذلك؟ كقول بعض السلف والخلف، قاله شيخنا، أم لا؟ كما ذكره أبو الحسن ابن بطال وجماعة، أنه قول أهل المذاهب المتبوعة وغيرهم؛ وظاهر كلام أصحابنا مختلف، ويتوجه تخريج واحتمال: يجهر لقصد التعليم فقط، ثم يتركه وفاقا للشافعي، وحمل الشافعي خبر ابن عباس، رضي الله عنهما، على هذا. انتهى كلامه. فهذا الاختلاف في استحباب الجهر بعد الصلوات بالأذكار الواردة من حيث الجملة; وحديث ابن عباس دليل على الاستحباب. وأما تخصيص هذه التهليلات بالجهر دون الجزء: 4 ¦ الصفحة: 309 غيرها من الأذكار، فلم نعلم له أصلاً، ولكن لما أثبت ابن عباس أن رفع الصوت بالذكر كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم صح الاستدلال به على رفع الصوت بالتهليلات، إذ هو من جملة الأذكار الواردة؛ فمن رفع صوته بذلك لم ينكر عليه، بل يقال رفع الصوت بالذكر بعد الصلاة مستحب، ومن أسر لم ينكر عليه، لأن ذلك من مسائل الاختلاف بين العلماء، وكل منهم قد قال باجتهاده، رضي الله عنهم أجمعين. وأجاب الشيخ سعيد بن حجي: الأصل فيها أحاديث كثيرة، منها قوله في الحصن: ودبر المغرب والصبح جميعاً: " لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير " 1، رواه في معجم الطبراني الصغير، وفي عمل اليوم والليلة لابن السني. وفي مشكاة المصابيح عن عبد الله بن غنم، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من قال قبل أن ينصرف ويثني رجليه من صلاة المغرب والصبح: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، بيده الخير، يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير، عشر مرات، كتب له بكل واحدة عشر حسنات، ومحيت عنه عشر سيئات، ورفع له عشر درجات، وكانت له حرزاً من كل مكروه، وحرزاً من الشيطان الرجيم، ولم يحل لذنب أن يدركه إلا الشرك، وكان من أفضل الناس عملاً، إلا رجل يفضله بقول أفضل مما قال " 2، رواه أحمد، ورواه الترمذي بنحوه عن أبي ذر، إلى قوله: "إلا   1 البخاري: الأذان (844) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (593) , والنسائي: السهو (1341) , وأبو داود: الصلاة (1505) , وأحمد (4/250, 4/251) , والدارمي: الصلاة (1349) . 2 أحمد (4/226) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 310 الشرك "، ولم يذكر صلاة المغرب، ولا "بيده الخير "، وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب. وقال في الإقناع: ويستحب بعد كل من الصبح والمغرب، قبل أن يتكلم: عشر مرات " لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير ". وقال النووي في الأذكار: عن أبي ذر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من قال في دبر صلاة الصبح وهو ثان رجليه، قبل أن يتكلم: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، عشر مرات، كتب له عشر حسنات، ومحي عنه عشر سيئات، ورفع له عشر درجات، وكان يومه ذلك في حرز من كل مكروه، وحرز من الشيطان، ولم ينبغِ لذنب أن يدركه في ذلك اليوم إلا الشرك بالله " 1، قال الترمذي: هذا حديث حسن; وذكر في الأذكار بعد المغرب قريباً من ذلك. انتهى. وأما اجتماع الإمام والمأموم على التهليلات العشر والجهر بهن، فلم نقف على كلام أحد من العلماء أن السلف فعلوه، لكن الناس تلقوه بالقبول وعملوا به؛ وفوق كل ذي علم عليم، والله أعلم. وأما الجهر بالذكر بعد الصلوات، فعن ابن عباس: "كنت أعرف انقضاء صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتكبير ". وعن عبد الله بن الزبير قال: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سلم من صلاته يقول بصوته الأعلى: لا إله إلا الله وحده لا   1 الترمذي: الدعوات (3474) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 311 شريك له، له الملك وله الحمد " 1 إلى قوله: " مخلصين له الدين ولو كره الكافرون "، رواه مسلم. وقال الشيخ تقي الدين بن تيمية: يستحب الجهر بالتسبيح والتحميد والتكبير عقب الصلاة. انتهى. وقال في المبدع - لما ذكر استحباب الذكر عقب الصلاة -: ويستحب الجهر بذلك; وحكى ابن بطال عن أهل المذاهب المتبوعة خلافه، وكلام أصحابنا مختلف، قاله في الفروع، قال: ويتوجه لقصد التعليم فقط، ثم يتركه. انتهى. وأجاب الشيخ عبد الله أبا بطين: وأما الجهر بالتهليل بعد الصبح والمغرب فلا علمت أنه ورد شيء يخصه، وإنما اختلف العلماء في الجهر بالذكر المشروع بعد الصلوات، ولم يخصوا ذكراً دون ذكر. وسئل بعضهم عن قول عائشة، رضي الله عنها، في قوله: {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً} [سورة الإسراء آية: 110] ، نزلت في الدعاء، ما معنى: تنْزيل لفظ الآية على دعاء الله؟ مع أن إخفاء الدعاء أفضل، والذي نفهم في معنى الآية كلام ابن عباس: أنها نزلت في قراءة النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة بأصحابه، فإذا سمع ذلك المشركون سبوا القرآن وسبوا من أنزله ... الحديث؟ فأجاب: كلام ابن عباس، رضي الله عنهما، هو الذي عليه   1 مسلم: المساجد ومواضع الصلاة (594) , والنسائي: السهو (1339, 1340) , وأبو داود: الصلاة (1506) , وأحمد (4/4, 4/5) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 312 جمهور العلماء، أن النزول كان بسبب جهر النبي صلى الله عليه وسلم بقراءته في صلاته، فنهاه الله بهذه الآية عن الجهر بالقراءة في صلاته، لئلا يسمعه كفار قريش فيسبوا القرآن ومن أنزله ومن جاء به، ولا يخافت به مخافتة لا يسمع بها نفسه، بل يكون بين ذلك بحيث يسمع نفسه؛ هكذا قال ابن عباس وموافقوه من العلماء. وقالت عائشة، رضي الله عنها: إنها نزلت في الدعاء الذي هو الصلاة اللغوية لا الشرعية، وهذا الدعاء داخل في الشرعية، ولكن لم تنْزل هذه الآية إلا بسبب الدعاء، فلا يجهر به جهراً مسمعاً خارجاً عن العادة، ولا يخافت به مخافتة لا يسمعه، بل يكون بين ذلك؛ وكلا المعنيين حق، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسمع بالقراءة حتى نهاه الله عن السماع الجهري، وكذلك دعاء الله سبحانه وتعالى لا يجهر به جهرا مسمعاً، بل يخفيه إخفاء بحيث يسمع نفسه، كبقية الذكر الذي في الصلاة وغيرها. وليس المقصود من أفضلية إخفاء الدعاء أنه لا يسمع نفسه، هذا المعنى لم يعنه أحد، وقد قال تعالى في الذكر الذي هو أعم من القرآن والدعاء وغيرهما: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ} [سورة الأعراف آية: 205] ، قال العلماء: معناه: سراً، بحيث تسمع نفسك، {تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ} [سورة الأعراف آية: 205] ، فدلنا ذلك على أن الأمر في الدعاء الوسط، وهو بقدر ما يسمع الداعي نفسه، ما لم يكن الداعي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 313 إماماً قانتاً، والمأمومون يؤمنون خلفه، فإنه يجهر بحيث يسمع من خلفه كما جاء فيه الأثر. وسئل الشيخ عبد الله أبا بطين: هل الذكر بالقلب أفضل أم باللسان؟ فأجاب: وأما الذكر فهو بالقلب واللسان أفضل، فإن اقتصر على أحدهما فالقلب أفضل، لأنه أبعد عن الرياء، ولأنه يحدث منه من المعرفة والمحبة والرجاء والخوف والمراقبة والتعظيم وغير ذلك ما لا يحدث من اللسان وحده؛ فنتيجة الذكر بالقلب أعظم من نتيجتها باللسان، ويكتب له أجر ذلك بلا خلاف. وأما هذا الأثر عن عائشة، رضي الله عنها، فلم أجده كما ذكر السائل، وإنما الحديث عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يفضل الذكر الخفي الذي لا تسمعه الحفظة على الذي تسمعه بسبعين ضعفاً "، رواه ابن أبي الدنيا. وروى أيضاً بإسناده قال: "قال الحجاج بن دينار: سألت أبا معشر عن الرجل يذكر ربه في نفسه، كيف تكتبه الملائكة؟ قال يجدون الريح ". وروى أحمد من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " خير الذكر الخفي، وخير الرزق ما يكفي " 1. وأما قول السائل: أيما أفضل: الصلاة أو قراءة القرآن؟ فهذا الفضل يتنوع تارة بحسب أجناس العبادات: فجنس   1 أحمد (1/172) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 314 الصلاة أفضل من جنس القراءة، لأن الصلاة مشتملة عليه، وجنس القراءة أفضل من جنس الذكر، وجنس الذكر أفضل من جنس الدعاء. وتارة يختلف باختلاف الأوقات: كما أن القراءة والذكر والدعاء بعد الفجر والعصر، مشروع دون الصلاة، فهو أفضل، وتارة باختلاف عمل الإنسان الظاهر: فالذكر والدعاء في الركوع والسجود، هو المشروع دون القراءة. سئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ، رحمهم الله تعالى: عن الدعاء بعد المكتوبة، ورفع الأيدي؟ فأجاب: وأما الدعاء بعد المكتوبة ورفع الأيدي، فليس من السنة، وقد أنكره شيخ الإسلام بن تيمية، رحمه الله، لعدم وروده على هذا الوجه. وأجاب الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين: الدعاء بعد الفرائض إن فعله إنسان بينه وبين الله فحسن، وأما رفع الأيدي في هذه الحال فلم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم، وخير الهدي هديه صلى الله عليه وسلم، ومثل هذا ما أرى الإنكار على فاعله، ولو رفع يديه. وأجاب الشيخ سعيد بن حجي: رفع اليدين عند الدعاء، فيه أحاديث كثيرة، ولا ينكره إلا جاهل، وذكر جمع السيوطي، ثم قال: وذكر ابن حجر أن رفع اليدين في الدعاء سنة في غير الصلاة، وفيها في القنوت; وقد ذكر ابن رجب الجزء: 4 ¦ الصفحة: 315 في شرح الأربعين، في صفة رفع اليدين أنواعاً متعددة. انتهى. ثم قال: فأما دعاء الإمام والمأمومين، ورفع أيديهم جميعاً بعد الصلاة، فلم نر للفقهاء فيه كلاماً موثوقاً به؛ قال الشيخ تقي الدين: ولم ينقل أنه صلى الله عليه وسلم كان هو والمأمومون يدعون بعد السلام، بل يذكرون الله كما جاء في الأحاديث. انتهى ملخصاً. وأجاب الشيخ عبد اللطيف بن الشيخ عبد الرحمن: وأما رفع اليدين بالدعاء في الصلاة، فالذي ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يرفع يديه إذا اجتهد في الدعاء، وليس ذلك من الأفعال المتعلقة بالصلاة، كما يظنه بعض من لم يعرف السنة، فإنه لم ينقل عنه صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه ملازمة ذلك وفعله عقب كل صلاة. وأجاب الشيخ صالح بن محمد الشثري: اعلم أن هذه الصفة لم يفعلها صلى الله عليه وسلم، ولا أحد من أصحابه، ولا التابعون بعدهم، ولم تنقل عمن يوثق به من الفقهاء؛ وقد أكمل الله الدين على لسان سيد المرسلين قولاً منه وفعلاً؛ وقد ذكر شيخ الإسلام أنها بدعة، وبذلك أفتى مشائخنا النجديون، منهم الشيخ عبد الله أبا بطين وغيره، ولا يخفى أنهم يحرصون على التماس السنة وسلوكها، ولا يتنطعون كما يفعله الجاهلون من تضييع السنة المأثورة، وارتكاب البدع المحظورة. والعبادة مبناها على الأمر، فلا تصح عبادة إلا بأمره صلى الله عليه وسلم أو فعله أو الجزء: 4 ¦ الصفحة: 316 تقريره، وكل هذه مفقودة في المسألة المسؤول عنها. وأما رفع اليدين في الجملة، فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه متعددة، ذكر منها السيوطي نيفاً وأربعين موضعاً من قوله وفعله، وذكر ابن رجب جملة، وذكر اختلافهم في صفة الرفع؛ فينبغي للمسلم أن يقتدي بالسلف الصالح وإن خالفه الأكثرون. وأجاب الشيخ سليمان بن سحمان: وأما الدعاء بعد المكتوبة، فإن كان بالألفاظ الواردة في الأحاديث الصحيحة من الأذكار، من غير رفع اليدين، كما ورد في الصحيحين وغيرهما من الكتب، فالشيخ محمد بن عبد الوهاب لا يمنعه، ولا أحد من أتباعه، ولا أحد من أهل الحديث، وإن كان الدعاء بغير الألفاظ المأثورة كما يفعله بعض الناس اليوم، فقال شيخ الإسلام، رحمه الله تعالى، لما سئل عن ذلك: لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يدعو هو ولا المأمومون عقب الصلوات الخمس، كما يفعله الناس عقب الفجر والعصر، ولا نقل ذلك عن أحد، ولا استحب ذلك أحد من الأئمة. سئل الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين: عما روي: من قرأ آية الكرسي دبر كل صلاة، كان الذي يتولى قبض روحه ذو الجلال والإكرام، وما روي عن علي مرفوعاً: من قرأ آية الكرسي، لم يمنعه من دخول الجنة إلا الموت ... إلخ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 317 فأجاب: وأما الأحاديث الواردة في فضل آية الكرسي، فمنها ما هو صحيح ثابت، ومنها ما ليس بصحيح، والظاهر أن الحديث الذي فيه: أن الله يتولى قبض روح من قرأها دبر كل صلاة، لا يصح، وكذلك الحديث المروي عن علي رضي الله عنه: من قرأ آية الكرسي لم يمنعه من دخول الجنة إلا الموت ... إلخ، الظاهر عدم صحته. وروى النسائي وابن حبان عن أبي أمامة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من قرأ دبر كل صلاة مكتوبة آية الكرسي، لم يمنعه من دخول الجنة إلا أن يموت "، قال ابن القيم: بلغني عن شيخ الإسلام أنه قال: ما تركتها بعد كل صلاة إلا نسياناً، ونحوه. وقال شيخنا - أبو الحجاج المزي -: إسناده على شرط البخاري. قال ابن كثير: وروى ابن مردويه من حديث علي وجابر والمغيرة نحو ذلك، وفي أسانيدها ضعف. وسئل الشيخ عبد الله والشيخ إبراهيم، ابنا الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن، والشيخ سليمان بن سحمان: عن المداومة على قراءة آية الكرسي؟ فأجابوا: أما مداومة قراءة آية الكرسي للإمام والمأموم خفية، فقد أجاب على هذه شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله تعالى، فقال: قد روي في قراءة آية الكرسي عقب الصلاة حديث، لكنه ضعيف، ولهذا لم يروه أحد من أهل الكتب المعتمد عليها، فلا يمكن أن يثبت به حكم شرعي، وأما إذا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 318 قرأها الإمام في نفسه، أو أحد المأمومين، فهذا لا بأس به. انتهى. فصل قال الشيخ: عبد الله بن الشيخ محمد، رحمهما الله تعالى: وأما أحزاب العلماء المنتخبة من الكتاب والسنة، فلا مانع من قراءتها، والمواظبة عليها؛ فإن الأذكار، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، والاستغفار، وتلاوة القرآن، ونحو ذلك، مطلوب شرعاً; والمعتني به مثاب مأجور، فكلما أكثر منه العبد كان أوفر ثواباً، لكن على الوجه المشروع، من دون تنطع ولا تغيير ولا تحريف؛ وقد قال تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً} [سورة الأعراف آية: 55] ، وقال تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [سورة الأعراف آية: 180] . ولله در النووي في جمعه كتاب الأذكار، فعلى الحريص على ذلك به، ففيه الكفاية للموفق. وسئل: هل تجزئ قراءة الورد بعد الصبح قبل الصلاة؟ وأيما قراءة القرآن أو الورد تلك الساعة أحسن؟ وقول: لا تكفيه قراءة الورد قبل الصلاة، هل له أصل؟ فأجاب: قراءة الورد بعد الصبح وقبل الصلاة إذا تأخر الإمام، حسن إن شاء الله تعالى، وكاف؛ فإن قرأ القرآن في تلك الساعة، وقرأ ورده بعد الصلاة فهو حسن أيضاً. والقول بأن قراءة الورد قبل صلاة الفجر لا تكفي، لا أعلم له أصلاً. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 319 سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: عن استدبار القبلة وقت الدرس؟ وهل يفرق بين الإمام والمأموم؟ وهل يجب التحلق له؟ فأجاب: أما الجلوس مستدبر القبلة وقت الدرس، فلا علمت فيه بأساً، وسواء في ذلك الذي يذكر الناس أو غيره، واستدل العلماء على ذلك: بأن النبي صلى الله عليه وسلم رأى إبراهيم عليه السلام ليلة أسرى به، وهو مسند ظهره إلى البيت المعمور; ولكن الأفضل: جلوس الإنسان مستقبل القبلة، إذا كان في عمل صالح، ومن استدبرها لم ينكر عليه. وأما التحلق للدرس فهو أفضل، اقتداء بالسلف الصالح، وأما إذا وقعت المذاكرة في رمضان وقت قيام الليل، وجلسوا في الصف على هيئتهم إذا جلسوا للصلاة، وهم يسمعون القارئ، والمذكر، فهذا أحسن وإن لم يتحلقوا. سئل الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين: عن حديث: " الملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مجلسه الذي صلى فيه " 1، هل إذا تحول من مجلسه إلى موضع آخر في المسجد يحصل له ذلك؟ فأجاب: الذي يظهر أن حكم المسجد الذي صلى فيه، حكم موضع صلاته.   1 البخاري: الصلاة (445) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (649) , والنسائي: المساجد (733) , وأبو داود: الصلاة (469) , وأحمد (2/252, 2/312, 2/502) , ومالك: النداء للصلاة (382) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 320 فصل سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عمن رأى قدامه فرجة ... إلخ؟ فأجاب: إذا رأى المصلي بين يديه فرجة في الصلاة، فأرى أنه لا بأس بسدها; وأما إذا كان من صف إلى صف، ثم إلى آخر، كما يفعل بعض الناس، فأخاف أنه يبطل الصلاة إذا كثر وكان متوالياً; وإن كان من صف إلى صف، ولو لم يسدها غيره، فلزوم مكانه أحب إلي. سئل الشيخ عبد الله العنقري: إذا سها الإمام ثم نبه، ولم يدر ما حالته، هل للمأموم أن يفتح عليه بآية من القرآن؟ فأجاب: أما الفتح على الإمام في حال سهوه بشيء من القرآن، إذا لم يمكنه تفهيمه إلا بذلك، فالظاهر أنه لا بأس به. سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عن السترة للمأموم في الصلاة؟ فأجاب: ذكر العلماء أن المأموم لا يستحب له اتخاذ السترة، وإنما اتخاذها مسنون للإمام والمنفرد؛ وكذلك يسن القرب منها بقدر ثلاثة أذرع من قدميه إليها. واتخاذ السترة سنة لا واجب، فإن مر بين يدي الإمام ما يبطل مروره الصلاة، كالكلب والحمار، بطلت صلاته، وصلاة المأمومين، وإن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 321 مر بين يديه ما لا يبطلها، كمرور الرجل لزمه دفعه، فإن لم يفعل فالإثم عليه. سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: هل الحكم مقيد بالأَسْوَد؟ فأجاب: المسألة فيها روايتان، والأظهر منهما الاقتصار على ما نص عليه الشارع صلى الله عليه وسلم. سئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ: عن السؤال عند آية الرحمة في الفريضة، وكذلك الاستعاذة عند آية الوعيد؟ فأجاب: هذا جائز في النافلة باتفاق العلماء، وأما في الفريضة فكثير من علماء الحنابلة منعه، وقال: إنه لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فعله؛ فيقصر الحكم على ما تناوله النص. وقال الموفق، رحمه الله: يجوز ذلك في الفريضة، لأن الأصل المساواة، ما لم يقم دليل الخصوصية وهو قوي، يؤيده قوله صلى الله عليه وسلم في التشهد الأخير: " وليتخير من الدعاء ما شاء " 1، وهذا عام في الفريضة والنافلة، وعدم فعله في الفريضة خروج من خلاف العلماء، ومن فعل فقد استند إلى دليل.   1 أحمد (1/382) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 322 فصل أركان الصلاة قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى: وأركان الصلاة أربعة عشر: القيام مع القدرة، وتكبيرة الإحرام، وقراءة الفاتحة، والركوع، والرفع منه، والسجود على الأعضاء السبعة، والاعتدال منه، والجلسة بين السجدتين، والطمأنينة في جميع الأركان، والترتيب، والتشهد الأخير، والجلوس له، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، والتسليمتان. وله أيضاً نحوه، إلا أنه قال: والتسليمة الأولى. الركن الأول: القيام مع القدرة، والدليل: قوله تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [سورة البقرة آية: 238] . الثاني: تكبيرة الإحرام، والدليل: الحديث: " تحريمها التكبير، وتحليلها التسليم " 1، وبعدها الاستفتاح، وهو سنة، قول: " سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك " 2. ومعنى "سبحانك اللهم " أي: أنزهك التنزيه اللائق بجلالك، "وبحمدك " أي: ثناء عليك، "وتبارك اسمك " أي: البركة لا تنال إلا بذكرك، "وتعالى جدك " أي: جلت عظمتك، "ولا إله غيرك " أي: لا معبود في الأرض ولا في السماء بحق سواك يا الله. "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم " معنى أعوذ: ألوذ وألتجئ وأعتصم بك يا الله، "من الشيطان الرجيم ": المطرود المبعد عن رحمة الله، لا يضرني في ديني ولا في دنياي. وقراءة الفاتحة ركن في كل ركعة، كما في الحديث: " لا   1 الترمذي: الطهارة (3) , وابن ماجة: الطهارة وسننها (275) , وأحمد (1/123, 1/129) , والدارمي: الطهارة (687) . 2 الترمذي: الصلاة (242) , والنسائي: الافتتاح (899, 900) , وأبو داود: الصلاة (775) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (804) , وأحمد (3/50) , والدارمي: الصلاة (1239) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 323 صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب " 1، وهي أم القرآن {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [سورة الفاتحة آية: 1] : بركة واستعانة. {الْحَمْدُ لِلَّهِ} : الحمد ثناء، والألف واللام لاستغراق جميع المحامد؛ وأما الجميل الذي لا صنع له فيه مثل الجمال ونحوه فالثناء به يسمى مدحاً لا حمداً. {رَبِّ الْعَالَمِينَ} : الرب هو المعبود الخالق الرازق المالك المتصرف، مربي جميع الخلق بالنعم. {الْعَالَمِينَ} : كل ما سوى الله عالم، وهو رب الجميع. {الرَّحْمَنِ} : رحمة عامة لجميع المخلوقات. {الرَّحِيمِ} : رحمة خاصة بالمؤمنين، والدليل: قوله تعالى: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً} [سورة الأحزاب آية: 43] . {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [سورة الفاتحة آية: 4] : يوم الجزاء والحساب، يوم كل يجازى بعمله، إن خيراً فخير وإن شراً فشر، والدليل: قوله تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [سورة الانفطار آية: 17-19] ، والحديث عنه صلى الله عليه وسلم: " الكيِّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني " 2. {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [سورة الفاتحة آية: 5] أي: لا نعبد غيرك، عهد بين العبد وربه أن لا يعبد إلا إياه. {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [سورة الفاتحة آية: 5] : عهد بين العبد وبين ربه أن لا يستعين بأحد سواه. {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [سورة الفاتحة آية: 6] : معنى اهدنا: دلنا وأرشدنا وثبتنا، والصراط: الإسلام، وقيل: الرسول، وقيل: القرآن؛ والكل حق. والمستقيم: الذي لا اعوجاج فيه. {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [سورة الفاتحة آية: 7] : طريق المنعم عليهم، والدليل:   1 البخاري: الأذان (756) , ومسلم: الصلاة (394) , والترمذي: الصلاة (247) , والنسائي: الافتتاح (910) , وأبو داود: الصلاة (822) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (837) . 2 الترمذي: صفة القيامة والرقائق والورع (2459) , وابن ماجة: الزهد (4260) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 324 قوله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً} [سورة النساء آية: 69] . {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} [سورة الفاتحة آية: 7] : وهم اليهود معهم علم ولا عملوا به؛ تسأل الله أن يجنبك طريقهم. {وَلا الضَّالِّينَ} : وهم النصارى يعبدون الله على جهل وضلال؛ تسأل الله أن يجنبك طريقهم. ودليل الضالين: قوله تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} [سورة الكهف آية: 103-104] ، والحديث عنه صلى الله عليه وسلم: " لتتبعن سنن من كان قبلكم، حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه. قالوا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟ " 1، أخرجاه. الحديث الثاني: " افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة: كلها في النار، إلا واحدة. قلنا: من هي يا رسول الله؟ قال: من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي ". والركوع والرفع منه، والسجود على الأعضاء السبعة، والاعتدال منه، والجلسة بين السجدتين، والدليل: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [سورة الحج آية: 77] ، والحديث عنه صلى الله عليه وسلم: " أُمرت أن أسجد على سبعة أعظم " 2، والطمأنينة في   1 البخاري: الاعتصام بالكتاب والسنة (7320) , ومسلم: العلم (2669) , وأحمد (3/84 ,3/89) . 2 البخاري: الأذان (812) , ومسلم: الصلاة (490) , والنسائي: التطبيق (1097) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (883) , وأحمد (1/279, 1/292, 1/305) , والدارمي: الصلاة (1319) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 325 جميع الأفعال، والترتيب بين الأركان، والدليل: حديث المسيء عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: " بينما نحن عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ دخل رجل فصلى، فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ارجع فصلِّ، فإنك لم تصل. فعلها ثلاثاً. ثم قال: والذي بعثك بالحق نبياً، لا أحسن غير هذا فعلمني، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: إذا قمت إلى الصلاة فكبر، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعاً، ثم ارفع حتى تعتدل قائماً، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً، ثم ارفع حتى تطمئن جالساً. ثم افعل ذلك في صلاتك كلها " 1. والتشهد الأخير ركن مفروض، كما في الحديث عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "كنا نقول قبل أن يفرض علينا التشهد: السلام على الله من عباده، السلام على جبرائيل وميكائيل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تقولوا: السلام على الله من عباده، فإن الله هو السلام، ولكن قولوا: التحيات لله، والصلوات والطيبات. السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين. أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله " 2. ومعنى "التحيات ": جميع التعظيمات لله ملكاً واستحقاقاً، مثل الانحناء والركوع والسجود، والبقاء والدوام، وجميع ما يعظم به رب العالمين فهو لله؛ فمن صرف منه شيئاً لغير الله فهو مشرك كافر. "والصلوات " معناها: جميع الدعوات;   1 البخاري: الأذان (793) , ومسلم: الصلاة (397) , والترمذي: الصلاة (303) , والنسائي: الافتتاح (884) , وأبو داود: الصلاة (856) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1060) . 2 البخاري: الاستئذان (6230) , والنسائي: التطبيق (1169) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (899) , وأحمد (1/382, 1/423, 1/427) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 326 وقيل: الصلوات الخمس، "والطيبات ": الله طيب ولا يقبل من الأعمال إلا طيبها. " السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته " 1: تدعو للنبي صلى الله عليه وسلم بالسلامة والرحمة والبركة ورفع الدرجة؛ فالذي يدعى له لا يدعى مع الله. "السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين " 2: تسلم على نفسك، وعلى كل عبد صالح من أهل السماء والأرض، والسلام دعاء، والصالحون يدعى لهم ولا يُدعون مع الله. " أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله " 3: تشهد شهادة اليقين ألا يعبد في الأرض ولا في السماء بحق إلا الله; وشهادة أن محمداً رسول الله: بأنه عبد لا يعبد، ورسول لا يُكَذَّب، بل يطاع ويُتَّبَع، شرفه الله بالعبودية والرسالة؛ والدليل: قوله تعالى: {َبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} [سورة الفرقان آية: 1] . "اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد " 4: الصلاة من الله: ثناؤه على عبده في الملإ الأعلى، كما حكى البخاري في صحيحه عن أبي العالية، قال: صلاة الله ثناؤه على عبده في الملإ الأعلى; وقيل: الرحمة; والصواب الأول; ومن الملائكة: الاستغفار، ومن الآدميين: الدعاء، وبارِك وما بعدها: سنن أقوال وأفعال.   1 البخاري: الأذان (831) , ومسلم: الصلاة (402) , والترمذي: الصلاة (289) والنكاح (1105) , والنسائي: التطبيق (1162, 1163, 1164) , وأبو داود: الصلاة (968) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (899) , وأحمد (1/382, 1/408, 1/413, 1/427) , والدارمي: الصلاة (1340, 1341) . 2 البخاري: الأذان (831) , ومسلم: الصلاة (402) , والترمذي: الصلاة (289) والنكاح (1105) , والنسائي: التطبيق (1162, 1163, 1164, 1166) , وأبو داود: الصلاة (968) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (899) , وأحمد (1/376, 1/382, 1/408) , والدارمي: الصلاة (1340, 1341) . 3 البخاري: الأذان (831) , ومسلم: الصلاة (402) , والترمذي: الصلاة (289) والنكاح (1105) , والنسائي: التطبيق (1162, 1163, 1164) , وأبو داود: الصلاة (968) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (899) , وأحمد (1/376, 1/382) , والدارمي: الصلاة (1340, 1341) . 4 البخاري: تفسير القرآن (4797) , ومسلم: الصلاة (406) , والترمذي: الصلاة (483) , والنسائي: السهو (1287, 1288, 1289) , وأبو داود: الصلاة (976) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (904) , وأحمد (4/241, 4/243) , والدارمي: الصلاة (1342) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 327 وأجاب الشيخ حمد بن ناصر بن معمر: اعلم أن أركان الصلاة المعمول بها عندنا ثلاثة عشر: الأول: القيام مع القدرة، بإجماع أهل العلم، واستدلوا على ذلك بقوله تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [سورة البقرة آية: 238] . الثاني: تكبيرة الإحرام، واستدلوا عليه بقوله عليه السلام: " تحريمها التكبير "، وبقوله في حديث المسيء في صلاته: " إذا قمت إلى الصلاة فكبر " 1. الثالث: قراءة الفاتحة لمن يقدر على تعلمها، لقوله عليه السلام: " لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب " 2، وأما العاجز عن تعلمها فيقرأ ما تيسر معه من القرآن، أو يذكر بالتهليل والتكبير والتحميد. الرابع: الركوع حتى يطمئن راكعاً، لحديث المسيء في صلاته، وفيه: " ثم اركع حتى تطمئن راكعا " 3. الخامس: الاعتدال من الركوع حتى يطمئن قائماً، ويقيم صلبه، لقوله عليه السلام في حديث المسيء في صلاته: " ثم ارفع حتى تعتدل قائماً " 4. السادس: السجود حتى يطمئن ساجداً، لقوله في حديث المسيء في صلاته: " ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا " 5. السابع: الاعتدال من السجود حتى يطمئن جالساً. الثامن: السجدة حتى يطمئن ساجداً. التاسع: قراءة التشهد الأخير إلى قوله: " أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله "، لما جاء في حديث ابن مسعود: " كنا نقول قبل أن يفرض علينا التشهد ... ".   1 البخاري: الأذان (757) , ومسلم: الصلاة (397) , والترمذي: الصلاة (303) , والنسائي: الافتتاح (884) , وأبو داود: الصلاة (856) , وأحمد (2/437) . 2 البخاري: الأذان (756) , ومسلم: الصلاة (394) , والترمذي: الصلاة (247) , والنسائي: الافتتاح (910) , وأبو داود: الصلاة (822) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (837) . 3 البخاري: الأذان (757) , ومسلم: الصلاة (397) , والترمذي: الصلاة (303) , والنسائي: الافتتاح (884) , وأبو داود: الصلاة (856) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1060) , وأحمد (2/437) . 4 البخاري: الأذان (793) , ومسلم: الصلاة (397) , والترمذي: الصلاة (303) , والنسائي: الافتتاح (884) , وأبو داود: الصلاة (856) , وأحمد (2/437) . 5 البخاري: الأذان (757) , ومسلم: الصلاة (397) , والترمذي: الصلاة (303) , والنسائي: الافتتاح (884) , وأبو داود: الصلاة (856) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1060) , وأحمد (2/437) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 328 العاشر: الجلوس حتى يفرغ. الحادي عشر: الترتيب على ما ذكر الله ورسوله. الثاني عشر: الطمأنينة في جميع أحوال الصلاة. الثالث عشر: التسليم، لقوله عليه السلام: " وتحليلها التسليم " 1. واعلم: أن أكثر هذه الأركان قد تضمنها حديث المسيء في صلاته، وهو ما ثبت في الصحيحين والسنن، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً دخل المسجد ثم صلى، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس، ثم جاء فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: " ارجع فصل فإنك لم تصل " 2. فرجع الرجل فصلى كما كان صلى، ثم جاء فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم فرد عليه السلام، ثم قال: " ارجع فصل فإنك لم تصل " 3، فعل ذلك ثلاثاً. ثم قال في الثالثة: والذي بعثك بالحق لا أحسن غير هذا فعلمني، فقال: " إذا قمت إلى الصلاة فكبر، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعاً، ثم ارفع حتى تعتدل قائماً، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا، ًثم اجلس حتى تطمئن جالساً. ثم افعل ذلك في صلاتك كلها " 4. قال العلماء: فدل على أن الطمأنينة في هذا الحديث لا تسقط بحال، فإنها لو سقطت لسقطت عن الأعرابي الجاهل.   1 الترمذي: الطهارة (3) , وابن ماجة: الطهارة وسننها (275) , وأحمد (1/123, 1/129) , والدارمي: الطهارة (687) . 2 البخاري: الأذان (757) , ومسلم: الصلاة (397) , والترمذي: الصلاة (303, والنسائي: الافتتاح (884) , وأبو داود: الصلاة (856) , وأحمد (2/437) . 3 البخاري: الأذان (757) , ومسلم: الصلاة (397) , والترمذي: الصلاة (303) , والنسائي: الافتتاح (884) , وأبو داود: الصلاة (856) , وأحمد (2/437) . 4 البخاري: الأذان (757) , ومسلم: الصلاة (397) , والترمذي: الصلاة (303) , والنسائي: الافتتاح (884) , وأبو داود: الصلاة (856) , وأحمد (2/437) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 329 قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى: والواجبات ثمانية: جميع التكبيرات غير تكبيرة الإحرام، وقول: " سبحان ربي العظيم " في الركوع، وقول: " سمع الله لمن حمده " للإمام والمنفرد، وقول: " ربنا ولك الحمد " للكل، وقول: " سبحان ربي الأعلى " في السجود، وقول: " رب اغفر لي " بين السجدتين، والتشهد الأول، والجلوس له. وله أيضاً نحوه، إلا أنه قال: السادس: قول: "رب اغفر لي" بين السجدتين. السابع: التشهد الأول، لأنه عليه السلام فعله وداوم على فعله وأمر به، وسجد للسهو حين نسيه. الثامن: الجلوس. فالأركان ما سقط منها سهواً أو عمداً بطلت الصلاة بتركه، والواجبات ما سقط منها عمداً بطلت الصلاة بتركه، وسهواً جبره بسجود السهو، والله أعلم. سئل الشيخ حسن بن حسين بن الشيخ محمد، رحمه الله: عن قول صاحب التنقيح في واجبات الصلاة: وركوع مأموم أدرك إمامه راكعاً فركن وسنة؟ فأجاب: المأموم إذا لم يدرك الإمام إلا في ركوعه، فإنه يكبر معه للإحرام، ثم يركع معه، لأن تكبيرة الإحرام ركن مطلقاً، وتكبيرة الركوع في هذا الحال سنة لا واجب، للاجتزاء عنها بتكبيرة الإحرام؛ ووجهه: أنه اجتمع عبادتان من جنس واحد في محل، فأجزأ الركن عن الواجب، كطواف الزيارة والوداع، وفيما سوى هذه الصورة تكبيرة الإحرام واجبة، وهنا ليس إلا ركن وسنة فقط. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 330 باب سجود السهو وسئل الشيخ حسين بن الشيخ محمد: عمن يقرأ في الركعتين الأخيرتين غير الفاتحة ساهياً ... إلخ؟ فأجاب: الذي يقرأ في الركعتين الأخيرتين غير الفاتحة ساهياً فلا سجود عليه. سئل بعضهم: عن الإمام والمنفرد، إذا صلى على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد الأول، يسجد للسهو؟ فأجاب: هذا ذكر مشروع في غير محله، فيه عن أحمد روايتان: إحداهما: لا يشرع له سجود سهو، والثانية: يشرع للعموم، ومن لم يسجد له فصلاته صحيحة. وسئل: إذا شرعا في السريات جهرا أو أسرا في محل جهر، هل يتمان على قراءتهما ... إلخ؟ فأجاب: يبتدئ من محل منتهى قراءته، ولا يستأنف القراءة، والمختار أنه ليس عليه سجود سهو، لأن الجهر والإسرار من سنن الصلاة، فإن سجد في هذه والتي قبلها فلا بأس، للعموم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 331 سئل الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين: عمن سلم من اثنتين من المغرب ... إلخ؟ فأجاب: إذا سلم الإمام من اثنتين من المغرب ثم ذكر، قام إلى الثالثة بتكبيرة الانتقال، وإذا سلم من ثلاث من الرباعية ثم ذكر، فإنه يقوم للرابعة بلا تكبير. وسئل: عمن سلم عن نقص فتكلم لمصلحتها، هل تبطل أم لا؟ فأجاب: إذا سلم الإمام عن نقص سهواً، ثم تكلم في تلك الحال بكلام لمصلحة الصلاة، فالصحيح أن صلاته لا تبطل في رواية مشهورة عن أحمد، اختارها جماعة من أصحابه وفاقاً للشافعي. سئل الشيخ سعيد بن حجي: إذا سلم المأموم قبل إمامه ... إلخ؟ فأجاب: إذا سلم المأموم قبل سلام إمامه لم تبطل، رواية واحدة، قاله في المغني، فإذا ذكر قريباً أتمها وسجد للسهو إن كان إماماً. وإن كان مأموماً، يحمل الإمام سهوه كهذه المسألة، لأن صلاته تمت ولم يبق عليه إلا متابعة إمامه في السلام، فصلاته حينئذ صحيحة. وسئل: إذا تكلم المصلي في نفس الصلاة، أو تنحنح؟ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 332 فأجاب: إن تكلم فيها عمداً لغير مصلحتها بطلت بالإجماع، وإن تكلم فيها ناسياً أو جاهلاً بتحريمه، لم تبطل في إحدى الروايتين عن أحمد؛ وهو مذهب الشافعي، لحديث معاوية بن الحكم حين تكلم في صلاته ولم يأمره بالإعادة. وكذلك إن تنحنح لم تبطل، وقيل إن بان حرفان بطلت. انتهى. قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى: مبطلات الصلاة ثمانية: الكلام العمد، والضحك، والأكل، والشرب، وكشف العورة، والانحراف عن جهة القبلة، والعبث الكثير، وحدوث النجاسة. سئل الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين: إذا سلم المأموم عن نقص، وقام مسبوق لقضاء ما فاته، ثم نبه الإمام ... إلخ؟ فاجاب: قد ذكر العلماء مسألة تشبه هذه، وهي: ما إذا فارق المأموم الإمام لعذر، أبيح له ذلك، ثم زال عذره بعد مفارقة الإمام، فالمذهب: أنه يخير بين الدخول مع الإمام، وبين إتمام صلاته وحده، إلا صاحب التلخيص، فقال: يلزمه الدخول مع الإمام لزوال عذره. سئل الشيخ سعد بن حمد بن عتيق: إذا ترك الإمام ركناً من أركان الصلاة ولم يعلم به المأموم فأتى به، ثم بعد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 333 ذلك علم الإمام أنه ترك ركناً، فلما سلم قام ليأتي بركعة بدل الركعة التي ترك منها ركناً، هل يتابعه المأموم الذي أتى بالركن، أم تكون صلاته تامة؟ فأجاب: يتابع إمامه، ولا يجزئه إتيانه به دون إمامه. سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: إذا جاء المأموم والإمام في ركعة زائدة، هل يدخل مع الإمام فيها، ويعتد بها؟ فأجاب: المشهور في مذهب أحمد عدم الإجزاء، ولا يدخل فيها من علم أنها زائدة. وأجاب الشيخ حمد بن عتيق: الرجل إذا فاته شيء من الصلاة مع الإمام، ثم سها الإمام فجاء بخامسة، فلا يعتد بها. وسئل: عن الإمام إذا سلم وقام المأموم، وسجد الإمام للسهو بعد قيام المسبوقين؟ فأجاب: إن استتموا قياماً لم يرجعوا، وإن لم يستتموا رجعوا وتابعوه، فيكون حكمه حكم القيام عن التشهد الأول. سئل الشيخ حمد بن ناصر بن معمر: عن المأموم إذا قام ظاناً عليه ركعة؟ فأجاب: إذا قام المأموم بعد سلام إمامه ظاناً أن عليه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 334 ركعة، فالذي يظهر من كلامهم أنه لا سجود عليه، وإنما السجود على المسبوق ببعض الصلاة إذا سها مع الإمام، أو فيما انفرد به بعد سلام الإمام. سئل الشيخ حسين بن الشيخ محمد، رحمهما الله: عن الإمام إذا سلم، وقال بعض الجماعة بقي ركعة، وبعضهم يقول تامة؟ فأجاب: يعمل بقول من يعتد بهم، فإن كان أكثر ظنه إلا أنه يلحقه شك، فهو يعمل بقول الآخرين. وسئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: عن الإمام إذا سلم قبل أن يسجد للسهو وتابعه بعضهم في السلام دون بعض؟ فأجاب: الذي ينبغي في هذا متابعة الإمام في السلام، لقوله صلى الله عليه وسلم: " إنما جعل الإمام ليؤتم به، فلا تختلفوا عليه " 1، وترك المتابعة من الاختلاف عليه، لكن إذا ترك الإنسان المتابعة جهلاً منه، فأرجو أن لا يكون عليه إعادة، لأن الجاهل يغتفر له ما لا يغتفر للعالم المتعمد. وسئل: عمن عليه سجود سهو، ونسيه حتى شرع في صلاة أخرى؟ فأجاب: عليه أن يسجد إذا سلم من الصلاة التي دخل   1 البخاري: الأذان (722) , ومسلم: الصلاة (414) , والنسائي: الافتتاح (921) , وأبو داود: الصلاة (603) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (846) , وأحمد (2/314) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 335 فيها، وإن سجد فيها قبل أن يسلم بطلت تلك الصلاة. سئل الشيخ حمد بن ناصر بن معمر: إذا سجد للسهو بعد السلام، هل يتشهد؟ فأجاب: هذه مسألة خلاف بين الفقهاء، والمذهب عند الحنابلة أنه يتشهد، لحديث عمران بن حصين الذي رواه أبو داود: " أن النبي صلى الله عليه وسلم سها فسجد، ثم تشهد وسلم " 1، قال الترمذي: حديث حسن غريب. والقول الثاني: يسلم ولا يتشهد، وهو الذي عليه العمل، واختيار الشيخ تقي الدين، رحمه الله، لأن التشهد لم يذكر في الأحاديث الصحيحة؛ بل الأحاديث الصحيحة تدل على أنه لا يتشهد، وحديث عمران فيه ضعف.   1 الترمذي: الصلاة (395) , والنسائي: السهو (1236) , وأبو داود: الصلاة (1039) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 336 باب صلاة التطوع قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى: اعلم رحمك الله، أن طلب العلم فريضة، وأنه شفاء للقلوب المريضة، وأن أهم ما على العبد معرفة دينه، الذي معرفته والعمل به سبب لدخول الجنة، والجهل به وإضاعته سبب لدخول النار، أعاذنا الله منها. وقال أبناؤه: الشيخ إبراهيم، وعبد الله، وعلي، رحمهم الله: ومنها: الغفلة عن التفقه في دين الإسلام، حتى إن من الناس من ينشأ وهو لا يعرف دين الإسلام، ومنهم من يدخل فيه وهو يعرفه ولا يتعلمه، ظناً منه أن الإسلام هو العهد؛ ومعرفة الإسلام والعمل به واجب على كل أحد، ولا ينفع فيه التقليد. وقال الشيخ حمد بن ناصر بن معمر، ينصح أخاً له: ولا أكره لك نفع الناس، وبث العلم الذي تفهم، سواء كان في أصل الدين أو في فروعه. واحرص على تعليم الناس ما أوجب الله عليهم، وكرر القراءة في نسخ الأصول، خصوصاً مختصرات الشيخ محمد، رحمه الله، وكذلك السير. واحرص على تعليم العامة أصل دين الإسلام، ومعرفة أدلته، ولا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 337 تكتف بالتعليم، اسألهم واجعل لهم وقتاً تسألهم فيه عن أصل دينهم، ولا تغفل عن استحضار النية فـ" إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى " 1. والله تعالى لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصاً صواباً؛ فالصواب: ما وافق شرع الرسول صلى الله عليه وسلم، والخالص: ما أريد به وجه الله تعالى، قال الله تعالى: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [سورة الزمر آية: 2-3] . وقال الشيخ عبد الرحمن بن حسن، بعد ذكره النهي عن الشرك والبراءة منه، ومن المشركين، من الرافضة وغيرهم: ومما أوجب ذكر ذلك، ما بلغنا من الغفلة عن هذا الأصل العظيم، الذي لا نجاة للعبد إلا بمعرفته والعمل به؛ فالعامة ما يبالون بحقوق الإسلام ولو ضيعت، وصار اشتغال أهل العلم بالعلوم التي هي فرع عن هذا الأصل العظيم ولا تنفع بدونه، ولا صلاح للعباد في معاشهم ومعادهم إلا بالعلم بالله، وما يجب له على عباده من دينه الذي رضيه لهم؛ فبالقيام به صلاح الدنيا والآخرة، وفي الغفلة عنه زوال النعم وحلول النقم. وقد وقع فيكم بسبب الغفلة عن هذا ما قد علمتم، كما قال تعالى: {وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [سورة الأعراف آية: 168] ، فيلزم الأمير أن يأمر على جميع المدرسين، وأئمة المساجد بالحضور عند من يعلمهم دينهم،   1 البخاري: بدء الوحي (1) , والترمذي: فضائل الجهاد (1647) , والنسائي: الطهارة (75) والطلاق (3437) والأيمان والنذور (3794) , وأبو داود: الطلاق (2201) , وابن ماجة: الزهد (4227) , وأحمد (1/25, 1/43) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 338 ويلزمهم القراءة فيما جمعه شيخنا، رحمه الله، في "كتاب التوحيد" من أدلة الكتاب والسنة، التي فيها الفرقان بين الحق والباطل؛ فقد جمع على اختصاره خيراً كثيراً، وضمنه من أدلة التوحيد ما يكفي من وفقه الله، وبين فيه الأدلة في بيان الشرك الذي لا يغفره الله. ويلزمهم سؤال العامة عن أصول الدين الثلاثة بأدلتها، وأربع القواعد؛ فما أعظم نفعها على اختصارها لطالب الهدى! وقال الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين: سرنا ما ذكرت من البحث، لأنه أفادنا اعتناءكم واشتغالكم بهذا الأمر، لأنه خير ما أنفقت فيه الأنفاس، وبذلت فيه المهج. فلا تسأمنّ العلم واسهر لنيله ... بلا ضجر تحمد سرى السير في غدِ ولا يذهبنّ العمر منك سبهللا ... ولا تغبنن في النعمتين بل اجهدِ وقال أيضاً: فرض على كل أحد معرفة التوحيد، وأركان الإسلام بالدليل، ولا يجوز التقليد في ذلك؛ لكن العامي الذي لا يعرف الأدلة، إذا كان يعتقد وحدانية الرب سبحانه، ورسالة محمد صلى الله عليه وسلم، ويؤمن بالبعث بعد الموت، والجنة والنار، ويعتقد أن هذه الأمور الشركية التي تفعل عند هذه المشاهد باطلة وضلال، فإذا كان يعتقد ذلك اعتقاداً جازماً لا شك فيه، فهو مسلم، وإن لم يترجم بالدليل، لأن عامة المسلمين ولو لقنوا الدليل فإنهم لا يفهمون المعنى غالباً. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 339 وقال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن، رحمهم الله: قال ابن الجزري، رحمه الله تعالى: من علم أن الدنيا دار سباق وتحصيل للفضائل، وأنه كلما علت مرتبته في علم وعمل، زادت المرتبة في دار الجزاء، انتهب الزمان ولم يضيع لحظة، ولم يترك فضيلة تمكنه إلا حصلها؛ ومن وفق لهذا، فليبتكر زمانه بالعلم، وليصابر كل محنة وفقر، إلى أن يحصل له ما يريد، وليكن مخلصاً في طلب العلم، عاملاً به، حافظاً له. فأما أن يفوته الإخلاص، فذلك تضييع زمان وخسران الجزاء، وأما أن يفوته العمل به، فذاك يقوي الحجة عليه والعقاب له. وأما جمعه من غير حفظه، فإن العلم ما كان في الصدور لا في القمطر. ومتى أخلص في طلبه دله على الله عز وجل، فليبعد عن مخالطة الخلق مهما أمكن، خصوصاً العوام; وليصن نفسه عن المشي في الأسواق، فربما وقع البصر على فتنة، وليجتهد في مكان لا يسمع فيه أصوات الناس. ومن علم أنه مار إلى الله عز وجل وإلى العيش معه وعنده، وأن الدنيا أيام سفر، صبر على تفث السفر ونصبه، وإن الراحة لا تنال بالراحة، فمن زرع حصد ومن جد وجد. خاضوا في أمر الهوى في فنون ... فزادهم في اسم هواهم حرف نون وكتب رجل لأخيه: يكفيك لطلب العلم سورة العصر، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 340 فإنها كما قال الشافعي: لو فكر الناس فيها لكفتهم; فوقع في يد الشيخ عبد اللطيف، فكتب: اعلم أن قول الشافعي، رحمه الله تعالى، فيه دلالة ظاهرة على وجوب طلب العلم مع القدرة في أي مكان، ومن استدل به على ترك الرحلة والاكتفاء بمجرد التفكر في هذه السورة، فهو خلي الذهن من الفهم والعلم والفكرة، إن كان في قلبه أدنى حياة، ونهمة للخير، لأن الله افتتحها بالإقسام بالعصر، الذي هو زمن تحصيل الأرباح للمؤمنين، وزمن الشقاء والخسران للمعرضين الضالين. وطلب العلم ومعرفة ما قصد به العبد من الخطاب الشرعي أفضل الأرباح، وعنوان الفلاح، والإعراض عن ذلك علامة الإفلاس والإبلاس؛ فلا ينبغي للعاقل العارف أن يضيع أوقات عمره وساعات دهره إلا في طلب العلم النافع، والميراث المحمود كما قيل في المعنى شعراً: أليس من الخسران أن اللياليا ... تمر بلا نفع وتحسب من عمري وفي قوله: {إِنَّ الإِنْسَانَ} تنبيه على أن الجنس كله كذلك، إلا من استثنى؛ وهذا يوجب الهرب والفرار إلى الله بمعرفته وتوحيده والإنابة إليه، ومتى يحصل هذا للجاهل؟ وفي قوله: {لَفِي خُسْرٍ} تنبيه على عدم اختصاص خسره بنوع دون نوع، بل هو قد توجه إليه الخسران بحذافيره من جميع جهاته إلا من استثنى؛ وهذا لا يدخل في المستثنى من زهد في العلم وآثر وطنه وأهله على الميراث النبوي، وتجرع كأس الجزء: 4 ¦ الصفحة: 341 الجهل طول حياته، حتى آل من أمره أنه يستدل على ترك الطلب بالدليل على وجوب الطلب. وفي قوله تعالى: {إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا} ما يوجب الجد والاجتهاد في معرفة الإيمان والتزامه، لينجو من الخسار ويلتحق بالأبرار والأخيار. وقد اختلف الناس في الإيمان ومسماه، ولا سبيل إلى معرفة مراد الله به وما دل عليه كتاب الله وسنة رسوله في ذلك، إلا بطلب العلم ومعرفة ما عليه سلف الأمة وأئمتها. ثم له شعب وحقائق، وأصول وفروع، لا تعرف إلا بطلب العلم وبذل الجهد والتشمير عن ساق الاجتهاد; ومن آثر الوطن والرفاهية فاته كثير من ذلك أو أكثر، بل ربما فاته كله نعوذ بالله؛ ولذلك تجد من يرغب عن طلب العلم، وعمدته في هذه المباحث تقليد المشائخ والآباء، وما كان عليه أهل محلته، وهذا لا يمكن في باب الإيمان ومعرفته. ولو كنت تدري ما قلت لم تبده. وفي قوله: {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [سورة العصر آية: 3] حث وحض على العلم وطلبه، لأن العامل بغير علم وبصيرة ليس من عمله على طائل، بل ربما جاءه الهلاك والآفة من جهة عمله، كالحاطب في ظلماء، والسالك في عمياء؛ ولا سبيل إلى العمل إلا بالعلم، ومعرفة صلاح العمل وفساده لا بد منه، ولا يدرك إلا بنور العلم وبصيرته، وقوله: {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ} [سورة العصر آية: 3] محتاج مريده وفاعله إلى العلم حاجة وضرورة ظاهرة، لأن الحكم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 342 على الشيء بكونه حقاً يتوقف على الدليل والبرهان؛ وإذا كانت "أل" في "الحق" للاستغراق، فالأمر أهم وأجل وأشمل. وأما الصبر فمعرفة حده وتعريفه، ومعرفة حكمه وجوباً واستحباباً، ومعرفة أنواعه وأقسامه ومحله من الإيمان، من أهم ما يجب على العبد ويلزمه، وما أحسن ما قيل: إن العُلى حدثتني وهي صادقة ... فيما تحدث أن العز في النقل فظهر أن معنى قول الشافعي: "كفتهم"، في طلبه لا في تركه. وقال الإمام أحمد رضي الله عنه: الناس إلى العلم أحوج منهم إلى الطعام والشراب، لأن الرجل يحتاج إلى الطعام والشراب في اليوم مرة أو مرتين، وحاجته إلى العلم عدد أنفاسه. وروينا عن الشافعي رضي الله عنه أنه قال: طلب العلم أفضل من صلاة النافلة. ونص على ذلك أبو حنيفة، رحمه الله. ومن فارق الدليل ضل السبيل، ولا دليل إلى الله والجنة سوى الكتاب والسنة، وكل دليل لم يصحبه دليل القرآن والسنة فهو من طريق الجحيم والشيطان. فالعلم ما قام عليه الدليل، والنافع منه ما جاء به الرسول. وقال أبو الفضل البامجي من مشائخ القوم الكبار: ذهاب الإسلام من أربعة: لا يعملون بما يعلمون، ويعملون بما لا يعلمون، ولا يتعلمون ما يعملون، ويمنعون الناس عن التعلم والتعليم؛ قال عمر بن عثمان المكي: العلم قائد، والخوف الجزء: 4 ¦ الصفحة: 343 سائق، والنفس حرون بين ذلك جموح، خداعة رواغة، فاحذرها وراعها بسياسة العلم، وسقها بتهديد الخوف، يتم لك ما تريد. وقال أبو الوزير، رحمه الله: عملت في المجاهدة ثلاثين سنة، فما وجدت شيئاً عليّ أشدّ من العلم ومتابعته، ولولا اختلاف العلماء لبقيت. وقال الجنيد: الطرق كلها مسدودة على الخلق إلا من اقتفى آثار الرسول صلى الله عليه وسلم. ومن لم يحفظ القرآن ويكتب الحديث لا يقتدى به في هذا الأمر، لأن علمنا مقيد بالكتاب والسنة. وأجاب أيضاً: أما كيفية طلب العلم، ففي حديث ابن عباس، رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم " بعث معاذاً إلى اليمن، فقال: إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه ... " 1 الحديث، فيه بيان الكيفية، والبداءة بالأهم فالأهم من واجبات الإيمان، وأركان الإسلام، وينتقل درجة درجة من الأعلى إلى ما دونه. ثم بعد ذلك يتعلم ما يجب من الحقوق في الإسلام، بخلاف ما يفعله بعض الطلبة من الاشتغال بالفروع والذيول؛ وفي كلام شيخ الإسلام، رحمه الله تعالى: من ضيع الأصول حرم الوصول، ومن ترك الدليل ضل السبيل. وأما السبب في تحصيله، فلا أعلم سبباً أعظم وأنفع وأقرب في تحصيل المقصود من التقوى، قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً}   1 البخاري: التوحيد (7372) , ومسلم: الإيمان (19) , والترمذي: الزكاة (625) , وأبو داود: الزكاة (1584) , وابن ماجة: الزكاة (1783) , وأحمد (1/233) , والدارمي: الزكاة (1614) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 344 [سورة النساء آية: 66] . وفي الأثر: من عمل بما علم أورثه الله علم ما لم يعلم; قال الشافعي، رحمه الله: شكوت إلى وكيع سوء حفظي ... فأرشدني إلى ترك المعاصي وقال اعلم بأن العلم نور ... ونور الله لا يؤتاه عاصي ومن الأسباب الموجبة لتحصيله: الحرص والاجتهاد، قال تعالى: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لأسْمَعَهُمْ} [سورة الأنفال آية: 23] ، ومنها إصلاح النية، وإرادة وجه الله والدار الآخرة؛ فإن النية عليها مدار الأعمال، ولا يتم أمر ولا تحصل بركة إلا بصلاح القصد والنية. وهناك أسباب أخر تذكر في الكتب المؤلفة في آداب العلم والتعلم، ليس هذا محل بسطها. وقال أيضاً فيما كتبه لبعض إخوانه، يحرضه، فقال: وما تيسر لك من الكتب المفيدة الشرعية، جعلك الله من وعاة العلم، ورواته الفائزين بحسن ثوابه ومرضاته، فإياك إياك البطالة والإهمال، والاشتغال بتحصيل عرض ومال! وقد قيل في مثل: ومن خطب الحسناء لم يغله المهر. وقال الشيخ حمد بن عتيق، رحمه الله تعالى: العلم يحفظ بأمرين: تذاكر وفهم، أحدهما العمل به؛ فمن عمل بما علم حفظ عليه علمه وأثابه علماً آخر ما يعرفه، لأن التعطيل ينسي التحصيل، فإذا عمل الإنسان بعلمه، بأن حافظ على فرائض الله، ولازم السنن الرواتب والوتر وتلاوة القرآن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 345 والاستغفار بالأسحار، وأعزر نفسه ساعة يجلسها في المسجد للذكر، وأحسن ما يكون بعد صلاة الصبح إلى طلوع الشمس، فقد تسبب للعمل بعلمه. كذلك يجتنب مجالس اللغو والغفلة، ويعادي مجالس أهل الغيبة وساقط الكلام، ويحفظ لسانه مما لا يعنيه. ثم أقبل على تذاكر العلم وقيده بالكتابة؛ وحرص على تحصيل الكتب والنسخ أعظم من حرص أهل التمر عليه وقت الجذاذ، وأعظم من حرص أهل العيش على جمعه وقت الحصاد. فهذا يسمى طالب علم، وهو على سبيل نجاة، إذا كان مخلصاً في ذلك لله; وأكثر علامات ذلك أن يكون لصاحبه حال يتميز بها عن الناس، حتى يستشهد حاله وتميزه بانفراده عن الناس، إلا من دخل معه في طريقه. وأما إذا تسمى الإنسان بالقراءة، فإذا تأملت حاله إذا هو مثل أهل بلاده، ولا فيه خاصة عن أهل سوقه، فحاله عند الصلوات الخمس والرواتب مثل حالهم، ولا محافظة على ذلك، فقد نام جميع ليله وجميع نهاره، وصار له مع كل الناس مخالطة، وليس هناك إلا أنه بعض المرات يأخذ الكتاب ويقرأ في المجلس؛ ولو سألته عن بابه الذي قرأه ما عرفه، ولو طلبت منه مسألة مما يقرأ لم يجب عنها، وربع الريال أحب عنده من كتابين، قد خلا منه المسجد وامتلأت منه مجالس الغفلة، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 346 وعطل لسانه من الذكر، وسله في الخوض في أحوال الناس، وما يجري بينهم وتعرف دنياهم، فهذا من العلم النافع بعيد، ولا يفيد ولا يستفيد، من حكمة الرب سبحانه أن مثل هذا لا يوفق. وأدلة هذه الأمور في كتاب الله وسنة رسوله وكلام سلف الأمة وأئمتها كثيرة معروفة، ومن تأمل أحوال العالم وجد ما يشهد لذلك؛ فتجد من يشب ويشيب وهو يقرأ ولم يحصل شيئاً، لمانع قام به وحائل من نفسه، لا من ربه، {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [سورة الكهف آية: 49] ، {حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ} [سورة القمر آية: 5] . وقال أيضاً: وأوصيك بالحرص على تعلم العلم الموروث عن الرسول صلى الله عليه وسلم. ثم اعلم أن ذلك لن ينال إلا على جسر من التعب والمشقة، تحت ظلم الليل، وذلك بشيئين: شيء في أوله، وشيء في آخره. فالذي في أوله: إدامة المطالعة، والحفظ لذلك على المصباح، والذي في آخره: الوقوف في مواقف الابتهال، والانطراح بين يدي ذي العزة والجلال، والتضرع بالأسحار، وتلاوة القرآن بالتدبر والتفكر؛ فهذا عنوان السعادة، وسمة أهل الولاية والزهادة. اللهم ألحقنا بآثار الصالحين. وقال الشيخ سليمان بن سحمان: تعلم ففي العلم الشريف فوائد ... يحن لها القلب السليم الموفقُ فمنهن رضوان الإله وجنة ... وفوز وعز دائم متحققُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 347 وعن زمرة الجهال إن كنت صادقاً ... بعلمك تنجو يا أخي وتسمقُ فكن طالباً للعلم إن كنت حازماً ... وإياك إن رمت الهدى تتفوقُ ففي العلم ما تهواه من كل مطلب ... وطالبه بالنور والحق يشرقُ فإن رمت جاهاً وارتفاعاً ورتبة ... ففي العلم ما تهدى له ويشوّقُ وإن رمت مالاً كان في العلم كسبه ... ففز بالرضى واختر لما هو أوفقُ وأحسن في الدارين عقبى ورفعة ... فبادر فإني صادق ومصدّقُ وفي الجهل قبل الموت موت لأهله ... ويوم اللقا نار تلظى وتحرقُ وقال الشيخ عبد الرحمن بن حسن لبعض إخوانه من طلبة العلم: والذي أوصيكم به جميعاً ونفسي: تقوى الله تعالى، والإخلاص لوجهه الكريم في طلب العلم وغيره، لتفوزوا بالأجر العظيم. وليحذر كل عاقل أن يطلب العلم للمماراة والمباهاة، فإن في ذلك خطراً عظيماً؛ ومثل ذلك طلب العلم لعرض الدنيا والجاه، والترأس بين أهلها وطلب المحمدة، وذلك هو الخسران المبين، ولو لم يكن في الزجر عن ذلك إلا قول الله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [سورة هود آية: 15-16] . وفي حديث أنس مرفوعاً: " من تعلم العلم ليباهي به العلماء، أو ليجاري به السفهاء، أو ليصرف به وجوه الناس إليه، فهو في النار " 1. وهذا القدر كاف في النصيحة؛ وفقنا الله وإياكم لحسن القبول. وقد   1 ابن ماجة: المقدمة (253) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 348 بلغني أنكم اختلفتم في مسائل، أدى إلى التنازع والجدال، وليس هذا شأن طلاب الآخرة؛ فاتقوا الله وتأدبوا بآداب العلم، واطلبوا ثواب الله في تعلمه وتعليمه، وأتبعوا العلم بالعمل فإنه ثمرته، والسبب في حصوله كما في الأثر: من عمل بما علم أورثه الله علم ما لم يعلم; وكونوا متعاونين على البر والتقوى. ومن علامات إخلاص طالب العلم: أن يكون صموتاً عما لا يعنيه، متذللاً لربه، متواضعاً لعبادته، متورعاً متأدباً، لا يبالي ظهر الحق على لسانه أو لسان غيره، لا ينتصر ولا يفخر، ولا يحقد ولا يحسد، ولا يميل به الهوى ولا يركن إلى زينة الدنيا. سئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن، رحمه الله: عن رفع اليدين بالدعاء عند فراغ الدرس؟ فأجاب: الحمد لله، أما رفع اليدين بالدعاء عند فراغ الدرس، فلا ريب أنه من محدثات الأمور، وأنه من البدع التي ينهى عنها، ولم يقع لنا عن أحد من أهل العلم سلفاً وخلفاً ممن يقتدى به، يفعل هذا إلى يومنا هذا. فمن أين جاءتهم هذه البدعة؟ فإن قال قائل: كان الحسن البصري يدعو في مجلس الحديث، فالجواب: أنه هو الذي يدعو بنفسه، من غير رفع الجزء: 4 ¦ الصفحة: 349 يدين، ولا كان أحد ممن حضر يدعو أو يرفع يديه، ولو طلب منه الدليل، لم يوجد عنده ما يدل على هذا، والله أعلم. سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: عن الاجتماع في رمضان لأجل قراءة القرآن مع التدبر؟ فأجاب: لا بأس بذلك، بل ورد الحث عليه فيما رواه مسلم في صحيحه عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ما جلس قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم، إلا غشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده " 1. وسئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عن القراءة بالألحان ... إلخ؟ فأجاب: كرهها العلماء، وقال أحمد ومالك: هي بدعة; وقال أحمد: يحسن صوته بالقراءة; وقال الشيخ تقي الدين: التلحين الذي يشبه الغناء مكروه، والألحان التي كره العلماء القراءة بها، هي التي تتضمن قصر الحرف الممدود، ومد المقصور، وتحريك الساكن، وتسكين المتحرك، ونحو ذلك، يفعلون ذلك لموافقة نغمات الأغاني المطربة، ولها عند أهلها أسماء كالبربطي، والرومي، والمكي، والإسكندراني. وسئل: عن الدعاء قبل الشروع في سورة براءة؟ فأجاب: هذا مبتدع لا أصل له، بل الذي ذكروا: أنه يسكت سكتة بينها وبين سورة الأنفال، بقدر البسملة أو أقل.   1 مسلم: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2699) , والترمذي: القراءات (2945) , وأبو داود: الصلاة (1455) , وابن ماجة: المقدمة (225) , وأحمد (2/252) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 350 سئل الشيخ حمد بن ناصر بن معمر: عن التكبير عند آخر كل سورة من سورة الضحى إلى آخر القرآن؟ فأجاب: فيه خلاف، ولم يستحبه الشيخ تقي الدين، إلا لمن يقرأ بقراءة ابن كثير، وأما من قرأ بقراءة عاصم التي هي أغلب قراءة الناس اليوم فلا. سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عن الدعاء عند الختم؟ فأجاب: الدعاء عند الختم مستحب، فعله بعض الصحابة؛ وأما رفع اليدين فلا بأس به، يستحبه كثير من العلماء، وورد الحديث في الجملة، لا في هذا خاصة. وسئل: عن جعل أوراق المصحف في قطائع 1؟ فأجاب: لا ينبغي ذلك: لأن في ذلك ابتذالاً له ينافي تعظيمه، فيتعين تغيير ذلك إما بالدفن؛ ولا بأس بدفنه في صحراء أو بمسجد، وإن حرق فلا بأس، لما في البخاري: أن الصحابة حرقته - بالحاء المهملة - لما جمعوه، قال ابن الجوزي: ذلك لتعظيمه وصيانته. وروي أن عثمان دفن   1 فقد كان بعض من يحبك الكتب ويجلدها يستعمل أوراق الكتب التالفة داخل الأغلفة, لتقوية التجليد وتجميله. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 351 المصاحف بين القبر والمنبر. ومن مزق من كتب أهل السنة شيئاً، فإن كان الكتاب مشتملاً على آيات أو أحاديث، وفعل ذلك امتهاناً له، فلا يبعد القول بكفره. وقال الشيخ عبد الله أبا بطين: أما قول بعض الناس إذا سئل عن شيء قال: الله ورسوله أعلم، فهذا يجري على ألسنة كثير من الناس من غير اعتقاد شيء، فالواجب تعليم مثل هذا. سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: عن الكتابة في المجلس؟ فأجاب: أما الكتابة في المجلس الذي فيه جماعة جالسون، فلا بأس به، خصوصاً إذا كان لا يرفع صوته بالحديث الذي هو يكتب فيه، ولا يشغله الكلام عما هو فيه؛ فأما إن كان يتكلم بالحديث، فلا يناسب أنهم يرفعون أصواتهم فوق صوته، بل المناسب التأدب مع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وتنْزيهه عن اللغط. وأما إذا لم يكن هناك محذور فلا بأس. ومن نهى عن ذلك فلا أعلم له دليلا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 352 فصل سئل الشيخ سعيد بن حجي: عن وقت الوتر، هل هو متعلق بوقتالعشاء؟ أو بصلاة العشاء؟ فأجاب: اعلم أن وقت الوتر ما بين صلاة العشاء وطلوع الفجر الثاني، فإن أخر الوتر حتى طلع الفجر فات وقته، وصلاه قضاء; وهذا مذهب متأخري الحنابلة، لقوله صلى الله عليه وسلم: " أوتروا قبل أن تصبحوا " 1، رواه مسلم. والرواية الثانية عن أحمد أن وقته من صلاة العشاء إلى صلاة الصبح، لقوله صلى الله عليه وسلم: " إن الله زادكم صلاة، فصلوها ما بين العشاء إلى صلاة الصبح " 2، رواه أحمد، فيدخل في كلامه ما لو جمع العشاء مع المغرب تقديماً. قال في الإقناع: ووقت الوتر بعد صلاة العشاء وسنتها، ولو في جمع تقديم إلى طلوع الفجر الثاني، ولا يصح قبل العشاء. سئل الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن، رحمه الله تعالى: عن الأفضل في التهجد: طول القيام، أو الركوع والسجود والجهر؟ وما يقول في الركوع، وبعد الرفع ... إلخ؟ فأجاب: أما التهجد، فالأفضل فيه ما ثبت وصح عن   1 مسلم: صلاة المسافرين وقصرها (754) , والترمذي: الصلاة (468) , والنسائي: قيام الليل وتطوع النهار (1683) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1189) , وأحمد (3/13, 3/37) . 2 أحمد (6/397) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 353 رسول الله صلى الله عليه وسلم في صفة تهجده، وأنه كان يطيل الركوع والسجود إذا أطال القيام، فإذا خفف القيام وأوجز القراءة، صنع كذلك في الركوع والسجود. والقيام فيه القراءة، وهي أفضل الأقوال; والركوع والسجود أفضل الهيئات والأفعال; فينبغي للمتهجد أن يعطي كل ركن حقه، ويراعي المناسبة; وأما الإخفات والجهر، فالجهر يسن للإمام، وحيث لا يتأذى بصوته نائم أو متهجد؛ وإذا كان أنشط، وأدعى للتدبر، فالأولى الجهر. وأما أفضل ما يقوله في ركوعه وسجوده، فهو ما ثبت وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من التسبيح: سبحان ربي العظيم، سبحان ربي الأعلى، وسبحان الملك القدوس في ركوعه، والدعاء بما ورد في محله تحصل به الفضيلة، لأن الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم هو الكمال. وأما ما يقول بعد التسميع، فقد ثبت في الأحاديث ما فيه كفاية، وفي المنتقى وكتب الحديث عندكم ما فيه. وأما التربع في صلاة القاعد: فصح الحديث: " أن صلاة القاعد على النصف من أجر صلاة القائم " 1، وما علمت أحداً قال إن المتربع كالقائم. وعليك بطلب العلم والحرص على ذلك. والمسائل المذكورة، وجوابها فيما عندكم من كتب الحديث مقرر   1 النسائي: قيام الليل وتطوع النهار (1659) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1229) , وأحمد (2/162, 2/192) , ومالك: النداء للصلاة (310) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 354 مفصل; ثم حضه على القراءة في كتب الحديث، والتفسير، وملازمة فلان. ثم قال: وقد قيل: دين محمد آثار نعْـ ... ـم المطية للفتى أخبار وكثير من أهل العلم يشتغل في آخر عمره بالقرآن وتدبره، وقراءة الصحيحين وسماعهما في كل مجلس. سئل الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين: عمن يقدم ورده بعد العشاء، ويوتر قبل النوم، هل يكتب له قيام الليل، أم لا؟ فأجاب: نعم، يكتب له قيام الليل بصلاة العشاء الآخرة في جماعة، ويبقى ورده زيادة أجر له، كما ثبت في صحيح مسلم من حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل، ومن صلى الصبح في جماعة فكأنما قام الليل كله " 1. وأما وتره قبل النوم، فقد ثبت فعله عن جماعة من الصحابة، رضي الله عنهم، وذلك بإرشاد النبي صلى الله عليه وسلم لهم إلى ذلك، كحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: " أوصاني خليلي رسول الله صلى الله عليه وسلم بثلاث لا أدعهن حتى أموت: صوم ثلاثة أيام من كل شهر، وصلاة الضحى، ونوم على وتر " 2، رواه البخاري ومسلم. ولمسلم أيضاً من حديث أبي الدرداء قال: ?" أوصاني حبيبي صلى الله عليه وسلم بثلاث "; فذكر الحديث، وفيه: " وأن لا أنام   1 مسلم: المساجد ومواضع الصلاة (656) , والترمذي: الصلاة (221) , وأبو داود: الصلاة (555) , وأحمد (1/58, 1/68) , ومالك: النداء للصلاة (297) , والدارمي: الصلاة (1224) . 2 البخاري: الجمعة (1178) , ومسلم: صلاة المسافرين وقصرها (721) , والنسائي: قيام الليل وتطوع النهار (1678) , وأبو داود: الصلاة (1432) , وأحمد (2/265, 2/392, 2/459, 2/526) , والدارمي: الصلاة (1454) والصوم (1745) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 355 حتى أوتر "، ورواه الإمام أحمد من حديث أبي ذر، قال: ?" أوصاني حبيبي صلى الله عليه وسلم بثلاث "، فذكر منهن الوتر قبل النوم، وإنما أوصاهم بذلك لأنهم لم يكن لهم عادة بقيام الليل، وإلا فمن كانت عادته الاستيقاظ فوتره آخر الليل أفضل. واعلم: أن وقت الوتر من صلاة العشاء إلى طلوع الفجر، وهذا منصوص الإمام أحمد، لما روي من حديث خارجة بن حذافة أنه قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " إن الله أمدكم بصلاة خير لكم من حمر النعم، الوتر جعله الله ما بين صلاة العشاء إلى طلوع الفجر " 1، رواه أحمد وأبو داود والترمذي، وروى أحمد نحوه من حديث أبي نضرة. وسئل: عن فعل الوتر وهو حاقن ونحوه؟ فأجاب: أما من أراد فعل الوتر وهو حاقن ونحوه، فالذي يظهر لي أنه لا يفعله مع تلك الحال، ولو خرج وقته بخلاف الفريضة، لأن تأخيرها عن وقتها حرام وليس الوتر كذلك؛ ولذا قال في شرح المنتهى في المسألة: ما لم يضق وقت المكتوبة عن جميعها فيه، يعني فلا يفوت وقت المكتوبة، فكان ذكره المكتوبة فيه إشارة إلى أن غيرها ليس كذلك، والله أعلم.   1 الترمذي: الصلاة (452) , وأبو داود: الصلاة (1418) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1168) , والدارمي: الصلاة (1576) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 356 سئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن: عن وقت القنوت ورفع اليدين فيه والتكبير قبله؟ فأجاب: أما دعاء القنوت فبعد الركوع، ورفع اليدين فيه جائز، والتكبير قبله محدث. وسئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عن الجهر بدعاء القنوت ... إلخ؟ فأجاب: وأما القنوت فإن كان إماماً جهر به، وأمن المأمومون جهراً. وسئل: عن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد قنوت الوتر ... إلخ؟ فأجاب: الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد قنوت الوتر مستحبة، فقيل: وآله؟ فقال: لا بأس به، كما في التشهد. وسئل: عن قضاء الوتر؟ فأجاب: قضاء الوتر فيه عن أحمد روايتان: إحداهما: لا يقضي، اختارها الشيخ تقي الدين، رحمه الله. والرواية الثانية: يسن قضاؤه، وهذا هو المذهب، ومذهب مالك والشافعي؛ وعلى هذه الرواية هل يقتصر على ركعة؟ أم يصلي شفعه قبله؟ وهذا هو الصحيح من المذهب. وسئل: عمن يترك الوتر؟ فأجاب: قال العلماء: الذي يداوم على ترك الوتر يفسق بتركه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 357 سئل الشيخ حسين، والشيخ عبد الله، ابنا الشيخ محمد، رحمهم الله: عن القنوت في الفرائض ... إلخ؟ فأجابا: الصواب عندنا ترك القنوت في الفرائض، إلا إذا نزل بالمسلمين نازلة، فإن السنة قد وردت وصحت بالقنوت في الفجر في هذه الحالة. وهذا هو الثابت عندنا من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وفعل خلفائه الراشدين، كما هو مذكور في الكتب الصحيحة، كالصحيحين وغيرهما. سئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ، رحمهم الله تعالى: عن القنوت عند حدوث الأمراض؟ فأجاب: الأمراض الحادثة وقع مثلها في وقت الصحابة، رضي الله عنهم، فلم يقنتوا، ولو كان خيراً سبقونا إليه. سئل الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين: عن قوله صلى الله عليه وسلم: " بين كل أذانين صلاة " 1 ... إلخ؟ فأجاب: حديث: " بين كل أذانين صلاة " حديث صحيح، كرره صلى الله عليه وسلم، وقال في الثالثة: " لمن شاء "، قال الراوي: كراهية أن يتخذها الناس سنة راتبة، فأما قبل الظهر فإن الراتبة تفعل حينئذ، وكذا الفجر إذا أذن بعد طلوع الفجر لم يفعل إلا السنة الراتبة، وأما سائر الصلوات فحسن إن شاء الله تعالى؛ وأكثر أصحابنا عبروا بإباحة الركعتين قبل المغرب، والشافعية يقولون: سنة مستحبة، والحنابلة أظنهم يحتجون بأنه صلى الله عليه وسلم   1 البخاري: الأذان (624) , ومسلم: صلاة المسافرين وقصرها (838) , والترمذي: الصلاة (185) , والنسائي: الأذان (681) , وأبو داود: الصلاة (1283) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1162) , وأحمد (4/86, 5/54, 5/55) , والدارمي: الصلاة (1440) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 358 لم يفعلها، وكثير من الصحابة يفعلونها، وللحديث الوارد فيها: " صلوا قبل المغرب ركعتين " 1، قال في الثالثة: " لمن شاء ". وقال الشيخ سليمان بن سحمان: وما ذكرت من الصلاة بعد الأذان لصلاة المغرب، وأغلظت في ذلك بالإنكار الشديد، أحببت أن أنقل لك كلام شيخ الإسلام: قال، رحمه الله: فإنه قد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيحين أنه قال: " بين كل أذانين صلاة، بين كل أذانين صلاة " 2، ثم قال في الثالثة: " لمن شاء " كراهية أن يتخذها الناس سنة، فهذا الحديث يدل على أن الصلاة مشروعة قبل العصر، وقبل العشاء الآخرة، وقبل المغرب، وأن ذلك ليس بسنة. وكذلك قد ثبت أنهم كانوا يصلون بين أذان المغرب وهو يراهم فلا ينهاهم، ولا يأمرهم، ولا يفعل هو ذلك؛ فدل على أن ذلك فعل جائز. وقد احتج بعض الناس على الصلاة قبل الجمعة بقوله: " بين كل أذانين صلاة "، وعارضه غيره فقال: الأذان الذي على المنائر لم يكن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن عثمان أمر به لما كثر الناس على عهده، ولم يكن يبلغهم الأذان حين خروجه وقعوده على المنبر؛ ويتوجه أن يقال: هذا الأذان لما سنه عثمان واتفق المسلمون عليه صار أذاناً شرعياً، وحينئذ فتكون الصلاة بينه وبين الأذان الثاني جائزة حسنة، وليست سنة راتبة، كالصلاة قبل صلاة المغرب، وحينئذ من فعل ذلك لم ينكر عليه، ومن ترك ذلك لم ينكر عليه؛ وهذا أعدل الأقوال،   1 البخاري: الجمعة (1183) والاعتصام بالكتاب والسنة (7368) , وأبو داود: الصلاة (1281) , وأحمد (5/55) . 2 البخاري: الأذان (624) , ومسلم: صلاة المسافرين وقصرها (838) , والترمذي: الصلاة (185) , والنسائي: الأذان (681) , وأبو داود: الصلاة (1283) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1162) , وأحمد (4/86, 5/54, 5/55) , والدارمي: الصلاة (1440) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 359 وكلام الإمام أحمد يدل عليه; وحينئذ فقد يكون تركها أفضل إذا كان الجهال يطنون أن هذه سنة راتبة أو أنها واجبة، فتترك حتى يعرف الناس أنها ليست بسنة راتبة ولا واجبة، لا سيما إذا داوم الناس عليها، فينبغي تركها أحياناً حتى لا تشبه الفرض. والمقصود أن شيخ الإسلام قال: فهذا الحديث يدل على أن الصلاة مشروعة قبل العصر، وقبل العشاء الآخرة، وقبل المغرب، وأن ذلك ليس بسنة; وأنت تقول إنها سنة وتغلظ في ذلك. ثم قال الشيخ: وكذلك ثبت أنهم كانوا يصلون بين أذان المغرب وهو يراهم فلا ينهاهم ولا يأمرهم ولا يفعل هو ذلك؛ فدل على أن هذا فعل جائز. وأنت تأمر بذلك وتشدد الإنكار على تركه، والنبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: " بين كل أذانين صلاة "، إنما هو بيان للجواز لا أن ذلك سنة؛ ولو كان سنة لفعله، ولأمر من يترك ذلك بالصلاة. قال شيخ الإسلام: فمن فعل ذلك لم ينكر عليه، ومن ترك ذلك لم ينكر عليه؛ وهذا أعدل الأقوال، وكلام الإمام أحمد يدل عليه; فالذي أحبه لك: أن تأخذ بأعدل الأقوال، وأنا - ولله الحمد - أفعله أحياناً لكي لا أرى التغليظ في الأمور الجائزة. أما السنن الراتبة، والوتر، فقد ذكر العلماء، أنه لا يتركها إلا رجل سوء. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 360 وسئل بعضهم: ما قولكم في الرواتب، كم قدرها، ووقتها؟ وأيها أفضل؟ فأجاب: ثبت في الصحيحين عن عبد الله بن عمر، قال: " حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر ركعات: ركعتين قبل الظهر، وركعتين بعدها، وركعتين بعد المغرب، وركعتين بعد العشاء، وركعتين قبل صلاة الصبح " 1، وفي حديث في الصحيح، قال: " حفظت عن عائشة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي قبل الظهر أربعاً " 2، فيحمل على أنه كان يصلي تارة أربعاً قبل الظهر، وتارة الركعتين. وذكر العلماء أن آكد التطوع: الكسوف، ثم الوتر، ثم ركعتا الفجر، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يدعهن، لا حضراً ولا سفراً. سئل بعضهم: ما قولكم في ترك السنن من غير استخفاف بها، ما الحكم؟ فأجاب: الذي ذكره أهل العلم أنه متى ترك السنن، وداوم عليها من غير استخفاف بها، أنه يكون ناقصاً، ولا تقبل شهادته. سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: عن فعل الرواتب في السفر؟ فأجاب: الذي يصلي الرواتب في البر لا ينكر عليه، والأفضل ترك الرواتب، إلا الوتر وسنة الفجر.   1 البخاري: الجمعة (1181) , والترمذي: الصلاة (433) , وأحمد (2/6, 2/63, 2/73, 2/74 , 2/99, 2/100, 2/117, 2/141) , والدارمي: الصلاة (1437) . 2 مسلم: صلاة المسافرين وقصرها (730) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 361 سئل الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين، رحمه الله تعالى: عن رفع اليدين بعد السنن؟ فأجاب: وأما رفع اليدين بالدعاء بعد السنن، أرجو أن لا بأس به، لكن اجتهاد الإنسان بالدعاء قبل السلام أولى وأحرى للإجابة. قال الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله: وأما صلاة التراويح، فسنة لا بأس بالجماعة فيها والمواظبة عليها. وأجاب أيضاً: صلاة التراويح في رمضان مستحبة، وفعلها جماعة أفضل، وكذا القنوت في النصف الآخر من رمضان. وأجاب الشيخ حمد بن عبد العزيز: أما التراويح، ففعل الصحابة لها مشهور، وتلقته الأمة عنهم خلفاً بعد سلف؛ وأول من جمعهم على صلاة الليل في رمضان عمر رضي الله عنه وهو خليفة راشد. ولا ينكر التراويح إلا أهل البدع من الرافضة وغيرهم; ونفس قيام الليل ورد عنه صلى الله عليه وسلم من أوجه متعددة كلها جائزة، وإن كان بعضها أرجح من بعض عند أهل التحقيق، لكن النهي عن التراويح هو البدعة، إذ كان قد صلى بأصحابه في ليالي الوتر من العشر، كما قالت عائشة وأبو ذر وأنس، رضي الله عنهم، وبعض ذلك في الصحيح. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 362 وقال صلى الله عليه وسلم: " من قام مع الإمام حتى ينصرف، كتب له قيام ليلة " 1. وكان الإمام أحمد يصلي مع الإمام حتى ينصرف. والزيادة في الركعات والنقص أمر واسع إذا حصل الوتر في آخرها؛ وقد ورد أن حذيفة صلى معه صلى الله عليه وسلم في ليلة من رمضان، وقرأ بالبقرة، ثم بالنساء، ثم بآل عمران، أظنه قال: في ركعتين، حتى استوعب الليل في ذلك، ومرة صلى أربع ركعات كذلك، ولابن عباس أنه صلى ثلاث عشرة، وعائشة روت أنه صلى إحدى عشرة. سئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله: عن عدد التراويح؟ فأجاب: الذي استحب أن تكون عشرين ركعة. وأجاب ابنه الشيخ: عبد الله، رحمهما الله: الذي ذكره العلماء، رحمهم الله، أن التراويح عشرون ركعة، وأن لا ينقص عن هذا العدد إلا إن أراد أن يزيد في القراءة بقدر ما ينقص من الركعات؛ ولهذا اختلف عمل السلف في الزيادة والنقصان، وعمر رضي الله عنه لما جمع الناس على أبي بن كعب، صلى بهم عشرين ركعة. وأجاب الشيخ عبد الله أبا بطين: وأما صلاة التراويح أقل من العشرين فلا بأس، والصحابة، رضي الله عنهم، منهم من يقل ومنهم من يكثر; والحد المحدود لا نص عليه من الشارع صحيح.   1 الترمذي: الصوم (806) , والنسائي: السهو (1364) , وأبو داود: الصلاة (1375) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1327) , وأحمد (5/159) , والدارمي: الصوم (1777) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 363 وقال أيضاً، رحمه الله تعالى: مسألة في الجواب عما أنكره بعض الناس من صلاتنا في العشر الأواخر من رمضان، زيادة على المعتاد في العشرين الأول، وسبب إنكارهم لذلك: غلبة العادة، والجهل بالسنة وما عليه الصحابة والتابعون وأئمة الإسلام. فنقول: قد تواترت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم بالترغيب في قيام رمضان والحث عليه، وتأكيد ذلك في عشره الأخير، كما في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرغبهم في قيام رمضان من غير أن يأمرهم بعزيمة، فيقول: " من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه " 1، وفي السنن عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " فرض الله عليكم صيام رمضان، وسن لكم قيامه " 2. وفي الصحيحين عن عائشة، رضي الله عنها، قالت: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر أحيا ليله، وأيقظ أهله، وشد المئزر " 3، وصلى صلى الله عليه وسلم ليلة من رمضان جماعة في أول الشهر، وكذلك في العشر. وفي صحيح مسلم عن أنس قال: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم في رمضان، فجئت فقمت إلى جنبه، فجاء رجل آخر فقام أيضاً، حتى كنا رهطاً. فلما أحس أنا خلفه جعل يتجوز في الصلاة. ثم دخل رحله فصلى صلاة لا يصليها عندنا، فقلت له حين أصبح: فطنت لنا الليلة؟ قال: نعم، ذلك الذي حملني على ما صنعت " 4. وعن عائشة قالت:   1 البخاري: صلاة التراويح (2014) , ومسلم: صلاة المسافرين وقصرها (760) , والترمذي: الصوم (683) , والنسائي: الصيام (2199, 2200, 2205) , وأبو داود: الصلاة (1372) , وأحمد (2/473, 2/503) , والدارمي: الصوم (1776) . 2 النسائي: الصيام (2210) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1328) . 3 البخاري: صلاة التراويح (2024) , ومسلم: الاعتكاف (1174) , والنسائي: قيام الليل وتطوع النهار (1639) , وأبو داود: الصلاة (1376) , وابن ماجة: الصيام (1768) , وأحمد (6/40) . 4 مسلم: الصيام (1104) , وأحمد (3/193) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 364 " صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، فصلى بصلاته أناس كثير. ثم صلى من القابلة فكثروا. ثم اجتمعوا من الليلة الثالثة، فلم يخرج إليهم، فلما أصبح قال: قد رأيت صنيعكم، فلم يمنعني من الخروج إليكم إلا خشية أن يفرض عليكم " 1، وذلك في رمضان، أخرجاه في الصحيحين. وفي السنن عن أبي ذر رضي الله عنه قال: " صمنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يقم بنا حتى بقي سبع من الشهر، فقام بنا حتى ذهب ثلث الليل. ثم لم يقم بنا في السادسة، وقام في الخامسة حتى ذهب شطر الليل، فقلنا: لو نفلتنا بقية ليلتنا هذه؟ فقال: إنه من قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة. ثم لم يقم بنا حتى بقي ثلاث من الشهر، فصلى بنا في الثالثة، ودعا أهله ونساءه، وقام بنا حتى خشينا أن يفوتنا الفلاح، قيل: وما الفلاح؟ قال السحور " 2، صححه الترمذي، واحتح الإمام أحمد وغيره بهذا الحديث أن فعل التراويح جماعة أفضل; وقال شيخ الإسلام تقي الدين، رحمه الله: وفي قوله صلى الله عليه وسلم: " من قام مع الإمام حتى ينصرف، كتب له قيام ليلة " 3 ترغيب في قيام رمضان خلف الإمام، وذلك أوكد من أن يكون سنة مطلقة؛ وكان الناس يصلونها جماعات في المسجد على عهده صلى الله عليه وسلم، وإقراره سنة منه صلى الله عليه وسلم. انتهى. فلما تقرر أن قيام رمضان، وإحياء العشر الأواخر سنة مؤكدة، وأنه في جماعة أفضل، وأنه صلى الله عليه وسلم لم يوقت في ذلك   1 البخاري: الأذان (729) , ومسلم: صلاة المسافرين وقصرها (761) , والنسائي: قيام الليل وتطوع النهار (1604) , وأبو داود: الصلاة (1373) , وأحمد (6/177) , ومالك: النداء للصلاة (250) . 2 الترمذي: الصوم (806) , والنسائي: السهو (1364) , وأبو داود: الصلاة (1375) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1327) , والدارمي: الصوم (1777) . 3 الترمذي: الصوم (806) , والنسائي: السهو (1364) , وأبو داود: الصلاة (1375) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1327) , وأحمد (5/159) , والدارمي: الصوم (1777) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 365 عدداً، علمنا أنه لا توقيت في ذلك. وفي الصحيحين عن عائشة قالت: " ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشر ركعة " 1. وفي بعض طرق حديث حذيفة الذي فيه أنه صلى الله عليه وسلم قرأ في ركعة: سورة البقرة والنساء وآل عمران، أنه لم يصل في تلك الليلة إلا ركعتين، وأن ذلك في رمضان. وروي عن الصحابة، رضي الله عنهم، في التراويح أنواع، واختلف العلماء في المختار منها، مع تجويزهم لفعل الجميع؛ فاختار الشافعي وأحمد عشرين ركعة، مع أن أحمد نص على أنه لا بأس بالزيادة، وقال: روي في ذلك ألوان ولم يقض فيه بشيء. وقال عبد الله بن أحمد: رأيت أبي يصلي في رمضان ما لا يحصى من التراويح. واختار مالك ستاً وثلاثين ركعة. وحكى الترمذي عن بعض العلماء اختيار إحدى وأربعين ركعة مع الوتر، قال: وهو قول أهل المدينة، والعمل على هذا عندهم بالمدينة; وقال إسحاق بن إبراهيم: نختار إحدى وأربعين ركعة على ما روي عن أبي بن كعب. قال الشيخ تقي الدين: والتراويح إن صلاها كمذهب أبي حنيفة والشافعي وأحمد: عشرين ركعة، أو كمذهب مالك: ستاً وثلاثين، أو ثلاث عشرة، أو إحدى عشرة، فقد أحسن كما نص عليه أحمد لعدم التوقيت، فيكون تكثير الركعات وتقليلها بحسب طول القيام وقصره. وقد تقدم قول عائشة: " ما   1 البخاري: المناقب (3569) , ومسلم: صلاة المسافرين وقصرها (738) , والترمذي: الصلاة (439) , والنسائي: قيام الليل وتطوع النهار (1697) , وأبو داود: الصلاة (1341) , وأحمد (6/36, 6/73) , ومالك: النداء للصلاة (265) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 366 كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة " 1 وقولها: " كان إذا دخل العشر أحيا ليله " 2. وفي الموطإ عن السائب بن يزيد، قال: "أمر عمر بن الخطاب أبي بن كعب وتميماً الداري، أن يقوما للناس بإحدى عشرة ركعة؛ وكان القاري يقرأ بالمئين حتى كنا نعتمد على العصي من طول القيام، وما كنا ننصرف إلا في فروع الفجر ". وفي الموطإ عن عبد الله بن أبي بكر، قال: سمعت أبي يقول: "كنا ننصرف في رمضان من القيام، فنتعجل الخدم بالطعام مخافة فوت السحور ". وروى أبو بكر بن أبي شيبة عن طاووس، قال: "سمعت ابن عباس يقول: دعاني عمر أتغدى عنده، قال أبو بكر: يعني السحور في رمضان، فسمع هيعة الناس حين خرجوا من المسجد، قال ما هي؟ قال: هيعة الناس حين خرجوا من المسجد، قال: ما بقي من الليل خير مما ذهب منه ". وروى ابن أبي شيبة عن ورقاء، قال: كان سعيد بن جبير يؤمنا في رمضان، فيصلي بنا عشرين ليلة ست ترويحات، فإذا كان العشر الأواخر اعتكف في المسجد، فصلى بنا سبع ترويحات. فتبين بذلك، أن الصحابة والتابعين كانوا يمدون الصلاة إلى قريب طلوع الفجر؛ والظاهر من مجموع الآثار: أن هذا يكون منهم في بعض الليالي دون بعض، ويحتمل أن يكون ذلك في العشر الأواخر، لما ذكرنا من حديث أبي ذر: أن   1 البخاري: الجمعة (1147) , والترمذي: الصلاة (439) , والنسائي: قيام الليل وتطوع النهار (1697) , وأبو داود: الصلاة (1341) , وأحمد (6/36, 6/73) , ومالك: النداء للصلاة (265) . 2 البخاري: صلاة التراويح (2024) , ومسلم: الاعتكاف (1174) , والترمذي: الصوم (796) , والنسائي: قيام الليل وتطوع النهار (1639) , وأبو داود: الصلاة (1376) , وابن ماجة: الصيام (1768) , وأحمد (6/40, 6/66, 6/68) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 367 النبي صلى الله عليه وسلم قام بهم في العشر ليلة إلى نصف الليل، وليلة إلى أن خافوا فوات السحور، ولما لم يخرج إليهم في بعض الليالي اعتذر إليهم بأنه خشي أن يفرض عليهم. فما أعظم جراءة من يقول: إن مد الصلاة في العشر إلى آخر الليل بدعة، مع ما قدمنا من الأحاديث والآثار. قال ابن القيم، رحمه الله: اختلف قول الإمام أحمد في تأخير التراويح إلى آخر الليل: فعنه: إن أخروا القيام إلى آخر الليل فلا بأس، كما قال عمر، فإن الساعة التي ينامون فيها أفضل، ولأنه يحصل قيام بعد رقدة، قال الله تعالى: {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً} [سورة المزمل آية: 6] ، وروى عنه أبو داود: لأن يؤخر القيام إلى آخر الليل سنة المسلمين أحب إلي، ووجه فعل الصحابة، ويحمل قول عمر على الترغيب في صلاة آخر الليل، ليواصلوا قيامهم إلى آخر الليل، لا أنهم يؤخرونها. انتهى. فانظر قوله ليواصلوا قيامهم إلى آخر الليل، فهلا قال إن مواصلة القيام إلى آخر الليل بدعة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 368 فصل إذا تبين أنه لا توقيت في عدد التراويح، وأن وقتها عند جميع العلماء من بعد سنة العشاء إلى طلوع الفجر، وأن إحياء العشر سنة مؤكدة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم صلاها ليالي جماعة، كما قدمنا، فكيف ينكر على من زاد في صلاة العشر الأواخر عما يفعله أول الشهر، فيصلي في العشر أول الليل كما يفعل في أول الشهر، أو أقل، أو أكثر، من غير أن يوتر؟ وذلك لأجل الضعيف لمن يحب الاقتصار على ذلك، ثم يزيد بعد ذلك ما يسره الله في الجماعة، ويسمى الجميع قياماً وتراويح؛ وربما اغتر المنكر لذلك بقول كثير من الفقهاء: يستحب أن لا يزيد الإمام على ختمة إلا أن يؤثر المأمومون الزيادة، وعللوا عدم استحباب الزيادة على ختمة بالمشقة على المأمومين، لا لكون الزيادة غير مشروعة، ودل كلامهم لو آثروا الزيادة على ختمة كان مستحباً، وذلك مصرح به في قولهم: إلا أن يؤثر المأمومون الزيادة. وأما ما يجري على ألسنة العوام، من تسميتهم ما يفعل أول الليل تراويح، وما يصلي بعد ذلك قياماً، فهو تفريق عامي، بل الكل قيام، وتراويح؛ وإنما سمي قيام رمضان الجزء: 4 ¦ الصفحة: 369 تراويح، لأنهم كانوا يستريحون بعد كل أربع ركعات من أجل أنهم كانوا يطيلون الصلاة. وسبب إنكار المنكر لذلك لمخالفته ما اعتاده وألفه من عادة أهل بلده، وأكثر أهل الزمان، ولجهله بالسنة والآثار، وما عليه الصحابة والتابعون وأئمة الإسلام. وما يظنه بعض الناس من أن صلاتنا في العشر هي صلاة التعقيب الذي كرهه بعض العلماء، فليس كذلك، لأن التعقيب هو التطوع جماعة بعد الفراغ من التراويح والوتر؛ هذه عبارة جميع الفقهاء في تعريف التعقيب أنه التطوع جماعة بعد الوتر عقب التراويح، فكلامهم ظاهر في أن الصلاة جماعة قبل الوتر ليس هو التعقيب. وأيضاً، فالمصلي زيادة عن عادته في أول الشهر، يقول: الكل قيام وتراويح، فهو لم يفرغ من التراويح؛ وأما تسمية الزيادة عن المعتاد قياماً، فهذه تسمية عامية، بل الكل قيام وتراويح، كما قدمنا، وأن المذهب عدم كراهة التعقيب. وعلى القول الآخر، فنص أحمد: أنهم لو تنفلوا جماعة بعد رقدة، أو من آخر الليل لم يكره. وأما اقتصار الإنسان في التراويح على إحدى عشرة ركعة فجائز، لحديث عائشة: " ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة " 1. انتهى. وأجاب أيضاً: وأما الاقتصار في التراويح على أقل من عشرين ركعة فلا بأس بذلك، وإن زاد فلا بأس؛ قال الشيخ   1 البخاري: الجمعة (1147) , والترمذي: الصلاة (439) , والنسائي: قيام الليل وتطوع النهار (1697) , وأبو داود: الصلاة (1341) , وأحمد (6/36, 6/73) , ومالك: النداء للصلاة (265) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 370 تقي الدين: له أن يصلي عشرين، كما هو المشهور في مذهب أحمد والشافعي، قال: وله أن يصلي ستاً وثلاثين ركعة، كما هو مذهب مالك; قال الشيخ: وله أن يصلي إحدى عشرة، أو ثلاث عشرة، قال: وكله حسن كما نص عليه الإمام أحمد، قال الشيخ: فيكون تكثير الركعات أو تقليلها، بحسب طول القيام وقصره؛ وقد استحب أحمد أن لا ينقص في التراويح عن ختمة، يعني في جميع الشهر. وأما قوله سبحانه وتعالى: {كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} [سورة الذاريات آية: 17] ، فالهجوع اسم للنوم بالليل، والمشهور في معنى الآية: أنهم كانوا يهجعون قليلاً من الليل ويصلون أكثره؛ وقيل المعنى: أنهم لا ينامون كل الليل، بل يصلون فيه إما في أوله أو في آخره. وأما الاستغفار فيراد به الاستغفار المعروف، وأفضله سيد الاستغفار؛ وقال بعض المفسرين: {وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [سورة الذاريات آية: 18] ، أي: يصلون، لأن صلاتهم بالأسحار لطلب المغفرة. انتهى. وأجاب الشيخ عبد الرحمن بن حسن: وأما إحياء العشر الأواخر من رمضان فهو السنة، لما جاء في حديث عائشة قالت: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر الأواخر من رمضان أيقظ أهله، وأحيا ليله، وجد وشد المئزر " 1، وفي الحديث الآخر: " من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له   1 أحمد (1/132) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 371 ما تقدم من ذنبه " 1. وصح أن النبي صلى الله عليه وسلم قام الليل كله حتى السحر؛ إذا عرفت ذلك، فلا ينكر قيام العشر الأواخر إلا جاهل لا يعرف السنة. انتهى. وأجاب الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: أما وقت الانصراف في القيام في العشر الأواخر، فلا علمت فيه تحديداً، وقيام آخر الليل أفضل من أوله، والأحسن في هذا أن الإمام يفعل الأمر الذي ما يشق على المأمومين، مع الحرص على الصلاة آخر الليل، فإذا تحرى الوقت الذي يتسع لحاجات الناس آخر الليل، بحيث لا يشق ولا يضيق الوقت عن حاجاتهم، فما زاد عنه لا حاجة إليه، واشتغالهم بالصلاة آخر الليل أولى من النوم. وسئل: عن نقض الوتر؟ فأجاب: إذا سلم من الوتر وقام وصلى ركعة ينقض بها وتره، فمثل هذا ينهى عنه، ولا علمت أحداً من السلف فعله. فإذا أحب الإمام أن يجعل وتره آخر الليل، فلينصرف إذا فرغ من التراويح، ويستخلف من يوتر بالمأمومين، فإن أحب أن لا ينصرف إلا بعد الفراغ من الوتر، فإذا بقي ركعة من الوتر استخلف غيره يصلي بهم تلك الركعة، ويصلي معهم تلك الركعة، فإذا سلم الإمام قام بعد السلام وشفعها بركعة. والمسألة التي فيها الاختلاف في نقض الوتر غير هذه،   1 البخاري: صلاة التراويح (2014) , ومسلم: صلاة المسافرين وقصرها (760) , والترمذي: الصوم (683) , والنسائي: الصيام (2199, 2200, 2205) , وأبو داود: الصلاة (1372) , وأحمد (2/473, 2/503) , والدارمي: الصوم (1776) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 372 وصورتها: أن يوتر أول الليل، ثم يبدو له بعد ذلك أن يتنفل آخر الليل، هل ينقض وتره بركعة إذا قام آخر الليل، ثم يصلي مثنى مثنى ثم يوتر؟ أم لا ينقضه، بل يصلي مثنى مثنى، ولا يعيد الوتر؟ فهذه المسألة الخلاف فيها مشهور، وأما المسألة المسؤول عنها فلا ينبغي فعلها، وفي الحديث: "لا وتران في ليلة " 1. سئل ابنه الشيخ عبد اللطيف: عن صلاة التراويح في السفر جماعة؟ فأجاب: اعلم أن العبادات توقيفية، وترك الشارع للفعل مع قيام مقتضيه دليل للترك، كما أن فعله دليل لطلب الفعل; وقد سافر النبي صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه عدة أسفار في رمضان، ولم ينقل عنه ولا عن أحد من أصحابه فيما بلغنا، فعلها جماعة؛ وهذا دليل كاف سالم من المعارض. والثاني: أن المشروع في السفر قصر الرباعية، وترك نوافل الرواتب، وهي آكد النوافل على الصحيح، بل لم يشرع الجمعة والعيدان، وهما فرضان؛ وهذا بين بحمد الله. وأيضاً، فقول شيخ الإسلام، ومن وافقه: تفعل النوافل المطلقة في السفر لا المقيدة، يدخل هذه القضية ويستفيدها طالب العلم منه. وقولك: وهو مما تسن له الجماعة، عبارة فيها تساهل، والجماعة تشرع له تبعاً لا استقلالاً، كما هو مقرر في محله. وأما اتفاق الغزو على الصوم، فكنت أحب   1 الترمذي: الصلاة (470) , والنسائي: قيام الليل وتطوع النهار (1679) , وأبو داود: الصلاة (1439) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 373 لهم الأفضل وموافقة السنة، في عدم الاتفاق على ترك قبول الرخصة التي يحبها الله؛ واعلم أن هذا هو الموجب لترك فعلها جماعة، وأما النهي عن ذلك فلم أنه أحداً عنه. سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد، رحمهما الله: عن العجلة في صلاة التراويح؟ فأجاب: قولك إن الإمام إذا استعجل صلى معه أكثر الناس، وإذا طول لم يصل معه إلا القليل، فإن الشيطان له غرض، ويحرص على ترك العمل، فإن عجز عن ذلك سعى فيما يبطل العمل؛ وكثير من الأئمة في البلدان يفعل في صلاة التراويح فعل أهل الجاهلية، ويصلون صلاة ما يعقلونها، ولا يطمئنون في السجود ولا في الركوع; والطمأنينة ركن، ما تصح الصلاة إلا بها; والمطلوب في الصلاة حضور القلب بين يدي الله تعالى، واتعاظه لكلام الله تعالى إذا يتلى عليه، والخشوع والطمأنينة، وهذه في الغالب ما تحصل للإنسان الذي يود العجلة. فإذا أردت أن تصلي مع الإمام عشرين مع العجلة، فصل معه عشراً بخشوع وطمأنينة، فهي أنفع لك من كثرة الركعات بلا خشوع ولا طمأنينة؛ وهذا الذي ذكرناه هو الذي ينبغي فعله. وأما إذا حدث فرقة بين الجماعة وبين الإمام، وصار هواهم في التخفيف ولا وافقوه على فعل السنة، فالذي ينبغي له الحرص على الطمأنينة، ولا يستعجل عجلة تخل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 374 بالطمأنينة، وعلى هذه الحال تقصير القراءة مع الخشوع في الركوع والسجود، أولى من طول القراءة مع العجلة المكروهة. وكذلك صلاة عشر ركعات مع طول القراءة والطمأنينة في الركوع والسجود، أولى من عشرين ركعة مع العجلة المكروهة، لأن لب الصلاة وروحها، هو إقبال القلب على الله فيها، ورب قليل خير من كثير. وأما الاستفتاح، فلا بأس بتركه إذا استفتح في أول الصلاة، ثم بعد ذلك يقتصر على التعوذ والبسملة بعد تكبيرة الإحرام، ولا بأس بذلك، لأن الاستفتاح سنة، ولو تركه الإنسان في الفرض صحت صلاته; وأما السرعة في القراءة، فالترتيل أفضل من السرعة، والسرعة المباحة هي التي لا يحصل معها إسقاط شيء من الحروف؛ فإن أسقط بعض الحروف لأجل السرعة، لم يجز ذلك له وينهى عنه. وأما إذا قرأ قراءة بينة ينتفع بها المصلون خلفه، ولا يسقط شيئاً من الحروف، فهذا حسن ولا يضره مع ذلك سرعته في القراءة. وأما القراءة، فاستحب أهل العلم للإمام أن لا ينقص عن قراءة جزء، ليحصل للناس سماع جميع القرآن في التراويح. وأما قدر التسبيح في الركوع والسجود، فأدنى الكمال ثلاث، فإن اقتصر على تسبيحة واحدة أجزأه، وسواء في ذلك الفريضة والنافلة. وأما التشهد، فالذي لا بد منه هو التشهد الأول، ثم يقول: اللهم صل على محمد، فإن اقتصر على ذلك أجزأه، وإن زاد فهو أفضل وأكمل. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 375 سئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن: عن الصلاة بين التراويح، هل هو التعقيب ... إلخ؟ فأجاب: التعقيب صلاته بعد التراويح والوتر جماعة، نص عليه أحمد، وجزم به جمهور الأصحاب؛ قال في المبدع: وظاهره أنه إذا تطوع بعدها وحده لا يكره، وصرح به ابن القيم في البدائع. قال حنبل: كان أبو عبد الله يصلي معنا، فإذا فرغنا من الترويحة جلس وجلسنا، وربما تحدث ويسأل عن الشيء فيجيب، ثم يقوم فيصلي، ثم يدعو بدعوات ثم يوتر ثم ينصرف. انتهى. فقد عرفت أنه لا يسمى تعقيباً، وأن الإمام أحمد كان يفعله فيكون مباحاً. سئل الشيخ أبا بطين: عن الجهر بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد التراويح؟ فأجاب: لم نعلم أن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم مشروعة في تلك الحال حتى يسأل عن الجهر بها، إنما المشروع قول: سبحان الملك القدوس، ثلاثاً. وسئل عن قول الفضيل بن عياض، رحمه الله: العمل لأجل الناس شرك، وترك العمل لأجل الناس رياء، والإخلاص أن يعافيك الله منهما؟ فأجاب: أما قوله، رحمه الله: العمل لأجل الناس شرك، فهذا ظاهر، يدل عليه القرآن والسنة، والإشكال في قوله: وترك الجزء: 4 ¦ الصفحة: 376 العمل لأجل الناس رياء، فيحتمل أن مراده: أن يترك عمل خير لئلا يقال مرائي. وسئل، رحمه الله: عن التكبير عند الرفع من سجود التلاوة والتشهد والتسليم؟ فأجاب: قال ابن القيم في الهدي: ولم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يكبر للرفع من السجود، يعني سجود التلاوة، قال: ولذلك لم يذكره الخرقي ومتقدمو الأصحاب، ولا نقل عنه فيه تشهد ولا سلام البتة. وأنكر أحمد والشافعي السلام فيه; فالمنصوص عن الشافعي: أنه لا تشهد فيه ولا تسليم; وقال أحمد: أما التسليم فلا أدري ما هو، وهذا هو الصواب الذي لا ينبغي غيره. سئل الشيخ حسن بن حسين بن الشيخ محمد، رحمهم الله: عن تقدير وقت النهي بعد طلوع الشمس بالرمح ... إلخ؟ فأجاب: أما تقدير وقت النهي بعد طلوع الشمس بالرمح، ففي حديث عمرو بن عبسة: "ثم اقصر عن الصلاة حتى ترتفع الشمس قيد رمح أو رمحين "، قال في المبدع: والظاهر أنه الرمح المعروف; وقال في المستوعب: لا تحديد; والمراد قدره في رأي العين، وإلا فالمسافة بعيدة جداً، كذا قال بعضهم. وأما الزانة، فهي أقرب شبهاً الجزء: 4 ¦ الصفحة: 377 بالعنَزة، لقول أبي السعادات في النهاية: العنَزة مثل نصف الرمح أو أكبر شيئاً. انتهى 1. سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عن قدر وقت النهي عند قيام الشمس ... إلخ؟ فأجاب: وقت النهي عند قيام الشمس يعرف بتناهي الظل في النقص، فإذا وقف عن النقص قبل أن يأخذ في الزيادة فهذا حين قيامها؛ وهو وقت قصير جداً، وفي كلام بعضهم: أنه ما يمكن فيه قراءة الفاتحة. سئل الشيخ حمد بن ناصر بن معمر، رحمه الله: عن تحية المسجد وقت النهي ... إلخ؟ فأجاب: هذه المسألة فيها خلاف بين العلماء، وفيها عن أحمد روايتان: إحداهما: أنه لا يصلي التحية وقت النهي، وهو المذهب الذي عليه أكثر الأصحاب، وهو قول أصحاب الرأي لعموم النهي. والثانية: يجوز، وهو قول الشافعي، وهو اختيار الشيخ تقي الدين، لأنه قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إذا دخل أحدكم المسجد، فلا يجلس حتى يركع ركعتين " 2، وهو حديث صحيح، وهو يخص أحاديث العموم، وأهل هذا القول حملوا أحاديث النهي على ما لا سبب له.   1 وفي المصباح: "الزانة": شبه مزراق يرمي بها الديلم. 2 البخاري: الجمعة (1167) , ومسلم: صلاة المسافرين وقصرها (714) , والترمذي: الصلاة (316) , والنسائي: المساجد (730) , وأبو داود: الصلاة (467) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1013) , وأحمد (5/295, 5/303, 5/305, 5/311) , والدارمي: الصلاة (1393) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 378 وأما ذوات الأسباب، كركعتي الطواف، وتحية المسجد، وإعادة الصلاة إذا صلاها في رحله، وإعادة صلاة الفجر إذا صلاها في رحله ثم حضر الجماعة وهم يصلون، ونحو ذلك، فهذا يفعل في أوقات النهي، لأدلة دلت على ذلك، وهي تخص عموم النهي. وكما أن الصلاة وقت الخطبة منهي عنها باتفاق العلماء، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر من دخل المسجد والإمام يخطب، أن يصلي ركعتين وليتجوز فيهما، وهذا نظير قوله في حديث أبي قتادة: " إذا دخل أحدكم المسجد، فلا يجلس حتى يركع ركعتين " 1، فقد نهى عن الجلوس قبل الصلاة، وذلك أمر بالصلاة، إذ لم يقل أحد أنه إذا دخل عقيب صلاة العصر، يقوم قائماً إلى غروب الشمس. ومما يبين رجحان هذا القول: أن المانعين من فعل التحية وقت النهي، أجازوا ما هو مثلها؛ فإن مذهب الإمام أحمد، أن ركعتي الطواف تفعل في أوقات النهي، وكذلك المعادة مع إمام الحي، إذا أقيمت وهو في المسجد يصليها معهم وقت النهي، وكذلك قضاء الفوائت تفعل في أوقات النهي، وكذلك صلاة الجنازة تفعل في الوقتين الطويلين من أوقات النهي؛ هذا مذهب أحمد في هذه المسائل، فما كان جوابهم ودليلهم على جوازه، فهو دليل من أجاز تحية المسجد في هذه الأوقات، فإن قوله صلى الله عليه وسلم: " إذا دخل أحدكم المسجد، فلا يجلس حتى يركع ركعتين " 2 أمر عام لجميع الأوقات، فإذا قال   1 البخاري: الجمعة (1167) , ومسلم: صلاة المسافرين وقصرها (714) , والترمذي: الصلاة (316) , والنسائي: المساجد (730) , وأبو داود: الصلاة (467) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1013) , وأحمد (5/295, 5/303, 5/305, 5/311) , والدارمي: الصلاة (1393) . 2 البخاري: الجمعة (1167) , ومسلم: صلاة المسافرين وقصرها (714) , والترمذي: الصلاة (316) , والنسائي: المساجد (730) , وأبو داود: الصلاة (467) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1013) , وأحمد (5/295, 5/303, 5/305, 5/311) , والدارمي: الصلاة (1393) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 379 منازعوهم: أحاديث النهي تخص هذا العموم، قالوا لهم: أنتم جوزتم الصلاة وقت الخطبة، وركعتي الطواف، وإعادة الجماعة، وقضاء الفوائت، وصلاة الجنازة، فلم تعملوا بأحاديث النهي على ظاهرها، بل خالفتم ظاهرها في صور معلومة. وأجاب أيضاً: أما تحية المسجد، وسنة الوضوء، وسنة الطواف، وأشباه ذلك، فهذا مخصوص من النهي، واستدلوا على ذلك بحديث جبير بن مطعم رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يا بني عبد مناف، لا تمنعوا أحداً طاف بهذا البيت وصلى أية ساعة شاء من ليل أو نهار " 1، واستدلوا بدلائل أخر. وسئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عن قضاء الفوائت وقت النهي، وذوات الأسباب؟ فأجاب: أما الفوائت فتقضى في أوقات النهي، وفي فعل ذوات الأسباب خلاف معروف. وأجاب أيضاً: فعل ذوات الأسباب في وقت النهي، الذي يظهر لي أن القول بجوازه أولى. وأجاب أيضاً: الذي يظهر لي أن القول بجوازه أقوى. سئل الشيخ سعيد بن حجي: هل تسقط تحية المسجد بالجلوس؟   1 الترمذي: الحج (868) , والنسائي: مناسك الحج (2924) , وأبو داود: المناسك (1894) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1254) , وأحمد (4/81, 4/83, 4/84) , والدارمي: المناسك (1926) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 380 فأجاب: يسن لمن دخل المسجد أن لا يجلس حتى يركع ركعتين، لقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا دخل أحدكم المسجد، فلا يجلس حتى يصلي ركعتين " 1، فإن جلس قبل الصلاة سن له أن يقوم فيصلي، لما روى جابر رضي الله عنه قال: " جاء سليك الغطفاني، والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب، فجلس، فقال: يا سليك، قم فاركع ركعتين، وتجوز فيهما " 2، رواه مسلم؛ فقد علمت أنها لا تسقط بالجلوس.   1 البخاري: الجمعة (1167) , ومسلم: صلاة المسافرين وقصرها (714) , والترمذي: الصلاة (316) , والنسائي: المساجد (730) , وأبو داود: الصلاة (467) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1013) , وأحمد (5/295, 5/303, 5/305, 5/311) , والدارمي: الصلاة (1393) . 2 مسلم: الجمعة (875) , وأبو داود: الصلاة (1116) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1112, 1114) , وأحمد (3/297) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 381 باب صلاة الجماعة سئل بعضهم: عن وجوبها؟ فأجاب: اختلف العلماء في وجوبها، وهل هي شرط لصحة الصلاة، أو ليست بواجبة، ولا شرط لصحة الصلاة، بل سنة مؤكدة؟ والمشهور عن أحمد وغيره من فقهاء الحديث: أنها واجبة على الرجال المكلفين، حضراً أو سفراً، واستدلوا على ذلك بما ثبت في الصحيحين: أن رجالاً كانوا يتخلفون عن صلاة الجماعة مع النبي صلى الله عليه وسلم، فَهَمَّ صلى الله عليه وسلم بتحريق بيوتهم بالنار، وإنما منعه من ذلك ما فيها من النساء والذرية، حتى قال: "ولقد هممت أن آمر رجلاً يؤم الناس، ثم أخالف إلى قوم لا يشهدون الصلاة، فأحرق عليهم بيوتهم بالنار " 1.   1 البخاري: الخصومات (2420) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (651) , والنسائي: الإمامة (848) , وأبو داود: الصلاة (548) , وابن ماجة: المساجد والجماعات (791) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 381 وقال ابن مسعود رضي الله عنه: "لقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق "، ولدلائل أخر. انتهى. قال الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد، لما ذكر ولاية المسلمين لمكة: ونودي بالمواظبة على الصلوات في الجماعات، وعدم التفرق في ذلك، بأن يجتمعوا في كل صلاة على إمام واحد، يكون ذلك الإمام من أحد المقلدين للأئمة الأربعة، رضوان الله عليهم. وعن القراءة خلف الإمام في الجهرية قال بعضهم: بسم الله الرحمن الرحيم، وبه نستعين. الحمد لله وحده، وصلى الله وسلم على من لا نبي بعده. أما بعد: فقول القائل: إن الكلام الذي نقله شيخ الإسلام، محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله، في مختصره، عن الإمام أحمد، رحمه الله، حيث يقول: قال أحمد: ما سمعت أن أحداً من أهل الإسلام، يقول إن الإمام إذا جهر بالقراءة، لا تجزي من خلفه إذا لم يقرأ، قال: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، والتابعون، وهذا مالك في أهل الحجاز، وهذا الثوري في أهل العراق، وهذا الأوزاعي في أهل الشام، وهذا الليث في أهل مصر، ما قالوا لرجل صلى خلف الإمام، قرأ إمامه ولم يقرأ: صلاته باطلة. انتهى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 382 فقال: إن هذا لا يشبه كلام العلماء، والإمام أحمد يتحاشى منه ... إلخ. فنقول: هذا من باب سوء الظن بأهل العلم، وفي الحديث: أكبر الكبائر سوء الظن بالمسلمين، أتراهم يروون هذا عن أحمد، وهو مما يتحاشى منه، أو أن الشيخ، رحمه الله، ينقل هذا في مختصره، وهو لا يشبه كلام العلماء، هذا مما تنكره عقول أهل الإسلام؛ لكن صاحب هذا القول لا يظن به إساءة الظن بأهل العلم، فلعل هذا القول صدر عن غفلة منه، والله أعلم. وأيضاً، فلو سلم لهذا القائل قوله، لتعذر النقل من كتب العلماء، فصارت هذه الكتب التي ألفوها في قديم الزمان وحديثه، في فقه وغيره، وتداولوها جيلاً بعد جيل، وقرناً بعد قرن، لا فائدة فيها، ومعلوم: أن هذا باطل قطعاً، فإن هذه الأقوال المنسوبة إلى قائلها من العلماء، لا تعرف إلا من كتب أهل العلم؛ لكن يقال: ما وجد في بعضها من خطإ فمردود على قائله، مع إحسان الظن به، والله أعلم. فأما قوله: إن هذا القول مخالف لقوله صلى الله عليه وسلم: " لا تفعلوا إلا بأم القرآن، فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها " 1، فيقال: بل هذا القول موافق لقوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ   1 البخاري: الأذان (756) , ومسلم: الصلاة (394) , والترمذي: الصلاة (311) , والنسائي: الافتتاح (910, 911, 920) , وأبو داود: الصلاة (822, 823, 824) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (837) , وأحمد (5/313, 5/314, 5/316, 5/321, 5/322) , والدارمي: الصلاة (1242) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 383 الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ} [سورة الأعراف آية: 204] ؛ قال أحمد: أجمع الناس أن هذه الآية في الصلاة، وقوله صلى الله عليه وسلم: "وإذا قرأ " يعني: الإمام، "فأنصتوا "، ولقوله صلى الله عليه وسلم: " كل صلاة لا يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج، إلا وراء الإمام " 1، ولقوله: " من كان له إمام، فقراءة الإمام له قراءة " 2، وموافق أيضاً للآثار المروية عن الصحابة والتابعين، التي ذكرها الإمام صديق، رحمه الله، في شرح البلوغ، فمعناها يوافق ما تقدم؛ وإن كان في بعض أسانيد هذه الأحاديث والآثار مقال، فبعضها يقوى بعضاً، والله أعلم. ويوافق هذا القول أيضاً: تقريره صلى الله عليه وسلم أبا بكرة، حيث لم يأمره بإعادة تلك الركعة التي لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب، مع أن في بعض روايات الحديث: " خشيت أن تفوتني ركعة معك ... " الحديث. ومعلوم: أنه صلى الله عليه وسلم لا يقر على باطل قطعاً، وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز شرعاً، فلو كانت ركعته غير صحيحة، لأمره بإعادتها، كما أمر الأعرابي الذي لم يطمئن في صلاته بإعادتها، ولم يعذره بجهله، لتمكنه من العلم بمعرفة صلاته، وكذلك الذي رآه يصلي خلف الصف منفرداً، أمره أن يعيد صلاته، اللهم إلا أن يكون قد ثبت بنقل صحيح، أن أبا بكرة أمر بإعادة صلاته، فالرجوع إلى الحق أولى من التمادي في الباطل.   1 مسلم: الصلاة (395) , والترمذي: تفسير القرآن (2953) , والنسائي: الافتتاح (909) , وأبو داود: الصلاة (821) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (838) , وأحمد (2/290) , ومالك: النداء للصلاة (189) . 2 ابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (850) , وأحمد (3/339) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 384 ويوافق هذا القول أيضاً عمل أئمة المسلمين، كما حكى ذلك عنهم شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله، في بعض كتبه بالاتفاق; ويوافق هذا القول أيضاً عمومات أحاديث قد احتج بها الفقهاء، وفهموا منها صحة ركعة المأموم، إذا ركع مع إمامه قبل أن يرفع صلبه، كحديث أبي هريرة المرفوع، الذي صححه الأئمة، وفيه: " ومن أدرك ركعة مع الإمام، فقد أدرك الصلاة "; وفي الحديث الآخر: " من أدرك ركعة فقد أدرك الصلاة ". فإذا علمت: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعين، ومن بعدهم من أئمة المسلمين، قد رأوا من لم يدرك مع الإمام إلا الركوع فسكتوا عنه، فلم يأمروه بإعادة ركعته، مع أن هذه المسألة من أشهر مسائل الدين، ووقوعها يتكرر بين أظهر المسلمين، فكيف لا يسع هذا القائل ما وسع من قبله؟! سبحان الله ما أعظم شأنه! وأما قوله: " لا تفعلوا إلا بأم القرآن، فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها " 1، فالمراد بذلك الإمام، والمنفرد، والمأموم أيضاً إذا أمكنه؛ هذا هو الراجح من قولي العلماء، لأن في هذا القول جمعاً بين الأخبار؛ والجمع مطلوب إذا أمكن عند العلماء، كما نبه على ذلك المجد، رحمه الله، في المنتقى. فيقال: حديث عبادة، وما كان في معناه، مع وجود التمكن من قراءة الفاتحة، وحديث أبي بكرة، وما كان في   1 البخاري: الأذان (756) , ومسلم: الصلاة (394) , والترمذي: الصلاة (311) , والنسائي: الافتتاح (910, 911, 920) , وأبو داود: الصلاة (822, 823, 824) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (837) , وأحمد (5/313, 5/314, 5/316, 5/321, 5/322) , والدارمي: الصلاة (1242) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 385 معناه، مع عدمه; وهذا أحوط، لئلا يترك العمل بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بغير سبب يوجب ترك العمل به، إما نسخاً أو غيره من الأسباب، والله أعلم. وأما قوله: إن أبا هريرة وأبا سعيد من أهل الإسلام، وأحمد، رحمه الله، يقول: ما سمعت أحداً من أهل الإسلام يقول ... إلخ؟ فلعله لم يبلغه قول أبي هريرة وأبي سعيد، وهو، رحمه الله: إنما يحكي عن نفسه، لقوله: ما سمعت ... إلخ، فلا محذور في ذلك، ولا اعتراض بحمد الله. وأما قوله: إن حديث أبي بكرة محتمل، وإذا وجد الاحتمال سقط الاستدلال، فيقال: ليس حديث أبي بكرة بمحتمل، ولكنه أيضاً صريح في المسألة، مقيد لما أطلق من أدلة وجوب قراءة الفاتحة في الصلاة. وأيضاً، فلو قدرنا فيه احتمالاً، فقد رفعته تلك الأحاديث، والآثار التي تقدمت الإشارة إليها، مع عمل أئمة المسلمين بذلك; فبطل الاحتمال، وبقي الاستدلال، والحمد لله ذي الجلال. وأيضاً: فلو سلطت الاحتمالات والتأويلات على نصوص الكتاب والسنة، بطل الاحتجاج بها؛ والتأويل لا يقبل إلا بشرطين، أحدهما: أن يكون ذلك اللفظ محتملاً له. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 386 والثاني: أن يوجد دليل آخر من أدلة الشرع يصححه؛ فافهم هذين الشرطين، تسلم بها من شبهات كثيرة في هذا الباب وغيره، والله أعلم. وأما قوله: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكرة: " زادك الله حرصاً ولا تعد " 1، فهو حديث فيه احتمال ونهي، وحديث عبادة وأبي هريرة منطوق، والمنطوق مقدم على المفهوم. فنقول: أما الاحتمال فقد تقدم الجواب عنه، فصار في حكم المنطوق المقيد للعموم، وأما النهي: فليس عائداً إلى الدخول مع الإمام في الركوع، فإن هذه المسألة تحتاج إلى دليل آخر، وإنما هو عائد إلى الإسراع في المجيء إلى الصلاة، كما هو المشهور عند شراح الحديث، لأن فيه مخالفة لأمره صلى الله عليه وسلم حيث قال: " ائتوها وعليكم السكينة " 2 الحديث. ولهذا ورد في بعض الروايات: أن أبا بكرة ركع دون الصف ثم مشى إليه، وفي بعضها أنه صلى الله عليه وسلم سمع صوت نَفَسِه، فلذلك نهاه صلى الله عليه وسلم عن هذا الإسراع الذي يذهب الخشوع؛ وهذا كله مما يقوي الاحتجاج بالحديث على هذه المسألة، فإن أبا بكرة وغيره من الصحابة، لو لم يكن متقرراً عندهم أن مدرك الركوع مع الإمام، مدرك للركعة، لم يوجد هذا الإسراع منهم، إذ لو قد علموا أن الركعة قد فاتتهم، بفوات قراءة الفاتحة، لم يسرعوا هذا الإسرا، الذي نهاهم صلى الله عليه وسلم عنه؛ وهذا أمر معلوم بالحس.   1 البخاري: الأذان (783) , والنسائي: الإمامة (871) , وأبو داود: الصلاة (683, 684) , وأحمد (5/39, 5/42, 5/45, 5/50) . 2 البخاري: الأذان (636) والجمعة (908) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (602) , والترمذي: الصلاة (327) , والنسائي: الإمامة (861) , وأبو داود: الصلاة (572, 573) , وابن ماجة: المساجد والجماعات (775) , وأحمد (2/237, 2/238, 2/239, 2/270, 2/282, 2/318, 2/382, 2/386, 2/387, 2/427, 2/452, 2/460, 2/472, 2/489, 2/529, 2/532, 3/243) , ومالك: النداء للصلاة (152) , والدارمي: الصلاة (1282) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 387 وأما قول البخاري، رحمه الله: فلا يجوز لأحد أن يعود إلى ما نهى عنه صلى الله عليه وسلم. فنقول: الأمر كذلك، والنهي باق على حاله؛ فلا يجوز لأحد أن يأتي إلى الصلاة على هذه العجلة التي نهى عنها صلى الله عليه وسلم. وأما حكم الركعة، فقد تقدم بيانه، والله أعلم. وأما قوله: دع عنك التقليد واتباع آراء الرجال. فنقول: جزاك الله خيراً، لكن يا أخي فرق بين التقليد المذموم، الذي ذمه الله ورسوله، وبين الاقتداء الذي لا يعرف الحق إلا به؛ فالأول: داخل في معنى قوله تعالى: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [سورة الزخرف آية: 23] ، والثاني: داخل في معنى قوله تعالى إخباراً عن عباده الصالحين: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} [سورة الفرقان آية: 74] ، أئمة نقتدي بمن قبلنا، ويقتدي بنا من بعدنا؛ وذلك أن الله سبحانه قد جعل العلماء واسطة بين الرسل وأممهم في تبليغ العلم، كما جعل الرسل واسطة بينه وبين عباده، في بيان ما أحل لهم وحرم عليهم، فالرسل بلغت ذلك إلى أممهم، والعلماء بلغت ذلك إلى من بعدهم. فهل كان لنا معرفة بالأحاديث والآثار إلا من جهتهم، وهل كان لنا معرفة بمعاني كلام الله وكلام رسوله عليه السلام إلا من جهة العلماء؛ فالحمد لله الذي جعل العلماء في هذه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 388 الأمة كأنبياء بني إسرائيل، كلما هلك نبي خَلَفَه نبي، كذلك كلما هلك عالم خلفه عالم؛ ولهذا جعل النبي صلى الله عليه وسلم العلماء ورثة الأنبياء، والمراد بذلك العلماء العاملين بعلمهم، جعلنا الله وإياكم منهم، إنه على كل شيء قدير. إذا فهمت ذلك، فاعلم أن التقليد المذموم هو أن يقلد رجل شخصاً بعينه، في تحريم أو تحليل أو تأويل، بلا دليل، أو تقلد لأية نكتة نفسه لإحسان ظن بتفهم. وأما إن كان الرجل مقتدياً بمن يحتج لقوله بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وبأقوال العلماء الربانيين، فليس بمقلد، بل هو متبع لتلك الأدلة الشرعية، مجتهد فيما اختاره، فلا ينسب إلى التقليد المذموم؛ وعليه يحمل قوله تعالى {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [سورة النحل آية: 43] ، وهم العالمون بالكتاب والسنة. ولما اختار الإمام الشوكاني، رحمه الله، في نيل الأوطار: أن من لم يدرك الفاتحة مع الإمام لا تصح ركعته، لم ينسب من خالفه في هذه المسألة إلى التقليد واتباع الهوى، لعلمه أن المخالف له، قد تمسك بأدلة شرعية، وتبعه صديق، رحمه الله، في شرح البلوغ على ذلك؛ وهذا شأن العارفين. وبعض إخواننا في هذا الزمان، إذا خالفه بعض إخوانه في مسألة يسوغ فيها الاجتهاد، نسبه إلى التقليد، أو ذكر له الجزء: 4 ¦ الصفحة: 389 كلام بعض الفقهاء، تغير وجهه وقال: هؤلاء المقلدة، وأهل الرأي المتمذهبة. والفقهاء، رحمة الله عليهم، أهل شرح لأحاديث الأحكام، كغيرهم من شراح الحديث، والخطأ الذي يوجد في كلام بعضهم أيسر وأهون من الخطإ الذي يوجد في كلام غيرهم؛ فإن خطأ هؤلاء في المسائل الفرعية الاجتهادية، وأولئك خطؤهم في المسائل الأصولية واليقينية، وهم مع ذلك لا يوجبون تقليد أنفسهم، ولا تقليد إمامهم الذي ينتحلون مذهبه، بل ولا يسوغونه إذا قام الدليل؛ وإنما يسوغون الأخذ بقول ذلك الإمام مع عدمه، وقد يرجحون قوله على قول غيره من العلماء، لكونه أعلم وأتقى، ودليله أصح وأقوى، كما يترجح عند الرجل أحد القولين من أقوال العلماء، ولا يوجبون إلا ما أوجبه الله في كتابه، أو ثبت عن نبيه صلى الله عليه وسلم. قال في المنتهى لموسى بن أحمد الحجاوي، وشرحه لمنصور بن يونس، رحمه الله: ولا يجوز أن يقلد القضاء رجل على أن يحكم بمذهب بعينه، لقوله تعالى: {فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} [سورة ص آية: 26] ، والحق لا يتعين في مذهب إمام بعينه، فقد يظهر له الحق في غير هذا المذهب. قال الشيخ تقي الدين: ومن أوجب تقليد إمام بعينه، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 390 يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، وإن قال: ينبغي، كان جاهلاً ضالاً. قال: ومن كان متبعاً لإمام، فخالفه في بعض المسائل لقوة الدليل، أو لكون أحدهما أعلم وأتقى، فقد أحسن، ولم يقدح في عدالته بلا نزاع. وقال أيضاً، في غير هذا الموضع: ولا يجوز التقليد في معرفة الله والتوحيد والرسالة، لأن الله سبحانه أمر بالتدبر والتفكر والنظر، وذم التقليد في ذلك، لقوله تعالى: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [سورة الزخرف آية: 23] ، وقال أيضاً في غير هذا الموضع: ومن شروط القاضي أن يكون مجتهداً، ذكره ابن حزم إجماعاً، لقوله تعالى: {لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} [سورة النساء آية: 105] ، ولو كان اجتهاده في مذهب إمامه للضروة، بأن لا يوجد مجتهد مطلق، وهو من يعرف الحق بدليله. ثم قال: والمجتهد من يعرف من الكتاب والسنة الحقيقة، أي: اللفظ المستعمل في وضع أول، والمجاز: أي اللفظ المستعمل في غير وضع أول، لعلاقة، والمحكم، وهو: المتضح في المعنى، والمتشابه مقابله، إما لاشتراك، أو ظهور تشبيه، والعام، وهو: ما اشتمل على مسميات، باعتبار أمور اشتركت فيه مطلقاً، والخاص مقابله، والمطلق: ما دل على شائع في جنسه، والمقيد ما دل على معين، والناسخ والمنسوخ، وسقيم السنة من صحيحها، ومتواترها، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 391 وهو: ما نقله جمع لا يتصور تواطؤهم على الكذب عن مثلهم، وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلى غير ذلك من شروط الاجتهاد، التي ذكرت في هذا الكتاب وشرحه. وإنما ذكرت بعض كلامهما في هذا الموضع، ليعلم أن الفقهاء المنتسبين إلى هذه المذاهب الأربعة في الفروع، لم يختاروا هذه المذاهب وغيرها من أقوال العلماء عند عدم الدليل، إلا عن اجتهاد، لا مجرد رأي وتقليد، كما ظنه من لم يحقق النظر في مصنفاتهم، ومع ذلك فليسوا بمعصومين من الخطإ؛ بل يجوز عليهم الخطأ، كما يجوز عليهم الصواب، وأحكام البشرية لا بد من جريانها على ابن آدم، والمعصوم من عصمه الله. وقد صنف شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله، كتاباً في اختلاف العلماء، سماه: رفع الملام عن الأئمة الأعلام. وبالجملة، فالواجب في هذه المسألة وغيرها من مسائل العلم: الرجوع إلى الأدلة الشرعية التي اشتهر العمل بها بين علماء الأمة الإسلامية، كما ورد في الحديث عن خير البرية صلى الله عليه وسلم كل صباح وعشية: "العلم ثلاثة: آية محكمة، أو سنة قائمة، أو فريضة عادلة؛ وما سوى ذلك فهو فضل "، وقوله: "أو سنة قائمة " أي: اشتهر العمل بها بين علماء الأمة، مأخوذ من قولهم: سوق قائم، إذا كان بيعه وشراؤه ظاهر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 392 وأما تعلق القلب بهذه المسائل الخفية، المخالفة لتلك المسائل الجلية، وطلب المخارج لها بالدلائل المحتملة، والتأويلات المرجوحة، فليس في ذلك إلا تضييع الزمان، وتشتيت الأذهان، والاستشهاد بين الأقران؛ وربما أوجبت العداوة بين الإخوان، ونقل عوام المسلمين من اليقين إلى الحيرة والهيمان. وقد جاءت هذه الشريعة المطهرة، بتحصيل المصالح بحسب الإمكان وتكميلها، ودفع المفاسد بحسب الإمكان وتقليلها. وقد فتح لك الباب، إن كنت من ذوي الألباب، وإلا فسل التوفيق من الملك الوهاب. ومن وقف على هذا الكلام، في هذا المقام، عرف المقصود منه، إن كان من ذوي الأفهام، وإلا فليقل خيراً، أو ليرجع بسلام. وهذا آخر الجواب، والله الموفق للصواب. واعلم: أني لم أتعرض لهذا الجواب، حتى سألني ذلك بعض الإخوان، لعلمي أني لست من أهل هذا الشأن، ولا ممن يصلح للسباق في ذلك الميدان، فأجبته بحسب الطاقة والإمكان، وهذا غاية اجتهادي، وعلى الله اعتمادي، وهو أعلم بمرادي، والحمد لله أولاً وآخراً، باطناً وظاهراً، وصلى الله على محمد، وآله وصحبه وسلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 393 وسئل بعضهم: هل يجب أن يقرأ المأموم لنفسه؟ فأجاب: هذه المسألة اختلف العلماء فيها: فأوجب طائفة من العلماء قراءة الفاتحة على الإمام والمأموم والمنفرد، واستدلوا بالحديث. وكرهها آخرون للمأموم في السر والجهر. وتوسط آخرون فأوجبوها على الإمام والمنفرد في كل ركعة، واستحبوها للمأموم في صلاة السرية، وكرهوها للمأموم في الجهرية إذا سمع الإمام; واستدلوا لذلك بقوله عز وجل: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [سورة الأعراف آية: 204] ، قال أحمد: هذه الآية في الصلاة، وبما روي في الحديث: "من كان له إمام، فقراءة الإمام له قراءة " 1؛ وهذا الذي عليه العمل عندنا ونختاره. وإذا قرأ المأموم مع الإمام فإن صلاته لا تفسد، ولا أعلم أحداً قال بفسادها بذلك؛ بل كرهها من كرهها من العلماء للأدلة المتقدمة، ولدلائل آخر ليس هذا موضع بسطها، ولم يبطل الصلاة بذلك أحد. وسئل بعضهم: ما قولكم بقراءة أواخر السور في صلاة الفريضة، تجوز أم لا؟ فأجاب: الحمد لله ذي الجود والكرم، علم الإنسان ما لم يعلم؛ فنقول: أما القراءة في الصلاة، فرضاً كانت أو نفلاً، ببعض السور وأواخرها، جائز؛ والصلاة صحيحة بالنص والإجماع:   1 ابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (850) , وأحمد (3/339) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 394 أما نص الكتاب: قال تعالى: {فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [سورة المزمل آية: 20] ، وأما نص السنة: قوله صلى الله عليه وسلم للمسيء: "إن كان معك قرآن فاقرأ، وإلا فاحمد الله وهلله وكبره " 1، رواه أبو داود ولم يعين له صلى الله عليه وسلم سورة كاملة. وأما قراءة السورة كاملة، فأفضل من بعض السورة، ولم يكن من هديه الراتب صلى الله عليه وسلم القراءة ببعض السورة. وأما إذا كان لحادث أو عارض، فيجوز إجماعاً، وقد فعله صلى الله عليه وسلم لما روى ابن عباس: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في ركعتي الفجر في الأولى منهما: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا} [سورة البقرة آية: 136] ، وفي الآخرة: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} الآية [سورةآل عمران آية: 64] "، رواه أحمد، ومسلم. وعن رجل من جهينة، أنه " سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في الصبح: {إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا} في الركعتين كلتيهما "; وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه " قرأ سورة المؤمنين، حتى بلغ ذكر موسى وهارون فأخذته سعلة، فركع " 2، فاستدل بهذا أهل العلم، على أن القراءة ببعض السورة، أولها، وأوسطها، وآخرها جائز إجماعاً، والقراءة بسورة كاملة أفضل؛ فإذا فهم المسترشد الجائز، دل الناس على الأفضل بطريق التعلم والرفق، لا بطريق العنف والتشيين، والله أعلم.   1 الترمذي: الصلاة (302) , والنسائي: التطبيق (1053, 1136) والسهو (1313, 1314) , وأبو داود: الصلاة (856) , وأحمد (4/340) , والدارمي: الصلاة (1329) . 2 مسلم: الصلاة (455) , والنسائي: الافتتاح (1007) , وأبو داود: الصلاة (649) , وأحمد (3/411) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 395 سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ عبد اللطيف، رحمهما الله: هل تدرك الركعة بإدراك الركوع ... إلخ؟ فأجاب: لا يقع إشكال لديكم في صحة صلاة من أدرك الركوع مع الإمام، وفاتته القراءة، أنه مدرك تلك الركعة؛ وهو الذي عليه العمل عندنا، وعليه الفتوى. وأجاب الشيخ إبراهيم بن الشيخ عبد اللطيف: المسألة قد كفانا شأنها من سلف من أهل العلم والدين، وحسبنا السير على منهاجهم واقتفاء آثارهم، وترك ما يوجب التفرق والاختلاف؛ ومن تتبع مسائل الخلاف، فإن هذا مذموم في الدين على لسان سيد المرسلين. والذي سلك شيخنا حمد 1 من القول بإدراك الركعة بإدراك الركوع، هو المذهب الراجح، والمسلك الواضح، كما هو معلوم عند أهل الخبرة بالدليل، ومن هو من أهل الترجيح والتعليل، ولا يروج مثل هذا الخلاف الشاذ إلا على من لا علم لديه، ولا أصل يرجع إليه عند الاختلاف. والقول بخلاف ما ذكرنا، وإليه أشرنا، وإن كان قد قال به قائل، فالقائل به لم يسلك مسلك الإلزام، كما فعله هذا الجاهل من إلزام العوام، وإنما أداه إلى القول به اجتهاده بحسب ما يفهمه من الأدلة السمعية، وهم في ذلك   1 يشير إلى الفتوى التي بعد هذه, للشيخ حمد بن عبد العزيز. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 396 مجتهدون، وعلى اجتهادهم مأجورون، واختيار بعض المتأخرين له، لا يقتضي أولويته ولا رجحانه؛ ولو ذهب هذا المخالف إلى الأخذ بكل ما صححوه، وإلزام الناس بجميع ما رجحوه لأوقعهم في شباك، وأفضى بهم إلى مفاوز الهلاك؛ وهذا على سبيل التنبيه، والإشارة تكفي اللبيب. وأجاب الشيخ حمد بن عبد العزيز، رحمه الله: إذا أدرك المأموم الإمام راكعاً، فدخل معه واطمأن في الركوع قبل أن يرفع، فهو مدرك للركعة؛ وهذا هو المروي عن السلف الصالح، وعليه عمل الأمة من الصحابة والتابعين، والأئمة الأربعة وأتباعهم؛ فلا يعرف عن السلف خلاف في ذلك. وقد حكى الإجماع على ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله تعالى، فقال: والمسبوق إذا لم يتسع قيامه لقراءة الفاتحة، فإنه يركع مع إمامه ولا يتم الفاتحة باتفاق الأئمة، وأما إذا كان متسعاً ولم يقرأها، فهذا تجوز صلاته عند الجماهير. وعند الشافعي عليه أن يقرأها، وإنما تسقط قراءتها عنده عن المسبوق خاصة. انتهى. فتبين: أن سقوط قراءة الفاتحة عن المسبوق، مسألة اتفاق كما قدمناه؛ والحجة في ذلك ما رواه البخاري عن أبي بكرة فذكره، وذكر حديث أبي هريرة رضي الله عنه: " ومن أدرك الركعة فقد أدرك الصلاة " 1، وترجم عليه ابن خزيمة، وهكذا ترجم مجد الدين في المنتقى، فقال: باب المسبوق يدخل مع الإمام، ولا يعتد بركعة لم يدرك ركوعها. انتهى.   1 البخاري: مواقيت الصلاة (580) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (607) , والنسائي: المواقيت (553, 554, 555, 556) , وأبو داود: الصلاة (893) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1122) , وأحمد (2/241, 2/265, 2/280) , ومالك: وقوت الصلاة (15) , والدارمي: الصلاة (1220) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 397 وذكر الآثار - إلى أن قال - وقد نص شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله، قال: ومن أدرك ركعة مع الإمام فقد أدرك الصلاة؛ وتدرك بإدراك الركوع مع الإمام، وتجزي تكبيرة الإحرام عن تكبيرة الركوع، لفعل زيد بن ثابت وابن عمر، ولا يعرف لهما مخالف من الصحابة، وإتيانه بها أفضل، خروجاً من خلاف من أوجبه. سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عن مسبوق دخل مع الإمام بعد رفعه من الركوع ولم يتابعه، في السجود ... إلخ؟ فأجاب: الذي يدخل مع الإمام بعد رفع من الركوع، فإنه يجب عليه متابعته؛ لكن أرجو أن ذلك يغتفر في حق الجاهل. انتهى. قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى: الذي رفع قبل إمامه، فإن كان لم يرجع ليتابع إمامه، أعاد الصلاة. سئل ابنه: الشيخ عبد الله، رحمهما الله تعالى: عن محل التشهد الأول في حق من أدرك ركعة من المغرب مع الإمام؟ فأجاب: هذا فيه اختلاف بين العلماء، والمشهور أنه يتشهد عقيب الركعة الأولى من القضاء، ولا يسردهما؛ فلو سردهما إنسان لم يضيق عليه، لأجل اختلاف العلماء، وليس الجزء: 4 ¦ الصفحة: 398 مع المخالف دليل واضح على المنع فيما يظهر لي. وأجاب الشيخ حمد بن ناصر: الذي يفوته ركعتان من المغرب، فهو إذا قام يقضي صلى ركعة وجلس وتشهد، ثم قام وصلى الركعة الثالثة؛ هذا الذي عليه العمل. وسئل بعضهم: عن مسبوق دخل مع الإمام، ولم يعلم هل هو في أول الصلاة فيستفتح ويقرأ بسورة، أم في آخرها فيسكت؟ فأجاب: أهل العلم اختلفوا في ذلك على قولين، هما روايتان عن أحمد: أحدهما: أن ما يدركه مع الإمام آخر صلاته، وما يقضيه أولها; قال في الشرح الكبير: هذا هو المشهور في المذهب، يروى ذلك عن ابن عمر، ومجاهد، وابن سيرين، ومالك، والثوري، وحكي عن الشافعي، وأبي حنيفة، وأبي يوسف، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: " وما فاتكم فاقضوا " 1، متفق عليه؛ فالمقضي هو الفائت؛ فعلى هذا ينبغي أن يستفتح ويستعيذ، ويقرأ السورة. القول الثاني: أن ما يدركه مع الإمام أول صلاته، والمقضي آخرها، وهو الرواية الثانية عن أحمد؛ قال في الشرح: وبه قال سعيد بن المسيب، والحسن، وعمر بن عبد العزيز، وإسحاق، وهو قول الشافعي، ورواية عن مالك، واختاره ابن المنذر، لقوله عليه السلام: "وما فاتكم   1 البخاري: الأذان (635) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (603) , وأحمد (5/306) , والدارمي: الصلاة (1283) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 399 فأتموا " 1. فعلى هذه الرواية: لا يستفتح. فأما الاستعاذة، فإن قلنا: تسن في كل ركعة، استعاذ، وإلا فلا. وأما السورة بعد الفاتحة، فيقرؤها على كل حال؛ قال شيخنا: لا أعلم خلافاً بين الأئمة الأربعة في قراءة الفاتحة وسورة، وهذا مما يقوي الراوية الأولى. انتهى. وقال في الفروع: وقيل: يقرأ السورة مطلقاً، ذكر الشيخ أنه لا يعلم فيه خلافاً بين الأئمة الأربعة، وذكره ابن أبي موسى المنصوص عليه، ذكره الآجري عن أحمد، وبنى قراءتها على الخلاف، وذكره ابن هبيرة وفاقاً، وجزم به جماعة، واختاره صاحب المحرر، وذكر أن أصول الأئمة تقتضي ذلك، وصرح به منهم جماعة وأنه ظاهر رواية الأثرم، ويخرج على الروايتين: الجهر، والقنوت، وتكبير العيد، وصلاة الجنازة; وعلى الأولى - يعني الرواية الأولى المشهورة - أن ما يدركه المسبوق مع الإمام آخر صلاته، إن أدرك من رباعية أو مغرب ركعة، تشهد عقب قضاء أخرى، وفاقاً لأبي حنيفة، ومالك في إحدى الروايتين له، كالرواية الثانية. انتهى. وفي القواعد الفقهية، لما ذكر ما ينبني على الروايتين من الفوائد: الفائدة الرابعة: مقدار القراءة، وللأصحاب في ذلك طريقان: أحدهما: أنه إذا أدرك ركعتين من الرباعية، فإنه يقرأ في المقضيتين بالحمد وسورة معها على كلا الروايتين؛ قال ابن أبي موسى: لا يختلف قوله في ذلك. والطريق الثاني:   1 البخاري: الأذان (635) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (603) , وأحمد (5/306) , والدارمي: الصلاة (1283) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 400 بناؤه على الروايتين؛ فإن قلنا ما يقضيه أول صلاته فكذلك، وإلا اقتصر فيه على الفاتحة، وهي طريقة القاضي ومن بعده، ذكره ابن أبي موسى تخريجاً، ونص عليه الإمام أحمد في رواية الأثرم، وأومى إليه في رواية حرب، وأنكر صاحب المحرر الرواية الأولى، وقال: لا يتوجه إلا على رأي من يرى قراءة السورة في كل ركعة، أو على رأي مَن يرى قراءة السورة في الأخريين إذا نسيها في الأوليين. انتهى ملخصاً، والله أعلم. والذي يترجح عندنا: أن ما أدركه المسبوق أول صلاته، لأن رواية من روى: "فأتموا " أكثر وأصح عند كثير من أهل الحديث، مع أن رواية: "فاقضوا " لا تخالف رواية: "فأتموا "، لأن القضاء يرد في اللغة بمعنى التمام، كما قال تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ} [سورة الجمعة آية: 10] ، وقال تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ} [سورة البقرة آية: 200] ، قال في الفتح، في قوله صلى الله عليه وسلم: " وما فاتكم فأتموا " 1 أي: أكملوا؛ هذا هو الصحيح في رواية الزهري، ورواه ابن عيينة بلفظ: "فاقضوا "، وحكم عليه مسلم بالوهم في هذه اللفظة، مع أنه أخرج إسناده في صحيحه لكنه لم يسق لفظه. قال: والحاصل: أن أكثر الروايات ورد بلفظ: "فأتموا "، وأقلها بلفظ: "فاقضوا "، وإنما تظهر فائدة ذلك إن جعلنا بين القضاء والإتمام مغايرة، لكن إذا كان مخرج الحديث واحداً   1 البخاري: الأذان (635) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (603) , وأحمد (5/306) , والدارمي: الصلاة (1283) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 401 واختلفوا في لفظة منه، وأمكن رد الاختلاف إلى معنى واحد كان أولى، وهنا كذلك، لأن القضاء وإن كان يطلق على الفائت غالباً، لكن يطلق على الأداء أيضاً، ويرد بمعنى الفراغ، كقوله تعالى:: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ} الآية [سورة الجمعة آية: 10] ، ويرد لمعان آخر، فيحمل قوله هنا: "فاقضوا " على معنى الأداء، والفراغ، فلا يغاير قوله: "فأتموا "، فلا حجة فيه لمن تمسك برواية: "فاقضوا " على أن ما أدركه المأموم مع الإمام هو آخر صلاته، حتى استحب الجهر في الركعتين الأخيرتين، وقراءة السورة، وترك القنوت، بل هو أولها، وإن كان آخر صلاة إمامه، لأن الآخر لا يكون إلا عن شيء تقدم، وأوضح دليل على ذلك أنه يجب عليه أن يتشهد في آخر صلاته على كل حال، فلو كان ما يدركه مع الإمام آخراً له، لما احتاج إلى إعادة التشهد. انتهى ملخصاً; فظهر لك: أن هذا القول هو الراجح، والله أعلم. سئل الشيخ حمد بن ناصر بن معمر: عن المسبوق إذا كان في التشهد الأخير مع الإمام، هل يقتصر على التشهد الأول، أم لا؟ فأجاب: إذا جلس المسبوق في التشهد الأخير، فالمشهور أنه يكرر التشهد الأول، ولا يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم؛ نص عليه أحمد فيمن أدرك مع الإمام ركعة، قال: يكرر التشهد الأول، ولا يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ولا يدعو بشيء مما يدعى به في التشهد الذي يسلم عقبه، وليس هذا كذلك. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 402 وأجاب الشيخ سعد بن حمد بن عتيق: الذى يترجح عندي: متابعة الإمام في التشهد. سئل الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين: عمن يجلس خلف إمامه بقدر الفاتحة؟ فأجاب: من جلس في أول قيام إمامه في الركعة الثانية أو الرابعة إلى قريب فراغ إمامه من الفاتحة ونحوه، فالذي أرى بطلان صلاته، والله أعلم. سئل الشيخ عبد الله بن حمد الحجازي: عن المسبوق إذا قام قبل فراغ إمامه من السلام، هل تصح صلاته؟ فأجاب: إن كان قبل الفراغ من التسليمة الأولى فهي باطلة، وتكون الصلاة نفلاً، وإن كان قبل الفراغ من التسليمة الثانية، فعلى القول بوجوبها تكون نفلاً أيضاً؛ فينبغي للمسبوق ترك القيام قبل التسلمية الثانية، خروجاً من الخلاف. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 403 فصل في الإمامة سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد، رحمهما الله: عن رجلين: أحدهما حفظ القرآن عن ظهر قلب، والآخر لم يحفظ إلا بعضه، أيهما يقدم في الإمامة ... إلخ؟ فأجاب: إن كان الحافظ للقرآن حافظه عن ظهر قلب ورداه 1 بَيِّن، يكره الدين، ويوالي المنافقين موالاة بينة، ويتجاسر على الأمور المحرمة، مثل الزنى، والسرقة، والخيانة، فإن كان هذه صفة حاله، فلا يصلي بالجماعة. فإن كان ما فيه شيء بيِّن، إنما هو تهمة، أو أن غيره خير منه، مثل الجهاد، والمذاكرة، فالذي حافظ القرآن عن ظهر قلب أحق من الذي ما حفظه، ولو كان أكثر منه عملاً، وأحب منه للدين. وأجاب أيضاً: البلاد التي ما فيها من يعرف قراءة الصلاة، يلزم الأمير أن يجعل فيها من يصلي بهم، ويعلمهم ما يلزمهم في الصلاة; وإن كان فقيراً أعطي من الزكاة لأجل فقره، لا لأجل صلاته.   1 أي: فسقه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 404 سئل الشيخ سعد بن حمد بن عتيق: إذا كان رجلان أحدهما أجود من الآخر قراءة، وبأحد أعضاء سجوده عيب، أيهما أولى بالإمامة؟ فأجاب: الأولى: تقديم سالم الأعضاء إذا كان يحسن الفاتحة، لنص الفقهاء على كراهة تقديم من بأحد أعضاء سجوده عيب، يمنع ذلك العضو من مس الأرض؛ وأما إذا لم يحسن السليم الفاتحة، قدم الآخر للضرورة. سئل بعضهم: هل يكون تلقيب العامل بالسنة، والآمر بالمعروف، والناهي عن المنكر، وتعييره مانعاً من جواز الصلاة خلف الملقب؟ فأجاب: إن كان المعير والملقب للعامل بالسنة، والآمر بالمعروف والناهي عن المنكر، عالماً بأنه عامل بسنة صحيحة صريحة، وآمر بمعروف وناه عن منكر، فعيره بذلك، ولقبه من أجل ذلك، وجب عليه أن يتوب من ذلك؛ فإن أبى مع علمه بذلك وإقراره بأنه عير العامل والآمر والناهي، فهذا أقل أحواله أن يحكم عليه بأنه فاسق، وإمامة الفاسق، قال المرداوي في التنقيح والإنصاف: ولا تصح إمامة فاسق مطلقاً، أي: سواء كان فسقه من الاعتقاد، أو الأفعال، أو الأقوال، وسواء كان مشهور الفسق، أم لا، كما نبه عليه في الإنصاف; قال: إلا في صلاة جمعة، إن تعذر فعلها خلف غيره، وكذا صلاة عيد؛ وإن خاف أذى صلى خلفه وأعاد، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 405 وإن صلى خلفه ونوى الانفراد، ووافقه في الأفعال، لم يعد، ولو كانوا جماعة وصلوا خلفه بإمام. انتهى. وقال الشيخ، رحمه الله: إذا كان بينهم معاداة من جنس معاداة أهل الأهواء والمذاهب، لم ينبغ أن يؤمهم، لأن المقصود بالصلاة جماعة إنما يتم بالائتلاف. انتهى. فإن كان الملقب والمعير، بينه وبين المعير والملقب معاداة أو شبهها، فلا يقبل قوله فيه، وغايته أن يكون مكروهاً له ائتمامه به. وأجاب أيضاً بعضهم، رحمه الله تعالى: صلاة الجماعة والأعياد خلف من لا يحكم بردته جائزة، وأنه رأي أهل السنة والجماعة؛ قال شيخ الإسلام: ويرون الجماعة وإقامة الجمعة والأعياد مع الأئمة، أبراراً أو فجاراً; وقال أيضاً: بل الجماعة واجبة على الأعيان في ظاهر مذهب أحمد وغيره من أئمة السنة. انتهى. هذا بخلاف من حكم بردته، فإنه لا يصلى خلفه جمعة ولا جماعة؛ وفيه خلاف ضعيف مردود، ذكره بعضهم. وأجاب الشيخ محمد بن عبد اللطيف: أما الصلاة خلف شارب التتن، فالظاهر عدم الجواز؛ فإذا وجد غيره لم تصح، وإن لم يوجد صحت الصلاة خلفه. وصلاته بمن هو مثله من الفساق عند العدم جائزة؛ قال شيخ الإسلام: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 406 ويصلى خلف الفساق وأهل البدع عند عدم غيرهم، ولا تعاد الصلاة؛ وأما الداعية من أهل البدع، فلا يصلى خلفه. سئل عبد الله بن الشيخ: عن المطوع الرديء؟ فأجاب: والمطوع الرديء الذي ما له دين، إن أسلم الناس أسلم، وإن ارتدوا ارتد، فلا تصح الصلاة وراءه. وسئل الشيخ عبد اللطيف، رحمه الله: عما نسب عن شيخ الإسلام، أنه ذكر: أن الإمام أحمد كان يصلي خلف الجهمية؟ فأجاب: هذا لو سلم، من أوضح الواضحات عند طلبة العلم وأهل الأثر، وذلك أن الإمام أحمد وأمثاله من أهل العلم والحديث لا يختلفون في تكفير الجهمية، وأنهم ضلال زنادقة؛ وقد ذكر من صنف في السنة تكفيرهم عن عامة أهل العلم والأثر، وعد اللالكائي منهم عدداً يتعذر ذكرهم في هذه الرسالة، وكذلك عبد الله بن الإمام أحمد في كتاب السنة، والخلال في كتاب السنة، وابن أبي مليكة في كتاب السنة له; وإمام الأئمة ابن خزيمة قرر كفرهم، ونقله عن أساطين الأئمة. وقد حكى كفرهم شمس الدين ابن القيم في كافيته، عن خمسمائة من أئمة المسلمين وعلمائهم. والصلاة خلفهم لا سيما صلاة الجمعة، لا تنافي القول بتكفيرهم، لكن تجب الإعادة حيث لا تمكن الصلاة خلف الجزء: 4 ¦ الصفحة: 407 غيرهم؛ والرواية المشهورة عن الإمام أحمد، هي المنع من الصلاة خلفهم، وقد يفرق بين من قامت عليه الحجة التي يكفر تاركها، وبين من لا شعور له بذلك؛ وهذا القول يميل إليه شيخ الإسلام، في المسائل التي قد يخفى دليلها على بعض الناس. وعلى هذا القول: فالجهمية في هذه الأزمنة قد بلغتهم الحجة، وظهر الدليل، وعرفوا ما عليه أهل السنة، واشتهرت الأحاديث النبوية وظهرت ظهوراً ليس بعده إلا المكابرة والعناد، وهذا حقيقة الكفر والإلحاد، كيف وقولهم: يقتضي من تعطيل الذات والصفات، والكفر بما اتفقت عليه الرسالة والنبوات، وشهدت به الفطر السليمات، ما لا يبقى معه حقيقة للربوبية والإلهية، ولا وجود للذات المقدسة المتصفة بجميل الصفات. وهم إنما يعبدون عدماً لا حقيقة لوجوده، ويعتمدون من الخيالات والشبه ما يعلم فساده بضرورة العقل وبالضرورة من دين الإسلام عند من عرفه، وعرف ما جاءت به الرسل من الإثبات. ولبشر المريسي وأمثاله من الشبه والكلام في نفي الصفات، ما هو من جنس هذا المذكور عند الجهمية المتأخرين؛ بل كل أمة أخف إلحاداً من بعض هؤلاء الضلال، ومع ذلك فأهل العلم متفقون على تكفيره، وعلى أن الصلاة لا تصح خلف كافر جهمي أو غيره. وقد صرح الإمام أحمد فيما نقل عنه ابنه عبد الله وغيره، أنه كان يعيد صلاة الجمعة وغيرها، وقد يفعله المؤمن مع غيرهم من الجزء: 4 ¦ الصفحة: 408 المرتدين، إذا كانت لهم شوكة ودولة؛ والنصوص في ذلك معروفة مشهورة، نحيل طالب العلم على أماكنها ومظانها. وأجاب الشيخ عبد الله والشيخ إبراهيم: ابنا الشيخ عبد اللطيف، والشيخ سليمان بن سحمان: لا تصح إمامة من لا يكفر الجهمية والقبوريين أو يشك في كفرهم؛ وهذه المسألة من أوضح الواضحات عند طلبة العلم وأهل الأثر، وذكروا نحواً مما تقدم من كلام الشيخ عبد اللطيف، ثم قالوا: وكذلك القبوريون لا يشك في كفرهم من شم رائحة الإيمان؛ وقد ذكر شيخ الإسلام، وتلميذه ابن القيم، رحمهما الله، في غير موضع: أن نفي التكفير بالمكفرات قوليها وفعليها، فيما يخفى دليله ولم تقم الحجة على فاعله، وأن النفي يراد به نفي تكفير الفاعل وعقابه قبل قيام الحجة عليه، وأن نفي التكفير مخصوص بمسائل النّزاع بين الأمة. وأما دعاء الصالحين، والاستغاثة بهم، وقصدهم في الملمات والشدائد، فهذا لا ينازع مسلم في تحريمه، والحكم بأنه من الشرك الأكبر؛ فليس في تكفيرهم، وتكفير الجهمية قولان. وأما الإباضية في هذه الأزمان، فليسوا كفرقة من أسلافهم، والذي بلغنا أنهم على دين عباد القبور، وانتحلوا أموراً كفرية لا يتسع ذكرها هنا، ومن كان بهذه المثابة، فلا شك في كفره؛ فلا يقول بإسلامهم إلا مصاب الجزء: 4 ¦ الصفحة: 409 في عقله ودينه، ولا تصح خلف من لا يرى كفر هؤلاء الملاحدة، أو يشك في كفرهم. سئل الشيخ سعد بن حمد بن عتيق: عن صلاة الأعرابي بالمهاجر؟ فأجاب: يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، إذا لم يكن مانع شرعي عام. سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: عن إمامة الصبي ... إلخ؟ فأجاب: تصح إمامة الصبي، إذا كان أقرأ من الذي وراءه، ولو قبل أن يرشد. وأجاب بعضهم: تصح إمامة من له عشر سنين لمثله، وللبالغين بشرط أن يكون قارئاً للفاتحة، والبالغون لا يحسنون قراءة الفاتحة، لحديث: " يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله " 1. فإن كان في البالغين من يحسنها، فهو أحق بالإمامة من الصبي. سئل الشيخ سعيد بن حجي: عن الإمام إذا صلى محدثاً جاهلاً هو والمأمومون؟ فأجاب: إذا صلى محدثاً جاهلاً هو والمأمومون حتى سلموا، فصلاتهم صحيحة دون الإمام، فإنه يعيد، روي عن عمر، وعثمان وعلي، ومالك والشافعي؛ وإن علم وهو في الصلاة، بطلت وأعادوها.   1 مسلم: المساجد ومواضع الصلاة (673) , والترمذي: الصلاة (235) , والنسائي: الإمامة (780) , وأبو داود: الصلاة (582) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (980) , وأحمد (4/117, 4/121, 5/272) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 410 وسئل بعضهم: إذا صلى الإمام ناسياً حدثه، فذكر وهو في صلاته؟ فأجاب: إذا صلى الإمام محدثاً جاهلاً هو والمأمومون حتى سلم صحت صلاتهم، وعلى الإمام أن يتوضأ ويعيد الصلاة؛ فإن علم الحدث وهو في الصلاة، بطلت صلاتهم واستأنفوها. وسئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عن قوله صلى الله عليه وسلم: "يصلون لكم " ... إلخ؟ فأجاب: قوله صلى الله عليه وسلم: " يصلون لكم، فإن أصابوا فلكم ولهم، وإن أخطؤوا فلكم وعليهم " 1، فهذا يدل على أن الإمام إذا حصل في صلاته نقص، فالإثم عليه دون المأموم، حتى لو صلى الإمام محدثاً جاهلاً أو ناسياً، ولم يعلم المأموم حتى فرغ، فصلاته صحيحة؛ وكذا لو ترك الإمام فرضاً من فرائض الصلاة عمداً، ولم يعلم المأموم به أبداً، فصلاته صحيحة. سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: عن الأمي ... إلخ؟ فأجاب: الأمي: الذي لا يحسن الفاتحة، أو يلحن فيها لحناً يخل بالمعنى، وأما إذا كان يحسن الفاتحة ولا يحيل ألفاظها عن معانيها، فهذا لا يسمى أمياً؛ ولكن أحق الناس بالإمامة أقرؤهم لكتاب الله، فإذا وجد القارئ قدم على   1 البخاري: الأذان (694) , وأحمد (2/355, 2/536) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 411 غيره، وأما إذا أقيمت الصلاة ثم جاء القارئ وهم يصلون، جاز للقارئ أن يصلي معهم، إذا كان الإمام يحسن قراءة الفاتحة ولا يلحن فيها لحناً يحيل المعنى; وأما الذي يلحن فيها لحناً يحيل المعنى، فهذا هو الأمي، لا يجوز أن يصلي إلا بمثله، فلا يؤم أحداً يحسن الفاتحة. وأجاب أيضاً: وأما الإمام الذي لا يحسن الفاتحة، ولا يعربها، فلا يصلى وراءه. سئل الشيخ سعيد بن حجي، رحمه الله: عمن يلحن في الفاتحة ... إلخ؟ فأجاب: يلزم القارئ أن يقرأ الفاتحة مرتبة مشددة، غير ملحون فيها لحناً يحيل المعنى، نحو أن يقول: "أنعمتُ" برفع التاء، فإن فعل لم يعتد بقراءته إلا أن يكون عاجزاً، وهذا مذهب الشافعي؛ فإن كان لحناً لا يحيل المعنى، نحو: أن يكسر نون أولى "نِستعين"، لم تبطل صلاته. سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد، رحمهما الله: هل يصح ائتمام المفترض بالمتنفل، وعكسه ... إلخ؟ فأجاب: الراجح عندنا: صحة ائتمام المفترض بالمتنفل وعكسه، وكذلك من يصلي الظهر بمن يصلي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 412 العصر؛ وأما صلاة الجمعة والفجر خلف من يصلي رباعية، فلا أدري. سئل الشيخ حمد بن عتيق: عمن نسي صلاة أو نام عنها، ثم ذكرها والصلاة الأخرى تقام ... إلخ؟ فأجاب: إن كانت الفائتة رباعية والتي تقام كذلك، فينوي الصلاة التي تقام عن التي نسيها، ثم يأتي بالتي تقام. سئل الشيخ عبد الله أبا بطين، رحمه الله: عمن يصلي راتبة العشاء، خلف من يصلي التراويح؟ فأجاب: أما من يصلي راتبة العشاء خلف من يصلي التراويح، ففي مثل هذه المسألة خلاف مشهور؛ والذي يترجح عندي الجواز. سئل الشيخ سعيد بن حجي، عمن يصلي خلف الإمام وحده؟ فأجاب: السنة أن يقف المأمومون خلف الإمام، فإن كان واحداً صلى عن يمينه؛ فإن كانت معهم امرأة قامت خلفهم. فإن وقف المأمومون قدام الإمام لم تصح صلاتهم، وإن وقف الرجل خلف الصف، أو خلف الإمام وحده، فصلى ركعة فأكثر، لم تصح صلاته. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 413 سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: عن صلاة النساء مع الرجال في صف واحد؟ فأجاب: وقوف النساء مع الرجال في صف واحد مكروه، والسنة وقوفهن خلف الرجال؛ هذا هو الذي وردت به الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه. ووقوف النساء مع الرجال في صف واحد غير مناسب، وقد ورد في الحديث، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " أخروهن حيث أخرهن الله ". وسئل: عن صلاة النساء فوق سطح المسجد، فوق الرجال ... إلخ؟ فأجاب: لا أعلم فيه بأساً، سواء كن يصلين مع الإمام، أو منفردات. وقولك: هل يفرق بين مقدم السطح أو مؤخره؟ فإن كن يصلين مع الإمام وجب عليهن ألا يتقدمن على الإمام، فإن كن منفردات فلا علمت في تقدمهن في مقدم السطح بأساً، إذا لم يكن في السطح رجال. وسئل: عن مصافة الصبي؟ فأجاب: والصبي الذي ما أرشد تصح مصافته. وسئل: عن وقوف الفذ وحده؟ فأجاب: الفذ إذا وقف في الصف وحده، لأجل إدراك الركعة، فهذا ينهى عنه، كما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكرة، فقال له: " زادك الله حرصاً ولا تعد " 1؛ وإذا فعل الإنسان ذلك، فإن دخل في الصف قبل أن يسجد، أو أحرم معه آخر، فالمشهور صحة الصلاة، فإن خر ساجداً   1 البخاري: الأذان (783) , والنسائي: الإمامة (871) , وأبو داود: الصلاة (683, 684) , وأحمد (5/39, 5/42, 5/45, 5/50) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 414 قبل أن يدخل في الصف وكان وحده، فإنه يؤمر بالإعادة، لأنه جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر الذي صلى وحده خلف الصف بالإعادة. وأما العذر الذي يجوز له، فالذي عليه الجمهور: أنه لا يجوز للفذ أن يصلي خلف الصف، لا لعذر ولا لغير عذر؛ وأما على القول الذي اختاره الشيخ تقي الدين، فهو جائز للعذر، مثل أن يجد الصف قد تم، ولا يجد من يقوم معه، فيصلي وحده، ولا يجذب رجلاً من الصف ليقف معه. وأجاب الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن: أما صلاة الفذ ركعة خلف الصف، فمقتضى كلام الفقهاء: أنه يستأنف الصلاة، ولا يبني، ويدخل في ذلك بتكبيرة الإحرام. سئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن، رحمه الله: عن مكث الإمام بعد السلام مستقبل القبلة، حتى يفرغ من التهليلات العشر، كما يستفاد من حديث ابن غنم؟ فأجاب: الحديث المشار إليه، في إسناده من لا يحتج به، ولو كان إسناده مما يحتج به لكان معارضاً بالأحاديث الصحيحة؛ فأخرج البخاري عن ابن عمر: " صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة صلاة العشاء، ثم انصرف ... " 1 الحديث. وأخرج النسائي وابن أبي شيبة، عن جابر بن يزيد عن أبيه، " أنه صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح، فلما صلى انحرف "، وترجم له النسائي: الانحراف بعد السلام. وخرج المروزي عن العرباض بن سارية، قال: " صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم   1 البخاري: مواقيت الصلاة (564) , ومسلم: فضائل الصحابة (2537) , والترمذي: الفتن (2251) , وأبو داود: الملاحم (4348) , وأحمد (2/131) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 415 صلاة الغداة، فأقبل علينا فوعظنا ... " 1 الحديث; فهذه نصوص في أنه أعقب سلامه من الصلاة بالانصراف والإقبال على المأمومين. وذكر حديث عائشة، وثوبان، وابن مسعود، ثم قال: قال علماؤنا الحنابلة، ويكره مكثه - أي الإمام - كثيراً بعد المكتوبة مستقبل القبلة. وقال في شرح الزاد: ويكره للإمام إطالة قعوده بعد الصلاة مستقبل القبلة. وقال الزين بن المنير: استدبار الإمام المأموم إنما هو لحق الإمامة، فإذا انقضت الصلاة زال السبب; فاستقبالهم حينئذ يرفع الخيلاء والترفع على المأمومين. وقال الكوراني في شرح البخاري: استدباره إنما يكون للإمامة، فإذا فرغ فالأولى استقبال الناس، لبعده عن شوب الكبر. انتهى. وكان أبو بكر يسلم عن يمينه وعن شماله، ثم ينتقل ساعتئذ، كأنه على الرضف. وذكر الآثار، ثم قال: فهذا ما ثبت بصحيح السنة، وعمل به السلف ومن بعدهم من الأئمة، ففيما ثبت غنى عما لم يثبت؛ فالمتبعون لصريح الأخبار، ومشهور الآثار، أسعد من هؤلاء بهذا الحديث، وإن كان مما لا يحتج أهل العلم بمثله، فلو كان معهم خبر صريح إما حسن وإما صحيح، لكان من المتعين على كل فقيه متدين يعرف السنة، أن يحمل مثل هذا الحديث على أنه عام مخصوص بغير الإمام، لتجتمع الأحاديث، ويحصل العمل بها جميعا; فإن المأموم والمنفرد   1 أبو داود: السنة (4607) , وأحمد (4/126) , والدارمي: المقدمة (95) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 416 إذا أتيا بالذكر المشروع عقب السلام حال استقبالهما القبلة، فقد عملا بالسنة في حقهما، كما هو ظاهر الأحاديث الصحيحة؛ وسنذكر من الأحاديث الواردة فيما يقال بعد الصلاة ما يدل على هذا، وتقدمت في باب صفة الصلاة. سئل الشيخ سعيد بن حجي: إذا انصرف المأموم من الصلاة قبل أن ينصرف إمامه ... إلخ؟ فأجاب: يكره للإمام إطالة الجلوس في مكانه مستقبل القبلة بعد تسليمه من الصلاة، لأن عائشة قالت: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقعد إلا مقدار ما يقول: اللهم أنت السلام ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام " 1، رواه مسلم، وابن ماجة، فإن شاء قام، وإن شاء انحرف عن قبلته، لما روى سمرة قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى صلاة أقبل علينا بوجهه " 2، رواه مسلم، إذا ثبت أن انصراف الإمام إقبال بوجهه على المأموم؛ فيستحب للمأموم أن لا يقوم قبل انصراف إمامه، لقوله صلى الله عليه وسلم: " لا تسبقوني بالركوع ولا بالسجود ولا بالانصراف " 3، رواه مسلم؛ والمستحب في الاصطلاح لا يعاقب على تركه. سئل الشيخ عبد الله بن محمد، رحمهما الله: عن المصافحة في المسجد؟ فأجاب: أما المصافحة في المسجد وغيره فلا بأس   1 مسلم: المساجد ومواضع الصلاة (592) , والترمذي: الصلاة (298) , والنسائي: السهو (1338) , وأبو داود: الصلاة (1512) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (924) , وأحمد (6/62, 6/184, 6/235) , والدارمي: الصلاة (1347) . 2 البخاري: الأذان (845) , ومسلم: الرؤيا (2275) , والترمذي: الرؤيا (2294) . 3 مسلم: الصلاة (426) , والنسائي: السهو (1363) , وأبو داود: الصلاة (624) , وأحمد (3/102, 3/154, 3/217, 3/240, 3/290) , والدارمي: الصلاة (1317) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 417 بها، وما بلغكم من النهي عن ذلك فله سبب، وذلك أن بعض الناس يظن أن هذا شيء مستحب دائماً، يداوم عليه، ولو سلم قبل الصلاة 1؛ وأما إذا فعله بعض الأحيان وتركه في بعض، فلا بأس بذلك. وأجاب الشيخ عبد الله، والشيخ إبراهيم، ابنا الشيخ عبد اللطيف، والشيخ سليمان بن سحمان: هذا السلام على الإمام ومن يليه ليس بمشروع; ولا أصل لذلك لا بنص ولا عمل من الرسول صلى الله عليه وسلم وخلفائه؛ ولو كان ذلك مشروعاً لتوفرت الهمم والدواعي على نقله، ولكان السابقون الأولون أحق بذلك منا وأسبق إليه، ولكن رد السلام واجب، وتنبيههم على أن هذا ليس بمشروع بعد الصلاة أولى. قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن، رحمه الله: يلزم الأمير يلزمهم تفقد الناس في المساجد، حتى يعرف من يتخلف عن الصلاة ويتهاون بها، ويجعل للناس ثواباً للقيام على الناس بالاجتماع للصلاة في جميع البلدان والقرى؛ فإن هذا مما شرعه الله ورسوله وأوجبه، كما دل على ذلك الكتاب والسنة. وقد ورد الزجر والوعيد على المتخلفين عن الصلوات الخمس في المساجد حيث ينادى لها؛ والأحاديث في هذا المعنى كثيرة. ومن المعلوم: أن الصلاة لا تقام إلا بالاجتماع لها،   1 أي: على من يليه في الصف. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 418 والتهاون بذلك من أسباب إضاعتها; وذلك يوجب عقوبة الدنيا والآخرة كما قال تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً} [سورة مريم آية: 59] . سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: عمن يتخلف عن صلاة الجماعة؟ فأجاب: الذي يتخلف عن صلاة الجماعة، أو الجمعة، يؤدب على ذلك إما بالضرب أو الحبس، ولا يزاد في الضرب على عشر ضربات، وبالإشهار به بين الناس. وأجاب أيضاً: الذي يتخلف عن الجماعة يؤدب بضرب، قدر خمسة أسواط، أو ستة. وأجاب أيضاً: وأما المتخلف عن صلاة الجمعة، فيؤدب بما يزجره عن تركها إذا لم يكن له عذر، وكذلك المتخلف عن صلاة الجماعة، يؤدب إذا لم يكن له عذر. وأجاب الشيخ حمد بن ناصر بن معمر: وأما المتخلف عن الجمعة أو الجماعة، وهو يسمع الأذان، يؤدب على ما يراه الأمير أنه يزجره عن ذلك الفعل، إما بقدر عشر ضربات، أو بأخذ دسماله، وكشف رأسه قدام الناس، وإما بتفشيله بكلام، وإما بأخذ شيء من ماله ويتصدق به على المساكين، هذا إذا لم يكن له عذر، إما مرض، أو حدث، أو حضرة طعام وهو جائع، أو يرصد ماله، أو يخاف يضيع. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 419 وأجاب أيضاً: وأما المتخلف عن الجمعة أو الجماعة، فهو يؤدب الأدب الذي يزجره، حتى يحافظ على الجمعة والجماعة، هذا إذا عرف أنه يتخلف عن الصلاة أكثر الأوقات؛ فإن كان تخلفه قليلاً، ويدعي أن له عذراً يعذر به، فلا يناسب تأديبه. والمرأة التي لا تصلي تجبر على الصلاة، فإن امتنعت ضربت حتى تصلي. وأجاب الشيخ عبد الله أبا بطين: وأما من يداوم على التكاسل عن الصلاة، بحيث لا يدرك في الغالب إلا التشهد، أو ركعة، فهذا يخاف على فاعله من النفاق; ويسقط من مرتبته، وينبغي نصيحته، واعتزاله حتى يرتدع. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 420 باب صلاة أهل الأعذار سئل الشيخ محمد بن إبراهيم: إذا كان السجود يشق علي إذا طال، ولا أقدر الطمأنينة إلا قدر تسبيحة، لوجع في، هل أرتقب الإمام، أو أقرب وأسجد، أم أسجد وإذا شق علي فأرفع؟ فأجاب: أنه إذا كان لا يستطيع السجود، من حين يكبر الإمام حتى يرفع، فإنه يسجد مع الإمام، فإن شق عليه السجود، فيرفع قدر ما يقدر قربه من الأرض، ولا يكون هذا مفارقاً إمامه؛ فإن كان لا يقدر السجود على الأرض، فيسجد قدر ما يستطيع من الأرض. سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد، رحمهما الله: عن مقدار السفر الذي يترخص فيه؟ فأجاب: أما مقدار السفر الذي يترخص فيه برخص السفر، كالقصر، والإفطار، والجمع، فالعلماء اختلفوا في ذلك: فبعضهم يحده بيومين، وبعضهم ما يرى له حداً، لأنه لم يرد عن الشارع صلى الله عليه وسلم فيه تحديد، بل كل ما يسمى سفراً وإن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 421 كان دون اليوم، جاز أن يترخص فيه برخص السفر؛ وهذا هو الصواب، وهو الذي تدل عليه النصوص. وأجاب أيضاً: وأما المسافر مقدار يوم، فلا بأس أن يقصر ويجمع. وأجاب أيضاً: تجوز رخصة السفر فيما عده الناس سفراً، ولكن الاحتياط أن لا يترخص إلا في مسيرة يومين قاصدين. وأجاب أيضاً: السفر الذي تقصر فيه الصلاة، ويحل فيه الإفطار، والجمع، ما يسافر ويسمى سفراً؛ وبعض العلماء يحده بقدر يومين بسير الأحمال؛ والقصر أفضل، وهو سنة الرسول صلى الله عليه وسلم في السفر. وأجاب الشيخ: حمد بن ناصر بن معمر، رحمه الله: الذي عليه كثير من العلماء أن ذلك يتحدد بقدر مسيرة يومين للأحمال، وفيها اختلاف كثير بين العلماء؛ والذي يختاره الشيخ: أن ذلك لا يتحدد بمسافة، بل كل ما يسمى سفراً جاز الترخص فيه برخص السفر، لأن الله تعالى ذكر السفر وأطلق ولم يحدد، وكذلك لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم تحديد في ذلك. وأجاب بعضهم، رحمهم الله تعالى: المسألة فيها أقوال كثيرة للعلماء، وفتاوى عديدة، حتى حكى ابن المنذر في المسألة عشرين قولاً للعلماء، ولا يمكن سردها في هذه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 422 النبذة، ولكن ينبغي أن يعلم: أن أقرب الأقوال فيها إلى الصواب، قول من قال: إنه لا حد له؛ وعليه طائفة كثيرة من السلف، والدليل على ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم أقر أهل مكة على قصرهم الصلاة بمنى، فلم يأمرهم بإتمامها ولا بالإعادة. وكذلك ورد عنه الرخصة مطلقة، وكما في القرآن: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ} الآية [سورة النساء آية: 101] ، قال ابن قدامة: ولا حجة لمن قال بالتحديد، بل الحجة مع من أباح القصر لكل مسافر، إلا أن ينعقد الإجماع على خلافه. انتهى. وبه قال شيخ الإسلام، وتلميذه ابن القيم، وجمع كثير، والله أعلم. وسئل: عن الحشاش، والحطاب؟ فأجاب: الحشاش والحطاب ونحوه، له القصر إلا على قول من قال بتحديد المسافة ونية بلوغها، وقد عرفت ما فيه، وأن الحجة مع من خالفه؛ وهذا الذي يظهر لي. وأجاب الشيخ عبد الله بن عبد العزيز العنقري: القصر للحشاش، الأحوط أن لا يترخص إلا في مسافة يومين فأكثر؛ واختار الشيخ تقي الدين أنه يجوز فيما يطلق عليه اسم السفر. إذا علمت هذا، علمت أنه لا تضييق في ذلك، والأحوط ما تقدم. سئل الشيخ محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف: عن مسافر أقام في بلد إقامة تمنع القصر، ثم خرج من تلك الجزء: 4 ¦ الصفحة: 423 البلد إلى موضع مسيرة نصف يوم مثلاً، هل يترخص أم لا؟ فأجاب: قال في الشرح الكبير: فصل: قال أحمد من كان مقيماً بمكة ثم خرج إلى الحج، وهو يريد أن يرجع إلى مكة فلا يقيم بها، فهذا يصلي ركعتين بعرفة، لأنه حين خرج من مكة أنشأ السفر إلى بلده، ليس على أن عرفة سفره، فهو في سفر من حين خرج من مكة. انتهى. فظهر منه جواب مسألتنا، وهو: أنه إذا كان من نيته الرجوع إلى تلك البلد التي خرج منها، وأن يقيم فيها إقامة تمنع القصر، فهذا لا يترخص، وإن كان لا يريد الرجوع إلى تلك البلد، أو يريده ولكن لا ينوي أن يقيم فيها إقامة تمنع القصر، فهذا يترخص، لأنه حينئذ يكون مسافراً، والله أعلم. سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عمن سافر لرياسة ... إلخ؟ فأجاب: أما سفر الإنسان لطلب الرياسة، فإن كان لقتال غير سائغ شرعاً، فلا يجوز لمن سافر معهم القصر، وإن كان سفره لطلب رياسة من أولي الأمر، ليوليه بعض الأمور، فلا يمتنع القصر معه على من سافر في هذه الحال، والله أعلم. سئل بعضهم، رحمه الله: عن الترخص في سفر المعصية؟ فأجاب: هذه المسألة فيها اختلاف بين العلماء، وقال الجزء: 4 ¦ الصفحة: 424 شيخ الإسلام، رحمه الله: أما من سافر لمجرد زيارة قبور الأنبياء والصالحين، فهل يجوز له القصر؟ على قولين: أحدهما لا يجوز،، وهو قول متقدمي العلماء، الذين لا يجوزون القصر في سفر المعصية، كأبي عبد الله ابن بطة، وأبي الوفاء ابن عقيل، وطوائف كثيرة من العلماء المتقدمين، أنه لا يجوز القصر في مثل هذا السفر، لأنه سفر منهي عنه؛ وهو مذهب مالك، والشافعي، وأحمد، أن السفر المنهي عنه في الشريعة لا يقصر فيه. والقول الثاني: أنه يقصر، وهذا يقوله من يجوز القصر في السفر الحرام، كأبي حنيفة، وبعض المتأخرين من أصحاب الشافعي وأحمد. انتهى. فعلم من كلامه: أن المسألة فيها خلاف، وأن الشيخ يرى تحريم السفر الذي مثل هذا، ويرى القصر فيه، وكذا غير القصر من الرخص؛ قال في الإنصاف: واختار جواز القصر في سفر المعصية. انتهى. قال في الإقناع وشرحه،:والقصر رخصة، لأن سلمان رضي الله عنه بين أن القصر رخصة، بمحضر اثني عشر صحابياً، رواه البيهقي بإسناد حسن، ويؤيده ما سبق في حديث مسلم، من قوله صلى الله عليه وسلم: " صدقة تصدق الله بها عليكم " 1، وقال: أيضاً في الإقناع وشرحه: ولا يترخص في سفر معصية، بقصر، ولا فطر، ولا أكل ميتة نصاً، لأنها رخص، والرخص لا تناط بالمعاصي. فهذا كلام العلماء كما ترى؛ وعمل الناس اليوم هو العمل بقول الشيخ، والله أعلم.   1 مسلم: صلاة المسافرين وقصرها (686) , والترمذي: تفسير القرآن (3034) , والنسائي: تقصير الصلاة في السفر (1433) , وأبو داود: الصلاة (1199) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1065) , وأحمد (1/25, 1/36) , والدارمي: الصلاة (1505) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 425 وأجاب الشيخ عبد الرحمن بن حسن: وأما إتمام الصلاة في السفر، ففعله أمير المؤمنين عثمان بن عفان، وعائشة، رضي الله عنهما؛ وعند الحنابلة: أنه إن أتم في سفر جاز ولم يكره. وعلى هذا فلا ينكر على من أتم الصلاة، والقصر أفضل؛ لكن قد يحصل مع الغزاة تردد في قصد الولاة بالغزو، لأنه ربما غلب عليهم إرادة الملك والعلو، وإرادة الدنيا والغنى والعز، فيكون جهاده عليه لا له، كما في الحديث: " الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حمية، ويقاتل رياء، أي ذلك في سبيل الله؟ قال: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، فهو في سبيل الله " 1، وفي حديث أبي هريرة، في الثلاثة الذين أول من تسعر بهم جهنم؛ فليكن ذلك منك على بال، قال قتادة في قوله: {فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً} [سورة الكهف آية: 34] ، قال: هذا والله أمنية الفاجر، كثرة المال، وكثرة النفر. سئل الشيخ أبا بطين: عن اشتراط النية في القصر؟ فأجاب: هو المشهور في المذهب وفاقاً للشافعي، ولا يشترط علمه بأن إمامه نوى القصر؛ بل يكفيه علمه بأن إمامه مسافر، ولو بعلامة كنحو لباس سفر، فإذا علم بأن إمامه مسافر، وقال: إن قصر قصرت، وإن أتم أتممت، لم يؤثر ذلك في نيته، فتصح صلاته والحالة هذه. وعند جماعة من الأصحاب: لا تشترط النية للقصر، وفاقاً لأبي حنيفة ومالك؛   1 البخاري: التوحيد (7458) , ومسلم: الإمارة (1904) , والترمذي: فضائل الجهاد (1646) , والنسائي: الجهاد (3136) , وأبو داود: الجهاد (2517) , وابن ماجة: الجهاد (2783) , وأحمد (4/392, 4/397, 4/401, 4/405, 4/417) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 426 فعلى هذا، لو نوى الإتمام ابتداء جاز له القصر، وعلى هذا أيضاً: لو نوى القصر ثم رفضه، ونوى الإتمام جاز; ومن نوى القصر فأتم سهواً، ففرضه الركعتان، والزيادة سهو يسجد لها. وأما اشتراط النية للجمع، فهو المشهور في المذهب، وعند الشيخ تقي الدين لا يشترط. وأجاب أيضاً: وأما المسافر إذا دخل مع إمام ظاناً أنه مسافر، فالذي نرى له الإتمام، وتجزيه صلاته. وسئل الشيخ عبد الله بن محمد: عن المسافر إذا كان في البلد وهو يقصر، هل تلزمه الجماعة؟ فأجاب: الجماعة واجبة حضراً وسفراً، فإذا كان المسافر في البلد جاز له القصر، لكن إن لم يكن عنده جماعة يقصرون، لزمته الصلاة مع المقيمين، ويتم الصلاة معهم، لأن الجماعة لا تسقط بالسفر. سئل الشيخ محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف: عن صلاة القصر لمن يباح له القصر منفرداً، أو مع جماعة تماماً، ما الأفضل؟ وعما إذا صلى من يباح له القصر، مع المقيم ركعتين من آخر صلاته فقط، ثم يسلم معه، هل تصح أم لا؟ فأجاب: أما المسافر الذي يباح له القصر، فالجماعة واجبة عليه كالمقيم؛ فإن أمكن الجمع بين الواجب عليه، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 427 وهو الصلاة جماعة، وبين ما هو السنة في حقه، وهو القصر، بأن وجد جماعة مسافرين يصلون قصراً، صلى معهم، وإلا صلى مع الجماعة المقيمين، ولزمه حينئذ الإتمام؛ وهذه إحدى الصور الإحدى والعشرين، التي يلزم المسافر الإتمام فيها. وأما إذا صلى من يباح له القصر، مع المقيم ركعتين من آخر صلاته، ثم سلم معه، فإنها لا تنعقد هذه الصلاة، إن أحرم بها ناويا القصر، عالماً وجوب الإتمام عليه، كنية المقيم القصر؛ وأما إن كان جاهلاً فإنها تنعقد، ويلزمه إتمامها أربعاً، لائتمامه بالمقيم، كما تقدم في التي قبلها. سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عمن بعرفة ممن نوى الإقامة أكثر من أربعة أيام؟ فأجاب: أما الحاج الذي نوى الإقامة أكثر من أربعة أيام بمكة، فالجمهور أنه يجوز له الجمع بعرفة ومزدلفة. وأما القصر بعرفة فالاحتياط الإتمام. سئل الشيخ سليمان بن سحمان: عمن دخل البلاد وقت العصر، والقتال يعمل في أطرافها، فأمرهم مفت بإتمام الصلاة، فمنهم من أتم ومنهم من قصر، فأمر من قصر بإعادة الصلاة؟ فأجاب: اعلم أن الذين قصروا الصلاة وجمعوا في حال الجزء: 4 ¦ الصفحة: 428 الاشتغال بقتال العدو، لم يكونوا حينئذ مقيمين، حتى يؤمروا بإتمام الصلاة، والأولى في حقهم قصر الصلاة لا إتمامها، وليس مع من أمرهم بالإتمام والحالة هذه دليل يجب المصير إليه. وأما أمرهم بالإعادة إذا كان الأمر على ما وصفت فهو خطأ، ولم يقل بهذا والحالة هذه أحد من العلماء. إذا عرفت ذلك، فاعلم: " أن النبي صلى الله عليه وسلم أقام بتبوك عشرين ليلة يقصر الصلاة " 1، ومن المعلوم أنهم يعلمون أن العدو لا يمكنه القدوم إليهم في أربعة أيام، وكذلك أقام يوم الفتح بمكة ثمانية عشر يوماً يقصر فيها الصلاة، وفي حجة الوداع أقام بمكة عشرة أيام يقصر الصلاة. ومن المعلوم أنهم مجمعون على الإقامة إلى انقضاء نسك الحج - إلى أن قال - قال ابن عبد البر، رحمه الله: وروي عن أنس: "أنه أقام سنتين بنيسابور يقصر الصلاة "، وقال أبو إسحاق السبيعي: "أقمنا بسجستان، ومعنا رجال من أصحاب ابن مسعود سنتين نصلي ركعتين "، "وأقام ابن عمر بأذربيجان ستة أشهر يصلي ركعتين، وكان الثلج حال بينهم وبين القفول "، "وأقام مسروق بسلسلة سنتين - وهو عامل عليها - يصلي ركعتين حتى انصرف "، يلتمس السنة بذلك. وعن شقيق قال: "خرجت مع مسروق بسلسلة حين استعمل عليها، فلم يزل يقصر الصلاة حتى وصلن.، فقال: يا أبا عائشة، ما حملك على هذا؟ قال: اتباع السنة "، وقال أبو جمرة: "قلت   1 سنن الترمذي: كتاب الصوم (799) , وسنن ابن ماجة: كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها (1076) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 429 لابن عباس: إنا نطيل المقام بالقرية بخراسان، فقال: صل ركعتين، وإن أتممت عشر سنين ". انتهى. فهذا ما ذكره ابن عبد البر عن الصحابة، رضي الله عنهم، ومن بعدهم من التابعين، وأنه ما حملهم على ذلك إلا اتباع السنة؛ وأما عمل المسلمين من وقت الدرعية إلى يومنا هذا، فاعلم: أن الذي ظهر واشتهر بالاستفاضة والاستقراء، أن الإمام سعود بن عبد العزيز أقام في ثاج مدة طويلة يقصر فيها ويجمع، وكذلك أقاموا في الحناكية مدة طويلة يقصرون الصلاة ويجمعون، وكذلك فيصل بن سعود، أقام في أرض الحجاز نحواً من ستة أشهر، يقصر فيها الصلاة. ولما غزا الإمام فيصل بن تركي، ومعه الشيخ عبد اللطيف، أقاموا في مسيمير اثني عشر شهراً يقصرون الصلاة ويجمعون، ولا أقاموا في هذه المدة جمع. والإمام عبد الله بن فيصل، ومعه الشيخ عبد اللطيف، لما غزوا بلدان الدواسر، أقاموا في الحيانية نحواً من شهرين، ثم نزلوا الأفلاج وأقاموا فيها مدة طويلة، ثم ارتحلوا إلى الوادي وأقاموا فيه أكثر من شهرين، يقصرون الصلاة في هذه المدة الطويلة. فهذا عمل المسلمين من وقت الدرعية إلى يومنا هذا، يقصرون الصلاة في مغازيهم؛ هذا ما ظهر لي. سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد، رحمهما الله: عن البدو إذا كان معهم أهلهم ويتبعون المرعى ... إلخ؟ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 430 فأجاب: لا نجعلهم كالمقيمين أبداً، ولا كالمسافرين مطلقاً، بل هذا محل تفصيل: فأما إذا نزلوا منْزلاً ونووا استيطانه ما دام المرعى فيه، أو نووا الإقامة وقتًا دون وقت، أو نزلوا على ماء ونووا الإقامة عليه ما وجدوا لدوابهم مرعى، أو نووا الإقامة على هذا الماء وقتاً دون وقت، فهم والحالة هذه مقيمون تثبت لهم أحكام الإقامة، ولا يستبيحون رخص السفر، لأن هذا هو الاستيطان في حق هؤلاء، والعرف يشهد بذلك. وأما إذا ظعنوا من هذه المنازل وما أشبهها إلى منْزل آخر، أو من ماء إلى ماء، وما بين المنْزلين أو الماءين مسيرة يومين قاصدين، فإنهم حينئذ يسمون مسافرين، لأن هذا يسمى سفراً في حق هؤلاء؛ وكلام صاحب الإقناع على سبيل التمثيل لا الحصر: وقد ذكروا في الملاح الذي معه أهله وليس له نية الإقامة ببلد، أنه ليس له الترخص، فيعتبر في السفر كونه منقطعاً لا دائماً. ولا بد مع ذلك من اجتماع أمرين، أن يكون البدوي معه أهله، وأن لا ينوي الإقامة في موضع، فإن اختل شرط منها أبيح له رخص السفر؛ فالبدوي بمنْزلة الملاح في السفينة، كما أن الملاح لو نوى الإقامة وهو في سفينة في موضع من البحر، ثم سافر إلى موضع آخر لحمل متاع أو غيره، حكمنا بأنه مسافر ولو كان أهله معه؛ وهذا هو الذي يظهر لنا ونفهم من معنى كلام الله ورسوله، لأن الله تعالى يقول: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 431 {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ} [سورة النساء آية: 101] ، وقال: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [سورة البقرة آية: 184] ، أطلق سبحانه للمسافر قصر الصلاة والفطر في رمضان، ولم يخص في ذلك القروي دون البدوي، ولا من معه أهله دون من ليس معه أهله، ولا نعلم فيما ذكرنا خلافاً بين أهل العلم. وأجاب الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين: أما محال 1 البدو من موضع إلى موضع آخر يبلغ المسافة سفراً مستمراً، وعزيمة جازمة، فإنه يجوز لهم القصر. سئل الشيخ حمد بن ناصر بن معمر: عن الجمع بين الظهرين ... إلخ؟ فأجاب: أما المسافر فيجوز له الجمع بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء. وصلاة كل فرض في وقته أفضل من الجمع إذا لم يحصل مشقة، والجمع في الحضر لأجل مشقة المطر جائز. سئل الشيخ حمد بن عتيق، رحمه الله: عن أهل البلد إذا حاصرهم عدو ... إلخ؟ فأجاب: المستوطنون ببلادهم إذا جاءهم عدو،   1 أي سفرهم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 432 واشتغلوا بالدفع عن أنفسهم وبلادهم وذراريهم، يجمعون ولا يقصرون. سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عن الجمع للنساء في البيوت ... إلخ؟ فأجاب: الجمع للنساء في البيوت إذا وجد مطر يبل الثياب، ويوجد معه مشقة وريح شديدة، ما أرى الفتيا بجوازه، لأنهن لا جماعة عليهن. سئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ: عمن نوى جمع تأخير حيث يجوز له الجمع، فدخل وقت الثانية قبل أن يصلوا إلى الماء ... إلخ؟ فأجاب: أما الذين نووا جمع تأخير فدخل وقت الثانية قبل أن يصلوا إلى الماء، فالأفضل في حقهم أن يؤخروا الصلاة إلى الماء، ما لم يدخل وقت الضرورة، فإن صلوا قبل وصولهم إليه أجزأتهم الصلاة بالتيمم، ولا إعادة عليهم; ووقت الاختيار للثانية وقت للأولى، في حق من يجوز له الجمع إذا نواه. وأجاب الشيخ حسن بن حسين بن الشيخ محمد: له أن يؤخر الأولى جمعاً مع الثانية، لجواز الجمع للمسافر مطلقاً تحقق وجود الماء، أو ظنه في وقت الثانية أم لا، على المشهور في مذهب أحمد؛ بل حكى في الفروع عن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 433 بعضهم: أن الجمع في السفر في وقت الثانية أفضل، وأنه مذهب الشافعي. وقال المنقح في تصحيح الفروع: جزم به في الهداية والخلاصة، وقال ابن تميم: نص عليه. انتهى. وقال أبو العباس في المسألة المسماة بتيسير العبادات: الجمع بين الصلاتين بطهارة كاملة خير من أن يفرق بين الصلاتين بتيمم، والجمع بين الصلاتين مشروع لحاجة دنيوية، فلأن يكون مشروعاً لتكميل الصلاة أولى؛ والجامع بين الصلاتين مصل في الوقت. وقال في موضع آخر: الجمع بين الصلاتين يصير الوقتين وقتاً لهما، وقاله في الإنصاف وغيره. سئل الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف: عن جمع حافري القليب؟ فأجاب: أما تأخير الظهر إلى أول وقت العصر لحافري القليب، فذكر الفقهاء أنه يجوز للعذر والشغل، وهذا من الشغل، والله أعلم. وأجاب الشيخ عبد الله بن عبد العزيز العنقرى: إن أمكنت الصلاة في بطن البئر فلا بأس بذلك، وإن لم تمكن وصار الحال كما ذكر من وجود الضرر بمشقة الخروج، أو فوات المقصود برجوع الماء، وعدم إخراج حفير البئر، فتؤخر الصلاة إلى آخر وقت الظهر، ثم يصليها إذا خرج في آخر وقتها؛ ووقت الظهر يمتد إلى دخول وقت العصر. سئل الإمام عبد العزيز بن محمد بن سعود: هل يجوز الجزء: 4 ¦ الصفحة: 434 الجمع بين الصلاتين لغير عذر، لحديث ابن عباس المخرج في صحيح مسلم؟ فأجاب: ذكر العلماء في تأويله وجوهاً، منها: أنه صلى الله عليه وسلم أخر الظهر إلى آخر وقتها، وعجل العصر في أول وقتها؛ وهذا جائز عند كثير من أهل العلم، إذا لم يتخذ عادة. ومنها: أنه محمول على أنه فعل ذلك لأجل مشقة الوحل، وقال بهذا كثير من العلماء أنه يجوز الجمع لأجل المشقة بالوحل وغيره، كالمرض. ومنها: أن ذلك منسوخ بالمواقيت، التي دوام عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل العلم، إنما يأخذون بالآخر فالآخر من فعل النبي صلى الله عليه وسلم كما قال جابر رضي الله عنه: " كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم: ترك الوضوء مما مست النار "، ولهذا قال الترمذي في آخر كتابه: ليس في كتابي حديث أجمعت الأمة على ترك العمل به، إلا حديث ابن عباس في الجمع بالمدينة من غير خوف ولا مطر؛ فإذا أجمع العلماء على ترك العمل بظاهره، فهو دليل على أنه منسوخ، وإن لم يعلم الناسخ بعينه، ولو لم يكن فيه إلا أن آخر فعل النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين على عدم فعل ذلك بلا عذر من الأعذار المبيحة للجمع. سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عن إعلام الإمام بنية الجمع؟ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 435 فأجاب: وأما قول الإمام إذا نوى الجمع بين الصلاتين ... فأرجو أنه لا بأس أن يعلمهم أنه ناو الجمع؛ ولم أسمع في ذلك شيئاً عن الصحابة؛ كما هو حجة من لم يشترط النية للجمع، وهو اختيار الشيخ تقي الدين، لكن الخروج من الخلاف لا بأس به. وسئل: عن المرأة إذا لم يمكنها الصلاة في الوقت ... إلخ؟ فأجاب: وأما المرأة إذا كانت راكبة، فلا يجوز لها تأخير الصلاة عن وقتها، وإذا كانت سائرة في السفر، فإنها تنوي التأخير، وتنْزل مرة واحدة فتصلي الظهر والعصر، وتصحب معها عقالاً تعقل به البعير، وإذا أبصرها الناس تصلي وهي مستورة، لا يضرها ذلك عند الله تعالى. وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم أخر الجزء الرابع ويليه الجزء الخامس، وأوله: باب صلاة الجمعة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 436 المجلد الخامس: (القسم الثاني من كتاب العبادات) باب صلاة الجمعة ... بسم الله الرحمن الرحيم باب صلاة الجمعة سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمهما الله تعالى: هل يرخص للرجل يوم الجمعة إذا كان قريباً من بلد في ترك الجمعة؟ فأجاب: لا رخصة له إلا في أكثر من فرسخ، والفرسخ ثلاثة أميال، والميل ستة آلاف ذراع؛ فجميع ذلك ثمانية عشر ألف ذراع. وسئل: عمن يجب عليه السعي إلى الجمعة ... إلخ؟ فأجاب: يجب السعي على البعيد إذا كان يسمع النداء، إذا أذن المؤذن الصيت مع هدوء الأصوات وتساوي الأرض؛ ومنهم من يحده بفرسخ عن طرف المصر. وأجاب بعضهم: أما من تجب عليه الجمعة من جهة القرب والبعد، فقالوا: تجب على من بينه وبينها فرسخ، في حق غير أهل مصر، واليوم عندهم ثمانية فراسخ، وأما بلادكم "تربة" فهي قرية. قال أحمد: أما أهل المصر فلا بد لهم من شهودها، سمعوا النداء أو لم يسمعوا، وهو قول مالك. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 5 وعن عبد الله بن عمر وغيره: الجمعة على من آواه الليل إلى أهله، وأما من كان في زراعة بعيدة مثلاً فلا يبين لي عليه جمعة؛ وهذا الذي نفهم، والعمل عليه عندنا الآن. سئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن، رحمه الله: عن وقت صلاة الجمعة ... إلخ؟ فأجاب: أما صلاة الجمعة قبل الزوال فهو وقت لها عند الإمام أحمد، وخالفه بعض الأئمة، وقال: وقتها بعد الزوال؛ فتأخيرها إلى الزوال أفضل، خروجاً من خلاف العلماء، لكون هذا القول مجمعاً عليه. سئل الشيخ عبد الله بن محمد: عن المسافر إذا أدركته الجمعة؟ فأجاب: المسافر إذا قدم ولم ينو إقامة تمنع القصر والفطر في رمضان، فهذا لا جمعة عليه بحال، فإن صلى الجمعة مع أهل البلد أجزأته، والأفضل في حقه حضورها إذا لم يمنع مانع. فإن كان المسافر قد نوى إقامة مدة تمنع القصر والفطر فهذا تلزمه بغيره، فإذا كان في بلد تقام فيها الجمعة وجب عليه حضورها. وأما إمامته في الجمعة، فالمذهب أنه لا يجوز أن يؤم فيها بحال، ولا يكمل به العدد المعتبر، لأن من شروط الجزء: 5 ¦ الصفحة: 6 الجمعة الاستيطان، وهذا ليس بمستوطن. وذهب مالك وأبو حنيفة والشافعي، إلى أن له أن يؤم فيها؛ وهذه المسألة من مسائل الخلاف، ولا أعلم فيها دليلاً من الجانبين، فإذا كانت من المسائل إلاجتهادية فلا إنكار في مسائل إلاجتهاد، ولا يجوز الإنكار على الفاعل، خصوصاً إذا كان علم الخلاف بين العلماء في الجواز وعدمه، وعمل على قول المجيزين، ولا يجوز نسبته إلى الجهل والحالة هذه. وأما قولك: أيما أفضل، إجابة الإنسان لمثل هذه المسألة ونحوها وأيما امتناعه؟ فالأفضل في حقه العمل بالاحوط، ولا يؤم في الجمعة وهو مسافر إلا إن كان قد بان له واتضح عنده الجواز، وأن القول بالمنع لا وجه له، فتلك حالة أخرى. وأما إذا ترجح عنده الجواز وعمل بقول الجمهور، فلا يجوز الإنكار عليه إذا رضي أهل البلد بإمامته، لغيبة الإمام أو قدمه بنفسه. وأجاب الشيخ عبد الله بن عبد العزيز العنقري: والمرأة التي تحضر الخطبة يوم الجمعة، وتصلي مع الإمام، تجزئها صلاتها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 7 سئل الشيخ سليمان بن سحمان: عن أمر الغزو بإقامة الجمعة ... إلخ؟ فأجاب: اعلم أنه لم يكن مع الآمر دليل يجب المصير إليه، لأن الجمعة لا تلزم إلا من أراد الاستيطان بالبلد، بخلاف المسافر الذي تلزمه بغيره إذا أجمع على الإقامة. والغزو حين قدومهم "أبها"، إذا لم يكن فيها أحد من أهلها فلا تلزمهم. قال شيخ الإسلام: فإن كل قوم كانوا مستوطنين ببناء متقارب، لا يظعنون عنه شتاء ولا صيفاً، أقاموا فيه الجمعة إذا كان مبنياً بما جرت به عادة الناس، من مدر وخشب، أو قصب أو جريد أو سعف أو غير ذلك، فإن أجزاء البناء ومادته لا تأثير لها في ذلك؛ إنما الأصل أن يكونوا مستوطنين ليسوا كأهل الخيام والحلل الذين ينتجعون في الغالب مواقع القطر، وينتقلون في البقاع، وينقلون بيوتهم معهم إذا انتقلوا؛ وهذا مذهب جمهور العلماء - إلى أن قال – ولهذا، العلماء إنما فرقوا بين الأعراب أهل العمود، وبين المقيمين، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 8 بأن أولئك ينتقلون ولا يستوطنون بقعة، بخلاف المستوطنين- إلى أن قال- قال الإمام أحمد: ليس على البادية جمعة لأنهم ينتقلون؛ فعلل سقوطها بالانتقال، فكل من كان مستوطناً لا ينتقل باختياره، فهذا من أهل القرى. والفرق بين هؤلاء، وبين أهل الخيام، من وجهين: أحدهما: أن أولئك في العادة الغالبة لا يستوطنون مكاناً بعينه، وإن استوطن فريق منهم مكاناً فهو في مظنة إلانتقال عنه، بخلاف هؤلاء المستوطنين، الذين يحرثون ويزرعون، ولا ينتقلون إلا كما ينتقل أهل أبنية المدر، إما لحاجة تعرض، أو ليد غالبة تنقلهم كما تفعله الملوك مع الفلاحين. الثاني: أن بيوت أهل الخيام ينقلونها معهم إذا انتقلوا، فصارت من المنقول لا من العقار. انتهى. فإذا عرفت ذلك، فالغزو إنما هم أهل خيام، لا من أهل البلاد المستوطنين بها الذين لا ينقلون عنها؛ فلا تلزمهم الجمعة، لما تقدم من كلام شيخ الإسلام، وبه الكفاية. وقال في الإقناع وشرحه: قال ابن تميم: وكذا لو دخل قوم بلداً لا سكن به بنية الإقامة سنة، فلا جمعة عليهم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 9 سئل الشيخ سليمان بن الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد، رحمهم الله تعالى: هل ثبت في العدد المعتبر للجمعة نص، أم لم يصح في ذلك شيء ... إلخ؟ فأجاب: اعلم: أن الجمعة واجبة بالكتاب والسنة والإجماع: أما الكتاب: فقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [سورة الجمعة آية: 9] . ووجه الدلالة من الآية: أنه تعالى أمر بالسعي، ومقتضى الأمر الوجوب، ولا يجب السعي إلا إلى واجب؛ قاله الشيخ موفق الدين بن قدامة. وأما السنة: فالأحاديث طافحة بذلك: منها ما روى مسلم في صحيحه عن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لقوم يتخلفون عن الجمعة: " لقد هممت أن آمر رجلاً يصلي بالناس، ثم أحرق على رجال يتخلفون عن الجمعة بيوتهم " 1. وعن أبي هريرة وابن   1 مسلم: المساجد ومواضع الصلاة (652) , وأحمد (1/394, 1/402, 1/422, 1/449، 1/461) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 10 عمر، أنهما سمعا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات، أو ليختمن الله على قلوبهم ثم ليكونن من الغافلين " 1، رواه مسلم وابن ماجة. وعن أبي الجعد الضمري - وكانت له صحبة - عن النبي صلى الله عليه وسلم: " من ترك ثلاث جمع تهاوناً بها، طبع الله على قلبه " 2، رواه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة، وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما، والحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم. وفي رواية لابن خزيمة وابن حبان: " من ترك الجمعة ثلاثاً من غير عذر فهو منافق " 3، إلى غير ذلك من الأحاديث. وأما الإجماع: فأجمع المسلمون على وجوب الجمعة في الجملة، فثبت بعموم الآية والأحاديث والإجماع، وجوب الجمعة على كل أحد؛ فمن أراد إخراج أحد عن وجوبها عليه من هذه العمومات، فعليه إقامة الدليل، وإلا فلا سمع لقوله ولا طاعة. فمما خرج من العموم: المرأة، حكى ابن المنذر الإجماع أنها لا تجب عليها، والعبد، والصبي، والمريض، ومن في معناه ممن له عذر عن حضور الجمعة. والأصل في ذلك: ما رواه أبو داود، حيث قال: حدثنا عباس بن عبد العظيم حدثني إسحاق بن منصور حدثنا هريم عن محمد بن إبراهيم بن محمد بن المنتشر عن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب عن   1 مسلم: الجمعة (865) , والنسائي: الجمعة (1370) , وابن ماجة: المساجد والجماعات (794) وإقامة الصلاة والسنة فيها (1127) , وأحمد (1/239, 1/254, 1/335, 2/84) , والدارمي: الصلاة (1570) . 2 الترمذي: الجمعة (500) , والنسائي: الجمعة (1369) , وأبو داود: الصلاة (1052) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1125) , وأحمد (3/424) , والدارمي: الصلاة (1571) . 3 ابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1126) , وأحمد (3/332) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 11 النبي صلى الله عليه وسلم قال: " الجمعة حق واجب على كل مسلم في جماعة، إلا أربعة: عبد مملوك، أو امرأة، أو صبي، أو مريض " 1، وأخرجه الدارقطني عن علي بن محمد بن عقبة الشيباني عن إبراهيم بن إسحاق بن أبي العنبس عن إسحاق بن منصور، وأعله ابن حزم بهريم وقال: إنه مجهول؛ وما أبعده ودعواه عن الصواب! فكيف يكون مجهولاً من روى عن الأعمش وإسماعيل بن أبي خالد وسعيد بن أبي عروبة وطائفة؟ وروى عنه إسحاق بن منصور والسلولي وأحمد بن يونس والأسود بن عامر وأبو نعيم وغيرهم من الثقات، ووثقه يحيى بن معي، وأبو حاتم ابن حبان وغيرهما. وقال عثمان ابن أبي شيبة: هو صدوق ثبت، وأخرج له البخاري ومسلم في صحيحيهما، وبقية أهل السنن، فكيف يكون مجهولا؟ ولكن هذه عادة ابن حزم: إذا لم يعرف الرجل زعم أنه مجهول، وقد يكون معروفاً مشهوراً ثقة عند غيره، وله من ذلك أشياء كثيرة. وأخرجه الحاكم عن أبي بكر بن إسحاق عن عبيد بن محمد عن عباس بن عبد العظيم، بإسناد أبي داود: عن طارق عن أبي موسى الأشعري، وقال: حديث صحيح على شرط الشيخين، قال: وطارق بن شهاب ممن يعد في الصحابة; قال أبو داود: وطارق بن شهاب قد رأى النبي صلى الله عليه وسلم ولم يسمع منه شيئاً، قال الحافظ بن   1 أبو داود: الصلاة (1067) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 12 حجر: رأى النبي صلى الله عليه وسلم وهو رجل، وقال أيضاً: إذا ثبت أنه لقي النبي صلى الله عليه وسلم فهو صحابي على الراجح، وإذا ثبت أنه لم يسمع منه، فروايته عنه مرسل صحابي، وهو مقبول على الراجح. قلت: لم يثبت فيما علمناه أنه لم يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً، بل إذا ثبت أنه رآه وهو رجل، فالظاهر أنه قد سمع منه، إذ يبعد أن لا يسمع منه ولو كلمة مع رؤيته له؛ وقد أخرج له النسائي عدة أحاديث، وذلك مصير منه إلى إثبات صحبته. ومما خرج من العمومات أيضاً: المسافر في قول أكثر أهل العلم، لما روى البيهقي بإسناده عن تميم الداري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " الجمعة واجبة إلا على صبي أو مملوك أو مسافر " 1. وأخرج الدارقطني من طريق ابن لهيعة وهو ضعيف، عن معاذ بن محمد الأنصاري وهو مجهول، عن أبي الزبير عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فعليه الجمعة يوم الجمعة، إلا على مريض أو امرأة أو مسافر أو صبي أو مملوك " الحديث. وأخرج البيهقي عن ابن عمر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " الجمعة واجبة، إلا على ما ملكت أيمانكم وذي علة " 2، وفي إسناده نظر. وأخرج الدارقطني من طريق عبد الله بن نافع عن أبيه عن ابن عمر مرفوعاً: " لا   1 سنن الترمذي: كتاب الجمعة (501) . 2 صحيح مسلم: كتاب الرضاع (1456) , وسنن الترمذي: كتاب النكاح (1132) وكتاب تفسير القرآن (3016, 3017) , وسنن النسائي: كتاب النكاح (3333) , وسنن أبي داود: كتاب النكاح (2155) وكتاب الحدود (4473) , ومسند أحمد (1/95, 1/135, 1/145, 3/72, 3/84) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 13 جمعة على مسافر "، وعبد الله ضعيف؛ وقد رواه عبيد الله بن عمر عن نافع فوقفه، وهو الصحيح، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسافر ولا يصلي الجمعة في سفره، وكان في حجة الوداع يوم عرفة يوم جمعة، فصلى الظهر والعصر جمع بينهما ولم يصلّ الجمعة، والخلفاء الراشدون كانوا يسافرون في الحج وغيره، فلم يصل أحد منهم الجمعة في سفره، وكذلك غيرهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم؛ وهذا إجماع لا يجوز مخالفته. واتفق المسلمون على اشتراط الجماعة لها، إلا شيئاً يحكى عمن لا يعرف، أنها تجب على الواحد؛ حكاه في الفتح عن ابن حزم، أنه حكاه قولاً لبعضهم. قلت: وقد طالعت المحلى فلم أر هذا القول فيه، لكن قد روى ابن أبي شيبة عن سفيان الثوري، في صورة ما إذا دخل في صلاة الجمعة، ثم أحدث ثم ذهب وتوضأ، ثم جاء فوجدهم قد صلوا، أنه يبني على ما مضى ما لم يتكلم، وهذا لا يدل على أنه يرى الجمعة على الواحد، وإنما أثبت له حكمها لدخوله معهم أولاً فيها، بدليل أنه لو تكلم لم يجب عليه جمعة. والدليل على ذلك الكتاب والسنة: أما الكتاب: فلقوله تعالى: {فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [سورة الجمعة آية: 9] . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 14 بصيغة الجمع، فيدل على أنها لا تجب إلا على جماعة، كذا قيل. وأما السنة: فطافحة بأنها لا تجب إلا على جماعة من طريقين: طريق الاستقراء، وطريق المفهوم. أما الاستقراء فأظهر من أن يذكر، لأنه لم ينقل أن النبي صلى الله عليه وسلم ولا أحداً من أصحابه ولا غيرهم صلاها وحده، ولا أمر بها أحد. وأما طريق المفهوم ففي أحاديث، منها حديث طارق الذي تقدم: " الجمعة حق واجب على كل مسلم في جماعة " 1 الحديث؛ فمفهوم التقييد بالجماعة يقتضي أنها لا تجب إلا على جماعة. ثم اختلف العلماء بعد ذلك في العدد المشترط لها على أقوال: القول الأول: أنها لا تنعقد إلا بحضور أربعين رجلاً من أهل القرية، وذكره في الشرح عن عمر بن عبد العزيز، وعبد الله بن عبد الله بن عتبة، ومالك، والشافعي؛ وهو مذهب أحمد المشهور عنه. القول الثاني: أنها لا تنعقد إلا بخمسين رجلاً، ذكره ابن حزم عن عمر بن عبد العزيز، وهو رواية عن أحمد، لما روى الدارقطني: حدثنا محمد بن الحسن النقاش، حدثنا محمد بن عبد الرحمن الشامي والحسين بن إدريس، حدثنا خالد بن الهياج، حدثني أبي عن جعفر بن الزبير عن القاسم عن أبي أمامة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " على الخمسين جمعة ليس فيما دون   1 أبو داود: الصلاة (1067) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 15 ذلك " 1. قال الدارقطني: جعفر بن الزبير متروك. قلت: وشيخ الدارقطني أيضاً متروك، وخالد بن الهياج متروك. وذكر الشيخ شمس الدين بن أبي عمر في شرح المقنع، أن الحافظ أبا بكر النجاد أخرجه عن عبد الملك الرقاشي عن رجاء بن سلمة عن عباد بن عباد عن جعفر بن الزبير بنحوه. وأخرجه الدارقطني أيضاً من طريق آخر: عن جعفر بن الزبير به، دون قوله: " ليس فيما دون ذلك ". وبالجملة: فمداره على جعفر بن الزبير، وهو ساقط. وذكر ابن أبي عمر أيضاً في الشرح: عن الزهري عن أبي سلمة، قال: " قلت لأبي هريرة: على كم تجب الجمعة من رجل؟ قال: لما بلغ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسين جمع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم "، رواه النجاد; هكذا ذكره ابن أبي عمر، ولم يذكر من دون الزهري لينظر في إسناده؛ وهو باطل من غير جهة الإسناد، لأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بلغوا أكثر من الخمسين وهم بمكة، ولم ينقل أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع بهم؛ وهذا يدل على أنه غير صحيح. القول الثالث: أنهم إذا كانوا ثلاثة والإمام رابعهم صلوا الجمعة; وهو رواية عن أحمد، وبه قال أبو حنيفة، والليث بن سعد، وزفر، ومحمد بن الحسين، واحتجوا في ذلك بما رواه الدارقطني من طريق الوليد بن محمد الموقري، حدثنا الزهري حدثتني أم عبد الله   1 البخاري: الزكاة (1405, 1447, 1459, 1484) , ومسلم: الزكاة (979) , والترمذي: الزكاة (626) , والنسائي: الزكاة (2445, 2446, 2473, 2474, 2475 ,2476, 2483, 2484, 2485, 2486, 2487) , وأبو داود: الزكاة (1558, 1559) , وابن ماجة: الزكاة (1793) , وأحمد (3/6, 3/30, 3/44, 3/59, 3/60, 3/73, 3/74, 3/79, 3/86, 3/97) , ومالك: الزكاة (575, 576) , والدارمي: الزكاة (1633, 1634) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 16 الدوسية، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الجمعة واجبة على كل قرية فيها إمام، وإن لم يكونوا إلا أربعة "، قال الدارقطني: الوليد بن محمد متروك، ولا يصح هذا عن الزهري، كل ما رواه عنه متروك; وأخرجه أيضاً من طريقين آخرين عن الزهري. قال ابن حزم - بعد أن بين أنه لا يصح الاحتجاج به من جهة إسناده -: وأيضاً، فإن أبا حنيفة أول من يخالف هذا الخبر، لأنه لا يرى الجمعة في القرى، لكن في الأمصار فقط. وكل هذه آثار لا تصح، ثم لو صحت لما كان في شيء منها حجة، لأنه ليس في شيء منها إسقاط الجمعة عن أقل من العدد المذكور؛ وقد روي حديث ساقط عن روح بن غطيف وهو مجهول، لما بلغوا مائتين جمع بهم النبي صلى الله عليه وسلم، فإن أخذوا بالاكثر فهذا الخبر هو الأكثر، وإن أخذوا بالاقل فسنذكر إن شاء الله حديثاً فيه أقل. انتهى. القول الرابع: أنها تنعقد بثلاثة: اثنان يستمعان وواحد يخطب; وهو قول الأوزاعي، قاله في الشرح. قلت: وهو رواية عن أحمد، اختاره الشيخ تقي الدين بن تيمية، رحمه الله تعالى، وهذا القول أقوى من كل ما قبله، واحتجوا بقوله تعالى: {فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [سورة الجمعة آية: 9] ، قالوا: وهذا صيغة جمع، وأقل الجمع ثلاثة، وبقوله صلى الله عليه وسلم: " إذا كانوا ثلاثة فليؤمهم أحدهم، وأحقهم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 17 بالامامة أقرؤهم " 1. فأمرهم صلى الله عليه وسلم بالامامة؛ وهو عام في إمامة الصلاة كلها، الجمعة والجماعة، ولأن الأصل وجوب الجمعة على الجماعة المقيمين، وهؤلاء جماعة تجب عليهم، ولا دليل على إسقاطها عنهم أصلاً. القول الخامس: أنها تنعقد باثني عشر رجلاً، وهو قول ربيعة ومالك المشهور عنهما، لما روي " أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى مصعب بالمدينة، فأمره أن يصلي عند الزوال ركعتين، وأن يخطب فيهما؛ فجمع مصعب بن عمير في بيت سعد بن خيثمة باثني عشر رجلاً ". وعن جابر بن عبد الله قال: " بينما نحن نصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم إذ أقبلت عير تحمل طعاماً فانفتلوا إليها، حتى ما بقي مع النبي صلى الله عليه وسلم إلا اثنا عشر رجلاً، فنَزلت هذه الآية: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِماً} "، متفق عليه، واللفظ للبخاري. وفي لفظ عند أبي نعيم في المستخرج: " بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة "، وهو ظاهر في أن انفضاضهم وقع بعد دخولهم في الصلاة، كما قاله الحافظ ابن حجر؛ لكن الذي في صحيح مسلم وغيره: " ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب ". وعلى كلتا الروايتين وجه الدلالة منه ظاهر، لأن العدد المعتبر في إلابتداء معتبر في الدوام في الخطبة والصلاة، فلما لم تبطل الجمعة بانفضاض الزائد على الاثني عشر، دل على أنه كاف.   1 مسلم: المساجد ومواضع الصلاة (672) , والنسائي: الإمامة (840) , وأحمد (3/24, 3/34, 3/36, 3/48, 3/51, 3/84) , والدارمي: الصلاة (1254) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 18 وقد ترجم البخاري، رحمه الله في الصحيح على هذا الحديث: باب إذا نفر الناس عن الإمام في صلاة الجمعة، فصلاة الإمام ومن بقي جائزة. قلت: ولا يخفى على منصف أن هذا الاستدلال أقوى من الاستدلال أنها لا تنعقد إلا بأربعين، بأن أسعد بن زرارة جمع بالصحابة وهم أربعون رجلاً، لكن تعقب هذا الاستدلال بأنه يحتمل أنه عليه السلام تمادى حتى عادوا، أو عاد من تجزئ بهم، أو أنهم سمعوا أركان الخطبة، أو أنه أتمها ظهراً. قلت: ولا يخفى ضعف هذا التعقب، لأنه دعوى بلا برهان، إذ لم ينقل أنهم عادوا وهو في الخطبة، ولا أنه عاد من تجزئ بهم، ولا أنهم سمعوا أركان الخطبة، والأصل عدم العدد; ومثل هذه الاحتمالات لا تدفع بها الأحاديث الصحيحة، ولو فتح هذا الباب لما بقي لأحد حجة إلا القليل، وسلم لكم أنهم عادوا، لكن العدد المعتبر في الابتداء معتبر في الدوام عندكم، وقد عدم هنا في الدوام. وأما كونه أتمها ظهراً، فمن أبطل الباطل، لأنه لا يخلو إما أن يكون الانفضاض وقع وهو في الخطبة، أو وقع وهو في الصلاة فأتمها ظهراً بعد أن نوى جمعة، وعلى كلا التقديرين، فهذا الاحتمال باطل; أما على الأول فلأنه لو صلاها ظهراً لكان هذا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 19 من أشهر الأمور، ولنقل كما نقل حكمه صلى الله عليه وسلم فيما إذا اجتمع عيدان ونحو ذلك، فلما لم ينقل دل على أنه باطل لا أصل له، ولأنه لا يجوز إذا قلتم باشتراط الأربعين أن يعطل رسول الله صلى الله عليه وسلم الجمعة بلا عذر، بل كان يأمرهم بردهم ويصلي بهم الجمعة، وهذا باطل قطعاً. وأما على الثاني فباطل أيضاً، لأنه لو أتمها ظهراً بعد أن دخلها بنية الجمعة، لكان هذا من أشهر الأمور التي لا يجوز على الأمة ترك نقلها وحفظها؛ فلما لم ينقل دل على أنه باطل لا أصل له. فإن قيل: فقد روى الدارقطني والبيهقي في هذا الحديث، من طريق علي بن عاصم عن حصين بن عبد الرحمن عن سالم بن أبي الجعد عن جابر بن عبد الله قال: " بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطبنا يوم الجمعة، إذ أقبلت عير تحمل الطعام حتى نزلوا بالبقيع، فالتفتوا إليها، وانفضوا إليها، وتركوا رسول الله ليس معه إلا أربعون رجلاً أنا فيهم " 1 الحديث. قيل: قال الدارقطني: لم يقل في هذا الإسناد إلا أربعون رجلاً، غير علي بن عاصم عن حصين، وخالفه أصحاب حصين، فقالوا: لم يبق مع النبي صلى الله عليه وسلم إلا اثنا عشر رجلاً. وقال يعقوب بن شيبة: كان، رحمة الله علينا وعليه، من أهل الدين والصلاح والخير البارع شديد التوقي، وللحديث آفات مفسدة. وقال صالح بن محمد:   1 البخاري: البيوع (2064) , ومسلم: الجمعة (863) , والترمذي: تفسير القرآن (3311) , وأحمد (3/370) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 20 ليس هو عندي ممن يكذب، ولكن يهم، وهو سيئ الحفظ كثير الوهم، يغلط في أحاديث يرفعها ويقلبها، وسائر حديثه صحيح مستقيم. وقال زكريا الساجي: كان من أهل الصدق، وليس بالقوي في الحديث. وكان علي بن المديني إذا سئل عن علي بن عاصم، يقول: هو معروف في الحديث، وروى أحاديث منكرة. وقال يحيى بن معين: ليس بشيء ولا يحتج به، روى أحاديث منكرة. وقال أحمد بن زهير: قيل ليحيى بن معين: إن أحمد بن حنبل يقول: إن علي بن عاصم ليس بكذاب، قال: لا والله، ما كان علي عنده ثقة قط، ولا حدث عنه بحرف قط، فكيف صار عنده اليوم ثقة؟ وقال محمود بن غيلان: أسقطه أحمد وابن معين وأبو خيثمة. وقال الذهبي في مختصر السنن: علي بن عاصم واه. قلت: وبالجملة، فهو رجل صالح، ولكن كما قيل: وللحديث رجال يعرفون به ... وللدواوين كتّاب وحسّابُ فإن قيل: حديث جابر قد قيل إنه كان لما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقدم الصلاة يوم الجمعة على الخطبة، كما رواه أبو داود في كتاب المراسيل، حيث قال: حدثنا محمود بن خالد عن الوليد، أخبرني أبو معاذ بكير بن معروف، أنه سمع مقاتل بن حيان قال: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي يوم الجمعة قبل الخطبة مثل العيدين، حتى إذا كان يوم والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب، وقد صلى الجمعة، فدخل رجل فقال: إن دحية بن خليفة قد الجزء: 5 ¦ الصفحة: 21 قدم بتجارة، يعني: فانفضوا ولم يبق معه إلا نفر يسير "، قيل: الجواب من وجوه: الأول: أنه لم يرد في الأحاديث الصحاح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقدم الصلاة يوم الجمعة على الخطبة، إلا في هذا الحديث المعضل؛ فلا يثبت به شيء. الثاني: أن بكير بن معروف فيه مقال؛ قال فيه ابن المبارك: ارم به. وقال أحمد بن حنبل في رواية ابنه عبد الله: ذاهب الحديث. وقال في رواية البخاري: لا أرى به بأساً؛ ونحوه قول أبي حاتم والنسائي. وقال الذهبي في المغني: وهاه ابن المبارك. وقال ابن عدي: أرجو أن لا بأس به. الثالث: أن هذا معضل، لأن مقاتل بن حيان من أتباع التابعين، وبينه وبين العصر النبوي مفاوز. والقول السادس: أنه إذا كان واحد مع الإمام، صليا الجمعة؛ وبه قال إبراهيم النخعي، والحسن بن صالح بن حي، وداود، وأهل الظاهر؛ وحجة أهل هذا القول، أن الله تعالى قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [سورة الجمعة آية: 9] ، فأمر الله المؤمنين عموماً بالسعي إلى الجمعة بلفظ صالح للعموم، كما أمرهم بطاعته وطاعة رسوله بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [سورة النساء آية: 59] ؛ فالأمر بالسعي إلى الجمعة إذا نودي إليها عام، كما أن الأمر بطاعة الله ورسوله عام، إذ هما في اللفظ واحد، فلا يجوز أن يخرج الجزء: 5 ¦ الصفحة: 22 عن هذا الأمر وعن هذا الحكم أحد، إلا من جاء بنص جلي، أو إجماع متيقن على خروجه عنه، وليس ذلك إلا للفذ وحده. قالوا: ولأنه قد ثبت بالاجماع أنه لا بد للجمعة من عدد، فكان اثنين، لحديث مالك بن الحويرث الذي في الصحيح، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا سافرتما فأذنا وأقيما، وليؤمكما أكبركما " 1، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم للاثنين حكم الجماعة في الصلاة، فكذلك الجمعة. قالوا: ولحديث طارق بن شهاب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " الجمعة حق واجب على كل مسلم في جماعة " 2 الحديث; فأوجبها صلى الله عليه وسلم في الجماعة مطلقاً من غير قيد بعدد من الأعداد؛ والمطلق في كلام الشارع محمول على المقيد; فنظرنا إلى لفظ الجماعة في لسان الشارع، فوجدناه اثنين فأكثر، لحديث مالك بن الحويرث الذي تقدم، ولقوله صلى الله عليه وسلم: " اثنان فما فوقهما جماعة " 3، رواه ابن ماجة وابن عدي والدارقطني، والبيهقي وضعفه عن أبي موسى، ورواه أحمد في مسنده، والطبراني وابن عدي عن أبي أمامة، ورواه ابن سعد والبغوي وأبو منصور الماوردي عن الحكم بن عمير; ورواه الدارقطني من رواية عثمان بن عبد الرحمن المدني عن أبيه عن جده عمرو بن العاص، وعثمان بن عبد الرحمن هذا، قيل: لعله القاضي، تركوه. وبالجملة: فهو بالنظر إلى كثرة طرقه   1 البخاري: الأذان (628) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (674) , والترمذي: الصلاة (205) , والنسائي: الأذان (634, 635, 669) والإمامة (781) , وأبو داود: الصلاة (589) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (979) , وأحمد (3/436, 5/53) , والدارمي: الصلاة (1253) . 2 أبو داود: الصلاة (1067) . 3 ابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (972) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 23 ورواته، تفيد الحديث قوة، على أنه ليس الاعتماد عليه وحده، بل على حديث مالك بن الحويرث السابق، وهذا القول كما ترى في القوة. فإن قيل: لو كانت واجبة على الاثنين، لفعل هذا وقت السلف، قيل: ما أبعد هذا الاعتراض، فإن العادة أن القرى لا تبنى لاثنين ولا لثلاثة ونحوهم؛ فكون هذا لم يفعل في وقت السلف، لا يدل على عدم الوجوب، لأنه إنما لم يفعل لتخلف سببه، وهو سكنى اثنين في قرية، لأن هذا لا يعهد، وإنما نتكلم فيه على تقدير أن لو وجد هذا، لكان هذا هو الحكم لما ذكرنا. ولضعف هذا الاعتراض، لم يلتفت إليه أحمد في رواية عنه، ولا شيخ الإسلام ابن تيمية في القول بوجوبها على ثلاثة، ولا كل من قال بوجوبها على ثلاثة، لعلمهم أن هذا اعتراض غير صحيح. فإن قيل: الأصل براءة الذمة، فلا نشغلها إلا بدليل على شغلها، قيل: صدقتم كان الأصل براءة الذمة من صلاة الجماعة أصلاً، فلما ورد الأمر بها كان الأصل الشغل، فلا ننتقل عنه إلا بدليل يدل على إسقاط شغلها، ولا دليل على ذلك أصلاً إلا في الواحد. فإن قيل: هذا الدليل غير كاف في شغل الذمة، قيل: كون الوجوب هو الأصل كاف في شغلها، إذ لا ينتقل عنه إلا بدليل يدل على إسقاطها عمن دون الأربعين، ولا دليل على ذلك، فكيف إذا انضم إلى هذا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 24 الأصل ما ذكرنا من الأدلة؟ وكم بدون هذا الدليل تشغلون الذمم، وتؤذون الأمم، كما أشغلتموها بإيجاب الجمعة على من كان بينه وبين موضع الجمعة فرسخ، إذا كان خارج المصر! ولا دليل على ذلك. وكما أشغلتموها بقراءة آية من القرآن، في خطبتي الجمعة بغير دليل، وكما أشغلتموها بأنه يحضر أربعون رجلاً من أهل الجمعة الخطبة بغير دليل، وكما أشغلتموها بأنها لا تصح الخطبة قبل وقت الجمعة، وليس على ذلك دليل، وكما أشغلتموها بإيجاب الزكاة في الباقلا، والكراويا والكمون والكسفر، وبزر الكتان والقثاء والخيار، وحب الرشاد والفجل والقرطم والترمس والسمسم، وأسقطتموها عن بزر الباذنجان والقت والجزر، والسدر والأشنان والخطمي، والصعتر والآس ونحو ذلك، فتارة تشغلونها بغير دليل، وتارة تبرئونها بغير دليل. وكما أشغلتموها فيما إذا كان عليه صوم رمضان فأخر قضاءه من غير عذر إلى رمضان آخر، أن عليه القضاء وإطعام مسكين لكل يوم بغير دليل صحيح، مع مخالفته لقول الله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [سورة البقرة آية: 184] ، ثم قلتم: إن مات قبل أن يدركه رمضان آخر أطعم عنه لكل يوم مسكين، فأسقطتم عنه القضاء بغير دليل، وأشغلتم ذمته بالاطعام بغير دليل صحيح، مع الجزء: 5 ¦ الصفحة: 25 مخالفته صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: " من مات وعليه صوم، صام عنه وليه " 1 إلى غير ذلك، وكما أشغلتموها بإيجاب الدم على من حلق ثلاث شعرات من رأسه أو نتفها من أنفه، أو قلم ثلاثة أظفار في الإحرام بغير دليل على ذلك، مما تشغلون به الذمم بغير دليل صحيح، مما لو تتبعناه لطال الكلام. القول السابع: أنها تنعقد بستة، وهو قول ربيعة في رواية عنه، ولا أدري ما وجهه؛ والمشهور عن ربيعة: أنها تنعقد باثني عشر، كما حكيناه عنه. القول الثامن: أنها تنعقد بسبعة، وهو قول عكرمة، ورواية عن أحمد ذكرها ابن حامد، وأبو الحسين في رؤوس المسائل. القول التاسع: أنها تنعقد بعشرين، رواه ابن حبيب عن مالك. القول العاشر: أنها تنعقد بثلاثين، حكاه ابن حزم عن بعضهم. الحادي عشر: أنها تنعقد بثمانين حكاه الماوردي عن الشافعية. القول الثاني عشر: أنها تنعقد بثلاثة من أهل القرى، وبأربعين من أهل الأمصار، وهذا رواية عن أحمد ذكرها ابن عقيل. قال صاحب الحاوي من الحنابلة: وهو الأصح عندي، وقيل فيها غير ذلك. واحتج من قال إنها لا تنعقد إلا بحضور أربعين من أهل وجوبها، بما رواه الدارقطني والبيهقي من طريق إسحاق بن خالد بن يزيد: حدثنا عبد العزيز بن عبد الرحمن، حدثنا خصيف عن عطاء بن أبي رباح عن   1 البخاري: الصوم (1952) , ومسلم: الصيام (1147) , وأبو داود: الصوم (2400) , وأحمد (6/69) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 26 جابر قال: " مضت السنة أن في كل ثلاثة إماماً، وفي كل أربعين فصاعدا جمعة، وأضحى، وفطر "، قالوا: فهذا صريح في أنها تجب على الأربعين، فمفهومه أنها لا تجب على من دونهم; قلنا: هذا حديث ساقط، لأنه من رواية عبد العزيز بن عبد الرحمن، وهو ضعيف. قال البيهقي: هذا حديث لا يحتج به، ثم لو صح فليس فيه حجة علينا، لأنا نقول بموجبه. وأيضاً، فإن كان حجة في اشتراط الأربعين للجمعة، فليكن حجة في إلاشتراط للجماعة، ولا تقولون به، قالوا: قد قال أبو داود في سننه: حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا ابن إدريس عن محمد بن إسحاق عن محمد بن أبي أمامة بن سهل عن أبيه عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، وكان قائد أبيه بعد ما ذهب بصره، عن أبيه كعب بن مالك " أنه كان إذا سمع النداء يوم الجمعة ترحم لأسعد بن زرارة، فقلت له: إذا سمعت النداء ترحمت لأسعد بن زرارة؟ قال: لأنه أول من جمع بنا في هزم النبيت، من حرة بني بياضة، في نقيع يقال له نقيع الخضمات، قلت: كم أنتم يومئذ؟ قال: أربعون "، وأخرجه ابن ماجة، وابن حبان، وابن خزيمة، والدارقطني، والحاكم، والبيهقي وقال: هذا حديث حسن الإسناد; وصحح إسناده ابن المنذر، وابن حزم وغيرهم. قالوا: فوجه الدلالة منه، أن يقال: أجمعت الأمة على الجزء: 5 ¦ الصفحة: 27 اشتراط العدد، ولا تصح الجمعة إلا بعدد يثبت فيه التوقيف، وقد ثبت جوازها بأربعين، فلا يجوز أقل منه إلا بدليل صحيح، ولم يثبت صلاته صلى الله عليه وسلم لها بأقل من أربعين؛ قال البدر الزركشي: ووجهه بعضهم بأن قال: هذه أول جمعة كانت في الإسلام، وكان فرضها نزل بمكة، وكان بالمدينة من المسلمين أربعون أو أكثر ممن هاجر إليها، وأكثر ممن أسلم بها، ثم لم يصلوا سنتين كذلك، حتى كان العدد أربعين؛ فدل على أنها لا تجب على أقل منهم. والجواب من وجوه: الأول: ما قاله ابن المنذر وابن حزم، وهذا لفظه: أنه لا حجة في هذا، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقل أنه لا تجوز الجمعة بأقل من هذا العدد؛ نعم والجمعة واجبة بأربعين، وبأكثر من أربعين، وأقل من أربعين. الثاني: قوله: وقد ثبت جوازها بأربعين، فيقال: لم يثبت جوازها بأربعين من دليلكم هذا، كما تعرف إن شاء الله تعالى. الثالث: قوله: ولا تصح الجمعة إلا بعدد يثبت فيه التوقيف، دعوى مجردة، بل إذا ثبت اشتراط العدد لها، ولم يبين الرسول صلى الله عليه وسلم عدداً لها محصوراً، دل على جوازها بأقل ما يكون من الأعداد، إلا الواحد، للسنة والإجماع أنها لا تجب عليه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 28 الرابع: قوله: ولم يثبت صلاته صلى الله عليه وسلم لها بأقل من أربعين، إن أراد أنه لم يثبت صريحاً أنه صلاها كاملة بدون الأربعين، فهو كذلك، وإن أراد أنه لم يثبت أنه صلاها بدون الأربعين، سواء كان نصاً أو ظاهراً، أو بعضها أو كلها، فهذا يرده ما تقدم في حديث جابر، أخرجه البخاري: " بينما نحن نصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أقبلت عير تحمل طعاماً، فانفتلوا إليها حتى ما بقي مع النبي صلى الله عليه وسلم إلا اثنا عشر رجلاً " 1 الحديث، وفي لفظ أبي نعيم، في المستخرج: " بينما نحن مع النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة "، قال الحافظ ابن حجر: وهو ظاهر في أن انفضاضهم وقع بعد دخولهم في الصلاة، ومن وجه آخر: أن الذين اشترطوا الأربعين يقولون: إن العدد المشترط في الابتداء مشترط في الدوام، فإذا كان كذلك، وهم قد انفضوا عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة، سواء صلاها بمن بقي كما فهم البخاري، أو عادوا فأتم بهم الصلاة، أو كان انفضاضهم وقع في الخطبة، أيما كان فإنه يلزم على أصلهم هذا جوازها بدون الأربعين، وإلا انتقض أصلهم; والاحتمإلات التي ذكروها في الجواب عن هذا الحديث كلها باطلة، وإنما هي رجم بالغيب. الخامس: قول هذا الموجه: إن هذه أول جمعة كانت في الإسلام ظن وتخمين، فقد ورد أن مصعب بن عمير صلاها باثني عشر، كما سيأتي إن شاء الله في المعارضة، ولا منافاة   1 البخاري: الجمعة (936) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 29 بين قول كعب: إن أسعد بن زرارة أول من جمع بهم، وبين قصة تجميع مصعب باثني عشر، فقد يحتمل أن يكون قول كعب: أنه أول من جمع بهم، بمعنى أنه لم يعلم أنه جمع بهم قبله، أو أنه أول من جمع بهم ظاهراً، أو أنه أول من أشار بالجمعة، وكان ذلك باجتهاد منه رضي الله عنه، فوفق لإصابة الحق في اختيار هذا اليوم؛ وأما اشتراط هذا العدد فليس في الحديث. السادس: أن في كلام هذا الموجه ما يرد دعواه، وهو قوله: وكان بالمدينة أربعون أو أكثر ممن هاجر إليها، مع قوله: وكان فرضها نزل بمكة; ووجه الرد أن يقال: إذا كان في المدينة أكثر من الأربعين من المسلمين، وأنت تزعم أنها فرضت بمكة، فلم أقاموا سنتين لم يصلوها على زعمك، مع وجود العدد المشترط لها؟ السابع: قوله: ثم لم يصلوا كذلك حتى كان العدد أربعين، فيقال: هذا الكلام يفهم أنهم قصدوا أن لا يصلوها حتى يبلغ العدد أربعين، وهذا كذب على الصحابة؛ فمن قال إنهم قصدوا أن لا يصلوها حتى كان العدد أربعين، إنما كان فيه بعض دلالة لو ثبت أنهم قصدوا أن لا يصلوها حتى يبلغ العدد أربعين، فهذا يدل على أن هذا العدد وقع اتفاقاً لا مشروطاً، وهو واضح. الثامن: لو ثبت أن هذه الجمعة التي صلاها الصحابة، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 30 رضي الله عنهم، فرض عليهم وأن الأربعين شرط لما ذكرتموه من هذا الحديث، لوجب على أصلكم أنه يشترط في الابتداء أن يكون هذا الحديث منسوخاً بحديث جابر الذي في قصة إلانفضاض، لأن هذا قبل مقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، وحديث جابر بعد ما قدمها، سواء كان الانفضاض واقعاً في الصلاة أو في الخطبة، إذ لا بد عندكم أن يحضر العدد المشترط أركان الخطبة والصلاة، ولم يصح أنهم حضروا شيئاً من ذلك. التاسع: أنه لو ثبت أنهم قصدوا أن لا يصلوها حتى يبلغ العدد أربعين، لم يكن في ذلك حجة أيضاً على أصلكم أنه يشترط في الدوام ما يشترط في الابتداء، لأن غاية حديث كعب أن يكون من فعل الصحابة، وحديث جابر من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا شك أن فعله أحق وأولى بالاتباع من فعل غيره؛ وهو ينقض عليكم دعواكم أنه يعتبر في الدوام ما يعتبر في الابتداء، لأنه لو كان كما قلتم لبطلت جمعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحاشا لله من ذلك. العاشر: المعارضة بما رواه أبو داود في مراسيله عن الزهري، أن مصعب بن عمير حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، جمع بهم وهم اثنا عشر رجلاً، وقد وصله الطبراني في كتاب الأوائل، من طريق صالح بن أبي الأخضر عن الزهري عن أبي بكر بن عبد الرحمن عن عقبة بن عامر أبي مسعود الأنصاري، قال: " أول من جمع بالمدينة قبل أن يقدم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 31 النبي صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير، وهم اثنا عشر "، وصالح بن أبي الأخضر وإن ضعفه الأكثر، فقد قال الإمام أحمد: يستدل به، يعتبر به; وقال الذهبي في الميزان: صالح الحديث، فقد علمت أنه ليس في حديثه ما يترك بل يعتبر به، وإنما يترك حديثه إذا عارضه ما هو أصح منه، ولم يعارضه هنا معارض أصلاً، وحديث كعب لا يعارضه، لأن كعب بن مالك حكى ما شاهده وحفظه في الجمعة التي حضرها، وغيره حكى ما شاهده وحفظه في الجمعة التي حضرها، فلا منافاة بينهما؛ وقد جمع بينهما البيهقي بأن المراد بالاثني عشر النقباء الذين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم في صحبتهم، أو على أثرهم إلى المدينة ليقرئ المسلمين ويصلي بهم; ولا يخفى تكلف هذا الجمع، على أن كلام البيهقي هذا قد يدل على ثبوت هذا الحديث عنده، أو حسنه وصلاحيته للحجة، إذ لو لم يكن كذلك لما احتاج إلى الجمع بينهما، بل كان يكتفي بضعفه عن الجمع بينهما، وإن كان حديث كعب أصح إسناداً. الحادي عشر: ما قاله الإمام الحافظ السيوطي: إن تجميع الصحابة كان قبل فرضها وتسميتهم إياها بهذا الاسم، كان عن هداية من الله تعالى لهم قبل أن يؤمروا بها، ثم نزلت سورة الجمعة بعد أن هاجر النبي صلى الله عليه وسلم، فاستقر فرضها؛ وهذا قول الأكثر من العلماء، أنه لم ينْزل فرض الجمعة إلا بعد الهجرة إلى المدينة، كما حكاه في الفتح عن الأكثر. وحكى عن الشيخ أبي حامد - يعني الإسفراييني - أنها فرضت الجزء: 5 ¦ الصفحة: 32 بمكة، قال الحافظ: وهو غريب، كذا قال تلميذه الكوراني في شرحه للبخاري، بعد أن حكى قول أبي حامد، وهو غير ظاهر. ثم ذكر السهيلي عن الحافظ عبد بن حميد، شيخ مسلم وأبي داود وصاحب المسند والتفسير: حدثنا عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن ابن سيرين قال: " جمع أهل المدينة قبل أن يقدم النبي صلى الله عليه وسلم وقبل أن تنْزل الجمعة، قالت الأنصار: لليهود يوم يجتمعون فيه كل سبعة أيام، وللنصارى مثل ذلك، فهلم فلنجعل يوماً نجتمع فيه، فنذكر الله تعالى ونشكره، أو كما قال; فقالوا: يوم السبت لليهود، ويوم الأحد للنصارى، فاجعلوا يوم العروبة; وكانوا يسمون يوم الجمعة يوم العروبة. فاجتمعوا إلى أسعد بن زرارة، فصلى بهم يومئذ ركعتين، وسموا: "الجمعة" حين اجتمعوا إليه، فذبح لهم شاة فتغدوا وتعشوا من شاته ليلتهم، فأنزل الله في ذلك بعد: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} ". قلت: وقد أخرجه عبد الرزاق أيضاً؛ وفي هذا دليل على أنهم كانوا عدداً قليلاً دون الأربعين، إذ لا يمكن في العادة أن يتغدى الأربعون ويتعشوا من شاة. ويدل أنهم صلوا هذه الجمعة باجتهاد، فأصابوا الحديث الذي في الصحيح: " نحن الآخرون، السابقون يوم القيامة؛ بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم. ثم هذا يومهم الذي أمروا به الجزء: 5 ¦ الصفحة: 33 فاختلفوا فيه، فهدانا الله له " 1 الحديث. فمرسل ابن سيرين مع هذا الحديث، يدل على أن أولئك الصحابة فعلوه بالاجتهاد، واختاروا يوم الجمعة، ولا يمنع ذلك كون النبي صلى الله عليه وسلم علمه بالوحي وهو بمكة، ولم يتمكن من إقامتها إن سلم أنها فرضت بمكة؛ فعلى هذا فقد حصلت الهداية بجهتي التوفيق والبيان، على أحد ما قيل في معنى قوله: " فهدانا الله له ". قالوا: قد روي عن أبي الدرداء رضي الله عنه: " إذا اجتمع الأربعون رجلاً فعليهم الجمعة " 2، قلنا: هذا الحديث باطل لا أصل له، ولا يعرف في شيء من كتب الحديث، ولو صح لما كان فيه حجة أصلاً، لأنا نقول بموجبه. قالوا: قال أبو أمامة رضي الله عنه: " لا جمعة إلا بأربعين "، قلنا: دعوى التشبث بالواهيات والأباطيل، فلا يعرف ذلك عن أبي أمامة أصلاً، بل قد جاء عنه خلافه، كما تقدم من رواية الدارقطني؛ فإن كان هذا الحديث المنكر الذي لا يعرف أصلاً حجة، فلتكن الحجة بحديثه المنكر الساقط: " على الخمسين جمعة، ليس فيما دون ذلك " 3، كما تقدم من رواية الدارقطني. قالوا: التقدير بالثلاثة والأربعة والاثنين تحكم بالرأي فيما لا مدخل للرأي فيه، لأن التقدير بابه التوقيف، قال لهم كل من قال بذلك: اشتراطكم الأربعين العقلاء الحاضرين الذكور الأحرار، هو التحكم بالرأي فيما لا مدخل للرأي فيه، وهو إسقاطكم الجمعة عما دون الأربعين، بعد أن أوجبها الله   1 البخاري: الجمعة (876) , ومسلم: الجمعة (855) , والنسائي: الجمعة (1367) , وأحمد (2/249, 2/274, 2/312, 2/341, 2/502) . 2 سنن النسائي: كتاب صلاة العيدين (1590) , وسنن أبي داود: كتاب الأطعمة (3756) , ومسند أحمد (2/121, 3/34, 3/36, 3/51, 3/84, 5/408) , وسنن الدارمي: كتاب الصلاة (1184, 1254) وكتاب الفرائض (3087) . 3 البخاري: الزكاة (1405, 1447, 1459, 1484) , ومسلم: الزكاة (979) , والترمذي: الزكاة (626) , والنسائي: الزكاة (2445, 2446, 2473, 2474, 2475 , 2476, 2483, 2484, 2485, 2486, 2487) , وأبو داود: الزكاة (1558, 1559) , وابن ماجة: الزكاة (1793) , وأحمد (3/6, 3/30, 3/44, 3/59, 3/60, 3/73, 3/74, 3/79, 3/86, 3/97) , ومالك: الزكاة (575, 576) , والدارمي: الزكاة (1633, 1634) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 34 على عموم المؤمنين؛ فإن هذا هو التحكم بالرأي الذي لا دليل عليه، من كتاب ولا سنة ولا إجماع، ولا قول صاحب ولا قياس صحيح. ثم اشتراطكم كون الأربعين من أهل وجوبها، تحكم ثان لا دليل عليه أصلاً من كتاب ولا سنة ولا إجماع، لأن غاية ما معكم في اشتراط الأربعين حديث كعب، وقد تبين أنه ليس فيه دليل على اشتراط الأربعين؛ ثم لو كان فيه دليل على الاشتراط، لما كان فيه دليل على كونهم من أهل وجوبها، إذ ليس فيه إلا أنهم كانوا أربعين فقط، لا أنهم كانوا من أهل وجوبها، ولا أنّهم كانوا أحراراً كلهم، بل يحتمل أن يكون فيهم عبيد وصبيان؛ فهذا هو التحكم المحض في دين الله تعالى بغير دليل. وبما ذكرناه وقررناه: يتبين للذكي المنصف طريق الصواب، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل، والله أعلم، وصلى الله على محمد. وأجاب الشيخ عبد الله أبا بطين: وأما العدد المشترط لوجوب الجمعة وصحتها، فالمشهور في مذهب أحمد والشافعي: اشتراط الأربعين; وأبو حنيفة ومالك لا يرون اشتراط الأربعين، بل أبو حنيفة، يقول: تصح من ثلاثة، وكان فعلها ظهراً إذا نقصوا عن الأربعين أحوط. وأجاب أيضاً: وأما عدد الجمعة واعتباره وعدم اعتبار ذلك، فالخلاف فيه مشهور، وأظن عادة جماعتك في الجزء: 5 ¦ الصفحة: 35 السابق، أنهم يصلون جمعة مع نقصهم عن الأربعين، وأنهم فعلوا ذلك بفتوى مفت، فإن استمررتم على عادتهم، فأرجو أن لا بأس، فإن أحبوا أنهم يصلون ظهراً ولا يجمعون، فهو فيما أرى أحوط. وأجاب الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن: اعلم أنهم اتفقوا على أن من شرط وجوبها وصحتها: الجماعة؛ واختلفوا في مقدار الجماعة: فمنهم من قال: واحد والإمام، هذا مذكور عن ابن جرير الطبري. ومنهم من قال: اثنان سوى الإمام، لأن أقل الجمع عنده اثنان. ومنهم من قال: ثلاثة دون الإمام; وقائل هذا يرى أن أقل الجمع ثلاثة، لا اثنان؛ والكلام مبسوط في أقل الجمع في شرح التحرير وغيره؛ والقول الأخير، هو قول أبي حنيفة. ومنهم من اشترط أربعين، وهو قول الشافعي وأحمد. وقال قوم: ثلاثون. ومنهم من قال: يجوز بما دون الأربعين إلى الثلاثة والأربعة، ولم يشترط عدداً، وإنما ذكر جواباً أورده، وهو: أنه لا تجب إلا على عدد تتقرى بهم قرية; وأصحاب القولين الأولين أخرجوا الأخير، يقولون: الجمع في غالب الأحوال له حكم، غير ما يطلق عليه اسم الجمع في جميعها، بل هم الذين يمكنهم أن يسكنوا على حدة من الناس؛ وهذا يروى عن مالك، وروي عنه: اشتراط اثني عشر من أهل الوجوب، وكلا القولين معروف. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 36 ومن اشترط الأربعين، كالشافعي وأحمد وجماعة من السلف، فإنما صاروا إلى ما صح، من أن هذا العدد كان في أول جمعة صليت بالناس. فهذا هو أحد شروطها، أعني شروط الوجوب لا شروط الصحة، فإن من الشروط ما هو شرط للوجوب فقط لا الصحة، وهذا من أحسن الأقوال; وبه يتفق غالب كلام المختلفين. إذا عرفت هذا، فإنهم اختلفوا أيضاً في الأحوال الراتبة، التي اقترنت بهذه الصلاة عند فعله إياها صلى الله عليه وسلم هل هي شرط للصحة والوجوب، أم ليست بشرط؟ وتلك: الجماعة، والمصر والاستيطان، فمن رآه دليلاً اشترطها، ومنهم من رجح بعضها دون بعض، واشترط المرجح لا غير، وبعضهم لم يرها دليلاً، ورجع في الاشتراط والوجوب إلى أدلة أخر، لعموم الجماعة في سائر الصلوات. ولقائل أن يقول: لو كانت هذه الأحوال شروطاً في صحة الصلاة، لما جاز أن يسكت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أن يترك بيانها، لقوله تعالى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [سورة النحل آية: 44] . سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عن قول بعض الناس: لا تصح الجمعة خلف إمام لم يتزوج؟ فأجاب: وأما صلاة الجمعة خلف إمام لم يتزوج، فليس الزواج بشرط، وإنما الشرط البلوغ، والاستيطان. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 37 سئل الشيخ عبد اللطيف: عمن فاتته صلاة الجمعة ... إلخ؟ فأجاب: من فاتته صلاة الجمعة، وقد صلاها الإمام قبل الزوال، فيصليها ظهراً بعد الزوال. انتهى. سئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله، قال السائل: خطبت، ووقفت على: يوم يبعثر ما في القبور ويحصل ما في الصدور، ثم قلت: جعلنا الله وإياكم من الآمنين، الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، بارك الله لي ولكم ... إلخ، ولا فطنت إلا بعد انقضاء الصلاة، ثم تأملت: يوم يبعثر ما في القبور ... إلخ، فإذا كأنها آية تقوم بالمعنى ... إلخ؟ فأجاب: ما علمت فيها خلافاً، وأرجو أنها تامة. قال الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: ومن البدع المذمومة التي ننهى عنها: قراءة الحديث عن أبي هريرة، بين يدي الخطبة، وقد صرح شارح الجامع الصغير، بأنه بدعة. سئل الشيخ سعيد بن حجي: عن اتحاد الخطيب والإمام ... إلخ؟ فأجاب: ما ذكرتم من الدليل ومذاهب الأئمة الأربعة، فهو ما نحن عليه، وهو: أن اتباع محمد صلى الله عليه وسلم أن الخطيب هو الإمام، لمداومته عليه، وأن الاستخلاف لعذر جائز عند الأئمة الأربعة، وأما من استخلف لغير عذر فهل ينكر عليه، أم لا؟ فهذا مبني على معرفة المنكر، الذي يجب إنكاره. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 38 وذكر كلام الشيخ ابن رجب في المنكر الذي يجب إنكاره، وكلام غيره. ثم قال: فقد علمت، رحمك الله: أنه لا ينكر إلا ما خالف كتاباً، أو سنة أو إجماعا، ً أو قياساً جلياً على القول به، أو ما ضعف فيه الخلاف، وأنه لا ينكر على خطيب استخلف من يصلي يوم الجمعة، بعد ما خطب هو لغير عذر؛ هذا هو المذهب عند متأخري الحنابلة، كما قاله صاحب الإقناع وغيره، قال: ولا يشترط لها، أي: الخطبتين أن يتولاهما من يتولى الصلاة، ولا حضور النائب الخطبة، وهو الذي صلى الصلاة ولم يخطب، ولا أن يتولى الخطبتين واحد، بل يستحب ذلك. سئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن: عمن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ويترضى عن الصحابة، رضي الله عنهم، جهراً، والإمام يخطب يوم الجمعة؟ فأجاب: الجهر بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم والترضي حال الخطبة من غير الخطيب بدعة مخالفة للشريعة، منع منها طوائف العلماء سلفاً وخلفاً، ولهم فيه مأخذان: الأول: أنه من محدثات الأمور، التي لم تفعل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا في عهد أصحابه، ولا التابعين، ولو كان خيراً سبقونا إليه. الثاني: أن الأحاديث ثبتت بالامر بالانصات للخطبة؛ فقد صح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 39 أنه قال: " إذا قلت لصاحبك: أنصت، والإمام يخطب يوم الجمعة، فقد لغوت " 1، قال في كتاب الباعث على إنكار البدع والحوادث: الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم إنما هي دعاء، وجميع الأدعية المأمور بها، السنة فيها الإسرار دون الجهر غالباً. قلت: وهذا مأخذ ثالث للمنع; قال شيخ الإسلام: الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم والترضي عن الصحابة، رضي الله عنهم، دعاء من الأدعية، والمشروع في الدعاء كله المخافتة، إلا أن يكون هناك سبب يشرع له الجهر، قال: وأما رفع الصوت بالصلاة والترضي الذي يفعله بعض المؤذنين قدام الخطباء في الجمع، فمكروه أو محرم. انتهى. وأجاب الشيخ عبد الرحمن بن حسن أيضاً: وأما الناس الذين يجتمعون، ويصلون على النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا ليس مشروعاً; وإنما المشروع: الصلاة وقراءة القرآن قبل دخول الإمام، فإذا دخل الإمام وأخذ في الخطبة، وجب الإنصات للخطبة، كما في الحديث: " إذا قلت لصاحبك: أنصت، والإمام يخطب، فقد لغوت " 2. وسئل: عن تقدم الخطيب في المسجد ... إلخ؟ فأجاب: وأما تقدم الخطيب في المسجد، يصلي ويقرأ قبل الخطبة والصلاة، فلا بأس به؛ لكن ينبغي أن يكون في ناحية، يراه المأمومون إذا خرج إليهم للخطبة.   1 البخاري: الجمعة (934) , ومسلم: الجمعة (851) , والترمذي: الجمعة (512) , والنسائي: صلاة العيدين (1577) , وأبو داود: الصلاة (1112) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1110) , وأحمد (2/244, 2/272, 2/280, 2/393, 2/396, 2/485, 2/518, 2/532) , ومالك: النداء للصلاة (232) , والدارمي: الصلاة (1548, 1549) . 2 البخاري: الجمعة (934) , ومسلم: الجمعة (851) , والترمذي: الجمعة (512) , والنسائي: صلاة العيدين (1577) , وأبو داود: الصلاة (1112) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1110) , وأحمد (2/244, 2/272, 2/280, 2/393, 2/396, 2/485, 2/518, 2/532) , ومالك: النداء للصلاة (232) , والدارمي: الصلاة (1548, 1549) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 40 سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عن الدعاء في الخطبة لمعين ... إلخ؟ فأجاب: احتجاج بعض الناس بقول بعض العلماء: يباح الدعاء في الخطبة لمعين، ولم يقولوا: يسن; وأيضاً، فالدعاء حسن، يدعى له بأن الله يصلحه ويسدده، ويصلح به وينصره على الكفار وأهل الفساد، بخلاف ما في بعض الخطب، من الثناء والمدح بالكذب. وولي الأمر إنما يدعى له، لا يمدح لا سيما بما ليس فيه؛ وهؤلاء الذين يمدحون في الخطب، هم الذين أماتوا الدين، فمادحهم مخطئ، فليس في الولاة اليوم من يستحق المدح، ولا أن يثنى عليه، وإنما يدعى لهم بالتوفيق والهداية. والواجب على ولي الأمر أولاً، البداءة برعيته بإلزامهم شرائع الإسلام، وإزالة المنكرات، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإقامة الحدود، فهذا أهم وأوجب من جهاد العدو الكافر، وهذا مما يستعان به على جهاد الكفار، كما روي: " إنما تقاتلون من تقاتلون بأعمالكم ". وأما الجلسة بين الخطبتين، فلا علمت فيها ذكراً، لكن إن دعا في تلك الحال بما أحب فحسن. وأما الدعاء عند دخول الإمام يوم الجمعة، وبين الخطبتين، فلا علمت فيه شيئاً، ولا ينكر على فاعله الذي يتحرى ساعة الإجابة المذكورة في يوم الجمعة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 41 [فصل في تعدد الجمعة] قال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن، رحمهم الله: اعلموا أن الذي عليه جمهور أهل العلم، تحريم تعدد الجمعة في قرية واحدة يشملها اسم القرية، وكذا ما قرب منها عرفاً أو سمع النداء؛ فلا يجوز تعدد الجمعة وتفريق جماعة المسلمين إلا لحاجة، كضيق المسجد وبعدهم عن القرية. وقد كان الناس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتون الجمعة من العوالي وما حاذاها، وهي على ثلاثة أميال من المدينة، وجرى العمل بذلك على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهد أبي بكر وعمر ومن بعدهم. وصرح علماؤنا ببطلان صلاة من صلى جمعة ثانية، بغير إذن الإمام وبغير حاجة داعية، وأوجبوا عليه الإعادة ظهراً; وقواعد الشريعة تدل على هذا، فالجماعة إنما شرعت للائتلاف والمودة والإعانة على ذكر الله، وتفقه أهل الإسلام بعضهم من بعض، وتحصيل الفضل بالكثرة، وإغاظة العدو بترك الفرقة. ودلت أصول الشرع أيضاً على تحريم ما أوجب الفرقة، واختلاف الكلمة والمشاقة، قال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} [سورة آل عمران آية: 103] . وانفرادهم عن الجماعة بالسكنى في عقدة 1 أخرى، لا   1 هي: المحلة المحاطة بسور يفصلها عن غيرها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 42 يبيح مفارقة الجماعة بإحداث جمعة أخرى؛ ومن رأى هذا من المسوغات والمبيحات لهذا الفعل المخالف لأصول الشرع، فهو مصاب في عقله. سئل الشيخ محمد بن عبد اللطيف، والشيخ سليمان بن سحمان: عن صلاة أمير الوادي 1 في قصره لأجل التحفظ؟ فأجابا: العلماء، رحمهم الله، قد ذكروا في ذلك ما يشفي ويكفي، وهو غير خاف إذا كان ذلك للحاجة؛ قال في الإقناع وشرحه: ويجوز إقامتها، أي: الجمعة في أكثر من موضع في البلد لحاجة إليه، كضيق مسجد البلد عن أهله، وخوف فتنة بأن يكون بين أهل البلد عداوة يخشى إثارة الفتنة باجتماعهم في مسجد واحد، وبعد جامع عن طائفة من البلد ونحوه، كسعة البلد وتباعد أقطارها، فتصح الجمعة السابقة واللاحقة، لأنها تفعل في الأمصار العظيمة وفي مواضع من غير نكير، فكان إجماعاً. قال الطحاوي: وهو الصحيح من مذهبنا. وأما كونه صلى الله عليه وسلم لم يقمها هو ولا أحد من الصحابة في أكثر من موضع، فلعدم الحاجة إليه. انتهى. وقال في الفروع: وعن الإمام أحمد عكسه، خلافاً لهم،   1 يعني: وادي الدواسر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 43 لأنهم أطلقوا القول في رواية المروذي وغيره. وسئل عن الجمعة في مسجدين؟ فقال: صلي; قيل له إلى أي شيء تذهب؟ قال إلى قول علي في العيد، أنه أمر أن يصلى بضعفة الناس; ذكره القاضي وغيره وحمله على الحاجة، وفيه نظر، لأنه احتج بعلي في العيد. وعلى هذا، فكلام العلماء صريح في جواز إقامة الجمعة في موضع آخر للحاجة، ومن الحاجة خوف العدو الخارج، والتحفظ على ثغور المسلمين عن الأمور التي يخشى ضررها. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية، لما سئل عن صلاة الجمعة في جامع القلعة: هل هي جائزة، مع أن في البلد خطبة أخرى، مع وجود سورها وغلق أبوابها، أم لا؟ الجواب: نعم يجوز أن يصلى فيها الجمعة، لأنها مدينة أخرى، كمصر والقاهرة؛ ولو لم تكن كمدينة أخرى، فإقامة الجمعة في المدينة الكبيرة في موضعين للحاجة جائزة عند أكثر العلماء، ولهذا لما بنيت بغداد ولها جانبان، أقاموا فيها الجمعة في الجانب الشرقي، وجمعة في الجانب الغربي، وجوز ذلك أكثر العلماء - إلى أن قال - فلما تولى علي بن أبي طالب وصار بالكوفة، وكان الخلق بها كثيراً، قالوا: يا أمير المؤمنين، إن بالمدينة شيوخاً يشق عليهم الخروج إلى الصحراء، فاستخلف علي رضي الله عنه رجلاً يصلي بالناس الجزء: 5 ¦ الصفحة: 44 العيد في المسجد، وهو يصلي بالناس خارج الصحراء، ولم يكن هذا يفعل قبل ذلك. وعلي رضي الله عنه من الخلفاء الراشدين، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي " 1؛ فمن تمسك بسنة الخلفاء الراشدين، فقد أطاع الله ورسوله؛ والحاجة في هذه البلاد، وفي هذه الأوقات تدعو إلى أكثر من جمعة ... إلى آخر ما ذكر. ثم لا يخفى: أن الحاجة داعية إلى ذلك، وأن ثغور أهل الإسلام مما ينبغي حفظها وإلاعتناء بالمحافظة عليها، عما يخشى وقوعه من العدو الخارج الذي يتربص بالمسلمين الدوائر، وكان القصر المسمى بـ "قصر إبراهيم" يصلى فيه جمعة ثانية، وهو قريب من مسجد "الكوت" في الأحساء، وكان ذلك بعلم من مشائخ المسلمين: الشيخ عبد الرحمن بن حسن، وابنه الشيخ عبد اللطيف، وكان إمامه الشيخ أحمد بن مشرف؛ فلو كان ذلك غير جائز لمنع منه المشائخ، ولم يقروهم على ذلك. سئل الشيخ سعد بن حمد بن عتيق، والشيخ محمد بن عبد اللطيف: عن بناء مسجد يجمع فيه في باطن بلد الرياض، لضيق جامع البلد مع ما يحصل لأهل الباطن من مشقة التفرق، والخوف على حروثهم، وضيعاتهم، وعيلاتهم؟ فأجابا: بأنه يسوغ التجميع في ذلك المسجد، لا حرج   1 الترمذي: العلم (2676) , وأبو داود: السنة (4607) , وابن ماجة: المقدمة (42, 44) , وأحمد (4/126) , والدارمي: المقدمة (95) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 45 في ذلك، لوجود المسوغ لبنائه والتجميع فيه؛ وهذا ظاهر لا يخفى، والله أعلم. وقال الشيخ عبد الله بن محمد بن حميد: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله بن محمد بن حميد إلى جناب الأخ المكرم الأحشم: محمد بن سليمان الجراح، رزقه الله الفهم والتوفيق، وأدر عليه سحائب التحقيق، آمين. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. كتابكم المكرم وصل؛ وصلك الله إلى ما يرضيه، وسرنا إذ أنبأ بصحتكم، واستقامة أحوالكم، الحمد لله رب العالمين. رزقنا الله وإياكم شكر نعمه، وصرف عنا وعنكم أسباب سخطه ونقمه. وما ذكرته عن الأصحاب، رحمهم الله، من أنهم نصوا على جواز إقامة الجمعة في أكثر من موضع في البلد لحاجة كضيق المسجد عن أهله ... إلخ. الجواب: الحمد لله، نص العلماء، رحمهم الله في كل مذهب على جواز ذلك مع الحاجة، كما لو ضاق مسجد الجامع عن أهله؛ والمراد بأهله هاهنا: هم الذين يغلب فعلهم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 46 لها ممن تصح منه، كما ذكره غير واحد من محققي الحنابلة، والشافعية وغيرهم. أما تعدد إقامتها في البلد من غير حاجة، فهذا لا يعرف القول به، لا عن صحابي، ولا تابعي، إلا ما يروى عن عطاء، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجمع بالمدينة وبها تسعة مساجد سوى مسجده، ولم يكونوا يجمعون في شيء منها، وأهل ذي الحليفة وقباء، وأهل العوالي وكانت على ثلاثة أميال من المدينة، لم يكونوا يجمعون في عهده، وفي عهد الخلفاء بعده، إلا في مسجده صلى الله عليه وسلم؛ بل روى الترمذي في جامعه: عن رجل من أهل قباء، قال: " أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نشهد الجمعة من قباء " 1، قال البيهقي، رحمه الله: ولم ينقل أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن لأحد في إقامة الجمعة في شيء من مساجد المدينة، ولا في القرى التي بقربها. وكتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أبي موسى، وإلى عمرو بن العاص، وإلى سعد بن أبي وقاص، رضي الله عنهم: باتخاذ مسجد جامع، ومسجد آخر للقبائل، فإذا كان يوم الجمعة، انضموا وشهدوا الجمعة في مسجدها. وقال ابن عمر رضي الله عنهما: " لا تقام الجمعة إلا في المسجد الأكبر ". واستمر عمل المسلمين على هذا إلى آخر القرن الثالث. أيظن حينئذ أنهم منعوا مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وهذا عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء بعده، وعمل به   1 الترمذي: الجمعة (501) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 47 المسلمون في تلك القرون المفضلة؟! نعوذ بالله أن نقول ذلك. فإن أول جمعة أحدثت في الإسلام في بلد، مع قيام الجمعة القديمة، على ما ذكره الخطيب في تأريخ بغداد، في أيام المعتضد، سنة مائتين وثمانين، وسبب ذلك: خشية الخلفاء على أنفسهم في المسجد العام؛ فأقاموا جمعة بدار الخلافة، من غير بناء مسجد لها. وقد أفتى علماء مرو، وأئمتها لما أقيم بها جمعتان، بإعادة الجمعة ظهراً حتماً، احتياطاً، لقوله صلى الله عليه وسلم: " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد " 1، ولقوله: " فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه " 2؛ والجمعة سميت بهذا لجمعها الجماعات الكثيرة، بأن يكونوا جماعة واحدة، وهي من أعظم اجتماعات فروض الإسلام، فإنه ليس في الإسلام مجمع أكبر ولا أفرض منه، سوى إلاجتماع بعرفات. وفي تعطيل المسلمين مساجدهم يوم الجمعة، واجتماعهم في مسجد واحد، واستمرارهم على هذا جيلاً بعد جيل وقرناً بعد قرن، أبين بيان وأدل دليل، على أن الجمعة خلاف سائر الصلوات، وأنها لا تصلى إلا في مكان واحد; ومن قال بجواز تعدد إقامة الجمعة في كل مسجد بدون حاجة، كسائر الصلوات، تنفيذاً لهمة الشارع صلى الله عليه وسلم في التسهيل على هذه الأمة، فقوله مردود عليه، لم يؤيده كتاب ولا سنة   1 البخاري: الصلح (2697) , ومسلم: الأقضية (1718) , وأبو داود: السنة (4606) , وابن ماجة: المقدمة (14) , وأحمد (6/240, 6/270) . 2 البخاري: الإيمان (52) , ومسلم: المساقاة (1599) , والترمذي: البيوع (1205) , والنسائي: البيوع (4453) والأشربة (5710) , وأبو داود: البيوع (3329) , وابن ماجة: الفتن (3984) , وأحمد (4/267, 4/269, 4/270, 4/271, 4/275) , والدارمي: البيوع (2531) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 48 ولا إجماع، ولا قول صاحب، وليس عندهم في ذلك أثارة من علم. فهلا قالوا بإقامتها لكل أحد في بيته، تسهيلاً وتيسيراً؟! بل التسهيل والتيسير هو اتباع سنته والتمسك بهديه، وإلاقتداء بأفعاله، {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [سورة الأحزاب آية: 21] . وقولهم: إن عدم تعدد إقامتها في زمنه وزمن الخلفاء بعده، لما يتولد من إقامتها في موضع آخر من الاختلاف، وخشية الخروج على الأئمة، غير مسلم؛ ولو سلم لهم ذلك، بأنها علة مؤثرة في عدم تعدد إقامة الجمعة، لتعددت بانتفاء العلة، ولا قائل به من سلف الأمة؛ فالأحكام لا يجوز إثباتها بالتحكم بغير دليل، والله سبحانه وتعالى أعلم. سئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن: إذا وافق يوم الجمعة يوم عيد ... إلخ؟ فأجاب: الذي نص عليه علماؤنا أنه إن اتفق عيد في يوم جمعة، سقط حضور الجمعة عمن صلى العيد، إلا الإمام فإنها لا تسقط عنه، إلا أن لا يجتمع له من يصلي به الجمع؛ وهذا يفهم أن المراد بالامام هو الذي يتولى الصلاة بهم. وهذا الحكم يتعلق بأهل كل بلد، وليس كل بلد فيها إمام أعظم، وهذا يفيده قولهم: إلا أن لا يجتمع به الجزء: 5 ¦ الصفحة: 49 من يصلي به الجمعة، نعم إن وقع ذلك في بلد الإمام الأعظم وجبت عليه، وإن لم يتول الصلاة، لأن المتولي للصلاة كالنائب عنه، وبدليل ما ورد من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " عيدان إذا اجتمعا في يومكم هذا، فمن شاء أجزأه من الجمعة، وإنا مجمعون " 1، رواه ابن ماجة، فيصير التجميع في قوله: " وإنا مجمعون " يقتضي ما قلناه، لأنه صلوات الله وسلامه عليه، هو الإمام الأعظم، وإمامهم في الصلاة، والله أعلم. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله: إذا اجتمع الجمعة والعيد في يوم واحد فللعلماء في ذلك ثلاثة أقوال: ثالثها وهو الصحيح: أن من شهد العيد سقطت عنه الجمعة؛ لكن على الإمام أن يقيم الجمعة، ليشهدها من شاء شهودها، ومن لم يشهد العيد؛ وهذا هو المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ولا يعرف عن الصحابة في ذلك خلاف. ثم إنه يصلي الظهر إذا لم يشهد الجمعة، فتكون الظهر في وقتها؛ وكلام الشيخ يوضح ما قررته قبل. وأجاب الشيخ أبا بطين: إذا وافق العيد يوم الجمعة، سقطت عمن حضره مع الإمام، كمريض، دون الإمام؛ فإذا اجتمع معه العدد المعتبر أقامها، وإلا صلى ظهراً، وكذا العيد بها، إذا عزموا على فعلها سقطت.   1 ابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1311) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 50 سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عن عدم التدريس يوم الجمعة؟ فأجاب: وأما عدم التدريس يوم الجمعة، ففي السنن عنه صلى الله عليه وسلم: " أنه نهى عن التحلق يوم الجمعة قبل الصلاة " 1، وصار عادة للناس، وبعضهم يترك التدريس في الجمعة والاثنين عادة. وأما قراءة سورة الكهف يوم الجمعة، فهو عام لجميع اليوم، لأن في الحديث الوارد في ذلك إطلاقه اليوم، ولم يقيده بأوله. سئل الشيخ عبد الله بن محمد: عن قوله: " من صلى على النبي صلى الله عليه وسلم عشراً، صلى الله عليه مائة، ومن صلى عليه مرة صلى الله عليه عشراً " 2. فأجاب: هو ثابت في الحديث. وسئل الشيخ أبا بطين: عن " الذي قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أجعل لك كذا من صلاتي؟ " 3. فأجاب: المراد - والله أعلم-: الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم كقوله: " اللهم صل على محمد " 4 ونحو ذلك، ففيه الإشارة إلى الإكثار من الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم. ويراد بالصلاة عليه: الدعاء، لأن الدعاء يسمى صلاة، فكأنه قال: كم أجعل لك من دعائي؟ سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: هل يترك للأمير مكان في المسجد ... إلخ؟   1 الترمذي: الصلاة (322) , والنسائي: المساجد (714) , وأبو داود: الصلاة (1079) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1133) , وأحمد (2/179) . 2 أحمد (2/187) . 3 الترمذي: صفة القيامة والرقائق والورع (2457) . 4 البخاري: أحاديث الأنبياء (3369) , ومسلم: الصلاة (407) , والنسائي: السهو (1294) , وأبو داود: الصلاة (979) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (905) , وأحمد (5/424) , ومالك: النداء للصلاة (397) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 51 فأجاب: أما إذا كان أهل المسجد يتركون مكاناً للأمير إكراماً له، فالمسجد لمن سبق إليه، وأحق الناس بالمكان الذي وراء الإمام، الذين يعرفون الدين والفقه؛ ولو ترك لهم مكان فلا بأس، وإن تركوا للأمير مكاناً فلا ينكر عليهم. وأما جلوس الإمام ينتظر الأمير، فلا أعلم في ذلك بأساً إذا لم يشق على المأمومين. وأجاب الشيخ عبد الله، والشيخ إبراهيم، ابنا الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن، والشيخ سليمان بن سحمان، رحمهم الله تعالى: قد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " مَن سبق إلى مكان فهو أحق به " 1، وقال صلى الله عليه وسلم: " ليلني منكم أولو الأحلام والنهى " 2، فالأفضل: أن الذي يلي الإمام هو الأفضل في الدين، وأما التاجر وغيره من الناس، فليسوا بأحق من غيرهم بهذا المكان. وأما الأمير إذا ترك له مكان مراعاة له، وخوفاً من مفسدة أرجح من ذلك، فلا بأس به، لأجل دفع المفسدة ومراعاة المصلحة. وكذلك لا بأس به إذا كان القادم رجلاً صالحاً أو فاضلاً، فتفسحوا له بطيب نفس منهم من غير استمرار منهم. وأما الفاجر والفاسق، فلا حرمة لهم، وليسوا من أولي الأحلام والنهى; وكذلك لا يجوز أن يجعل الرجل له إيطاناً كإيطان البعير لا يصلي إلا فيه. سئل الشيخ عبد الله أبا بطين، رحمه الله تعالى: عمن يضع عصاه في مكان فاضل من المسجد ... إلخ؟   1 مسلم: السلام (2179) , وأبو داود: الأدب (4853) , وابن ماجة: الأدب (3717) , وأحمد (2/263, 2/283, 2/342, 2/389, 2/483, 2/527, 2/537) , والدارمي: الاستئذان (2654) . 2 مسلم: الصلاة (432) , والنسائي: الإمامة (807 ,812) , وأبو داود: الصلاة (674) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (976) , وأحمد (4/122) , والدارمي: الصلاة (1266) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 52 فأجاب: إذا كان إنسان يجلس في المسجد، فلا بأس بكونه يجعل عصاه في مكان فاضل، بحيث أنه ما يخرج من المسجد إلا لما لا بد منه، من نحو وضوء، وكذلك لفطور وسحور ونحوه; وإن كان يجعل عصاه في مكان ويخرج لأشغاله، لنحو بيع وشراء وفلاحة ونحوه، فلا ينبغي لمثل هذا يجعل عصاه في مكان يحميه عن غيره. وأما الذي يخرج لنحو أكل وشرب أو وضوء، فلا بأس بجعل عصاه في مكان فاضل، ليحوز فضيلة الصف الأول، أو وسط الصف، وكذلك الجمعة وغيرها. وأما من دخل المسجد ووجد فيه عصا يضعها أهلها ويخرجون لأغراضهم، فلا بأس بتأخيرها والمجيء في موضعها؛ فإذا حاذرت من شيء يصير في نفس أخ لك، إذا أخرت عصاه وجلست في مكانه، فالذي أحبه تركها والجلوس في مكان آخر. وأجاب أيضاً: وأما وضع العصي في المسجد يوم الجمعة أو غيره، فالذي نهينا عنه من فعل بعض الناس يدخل المسجد وهو محدث، فيضع عصاه ويخرج للاشتغال بأمر دنياه، وكذلك بعض الأولاد يجيء بأربع عصي أو أكثر أو أقل، ويضعها بمواضع من المسجد، وربما أن صاحب العصا ما يجيء إلا عند دخول الإمام، ويتخطى رقاب الناس. وأما من دخل المسجد وصلى فيه ما تيسر، ثم خرج لأكل أو شرب أو وضوء أو غلبة نوم، أو قام في ناحية من نواحي المسجد لشمس أو ظل، فهذا ما يقال فيه شيء. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 53 ومن احتج بقول بعض الفقهاء، في وضع المصلى، فهذا ذكره كثير، وأنكره الشيخ تقي الدين، لأنه تحجر للمسجد؛ وقد أنكر الإمام على من فعل ذلك في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقياس العصا على المصلى المفروش فيه لا يصح، ومن المعلوم أنه لو كان يفعل في زمن من سلف لذكروه، لأنهم ينقلون العصي ولم ينقل أنهم فعلوا بها ذلك، والظن أنهم لو رأوا ثلاثة صفوف أو أربعة أو خمسة، مبسوط فيها سجادات، لأنكروا ذلك، وواضع السجادة ربما يعتذر ببخار الأرض، أو بردها أو حرها؛ وبكل حال فهذا لم ينقل عن الصحابة والتابعين وتابعيهم. سئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن: عن حديث: " من مس الحصى " ... إلخ؟ فأجاب: أما حديث: " من مس الحصى فقد لغا " 1 فرواه مسلم في صحيحه، وليس فيه: " ومن لغا فلا جمعة له "، ولفظه صلى الله عليه وسلم: ?" من توضأ فأحسن الوضوء، ثم أتى الجمعة فاستمع وأنصت، غفر له ما بينه وبين الجمعة وزيادة ثلاثة أيام، ومن مس الحصى فقد لغا " 2، لكن روى الإمام أحمد في مسنده، من حديث علي: " ومن قال لصاحبه: صه، فقد تكلم، ومن تكلم فقد لغا، ومن لغا فلا جمعة له " 3، قال النووي في شرح حديث مسلم: فيه النهي عن مس الحصى وغيره من أنواع العبث في حال الخطبة، وفيه إشارة إلى إقبال القلب والجوارح على الخطبة. انتهى. وهو واف بالمقصود.   1 ابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1025) , وأحمد (2/424) . 2 مسلم: الجمعة (857) , والترمذي: الجمعة (498) , وأبو داود: الصلاة (1050) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1090) , وأحمد (2/424) . 3 أبو داود: الصلاة (1051) , وأحمد (1/93) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 54 وأجاب الشيخ عبد الله أبا بطين: وأما مس الحصى في حال الخطبة، فقد صرح العلماء بكراهة العبث في تلك الحال؛ ولا فرق بين العبث بيد، أو رجل، أو لحية، أو ثوب، أو غير ذلك. [خصائص الجمعة] وسئل: عما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من قال بعد صلاة الجمعة: سبحان الله وبحمده، مائة مرة، فله من الأجر كذا وكذا " 1. فأجاب: لا أعلم له أصلاً. قال الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: ومن البدع ما اعتيد في بعض البلاد، من صلاة الخمسة الفروض بعد آخر جمعة من رمضان، وهذه من البدع المنكرة إجماعاً؛ فيزجرون عن ذلك أشد الزجر. سئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن: عما ورد في يوم الجمعة من الخصائص، وهل يختص بما قبل الزوال أم لا؟ مثل قراءة سورة الكهف وغيرها. فأجاب: خصائص الجمعة على ثلاثة أضرب: الأول: محله قبل الصلاة، كالاغتسال والطيب ولبس أحسن الثياب، وتأكد السواك، ومنع من تلزمه الجمعة إذا دخل وقتها من السفر ونحو ذلك. الثاني: ما لا يختص بما قبل الصلاة، كاستحباب كثرة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ومزية الذكر، والصدقة، ونحو ذلك. الثالث. متردد بينهما بحسب ما ورد، كقراءة   1 ابن ماجة: الأدب (3812) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 55 سورة الكهف، وساعة الإجابة. فأما قراءة سورة الكهف، فورد في قراءتها ما يقتضي أن ليلة الجمعة كيومها، محل لحصول الفضل الوارد لما اقتضاه مجموع هذه الآثار: فروى الدارمي عن أبي سعيد موقوفاً: " من قرأ سورة الكهف ليلة الجمعة، أضاء له من النور ما بينه وبين البيت العتيق " 1. ومنها ما يقتضي تخصيصه باليوم، كما روى أبو بكر بن مردويه في تفسيره، من حديث ابن عمر، رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم: " من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة، سطع له نور من تحت قدمه إلى عنان السماء، يضيء له يوم القيامة، وغفر له ما بين الجمعتين "، قال الحافظ المنذري: إسناده لا بأس به، وقال ابن كثير: في رفعه نظر. وذكر في المغني عن خالد بن معدان: من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة، قبل أن يخرج الإمام، كانت له كفارة ما بينه وبين الجمعة، وبلغ نوره البيت العتيق؛ وظاهر كلام الفقهاء أنه كالذي قبله لا يختص بما قبل الصلاة. وأما ساعة الإجابة: ففيها أقوال تزيد على أربعين، ذكرها ابن حجر في الفتح، والجلال السيوطي في شرح الموطإ. وذكر العلامة ابن القيم كثيراً منها، ثم قال: وأرجح الأقوال فيها قولان تضمنتهما الأحاديث الثابتة، أحدهما أرجح من الآخر: الأول: أنها ما بين جلوس الإمام إلى انقضاء الصلاة; قلت: رجحه البيهقي، وابن العربي،   1 الدارمي: فضائل القرآن (3407) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 56 والقرطبي، وقال النووي: إنه الصحيح والصواب; قال ابن القيم: الثاني: أنها بعد العصر، وهذا أرجح القولين، وهو قول عبد الله بن سلام، وأبي هريرة، والإمام أحمد، وخلق، وساق ما يدل على ذلك، كحديث عبد الله بن سلام، ثم قال: وهذا القول هو قول أكثر السلف، ويليه القول بأنها ساعة الصلاة؛ وبقية الأقوال لا دليل عليها، انتهى ملخصاً. وقال المحب الطبري: إن أصح حديث فيها: حديث أبي موسى في مسلم، وأشهر الأقوال فيها: قول عبد الله بن سلام؛ قال ابن حجر: وما عداهما إما ضعيف الإسناد، أو موقوف، واستند صاحبه إلى اجتهاد دون توقيف. انتهى. وأجاب الشيخ حسن بن حسين بن محمد، رحمهم الله: أما سورة الكهف، فظاهر الخبر الآتي، وصريح كلام الفقهاء الحنابلة والشافعية، أنها في مطلق اليوم؛ والأصل فيها ما رواه الحاكم والبيهقي عن أبي سعيد مرفوعاً: " من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة، أضاء له من النور ما بين الجمعتين " 1، وفي رواية للبيهقي: " ما بينه وبين البيت العتيق "، قال في شرح الجامع الصغير: وفي رواية: " ليلة الجمعة " بدل " يوم الجمعة "، وجمع بأن المراد اليوم بليلته، والليلة بيومها. وقال في شرح المنهاج: وفي الفتاوى المصرية هي المطلقة يوم الجمعة، ما سمعت أنها مختصة بعد العصر. انتهى. وقال في شرح المنهاج: ويستحب الإكثار من قراءتها، كما نقل عن   1 الدارمي: فضائل القرآن (3407) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 57 الشافعي، وقراءتها نهاراً آكد، وأولاها بعد الصبح مسارعة للخير. انتهى. فلم يقيدها بغير الأولوية؛ وعليها يحمل ما حكاه في المغني وغيره، عن خالد بن معدان، من أنها قبل الصلاة؛ لكن هل الليلة ما قبل اليوم، أو ما بعده؟ قال ابن القيم في البدائع: هذا مما اختلف فيه، فحكي عن طائفة أن ليلة اليوم بعده، والمعروف عند الناس أن ليلة اليوم قبله. ومنهم من فصل بين الليلة المضافة إلى اليوم، كليلة الجمعة وغيره: فالمضافة إلى اليوم قبله، والمضافة إلى غيره بعده; والذي فهمه الناس قديماً وحديثاً، من قول النبي صلى الله عليه وسلم: " لا تخصوا يوم الجمعة بصيام من بين الأيام، ولا ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي " 1 أنها الليلة التي تسفر صبيحتها عن يوم الجمعة. انتهى ملخصاً. وقد جاء الحديث أيضاً بقراءة سورة هود وسورة آل عمران في يومها، رواه الدارمي في مسنده عن عبد الله بن رباح مرفوعاً: " اقرؤوا سورة هود " 2، ثم أخرجه كذلك بزيادة عن كعب، وهو في مراسيل أبي داود، قال الحافظ: مرسل صحيح الإسناد. وروى الطبراني في الأوسط، عن ابن عباس مرفوعاً: " من قرأ السورة التي يذكر فيها آل عمران، صلى الله عليه حتى تحتجب الشمس " 3. ومما ورد من الخصائص مطلقاً أيضاً، الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه، رواه أبو داود والترمذي، من حديث موسى بن أوس؛ قال الحاكم: صحيح على شرط   1 مسلم: الصيام (1144) . 2 الدارمي: فضائل القرآن (3403) . 3 أحمد (1/458) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 58 الشيخين. ومن ذلك آكدية الدعاء، والتفرغ للعبادة، ومزيد الصدقة، ودنو أرواح المؤمنين من قبورهم، وتوافيها فيه. وأما الاغتسال والطيب ولبس أحسن الثياب، وقص الشارب وتقليم الأظفار، والنهي عن التخطي والتفريق، والتحلق والحبوة، فدلت الأخبار على أنه قبل الصلاة، وإن كان ظاهر الفروع في الاغتسال عدم التقييد، لأنه قال في يومها الحاضر، إن صلاها، إلا لامرأة، وقد قيل: ولها. انتهى. ففي الصحيحين عن ابن عمر مرفوعاً: " من أتى الجمعة فليغتسل " 1، وفي السنن عن أبي هريرة مرفوعاً: " من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثم راح " 2، فذكره إلى أن قال: قال: " فإذا خرج الإمام، حضرت الملائكة يستمعون الذكر " 3. وفي سنن أبي داود، عن أبي سعيد مرفوعاً: " من اغتسل يوم الجمعة ولبس أحسن ثيابه، ومس من الطيب إذا كان عنده، ثم أتى الجمعة فلم يتخط رقاب الناس، ثم صلى ما كتب له، ثم أنصت إذا خرج الإمام " 4 الحديث. وفي البخاري عن سلمان مرفوعاً: " ثم راح ولم يفرق بين اثنين، فصلى ما كتب له، ثم إذا خرج الإمام أنصت " 5 الحديث. وفي الطبراني عن أبي هريرة: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقلم أظفاره، ويقص شاربه، يوم الجمعة قبل أن يخرج إلى الصلاة ". وفي مسند أحمد وسنن أبي داود، عن ابن عمر: " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحبوة يوم الجمعة والإمام يخطب " 6.   1 البخاري: الجمعة (877, 894, 919) , ومسلم: الجمعة (844) , والترمذي: الجمعة (492) , والنسائي: الجمعة (1376، 1405, 1407) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1088) , وأحمد (2/3, 2/9, 2/35, 2/37, 2/41, 2/42, 2/47, 2/48, 2/51, 2/53, 2/55, 2/57, 2/64, 2/75, 2/77, 2/78, 2/101, 2/105, 2/115, 2/120, 2/141, 2/145, 2/149) , ومالك: النداء للصلاة (231) , والدارمي: الصلاة (1536) . 2 البخاري: الجمعة (881) , ومسلم: الجمعة (850) والأضاحي (1960) , والترمذي: الجمعة (499) , والنسائي: الإمامة (864) والجمعة (1385, 1386, 1387, 1388) , وأبو داود: الطهارة (351) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1092) , وأحمد (2/272, 2/457, 2/460, 2/499, 2/505, 2/512) , ومالك: النداء للصلاة (227) , والدارمي: الصلاة (1543) . 3 البخاري: الجمعة (881) , ومسلم: الجمعة (850) , والترمذي: الجمعة (499) , والنسائي: الإمامة (864) والجمعة (1385, 1386, 1387, 1388) , وأبو داود: الطهارة (351) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1092) , وأحمد (2/239, 2/259, 2/263, 2/272, 2/280, 2/457, 2/460, 2/499, 2/505, 2/512) , ومالك: النداء للصلاة (227) , والدارمي: الصلاة (1543) . 4 أبو داود: الطهارة (343) . 5 البخاري: الجمعة (910) , والنسائي: الجمعة (1403) , وأحمد (5/438, 5/439, 5/440) , والدارمي: الصلاة (1541) . 6 الترمذي: الجمعة (514) , وأبو داود: الصلاة (1110) , وأحمد (3/439) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 59 وأما السفر لمن كان من أهل وجوبها، فمنعه الأصحاب بعد الزوال، إن لم يخف فوت رفقته، إذا لم يأت بها في طريقه، وقبل الزوال فمكروه بشرطه; قال ابن المنذر: لا أعلم خبراً ثابتاً بمنع السفر أول النهار إلى الزوال، وإنما يمنع إذا سمع النداء، لوجوب السعي حينئذ. وقال المجد في شرح الهداية: روى ابن أبي ذئب قال: " رأيت ابن شهاب يريد يسافر يوم الجمعة ضحوة، فقلت له: تسافر يوم الجمعة؟ فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم سافر يوم الجمعة "، رواه البخاري، وهو أقوى وجوه المرسل، لاحتجاج من أرسله به. انتهى. وفي مسند الشافعي، عن عمر أنه رأى رجلاً عليه هيئة السفر، فسمعه يقول: " لولا أن اليوم الجمعة لخرجت، فقال عمر: اخرج، فإن الجمعة لا تحبس عن سفر "، وفيه عن علي نحوه. وفي سنن سعيد بن منصور: عن ابن كيسان: " أن أبا عبيدة ابن الجراح سافر يوم الجمعة ولم ينتظر الصلاة ". وأما ما رواه الدارقطني في الإفراد عن ابن عمر يرفعه: " من سافر يوم الجمعة، دعت عليه الملائكة أن لا يصحب في سفره "، ففيه ابن لهيعة، ولا يحتج بحديثه عند الحفاظ. وأما ساعة الإجابة، فاختلف العلماء فيها وفي موضعها من اليوم على أكثر من أربعين قولاً، ذكرها في الفتح، ولوامع الأنوار وغيرها، ونظمها السيوطي في سبعة عشر بيتاً; وأقرب الأقوال فيها قولان، وأحدهما أرجح من الآخر، كما ذكره في الجزء: 5 ¦ الصفحة: 60 الهدي وغيره: الأول: ما بين جلوس الإمام إلى انقضاء الصلاة. الثاني: أنها بعد العصر؛ وهو قول عبد الله بن سلام، وأبي هريرة، وذكره ابن جرير عن ابن عباس؛ قال الترمذي: هو مذهب أحمد وإسحاق وجماهير من أهل العلم. خاتمة: ذكر في التوشيح وغيره، أن خصائص الجمعة تزيد على الأربعين. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 61 باب صلاة العيدين سئل بعضهم، رحمه الله: هل هي فرض كفاية ... إلخ؟ فأجاب: أما صلاة العيدين، فالصحيح من أقوال العلماء أنها فرض كفاية؛ ومن قال: إنها سنة، قال: إذا اتفق أهل بلد على تركها قاتلهم الإمام. واستدلوا على أنها فرض كفاية، بأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بها مالك بن الحويرث وصاحبه. بسم الله الرحمن الرحيم من محمد بن عبد اللطيف، وصالح بن عبد العزيز، ومحمد بن إبراهيم، إلى الإمام المكرم: عبد العزيز بن عبد الرحمن آل فيصل، سلمه الله تعالى، وأعاذه من مضلات الأهواء والفتن، ورزقه العمل والتمسك بواضح السنن، آمين; سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وقد تحققنا ما أحدث في مكة المشرفة، من العيد المسمى بعيد الجلوس في آخر شعبان، الذي هو مضارع لأعياد الجاهلية، ولم يمنعنا من الكلام فيه، ومشافهتك بذلك الجزء: 5 ¦ الصفحة: 62 لما كنت عندنا، إلا أنا ظننا أنه لا يفعل هذا العام، من أجل أنه تقدم من بعضنا مناصحة لك في ذلك. وأنت فاهم، سلمك الله، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعثه الله تعالى بالملة الحنيفية، محا جميع ما عليه الجاهلية، من الأعياد الزمانية والمكانية، وعوض الله تعالى عنها الحنفاء، بعيد الفطر، وعيد الأضحى; ومما يدل على ذلك حديث أنس، قال: " قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، ولهم يومان يلعبون فيهما، فقال: قد أبدلكم الله بهما خيراً منهما: يوم الأضحى، ويوم الفطر " 1، أخرجه أبو داود، والنسائي بإسناد صحيح. وتقرر في الشريعة المطهرة: أنه لا يسوغ تعظيم زمان أو مكان بنوع من أنواع التعظيم، إلا زمان أو مكان جاء تعظيمه في الشرع; فكما أن تعظيم القبور، أو بقعة لم يجيء تعظيمها في الشرع من أعظم البدع، فكذلك تعظيم زمان من الأزمنة، ولا فرق. فلو ساغ تعظيم زمان من الأزمنة التي لم يدل على تعظيمها الشرع وجعله عيداً، لساغ تعظيم ليلة الإسراء، ويوم بدر، ويوم الفتح، وجعلها أعياداً، لما حصل في تلك الأزمنة من الخير الكثير وإعلاء كلمة الله تعالى، وتشريف رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وقد هدمت المولد، والقباب التي على القبور، لكونها أعيادا بدعية. وبالجملة، فهذه إشارة ونصيحة؛ فإن كان أحد قد شبه   1 النسائي: صلاة العيدين (1556) , وأبو داود: الصلاة (1134) , وأحمد (3/178, 3/235) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 63 في ذلك ولبس، فبينوا لنا ذلك، ونحن مستعدون إن شاء الله تعالى لكشف شبهته، وبيان باطله بالادلة الشرعية، والحجج الواضحة القطعية المبسوطة، التي تقر بها أعين أهل السنة والإيمان، وتضمحل بها شبه أهل الزيغ والطغيان، ولا قوة إلا بالله، والسلام. سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عن خروج النساء في العيد ... إلخ؟ فأجاب: لا يعجبني في زماننا هذا، لأنهن فتنة، وكذا سائر الصلوات؛ قال في الاختيارات بعد كلامه في ذم البدع، كإنكار الصحابة على من أذن في صلاة العيدين لأنه لم يفعله صلى الله عليه وسلم، وإن كان فاعله قد يحتج بقوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ} [سورة فصلت آية: 33] ونحو ذلك، كإنكارهم على من قدم خطبة العيد على الصلاة، وإنكارهم على من رفع يديه في الخطبة، وإن كان رفع اليدين في الدعاء وردت به الأحاديث، لكن إنما أنكر الرفع في هذا المحل، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعله في هذا الموضع؛ والآثار عنهم وعن التابعين والأئمة في ذلك كثيرة. سئل بعضهم: ما قولكم في خطبة العيد، هل تستفتح بالتكبير أو بالحمد؟ فبينوا لنا رحمكم الله. فأجاب: هذه المسألة للناس فيها أعمال، لكل قوم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 64 عمل: فبعضهم يختار افتتاحها بالتكبير، وأن يكون تسعاً نسقاً، لفعل بعض الصحابة، وبعضهم يستحب افتتاحها بالحمد لله، بل افتتاح جميع الخطب، منهم تقي الدين بن تيمية، قدس الله روحه. وقال ابن القيم - في الحمد لله - في كتاب الهدي: وكان [أي: صلى الله عليه وسلم] يفتتح خطبه كلها بالحمد لله، ولم يحفظ عنه في حديث واحد أنه افتتح خطبتي العيد بالتكبير، وإنما روى ابن ماجة في سننه: " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكثر التكبير بين أضعاف الخطبة، ويكثر التكبير في خطبتي العيدين " 1، وهذا لا يدل على أنه كان يفتتحها به. وقد اختلف الناس في افتتاح خطبة العيدين، والاستسقاء: فقيل: يفتتحان بالتكبير، وقيل: تفتتح خطبة الاستسقاء بالاستغفار; وقيل: يفتتحان بالحمد; قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وهو الصواب. انتهى كلامه. فينبغي للمرشد والمسترشد: أن يعلم ما كان عليه السلف الصالح، وما نقلوه عن النبي صلى الله عليه وسلم، ويفهم أن مسائل الخلاف بين هؤلاء الجهابذة توجب له طلب العلم، ربما عند من خالفك من العلم ما لا يكون عندك، اللهم إلا أن يكون من أهل هذا الشأن، والله أعلم.   1 ابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1287) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 65 سئل الشيخ سعيد بن حجي: عن الاستفتاح في صلاة العيد، بعد تكبيرة الإحرام؟ وما يقول بين كل تكبيرتين؟ فأجاب: قد ذكر الفقهاء أنه يكبر تكبيرة الإحرام، ثم يستفتح، ثم يكبر ستاً زوائد قبل التعوذ، ثم يتعوذ عقب السادسة بلا ذكر، ثم يشرع في القراءة. ويكبر في الركعة الثانية بعد قيامه من السجود، وقبل قراءتها، خمساً زوائد، يرفع يديه مع كل تكبيرة، ويقول بين كل تكبيرتين: الله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً، وسبحان الله بكرة وأصيلاً، وصلى الله على محمد النبي وآله وسلم تسليماً كثيراً، لما روى عقبة بن عامر، قال: سألت ابن مسعود؛ رواه الأثرم وحرب، واحتج به أحمد، هذا هو المختار عندهم، وإن أحب قال غير ذلك، ولا يأتي بعد التكبيرة الأخيرة في الركعتين بذكر. وسئل: عن التكبير؟ فأجاب: يستحب إظهار التكبير في ليلتي العيدين، في المساجد والمنازل والطرق، للمقيم والمسافر، ويستحب التكبير أيضاً في أيام العشر كلها. ولا خلاف أن التكبير مشروع في عيد النحر، فذهب أحمد إلى أنه من صلاة الفجر يوم عرفة، إلى العصر من آخر أيام التشريق، لحديث جابر. قيل لأحمد: بأي شيء تذهب إلى ذلك؟ قال: بإجماع عمر وعلي، وابن عباس وابن مسعود. وصفة التكبير: الله أكبر، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 66 الله أكبر، لا إله إلا الله والله أكبر، الله أكبر ولله الحمد. انتهى من مختصر الشيخ محمد. وعبارة أخرى: ويتأكد من ابتداء ليلتي العيدين، وفي الخروج إليها إلى فراغ الخطبة; وفي الأضحى يبتدئ المطلق من ابتداء عشر ذي الحجة، إلى فراغ الخطبة يوم النحر، والمقيد فيه: يكبر من صلاة الفجر يوم عرفة إن كان محلاً، وإن كان محرماً فمن صلاة الظهر يوم النحر إلى العصر من آخر أيام التشريق؛ ويجزئ من التكبير مرة واحدة، وإن زاد فلا بأس، وإن كرره ثلاثاً فحسن. وأما تقديم التكبير على التهليلات العشر، فهذا الذي عليه الناس، ولا نعلم أحداً أنكره. والتكبير في ليلة عيد الفطر مطلق غير مقيد؛ قال أبو الخطاب: يكبر من غروب الشمس إلى خروج الإمام إلى المصلى. وسئل: هل على الحاج من التكبير المقيد شيء، لأنه يشتغل بالتلبية قبل قطعها برمي حصى جمرة العقبة؟ فأجاب: المحرم يكبر من صلاة الظهر يوم النحر إلى عصر آخر أيام التشريق، لأنه قبله مشغول بالتلبية؛ والجهر مسنون إلا في حق النساء. تنبيه: إن اجتمع تلبية وتكبير، كمن لم يرم جمرة العقبة حتى صلى الظهر يوم النحر، كبر ثم لبى؛ نص عليه أحمد، لأن التكبير مشروع مثله؛ فقد عرفت أن تكبير المحرم يبتدي عقيب الظهر يوم النحر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 67 قال الشيخ سليمان بن سحمان: قال شيخ الإسلام: وأما التهنئة يوم العيد، يقول بعضهم لبعض إذا لقيه بعد الصلاة: تقبل الله منا ومنك، أو أحاله الله عليك، فهذا قد روي عن طائفة من الصحابة أنهم كانوا يفعلونه، ورخص فيه الأئمة كأحمد وغيره؛ لكن قال أحمد: أنا لا أبتدي، فإن ابتدأني أحد أجبته، وذلك أن جواب التحية واجب، وأما الابتداء بالتهنئة فليس هو سنة مأمور بها، ولا هو أيضاً مما نهي عنه؛ فمن فعله فله قدوة، ومن تركه فله قدوة، والله أعلم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 68 باب صلاة الكسوف سئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى: هل صلاة الكسوف واجبة أو لا؟ فأجاب: وأما صلاة الكسوف، فالمشهور عند العلماء أنها غير واجبة، وبعضهم يوجبها، وهم الأقل. سئل الشيخ حمد بن ناصر بن معمر: عن قولهم: ووقتها من حين الكسوف إلى حين التجلي، هل المراد شروعه في التجلي فتفوت بزيادة التجلي؟ أم لا تفوت إلا بالتجلي التام؟ فأجاب: بل المراد التجلي التام، ولا عبرة بزيادة التجلي مع بقاء الكسوف؛ وعلى ذلك المالكية والشافعية والحنابلة. أما كلام المالكية، فقال التتائي في شرح خليل: عند قول المصنف: وإن تجلت في أثنائها: قوله: تجلت، أي: جميعها، فلو تجلى بعضها تمت على صفتها، ولو تجلى بعضها قبل الشروع فيها، أقاموها رغبة في إكمالها كما لو انكسف بعضها ابتداء. انتهى كلامه. وأما كلام الشافعية، فقال المزجد في العباب: فرعٌ: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 69 تفوت صلاة الكسوف بالانجلاء التام يقيناً، لا إن شك فيه؛ وقال في كنْز المحتاج في تحقيق المنهاج: وتفوت صلاة الكسوف بالانجلاء، ولو انجلى بعضها فله الشّروع في الصلاة للباقي، كما لو لم يكسف منها إلا ذلك القدر. انتهى. وأما كلام الحنابلة، فقال في شرح الإقناع: وإن تجلى السحاب عن بعضها، أي: الشمس، وكذا القمر، فرأوه صافياً لا كسف عليه، صلوا صلاة الكسوف، لأن الباقي لا يعلم حاله، والأصل بقاؤه. وإن تجلى الكسوف قبلها لم يصل، وإن خف قبلها شرع وأوجز. انتهى كلام الشارح. فتأمل قوله: وإن خف قبلها شرع وأوجز. وتأمل قول التتائي: ولو تجلى بعضها قبل الشروع فيها أقامها رغبة في إكمالها. وتأمل كلام المزجد، وكلام البكري في الكنْز، أعني: قوله: لو انجلى بعضها فله الشروع في الصلاة للباقي. سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: هل للاجتماع للصلاة عند نزول البلاء أصل؟ فأجاب: ما علمت لذلك أصلاً من كونه شرع لذلك صلاة كالاستسقاء والكسوف، وأما ما يفعله بعض الناس من ذبح شاة أو غيرها يسمونه فدية، فهذا لا شك أنه بدعة لا يجوز. وأجاب أيضاً: ما علمت للخروج للصحراء أصلاً، لكن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 70 يوعظون ويؤمرون بالتوبة والصدقة، وكل أحد يصلي في بيته ركعتين توبة إلى الله تعالى، لأن صلاة التوبة مشروعة لكن بغير جماعة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 71 باب الاستسقاء قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى: ذكر في السيرة أن أهل مكة طلبوا آيات، وأن الله منع إجابتهم رحمة; والفائدة: كون الإنسان يعرف أنه حري يمنع شيئاً من دعائه رحمة به، ولو يعطى ما طلبه كان عذاباً عليه كثعلبة. سئل الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين: عن الدعاء بظهور اليدين؟ فأجاب: وأما الدعاء بظهور اليدين فهو جائز، ويكون قد ترك السنة لأنه ثبت عن ابن عباس، رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله: " إذا دعوت فادع بباطن كفيك ولا تدع بظهورها، فإذا فرغت فامسح بها وجهك " 1، رواه أبو داود وابن ماجة.   1 أبو داود: الصلاة (1485) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1181) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 171 كتاب الجنائز التداوي والرقى سئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن، رحمه الله: عن الذين إذا مرض أحدهم يحفون ويحوطون، فيقرؤون شيئاً من الآيات بحساب وأعداد، فإذا انتهى قالوا: يا قاضي الحاجات؟ فأجاب: الذي وردت به السنة: دعاء العائد له وحده، من غير تكلف ولا اجتماع؛ فإن شاء رقاه بما وردت به السنة، كما قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه لزوجته لما نخستها عينها: " إنما يكفيك أن تقولي: أذهب الباس رب الناس، واشف أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاء لا يغادر سقماً " 1؛ هذا جنس المشروع، وأما على هذه الكيفية فبدعة. وسئل ابنه الشيخ عبد اللطيف: عن الرقية بالقرآن، إذا كان الراقي يبصق بريقه؟ فأجاب: هذا جائز لا بأس به، وريق الراقي على هذه الصفة لا بأس به؛ بل يستحب الاستشفاء به، كما في حديث   1 البخاري: الطب (5750) , ومسلم: السلام (2191) , وابن ماجة: الطب (3520) , وأحمد (6/44, 6/45, 6/50, 6/108, 6/114, 6/120, 6/124, 6/126, 6/127, 6/131, 6/208, 6/260, 6/278, 6/280) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 72 الرقية بالفاتحة. وأما ما يفعله بعض الناس مع من يقدم من المدينة، من الاستشفاء بريقهم على الجراح، فهذا لا أصل له، ولم يجئ فيمن أتى من المدينة خصوصية توجب هذا. والحاج أفضل منه، ولا يعرف أن أحداً من أهل العلم فعل هذا مع الحاج، وإنما لو أراد الاستشفاء بريق المسلم مع تربة الأرض، إذا سمى الله في ذلك، كما في حديث: " بسم الله. تربة أرضنا بريقة بعضنا، يشفى سقيمنا، بإذن ربنا " 1؛ فهذه الرقية من المسلم الموحد على هذا الوجه، قد جاءت بها الأحاديث. وسئل: عن الكاهن إذا سئل عن دواء مباح، والسائل والمريض مسلمان؟ فأجاب: إن كان خبر الكاهن بالدواء ومنافعه من طريق الكهانة، فلا يحل تصديقه، وهو داخل في الوعيد، وإن كان من جهة الطب ومعرفة منافع الأدوية، فلا يدخل في مسألة الكاهن. سئل الشيخ سعد بن حمد بن عتيق: عن الذبح عند المريض ... إلخ؟ فأجاب: لا ريب أن التقرب إلى الله بالنسك من أفضل القربات، وأعظم الطاعات، ومن أشرف الحسنات، وأفضل النفقات للمسلم إذا حسن قصده في ذلك، وتجرد من الشوائب والأسباب التي توجب حبوط العمل وعدم الانتفاع به، أو لحوقه بالمعاصي التي يعاقب عليها، قال الله تعالى:   1 البخاري: الطب (5745) , ومسلم: السلام (2194) , وأبو داود: الطب (3895) , وابن ماجة: الطب (3521) , وأحمد (6/93) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 73 {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [سورة الأنعام آية: 162] ، وقال: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [سورة الكوثر آية: 2] . فما يتقرب به المسلم إلى الله من الهدايا والأضاحي، وغير ذلك من النسك المأمور به شرعاً، كل ذلك من العبادات التي أمر الله بها عباده؛ فمن فعل من ذلك شيئاً لغير الله فهو مشرك. وقد كان المشركون يتقربون إلى معبوداتهم بأنواع من القرب، كالهدايا والنذور وغير ذلك؛ وهذا من الشرك الذي قال الله فيه: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [سورة النساء آية: 48] ، وقال: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} [سورة المائدة آية: 72] . في صحيح مسلم عن علي قال: " حدثني رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربع كلمات: لعن الله من ذبح لغير الله " 1 الحديث، وساق حديث طارق: " دخل الجنة رجل في ذباب " الحديث. ومن الشرك: ما يقع في كثير من المدن والبوادي والقرى والأمصار، ممن ينتسب إلى الإسلام، ممن قل نصيبه من الدين، وخالف سبيل المؤمنين، وسلك طريق المغضوب عليهم والضالين، من الذبح للجن، واتخاذهم أولياء من دون الله، مضاهاة لإخوانهم من المشركين الأولين، الذين قال الله فيهم: {إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [سورة الأعراف آية: 30] ، وقال: {بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ} [سورة سبأ آية: 41] ؛ وقد كانوا يجعلون الجن شركاء لله في عبادته، فيذبحون   1 مسلم: الأضاحي (1978) , والنسائي: الضحايا (4422) , وأحمد (1/118, 1/152) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 74 لهم وينذرون لهم، ويستعيذون بهم، ويفزعون إليهم عند النوائب؛ وكان منهم من يفعل ذلك خوفا من شرهم، وتخلصاً من أذاهم، وساق أدلة الاستعاذة بالله من شرهم. ثم قال: فالاستعاذة بالله من أفضل مقامات العبودية، مثل الدعاء والخوف والرجاء والذبح والتوكل، فمن صرف منها شيئاً لغير الله فهو مشرك. قال ابن القيم: ومن ذبح للشيطان ودعاه واستعاذ به وتقرب إليه بما يحب، فقد عبده وإن لم يسم ذلك عبادة، أو يسميه استخداماً، وصدق، هو استخدام من الشيطان له، فيصير من خدم الشيطان وعابديه، وبذلك يخدمه الشيطان. والذبح للجن يفعله كثير من أهل الجهل والضلال، إذا مرض الشخص أو أصابه جنون أو داء مزمن، ذبحوا عنده كبشاً أو غيره؛ وكثير منهم يصرحون بأنهم ذبحوه للجن، ويزعمون أن الجن أصابته بسبب حدث منه، فيذبحون عنده ذبيحة للجن، يقصدون تخليصه مما أصابه من ذلك الداء. ولا شك أن الجن قد تعرض لبعض الإنس بأنواع من الأذى، كالصرع وغيره، لأسباب يفعلها الإنسي يتأذون بها؛ فإذا ابتلي الإنسان بشيء من ذلك، فالواجب عليه، الفزع إلى الله والاستعاذة به، والالتجاء إليه والتوكل عليه، فبالاعتصام بالله يندفع عدوان المعتدين، من الإنس والجن والشياطين، وأما العدول عن ذلك إلى الالتجاء إلى الجن، والذبح لهم، فهذا هو الشرك الذي لا يغفره الله. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 75 ومن هذا الباب: ما يفعله الجاهلون بمكة من الذبح للجن، ولهذا روي عن النبي صلى الله عليه وسلم " أنه نهى عن ذبائح الجن ". قال الزمخشري: كانوا إذا اشتروا داراً أو بنوها، أو استخرجوا عيناً، ذبحوا ذبيحة، خوفاً أن تصيبهم الجن، فأضيفت إليهم الذبائح لذلك. ثم من الناس من يذبح عند المريض لهذا المقصد الخبيث، ويظهر للناس أنه إنما قصد التقرب إلى الله، والصدقة على الفقراء والمساكين بلحم ما يذبحه، وقد اطلع الله منه على سوء القصد، وأنه إنما قصد بذبيحته التقرب إلى الجن، ولكن منعه من بيان مقصده الخوف من المسلمين؛ وهذا نفاق وزندقة ومحادة لله ورسوله، كإخوانه الموصوفين في قوله: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا} الآية [سورة البقرة آية: 9] . وإذا عرفت أن الذبح عند المريض على هذا الوصف الذي ذكرنا من الشرك المحرم، فاعلم: أن من الناس من يذبح عند المريض لغير مقصد شركي، وإنما يقصد بالذبح التقرب إلى الله بالذبيحة والصدقة بلحمها، ولا يخفى أن قاعدة سد الذرائع المفضية إلى الشرك تقتضي المنع من فعل ذلك والنهي عنه، لأن ذلك ذريعة لفعل الشرك، لما قد عرفت أن كثيراً من الناس يذبح عند المريض لقصد التقرب إلى الجن، ولكن يخفي قصده خوفاً من العقوبة، وبعضهم يبين قصده لإخوانه من شياطين الإنس. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 76 وقد حدثني من لا أتهم أن من هذا الجنس من أتى إلى مريض وأشار بأن يذبح عنده ذبيحة، ثم لما تفرق الناس عنه أسر إليه وأشار أن الذبيحة لغير الله. وبذلك يعلم: أن المتعين: النهي عن الذبح عند المريض، وإن حسن قصد الفاعل، سداً لباب الشرك، وحسماً للذرائع التي تجر إليه؛ فإن العمل وإن كان أصله قربة وفعله طاعة، فقد يقترن به ما يوجب بطلانه، ويقتضي النهي عنه، كأعمال الرياء، وتحري الدعاء والصلاة لله عند القبور، والنحر في أمكنة أعياد المشركين ومواطن أوثانهم، وساق حديث ثابت بن الضحاك - إلى أن قال - ومن مفاسد ذلك: أنه سبب لدخول أهل النفاق، فيذبحون لأوليائهم من الجن، ولا يخافون أحداً من المسلمين، لعلمهم بخفاء سوء قصدهم، وعدم اطلاع المؤمنين على ما أبطنوه من شركهم وضلالهم. انتهى ملخصاً. سئل الشيخ حمد بن ناصر بن معمر، رحمه الله تعالى: عن التوتين؟ فأجاب: التوتين الذي يفعله بعض العوام، يأخذون قيحاً من المجدور، ويشقون جلد الصحيح، ويجعلونه في ذلك المشقوق، يزعمون أنه إن جدر يخفف عنه، فهذا ليس من التمائم المنهي عن تعليقها فيما يظهر لنا، وإنما هو من التداوي عن الداء قبل نزوله، كما يفعلون بالمجدور إذا أخذته الجزء: 5 ¦ الصفحة: 77 حمى الجدري لطخوا رجليه بالحناء، لئلا يظهر الجدري في عينيه، وقد جرب ذلك فوجد له تأثير. وهؤلاء يزعمون أن التوتين من الأسباب المخففة للجدري، والذي يظهر لنا فيه الكراهة، لأن فاعله يستعجل به البلاء قبل نزوله، ولأنّه في الغالب إذا وتن ظهر فيه الجدري فربما قتله، فيكون الفاعل لذلك قد أعان على قتل نفسه، كما ذكره العلماء فيمن أكل فوق الشبع فمات بسبب ذلك؛ فهذا وجه الكراهة. وأجاب الشيخ عبد الله أبا بطين، رحمه الله: ما يفعل بالصبي الذي يسمونه "التعضيب"، ما علمت فيه شيئاً، ولا سمعنا له ذكراً في الزمن الأول، ولا أدري عن أمره؛ ولكني أكرهه. وقال الشيخ حمد بن عتيق، رحمه الله تعالى: ورد علينا سؤإلات، فمن إخوانكم من يذكره أمراً هيناً، وهو أنه يغرز إبرة في بدن الإنسان حتى يقرب خروج الدم، ثم يؤخذ على رأس الإبرة من دواء اتصل بكم من النصارى، فإذا مكث يومين أو ثلاثة حدث في البدن حبتان أو ثلاث من جنس الجدري، ولا ذكروا أنه صار سبباً لموت أحد; وآخر يقول: مات بسببه أناس كثير، وبالجملة، ما بلغنا عن الله ولا عن رسوله ولا عن أئمة الدين في ذلك تحليل ولا تحريم، إلا أني وقفت على فتيا لبعض تلاميذ الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمهم الله، قال فيها: إنه ما بلغنا فيه شيء إلا أنه يخاف إذا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 78 حدث بسببه الموت، فيكون الفاعل مثل المتسبب في القتل; ونحن نرى هذا الفعل عندنا ولا فعلناه، ولا نهينا ولا رخصنا، لأنه لم يبلغنا فيه أصل. وأما كون الدواء اتصل بكم من النصارى، فجميع الأعيان الأصل فيها الحل والإباحة، إلا ما ثبت النهي عنه، أو بان فيه مفسدة ظاهرة متحققة، وقد قال تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [سورة الإسراء آية: 36] . ومثل هذه الأمور الأمر فيها هين، ويكفي الإنسان فيها السكوت عنها، حتى يتبين دليل شرعي من كتاب الله أو سنة رسوله، وما ثبت عن الصحابة، وما قاله جمع من الأئمة، والله سبحانه لم يترك شيئا مما يجب على الخلق العمل به إلا بينه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، كذلك ما حرم أدلته ظاهرة معلومة. وأجاب الشيخ عبد الله، والشيخ إبراهيم، ابنا الشيخ عبد اللطيف، والشيخ سليمان بن سحمان: إن هذا التجدير الذي يسميه بعض الأطباء "التلقيح"، وبعض العامة يسمون "التوتين" و"التعضيب" لا يجوز استعمال ذلك، ولم نقف على شيء من كلام العلماء فيها. وقد سئل عن ذلك الشيخ حمد بن ناصر بن معمر، وأبا بطين وأجابا، ثم ذكروا جوابيهما السابقين، ثم قالوا: ودعوى هؤلاء الجهال أن هذا من الأسباب الجائزة دعوى باطلة لوجهين: أحدهما: أنهم لا يستعملون هذا بعد انعقاد موجبه وحدوثه، فيكون من باب الجزء: 5 ¦ الصفحة: 79 التداوي، ولكنهم إنما يفعلون هذا لئلا يحدث; وربما حدث بسببه فيكون قد تسبب لاستعجال البلاء قبل أن ينْزل، وربما قتله فيكون قد أعان على قتل نفسه. الثاني: أن هذا لو كان من باب التداوي وفعل السبب لكان غير جائز، لأنه تداوى بسبب لم يشرعه الله ورسوله، وذلك أن التوتين إنما يكون بالقيح وهو نجس، أو بشيء معمول منه؛ والتداوي بالحرام النجس غير مباح ولا مأذون فيه، لقوله صلى الله عليه وسلم: " عباد الله تداووا، ولا تداووا بحرام، فإن الله لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليها " 1. ونحن نمنع من هذا ولا نجيزه، ونعاقب من فعله. سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عن شحم الخنْزير؟ فأجاب: أما التداوي بأكله فلا يجوز، وأما التداوي بالتلطخ به ثم يغسل بعد ذلك، فهذا ينبني على جواز مباشرة النجاسة في غير الصلاة، وفيه نزاع مشهور؛ والصحيح: أنه يجوز للحاجة، كما يجوز استنجاء الرجل بيده وإزالة النجاسة بيده؛ وما أبيح للحاجة جاز التداوي به، كما يجوز التداوي بلبس الحرير على أصح القولين، وما أبيح للضرورة كالمطاعم الخبيثة فلا يجوز التداوي بها، كما لا يجوز التداوي بشرب الخمر. وسئل عما يحكى من دم البرازي 2 أنه دواء لعضة   1 الترمذي: الطب (2038) , وأبو داود: الطب (3855) , وابن ماجة: الطب (3436) . 2 أي: دم أحد البرازات, وهم القبيلة المشهورة من سبيع. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 80 الكلب؟ فقال: لا أصل له، والتداوي بالنجس حرام. وأجاب الشيخ عبد الله العنقري: هو نجس حرام، ولا يجوز التداوي به عن عضة الكلب، ولا غيرها. وسئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عن هذه المسألة؟ فأفتى بالمنع والشيء إذا كان محرماً في الشرع، فلا يبيحه دعوى نفعه بالتجربة. وسئل الشيخ إبراهيم بن عبد اللطيف: عن التداوي بكرش الذبيحة وغيرها مما يجعل على محل اللدغة؟ فأجاب: هذا جائز، لأنه من باب التداوي، ولا يقصد فاعله إلا ذلك بقرينة جعله على محل القرص في الحال، فلو ترك وقتاً ما، لم يحصل به نفع كما هو معلوم بالتجربة، وذلك لما فيه من القوة الجاذبة للمادة السمية. سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عن ضرب مسمار في جدار أو غيره، على حروف مقطعة من حروف الهجاء؟ فأجاب: أما ما يفعله بعض الناس في أمر الضرس، بضرب مسمار كما ذكرت، فهذا من عمل الشيطان. وسئل الشيخ سليمان بن حمدان: هل تجوز وتقبل من الإنسان التوبة بالقلب وحده؟ أم تكون باللسان بألفاظ وصيغ مخصوصة؟ وما هي هذه الألفاظ والصيغ؟ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 81 فأجاب: التوبة من أعمال القلوب، كما صرح بذلك ابن عبد السلام الشافعي في قواعده وغيره; وقال الإمام أبو العباس أحمد بن تيمية: أصل التوبة عزم القلب; وقال النووي: أصلها الندم، وهو ركنها الأعظم. وذكر الفقهاء من أصحابنا وغيرهم: أن لها ثلاثة شروط، وعبر عنها بعضهم بالأركان، وهي: الإقلاع عن المعصية، والندم على فعلها، والعزم على أن لا يعود إلى مثلها في المستقبل؛ وليس منها ما هو متوقف على اللفظ، والمذهب: عدم اشتراط لفظ: إني تائب، أو أستغفر الله، ونحوه. قال ابن مفلح: وقيل: يشترط قوله: اللهم إني تائب إليك من كذا وكذا، وأستغفر الله؛ وهو ظاهر ما في المستوعب; فظاهر هذا: اعتبار التوبة بالتلفظ والاستغفار، ولعل المراد اعتبار أحدهما؛ ولم أجد من صرح باعتبارهما، ولا أعلم له وجهاً. انتهى. إذا علم هذا، فإن القول المعتمد الذي هو المذهب وعليه الأكثر: عدم اشتراط لفظ: إني تائب، أو أستغفر الله، ونحوه في التوبة؛ وعليه، فلا يكون لها صيغة، لأنها لا تتوقف على اللفظ، والصيغ من خصائص الألفاظ، والله أعلم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 82 [تلاوة القرآن على الميت قبل أن يغسل] سئل الشيخ عبد الله بن محمد: عن تلاوة القرآن على الميت قبل أن يغسل ... إلخ؟ فأجاب: هذا لا بأس به، وإذا اجتمع رجال ونساء، وأراد الإمام أن يصلي عليهم صلاة واحدة، قدم الرجال فجعلهم مما يليه، لأنهم يستحقون التقديم في الإمامة، فاستحقوا التقديم في الجنائز؛ وقد نقل الجماعة عن أحمد: أنه يقدم إلى الإمام الحر المكلف، ثم العبد المكلف، ثم الصبي، ثم الخنثى، ثم المرأة. وأما صفة موضعهم بين يدي الإمام للصلاة عليهم، فتجعل رؤوسهم كلهم عن يمين الإمام، وتجعل وسط المرأة حذا صدر الرجل، ليقف الإمام من كل نوع موقفه، لأن السنة أن يقف عند صدر الرجل ووسط المرأة. وأجاب الشيخ، حمد بن ناصر بن معمر: أما الصلاة على الميت، فإن أوصى الميت بأن يصلي عليه رجل معين، فهو أحق من غيره. ولا يقوم أحد في جنب الإمام، بل يقف الإمام وحده، إلا إن كان المكان ضيقاً، بحيث لا يحصل له الوقوف في الصف، فحينئذ يقف في جنب الإمام للحاجة. [الصلاة على الغال] سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد، رحمه الله: هل تكره الصلاة على غير الغال؟ وقاتل نفسه؟ فأجاب: الصلاة تكره على غير الغال وقاتل نفسه، مثل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 83 المجاهر بالفسق والكبائر، فقد قال الشيخ تقي الدين: ينبغي لأهل العلم والدين أن يدعوا الصلاة عليه، عقوبة ونكالاً لأمثاله، لتركه صلى الله عليه وسلم الصلاة على قاتل نفسه، وعلى الغال، والمدين الذي لا وفاء له. وإن كان منافقاً كمن علم نفاقه لم يصل عليه، ومن لم يعلم نفاقه صلي عليه. ومن مات مظهراً للفسق مع ما فيه من الإيمان، كأهل الكبائر، فلا بد أن يصلي عليهم بعض الناس، ومن امتنع من الصلاة على أحد منهم زجراً لأمثاله كان حسناً، ولو امتنع في الظاهر ودعا له في الباطن، ليجمع بين المصلحتين، كان أولى من تفويت إحداهما. انتهى. والمراد بكراهة الصلاة على أهل الكبائر للإمام خاصة، أو لأهل العلم والدين المقتدى بهم. سئل الشيخ محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف، والشيخ عبد الله العنقري: عن الحائض والنفساء، إذا ماتت إحداهما، هل تجوز الصلاة عليها في المسجد؟ فأجابا: إنه يجوز إذا أمن تلويثه، لأن الأحكام انقطعت بالموت. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 84 فصل قال الشيخ عبد الله بن محمد: ومن البدع رفع الصوت بالذكر عند حمل الميت، وعند رش القبر بالماء، وغير ذلك مما لم يرد عن السلف. سئل الشيخ حمد بن عبد العزيز: عن كشف الكفن عن وجه الميت؟ فأجاب: لم يبلغني فيه شيء، ولكن الظاهر أن الأمر فيه واسع، إن كشف عنه فلا بأس وإن ترك فكذلك. سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عن رفع اليدين حال القيام على القبر بعد الدفن؟ فأجاب: ثبت في سنن أبي داود: " أنه صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من دفن الميت قال: قفوا على صاحبكم واسألوا له التثبيت واستغفروا له، فإنه الآن يسأل " 1؛ فهذا هو المسنون: أن يستغفر له ويسأل له التثبيت، وأما رفع الأيدي في تلك الحال فلا أراه، لعدم وروده. [التلقين بعد دفن الميت] سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد، رحمه الله: عن التلقين بعد دفن الميت؟   1 أبو داود: الجنائز (3221) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 85 فأجاب: لم يصح في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء، بل ورد فيه أحاديث ضعيفة، منها حديث أبي أمامة عند الطبراني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا مات أحد من إخوانكم وسويتم التراب على قبره، فليقم أحدكم على رأس القبر، ثم ليقل: يا فلان، فإنه يسمعه ولا يجيب. ثم يقول: يا فلان بن فلان، ثم يستوي قاعداً، ثم يقول: يا فلان بن فلانة، فإنه يقول: أرشدنا يرحمك الله، ولكن لا تشعرون. فيقول: اذكر ما خرجت عليه من الدنيا: شهادة ألا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله، وأنك رضيت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبياً، وبالقرآن إماماً " الحديث. وقد قواه الضياء في المختارة، ثم قال الأثرم: قلت لأحمد: هذا الذي يصنعونه إذا دفن الميت، يقف الرجل ويقول: يا فلان بن فلانة؟ قال: ما رأيت أحداً يفعله إلا أهل الشام، حين مات أبو المغيرة، يروى فيه عن أبي بكر بن أبي مريم عن أشياخهم، كانوا يفعلونه; وكان إسماعيل بن عياش يرويه، يشير إلى الحديث الذي رواه الطبراني عن أبي أمامة، وروي أيضاً عن واثلة بن الأسقع، وكرهه جماعة من العلماء، لاعتقادهم أنه بدعة مكروهة، وأما التحريم فليس بحرام. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 86 وأجاب الشيخ سعيد بن حجي: قال ابن القيم في الهدي: وكان من هديه صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من دفن الميت، قام على قبره هو وأصحابه، وسأل له التثبيت، وأمرهم أن يسألوا له التثبيت، ولا يلقن الميت، كما يفعله الناس اليوم; وأما الحديث الذي رواه الطبراني في معجمه من حديث أبي أمامة ... إلخ، فهذا حديث لا يصح رفعه; لكن قال الأثرم: قلت لأبي عبد الله: فهذا الذي يصنعون إذا دفن الميت ... إلخ؟ فقال: ما رأيت أحداً فعله إلا أهل الشام، حين مات أبو المغيرة، جاء إنسان فقال ذلك. انتهى ملخصاً. وقوله: " كان إذا فرغ من دفن الميت ... إلخ "، حديث رواه أبو داود؛ فهذا التلقين لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أنكر المسلمون ذلك في زماننا، والله أعلم. [وضع الجريدة على القبر] سئل الشيخ عبد الله بن محمد: عن وضع الجريدة على القبر ... ؟ فأجاب: المسألة فيها خلاف، فإن بعض الفقهاء يرى استحباب وضع الجريدة على القبر، وبعضهم لا يرى ذلك، لأنه خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم ويحتمل العموم. وأما جعل الرياحين على القبر، فبدعة منهي عنها، لأنه من تخليق القبر المنهي عنه، بخلاف جعل الجريدة عليه، لأنه ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم " مر بقبرين، فقال: إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير. أما أحدهما فكان لا يستتر من بوله، وأما الآخر فكان يمشي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 87 بالنميمة " 1 ثم أخذ جريدة فشقها نصفين، وجعل على كل قبر منهما نصف الجريدة، وقال: " لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا " 2. [البناء على القبور] سئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله: عن البناء على القبور؟ فأجاب: أما بناء القباب عليها فيجب هدمها، ولا علمت أنه يصل إلى الشرك الأكبر. وأجاب ابنه الشيخ عبد الله: أما بناء القبب على القبور، فهو من علامات الكفر وشعائره، لأن الله أرسل محمداً صلى الله عليه وسلم بهدم الأوثان، ولو كانت على قبر رجل صالح، لأن اللات رجل صالح، فلما مات عكفوا على قبره، وبنوا عليه بنية وعظموها، فلما أسلم أهل الطائف وطلبوا منه أن يترك هدم اللات شهراً، لئلا يروعوا نساءهم وصبيانهم، حتى يدخلهم الدين، فأبى ذلك عليهم، وأرسل معهم المغيرة بن شعبة، وأبا سفيان بن حرب، وأمرهما بهدمها. قال العلماء: وفي هذا أوضح دليل، أنه لا يجوز إبقاء شيء من هذه القبب التي بنيت على القبور، واتخذت أوثاناً، ولا يوماً واحداً؛ فإنها شعائر الكفر، وقد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم " نهى عن البناء على القبر وتجصيصه وتخليقه والكتابة عليه "؛ وقد قال تعالى: {وَمَا   1 البخاري: الوضوء (218) , ومسلم: الطهارة (292) , والترمذي: الطهارة (70) , والنسائي: الطهارة (31) والجنائز (2068) , وأبو داود: الطهارة (20) , وأحمد (1/225) , والدارمي: الطهارة (739) . 2 البخاري: الوضوء (216) , ومسلم: الطهارة (292) , والترمذي: الطهارة (70) , والنسائي: الطهارة (31) والجنائز (2068) , وأبو داود: الطهارة (20) , وابن ماجة: الطهارة وسننها (347) , وأحمد (1/225) , والدارمي: الطهارة (739) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 88 آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [سورة الحشر آية: 7] . وأما كونه علامة على كفر بانيها، فهذا يحتاج إلى تفصيل: فإن كان البانى قد بلغه هدي الرسول صلى الله عليه وسلم في هدم البناء عليها، ونهيه عن ذلك، وعاند وعصى، ومنع من أراد هدمها من ذلك، فذلك علامة الكفر. وأما من فعل ذلك جهلاً منه بما بعث الله به رسوله صلوات الله وسلامه عليه، فهذا لا يكون علامة على كفره، وإنما يكون علامة على جهله وبدعته، وإعراضه عن البحث عما أمر الله به ورسوله في القبور. وأما حال أهل العصر الثاني، الذين لم يحضروا البناء، وإنما فعله آباؤهم ومتقدموهم، فالراضي بالمعصية كفاعلها؛ وفيهم من التفصيل ما تقدم في الباني الأول، فافهم ذلك. وهذا إذا لم يُذْبَح عندها وتُعْبَد وتُدْعَى، ويُرْجَى منها طلب الفوائد، وكشف الشدائد، فأما إذا فعل ذلك، فهو الشرك الذي قال الله فيه: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} [سورة المائدة آية: 72] . وأما الإشكال الذي ذكره السائل، في حديث علي في القبور، التي أمره الرسول بتسويتها، هل هي قديمة؟ فليس فيه إشكال بحمد الله، لأنه محمول على القبور القديمة، كقبور الجاهلية، لأن البناء على القبور وتعليتها من سنن الجاهلية، ولم يكن ذلك في عهد الصحابة. وأما حديث قبر عثمان بن مظعون، فليس فيه معارضة لما ذكرنا، لأن المراد الجزء: 5 ¦ الصفحة: 89 إعلام القبر بعلامة يعرف، كحصاة ونحوها بلا تعلية ولا بناء؛ وهذا لا بأس به عند أهل العلم؛ فحديث قبر عثمان، فيه الدليل على جواز ذلك لكل أحد، وهذا ظاهر، ولله الحمد والمنة. وأجاب أيضاً: والقبور التي باق عليها البناء تهدم. وأجاب الشيخ حمد بن ناصر بن معمر: ثبت في الصحيح والسنن، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أنّه نهى عن البناء على القبور، وأمر بهدمه "، كما رواه مسلم في صحيحه، قال: حدثنا يحيى بن يحيى، حدثنا وكيع عن سفيان عن حبيب بن أبي ثابت: عن أبي وائل عن أبي الهياج الأسدي، قال: قال لي علي: " ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ألا تدع تمثالاً إلا طمسته، ولا قبراً مشرفاً إلا سويته " 1، وساق بسنده عن جابر، قال: " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجصص القبر، وأن يبنى عليه، وأن يكتب عليه " 2، وساق عن ثمامة قال: " كنا مع فضالة بن عبيد بأرض الروم، فتوفي صاحب لنا، فأمر فضالة بقبره فسوي، ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بتسويتها " 3. وقال الترمذي: باب ما جاء في تسوية القبور: حدثنا محمد بن بشار، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، حدثنا سفيان عن حبيب بن أبي ثابت عن أبي وائل، " أن علياً رضي الله عنه قال لأبي الهياج الأسدي: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ لا تدع قبراً مشرفاً إلا سويته، ولا تمثالاً إلا   1 مسلم: الجنائز (969) , والترمذي: الجنائز (1049) , والنسائي: الجنائز (2031) , وأبو داود: الجنائز (3218) , وأحمد (1/96) . 2 مسلم: الجنائز (970) , والترمذي: الجنائز (1052) , والنسائي: الجنائز (2027) , وأحمد (3/295, 3/332, 3/399) . 3 مسلم: الجنائز (968) , والنسائي: الجنائز (2030) , وأبو داود: الجنائز (3219) , وأحمد (6/18, 6/21) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 90 طمسته " 1؛ قال: وفي الباب عن جابر; وقال ابن ماجة في: باب ما جاء في النهي عن البناء على القبور وتجصيصها والكتابة عليها: حدثنا زهير بن مروان، حدثنا عبد الرزاق عن أيوب عن أبي الزبير عن جابر قال: " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تجصيص القبور " 2. حدثنا عبد الله بن سعيد، حدثنا حفص بن غياث عن ابن جريج عن سليمان بن موسى عن جابر قال: " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكتب على القبور شيء " 3. حدثنا محمد بن يحيى حدثنا محمد بن عبد الله الرقاشي، حدثنا وهب حدثنا عبد الرحمن بن زيد عن القاسم بن مخيمر عن أبي سعيد، أن النبي صلى الله عليه وسلم " نهى أن يبنى على القبور ". وقال النووي، رحمه الله، في شرح مسلم: قال الشافعي، رحمه الله، في الأم: رأيت الأئمة بمكة يأمرون بهدم ما يبنى، ويؤيد الهدم قوله: " ولا قبراً مشرفاً إلا سويته " 4. وقال الأذرعي، رحمه الله، في قوت المحتاج: ثبت في صحيح مسلم: النهي عن التجصيص والبناء، وفي الترمذي وغيره: النهي عن الكتابة. وقال القاضي ابن كج: ولا يجوز أن يبنى عليها قباب ولا غيرها، والوصية باطلة. قال الأذرعي: والوجه في تحريم البناء على القبور، المباهاة والمضاهاة للجبابرة والكفار؛ والتحريم يثبت بدون ذلك. وأما بطلان الوصية ببناء القباب وغيرها من الأبنية العظيمة، وإنفاق الأموال الكثيرة عليه، فلا ريب في تحريمه، والعجب كل العجب من يلزم ذلك الورثة   1 مسلم: الجنائز (969) , والترمذي: الجنائز (1049) , والنسائي: الجنائز (2031) , وأبو داود: الجنائز (3218) , وأحمد (1/96, 1/128, 1/145) . 2 مسلم: الجنائز (970) , والترمذي: الجنائز (1052) , والنسائي: الجنائز (2029) , وأبو داود: الجنائز (3225) , وابن ماجة: ما جاء في الجنائز (1562, 1563) , وأحمد (3/295, 3/332, 3/339) . 3 مسلم: الجنائز (970) , والترمذي: الجنائز (1052) , والنسائي: الجنائز (2027) , وابن ماجة: ما جاء في الجنائز (1563) . 4 مسلم: الجنائز (969) , والترمذي: الجنائز (1049) , والنسائي: الجنائز (2031) , وأبو داود: الجنائز (3218) , وأحمد (1/89, 1/96, 1/111, 1/128, 1/138, 1/139, 1/145, 1/150) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 91 من حكام العصر، ويعمل بالوصية بذلك. انتهى كلام الأذرعي، رحمه الله. ومن جمع بين سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في القبور، وما أمر به وما نهى عنه، وما كان عليه أصحابه، وبين ما أنتم عليه من فعلكم مع قبر أبي طالب والمحجوب وغيرهما، وجد أحدهما مضاداً للآخر، مناقضاً له، بحيث لا يجتمعان أبداً؛ فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البناء على القبور كما تقدم ذكره، وأنتم تبنون عليها القباب العظيمة، والذي رأيته في "المعلاة" أكثر من عشرين قبة. ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يزاد عليها غير ترابها، وأنتم تزيدون عليها غير التراب، التابوت ولباس الجوخ، ومن فوق ذلك القبة العظيمة المبنية بالأحجار والجص؛ وقد روى أبو داود من حديث جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم " نهى أن يجصص القبر أو يكتب عليه، أو يزاد عليه " 1، " ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكتابة عليها "، كما تقدم في صحيح مسلم. وقال أبو عيسى الترمذي: باب ما جاء في تجصيص القبور والكتابة عليها: حدثنا عبد الرحمن بن الأسود، حدثنا محمد بن ربيعة عن ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر قال: " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تجصص القبور، وأن يكتب عليها، وأن يبنى عليها، وأن توطأ " 2، هذا حديث حسن صحيح. وهذه القبور عندكم مكتوب عليها القرآن والأشعار، وقال أبو داود:   1 مسلم: الجنائز (970) , والترمذي: الجنائز (1052) , والنسائي: الجنائز (2027) , وابن ماجة: ما جاء في الجنائز (1562, 1563) , وأحمد (3/332) . 2 مسلم: الجنائز (970) , والترمذي: الجنائز (1052) , والنسائي: الجنائز (2028, 2029) , وأبو داود: الجنائز (3225) , وابن ماجة: ما جاء في الجنائز (1562, 1563) , وأحمد (3/295, 3/332, 3/339) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 92 باب البناء على القبور: حدثنا أحمد بن حنبل، حدثنا عبد الرزاق، قال: أخبرني ابن جريج قال: حدثني أبو الزبير، أنه سمع جابراً يقول: " سمعت النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يقعد على القبر، وأن يجصص، ويبنى عليه " 1. انتهى. ولعن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أسرجها؛ والذي رأيته ليلة دخولنا مكة - شرفها الله - في المقبرة، أكثر من مائة قنديل، هذا مع علمكم بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن فاعله، فقد روى ابن عباس، رضي الله عنهما، " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن زائرات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسرج " 2، رواه أهل السنن. وأعظم من هذا كله وأشد تحريماً، الشرك الأكبر الذي يفعل عندها، وهو دعاء المقبورين، وسؤالهم قضاء الحاجات، وتفريج الكربات; لكن تقولون لنا: إن هذا لا يفعل عندها، وليس عندنا أحد يدعوها ويسألها، ونقول: اللهم اجعل ما ذكروه حقاً وصدقاً، ونسأل الله أن يطهر حرمه من الشرك. ولا ريب أن دعاء الموتى وسؤالهم جلب الفوائد، وكشف الشدائد، من الشرك الأكبر الذي كفر الله به المشركين، وقد قال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} [سورة الجن آية: 18] ، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ   1 مسلم: الجنائز (970) , والترمذي: الجنائز (1052) , والنسائي: الجنائز (2027, 2029) , وابن ماجة: ما جاء في الجنائز (1562, 1563) , وأحمد (3/332, 3/399) . 2 الترمذي: الصلاة (320) , والنسائي: الجنائز (2043) , وأبو داود: الجنائز (3236) , وابن ماجة: ما جاء في الجنائز (1575) , وأحمد (1/229, 1/287, 1/324, 1/337) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 93 مِثْلُ خَبِيرٍ} [سورة فاطر آية: 13-14] ، وقال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [سورة الأحقاف آية: 5-6] ، وقال تعالى: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ} [سورة الرعد آية: 14] ، وروى الترمذي عن أنس رضي الله عنه " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: الدعاء مخ العبادة، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} " 1، رواه أحمد وأبو داود والترمذي. قال العلقمي في شرح الجامع الصغير: حديث: " الدعاء مخ العبادة " 2 قال شيخنا: قال في النهاية: مخ الشيء خالصه، وإنما كان مخها لأمرين: أحدهما: أنه امتثال أمر الله تعالى حيث قال: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [سورة غافر آية: 60] ، فهو محض العبادة وخالصها. والثاني: إذا رأى نجاح الأمور من الله تعالى قطع عمله عما سواه، ودعاه لحاجته وحده؛ وهذا أصل العبادة، ولأن الغرض من العبادة الثواب عليها، وهذا هو المطلوب من الدعاء. وقوله: " الدعاء هو العبادة " 3، قال شيخنا قال الطيبي:   1 الترمذي: الدعوات (3371) . 2 الترمذي: الدعوات (3371) . 3 الترمذي: تفسير القرآن (2969) , وابن ماجة: الدعاء (3828) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 94 أتى بالخبر المعرف باللام ليدل على الحصر، وأن العبادة ليست غير الدعاء; وقال شيخنا: قال البيضاوي: لما حكم بأن الدعاء هو العبادة الحقيقة، التي تتأهل أن تسمى عبادة، من حيث يدل على أن فاعله مقبل على الله معرض عما سواه، لا يرجو إلا إياه ولا يخاف إلا منه، واستدل عليه بالآية، يعني قوله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [سورة غافر آية: 60] ، فإنها تدل على أنه أمر مأمور به، إذا أتى به المكلف قبل منه لا محالة، وترتب عليه المقصود ترتب الجزاء على الشرط، والسبب على المسبب؛ وما كان كذلك كان أتم العبادة. انتهى كلام العلقمي، رحمه الله. وأجاب أيضاً: البناء على القبور بدعة محرمة، وعبادتها شرك، بالدلائل من الكتاب والسنة والإجماع؛ فالقباب إذا كانت تعبد فهي أوثان، كاللات والعزى ومناة، ولا نزاع في ذلك، وإن لم تعبد فبناؤها بدعة محرمة، وهدمها واجب; وذلك بالسنة الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم: عن أبي الهياج، قال: " قال لي علي: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ لا تدع تمثالاً إلا طمسته، ولا قبراً مشرفاً إلا سويته " 1، فأمر صلى الله عليه وسلم بهدمه في هذا الحديث، وجاء بلفظ النكرة وهي تعم كل قبر، سواء كان في مكة، أو في المقبرة المسبلة، وفي حديث جابر: " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجصص القبر، وأن يكتب عليه " 2. ففي هذه الأحاديث كفاية لمن كان واعياً.   1 مسلم: الجنائز (969) , والترمذي: الجنائز (1049) , والنسائي: الجنائز (2031) , وأبو داود: الجنائز (3218) , وأحمد (1/96, 1/128, 1/145) . 2 مسلم: الجنائز (970) , والترمذي: الجنائز (1052) , والنسائي: الجنائز (2027, 2029) , وابن ماجة: ما جاء في الجنائز (1562, 1563) , وأحمد (3/332, 3/399) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 95 وقال الشيخ عبد الرحمن بن حسن، رحمه الله: اعلم، رحمك الله: أنه ورد من مصر جواب عن سؤال، وذلك الجواب يتضمن القول بجواز بناء المساجد على القبور، والتعلق بأرواح أربابها، وحصول البركات والمنافع بما يفيض عليه من تلك الأرواح، كما كان يعتقده عباد الأصنام المصورة بصور الملائكة والصالحين، فتعين علي وعلى أمثالي رد ذلك وإبطاله. فأقول، مستعيناً بالله، طالباً في ذلك رضى الله وجزيل ثوابه: الحمد لله رب العالمين، الجواب وبالله التوفيق: لا ريب أن الذي أجاب به هذا المجيب باطل من وجوه: أحدها: أن لفظة الاستظهار بأرواح الأموات، إنما أراد بها التعلق بالأموات والالتجاء والرغب إليهم، لكنه قصد بزخرف العبارة إضلالاً للعوام والجهال؛ فكم تحت هذه اللفظة من شرك، ومحادة لدين الله ولإخلاص العبادة له وحده لا شريك له، وقال تعالى: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [سورة غافر آية: 14] ، وقال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} الآية [سورة البينة آية: 5] ، وقال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [سورة الزمر آية: 2-3] ، قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} الآية [سورة الروم آية: 30] ؛ وإقامة الوجه هو: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 96 إخلاص الدين له، وإفراده بجميع أنواع العبادة، كما ذكره المفسرون; والحنيف: المقبل على الله المعرض عن كل ما سواه. وهذا الذي ذكره هؤلاء المنحرفون عن التوحيد، لا ريب أن الله تعالى لم يشرعه ولا رسوله، بل نهى عنه أشد النهي، كما سنذكره إن شاء الله. فقد أكمل الله لنا ديننا وأتم علينا نعمته، وبين رسوله صلى الله عليه وسلم ما شرعه الله من دينه أتم بيان، قال الله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلامَ دِيناً} [سورة المائدة آية: 3] . وقد بين تعالى أصل دين الإسلام وأساسه، الذي تبنى عليه الأعمال وتصح به، كما قال تعالى: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [سورة البقرة آية: 112] ، وما لم يشرعه الله فليس من دين الإسلام، كما في حديث عائشة الذي في الصحيحين: " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد " 1، وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " وإياكم ومحدثات الأمور! فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة " 2. وقد بين صلى الله عليه وسلم ما شرعه في زيارة القبور، فثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها، فإنها تذكركم الآخرة " 3. وقد شرع الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم الدعاء للميت في الصلاة عليه وغيرها، لأنه محتاج لدعاء الحي، لانقطاع   1 البخاري: الصلح (2697) , ومسلم: الأقضية (1718) , وأبو داود: السنة (4606) , وابن ماجة: المقدمة (14) , وأحمد (6/240, 6/270) . 2 أبو داود: السنة (4607) , والدارمي: المقدمة (95) . 3 ابن ماجة: ما جاء في الجنائز (1571) , وأحمد (1/452) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 97 عمله، وأما الاستظهار بروحه، فإنه لا يعرف له معنى غير ما عبر به المجيب عنه، من الرغبة إلى الميت والتعلق به، والالتجاء إليه؛ وذلك هو أصل دين المشركين، ويترتب على ذلك من أنواع العبادة جلها ومعظمها، كالمحبة والدعاء، والتوكل والرجاء ونحو ذلك، وكل هذا عبادة لا يصلح منه شيء لغير الله أبداً. وهؤلاء الأموات ونحوهم، لا قدرة لأحد منهم على أن ينفع نفسه أو يدفع عنها، فضلاً عن غيره، كما قال تعالى: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ} الآية [سورة يونس آية: 106-107] ، والله هو المتفرد بالخلق والتدبير، والنفع والضر، والعطاء والمنع، والميت غافل عاجز، لا يسمع ولا ينفع، كما قال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} الآية [سورة الأحقاف آية: 5] ، وقال تعالى: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ} الآية [سورة فاطر آية: 13-14] . وقد قصر الله رغبة عباده عليه، بل كل العبادة بأنواعها، كما قال تعالى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [سورة الشرح آية: 7-8] ، وقال: {بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ} [سورة الزمر آية: 66] ؛ وتقديم المعمول يفيد الحصر والاختصاص. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 98 والشفعاء يوم القيامة لا يشفع أحد منهم إلا بإذنه، ولا يشفعون إلا لمن ارتضى، كما قال تعالى: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً} [سورة الزمر آية: 44] ؛ فهي ملكه، ويشفع من شاء فيمن شاء بإذنه للشافع ورضاه عن المشفوع له، كما قال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} [سورة البقرة آية: 255] ، وقال تعالى: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى} [سورة الأنبياء آية: 28] ، وقال: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} الآية [سورة سبأ آية: 22-23] . قال أبو العباس ابن تيمية، رحمه الله: نفى الله عما سواه كل ما يتعلق به المشركون: فنفى أن يكون لغيره ملك أو قسط منه، أو يكون عوناً لله، ولم يبق إلا الشفاعة، فبين أنها لا تنفع إلا لمن أذن له الرب، كما قال تعالى: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى} [سورة الأنبياء آية: 28] . فهذه الشفاعة التي يظنها المشركون، هي منتفية يوم القيامة، كما نفاها القرآن؛ فالشفاعة لأهل الإخلاص بإذنه، ولا تكون لمن أشرك. وحقيقتها: أن الله سبحانه هو الذي يتفضل على أهل الإخلاص، فيغفر لهم بواسطة دعاء من أذن له أن يشفع، ليكرمه وينال المقام المحمود؛ وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن الشفاعة لا تكون إلا لأهل التوحيد والإخلاص. انتهى ملخصاً. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 99 وهو سبحانه لا يرضى من عبده إلا التوحيد الذي هو دينه الذي بعث به رسله، وأنزل به كتبه، كما قال تعالى: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ} [سورة الزمر آية: 11] ، وقال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ} [سورةالأنعام آية: 162] . فهذا هو حكم الله الشرعي الذي حكم به على خلقه، بأن يصرفوا أعمالهم له وحده، دون كل من سواه؛ ولهذا قال: {وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ} ، وقال في سورة يوسف: {أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} [سورة يوسف آية: 40] . فالعبد وأعماله الظاهرة والباطنة، كلها ملك لله، لا يصلح أن يصرف منها شيء لغير الله؛ فإن صرف العبد منها شيئاً لغير الله فقد وضعه في غير موضعه، وذلك هو الظلم العظيم، كما قال: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [سورة لقمان آية: 13] ؛ وأنفع ما للعبد في معاشه ومعاده: أن يوجه وجهه وقلبه إلى الله، ويجمع همته عليه في جميع مطالبه الدنيوية والأخروية، كما قال العارف بالله، الذي استنار قلبه بآيات الله وحججه وبيناته، شعراً: وإذا تولاه امرؤ دون الورى ... طراً تولاه العظيم الشانِ فالعبد مضطر إلى الله الذي محياه ومماته له، فهو قبلة قلبه ووجهه، كما أخبر عن خليله عليه السلام أنه قال: {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [سورة الأنعام آية: 79] . وإنما شرع الله ورسوله زيارة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 100 القبور، لتذكر الآخرة، كما قال صلى الله عليه وسلم: " كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها، فإنها تذكركم الآخرة " 1، أي: لتسعوا لها سعياً؛ {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ} [سورة البقرة آية: 59] ، فجعلوها محطاً للرحال، ومطلباً للآمال، ومعاذاً وملاذاً؛ وهذا هو الشرك الذي لم يشرعه الله، بل شدد النهي عنه والوعيد عليه، وأخبر أنه لا يغفره، قال تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} [سورة النساء آية: 115] ، وقال تعالى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [سورة المؤمنون آية: 117] ، وقال: {حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ} [سورة الأعراف آية: 37] ، وقال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} [سورة الجن آية: 18] ؛ وهي نكرة في سياق النهي فتعم. فلو جاز الاستظهار بأرواح الأموات، كما قاله هذا الجاهل بالله وبدينه، لجاز أن يستظهر العبد بالحفظة من الملائكة، اللذين هما معه لا يفارقانه بيقين، وهم كما وصف الله {عِبَادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} [سورةالأنبياء آية: 26-27] ؛ وهذا لا يقوله مسلم أصلاً، بل لو فعله أحد كان مشركاً بالله، فإذا لم يجز ذلك في حق الملائكة   1 ابن ماجة: ما جاء في الجنائز (1571) , وأحمد (1/452) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 101 الحاضرين، فلأن لا يجوز في حق أرواح الأموات التي قد فارقت أجسادها، لا يعلم مستقرها إلا الله أولى; قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ} [سورة النحل آية: 20-22] . وأنت ترى أكثر الناس انصرفت قلوبهم عن فهم الحق ومعرفته بدليله، حتى تمكنت الشبهات منهم فظنوها بينات، فأضلوا كثيراً وضلوا عن سواء السبيل; وهذا هو الواقع، لا يخفى على ذوي البصائر؛ وقد أنزل الله كتابه موعظة وشفاء لما في الصدور، وهدى ورحمة للمؤمنين، كما قال تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً} إلى قوله: {وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} [سورة الجاثية آية: 18-19] . الوجه الثاني: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حذر، فيما تواتر عنه، من النهي عن وسائل هذا التعلق والالتجاء بالأموات والرغبة إليهم، فنهى عن اتخاذ القبور مساجد؛ وصرح طوائف من أصحاب الإمام أحمد وغيرهم، كأصحاب مالك والشافعي بالتحريم لذلك. وقد حكى شيخ الإسلام، رحمه الله، الإجماع على التحريم لذلك، وهو الإمام الذي لا يجارى في ميدان معرفة الخلاف والإجماع، لما في صحيح مسلم عن جندب بن عبد الله: " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس، وهو الجزء: 5 ¦ الصفحة: 102 يقول: إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل، فإن الله قد اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً، ولو كنت متخذاً من أمتي خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً. ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد! فإني أنهاكم عن ذلك " 1. وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " قاتل الله إليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " 2. وفي رواية لمسلم: " لعن الله إليهود والنصارى " 3 الحديث. وفي الصحيحين عن عائشة وابن عباس، رضي الله عنهم، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في مرضه: " لعن الله إليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " 4، يحذر ما صنعوا، ولولا ذلك لأبرز قبره، غير أنه خشي أن يتخذ مسجداً؛ قوله: "خشي": تعليل لمنع إبراز قبره؛ فقد نهى صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ القبور مساجد في آخر حياته، ثم إنه لعن وهو في السياق من فعله، وذلك لأن الفتنة بالصلاة عند القبور ومشابهة عباد الأوثان، أعظم من الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها، وقد نهى عن الصلاة في هذه الأوقات، سداً لذريعة التشبه بالمشركين، التي لا تكاد تخطر ببال المصلي، فكيف بهذه الذريعة القريبة التي تدعو فاعلها إلى الشرك، الذي أصله التعظيم بما لم يشرع والغلو فيها. وقد أخرج الإمام أحمد،   1 مسلم: المساجد ومواضع الصلاة (532) . 2 البخاري: الصلاة (437) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (530) , والنسائي: الجنائز (2047) , وأبو داود: الجنائز (3227) , وأحمد (2/246, 2/284, 2/366, 2/396, 2/453, 2/518) . 3 البخاري: الصلاة (436) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (529) , والنسائي: المساجد (703) والجنائز (2046) , وأحمد (1/218, 6/34, 6/80, 6/121, 6/146, 6/228, 6/252, 6/255, 6/274, 6/275) , والدارمي: الصلاة (1403) . 4 البخاري: الصلاة (436) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (529) , والنسائي: المساجد (703) والجنائز (2046) , وأحمد (1/218, 6/34, 6/80, 6/121, 6/146, 6/228, 6/252, 6/255, 6/274, 6/275) , والدارمي: الصلاة (1403) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 103 وأهل السنن عن ابن عباس، رضي الله عنهما، قال: " لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسرج ; " 1؛ ومعلوم أن إيقاد السرج إنما لعن فاعله لكونه وسيلة إلى تعظيمها، وجعلها نصباً يوفض إليها المشركون، وكذلك اتخاذ المساجد على قبور الأنبياء والصالحين. ووجه الدلالة من هذه الأحاديث: أنه إذا لعن من فعل ما هو وسيلة إلى التعظيم والغلو، وإن كان المصلي عندها ومتخذها مساجد إنما وجه وجهه وقلبه إلى الله وحده، فكيف إذا وجه وجهه إلى أرباب القبور، وأرواح الأموات، وأقبل عليها بكليته، وطلب النفع منها من دون الله؟ فإنه قد صرف ما هو من خصائص الربوبية، لمن لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً، ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً. فمن جعل لله شريكاً يلتجئ إليه ويعلق به قلبه، ويوجه إليه وجهه، ويرغب إليه دون الله، فقد جعل لله نداً، كما في الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه: " قلت: يا رسول الله، أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله نداً وهو خلقك " 2 الحديث. وقد بين تعالى في كتابه دينه الحنيف، فيما ذكر عن خليله إبراهيم عليه السلام، أنه {قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [سورة الأنعام آية: 78-79] ، وقال: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ   1 الترمذي: الصلاة (320) , والنسائي: الجنائز (2043) , وأبو داود: الجنائز (3236) , وابن ماجة: ما جاء في الجنائز (1575) , وأحمد (1/229, 1/287, 1/324, 1/337) . 2 البخاري: الأدب (6001) , ومسلم: الإيمان (86) , والترمذي: تفسير القرآن (3182, 3183) , والنسائي: تحريم الدم (4013, 4014) , وأبو داود: الطلاق (2310) , وأحمد (1/380, 1/431, 1/434, 1/462, 1/464) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 104 تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [سورة يونس آية: 104-105] ؛ وبهاتين الآيتين وأمثالهما في القرآن، يميز المؤمن دين المرسلين من دين المشركين: فإقامة الوجه لله بإخلاص العبادة لله بجميع أنواعها هي دين المرسلين، وتوجيه الوجه بشيء من أنواعها لغير الله، هو الشرك الذي لا يغفره الله. وتدبر قول الله تعالى، في وصف أهل الإخلاص: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [سورة الأنبياء آية: 90] ، فالرغبة والرهبة والخشوع، وغير ذلك من أنواع العبادة، كالمحبة والدعاء والتوكل ونحو ذلك، مختص بالله تعالى، لا يصلح منه شيء لغيره كائناً من كان. وتأمل قوله تعالى: {وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} ، فإنه ظاهر بأن ذلك الخشوع ونحوه مختص بالله تعالى، كما ذكر اختصاصه بالعبادة عموما، في قوله: {بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [سورة الزمر آية: 66] . ولا يخفى أن هذا المجيب، قد صرف جل العبادة ومعظمها لغير الله، وقد قال تعالى: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ} [الرّعد: 14] ، وقال: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 105 خَبِيرٍ} [سورة فاطر آية: 13-14] ؛ فالخبير سبحانه وتعالى أبطل الأكاذيب الشيطانية، والتعلقات الشركية في هذه الآية ونظائرها، فتدبر إن كنت للتوحيد طالباً، وفي دين المرسلين راغباً. وقد أجرى الله سبحانه العادة، بوقوع الأمراض العامة والمصائب العظام، في كل مدينة فيها بعض قبور الأولياء والصالحين، فلا يجد أهلها تأثيراً للتعلق بهم في دفع ما أنزل من تلك المصائب؛ وذلك برهان على أن الميت لا ينفع ولا يضر، ولا يغني عمن تعلق به شيئاً، كما قال تعالى: {قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} [سورة الزمر آية: 38] . الوجه الثالث: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أمته أن يجعلوا قبره عيداً، أخرج أبو داود بسند حسن عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تجعلوا بيوتكم قبوراً، ولا تجعلوا قبري عيداً، وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيثما كنتم " 1. وأخرج أبو يعلى في مسنده، والحافظ الضياء في المختارة، عن علي بن الحسين أنه رأى رجلاً يجيء إلى فرجة كانت عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم فيدخل فيها فيدعو، فنهاه وقال: ألا أحدثكم حديثاً سمعته من أبي عن جدي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم   1 أبو داود: المناسك (2042) , وأحمد (2/284, 2/337, 2/367, 2/378, 2/388) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 106 أنه قال: " لا تتخذوا قبري عيداً، ولا بيوتكم قبوراً، فإن تسليمكم يبلغني أين كنتم " 1. وأخرج سعيد بن منصور في سننه: عن سهل بن سهيل قال: "رآني الحسن بن الحسين بن علي، رضي الله عنهم عند القبر، فناداني وهو في بيت فاطمة يتعشى، فقال: هلم إلى العشاء، فقلت: لا أريده، فقال: ما لي رأيتك عند القبر؟ فقلت: سلمت على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: سلم إذا دخلت المسجد، ثم قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا تتخذوا قبري عيداً، ولا تتخذوا بيوتكم مقابر "، " لعن الله إليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " 2، " وصلوا علي، فإن صلاتكم تبلغني حيثما كنتم " 3؛ ما أنت ومن بالأندلس إلا سواء. فهذا علي بن الحسين أفضل التابعين من أهل البيت، والحسن بن الحسين سيد أهل البيت في زمانه، لم يفهما من نهي النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: " لا تتخذوا قبري عيداً " 4 إلا نهي أمته عن اعتياد المجيء إلى قبره وملازمته، لأن الصلاة عليه تبلغه صلى الله عليه وسلم من المصلي، وإن كان بعيداً عن قبره. ولما في ذلك النهي من سد الذريعة عن العكوف عند القبر وتعظيمه بما لم يشرع ; والعكوف: عبادة شرعها الرسول صلى الله عليه وسلم في المساجد، تقرباً بها إلى الله، فلا يجوز أن يفعل ما هو مشروع في المساجد عند القبر، فإن الملازمة والعكوف عندها ذريعة قريبة إلى عبادتها، فتعظيمها بما لم   1 مسلم: صلاة المسافرين وقصرها (780) , والترمذي: فضائل القرآن (2877) , وأبو داود: المناسك (2042) , وأحمد (2/367) . 2 البخاري: المغازي (4441) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (531) , والنسائي: المساجد (703) , وأحمد (1/218, 6/34, 6/80, 6/121, 6/146, 6/252, 6/255, 6/274) , والدارمي: الصلاة (1403) . 3 أبو داود: المناسك (2042) , وأحمد (2/284, 2/337, 2/367, 2/378, 2/388) . 4 مسلم: صلاة المسافرين وقصرها (780) , والترمذي: فضائل القرآن (2877) , وأبو داود: المناسك (2042) , وأحمد (2/367) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 107 يشرعه الله ورسوله غلو، والغلو أعظم وسائل الشرك. والذي فهمه هذان السيدان الجليلان، هو الذي فعله السابقون الأولون، من المهاجرين والأنصار؛ فإن الثابت عنهم المتواتر أنهم كانوا إذا دخلوا المسجد، صلوا على النبي، وسلموا، واكتفوا بذلك عن المجيء إلى قبره صلى الله عليه وسلم وذلك لعلمهم بما شرعه الله ورسوله. " وكان ابن عمر رضي الله عنه إذا قدم من سفر سلم على النبي صلى الله عليه وسلم ثم على أبي بكر، ثم على أبيه ثم انصرف "؛ فهذا حال الصحابة رضي الله عنهم، وهم أشد الناس تمسكا بالسنة، وأعلم الناس بما يجوز وما لا يجوز. قال شيح الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام، رحمه الله تعالى: ووجه الدلالة من هذا الحديث، أن قبر النبي صلى الله عليه وسلم أفضل قبر على وجه الأرض، وقد نهى عن اتخاذه عيداً فغيره أولى. قال: والعيد ما يعتاد قصده ومجيئه، من مكان أو زمان. وقال ابن القيم، رحمه الله: وقد حرف هذه الأحاديث بعض من أخذ شبهاً من اليهود بالتحريف، وشبهاً من النصارى بالشرك، مراغمة لما قصده الرسول صلى الله عليه وسلم وقلباً للحقائق، ولا ريب أن ارتكاب كل كبيرة دون الشرك، أقل إثماً وأخف عقوبة من تعاطي مثل ذلك في دينه وسنته، ولو أراد الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: " لا تجعلوا قبري عيداً " 1 الأمر بملازمة قبره واعتياد قصده، لما نهى عن اتخاذ قبور   1 أبو داود: المناسك (2042) , وأحمد (2/284, 2/337, 2/367, 2/378, 2/388) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 108 الأنبياء مساجد، ولعن من فعل ذلك، ولما قال ذلك أعلم الخلق به: ولولا ذلك لأبرز قبره، غير أنه خشي أن يتخذ مسجداً، انتهى. قلت: وفي هذه الأحاديث ما يبطل هذا التحريف الذي أشار إليه العلامة، كتحريف شارح المشارق، فإن قوله صلى الله عليه وسلم: " لا تتخذوا قبري عيداً " 1 مسبوق وملحق بما يبين معناه، كقوله: " وصلوا علي، فإن صلاتكم تبلغني حيثما كنتم " 2، وكقوله في الحديث الذي رواه الحسن بن الحسين " لعن الله إليهود، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " 3، وغير ذلك مما هو ظاهر، يبين مراده صلى الله عليه وسلم أنه خشي على أمته تعظيم القبور والغلو فيها، كما في الموطإ عن عطاء بن أبي رباح، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد. اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " 4؛ وهذا الحديث صريح في بيان مراد النبي صلى الله عليه وسلم بالجملة الأولى من الحديث، والجملة الثانية، حَمَى صلى الله عليه وسلم حِِمَى التوحيد، ومثل هذه الأحاديث قوله صلى الله عليه وسلم: " لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله " 5. [من أعظم أسباب الشرك تعظيم القبور] فقد عرفت مما تقدم: أن من أعظم أسباب الشرك تعظيم القبور والعكوف عندها؛ ولا ريب أن ذلك يفضي إلى الالتجاء إليها، والتعلق بها، والرغبة إليها، ونحو ذلك من المحبة، وخطابها بالحوائج، وغير ذلك مما لا يمكن عده،   1 مسلم: صلاة المسافرين وقصرها (780) , والترمذي: فضائل القرآن (2877) , وأبو داود: المناسك (2042) , وأحمد (2/367) . 2 أبو داود: المناسك (2042) , وأحمد (2/284, 2/337, 2/367, 2/378, 2/388) . 3 البخاري: المغازي (4441) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (531) , والنسائي: المساجد (703) , وأحمد (1/218, 6/34, 6/80, 6/121, 6/146, 6/252, 6/255, 6/274) , والدارمي: الصلاة (1403) . 4 مالك: النداء للصلاة (416) . 5 البخاري: أحاديث الأنبياء (3445) , وأحمد (1/23, 1/24) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 109 كالخشوع، والبكاء والنحيب، رغبة ورهبة إليها، وهذا هو العبادة التي قصرها الله تعالى عليه، دون كل ما سواه، قال الله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [سورة الأنبياء آية: 108] ، وقوله: {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ} [سورة البقرة آية: 138] ، وقال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} الآيات [سورة الحج آية: 71] . فتدبر هذه الآيات، وما فيها من البيان والحجة القاطعة على أن كل من وجه وجهه وقلبه إلى غير الله، فهو مشرك شركاً ينافي الإخلاص، وتأمل ما فيها من اختصاص الرب تعالى بجميع أنواع العبادة، كالالتجاء والتعلق والرغبة والرهبة، وغير ذلك من أنواع العبادة؛ والله المستعان. ولقد أحسن العلامة ابن القيم، رحمه الله تعالى، في كافيته، إذ يقول شعراً: ولقد نهى ذا الخلق عن إطرائه ... فعل النصارى عابدي الصلبانِ ولقد نهانا أن نصيِّر قبره ... عيداً حذار الشرك بالرحمانِ ودعا بأن لا يجعل القبر الذي ... قد ضمه وثناً من الأوثانِ فأجاب رب العالمين دعاءه ... وأحاطه بثلاثة الجدرانِ حتى غدت أرجاؤه بدعائه ... في عزة وحماية وصيانِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 110 ولقد غدا عند الوفاة مصرحا ... باللعن يصرخ فيهمُ بأذانِ وعنى الألى جعلوا القبور مساجدا ... وهم إليهود وعابدو الصلبانِ والله لولا ذاك أبرز قبره ... لكنهم حجبوه بالحيطانِ قلت: والآيات المحكمات أصرح شيء وأوضحه، في بيان حقيقة الشرك في الإلهية، وهو صرف العبد شيئاً من أنواع العبادة التي يصلح التقرب بها إلى الله، فيتقرب بها إلى غيره؛ فإن العبادة بجميع أنواعها حق لله تعالى ومختصة به. وكذلك هذه الأحاديث المذكورة ونحوها، أبين شيء وأجلاه في تحريم وسائل هذا الشرك؛ لكن الكثير من متأخري هذه الأمة، وقعوا في هذا الشرك، لما طال عليهم الأمد، وأبعدوا عن عصر سلف هذه الأمة، وزمن أتباعهم من الأئمة الذين أجمع العلماء من أهل السنة على هدايتهم ودرايتهم؛ فانتشرت البدع بعدهم، والتبس الحق بالباطل، بظهور علم الكلام والفلسفة، فيا لها مصيبة ما أعظمها! فلما استمكنت أصول تلك البدع في قلوب من ينتسب إلى العلم من المتأخرين، حاولوا صرف المعنى الذي دلت عليه النصوص، وأراده الله ورسوله بالنهي عنه والتغليظ فيه، إلى ضروب من التحريف، فراراً من أن يدخل الواقع منهم تحت ذلك النهي؛ فلما لبسوا لبس عليهم، فإنا لله وإنا إليه راجعون! من يهد الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 111 الوجه الرابع: أن هذا الذي يدعيه المجيب، من الاستظهار بأرواح أصحاب القبور، لا حقيقة له؛ فإنه اعتقاد فاسد من تضليل الشيطان لجهال الأمة، وإلا فمن أين لهذا المدعي أن الأرواح تنْزل كذلك؟! وقد عرفت أن التعلق بها وعبادتها شرك بالله؛ وهذا من التخييلات الشيطانية الشركية بلا ريب، نظير ما ادعاه المشركون في قولهم في معبوداتهم: {هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [سورة يونس آية: 18] . قال الله تعالى: {قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [سورة يونس آية: 18] ، فأكذبهم الله في دعواهم هذه، وبين أنه لا حقيقة لها، وأن اتخاذهم شفعاء من دون إذنه شرك نزه نفسه عنه. ونظائر هذه الآية في القرآن كثير، كقوله تعالى: {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ} الآية [سورة الرعد آية: 33] ، فأخبر تعالى عن أهل الشرك أنهم يدعون في معبوديهم أشياء لا حقيقة لها في الخارج أصلاً، وإنما هي تصورات وخيالات ذهنية شيطانية، {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} [سورة النجم آية: 23] ، وقوله: {أَمَّنْ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [سورة النمل آية: 64] . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 112 ولقد بين تعالى في كتابه دينه وأمره الشرعي في آيات كثيرة، من ذلك ما ذكر عن نبيه يوسف عليه السلام، من قوله: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاََّّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [سورة يوسف آية: 39-40] . وقد عرفت مما تقدم: أن الله تعالى قصر أنواع العبادة من خلقه عليه، ولم يأذن لهم أن يصرفوا منها شيئاً لغيره أصلاً، كما في فاتحة الكتاب: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [سورة الفاتحة آية: 5] ؛ وتوحيد الإلهية من اسمه تعالى، فهذا الاسم الأعظم دل على أنه سبحانه هو المألوه المعبود، كما ذكر في الدر المنثور وغيره عن ابن عباس قال: " معنى الله: ذو الألوهية والعبودية على خلقه أجمعين ". فمن تدبر هذه الآيات ونظائرها، علم أن هؤلاء القبوريين المفتونين بالأموات، قد خالفوا ما أمرهم الله تعالى به من إفراده بالألوهية والعبودية الخاصة له، فتألهت قلوبهم غيره، وتعلقت أفئدتهم بمن لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً، ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً، قال الله تعالى: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} [سورة فاطر آية: 13] ، وتقدمت. وقال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 113 يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [سورة الأحقاف آية: 5-6] . فتأمل هذه وما فيها من البيان والبرهان، على ضلال من وجه وجهه وقلبه لغير الله بأي نوع كان من أنواع العبادة؛ وهذا لا يخفى إلا على من عميت بصيرته، وضل سعيه وفسد فهمه، {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [سورة النور آية: 40] . الوجه الخامس: أن المجيب ومن يقول بقوله، إنما وجهوا وجوههم وقلوبهم إلى أرواح الأموات، وقد فارقت تلك الأرواح أجسادها لا يعلم أين صارت، ولا إلى ما صارت إلا الله، إلا ما ورد أن أرواح الشهداء والسعداء تسرح في الجنة؛ وقد جعل الله موتهم دليلاً وبرهاناً على بطلان عبادتهم، قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ} [سورة النحل آية: 20-22] . ولا ريب أن من له بصيرة يعلم أن الميت لا شعور له بحاله، فكيف بغيره؟ وقد تقدم دليله؛ فبطل بهذه الآيات المحكمات وما في معناها، كل ما تعلق به المشركون من طلب وأمل ورجاء ورغبة صرفوه لغير الله، وبين تعالى أن ذلك يعود عليهم وبالاً في الدار الآخرة؛ نعوذ بالله من ضلال السعي والخيبة والخسران، ولقد أحسن من قال شعرا: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 114 يقضى على المرء في أيام محنته ... حتى يرى حسناً ما ليس بالحسنِ الوجه السادس: أن المجيب أجاب بما يخالف مطلوب السائل، فإن السائل إنما طلب منه قول الأئمة الذين يرجع إليهم في أصول الدين وفروعه، ممن أجمع أهل السنة على هدايتهم ودرايتهم، وعلمهم وصدقهم، وتمسكهم بالحق، وهم كثيرون في القرون المفضلة وبعدها، ولم يسأله عن قول من لا يعرف بعلم ولا ثقة، ولا صدق ولا عدالة؛ والكلام الذي نقله عن المجيب من شرحه، كلام محرف للسنة، قد دخل في الكلام المذموم والفلسفة؛ ومثل هذا لا يحتج بقوله من له أدنى فهم ومعرفة بأحوال العلماء. فسبحان الله يا هذا! كيف تقلد في دينك من لا يعرف بعلم ولا صدق وأمانة وعدالة؟! فما أكثر من اغتر بأقوال من هو مثله، ممن أخذ عن أرباب البدع! فهلا أجبته بأقوال الصحابة والتابعين، كالفقهاء السبعة، وكالزهري، والحسن، وابن سيرين، والحمادين، والأوزاعي، والثوري، والليث بن سعد، والأئمة الأربعة، وإسحاق بن إبراهيم، وأبي عبيد، ومحمد ابن نصر المروزي، وابن جرير الطبري، وأبي عمر ابن عبد البر النمري صاحب التمهيد والاستذكار، وأمثال هؤلاء من أئمة الإسلام، أهل العروة الوثقى، فإنهم بحمد الله كثيرون في الأمة، يعرفهم من له إلمام بالعلم والعلماء والفضل والفضلاء؛ ومعاذ الله أن تجد في كلام هؤلاء وأمثالهم، من الجزء: 5 ¦ الصفحة: 115 يجوز تعلق القلب والهمم والإرادات بغير الله، سبحان الله وتقدس عن الشرك في الإرادات والنيات والأعمال. ولو قيل لهذا المجيب: عرفنا بشارح المشارق هذا ومن ذكره من المصنفين من أهل الجرح والتعديل، لم يجد إلى ذلك من سبيل؛ وعلى كل حال، فليس في كلامه حجة ولا دليل، فإن كلامه يعرف بحقيقة حاله، والحجة التي لا تعارض ولا تدافع إنما هي فيما قال الله ورسوله، وما كان عليه المسلمون في عصر الخلفاء الراشدين، والأئمة المهديين، قبل حدوث البدع وتشعب الأهواء واختلاف الآراء، قال الله تعالى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ} [سورة آية: 116-117] . ولا يخفي على من له دين والمام بالعلم النافع، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حمى حمى التوحيد، وسد كل طريق يوصل إلى الشرك الأكبر والأصغر؛ فقد ثبت عنه أنه لما قال له رجل: ما شاء الله وشئت، قال: " أجعلتني لله نداً؟! بل ما شاء الله وحده " 1. وفي المسند عن عمران بن حصين رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم " رأى رجلاً في يده حلقة من صفر، فقال: ما هذه؟ قال: من الواهنة، فقال: انزعها! فإنها لا تزيدك إلا وهناً; فإنك لو مت وهي عليك ما أفلحت أبداً " 2. فانظر إلى   1 أحمد (1/214) . 2 ابن ماجة: الطب (3531) , وأحمد (4/445) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 116 هذه العقوبة العظيمة، لمن علق قلبه بحلقة دون الله. وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من تعلق شيئاً، وُكل إليه " 1، أخرجه النسائي من حديث أبي هريرة. ولأحمد عن عقبة بن عامر: " من تعلق تميمة فلا أتم الله له، ومن تعلق ودعة فلا ودع الله له " 2، وفي رواية: " من تعلق تميمة فقد أشرك " 3. [التعلق بأرواح الأموات] ومن المعلوم أن التعلق بأرواح الأموات، أعظم شركًا من تعليق التمائم؛ وهذا لا يخفى على من له بصيرة في الدين، فإن الفتنة بها أعظم، والتعلق بها أشد. والعبادة عبادة حيثما صرفت، فإن قصرت على المستحق لها وهو الله فهو التوحيد، وإن صرف منها نوع فأكثر لغير الله فهو شرك بالله، قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [سورة النساء آية: 48] . والصحابة، رضي الله عنهم، قد تمسكوا بما علموه من حال نبيهم صلى الله عليه وسلم من تحقيق التوحيد وحمايته عن الشرك؛ فقد ثبت عن حذيفة بن اليمان، صاحب سر رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أنه رأى رجلاً في يده خيط من الحمى، فقطعه وتلا قوله: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [سورة يوسف آية: 106] ". ومن المعلوم: أن الشرك في عصر الصحابة، رضي الله عنهم، كان قليلاً جداً، فإذا رأوا شيئاً منه أعظموه وأنكروه، وحذيفة رضي الله عنه استدل بهذه الآية الكريمة، على أن هذا شرك بالله؛ فأين هذا مما وقع فيه أكثر الناس اليوم، من طلب   1 الترمذي: الطب (2072) . 2 أحمد (4/154) . 3 أحمد (4/156) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 117 النفع ودفع الضر من الأموات، الذين لا إحساس لهم بما يطلبه الداعي منهم، ولم يدفعوا عن أنفسهم فضلاً عن غيرهم؟! وأما التابعون للصحابة وأتباعهم، فإنهم سلكوا سبيل النبي صلى الله عليه وسلم، فإنهم أبدوا وأعادوا في إنكار ما حدث من الشرك،؛ فقد ثبت عن سعيد بن جبير رضي الله عنه أنه قال: " من قطع تميمة من إنسان، كان كعدل رقبة ". فانظر إلى هذا التشديد من هذا الإمام في تعليق التميمة، فأين هذا مما قرر المجيب جوازه، من التعلق بأرواح الأموات، التي لا يعلم مستقرها إلا الله، ولا تنفع ولا تضر. {قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [سورة الأنعام آية: 71] . وقد عرفت: أن الإسلام لرب العالمين، هو إسلام الوجه والقلب بإخلاص العبادة بجميع أنواعها لله تعالى؛ فمن صرف شيئاً من العبادة لغير الله فقد أشرك بالله. قال الله تعالى: {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً الجزء: 5 ¦ الصفحة: 118 فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} الآيات [سورةالروم آية: 28-30] . فيا له من بيان ما أوضحه، وحجة ما أقطعها للشرك! والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [سورة يونس آية: 57-58] . ولقد أحسن من قال في بيان التوحيد، أي: توحيد الإلهية، شعراً: فالقصد وجه الله بالأقوال والـ ... أعمال والطاعات والشكرانِ فبذاك ينجو العبد من إشراكه ... ويصير حقاً عابد الرحمنِ وبهذا يعلم: أن الشرك بالله مسبة لله وتنقص له، ورغبة عنه إلى غيره، وهضم لربوبيته تعالى؛ فعظم هؤلاء الجاحدون لتوحيد الله مخلوقه وعبده، بتنقصهم لله تعالى ومسبتهم له، بزعمهم أن معبوديهم صالحون وأولياء، فأنزلوهم بمنْزلة الله وسلبوا لهم حقه؛ والنبي والصالح حقه متابعته فيما هو فيه من التوحيد والعمل الذي صار به صالحاً، فلم يقتدوا بهم في الدين ولا في العمل، فأخذوا حقهم من الاقتداء بهم في الدين واتباعهم، وصرفوه لجهال المتفلسفة ومن أخذ عنهم، كشارح المشارق، وأمثاله من المحرفين. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 119 الوجه السابع: إنما يبين خطأ المجيب وضلاله، مع ما تقدم من الأوجه، ما أخرجه الترمذي بسنده عن أبي واقد الليثي، قال: " خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين، ونحن حدثاء عهد بكفر، وللمشركين سدرة يعكفون عندها وينوطون بها أسلحتهم، يقال لها ذات أنواط، فمررنا بسدرة فقلنا: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: إنها السنن، قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ إِنَّ هَؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} لتركبنّ سنن من كان قبلكم ". وفي هذا الحديث من الفوائد: أن التبرك بالاشجار ونحوها شرك وتأله بغير الله، ولهذا شبه قولهم: اجعل لنا ذات أنواط، بقول بني إسرائيل: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً} ومنها: أن حقيقة الشيء لا تتغير بتغير الاسم. ومنها: خطر الشرك والجهل، فكادوا أن يقعوا في الشرك لما جهلوه؛ فإذا كان هذا في عهد النبوة وإقبال الدين، فكيف لا يقع بعد تقادم العهد وتغير الأحوال، واشتداد غربة الدين؟ ومنها: مشابهة هذه الأمة بأهل الكتاب فيما وقع منهم، كما في الحديث الآخر: " لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه. قالوا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال فمن؟ " 1.   1 البخاري: إلاعتصام بالكتاب والسنة (7320) , ومسلم: العلم (2669) , وأحمد (3/84, 3/89) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 120 فإذا تبين أن التعلق بالاشجار ونحوها عبادة لها من دون الله، ووضع للعبادة في غير موضعها، فلا فرق بين أن يصرف لشجرة أو قبر أو غير ذلك. ومعلوم أن الشجر له حياة بحسبه، مطيع لربه يسبح بحمده، وما عبدت اللات والعزى ومناة إلا بمثل ذلك التعلق والاعتقاد، قال مجاهد: " اللات كان رجلاً صالحاً يلت السويق للحاج، فمات فعكفوا على قبره "، وكذا قال أبو الجوزاء عن ابن عباس. وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء " 1. فقد والله اشتدت غربة الإسلام، حتى عاد الشرك بالله ديناً وقربة يتقرب به إلى الله؛ وهو أعظم ذنب عصى الله به، كما قال تعالى: {لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [سورة لقمان آية: 13] ، وقال: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [سورة المائدة آية: 72] ، وقال: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [سورة الحج آية: 31] . الوجه الثامن: أن هذا الذي أجازه هذا المجيب، هو بعينه قول الفلاسفة المشركين؛ فإنهم قالوا: إن الميت المعظم الذي لروحه قرب ومزية عند الله، لا تزال تأتيه الألطاف من الله، وتفيض على روحه الخيرات، فإذا علق الزائر روحه به وأدناها منه، فاض من روح المزور على روح   1 الترمذي: الإيمان (2629) , وابن ماجة: الفتن (3988) , وأحمد (1/398) , والدارمي: الرقاق (2755) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 121 الزائر من تلك الألطاف بواسطتها، كما ينعكس الشعاع من المرآة الصافية والماء ونحوه على الجسم المقابل له; قالوا: فتمام الزيارة أن يتوجه الزائر بوجهه وقلبه وروحه إلى الميت، ويعكف بهمته عليه، وبوجهه وقصده كله وإقباله عليه، بحيث لا يبقى فيه التفات إلى غيره؛ وكلما كان جمع الهمة والقلب عليه أعظم، كان أقرب إلى انتفاعه به وشفاعته له. قال ابن القيم، رحمه الله: وقد ذكر هذه الزيارة على هذا الوجه، ابن سينا والفارابي وغيرهما، وصرح بها عُبَّاد الكواكب في عبادتها، وقالوا: إذا تعلقت النفس الناطقة، بالأرواح العلوية، فاض عليها منها النور، وبهذا السر عبدت الكواكب، واتخذت لها الهياكل، وصنفت لها الدعوات، واتخذت الأصنام المجسدة لها؛ وهذا بعينه هو الذي أوجب لعباد القبور اتخاذها أعياداً، وتعليق الستور عليها، وإيقاد السرج عليها، وبناء المساجد عليها، وهو الذي قصد رسول الله صلى الله عليه وسلم إبطاله ومحوه بالكلية، وسد الذرائع المفضية إليه، فوقف المشركون في طريقه، وناقضوه في قصده، وكان صلى الله عليه وسلم في شِقّ، وهؤلاء في شق، وهذا الذي ذكره هؤلاء المشركون في زيارة القبور، هو الشفاعة التي ظنوا أن آلهتهم تنفعهم بها وتشفع لهم عند الله. قالوا: فإن العبد إذا تعلقت روحه بروح الوجيه المقرب عند الله، وتوجه بهمته إليه، وعكف بقلبه عليه، صار بينه وبينه اتصال يفيض به عليه نصيب مما يحصل له من الله، وشبهوا ذلك بمن يخدم ذا جاه وحظوة بقرب من السلطان، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 122 فهو شديد التعلق به فيما يحصل لذلك من السلطان، من الإنعام والإفضال، وينال ذلك المتعلق منه بحسب تعلقه؛ وهذا سر عبادة الأصنام، وهو الذي بعث الله رسله وأنزل كتبه بإبطاله وتكفير أصحابه ولعنهم، وأباح دماءهم وأموالهم، وسبي نسائهم وذراريهم، وأوجب لهم النار؛ والقرآن من أوله إلى آخره، مملوء من الرد على أهله وإبطال مذهبهم. انتهى. قلت: وتأمل ما ذكره الله في سورة {يس} ، من قوله: {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} الآية [سورة يس آية: 20-24] ؛ ففي هذه الآية العظيمة وما في معناها، ما يكفي ويشفي في إبطال هذا المذهب الخبيث، من تعلق أهل الإشراك بغير الله، وافترائهم على الله، وإضلالهم العباد عن توحيد الله والتوجه إليه وحده بالاخلاص الذي هو دينه الذي لا يرضى لعباده ديناً سواه، كما قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} [سورة الزمر آية: 2-3] . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 123 ففرق تعالى في هذه الآية، بين دينه الذي أرسل به رسله وأنزل به كتبه، ودين هؤلاء المشركين، الذي أنكره عليهم وأكذبهم فيما زعموه، وكفرهم بما انتحلوه واعتمدوه، من الشرك العظيم الذي لا يحبه ولا يرضاه، وينكره ويأباه، كما قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ} [سورة البقرة آية: 165-166] ، والأسباب هي: الوصل والمودة التي كانت بين العابد والمعبود، أخبر سبحانه أنها تنقطع يوم القيامة، {وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّأُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [سورة البقرة آية: 167] ؛ فهذا ما يؤول إليه أمر هؤلاء المشركين يوم القيامة. ونظائر هذه الآية كثير في القرآن، كقوله تعالى: {وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} [سورة العنكبوت آية: 25] . فتأمل ما يؤول إليه أمر أهل هذه التوجهات، والتعلقات بغير الله، من كفرهم بمن تعلقوا عليهم، ولعنهم لهم، وجزاءهم عند الله بعذاب النار وغير ذلك مما أخبر به تعالى عن أحوالهم. فلا شافع يشفع لهم ولا ناصر ينصرهم؛ فعادت الجزء: 5 ¦ الصفحة: 124 تلك التعلقات الشركية والهمم الشيطانية، والأماني الكاذبة عليهم حسرة ووبالاً. هذا ما تيسر تعليقه بحمد الله، في هدم أصول هؤلاء المشركين، وفيه الكفاية لمن نور الله قلبه. {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [سورة النور آية: 40] ، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً. وأجاب أيضاً: الشيخ عبد الرحمن بن حسن، قدس الله روحه: وأما قولكم في الذهاب إلى المقابر التي بني عليها القباب، وأوقدت فيها المصابيح، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن إليهود والنصارى، وقال: " ألا لعنة الله على إليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد "، وقال: " لعن الله زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج " 1. وبناء القباب على القبور وإسراجها، وسيلة إلى عبادتها والخضوع لها، والتذلل والتعظيم، وسؤالها ما لا يقدر عليه إلا الله. وفي الحديث الذي رواه مالك في الموطإ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " اللهم لا تجعل قبري وثناً يُعبد. اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " 2.   1 الترمذي: الصلاة (320) , والنسائي: الجنائز (2043) , وأبو داود: الجنائز (3236) , وابن ماجة: ما جاء في الجنائز (1575) , وأحمد (1/229, 1/287, 1/324, 1/337) . 2 مالك: النداء للصلاة (416) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 125 وقال الشيخ محمد بن عبد اللطيف، والشيخ سليمان بن سحمان، بعد حمد الله والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما بعد، فهذا شيء يسير من كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وكلام الأئمة، في وجوب هدم القباب والبنايات التي على القبور، وبيان أنها من أعظم الوسائل والذرائع المفضية إلى الشرك، ونحن ولله الحمد في ذلك متبعون لا مبتدعون، وقد أكمل الله لنا الدين، وبلغ رسوله صلى الله عليه وسلم البلاغ المبين، قال الله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلامَ دِيناً} [سورة المائدة آية: 3] ، وقال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [سورة الحشر آية: 7] . قال أبو ذر رضي الله عنه: " لقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما من طائر يقلب جناحيه إلا ذكر لنا منه علماً "، وقال صلى الله عليه وسلم: " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه، فهو رد " 1، وفي لفظ لمسلم: " من عمل عملاً ليس عليه أمرنا، فهو رد " 2. إذا تبين ذلك: فهذه أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحيحة الصريحة، التي لا مطعن فيها ولا مغمز، شاهدة بأن وضع القباب والبنايات على القبور والكتابة عليها، وتجصيصها، واتخاذها مساجد، وإسراجها، أمر تقرر في الشرع منعه، وسبق الحكم الجازم بالنهي عنه، والكف عن ارتكابه، ومضت كلمة الحق بسد ذريعته، ظناً بنا أن نسلك سنن من قبلنا؛ وإذا تأمل الناظر أعيان ما صح فيه النهي من الشارع في هذا الباب، ثم نظر إحصاء هذه الأمم وارتكابها وتلوثها   1 البخاري: الصلح (2697) , ومسلم: الأقضية (1718) , وأبو داود: السنة (4606) , وابن ماجة: المقدمة (14) , وأحمد (6/240, 6/270) . 2 البخاري: الصلح (2697) , ومسلم: الأقضية (1718) , وأبو داود: السنة (4606) , وابن ماجة: المقدمة (14) , وأحمد (6/73, 6/146, 6/180, 6/240, 6/256, 6/270) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 126 بأدرانها، وتهالكها على مناقضة كل نهي من تلك المناهي، بفعل عين المنهي عنه، طال تعجبه كون هذه الخلوف ضلت عن ذلك الرشد الأسعد، فعمدوا إلى كل ما نهوا عنه فواقعوه، كأنهم كشفوا واستقصوا بالاستقراء والتتبع، حتى أتوا على مشخصات ما نهى عنه الشارع، فلا شك صدق التأمل أن القوم سلكوا في العمل مسلك المضادة الوافية، ثم زادوا زيادة في درك النكال كافية. وهذا نص الأحاديث الواردة في ذلك: قال الإمام الحجة الحافظ، إمام الدنيا في الحديث، أبو عبد الله البخاري، في جامعه الصحيح: حدثنا أبو اليمان، قال: حدثنا شعيب عن الزهري، أخبرني عبيد الله بن عتبة، أن عائشة وعبد الله بن عباس، قالا: " لما نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم، طفق يطرح خميصة له على وجهه، فإذا اغتم بها كشفها، فقال وهو كذلك: لعنة الله على اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " 1، يحذر ما صنعوا. حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " قاتل الله إليهود، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " 2. انتهى بلفظه من كتاب الصلاة. فتأمل هذه القباب، وما أعد فيها من المحاريب والفرش، ومصاحف التلاوة، واعتياد الصلاة فيها، والتردد إليها في الأوقات للذكر والدعاء والاعتكاف، وما يطول   1 البخاري: الصلاة (436) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (531) , والنسائي: المساجد (703) , وأحمد (1/218, 6/34) , والدارمي: الصلاة (1403) . 2 البخاري: الصلاة (437) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (530) , والنسائي: الجنائز (2047) , وأبو داود: الجنائز (3227) , وأحمد (2/246, 2/284, 2/366, 2/396, 2/453, 2/518) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 127 تعداده، هل لاتخاذ القبور مساجد معنى سوى هذا الذي تقضي الضرورة بأنه عينه؟ بل كثيراً ما وجدنا القباب والمشاهد، أحيا كثيراً من المساجد، فالله المستعان. وقد ثبت في الصحيحين والسنن، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن البناء على القبور، وأمر بهدمه، كما رواه مسلم في صحيحه، حيث قال وساق بسنده إلى أبي الهياج الأسدي، قال: " قال علي: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أن لا أدع تمثالاً إلا طمسته، ولا قبراً مشرفاً إلا سويته " 1، وساق بسنده إلى جابر، قال: " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجصص القبر، وأن يبنى عليه وأن يكتب عليه " 2. قال هارون بن سعيد الأيلي: قال: حدثنا ابن وهب قال: حدثني عمرو بن الحارث، أن ثمامة حدثه قال: " كنا مع فضالة بن عبيد بأرض الروم برودس، فتوفي صاحب لنا، فأمر فضالة بقبره فسوي، ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بتسويتها " 3. وقال الترمذي: في جامعه باب ما جاء في تسوية القبور، وساق بسنده إلى وائل بن حجر، أن علياً رضي الله عنه قال لأبي الهياج الأسدي: " ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أن لا تدع قبراً مشرفاً إلا سويته، ولا تمثالاً إلا طمسته " 4، قال: وفي الباب عن جابر، باب ما جاء في النهي عن البناء على القبور وتجصيصها، وساق بسنده إلى   1 مسلم: الجنائز (969) , والترمذي: الجنائز (1049) , والنسائي: الجنائز (2031) , وأبو داود: الجنائز (3218) , وأحمد (1/96, 1/128, 1/145) . 2 مسلم: الجنائز (970) , والترمذي: الجنائز (1052) , والنسائي: الجنائز (2027) , وأحمد (3/295, 3/332, 3/399) . 3 مسلم: الجنائز (968) , والنسائي: الجنائز (2030) , وأبو داود: الجنائز (3219) , وأحمد (6/18, 6/21) . 4 مسلم: الجنائز (969) , والترمذي: الجنائز (1049) , والنسائي: الجنائز (2031) , وأبو داود: الجنائز (3218) , وأحمد (1/96, 1/111, 1/128, 1/150) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 128 جابر، قال: " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تجصيص القبور " 1، وساق بسنده إلى جابر قال: " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكتب على القبور شيء " 2، وساق بسنده إلى أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم " نهى أن يبنى على القبور " 3. وقد روى أبو داود من حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم " نهى أن يجصص القبر، أو يكتب عليه، أو يزاد عليه " 4، ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكتابة عليها كما تقدم في صحيح مسلم; وقال أبو عيسى الترمذي: باب ما جاء في تجصيص القبور وأن يكتب عليها وأن يبنى عليها وأن توطأ، وقال أبو داود: باب البناء على القبور، وساق بسنده إلى جابر قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم " نهى أن يقعد على القبر، وأن يجصص ويبنى عليه " 5. انتهى. ولو ذهبنا نستقرئ ما ذكر أئمة السنة، وحفاظ الحديث في هذه المسألة، وما رووه في المساند والمجامع والمعاجم، والجوامع والسنن والأجزاء، والتفاسير الأثرية، لاتسع النطاق، وضاق عن الاستيعاب الخناق، وتصدى المرء في ذلك لما يتعسر أن يطاق. وفيما ذكرنا وفاء بالمقصود ووفاق، وأقل منه يكفي عند الفطناء الحذاق. فهذه أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم كما ترى فيما تقدم آنفاً، وقد قال الله تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} [سورة الأعراف آية: 3] ، وقال تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} الآية [سورة المائدة آية: 49] ، وقال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي   1 مسلم: الجنائز (970) , والترمذي: الجنائز (1052) , والنسائي: الجنائز (2029) , وأبو داود: الجنائز (3225) , وابن ماجة: ما جاء في الجنائز (1562, 1563) , وأحمد (3/295, 3/332, 3/339) . 2 مسلم: الجنائز (970) , والترمذي: الجنائز (1052) , والنسائي: الجنائز (2027) , وابن ماجة: ما جاء في الجنائز (1563) . 3 ابن ماجة: ما جاء في الجنائز (1564) . 4 مسلم: الجنائز (970) , والترمذي: الجنائز (1052) , والنسائي: الجنائز (2027) , وابن ماجة: ما جاء في الجنائز (1562, 1563) , وأحمد (3/332) . 5 مسلم: الجنائز (970) , والترمذي: الجنائز (1052) , والنسائي: الجنائز (2029) , وابن ماجة: ما جاء في الجنائز (1562, 1563) , وأحمد (3/332) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 129 شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [سورة النساء آية: 59] ، وقال تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [سورة المائدة آية: 50] ، وقال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [سورة النساء آية: 65] ، إلى غير ذلك من الآيات التي أمر الله فيها باتباع رسوله صلى الله عليه وسلم فيما أمر به ونهى عنه؛ وقد قال الإمام الشافعي، رحمه الله: أجمع العلماء على أن من استبانت له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد من الناس كائناً من كان. وأما أقوال أئمة المذاهب، ومن على منهاجهم من أتباعهم، فقال النووي في شرح مسلم: قال الشافعي، رحمه الله، في الأم: رأيت الأئمة كلهم بمكة يأمرون بهدم ما يبنى على القبور، ويؤيد الهدم قوله: " ولا قبراً مشرفاً إلا سويته " 1، وقال الأذرعي في قوت المحتاج: ثبت في صحيح مسلم: النهي عن التجصيص والبناء، وفي الترمذي وغيره: النهي عن الكتابة. وقال القاضي ابن كج: ولا يجوز أن يبنى عليها قباب ولا غيرها، والوصية باطلة. قال الأذرعي: والوجه في تحريم البناء على القبور، المباهاة والمضاهاة للجبابرة والكفار، والتحريم ثبت بدون ذلك. وأما بطلان الوصية ببناء القباب وغيرها من الأبنية العظيمة، وإنفاق الأموال الكثيرة عليه، فلا ريب في تحريمه، والعجب كل العجب ممن يلزم   1 مسلم: الجنائز (969) , والترمذي: الجنائز (1049) , والنسائي: الجنائز (2031) , وأبو داود: الجنائز (3218) , وأحمد (1/89, 1/96, 1/111, 1/128, 1/138, 1/139, 1/145, 1/150) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 130 الورثة من حكام العصر ويعمل بالوصية بذلك. انتهى كلام الأذرعي. وقال ابن القيم، رحمه الله، في زاد المعاد في هدي خير العباد: لما أسلم أهل الطائف، وقد كان فيما سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدع لهم الطاغية، وهي اللات لا يهدمها ثلاث سنين، فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم، فما برحوا يسألونه سنة سنة ويأبى عليهم، حتى سألوا شهراً واحداً بعد قدومهم، فأبى عليهم أن يدعها شيئاً مسمى، وإنما يريدون بذلك فيما يظهرون أن يسلموا بتركها من سفهائهم ونسائهم وذراريهم، ويكرهون أن يروعوا قومهم بهدمها حتى يدخلهم الإسلام، فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يبعث أبا سفيان ابن حرب، والمغيرة بن شعبة يهدمانها - إلى أن قال - فلما فرغوا من أمرهم، وتوجهوا إلى بلادهم راجعين، بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم معهم أبا سفيان ابن حرب، والمغيرة بن شعبة في هدم الطاغية، فهدماها. ثم قال في فقه هذه القصة: ومنها: أنه لا يجوز إبقاء مواضع الشرك والطواغيت بعد القدرة على هدمها وإبطالها يوماً واحداً؛ فإنها شعائر الكفر والشرك، وهي أعظم المنكرات، فلا يجوز الإقرار عليها مع القدرة البتة، وهذا حكم المشاهد التي بنيت على القبور التي اتخذت أوثاناً وطواغيت تعبد من دون الله، والأحجار التي تقصد للتعظيم والتبرك والنذر الجزء: 5 ¦ الصفحة: 131 والتقبيل، لا يجوز إبقاء شيء منها على وجه الأرض مع القدرة على إزالته، وكثير منها بمنْزلة اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى، أو أعظم شركاً عندها؛ والله المستعان. ولم يكن أحد من أرباب هذه الطواغيت يعتقد أنها تخلق وترزق وتحيي وتميت، وإنما كانوا يفعلون عندها وبها ما يفعله إخوانهم من المشركين اليوم عند طواغيتهم، فاتبع هؤلاء سنن من كان قبلهم، وسلكوا سبيلهم، حذو القذة بالقذة، وأخذوا مأخذهم شبراً بشبر وذراعاً بذراع، وغلب الشرك على أكثر النفوس، لظهور الجهل وخفاء العلم، فصار المعروف منكراً والمنكر معروفاً، والسنة بدعة والبدعة سنة؛ نشأ على ذلك الصغير، وهرم عليه الكبير، وطمست الأعلام، واشتدت غربة الإسلام، وقل العلماء وغلب السفهاء، وتفاقم الأمر واشتد البأس، وظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس؛ ولكن لا تزال طائفة من العصابة المحمدية قائمين، ولأهل الشرك والبدع مجاهدين، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين. انتهى. ولا تحسب أيها المنعم عليه باتباع صراط الله المستقيم، أن النهي عن اتخاذ القبور مساجد وأعياداً، وإيقاد السرج عليها والسفر إليها والنذر لها، واستلامها وتقبيلها ونحو ذلك، غض من قدر أصحابها وتنقيص لها، كما يحسبه الضلال، بل ذلك من إكرامهم، ومتابعتهم فيما يحبونه، وتجنب ما يكرهونه، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 132 فأنت والله وليهم ومحبهم، وناصر طريقتهم وسنتهم، وعلى هديهم ومنهاجهم، وهؤلاء المشركون، من أعصى الناس لهم، وأبعدهم من هديهم، كالنصارى مع المسيح، والروافض مع علي؛ فأهل الحق أولى بأهل الحق من أهل الباطل، فالمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض، والمنافقون والمنافقات بعضهم من بعض، ومن جمع بين سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في القبور، وما أمر به ونهى عنه، وما كان عليه أصحابه، وبين ما عليه أهل مكة وغيرهم، وجد أحدهما مضاداً للآخر مناقضاً له، بحيث لا يجتمعان أبداً. فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البناء على القبور كما تقدم ذكره، وهم يبنون عليها القباب العظيمة، والذي شوهد عند دخول المسلمين مكة أكثر من ثلاثمائة قبة. ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يزاد عليها غير ترابها، وهم يزيدون عليها غير التراب، التابوت ولباس الجوخ، ومن فوق ذلك القبة العظيمة المبنية بالأحجار والجص. ولعن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أسرجها، والذي رأى المسلمون ليلة دخولهم مكة المشرفة في المقبرة أكثر من مائة قنديل، هذا مع علمهم بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن فاعله؛ فقد روى ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم " لعن زائرات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسرج " 1، رواه أهل السنن. وأعظم من هذا كله، وأشد تحريما: الشرك الأكبر الذي يفعل عندها، وهو دعاء المقبورين، وسؤالهم قضاء الحاجات، وتفريج الكربات. نسأل الله أن يطهر حرمه من   1 الترمذي: الصلاة (320) , والنسائي: الجنائز (2043) , وأبو داود: الجنائز (3236) , وابن ماجة: ما جاء في الجنائز (1575) , وأحمد (1/229, 1/287, 1/324, 1/337) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 133 الشرك; ولا ريب أن دعاء الموتى وسؤالهم جلب الفوائد وكشف الشدائد، من الشرك الأكبر الذي كفّر الله به المشركين، كما قال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} [سورة الجن آية: 18] ؛ والآيات في هذا المعنى كثيرة شهيرة. إذا تقرر هذا، فنحن نعلم بالضرورة أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشرع لأمته أن يدعوا أحداً من الأموات، لا الأنبياء ولا الصالحين ولا غيرهم، لا بلفظ الاستغاثة ولا بغيرها، بل نعلم أنه نهى عن كل هذه الأمور، وأن ذلك من الشرك الأكبر، وإنما شرع لنا عند زيارة القبور تذكر الآخرة، والإحسان إلى الميت بالدعاء له، والترحم عليه، والاستغفار له، كما في صحيح مسلم عن بريدة، قال: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر أن يقولوا: السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون. نسأل الله لنا ولكم العافية " 1. وعن عائشة، رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم: " ما من ميت يصلي عليه أمة من المسلمين يبلغون مائة، كلهم يشفعون له، إلا شفعوا فيه " 2، رواه مسلم؛ وإذا كنا على جنازته ندعو له، لا ندعوه، ونشفع له، لا نستشفع به، فبعد الدفن أولى وأحرى؛ فبدل أهل الشرك قولاً غير الذي قيل لهم، بدلوا الدعاء له بدعائه، والشفاعة له بالاستشفاع به، وقصدوا بالزيارة التي شرعها الرسول الله صلى الله عليه وسلم   1 مسلم: الجنائز (975) , والنسائي: الجنائز (2040) , وابن ماجة: ما جاء في الجنائز (1547) , وأحمد (5/353, 5/359) . 2 مسلم: الجنائز (947) , والترمذي: الجنائز (1029) , والنسائي: الجنائز (1991) , وأحمد (3/266, 6/32, 6/40, 6/97, 6/231) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 134 إحساناً إلى الميت سؤال الميت، وتخصيص تلك البقعة بالدعاء الذي هو مخ العبادة، بنص رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الدعاء مخ العبادة " 1. وإذا ثبت أن الدعاء هو العبادة، فصرفه لغير الله شرك؛ فمن دعا مع الله أحداً من الخلق فقد أشرك به شاء أم أبى، كأن يقول: يا رسول الله، يا كعبة الله، يا مقام إبراهيم، أو يدعو أحداً من الأنبياء والأولياء والصالحين، فهو مشرك الشرك الأكبر الذي يخرج من الملة، قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [سورة النساء آية: 48] ، وقال تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [سورة المائدة آية: 72] ، وقال تعالى: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ} [سورة يونس آية: 106] ، وقال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [سورة الأحقاف آية: 5-6] ، وَقَالَ {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} [سورة الجن آية: 18] ، إلى غير ذلك من الآيات الواردة في هذا المعنى. إذا تحققت ذلك، فقد قال شيخ الإسلام في الرسالة السنية: فإذا كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم من مرق من الإسلام مع عبادته العظيمة، فليعلم أن المنتسب إلى الإسلام في هذه   1 الترمذي: الدعوات (3371) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 135 الأزمان، قد يمرق أيضاً من الإسلام لأسباب، منها: الغلو في بعض المشائخ، بل الغلو في علي بن أبي طالب، بل الغلو في المسيح؛ فكل من غلا في نبي، أو رجل صالح، وجعل فيه نوعاً من الإلهية، مثل أن يقول: يا سيدي فلان انصرني، أو أغثني، أو ارزقني، أو أنا في حسبك، ونحو هذه الأقوال، فكل هذا شرك يستتاب صاحبه، فإن تاب وإلا قتل، فإن الله سبحانه إنما أرسل الرسل، وأنزل الكتب، ليعبد وحده لا شريك له، ولا يدعى معه إله آخر. والذين يدعون مع الله آلهة أخرى، مثل المسيح والملائكة والأصنام، لم يكونوا يعتقدون أنها تخلق الخلائق، أو تنْزل المطر، أو تنبت النبات، وإنما كانوا يعبدونهم، أو يعبدون قبورهم، أو يعبدون صورهم، يقولون: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [سورة الزمر آية: 3] ، {وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [سورة يونس آية: 18] ؛ فبعث الله رسله تنهى عن أن يدعى أحد من دونه، لا دعاء عباده، ولا دعاء مسألة. وقال أيضاً: من جعل بينه وبين الله وسائط، يتوكل عليهم، ويدعوهم، ويسألهم، كفر إجماعاً. انتهى. و {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} [سورة الأعراف آية: 43] . [كتب اسم الميت على القبر] سئل الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين: عن كتب اسم الميت على القبر؟ فقال: داخل في عموم النهي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 136 عن الكتابة على القبر، وأما جعل العلامة على القبر فلا بأس به، والنبي صلى الله عليه وسلم " علم على قبر عثمان بن مظعون بحجر، جعله علماً عند رأسه " 1. [نبش قبر المسلم] سئل ابنا الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وحمد بن ناصر: عن قبر رجل صالح اتخذ وثناً، هل يوجب ذلك نبشه؟ فأجابوا: نبش قبر المسلم لغرض غير صحيح لا يجوز، فإن كان لغرض صحيح جاز؛ والغرض مثل: أن يدفن ولم يوجه إلى القبلة، أو لم يغسل، أو لم يكفن، فهذا يجوز نبشه لذلك، لما روي عن معاذ: " أنه نبش امرأته فكفنها "، وطلحة بن عبيد الله " نبشته ابنته لما خافت عليه من النداوة "، وحولت عائشة من قبرها، روي ذلك عن أحمد. ومن الأغراض المبيحة للنبش: إذا وقع في القبر مَالٌ، نُبِشَ وأخرج المال، هذا إذا كان صاحب القبر مسلماً. وأما الكافر فلا حرمة له، ولا دليل مع من منع من نبش قبره، بل الدليل مع من لم يمنع ذلك، فإن النبي صلى الله عليه وسلم نبش قبور بعض المشركين، وجعل مسجده موضعها. وإن كان المنبوش قبره كأحد هؤلاء الشياطين الطواغيت، الذين نصبوا العدوان لرب العالمين، ودعوا إلى عبادة أنفسهم كأبي عائشة وأمثاله من جند إبليس، امتنع الإنكار على من نبش قبره وإن لم يؤمر بنبشه؛ فإن الذين نبشوه من عوام   1 ابن ماجة: ما جاء في الجنائز (1561) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 137 المسلمين الذين لا علم لهم بمسائل الفروع، ولم يفت لهم به أحد من علماء المسلمين فيما علمنا. وقول القائل: إن حرمة قبر المسلم من الثرى إلى الثريا، فلا نعلم لهذا أصلاً. وأجاب الشيخ سعيد بن حجي: لو دفن قبل الغسل من أمكن غسله، لزم نبشه إن لم يخف تفسخه أو تغيره، ومثله من دفن غير موجه إلى القبلة، أو قبل الصلاة عليه، أو قبل تكفينه. وذكر في المبدع ثماني صور في نبشه - إلى أن قال - قال في الشرح: فإن تغير الميت لم ينبش بحال. [الدفن ليلاً] سئل الشيخ عبد الله بن محمد: عن الدفن ليلاً؟ فأجاب: أما الميت إذا مات في الليل، فيجوز تأخير دفنه إلى النهار إذا لم يخش عليه، وعلي " دفن فاطمة ليلاً "، وعن ابن عباس: " أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل قبراً فأسرج له سراج، فأخذ من قبل القبلة، وقال: رحمك الله أن كنت تلاء للقرآن " 1، رواه الترمذي. قالوا: ولكن الدفن بالنهار أولى، لأنه أسهل على متبعي الجنازة، وأكثر للمصلين عليها، وأمكن لاتباع السنة في دفنه وإلحاده. وأما قولك: لا ينبغي لجيفة مسلم أن تحبس بين ظهراني أهله، فهذا إذا لم يكن عذر. لمس القبر أو قصده للدعاء عنده سئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله، قال السائل: لمس القبر أو قصده للدعاء عنده، ليس من دين المرسلين؟   1 الترمذي: الجنائز (1057) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 138 فأجاب: هذا هو الصواب بلا ريب، وكون الشارح ذكر كلام الحربي أن قبر "مَعْرُوفٍ" الترياق المجرب، فهذا لا ينكر، لأن العلماء يذكرون في المسألة القولين أو أكثر، ويرجحون الراجح، أو يتوقف بعضهم، ولكن كلام الشيخ عند كلام الحربي مخالف له منكر له; لكن ليكن منك على بال ما أخرجاه في الصحيحين: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذاً إلى اليمن قال له: إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه: شهادة ألا إله إلا الله، وفي رواية: إلى أن يوحدوا الله. فإن هم أطاعوك لذلك، فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة " 1. فتدبر هذا، وأرعه سمعك وأحضر قلبك، إذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم ما أمره أن يدعوهم إلى الصلوات الخمس إلا إن استجابوا للتوحيد، فكيف بمن لا يهمه في دينه إلا بعض مسائل إلاجتهاد؟ مع ما يراه من سب الناس للتوحيد، واستحلالهم دم من دان به ومالهم، ودعوتهم إلى الشرك الأكبر، ودعواهم أن أهله السواد الأعظم، ثم مع هذا إذا أخذهم السيف كرهاً، قالوا: ما خالفنا، والناس يكذبون علينا وعرفنا الكذب، وإلا جميع ما جرى لهم لم يقروا به ولم يتوبوا منه، والرسول صلى الله عليه وسلم هذه وصيته لمعاذ، فالله الله! فالله الله! في تدبر هذا الحديث، وتدبر ما عليه أعداء الله من العداوة للتوحيد.   1 البخاري: التوحيد (7372) , ومسلم: الإيمان (19) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 139 وأما المسائل التي ذكر في الجنائز، من لمس القبر، والصلاة عنده، وقصده لأجل الدعاء، وكذا وكذا، فهذا أنواع; ولكن هذه الأمور من أسباب حدوث الشرك، فيشتد نكير العلماء لذلك، كما صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لعن الله إليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " 1. وذكر العلماء التغليظ في هذه الأمور، لأنه يفتح باب الشرك، كما أن أول ما حدث في الأرض بسبب ود، وسواع، ويغوث، ويعوق، ونسر، لما عكفوا على قبورهم، ثم صوروا تماثيلهم يتذكرون بها الآخرة، ثم بعد تلك القرون عبدوها، فكذلك في هذه الأمة، كما قال صلى الله عليه وسلم: " لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه " 2. فأول ما حدث: الصلاة عند القبور، والبناء عليها من غير شرك، ثم بعد ذلك بقرون وقع الشرك، وأول ما جرى من هذا: أن بني أمية لما بنوا مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم واشتروا بيوتاً حوله، ولم يكن إدخال بيت النبي صلى الله عليه وسلم الذي فيه قبره وقبر صاحبيه مرادهم، ولكن أدخلوا البيت في المسجد لأجل توسيع المسجد، لم يقصدوا تعظيم الحجرة بذلك، ولكن قصدوا توسعة المسجد، ومع هذا أنكره علماء المدينة، حتى قتل خبيب بن عبد الله بن الزبير بسبب إنكاره ذلك؛ فانظر إلى سد العلماء الذرائع. وأما النذر له، ودعاؤه، والخضوع له، فهو من الشرك   1 البخاري: الصلاة (436) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (529) , والنسائي: المساجد (703) والجنائز (2046) , وأحمد (1/218, 6/34, 6/80, 6/121, 6/146, 6/228, 6/252, 6/255, 6/274, 6/275) , والدارمي: الصلاة (1403) . 2 البخاري: الاعتصام بالكتاب والسنة (7320) , ومسلم: العلم (2669) , وأحمد (3/84، 3/89) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 140 الأكبر; وتأمل ما ذكره البغوي في تفسير سورة نوح، في قوله: {لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً} الآية [سورة نوح آية: 23] ، وما ذكر أيضاً في سورة النجم، في قوله: {أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى} [سورة النجم آية: 19] أن اللات قبر رجل صالح، فتأمل الأصنام التي بعث الرسول بتغييرها، كيف تجد فيها قبور الصالحين. [القراءة عند القبور وحمل المصاحف إليها] وأجاب ابناه: حسين وعبد الله، رحمهم الله، أن القراءة عند القبور وحمل المصاحف إلى القبور، كما يفعله بعض الناس، يجلسون سبعة أيام، ويسمونها الشدة، وكذلك اجتماع الناس عند أهل الميت سبعة أيام، ويقرؤون فاتحة الكتاب، ويرفعون أيديهم بالدعاء للميت، فكل هذا من البدع والمنكرات المحدثة، التي يجب إزالتها، ولم يكن يفعل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا على عهد خلفائه الراشدين من ذلك شيء؛ ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها، قال الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ} [سورة الأحزاب آية: 21] ، وقال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلامَ دِيناً} [سورة المائدة آية: 3] . ولم يمت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أكمل الله به دين الإسلام; وثبت في الصحيح عن عائشة، رضي الله عنها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد " 1، وفي حديث العرباض بن سارية، الذي أخرجه أبو داود   1 البخاري: الصلح (2697) , ومسلم: الأقضية (1718) , وأبو داود: السنة (4606) , وابن ماجة: المقدمة (14) , وأحمد (6/240, 6/270) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 141 في سننه، وأحمد في مسنده: " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ! وإياكم ومحدثات الأمور! فإن كل بدعة ضلالة " 1. سئل الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين: عن قراءة سورة يس في المقبرة؟ فأجاب: الحديث المروي في قراءة سورة يس في المقبرة، لم يعز إلى شيء من كتب الحديث المعروفة، والظاهر عدم صحته؛ والقراءة في المقبرة اختلف فيها العلماء، وفيها عن أحمد روايتان: إحداهما: الجواز، وعليه أكثر المتأخرين من أصحاب أحمد. والثانية: الكراهة؛ قال الشيخ تقي الدين: وهو قول قدماء أصحاب أحمد، وهو قول السلف. وسئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن: عن الأذان والقراءة عند القبر بعد دفن الميت؟ فأجاب: الأذان عند القبر بدعة منكرة، ما أنزل الله بها من سلطان، ولا فعله أحد ممن يقتدى به؛ وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عما هو دون ذلك، من الصلاة في المقبرة، وإليها، وإن كان المصلي يصلي لله، لئلا يكون ذريعة إلى تعظيم القبور وعبادتها. وأما القراءة حال الدفن، فقال شيخ الإسلام: نقل الجماعة عن أحمد كراهة القراءة على القبور؛ وهو قول   1 الترمذي: العلم (2676) , وأبو داود: السنة (4607) , وابن ماجة: المقدمة (42, 44) , وأحمد (4/126) , والدارمي: المقدمة (95) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 142 جمهور السلف، وعليها قدماء أصحابه، ولا رخص في اعتياده عيداً، كاعتياد القراءة عنده في وقت معلوم. واتخاذ المصاحف عند القبر بدعة، ولو للقراءة، ولو نفع لفعلها السلف. وقال الشيخ إسحاق بن عبد الرحمن بن حسن: وأما إن بعض الناس يجوز القراءة على القبر، زاعماً أن ابن القيم ذكر في كتاب الروح أخباراً تدل على ذلك، فالجواب أن يقال: ما أطلقه هذا القائل يحتاج إلى تفصيل: فإن كان مقصوده جواز اعتياد القراءة على القبر، فلم يقل به أحد ممن يعتد بقوله، وهو قول ساقط مخالف لما كان عليه السلف الصالح، وفيه مضاهاة لما كان يعتاده عباد القبور، من العكوف عندها بأنواع القرب، خصوصاً في هذا الزمان الذي عميت فيه القلوب، وتنوعت فيه الخطوب، واشتدت فيه غربة الإسلام، وعظمت فيه الفتنة بعباد الأوثان والأصنام. وإن كان المقصود القراءة حال الدفن، ففيها خلاف مشهور، وقد أنكرها عامة السلف، منهم الإمام أبو حنيفة، ومالك بن أنس وشدد فيها؛ وأما الشافعي فلم ينقل عنه فيها شيء، وأما الإمام أحمد فقد نهى عنها في رواية عنه، حتى إنه نهى عن القراءة بفاتحة الكتاب على الجنازة في المقبرة. ولا أعلم في كتاب الروح ولا غيره لابن القيم، ولا في شيء من دواوين أهل الإسلام، ما يدل على ما زعمه، لا من كتاب الجزء: 5 ¦ الصفحة: 143 ولا سنة، إلا آثاراً ساقها، رحمه الله عن السلف، فقال: " وأوصى بعض السلف أن يقرأ عند قبورهم وقت الدفن "، روي عن ابن عمر أنه " أوصى أن يقرأ عنده سورة البقرة "، وكان أحمد ينكر ذلك، وذكر ما رواه الخلال عن أبي العلاء، وقول محمد بن قدامة الجوهري لأحمد، لما رآه ينكر القراءة على القبر، ويقول: هو بدعة، وذكر قول الخلال عن الشعبي: أن الأنصار إذا مات لهم ميت، اختلفوا إلى قبره للقراءة عنده، وذكر قصة الذي يقرأ سورة يس عند قبر أمه، ويجعل ثوابها لأهل المقابر، وذكر حديث معقل بن يسار، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " اقرؤوا يس على موتاكم " 1. وصرح أن احتمالها للقراءة على المحتضر، أولى من احتمالها للقراءة على القبور، من وجوه عدها: منها: أنه نظير قوله " لقنوا موتاكم: لا إله إلا الله " 2. ومنها: انتفاع المحتضر بهذه السورة، لما فيها من التوحيد والمعاد، والبشرى بالجنة لأهل التوحيد، وغبطة من مات عليها بقوله: {قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ} الآية. الثالث: أن هذا عمل الناس وعادتهم قديماً وحديثاً، يقرؤونها عند المحتضر. الرابع: أن الصحابة، رضي الله عنهم، لو فهموا أنها عند القبر لما أخلوا به، وكان ذلك أمراً مشهوراً معتاداً بينهم. الخامس: أن انتفاعه باستماعها وحضور قلبه وذهنه عند قراءتها في آخر عهده بالدنيا بالاستماع، هو المقصود، وأما قراءتها عند قبره فإنه   1 أبو داود: الجنائز (3121) , وابن ماجة: ما جاء في الجنائز (1448) , وأحمد (5/26, 5/27) . 2 مسلم: الجنائز (916) , والترمذي: الجنائز (976) , والنسائي: الجنائز (1826) , وأبو داود: الجنائز (3117) , وابن ماجة: ما جاء في الجنائز (1445) , وأحمد (3/3) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 144 لا يثاب على ذلك، لأن الثواب إما بالقراءة أو بالاستماع، وهو عمل، وقد انقطع بالموت. انتهى. قلت: وهذا على تقدير صحة الحديث، وإلا فقد ذكر ابن حجر وغيره، أن الإمام أحمد وابن ماجة وغيرهما، رووه من حديث سليمان التيمي عن أبي عثمان، وليس بالنهدي عن أبيه، وأعله ابن القطان بالاضطراب والوقف، وبجهالة أبي عثمان وأبيه، وقال الدارقطني: هذا حديث معقل بن يسار، قوله: " اقرؤوا "، أراد به من حضرته المنية، لأن الميت يقرأ عليه. انتهى. لكن ابن القيم بنى على ما يعضده من الآثار الثابتة عن السلف. قال شيخ الإسلام: وإنما رخص فيها أحمد، يعني القراءة عند الدفن، لأنه بلغه أن " ابن عمر أوصى أن يقرأ عند دفنه، بسورة البقرة وخواتيمها "، وروى عن بعض الصحابة أنه قرأ سورة البقرة؛ فالقرآن عند الدفن هو مأثور في الجملة، وما بعد ذلك فلم ينقل فيه أثر. وقال في موضع آخر: فإنه لو كان مشروعاً لسنه رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته، وذلك لأن هذا وإن كان فيه نوع مصلحة، ففيه مفسدة راجحة، كما في الصلاة عنده؛ وتنعم الميت بالدعاء له والاستغفار له والصدقة عنه، وغير ذلك من العبادات، أعظم من ذلك، وهو مشروع ولا مفسدة فيه، ولهذا لم يقل أحد من العلماء إنه يستحب قصد القبر للقراءة دائماً عنده، إذ قد علم بالاضطرار الجزء: 5 ¦ الصفحة: 145 من دين الإسلام أن هذا ليس مما شرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته. انتهى. فتبين لك: أن نسبة جواز القراءة على القبر مطلقاً إلى أحد من أهل العلم، أو دعوى أن في ذلك حديثاً مرفوعاً أو أثراً، دعوى مجردة لا دليل عليها؛ وهذا هو سر المسألة، ومقصود السؤال. وقد صرح شيح الإسلام في مسائله، بأن القراءة على القبر عكوف، يضاهي العكوف في المساجد بالقرب; فقال: ومعلوم أن المسجد بيت الصلاة والذكر وقراءة القرآن، فإذا اتخذ القبر لبعض ذلك كان داخلاً في النهي. وقال في الاقتضاء - لما ذكر الرواية عن أحمد بالجواز -: الثانية: أن ذلك مكروه، حتى اختلف هؤلاء هل تقرأ الفاتحة في الصلاة على الجنازة، إذا صلى عليها في المقبرة أو لا؟ قال: وفيه عن أحمد روايتان، وهذه الرواية هي التي ذكرها أكثر أصحابه عنه، وعليها قدماء أصحابه الذين صحبوه، كعبد الوهاب الوراق، وأبي بكر المروذي ونحوهما، وهو مذهب جمهور السلف، كأبي حنيفة ومالك، وهشيم بن بشر بن حازم وغيرهم، ولم يبلغنا عن الشافعي في هذه المسألة كلام; وذكر أن ذلك عنده بدعة، وقال مالك: ما علمت أن أحداً يفعل ذلك، فعلم أن الصحابة والتابعين ما كانوا يفعلونه. والثالثة: أن القراءة وقت الدفن لا بأس بها، كما نقل عن ابن عمر وبعض المهاجرين. وأما القراءة بعد ذلك، مثل الذين ينتابون القبور للقراءة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 146 عندها، فهذا ممنوع؛ فإنه لم ينقل عن السلف مثل ذلك أصلاً، وهذه الراوية لعلها أقوى من غيرها، لما فيها من التوفيق بين الأدلة. والذين كرهوا القراءة عند القبر كرهها بعضهم، وأن يقصد القراءة هناك كما تكره الصلاة، فأحمد نهى عن القراءة في الصلاة هناك، ومعلوم أن القراءة في الصلاة ليس المقصود بها القراءة عند القبر، فالفرق بين ما يفعل ضمناً وتبعاً، وبين ما يفعل لأجل القبر، بيِّن. انتهى. ومعناه: أنه إذا امتنع عندهم ما كان مقصوداً لغيره مما يفعل ضمناً وتبعاً، فامتناع ما كان مقصوداً لذاته أولى وأحرى؛ وهذا من أقوى الدلالات، مع ما قدمناه عنه أنه لم ينقل عن أحد من السلف، وأنه من البدع المنكرة؛ فالذي يفتح هذه الأبواب للناس، ويوقعهم في الشك والالتباس، وينسب ذلك لأئمة الإسلام والأئمة الأعلام، لا يخلو من أمرين: إما من سوء الاعتقاد، أو لعدم فهم المراد. وقد علم بالضرورة أن هذين الشيخين من أعظم الناس سداً لهذا الباب، وأشدهم حماية لهذا الجناب، فرحم الله أئمة الإسلام، وجزاهم أتم الجزاء عن الأنام، فلقد حموا حمى السنة، وسدوا كل طريق يوصل إلى الشرك والفتنة. سئل الشيخ سعيد بن حجي: عن الأجرة على القراءة عند القبر ... إلخ؟ فأجاب: أما الأجرة على القراءة إذا مات الميت، على الجزء: 5 ¦ الصفحة: 147 ختمة أو ختمات عند القبر وغيره، فقال في الإنصاف: قال الشيخ تقي الدين: ولا يصح الاستئجار على القراءة وإهداؤها إلى الميت، لأنه لم ينقل عن أحد من الأئمة؛ وقد قال العلماء: إن القارئ لأجل المال لا ثواب له، فأي شيء يهدى إلى الميت؟ وإنما تنازعوا في الاستئجار على التعليم. انتهى. وقال في الشرح: ولا يجوز على عمل يختص فاعله أن يكون من أهل القربة، كالحج والأذان ونحوهما. وكره إسحاق تعليم القرآن بأجر، وعن أحمد: تصح. وأجازه مالك والشافعي، لأن النبي صلى الله عليه وسلم زوج رجلاً بما معه من القرآن، متفق عليه، وقال: " أحق ما أخذتم عليه أجراً: كتاب الله " 1، رواه البخاري. انتهى. [الدعاء للميت والتصدق له] وأما الدعاء للميت والتصدق له، فجائز؛ قال في الكافي: فإن دعا إنسان لميت أو تصدق عنه، أو قضى ديناً واجباً عليه، نفعه ذلك بلا خلاف، لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} ] الحشر:10 [ الآية، وقال سعد للنبي صلى الله عليه وسلم: " أينفع أمي أن أتصدق عنها؟ قال: نعم "، وإن فعل عبادة بدنية، كالقراءة والصلاة والصوم، وجعل ثوابها للميت نفعه ذلك أيضاً، لأن المسلمين يجتمعون في كل مصر، ويقرؤون ويهدون لموتاهم، ولم ينكره منكر فكان إجماعاً. انتهى. وأما إذا خرجوا مع الميت بطعام يقسمونه عند القبر، أو إذا جمع أهل الميت قراء وصنعوا لهم طعاماً، فقال في المبدع:   1 البخاري: الطب (5737) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 148 يستحب أن يصلح لأهل الميت طعام يبعث به إليهم، لقوله صلى الله عليه وسلم: " اصنعوا لآل جعفر طعاماً، فقد أتاهم ما يشغلهم " 1، رواه أحمد والترمذي وحسنه، ولا يصلحون هم طعاماً للناس، فإنه مكروه، لما روى أحمد عن جرير قال: " كنا نعد الاجتماع إلى أهل الميت وصنعة الطعام بعد دفنه من النياحة "، وقيل يحرم. قال أحمد: ما يعجبني. ونقل المروذي: هو من أفعال الجاهلية، وأنكره إنكاراً شديداً. فرع [الذبح عند القبر والأكل منه] يكره الذبح عند القبر والأكل منه، لخبر أنس: " لا عقر في الإسلام " 2 رواه أحمد، وفي معناه الصدقة عند القبر، فإنه محدث؛ فقد علمت أن الصدقة عند القبر، وجمع أهل الميت قراء وصنع الطعام لهم، محدث مكروه، والله أعلم. حكم الوقوف والوصايا على قراءة القرآن وسئل الشيخ محمد بن إبراهيم: عن حكم الوقوف والوصايا على قراءة القرآن أو بعضه كل يوم وإهداء ثوابه للميت؟ وهل يرفض نص الواقف بذلك؟ فأجاب: الوقوف والوصايا على هذا الوجه المذكور، لا تصح، لأن من شرط الوقف على جهة: أن يكون على بر، وقربة؛ وليست قراءة القرآن وإهداء ثوابها إلى الأموات قربة، ولهذا لم يعرف مثل ذلك عن السلف الصالح من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم، وغاية ذلك أن يكون جائزاً. وفي مثل هذه الأوقاف مفسدة، وهي حصول القراءة لغير الله، والتآكل بالقرآن، وقراءته على غير الوجه المشروع،   1 الترمذي: الجنائز (998) , وأبو داود: الجنائز (3132) , وابن ماجة: ما جاء في الجنائز (1610) . 2 أبو داود: الجنائز (3222) , وأحمد (3/197) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 149 قال في الاختيارات: وأما هذه الأوقاف التي على الترب، ففيها من المصلحة: بقاء حفظ القرآن وتلاوته، وكون هذه الأموال معونة على ذلك، وحاضة عليه، إذ قد يدرس حفظ القرآن في بعض البلاد بسبب عدم الأسباب الحاملة عليه، وفيها مفاسد أخر، من حصول القراءة لغير الله، والتآكل بالقرآن، وقراءته على غير الوجه المشروع، واشتغال النفوس بذلك عن القراءة المشروعة؛ فمتى أمكن تحصيل هذه المصلحة بدون ذلك الفساد جاز، وإلا توجه النهي عن ذلك والمنع وإبطاله. [إهداء ثواب البدن للميت] سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: عن إهداء ثواب البدن للميت، من قرءاة وصلاة وحج وغير ذلك؟ فأجاب: هذا فيه خلاف بين العلماء، هل يصل إلى الميت أو لا؟ ولا ينكر على من فعله أو تركه. وأجاب الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين: وأما كون الإنسان يطوف ما أحب، ويهدي ثوابه لحي أو ميت، فهذا جائز، وكذا لو صلى ركعتين أو صام وجعل ثوابه لغيره، جائز عند كثير من العلماء، وكذلك إهداء ثواب القراءة لميت أو حي؛ وأفضل من ذلك كله، الدعاء لهم والصدقة. وأجاب أيضاً: وأما ما ذكر من إيراد عثمان بعض عبارات الأصحاب، على جواز التشريك في نفس العمل، فهو إيراد الجزء: 5 ¦ الصفحة: 150 غير صحيح. وأما ما رواه الكحال عن أحمد، قال: قيل لأبي عبد الله: الرجل يعمل الشيء من الخير، من صلاة وصدقة أو غير ذلك، فيجعل نصفه لأبيه أو لأمه؟ قال: أرجو، فهذا يحتمل أن المراد جعل نصف نفس العمل، ويحتمل نصف ثوابه؛ ويتعين حمله على إلاحتمال الثاني لوجهين: أحدهما: أن الأصحاب لما ذكروا جواز إهداء ثواب العمل، احتجوا لقولهم برواية الكحال عن الإمام، فدل على أن هذا معنى الرواية عندهم. الوجه الثاني: أنهم لما نصوا على أنه إذا أحرم عن اثنين وقع عن نفسه، قاسوا ذلك على الصلاة، فدل على أن كون الصلاة لا تقع عن اثنين، لا خلاف فيه عندهم، لأنهم جعلوه أصلاً، وقاسوا عليه الحج؛ فدل على أنهم لم يفهموا من رواية الكحال التشريك في نفس العمل، وإنما معناها التشريك في الثواب. ولما ذكر ابن القيم وصول ثواب القربات إلى الأموات، وذكر ما في المسألة من الخلاف، وصحح القول بوصولها، وذكر حجج المخالفين، وذكر من حججهم قولهم: لو ساغ ذلك لساغ إهداء نصف الثواب، وربعه إلى الميت، فأجاب بوجهين: أحدهما: منع الملازمة، الثاني: التزام ذلك، والقول به نص عليه الإمام أحمد، من رواية محمد بن يحيى الكحال، قال: ووجه هذا، أن الثواب ملك له، فله أن يهديه جميعه، وله أن يهدي بعضه، يوضحه أنه لو أهداه إلى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 151 أربعة مثلاً تحصل لكل منهم ربعه، فإذا أهدى الربع وأبقى لنفسه الباقي جاز، كما لو أهداه إلى غيره. إهداء ولد الزنى لوالديه شيئاً من القرب وسئل: عن إهداء ولد الزنى لوالديه شيئاً من القرب، مثل الحج والتضحية، وكذا الرقيق الذي لا يدري عن والديه ... إلخ؟ فأجاب: إهداء ولد الزنى لوالديه المسلمين جائز حسن، إن شاء الله تعالى، أعني: إهداء جميع القرب والتضحية عنه والحج وغير ذلك. والرقيق الذي لا يعلم حال والديه، لا بأس بدعائه لهما، وكذا إهداء القرب. [الذبائح التي تذبح صدقة للميت عند موته] سئل الشيخ عبد الله بن محمد: عن الذبائح التي تذبح صدقة للميت عند موته، أو وقت الأضحية؟ فأجاب: هذا حسن لا بأس به، إذا قصد به صدقة لوجه الله، يفرق على المساكين والأقارب. وأجاب في موضع آخر: العيد الذي يفعلونه عند موت الإنسان، إن كان أهل الميت يجعلونه وليمة يدعون إليها، كوليمة العرس، فهذا من أنكر المنكرات؛ من فعله بعد ما عرف أنه لا يجوز، أدب أدباً يزجره وأمثاله. فإن كان أنهم يذبحون لقصد إعطاء الذبيحة المساكين تقرباً إلى الله، وقصدهم أن الله يجعل ثواب الصدقة للميت، فهذا لا بأس به، وهو مثل كونهم يتصدقون عنه بطعام أو دراهم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 152 وسئل: عن صنع الطعام من أهل الميت؟ فأجاب: صنع الطعام من أهل الميت خلاف السنة. وأجاب الشيخ عبد الرحمن بن حسن: وأما ما ذكره السائل، من أنه إذا مات أحدهم يتصدق أقاربه وعشائره، ويذبحون الذبائح، ويطبخون الطعام، ويفرشون الحرير، ويدعون الناس كلهم الغني والفقير، فليس هذا من دين الإسلام، بل هو بدعة وضلالة ما أنزل الله بها من سلطان، وهذا من جنس ما أحدثه اليهود والنصارى، من التغيير والتبديل في شريعتهم، خالفوا به ما جاءت به أنبياؤهم؛ فيجب اجتناب ذلك المأتم وما في معناه. انتهى. سئل الشيخ عبد الله بن محمد: عن الصدقة للميت؟ فأجاب: الصدقة من الطعام وغيره، جائزة يصل ثوابها للميت. وأجاب أيضاً: وأما صدقة المال، فهي يصل ثوابها إلى الميت باتفاق العلماء. وأجاب أيضاً: الصدقة عن الميت من ماله الذي خلف حسن، والصدقة المالية تصل إلى الميت باتفاق أهل العلم، بخلاف صدقة المنة بإهداء الأعمال البدنية، فإن ذلك مختلف فيه، بخلاف الأول فهو بالاتفاق. وأما إذا كان في الورثة صغار، لم يجز لأوليائهم أن يتصدقوا لأبيهم من الميراث، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 153 فإذا أراد الكبار أن يتصدقوا لميتهم، فليجعلوا ذلك من نصيبهم خاصة. وأجاب الشيخ حمد بن عبد العزيز: ظاهر كلام الشيخ في المختصر، أن إخراج الصدقة مع الجنازة بدعة مكروهة; وأما الصدقة عن الميت المسلم، فهي تصل إليه بالنص والإجماع. وأجاب في موضع آخر: والصدقة عن الميت من مال الأيتام لا تجوز. [من مات قبل هذه الدعوة ولم يدرك الإسلام] سئل الشيخ حسين والشيخ عبد الله، ابنا الشيخ محمد، رحمهم الله: عمن مات قبل هذه الدعوة ولم يدرك الإسلام، وهذه الأفعال التي يفعلها الناس اليوم، يفعلها ولم تقم عليه الحجة، ما الحكم فيه؟ وهل يسب ويلعن أو يكف عنه؟ وهل يجوز لولده الدعاء له؟ وما الفرق بين من لم يدرك هذه الدعوة، ومن أدركها ومات معادياً لهذا الدين وأهله؟ فأجابا: من مات من أهل الشرك قبل بلوغ هذه الدعوة، فالذي يحكم عليه: أنه إذا كان معروفاً بفعل الشرك، ويدين به، ومات على ذلك، فهذا ظاهره أنه مات على الكفر، فلا يدعى له، ولا يضحى عنه، ولا يتصدق عنه، وأما حقيقة أمره فإلى الله: فإن كان قد قامت عليه الحجة في حياته وعاند، فهذا كافر في الظاهر والباطن، وإن كان لم تقم عليه الحجة، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 154 فأمره إلى الله. وأما سبه ولعنه فلا يجوز، بل لا يجوز سب الأموات مطلقاً، كما في صحيح البخاري عن عائشة، رضي الله عنها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا تسبوا الأموات، فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا " 1، إلا إن كان أحد من أئمة الكفر وقد اغتر الناس به، فلا بأس بسبه إذا كان فيه مصلحة دينية. وأجاب الشيخ عبد الله أيضاً: الذي مات قبل ظهور الإسلام في هذه الأوطان، فإن كان قد مات على التوحيد وإخلاص العبادة لله، والتزام طاعة الله ورسوله، فإنه يدعى له، ويتصدق عنه; وإن كان قد تلطخ بالشرك، ويفعل ما يفعل غالب الناس، فلا ينبغي الدعاء له، ويترك ويوكل أمره إلى الله. وأجاب الشيخ عبد الله أبا بطين: ومن أحسن ما تفعل إذا أردت الصدقة للميت أن تعطي - صدقتك له - قريبه الحي؛ فالحي ينتفع بها، والثواب يحصل للميت إن شاء الله، وإحسانك أيضاً إلى قريب الميت صلة للميت؛ فهذا أحسن ما أرى لك. فإن أعطيت الحي شيئاً وقلت: تصدق بهذا عن ميتك، فحسن لك. وقد يكون الحي محتاجاً، فإعطاؤك إياه الشيء له ينتفع به بنفسه، وتنوي ثوابه للميت أحب عندي، هذا إذا أردت الإحسان إلى أموات قرابتك، وصلتهم بالصدقة عنهم، وأنت على الثواب والأجر إن شاء الله بإحسانك إلى الميت والحي؛ ولكن كون غالب صدقتك تبقي   1 البخاري: الجنائز (1393) , والنسائي: الجنائز (1936) , وأبو داود: الأدب (4899) , وأحمد (6/180) , والدارمي: السير (2511) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 155 ثوابها لك وحدك، وتعطي قريباً محتاجاً ينتفع بها فهو أحسن، ومع هذا فلا تنسى الأموات ببعض الشيء صلة لهم، وتخص نفسك بالكثير، فهو الأولى، والأفضل. وأجاب الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن: ولا نعلم أحداً من أهل العلم والدين نهى عن الاستغفار والتضحية، إلا إذا استبان أن الشخص الذي يستغفر له من أصحاب الجحيم، بأن مات يدعو لله نداً؛ وهذا نص القرآن: قال تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى} الآية [سورة التوبة آية: 113] ؛ هذا مذهب الشيخ وأهل العلم من أتباعه. وأجاب الشيخ سليمان بن سحمان، رحمه الله: وأما قول السائل: ويقولون لا تبروا في آبائكم وأقاربكم الذين ماتوا، واسكتوا وكفوا عنهم، فإن كان مراد هؤلاء الذين يطعنون على مشائخ المسلمين، تارة بالظلم، وتارة بالعدوان والزور والبهتان، وتارة بالجهل وعدم العلم بما كان عليه سلف الأمة وأئمتها وعلماء المسلمي، الذين ساروا على منهاج أهل السنة والجماعة، أن المشائخ يقولون: لا تبروا في آبائكم وأقاربكم الذين ماتوا وظاهرهم الإسلام، ولم ندر ما ماتوا عليه، فهذا القول من هؤلاء الجهلة، قد قاله قبلهم من بهت شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، قدس الله روحه، بأنه ينهي أتباعه عن الاستغفار والتضحية لمن ماتوا من آبائهم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 156 وأقاربهم، ولم يدركوا دعوته، كما ذكر ذلك عثمان بن منصور في المطاعن التي طعن بها على الشيخ محمد بن عبد الوهاب، حيث قال: والويل كل الويل لمن استغفر من أتباعه لوالديه أو ضحى لهم. فأجابه شيخنا: الشيخ عبد اللطيف، رحمه الله، بقوله: فهذه القولة الضالة كأخواتها السابقة، فيها من نقض عهده الذي جعله على نفسه، وفيها من البهت والكذب وطلب العنت للبرآء، ما يقضي بفسوق القائل؛ فنعوذ بالله من استحكام الهوى والضلال بعد الهدى. فمن قال في مؤمن ما ليس فيه، حبس في ردغة الخبال حتى يخرج مما قال، ولا نعلم أن أحداً من أهل العلم والدين نهى عن الاستغفار والتضحية، إلا إذا استبان أن الشخص الذي يستغفر له من أصحاب الجحيم، بأن مات يدعو لله نداً، وهذا نص القرآن: قال تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [سورة التوبة آية: 113] ؛ هذا مذهب الشيخ، وأهل العلم من أتباعه. وأما التخليط والتحكم، والظن والهذيان، فذلك من طوائف الشيطان، يصدهم به عن سبيل العلم والإيمان. وفي قول المعترض: الذين لم يدركوا دعوته، أن من تقادم عهده وتطاول عصره داخل في عموم كلامه، وأن الشيخ ينهى عن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 157 الاستغفار له، وإطلاق هذا يتناول القرون المفضلة ومن بعدهم، وليس هذا ببدع من كذبه وبهته، وحسابه على الله وأمره إليه، قال تعالى {ِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [سورة النحل آية: 105] . شعراً: لي حيلة فيمن ينـ ... ـمّ وليس في الكذّاب حيلةْ من كان يخلق ما يقو ... ل فحيلتي فيه قليلة أين ميثاقه وعهده؟! قال تعالى: {وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ} [سورة الأعراف آية: 102] . حلفتْ لنا أن لا تخون عهودها ... فكأنها حلفت لنا أن لا تفي انتهى. والعهد الذي ذكر شيخنا: الشيخ عبد اللطيف عن ابن منصور: أنه أخذ على نفسه أن لا ينقل عن الشيخ محمد بن عبد الوهاب، إلا ما صح عنده بنقل العدول الأثبات؛ إذا عرفت هذا، فالبهت الذي بهتوا به الشيخ، رحمه الله، إنما هو بمجرد الاستغفار والتضحية لوالديهم الذين لم يدركوا دعوته، وأما هؤلاء فأطلقوا لفظ البر، وهو أعم من الاستغفار والتضحية، فيدخل فيه جميع أنواع البر. وأما قولهم: واسكتوا وكفوا عنهم، فالجواب عن ذلك أن نقول: قد تقدم في جواب أولاد الشيخ محمد بن عبد الوهاب عن هذه المسائل ما فيه الكفاية، وفيه: وإن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 158 كان لم تقم عليه الحجة فأمره إلى الله تعالى. وأما سبه ولعنه فلا يجوز، بل لا يجوز سب الأموات مطلقاً، كما في صحيح البخاري عن عائشة، رضي الله عنها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا تسبوا الأموات، فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا " 1، إلا أن يكون أحداً من أئمة الكفر وقد اغتر الناس به، فلا بأس بسبه إذا كان فيه مصلحة دينية. فصل زيارة القبور قال الشيخ حمد بن ناصر بن معمر: الذي شرعه الله عند زيارة القبور، إنما هو تذكر الآخرة، والإحسان إلى الميت بالدعاء له، والترحم والاستغفار له، وسؤال العافية، كما في صحيح مسلم عن بريدة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر، أن يقولوا: " السلام على أهل الديار "، وفي لفظ: " عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون. نسأل الله لنا ولكم العافية " 2. وفي سنن أبي داود عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إذا صليتم على الميت فأخلصوا له الدعاء " 3. وعن عائشة، رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم: " ما من ميت يصلي عليه أمة من المسلمين يبلغون مائة، كلهم يشفعون له، إلا شفعوا فيه " 4، رواه مسلم. فإذا كنا نصلي على جنازة ندعو له، لا ندعوه، ونشفع له، لا نستشفع به، فبعد الدفن أولى وأحرى; فبدل أهل   1 البخاري: الجنائز (1393) , والنسائي: الجنائز (1936) , وأبو داود: الأدب (4899) , وأحمد (6/180) , والدارمي: السير (2511) . 2 مسلم: الجنائز (975) , والنسائي: الجنائز (2040) , وابن ماجة: ما جاء في الجنائز (1547) , وأحمد (5/353, 5/359) . 3 أبو داود: الجنائز (3199) , وابن ماجة: ما جاء في الجنائز (1497) . 4 مسلم: الجنائز (947) , والترمذي: الجنائز (1029) , والنسائي: الجنائز (1991) , وأحمد (3/266, 6/32, 6/40, 6/97, 6/231) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 159 الشرك قولاً غير الذي قيل لهم: بدلوا الدعاء له بدعائه، والشفاعة له بالاستشفاع به، وقصدوا بالزيارة التي شرعها رسول الله صلى الله عليه وسلم إحساناً إلى الميت، سؤال الميت، وتخصيص تلك البقعة بالدعاء، الذي هو مخ العبادة بنص رسول الله صلى الله عليه وسلم. سئل الشيخ سليمان بن سحمان، رحمه الله تعالى: عن أهل بلد، إذا كان يوم العيد نهضوا من مصلاهم إلى المقابر، الصغير والكبير، يقولون: نزور أهلنا، ترد عليهم أرواحهم يوم العيد؟ فأجاب: هذا الاجتماع في هذا اليوم لزيارة القبور بعد صلاة العيد، من دسائس الشيطان، ومن البدع المحدثة في الإسلام، بل هو من وسائل الشرك وذرائعه، لأن هذا الصنيع لم يكن يفعله أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم أسبق الناس إلى كل خير؛ ولا يجوز لأحد أن يعتقد أن الله خصه بمعرفة هذه الفضيلة، وحرمها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد قال صلى الله عليه وسلم: " من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد " 1، أي: مردود عليه. وقال شيخ الإسلام، رحمه الله، على قوله صلى الله عليه وسلم: " لا تتخذوا قبري عيداً " 2 قال: العيد اسم لما يعود من الاجتماع العام، على وجه معتاد، عائداً إما لعود السنة، أو لعود الأسبوع، أو الشهر ونحو ذلك. وقال ابن القيم، رحمه الله: العيد ما يعتاد مجيئه وقصده من زمان ومكان، مأخوذ من المعاودة والاعتياد   1 البخاري: الصلح (2697) , ومسلم: الأقضية (1718) , وأبو داود: السنة (4606) , وابن ماجة: المقدمة (14) , وأحمد (6/73, 6/146, 6/180, 6/240, 6/256, 6/270) . 2 مسلم: صلاة المسافرين وقصرها (780) , والترمذي: فضائل القرآن (2877) , وأبو داود: المناسك (2042) , وأحمد (2/367) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 160 إلى آخر كلامه. فإذا فهمت هذا، علمت أن هذا الفعل الذي يعتاده أهل بلدكم في يوم العيد من كل سنة بعد صلاة العيد لزيارة القبور، أمر مبتدع محدث، لم يكن يفعله أحد من الصحابة؛ ولو كان أمراً مستحباً أو مندوباً إليه، لكان أسبق إليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: " مَن كان منكم مستناً فليستن بمن قد مات؛ فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة. أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا أبر هذه الأمة قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه، ولإظهار دينه؛ فاعرفوا لهم فضلهم، فإنهم كانوا على الصراط المستقيم ". وإذا كان هذا الفعل لم يفعله أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نقل عن السلف الصالح ومن بعدهم من علماء الأمة وأئمتها، فهو بدعة وضلالة؛ ولو كان خيراً لكان الصحابة أولى بفعله منا وأرغب فيه. وأما قولهم: إنها ترد عليهم أرواحهم يوم العيد، فهذا تعليل فاسد؛ ولو قدر أنها ترد عليهم في هذا اليوم بخصوصه، لكان هذا الاعتياد بدعة محرمة، وقد جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ما من مسلم يمر على قبر أخيه المسلم كان يعرفه في الدنيا، فيسلم عليه، إلا رد الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام "، أو كما قال صلى الله عليه وسلم؛ فتخصيص رد أرواحهم عليهم في هذا اليوم، دسيسة من الشيطان، لكي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 161 يعتادوا زيارة القبور في هذا اليوم المخصوص. والله أعلم. فإن تركوا ذلك فهو المطلوب، وإلا فاذكر لنا، ويجيئهم ما يردعهم ويزجرهم من المشائخ ومن الإمام، لأن هذا لا يجوز فعله. سئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن: عن قوله صلى الله عليه وسلم: " كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها " 1، هل عمت الرخصة النساء؟ أم الخطاب خاص للرجال؟ فأجاب: هذا من العام المخصوص بقوله: " لعن الله زائرات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسرج " 2. وهذا الحديث رواه الإمام أحمد، وابن ماجة والترمذي. واحتج شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله، على تحريمه بلعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زوارات القبور، وصحح الحديث؛ فعلى هذا، يكون الإذن مخصوصاً بالرجال دون النساء، والمعارض لا تقوم به حجة ولا يفيد النسخ. وسئل الشيخ عبد الله أبا بطين: إذا كان طريق على حد المقبرة، هل يكره للنساء المرور معه؟ فأجاب: إذا كان للناس طريق على حد المقبرة، ومرت معه امرأة وسلمت فلا بأس، لأنها لا تسمى زائرة. [التوسل بذوات الأموات] سئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن: عن دعاء الزائر بقوله: يا ربنا، بحرمة نبيك ووليك، اقض حاجتي ... إلخ؟   1 ابن ماجة: ما جاء في الجنائز (1571) , وأحمد (1/452) . 2 الترمذي: الصلاة (320) , والنسائي: الجنائز (2043) , وأبو داود: الجنائز (3236) , وابن ماجة: ما جاء في الجنائز (1575) , وأحمد (1/229, 1/287, 1/324, 1/337) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 162 فأجاب: هذا من التوسل بذوات الأموات، وهو من البدع المنكرة، والذرائع الموصلة إلى الشرك؛ ولذلك لم يفعله أحد من الخلفاء الراشدين، ولا من الصحابة؛ فلو كان حقاً لسبقونا إليه، فإنهم أعظم الناس سبقاً إلى كل خير، فتركهم ذلك في حق النبي صلى الله عليه وسلم مع قربهم من قبره، يدل على أنه من البدع التي يجب تركها؛ يحقق ذلك أنهم لما أجدبوا في خلافة عمر، لم يأتوا إلى قبره صلى الله عليه وسلم يستسقون به، كما كانوا يستسقون به في حياته، واستسقوا بعمه العباس، وقال عمر: " اللهم إنا كنا إذا أجدبنا توسلنا اليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل اليك بعم نبينا فاسقنا فيسقون ". ففرقوا بين حال الحياة والوفاة، خوفاً من الوقوع فيما نهوا عنه، من الغلو في الأموات؛ ولكن الاستسقاء بالشخص إنما هو بدعائه، بخلاف حال الميت، فإن الدعاء متعذر في حقه، وهذا من غزارة علم الصحابة، رضي الله عنهم، وقوة إيمانهم، وتمسكهم بما شرع لهم، وتركهم ما لم يشرع؛ وهذا هو سبيل المؤمنين، قال تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} [سورة النساء آية: 115] . قال الشيخ حسن بن حسين بن الشيخ محمد، يعزي بعض إخوانه: المأمول فيكم الصبر والاحتساب، والتعزي بعزاء الله تعالى، فقد قال بعض العلماء: إنك لن تجد أهل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 163 العلم والإيمان إلا وهم أقل الناس انزعاجاً عند المصائب، وأحسنهم طمأنينة، وأقلهم قلقاً عند النوازل، وما ذاك إلا لما أوتوا مما حرمه الجاهلون، قال الله تعالى: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [سورة البقرة آية: 155-156] ؛ فهذه الكلمة من أبلغ علاج المصاب، وأنفعه له في العاجلة والآجلة؛ فإنها تضمن أصلين عظيمين، إذا تحقق العبد بمعرفتها تسلى عن مصيبته: أولا: أن العبد وأهله وماله ملك لله تعالى يتصرف فيه، حيث جعله تبارك وتعالى عند عبده عارية، والمعير مالك قاهر قادر. وهو محفوف بعدمين: عدم قبله، وعدم بعده، وملك العبد متعة معارة. الثاني: أن مصير العبد ومرجعه ومرده إلى مولاه الحق، الذي له الحكم والأمر، ولا بد أن يخلف ما خوله في هذه الدار وراء ظهره، ويأتي فرداً بلا أهل ولا مال ولا عشيرة، ولكن بالحسنات والسيئات؛ ومن هذه حاله، لا يفرح بموجود ولا يأسف على مفقود. وإذا علم المؤمن علم اليقين أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، هانت عليه المصيبة، وقد قيل: ما قد قضي يا نفس فاصطبري له ... ولك الأمان من الذي لم يقدرِ وتعلمي أن المقدّر كائن ... يجري عليك عذرتِ أم لم تعذرِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 164 ومن صفات المؤمن: أنه عند الزلازل وقور، وفي الرخاء شكور; ومما يخفف المصائب برد التأسي، فانظروا يميناً وشمالاً وأمام ووراء، فإنكم لا تجدون إلا من قد وقع به ما هو أعظم من مصيبتكم أو مثلها أو قريب منها، ولم يبق إلا التفاوت في عوض الفائت. أعوذ بالله من الخسران. ولو أمعن البصير في هذا العالم جميعه، لم ير إلا مبتلى، إما بفوات محبوب، أو حصول مكروه، وأن سرور الدنيا أحلام ليل، أو كظل زائل، إن أضحكت قليلاً أبكت كثيراً، وإن سرت يوماً أساءت دهراً، جمعها إلى انصداع، ووصلها إلى انقطاع، إقبالها خديعة، وإدبارها فجيعة، لا تدوم أحوالها، ولا يسلم نزالها، حالها انتقال، وسكونها زوال، غرارة خدوع، معطية منوع، ملبسة نزوع، ويكفي في هوانها على الله أنه لا يعصى إلا فيها، ولا ينال ما عنده إلا بتركها. مع أن المصائب من حيث هي رحمة للمؤمن وزيادة في درجاته، كما قال بعض السلف: " لولا مصائب الدنيا، لوردنا الآخرة مفاليس ". والرب سبحانه لم يرسل البلاء إلى العبد ليهلكه، ولا ليعذبه، ولكن امتحاناً لصبره ورضاه عنه، واختباراً لإيمانه، وليراه طريحاً ببابه لائذاً بجنابه، منكسر القلب بين يديه; فهذا من حيث المصائب الدنيوية; وأما ما جرى عليكم، فأنتم به بالتهنئة أجدر من التعزية، ولعمر الله أن من سلم له دينه، فالمحن في حقه منح، والبلايا عطايا، والمكروهات له محبوبات. وأما المصيبة والخطب الأكبر، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 165 والكسر الذي لا يجبر، والعثار التي لا تقال، فهي المصيبة في الدين، كما قيل: من كل شيء إذا ضيعته عوضٌ ... وما من الله إن ضيعته عوضُ وقد مضت عادة أحكم الحاكمين لمن أراد به خيراً، أن يقدم الابتلاء بين يديه. وقال الشيخ حمد بن عتيق، في تعزيته لبعض إخوانه: قال الله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} [سورة الأنبياء آية: 34] ، وقال: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [سورة آل عمران آية: 185] ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " إن روح القدس نفث في روعي، أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها؛ فاتقوا الله وأجملوا في الطلب ". والصبر هو مفزع المؤمنين، والرضى بالقضاء هو محط رحال العارفين، طمعاً فيما وعد به رب العالمين، قال الله تعالى: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [سورة آية: 155-157] . وقال الشيخ إسحاق بن عبد الرحمن يعزي أخاً له في ابنه: فموجبه: التعزية في الابن عبد الله. اللهم أحسن عزاهم فيه، وأعظم لهم الأجور، وألهمهم التسليم للمقدور، نقول جميعاً كما قال الصابرون: {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [سورة البقرة آية: 156] . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 166 فالله الله! أوصيك أخي أن تتدرع بالرضى، وتسلم للقضاء؛ فالمصاب من حرم الثواب. واذكر آية في كتاب الله تشرح للمؤمن صدره، وتجلب له صبره، وتهون خطبه، وتذكره ربه، قال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} إلى قوله: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [سورة البقرة آية: 155-157] ، وقال: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [سورة الزمر آية: 10] . وفي الصحيح عن صهيب مرفوعاً: " عجباً لأمر المؤمن، إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن: إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له " 1. وكان أيوب، عليه السلام، كلما أصابته مصيبة، يقول: اللهم أنت أخذت، وأنت أبقيت، مهما تبقى نفسي أحمدك على بلائك. وفي الحديث: " إن كل مصيبة آخرها الصبر، ولكنه إنما يحمد عند حدوثها، لأن مصير ذي الجزع إلى السلوان ". وروى البخاري عن أبي هريرة مرفوعاً: " من يرد الله به خيراً يصب منه " 2، وعنه مرفوعاً: " ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة، في نفسه وولده وماله، حتى يلقى الله وما عليه خطيئة " 3. وأخرج النسائي عن أبي سلمى، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " بخ بخ لخمس، ما أثقلهن في الميزان: لا إله إلا الله، وسبحان الله، والحمد لله، والله أكبر، والولد الصالح يتوفى للمؤمن فيحتسبه " 4، إلى غير ذلك   1 مسلم: الزهد والرقائق (2999) , وأحمد (4/332, 4/333, 6/15) , والدارمي: الرقاق (2777) . 2 البخاري: المرضى (5645) , وأحمد (2/237) , ومالك: الجامع (1752) . 3 الترمذي: الزهد (2399) , وأحمد (2/287, 2/450) . 4 أحمد (4/237) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 167 مما فيه تسلية للمؤمن. وفقنا الله وإياكم لما يحب ويرضى. سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عما يقولون إنه صلى الله عليه وسلم قال: " من مات بالحرمين بعث يوم القيامة آمناً "؟ فأجاب: هذا كذب لا أصل له. توفي رجل وضرب النساء الدف سئل بعضهم: إذا توفي رجل وضرب النساء الدف ... إلخ؟ فأجاب: إذا توفي رجل وضرب النساء الدف، فإن كان لأجل الميت فهذا بدعة ويحرم فعلها، فإن كان لأجل عرس فلا بأس إن شاء الله به، لتشييع النكاح، ولا أعلم يحرم عليهن عند موت الميت إلا النياحة وتوابعها، إلا زوجة الميت فيحرم عليها الأمر الذي ما يخفاكم، لأجل إحدادها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 168 كتاب الزكاة الوقف الذي تجب فيه الزكاة سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد، رحمهما الله: عن الوقف الذي تجب فيه الزكاة ... إلخ؟ فأجاب: الوقف الذي تجب فيه الزكاة، هو الوقف على معين، وأما الوقف على غير معين، كالوقف على المساجد ونحو ذلك، مثل المؤذن والصُّوّام والسراج ونحو ذلك، فلا زكاة فيه. فإذا كان النخل وقفاً على المسجد، فلا زكاة في عمارته التي تؤخذ لأهل المسجد. وأجاب الشيخ حسن بن حسين بن محمد: الذي يسبل على الفقير من صلبه، فمثل هذا ليس فيه زكاة، لأنه في الحقيقة غير معين، والمعين أن ينص رجلاً بعينه، أو رجلين أو أكثر. وأجاب الشيخ عبد الله أبا بطين: لا تجب الزكاة إلا في وقف على معين، كوقف الإنسان على أولاده، أو على زيد ونحوه، إذا حصل من غلة الوقف نصاب، وأما الوقف على جهات الخير فلا زكاة فيه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 169 وأجاب أيضاً: إن كان الوقف على معين واحد أو جماعة، وحصل لكل واحد نصاب، زكاة، وإن كان الوقف على غير معين، لم يجب فيه شيء. [هل تجب الزكاة في مال الأيتام] سئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب: هل تجب الزكاة في مال الأيتام ... إلخ؟ فأجاب: مال الأيتام ما فيه زكاة، حتى يتم لكل واحد منهم نصاب. وسئل ابنه الشيخ عبد الله: عمّا يجب على اليتيم من الحقوق غير الزكاة؟ فأجاب: لا نعلم شيئاً يجب عليه إلا الزكاة، في أصح قولي العلماء، مع أن بعض أهل العلم ذكر أنها لا تجب عليه الزكاة، وهو قول مرجوح. وأجاب الشيخ إبراهيم بن عبد اللطيف: وأما دراهم الأيتام فتجب فيها الزكاة، لأن النقدين لا يشترط في وجوب الزكاة فيها نية التجارة، بل مجرد الملك والحول والنصاب. اشتراط الحول في الزكاة سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ: عن رجل حصل له غنيمة، أو أجرة في بيت المال، أو غيره، هل يشترط فيه الحول؟ فأجاب: يشترط فيه الحول، ولا يزكيه إلا إذا مضى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 170 فصل في زكاة الحبوب والثمار سئل بعضهم: عن البن، هل هو من الحبوب وتجب فيه الزكاة؟ فأجاب: أما البن، فقد تقدم أنه من الحبوب، وحكمه حكمها لأنه مكيل ومدخر. وسئل: عن السمن؟ فأجاب: أما السمن فليس فيه زكاة، لأن الأغنام تزكى، وهو من نتاج الغنم والبقر. سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: عن نصاب الحب والتمر؟ فأجاب: أما نصاب الحب والتمر، فهو قدر خمسة أوسق، فيصير فيه نصف العشر. وأجاب أيضاً: نصاب الحبوب والثمار خمسة أوسق، والوسق ستون صاعاً بصاع النبي صلى الله عليه وسلم؛ وأما تقديره بصاعنا فهو معروف عند عمال الزكاة، وصاعنا يزيد على الصاع القديم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 182 والمشهور عند الحنابلة أن النصاب فيها تحديد، فلو نقص يسيراً ولو نحو نصف صاع سقطت الزكاة. وعن أحمد رواية ثانية: أن النصاب فيها تقريب، فلا يؤثر النقص اليسير، قال في الإنصاف: وهو الصواب. وسئل عن نصاب الحب والزبيب؟ فأجاب: نصاب الحب والزبيب، قيمة ثلاثمائة تنقص عشرين صاعاً، بصاع الوادي 1. وأجاب أيضاً: وأما العنب فما أكله أهله منه رطباً فلا زكاة فيه، ويخرص عليه الباقي بعد أكله؛ فإذا بلغ خمسة أوسق وجبت فيه الزكاة، وأهل العلم ذكروا اعتبار النصاب بعد التصفية، فإذا صار مصفى صالحاً للأكل، فمتى بلغ النصاب وجبت فيه الزكاة. وأجاب أيضاً: إذا كان المغل مبلغه نصاب، وفيه مقيظ صاحبه، ثم نقص عن النصاب، فلا زكاة فيه، وأما إذا كان المغل نصاباً وفيه صبرة، أو مشترك، فعادتنا نأخذ الزكاة على كلام من أوجبه. سئل الشيخ سعيد بن حجي: عن "الوسمة" إذا كانت في ملك إنسان وبيعت بثمن، هل تجب فيها الزكاة في الحال، وعن ثمر السدر إذا كان منها نصاب؟   1 أي: وادي الدواسر, وهو ضعف صاع العارض. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 183 فأجاب: اعلم أن زكاة الخارج من الأرض ثابتة بالكتاب والسنة والإجماع، وأجمع أهل العلم على وجوب الزكاة في الحنطة والشعير والتمر والزبيب؛ حكاه ابن المنذر وابن عبد البر. وتجب الزكاة فيما اجتمع فيه الكيل والادخار من الثمر والحبوب، لقوله صلى الله عليه وسلم: " ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة " 1، متفق عليه. وقال مالك والشافعي: لا زكاة في ثمر إلا التمر والزبيب، ولا في حب إلا ما كان قوتاً في حال الاختيار. انتهى ملخصاً من الشرح. وقال في الكافي: ولا تجب الزكاة في الخارج من الأرض إلا بخمسة شروط: أن يكون حباً أو ثمراً، لقوله صلى الله عليه وسلم: " لا زكاة في حب ولا ثمر حتى يبلغ خمسة أوسق " 2، رواه مسلم. الثاني: أن يكون مكيلاً، لتقديره بالأوسق. الثالث: أن يكون مما يدخر لأن جميع ما اتفق على زكاته مدخر، فتجب الزكاة في جميع الحبوب المكيلة، المقتاتة منها، والقطاني، والبزور، وفي التمر والزبيب واللوز، والفستق، والعناب. ولا زكاة في تبن ولا ورق ولا زهر، لأنه ليس بحب، ولا ثمر ولا مكيل. الرابع: أن ينبت بإنبات الآدمي في أرضه؛ والزكاة إنما تجب ببدو الصلاح، ولم يكن ملك حينئذ فلم تجب زكاته. الخامس: أن يبلغ نصاباً خمسة أوسق لقوله: " ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة " 3. انتهى ملخصاً. وقال في الإقناع: تجب في كل مكيل مدخر من قوت،   1 البخاري: الزكاة (1447) , ومسلم: الزكاة (979) , والترمذي: الزكاة (626) , والنسائي: الزكاة (2445, 2446, 2473, 2474, 2475, 2476, 2483, 2484, 2485, 2487) , وأبو داود: الزكاة (1558, 1559) , وابن ماجة: الزكاة (1793) , وأحمد (3/6, 3/30, 3/44, 3/59, 3/60, 3/73, 3/74, 3/79, 3/86, 3/97) , ومالك: الزكاة (575, 576) , والدارمي: الزكاة (1633) . 2 البخاري: الزكاة (1459) , ومسلم: الزكاة (979) , والنسائي: الزكاة (2475, 2483، 2484, 2485) , وأحمد (3/86) , والدارمي: الزكاة (1634) . 3 البخاري: الزكاة (1447) , ومسلم: الزكاة (979) , والترمذي: الزكاة (626) , والنسائي: الزكاة (2445, 2446, 2473, 2474, 2475, 2476, 2483, 2484, 2485, 2487) , وأبو داود: الزكاة (1558, 1559) , وابن ماجة: الزكاة (1793) , وأحمد (3/6, 3/30, 3/44, 3/59, 3/60, 3/73, 3/74, 3/79, 3/86, 3/97) , ومالك: الزكاة (575, 576) , والدارمي: الزكاة (1633) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 184 فتجب في كل الحبوب، وتجب في كل ثمر يكال ويدخر، كالتمر والزبيب، لا في عناب وقطن وزعفران وورس، ونيل وفوة وغبيراء 1 وحناء. ولا تجب في الخوخ والسفرجل والرمان والنبق. انتهى ملخصاً. فإذا تأملت كلام هؤلاء العلماء، وما احتوى عليه من الأدلة، وجدت شجر الوسمة، وهي: نبت يخضب بورقه، ويقال هو العضلم، قاله في المجمع، وفي القاموس: الوسمة: ورق النيل، أو نبات يخضب بورقه. انتهى. وجدت أنه لا زكاة فيه، لأنه غير مكيل ولا حب مدخر، ولا قوت آدمي للادخار، وإنما تجب الزكاة في ثمنه إذا بيع بشرطه. وقال الشيخ عبد الرحمن بن حسن: ونعرفك بأنه ذكر لنا: أن بعض نوابكم في الزكاة أو كلهم، يأخذون الزكاة من الحبوب والثمار التي ما بلغت النصاب، ويقال ل: ي إن هذا أمر من دونك، وهو الظن، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة " 2، وخمسة الأوسق: ثلاثمائة صاع; هذا مما لا خلاف فيه بين أئمة الإسلام، ونقلة الشرع، ولا يسع أحداً أن يتجاوز ما حده رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً} [سورة الأحزاب آية: 36] ،   1 وهي: حشيشة الصباغين. 2 البخاري: الزكاة (1447) , ومسلم: الزكاة (979) , والترمذي: الزكاة (626) , والنسائي: الزكاة (2445, 2446, 2473, 2474, 2475, 2476, 2483, 2484, 2485, 2487) , وأبو داود: الزكاة (1558, 1559) , وابن ماجة: الزكاة (1793) , وأحمد (3/6, 3/30, 3/44, 3/59, 3/60, 3/73, 3/74, 3/79, 3/86, 3/97) , ومالك: الزكاة (575, 576) , والدارمي: الزكاة (1633) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 185 وقال جل ذكره: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [سورة النور آية: 63] ؛ قال الإمام أحمد: أتدري ما الفتنة؟ الفتنة: الشرك؛ لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك؛ أجارنا الله وإياكم من أسباب الهلاك. وقد نبهت الإمام على مثل هذا، وقال: أبرأ إلى الله، لا آمر به، ولا أرضاه; اذكروا لي من هو واقع منه; وأحببنا تنبيهكم، لأني أظن أنه يكفي في مثل هذا الأمر الظاهر في حكم الله ورسوله. سئل بعضهم: هل تجب الزكاة في زرع الميت ونخله بعد ملك ورثته؟ وإذا زاد على الخرص هل تجب في الزائد؟ فأجاب: أما خرص زرع الميت بعد ملك ورثته، فبلى، لأن الثمار والحبوب تزكى، سواء كان صاحبها حياً أو ميتاً، إذا بلغت نصاباً. وإذا زاد نخل الرجل أو زرعه على الخرص، وجبت عليه زكاة الزائد. سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد، رحمهما الله: هل تضم ثمرة العام الواحد ... إلخ؟ فأجاب: زرع العام الواحد يضاف بعضه إلى بعض في تكميل النصاب، وتؤخذ من زرع القيظ زكاته إذا أضيف لزرع الربيع. وأجاب أيضاً: وأما الحبوب، فالذي عليه العمل: أنه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 186 يضم بعضها إلى بعض في تكميل النصاب، ولو اختلف الجنس، إذا كان ذلك في عام واحد. وأجاب أيضاً: إذا كانت من جنس واحد، فإنه يضم بعضها إلى بعض بلا إشكال. فإن كانت من جنسين فاختلف الفقهاء في ضم بعضها إلى بعض، والذي عليه الفتوى اليوم، أنه يضم بعضها إلى بعض: فتضم الحنطة إلى الشعير، وتضم الذرة إلى الدخن; وأما معنى الضم فالمراد به إذا كانت الثمرة لا تبلغ نصاباً، ثم جاءت الثمرة الثانية، فإنها تضاف إلى الأولى، فإذا بلغ نصاباً أخرج زكاته. وأجاب أيضاً: ضم ثمرة العام الواحد بعضه إلى بعض في تكميل النصاب، المراد به عند بعضهم: أن يزرع زرعين في عام واحد، ولو كان ذلك دون السنة الهلالية، بأن يحصل ذلك في نحو ثمانية أشهر، أو تسعة أشهر، أو دون ذلك، ولا ينظر إلى كون الزرع الأول في آخر السنة الأولى، والزرع الثاني في أول السنة الثانية، لأن ذلك حساب عام واحد. واحترازهم بقولهم: ثمرة العام الواحد، إشارة إلى كون إنسان يزرع زرعاً في سنة، ثم يزرع في السنة التي بعدها، بعد مضي اثني عشر شهراً، فهذا لا يضم ثمرة هذا إلى هذا؛ فإذا كمل النصاب عنده بضم ثمرة إلى ثمرة في عام واحد، وجبت عليه الزكاة؛ هذا هو المفتى به عندنا. وأجاب أيضاً: ظاهر كلام الحنابلة، أن العام هو السنة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 187 الواحدة، فيضم الشتاء إلى الصيف، والصيف إلى الشتاء; قال في المنتهى وشرحه: وتضم أنواع الجنس الواحد من زرع العام الواحد، بعضها إلى بعض في تكميل النصاب: فيضم العلس إلى الحنطة لأنه نوع منها، والسلت إلى الشعير لأنه نوع منه؛ جزم به جماعة، منهم الموفق والمجد؛ قال في الفروع: لأنه أشبه الحبوب في صورته، لا جنس آخر على الأصح، كالثمار والمواشي، فيعتبر النصاب في كل جنس منفرداً. وتضم أيضاً ثمرته، أي: ثمرة العام الواحد، إذا كانت من جنس واحد، ولو كانت الثمرة مما - أي من شجر - يحمل في السنة حملين في الأصح، بعضها إلى بعض، لأنها ثمرة عام واحد، فضموا بعضها إلى بعض كزرع العام الواحد، وكالذرة التي تنبت مرتين. وأما قدر العام، فلم نقف فيه للحنابلة على حد. وقال في شرح المنهاج للأذرعي من الشافعية: وزرعا العام يضمان، والأظهر اعتبار وقوع حصاديهما في سنة، فما كان منه في وقت واحد يضم بعضه إلى بعض قطعاً، ولا أثر لامتداد وقت الزراعة؛ وقد يمتد شهراً وشهرين وأكثر، وهو زرع واحد. وأما ما يزرع في السنة مرتين أو أكثر، كالذرة، فإنها تزرع في الخريف، وفي الربيع، والصيف، فيضم بعضها إلى بعض. وفي المعتبر في ذلك عشرة أقوال، أكثرها منصوص؛ أظهرها ما ذكره، لأن الحصاد وقت استقرار الوجوب، فكان الجزء: 5 ¦ الصفحة: 188 اعتباره أولى. والثاني: اعتبار زرعهما في سنة. والثالث: اعتبار الزرعين والحصادين أقل من اثني عشر شهراً عربية. الرابع: إن وقع الزرعان والحصادان، أو حصد الأول وزرع الثاني في سنة، وإلا فلا. والخامس: يعتبر أن الزرعين والحصادين في سنة، وهذا ما جعله الرافعي عبارة عن القول الرابع، لا قولاً غيره. والسادس: الحصادان في فصل. والسابع: الزرعان في فصل. والثامن: الزرعان والحصادان في فصل، أن يكون حصادهما في فصل وزرعهما في فصل; قالوا والمراد بالفصل: أربعة أشهر. والتاسع: إن زرع بعد حصد الأول لا يضم، كحمل الشجرة. والعاشر - خرجه أبو إسحاق -: أن ما يعد سنة واحد يضم، ولا أثر لاختلاف الزرعين والحصادين، وهو حسن; قال في الشامل: إنه أشبه الأقوال; وقال البندنيجي: إنه المذهب; وعلى هذا فالمراد بالسنة سنة الزرع، وهي من خمسة أشهر إلى ثمانية، وقال البندنيجي: أكثرها ستة أشهر. وأجاب بعضهم: وأما زكاة الثمار فلا تجب إلا على من كملت عنده في الحول خمسة أوسق، لأن ثمرة العام يضم بعضها إلى بعض في تكميل النصاب. وأجاب الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين: وأما ضم ثمرة العام الواحد وزرعه بعضه إلى بعض لتكميل النصاب: فأما الثمار، فلا يضم جنس منها إلى آخر، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 189 كالتمر إلى الزبيب بإجماع العلماء، وتضم أنواع الجنس بعضها إلى بعض. وأما الزرع، فالمشهور من مذهب أحمد أنه لا يضم جنس منه إلى آخر؛ وهو مذهب الشافعي، وهو قول الحنفية. وعن أحمد رواية أخرى: بضم الحنطة إلى الشعير، والقطاني بعضها إلى بعض؛ واختار هذه الرواية الخرقي، وأبو بكر، وهو مذهب مالك. وعن أحمد رواية ثالثة: تضم الحبوب بعضها إلى بعض مطلقاً، والله أعلم. والقطاني: اسم لحبوب كثيرة، منها: الحمص والعدس واللوبيا، والدخن والأرز والباقلا. وأجاب أيضاً: وأما ضم زرع العام الواحد بعضه إلى بعض في تكميل النصاب فالحكم كذلك عند العلماء، واستدلوا على ذلك بعموم الأحاديث، كقوله: " فيما سقت السماء العشر " 1، وقوله: " ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة " 2، قالوا: وهذا يعم ما إذا كان في فصل أو فصلين من السنة. واختلفوا: هل يضم جنس إلى آخر في تكميل النصاب، كضم الحنطة أو الشعير إلى الذرة أو الدخن؛ فيه عن أحمد روايتان. وأجاب أيضاً: إذا كان عند إنسان نصاب في الشتاء، وبعض نصاب في القيظ 3، أخرج زكاة نصاب الشتاء، ولم يجب عليه شيء في زرع القيظ إذا لم يبلغ نصاباً.   1 البخاري: الزكاة (1483) , والترمذي: الزكاة (640) , والنسائي: الزكاة (2488) , وأبو داود: الزكاة (1596) , وابن ماجة: الزكاة (1817) . 2 البخاري: الزكاة (1447) , ومسلم: الزكاة (979) , والترمذي: الزكاة (626) , والنسائي: الزكاة (2445, 2446, 2473, 2474, 2475, 2476, 2483, 2484, 2485, 2487) , وأبو داود: الزكاة (1558, 1559) , وابن ماجة: الزكاة (1793) , وأحمد (3/6, 3/30, 3/44, 3/59, 3/60, 3/73, 3/74, 3/79, 3/86, 3/97) , ومالك: الزكاة (575, 576) , والدارمي: الزكاة (1633) . 3 زرع الشتاء: الحنطة والشعير، وزرع الصيف: الدخن والذرة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 190 سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد، رحمهما الله: عن تأثير الخلطة؟ فأجاب: هذه المسألة مبنية على مسألة ضم الحبوب بعضها إلى بعض، فإن قلنا: تضم، فمتى كمل النصاب أخرج زكاته. وأما ديوان الأرض الذي يأخذه المالك، فينبني وجوب الزكاة فيه، على القول بتأثير الخلطة في غير السائمة; والذي عليه الجمهور: أنها لا تؤثر في غير السائمة. وعن أحمد رواية ثانية: أنها تؤثر في الحبوب والثمار؛ وهو قول إسحاق، واختارها الآجري وابن عقيل؛ فعلى هذا تؤخذ الزكاة. وأما على قول من قال: إن الخلطة لا تؤثر في الثمار، فيخرج صاحب الزرع أجرة الأرض ثم يزكي الباقي إن بلغ نصاباً، لكن الأحوط في هذا إخراج الزكاة ولو نقص النصاب بإخراج الديوان، وذلك لأن الديوان أجرة في ذمة المستأجر وليس صاحب الأرض شريكاً له في الزرع، وأن الذي له أجرة معلومة في ذمة المستأجر؛ والفقهاء يمثلون الخلطة في الثمار نحو اشتراكهما في الزرع، ونحو اشتراط المالك جزءاً معلوماً من الثمرة نحو ربع الثمرة أو خمسها. وأما مسألة إجارة الأرض بآصع معلومة، فهي بعيدة من مسألة الخلطة في مثل هذا؛ فإن صاحب الزرع إذا كمل عنده النصاب أخرج زكاته، ثم دفع ديوان الأرض إلى مالكها، ولا ينقص شيئاً من الزكاة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 191 وأجاب أيضاً: وأما أخذ صاحب الأرض ديوانه، قبل إخراج الزكاة أو بعده، فهذا ينبني على تأثير الخلطة في الزرع: فإن قلنا: تؤثر، أخرجت من رأس المال، ويكون على صاحب الأرض من الزكاة قدر ما يحصل له من الديوان. وأما إن قلنا: لا تؤثر الخلطة في الزرع، فلا زكاة على صاحب الديوان إلا أن تبلغ حصته نصاباً. وسئل أيضاً: عن الشركاء في الزرع، لا يتم ما بينهم نصاب، ولكل واحد شيء يخصه؟ فأجاب: إذا حصل لكل واحد قيمة نصاب، أخذت منه الزكاة، وإلا فلا. وسئل: عن صاحب الأرض، هل يؤخذ من نصيبه زكاة؟ فأجاب: إن كان بسهم فعليه حصته من الزكاة، وإن كان بديوان دفع إليه الشيء المشروط. وأجاب في موضع آخر: الخلطة تؤثر في الماشية بالحديث الصحيح، وأما غير الماشية فالذي عليه أكثر أهل العلم أن الخلطة لا تأثير لها في الحبوب. وإذا كان بين اثنين زرع قدر مائتي صاع، لكل واحد مائة، وله قدر خمسين أو أزيد من زرع آخر مختص به عن شريكه، فهذا لا زكاة فيه على القولين جميعاً، لأنا إن قلنا: إن الخلطة لا تأثير لها في الجزء: 5 ¦ الصفحة: 192 غير الماشية فواضح، وإن قلنا تؤثر فهما لم يشتركا في نصاب، لأن المشترك لم يبلغ نصاباً فلا زكاة فيه. فإذا اقتسما وأضاف كل واحد منهما نصيبه إلى ما حصل له من الزرع الآخر الذي اختص به عن شريكه، نظرنا: فإن بلغ نصاباً زكاه، وإلا فلا. وأجاب أيضاً: وأما الناس المشتركون في النخل، وكلٌ عارفٌ حقه منه، وكل يسقي حقه وحده، فيحسب كل نصيب رجل وحده، فإن بلغ النصاب أخذت منه الزكاة، وإن لم يبلغ النصاب فلا زكاة عليه. وأجاب أيضاً: وأما النخل المتميز بين الشركاء، ولا شركة بينهما إلا أن الماء واحد، فالذي نفهم أن شركة الماء لا تؤثر، بل كل ملكه يخرص على حدة. وأجاب أيضاً: الشيخ عبد الله أبا بطين: أما تأثير الخلطة في غير الماشية في باب الزكاة، فالخلاف في ذلك مشهور بين القائلين بتأثير الخلطة في الماشية؛ والمشهور في مذهب أحمد، وهو مذهب مالك: عدم تأثير الخلطة في الجملة. وعن أحمد رواية بتأثير خلطة الأعيان في غير السائمة، وهو مذهب الشافعي. وعلى هذا، فهل تؤثر خلطة الأوصاف؟ فيه وجهان للأصحاب، ودليل كل من القولين مذكور في محله، وإن كانت حجة القول الأول أظهر، والقول الجزء: 5 ¦ الصفحة: 193 به أكثر. وأما إذا زرع إنسان لغيره بجزء من الزرع، فلا يلزم العامل إلا زكاة حصته خاصة، لكن إن شرط الزكاة على العامل فهل يصح أو لا؟ سئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى: عما سقي بِمؤونةٍ بعضَ الوقت، وبعضه بغيرها؟ فأجاب: الأصل فيه قول النبي صلى الله عليه وسلم: " فيما سقت السماء والعيون أو كان عثرياً: العشر، وفيما سقي بالنضح: نصف العشر " 1، رواه البخاري. وأما إذا سقي النصف بكلفة، والنصف بغير كلفة، فذكر الفقهاء فيه ثلاثة أرباع العشر؛ قالوا: وهذا قول مالك والشافعي وأصحاب الرأي، ولا نعلم فيه مخالفاً. وأنت فاهم أن الإجماع حجة. وذكروا أيضاً: أنه إذا جهل أي الكلفة أو غير الكلفة أكثر، أنه يجب العشر احتياطاً، نص عليه. وأجاب أيضاً: الذي ثمرته على السقي وعلى السيل، يسأل أهل المعرفة، فإن كان نفع السيل أكثر فعليه العشر تاماً، وإن كان السقي أكثر نفعاً فعليه نصف العشر، وإن استويا فثلاثة أرباع العشر. وأجاب ابنه الشيخ عبد الله: وزكاة الذي يسقى بالسواني نصف العشر، والذي يسقى بالعيون أو السيل ففيه العشر تاماً.   1 البخاري: الزكاة (1483) , والترمذي: الزكاة (640) , والنسائي: الزكاة (2488) , وأبو داود: الزكاة (1596) , وابن ماجة: الزكاة (1817) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 194 وسئل: متى تجب؟ فأجاب: المشهور عند أهل العلم أن الزكاة تجب إذا اشتد الحب، ولا يستقر الوجوب إلا إذا جعل في البيدر؛ فإن تلف بعضه سقطت الزكاة فيما تلف وزكى الباقي، ولا أعلم أحداً من العلماء قال بوجوبها فيما تلف قبل الحصاد؛ بل الذي عليه أكثر العلماء أو كلهم، بل أظنه إجماعا: أن الزرع إذا هلك بآفة سماوية قبل حصاده، والثمرة إذا هلكت قبل الجذاذ، فالزكاة تسقط فيما تلف. وأما إذا جذّت الثمرة ووضعت في الجرين، أو حصد الزرع وجعل في البيدر، ثم أصابته آفة سماوية كالريح، والنار التي تأكله قبل التمكن من إخراج الزكاة، فهذه المسألة هي محل الخلاف: فبعضهم يقول بوجوب الزكاة، وبعضهم يقول بسقوطها، ويقول شرط الوجوب التمكن من الإخراج وهو لم يحصل. وسئل: عمن يدفع زكاة البر سنبلاً؟ فأجاب: ظاهر كلامهم عدم الجواز، لأنهم نصوا على أنه لا يخرج الحب إلا مصفى، ولا التمر إلا جافاً. وسئل: عمن اشترى عيشاً وزكى به؟ فأجاب: أما شراء الإنسان زكاة ماله من عيش غيره فلا علمت فيه خلافاً، والذي فيه المنع: إذا شراها من الفقير بعدما يدفعها إليه; وأما كونه يخرج عيشه للديانين، ويشتري مثله ويعطيه أهل الزكاة، فلا أرى به بأساً. وأجاب الشيخ عبد الله العنقري: وأما الذي يتسلف الجزء: 5 ¦ الصفحة: 195 عيشاً ويخرجه عن زكاته، فلا بأس بذلك، فإنه يملكه بالقرض، وإذا ثبت ملكه له جاز تصرفه فيه بأي وجه كان. ولعل الذي أشكل عليك أنه لا يجوز إخراج الزكاة إلا من الذي وجبت فيه، وهذا ليس بلازم؛ فإنها تجب في عين المال ولها تعلق بالذمة، فتكون كالدين، فحينئذ سواء أخرجها من الذي وجبت فيه أو من غيره، فكل هذا جائز. وسئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: عن إنكار الخرص؟ فأجاب: الخارص عليه الاجتهاد والتحري، والخرص فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ كان يبعث عماله إلى الثمار يخرصونها عند استوائها، وقد قال الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [سورة الأحزاب آية: 21] . سئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى: عما يدعه الخارص ... إلخ؟ فأجاب: وأما ترك الخارص الثلث أو الربع، فأرجح الأقوال عندي، قول أكثر أهل العلم: أنه غير مقدر، بل يترك له قدر ما يأكله ويخرجه رطباً باجتهاد الخارص؛ وعلى هذا وردت الأدلة ويصدق بعضها بعضاً. وأجاب ابنه الشيخ عبد الله: يؤمر الخارص أن يدع الثلث أو الربع لأهل النخيل يأكلونه ويهدون منه ويتصدقون، وبعض أهل العلم يقول: يدع لأهل النخيل قدر حاجتهم، كل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 196 إنسان على قدر حاجته; فما كان يحتاجه للأكل قبل الجذاذ ويهديه لأقاربه ونحوهم، أو يتصدق به فلا زكاة فيه، وما عدا ذلك ففيه الزكاة؛ فتبين لك أنما أخرجه بلا عوض يعود إليه فلا زكاة فيه، وما باعه وأهداه هدية يطلب عوضها ففيه الزكاة. وسئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: عن الترك في الخرص، هل هو خاص بالنخل دون الزرع؟ فأجاب: الذي يترك في الخرص: الثمر، لأجل أن أهله يتسعون في القيظ، وتأخر الثمرة عن النجاح، والزرع بخلاف ذلك؛ ولو قدر أن أهله يحتاجون للأكل قبل الحصاد، فالذي نرى أنه يترك لهم ما يأكلونه كالثمر. وسئل: هل يترك الخارص قدر ما يخرج الإنسان من أكله وأهل بيته، ويعم الهدية والتقسيم على المساكين، وكذا الحمير، والأجير، ونحو ذلك؟ وهل التحديد بالربع أو الثلث؟ أم على كلام الآمدي، وابن عقيل: يترك قدر أكلهم وهديتهم بالمعروف؟ فأجاب: الذي نرى أن مثل الحمير لا تدخل، والسبب أن أهل العلم يذكرون حاجته، وكذا الذي ينفق شيئاً هدايا ونحوه فلا يحسب، والأجير تبع لأهل البيت. وقولك: هل يزكي ثمنه إذا باعه؟ فليس الأمر كذلك، بل يزكي نفس الثمرة التي باعها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 197 وأجاب أيضاً: كل ما يأكله صاحب النخل من المقيظ هو وعياله، وما يهديه لقريب، وما يتصدق به على فقير، فكل هذا لا زكاة فيه، ويؤمر الخارص بترك ذلك فلا يخرصه على أهل النخيل، ويخرص الباقي. وأجاب بعضهم: وأما النخلة التي يتصدق بها صاحبها، فالذي أشرفنا عليه من كلام أهل العلم، أن عامل الصدقة إن كان يخرص على أهل الثمرة مع أول الثمرة حين يطيب أكلها، أنه يترك من الثمرة قيمة ما يأكلون ويتصدقون به، كالربع أو الثلث أو دون ذلك، على اختلاف العلماء، والباقي يزكى. وإن كان الخارص ما يخرص إلا قريب الجذاذ، فالظاهر أنه يخرص ما وجده، لأن النفقة والأكل قد مضيا، وأما ما يباع أو يعطى أجرة، فهذا يخرص مع النخل. وأجاب الشيخ عبد الله أبا بطين: إذا ترك الساعي في الخرص لرب المال شيئاً من كمال النصاب، كما إذا كان عنده خمسة أوسق فترك منها وسقاً، فقد ذكروا: إن كان رب المال أكل هذا الوسق المتروك، فلا يجب عليه شيء في الأربعة الأوسق الباقية، وإن لم يأكل هذا الوسق المتروك، زكى الأربعة الأوسق فقط. وأجاب بعضهم: ثمر النخلات التي تعطى الفقراء لا زكاة فيها، ولا فيما أكل صاحب الثمرة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 198 [زكاة العسل] سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: عن زكاة العسل ... إلخ؟ فأجاب: وأما العسل فيؤخذ منه العشر زكاة، ويعرف هذا بالكيل والوزن. وأجاب بعضهم: وأما العسل، فمذهب أحمد وغيره من العلماء: أن فيه العشر: إذا بلغ قدر عشر قرب، أخرج منه عشره. [زكاة الخضراوات] سئل الإمام عبد العزيز بن محمد بن سعود: عن الخضراوات، هل تجب فيها الزكاة؟ فأجاب: الذي عليه أكثر العلماء أنها لا تجب فيها الزكاة; وقال أبو حنيفة: تجب فيها الزكاة. والصحيح: القول الأول، وعليه يدل عمل الرسول صلى الله عليه وسلم في حياته، وعمل خلفائه الراشدين بعد وفاته، لمن تدبر ذلك، وعلم سيرة القوم. إغلاق الباب وقت الحصاد سئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى: عن إغلاق الباب وقت الحصاد؟ فأجاب: وأما إغلاق الباب وقت الحصاد، فلا أتجرأ على الجزم بتحريمه، ولكن أظنه لا يجوز لما ورد في هذا المعنى من الكتاب والسنة وكلام أهل العلم، من ذلك ما ذكر الله في سورة "ن" عن أصحاب الجنة: {إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 199 مُصْبِحِينَ} [سورة القلم آية: 17] ؛ وهم لم يغلقوا الباب، ولكن تحيلوا بالصرام وقتاً لا يأتي فيه المساكين. وأجاب بعضهم: وأما قوله: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [سورة الأنعام آية: 141] ، قال ابن جرير: قال بعضهم في الزكاة المفروضة، ثم رواه عن أنس بن مالك، وكذا قال ابن المسيب، وقال العوفي عن ابن عباس: " وذلك أن الرجل إذا زرع فكان يوم حصاده لم يخرج منه شيئاً، فقال الله: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} "، وقال الحسن: ?" هي الصدقة من الحب والثمار "، وقاله قتادة وغير واحد. وقال آخرون: هي شيء آخر سوى الزكاة، قال أشعث عن ابن سيرين ونافع عن ابن عمر في الآية: " كانوا يعطون شيئاً سوى الزكاة "; وعن عطاء: ?" يعطى من حضر يومئذ مما تيسر، وليست الزكاة ". وقال ابن المبارك عن سالم عن سعيد بن جبير: ?": {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} ، قال: هذا قبل الزكاة للمساكين، القبضة والضغث لعلف الدابة ". وفي حديث ابن لهيعة عن دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد مرفوعاً في الآية، قال: " ما سقط من السنبل ". وقال آخرون: هذا شيء كان واجباً ثم نسخه بالعشر ونصف العشر، حكاه ابن جرير عن ابن عباس، وابن الحنفية وإبراهيم وغيرهم، واختاره - يعني ابن جرير -. وقد ذم الله الذين يصرمون ولا يتصدقون، كما ذكره في سورة "ن". انتهى; وأما الاستحباب فلا يخفى، وإنما اختلافهم في الجزء: 5 ¦ الصفحة: 200 الوجوب، فلا ينبغي لمن أعطاه مولاه نعمة أن لا يؤدي حقها، والمال يعتريه حقوق كثيرة غير الزكاة. وأجاب الشيخ عبد اللطيف: من طلب من الثمرة عند الجذاذ، يعطى إذا كان فقيراً أو مسكيناً ما يسد جوعته، وأما إذا طلب من الزكاة، فيعطى بحسب الزكاة وقدرها، وكثرة المساكين. كتب الشيخ حسين وإبراهيم، وعبد الله، وعلي: أبناء الشيخ محمد، وحمد بن معمر: إلى الأخ عبد العزيز، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد، فإن الله تبارك وتعالى أوجب على جميع الخلق أداء الزكاة من أموالهم، والرسول صلى الله عليه وسلم بين مراد الله من ذلك، وقدر النصاب في جميع الأموال، وأخبر صلى الله عليه وسلم فيما ثبت عنه في الصحيحين أنه: " ليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة " 1. وأجمع العلماء أن الزكاة تجب في وزن خمس أواق، ولا تجب فيما دونها. وحرر الفقهاء من جميع المذاهب أن زنة خمس الأواق مائة وأربعون مثقالاً، وحرر المثقال بأنه وزن اثنين وسبعين حبة من الشعير المتوسط، وحررناه فوجدناه كما ذكروا. وحررنا النصاب بالريالات، لأجل أنها أخلص ما يوجد من الفضة، والحكم على الخالص، فصار الريال ثمانية مثاقيل محررة. وسألنا الصاغة عن غش الريال، فحرروه لنا السدس، وأسقطنا من كل ريال سدساً، فصار النصاب من الفضة الخالصة: سبع   1 البخاري: الزكاة (1405) , ومسلم: الزكاة (979) , والترمذي: الزكاة (626) , والنسائي: الزكاة (2445, 2446, 2473, 2474, 2475, 2476, 2483, 2484, 2485, 2487) , وأبو داود: الزكاة (1558, 1559) , وابن ماجة: الزكاة (1793) , وأحمد (3/6, 3/30, 3/44, 3/59, 3/60, 3/73, 3/74, 3/79 , 3/86, 3/97) , ومالك: الزكاة (575, 576) , والدارمي: الزكاة (1633) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 201 عشرة ريالاً ونصف ريال، ومن المغشوشة إحدى وعشرون ريالاً. وفي حياة الشيخ، عفا الله عنه، والريال ما هو بعبرة لنا حتى يحرره لنا، وعبرة الناس ذلك الوقت الزرور، والجديدة، وصرف الزر ذلك الوقت تسع جدد، أو قريب منها، وعشرون الزرور، ومائتا الجديدة متقاربان. وفي وقتنا هذا سقط صرف الحمر، وصار الريال هو الأغلب، وحررنا نصاب الذهب من الحمران: سبعة وعشرين زراً. وأما الجدد فلا فيها من الفضة إلا القليل، فتصير عرضاً من العروض، وتقوم بقيمتها من الريالات، وكذلك سائر العروض تقوم بالريالات، لأنه هو الأحوط في الزكاة. والذي عنده ذهب زرور أو غيرها، فنصابها ما ذكرناه لكم، يزكيها إذا بلغته. وأحببنا ننبهك لتنبه الناس عن شيء يخل عليهم، والزكاة فيما ذكرنا لك، ربع العشر، على الحالة التي تمشون عليها؛ ولكن المراد التنبيه على قدر النصاب الذي تجب الزكاة ببلوغه. وأجاب الشيخ عبد الله بن محمد أيضاً: وأما نصاب الذهب والفضة، فنصاب الفضة من الريالات: قدر واحد وعشرين ريالاً، هذا أول نصابها، وزكاتها: نصف ريال يزيد ربع عشر الريال، وما زاد على ذلك بحسابه. وأما نصاب الذهب، فالذي نعمل عليه عندنا أنها: قدر سبعة وعشرين زراً، من الحمران المعروفة عندنا، ومن المشاخص: قدر عشرين مشخصاً. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 202 وأجاب في موضع آخر: ذكر أهل العلم أن نصاب الذهب: عشرون مثقالاً، وحررناه بالوزن فصار: مقدار سبعة وعشرين زراً. وأما الفضة فنصابها: مائتا درهم، وحررناه فوجدناه: إحدى وعشرين ريالاً. وأمرنا من كان عنده من الذهب أو من الفضة هذا المقدار، وقد حال عليه الحول، أن يزكيه. وأجاب الشيخ حمد بن ناصر: تقدير نصاب الذهب: عشرون مثقالاً، وحررناه: قريب سبعة وعشرين زراً، بزرور الناس العابرة بينهم اليوم، ونصاب الفضة: مائتا درهم، وحررناه: قريب إحدى وعشرين ريالاً من ريالات الناس التي يتعاملون بها اليوم، وهي من الجدد: قدر مائة جديدة تزيد قدر خمس جدد؛ فإذا صار عند المسلم من هذا ما ذكرناه، زكاه إذا حال عليه الحول. وأجاب أيضاً: وأما نصاب الأريل، فالذي عليه الفتوى أنه: قدر واحد وعشرين ريالاً تقريباً، والله أعلم. إخراج الجدد في الزكاة سئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى: عن إخراج الجدد في الزكاة، هل يجوز؟ فأجاب: هذه المسألة أنواع: أما إخراجها عن جدد مثلها، فقد صرحوا بجوازه، فقالوا إذا زادت القيمة بالغش، أخرج ربع العشر مما قيمته كقيمته. وأما إخراج المغشوش عن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 203 الخالص، مع تساوي القيمة، فهذه هي التي ذكر بعض المتأخرين المنع منها، وبعضهم يجيز ذلك؛ وهو الصحيح، بدليل ما تقدم في إخراج القيمة 1 أنه يجزي، فإن إخراج المغشوش يجيزه من لا يجيز القيمة؛ بل قال الشيخ تقي الدين: نصاب الأثمان هو المتعارف في كل زمان، من خالص ومغشوش، وصغير وكبير. وأما إخراج المغشوش عن الجيد مع نقصه، مثل الجنازرة التي تساوي ثماني لأجل الغش بالفضة عن جنازرة تساوي أكثر لقلة الغش، فهذا لا يجوز. وأجاب ابنه الشيخ عبد الله: الجدد عرض تقوم بالفضة. وأجاب ابنه الشيخ سليمان: أما إلحاقها بالنقدين فلا يصح، لأنها ليست بنقد أصلاً، فكيف يلحق ما ليس نقداً بالنقد؟ ولا أظن أحداً يقول ذلك؟ والأولى عندي أن يقال: هي وما أشبهها ملحقة بالمغشوش، فينظر فيها: فإن بلغ ما فيها من الفضة نصاباً بنفسه، أو بالضم إلى فضة أخرى، أو نقول بضم الفضة إلى الذهب، كما هي رواية عن أحمد، وقول مالك وأبي حنيفة، فإنه يزكيها زكاة النقدين. وإن لم يبلغ ما فيها من الفضة نصاباً، ولو بالضم إلى فضة أخرى، أو كان عنده ذهب، ولم نقل بضم الفضة إلى الذهب، فإنه يزكيها زكاة   1 ويأتي في فصل إخراج الزكاة صفحة: 232. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 204 تجارة، كما قاله المجد في المغشوش إذا كان للتجارة أنه يزكيها زكاة تجارة، على أني لم أر أحدا من الأصحاب ذكر ذلك غيره، بل ذكروا أن المغشوش ليس فيه زكاة حتى يبلغ نصاباً مطلقاً؛ هذا ما ظهر لي على أني لم أجد فيها كلاماً لأحد. انتهى. وأجاب الشيخ حسن بن حسين بن الشيخ محمد: اعلم أن المقطوع به عند علمائنا أنها ملحقة بالعروض، وتحسب بقيمتها في باب الزكاة، كما تحسب العروض بالقيمة، كذا قالوا؛ وقد اعتنوا بتمييز ما فيها من الفضة، فلم يجدوا فيها إلا القليل، وأما إلحاقها بالنقدين فهو خطأ، والقائل به قد قال شططاً، إذ كيف يلحق ما ليس نقداً بالنقد؟ وأما قول القائل: إن بعض الجدد فيه من الفضة النصف، وبعضها خالص فضة، فهذا ممنوع غير مسلم، وتحديد صرف الريال بالسبع أو الثمان من الجدد، باطل. وأجاب سعيد بن حجي: لا زكاة في الحلي المباح المعد للاستعمال، لقوله صلى الله عليه وسلم: " ليس في الحلي زكاة "، رواه الطبراني؛ وهو قول ابن عمر وعائشة، وأسماء ابنة أبي بكر وجماعة من التابعين. ويباح للنساء من الذهب كل ما جرت عادتهن بلبسه قل أو كثر. وقال ابن حامد: إذا بلغ ألف مثقال حرم، وفيه الزكاة. ويجوز للمرأة التحلية بدراهم ودنانير معراة، أو في مرسلة في وجه، وعليها تسقط الزكاة. انتهى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 205 من المبدع. وقال في الإقناع: ولا زكاة في حلي مباح، ويباح للنساء من ذهب وفضة ما جرت عادتهن بلبسه، كطوق وخلخال وسوار، ولو زاد على ألف مثقال، حتى دراهم ودنانير معراة وفي مرسلة. انتهى. وقال الشيخ تقي الدين الحصني الشافعي: قوله: هل تجب الزكاة في الحلي المباح؟ فيه قولان: أحدهما: لا، وهو الأظهر، لأن " عائشة تحلي بنات أخيها يتامى في حجرها، فلا تخرج منها الزكاة "، رواه في الموطإ. وفي جواز التحلي بالدراهم والدنانير المثقوبة التي تجعل في القلادة، وجهان: أصحهما الجواز، قال الأسنائي: وحكاية الخلاف ممنوعة، بل يجوز لبس ذلك للنساء بلا كراهة، وصرح به في البحر. انتهى. فقد علمت أن المسألة المسؤول عنها، وهي: لبس المشاخصة مع الحلي، لا زكاة فيها تبعاً للحلي، أو مفردة بالشروط المتقدمة، لكن إن كان متخذ المشاخصة مع الحلي، مراده فراراً من الزكاة، ففيها الزكاة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 206 فصل: في العروض سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: عن العروض، ما الواجب في زكاتها؟ فأجاب: العروض تقوم عند الحول بالريالات، لأنها أنفع للفقراء، لأن العروض تقوم بالأحظ للفقراء من عين أو ورق، كما نص عليه الفقهاء. والعروض اسم للسلع المعدة للتجارة، فكل شيء يشتريه الإنسان يريده للربح، فهو عرض تجارة من جميع أنواع المال. سئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله: عن رجل له بعيران، وله تجارة، وهما للبيع ... إلخ؟ فأجاب: الذي عنده ناقتان أو أكثر أو أقل وهو كَدّاد، وله تجارة وهن للبيع، يحسبن مع تجارته، والذي عنده عيش أو تمر للبيع، إذا حال عليه الحول يزكيه مع التجارة، وما فضل من قوت الرجل وهو ناويه للتجارة فيحسبه مع تجارته، إلا إن كان ناويه قوتاً وفضل شيء فلا زكاة فيه حتى ينويه للبيع ويحول عليه الحول. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 207 وأجاب ابنه: الشيخ عبد الله: وأما الإبل التي يجعلها صاحبها عديلة مع البدوي، وقصده تناسلها عنده ولا له نظر في بيعها وتقليبها للتجارة، فهي تزكى زكاة سائمة لا زكاة تجارة، وكذلك الغنم. وأما إن كان قصد صاحبها التجارة، ويظهرها مع البدوي، فإذا سمنت باعها، فهذه تزكى زكاة تجارة. وأما العيش والتمر، فإن كان حصله صاحبه من حرثه، فلا فيه زكاة بعد ما يزكيه زكاة الحرث، ولو بلغ أحوالاً، ومتى باعه استقبل بثمنه حولاً. وأما إن كان حصله من دين على الناس، مثل ما يفعله التجار، فهذا يزكي كل حول، ويقوم عند رأس الحول كغيره من عروض التجارة؛ وهذا معنى قول الفقهاء: ولا تكرر زكاة معشرات، ولو بلغت أحوالاً ما لم تكن للتجارة. وإذا كانت الذلول للتجارة، فهي عرض تقوم عند رأس الحول، وإن كانت لغير التجارة بل جعلها صاحبها للحرفة عليها، أو الجهاد، أو الحج، ونحو ذلك، فينظر في ذلك: فإن كانت لم ترع غالب الحول عند الوديع فلا زكاة فيها، وإن كانت قد رعت الحول كاملاً مع إبل الوديع وجبت فيها الزكاة زكاة خلطة. وأما العوامل التي قال أحمد: ليس فيها زكاة، فهي التي تركب، مثل زوامل البدو. والذي يخرج عن العروض دراهم تقوم بها، فإذا قومت بالدراهم أخرج زكاتها. وسئل: عن ثمن أرض يتيم ... إلخ؟ فأجاب: لا تجب الجزء: 5 ¦ الصفحة: 208 الزكاة في الأرض التي تباع إلا إذا حال على ثمنها الحول، فإن كانت بدراهم مؤجلة زكاها إذا قبضها. وسئل: عن ثمن القطن؟ فأجاب: إذا كان للتجارة، فهو يحسب مع المال إذا كان له مال، وإلا فإذا حال الحول على ثمنه، أو عليه بعدما يحصله. وأجاب الشيخ حمد بن ناصر بن معمر: إذا حال عند رجل تمر أو عيش مزكى زكاة الحرث، فإن كان أراده للتجارة فهو يزكيه زكاة التجارة، يحسبه بقيمته وقت حلول زكاة التجارة، وإن كان أراده للأكل له ولبهائمه فليس عليه زكاة، ولو أقام عنده سنين؛ وإن نقص عن قيمة النصاب، ولم يكن عنده ما يضيفه إليه من الذهب والفضة أو العروض، فلا زكاة فيه؛ هذا هو الذي عليه الفتوى والعمل عندنا. وسئل: عن امرأة باعت سلعة من حليها قاصدة أنها تشتري بثمنها سلعة غيرها، وجعلت تبيع وتشتري في ثمن السلعة، وحال الحول قبل أن تشتري، هل يجب عليها زكاة؟ فأجاب: نعم تجب الزكاة إذا حال على الثمن الحول وهو باق بحاله، سواء اتجرت فيه أم لا. وسئل الشيخ محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف: عما إذا خلف الميت عروضاً ساحلياً، وقهوة، أو شبهها، هل تجب فيها الزكاة إذا حال عليها الحول، قبل أن يتصرف فيها الوارث ببيع، أم لا؟ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 209 فأجاب: أما إذا خلف الميت عروضاً ساحلياً، وقهوة أو شبهها، فلا تجب فيها الزكاة، ولا تجري في حولها ما دامت عروضاً عند الوارث، فإن باعها الوارث بنقود مطلقاً، أو عروض، ناوياً بالمستبدلة التجارة، وجبت فيها الزكاة؛ وابتداء الحول من حين الاستبدال. سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى: عن تقويم العروض؟ فأجاب: العروض تقوم عند الحول بالريالات، لأنها أنفع للفقراء، ولأن العروض تُقَّوم بالأحظ للفقراء من عين أو وَرِق، كما نص عليه الفقهاء. وأجاب الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين، رحمه الله: وأما إخراج زكاة العروض من قيمتها لا من نفسها فهو المذهب، وهو مذهب مالك، ومشهور مذهب الشافعي. وعند أبي حنيفة وصاحبيه: يجوز إخراج ربع عشر العرض، وهو قديم قولي الشافعي، وهو اختيار الشيخ تقي الدين. وعن أحمد رواية: يجوز إخراج القيمة في الزكاة، قال بعض الأصحاب: إن قلنا بهذه الرواية أجزنا إخراج زكاة العروض منه. وأجاب أيضاً: لا شك أن الأفضل أن يخرج عين الذهب والفضة منها لا من غيرها، لكن إذا كان الشيء قليلاً والمستحق كثيراً، فأرجو أنه يجوز إخراج القيمة تمراً وحباً. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 210 فصل في صدقة الفطر سئل الشيخ حمد بن ناصر: عمن تجب عليه زكاة الفطر؟ فأجاب: تجب على الصغير والكبير، والذكر والأنثى، والحر والعبد، صاعاً من الطعام. سئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله: عمن ليس عندها إلا حلي، أو ليس له إلا عوامل يستعلمها ... إلخ؟ فأجاب: الفطرة لا تجب إلا على من يقدر عليها. والتي عندها حلي فتجب عليها ولو باعت منه. والذي ليس عنده إلا عوامل يستعملها ما عليه شيء. والذي له ثمرة تجب عليه ولو كانت مرهونة. والذي ليس له إلا ذمته لا يستدين إلا إن أراد. والتمر يؤخذ ولو كان فيه رطوبة، إذا طلع عن اسم الرطب. وتفريقها قبل صلاة العيد. وأجاب الشيخ عبد الله بن حمد الحجازي: الفقير الذي لم يقدر على زكاة الفطر عند وقت وجوبها، ليست بواجبة عليه، وما دفع إليه لا يجب عليه الإخراج منه، لقصة المظاهر، والذي وقع على زوجته في رمضان، ولم يأمر الجزء: 5 ¦ الصفحة: 211 النبي صلى الله عليه وسلم واحداً منهما بإخراج الكفارة التي هي واجبة عليه ومتمكن من أدائها، ولا أمرهما بأدائها إذا قدرا عليها؛ فدل على أنه لا حرج على الفقير إذا دفع إليه أن لا يخرج ولا يؤمر بقضاء. [مقدار زكاة الفطر] سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد، رحمهما الله: عن مقدار زكاة الفطر ... إلخ؟ فأجاب: أما الذي ثبت في مقدارها، فهو صاع من تمر، أو صاع من شعير، أو صاع من زبيب، أو صاع من أقط؛ وأما البر، فجاء في بعض الأحاديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل نصف الصاع من البر قائماً مقام الصاع من غيره من الأجناس المذكورة، والحديث رواه أحمد وأبو داود; والذي في الصحيحين: أن معاوية هو الذي قوم ذلك، والقول به مذهب كثير من أهل العلم، وهو اختيار الشيخ تقي الدين; وتقدير الصاع من التمر بالوزن لا يحتاج إليه، لأن التمر مكيل، فإن أخرج وزنتين عن الصاع فهو كاف. وأجاب في موضع آخر: الذي يظهر لنا أن صاع التمر قدر وَزْنَةٍ ونصف. وأجاب الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن: وأما الفطرة عن صوم رمضان، فجمهور العلماء يرون أنه لا يجزئ إلا صاع كامل، من أي صنف من الأصناف الجزء: 5 ¦ الصفحة: 212 المذكورة في حديث أبي سعيد، وابن عمر وغيرهما، وهي: الطعام، والشعير، والتمر، والأقط، والزبيب; وذهب جمع إلي جواز الإخراج من غالب قوت أهل البلد، أَي قوتٍ كان، كالذرة، والأرز، ونحوهما. وذهب بعضهم إلى أن نصف الصاع من سمراء الشام، وهي: البر، يجزي عن صاع من غيره؛ وهذا القول قاله معاوية، ورآه رأياً له، وليس بمرفوع، وقد خالفه أبو سعيد الخدري، ولم يوافقه عليه، وبعض العلماء وافق معاوية على ذلك، وقليل ما هم. انتهى. وأجاب الشيخ عبد الله أبا بطين: وأما قدر الفطرة من الثمرة المكنوزة، فالذين جربوه يقولون: قدر وزنتين إلا ثلث. وسئل الشيخ سعيد بن حجي: هل يجوز إخراج زكاة الفطر من الذرة والدخن، مع وجود التمر والبر والشعير، أم لا؟ فأجاب: خص الشارع صلاة الله وسلامه عليه، إخراج التمر والشعير والزبيب والطعام والأقط، فمن العلماء من أجاز جميع هذه الأجناس مطلقاً لظاهر الحديث، ومنهم من قال لا يخرج إلا غالب قوت البلد، لأن هذه الأجناس كلها كانت مقتاتة بالمدينة في ذلك الوقت؛ ولفظة الطعام تستعمل في البر عند الإطلاق. وقال في المنح الوفية: شرعت الفطرة طهرة للصائم من اللغو والرفث، وطعمة للمساكين؛ فاللغو: الكلام الجزء: 5 ¦ الصفحة: 213 الباطل، والرفث: كل ما يستحى من ذكره. قال ابن العربي: الصوم موقوف على زكاة الفطر، فإن أخرجت قبل صومه. وروى أبو داود - ولم يضعفه هو ولا المنذري - وابن ماجة من حديث ابن عباس، قال: " فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث، وطعمة للمساكين؛ من أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة، ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات " 1. انتهى. فإذا كانت طهرة للصائم، وطعمة للمساكين، فمن الطيب أحسن وأجمل، لا سيما مع قوله تعالى: {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} [سورة البقرة آية: 267] ، قال ابن عباس: " أمرهم بالإنفاق من أطيب المال وأجوده، ونهاهم عن التصدق برذال المال ودنيه، وهو خبيثه ". إذا ثبت هذا، فقال في المبدع: زكاة الفطر واجبة، لما روى ابن عمر قال: " فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر: صاعاً من تمر، أو صاعاً من شعير، على الحر والعبد، والذكر والأنثى، والصغير والكبير من المسلمين. وأمر بها أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة " 2، متفق عليه. والواجب فيها: صاع بصاع النبي صلى الله عليه وسلم من البر، والشعير، والتمر، والزبيب، إجماعاً، ومن الأقط في إحدى الروايتين؛ هذا المذهب، لما روى أبو سعيد الخدري قال: " كنا نخرج زكاة الفطر إذ كان فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم صاعاً من طعام، أو صاعاً من   1 أبو داود: الزكاة (1609) , وابن ماجة: الزكاة (1827) . 2 البخاري: الزكاة (1503, 1504, 1507, 1509, 1511, 1512) , ومسلم: الزكاة (984, 986) , والترمذي: الزكاة (675, 676, 677) , والنسائي: الزكاة (2504) , وأبو داود: الزكاة (1611, 1613, 1614) , وابن ماجة: الزكاة (1826) , وأحمد (2/5, 2/55, 2/63, 2/66, 2/67, 2/102, 2/114, 2/137, 2/151, 2/154, 2/157) , ومالك: الزكاة (627) , والدارمي: الزكاة (1661, 1662) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 214 شعير، أو صاعاً من تمر، أو صاعاً من زبيب، أو صاعاً من أقط " 1، متفق عليه. ولا يجزئ غير هذه الأصناف المذكورة، مع قدرته على تحصيلها، إلا أن يعدمه، فيخرج مما يقتات عند ابن حامد، كلحم، ولبن، وعند أبي بكر - وهو أشبه بكلام أحمد -، وظاهر كلام الخرقي: يخرج صاعاً مما يقوم مقام المنصوص عليه من كل حب، كذرة ودخن، أو تمر يقتات كتين يابس، ونحوه. واختار الشيخ تقي الدين: يجزئ قوت بلده، مثل الأزر ونحوه، وأنه قول أكثر العلماء، لقوله تعالى: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} [سورة المائدة آية: 89] ، وجزم به ابن رزين. انتهى. وقال في حاشيته على شمس الإيضاح: قال أبو حنيفة، الواجب نصف صاع، ولحديث معاوية؛ وحجة الجمهور حديث أبي سعيد، لقوله: " صاعاً من طعام "، والطعام في عرف أهل الحجاز اسم للحنطة خاصة. ووقع في رواية لأبي داود: " أو صاعاً من حنطة " 2. وأجمعوا على أنه يجوز البر والزبيب، والتمر والشعير، إلا في البر خلاف لا يعتد به، وفي الزبيب لبعض المتأخرين، والأقط وجهان؛ وقال أشهب لا تخرج إلا هذه الخمسة. وعن مالك رواية: أنه لا يجزئ غيرها، وقاس مالك على هذه الخمسة كل ما هو قوت أهل كل بلد، من القطاني وغيرها. ولا يجوز عند عامة الفقهاء إخراج القيمة،   1 البخاري: الزكاة (1506) , ومسلم: الزكاة (985) , والترمذي: الزكاة (673) , والنسائي: الزكاة (2512, 2513, 2518) , وأبو داود: الزكاة (1616) , وابن ماجة: الزكاة (1829) , وأحمد (3/98) , ومالك: الزكاة (628) , والدارمي: الزكاة (1664) . 2 البخاري: الزكاة (1506) , ومسلم: الزكاة (985) , والترمذي: الزكاة (673) , والنسائي: الزكاة (2511, 2512, 2513, 2514, 2517, 2518) , وأبو داود: الزكاة (1616, 1618) , وابن ماجة: الزكاة (1829) , وأحمد (3/23, 3/73, 3/98) , ومالك: الزكاة (628) , والدارمي: الزكاة (1664) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 215 وأجازه أبو حنيفة، قلت: قال أصحابنا: جنس الفطرة: كل حب وجب فيه العشر. انتهى. وأما كلام المالكية، فقال في الشرح الكبير: وقال مالك: يخرج من غالب قوت البلد. انتهى. وقال الفشني المالكي في كتاب المنح الوفية على المقدمة العزية: زكاة الفطر واجبة، فرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ذكر حديث ابن عمر وأبي سعيد المتقدمين، إلى أن قال: وهي صاع من غالب قوت البلد، هذا مذهب المدونة، وسواء كان قوتهم مثل قوته، أو أدنى، أو أعلى. انتهى. وقال عبد الله بن زيد القيرواني في الرسالة: زكاة الفطر فرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم على كل صغير وكبير، ذكر أو أنثى، حر أو عبد من المسلمين، صاعاً بصاع النبي صلى الله عليه وسلم من جل عيش أهل ذلك البلد، من بر أو شعير، أو تمر أو أقط أو زبيب، أو دخن أو ذرة، أو أرز. انتهى كلامه. وأما كلام الشافعية، فقال محمد بن قاسم على أبي شجاع - لما ذكر وجوب زكاة الفطر - قال: فيخرج صاعاً من قوت بلده، فإذا كان في البلد أقوات غلب بعضها، وجب الإخراج منه. انتهى. وقال شهاب الدين أحمد بن الحجازي في شرحه على الزبد، لما ذكر المصنف الفطرة ووجوبها وقدرها، وقال: وجنسه القوت من المعشّر ... غالب قوت البلد المطهّر الجزء: 5 ¦ الصفحة: 216 وجنسه، أي: الصاع، القوت من المعشر، أي: الذي يحب فيه العشر، أو نصفه، لأن النص ورد في جنس المعشرات، كالبر والشعير، والتمر والزبيب؛ وقيس الباقي عليه بجامع الاقتيات، غالب قوت البلد المطهر، المخرج، ويختلف ذلك باختلاف النواحي. انتهى. فتلخص من كلام هؤلاء العلماء: أن الذي ورد فيه النص يقدم في الإخراج إذا وجد غالباً، فإذا عدم، أخرج مما يقوم مقام المنصوص عليه من الحبوب والثمار، كالذرة، والدخن، والأرز، والتين إذا كان يابساً، فإن عدم أخرج من غالب قوت البلد مطلقاً، والذرة والدخن ليسا منصوصاً عليهما، وليسا من غالب قوتنا الآن، فإن غالب قوت أهل نجد الآن: التمر والبر والشعير. وأما الأفضل: فقد ذكر العلماء أن الأفضل إخراج التمر مطلقاً، نص عليه أحمد، وبه قال مالك، لفعل ابن عمر، رواه البخاري. وروى مجاهد قال: " قلت لابن عمر: إن الله قد أوسع، والبر أفضل من التمر، فقال: إن أصحابي سلكوا طريقاً، وأنا أحب أن أسلكه "، فآثر إلاقتداء بهم على غيره، وكذا رواه أحمد واحتج به لأنه قوت وحلاوة، وأقرب تناولاً، ثم البر لأنه أكثر نفعاً وأجود، وبه قال الشافعي، ثم ما هو أنفع للفقراء؛ وفي المحرر: وأفضلها التمر، ثم الزبيب، ثم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 217 البر، ثم الشعير، ثم الأقط، وقيل: أفضلها ما كان أغلى قيمة، وأكثر نفعاً. ولا يخرج حباً معيباً كمسوس ومبلول، لقوله تعالى: {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} [سورة البقرة آية: 267] ، ولأن السوس يأكل جوفه، والبلل ينفخه; ولا يخرج قديم تغير طعمه، ولا قيمته لأنها خلاف المنصوص، فإن خلط الجيد ما لا يجزي، فإن كثر لم يجزه، فإن قل زاد بقدر ما يكون المصفى صاعاً؛ فإن أحب تنقية الطعام كان أكمل، والله أعلم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 218 سئل الشيخ سعيد بن حجي الشيخَ عبد الله، وحمد بن ناصر: عن تحرير الصاع؟ فأجابا: وما ذكرت من تحرير الصاع، أن الذي تحرر لكم فيه: أربع حفنات بيدي الرجل المعتدل في الخلقة، فالأمر على ما ذكرت؛ وهو الذي ذكره العلماء، كصاحب النهاية والقاموس. وأما كون صاعنا يزيد السدس على الصاع الأول، الذي هو أربع حفنات، فلم يظهر لنا أن الزيادة تسع أو عشر، على ما تحرر لنا بالحفنات. وأما الوزن، فلم نعتمد عليه، لأن الحب يختلف بالرزانة وعدمها، والعمدة على ما حرره العلماء بالحفنات، وزيادة الصاع على الحفنات يسيرة، فلهذا تركنا الأمر على عادته القديمة، والاعتبار بالصاع الموجود. وأما الذي نفتي به: فهو العمل على أربع الحفنات، وبالاعتبار بالصاع نجعل التسعة الآن عشرة؛ وأما دون ذلك مشكوك فيه، وإلاحتياط في العبادة أولى. وسئل الشيخ سليمان بن الشيخ عبد الله بن الشيخ، رحمهم الله: هل صاع النبي صلى الله عليه وسلم خمسة أرطال وثلث بالعراقي؟ أم ثمانية أرطال؟ وما قدر الرطل؟ وما بين الوزنة والصاع؟ فأجاب: أخرج أبو داود والنسائي، وصححه ابن حبان والدارقطني، وأخرجه البزار أيضاً بإسناد صحيح عن ابن عمر، رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " المكيال على الجزء: 5 ¦ الصفحة: 219 مكيال أهل المدينة، والوزن على ميزان أهل مكة " 1. إذا عرفت ذلك، فقال أبو داود عن أحمد بن حنبل، قال: صاع ابن أبي ذئب خمسة أرطال وثلث، وقال أبو داود: هذا صاع رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل: ذكر أبي أنه عبر مد النبي صلى الله عليه وسلم بالحنطة فوجدها رطلاً وثلثاً في المد، قال: ولا يبلغ من الثمر هذا المقدار. وقال عبد الرزاق عن ابن جريج عن هشام بن عروة، أن مد النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان يأخذ به الصدقات رطل ونصف. وقال أبو محمد ابن حزم: وجدنا أهل المدينة لا يختلف منهم اثنان، في أن مد النبي صلى الله عليه وسلم الذي تؤدى به الصدقات ليس أكثر من رطل وربع، وقال بعضهم، رطل وثلث، وليس هذا اختلاف، لكن على حسب رزانة المكيل من التمر والبر والشعير، قال: وهذا أمر مشهور بالمدينة، منقول نقل الكافة، صغيرهم وكبيرهم، وصالحهم وطالحهم، وعالمهم وجاهلهم، وحرائرهم وإمائهم، كما نقل أهل مكة الصفا والمروة. فالمعترض على أهل المدينة في صاعهم ومدهم، كالمعترض على أهل مكة في موضع الصفا والمروة، ولا فرق، وكمن يعترض على أهل المدينة في القبر والمنبر والبقيع؛ وهذا خروج عن الديانة والمعقول. قلت: وهذه مبالغة منه كجاري عادته. وقال في الإقناع: والصاع خمسة أرطال وثلث   1 النسائي: البيوع (4594) , وأبو داود: البيوع (3340) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 220 بالعراقي، وقال أبو حنيفة ومن تبعه: المد رطلان; فعلى هذا، يكون الصاع ثمانية أرطال بالعراقي. وقد رجع أبو يوسف إلى الحق في هذه المسألة، ووافق أهل القول الأول لما دخل المدينة ووقف على أمداد أهلها، واحتجوا على قولهم هذا بأشياء لا تصح: الأول: حديث رواه شريك القاضي: عن عبد الله بن عيسى عن عبد الله بن جبر عن أنس بن مالك، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " يجزئ في الوضوء رطلان " 1، مع الأثر الصحيح أنه عليه السلام " كان يتوضأ بالمد " 2. والجواب من وجهين: الأول: ما في شريك من المقال، فإنه وإن كان واسع العلم فقيهاً، فقد ضعفه كثير من أئمة الحديث، كابن المبارك ويحيى بن القطان وغيرهما، ووثقه طائفة. الثاني: أن ذلك لو صح لا يدل على أن ذلك المد رطلان؛ فقد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ بثلثي مد، ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يكال له الماء للوضوء، فلو صح لما كان فيه دليل على أنه لا يجزئ أقل من رطلين، وأبو حنيفة وأصحابه أول موافق لنا في هذا، فمن توضأ عندهم بنصف رطل أجزأه. الثاني: حديث رواه موسى الجهني، قال: "كنت عند مجاهد فأتى بإناء يسع ثمانية أرطال، تسعة أرطال، عشرة أرطال، فقال: قالت عائشة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغتسل بهذا "،   1 الترمذي: الجمعة (609) , وأبو داود: الطهارة (95) , وأحمد (3/179) . 2 البخاري: الوضوء (201) , ومسلم: الحيض (325) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 221 مع الأثر الثابت أنه عليه السلام كان يغتسل بالصاع. والجواب: أن موسى قد شك في ذلك الإناء، هل يسع ثمانية أرطال، أو عشرة أرطال، وهم يقولون الصاع لا يزيد على ثمانية أرطال ولا درهماً، وأيضاً، فإن ذلك ظن وتخمين من موسى. الثالث: رواه أحمد بن يونس عن زهير بن معاوية عن أبي إسحاق عن رجل عن موسى بن طلحة، أن القفيز الحجاجي: قفيز عمر، أو صاع عمر. الرابع: ما رواه مجالد عن الشعبي قال: القفيز الحجاجي: صاع عمر. الخامس: قول إبراهيم: عبرنا صاع عمر، فوجدناه حجاجياً. والسادس: ما رواه الحجاج بن أرطاة عن الحكم عن إبراهيم، قال: كان صاع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانية أرطال، ومده رطلين. والجواب عن الثالث: أن من بين أبي إسحاق وبين موسى بن طلحة لا يدرى من هو. وعن الرابع: بأن مجالداً ضعيف، ضعفه الناس، أولهم أبو حنيفة. وعن الخامس: أن إبراهيم لم يدرك زمن عمر. ثم لو صح كل ذلك لم يكن لهم فيه حجة، لأن النّزاع لم يكن في صاع عمر ولا قفيزه، وإنما النّزاع في صاع النبي صلى الله عليه وسلم ومده، وقد يكون لعمر صاع وقفيز ومد رتبه لأهل العراق، كما كان لمروان بالمدينة مد اخترعه، ولهشام بن إسماعيل مد اخترعه. وكما قال البخاري في الجزء: 5 ¦ الصفحة: 222 الصحيح: حدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا القاسم بن مالك المزني، حدثنا الجعيد بن عبد الرحمن عن السائب بن يزيد، قال: " كان الصاع على عهد النبي صلى الله عليه وسلم مداً وثلث مدكم اليوم، فزيد فيه في زمن عمر بن عبد العزيز ". وقال مالك عن نافع: " كان ابن عمر يعطي زكاة الفطر من رمضان بمد النبي صلى الله عليه وسلم المد الأول "، فصح أن بالمدينة صاعاً ومداً غير صاع النبي صلى الله عليه وسلم ومده، ولو كان صاع عمر هو صاع النبي صلى الله عليه وسلم لما أضيف إلى عمر دون أن يضاف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعن السادس: بأنه لا يحتج به من يحسن مواضع الاحتجاج، لوجهين: الأول: أن الحجاج بن أرطاة ضعيف مدلس. والثاني: أنه مرسل. وفي المسألة طول، وفي هذا القدر كفاية، والله أعلم. وأما قدر الرطل العراقي من المثاقيل، فاعلم أولاً: أن زنة المثقال: درهم وثلاثة أسباع درهم، وبالحب: اثنتان وسبعون حبة شعير متوسطة، وقيل: ثنتان وثمانون حبة من الشعير المطلق، ذكر ذلك في الإقناع وغيره; قال: ولا تنافي بينهما. إذا علمت ذلك، فالرطل العراقي من الدراهم: مائة درهم وثمانية وعشرون درهماً وأربعة أسباع درهم، وبالمثاقيل: تسعون مثقالاً؛ ذكر ذلك في شرح الإقناع. وأما ما بين الوزنة وصاع النبي صلى الله عليه وسلم، فقد عرفت قدر الصاع النبوي بالدليل؛ واعتبار ذلك بالوزنة يعسر على مثلي. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 223 وأيضاً: فالظاهر أن ذلك لا يمكن، لأن الثمر يختلف اختلافاً كثيراً بالرطوبة واليبوسة، فقد تبلغ الوزنة من التمر الخفيف صاعاً، وقد تكون من الثقيل نصف صاع. سئل الشيخ عبد الله بن عبد العزيز العنقري: هل يجزي إخراج زكاة الفطر من النقدين؟ فأجاب: إخراج زكاة الفطر من النقدين لا يجزئ، ولو تعذرت أجناس الطعام؛ لكن إذا عدم المجزي قضى إذا وجده، ولو بعد وقت الإخراج. سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عن توديع الفطرة عند جار ونحوه ... إلخ؟ فأجاب: وما يفعله بعض الجهال من توديعهم الفطرة عند جار ونحوه، إلى أن يجيء الذي يعطونها إياه، فهذا لا يجزئ، لأنهم لم يخرجوها، فلا تسقط. وسئل: عن دفع زكاة الفطر إلى الأخ وابن العم ونحوهم؟ فأجاب: يجوز دفع صدقة الفطر إلى من ذكر إذا لم تجب نفقتهم. سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: عن دفع صدقة الفطر للمعلم؟ فأجاب: الذي ذكر أهل العلم، أنها لا تدفع إلا إلى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 224 الفقراء والمساكين ونحوهم، ممن يجوز له أخذ زكاة الأموال؛ فإن كان هذا المدرس فقيراً وأعطي منها لأجل فقره فهذا حسن، وإن كان إنما أعطي لأجل التدريس فلا يجوز; ولا ينبغي للإنسان أن ينتفع بزكاته ولا يجعلها وقاية لماله، فإن فعل ذلك لم تجز عنه. والصدقة إن جعل الأمير لها جابياً يجباها دفعها إليه، فإن لم يكن لها جاب، فليدفعها إلى من اشتدت حاجته إليها من الفقراء والمساكين، ولا يجوز دفعها إلى غني، ولا يستخدم بها الفقير. وإذا أعطى الجماعة أحداً من الفقراء قدر فطرته، لا أزيد ولا أنقص، فهذا لا بأس به إذا كان معطى من غير فطرته التي دفعها، بل بعض أهل العلم يجوز له أن العامل يرد عليه ولو زكاته بنفسه إذا بلغت العامل. وهل الأفضل خلط فطرة أهل البلد؟ أم تفريقها في أوانيها؟ فالأفضل المبادرة بإخراجها إلى مستحقها، سواء خلطت أم لا. سئل الشيخ سعيد بن حجي: أين تخرج صدقة الفطر؟ فأجاب: زكاة الفطر يخرجها في البلد الذي هو فيه. وأجاب الشيخ عبد الله العنقري: والفطرة يخرجها في البلد الذي استهل له فيه هلال شوال، ولو لم يصم فيها إلا يوماً واحداً، وفطرة من تلزمه فطرته يخرجها حيث أفطر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 225 فصل في إخراج الزكاة قال أبناء الشيخ محمد، رحمهم الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم من حسين وإخوانه، إلى من يراه من المسلمين، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد، قال الله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [سورة البينة آية: 5] ، وقال تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [سورة النور آية: 56] ، وقال تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [سورة التوبة آية: 103] . والزكاة فرضها الله على عباده في أموالهم، وهي أحد أركان الإسلام التي بني عليها؛ وأمر الله تعالى بقتل من لم يزك حتى يؤديها، قال الله تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [سورة التوبة آية: 5] ، وقال صلى الله عليه وسلم: " أُمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا ألا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة؛ فإذا فعلوا ذلك، عصموا مني دماءهم وأموالهم، إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله عز وجل " 1، وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: " والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة; فالزكاة حق المال.   1 البخاري: الإيمان (25) , ومسلم: الإيمان (22) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 226 والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعه ". والآيات والأحاديث في وجوب الزكاة، وفي الوعيد الشديد فيمن لم يزك، كثيرة مشهورة، فمن ذلك: قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ} إلى قوله: {تَكْنِزُونَ} [سورة التوبة آية: 34-35] ، قال ابن عباس، رضي الله عنهما: " نزلت هذه الآية في مانعي الزكاة من المسلمين ". قال ابن عمر: " كل مال أديت زكاته فليس بكنْز، وإن كان مدفوناً، وكل مال لم تؤد زكاته فهو كنْز، وإن كان على وجه الأرض ". قال الله تعالى {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [سورة آل عمران آية: 180] . في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي حقها، إلا إذا كان يوم القيامة، صفحت له صفائح من نار، فأحمي عليها في نار جهنم، فيكوى بها جبهته وجبينه وظهره، كلما بردت أعيدت له، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضى بين العباد " 1، وفي الصحيح أيضاً، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من رزقه الله مالاً فلم يؤد زكاته، مثل له يوم القيامة شجاعاً أقرع، له زبيبتان، يطوق به يوم القيامة، ثم يأخذ بلهزمتيه - يعني شدقيه - ثم يقول: أنا مالك، أنا كنْزك، ثم تلا قوله تعالى: {وَلا   1 مسلم: الزكاة (987) , وأبو داود: الزكاة (1658) , وأحمد (2/262, 2/383) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 227 يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ} الآية? " 1. وقال ابن مسعود، في قوله تعالى: {يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ} الآية، قال: " لا يوضع دينار على دينار، ولا درهم على درهم، ولكن يوسع جلده، حتى يوضع كل دينار ودرهم في موضع على حدته ". والله سبحانه - وله الحمد - وسع عليكم وأغناكم، وأعطاكم الكثير، وطلب منكم اليسير، ونفعه عائد إليكم، والله غني عنه، {وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ} [سورة محمد آية: 38] . والزكاة سميت زكاة، لأنها تزكي المال وتنميه؛ فإخراجها سبب لزيادة المال، والبخل بها سبب لهلاكه، كما في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ما خالطت الزكاة مالاً قط إلا أهلكته "، والمال غربال، وفتنة، قال الله تعالى: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [سورة التغابن آية: 15-16] . والموجب لما ذكرنا: أن بعض الناس لما نظرنا في حالهم، إذا عندهم أموال ما أخرجوا زكاتها، ولا وصل عامل الزكاة منهم شيء بالكلية، وبعض الناس غني وفي يده مال كثير، ولا أعطى العمال إلا القليل؛ والزكاة أمرها أمر عظيم 2.   1 البخاري: الزكاة (1403) , والنسائي: الزكاة (2482) , وأحمد (2/355) . 2 آخر ما وجدناه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 228 سئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله: عمن منع بعض زكاته، هل يثاب على ما أخرج ... إلخ؟ فأجاب: وأما المانع لبعض الزكاة، فذكر الشيخ أنه يثاب على ما فعل، ويعاقب على ما ترك، إلا إن كان له تطوع يجبر نقص الفريضة، مستدلاً بالحديث: " أول ما ينظر فيه من عمل العبد: صلاته، فإن أكملها وإلا قيل: انظروا فهل له من تطوع؛ ثم يفعل بسائر الأعمال كذلك " 1. وقال أبناؤه: الشيخ إبراهيم، وعبد الله، وعلي: ومنها: أن من الناس من يمنع الزكاة، والذي ما يقدر على المنع يحبسها؛ والزكاة ركن من أركان الإسلام، واجب أداؤها إلى الإمام أو نائبه، على الأمر المشروع. وقالوا في موضع آخر: وأما من ترك أداء الزكاة، فإن كان تحت قبضة الإمام أخذها منه قهراً، وفي حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده: أنها تؤخذ منه وشطر ماله، ولفظه: " ومن منعها، فإنا آخذوها وشطر ماله، عزمة من عزمات ربنا " 2. وأما إن كانوا طائفة ممتنعة، وقاتلوا الإمام على دفعها، فإنهم يكفرون، ويقاتلون، كما أجمع عليه الصحابة، رضي الله عنهم، ولهذا قال الصديق لعمر: " والله لو منعوني عناقاً كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، لقاتلتهم على منعها "، فجعل المبيح للقتال مجرد المنع، لا جحد الوجوب. ولم ينقل عن الصحابة أنهم قالوا لأحد من مانعي الزكاة: هل أنت مقر   1 ابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1425) . 2 النسائي: الزكاة (2444, 2449) , وأبو داود: الزكاة (1575) , والدارمي: الزكاة (1677) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 229 بوجوبها، أو جاحد لها؟ بل قاتلوهم لما امتنعوا من أدائها، وسموهم أهل الردة، وقاتلوا مقاتلتهم حتى رجعوا إلى الإسلام، وسمحوا بأدائها إلى أبي بكر رضي الله عنه. وسئل أيضاً: الشيخ حسين، وعبد الله: ابنا الشيخ، رحمهم الله: هل للإمام طلب الزكاة من الأموال الباطنة؟ فأجابا: هذه المسألة اختلف فيها العلماء: فمنهم من يقول: للإمام أخذ الزكاة من الأموال الباطنة كالظاهرة، ويجب دفعها إليه؛ وهو قول مالك، وقول في مذهب أحمد. وأما الأموال الظاهرة، فيجب دفعها إلى الإمام العادل إذا طلبها؛ وهو مذهب مالك، وأبي حنيفة، والشافعي، ورواية عن الإمام أحمد. واتفقوا على أن للإمام طلب الزكاة من الأموال الظاهرة والباطنة، وإنما الخلاف في وجوب الدفع إليه، وهل يجزئ عن صاحبها إذا لم يدفعها إليه أو لا؟ سئل الشيخ حمد بن ناصر بن معمر: عن إخراج الإنسان زكاته، أو بعضها بنفسه؟ فأجاب: ذكر العلماء أنه لا يجوز أن يخرجها ولا بعضها، إذا كان الإمام عدلاً يضعها في أهلها، بل يجب دفعها إليه. سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عن رجل مات وأخرج وكيله زكاة ماله ... إلخ؟ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 230 فأجاب: للورثة تغريم الوكيل، لأن المال انتقل إلى الورثة بموت ربه، وأيضاً، فإخراج الزكاة يحتاج إلى نية من الموكل، وإذن للوكيل. وأجاب أيضاً: صرحوا بأن الإنسان إذا دفع عمن لا تلزمه زكاته بإذنه صحت، وبغير إذن الحي لا تصح، وأطلقوا ذلك. سئل الشيخ عبد الله بن محمد: عمن ادعى نقص الزرع أو الثمر عن الخرص؟ فأجاب: إذا نقص الزرع أو الثمر عن الخرص، فالذي يعمل به عندنا أن الذي لا يتهم في الزكاة، ويعرف بالديانة والأمانة، يصدق في دعواه، ومن لا فلا. وأجاب الشيخ عبد الرحمن بن حسن: قال صلى الله عليه وسلم: " لا تستحلفوا الناس على صدقاتهم "، وتابعه عمر، فمعنى الحديث - والله أعلم -: إذا كان العامل يظن له مالاً، فلا يحلفه على مجرد ظنه، وأما إذا عرف له مال وجحده، أو ادعاه لغيره ممن هو غائب، فالتهمة قائمة، فيجتهد العامل، إلا أن يكون موثوقاً به، يعرف منه الصدق والديانة، فلا يحلف؛ فالمسألة لها صور ثلاث، ولها صورة رابعة، وهي: ما إذا عرف أن هذا الذي في يده من المال ليس لغيره، فتؤخذ منه الزكاة على كل حال. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 231 سئل الشيخ حمد بن ناصر بن معمر: هل تؤخذ الزكاة من خيار المال، أو من رديئه ... إلخ؟ فأجاب: تؤخذ من أوساط المال، ولا تؤخذ من خياره، ولا من رديئه، فإن كان صاحب المال دفعها من خيار المال فحسن. سئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب: عن العروض، هل تجزئ في الزكاة إذا أخرجت بقيمتها؟ فأجاب: المسألة فيها روايتان عن أحمد: إحداهما: المنع، لقوله: " في كل أربعين شاة: شاة، وفي مائتي درهم: خمسة دراهم " 1، وأشباهه. والثانية: يجوز، قال أبو داود: سئل أحمد عن رجل باع ثمر نخله؟ فقال: عشره على الذي باعه، قيل: يخرج ثمراً أو ثمنه؟ قال: إن شاء أخرج ثمراً، وإن شاء أخرج من الثمن. إذا ثبت هذا، فقد قال بكل من الروايتين جماعة، وصار نزاع فيها، فوجب ردها إلى الله والرسول؛ قال البخاري في صحيحه: باب العرض في الزكاة: وقال طاووس: قال معاذ لأهل اليمن: " ائتوني بعرض ثياب، خميص أو لبيس في الصدقة مكان الشعير والذرة، أهون عليكم، وخير لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة "، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:" وأما خالد، فقد احتبس أدراعه وأعتده في سبيل الله " 2، ثم ذكر في الباب أدلة غير هذا. فصار الصحيح: أنه يجوز، واستدلال من منعه بقوله:   1 الترمذي: الزكاة (621) , وأبو داود: الزكاة (1568) , وابن ماجة: الزكاة (1798, 1805) , وأحمد (2/14, 2/15) , والدارمي: الزكاة (1620, 1626) . 2 البخاري: الزكاة (1468) , ومسلم: الزكاة (983) , وأبو داود: الزكاة (1623) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 232 " في كل أربعين شاة: شاة " 1 وأمثاله، لا يدل على ما أراد، ولأن المراد نفع الفقراء وقد حصل، كما أنه صلى الله عليه وسلم لما أمر المستجمر بثلاثة أحجار، بل نهى أن ينقص عن ثلاثة أحجار، لم يجمدوا على مجرد اللفظ، بل قالوا: إذا استجمر بحجر واحد له ثلاث شعب أجزأه؛ ولهذا نظائر أنه يأمر بالشيء، فإذا جاء مثله أو أبلغ منه أجزأ. وأجاب ابنه الشيخ عبد الله: أخذ العرض في الزكاة عن الدنانير، أو الدراهم والدنانير عن زكاة الحبوب، والتمر، أو عن زكاة الإبل والغنم، قد اختلف العلماء في ذلك: فذهب الحنفية وغيرهم إلى جواز ذلك، ووافقهم البخاري، فقال: باب العرض في الزكاة، وقال طاووس: قال معاذ لأهل اليمن: " ائتوني بعرض ثياب، خميص أو لبيس في الصدقة، مكان الشعير والذرة، أهون عليكم، وخير لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة "، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " تصدقن ولو من حليكن "، فلم يستثن صدقة العرض من غيرها، فجعلت المرأة تلقي قرطها وسخابها، ولم يخص الذهب والفضة من العرض. ثم ذكر حديث أنس في كتاب الصدقة، الذي كتبه أبو بكر بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه: " هذه فريضة الصدقة، التي أمر الله ورسوله "، وفيه: " ومن بلغت صدقته بنت مخاض وليست عنده، وعنده بنت لبون، فإنها تقبل منه ويعطيه المصدق عشرين درهماً أو شاتين. فإن لم يكن عنده بنت مخاض على   1 الترمذي: الزكاة (621) , وأبو داود: الزكاة (1568) , وابن ماجة: الزكاة (1798, 1805) , وأحمد (2/14, 2/15) , والدارمي: الزكاة (1620, 1626) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 233 وجهها، وعنده ابن لبون، فإنه يقبل منه وليس معه شيء " 1. فاحتج البخاري، رحمه الله، بهذه الأحاديث والآثار، على جواز أخذ العرض في الزكاة، قال في شرح البخاري: قوله: "بعرض" ما عدا النقد، وقوله: "خميص" بفتح الخاء المعجمة وآخره صاد، بيان السابقة، أي: خميصة، قال الكرماني: كساء أسود مربع له علمان، والمشهور "خميس" بالسين، قال أبو عبيد: هو ما طوله خمسة أذرع، قوله: "أو لبيس" بفتح اللام وكسر الباء الموحدة، قيل: بمعنى: ملبوس، قوله: "هو أهون": أسهل عليكم، "وخير" أي: أرفق لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة، لأن مؤنة النقل ثقيلة، فرأى الأخذ في ذلك خيراً من النقل؛ وهو موافق لمذهب الحنفية، في جواز دفع القيم في الزكاة، وإن كان المؤلف كثير المخالفة لهم، لكن قاده إليه الدليل; وهذا التعليق وإن كان صحيحاً إلى طاووس، لكنه لم يسمع من معاذ، فهو منقطع. نعم إيراد المؤلف له في معرض الاحتجاج، يقتضي قوته عنده؛ وقد حكى البيهقي عن بعضهم أنه قال فيه عن الجزية بدل الصدقة، فإن ثبت ذلك سقط الاحتجاج به، لكن المشهور الأول رواية الصدقة. قوله: "خالد" أي: ابن الوليد، سيف الله، "واحتبس" أي: وقف، وحبسته واحتبسته بمعنى واحد، "وأعتده" بضم الفوقانية، جمع العتاد، وهو: آلة الحرب. فإن قلت كيف   1 البخاري: الزكاة (1448) , والنسائي: الزكاة (2447, 2455) , وأبو داود: الزكاة (1567) , وابن ماجة: الزكاة (1800) , وأحمد (1/11) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 234 دلالته على الترجمة؟ قلت: معناه لولا وقفه لهما لأعطاهما في وجه الزكاة، ولما صح صرفهما في سبيل الله وقفاً، صح صرفهما زكاة، لأنها أيضاً سبيل الله، لأن سبيل الله أحد مصارفه الثمانية المذكورة في قوله: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} [سورة التوبة آية: 60] ، قال النووي: إنهم طلبوا من خالد زكاة أعتاده، ظناً منهم أنها للتجارة، فقال لهم: لا زكاة لكم علي، فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إن خالداً منع الزكاة فقال: إنكم تظلمونه، لأنه حبسها ووقفها في سبيل الله قبل الحول، فلا زكاة فيها. ويحتمل أن يكون المراد: لو وجبت عليه زكاة لأعطاها، لأنه قد وقف أمواله متبرعاً، فكيف يشح بواجب عليه؟ قال: وفيه دليل صحة وقف المنقول، وبه قالت الأمة بأسرها إلا بعض الكوفيين. قوله: "بنت مخاض" بفتح الميم والخاء والضاد المعجمتين: الأنثى من الإبل، وهي التي تم لها عام. فإن قلت: فما وجه دلالته على الترجمة؟ قلت: ليستدل عليه من حيث جواز إعطاء سن من الإبل، بدل سن آخر، ولما صح إعطاء العامل الجبران، صح العكس أيضاً؛ ولما جاز أخذ الشاة بدل تفاوت سن الواجب، جاز أخذ العرض بدل الواجب. إذا تقرر هذا، فاعلم أن مذهب الأئمة الثلاثة، مالك والشافعي وأحمد، على أن إخراج قيمة الزكاة لا يجوز، ولا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 235 يجزي؛ قال في الفروع: ولا يجزي إخراج قيمة الزكاة طائعاً، وفاقاً لمالك والشافعي، أو مكرهاً خلافاً لمالك، لقوله عليه السلام لمعاذ: " خذ الحب من الحب، والشاة من الغنم، والبعير من الإبل، والبقر من البقر " 1، رواه أبو داود وابن ماجة، وفيه انقطاع. والحيوانات المقدرة في خبر الصديق الذي رواه البخاري وغيره، يدل على أن القيمة لا تشرع، وإلا كانت عبثاً، وكسمينة عن مهزولتين، وكالمنفعة، وكنصف صاع جيد عن صاع رديء، أو نصف صاع تمر عن صاع شعير مثله في القيمة وفاقاً لهم، مع تجويز المخالف ثوباً ثمن الإطعام في الكفارة بطريق القيمة، وكعدوله من السجود الواجب إلى وضع الخد، أو عن الركوع، إليه، وإن كان أبلغ في الحضور، أو عن الأضحية إلى الضعفاء قيمتها؛ وعنه: تجزي القيمة وفاقاً لأبي حنيفة، وعنه: في غير زكاة الفطر، وعنه: تجزي للحاجة أو مع تعذر الفرض ونحوه؛ نقلها وصححها جماعة. وأجاب أيضاً: الذي عليه أكثر أهل العلم: عدم الجواز، وهو الذي يفتي به عندنا؛ اللهم إلا أن يكون ذلك من حاجة، بأن لا يوجد الفرض المقدر في الشرع، فهنا يتوجه القول بجواز ذلك. وقال أيضاً: وقولكم إن الله ورسوله سنوا زكاة المواشي منها، وأنتم تأخذون من رب المال، فنقول: أما أخذ القيمة   1 النسائي: الزكاة (2450, 2451, 2452, 2453) , وأبو داود: الزكاة (1599) , وابن ماجة: الزكاة (1803, 1814) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 236 في الزكاة فقد اختلف العلماء فيها: فمنعها بعضهم وأمر بأخذ الزكاة من كل صنف من المال، وأجاز ذلك بعضهم، واحتج بما ذكره البخاري في صحيحه: أن معاذ بن جبل صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ من أهل اليمن قيمة الصدقة، وقال:" ذلك أهون عليكم، وخير لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة "، وقد بوب البخاري على ذلك في كتاب الزكاة، واحتج عليها بأحاديث صحيحة تدل عنده على الجواز. وأجاب الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن: أخذ الزكاة دراهم عن ثمرة النخل إذا بيعت، أكثر العلماء لا يجيزونه، وأجازه شيخ الإسلام وهو إمام جليل. وأجاب الشيخ حسن بن حسين بن علي: المشهور في المذهب: أنه لا يجزئ إخراج القيمة، وهو مذهب الشافعي، وفي رواية يجزئ إذا كان أنفع لأهل الزكاة؛ وهذا قول مالك، وأبي حنيفة؛ والقول بالإجزاء عند عدم العين وسط بين القولين. [نقل الزكاة من بلد إلى بلد] سئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب: عن نقلها؟ فأجاب: الذي نفهم أن الذي نقل إلى النبي صلى الله عليه وسلم من الزكاة، زكاة البادية، وأما زكاة القرى، فيذكرون أن النبي صلى الله عليه وسلم ما نقلها هو ولا أصحابه، إلا إذا لم يجدوا في أهل البلد من الجزء: 5 ¦ الصفحة: 237 يستحق؛ لكن في وقتنا نقلها للمصلحة، وأظن أن الشيخ تقي الدين اختار جواز ذلك للمصلحة. وأجاب ابنه عبد الله: والزكاة تدفع إلى أهل البلد الذي فيه المال، وإذا دفع مال إلى أحد مضاربة وحال عليه الحول، والمال بيد المضارب، ببلد غير بلده، فالذي وقفنا عليه من كلام أهل العلم، أنه متى أخرجها أجزأت، سواء كان بنفسه في بلده أو المضارب؛ ونرجو أن ذلك يجزئه إن شاء الله تعالى. وأجاب أيضاً: إذا كان ببلد وله مال ببلد آخر، فإنه يخرج زكاة كل مال في بلده أحوط، لا سيما إن كان المال الخارج من الأرض. وأجاب أيضاً: وأما نقل الزكاة من بلد إلى بلد، فبعض العلماء يرى جواز ذلك، لأجل المصلحة إذا رآه الإمام؛ وهو الذي نعمل عليه. وأما ذكر السائل: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك، فلا نعرفه من وجه صحيح. وأما قول السائل: إنه ذكر في الخبر أنه جاءته صدقة خراسان، فلم أر لهذا أصلاً. وأجاب الشيخ سعيد بن حجي: إذا كان في بلد وماله الجزء: 5 ¦ الصفحة: 238 في آخر، أخرج زكاة المال في بلده، أي المال؛ نص عليه، لأن المال سبب الزكاة. وأجاب الشيخ عبد الله أبا بطين: وأخوك يجوز إعطاؤه، ولكن نقلها في هذه المسافة فيه اختلاف بين العلماء، وأرجو أن القول بجوازه للقريب ونحوه صواب، وأرجو أنه لا بأس إذا أرسلت إليه شيئاً من الزكاة أو لعياله. وقال الشيخ محمد بن عبد اللطيف، ومحمد بن إبراهيم: بسم الله الرحمن الرحيم من محمد بن عبد اللطيف، ومحمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف، إلى جناب الأخ الحبيب: عبد الرزاق الطبيب، سلك الله بنا وبه الصراط المستقيم، وجنبنا وإياه أهل الجحيم، آمين. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: فما سألت عنه فهذا جوابه: أما مشروعية إخراج الزكاة وصرفها في بلدها، فلا إشكال فيه، لما روى البخاري ومسلم من حديث ابن عباس، رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذاً إلى اليمن قال له: ?" إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه: شهادة أن لا إله إلا الله؛ فإن هم أطاعوك لذلك، فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 239 وليلة. فإن هم أطاعوك لذلك، فأعلمهم: أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم. فإن هم أطاعوك لذلك، فإياك وكرائم أموالهم! واتق دعوة المظلوم، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب " 1. والضمير في قوله صلى الله عليه وسلم: " وترد على فقرائهم " عائد على المذكور في صدر الحديث، وهو قوله: " قوماً من أهل الكتاب "، فإن المسلمين لم يجر لهم ذكر في صدر الحديث حتى يقال: يعود الضمير إليهم. ومما يدل على هذا أيضاً: ما رواه الترمذي من حديث أبي جحيفة، وقال: حديث حسن، قال:? " قدم علينا مصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ الصدقة من أغنيائنا، فجعلها في فقرائنا، فكنت غلاماً يتيماً، فأعطاني منها قلوصاً "; وروى أبو داود، وابن ماجة عن عمران بن حصين: " أنه استعمل على الصدقة، فلما رجع قيل له: أين المال؟ قال: أو للمال أرسلتني؟ أخذناها من حيث كنا نأخذه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ووضعناها حيث كنا نضعه ". وأما نقلها: فمنعه الجمهور، لما تقدم، وجوزوه إذا استغنى عنها أهل بلدها، أو فضل شيء عن كفايتهم، جمعاً بين الأخبار؛ بل جوزه المحققون أيضاً، لرجحان الحاجة، وهو المعمول به عندنا، وفيه - كما لا يخفى - أيضاً جمع بين الأخبار المذكورة، والأخبار الدالة على النقل; فإنه قد علم   1 البخاري: الزكاة (1496) , ومسلم: الإيمان (19) , والنسائي: الزكاة (2435) , وأبو داود: الزكاة (1584) , وأحمد (1/233) , والدارمي: الزكاة (1614) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 240 بالضرورة: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستدعي الصدقات من الأعراب إلى المدينة، ويصرفها في فقراء المهاجرين والأنصار. وقد جوز نقلها مطلقاً: الليث بن سعد، وأبو حنيفة، وأصحابهما، ونقله ابن المنذر عن الشافعي واختاره، وهو ظاهر صنيع البخاري، رحمه الله تعالى، في صحيحه، وهو رواية عن أحمد؛ لكن الصحيح ما تقدم. وأما الأحاديث التي ذكرت: فما يدل منها على النقل، فمحمول على الاستغناء عنها، وأنه شيء فاضل عن كفاية أهل البلد، أو لرجحان حاجة فقراء المهاجرين والأنصار، جمعاً بينها وبين ما تقدم. وأما تأثيم صاحب الروض المربع، لمن نقلها فوق مسافة قصر، فهو بناء على أن النقل المذكور محرم، ولا ريب في تأثيم فاعل المحرم، مع أن تحديد مسافة النقل المختلف فيه بمسافة القصر لا دليل عليه، كما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية، واختار تحديده بالإقليم. وأما مصرف الزكاة، فالرب سبحانه وتعالى، هو الذي تولى قسمها بنفسه، قال تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [سورة التوبة آية: 60] . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 241 فجعلها تعالى لهؤلاء الثمانية، فإن "إنما" للحصر، وهي تثبت المذكور، وتنفي ما عداه، كقوله تعالى: {إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [سورة النساء آية: 171] ، فإن معناه: لا إله إلا الله؛ فيكون معنى الآية: ليست الصدقات إلا للفقراء والمساكين ... إلى آخرها. وقد ذكر بعض العلماء الإجماع على ذلك، إلا ما روي عن أنس، والحسن: أنها تجعل في الجسور; والصحيح الأول، للآية الكريمة. وأما جبايتها وتفرقتها، فإلى الإمام إذا طلب ذلك؛ ويجب عليه صرفها مصارفها الشرعية، كما يدل على جميع ذلك ما تقدم من الأخبار؛ فإن فعل فهو المتعين عليه شرعاً، وإن خالف أثم، وبرئت ذمة الدافع إليه من عهدة الزكاة، وأجزأت في حقه. وأما الجهاد، فإن الله تعالى أوجبه على جميع العباد بأنفسهم وأموالهم وألسنتهم؛ والنصوص من الآيات والأحاديث على فرضية الجهاد كثيرة تدل على وجوب الجهاد في الأموال، وهو حق آخر غير حق الزكاة، ثم ما يصير إلى الإمام من الأموال الأخر، غير الزكاة هي في المصالح؛ ومن المعلوم أن أهمها وأعظمها: أمر الجهاد، كما يعلم من هدي النبي صلى الله عليه وسلم وهدي خلفائه الراشدين. والمقصود: أن الجهاد ليس هو مصرف الزكاة. وأما الفقير والمسكين، فقيل: إنهما وصفان لموصوف الجزء: 5 ¦ الصفحة: 242 واحد، وقيل: بتغاير موصوفيهما وهو أشهر؛ فقيلك المسكين أشد حاجة من الفقير، وقيل: العكس، وهو أظهر، فإن الفقير أشد حاجة، فإنه من لا يجد الكفاية، والمسكين من لا يجد تمام الكفاية. ومما يدل على ذلك: الاشتقاق، فإن الفقير: فعيل بمعنى: مفعول، من الفقر، وهو انقطاع الظهر، فكأنه لشدة فاقته قد انقطع ظهره. وأما المسكين فهو مفعيل من السكون وهو عدم الحركة، فكأنه لحاجته، وعدم ما يتصرف فيه بقي لا حركة له. ومن المعلوم أن الأول، وهو انقطاع الظهر يستلزم الثاني، وهو السكون وترك الحركة، بخلاف العكس. ومما يدل عليه أيضاً: البداءة بالفقير في الآية؛ والقرآن نزل بلغة العرب، وهم إنما يبدؤون بالأهم، قال سيبويه: العرب لا يبدؤون إلا بما هم به أعنى وبشأنه أهم. وهذا الفرق إنما هو عند اقتران الاسمين كما في آية الصدقات، وأما إذا أفرد أحدهما فإنه يدخل فيه الآخر، كقوله: {وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ} [سورة البقرة آية: 271] ، فإنه يدخل فيه المسكين، وكقوله: {أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ} [سورة البلد آية: 16] ، فإنه يدخل فيه الفقير؛ ولهذا نظائر، كالإسلام والإيمان، وغير ذلك مما يختلف مدلوله بالاقتران والانفراد. وأما مسألة إرسال زكاة مالك إلينا بخصوصها، فاعلم، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 243 وفقنا الله وإياك: أنا لا نعلم أحداً شرقاً ولا غرباً، تجب طاعته وإمامته، وتجب دفع الزكاة إليه، إلا هذا الإمام، الذي أقام الله تعالى به علم الجهاد، وكبت به أهل البغي والعناد، ونشر به علم السنة النبوية، وطمس به جميع الأوثان الشركية، والبدع المخالفة للشريعة المحمدية، ونصر الله به الموحدين، وانتشرت في ولايته كتب العلماء المحققين. فنسأل الله أن يمتع المسلمين ببقائه، ويثبته على الدين القويم، وينصر به شريعة هذا النبي الكريم؛ وصلى الله على عبده ورسوله النبي الأمي الأمين، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، آمين. [حكم تأخير الزكاة] سئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب: عن تأخيرها؟ فأجاب: وأما تأخير الزكاة فلا يجوز، ومن استدل بحديث: " هي علي مثلها " 1، فقد أخطأ خطأ ظاهراً: الأول: أن الحديث لا يدل على المسألة المسؤول عنها، هل يحل لصاحب المال تأخير الزكاة عن وقتها لحاجة أو غيرها؟ والمسألة التي قال بعض أهل العلم إن الحديث يدل عليها ليست هذه، بل إذا أراد الإمام أو الساعي أن يؤخر الزكاة لمصلحة؛ وهذه المسألة غير الأولى، والدليل على هذا: أن أحمد سئل عن تأخير الزكاة، فمنعه. وسئل عن الساعي إذا أراد تأخيرها في سنة مجدبة،   1 البخاري: الزكاة (1468) , ومسلم: الزكاة (983) , والترمذي: المناقب (3761) , والنسائي: الزكاة (2464) , وأبو داود: الزكاة (1623) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 244 فرخص له واستدل بفعل عمر، مثال ذلك والي اليتيم إذا قيل إنه يجوز لوليه بيع عقاره لمصلحة، هل يحل لأحد أن يستدل بهذه المسألة، إذا كان عنده ليتيم دار أو أرض، فأراد أن يعطي اليتيم أو الولي عنها لمصلحة المعطى، هل يقول أحد إن هذا جائز؟ ولو استدل على ذلك بجواز بيع وليه عقاره لمصلحة، لعده الناس ضحكة. فينبغي لطالب العلم أن يتفطن لصورة المسألة، في الدليل الذي يدل عليها، ويجيل نظره في ذلك؛ فإن كثيراً من الأغاليط وقعت في مسائل واضحة جداً. وتستدل بشيء من القرآن وهو لا يدل على ذلك، كما فعله الرافضة والقدرية والجهمية وغيرهم، وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [سورة آل عمران آية: 7] . وأجاب ابنه الشيخ عبد الله: وأما تأخير الزكاة إلى أجل معلوم، فإن رأى العامل في ذلك مصلحة جاز له فعله. وأجاب بعضهم، رحمه الله: وأما من عليه زكاة وسافر قبل أن يخرج زكاته، فلا يجوز بيع شيء من ماله؛ هذا دين في ذمته إذا جاءكم، وأرى لكم التأني إذا صار غائباً حتى يحضر. سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عمن يدفعه أهل الثمار للعمال؟ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 245 فأجاب: أما الذي يهدى للعمال إن دفع ذلك دفعاً لظلمهم، فلا بأس إن شاء الله تعالى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 246 فصل [في مصرف الزكاة] سئل الشيخ عبد الله بن محمد: عن مصرف الزكاة؟ فأجاب: وأما مصرف الزكاة، فعلى ثمانية أصناف: ذكرها الله في كتابه في قوله: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} [سورة التوبة آية: 60] . وأجاب أيضاً: وأما قسمة الصدقات المفروضة، فقد قسمها سبحانه في ثمانية أصناف، لا يجوز صرفها إلى غيرهم، وهذا مما لا خلاف فيه بين العلماء؛ لكن اختلفوا هل المراد أنها تقسم بين الأصناف الثمانية بالسوية، كما يقسم الميراث بين أهله؟ أو أنه لا بد من تعميم الأصناف الثمانية؟ أو المراد بذلك بيان المصرف، وأنها لا تصرف إلى غير هؤلاء؟ أو أنه يجوز صرفها إلى بعض الأصناف دون بعض بحسب الحاجة والمصلحة؟ فذهب الشافعي إلى أنه يجب استيعاب الأصناف الثمانية، وذهب الجمهور إلى جواز عدم التعميم، واحتجوا بفعل النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين، وبقوله: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [سورة البقرة آية: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 246 271] ، وبقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث معاذ: " تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم " 1؛ فلم يذكر في الآية والخبر إلا صنفاً واحداً. وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بني زريق أن يدفعوا صدقتهم إلى سلمة بن صخر; وقال لقبيصة: " أقم يا قبيصة حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها " 2، ولو وجب صرفها إلى جميع الأصناف لم يجز صرفها إلى واحد؛ ولهذا قال الجمهور بجواز صرفها إلى صنف واحد، وهو مروي عن عمر، وحذيفة، وابن عباس؛ وبه يقول سعيد بن جبير والحسن وعطاء، وإليه ذهب الثوري وأبو عبيد وأصحاب الرأي؛ وهو مذهب الإمام أحمد. وأجاب سعيد بن حجي: اعلم أن الله حصر الزكاة في ثمانية أصناف، بقوله: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} الآية [سورة التوبة آية: 60] ، وهذا إجماع؛ قال الموفق وغيره من الحنابلة: وأربعة يأخذون أخذاً مستقراً لا يرجع عليهم بشيء: الفقراء، والمساكين، والعاملون، والمؤلفة، لأنهم ملكوها ملكاً مستقراً، وأربعة يأخذون أخذاً مراعىً: الرقاب، والغارمون، والغزاة، وابن السبيل، إن صرفوه فيما أخذوا له، وإلا استرجع منهم؛ فقد علمت أن الأربعة المتقدمة يملكون ما أخذوه من الزكاة، فعلى هذا يملكون جميع التصرفات فيه، ولا يحرم على غيرهم ما أخذه منهم هبة أو صدقة أو نحوها. وسئل بعضهم: ما قولكم، رحمكم الله، في الزكاة، هل يجوز صرفها إلى بعض الأصناف الثمانية المذكورين في الآية؟   1 البخاري: الزكاة (1496) , ومسلم: الإيمان (19) , والترمذي: الزكاة (625) , والنسائي: الزكاة (2435) , وأبو داود: الزكاة (1584) , وابن ماجة: الزكاة (1783) , وأحمد (1/233) , والدارمي: الزكاة (1614) . 2 مسلم: الزكاة (1044) , والنسائي: الزكاة (2579) , وأبو داود: الزكاة (1640) , وأحمد (3/477, 5/60) , والدارمي: الزكاة (1678) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 247 وقد قال تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} الآية [سورة التوبة آية: 60] ، و"إنما" تأتي للحصر، فبينوا لنا، رحمكم الله. فأجاب: نقول وبالله التوفيق: قد اختلف العلماء في كيفية قسم الصدقات، وفي جواز صرفها إلى صنف واحد مع وجود الأصناف الثمانية: فذهب جماعة، منهم الإمام الشافعي، إلى أنه لا يجوز صرفها إلى بعضهم مع وجود سائر الأصناف؛ وأقل ما يعطى من الصنف ثلاثة، فإن لم يجد إلا واحداً صرف حصة ذلك الصنف إليه. وذهب جماعة إلى أنه لو صرف الكل إلى صنف واحد من هذه الثمانية، أو إلى شخص واحد، جاز، وقالوا: إنما سمى الله الأصناف الثمانية إعلاماً أن الصدقة لا تخرج عن هذه الأصناف، لا إيجاباً لقسمها بينهم؛ وهو قول الخليفة عمر بن الخطاب، وابن عباس، وبه قال سعيد بن جبير، وعطاء، وإليه ذهب سفيان الثوري وأبو حنيفة وأصحابه. وبه قال الإمام أحمد، قال: يجوز أن يضعها في صنف واحد، ذكره البغوي في تفسيره، وذكره في كتاب الرحمة. وقد قال مجد الدين بن تيمية في كتاب منتقى الأخبار، باب براءة رب المال بالدفع إلى السلطان، مع العدل والجور: عن أنس " أن رجلاً قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا أديت الزكاة إلى رسولك فقد برئت منها إلى الله ورسوله؟ قال: نعم " 1. وعن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إنها ستكون   1 أحمد (3/136) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 248 بعدي أثرة وأمور تنكرونها، قالوا: يا رسول الله، صلى الله عليه وسلم فما تأمرنا؟ قال تؤدون الحق الذي عليكم، وتسألون الله الذي لكم " 1، رواه البخاري ومسلم، وأحمد. وعن وائل بن حجر، قال: " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجل يسأله، فقال: أرأيت إن كان علينا أمراء يمنعونا حقنا، ويسألونا حقهم؟ فقال: اسمعوا وأطيعوا، فإنما عليهم ما حملوا وعليكم ما حملتم " 2، رواه مسلم، والترمذي. ويروى: " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لسلمة بن صخر: اذهب إلى صاحب صدقة بني زريق، فقل له، فليدفعها اليك " 3، انتهى كلامه. وأول هذه الأحاديث تدل على جواز دفعها إلى صنف واحد، والله أعلم. سئل الشيخ عبد الله بن محمد: عن الغنى المانع من أخذ الزكاة، ما حَدُّه؟ فأجاب: الظاهر أن الغني ما عده الناس غنياً، فإذا كان عنده ما يكفيه جميع سنته فيما يحتاج إليه، فهو غني في سنته، فإن احتاج بعد ذلك جاز له الأخذ. وسئل: عمن أعطي من الزكاة أو بيت المال؟ فأجاب: إن كان غنياً لم يجز له أن يأخذ من الزكاة، وأما بيت المال، مثل الخمس، والفيء، وهو: ما حصل بغير قتال، فهذا لا بأس أن يأخذ الغني ما أعطي منه بلا سؤال ولا إشراف.   1 البخاري: المناقب (3603) , ومسلم: الإمارة (1843) , والترمذي: الفتن (2190) , وأحمد (1/384, 1/386, 1/428, 1/433) . 2 مسلم: الإمارة (1846) , والترمذي: الفتن (2199) . 3 الترمذي: تفسير القرآن (3299) , وأبو داود: الطلاق (2213) , وابن ماجة: الطلاق (2062) , والدارمي: الطلاق (2273) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 249 وسئل: عن الكفاية؟ فأجاب: نص أحمد في رواية الميموني، قال: ذاكرت أبا عبد الله: يكون للرجل الإبل والغنم، تجب فيها الزكاة، وهو فقير، ويكون له أربعين شاة، وتكون له الضيعة لا تكفيه، فيعطى من الصدقة؟ قال: نعم، وذكر قول عمر: " أعطوهم وإن راحت عليهم من الإبل كذا وكذا "، فقلت: فلذا قدر من العدد أو الوقت؟ قال: لم أسمعه; وقال في رواية ابن الحكم: إذا كان له عقار يستغله، أو ضيعة تساوي عشرة آلاف، أو أقل أو أكثر لا تقيمه، يأخذ من الزكاة؛ وذلك لأنه لا يملك ما يغنيه، ولا يقدر على كسب ما يكفيه، فجاز له الأخذ من الزكاة، لأن الفقر عبارة عن الحاجة؛ ولا يقال: هذا لو بيع عقاره صار غنياً، لأن بيع العقار الذي يحتاج إلى غلته لا يلزمه، وكذلك الغنم التي يحتاج إليها، وكذلك سواني الكد ودوابه، وعروض القنية التي يحتاج إليها، فكل ذلك لا يمنع من أخذ الزكاة مع الحاجة. وأما الأثمان، فإذا ملك منها ما يكفيه، لم تبح له الزكاة كما إذا كان له غلة نخل أو أرض تكفيه لا تباح له الزكاة. وقال في المغني: اختلف العلماء في الغنى المانع من أخذها، ونقل عن أحمد فيه روايتان: أظهرهما: أنه ملك خمسين درهماً أو قيمتها من الذهب، أو وجود ما تحصل به الكفاية على الدوام في مكسب وتجارة، أو أجر عقار ونحو الجزء: 5 ¦ الصفحة: 250 ذلك؛ ولو ملك من العروض، أو الحبوب، أو السائمة، أو العقار ما لا يحصل به الكفاية لم يكن غنياً، وإن ملك نصاباً؛ هذا الظاهر من مذهبه، وهو قول الثوري والنخعي، وابن المبارك وإسحاق. والرواية الثانية: أن الغنى ما تحصل به الكفاية، فإذا لم يكن محتاجاً حرمت عليه الصدقة وإن لم يملك شيئاً، وإن كان محتاجاً حلت له الصدقة وإن ملك نصباً؛ والأثمان وغيرها في هذا سواء، وهذا قول مالك والشافعي. وقال أصحاب الرأي: الغنى الموجب للزكاة هو المانع من أخذها، وهو ملك نصاب تجب فيه الزكاة من الأثمان، وعروض التجارة أو السائمة. انتهى ملخصاً. وأما إمام المسجد الذي يصلي به ويقوم به، فإنه يعطى من الزكاة إذا كان فقيراً، وإن كان غنياً فلا يجوز له الأخذ من الزكاة. وسئل أيضاً: عن القاضي وإمام المسجد، هل يجوز لهما الأخذ من الزكاة؟ فأجاب: لا يجوز لهما الأخذ من الزكاة لأنهما ليسا من أهلها. وأجاب الشيخ حسن بن حسين بن علي: الغنى المانع من أخذ الزكاة: وجود ما تحصل به الكفاية، كاملة على الدوام، من مكسب أو تجارة أو أجرة عقار. فإذا ملك الجزء: 5 ¦ الصفحة: 251 من ذلك ما لا تحصل به الكفاية كاملة لم يكن غنياً، فجاز أن يعطى من الزكاة تمام كفايته. انتهى. وسئل الشيخ علي بن حسين بن محمد، رحمهم الله: هل في كتب المذهب جواز الأخذ من الزكاة مع الغنى لمن قام بمصلحة عامة، كالقضاء ونحوه؟ أم ليس إلا عموم، كما في رواية عن أحمد: أن طلب العلم داخل في الجهاد؟ فأجاب: أكثر أهل العلم على المنع من الأخذ مع الغنى عموماً، أما مع التخصيص فلم أجد لأهل المذهب تصريحاً في الأخذ مع الغنى، غير عموم الأخذ من بيت المال وإن كثر، والأخذ من الزكاة لمن له الأخذ منها بقدر الكفاية. وأما قياسه على الجهاد، وأنه نوع منه، وأن للغازي الأخذ من الزكاة مع الغنى، والغازي مخصوص في الآية الكريمة، وهو الثامن، وليس فيه تصريح بجواز الأخذ مع الغنى لغير الغازي، إلا بفهم عمومات، كالقياس على الغازي والعامل والغارم مع الغنى. قال القرطبي في تفسيره، عند قوله تعالى: {وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا} [سورة التوبة آية: 60] : إن العامل عطل نفسه لمصلحة الفقراء، فكانت كفايته وكفاية أعوانه في مالهم، كالمرأة لما عطلت نفسها لحق الزوج، كانت نفقتها ونفقة أتباعها من خادم أو خادمين على زوجها. ولا يقدر رزق عامل بالثمن، بل تعتبر الكفاية، ثمناً كان أو أقل أو أكثر، كرزق القاضي. وقال في موضع آخر: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 252 دل قوله تعالى: {وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا} [سورة التوبة آية: 60] على أن كل ما كان من فروض الكفاية، كالساعي والكاتب والقاسم والجابي وغيرهم، فالقائم به يجوز له أخذ الأجرة عليه. ومن ذلك الإمامة، فإن الصلاة وإن كانت متوجهة على جميع الخلق، فإن تقدم بعضهم بهم من فروض الكفاية، ولا جرم أنه يجوز له الأخذ عليها؛ وهذا أصل الباب، وإليه أشار النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: " ما تركت بعد نفقة نسائي ومؤنة عاملي فهو صدقة " 1، قاله ابن العربي. ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: " لا تحل الصدقة لغني، إلا لخمسة: العامل عليها، أو رجل اشتراها بماله، أو غارم، أو غاز في سبيل الله، أو مسكين تصدق عليه منها فأهدى لغني " 2؛ فيفهم منه: أن من كان قائماً بمصلحة عامة من مصالح المسلمين، كالقضاء، والإفتاء، والتدريس، أن له الأخذ بما يقوم به مدة القيام بالمصلحة وإن كان غنياً، ذكر ذلك بعض شراح الحديث. وقد بوب البخاري، رحمه الله، فقال: باب رزق الحكام والعاملين عليها. والله أعلم بالصواب. انتهى. وقال أبناء الشيخ إبراهيم، وعبد الله وعلي، رحمهم الله تعالى: وبعض الأمراء يأخذ جميع الزكاة، ولا يعطي المساكين منها، والإمام يأمره بإعطاء كل ذي حق حقه، ويعصي ويعمل على رأيه؛ والزكاة تولى الله قسمها في كتابه،   1 البخاري: الوصايا (2776) وفرض الخمس (3096) والفرائض (6729) , ومسلم: الجهاد والسير (1760, 1761) , وأبو داود: الخراج والإمارة والفيء (2974) , وأحمد (2/242, 2/376, 2/463) , ومالك: الجامع (1871) . 2 أبو داود: الزكاة (1635) , وابن ماجة: الزكاة (1841) , وأحمد (3/56) , ومالك: الزكاة (604) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 253 وجزأها ثمانية أجزاء، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا حظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب. وسئل أيضاً: الشيخ عبد الله: هل سؤال ولي الأمر داخل في السؤال المذموم؟ فأجاب: الذي عليه كثير من العلماء: أن الإنسان إذا كان له حق في بيت المال أو الزكاة، فلا بأس بكونه يسأل حقه من ولي الأمر، ولا يصير من السؤال المذموم، إن شاء الله تعالى. وسئل عن الرجل يذكر لولي الأمر بعض أهل الحاجة، هل يجوز؟ فأجاب: هذا من الشفاعة المأمور بها في قوله تعالى: {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً} [سورة النساء آية: 85] ، وقوله عليه السلام: " اشفعوا تؤجروا " 1. وسئل الشيخ حمد بن ناصر: عن سؤال إمام المسجد المعاونة من الفيء والزكاة؟ فأجاب: السؤال من حيث هو مذموم إلا في حال الاضطرار، لكن إن كان السؤال من الفيء فهو أخف، لأن الفيء للمسلمين غنيهم وفقيرهم، وما من أحد من المسلمين إلا وله فيه نصيب؛ فإذا سأل الإنسان نصيبه من الفيء لم ينكر عليه. وأما إن كان السؤال من الزكاة، فإن كان السائل غنياً   1 البخاري: الزكاة (1432) , ومسلم: البر والصلة والآداب (2627) , والنسائي: الزكاة (2556) , وأبو داود: الأدب (5131) , وأحمد (4/400, 4/413) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 254 فهو حرام، ولا تحل له الزكاة، بل لو جاءته من غير سؤال لم تحل له، إلا إن كان من الخمسة المذكورين في الحديث; وذلك لأن الله تعالى قسمها بنفسه، ولم يرض فيها بقسم نبي ولا غيره; وفي الحديث: " لا تحل الصدقة لغني، ولا لذي مرة سوي " 1. سئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن: عن قول شارح بلوغ المرام، على قوله: " أو غاز في سبيل الله " 2، ويلحق به من كان قائماً بمصلحة عامة ... إلخ؟ فأجاب: لم أقف على شيء من كلام أئمتنا يعضد هذا المأخذ ويومي إليه، وغاية ما رأيته ما قد أشرت إليه، من قول شيخ الإسلام، ونصه في الاختيارات: ومن ليس معه ما يشتري به كتباً يشتغل فيها، يجوز له الأخذ من الزكاة ما يشتري به ما يحتاج إليه من كتب العلم، التي لا بد لمصلحة دينه ودنياه منها. انتهى كلامه، والله أعلم. سئل الشيخ محمد بن الشيخ إبراهيم بن عبد اللطيف: هل يجزي دفع الزكاة في الجهاد الذي يؤخذ من الناس اليوم؟ فأجاب: لا يجزئ، لأنه حينئذ يكون واقياً بها ماله، بمنْزلة ما لو دفع زكاته عما وجب عليه من النفقة للأقارب ونحوهم؛ والزكاة حق مستقل، والجهاد حق آخر. وقد تولى   1 الترمذي: الزكاة (652) , وأبو داود: الزكاة (1634) , وأحمد (2/192) , والدارمي: الزكاة (1639) . 2 أبو داود: الجهاد (2489) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 255 الرب سبحانه قسمة الزكاة وحصرها في الثمانية الأصناف، فلا يجوز صرفها في غيرهم؛ لكن لو دفع الزكاة إلى الغزاة المتطوعة، الذين لا ديوان لهم ليأكلوها في حال الغزو، كان جائزاً؛ فإنهم أحد الأصناف الثمانية. انتهى ملخصاً. وسئل الشيخ سعد بن حمد بن عتيق: عن دفعها عند الاستسقاء، أو الذين يسألون في المساجد، أو في بناء المساجد؟ فأجاب: المساكين الذين يسألون في المساجد، لا بأس أن يعطيهم الإنسان من زكاة ماله، لأنهم من أهل الزكاة المذكورين في الآية. وما يخرجه من الصدقة عند الاستسقاء، إذا كان المعطى من أهل الزكاة فلا بأس أن يعطى من الزكاة. وأما النية عند الإخراج، فلا بد منها في هذا والذي قبله. وأما دفع الزكاة في بناء المساجد، فقد ذكر الأصحاب أنه لا يجوز صرفها إلى غير الثمانية المذكورين في الآية؛ قال في الإقناع وشرحه: لا يجوز صرفها إلى غير الثمانية المذكورين، كبناء المساجد والقناطر وسد البثوق، وتكفين الموتى، ووقف المصاحف، وغير ذلك. وأجاب الشيخ عبد الله العنقري: الذي ظهر لي أن صرف الزكاة في بناء المساجد، المنع منه أصح عند جمهور العلماء وأحوط. ودفعها إلى غير مسلم لا يسقط فرضها، فلا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 256 بد من دفعها إلى مسلم من الأقسام الثمانية، التي ذكرها الله عز وجل. سئل الشيخ محمد بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن: إذا كان فقير من بني هاشم، أو بني المطلب، وليس له ما يقوم بكفايته، هل يحل له شيء من الزكاة، إذا كان نائب الإمام لا يملك ما ينفق عليهم إلا منها؟ وإذا بعث الإمام أو نائبه أحدهم عاملاً على الزكاة، هل يعطى أجرته منها؟ فأجاب: روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: " أخذ الحسن رضي الله عنه تمرة من تمر الصدقة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: كخ، كخ - يعني: اطرحها -؛ أما شعرت أنا لا نأكل الصدقة؟ " 1، وقال صلى الله عليه وسلم: " إن الصدقة لا تنبغي لآل محمد، إنما هي أوساخ الناس " 2، و" لما رأى تمرة على فراشه أخذها ثم ألقاها، وقال: لولا أني أخشى أنها من الصدقة لأكلتها " 3، متفق عليه. وقال صلى الله عليه وسلم لعبد المطلب بن ربيعة، وللفضل بن عباس، وقد سألاه العمل على نصيب العامل: " إن الصدقة لا تنبغي لآل محمد " 4، رواه مسلم. وروى أبو رافع: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث رجلاً من بني مخزوم على الصدقة، فقال لأبي رافع: اصحبني كيما تصيب منها، فقال: لا، حتى آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسأله. فانطلق أبو رافع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: صلى الله عليه وسلم لا تحل لنا   1 البخاري: الزكاة (1491) , ومسلم: الزكاة (1069) , وأحمد (2/409) , والدارمي: الزكاة (1642) . 2 مسلم: الزكاة (1072) , والنسائي: الزكاة (2609) , وأبو داود: الخراج والإمارة والفيء (2985) , وأحمد (4/166) . 3 البخاري: البيوع (2055) وفي اللقطة (2431) , ومسلم: الزكاة (1071) , وأبو داود: الزكاة (1652) , وأحمد (3/184) . 4 مسلم: الزكاة (1072) , والنسائي: الزكاة (2609) , وأبو داود: الخراج والإمارة والفيء (2985) , وأحمد (4/166) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 257 الصدقة، إن مولى القوم منهم " 1، أخرجه أبو داود والنسائي والترمذي، وقال: حديث حسن صحيح. إذا علمت هذا، فقد اختلف العلماء في هذه المسألة: فذهبت طائفة إلى التحريم مطلقاً، سواء منعوا خمس الخمس أو لم يمنعوا؛ وهم الأكثرون. وطائفة قالوا: إذا منعوا خمس الخمس أبيح لهم الأخذ من الزكاة، بشرط الحاجة والضرورة. ونحن نسوق كلام العلماء إن شاء الله تعالى: قال النووي في شرح صحيح مسلم، على قوله: باب تحريم الزكاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله، وهم بنو هاشم وبنو المطلب دون غيرهم، وذكر حديث الحسن المتقدم، ثم قال: وفي هذا الحديث دليل على تحريم الزكاة على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى آله، و5 هم: بنو هاشم، وبنو المطلب ; وبه قال بعض المالكية. وقال أبو حنيفة ومالك، رحمهما الله: هم بنو هاشم خاصة؛ قال القاضي: وقال بعض العلماء: هم قريش كلهم. وقال أصبغ المالكي: هم بنو قصي. ودليل الشافعي: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن بني هاشم وبني المطلب شيء واحد "، وقسم بينهم سهم ذوي القربى. وأما صدقة التطوع، فالشافعي يرى فيها ثلاثة أقوال: أصحها: أنها تحرم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وتحل لآله. والثاني: تحرم عليه وعليهم. والثالث: تحل له ولهم. وأما موالي بني هاشم وبني المطلب، فهل تحل لهم   1 الترمذي: الزكاة (657) , والنسائي: الزكاة (2612) , وأبو داود: الزكاة (1650) , وأحمد (6/390) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 258 الزكاة؟ فيه وجهان لأصحابنا: أصحهما: أنها تحرم، للحديث الذي ذكره مسلم، وهو حديث أبي رافع. والثاني: تحل. وبالتحريم قال أبو حنيفة، وسائر الكوفيين، وبعض المالكية; وبالاباحة قال مالك. وادعى ابن بطال المالكي أن الخلاف إنما هو في موالي بني هاشم، وأما موالي غيرهم فتباح لهم بالاجماع؛ وليس كذلك، بل الأصح عند أصحابنا تحريمها على بني هاشم، وبني المطلب، ولا فرق بينهما، والله أعلم. وقوله صلى الله عليه وسلم: " إنا لا تحل لنا الصدقة " 1 ظاهره تحريم صدقة الفرض والنفل، وفيها الكلام السابق. انتهى. وقال في الإنصاف: قوله: ولا بني هاشم، هذا المذهب مطلقاً نص عليه، وعليه أكثر الأصحاب، وكالنبي صلى الله عليه وسلم إجماعاً; وقيل: يجوز إن منعوا خمس الخمس، لأنه محل حاجة وضرورة - إلى أن قال - قال في الفروع: ومال شيخنا – يعني: أبا العباس - إلى أنهم إن منعوا خمس الخمس أخذوا من الزكاة، وربما مال إليه أبو البقاء، وحكى الخلاف في العاملين، وقال: إن منعوا خمس الخمس جاز لهم الأكل، وإلا فلا، والله أعلم. وقال في الإقناع وشرحه: ولا لبني هاشم، يعني: ولا يجوز دفع الزكاة لبني هاشم، كالنبي صلى الله عليه وسلم، وهم - أي بنو هاشم - من كان من سلالة هاشم، فدخل فيها آل العباس بن عبد المطلب، وآل علي، وآل جعفر، وآل عقيل أبناء أبي   1 الترمذي: الزكاة (657) , والنسائي: الزكاة (2612) , وأبو داود: الزكاة (1650) , وأحمد (6/390) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 259 طالب بن عبد المطلب، وآل الحارث بن عبد المطلب، وآل أبي لهب بن عبد المطلب؛ قال في الشرح: لا نعلم فيه خلافاً أن بني هاشم لا تحل لهم الصدقة المفروضة، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: " إن الصدقة لا تنبغي لآل محمد؛ إنما هي أوساخ الناس " 1. وعن أبي هريرة قال: " أخذ الحسن تمرة ... " الحديث، متفق عليه. وسواء أعطوا من خمس الخمس أو لم يعطوا، لعموم النصوص، ولأن منعهم من الزكاة لشرفهم، وشرفهم باق، فبقي المنع ما لم يكونوا - أي بنو هاشم - غزاة، أو مؤلفة، أو غارمين لذات البين، فلهم الأخذ لذلك، لجواز الأخذ مع الغنى، وعدم المنة فيه. واختار الشيخ تقي الدين وجمع، منهم القاضي يعقوب وغيره من أصحابنا. وقال أبو يوسف من الحنفية، والإصطخري من الشافعية: جواز أخذهم إذا منعوا خمس الخمس، لأنه محل حاجة وضرورة. وقال الشيخ تقي الدين أيضاً: ويجوز لبني هاشم الأخذ من زكاة الهاشميين، ذكره في الاختيارات. ويجوز دفع الزكاة إلى ولد هاشمية من غير هاشمي في ظاهر كلامه، وقاله القاضي اعتباراً بالأب. وقال أبو بكر: لا يجوز، واحتج بحديث: " إن ابن أخت القوم منهم " 2. ولا يجوز دفع الزكاة لموالي بني هاشم، وهم الذين أعتقهم بنو هاشم، لحديث أبي رافع المتقدم. انتهى. وذكر ما قاله الصنعاني في شرح   1 مسلم: الزكاة (1072) , والنسائي: الزكاة (2609) , وأبو داود: الخراج والإمارة والفيء (2985) , وأحمد (4/166) . 2 البخاري: المناقب (3528) , ومسلم: الزكاة (1059) , والترمذي: المناقب (3901) , والنسائي: الزكاة (2610, 2611) , وأحمد (3/119, 3/180, 3/222, 3/276, 3/277) , والدارمي: السير (2527) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 260 البلوغ، ثم قال: فهذا حاصل ما حررناه من كلام العلماء. إذا علمت ذلك، فالذي نراه: أن بني هاشم وبني المطلب - إذا منعوا خمس الخمس والفيء وكانوا محتاجين - لهم الأخذ من الزكاة؛ وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله، كما تقدم. هذا ما ظهر لي، والله أعلم. سئل الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين: عن دفع الزكاة إلى أولاد الإخوة والأخوات ... إلخ؟ فأجاب: وأما إعطاء عيال إخوانك وأخواتك، فهو جائز إن شاء الله تعالى. ويجوز إعطاء إخوانك وأخواتك وعماتك، وكذا بنات عيال أخيك، يجوز إعطاؤهن. وأما القوي من عيال أخيك، فإن لم يكن له كسب يكفيه، جاز أن يعطى الزكاة، فإن كان لو يحترف كفى نفسه بحرفته، لكن يترك الحرفة تكاسلاً، فلا يعطى منها. وأجاب الشيخ حسن بن حسين بن علي: أما دفع الزكاة إلى أولاد البنات، فالمشهور في المذهب عدم الجواز، الوارث وغيره فيه سواء نصاً، لأن دفعها إليهم عن نفقته، ويسقطها عنه فيعود عليه نفعها، فكأنه دفعها إلى نفسه، أشبه ما لو قضى بها دينه. سئل الشيخ عبد الله بن محمد: هل يعطى من عليه الدين من الزكاة؟ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 261 فأجاب: إن كان فقيراً مستحقاً أعطي، وإن كان غنياً ويعطى من الزكاة لأجل دينه، فلا يحل له أن يعطى منها. وسئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عن دفع الزكاة إلى الغريم، ثم يوفيه بها؟ فأجاب: وأما إن دفع إنسان شيئاً من زكاته إلى غريمه، ثم أوفاه بذلك من دينه الذي عليه، فقد نص الإمام أحمد على جواز ذلك ما لم يكن حيلة، فقال: إن أراد إحياء ماله لم يجز، وقال أيضاً: إن كان حيلة فلا يعجبني، وقال: إن أراد الحيلة لم يصلح، ولا يجوز. وقال الشيخ الموفق: الذي تحصل لنا من كلام أحمد، أنه إن قصد بالدفع إحياء ماله واستيفاء دينه لم يجز، لأنها لله فلا يصرفها إلى نفعه. وقال القاضي: المراد بالحيلة في كلام أحمد: أن يعطيه بشرط أن يردها عليه من دينه، فلا تجزيه، يعني: فإن ردها من غير شرط جاز؛ فكلام القاضي صريح في أنه إنما يمنع إذا كان بشرط، وكلام الموفق صريح في أنه إذا كان قصد الدافع إحياء ماله، لا سيما مع وعد القابض بردها عليه وفاء عن حقه، فإنه لا يجوز. وسئل: هل يجزي إذا أسقط عن الفقير زكاة الدين الذي عليه؟ فأجاب: المعروف المعمول به في المذهب: أنه إذا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 262 أسقط عن المعسر والفقير غير المعسر زكاة الدين الذي عليه، أن ذلك لا يجوز ولا يجزي. وسئل: عن المحتاج الذي في بيته، هل هو أولى بالدفع إليه ... إلخ؟ فأجاب: والمحتاج الذي في بيته لا يسأل الناس أولى من الذي يسألهم. سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: هل يجوز شراء زكاته؟ فأجاب: أما شراء المزكي زكاته ففيه خلاف، والمشهور أنه لا يجوز. وسئل الشيخ حمد بن عبد العزيز: عن دفع زكاة الكري لصاحبه ... إلخ؟ فأجاب زكاة الكري لا يحل لصاحب الكري ما يخص كراه منها؛ بل يجب عليه إخراجه، ويأخذ من غيره. سئل الشيخ عبد الله بن محمد: عن تحري الأوقات الفاضلة، كرمضان ... إلخ؟ فأجاب: وأما تحري المتصدق بصدقته الأوقات الفاضلة، كرمضان والعشر الأواخر، فهذا حسن؛ والصدقة لها مزية في الأوقات الفاضلة والأماكن المعظمة، سواء كانت الصدقة من ماله، أو كان نائباً في تفريقها، إذا لم يعين له الموكل وقتاً بعينه أو مكاناً بعينه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 263 سئل الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن: عمن طلب من الثمرة عند الجذاذ ... إلخ؟ فأجاب: من طلب من الثمرة عند الجذاذ، يعطى إذا كان فقيراً أو مسكيناً، ما يسد جوعته، وأما إذا طلب من الزكاة، فيعطى بحسب الزكاة وقدرها، وكثرة المساكين. سئل الشيخ إسحاق بن عبد الرحمن: عن صلة العاصي ... إلخ؟ فأجاب: وأما صلة العاصي لقصد ما فيه من الخير، كالإسلام، أو لتأليفه، أو لدفع مفسدة ظاهرة لا تعارض الأصل، وهو المنافرة لأهل المعاصي، فلا بأس به؛ بل ربما يتأكد. ولك الأسوة الحسنة في أبي بكر رضي الله عنه بمسطح بن أثاثة، وأم حبيبة، وصلة عمر لأخيه الذي في مكة، وغير ذلك؛ ولكن لا بد مع التحلي بالحب في الله، التحلي أيضاً بالبغض فيه، ضرورة أن الباعث على الأول كونه مطيعاً لله، وهو مستلزم لبغض العصاة؛ ومعلوم أن من أحب لسبب أبغض لضده، فاستصحب هذا الأصل تنجو من معرة الطرفين، والله أعلم. سئل الشيخ حمد بن معمر: عن الصدقة في مكة ... إلخ؟ فأجاب: الصدقة في مكة لها مزية في الفضيلة، لفضيلة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 264 البقعة؛ ومتحري الخير يتيسر له ذلك، خصوصاً في أيام الحج، إذا حج ناس من المسلمين، فإنه يجد مع الحاج من فقراء المسلمين ناساً محتاجين يتصدق عليهم، فيحصل فضيلة البقعة مع فضيلة أيام الحج. وأما الصدقة على أهلها اليوم، وهم على هذه الحال، فقد ذكر أهل العلم ما يدل على أن المسلم يثاب على الصدقة على الكافر، كما يدل عليه قوله تعالى: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [سورةالممتحنة آية: 8] . وذكر أهل التفسير عند قوله تعالى: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ} [سورة البقرة آية: 272] ، أنها نزلت في الصدقة على أهل الذمة. انتهى ملخصاً. قال الشيخ محمد بن عمر بن سليم: أنشدنا شيخنا الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن هذه الأبيات: يا من له الفضل محضاً في بريته ... وهو المؤمل في الضراء والباسِ عوَّدتني عادة أنت الكفيل بها ... فلا تكلني إلى خلق من الناسِ ولا تذلّ لهم من بعد عزته ... وجهي المصون ولا تخضع لهم راسِي وابعث على يد من ترضاه من بشر ... رزقي وصنِّي عمن قلبه قاسِي فإن حبْل رجائي فيك متصل ... بحسن صنعك مقطوعاً عن الناسِ وذكر أن الله بعث لمنشئها رزقاً بسبب فأرة خرجت من جحر وبفيها دينار، فحفره فوجد دنانير كثيرة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 265 سئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله: عن حديث " سبق الفقراء ... " ... إلخ؟ فأجاب: أما حديث: " سبق الفقراء بخمسمائة عام "، وفي حديث: " بأربعين عاماً "، فهذا أثبت، ولكن لا يدل على فضلهم؛ بل بعض الأغنياء الذين يدخلون بعدهم، يكونون أرفع درجة منهم، وهذا له شواهد كثيرة: أن الفضيلة الخاصة لا تدل على الفضيلة العامة، والفقر والغنى موكول إلى العرف، وقوله: " إنك إن تذر ورثتك أغنياء ... " 1 إلخ، لا إشكال فيه أن الرجل إذا أراد أن يتصدق بماله كله، قيل له: إنك إن تذر ورثتك أغنياء، ما فيه إشكال.   1 البخاري: الجنائز (1296) , ومسلم: الوصية (1628) , والترمذي: الوصايا (2116) , والنسائي: الوصايا (3626, 3627, 3628, 3630, 3631, 3632, 3635) , وأبو داود: الوصايا (2864) , وأحمد (1/168, 1/171, 1/172, 1/176, 1/179, 1/184) , ومالك: الأقضية (1495) , والدارمي: الوصايا (3196) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 266 كتاب الصيام صيام يوم الشك بسم الله الرحمن الرحيم سئل الإمام عبد العزيز بن محمد بن سعود: عن قول عمار: " من صام اليوم الذي يشك فيه، فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم "، هل هذا من قول عمار؟ أو من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فأجاب: بل هو من قول عمار، بدليل صيغة اللفظ، ولكنه عند العلماء في حكم المرفوع، لأن مثل هذا لا يقال بالرأي، وذلك كقول الصحابي: من السنة كذا، أو أمرنا بكذا. وقال الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ محمد، رحمهم الله تعالى: وقفت على نسختين لعثمان بن منصور، تتضمن التشنيع والتجهيل والتضليل، لمن نهى عن صيام يوم الثلاثين من شعبان، إذا حال دون مطلع الهلال غيم أو قتر، ويزعم: أن صيامه بنية رمضان واجب جزماً؛ ولا يخفى أن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 267 المحققين من العلماء في مذهب أحمد من الحنابلة وغيرهم، ذهبوا إلى أنه لا يجب صيامه، بل يكره أو يحرم، فمنهم الحافظ محمد بن عبد الهادي الحنبلي. وقد صنف في الرد على من أوجب صيامه، فإنه، رحمه الله، قال: فصل في الكلام على مسألة الغيم مختصراً: لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من الصحابة، رضوان الله عليهم، إيجاب صوم يوم الثلاثين من شعبان، إذا حال دون مطلع الهلال غيم أو قتر ليلة الثلاثين؛ ومن ادعى ذلك فلينقله لنا بإسناد يحتج به. وكذلك لم يثبت عن الإمام أحمد، أنه أوجب صومه؛ والصحيح أنه لا يجب صومه؛ ومن قال بالوجوب من أصحاب أحمد، كالخرقي والخلال صاحبه، النجاد وابن شاقلا وابن حامد وغيرهم، فليس معهم دليل على ذلك، بل أكثر ما معهم معان مقابلة بأقوى منها، وأحاديث متشابهة لا حجة فيها، يجب ردها إلى المحكم الواضح؛ فإن العمل بالمتشابه من الآيات والأحاديث وغيرها من الأدلة، لا يجوز إذا أفضى إلى رد محكم، بل يجب العمل بالمحكم ورد المتشابه إليه. ومتى وقع النّزاع في مسألة من المسائل بين أهل العلم، لم يكن قول أحدهم حجة على الآخر بالاتفاق، بل يجب رد ما تنازعوا فيه إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 268 وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [سورة النساء آية: 59] . ولا ريب أن من قال بوجوب صوم يوم الثلاثين من شعبان، ليس معه دليل صحيح أصلاً. بل الأدلة الصحيحة الصريحة التي هي غير قابلة للتأويل تدل على عدم الوجوب. فمنها: ما رواه البخاري في صحيحه، من حديث أمير المؤمنين، في الحديث شعبة بن الحجاج، قال: حدثنا محمد بن زياد قال: سمعت أبا هريرة يقول: قال النبي صلى الله عليه وسلم، أو قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: " صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين " 1، كذا رواه الإمام أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري في صحيحه، وكفى به حجة؛ وهو صريح في إكمال شعبان ثلاثين يوماً، وهو غير قابل للتأويل بوجه، بل هو فاصل للنّزاع في المسألة. ولا ينافيه ما رواه مسلم في صحيحه، من حديث أبي هريرة: " فصوموا ثلاثين يوماً " 2، وفي لفظ: " فإن غم عليكم، فأكملوا العدد " 3، وفي لفظ: " ف إن أغمي عليكم الشهر، فعدوا ثلاثين " 4؛ فإن هذه الألفاظ كلها موافقة للفظ البخاري، لا مخالفة له، ومن جعلها معارضة لما رواه البخاري، فقد قصر في النظر. ومنها: ما رواه الإمام أحمد وأبو داود والدارقطني، من حديث الإمام الحافظ الثبت أبي سعيد عبد الرحمن بن مهدي عن معاوية بن صالح عن عبد الله بن أبي قيس عن   1 الترمذي: الصوم (688) , والنسائي: الصيام (2124) , وأبو داود: الصوم (2327) , وأحمد (1/221, 1/226, 1/258, 1/306, 1/367) , ومالك: الصيام (635) , والدارمي: الصوم (1683, 1686) . 2 البخاري: الصوم (1909) , ومسلم: الصيام (1081) , والترمذي: الصوم (684) , والنسائي: الصيام (2117, 2118, 2119, 2123) , وابن ماجة: الصيام (1655) , وأحمد (2/259, 2/263, 2/281, 2/287, 2/415, 2/422, 2/430, 2/438, 2/454, 2/456, 2/469, 2/497) , والدارمي: الصوم (1685) . 3 البخاري: الصوم (1907) , ومسلم: الصيام (1080) , والنسائي: الصيام (2120, 2121, 2122, 2139, 2140, 2141, 2142, 2143) , وأبو داود: الصوم 2319, 2320) , وأحمد (2/5, 2/13, 2/28, 2/31, 2/40, 2/43, 2/44, 2/52, 2/56, 2/63, 2/77, 2/81, 2/122, 2/125, 2/129, 2/145) , ومالك: الصيام (633, 634) , والدارمي: الصوم (1684) . 4 البخاري: الصوم (1909) , ومسلم: الصيام (1081) , والترمذي: الصوم (684) , والنسائي: الصيام (2117, 2118, 2119, 2123) , وابن ماجة: الصيام (1655) , وأحمد (2/259, 2/263, 2/281, 2/287, 2/415, 2/422, 2/430, 2/438, 2/454, 2/456, 2/469, 2/497) , والدارمي: الصوم (1685) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 269 عائشة، قالت: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحفظ من هلال شعبان ما لا يتحفظ من غيره، ثم يصوم رمضان لرؤيته، فإن غم عليه عد ثلاثين يوماً ثم صام " 1، هذا حديث صحيح صريح في المسألة، لا يقبل التأويل؛ قال الإمام الحافظ الكبير، أبو الحسن الدارقطني: هذا الإسناد صحيح، كذا قال أبو الحسن، وهو إمام عصره في علم الحديث، وهو مصيب في قوله: فإن هذا الإسناد رجاله كلهم ثقات، خرج لهم في الصحيح; فإن عبد الله بن قيس، ومعاوية بن صالح، من رجال مسلم؛ ولم يصب من طعن في هذا الحديث، لأجل معاوية بن صالح، وجعل الدارقطني متعصباً في تصحيحه إسناد هذا الحديث، فإن معاوية بن صالح ثقة احتج به مسلم في صحيحه، ووثقه عبد الرحمن بن مهدي، وأحمد بن حنبل، وأبو زرعة وغيرهم من الأئمة، ولم يتكلم فيه بحجة، والله أعلم. ومنها: ما رواه الإمام أحمد، وأبو داود الطيالسي، وأبو داود السجستاني، والترمذي والنسائي وأبو يعلى الموصلي، وأبو القاسم الطبراني، وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما، وغيرهم من رواية عكرمة عن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن حال بينكم وبينه غمامة أو ضبابة، فأكملوا عدة شعبان ثلاثين، ولا تستقبلوا رمضان بصوم يوم من شعبان " 2، هذا لفظ أبي داود الطيالسي، وهذا الحديث صحيح، رواته كلهم ثقات مخرج لهم في الصحيح؛ قال الترمذي هذا حديث صحيح، وهو   1 أبو داود: الصوم (2325) . 2 النسائي: الصيام (2189) , وأحمد (1/226, 1/258) , والدارمي: الصوم (1683) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 270 صريح في المسألة، قاطع للعذر، غير قابل للتأويل بوجه من الوجوه. وقد رواه الحافظ أبو بكر الخطيب من رواية ابن قتيبة عن حازم بن إبراهيم البجلي عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس، ولفظه قال: " تمارى الناس في رؤية هلال رمضان، فقال بعضهم: اليوم، وقال بعضهم غداً، فجاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر أنه رآه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: تشهد ألا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله؟ قال: نعم، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بلالاً فنادى في الناس، ثم قال: صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فعدوا ثلاثين يوماً ثم صوموا، ولا تصوموا قبله يوماً "؛ قال الحافظ أبو بكر: وهذا أولى أن يؤخذ به من حديث ابن عمر، لما فيه من البيان الشافي، واللفظ الواضح الذي لا يحتمل التأويل. ومنها: ما رواه أبو داود والنسائي، وأبو حاتم ابن حبان البستي، وأبو الحسن الدارقطني، من رواية الثقة الحجة، جرير بن عبد الحميد عن منصور عن ربعي عن حذيفة، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تقدموا الشهر حتى تروا الهلال، أو تكملوا العدة قبله " 1، هذا لفظ الدارقطني؛ وهذا الحديث رواته كلهم ثقات، مخرج لهم في الصحيحين، وهو صريح في عدم وجوب صوم يوم الثلاثين من شعبان، إذا غم الهلال. ومنها: ما رواه الإمام أحمد والنسائي، والدارقطني،   1 النسائي: الصيام (2126, 2127, 2128) , وأبو داود: الصوم (2326) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 271 من رواية حسين بن الحارث الجدلي، قال: " خطب عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب، في اليوم الذي يشك فيه، فقال: ألا إني قد جالست أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وسألتهم. ألا وإنهم حدثوني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، وانسكوا لها، فإن غم عليكم فأتموا ثلاثين ". ومنها: ما رواه الإمام أحمد عن روح عن زكريا عن أبي الزبير، أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا رأيتم الهلال فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا؛ فإن غم عليكم فعدوا ثلاثين يوماً " 1، هذا إسناد صحيح. ومنها: ما رواه الحافظ أبو بكر الخطيب، من رواية قيس بن طلق عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رجلاً سأله، فقال: يا رسول الله، اليوم يصبح الناس يقول القائل: هو من رمضان، ويقول القائل: ليس من رمضان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا رأيتم الهلال فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، فإن غم عليكم فأتموا العدة ثلاثين "؛ وهذا الحديث وإن كان بعض رواته متكلم فيه، فهو يصح للاعتضاد والاستشهاد بلا ريب. ومنها: ما رواه أبو داود والنسائي، وابن ماجة والترمذي، من حديث أبي إسحاق عن صلة بن زفر، قال: " كنا عند عمار بن ياسر، فأتى بشاة مصلية، فقال: كلوا، فتنحى بعض القوم فقال: إني صائم، فقال عمار: من صام اليوم الذي يشك فيه، فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم "، قال الترمذي:   1 البخاري: الصوم (1909) , ومسلم: الصيام (1081) , والترمذي: الصوم (684) , والنسائي: الصيام (2117, 2118, 2119, 2123) , وابن ماجة: الصيام (1655) , وأحمد (2/259, 2/263, 2/281, 2/287, 2/415, 2/422, 2/430, 2/438, 2/454, 2/456, 2/469, 2/497) , والدارمي: الصوم (1685) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 272 هذا حديث حسن صحيح. وقد روي من غير وجه مرفوعاً: النهي عن صوم يوم الشك، وقد روي عن جماعة من الصحابة، رضي الله عنهم، أنهم نهوا عن صوم يوم الشك منهم حذيفة وابن عباس. وقد نص الإمام أحمد بن حنبل، في رواية المروذي، على أن يوم الثلاثين من شعبان إذا غم الهلال يوم شك، وهذا القول صحيح بلا ريب، فالقول بوجوب صوم هذا اليوم لا دليل عليه أصلاً. والقائلون بعدم الوجوب، قد ذكروا من جهة المعنى وجوهاً عاضدة ومقوية لما تقدم من الأحاديث: الوجه الأول: قالوا: الواجب صوم رمضان، وهذا اليوم ليس من رمضان فلا يجب صومه; والدليل على أنه ليس من رمضان الحكم والمعنى. الوجه الثاني، قالوا: الشك بالغيم ليس بأكثر من الشك الحاصل بالشهادة من رد الحاكم شهادته، ثم هناك لا يجب به الصوم، فكذلك الغيم؛ يوضح هذا: أن الغيم ليس سبباً في وجوب الصوم، إنما السبب رؤية الهلال، أو شهادة برؤيته، ونحن على الأصل، والغيم لا يصلح ناقلاً. الوجه الثالث: قالوا: عبادة، فلا يجوز الدخول فيها إلا على يقين، كسائر العبادات؛ وذلك: أن الشرع لما أوجب العبادات الموقتة، نصب لها أسباباً وأعلاماً، فدخول وقت الصلاة سبب لوجوبها، فلو شك فيه لم يجز له فعلها. فإن قيل: ما ذكرتموه من الأدلة على عدم الوجوب، معارض لما رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما عن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 273 عبد الله بن عمر، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إذا رأيتموه فصوموا، واذا رأيتموه فأفطروا، فإن غم عليكم فاقدروا له 1، فإن معنى: " اقدروا له ": ضيقوا له عدداً يطلع في مثله، ومن هذا قوله تعالى: {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} [سورة الطلاق آية: 7] أي: ضيق. قلنا: ليس في هذا الحديث دليل على وجوب الصوم أصلاً، بل هو حجة على عدم الوجوب؛ فإن معنى " اقدروا له ": احسبوا له قدره، وذلك ثلاثون يوماً، وهو من قدر الشيء وهو مبلغ كميته، ليس من التضييق في شيء؛ والدليل على ذلك ما رواه مسلم في صحيحه، من حديث ابن عمر: " فإن أغمي عليكم، فاقدروا ثلاثين " 2، كما رواه البخاري في صحيحه من حديث ابن عمر أيضاً: " الشهر تسع وعشرون ليلة، فلا تصوموا حتى تروه، فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين " 3، فإن اللام في قوله: " فأكملوا العدة " للعهد، ولم يخص النبي صلى الله عليه وسلم شهراً دون شهر بإكمال إذا غم، فلا فرق بين شعبان وغيره. وقد روى الإمام أحمد عن وكيع عن سفيان عن عبد العزيز بن حكيم الحضرمي، قال: سمعت ابن عمر يقول: " لو صمت السنة كلها، لأفطرت اليوم الذي يشك فيه ?"، ثم ذكر الروايات عن الإمام أحمد، كما هي مذكورة فيما يأتي، نقلاً عن المغني والإنصاف. انتهى ما أردت نقله من كلام الحافظ محمد بن عبد الهادي، رحمه الله. فتأمل ما أورده في الفصل من الأحاديث التي قد تواترت   1 البخاري: الصوم (1900) , ومسلم: الصيام (1080) . 2 البخاري: الصوم (1900, 1906, 1907, 1908, 1913) والطلاق (5302) , ومسلم: الصيام (1080) , والنسائي: الصيام (2120, 2121, 2122, 2139, 2140,2141 2142, 2143) , وأبو داود: الصوم (2319, 2320) , وابن ماجة: الصيام (1654) , وأحمد (2/5, 2/13, 2/28, 2/31, 2/40, 2/43, 2/44, 2/52, 2/56, 2/63, 2/75, 2/77, 2/81, 2/122, 2/125, 2/129, 2/145) , ومالك: الصيام (633, 634) , والدارمي: الصوم (1684) . 3 البخاري: الصوم (1907) , وأبو داود: الصوم (2320) , ومالك: الصيام (634) , والدارمي: الصوم (1684) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 274 كثرة وصحة، فاتبعت ما ذكره في هذا الفصل بما ستقف عليه؛ قال أحمد، رحمه الله: عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته، يذهبون إلى رأى سفيان، والله تعالى يقول: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [سورة النور آية: 63] ، أتدري ما الفتنة؟ الفتنة: الشرك. لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك. وذكر صاحب المغني، رحمه الله، عن الإمام أحمد في هذه المسألة، ثلاث روايات: رواية الوجوب، ذكرها بصيغة التمريض، وضعفها شيخ الإسلام، وصاحب الفروع وغيرهما؛ قال في المغني: وروي عنه أن الناس تبع للإمام. وعنه رواية ثالثة: لا يجب صومه، ولا يجزيه عن رمضان إن صامه، قال: وهو قول أكثر أهل العلم، منهم أبو حنيفة ومالك والشافعي، ومن تبعهم، لما روى أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يوماً " 1. انتهى. قلت: وحديث أبي هريرة صريح في الأمر بإكمال شعبان، إذا غمي الهلال ليلة الثلاثين، كما تقدم في كلام الحافظ؛ ولو لم يكن في هذه المسألة إلا هذا الحديث، لتعين الأخذ به والعمل، لصراحته وصحته. فهذا حكم من النبي صلى الله عليه وسلم أرشد أمته إليه وأمرهم به، فقال في الإنصاف: وإن حال دون منظره سحاب أو قتر ليلة الثلاثين، وجب صيامه عند الأصحاب، وهو المذهب، وهو من المفردات، وعنه: لا   1 الترمذي: الصوم (688) , والنسائي: الصيام (2124) , وأبو داود: الصوم (2327) , وأحمد (1/221, 1/226, 1/258, 1/306, 1/367) , ومالك: الصيام (635) , والدارمي: الصوم (1683, 1686) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 275 يجب صومه قبل رؤية الهلال، وقبل إكمال شعبان ثلاثين. قلت: وهذه الرواية التي ذكرها في المغني بقوله: وعنه لا يجب صومه وفاقاً للثلاثة وأكثر العلماء؛ قال في الإنصاف: قال الشيخ تقي الدين: هذا مذهب أحمد الصحيح الصريح عنه، وقال: لا أصل للوجوب في كلام أحمد، ولا في كلام أحد من الصحابة. انتهى. قال: ورد في الفروع جميع ما احتج به الأصحاب للوجوب، وقال: لم أجد عن أحمد صريحاً في الوجوب، ولا أمر به، ولا يتوجه إضافته إليه. قلت: فأنكر صاحب الفروع على كثرة اطلاعه، على جميع ما صنف في مذهب أحمد قبله، أن يضاف إلى الإمام أحمد القول بوجوب صيامه؛ وحسبك بصاحب الفروع. وللقائلين بالمنع من صيامه أن يحتجوا بما تقدم، وبقول الله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [سورة البقرة آية: 185] ، فلم يتعبد عباده بصيامه إلا عند شهود الشهر، وشهوده إنما هو رؤية هلاله بلا ريب. ومما يحتج به البراءة الأصلية، وهي أن الأصل بقاء شعبان، وأما تأويلهم ما في حديث عبد الله بن عمر " فاقدروا له " بمعنى: ضيقوا له، فهذا تأويل ضعيف جداً، لأن النبي صلى الله عليه وسلم بين معنى هذه الكلمة، وأن معناها إكمال الثلاثين، كما تقدم ذلك صريحاً في كلام الحافظ؛ وقد قال في الإنصاف، لما ذكر رواية أنه لا يجب صومه، قال: واختار هذه الرواية أبو الخطاب وابن عقيل، ذكره في الفائق، واختارها صاحب التبصرة، واختارها الشيخ تقي الدين وأصحابه، منهم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 276 صاحب التنقيح والفروع والفائق وغيرهم، وصححه ابن رزين في شرحه. قلت: وصاحب التنقيح الذي ذكر الحافظ: محمد بن عبد الهادي. وقال صاحب الإنصاف: وعنه صومه منهي عنه، قال في الفروع: واختاره أبو القاسم بن منده الأصبهاني، وأبو الخطاب وابن عقيل وغيرهم، فعلى هذه الرواية، قيل: يكره صومه، وقيل: النهي للتحريم، ونقله حنبل، وذكره القاضي. قلت: ورواية حنبل بتحريم صيامه، هو ما دلت عليه الأحاديث الصحيحة، فإن قوله: " فأكملوا عدة شعبان ثلاثين " 1 أمر منه صلى الله عليه وسلم بإكمال شعبان؛ والأمر بالشيء نهي عن ضده، وتقدم حديث عمار وغيره. وكل من ذكره صاحب الإنصاف من أئمة الحنابلة، كالقاضي أبي يعلى، وأبي الخطاب، وابن عقيل، وابن رزين، وابن منده، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وجميع أصحابه، كلهم قد تركوا القول بالوجوب، وضعفوه، واختاروا الكراهة لصومه أو تحريمه، فوافقوا الأئمة الثلاثة في المنع من صيامه، وصححوا هذه الروايات عن الإمام أحمد، وبعضهم منع من نسبة القول بوجوبه إلى الإمام أحمد، كشيخ الإسلام وصاحب الفروع؛ فتوجه إنكار ذلك على من نسبه إليه من جهلة المتعصبين. وقال الحافظ ابن حجر، في شرح البخاري: قال   1 البخاري: الصوم (1909) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 277 العلماء في معنى الحديث: " لا تستقبلوا رمضان بصيام " على نية الاحتياط لرمضان؛ قال الترمذي لما أخرجه: والعمل على هذا عند أهل العلم، كرهوا أن يتعجل الرجل بصيام قبل دخول رمضان بمعنى رمضان. انتهى. قال شارح العمدة: والمعتمد كما قال الحافظ ابن حجر، أن الحكم علق بالرؤية، فمن تقدمه بيوم أو يومين، فقد حاول الطعن في ذلك الحكم؛ قال الروياني من الشافعية بتحريم تقدم رمضان بيوم أو يومين، لحديث الباب، قال الشارح قلت: ونعم ما قال، لأن النهي يقتضي التحريم. انتهى. ما يثبت به صيام رمضان وقال العلامة ابن القيم: فصل: وكان من هديه صلى الله عليه وسلم أنه لا يدخل في صوم رمضان إلا برؤية متحققة، أو بشهادة شاهد واحد، كما صام بشهادة ابن عمر، وصام بشهادة أعرابي، واعتمد على خبرهما، ولم يكلفهما لفظ الشهادة؛ فإن كان ذلك إخباراً فقد اكتفى في رمضان بخبر الواحد، وإن كان شهادة فلم يكلف الشاهد لفظ الشهادة. فإن لم تكن رؤية ولا شهادة، أكمل عدة شعبان ثلاثين يوماً ثم صام، ولم يكن يصوم يوم الإغماء، ولا أمر به، بل بأن يكمل عدة شعبان ثلاثين إذا غم، وكان يفعل كذلك؛ فهذا فعله، وهذا أمره. ولا يناقض هذا قوله: " فإن غم عليكم فاقدروا له " 1، فإن القدر هو الحساب المقدر، والمراد به الإكمال، كما قال: " فأكملوا العدة " والمراد بالاكمال: عدة الشهر الذي غم، كما قال في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري: " فأكملوا عدة شعبان " 2،   1 البخاري: الصوم (1900) , ومسلم: الصيام (1080) , والنسائي: الصيام (2120, 2121, 2122) , وأحمد (2/5, 2/13, 2/63, 2/145) , ومالك: الصيام (633, 634) , والدارمي: الصوم (1684) . 2 البخاري: الصوم (1909) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 278 وقال: " لا تصوموا حتى تروه، ولا تفطروا حتى تروه، فإن غم عليكم فأكملوا العدة " 1. فالذي أمر بإكمال عدته، هو الشهر الذي يغيم عند صيامه، وعند الفطر منه. وأصرح من هذا قوله: " الشهر تسع وعشرون، فلا تصوموا حتى تروه، ولا تفطروا حتى تروه، فإن غم عليكم فأكملوا العدة " 2، وهذا راجع إلى أول الشهر بلفظه، وإلى آخره بمعناه؛ فلا يجوز إلغاء ما دل عليه لفظه، واعتبار ما دل عليه من جهة المعنى. وقال: " الشهر ثلاثون، والشهر تسع وعشرون، فإن غم عليكم فعدوا ثلاثين "، وقال: " لا تصوموا قبل رمضان. صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن حال دونه غياية فأكملوا ثلاثين " 3، وقال: " لا تقدموا الشهر حتى تروا الهلال أو تكملوا العدة، ثم صوموا. ولا تصوموا حتى تروا الهلال، أو تكملوا العدة " 4. قالت عائشة: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحفظ من هلال شعبان ما لا يتحفظ من غيره، ثم يصوم لرؤيته ويفطر لرؤيته، فإن غم عليه أكمل شعبان ثلاثين يوماً ثم صام " 5، صححه الدارقطني وابن حبان. وقال: " صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فاقدروا ثلاثين " 6، وقال: " لا تصوموا حتى تروه، فإن غم عليكم فاقدروا له " 7، وقال: " لا تقدموا رمضان "، وفي لفظ: " لا تقدموا بين يدي رمضان بيوم أو يومين، إلا رجلاً كان يصوم صياماً فليصمه " 8. والدليل على أن يوم الإغماء داخل في النهي: حديث ابن عباس رفعه: " لا تصوموا قبل رمضان، صوموا لرؤيته   1 البخاري: الصوم (1907) . 2 البخاري: الصوم (1907) . 3 الترمذي: الصوم (688) , والنسائي: الصيام (2130) . 4 النسائي: الصيام (2126, 2127) , وأبو داود: الصوم (2326) . 5 أبو داود: الصوم (2325) . 6 البخاري: الصوم (1909) , ومسلم: الصيام (1081) , والترمذي: الصوم (684) , والنسائي: الصيام (2117, 2118) , وأحمد (2/422, 2/430, 2/438, 2/454, 2/469, 2/497) , والدارمي: الصوم (1685) . 7 البخاري: الصوم (1906) , ومسلم: الصيام (1080) , والنسائي: الصيام (2121) , وأبو داود: الصوم (2320) , وأحمد (2/63) , والدارمي: الصوم (1684) . 8 البخاري: الصوم (1914) , ومسلم: الصيام (1082) , والترمذي: الصوم (685) , والنسائي: الصيام (2172, 2173) , وأبو داود: الصوم (2335) , وابن ماجة: الصيام (1650) , وأحمد (2/513) , والدارمي: الصوم (1689) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 279 وأفطروا لرؤيته، فإن حالت غياية فأكملوا ثلاثين " 1، ذكره ابن حبان في صحيحه؛ وهذا صريح في أن صوم يوم الإغماء من غير رؤية ولا إكمال ثلاثين، صوم قبل رمضان، وقال: " لا تقدموا الشهر إلا أن تروا الهلال أو تكملوا العدة " 2، وقال: " صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن حال بينكم وبينه سحاب فأكملوا العدة ثلاثين، ولا تستقبلوا الشهر استقبالاً " 3، قال الترمذي: حديث صحيح. وفي النسائي من حديث يونس عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس رفعه: " صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فعدوا ثلاثين يوماً ثم صوموا. ولا تصوموا قبله يوماً، فإن حال بينكم وبينه سحاب فأكملوا عدة شعبان " 4، وقال سماك عن عكرمة عن ابن عباس قال: " تمارى الناس في هلال رمضان، فقال بعضهم: اليوم، وقال بعضهم: غداً، فجاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر أنه رآه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: تشهد ألا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله؟ قال: نعم، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بلالاً فنادى في الناس: صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فعدوا ثلاثين يوماً، ثم صوموا، ولا تصوموا قبله يوماً ". وكل هذه الأحاديث صحيحة، بعضها في الصحيحين، وبعضها في صحيح ابن حبان والحاكم وغيرهما؛ وإن كان قد أعل بعضها، فلا يقدح في صحة الاستدلال بمجموعها، وتفسير بعضها ببعض، وكلها يصدق بعضها بعضاً، والمراد منها متفق عليه؛ وهذا بحمد الله هو   1 الترمذي: الصوم (688) , والنسائي: الصيام (2130) . 2 النسائي: الصيام (2126) , وأبو داود: الصوم (2326) , وأحمد (4/314) . 3 الترمذي: الصوم (688) , والنسائي: الصيام (2129) , وأحمد (1/221) , ومالك: الصيام (635) , والدارمي: الصوم (1683) . 4 الترمذي: الصوم (688) , والنسائي: الصيام (2129) , وأحمد (1/226) , والدارمي: الصوم (1683, 1686) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 280 العلم الذي يعرفه العلماء من أهل السنة والجماعة، الذين يعرفون بالعلم ويعرف بهم، وقد حفظوه بحمد الله على من بعدهم، لكن لا يهتدي له إلا من ألهمه الله رشده ووقاه شر نفسه. وأما الذي أسف عليهم هذا الرجل المتقدم ذكره 1 من أشباهه، فإنهم من جهلهم وضلالهم ينكرون هذه الدعوة الإسلامية، والملة الحنيفية، حسداً وبغياً، وظلماً وجهلاً وعناداً، وهم فلان، وفلان، فالحمد لله على معرفة الخطإ من الصواب، والتمسك بالسنة والكتاب. وأما ما احتج به بعضهم من أن بعض الصحابة صام يوم الثلاثين من شعبان، إذا كان في مطلع الهلال غيم أو قتر، فالجواب عنه من وجوه: أما ما ذكره عن ابن عمر: أنه صامه، فإنه لم يوجبه، ولا قال أحد إنه قال بوجوبه. الوجه الأول: أنه قد صح عنه الحديث بلفظ: " فاقدروا له ثلاثين يوماً " 2، والحجة فيما روى لا فيما رأى. الوجه الثاني: أن قول الصحابي حجة عند بعض العلماء كالإمام أحمد، ما لم يخالفه غيره من الصحابة، فإن خالفه غيره فليس بحجة عند الجميع؛ فكيف إذا خالف نصوص الأحاديث، والمرجع فيما اختلفوا فيه إلى الرد إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن كان أسعد بالدليل فهو المصيب، وقوله هو الحق; والعمل على ما وافق   1 في صفحة 267. 2 البخاري: الصوم (1907) , ومسلم: الصيام (1080) , وأبو داود: الصوم (2320) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 281 الدليل، وهذا هو الذي أمرنا الله به وفرضه علينا كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [سورة النساء آية: 59] . وبهذه الآية العظيمة ختمنا الجواب، لما فيها من فصل النزاع في كل دعوى ادعى بها كل مدع، وبالله التوفيق. قال ابن رجب في كتاب اللطائف، في المجلس الثالث في صيام آخر شعبان، بعد كلام له على حديث عمران بن حصين: في صيام آخر شعبان، له ثلاثة أحوال: أحدها: أن يصام بنية الرمضانية احتياطياً لرمضان، فهذا منهي عنه. والثاني: أن يصام بنية النذر، أو قضاء، أو كفارة، أو نحو ذلك، فجوزه الجمهور، ونهى عنه من أمر بالفصل بين شعبان ورمضان بفطر يوم. والثالث: أن يصام بنية التطوع المطلق، فكرهه من أمر بالفصل بين شعبان ورمضان بالفطر - إلى أن قال - وفرق الشافعي، والأوزاعي، وأحمد وغيرهم، بين أن يوافق عادة أو لا - إلى أن قال - ولكراهة التقدم قبله، لئلا يزاد في صيام رمضان ما ليس منه، كما نهى عن صيام يوم العيد لهذا المعنى، حذراً مما وقع فيه أهل الكتاب في صيامهم، فزادوا فيه بآرائهم، وكان من السلف من يتقدم للاحتياط، والحديث حجة عليه - إلى أن قال - المعنى الثاني: الفصل بين صيام الفرض والنفل، فإن جنس الفصل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 282 بين الفرائض والنوافل، مشروع، إلى آخر كلامه. وأجاب أيضاً: ولا يخفى أن صيامه من مفردات مذهب الإمام أحمد، وشيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله، نفى أن يكون الإمام أحمد أوجبه، وقال: ليس في كلام أحمد ما يدل على وجوبه، وقال: يحتمل الاستحباب والإباحة. وللإمام الحافظ محمد بن عبد الهادي مصنف ذكر فيه ما ورد فيه من النهي عن صيامه، وذكر في بعض روايات ابن عمر: " فإن غم عليكم، فأكملوا عدة شعبان ثلاثين " 1، وذكره عن ابن عمر أيضاً مرفوعاً، وهذا يدل على المنع من صيامه. والأحاديث صحيحة مقطوع بصحتها. والمنع من صيامه هو اختيار شيخنا محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى، ومن أخذ عنه. وينهون عن ذلك لوجوه أربعة: الأول: أن تلك الليلة من شعبان بحسب الأصل، ولا تكون من رمضان، إلا بيقين. الوجه الثاني: النهي عن تقدم رمضان بصوم يوم أو يومين، ومن صام فقد تقدم رمضان. الوجه الثالث: الأحاديث التي فيها التصريح بالنهي عن صيامه، وذلك قوله: " فأكملوا العدة ثلاثين " 2؛ وفي بعضها تخصيص شعبان. الوجه الرابع: حديث عمار: " من صام يوم الشك، فقد عصى أبا القاسم ". وسئل أيضاً عن قوله: إذا حال دون منظره غيم أو قتر، ويستدل بقوله في الحديث: " فإن غم عليكم فاقدروا له " 3.   1 البخاري: الصوم (1909) . 2 البخاري: الصوم (1907) . 3 البخاري: الصوم (1900) , ومسلم: الصيام (1080) , والنسائي: الصيام (2120, 2121, 2122) , وأحمد (2/5, 2/13, 2/63, 2/145) , ومالك: الصيام (633, 634) , والدارمي: الصوم (1684) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 283 ويقول: إن القدر: التضييق، مثل قوله: {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} [سورة الطلاق آية: 7] ، وإن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب صام، وصامه بعض الصحابة. فأجاب: هذا القول أخذ به بعض الحنابلة وبعضهم مع الأئمة الثلاثة، وأكثر العلماء لا يقولون بوجوبه ولا باستحبابه؛ قال في الإنصاف: وإن حال دون منظره غيم أو قتر وجب صومه، وعنه: لا يجب، قال الشيخ: هذا مذهب أحمد المنصوص الصريح عنه، ولا أصل للوجوب في كلامه، ولا كلام أحد من الصحابة، رضي الله عنهم، أنه صامه، إلا عبد الله بن عمر احتياطاً، قاله ابن القيم، وذكر أن ابن عباس، رضي الله عنهما، أنكر عليه صيامه. قال الحافظ محمد بن عبد الهادي، رحمه الله تعالى: وقد روى من غير وجه مرفوعاً: النهي عن صوم الشك، منهم حذيفة وابن عباس. ونص الإمام أحمد في رواية المروذي: أن يوم الثلاثين من شعبان إذا غم الهلال يوم الشك، وهذا القول صحيح بلا ريب. قال الحافظ: وليس في الحديث الذي استدل به المتأخرون دليل على وجوبه أصلاً، بل هو حجة على عدم الوجوب، فإن معنى اقدروا: احسبوا له قدره، وذلك بثلاثين يوماً، فهو من قدر الشيء وهو مبلغ كميته، ليس من الضيق في شيء، والدليل على ذلك، ما في صحيح مسلم عن ابن عمر: " فإن أغمي عليكم، فاقدروا ثلاثين " 1 أي: فأكملوا العدة ثلاثين، وابن عمر هو الذي روى حديثهم الذي احتجوا به   1 البخاري: الصوم (1900, 1906, 1907, 1908, 1913) والطلاق (5302) , ومسلم: الصيام (1080) , والنسائي: الصيام (2120, 2121, 2122, 2139, 2140, 2141 ,2142, 2143) , وأبو داود: الصوم (2319, 2320) , وابن ماجة: الصيام (1654) , وأحمد (2/5, 2/13, 2/28, 2/31, 2/40, 2/43, 2/44, 2/52, 2/56, 2/63, 2/75, 2/77, 2/81, 2/122, 2/125, 2/129, 2/145) , ومالك: الصيام (633, 634) , والدارمي: الصوم (1684) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 284 وصرح في هذه الأحاديث بمعناه، وهو إكمال شعبان ثلاثين. واستدل الأئمة على تحريم صيامه بحديث عمار، وهو ما رواه أبو داود والنسائي وابن ماجة والترمذي، عن طلحة بن زفر، قال: " كنا عند عمار بن ياسر، وأتى بشاة مصلية، فقال: كلوا، فتنحى بعض القوم، فقال عمار: من صام اليوم الذي يشك فيه، فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم " 1. قلت: وهذا عند أهل الحديث في حكم المرفوع، وقد جاء صريحاً في حديث أبي هريرة: الأمر بإكمال عدة شعبان ثلاثين إذا غبى الهلال، وهو عند البخاري في صحيحه عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال، أو قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: " صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين " 2. قال الحافظ: وهذا الحديث لا يقبل التأويل، وذكر أحاديث كثيرة، منها: ما رواه أبو داود وأحمد وغيرهما، عن عائشة قالت: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحفظ من هلال شعبان ما لا يتحفظ من غيره، ثم يصوم رمضان لرؤيته، فإن غم عليه أتم ثلاثين يوماً ثم صام " 3، وهذا صريح في أنه صلى الله عليه وسلم لم يشرع لأمته صيام الثلاثين إذا غم الهلال ليلته. فهذا وغيره من الأحاديث بين أن الحجة مع من أنكر صيام ذلك اليوم إذا غم الهلال ليلته، وأن السنة إكمال شعبان ثلاثين إذا لم ير الهلال؛ وهو اختيار شيخنا محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى. وأجاب أيضاً: وما ذكرت أن مرعي له رسالة في تصحيح   1 الترمذي: الصوم (686) , والنسائي: الصيام (2188) , وأبو داود: الصوم (2334) , وابن ماجة: الصيام (1645) , والدارمي: الصوم (1682) . 2 الترمذي: الصوم (688) , والنسائي: الصيام (2124) , وأبو داود: الصوم (2327) , وأحمد (1/221, 1/226, 1/258, 1/306, 1/367) , ومالك: الصيام (635) , والدارمي: الصوم (1683, 1686) . 3 أحمد (6/149) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 285 صوم يوم الثلاثين من شعبان، إذا حال دون منظره غيم أو قتر، فلا يجوز أن الأحاديث التي في الصحاح والسنن والمسانيد تترك، لقول مقلد، بلا حجة ولا برهان، وأن هذا يصير هو العلم، وأن ما قرره الحفاظ المحققون بالأدلة، يقدم عليه قول مرعي ومن فوقه، أو دونه. وأجاب أيضاً: وما ذكرت أن مرعي صحح صيام يوم الشك من رمضان، فعجباً لك! كيف يمكن مرعي أو غيره يصحح ما قد ثبت فيه من رواية عمار بن ياسر: " من صام يوم الشك، فقد عصى أبا القاسم "، والحديث الذي في الصحيح: " فإن غم عليكم، فأكملوا عدة شعبان ثلاثين " 1، وحديث " صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فأكملوا العدة " 2؛ فأمر صلى الله عليه وسلم بإكمال شعبان مع الإغماء، والأمر بالشيء نهي عن ضده، وسياق الحديث الثاني في شعبان، وعمومه يتناول غيره من الشهور، كشهر ذي الحجة والمحرم، والكلام في هذا المحل يطول. وأيضا، كيف يوزن مرعي بشيخ الإسلام، وابن مفلح صاحب الفروع، والحافظ محمد بن عبد الهادي، وهم المحققون المتبعون، والحجة معهم؛ فلهذا لا يسع أحداً يترك ما حققوه بالدليل، ويميل إلى غيرهم. وفي الشرح الكبير والمغني، ما ينصر قول هؤلاء الأئمة والحفاظ، فسبحان الله ما أكثر من ضل فهمه! والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.   1 البخاري: الصوم (1909) . 2 الترمذي: الصوم (688) , والنسائي: الصيام (2124) , وأحمد (1/226) , والدارمي: الصوم (1683) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 286 وقال ابنه الشيخ عبد اللطيف، رحمهما الله تعالى، في رده على عثمان بن منصور، قال: وأما قوله في مسألة صوم يوم الثلاثين، إذا حال دون المنظر غيم أو قتر، وزعمه أن هذه المسألة سلكها إمام السنة، إلى آخر ما قال في مدح الإمام أحمد، فيناقش أولاً في اللفظ، ويقال: قوله: هذه المسألة سلكها إمام السنة، عبارة نبطية ليست بعربية؛ فإن المسألة لا تسلك، إنما يسلك الطريق، والمذهب ونحوهما، ثم مدح الإمام أحمد، وقول أبي داود وغيره في تفضيله، والثناء عليه كله حق؛ لكن لا يفيد هنا، ولا يدل على أنه لا يقول إلا صواباً، فإن هذا لا يثبت إلا للمعصوم، وقد أفتى، رحمه الله، في مسائل معروفة، ورجع عنها، كالمنع من القراءة عند القبر، ولا يدعي عصمته من يعقل. وأيضاً، فأتباع الأئمة يوردون في فضل أئمتهم مثل هذا، والمخالف يورد في فضل من لم يصم هذا اليوم ما هو أبلغ؛ فإن جمهور الصحابة والتابعين لم يصوموا، فإن كان هذا حجة فهم أسعد بها للقوة والكثرة، وإن لم يكن حجة فهذه المقدمة التي قدمها في مدحه لا دليل فيها على محل النّزاع كما هو ظاهر. ثم الخصم لا يسلم لكم أن أحمد قال بالوجوب، وليس معكم من الأدلة على ذلك دليل يجب التسليم له. وسيأتيك نقض أدلته، ومعارضتها دليلاً دليلاً. وقد ذكر عن أحمد في هذه المسألة سبع روايات، تأتيك إن شاء الله الجزء: 5 ¦ الصفحة: 287 مفصلة، كل رواية قال بها طائفة واحتجوا لها. وترجيح من قال بالوجوب ليس دليلاً على من قال بالجواز ورجحه، أو الإباحة ورجحها، أو التحريم ورجحه، ولا يحتج بقول على قول؛ والحجة في الدليل. ومع من منع صومه من الأحاديث النبوية، التي تعددت طرقها ما لا يدفعه دافع، ولا يقاومه مقاوم، ولا يعارضه معارض، وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل. ونبدأ أولاً بذكر الأحاديث النبوية، الواردة في خصوص هذه المسألة، ثم نأخذ في نقض أدلة الخصم مفصلة. فمنها: ما رواه البخاري في صحيحه عن أمير المؤمنين في الحديث، شعبة بن الحجاج، قال: حدثنا محمد بن زياد قال: سمعت أبا هريرة يقول: قال النبي صلى الله عليه وسلم، أو قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: " صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غمي عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين " 1، كذا رواه الإمام أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري في صحيحه، وكفى به حجة وهو صريح في إكمال شعبان ثلاثين، وهو غير قابل للتأويل بوجه، بل هو فاصل للنّزاع في المسألة. فأي عذر يبقى في ترك العمل بهذا بعد بلوغه؟ ومنها: ما رواه الإمام أحمد، وأبو داود، والدارقطني، من رواية الإمام الحافظ الثبت أبي سعيد عبد الرحمن بن مهدي، عن معاوية بن صالح عن عبد الله بن أبي قيس،   1 البخاري: الصوم (1909) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 288 عن عائشة قالت: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحفظ من هلال شعبان ما لا يتحفظ من غيره، ثم يصوم رمضان لرؤيته، فإن غم عليه عد ثلاثين يوماً ثم صام " 1. قلت: فهذا فعله صلى الله عليه وسلم والأول أمره، فثبت بهذا أنه ترك صيامه، وتركه سنة. قال الحافظ شمس الدين محمد بن عبد الهادي: هذا حديث صحيح صريح في المسألة لا يقبل التأويل أصلاً. انتهى. وقال الحافظ أبو الحسن الدارقطني: هذا إسناد صحيح، قال ابن عبد الهادي: كذا قال الحافظ أبو الحسن، وهو إمام عصره في علم الحديث، وهو مصيب في قوله؛ فإن هذا الإسناد رجاله كلهم ثقات مخرج لهم في الصحيح، ومعاوية بن صالح ثقة احتج به مسلم في صحيحه، ووثقه ابن مهدي والإمام أحمد، وأبو زرعة وغيرهم، قاله الحافظ شمس الدين ابن عبد الهادي. ومنها: ما رواه الإمام أحمد وأبو داود السجستاني، والترمذي والنسائي، وأبو يعلى الموصلي، وأبو القاسم الطبراني وابن خزيمة، وابن حبان في صحيحه وغيرهم من رواية عكرمة عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن حال بينكم وبينه غمامة أو ضبابة، فأكملوا شهر شعبان ثلاثين يوماً، ولا تستقبلوا رمضان بصوم يوم من شعبان "، هذا لفظ أبي داود الطيالسي؛ قال ابن عبد الهادي: وهذا الحديث صحيح، ورواته كلهم ثقات، مخرج لهم في الصحيح، قال الترمذي: هو حديث صحيح   1 أبو داود: الصوم (2325) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 289 حسن، وهو صريح في المسألة، قاطع للعذر، غير قابل للتأويل بوجه من الوجوه. وقد رواه الحافظ أبو بكر الخطيب، من رواية أبي قتيبة عن حازم بن إبراهيم البجلي عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس، ولفظه قال: " تمارى الناس في رؤية هلال رمضان، فقال: بعضهم: اليوم، وقال بعضهم غداً، فجاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر أنه قد رآه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله؟ قال: نعم، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بلالاً فنادى في الناس: صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فعدوا ثلاثين يوماً، ثم صوموا؛ ولا تصوموا يوماً قبله "، قال الحافط أبو بكر: وهذا أولى أن يؤخذ به من حديث ابن عمر، لما فيه من البيان الشافي، واللفظ الذي لا يحتمل التأويل. قلت: ففي هذا الحديث نهيه عن صومه نهياً صريحاً. ومنها: ما رواه أبو داود والنسائي، وأبو حاتم ابن حبان البستي، وأبو الحسن الدارقطني، من رواية الثقة الحجة جرير بن عبد الحميد عن منصور عن ربعي عن حذيفة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تقدموا الشهر حتى تروا الهلال أو تكملوا العدة قبله " 1، هذا لفظ الدارقطني؛ قال الحافظ ابن عبد الهادي: وهذا الحديث رواته كلهم مخرج لهم في الصحيحين، وهو صريح في عدم وجوب صوم الثلاثين من شعبان إذا غم الهلال، وفي لفظ رواه النسائي مرسلا " فإن غم فأتموا شعبان   1 النسائي: الصيام (2126, 2127, 2128) , وأبو داود: الصوم (2326) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 290 ثلاثين، إلا أن تروا الهلال قبل ذلك " 1. ومنها: ما رواه الإمام أحمد، والنسائي والدارقطني، من رواية حسين بن الحارث الجدلي، قال خطب عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب، في اليوم الذي يشك فيه، فقال: ألا إني جالست أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وسألتهم، ألا وإنهم حدثوني: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، وانسكوا لها، فإن غم عليكم فأتموا ثلاثين " 2. ومنها: ما رواه الإمام أحمد عن روح عن زكريا عن أبي الزبير، أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا رأيتم الهلال فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، فإن غم عليكم فعدوا ثلاثين يوماً " 3، وهذا إسناد صحيح. ومنها: ما رواه الحافط أبو بكر الخطيب، من رواية قيس بن طلق عن أبيه: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رجلاً سأله فقال: يا رسول الله، اليوم يصبح الناس، ويقول القائل: ليس هو من رمضان، فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا رأيتم الهلال فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، فإن غم عليكم فأتموا العدة ثلاثين "، وهذا الحديث وإن كان بعض رواته متكلماً فيه، فإنه يصلح للاعتضاد والاستشهاد بلا ريب، قاله الحافظ ابن عبد الهادي.   1 النسائي: الصيام (2128) . 2 النسائي: الصيام (2116) . 3 البخاري: الصوم (1909) , ومسلم: الصيام (1081) , والترمذي: الصوم (684) , والنسائي: الصيام (2117, 2118, 2119, 2123) , وابن ماجة: الصيام (1655) , وأحمد (2/259, 2/263, 2/281, 2/287, 2/415, 2/422, 2/430, 2/438, 2/454, 2/456, 2/469, 2/497) , والدارمي: الصوم (1685) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 291 ومنها: ما رواه أبو داود والنسائي، وابن ماجة والترمذي، من حديث ابن إسحاق عن صلة بن زفر، قال: " كنا عند عمار بن ياسر، فأتى بشاة مصلية، فقال: كلوا، فتنحى بعض القوم فقال: إني صائم، فقال عمار: من صام اليوم الذي يشك فيه فقد عصى أبا القاسم "، قال الحافظ ابن عبد الهادي: وقد روي من غير وجه مرفوعاً النهي عن صوم يوم الشك، وقد روي عن جماعة من الصحابة، رضي الله عنهم، أنهم نهوا عن صوم يوم الشك منهم حذيفة وابن عباس. وقد نص الإمام أحمد، رحمه الله في رواية المروذي، على أن يوم الثلاثين من شعبان إذا غم الهلال يوم شك؛ وهذا القول صحيح بلا ريب، فإن هذا اليوم يحتمل أن يكون من رمضان، ويحتمل أن يكون من شعبان، وهو الأصل. إذا عرفت هذا، فالمخالف ادعى وجوب صومه من رمضان، واحتج بأمور، منها: أنه زعم أنه مذهب الإمام أحمد، رحمه الله، ومنها: أنه زعم أنه قول عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب، وكاتب الوحي معاوية بن أبي سفيان، وعائشة أم المؤمنين، وأسماء بنت الصديق وابن العاص وأبي هريرة وأنس بن مالك. واحتج على أن عمر قال بوجوبه بما رواه العكبري: عن ثوبان عن أبيه عن مكحول، أن " عمر كان يصوم إذا كانت السماء مستغيمة ليلة الثلاثين من شعبان، ويقول: ليس هذا بالتقدم، ولكنه بالتحري ". واحتج لما نسبه إلى علي بما روى عن فاطمة بنت حسين أن " علياً كان يصومه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 292 ويقول: لأن أصوم يوماً من شعبان، أحب إلى أن أفطر يوماً من رمضان ". واحتج لما نسبه إلى معاوية بما روي عنه، من قوله: " لأن أصوم يوماً من شعبان أحب الي أن أفطر يوماً من رمضان "، واحتج لما نسبه إلى عمرو بن العاص، بما روي أنه كان يصوم اليوم الذي يشك فيه من رمضان إذا كانت غيماً، واحتج لدعواه على أبي هريرة بقوله: "لأن أتعجل في رمضان بيوم، أحب إلي من أن أتأخر، لأني إذا تعجلت لم يفتني، وإذا تأخرت فاتني "، واحتج لما نسبه إلى عائشة أم المؤمنين أنها كانت تصوم، وكذا عن أسماء أنها كانت تصوم اليوم الذي يشك فيه إذا كانت غيماً، ولما نسبه إلى ابن عمر بأنه كان يصومه، إذا حال دون منظره سحاب أو قتر. ثم قال أبو بكر الأثرم: سمعت أحمد بن حنبل يقول: إذا كان في السماء سحاب أو علة أصبح صائماً، قال: قلت لأبي عبد الله: فيعتد به؟ قال: كان ابن عمر يعتد به، فإذا أصبح عازماً على الصوم اعتد به ويجزيه، ثم ذكر كلاماً يحتج به على فضل بعض الصحابة، ثم ادعى أن يوم الشك إذا كانت السماء مصفية، ليس عليها غيم ولا علة، ثم زعم أن أحمد نص على وجوب صوم يوم القتر أو الغيم، وذكر أن الخلال، وأبا بكر عبد العزيز، نصا عليه، والقاضي أبو يعلى، والخرقي، والزركشي، وابن قدامة، حكى الوجوب رواية. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 293 ثم حكى رواية عن أحمد بعدم الوجوب والإجزاء، وأجاب عنه بأن النفي هنا إثبات في الرواية الأولى، فجعل النفي هو الإثبات، وذكر عبارة الإنصاف وقوله: إن حال دون المنظر غيم أو قتر ليلة الثلاثين، وجب الصيام بنية رمضان، وهو المذهب عند الأصحاب ونصروه، وصنفوا فيه التصانيف، وقالوا: نصوص أحمد تدل عليه. ثم ذكر كلام أبي العباس ابن تيمية، في عدم الوجوب، وقد تصرف في العبارة، وستأتيك على وضعها في الجواب، ثم نقل عن ابن مفلح في فروعه روايتين، الوجوب والجواز. ثم زعم أن كلام شيخ الإسلام دائر بين الاستحباب والإباحة، وساق كلاماً له في المسألة فيه تفصيل وحكاية للأقوال، ثم تعقبه بكلام يوسف بن عبد الهادي، صاحب جمع الجوامع، وليس هو الحافظ شمس الدين، واعترض فيه على الشيخ في قوله: لا أصل للوجوب في كلام أحمد، وزعم أنه من تجاهل العارف، واستدل بأن أحمد كان يصوم بنية رمضان، قال: ولا شك أنا إذا حكمنا بالصوم بنية رمضان، فالصوم حكمه حكم الصوم برؤية الهلال، قال: وكلام أحمد إن لم يكن فيه نص على الوجوب، فإن معناه الوجوب، قال: والنظر في المعاني لا إلى الألفاظ. ثم زعم المفتي أن ابن مفلح لم يرض كلام الإمام ابن تيمية، وأنه قال بعده: كذا قال، ثم جعل صاحب جمع الجوامع من أصحاب الشيخ، وأين هو من زمن الشيخ ووقته؟ فاشتبه عليه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 294 الأمر، ولم يميز بين هذا، وبين صاحب الشيخ الذي هو محمد بن أحمد. ثم ذكر عن أحمد، رحمه الله، كلاماً في آدم بن أبي إياس، وأنه انفرد بهذه اللفظة، يعني: أكملوا عدة شعبان ثلاثين، عن أصحاب شعبة، غندر وعبد الرحمن بن مهدي وابن عيسى، وابن يونس وشبابة وعاصم بن علي، والنضر بن شميل ويزيد بن هارون وابن داود. وذكر عن ابن الجوزي: أنه يجوز أن يكون هذا زيادة من آدم تفسيراً للحديث، وإلا فليس للزيادة وجه، ثم قال ابن الجوزي: فيحتمل رواية الجماعة في قوله: " فإن غم عليكم فعدوا ثلاثين " 1 على آخر الشهر أقرب المذكور، وطعن في رواية محمد بن زياد، بأن سعيد بن المسيب خالفه، فرواه عن أبي هريرة بلفظ: " فإن غم عليكم فصوموا ثلاثين " 2، وزعم أن هذه الرواية تبين المراد من الأحاديث، وأنه قد قيل: إن ذكر شعبان من تفسير ابن أبي إياس. ثم ذكر حديث ابن عمر: " إذا رأيتموه فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، فإن غم عليكم فاقدروا له " 3، وأن معنى اقدروا: ضيقوا، ويجوز أن يكون معناه: اعلموا، قال: وابن عمر راوي الحديث هو أعلم بمعناه، واحتج بقوله: " الشهر تسع وعشرون " 4 وأنه كالتوطئة لما بعده، قال: ولأن الصوم ثابت في ذمته بيقين، ولا يبرأ إلا بصوم ذلك. ثم ذكر كلاماً معناه ذم خصمه، وأنه يفتري على شيخ الإسلام، وأن ما قاله   1 الترمذي: الصوم (684) , وأحمد (2/438, 2/497) . 2 مسلم: الصيام (1081) , والترمذي: الصوم (684) , والنسائي: الصيام (2119) , وابن ماجة: الصيام (1655) , وأحمد (2/259, 2/263, 2/281) . 3 البخاري: الصوم (1900) , وأحمد (2/145) , والدارمي: الصوم (1684) . 4 البخاري: الصوم (1907) , وأبو داود: الصوم (2320) , ومالك: الصيام (634) , والدارمي: الصوم (1684) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 295 هو طريق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم ذكر شعراً له في مدح الإمام أحمد،، يستحي من ذكره عند أهل الفن، وأنه راج على أخدانه وأصحابه؛ ومناقشته فيه تطول، وليس تحتها كبير فائدة كقوله: أرى زماني يقتادني لبطاني ... يعفر مني بالجولاني فانظر ما في هذا البيت، وما تركنا أعجب منه، وهو فاسد المعنى، فإن التدبير والتقدير أخذ بالناصية، لا قود بالبطان، وفيه النسبة إلى الزمان، وفي الحديث: " لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر " 1، والجولان يطلق ويراد به جولان الذهن والفهم، وعدم ثباته واستقراره، ويراد به الحركة الحسية والتردد فيها. ثم لفظة "الجولان" فيها بحث يتعلق بالصحة والفساد، يعرف من كلامهم في أسماء المصادر. وقوله: أرى زماني يقتادني لبطاني، إن البطنة هي التي أوردته الموارد، وإنه يؤتى من جهتها، لأن اللام في قوله: لبطاني، للتعليل، وما أحسن ما قيل شعراً: وإنك مهما تؤت بطنك سؤله ... وفرجك نالا منتهى الذم أجمعا ثم أكثر بعد هذا من النظم والنثر، والتشكي من الجهل، لقلة العلم وتدريس الجهال، وأكثر من هذا الضرب بكلام ركيك، وأنهم دخلوا تحت قوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} [سورة التوبة آية: 31] .   1 مسلم: الألفاظ من الأدب وغيرها (2246) , وأحمد (2/395, 2/491, 2/499) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 296 والجواب من طريقين: مجمل ومفصل؛ أما المجمل: فالصحابة والتابعون وأئمة الإسلام، مجمعون على أن من استبانت له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فالواجب الأخذ بها، وترك ما سواها من أقوال أهل العلم، من الصحابة أو غيرهم؛ قال ابن عبد البر: أجمع من نحفظ عنه من أهل العلم، أن من استبانت له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس له أن يدعها لقول أحد كائناً من كان؛ قال هذا أو نحوه. وقال الشافعي: أجمع الناس على أن من استبانت له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد. وتقدم قول عمر بن عبد العزيز: " لا رأي لأحد مع سنة سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم "، وعن الشافعي أيضاً مثله. وقد نهى الأئمة، رضي الله عنهم، عن تقليدهم، وأمروا بالنظر والاحتياط للدين؛ قال المزني في أول مختصره: اختصرت هذا من علم الشافعي، مع إعلامه بنهيه عن تقليده وتقليد غيره. وقال الشافعي: إذا صح الحديث فهو مذهبي. وقال أحمد لأبي داود، لما سأله أن يقلد الأوزاعي أو مالك، قال: لا تقلد دينك أحداً، ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم فخذ به، ثم التابعين بعد، الرجل فيه مخير. وقال: لا تقلدني، ولا تقلد مالكاً، ولا الثوري، ولا الأوزاعي، وخذ من حيث أخذوا. وقال أبو يوسف: لا يحل لأحد أن يقول مقالتنا، حتى يعلم من أين قلنا. وصرح مالك بأن من ترك قول عمر بن الخطاب، لقول إبراهيم النخعي، أنه يستتاب؛ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 297 فكيف من ترك قول الله ورسوله، لقول من هو دون إبراهيم أو مثله؟ وقد أراد هارون الرشيد حمل الناس على الموطإ، فنهاه مالك، وقال: إن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تفرقوا في البلدان، فخاف أن يكون معهم من العلم ما لم يبلغه. وقال الشافعي: إذا صح الحديث فهو مذهبي. وسأله رجل عن حديث، فأخبره أنه قد ثبت، فقال: أتأخذ به يا أبا عبد الله؟ قال: أرأيت في وسطي زناراً؟ وهذا أدلته كثيرة، وأظن الخصم يسلمه، ومن لم يسلمه فكلام الأئمة فيه وفي تكفيره لا يخفى. وأما استدلاله بأن الصحابة، عمر، وعلي، ومن ذكر بعدهم، قد صاموه، فالجواب عنه: أن الحافظ شمس الدين بن عبد الهادي، قال: لم يثبت وجوب ذلك عن أحد من الصحابة، وأشهر ما في الباب ما نقل عن ابن عمر، وهو غير دال على الوجوب. وما نقل عن غيره، فهو إما غير ثابت عنه، وإما غير دال على الوجوب. فأما ما نقل عن عمر، فهو يروى عن مكحول، وبين مكحول وبينه مفازة طويلة؛ فهو منقطع، ولو ثبت فهو فعل ليس فيه أمر بالصوم. وما روي عن علي، فهو منقطع، وهو غير صريح في الوجوب، وفاطمة بنت حسين لم تدرك علياً. والمنقول عن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 298 معاوية منقطع أيضاً، فإنه من رواية مكحول، وابن حليس وأينهما من معاوية؟ وكذا ما يروى عن عمرو بن العاص منقطع، فإن ابن هبيرة لم يدرك عمرو بن العاص، وفي إسناده ابن لهيعة، وليس في ذلك دلالة على الوجوب، ولأنه مجرد فعل، والمروي عن أبي هريرة ليس فيه إلا الاحتياط وترجيحه. وما روي عن عائشة، قال أحمد في إسناده: أخطأ فيه شعبة، وعبد الله بن قيس، وليس فيه إلا استحباب الاحتياط، وكذا ما نقل عن أسماء. فقد عرف أن ما نقل عن الصحابة، بعضه لم يثبت، وما ثبت فليس فيه دلالة على الوجوب، ولو فرضنا ثبوت الوجوب، لم يكن فيه حجة مع مخالفة غيره، ومع مخالفة الأحاديث الصحيحة. وأما احتجاجه بأنه مذهب الإمام أحمد، فعن الإمام أحمد في هذه المسألة سبع روايات: إحداها: أنه يجب الصوم جزماً أنه من رمضان، وهذا لم يثبت عن الإمام أحمد، وهو من أضعف الأقوال في المسألة، أو أضعفها، قاله شمس الدين بن عبد الهادي. وقال شيخ الإسلام: لا أصل للوجوب في كلام أحمد، ومن تأمل نصوصه وكلامه عرف أنه لم يوجبه. والثانية: أنه يجب الصوم ظناً أنه من رمضان، وهذا لا دليل عليه. والثالثة: أنه يستحب الصوم احتياطاً، لاحتمال أن يكون من رمضان؛ وعلى هذا حمل فعل ابن عمر، وفعل الإمام أحمد، وقد قيل: إن هذا القول هو المشهور عن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 299 أحمد، وهو مذهبه. الرابعة: أنه يجوز الصوم. والخامسة: يكره. والسادسة: يحرم ولا يجوز، كقول الجمهور; قال الشافعي: لا يجوز صيامه من رمضان ولا نفلاً، بل يجوز صيامه نذراً وكفارة، ونفلاً يوافق عادة. وقال أبو حنيفة، ومالك: لا يجوز صيامه من رمضان، ويجوز صيامه مما سوى ذلك. والرواية السابعة: أنه يرجع إلى رأي الإمام في الصوم والفطر، كما هو قول الحسن وابن سيرين؛ قال حنبل بن إسحاق: سمعت أبا عبد الله يقول: لا أرى صيام يوم الشك إلا مع الإمام والناس، قال حنبل: سألوا ابن عمر، فقالوا: نسبق قبل رمضان حتى لا يفوتنا منه شيء، فقال: " أف، أف، صوموا مع الجماعة ". إذا عرفت هذا، وأن كل رواية عليها طائفة من أكابر الحنابلة، فحينئذ يعرف بطلان قوله: قال الخلال، قال أبو بكر عبد العزيز، قال القاضي، قال الخرقي، قال الزركشي؛ وهؤلاء تقابل أقوالهم بأقوال أمثالهم، وإذا احتج من خالفهم بجمهور الأمة والأئمة، صار له الحظ من القوة والصولة، وإذا قابلت بين أقوال جمهور الصحابة، وبين أقوال الموجبين للصيام، تبين لك الفرق، وإن جئتهم من أعلى واحتججت بما سبق من الأحاديث، بطل قولهم من أصله، وتهدمت أركانه، وإن كثر عددهم. وقد اعترض صاحب الفروع ابن مفلح، رحمه الله، القول الجزء: 5 ¦ الصفحة: 300 بالوجوب، ونسبته إلى أحمد، ونص كلامه: وإن حال دون مطلعه غيم أو قتر أو غيرهما، وجب صومه بنية رمضان؛ اختاره الأصحاب، وذكروه ظاهر المذهب، وأن نصوص أحمد تدل عليه. ثم قال بعد هذا: كذا قالوا، ولم أجد عن أحمد أنه صرح بالوجوب، ولا أمر به، فلا يتوجه إضافته إليه; ولهذا قال شيخنا: لا أصل للوجوب في كلام أحمد، ولا في كلام أحد من الأصحاب، واحتج الأصحاب بحديث ابن عمر وفعله، وليس بظاهر في الوجوب، وإنما هو احتياط قد عورض بنهي. واحتجوا بأقيسة تدل على أن العبادة يحتاط لها، واستشهدوا بمسائل، وإنما هي تدل على الاحتياط فيما ثبت وجوبه، أو كان الأصل، كثلاثين من رمضان; وفي مسألتنا لم يثبت الوجوب، والأصل بقاء الشهر، وما ذكروه من أن الشك في مدة المسح يمنع المسح، إنما كان لأن الأصل الغسل، فمع الشك يعمل به، ويأتي هل يتسحر مع الشك في طلوع الفجر؟ إلى آخر العبارة. وما ذكره عن شيخ الإسلام من أنه يرى الجواز والإباحة، فنعم، قال هذا، ولكن رد على من قال بالوجوب، ونسبه إلى الإمام أحمد; وقال ابن اللحام في الاختيارات: كان الشيخ يميل آخراً إلى القول بالكراهة، للأحاديث الواردة في ذلك. انتهى; فهذا كلام شيخ الإسلام، وكلام ابن مفلح، الذي شهد له العدل الزكي الإمام الورع شمس الدين ابن قيم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 301 الجوزية، أنه ما تحت أديم السماء من هو أعلم منه بمذهب أحمد. وقال العلامة ابن القيم، في أثناء كلام له في هذه المسألة: وكان إذا حال دون منظره ليلة الثلاثين غيم أو سحاب، أكمل عدة شعبان ثلاثين يوماً، ولم يصم يوم الإغماء، ولا أمر به، بل أمر أن يكمل عدة شعبان ثلاثين إذا غم، وكان يفعل كذلك؛ فهذا فعله وأمره، ولا يناقض هذا قوله: " فإن غم عليكم، فاقدروا له " 1، فإن القدر هو الحساب المقدور، والمراد به إكمال عدة الشهر الذي غم، كما في البخاري: " فأكملوا عدة شعبان " 2. انتهى. وأمثل ما احتج به من قال بالوجوب، قوله في حديث ابن عمر:"فاقدروا له " فاستدلوا على الوجوب، بأن حملوا هذه اللفظة في الحديث على التضييق، وقالوا: معناها: ضيقوا له عدداً يطلع في مثله، وذلك يكون لتسع وعشرين، ومن هذا قوله تعالى: {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} [سورة الطلاق آية: 7] أي: ضيق عليه. والجواب عنه على ما ذكره العلامة ابن القيم، والحافظ ابن عبد الهادي، وغيرهم من الحنابلة القائلين بعدم الوجوب، والجمهور، أن يقال: ليس في الحديث دليل على وجوب الصوم أصلاً، بل هو حجة على عدم الوجوب، فإن معنى " اقدروا له ": احسبوا له قدره، وذلك ثلاثون يوماً، فهو من قدر الشيء، وهو مبلغ كميته، وليس من التضييق في شيء،   1 البخاري: الصوم (1900) , ومسلم: الصيام (1080) , والنسائي: الصيام (2120, 2121, 2122) , وأحمد (2/5, 2/13, 2/63, 2/145) , ومالك: الصيام (633, 634) , والدارمي: الصوم (1684) . 2 البخاري: الصوم (1909) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 302 قال بعضهم في الآية: ليس المعنى بقوله: {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} [سورة الطلاق آية: 7] التضييق، بل معناه: أن يكون رزقه بقدر كفايته، لا يفضل منه شيء، والله تعالى يرزق العبد ما يسعه، ويرزقه ما يفضل عنه؛ فالأول هو الذي قدر عليه رزقه، أي بقدر كفايته، والثاني هو الغني الموسع عليه. وإن قيل: بأن معناه التضييق، فلا يتعين النقص، فإن التضييق لازم لمعنى التقدير، بمعنى أنه لا يزاد ولا ينقص عما قدر له، فيكون التضييق عدم دخول غير ما قدر، فإذا جعل الشهر ثلاثين، فقد قدر له لا يدخل فيه غيره; وهذا هو التضييق. انتهى. وهذا يتعين القول به، لما روى مسلم من حديث ابن عمر: " فإن أغمي عليكم، فاقدروا ثلاثين " 1، وما رواه البخاري من حديث ابن عمر أيضاً: " الشهر تسع وعشرون ليلة، فلا تصوموا حتى تروه، فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين " 2. فتعين ما قاله الجمهور، لأن المجمل يحمل على المفصل، والمشتبه على المحكم؛ وإذا تبين مراده صلى الله عليه وسلم تعين ووجب، وهو موافق لحديث أبي هريرة المتقدم، لا يقال إن شعبان غير مراد، ولأنه قد نص عليه فيما تقدم من الأحاديث، ولأن اللام في قوله: " فأكملوا العدة " في رواية البخاري للعهد، أي عدة الشهر، ولم يتقدم رمضان ذكر يوجب أن تتعين إرادته، ولم يخص النبي صلى الله عليه وسلم شهراً دون شهر للإكمال إذا غم، فلا فرق بين شعبان أو غيره، إذ لو كان شعبان غير مراد   1 البخاري: الصوم (1900, 1906, 1907, 1908, 1913) والطلاق (5302) , ومسلم: الصيام (1080) , والنسائي: الصيام (2120, 2121, 2122, 2139, 2140, 2141, 2142, 2143) , وأبو داود: الصوم (2319, 2320) , وابن ماجة: الصيام (1654) , وأحمد (2/5, 2/13, 2/28, 2/31, 2/40, 2/43, 2/44, 2/52, 2/56, 2/63, 2/75, 2/77, 2/81, 2/122, 2/125, 2/129, 2/145) , ومالك: الصيام (633, 634) , والدارمي: الصوم (1684) . 2 البخاري: الصوم (1907) , وأبو داود: الصوم (2320) , ومالك: الصيام (634) , والدارمي: الصوم (1684) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 303 بينه، وذكر الإكمال عقب قوله: صوموا وأفطروا، فشعبان وغيره مراد من هذا، فرواية من روى: " فأكملوا عدة شعبان " 1 موافقة لرواية من قال: " فأكملوا العدة " 2، بل هي مبينة لها. ويشهد لهذا بعض ألفاظ حديث ابن عباس: " فإن حال بينكم وبينه سحاب، فأكملوا العدة ثلاثين، ولا تستقبلوا الشهر استقبالاً " 3، وهذا صريح أن التكميل لشعبان، كما هو لرمضان. وقد روى الإمام أحمد، رحمه الله، عن وكيع عن سفيان عن عبد العزيز بن حكيم الحضرمي، قال: " سمعت ابن عمر يقول: لو صمت السنة كلها لأفطرت اليوم الذي يشك فيه "؛ وقد تقدم: أن الإمام أحمد نص في رواية المروذي، على أن يوم الثلاثين من شعبان، إذا غم الهلال، يوم شك. وأجاب أيضاً: وأما مسألة السنة لمن صام يوم الثلاثين من شعبان، إذا حال ليلة الثلاثين دون الهلال غيم أو قتر، فالقائلون بصومه وجوباً، أو استحباباً، يجزيه عندهم إذا نواه من رمضان. والصحيح الذي عليه المحققون: أنه لا يجب صومه ولا يؤمر به، ومن صامه من السلف لم يوجبه، والحجة لمن منع صومه مطلقا، ما في صحيح البخاري، أنه قال صلى الله عليه وسلم: " صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يوماً ". انتهى. وليس لأحد بلغته سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وصح عنده الحديث، أن يعدل إلى غيره لرأي أحد من الناس كائناً من كان. انتهى.   1 البخاري: الصوم (1909) . 2 البخاري: الصوم (1907) . 3 النسائي: الصيام (2129) , وأحمد (1/226) , والدارمي: الصوم (1683) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 304 قال الشيخ سليمان بن سحمان: وقرر - يعني الشيخ عبد اللطيف - في مسألة صيام يوم الشك: ما عليه المحققون، وما تضمنته الأحاديث الصحيحة، بخلاف ما اعتمده المقلدون، وأن من صامه من السلف لم يوجبه، ولم يأمر الناس، ولم يوقع بمن تركه العقوبات، كما فعله أهل الجهل والإفلاس؛ فإنهم في هذه الأزمان يوجبونه، ويأمرون الناس بالتزامه، ومنهم من ضرب وأجلى من نهى عن صيامه، فيا ليت شعري، أين وجدوا ذلك؟! وأي الكتب اعتمده أولئك؟! نعم قد وجدوا في بعض الروايات، الوجوب عن الأصحاب، فأين وجدوا الضرب والجلاء والسباب؟! وإذا قيل لأحدهم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: المذهب كذا، وبه قال الإمام المعظم، فليت شعري، كيف ساغ لهم تقليده، رحمه الله، في هذه وغيرها من المسائل؟! ولم يسغ لهم تقليده في قوله: عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته، يذهبون إلى رأي سفيان، والله تعالى يقول: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [سورة النور آية: 63] أتدري ما الفتنة؟ الفتنة: الشرك؛ لعله إذا رد بعض قوله، أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك. إذا عرفت هذا، فقد صح الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، كما رواه البخاري في صحيحه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يوماً " 1؛ والمقصود من هذا الكلام: إنكار إيقاع بعضهم   1 الترمذي: الصوم (688) , والنسائي: الصيام (2124) , وأبو داود: الصوم (2327) , وأحمد (1/221, 1/226, 1/258, 1/306, 1/367) , ومالك: الصيام (635) , والدارمي: الصوم (1683, 1686) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 305 بمن نهى عن صيامه أنواع العقوبات، وردهم أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لبعض هذه الروايات. انتهى. سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عن اختلاف الأهلة بالكبر ... إلخ؟ فأجاب: وأما اختلاف الأهلة بالكبر والصغر، وارتفاع المنازل وانخفاضها، فلا حكم له، لأن ذلك يختلف اختلافاً كثيراً. وكتب الشيخ حمد بن عبد العزيز للشيخ عبد الله بن فيصل: أشكل على بعض الإخوان كبر الهلال، قال: فكاتبنا الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف، وهذا جوابه تشرف عليه، لما فيه من الكفاية. قال: وتذكر أنه حصل إشكال في الهلال لارتفاع منْزلته، وأنت فاهم حفظك الله غربة الإسلام، وما حصل من غالب الخلق، وما وقع في أنفسهم من الحرج عند الوقوف على الأمر والنهي، والعبادات مبناها على الاتباع، والمشرع الرسول صلى الله عليه وسلم؛ ومن أراد الاحتياط لنفسه في أمر العبادات، بأمر لم يحتط به الرسول، ولم يحكم به، فلازم اعتقاده وفعله ومقاله: نقص البلاغ من المشرع، وهذه مصيبة عظمى، وداهية كبرى. علق رسول الله صلى الله عليه وسلم الصوم والفطر بالرؤية أمراً الجزء: 5 ¦ الصفحة: 306 ونهياً، لا على المنازل وكبر الأهلة، قال صلى الله عليه وسلم في الأمر: " صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته " 1، وقال في النهي:" لا تصوموا حتى تروه، ولا تفطروا حتى تروه " 2. فالله المستعان. وقد ابتلينا بمن بنى أمره على التلبيس والتشويش، والمخالفة أصلاً وفرعاً، حتى حكموا بالصوم بارتفاع المنْزلة، وأوجبوا ذلك على الناس، وهم قد دخلوا في العبادة بصيام شك؛ فالزم السنة واصبر نفسك، {وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ} [سورة الروم آية: 60] . [رؤية الهلال] سئل بعضهم: ما قولكم، رحمكم الله، إذا رأى الهلال أهل بادية وأهل بلدة أخرى، هل يلزم من لم يره الصيام؟ وما الدليل على ذلك؟ والمحتج بحديث كريب بأن الصيام على من لم يره، مصيب أم لا؟ أفتونا، أثابكم الله. الجواب: الحمد لله الموفق للهدى الملهم للصواب، فقولنا، معشر المسلمين: أن الهلال إذا رآه أهل بادية، ولو رجلاً واحداً، أو أهل بلدة، ولم يره أهل البلدة الأخرى، لزم الجميع الصيام؛ ومن أفطر لزمه القضاء. والدليل على ذلك: هدي نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وفعله: روى سماك عن عكرمة عن ابن عباس، قال: " تمارى الناس في رؤية هلال رمضان، فقال بعضهم: اليوم، وقال بعضهم: غداً، فجاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر أنه رأى الهلال،   1 الترمذي: الصوم (688) , والنسائي: الصيام (2124) , وأبو داود: الصوم (2327) , وأحمد (1/221, 1/226, 1/258, 1/306, 1/367) , ومالك: الصيام (635) , والدارمي: الصوم (1683, 1686) . 2 البخاري: الصوم (1907) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 307 فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أتشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله؟ قال: نعم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: يا بلال أذن في الناس، فليصوموا غداً " 1، رواه الخمسة. وعن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته 2. وعن الحارث بن حاطب، قال: " عهد إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ننسك لرؤيته ". والأحاديث في هذا الباب صريحة: أنه إذا لم ير الهلال إلا رجل واحد، لزم الناس الصوم، وقوله صلى الله عليه وسلم: " صوموا لرؤيته " 3 هذا أمر صريح لجميع الناس بالصوم، لأن الواو في قوله: " صوموا " ضمير الجميع، وقد رئي؛ ولا يعارض قوله وفعله صلى الله عليه وسلم إلا مكابر معاند، مجترئ على هتك حرمات الله، أسأل الله العافية. والمحتج بحديث كريب، ليته استتر بسكوته، فحديث كريب ليس فيه حجة على أن أهل الناحية الواحدة، والقطر الواحد، إذا رآه بعضهم فلا يلزم الآخرين الصوم، ما أدري من أين له الدلالة على ذلك؟ ولكن مَن ادعى ما ليس فيه كذبته شهود الامتحان. وهذا القول ما يخرج من إنسان اطلع على أحكام الشريعة، وفهم معانيها؛ فودي أنه يتوب إلى الله تعالى، من مكاذبة النفس والهوى، فإن النفس أمارة بالسوء إلا ما رحم ربي، والهوى يضل عن سبيل الله، ويهوي بصاحبه إلى النار. فنقول: أما حديث كريب: " لما قدم من الشام إلى   1 الترمذي: الصوم (691) , والنسائي: الصيام (2113) , وأبو داود: الصوم (2340) , وابن ماجة: الصيام (1652) , والدارمي: الصوم (1692) . 2 الترمذي: الصوم (688) , والنسائي: الصيام (2124) , وأبو داود: الصوم (2327) , وأحمد (1/221, 1/226, 1/258, 1/306, 1/367) , ومالك: الصيام (635) , والدارمي: الصوم (1683, 1686) . 3 الترمذي: الصوم (688) , والنسائي: الصيام (2124) , وأبو داود: الصوم (2327) , وأحمد (1/221, 1/226, 1/258, 1/306, 1/367) , ومالك: الصيام (635) , والدارمي: الصوم (1683, 1686) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 308 المدينة، سأله ابن عباس، وأخبره: أنا رأينا الهلال ليلة الجمعة، وصام الناس. وقال ابن عباس: نحن رأيناه ليلة السبت، فما نزال نصوم حتى نراه، أو نكمل العدة ". هذا المعترض، من أين فهم الدلالة على عدم وجوب الصوم على قوم رأى الهلال بعضهم؟! وإنما الخلاف بين العلماء في الأقطار المتباينة، كالشام، والحجاز، والعراق، واليمن، إذا تباينت مطالعها: فبعض العلماء يقولون: لأهل كل قطر حكم، فإن المطالع تختلف باتفاق أهل المعرفة، وأرباب الهيئة. لكن الاختلاف ينبني على قولين: الهلال هو: اسم لما يظهر في السماء وإن لم يره الناس، أو لا يسمى هلالاً حتى يستهل ويظهر بين الناس، على قولين في مذهب الإمام أحمد وغيره؛ ذكر ذلك تقي الدين ابن تيمية، قدس الله روحه. فأما من قال: هو اسم لما يظهر في السماء، يحكم بوجوب الصوم على أهل الدنيا، الذين يبلغهم ذلك بشهادة رجل واحد. وأما من قال: هو اسم لما يستهل ويعلمه الناس، يقول بوجوب الصوم على أهل تلك الناحية، والفطر كلهم، وعلى من اتحد مطلعهم، كمكة ونجد وعمان؛ والكلام على هذا يطول ونحن أعجل من ذلك. وأما قول القائل: لأهل كل بلد رؤيتهم، فهذا كلام غير الجزء: 5 ¦ الصفحة: 309 صحيح، ولا عليه عمل، ولا رأيناه في كتب الحديث؛ أفلا يتقي الله هذا المعارض لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم وفعله بقول كريب، فأي دلالة في حديث كريب؟! لكن نقول: من لم ينفعه علمه ضره جهله. سئل الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين، رحمه الله: عن قراءة آيات الصيام، أول ليلة من رمضان في العشاء؟ فأجاب: لا أعلم لهذا أصلاً، وإنما استحب أحمد في رواية عنه: قراءة سورة القلم في العشاء الآخرة أول ليلة من رمضان، واستحبه الشيخ تقي الدين; وأما قراءة آخر سورة المائدة، فلا علمنا أحداً استحبه. وسئل: عن إخبار مخبر، أن أهل بلد رأوا هلال شوال، وعيدوا؟ فأجاب: أما إخبار مخبر أن أهل البلاد الفلانية أفطروا يوم كذا، فلا بد من شهادة اثنين; وهذا فيه تفصيل: إن كان البلد فيه قاض، فأخبر رجلان أن أهل البلد أفطروا كلهم وعيدوا، فالذي نرى الاعتماد على مثل هذا. وان كان البلد ليس فيه قاض، ولا يدرى عن سبب فطرهم، فلا أرى الاعتماد على فعلهم. وسئل: عن كتاب الحكم برؤية الهلال؟ فأجاب: الذي يظهر لي العمل به، والاعتماد عليه في الجزء: 5 ¦ الصفحة: 310 ذلك، لأن الفقهاء ذكروا أنه إذا رئي هلال رمضان بمكان، لزم جميع الناس الصوم؛ وإنما يثبت ذلك غالباً في حق غير أهل موضع الرؤية، بإخبار الثقات فرعاً عن الأصل، وخطوط القضاة؛ بل أهل موضع الرؤية ليسوا كلهم يأتون إلى الشاهد برؤية الهلال ليسمعوا شهادته، بل يعتمدون على إخبار بعضهم بعضاً عن الشاهد، كشهادة الفرع على الأصل؛ فإذا تقرر قبول خبر الفرع أو شهادته في ذلك، فكذلك كتاب القاضي، لأن الفقهاء ذكروا أنه لا تقبل الشهادة على الشهادة، إلا فيما يقبل فيه كتاب القاضي إلى القاضي، وأن كتاب القاضي حكمه كالشهادة على الشهادة. وكلامه في الكافي صريح في قبول الشهادة على الشهادة في ذلك، لما ذكر وجهين في قبول قول المرأة في هلال رمضان، قال في تعليل الوجه الثاني: ولهذا يقبل فيه شهادة الفرع، مع إمكان شاهد الأصل؛ فدل كلامه على قبول شهادة الفرع مع الإمكان، ونظّره صاحب الفروع، بقوله: كذا قال. والذي يظهر لي: أن تنظيره إنما هو لاعتباره لقبول شهادة الفرع، مع عدم إمكان شاهد الأصل، وكما قدمنا: أن المسلمين يعتمدون على ذلك مع الإمكان وعدمه، ولعلك وقفت على قول شارح الإقناع: عند قول الماتن في حكم كتاب القاضي: لا يقبل في حد لله تعالى، كزنى ونحوه، قال الشارح: وكالعبادات، ووجه ذلك: أنه لا مدخل لحكمه في عبادة، فكذا كتابه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 311 قال الشيخ تقي الدين: أمور الدين والعبادات المشتركة، لا يحكم فيها إلا الله تعالى، ورسوله صلى الله عليه وسلم إجماعاً، قال في الفروع عقيبه: فدل على أن إثبات سبب الحكم، كرؤية الهلال، والزوال، ليس بحكم ... إلخ، فدل ذلك: أن كتاب القاضي بإثبات رؤية الهلال، ليس حكماً في عبادة، ولا إثباتاً لها، وإنما هو لإثبات سببها، فلا ينافي كونه لا يقبل في عبادة، وكونه لا يحكم فيها؛ وقد صرحوا بأنه لا مدخل لحكمه في عبادة ووقت، وإنما هو فتوى، فدل كلامهم على أن إثباته لرؤية الهلال مثلاً فتوى، والفتوى يعمل فيها بالخط، وإن كان كتابه: شهد عندي فلان وفلان مثلاً، برؤية الهلال، ففرع على الأصل، لا فتوى. وأفتى أيضاً، رحمه الله: هلال رمضان شهد على رؤيته رجلان من أهل الرس، شهدا برؤيته ليلة الجمعة، وجماعتهما يزكونهما، ونحن نعمل بشهادتهما عند ظهوره، إن شاء الله تعالى. وقال الشيخ محمد بن الشيخ إبراهيم بن الشيخ عبد اللطيف: وما جرى من البحث في مسألة الهلال، راجعت كلام بعض العلماء، وأحببت نقله لك، والمذاكرة معك. فقال في المغني: فصل: وإذا صاموا بشهادة اثنين ثلاثين يوماً ولم يروا هلال شوال، أفطروا وجهاً واحداً. انتهى. وذكر مثله في الشرح الكبير، وزاد: لأن الشهر لا يزيد على ثلاثين، ولحديث عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب.، انتهى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 312 فأطلقا ولم يقيداه بالغيم، فظهر عدم الفرق; وحديث عبد الرحمن بن زيد الذي أشار إليه الشارح، هو قوله صلى الله عليه وسلم: " إذا شهد شاهدان ذوا عدل، فصوموا وأفطروا " 1. [الصيام بشهادة الشهود] وقال في الفروع: فصل: ومن صام بشاهدين ثلاثين يوماً، ولم يره إذاً أحد، أفطر، وقيل: لا، مع صحوه; واختاره في المستوعب، وأبو محمد الجوزي، لأن عدم الهلال يقين، فيقدم على الظن، وهي الشهادة. انتهى. وبعد حكاية صاحب التصحيح ما تقدم في الفروع، وذكر الخلاف فيما إذا صاموا بشهادة واحد، وأن عدم الإفطار حينئذ هو أحد الوجهين، قال: وظاهر كلامه في الحاويين، أن على هذا الأصحاب، فإنه قال فيهما: ومن صام بشهادة اثنين ثلاثين يوماً، ولم يره مع الغيم، أفطر، ومع الصحو يصوم الحادي والثلاثين؛ هذا هو الصحيح. وقال أصحابنا: له الفطر بعد إكمال الثلاثين، صحواً كان أو غيماً. انتهى. فقد ظهر: أن قول الأصحاب هو: الفطر فيها، إذا صاموا بشهادة اثنين ثلاثين يوماً فلم ير الهلال، سواء كان صحواً أو غيماً، خلافاً لأبي محمد الجوزي، وخلافاً لتصحيح صاحب الحاويين; وقدمه في الفروع أيضاً، كما تقدم، وذكر بعده الصيام مع الصحو، بصيغة التمريض. وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله، في مختصر الشرح: وإن صاموا بشهادة اثنين ثلاثين فلم يروه،   1 النسائي: الصيام (2116) , وأحمد (4/321) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 313 أفطروا، لحديث عبد الرحمن بن زيد; وإن صاموا بشهادة واحد، فعلى وجهين: أحدهما: لا يفطرون، لحديث عبد الرحمن. انتهى. فأطلق ولم يقيده بالغيم; وقال في المحرر للمجد: وإذا صاموا بشهادة واحد ثلاثين يوماً فلم يروا الهلال، لم يفطروا، كالصوم بالغيم، وقيل: يفطرون كالصوم بقول عدلين. انتهى. فذكر الخلاف في الفطر برؤية الواحد، ولم يذكر خلافاً في الفطر برؤية اثنين، ولم يفرق بين الصحو والغيم. وقال في شرح العمدة: مسألة: وإذا صاموا بشهادة اثنين ثلاثين يوماً أفطروا، لحديث عبد الرحمن بن زيد. انتهى. فأطلق ولم يقيده بالغيم. واستقصاء عبارات الأصحاب في ذلك يصعب، ولا أعلم لأئمة هذه الدعوة شيئاً يخالف ذلك؛ بل الذي يظهر موافقتهم في ذلك; قال الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين، رحمه الله: هلال رمضان شهد على رؤيته رجلان من أهل الرس، شهدا برؤيته ليلة الجمعة، وجماعتهما يزكونهما، ونحن نعمل بشهادتهما عند ظهوره إن شاء الله. انتهى. وإن وجدت ما يخالف ذلك عمن ذكرنا أو غيرهم فاذكره، لأن القصد من المذاكرة معرفة الحكم للجميع. وكلام شيخ الإسلام في هذه المسألة مثل كلام الأصحاب، إلا أنه أوضح وأجلى وأشمل، فلأجل وضوحه وشموله إكمال شعبان، وإكمال رمضان، أسوقه. قال، رحمه الله، في شرح العمدة: أما إذا صاموا بشهادة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 314 اثنين، ثم أكملوا العدة ولم يروا الهلال، أفطروا، لأن أكثر ما فيه الفطر بمضمون شهادة اثنين، وذلك جائز، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: " فإن شهد شاهدان مسلمان، فصوموا وأفطروا " 1 يقتضي ذلك؛ ولا يقال قد تبين غلطهما، لأن هلال التمام لا يخفى على الجميع، لأنه لو شهد اثنان أنهما رأياه وهو هلال تمام قبل، فكذلك إذا تضمنت شهادتهما طلوعه. وأما إذا صاموا لإغمام الهلال، لم يفطروا، إذا صاموا ثلاثين يوماً حتى يروا الهلال بأن يشهد به شاهدان، أو يكملوا عدة شعبان ورمضان ثلاثين ثلاثين، قولاً واحداً، لما تقدم من الحديث والأثر. انتهى كلام الشيخ، رحمه الله تعالى. سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عن شهادة الأعراب؟ فأجاب: وأما قبول شهادة الأعراب بالهلال، فحكمهم حكم الحضر، لا يحكم بشهادة مجهول الحال. والأعرابي الذي عمل النبي صلى الله عليه وسلم بشهادته، يحتمل أنه يعرف حاله. والعلماء لم يفرقوا في هذه المسألة بين الحاضرة والبادية. وسئل: عن هلال شوال، إذا شهد به شاهدان ... إلخ؟ فأجاب: أما مسألة الرؤية لهلال شوال، إذا شهد به شاهدان، ولم يشهدا عند الحاكم، أو شهدا عنده فلم يحكم بشهادتهما، فهل لهما ولمن عرف عدالتهما الفطر، أم لا؟ أما إذا انفرد واحد بالرؤية، فنص أحمد: أنه لا يفطر; وهو قول   1 النسائي: الصيام (2116) , وأحمد (4/321) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 315 مالك، وأبي حنيفة، وهو مروي عن عمر وعائشة، لحديث: " صومكم يوم تصومون، وفطركم يوم تفطرون " 1. وقيل: يفطر سراً، وهو قول الشافعي؛ قال المجد: ولا يجوز إظهاره بالإجماع. وكذلك الحكم إذا رآه عدلان، ولم يشهدا عند الحاكم، أو شهدا عنده ورُدت شهادتهما، لجهله بحالهما، فالمذهب: أنه لا يجوز لهما، ولا لمن عرف عدالتهما الفطر، للحديث السابق، ولما فيه من تشتيت الكلمة، وجعل مرتبة الحكم لكل أحد؛ وهذا القول اختيار الشيخ تقي الدين. واختار الموفق: أنه يجوز له الفطر، لحديث: " وإن شهد شاهدان، فصوموا وأفطروا " 2، رواه أحمد وغيره. وأجاب أيضاً: ومن رأى هلال شوال وحده بيقين، فالمشهور في مذهب أحمد أنه لا يفطر، وهو قول مالك وأبي حنيفة. وقيل: يفطر، وهو قول الشافعي، وقاله بعض أصحاب أحمد، واستحسنه في الإقناع. وأما إظهار الفطر والحالة هذه، فلا يجوز، حكاه بعضهم إجماعاً. وأجاب أيضاً: ولو انفرد رجل برؤية هلال شوال، لم يجز لغيره الفطر بشهادته، لا أهله ولا غيرهم، عند من لا يجوز له الفطر. وسئل: عن حديث: " صومكم يوم تصومون، وفطركم يوم تفطرون " 3   1 الترمذي: الصوم (697) , وأبو داود: الصوم (2324) , وابن ماجة: الصيام (1660) . 2 النسائي: الصيام (2116) , وأحمد (4/321) . 3 الترمذي: الصوم (697) , وأبو داود: الصوم (2324) , وابن ماجة: الصيام (1660) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 316 فأجاب: استدل به من يقول: إنه لو رأى هلال شوال وحده، لم يفطر إلا مع الناس، وهو قول الأكثر. وقيل: يفطر سراً، وهو قول طائفة من العلماء. وأما إذا رأى هلال رمضان، ورُدت شهادته، لزمه الصوم عند الأربعة. وعن أحمد رواية: لا يلزمه الصوم، اختاره الشيخ تقي الدين للحديث. سئل الشيخ حمد بن عبد العزيز: إذا رئي الهلال في بلد ... إلخ؟ فأجاب: وأما الهلال إذا ثبت أنه رئي في بعض بلاد المسلمين، عند مفت يعمل بما أثبت، لزم صيام الغرة 1. وأما بعض النواحي التي ظاهر فيها الكفر، فلا يعمل بها. [متى يؤمر الصبي بالصيام] سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: عن المميز، متى يؤمر بالصيام؟ فأجاب: أما الصبي الذي لم يبلغ، فهو إذا أطاق الصيام أمر به، وأدب عليه، أي على تركه. وسئل الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن: متى يجب على الصبي الصوم؟ فأجاب: العبادات كلها لا تجب إلا بعد البلوغ، وأما ولي الصغير فيجب عليه أمره، وتدريبه على العبادات إذا ميز وعقلها، ليعتادها، ويألف الخير.   1 الغرة: أول يوم من الشهر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 317 [نزول دم الحيض قبل الغروب] سئل الشيخ حمد بن عتيق: عن المرأة إذا رأت الدم قبل غروب الشمس، هل تعتد بصومها؟ فأجاب: صومها ذلك اليوم غير تام. [صيام رمضان في السفر] سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب، أجزل الله لهما الأجر والثواب: عن صيام رمضان في السفر، مع إقامة المسافر في الجهاد بإزاء العدو؟ فإنه ربما حصلت المشقة بالصيام، مع الإقامة في شدة الحر، والمشي في الشمس، فهل ترى جواز الصيام؟ وعلى القول بالجواز، هل يجب إذا كنا مجمعين على إقامة مدة غير معلومة؟ وعلى القول بعدم الوجوب، فهل ترى استحبابه، أم الجواز فقط؟ فإن كان في المسألة آثار عن السلف، وما يستدل به من حديث، فأفيدونا به، شكر الله سعيكم. فأجاب: الحمد لله رب العالمين. أما المسألة الأولى، وهي: هل يجوز الصيام في سفر الجهاد، مع الإقامة في بلد أو مكان، مدة غير معلومة المقدار، مع وجود مشقة الصيام، لا سيما في شدة الحر والمشي في الشمس؟ فيجوز الفطر والحالة هذه، والدليل على ذلك: الكتاب، والسنة، والإجماع: أما الكتاب: فقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} إلى قوله: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [سورة البقرة آية: 183-184] . فهذا نص صريح لا يحتمل التأويل: أن المريض والمسافر يفطران في رمضان، ويقضيان عدة ما أفطرا من أيام أخر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 318 وقد ذكر المفسرون: أن هذه الآية الكريمة، أول ما نزل في فرض الصيام، ففرض الله فيه على المؤمنين الصيام، كما فرضه على من قبلهم، وبين أن ذلك أياماً معدودات، تسهيلاً على المؤمنين، بأن هذه الأيام يحصرها العد، ليست بالكثير التي تفوت العد؛ ولهذا وقع الاستعمال بالمعدود، كناية عن القلائل، كقوله في أيام معدودة: {لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً} [سورة البقرة آية: 80] ، {شَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ} [سورة يوسف آية: 20] ؛ هذا إن كان ما فرض صومه هنا رمضان، فيكون قوله هنا: {أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ} [سورة البقرة آية: 184] عنى به رمضان؛ قال أبو حيان: وهو قول ابن أبي ليلى، وجمهور المفسرين. وإن كان ما فرض صومه، هو: ثلاثة أيام من كل شهر، وقيل: هذه الثلاثة، ويوم عاشوراء، كما كان ذلك فرضاً على الذين من قبلنا، فيكون قوله: عنى بها هذه الأيام؛ قال: وإلى هذا ذهب ابن عباس وعطاء، قال ابن عباس وعطاء وقتادة، هي: أيام البيض. قال أبو حيان: قال أبو عبد الله، محمد بن أبي الفضل المريسي: في رأيي: الظلمات، احتج من قال: إنها غير رمضان بقوله صلى الله عليه وسلم: " صوم رمضان نسخ كل صوم " فدل على أن صوماً آخر كان قبله، ولأنه تعالى ذكر المريض والمسافر في هذه الآية، ثم ذكر حكمهما في الآية الآتية بعد، فلو كان هذا الصوم هو صوم رمضان، لكان هذا تكريراً، ولأن قوله تعالى: {فِدْيَةٌ} يدل على التخيير، وصوم رمضان واجب على التعيين، وكان غيره. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 319 وأكثر المحققين على أن المراد بالأيام: شهر رمضان، لأن قوله {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [سورة البقرة آية: 183] يحتمل يوماً ويومين وأكثر، ثم بينه بقوله {شَهْرُ رَمَضَانَ} ، وإذا أمكن حمله على رمضان، فلا وجه لحمله على غيره، وإثبات النسخ. وأما الخبر، فيمكن أن يحمل على نسخ كل صوم وجب في الشرائع المتقدمة، أو يكون ناسخاً لصيام وجب لهذه الأمة. وما ذكر من التكرار، فيحتمل أن يكون لبيان إفطار المسافر والمريض، في رمضان، في الحكم، بخلاف التخيير في المقيم، فإنه يجب عليه القضاء، فلما نسخ عن المقيم الصحيح وألزم الصوم، كان من الجائز أن يظن أن حكم الصوم لما انتقل إلى التخيير عن التضييق يعم الكل، حتى يكون المريض والمسافر فيه بمنْزلة المقيم، من حيث تغير الحكم في الصوم؛ فبين أن حالة المريض والمسافر في الرخصة والإفطار ووجوب القضاء كحالها أولاً، فهذه فائدة الإعادة، وهذا هو الجواب عن الثالث، وهو قولهم، لأن قوله تعالى: {فِدْيَةٌ} يدل على التخيير ... إلخ، لأن صوم رمضان كان واجباً مخيراً، ثم صار معيناً. وعلى كلا القولين: لا بد من النسخ في الآية، أما على الأول فظاهر، وأما على الثاني، فلأن هذه الآية تقتضي أن يكون صوم رمضان واجباً مخيراً، والآية التي بعد تدل على التضييق، وكانت ناسخة لها، والاتصال في التلاوة لا يوجب الاتصال في النّزول. انتهى كلامه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 320 وقال في الفتح، أول كتاب الصيام، لما ذكر احتجاج البخاري بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} الآية [سورة البقرة آية: 183] ، قال: أشار بذلك إلى مبدإ فرض الصيام، وكأنه لم يثبت عنده على شرطه فيه شيء، فأورد ما يشير إلى المراد؛ فإنه ذكر فيه ثلاثة أحاديث: حديث طلحة الدال على أنه لا فرض إلا رمضان، وحديث ابن عمر وعائشة المتضمن الأمر بصيام عاشوراء، وكأن المصنف أشار إلى أن الأمر في روايتهم محمول على الندب، بدليل حصر الفرض في رمضان، وهو ظاهر الآية لأنه تعالى قال: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [سورة البقرة آية: 183] ، ثم بينه فقال: {شَهْرُ رَمَضَانَ} وقد اختلف السلف هل فرض على الناس صيام قبل رمضان أو لا؟ فالجمهور، وهو المشهور عند الشافعية: أنه لم يجب قط صوم قبل رمضان، وفي وجه وهو قول الحنفية، أول ما فرض صيام عاشوراء، فلما نزل رمضان نسخ. فمن أدلة الشافعية: حديث معاوية مرفوعاً: " لم يكتب الله عليكم صياماً " 1، وسيأتي في آخر الصيام. ومن أدلة الحنفية: ظاهر حديثي ابن عمر وعائشة، المذكورين في هذا الباب بلفظ الأمر، وحديث الربيع بنت معوذ عند مسلم: " من أصبح صائماً، فليتم صومه " 2. قلت فلم نزل نصوم ونصوّم صبياننا وهم صغار، حتى فرض رمضان ... الحديث، وحديث أم سلمة مرفوعاً: " من أكل فليصم بقية يومه، ومن لم يكن أكل فليصم " 3 الحديث، وبنوا على هذا الخلاف: هل يشترط في صحة الصوم الواجب،   1 البخاري: الصوم (2003) , ومسلم: الصيام (1129) , ومالك: الصيام (666) . 2 البخاري: الصوم (1960) , ومسلم: الصيام (1136) , وأحمد (6/359) . 3 البخاري: الصوم (2007) , ومسلم: الصيام (1135) , والنسائي: الصيام (2321) , وأحمد (4/50) , والدارمي: الصوم (1761) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 321 بنية من الليل أم لا؟ انتهى. هذا ما يتعلق بقوله تعالى: {أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ} [سورة البقرة آية: 184] . ثم قال تبارك وتعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [سورة البقرة آية: 184] ؛ فأباح سبحانه للمريض والمسافر، الفطر في رمضان، لوجود المشقة فيه غالباً، رحمة منه وتفضلاً على عباده المؤمنين، وأوجب عليهما قضاء ذلك إذا زال المرض والسفر اللذان علق بهما جواز الفطر عند الجمهور، أو وجوبه عند بعض السلف والخلف، وأخبر أنه عدة من أيام أخر؛ فدل على عدم وجوب التتابع. ثم قال تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [سورة البقرة آية: 184] ، فأباح سبحانه وتعالى للذين يطيقون الفطر، وإن كانوا صحيحين مقيمين، وأوجب عليهم فدية طعام مسكين لكل يوم؛ وهذا على القراءة المشهورة، وهي الموجودة في المصاحف اليوم، وهذا قول معاذ بن جبل، وغير واحد من السلف والخلف. وهكذا روى البخاري عن سلمة بن الأكوع: أنها نزلت: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [سورة البقرة آية: 184] ، كان من أراد أن يفطر يفتدي، حتى نزلت التي بعدها فنسختها. وروى أيضاً من حديث نافع عن ابن عمر قال: هي منسوخة. وروى البخاري عن ابن عباس، رضي الله عنهما، أنه قرأ: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} فقال ابن عباس: " ليست منسوخة، هو الشيخ الكبير، والمرأة الكبيرة، لا يستطيعان أن يصوما، فيطعمان مكان كل يوم مسكيناً ". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 322 فحاصل الأمر: أن النسخ ثابت في حق الصحيح المقيم، بإيجاب الصوم عليه، بقوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [سورة البقرة آية: 185] ، وأما الشيخ الفاني الهرم، الذي لا يستطيع الصيام، فله أن يفطر ولا قضاء عليه، لأنه ليست له حال يصير إليها يتمكن فيها من القضاء، ولكن هل يجب عليه إذا أفطر أن يطعم عن كل يوم مسكيناً إذا كان ذا جدة أم لا؟ فيه قولان للعلماء; والمقصود: أن الله سبحانه وتعالى نص على جواز الفطر في رمضان للمريض والمسافر؛ وهذا مجمع عليه بين العلماء فيما علمناه، مع وجوب القضاء عليهما. فصل وأما إن كان المسافر مقيماً مدة غير معلومة، بل لا يدري متى تنقضي حاجته، فمتى انقضت سار من مكانه إلى مقصوده الذي يريده، فهو في حكم السفر؛ على الصحيح من أقوال العلماء، بل قد حكى ابن المنذر الإجماع على ذلك، قال في الشرح الكبير: قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن للمسافر أن يقصر ما لم يجمع إقامة، ولو أتى عليه سنون. انتهى. وقد اختلف العلماء في عدد المدة التي إذا أجمع المسافر الإقامة فيها لزمه الإتمام والصيام اختلافاً كثيراً: فالمشهور في مذهب أحمد: أنه إذا نوى الإقامة أكثر من الجزء: 5 ¦ الصفحة: 323 إحدى وعشرين صلاة أتم وإلا قصر؛ قال في الشرح الكبير: المشهور عن أحمد أن المدة التي يلزم المسافر الإتمام، إذا نوى الإقامة فيها أكثر من إحدى وعشرين صلاة، رواه الأثرم وغيره، وهو الذي ذكره الخرقي; وعنه: إن نوى الإقامة أكثر من أربعة أيام، ثم حكى هذا أبو الخطاب، وابن عقيل. وعنه: إذا نوى إقامة أربعة أيام أتم وإلا قصر، وهذا قول مالك والشافعي وأبي ثور. وروي عن عثمان وعن سعيد بن المسيب أنه قال: إذا أقمت أربعاً فصل أربعاً، لأن الثلاثة حد القلة، لقوله عليه السلام: " يقيم المهاجر بعد قضاء نسكه ثلاثاً " 1، فدل أن الثلاثة في حكم السفر، وما زاد في حكم الإقامة. وقال الثوري وأصحاب الرأي: إن أقام خمسة عشر يوماً مع اليوم الذي يخرج فيه أتم، وإن نوى دونه قصر؛ ويروى ذلك عن ابن عمر وسعيد بن جبير والليث بن سعد، لما روى عن ابن عمر وابن عباس أنهما قالا: " إذا قدمت وفي نفسك أن تقيم بها خمسة عشر ليلة، فأكمل الصلاة "، ولا يعرف لهما مخالف. وروي عن علي قال: " يتم الصلاة الذي يقيم عشراً، ويقصر الذي يقول: أخرج اليوم، أخرج غداً ". وعن ابن عباس أنه قال: " يقصر إذا أقام تسعة عشر يوماً، ويتم إذا زاد، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقام في بعض أسفاره تسعة عشر يوماً يصلي ركعتين؛ قال ابن عباس: فنحن إذا أقمنا تسعة عشر نصلي ركعتين، وإن زدنا على ذلك أتممنا "، رواه البخاري.   1 مسلم: الحج (1352) , والترمذي: الحج (949) , والنسائي: تقصير الصلاة في السفر (1455) , وأحمد (4/339) , والدارمي: الصلاة (1511) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 324 وقال? الحسن: " صل ركعتين ركعتين، إلا أن تقدم مصراً فأتم الصلاة وصم "، وقالت عائشة: " إذا وضعت الزاد والمزاد، فأتم الصلاة ". وكان طاووس إذا قدم مكة صلى أربعاً. ولنا ما روى أنس، قال: " خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة نصلي ركعتين حتى رجع، وأقام بمكة عشراً يقصر الصلاة " 1، متفق عليه. وذكر أحمد حديث جابر وابن عباس: " أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم مكة لصبح رابعة، فأقام النبي صلى الله عليه وسلم اليوم الرابع والخامس والسادس والسابع، وصلى الفجر بالأبطح يؤم الناس؛ وكان يقصر الصلاة في هذه الأيام "، وقد أجمع على إقامتها؛ فإذا أجمع أن يقيم كما أقام النبي صلى الله عليه وسلم قصر، وإذا أجمع أكثر من ذلك أتم. قال الأثرم: سمعت أبا عبد الله يذكر حديث أنس في الإجماع على الإقامة للمسافر، فقال: هو كلام لا يفقهه كل أحد، فقوله: أقام النبي صلى الله عليه وسلم عشرا يقصر الصلاة، وقال: قدم النبي صلى الله عليه وسلم لصبح رابعة، وخامسة وسادسة وسابعة، ثم قال: وثامنة يوم التروية، وتاسعة وعاشرة، فإنما وجه حديث أنس: أنه حسب مقام النبي صلى الله عليه وسلم بمكة ومنى، وإلا فلا وجه له عندي غير هذا، فهذه أربعة أيام، وصلاة الصبح بها يوم التروية تمام إحدى وعشرين صلاة؛ فهذا يدل على أن من أقام إحدى وعشرين صلاة يقصر، وهي تزيد على أربعة أيام، وهو صريح في خلاف قول من حد بأربعة أيام. وقول أصحاب الرأي: لا يعرف لهما مخالف من الصحابة،   1 البخاري: الجمعة (1081) , ومسلم: صلاة المسافرين وقصرها (693) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1077) , وأحمد (3/282) , والدارمي: الصلاة (1510) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 325 لا يصح، لأنا قد ذكرنا الخلاف فيه عنهم. وحديث ابن عباس في إقامة النبي صلى الله عليه وسلم تسع عشرة، وجهه: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجمع الإقامة، قال أحمد: أقام النبي صلى الله عليه وسلم بمكة زمن الفتح ثماني عشرة، لأنه أراد حنيناً ولم يكن ثَمَّ أجمع المقام؛ وهذه إقامته التي رواها ابن عباس، وهو دليل على قول الحسن. انتهى كلامه. وقد حمل الحافظ ابن حجر حديث ابن عباس على غير ما حمله أحمد، وأن مراد ابن عباس بذلك تحديد مدة الإقامة التي أقامها النبي صلى الله عليه وسلم بمكة زمن الفتح، فقال، رحمه الله: باب ما جاء في التقصير، وكم يقيم حتى يقصر; قوله: " ونحن إذا سافرنا تسعة عشر قصرنا، وإن زدنا أتممنا "، ظاهِرُه: أن السفر إذا زاد على تسعة عشر لزم الإتمام، وليس ذلك المراد; وقد صرح أبو يعلى في روايته عن شيبان عن أبي عوانة في هذا الحديث بالمراد، ولفظه: " وإذا سافرنا فأقمنا في موضع تسعة عشر "، ويؤيده صدر الحديث، وهو قوله: " أقام "; وللترمذي من وجه آخر عن عاصم: " فإذا أقمنا أكثر من ذلك صلينا أربعاً ". قوله في حديث أنس: " أقمنا بها عشراً " لا يعارض ذلك حديث ابن عباس المذكور، لأن حديث ابن عباس كان في فتح مكة، وحديث أنس في حجة الوداع، ثم قال: وسيأتي بعد باب من حديث ابن عباس: " قدم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لصبح رابعة ... " الحديث، ولا شك أنه خرج من مكة صبح الرابعة عشر، فيكون مدة الإقامة بمكة ونواحيها عشرة أيام بلياليها كما الجزء: 5 ¦ الصفحة: 326 قال أنس، ويكون مدة إقامته بمكة أربعة أيام سواء، لأنه خرج منها في اليوم الثامن، فصلى الظهر بمنى؛ ومن ثم قال الشافعي: إن المسافر إذا قام ببلد أربعة أيام قصر، وقال أحمد إحدى وعشرين صلاة. وأما قول ابن رشد: أراد البخاري أن يبين أن حديث أنس داخل في حديث ابن عباس، في أن إقامته عشرة داخل في إقامته تسعة عشر، فأشار بذلك إلى أن الأخذ بالزائد متعين، ففيه نظر لأن ذلك إنما يجيء على اتحاد القصتين، والحق أنهما مختلفتان؛ فالمدة التي في حديث ابن عباس يسوغ الاستدلال بها على من لا ينوي الإقامة، بل كان متردداً حتى تهيأ له فراغ حاجته ويرحل، والمدة التي في حديث أنس يستدل بها على من نوى الإقامة، لأنه صلى الله عليه وسلم في أيام الحج كان جازماً بالإقامة تلك المدة. ووجه الدلالة من حديث ابن عباس: أنه لما كان أن الأصل في المقيم الإتمام، فلما لم يجئ عنه صلى الله عليه وسلم أنه أقام في حال السفر أكثر من تلك المدة جعلها غاية للقصر; وفيه: أن الإقامة في أثناء السفر تسمى إقامة، وإطلاق اسم البلدة على ما جاورها وقرب منها، لأن منى وعرفة ليسا من مكة، ثم ذكر كلام أحمد في حديث أنس المتقدم. وقال المحب الطبري: أطلق على ذلك إقامة بمكة لأن هذه مواضع النسك، وهي في حكم التابع بمكة، لأنها المقصودة بالأصالة، لا يتجه سوى ذلك، كما قال الإمام أحمد، والله أعلم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 327 وقال أيضاً قبل ذلك في حديث ابن عباس: " أقام النبي صلى الله عليه وسلم بمكة تسعة عشر يوماً بلياليها " 1، زاد في المغازي من وجه آخر عن عاصم وحده بمكة، فكذا رواه ابن المنذر من طريق عبد الرحمن بن الأصبهاني عن عكرمة، وأخرجه أبو داود من هذا الوجه بلفظ: " سبعة عشر "، بلفظ تقديم السين، وكذا أخرجه من طريق حفص بن غياث عن عاصم، وقال عباد عن عكرمة: " تسعة عشر "، كذا ذكرها معلقة، وقد وصلها البيهقي. ولأبي داود أيضاً من حديث عمران بن حصين: " غزوت مع النبي صلى الله عليه وسلم عام الفتح، فأقام بمكة ثماني عشرة ليلة لا يصلي إلا ركعتين " 2، وله من طريق ابن إسحاق عن الزهري: عن عبد الله بن عباس: " أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة عام الفتح خمس عشرة يقصر الصلاة " 3. وجمع البيهقي بين هذا الاختلاف: بأن من قال تسع عشرة، عد يومي الدخول والخروج، ومن قال: سبع عشرة، حذفهما، ومن قال: ثماني عشرة، عد أحدهما. وأما رواية: خمس عشرة فضعفها النووي في الخلاصة، وليس بجيد، لأن رواتها ثقات، ولم ينفرد بها ابن إسحاق؛ وقد أخرجها النسائي في رواية عراك بن مالك عن عبيد الله كذلك; وإذا ثبت أنها صحيحة فليحمل على أن الراوي ظن أن الأصل رواية سبع عشرة، فحذف منها يومي الدخول والخروج، فذكر أنها خمس عشرة؛ واقتضى ذلك أن رواية تسع عشرة أرجح الروايات،   1 البخاري: المغازي (4298) , والترمذي: الجمعة (549) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1075) . 2 أبو داود: الصلاة (1229) . 3 النسائي: تقصير الصلاة في السفر (1453) , وأبو داود: الصلاة (1231) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 328 وبها أخذ إسحاق بن راهويه، ويرجحها أيضاً أنها أكثر ما وردت به الروايات الصحيحة. وأخذ الثوري وأهل الكوفة برواية خمس عشرة بكونها أقل ما ورد، فيحمل ما زاد على أنه وقع اتفاقاً. وأخذ الشافعي بحديث عمران بن حصين، لكن محله عنده فيمن يزمع 1 الإقامة، فإنه إذا مضت عليه المدة المذكورة وجب عليه الإتمام، فإن أزمع الإقامة في أول الحال على أربعة أيام أتم على خلاف بين أصحابه في دخول يوم الدخول والخروج فيها أو لا، وحجته حديث أنس الذي يليه. انتهى. وفيه نوع تلخيص وتقديم وتأخير. وأنت، رحمك الله، إذا تأملت هديه صلى الله عليه وسلم في أسفاره، وأنه يقيم في بعضها المدة الطويلة والقصيرة، بحسب الحاجة والمصلحة، ولم ينقل أحد عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: إذا أقام أحدكم أربعة أيام في مكان أو بلد أو أكثر أو أقل من ذلك، فليتم صلاته وليصم، ولا يترخص برخص السفر التي جاءت بها الشريعة السمحة، مع أن الله سبحانه وتعالى فرض عليه البلاغ المبين، فبلغ الرسالة وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، تبين لك: أن الصواب في هذه المسألة، ما اختاره غير واحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان: أن المسافر يجوز له القصر والفطر ما لم يجمع   1 أزمع, أي: أجمع. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 329 على إقامة أو يستوطن، فحينئذ يزول عنه حكم السفر، ويكون حكمه حكم المقيم. هذا هو الذي دل عليه هديه صلى الله عليه وسلم كما قال ابن القيم، رحمه الله، في الكلام على فوائد غزوة تبوك، قال: ومنها أنه صلى الله عليه وسلم أقام بتبوك عشرين يوماً يقصر الصلاة، ولم يقل للأمة: لا يقصر رجل الصلاة إذا أقام أكثر من ذلك، ولكن اتفقت إقامته هذه المدة؛ وهذه الإقامة في حال السفر لا تخرجه عن حكم السفر، سواء طالت أو قصرت إذا كان غير مستوطن، ولا عازم على الإقامة في ذلك الموضع. وقد اختلف السلف والخلف في ذلك اختلافاً كثيراً، ففي صحيح البخاري عن ابن عباس قال: " أقام النبي صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره تسعة عشر يصلي ركعتين " 1 الحديث. وظاهر كلام أحمد: أن ابن عباس أراد مدة مقامه بمكة زمن الفتح، فإنه قال: أقام النبي صلى الله عليه وسلم ثماني عشرة زمن الفتح، لأنه أراد حنيناً، ولم يكن ثم أجمع المقام، وهذه إقامته التي رواها ابن عباس; وقال غيره: بل أراد ابن عباس مقامه بتبوك، كما قال جابر: " أقام النبي صلى الله عليه وسلم بتبوك عشرين يوماً يقصر الصلاة " 2، رواه الإمام أحمد. وقال المسور بن مخرمة: " أقمنا مع سعد ببعض قرى الشام أربعين ليلة، يقصرها سعد ونتمها ". وقال نافع: " أقام ابن عمر بأذربيجان ستة أشهر فصلى ركعتين، وقد حال الثلج   1 البخاري: المغازي (4300) , والترمذي: الجمعة (549) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1075) . 2 أبو داود: الصلاة (1235) , وأحمد (3/295) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 330 بينه وبين القفول ". وقال حفص بن عبد الله: " أقام أنس بن مالك بالشام سنتين يصلي صلاة مسافر ". وقال أنس: " أقام أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم برام هرمز سبعة أشهر يقصرون الصلاة ". وقال الحسن: " أقمنا مع عبد الرحمن بن سمرة بكابل، يقصر الصلاة ولا يجمع ". وقال إبراهيم: " كانوا يقيمون بالري السنة وأكثر من ذلك، وبسجستان السنتين وأكثر من ذلك، لا يجمعون ولا يشرقون "؛ فهذا هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه كما ترى، وهو الصواب. ثم ذكر مذاهب الناس التي تقدمت، وأن أحمد حمل الآثار على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم يُجْمِعُوا الإقامة البتة، بل كانوا يقولون: اليوم نخرج، غداً نخرج; وفي هذا نظر لا يخفى، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم فتح مكة، وهي ما هي؟ وأقام فيها يؤسس قواعد الإسلام، ويهدم قواعد الشرك، ويمهد ما حولها من العرب، ومعلوم قطعاً أن هذا يحتاج إلى إقامة أيام، ولا يتأتى في يوم واحد ولا يومين، وكذلك إقامته بتبوك، فإنه أقام ينتظر العدو; ومن المعلوم قطعاً أنه كان بينه وبينهم عدة مراحل تحتاج إلى أيام، وهو يعلم أنهم لا يوافون في أربعة أيام، وكذلك إقامة ابن عمر بأذربيجان ستة أشهر، يقصر الصلاة من أجل الثلج، ومعلوم أن مثل هذا الثلج لا يذوب ويتحلل في أربعة أيام، بحيث تنفتح الدروب، وكذلك إقامة أنس بالشام سنتين يقصر الصلاة، وإقامة الصحابة برامهرمز الجزء: 5 ¦ الصفحة: 331 سبعة أشهر يقصرون؛ ومعلوم أن مثل هذا الجهاد والحصار يعلم أنه لا ينقضي في أربعة أيام. وقد قال أصحاب أحمد: لو أقام لجهاد عدو أو حبس سلطان أو مرض، قصر، سواء غلب على ظنه انقضاء الحاجة في مدة يسيرة أو طويلة؛ وهذا هو الصواب، لكن شرطوا فيه شرطاً لا دليل عليه من كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا عمل الصحابة، فقالوا: شرط ذلك احتمال انقضاء حاجته في المدة التي لا تقطع حكم السفر، وهي: ما دون الأربعة الأيام. فيقال: من أين لكم هذا الشرط؟ والنبي صلى الله عليه وسلم لما أقام زيادة على الأربعة الأيام يقصر بمكة وتبوك لم يقل لهم شيئاً، ولم يبين لهم أنه لم يعزم على إقامة أكثر من أربعة أيام، وهو يعلم أنهم يقتدون به في صلاته، ويتأسون به في قصرها في مدة إقامته، فلم يقل لهم حرفاً واحداً: لا تقصروا فوق إقامة أربع ليال، وبيان هذا من أهم المهمات، وكذلك اقتداء الصحابة بعده، ولم يقولوا لمن صلى معهم شيئاً من ذلك. ثم ذكر أقوال الناس، ثم قال: والأئمة الأربعة متفقون على أنه إذا أقام لحاجة ينتظر قضاءها، يقول: اليوم أخرج، غداً أخرج، فإنه يقصر أبداً، إلا قول الشافعي في أحد قوليه: فإنه يقصر عنده إلى سبعة عشر، أو ثماني عشر، ولا يقصر بعدها. وقد قال ابن المنذر في إشرافه: أجمع أهل العلم أن للمسافر أن يقصر ما لم يجمع إقامة، وإن أتى عليه سنون. انتهى. وهذا الإجماع الذي حكاه ابن المنذر فيه نظر الجزء: 5 ¦ الصفحة: 332 لا يخفى، وأظن أن مراده بذلك إجماع الجمهور، والله أعلم. فصل الذين يجوز لهم الفطر في رمضان والذين يجوز لهم الفطر في رمضان أنواع: النوع الأول: المجمع عليه، وهو ما نص الله عليه في كتابه، في قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ} [سورة البقرة آية: 184] ، وهو المريض، والمسافر؛ فهذان نوعان، مجمع على جواز الفطر لهما في الجملة. النوع الثالث: ما فهمه الصحابة، رضوان الله عليهم، من قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [سورة البقرة آية: 184] ، وما فهموا من القراءة الأخرى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} أي: يكلفونه ويشق عليهم؛ وهم أنواع كثيرة: الأول: الحامل التي تخاف على نفسها وولدها. الثاني: المرضع التي تخاف على ولدها، سواء كانت بأجرة أو بغير أجرة، والولد لها أو لغيرها. الثالث: الشيخ الكبير، والعجوز الكبيرة، اللذين يشق عليهما الصيام. الرابع: صاحب العطش الذي يشق عليه الصيام. فكل هؤلاء الأنواع الأربعة، ثبت عن الصحابة جواز الفطر لهم؛ فمنهم من أوجب القضاء على هؤلاء مع الفدية، ومنهم من أوجب الفدية دون القضاء. قال أحمد في رواية صالح: المرضع والحامل تخاف على نفسها، تفطر وتقضي وتطعم، أذهب إلى حديث أبي هريرة. وأما ابن عباس وابن عمر يقولان: تطعم ولا تقضي، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 333 وكان ابن عباس يقرؤها: {يطوّقونه} قال: يكلفونه، ومن قرأ: {يطيقونه} فإنها منسوخة، نسخها قوله: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [سورة البقرة آية: 185] ، فقد ثبت عن ثلاثة من الصحابة وجوب الفدية، ولا يعرف لهم مخالف، واختلفوا في القضاء; وعن عطاء عن ابن عباس، كان يرخص في الفطر في رمضان للشيخ الكبير والحامل، والمرضع، ولصاحب العطش، أن يفطروا ويطعموا عن كل يوم مسكيناً، رواه سعيد. وأما الظئر التي ترضع ولدها بأجرة أو بدونها، فذكر ابن عقيل أنها تستبيح الفطر، كاستباحته لولدها، لأن أكثر ما فيه أنه نوع ضرر لأجل المشاق، فهي كالمسافر في المضاربة يستبيح بسفره ما يستبيح بالسفر لنفسه، وطرده العمل في الصنائع الشاقة، إذا بلغت منه الجهد؛ وإن لم تبلغ المشقة إلى حد إباحة الإفطار لم يبح في حقه، ولا في حق غيره. ومن لم يمكنه إنجاء شخص من المهلكة إلا بالفطر، مثل أن يكون غريقاً، أو يريد أحد أن يقاتله أفطر. وكذلك إذا أحاط العدو ببلد، وكان الصوم المفروض يضعفهم، فهل يجوز لهم الفطر؟ على روايتين، ذكرهما الخلال في كتاب السير. وقال في الإنصاف: ونقل حنبل إذا كانوا بأرض العدو، وهم بالقرب، أفطروا عند القتال. واختار الشيخ تقي الدين: الفطر للتقوي على الجهاد، وفعله هو وأمر به لما نزل العدو دمشق، وقدمه في الفائق، وهو الصواب; قال: ولو خاف بالصوم ذهاب ماله، يعني أفطر; وقال في الشرح الكبير: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 334 والصحيح الذي يخشى المرض بالصيام، كالمريض الذي يخاف زيادة المرض في إباحة الفطر، لأنه في معناه; قال الإمام أحمد فيمن به شهوة غالبة، يخاف أن تنشق أنثياه، فله الفطر. وقال في الجارية: تصوم، فإن جهدها الصوم فلتفطر ولتقض، يعني إذا حاضت وهي صغيرة؛ قال القاضي: هذا إذا كانت تخاف المرض بالصيام، فيباح لها الفطر، وإلا فلا. وذكر الشيخ تقي الدين في شرح العمدة حديثاً يشهد لهذه الرواية، وهو عن أبي العلاء ابن الشخير عن عائشة: " أنه أجهدها العطش وهي صائمة، فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تفطر وتقضي مكانه يوماً "، قال: رواه حرب بإسناد جيد. انتهى. والله سبحانه أعلم. فصل فظهر بما ذكرناه الجواب عن قول السائل ألهمه الله الصواب: وعلى القول بالجواز، هل يجب إذا كنا مجمعين على الإقامة مدة غير معلومة؟ أن ذلك لا يجب على القول الصحيح من أقوال أهل العلم، وإنما الإشكال في الاستحباب أو الجواز، فإذا تقرر أن إقامة المسافر في مدة غير معلومة، أو معلومة لكنه لم ينو الاستقرار والاستيطان، أن ذلك لا يقطع حكم السفر؛ بقي الكلام في استحباب الصيام في السفر أو جوازه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 335 فاعلم أن هذه مسألة اختلف العلماء فيها قديماً وحديثاً: فذهب عمر بن الخطاب، وأبو هريرة، وعبد الرحمن بن عوف، أن ذلك لا يجوز، فإن صام أمر بالإعادة؛ قال أحمد، رحمه الله: عمر وأبو هريرة يأمرانه بالإعادة. وروى الزهري عن أبي سلمة عن أبيه عبد الرحمن بن عوف، أنه قال: " الصيام في السفر كالفطر في الحضر "، وهو قول أبي محمد بن حزم وغيره من أهل الظاهر، واحتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم: " ليس من البر الصوم في السفر " 1، متفق عليه. ولأنه صلى الله عليه وسلم " أفطر في السفر، فلما بلغه أن قوماً صاموا، قال: أولئك العصاة " 2. وروى ابن ماجة بإسناده: " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الصائم في رمضان في السفر كالمفطر في الحضر " 3. قال في الشرح: وعامة أهل العلم على خلاف هذا القول، قال ابن عبد البر: هذا قول يروى عن عبد الرحمن بن عوف، هجره الفقهاء كلهم، والسنة ترده، وحجتهم ما روي عن حمزة بن عمرو الأسلمي: " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: إن شئت فصم " 4، متفق عليه. وحديث أنس: " كنا نسافر مع النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يعب الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم " 5، متفق عليه. قال: وأخبارهم محمولة على تفضيل الفطر. انتهى. ففي هذا دليل على أن الشارح وغيره من الأصحاب، وافقوا على نفي الاستحباب; ومن تأمل أدلة الفريقين حق   1 البخاري: الصوم (1946) , ومسلم: الصيام (1115) , والنسائي: الصيام (2257, 2258 ,2260, 2261, 2262) , وأبو داود: الصوم (2407) , وأحمد (3/299, 3/317, 3/352, 3/398) , والدارمي: الصوم (1709) . 2 مسلم: الصيام (1114) , والترمذي: الصوم (710) , والنسائي: الصيام (2263) . 3 النسائي: الصيام (2285) , وابن ماجة: الصيام (1666) . 4 البخاري: الصوم (1943) , ومسلم: الصيام (1121) , والترمذي: الصوم (711) , والنسائي: الصيام (2306, 2307, 2308, 2384) , وأبو داود: الصوم (2402) , وابن ماجة: الصيام (1662) , وأحمد (6/46, 6/193, 6/202, 6/207) , والدارمي: الصوم (1707) . 5 البخاري: الصوم (1947) , ومسلم: الصيام (1118) , وأبو داود: الصوم (2405) , ومالك: الصيام (655) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 336 التأمل، وترك التعصب والتقليد، تبين له أن غاية الأمر هو الجواز، مع ما يعارضه من الأدلة، التي هي آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما يؤخذ بالآخِر فالآخِر من فعل النبي صلى الله عليه وسلم وقوله، كما قاله الزهري وغيره في هذه المسألة; وأما الاستحباب: فالأدلة الصحيحة الصريحة تدل على نفي ذلك لمن تأمل، مع أنه قد قال بذلك طائفة من السلف. وقد قال أبو محمد ابن حزم في المحلى: فأما قولنا إنه لا يجوز الصوم في السفر، فإن الناس اختلفوا: فقالت طائفة: من سافر بعد دخول رمضان فعليه أن يصومه كله، وقالت طائفة بل هو مخير إن شاء صام وإن شاء أفطر، وقالت طائفة لا بد له من الفطر، لا يجزيه صوم. ثم افترق القائلون بتخييره: فقالت طائفة: الصوم أفضل، وقالت طائفة: الفطر أفضل، وقالت طائفة: هما سواء، وقالت طائفة: لا يجزئه الصوم، ولا بد له من الفطر. فروينا القول الأول عن علي، من طريق حماد بن سلمة عن قتادة عن محمد ابن سيرين عن عبيدة السلماني عن علي بن أبي طالب قال: " من أدركه رمضان وهو مقيم ثم سافر، فقد لزمه الصوم، لأن الله تعالى قال: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} "، وعن عبيدة مثله، ومن طريق ابن عباس مثله، وروي عن عائشة أم المؤمنين: " أنها نهت عن السفر في رمضان "، وعن أبي مجلز، وإبراهيم النخعي مثله. وأما الطائفة المجيزة للصوم والفطر، المختارة للصوم، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 337 فهو قول أبي حنيفة ومالك والشافعي، فشغبوا بقول الله تعالى: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [سورة البقرة آية: 184] ، واحتجوا بأخبار، منها حديث سلمة ابن المحبق عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من كانت له حمولة تأوي إلى شبع، فليصم رمضان حيث أدركه " 1، ومن طريق ابن سعيد وأبي الدرداء وجابر: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه بالفطر وهو صائم، فترددوا، فأفطر هو عليه السلام "، وذكروا عن أم المؤمنين عائشة، رضي الله عنها " أنها كانت تصوم في السفر وتتم الصلاة ". وعن أبي موسى " أنه كان يصوم في رمضان في السفر "، وعن عثمان بن أبي العاص وابن عباس: الصوم أفضل، وعن المسور بن مخرمة، وعبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث، مثله، وعن طاووس: الصوم أفضل، وعن الأسود بن يزيد مثله. واحتج مَن رأى الأمرين سواء، بحديث حمزة بن عمرو الأسلمي، أنه قال: " يا رسول الله، أجد بي قوة على الصيام في السفر، فقال: أي ذلك شئت يا حمزة " 2، وبحديث مرسل عن الغطريف أبي هارون " أن رجلين سافرا، فصام أحدهما وأفطر الآخر، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: كلاكما أصاب "، وبحديث أبي سعيد وجابر: " كنا نسافر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يعيب الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم " 3، وعن عطاء: "إن شئت فصم، وإن شئت فأفطر " 4. وأما من رأى الفطر أفضل، فاحتجوا بحديث حمزة بن عمرو: " هي رخصة من الله تعالى؛ فمن أخذ بها فحسن، ومن   1 أبو داود: الصوم (2410) , وأحمد (3/476, 5/7) . 2 البخاري: الصوم (1943) , ومسلم: الصيام (1121) , والترمذي: الصوم (711) , والنسائي: الصيام (2304, 2307) , وأبو داود: الصوم (2402) , وابن ماجة: الصيام (1662) , وأحمد (6/207) , ومالك: الصيام (656) . 3 مسلم: الصيام (1116) , والترمذي: الصوم (712, 713) , والنسائي: الصيام (2312) , وأحمد (3/45, 3/50, 3/74) . 4 البخاري: الصوم (1943) , ومسلم: الصيام (1121) , والترمذي: الصوم (711) , والنسائي: الصيام (2306, 2307, 2308) , وابن ماجة: الصيام (1662) , وأحمد (6/193, 6/202, 6/207) , والدارمي: الصوم (1707) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 338 أحب أن يصوم فلا جناح عليه " 1. وممن روينا عنه اختيار الفطر على الصوم: سعد بن أبي وقاص؛ وصح عن ابن عمر: " أنه كان لا يصوم في السفر، وكان معه رفيق، وكان يقول: يا نافع، اصنع له سحوره. قال نافع: كان ابن عمر يقول: رخصة ربي أحب إلي، وإن آجر لك أن تفطر في السفر ". قال أبو محمد: ولسنا نقول بشيء من هذه الأقوال، فنحتاج إلى ترجيح بعضها على بعض، لأن كلها متفقة على جواز الصوم في رمضان في السفر، وهو خلاف قولنا؛ وإنما يلزمنا دفعها كلها من أجل ذلك؛ فنقول وبالله نتأيد ونستعين: أما قول الله تعالى: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [سورة البقرة آية: 184] ؛ فقد أتى كبيرة من الكبائر، وكذب كذباً فاحشاً، من احتج بها في إباحة الصوم في السفر، لأنه حرف كلام الله عن مواضعه؛ نعوذ بالله من مثل هذا، وهذا عار لا يرضاه محقق، لأن نص الآية: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} إلى قوله: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [سورة البقرة آية: 183-184] . وإنما نزلت هذه الآية في حال الصوم المنسوخة، وذلك أنه كان الحكم في أول نزول صوم رمضان: من شاء صام، ومن شاء أفطر وأطعم مكان كل يوم مسكيناً، وكان الصوم أفضل، هذا نص الآية؛ وليس للسفر فيها مدخل أصلاً، ولا للإطعام مدخل في الفطر في السفر أصلاً، وبهذا جاءت السنن. ثم ذكر الأحاديث، والآثار في ذلك. ثم قال: وأما حديث ابن المحبق: " من كانت له   1 مسلم: الصيام (1121) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 339 حمولة ... إلخ "، فحديث ساقط، لأنه من رواية عبد الصمد بن حبيب، وهو بصري لين الحديث عن سنان بن سلمة بن المحبق، وهو مجهول. وأما حديث الغطريف وأبي عياض، فمرسلان، ولا حجة في مرسل. وأما حديث حمزة بن عمرو، فإنه من رواية ابن ابنه: حمزة بن محمد بن حمزة، وهو ضعيف، وأبوه كذلك؛ وإنما الثابت من حديث حمزة، هو كما نذكره إن شاء الله تعالى. وأما حديث أبي سعيد، وأبي الدرداء، وجابر، فلا حجة لهم في شيء منها، لوجهين: أحدهما: أنه ليس في شيء منها أنه عليه الصلاة والسلام كان صائماً رمضان؛ وإذ ليس ذلك فيها فلا يجوز القطع بذلك، ولا الاحتجاج باختراع ما ليس في الخبر على القرآن، وقد يمكن أن يكون صائماً متطوعاً. والثاني: أنه لو كان ذلك فيها نصاً لما كان لهم فيه حجة، لأن آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم إيجاب الفطر في رمضان في السفر؛ فلو كان صوم رمضان في السفر قبل ذلك مباحاً لكان منسوخاً بآخر أمره عليه الصلاة والسلام، كما نذكره إن شاء الله. وأما احتجاج من أوجب الصوم في السفر، لمن أهل عليه الشهر في الحضر، بقوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [سورة البقرة آية: 185] ، فلا حجة لهم في هذه الآية، لأن الله تعالى لم يقل: فمن شهد منكم بعض الشهر فليصمه، وإنما أوجب تعالى صيامه على من شهد الشهر، لا على من شهد بعضه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 340 ثم يبطل قولهم أيضاً: قول الله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [سورة البقرة آية: 184] ؛ فجعل السفر والمرض ناقلين عن الصوم فيه إلى الفطر، وأيضاً، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم صح عنه أنه سافر في رمضان عام الفتح فأفطر، وهو أعلم بمراد ربه تعالى. قال أبو محمد: فإذا لم يبق لهم حجة لا من قرآن، ولا من سنة، فلنذكر البراهين على حجة قولنا بحمد الله تعالى وقوته. ثم ذكر حجته بالآية: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [سورة البقرة آية: 184] ، قال: وهذه الآية محكمة بإجماع أهل الإسلام، لا منسوخة ولا مخصوصة، ثم ذكر حديث جابر: ?" أولئك العصاة "، وقوله: " ليس من البر الصيام في السفر " 1، وحديث عبد الله بن الشخير: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له، وقد دعاه إلى الغداء: أتدري ما وضع الله عن المسافر؟ قلت: ما وضع الله عن المسافر؟ قال: الصوم وشطر الصلاة ". قال: وهذه آثار متواترة متظاهرة، لم يأت شيء يعارضها؛ فلا يجوز الخروج عنها. فإن قيل: فإن هذه الأخبار مانعة كلها بعمومها من كل صوم في السفر، وأنتم تبيحون فيه كل صوم إلا رمضان وحده، قلنا: نعم، لأن النصوص قد جاءت بمثل ما قلنا، لأن الله تعالى قال: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} [سورة البقرة آية: 196] ؛ فافترض تعالى صوم الثلاثة الأيام في   1 النسائي: الصيام (2255) , وابن ماجة: الصيام (1664) , وأحمد (5/434) , والدارمي: الصوم (1710, 1711) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 341 السفر ولا بد، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحض على الصوم يوم عرفة، ما سنذكره إن شاء الله، وهو في السفر لمن كان حاجاً، وقال عليه الصلاة والسلام: " إن أفضل الصيام صيام داود: يصوم يوماً ويفطر يوماً " 1؛ فعم ولم يخص. وقال عليه الصلاة والسلام: " من صام يوماً في سبيل الله باعد الله النار عن وجهه " 2؛ فحض على الصوم في السفر، فوجب الأخذ بجميع النصوص. فخرج رمضان في السفر بالمنع وحده، وبقي سائر الصوم واجبه وتطوعه على جوازه في السفر؛ ولا يجوز ترك نص لآخر. ثم ذكر الآثار عن عمر وعائشة وأبي هريرة وابن عباس وابن عمر وعبد الرحمن بن عوف وسعيد بن المسيب وعروة بن الزبير والشعبي والزهري وعلي بن الحسين ومحمد ابنه والقاسم بن محمد ويونس بن عبيد، أنهم أنكروا الصيام في السفر؛ فمنهم من يأمره بالقضاء، ومنهم من ينكره ولم يذكر عنه الأمر بالقضاء. انتهى ملخصاً. وقال الحافظ ابن حجر في شرح باب قول النبي صلى الله عليه وسلم لمن ظلل عليه واشتد عليه الحر: " ليس من البر الصيام في السفر " 3، لما ذكر أقوال الناس في المسألة، قال: والذي يترجح: قول الجمهور؛ لكن يكون الفطر أفضل لمن اشتد عليه الصوم وتضرر به، وكذلك من ظن به الإعراض عن قبول الرخصة؛ وقد روى أحمد بن حنبل من طريق أبي طعمة، قال: " قال رجل لابن عمر: إني أقوى على الصوم في السفر، فقال له   1 البخاري: أحاديث الأنبياء (3420) , ومسلم: الصيام (1159) , والترمذي: الصوم (770) , والنسائي: قيام الليل وتطوع النهار (1630) والصيام (2344, 2388) , وأبو داود: الصوم (2448) , وابن ماجة: الصيام (1712) , وأحمد (2/160, 2/190) , والدارمي: الصوم (1752) . 2 البخاري: الجهاد والسير (2840) , ومسلم: الصيام (1153) , والنسائي: الصيام (2245، 2249, 2250) , وابن ماجة: الصيام (1717) , وأحمد (3/26, 3/59, 3/83) , والدارمي: الجهاد (2399) . 3 النسائي: الصيام (2255) , وابن ماجة: الصيام (1664) , وأحمد (5/434) , والدارمي: الصوم (1710, 1711) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 342 ابن عمر: من لم يقبل رخصة الله كان عليه من الإثم مثل جبال عرفة "؛ وهذا محمول على من رغب عن الرخصة، لقوله صلى الله عليه وسلم: " من رغب عن سنتي فليس مني " 1. وكذلك من خاف على نفسه العجب أو الرياء إذا صام في السفر، فقد يكون الفطر أفضل له; وقد أزال ذلك ابن عمر، فروى الطبري من طريق مجاهد، قال: " إذا سافرت فلا تصم، فإنك إن تصم قال أصحابك: اكفوا الصائم، ادفعوا للصائم، وقاموا بأمرك، وقالوا: فلان صائم؛ فلا تزال كذلك حتى يذهب أجرك "، ومن طريق مجاهد أيضاً عن جنادة بن أبي أمية عن أبي ذر نحو ذلك، وستأتي في الجهاد، ومن طريق مورق عن أنس نحو هذا مرفوعاً، حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم في المفطرين لما خدموا الصيام: " ذهب المفطرون اليوم بالأجر " 2. واحتج من منع الصوم أيضاً بما وقع في الحديث الماضي، أن ذلك كان آخر الأمرين، وأن الصحابة كانوا يأخذون بالآخر فالآخر من فعله صلى الله عليه وسلم، فزعموا أن صومه صلى الله عليه وسلم في السفر منسوخ. وتعقب أولاً: بما تقدم من أن هذه الزيادة مدرجة من قول الزهري، وبأنه استند إلى ظاهر الخبر من أنه صلى الله عليه وسلم أفطر بعد أن صام، ونسب من صام إلى العصيان؛ ولا حجة في شيء من ذلك، لأن مسلماً أخرج من حديث أبي سعيد أنه صلى الله عليه وسلم   1 البخاري: النكاح (5063) , ومسلم: النكاح (1401) , والنسائي: النكاح (3217) , وأحمد (3/241, 3/259, 3/285) . 2 البخاري: الجهاد والسير (2890) , ومسلم: الصيام (1119) , والنسائي: الصيام (2283) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 343 صام بعد هذه القصة في السفر، ولفظه: " سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة ونحن صيام، فنَزَلنا منزلاً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنكم مصبحو عدوكم، والفطر أقوى لكم، فأفطروا؛ وكانت عزيمة فأفطرنا. ثم لقد رأيتنا نصوم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك في السفر "، وهذا الحديث نص في المسألة؛ ومنه يؤخذ الجواب عن نسبته صلى الله عليه وسلم الصائمين إلى العصيان، لأنه عزم عليهم فخالفوه، وهو شاهد لما قلناه، من أن الفطر أفضل لمن يشق عليه الصوم، ويتأكد ذلك إذا كان يحتاج إلى الفطر للتقوي به على لقاء العدو. وروى الطبراني في تهذيبه، من طريق خيثمة: " سألت أنس بن مالك عن الصوم في السفر؟ فقال: لقد أمرت غلامي أن يصوم، فقلت له: أين هذه الآية: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} فقال: إنها نزلت ونحن نرتحل جياعاً، وننْزل على غير شبع; وأما اليوم، نرتحل شباعاً، وننْزل على شبع "، وأشار أنس إلى الصفة التي يكون فيها الفطر أفضل من الصوم. وأما الحديث المشهور: " الصائم في السفر كالمفطر في الحضر " 1 فقد أخرجه ابن ماجة مرفوعاً، من حديث ابن عمر، بسند ضعيف، وأخرجه الطبراني من طريق أبي سلمة عن عائشة أيضاً، وفيه ابن لهيعة، وهو ضعيف، رواه الأثرم من طريق أبي سلمة عن أبيه مرفوعاً، والمحفوظ عن أبي سلمة عن أبيه موقوفاً، كذلك أخرجه النسائي وابن المنذر، ومع وقفه فهو منقطع، لأن أبا سلمة لم يسمع من أبيه. وعلى   1 النسائي: الصيام (2285) , وابن ماجة: الصيام (1666) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 344 تقدير صحته، فهو محمول على ما تقدم أولاً، حيث يكون الفطر أولى من الصوم، والله أعلم. وأما الجواب عن قوله صلى الله عليه وسلم: " ليس من البر الصيام في السفر " 1، فسلك المجيزون فيه طرقاً: فقال بعضهم: قد خرج على سبب فيقتصر عليه، وعلى من كان في مثل حاله؛ وإلى هذا جنح البخاري في ترجمته، وكذا قال الطبري بعد أن ساق نحو حديث الباب، من رواية كعب بن عاصم الأشعري، ولفظه: " سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن في حر شديد، فإذا رجل من القوم قد دخل تحت ظل شجرة، وهو مضطجع كهيئة الوجع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما لصاحبكم؟ أيّ وجع به؟ قالوا: ليس به وجع، ولكنه صائم وقد اشتد عليه الحر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ليس البر أن تصوموا في السفر، عليكم برخصة الله التي رخص لكم ". قال: فكان قوله صلى الله عليه وسلم لمن كان في مثل تلك الحال. وقال ابن دقيق العيد: أخذ من هذه القصة: أن كراهية الصوم في السفر مختصة لمن هو في مثل هذه الحالة، ممن يجهده الصوم ويشق عليه، أو يؤدي به إلى ترك ما هو أولى من الصوم من وجوه القرب، فينْزل قوله: " ليس من البر الصوم في السفر " 2 على مثل هذه الحال، قال: والمانعون من الصيام في السفر يقولون: إن اللفظ عام، والعبرة بعمومه لا بخصوص السبب، قال: وينبغي أن يتنبه للفرق بين الأدلة، السبب والسياق والقرائن، على تخصيص العام، وعلى مراد   1 النسائي: الصيام (2255) , وابن ماجة: الصيام (1664) , وأحمد (5/434) , والدارمي: الصوم (1710, 1711) . 2 البخاري: الصوم (1946) , ومسلم: الصيام (1115) , والنسائي: الصيام (2257, 2258, 2260, 2261, 2262) , وأبو داود: الصوم (2407) , وأحمد (3/299, 3/317, 3/352, 3/398) , والدارمي: الصوم (1709) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 345 المتكلم، وبين مجرد حمل ورود العام على سبب لا يقتضي التخصيص به، كنُزول آية السرقة في قصة سرقة رداء صفوان؛ وأما السياق والقرائن الدالة على مراد المتكلم، فهو المرشد لبيان المجملات وتعيين المحملات، كما في حديث الباب. وحمل الشافعي نفي البر المذكور في الحديث، على من أبى قبول الرخصة، قال: ويحتمل أن يكون معناه: ليس من البر المفروض الذي من خالفه أثم؛ وجزم ابن خزيمة وغيره بالمعنى الأول. وقال الطحاوي: المراد بالبر هنا الكامل، الذي هو أعلى مراتب البر؛ وليس المراد به إخراج الصوم عن أن يكون براً، لأن الإفطار قد يكون أبر من الصوم، إذا كان للتقوي على لقاء العدو مثلاً، وهو نظير قوله صلى الله عليه وسلم: " ليس المسكين بالطواف " 1، فإنه لم يرد إخراجه من أسباب المسكنة كلها، وإنما أراد أن المسكين الكامل المسكنة الذي لا يجد غناء يغنيه، ويستحي أن يسأل، ولا يفطن له. انتهى، وفيه بعض تلخيص. ولا يخفى ضعف هذا المسلك، الذي سلكه الطحاوي في هذا الموضع، وقد شنع ابن حزم في شرح المحلى على قائل ذلك، وقال: هذا تحريف للكلم عن مواضعه، وكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وفاعل هذا يتبوأ مقعده من النار، بنص قوله عليه السلام؛ وليس إذا وجد نص قد جاء نص آخر أو إجماع بإخراجه عن ظاهره، وجب أن يبطل جميع النصوص،   1 البخاري: الزكاة (1479) , ومسلم: الزكاة (1039) , والنسائي: الزكاة (2572) , وأحمد (2/316, 2/445, 2/469, 2/505) , ومالك: الجامع (1713) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 346 وتخرج عن ظاهرها. ويقال له: إذا قلت هذا، فقله أيضاً في قول الله تبارك وتعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} [سورة البقرة آية: 177] ، ولا فرق. انتهى. وقول الحافظ، رحمه الله، في حديث أبي سعيد: أنه نص في المسألة، من العجب، لأن أبا سعيد لم يذكر أن ذلك الصيام الذي فعلوه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد النهي كان في رمضان؛ فهو محتمل لأن يكون صيام تطوع. وقوله: ومنه يؤخذ الجواب عن نسبته صلى الله عليه وسلم الصائمين إلى العصيان، لأنه عزم عليهم فخالفوه؛ وهو شاهد لما قلناه، من أن الفطر أفضل لمن يشق عليه؛ فأي شاهد في قوله: " أولئك العصاة " في أن الفطر أفضل من الصيام، والصيام جائز لكن الفطر أفضل، وهو صريح في أنهم عصاة لله ورسوله حين صاموا، وقد نهاهم عن ذلك وأمرهم بالفطر. والمقصود: أن القائلين باستحباب الصيام ليس معهم حجة صحيحة أصلًا، بل الأدلة الدالة على النهي عنه أظهر؛ وغاية الأدلة أن تدل على الجواز، وهو المشهور في مذهب أحمد وغيره، وأما الاستحباب فبعيد جداً، والله سبحانه وتعالى أعلم. وأجاب أيضاً: أما جواز الإفطار في رمضان، فيجوز الصيام والإفطار، وصام الرسول صلى الله عليه وسلم وأفطر في السفر. وأجاب الشيخ عبد الرحمن بن حسن، رحمه الله: أما الجزء: 5 ¦ الصفحة: 347 مسألة الفطر للمسافر في رمضان والصيام، فالذي دلت عليه الأحاديث: أن المسافر إذا كان سفره مباحاً، أنه يخير بين الفطر والصيام؛ فلا ينكر على من صام ولا على من أفطر. روى الترمذي عن عائشة، رضي الله عنها: " أن حمزة بن عمرو الأسلمي، سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصيام في السفر؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن شئت فصم، وإن شئت فأفطر " 1، قال أبو عيسى: حديث عائشة حديث حسن صحيح. وأخرج أبو داود عن أبي سعيد، قال: " كنا نسافر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان، فما يعاب على الصائم صومه، ولا على المفطر فطره " 2؛ وفيه أحاديث غير هذين الحديثين. وأجاب ابنه الشيخ عبد اللطيف: وأما اتفاق الغزو على الصوم، فكنت أحب لهم فعل الأفضل، وموافقة السنة، في عدم الاتفاق على ترك قبول الرخصة التي يحبها الله. سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عن فطر من أخذ شيء من ماله ولا يقدر عليه إلا بالفطر؟ فأجاب: أما إذا أخذ غنم أو غيرها لأهل بلد، ولا يقدر أهل البلد على لحوق المأخوذ إلا بالفطر، فإنه جائز فيما نرى. سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: عمن لا يعتاش إلا من الحشيش وأشباهه، ولا يقدر إلا مفطراً؟ فأجاب: إذا صار رجلاً ضعيفاً، ويعتاش من الكلإ   1 البخاري: الصوم (1943) , ومسلم: الصيام (1121) , والترمذي: الصوم (711) , والنسائي: الصيام (2306, 2307, 2308, 2384) , وأبو داود: الصوم (2402) , وابن ماجة: الصيام (1662) , وأحمد (6/46, 6/193, 6/202, 6/207) , والدارمي: الصوم (1707) . 2 مسلم: الصيام (1116) , والنسائي: الصيام (2309, 2310) , وأحمد (3/45, 3/50, 3/74) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 348 حشيشاً وأشباهه، ولا يقدر يحترف إلا مفطراً، فإن كان يقدر أن يعتاش بلا حرفته هذه فلا يفطر; فإن كان ليس له ما يقوم به إلا حرفته هذه، ولو يتركها لحقه الضرر، فأرجو أنه يجوز له؛ فإذا وقعت الضرورات حلت المحظورات. وأما الذي يفطر في النهار ويعتذر بالجوع، فلا له عذر، والذي يعتاش به في النهار يضمه إلى وقت الإفطار، إلا إن كان مثل هذا عندكم لو ما يفطر تلفت نفسه، أو لحقه ضرر بين، فلا تنكروا عليه. وأجاب الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف: أما الراعي إذا لم يتعمد الفطر، ووجد مشقة تفضي إلى الخطر على نفسه جاز له الفطر. وأجاب الشيخ عبد الله بن عبد العزيز العنقري: رعاة الغنم إذا صاموا رمضان وخافوا من شدة العطش، فلا بأس أن يفطروا؛ ولكن لا يفطروا حتى يشتد بهم العطش، وأما ظن وجود ذلك فلا يكفي. وأجاب أيضاً: الذي يرعى الإبل أو غيرها، أو يكون في عمل شاق فيعطش في نهار رمضان، فالظاهر من أصول الشرع: أن الضرورة تبيح مثل هذا، وهو: ما إذا كان صائماً فعطش فخاف إن بقي على صيامه من التلف أو حدوث علة، فحينئذ يباح له الفطر ويقضي; والفطر الذي يباح له هو الذي يسد رمقه، بمنْزلة الأكل من الميتة. وأما ترك التكسب الجزء: 5 ¦ الصفحة: 349 من أجل خوف المشقة فلا يترك، بل يسعى في طلب المعيشة ويصبر، فإن عرض له أمر ضروري فيعمل بما ذكرنا. [وقت النية للصوم] سئل الشيخ سعيد بن حجي: عمن أوجب النية للصوم الواجب من الليل، هل محلها الليل كله؟ أم تختص بوقت منه؟ فأجاب: قال في الشرح الكبير: ولا يصح صوم واجب إلا أن ينويه من الليل؛ وهو مذهب مالك والشافعي. وفي الكافي: عن حفصة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من لم يبيِّت الصيام، فلا صيام له " 1، رواه أبو داود. وفي المبدع: لا يصح صوم واجب إلا أن ينويه من الليل، لما روى ابن عمر عن حفصة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من لم يجمع الصيام قبل الفجر فلا صيام له " 2، رواه الخمسة. وعن عائشة مرفوعاً: " من لم يبيِّت الصيام قبل الفجر، فلا صيام له " 3، رواه الدارقطني. وظاهره: أنه في أي وقت من الليل نوى أجزأه، لإطلاق الخبر؛ وسواء وجد بعدها ما يبطل الصوم، كالجماع والأكل، أو لا، نص عليه. انتهى. فقد عرفت: أنه متى نوى من الليل قبل الفجر في الصوم الواجب صحت منه. [حكم السحور] سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عن السحور ... إلخ؟ فأجاب: وأما السحور، فهو مسنون وإن قل، كما في الحديث: " ولو أن يجرع أحدكم جرعة من ماء " 4.   1 النسائي: الصيام (2334) , والدارمي: الصوم (1698) . 2 الترمذي: الصوم (730) , والنسائي: الصيام (2333) , وأبو داود: الصوم (2454) , وأحمد (6/287) . 3 النسائي: الصيام (2331) , والدارمي: الصوم (1698) . 4 أحمد (3/12) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 350 [من يجهر بالإفطار] سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: عمن أكل في رمضان؟ فأجاب: والذي يأكل في رمضان أو يشرب، يؤدب. [مسائل متعلقة بصحة الصيام وبطلانه] سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: إذا داوى الإنسان عينه ليلاً فوجد طعمه في حلقه نهاراً ... إلخ؟ فأجاب: إذا داوى الإنسان عينه ليلاً، فوجد طعمه نهاراً في حلقه، أرجو أنه لا يضره. وسئل: عن وجود روائح الأشياء ... إلخ؟ فأجاب: روائح الأشياء إذا شمها الصائم فلا بأس بذلك إلا الدخان، إذا شمه الصائم متعمداً لشمه، فإنه يفطر بقصد شم الدخان، أيّ دخان كان؛ وإن دخل في أنفه من غير قصد لشمه لم يفطر، لمشقة التحرز منه. وسئل الشيخ سعيد بن حجي: عن الفصد والكحل في نهار رمضان؟ فأجاب: قال في الإقناع وغيره: ولا يفطر بفصد ولا شرط ولا رعاف; وقال في الكافي: وإن اكتحل فوصل الكحل إلى حلقه أفطر، لأن العين منفذ، فإن شك في وصوله لكونه يسيراً كالميل ونحوه، ولم يجد طعمه، لم يفطر؛ نص عليه. وقال الشافعي: لا يفطر الكحل؛ واختاره الشيخ تقي الدين. فقد عرفت: أن الأحوط تركهما في نهار رمضان. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 351 وأجاب الشيخ حمد بن عبد العزيز: الوارد أنه صلى الله عليه وسلم كان يكتحل إذا أراد أن ينام، ثلاثاً في هذه، وثلاثاً في هذه؛ واتباعه هو السنة. وأما الاكتحال في نهار رمضان، فالزاعم أنه سنة يطالب بالحجة، فهل يجد أنه اكتحل في نهار رمضان؟ كما ورد في السواك للصائم، وقلنا به لورود الأثر به، وتركنا كلام الفقهاء أنه يترك بعد الزوال; وقال شيخ الإسلام وابن القيم: لا يكره، فأخذنا بذلك. وأما الكحل: فلا حاجة إليه، ولم يزل أهل التحقيق يتقون مسائل الخلاف، ما لم يكن معهم نص يتركون قول المخالف له، وقد قال صلى الله عليه وسلم: " دع ما يريبك إلى ما لا يريبك " 1؛ فالأولى بل الواجب: اجتنابه في حق الصائم، لأن وصوله إلى الحلق متحقق بالتجربة. سئل الشيخ أبا بطين: عمن قبل أو لمس وهو صائم فأمنى أو أمذى ... إلخ؟ فأجاب: المشهور في مذهب أحمد، أنه يفطر بذلك، وفاقاً لمالك؛ واختار الشيخ تقي الدين أنه لا يفطر بذلك، وفاقاً لأبي حنيفة والشافعي، والله أعلم. سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ: عن الترعة؟ فأجاب: إذا كان صائماً فلا يدخلها؛ إذا وصلت الفم يتركها تخرج.   1 الترمذي: صفة القيامة والرقائق والورع (2518) , والنسائي: الأشربة (5711) , وأحمد (1/200) , والدارمي: البيوع (2532) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 352 سئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله: عن جماعة أفطروا في يوم غيم قبل غروب الشمس؟ فأجاب: الأحوط القضاء، وهو الذي نحب. وأجاب ابنه الشيخ عبد الله: من أكل أو شرب ظاناً بقاء الليل، فبان بالعكس، ففي وجوب القضاء عليه اختلاف في مذهب أحمد وغيره؛ واختار الشيخ تقي الدين أن لا قضاء عليه، فنأمره بالقضاء احتياطاً، لا وجوباً. سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عن تقليد المؤذن ... إلخ؟ فأجاب: وأما تقليد المؤذن، إذا كان في السماء غيم ونحوه، فلا ينبغي تقليده، لأنه يؤذن عن اجتهاد فلا يقلد؛ بل يجتهد الإنسان لنفسه، فلا يفطر حتى يتيقن أو يغلب على ظنه الغروب، فيجوز له الفطر مع غلبة الظن. وأما في الصحو، فيجوز الاعتماد على أذان المؤذن إذا كان ثقة. سئل الشيخ سليمان بن سحمان: عن قول من قال: إنه لا يجوز لأحد أن يفطر بعد مغيب الشمس، حتى يذهب شعاع الشمس من الأفق، يعني الحمرة الشديدة، التي تبقى بعد غيوب القرص؟ فأجاب: هذا القائل جاهل مركب، لا يدري، ولا يدري أنه لا يدري؛ وهذا المذهب الذي يحض عليه من الجزء: 5 ¦ الصفحة: 353 تأخير الأذان والفطر إلى ذهاب شعاع الشمس من الأفق، هو مذهب الرافضة، فإنهم يؤخرون الفطور إلى هذا الوقت; وقد قال صلى الله عليه وسلم: " لا تزال أمتي بخير ما عجلوا الفطر وأخروا السحور " 1. وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله: عن غروب الشمس، أيجوز للصائم أن يفطر بمجرد غروبها؟ فأجاب بقوله: الحمد لله، إذا غاب جميع القرص أفطر الصائم، ولا عبرة بالحمرة الشديدة الباقية في الأفق، وإذا غاب جميع القرص، ظهر السواد من المشرق، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: " إذا أقبل الليل من هاهنا، وأدبر النهار من هاهنا، وغربت الشمس، فقد أفطر الصائم " 2. فتأمل ما ذكره، رحمه الله، من أنه إذا غاب جميع القرص أفطر الصائم، وأنه لا عبرة بالحمرة الشديدة الباقية في الأفق. فإذا عرفت هذا، عرفت أن من نهى الناس عن الأذان، وعن الإفطار، إلا بعد ذهاب هذا الشعاع والحمرة الشديدة، فقد نهى عما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمر بسلوك طريقة الأرفاض، في تأخير الأذان والفطر إلى ظهور النجم وذهاب الحمرة؛ وقد أفصح، رحمه الله، بما يزيل الإشكال، بقوله: إذا غاب جميع القرص، فالحكم منوط بغيبوبة القرص جميعه، لا بذهاب الحمرة الشديدة، فإنه لا عبرة بوجودها.   1 أحمد (5/147) . 2 البخاري: الصوم (1954) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 354 سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد، رحمهما الله: عمن جامع في نهار رمضان؟ فأجاب: الذي يجامع فيه يقضي، وتلزمه الكفارة بعتق رقبة، فإن لم يجد صام شهرين متتابعين، فإن لم يقدر فإطعام ستين مسكيناً. وأجاب أيضاً: الذي وقع على امرأته بعدما تبين الفجر وهو ناس لصومه، فهذه المسألة فيها ثلاثة أقوال مشهورة، وهي روايات عن أحمد: أحدها: أن الناسي كالعامد يقضي ويكفّر؛ وهو قول مالك والظاهرية. الثاني: لا يكفّر وليس عليه إلا القضاء؛ اختاره ابن بطة، وهو رواية عن مالك. الثالث: لا يقضي ولا يكفّر؛ اختاره الآجري وأبو محمد الجوزي، والشيخ تقي الدين، وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي. قال في شرح مسلم: وهو قول جمهور العلماء، وهذا القول هو الذي يترجح عندنا. وأجاب الشيخ حمد بن ناصر بن معمر: إذا جامع جاهلاً أو ناسياً في نهار رمضان، هل حكم الجاهل حكم الناسي؟ أم بينهما فرق؟ فالمشهور أن حكمهما واحد عند من يوجب الكفارة. وبعض الفقهاء فرق بين من يكون جاهلاً بالحكم، أو جاهلاً بالوقت، فأسقط الكفارة عن الجاهل بالوقت، كما لو جامع أول يوم من رمضان يظن أنه من شعبان، أو جامع معتقداً أن الفجر لم يطلع فبان أنه قد طلع. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 355 ومن أسقطها عن الجاهل بالوقت فالناسي مثله وأولى; قال الشيخ تقي الدين: لا قضاء على من جامع جاهلاً بالوقت أو ناسياً، ولا كفارة أيضاً. وأجاب الشيخ سعيد بن حجي، بعد ذكر صوم يوم الشك الذي تقدم قوله: ولا تثبت بقية توابعه، يعني وجوب الكفارة بوطء فيه، وحلول الآجال والمعلقات ونحوه، إذا ثبت هذا، فاعلم أن المجامع يوم الشك لا كفارة عليه، وإنما عليه الصوم، لأنه إذا رآه أهل بلد لزم الناس كلهم الصوم، أي قضاء ذلك اليوم، لقوله: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} الآية. وأجاب الشيخ حمد بن عبد العزيز: وأما الجماع يوم الشك، وهو آخر يوم من شعبان، إذا غم على الهلال، أو حال دون منظره غيم أو قتر، فهي مسألة نزاع؛ وجمهور الفقهاء على وجوب الكفارة، وكلام شيخ الإسلام مشهور في عدم الوجوب، بناء على أصل، وهو أن الشرائع لا تلزم إلا بعد العلم، واحتج على ذلك بحجج من أشهرها: قصة تحويل القبلة، والرجل الذي أتى إلى أهل قباء وهم يصلون إلى بيت المقدس، فقال: أشهد لقد صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فتحول إلى الكعبة، أو كما قال، فاستداروا إلى الكعبة كما هم، وصلوا إليها بقيه صلاتهم، فقال: هذه حجة أن الشرائع لا تلزم إلا بعد العلم، لأنهم صلوا أول الصلاة يقيناً بعد نسخ القبلة، لكن لم يبلغهم، فاجتزوا بها ولم يعيدوها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 356 لكن يقال: مثل وجوب الكفارة في هذه المسألة، يسوغ لمن أحسن الاجتهاد أن يفتي فيها بما بلغ اجتهاده; والرخصة في ذلك للناس في هذه المسألة، والمجاهرة بذلك، جهل قبيح عند أهل التحقيق؛ والذي يتبع الرخص زنديق، لأنه متلاعب بالشريعة، ولم نزل نرى مشائخنا يحذرونا عن ذلك، شيخنا عبد الرحمن بن حسن، وابنه الشيخ عبد اللطيف، والشيخ علي بن حسين، وغيرهم. وأجاب الشيخ محمد بن عبد اللطيف: من جامع يوم الشك، فالصحيح من أقوال العلماء: أن لا قضاء عليه ولا كفارة. سئل الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين: لم أوجبوا الكفارة على الرجل مطلقاً وأسقطوها عن المرأة مع النسيان والإكراه؟ فأجاب: في هذه المسألة خلاف كثير، والمشهور في المذهب: وجوب القضاء والكفارة على الرجل مع النسيان كالعمد؛ وهو مذهب مالك. وعن أحمد رواية أخرى: لا كفارة عليه؛ اختاره ابن بطة. وعنه: لا قضاء، اختاره الآجري والشيخ تقي الدين، وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي. والمكره كالمختار في المشهور من المذهب، وفاقاً لأبي حنيفة ومالك. وعن أحمد رواية أخرى: لا قضاء ولا كفارة عليه. والمرأة المطاوعة يفسد صومها، وتكفّر في إحدى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 357 الروايتين؛ وهو قول أبي حنيفة ومالك. والرواية الأخرى: لا كفارة عليها، وهو مذهب الشافعي. وفي فساد صوم المكرهة على الوطء روايتان: إحداهما: يفسد، وهو قول أبي حنيفة ومالك. والثانية: لا يفسد، وهو أحد قولي الشافعي. وعلى القول بفساده، فنص أحمد: لا كفارة عليها؛ وهو قول الأكثرين. وفي وجوب الكفارة على الناسية قولان: أحدهما: أنها كالرجل؛ وهو الذي ذكره القاضي والمشهور في المذهب، وهو قول الجمهور: لا كفارة عليها. وفي عبارة الكافي التي ذكرتموها توجيه الفرق بين الرجل والمرأة في ذلك، وقوله: ولأنه حق مال يتعلق بالوطء، يعني أن الكفارة حق، يجب في المال بسبب الوطء; وقوله: من بين جنسه، معناها: أن الكفارة حق يوجبه الوطء خاصة من دون جنسه، أي جنس الوطء من أنواع الاستمتاع، كالقبلة واللمس ونحوهما، فلا كفارة في ذلك، أو مراده بجنسه جنس مفسدات الصيام، من الأكل والشرب ونحوهما. وأجاب الشيخ سعيد بن حجي: لا كفارة على من جامع وهو صائم في قضاء رمضان، لعدم حرمة الزمان؛ قال في الكافي: ولا تجب الكفارة بالوطء في غير رمضان، لعدم حرمة الزمان. وقال في الزبد وشرحه، لما ذكر الكفارة على من أفسد صوم رمضان بالجماع: فلا كفارة على من أفسده الجزء: 5 ¦ الصفحة: 358 بغير جماع، أو بجماع في غير رمضان، كنذر وقضاء، لأن النص إنما ورد في إفساد صوم رمضان بجماع. سئل الشيخ حسين بن علي بن حسين: عن رجل مرض في رمضان ثم عوفي مدة يسيرة، ثم أتاه مرض ثان ومات فيه ... إلخ؟ فأجاب: إذا مات رجل في رمضان، فلا يقضى عنه، إلا إذا عوفي بعد رمضان، ومضى وقت يمكنه فيه الأداء ولا فعل، فهو يقضى عنه، أو يكفّر عنه، على ما فيه من الخلاف. وأجاب الشيخ عبد الله أبا بطين: لا يقضى، يعني صيام الفرض إذا مات في مرضه، وأما النذر إذا كان عليه صيام نذر، لزم وليه صيامه عنه. وأجاب أيضاً: إذا ترك المريض الصلاة مدة، فإن كان لا يشعر بذلك لأجل المرض، فهو مرفوع عنه الوجوب، وإن كان يصلي ولا يعلم بينه وبين نفسه فيحمل ذلك على أنه مصل، ولا تقضى عنه الصلاة؛ هذا الظاهر وهو الأصح. وكذلك الصوم لا يقضى، وأما النذر فهو يقضى على الأصح. وأجاب الشيخ عبد الله العنقري: من أفطر أياماً من رمضان لعذر، ثم زال عذره وتمكن من القضاء ولم يقض حتى مات، فيطعم عنه عن كل يوم مسكين، ولا يصام عنه، لأن قضاء الصوم عن الميت يخص المنذور فقط. وأما من استمر عذره حتى مات فلا شيء عليه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 359 وأجاب بعضهم: وأما من دخل عليه رمضان آخر، وفي ذمته قبله قضاء من رمضان الأول، وتأخيره من غير عذر، فيطعم مع صيام ما عليه كل يوم مسكيناً، ربع صاع براً أو نصفه من غير البر. والظاهر من مذهب الشافعية: أن الإطعام يتكرر كل عام بالتأخير. [التتابع في قضاء رمضان] سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: هل يجب التتابع في قضاء رمضان؟ فأجاب: وأما قضاء رمضان فلا يجب فيه التتابع. [هلال المحرم إذا حصل فيه شك] سئل أيضاً، رحمه الله: إذا حصل شك في هلال المحرم ... إلخ؟ فأجاب: روي عن أحمد قال: إذا اشتبه علينا أول الشهر صمنا ثلاثة أيام، وأما البيض فالأمر فيها واسع، إذا حصل صيام ثلاثة أيام، حصل المطلوب من صوم ثلاثة أيام. [ما يفعل من الصيام والنحر في السابع والعشرين من رجب وليلة النصف من شعبان] سئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن: عما يخص به يوم المولد من النحر، وما يفعل في السابع والعشرين من رجب من تخصيصه بالصوم والنحر، وما يفعل في ليلة النصف من شعبان من النحر وصيام اليوم، وما يخص به يوم عاشوراء من النحر؟ فأجاب: هذه الأمور المذكورة من البدع، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه، فهو رد " 1، وقوله في الحديث: " وإياكم ومحدثات الأمور! فإن كل   1 البخاري: الصلح (2697) , ومسلم: الأقضية (1718) , وأبو داود: السنة (4606) , وابن ماجة: المقدمة (14) , وأحمد (6/240, 6/270) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 360 محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة " 1؛ والعبادات مبناها على الأمر والنهي والاتباع، وهذه الأمور لم يأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا فعلها الخلفاء الراشدون، ولا الصحابة والتابعون; وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في بعض ألفاظ الحديث الصحيح: " من عمل عملاً ليس عليه أمرنا، فهو رد " 2؛ وهذه الأمور ليس عليها أمره صلى الله عليه وسلم، فتكون به مردودة يجب إنكارها، لدخولها فيما أنكر الله ورسوله، قال تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [سورة الشورى آية: 21] ؛ وهذه الأمور مما أحدثها الجهال بغير هدى من الله. وأما حديث التوسعة على العيال يوم عاشوراء، فضعفه شيخ الإسلام، لكن يحصل التوسعة بدون اتخاذه عيداً. وأجاب الشيخ عبد الله أبا بطين: الحديث المروي عن آدم، في فضل يوم النصف من رجب كذب لا أصل له. وأما صيام يوم النصف من شعبان فغير مشروع، وإن كانت تلك الليلة فيها فضل. وأما نهار الليلة التي يدعون أنها ليلة المعراج فلم يرد فيه شيء، وتخصيصه بالصيام بدعة. وأجاب الشيخ حسن بن حسين بن علي: وما يجري في رمضان من تعظيم يوم الخميس، لا سيما الأخير، فهذا مما ينبغي إنكاره؛ وظاهر كلام الشيخ بل صريحه: أن هذا من المنكرات المحدثة، فتأمل كلامه يظهر لك الحكم إن شاء الله تعالى.   1 أبو داود: السنة (4607) , والدارمي: المقدمة (95) . 2 البخاري: الصلح (2697) , ومسلم: الأقضية (1718) , وأبو داود: السنة (4606) , وابن ماجة: المقدمة (14) , وأحمد (6/73, 6/146, 6/180, 6/240, 6/256, 6/270) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 361 [ليلة القدر هل تنقل في العشر الأواخر] سئل الشيخ سعد بن حمد بن عتيق: عن ليلة القدر هل تنقل في العشر الأواخر؟ فأجاب: ذكر العلماء، رحمهم الله تعالى: أن ليلة القدر تنقل في الوتر من العشر الأواخر. [خروج المعتكف لغسل الجمعة] سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عن خروج المعتكف لغسل الجمعة؟ فأجاب: وأما خروج المعتكف لغسل الجمعة فلا يخرج له، ولا لغيره من السنن، إلا أن يشترط ذلك في أول اعتكافه، فيجوز له الخروج، ويصح شرطه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 362 كتاب الحج [مشروعية التطوع بالحج والعمرة وزيارة المسجدين] قال الشيخ سليمان بن سحمان: اعلم وفقني الله وإياك لمعرفة كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم واتباع سبيل المؤمنين، أنه ليس مع من خالف في مسألة التطوع بالحج والعمرة، وزيارة المسجدين، وقال بالمنع من ذلك، إلا ما ورد من النهي العام عن مجامعة المشركين ومساكنتهم، والإقامة بين ظهرانيهم، كقوله صلى الله عليه وسلم: " أنا بريء من مسلم يقيم بين أظهر المشركين. قيل: ولِم يا رسول الله؟ قال: لا تراءى ناراهما " 1، وقوله صلى الله عليه وسلم: " من جامع المشرك أو سكن معه، فهو مثله " 2، إلى غير ذلك من الأحاديث الواردة في المنع من الإقامة. وقد أجمع العلماء على ذلك إلا مع إظهار الدين، وهذا حق لا مرية فيه، وبه ندين الله؛ وقد خالف في ذلك من أعمى الله بصيرة قلبه، واتبع هواه. {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ} [سورة القصص آية: 50] . ولكن قد ورد من الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يخصص المساجد الثلاثة، ويخرجها عن عموم النهي، كقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري ومسلم: " لا تشد   1 الترمذي: السير (1604) , وأبو داود: الجهاد (2645) . 2 أبو داود: الجهاد (2787) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 363 الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد " 1 الحديث. ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شد الرحال، وإعمال المطي إلى غير هذه المساجد الثلاثة نهياً عاماً، وأخبر أن الصلاة الواحدة في مسجده صلى الله عليه وسلم بألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام، فصلاة فيه بمائة ألف صلاة فيما سواه. وأخبر صلى الله عليه وسلم " أن الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة، وأن العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما " 2، وقال صلى الله عليه وسلم: " تابعوا بين العمرة والحج، فإنهما ينفيان الفقر " 3، ولما قال سراقة بن مالك: يا رسول الله، ألعامنا هذا، أم للأبد؟ فقال صلى الله عليه وسلم: " بل لأبد الأبد " 4، فأطلق صلى الله عليه وسلم ذلك، ولم يخصص زماناً دون زمان، ولا وقتاً دون وقت، ولا حالاً دون حال، بل أطلق وعمم. وقد علم الله أنه سيكون فيها كفر وشرك، ولكن لما كان لهذه المساجد الثلاثة من المزية والفضل ما خصها الله به من بين سائر مساجد الأرض وبقاعها، لأن ذلك الفضل والمزية وصف لازم لها لا ينفك عنها أبداً، كانت مستثناة من عموم النهي، بخلاف سائر المساجد والبقاع الفاضلة، كالثغور فإن ذلك الوصف عارض لها؛ فإن كون البقعة ثغراً للمسلمين، أو غير ثغر هو من الصفات العارضة لا اللازمة لها، بمنْزلة كونها دار إسلام، أو دار كفر، أو دار حرب، أو دار سلم، أو دار علم، أو دار جهل ونفاق، فكذلك تختلف باختلاف سكانها وصفاتهم، بخلاف المساجد الثلاثة، فإن مزيتها صفة لازمة لها لا يمكن إخراجها عن ذلك، كما ذكره شيخ الإسلام في بعض أجوبته.   1 البخاري: الجمعة (1189) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1410) . 2 البخاري: الحج (1773) , ومسلم: الحج (1349) , والترمذي: الحج (933) , والنسائي: مناسك الحج (2622, 2629) , وابن ماجة: المناسك (2888) , وأحمد (2/246, 2/461, 2/462) , ومالك: الحج (776) . 3 الترمذي: الحج (810) , والنسائي: مناسك الحج (2631) , وأحمد (1/387) . 4 البخاري: الحج (1785) والتمني (7230) , ومسلم: الحج (1216) , والنسائي: مناسك الحج (2805) , وأبو داود: المناسك (1787) , وابن ماجة: المناسك (2980) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 364 إذا عرفت ذلك: فإنشاء السفر للحج والعمرة، وزيارة المسجدين للصلاة فيها، سفر مشروع مطلوب مندوب إليه، محبوب لله مرضي له، لعبادة الله فيها، وإقامة ما شرعه الله ورسوله فيها، ولما في ذلك من الفضل والأجر العظيم، والعبادات التي لا يصح الإتيان بها إلا فيها، ولا يمكن فعلها في غيرها، كالطواف بالبيت والوقوف بعرفة، والمبيت بمزدلفة، والوقوف بالمشعر الحرام، وإراقة الدماء في أيام منى، إلى غير ذلك من إقامة شعائر الله. {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [سورة الحج آية: 32] . فمن رام تعطيل ما شرعه الله ورسوله، وحرم على الناس الحج والعمرة، وزيارة المسجدين، بغير دليل شرعي يجب التسليم له، فقد ظلم نفسه؛ {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا} [سورة البقرة آية: 114] ، وهذا بخلاف إنشاء السفر للتجارة، فإن ذلك ليس مطلوباً شرعاً مندوباً إليه، مرغباً فيه محبوباً لله، بل مباحاً في الجملة; فإن أفضى إلى معصية، كان ذلك ممنوعاً شرعاً لمن لم يقدر على إظهار دينه. وقد تكلم العلماء قديماً وحديثاً، في مسألة الإقامة بين أظهر المشركين والسفر إلى ديارهم، فمنعوا منها إلا مع إظهار الدين، وبعضهم منع مطلقاً، ولم يمنع أحد من العلماء في قديم الدهر وحديثه، من التطوع بالحج والعمرة، وزيارة المسجدين للصلاة فيهما، إلا إذا أفضى إلى إسقاط فرائض الله، كترك الصلاة وإضاعتها، أو إضاعة أوقاتها الجزء: 5 ¦ الصفحة: 365 وجُمعها، على غير الوجه الشرعي؛ فقد ذكر بعض العلماء: أن ذلك حرام بالإجماع، ومن تحقق أن ذلك يصيبه في حجه، حرم عليه الحج، رجلاً كان أو امرأة. وأما كونه لا يقدر على إظهار دينه فيها، فهذا لا يمنع من إقامة ما شرعه الله ورسوله، من الحج والعمرة؛ ولا يمكن أحداً من الناس أن يحرم على الناس، ما لم يحرمه الله ورسوله، بمفهومه، من غير دليل شرعي يجب المصير إليه، والتسليم له، خصوصاً إذا عجز عن إظهار دينه. فمن حج أو اعتمر، فعليه أن يتقي الله ما استطاع، وأن يفعل ما أمكنه من إظهار دينه، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها؛ والقول بالمنع من التطوع بالحج والعمرة، قول مبتدع محدث، لم يقل به أحد فيما نعلم من علماء الأمة وأئمتها. [الاستنابة في الحج] سئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن، رحمه الله: عن الاستنابة ... إلخ؟ فأجاب: اعلم، وفقني الله وإياك لطاعته، أن من استكملت فيه شروط وجوب الحج لا يخلو، إما أن يكون صحيح البدن وهو الغالب، فيلزمه السعي إلى الحج فوراً إذا تمت شروطه، كأمن الطريق، وإما أن يكون مريضاً ونحوه، والمريض إما أن يرجى برؤه فلا يجوز له الاستنابة بحال، فإن برئ حج بنفسه، وإن مات أقيم من يحج عنه من رأس ماله. وإن كان المريض لا يرجى برؤه، كمرض السل في آخره، وجب عليه أن يقيم من يحج عنه، كالكبير الذي يشق الجزء: 5 ¦ الصفحة: 366 عليه السفر مشقة غير محتملة؛ قال في الإنصاف: وإن عجز عن السعي لكبر أو مرض لا يرجى برؤه، لزمه أن يقيم من يحج عنه من بلده. انتهى. قلت: وأصله: حديث ابن عباس: " أن امرأة من خثعم، قالت: يا رسول الله، إن فريضة الله على عباده في الحج، أدركت أبي شيخاً كبيراً " 1 الحديث، وهذا الحكم خاص بمن كان بعيداً عن الحرم، ولم يتلبس بالإحرام من الميقات; أما من أحرم منه، فليس له أن يستنيب من يحج عنه بحال، إذا أحصر بعدو، أو مرض ونحوه، ولم ينقل عن أحد من العلماء أنه أجاز لمن أحصر أن يستنيب، فيما أعلم؛ وحكم من حصره عدو، أو ضل عن الطريق: التحلل بهدي إن وجده، وإلا صام عشرة أيام، للآية الكريمة; هذا إذا لم يشترط في ابتداء إحرامه. وهل يجوز له إذا لم يشترط، أن يتحلل بالمرض وذهاب النفقة؟ المذهب أنه لا يحل حتى يقدر على البيت؛ فإن فاته الحج تحلل بعمرة، وفيه احتمال يتحلل كمن حصره عدو؛ قال في الإنصاف: وهو رواية اختارها الشيخ تقي الدين. انتهى. وهذا فيمن إحرامه تام; أما من أحصر عن طواف الإفاضة فإنه لا يتحلل حتى يطوف؛ قال في المنتهى وشرحه: ومن أحصر عن طواف الإفاضة فقط، لم يتحلل حتى يطوف ويسعى إن لم يكن سعى، وكذا لو أحصر عن السعي فقط، لأن الشرع ورد بالتحلل بإحرام تام، يحرم   1 البخاري: الحج (1513) , ومسلم: الحج (1334) , والترمذي: الحج (928) , والنسائي: مناسك الحج (2635, 2641) وآداب القضاة (5390) , وأبو داود: المناسك (1809) , وابن ماجة: المناسك (2907) , وأحمد (1/213, 1/219, 1/251, 1/359) , والدارمي: المناسك (1831, 1832, 1833) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 367 جميع المحظورات؛ وهذا يحرم النساء خاصة فلا يلحق به، ومتى زال الحصر أتى بالطواف والسعي إن لم يكن سعى وتم حجه. إذا علمت ذلك، فالواجب على من ينتسب إلى معرفة شيء من أحكام الشرع، أن لا يأتي في مسألة حتى يعرف حكمها بالنص عليها في كلام العلماء، رحمهم الله. فعلى هذا، لا تصح الاستنابة عن طواف الإفاضة بحال، ويلزم من لم يطف للإفاضة بنفسه أن يعتزل النساء حتى يرجع، فيحرم من الميقات بعمرة، فإذا طاف طواف العمرة وسعى، طاف لحجه وسعى إن لم يكن سعى. وأجاب أيضاً: وقع من بعض الحاج أنهم تركوا طواف الإفاضة، وهو أحد أركان الحج الأربعة التي لا يتم الحج إلا بالإتيان بجميعها؛ وبعض من تركه للمرض أو خوفه، استأجر من يطوف عنه، وهذا لا يجزي عن أحد بكل حال، لوجوه منها: أن العلماء، رحمهم الله، نصوا على أنه لا يجوز الاستئجار على فعل يختص أن يكون فاعله من أهل القربة، كالصلاة والطواف ونحو ذلك; ومنها: أنه وإن جاز للمريض مرضاً لا يرجى برؤه، كمرض السل في آخره أن يقيم من يحج عنه، فمحله إذا كان في بلده، لأنه لا يحتمل مشقة طول السفر، بخلاف من أحرم من الميقات، فإنه لا يجوز له الاستنابة، سواء كان مرضه يرجى برؤه أم لا؛ ولو أن من وجب عليه الحج، وهو في بلده مرض بها، مثل هذا المرض الجزء: 5 ¦ الصفحة: 368 الذي وقع بمكة، فإنه لا يستنيب ما دام حياً، لأن مثل هذا المرض إن سلم صاحبه من الموت عوفي قريباً منه غالباً، فلا يجوز أن يستنيب داخل مكة، هذا لا يقوله أحد من العلماء فيما نعلم. وإنما اختلف العلماء في مريض أحصر عن الحج بمرضه، فالأصح في مذهب أحمد: أنه لا يحل حتى يقدر على البيت، فإن فاته الحج تحلل بعمرة؛ هذا إذا كان إحرامه تاماً لم يتحلل التحلل الأول، أما من أحصر عن طواف الإفاضة، أو السعي، أو هما، فإنه لا يتحلل حتى يأتي بما بقي عليه من طواف أو سعي؛ نص عليه في المنتهى وشرحه; وهو الصحيح في مذهب الإمام أحمد. وسئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عمن مرض فلم يطف طواف الإفاضة ... إلخ؟ فأجاب: من مرض فلم يطف طواف الإفاضة، فمثل هذا يطاف به محمولاً، ولا يستنيب إن كان حجه فرضاً، فإن كان نفلاً جاز له أن يستنيب مطلقاً. والذي توفي وباق عليه بعض مناسك الحج، فإنها تفعل عنه بعد موته، ولا فرق بين الفرض والنفل، ولا كونه عن نفسه أو غيره. وسئل الشيخ محمد بن عبد اللطيف: هل يصح التوكيل في طواف الوداع إذا كان الحج فريضة؟ مثل إذا أصاب إنساناً مرض ونحوه؟ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 369 فأجاب: لا يصح التوكيل في طواف الوداع إذا كان فريضة، بل يطاف به راكباً أو محمولاً، فإن لم يفعل فعليه دم. سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: عن السفر بالأجنبية ... إلخ؟ فأجاب: الرجل الذي يسافر بامرأة أجنبية يؤدب، لأنه لا يجوز أن يسافر بها بلا محرم. وسئل الشيخ سعد بن حمد بن عتيق: ماذا على المرأة إذا سافرت مسافة قصر بغير محرم؟ فأجاب: إن تابت فالتوبة تجُبُّ ما قبلها، وإن لم تتب زجرت بما يردعها هي وأمثالها. سئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب وابنه عبد الله: عمن توفي ووجد بعده ثمانية حمران ... إلخ؟ فأجابا: الرجل الذي مات عندكم وهو فقير ساقط عنه الحج في حياته، وعند موته حصل له ثمانية حمران، من ناس علمهم القرآن، وقال: اجعلوها في حجة، وله ورثة، فتكون الحمران بين الورثة. وسئل: إذا مات الرجل وهو غني، ولم يحج ولم يوص بحجة، هل تؤخذ من المال ويحج عنه؟ أم تسقط؟ فأجاب: يؤخذ قدرها من ماله، وينظر في قرابته من يحج لوجه الله، ويعطى الدراهم يستعين بها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 370 وسئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد، رحمه الله: عمن توفي وخلف قدر خمسة عشر أو عشرين ريالاً، وأوصى بحجة، وعمن لم يوص بشيء، هل تقدم الحجة على الميراث والحالة هذه، أم لا؟ فأجاب: لا يخفاك كلام أهل العلم، ولكن مشكل علي كون مثل هذا يؤخذ من ماله، وتصح الوصية به والحالة هذه؛ والذي ذكره أهل العلم: أن من شروط وجوب الحج، أن يملك زاداً وراحلة، وما يحتاج إليه في سفره، بشرط أن يكون ذلك فاضلاً عن قوته وقوت عياله، حتى قال بها أكثر الحنابلة على الدوام، وفاضلاً عن وفاء دينه، سواء كان الدين حالاً أو مؤجلاً، أو لله أو لغيره. وأتحرى أن مثل هذا الذي تذكر ما يوجد فيهم هذه الشروط، وعلى كل حال لا يؤخذ من مالهم شيء؛ ولو أوصى به أحد منهم ما صحت وصيته. وأجاب أيضاً: الذي مات وعليه حج، يحج عنه من ماله. وأجاب الشيخ عبد الله أبا بطين: وأما من مات ولم يحج، فإن كان قد وجب عليه الحج قبل موته، لاستكمال شروط الوجوب في حقه مع سعة الوقت، وجب أن يحج عنه من رأس ماله، أوصى به أو لا. وإن كان الميت لم يجب عليه الحج قبل موته، لعدم تكامل شرائط الوجوب في حقه في حياته، لم يجب أن يحج عنه من ماله إن لم يوص به، فإن أوصى به فمن ثلثه؛ هكذا ذكره أصحابنا وغيرهم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 371 قال أصحابنا: من لزمه حج أو عمرة، فتوفي قبله، وجب قضاؤه، فرط أو لا، من رأس ماله، كالزكاة والدين، ولو لم يوص به؛ واحتجوا بحديث ابن عباس، رضي الله عنهما: " أن امرأة قالت: يا رسول الله، إن أمي نذرت أن تحج، فلم تحج حتى ماتت، أفأحج عنها؟ قال: نعم، حجي عنها، أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته؟ فاقضوا الله، فالله أحق بالوفاء " 1، رواه البخاري. وسئل: إذا مات وفي ذمته دين وحجة الإسلام، وماله لا يفي بهما؟ فأجاب: وأما من مات وعليه حجة الإسلام، بأن يكون قد وجب عليه الحج في حياته لاستكمال شروطه، حج عنه من ماله. فإن كان عليه دين وماله لا يفي، فالدين ونفقة الحج سواء، يقسم بالحصص. انتهى. وأما مسألة أخذ الجعالة على الحج، فاختلف العلماء، رحمهم الله فيها، وأبطل الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله، منها ما أبطله السلف، وهو أنه لا يحج إلا لأن يعطى أجرة أو جعلاً على ذلك، فهذا عمله باطل ولا ثواب له في الآخرة، لأنه قصد بعمله الدنيا؛ ومن قصد بعمله الذي يبتغى به وجه الله الدنيا، فليس له في الآخرة من نصيب. وصحح في الشرح الكبير والمغني: أنه لا يجوز الاستئجار للحج، قالا: وهو مذهب أبي حنيفة وإسحاق، لأنها عبادة يختص   1 البخاري: الحج (1852) , والنسائي: مناسك الحج (2633) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 372 فاعلها أن يكون من أهل القربة، فلم يجز أخذ الأجرة عليها كالصلاة. قال الشيخ تقي الدين: والمستحب أن يأخذ الحاج من غيره ليحج، لا أن يحج ليأخذ، ومثله: كرزق أخذ على عمل صالح، يفرق بين من قصد الدين، والدنيا وسيلة، والأشبه: أن عكسه ليس له في الآخرة من نصيب. والأعمال التي يختص فاعلها أن يكون من أهل القربة، هل يجوز إيقاعها على غير وجه القربة؟ فمن قال: لا يجوز ذلك، لم يجز الإجارة عليها، لأنها بالعوض تقع غير قربة؛ وإنما الأعمال بالنيات، والله تعالى لا يقبل من العمل إلا ما أريد به وجهه; ومن جوز الإجارة، جوز إيقاعها على غير وجه القربة، وقال: تجوز الإجارة عليها، لما فيها من نفع المستأجر. انتهى. ذكره عنه في الاختيارات. وأجاب الشيخ عبد الرحمن بن حسن: وأما المال الذي يجعل لمن ينوب في الحج، فإن أخذه ليحج صح، وأما إذا حج ليأخذ فلا يصح؛ كذلك ما يصح له أن يوكل غيره، لا في بلد الميت ولا في غيرها، فإن استأجر من يحج بدله من بلد هي أقرب إلى مكة من بلد الميت، فهذا لا يصح أيضاً. وقولك: من يأخذ ذلك لاشتياقه إلى البيت ومشاعر الحج، وللعمل الصالح، لما فيه من زيادة الفضل، فهذا هو الذي تصح نيابته كما تقدم، فإن كان قصده التوصل إلى البيت، فله الجزء: 5 ¦ الصفحة: 373 أجر لقصده ذلك، وما فعله غير المناسك التي هي أركان الحج، وواجبات، وسنن، فثوابه له، وأما الأركان والواجبات والسنن، فثواب ذلك يرجع للذي هو نائب عنه، وفضل الله واسع. وأما إذا أخذ مالاً من عمان لصاحب له في نجد، فلا يجوز، لأن الواجب الحج للميت من بلده التي هي أبعد من مكة. وقال أيضاً: وقد نشرت لطلبة العلم، ولمن سألني من عوام المسلمين، أنها لا تصح النيابة في الحج، إذا أخذ ما أوصى به الموصي، إلا إذا أخذ ليحج، فيكون القصد أن يتوصل بما يأخذه إلى بيت الله، رغبة في رؤية البيت والطواف به، وكثرة ثواب العمل فيه، كما قال الخليل عليه السلام {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ} [سورة إبراهيم آية: 37] . وبعض الناس مولع بزيارة هذا البيت، فيطلب ما يتوصل به إليه، فتصح نيابته في الحج والعمرة على هذا الوجه، وأما إذا حج ليأخذ الأجرة فلا يصح حجه، وإن سماه بعض الفقهاء جعلاً، فهو استئجار بلا ريب؛ وقد نص الفقهاء، رحمهم الله، على أنه لا يجوز أخذ الأجرة على عمل يكون قربة يتقرب به إلى الله، كالأذان والصلاة؛ وأظن أكثر من يسافر لأخذ الوصايا بالحج إنما قصدوا هذا الثاني، والله أعلم بما تنطوي عليه الضمائر من الإرادات والنيات والمقاصد. فهذا الذي ذكرت لك هو الذي نأخذ به، ونفتي به المستفتين، ونبينه للجاهلين بحسب القدرة والطاقة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 374 وسئل بعضهم: عن الحج عن الغير لوفاء دينه بما يحصل له من الجعل؟ فأجاب: قد اختلف العلماء أيهما أفضل، والأظهر أن الأفضل الترك؛ فإن كون الإنسان يحج لأجل أن يستفضل شيئاً من النفقة ليس من أعمال السلف، حتى قال الإمام أحمد، رحمه الله: ما أعلم أحداً كان يحج عن أحد بشيء، ولو كان هذا العمل صالحاً لكانوا إليه مبادرين. والارتزاق بأعمال البر ليس من أعمال الصالحين، أعني إذا كان مقصوده بالعمل اكتساب المال. وهذا المدين يأخذ من الزكاة ما يوفي دينه به، خيراً له من أن يقصد أن يحج ليأخذ دراهم يوفي بها دينه. ولا يستحب للرجل أن يأخذ مالاً يحج به عن غيره، إلا لأحد رجلين: إما رجل يحب الحج ويودّ رؤية المشاعر وهو عاجز، فيأخذ ما يقضي به وطره الصالح، ويؤدي به عن أخيه فريضة الحج، أو رجل يحب أن تبرأ ذمة الميت عن الحج، إما لصلة كانت بينهما، أو لرحمة عامة المؤمنين، أو نحو ذلك، فيأخذ ما يأخذ ليؤدي به ذلك. وجماع هذا: أن المستحب أن يأخذ ليحج، لا أن يحج ليأخذ، هكذا في جميع الأرزاق المأخوذة على عمل صالح، فمن ارتزق ليتعلم أو يعلم أو ليجاهد، كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " مثل الذين يُقرئون أمتي ويأخذون أجورهم، كمثل أم موسى في الإرضاع "، بخلاف المستأجرة على الرضاع، إذا كانت أجنبية; وأما من اشتغل بصورة العمل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 375 الصالح لأن يرتزق، فهذا من أعمال الدنيا؛ ففرق بين أن يكون الدين مقصوده والدنيا وسيلة، ومن تكون الدنيا مقصده والدين وسيلة، والأشبه أنه ليس له في الآخرة من خلاق، كما دلت عليه نصوص ليس هذا موضعها. وأجاب الشيخ سليمان بن سحمان: وما ذكرت من أخذ النيابة من أناس من أهل الكويت، تعرفهم وتعرف عقائدهم، وأنهم على عقائد أهل السنة، وأنك ما أخذت إلا من أجل الحاجة، مستأنساً بكلام شيخ الإسلام في الاختيارات، بأن النيابة تجوز مع الحاجة، وأن بعض من لديك من الإخوان أنكر ذلك، وقال: ما في الكويت إلا مشرك، أو أخو المشرك، فاعلم: أن أخذ النيابة فيها ما فيها، وكلام أهل التحقيق فيها معروف، كما هو مبسوط في رسالة الشيخ محمد بن عبد الوهاب لابن سحيم، وجواب ابن غنام عن ذلك؛ لكن إذا كان المحجوج عنه مسلماً، تعرفون عقيدته وديانته، وأنه ليس بمشرك، فلا بأس بها على الوجه الذي أباحه العلماء. فإن الذي عليه سائر العلماء من أهل السنة والجماعة، أن الإنسان إذا دخل في الإسلام، وحكم بإسلامه، لا يخرجه من الإسلام ما يفعله من الكبائر، كالسرقة والزنى وشرب المسكر، وأخذ الأموال ظلماً وعدواناً; وإنما يخرجه من الإسلام إلى الكفر: الشرك بالله، وإنكار ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من الدين، بعد معرفته لذلك، وإقامة الحجة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 376 عليه؛ وقد قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [سورة النساء آية: 48] ، فثبت بهذه الآية المحكمة: أن جميع الذنوب ما خلا الشرك بالله متعلقة بالمشيئة، وقد يغفرها الله لمن يشاء من عباده؛ وأما الشرك بالله فلا يغفره إلا بالتوبة، ومن مات عليه فهو من أهل النار المخلدين فيها، ولو كان من أعبد الناس وأزهدهم، ولا ينفع مع الشرك بالله عمل البتة. فإذا عرفت هذا، فهذا الرجل الذي من أهل الكويت، عاص لله بإقامته في هذا البلد الذي هو بلد كفر، لا يجوز للمسلم الإقامة فيه، لكنه بهذه الإقامة إنما يكون عاصياً، ولا يكفر بهذا الذنب إلا جنس الخوارج المكفرين بالذنوب. فقول القائل: إنه من إخوان المشركين بهذه الإقامة، خطأ محض، وأخاف أن يكون قد دخل في جملة من يكفِّر بالذنوب، نعوذ بالله من القول على الله بلا علم، ومن الجراءة على الأحكام الشرعية بلا دليل. وأخذ النيابة عن المسلم الموحّد، المؤمن بالله ورسوله على الوجه الذي أباحه العلماء لا مانع منه ولا محذور فيه، وإن كان عاصياً أو فاسقاً، أو ظالماً أو مكّاساً أو غير ذلك من الذنوب التي لا تخرجه من الملة; ومعاداة من أخذها، ومقاطعته، والتفريق بين الإخوان واختلاف كلمتهم، مما يوجب التباغض والتشاحن والتدابر، لا يجوز، وهو مما يسخط الله ولا يحبه؛ ولا ينبغي هذا بين الإخوان، بل هذا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 377 من دسائس الشيطان أخرجها في هذا القالب، والله المستعان. قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن، رحمه الله تعالى: أقام زيد عمراً نائباً عن بكر، يسميه في العمرة والحج له عن عمرة الإسلام وحجة الإسلام، فيحرم من الميقات بنية العمرة والحج قائلاً عند دخوله في الإحرام: لبيك، عمرة عن فلان، ويسميه، ويلبي حتى يطوف بالبيت طواف العمرة سبعة أشواط، يرمل في الثلاثة الأول، ثم يصلي ركعتين خلف المقام. ثم يخرج إلى الصفا من بابه، ويرقى على الصفا، ثم يسعى بين الصفا والمروة سبعة أشواط; ثم يحل من عمرته بالحلق أو التقصير. ثم إذا أراد الخروج إلى منى في اليوم الثامن، طاف بالبيت، وصلى ركعتين، وأحرم بالحج، وقال: لبيك، حجاً عن فلان، ويسميه، ويخرج إلى عرفات، ولا يدفع منها إلا بعد غروب الشمس. ثم يفعل ما فعل الحاج، فإذا أتى منى يوم العيد، رمى جمرة العقبة خاصة; ثم يذبح الهدي هدي التمتع، وأدناه جذع من الضأن له ستة أشهر. ثم يفيض إلى مكة ويطوف طواف الزيارة، وهو ركن، ويسعى بين الصفا والمروة، وهو ركن أيضاً. ثم يرجع إلى منى ويبيت بها ليالي منى، ويرمي الجمار الثلاث كل يوم إذا زالت الشمس، كل جمرة سبع حصيات صغار أكبر من الحمص. ثم إذا أراد أن يخرج طاف طواف الوداع، فإذا فعل ذلك تم حجه وعمرته عمن استنيب عنه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 378 وسئل: عمن حمل الرافضة إلى مكة؟ فأجاب: من حمل الرافضة إلى مكة، فقد عصى الله تعالى، وأصر على كبيرة من الكبائر، فمن كان كذلك صار فاسقاً. [الحج على حيوان مغصوب] سئل الشيخ حسن بن حسين: عمن أنشأ الحج على حيوان مغصوب؟ فأجاب: أما التحريم فمطلقاً، وأما عدم الصحة فظاهر كلامهم ما صرح به في الغاية، حيث قال: أو حج بغصب عالماً به ذاكراً له وقت عبادة لم تصح، وإلا صحت، ويتجه لو تاب في حج قبل دفع من عرفة أو بعده، إن عاد فوقف مع تجديد إحرام الصحة، لتلبسه بالمباح حال فعل الأركان. انتهى. [عقد الرداء عند الإحرام لحاجة] سئل الشيخ عبد الله العنقري: عن عقد الرداء عند الإحرام لحاجة؟ فأجاب: الظاهر - والله أعلم - أن ذلك لا يجوز على ظاهر المذهب، واختار الشيخ الجواز لحاجة. وقال أيضاً في النسك: يجوز عقد ردائه عند الإحرام لحاجة. وأما الاستظلال بالشمسية ونحوها، فظاهر المذهب المنع من ذلك، وفي رواية للإمام أحمد ما يفهم جوازه. والذي يظهر: أنه إن كان لحاجة فلا بأس، وإن كان لغير حاجة، فلا، لقول ابن عمر: " اضح لمن أحرمت له ". انتهى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 379 وسألت شيخنا: الشيخ سعد بن حمد بن عتيق؟ فقال: الراجح الجواز للحاجة في المسألتين. [كشف رأس الأقرع] وسئل الشيخ محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف: عن كشف رأس الأقرع؟ فأجاب: إن كان إذا كشف رأسه يخشى عليه ضرر مرض أو غيره فيجوز أن يغطيه بشمسية أو غيرها، ويلزمه فدية صيام ثلاثة أيام، أو يطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع، أو يذبح شاة، هو بالخيار. وإن ترك الكشف حياء من الناس من غير مضرة، فليس له رخصة، وإن غطاه فهو عاص آثم. [هل الْحِجْر من البيت] سئل أبناء الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وحمد بن ناصر: عن الحِجْر، هل هو من البيت؟ فأجابوا: الحِجْر من البيت، لما روت عائشة، رضي الله عنها، قالت: " سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحِجر، أمن البيت هو؟ قال: نعم. قلت: فَلِمَ لَمْ يدخلوه البيت؟ قال: إن قومك قصرت بهم النفقة، قلت: فما شأن بابه مرتفعاً؟ قال: فعلوا ذلك ليدخلوا من يشاؤوا، ويمنعوا من يشاؤوا، ولولا أن قومك حديثو عهدهم في الجاهلية أن تنكر قلوبهم، لنظرت أن أدخل الحجر بالبيت، وأن ألزق بابه بالأرض " 1، وعنها قالت: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن قومك استقصروا من بنيان البيت، ولولا حداثة عهدهم بالشرك أعدت ما تركوا منه؛ فإن بدا لقومك من بعدي، فهلمي لأريك ما تركوا   1 البخاري: الحج (1584) , ومسلم: الحج (1333) , والدارمي: المناسك (1869) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 380 منها؛ فأراها قريباً من سبعة أذرع " 1، رواهما مسلم. وعنها قالت: " قلت: يا رسول الله، إني نذرت أن أصلي في البيت، قال: صلي في الحجر، فإن الحجر من البيت "، رواه الترمذي، وقال: حسن صحيح. فمن ترك الطواف بالحجر لم يطف بالبيت جميعه، ولم يصح طوافه، كما لو ترك الطواف ببعض البناء؛ وبهذا قال عطاء ومالك والشافعي، وأبو ثور وابن المنذر، وهو مذهب الإمام أحمد. [استلام الأركان وتقبيلها] وسئلوا: عن استلام الأركان، وتقبيلها؟ فأجابوا: الحجر الأسود يقبل ويستلم، والركن اليماني يستلم ولا يقبل، وفيه قول عند الحنابلة أنه يقبل أيضاً؛ والصحيح الأول، لأن تقبيله لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم والعراقي والشامي لا يقبلان، ولا يستلمان، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقبلهما ولم يستلمهما، بل قال ابن عمر: " إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يستلم إلا الحجر والركن اليماني "، وقال: " ما أراه - يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم - لم يستلم الركنين اللذين يليان الحجر، إلا أن البيت لم يقم على قواعد إبراهيم، ولا طاف الناس من وراء الحجر إلا لذلك "، ولهذا أنكر ابن عباس على معاوية استلامهما، فقال: " لِمَ تستلم هذين الركنين، ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يستلمهما؟ فقال معاوية: ليس شيء من هذا البيت مهجوراً، فقال ابن عباس: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} ، فقال معاوية: صدقت ".   1 البخاري: الحج (1585) , ومسلم: الحج (1333) , والترمذي: الحج (876) , والنسائي: مناسك الحج (2900, 2901) , وأحمد (6/113, 6/247) , ومالك: الحج (813) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 381 وأجاب الشيخ عبد الله بن محمد أيضاً: إذا طاف بالبيت وهو مُحْدِث، فإن كان طواف الزيارة فإنه يعيد، وإن كان قد خرج إلى بلده جبره بدم. وإن كان غير طواف الزيارة ففيه قولان: أحدهما: أن الطهارة شرط لصحته، والثاني: ليست بشرط، ويجبره بدم. سئل الشيخ سعيد بن حجي: إذا طاف بالبيت، ثم التفت بوجهه إلى شيء من الأركان والميزاب؟ فأجاب: أخرج أبو داود والنسائي عن ابن عمر قال: " كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يدع أن يستلم الحجر الأسود، والركن اليماني في كل طوفة "؛ فعلى هذا، لا يمكن الاستلام إلا بالالتفات، ولم نجد في كلام الفقهاء أن الالتفات في الطواف يضر، أو يلزمه فيه شيء، مع أن الخشوع في الطواف مطلوب، وهو أتم وأحسن، لأن الطواف شبه بالصلاة في غالب الأحوال. [سعي الحائض قبل الطواف] سئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن: عن الحائض إذا قدمت مكة، هل تسعى قبل الطواف؟ فأجاب: لا يصح السعي إلا بعد طواف نسك من الأنساك، أما الْمُفْرِد والقارن، فسعيهما بعد طواف القدوم مجزئ لحجتهما، كما يجزئ القارن لعمرته. وأما المتمتع، فيسعى بعد طواف العمرة، ولا يجزيه للحج إلا أن يسعى بعد الإفاضة بعد طواف؛ قال بعضهم: يطوف للقدوم ويسعى بعده، والمختار: أنه لا يطوف للقدوم، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 382 وليس عليه إلا طواف الزيارة، وعليه أن يسعى بعده للحج، فإن سعى قبله لم يجزئه؛ قالوا: ويجب أن يكون بعد طواف واجب أو مستحب، هذا كلام الحنابلة لا خلاف بينهم في ذلك. وقال الشافعية: لو سعى ثم تيقن أنه ترك شيئاً من الطواف لم يصح سعيه، فيلزمه أن يأتي ببقية الطواف، فإذا أتى ببقيته أعاد السعي؛ نص عليه الشافعي، وبنحوه قال مالك وأبو حنيفة. ومما يستدل به لذلك: حديث عائشة، رضي الله عنها، وفيه: " فلما كنا في بعض الطريق حضت، فدخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي، فقال: ما يبكيك؟ قلت: وددت أني لم أكن خرجت العام، فقال: ارفضي عمرتك وانقضي رأسك، وامتشطي وأهلّي بالحج " 1، ومعنى ارفضي العمرة: ارفضي أعمالها؛ فلو صح سعي قبل الطواف لما منع منه حيضها، كما لا يمنع من سائر المناسك. وأجاب الشيخ عبد الله العنقري: والتي حاضت بعد الإحرام، فهذه تفعل كما فعلت عائشة مع النبي صلى الله عليه وسلم: تدخل الحج على العمرة، وترفض أعمال العمرة، ولا تطوف بالبيت حتى تقضي حجها، فتكون قارنة؛ وأما اعتمارها بعد انقضاء الحج، فاختار الشيخ وابن القيم أنه لا يشرع. والجواب عن فعل عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن لها تطييباً لنفسها، لما قالت: يرجع الناس بنسكين، وأرجع بنسك،   1 البخاري: الحيض (317, 319) والحج (1556) , ومسلم: الحج (1211) , والنسائي: مناسك الحج (2764) , وأبو داود: المناسك (1778) , وابن ماجة: المناسك (3000) , وأحمد (6/177) , ومالك: الحج (940) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 383 ولهذا لم يفعله أحد من الصحابة غيرها فيما نعلم. انتهى. [إحرام المكي] وسئل الشيخ عبد الله بن محمد، رحمهما الله: هل على المكي الإحرام من الحل ... إلخ؟ فأجاب: المسألة فيها خلاف بين العلماء، والذي عليه الأكثر جواز ذلك واستحبابه، واختار الشيخ تقي الدين وتلميذه ابن القيم: أنه لا يسن ولا يستحب، لأنه لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحد من أصحابه سوى عائشة، فإنه أذن لها في ذلك تطييباً لقلبها، ولو كان ذلك سنة لفعله الصحابة وبادروا إليه، وهم الأسوة والقدوة في الدين. [مباهاة الله بأهل عرفة] سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عن حديث " إن الله يباهي بأهل عرفة " 1؟ فأجاب: هذا الحديث مروي عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو حديث مشهور. [شهود عدول برؤية هلال ذي الحجة] سئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن: إذا شهد عدول برؤية هلال ذي الحجة، ولم ير ليلة إحدى وثلاثين ... إلخ؟ فأجاب: الذي نص عليه العلماء، رحمهم الله، أن الناس إذا وقفوا الثامن أو العاشر خطأ أجزأهم، نص عليه أحمد؛ ودليله: حديث أبي هريرة مرفوعاً: " فطركم يوم تفطرون، وإضحاكم يوم تضحون " 2، رواه أبو داود والدارقطني، وروى أيضاً من حديث عائشة مثله، قال الخطابي في معالم السنن:   1 أحمد (2/224) . 2 الترمذي: الصوم (697) , وأبو داود: الصوم (2324) , وابن ماجة: الصيام (1660) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 384 معنى الحديث: أن الخطأ موضوع عن الناس فيما سبيله الاجتهاد؛ فلو أن قوماً اجتهدوا فلم يروا الهلال إلا بعد الثلاثين، فلم يفطروا حتى استوفوا العدد، ثم ثبت أن الشهر تسع وعشرون، فإن صومهم وفطرهم ماض؛ وكذلك هذا في الحج إذا أخطؤوا يوم عرفة، فإنه ليس عليهم إعادة، وتجزيهم ضحاياهم. [هل يكفي المتمتع سعي واحد] سئل الشيخ إسحاق بن عبد الرحمن بن حسن: عن المتمتع هل يكفيه سعي واحد؟ أم يجب عليه سعيان؟ فأجاب: المتمتع يكفيه سعي واحد، وعليه جمع من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، وإن كان كثير من العلماء اختار أن عليه سعيين، لكن من زعم أن تركه ذلك مخل بالحج، فقد أبعد عن الصواب؛ فلعله ظن أن جعل الأصحاب السعي للعمرة من أركانها يقتضي فساد الحج، وهذا خطأ لأن مرادهم العمرة المطلقة. أما المتمتع فلم يقصدوه، وإنما قالوا: ويسعى المتمتع سعيين. والخلاف في هذه المسألة مشهور، حتى ذكر الشيخ تقي الدين في منسكه الأخير، أنه أصح قولي العلماء، وأصح الروايتين عن أحمد، رحمه الله. وذكر أن الصحابة الذين تمتعوا مع النبي صلى الله عليه وسلم لم يطوفوا بين الصفا والمروة إلا مرة واحدة، وساق ما رواه أحمد بسنده إلى ابن عباس، أن المفرد والقارن والمتمتع، يجزئه طواف الجزء: 5 ¦ الصفحة: 385 بالبيت وسعي بين الصفا والمروة، وذكر ما ثبت في صحيح مسلم عن جابر، قال: " لم يطف النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بين الصفا والمروة إلا طوافاً واحداً: طوافه الأول " 1، وردّ ما روي عن عائشة أنهم طافوا طوافين، وذكر أنه زيادة في آخر الحديث من قول بعض الرواة؛ وكلامه في هذه المسألة وكلام تلميذه وغيرهما من المحققين معروف، والدليل معهم ظاهر بحمد الله. فالمنكر في الحقيقة إنما أنكر على السلف، ومن ألف العادة من غير بصيرة ولا ورع استنكر الحق، ولو قال: هذا خلاف ما عليه العمل، أو أن الفتوى على خلافه لكان أسهل، فالحق الذي لا مرية فيه أن مثل هذا إذا صدر من طلبة العلم، فالإنكار عليه والتشديد في أمره، إنكار في الحقيقة على من عمل به من الصحابة فمن بعدهم. [رمي الجمار] سئل الشيخ عبد الله العنقري: عن رمي الجمار دفعة واحدة ... إلخ؟ فأجاب: الذي رمى الجمرة دفعة واحدة ولم يستأنف أيام منى، فعليه دم شاة تذبح في مكة. وإذا رماها مع الجهل فقد خالف السنة، وليس عليه شيء. [استدخلت ذكر زوجها وهما محرمان] سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عمن استدخلت ذكر زوجها وهما محرمان ... إلخ؟ فأجاب: والمرأة التي استدخلت ذكر زوجها وهما   1 مسلم: الحج (1215) , والترمذي: الحج (947) , والنسائي: مناسك الحج (2986) , وأبو داود: المناسك (1895) , وابن ماجة: المناسك (2972, 2973) , وأحمد (3/387) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 386 محرمان، مرادكم: وهو نائم، هل يجب عليه كفارة أو لا؟ وهل تحملها عنه الزوجة كالنفقة أو لا؟ فالظاهر وجوب الفدية عليه، لأن هذا نوع إكراه والمكره عليه الفدية على الصحيح من المذهب؛ قال في الإنصاف، في باب ما يفسد الصوم ويوجب الكفارة، عند قول المصنف: وإذا جامع في نهار رمضان ... إلخ: فشمل كلام المصنف المكره؛ وهو الصحيح من المذهب نص عليه، وعليه أكثر الأصحاب. وسواء أكره على فعله أو فعل به من نائم وغيره - إلى أن قال - وحيث فسد الصوم بالإكراه، فهو في الكفارة كالناسي على الصحيح من المذهب. وقيل: يرجع بالكفارة على من أكرهه، قلت: وهو الصواب. انتهى. فتبين بذلك: أن المذهب وجوب الكفارة على من استدخلت زوجته ذكره وهو نائم، وأنها لا تتحملها عنه على الصحيح من المذهب، كما تتحمل عنه نفقة القضاء، والقول بوجوب الكفارة من المفردات. [مَن لم يطف يوم العيد وأراد أن يطوف بعده] سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ، رحمهما الله: عن رجل أفتى أن من لم يطف يوم العيد، وأراد أن يطوف بعده، فعليه أن يحرم بعد رميه جمرة العقبة والذبح والحلق؟ فأجاب: الذي أفتى، عفا الله عنه، لحديث بلغه، ونحن ما جسرنا على الفتيا به، لأجل أنه خلاف أقوال العلماء من أهل المذاهب الأربعة وغيرهم، وهو ما روت أم سلمة، قالت: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 387 " كانت ليلتي التي يصير إليّ فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم مساء يوم النحر، فصار إليّ، فدخل علي وهب بن زمعة، ومعه رجال متقمصين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لوهب بن زمعة: هل أفضت أبا عبد الله؟ قال: لا والله يا رسول الله، قال: انزع عنك القميص، فنَزعه من رأسه، ونزع صاحبه قميصه من رأسه، ثم قال: ولِم يا رسول الله؟ قال: إن هذا يوم رخص لكم إذا أنتم رميتم الجمرة، أن تحلوا من كل ما حرمتم منه إلا النساء، فإذا أمسيتم قبل أن تطوفوا صرتم حرماً، كهيئتكم قبل أن ترموا الجمرة حتى تطوفوا به "؛ قال بذا جماعة، رواه أبو داود بإسناد صحيح; قال البيهقي: لا أعلم أحداً من القدماء قال به، قال النووي: فيكون الحديث منسوخاً دل الإجماع على نسخه. [الْجُبْرَان في الحج] سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عن الجبران ... إلخ؟ فأجاب: جبران الصلاة وهو سجود السهو، أدخل في الجبر من جبران الحج، وهو الدم، لأن جبران الصلاة يتعدى إلى صلاة المأموم من صلاة الإمام، فيلزم المأموم إذا سها إمامه سجود السهو، وإن لم يسهُ هو، بل يلزمه أن يسجد إذا لم يسجد إمامه، بعد إياسه من سجوده على الصحيح من المذهب؛ ومن هنا علم: أن جبران الصلاة أدخل في الجبر من جبران الحج. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 388 [أركان الحج] سئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن: عن قولهم: أركان الحج: الوقوف، وطواف الزيارة ... إلخ؟ فأجابه: قولهم أركان الحج: الوقوف بعرفة، وطواف الزيارة بلا نزاع فيهما؛ فإن ترك طواف الزيارة رجع معتمراً، لأنه على بقية إحرامه، فهذا في حق من تركه; قال في الإنصاف: وأما المحصر عن طواف الإفاضة بعد رمي الجمرة، فليس له أن يتحلل، ومتى زال الحصر أتى بطوافه وتم حجه، وذبح هدياً في موضع حصره، وهذا المذهب; واختار ابن القيم في الهدي: أنه لا يلزم المحصر هدي; وأما من أحصر بمرض أو ذهاب نفقة، لم يكن له التحلل حتى يقدر على البيت، فإن فاته الحج تحلل بعمرة، ويحتمل أنه يجوز له التحلل، كمن حصره عدو؛ وهو رواية عن أحمد، اختارها الزركشي، ولعلها أظهر، واختارها الشيخ تقي الدين. قال ومثله: حائض تعذر مقامها وحرم طوافها، ورجعت ولم تطف لجهلها بطواف الزيارة، أو لعجزها عنه، ولو لذهاب الرفقة. وقال في الفروع: وكذا من ضل الطريق، ذكره في المستوعب. هذا حاصل ما ذكره في الإنصاف، في حكم من فاته طواف الزيارة لهذه الأسباب، وأما إذا أحصر عن فعل واجب، فإنه لا يتحلل على الصحيح من المذهب، وعليه دم له، وحجه صحيح. وقال القاضي: يتوجه فيمن حصر بعد تحلله الثاني يتحلل; قلت: ولعل مراده أنه لم يبق عليه من المناسك الجزء: 5 ¦ الصفحة: 389 شيء، إلا أن يكون طواف الوداع، أو رمي الجمار والمبيت بمنى؛ وهذه الأمور يأتي بها الحاج بعد التحلل كله. وأما إذا بقي عليه شيء من المناسك، التي محلها قبل التحلل الثاني، فإنه يبقى محرماً ليأتي بها، كما يأتي بها من لم يحصر عن واجب، كالمبيت بمزدلفة، ورمي جمرة العقبة، فلا يجوز أن يأتي بذلك إلا وهو محرم؛ فتدبر. وسئل أيضاً: من نفر من الحج ولم يطف طواف الزيارة والسعي، ثم أراد السفر لقضاء ما تركه، فهل يحرم بعمرة مفردة، ثم يأتي بما بقي عليه؟ وهل يجوز إن كان الوقت لم يتسع أن يحرم بالحج، فإذا فرغ أتى ببقية أعمال حجه الأول؟ فأجاب: قال في شرح المنتهى: فلو تركه، أي طواف الزيارة، وأتى بغيره من فرائض الحج، وبعد عن مكة مسافة القصر، رجع إلى مكة معتمراً، فأتى بأفعال العمرة، ثم يطوف للزيارة. انتهى. وهذه مسألة السائل، أحد أجزائها، فيحرم بالعمرة متمتعاً بها إلى الحج، فإذا فرغ من أعمالها أتى بما تركه من طواف وسعي. أما إذا ضاق الوقت بأن لم يمكنه قدوم مكة قبل الوقوف، فيحرم قارناً أو مفرداً، فإذا رمى جمرة العقبة وأفاض إلى مكة وطاف طواف الزيارة وسعى بعده، رجع إلى البيت فأتى بما تركه عام أول من طواف وسعي. فإن قدم الطواف والسعي الذي تركه على طواف حجه الذي هو في الجزء: 5 ¦ الصفحة: 390 أعماله جاز ذلك، لأن وقت طواف الزيارة والسعي موسع، فمتى فعله وقع أداء. هذا ما تقتضيه قواعد مذهبنا، وأصوله. وأجاب الشيخ أبا بطين: وأما من خرج من مكة ولم يطف للوداع، فإن كان قد بعد عن مكة وجب عليه دم يرسله لمكة إن أمكن، فإن لم يمكنه ذبحه في مكانه. سئل الشيخ محمد بن الشيخ إبراهيم بن عبد اللطيف: إذا لم يطف للوداع ... إلخ؟ فأجاب: إذا كان حجه فريصة، فالظاهر أنه لا يستنيب في طواف الوداع، بل إذا عجز طيف به راكباً أو محمولاً؛ فإن لم يفعل فعليه دم. [شرب ماء زمزم والتبرك به] سئل أبناء الشيخ محمد بن عبد الوهاب وحمد بن ناصر، رحمهم الله: عن شرب ماء زمزم والتبرك به ... إلخ؟ فأجابوا: شرب ماء زمزم، والتبرك به، مستحب، لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: " أنه أتى بني عبد المطلب وهم يسقون، فناولوه دلواً فشرب منه ". ومن شرب لغرض من هذه الأغراض المذكورة في السؤال لم ينكر عليه، للحديث الذي رواه ابن ماجة وغيره: عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ماء زمزم لما شرب له " 1.   1 ابن ماجة: المناسك (3062) , وأحمد (3/357, 3/372) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 391 فصل وسئل أبناء الشيخ، وحمد بن ناصر: عن زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم ... إلخ؟ فأجابوا: إن كان زيارة هذا الزائر لقبر النبي صلى الله عليه وسلم أو الصالح، فيها شد رحل، فهي زيارة بدعية، ووسيلة من وسائل الشرك؛ وقد اختلف العلماء في جواز قصر الصلاة في هذا السفر: فمنهم من يجوز القصر، ومنهم لا يجوزه، ويقول: هذا سفر معصية لا يجوز فيه قصر الصلاة، لما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى " 1. وإن كانت الزيارة بغير شد رحل فهي مستحبة، كزيارته صلى الله عليه وسلم القبور، وأمره بها; وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه سن للزائر أن يقول: " السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون. يرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين. نسأل الله لنا ولكم العافية. اللهم لا تحرمنا أجرهم، ولا تفتنا بعدهم، واغفر لنا ولهم " 2. هذه هي الزيارة الشرعية التي فعلها صلى الله عليه وسلم وأمر بها، وهي دعاء الله للميت المسلم لا دعاء الميت نفسه، ولا يتحرى الدعاء عند قبره؛ فإن دعاء الزائر صاحب القبر شرك أكبر يخرج من ملة الإسلام، وهو شرك عابدي الأصنام قبل بعث   1 البخاري: الجمعة (1189) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1410) . 2 مسلم: الجنائز (975) , والنسائي: الجنائز (2040) , وابن ماجة: ما جاء في الجنائز (1547) , وأحمد (5/353, 5/359) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 392 الرسول صلى الله عليه وسلم، وتحري دعاء الله عند القبر ذريعة إلى ذلك، ولكن لا يكون شركاً. والنبي صلى الله عليه وسلم سد الذرائع إلى ذلك، حذراً من فعل هؤلاء القبوريين المفتونين بعبادة أهل القبور قديماً وحديثاً، إما أن يدعوهم، وإما أن يوهمهم الشيطان أن دعاء الله عندهم مستجاب، حتى يوقعهم في الشرك بهم، وفي عكس المراد من الزيارة للقبور، وهي: الاتعاظ، ودعاء الله لأهلها، وهذا هو دعاء أهل القبور لا دعاء لهم. وقول السائل: إن قصده التبرك، ومعناه أنه يقع له فضل من الله ببركة زيارته، فهذا اللفظ موهم، والعدول عنه إلى ما هو أصرح وأبعد عن الإيهام هو الأحسن؛ فإن حقه أن يقال: قصده اجتلاب الأجر في الدعاء لأخيه، أو يقال: قصده امتثال أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أو غير ذلك مما لا يكون فيه إيهام; وأما لفظ "التبرك"، فهؤلاء الجهال في هذا الزمان، لا يفهمون منه إلا الشرك، فإذا أنكر عليهم، قالوا: هذا التبرك بالصالحين، أو هذا ببركة هذا الرجل الصالح؛ كما أن شياطينهم المتسمين بأنهم علماء، قلبوا اسم الشرك، وقالوا هذا التوسل بالصالحين، قلبوا اسم الإله وسموه بالسيد، ولو سموها ما سموها، فالحقيقة بحالها لم تتغير. وسئلوا: عن زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم؟ فأجابوا: الذي اتفق عليه السلف والخلف، وجاءت به الأحاديث الصحيحة: هو السفر إلى مسجده، والصلاة والسلام عليه صلى الله عليه وسلم وطلب الوسيلة، وغير ذلك مما أمر الله به الجزء: 5 ¦ الصفحة: 393 ورسوله، فهذا السفر مشروع باتفاق المسلمين، وهذا هو مراد العلماء الذين قالوا: إنه يستحب السفر إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فإن مرادهم بالسفر إلى زيارته، هو السفر إلى مسجده; وذكروا في مناسك الحج أنه يستحب زيارة قبره، وهذا هو مرادهم، ولفظ زيارة قبره ليس المراد بها نظير المراد بزيارة قبر غيره، فإن قبر غيره يوصل إليه، ويتمكن الزائر مما يفعله الزائرون للقبور من سنة أو بدعة، وأما هو صلى الله عليه وسلم فلا سبيل لأحد أن يصل إلى قبره. ولم يكن السلف يطلقون على هذا زيارة لقبره، ولا يعرف عن أحد من الصحابة لفظ زيارة قبره، ولم يتكلموا بذلك، وكذلك التابعون، ولا يعرف هذا من كلامهم؛ وما ورد من الأحاديث في زيارة قبره صلى الله عليه وسلم فكلها ضعيفة باتفاق أهل العلم، ولم يرو أحد من أهل السنة المعتد بقولهم شيئاً منها، ولم يحتج به أحد من الأئمة، بل مالك إمام أهل السنة، الذي هو أعلم الناس بحكم هذه المسألة، كره أن يقول الرجل: زرت قبر النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولو كان هذا اللفظ مشروعاً عندهم، أو معروفاً، أو مأثوراً عنه صلى الله عليه وسلم لم يكرهه عالم المدينة، ولو كان السلف ينطقون بهذا لم يكرهه مالك. والذي تضافرت به النصوص عن السلف، وأجمعت عليه الأمة قولاً وعملاً هو: السفر إلى مسجده المجاور لقبره، والقيام بما أمر الله به من حقوقه في مسجده، كما يقام بذلك في غيره. انتهى ملخصاً من كلام بعض شيوخ الإسلام. وقال الإمام عبد العزيز بن محمد بن سعود: وما سوى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 394 هذه المساجد الثلاثة، لا يشرع السفر إليه باتفاق أهل العلم. وإذا كان السفر إلى مسجد غير الثلاثة ممتنعاً شرعاً، وقد جاء في قصد المساجد من الفضل ما لا يحصى، فالسفر إلى مجرد القبور أولى بالمنع؛ ولا يغتر بكثرة العادات الفاسدة، التي أحدثها الملوك وأشباههم. والأحاديث التي رواها الدارقطني في زيارة قبره عليه السلام، كلها مكذوبة موضوعة، باتفاق غالب أهل المعرفة، منهم ابن الصلاح، وابن الجوزي، وابن عبد البر، وأبو القاسم السهيلي، وشيخه ابن العربي المالكي، والشيخ تقي الدين وغيرهم، ولم يجعلها في درجة الضعيف إلا القليل، وكذا تفرد بها الدارقطني عن بقية أهل السنن، والأئمة كلهم يروون بخلافه. وإنما رخص صلى الله عليه وسلم في زيارة القبور مطلقاً بعد أن نهى عنها، كما ثبت في الصحيح، لكن بلا شد رحل وسفر إليها، للأحاديث الواردة في النهي عن ذلك. وإذا كان السفر المشروع لقصد مسجد النبي صلى الله عليه وسلم للصلاة فيه، دخلت زيارة القبر تبعاً، لأنها غير مقصودة استقلالاً; وحينئذ، فالزيارة مشروعة مجمع على استحبابها، بشرط عدم فعل محذور عند القبر، قال ابن حجر: ينوي الزائر المتقرب السفر إلى مسجده صلى الله عليه وسلم وشد الرحل، لتكون زيارة القبر تابعة. انتهى. واتخاذ قبور الأنبياء والصالحين مساجد، هو الْمُوقِع لكثير من الأمم إما في الشرك الأكبر، أو فيما دونه من الشرك. فإن النفوس قد أشركت بتماثيل القوم الصالحين، كوَدّ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 395 وسواع ويغوث ويعوق، وتماثيل طلاسم الكواكب ونحو ذلك، يزعمون أنها تخاطبهم وتشفع لهم؛ والشرك بقبر النبي صلى الله عليه وسلم أو الرجل المعتقد صلاحه، أقرب إلى النفوس من الشرك بخشبة أو بحجر، ولهذا تجد أهل الشرك كثيراً ما يتضرعون ويخشعون عندها، ما لا يخشعون لله في الصلاة، ويعبدون أصحابها بدعائهم ورجائهم والاستغاثة بهم، وسؤال النصر على الأعداء، وتكثير الرزق، وإيجاده، والعافية وقضاء الديون، ويبذلون لهم النذور لجلب ما أملوه، أو دفع ما خافوه، مع اتخاذها أعياداً، والطواف بقبورهم، وتقبيلها واستلامها، وتعفير الخدود على تربتها، وغير ذلك من أنواع العبادات والطلبات التي كان عليها عباد الأوثان، يسألون أوثانهم ليشفعوا لهم عند مليكهم. فهؤلاء يسأل كل منهم حاجته وتفريج كربته، ويهتفون عند الشدائد باسمه، كما يهتف المضطر بالفرد الصمد، ويعتقدون أن زيارته موجبة للغفران، والنجاة من النيران، وأنها تجُبُّ ما قبلها من الآثام؛ بل قد وجد هذا الاعتقاد في الأشجار والغيران، يهتفون باسمها، واسم من تنسب إليه من المعتقدين بما لا يقدر عليه إلا رب العالمين، وأكثر ما يكون ذلك عند الشدائد. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 396 وأجاب الشيخ عبد الرحمن بن حسن: بعض العلماء قد قال بجواز السفر إلى قبور الأنبياء والصالحين، وهذا القول لصاحب المغني، وبعض المتأخرين من الحنابلة والشافعية، وهؤلاء يحتجون بقوله: " فزوروها ". وأما ما يحتج به بعض من لا يعرف الحديث، من قوله: " من زارني بعد مماتي فكأنما زارني في حياتي "، فهذا الحديث لا تقوم به حجة عند من له معرفة بعلل الحديث. وأما ما يقوله بعض الناس: إنه حديث: " من حج ولم يزرني فقد جفاني "، فهذا لم يروه أحد من العلماء؛ ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية، ومثله حديث: " من زارني ضمنت له على الله الجنة "، قال الشيخ: وهذا أيضاً باطل باتفاق العلماء. قال: والصحيح: ما ذهب إليه المتقدمون، كأبي عبد الله ابن بطة، وأبي الوفاء ابن عقيل، وطوائف من المتقدمين، من أن هذا السفر منهي عنه، لا تقصر فيه الصلاة، وهو قول مالك والشافعي وأحمد؛ وحجتهم: ما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدي هذا " 1، وهذا الحديث اتفق الأئمة على صحته، والعمل به في الجملة؛ فلو نذر رجل أن يصلي في مسجد أو مشهد، أو يعتكف فيه أو يسافر إليه، غير هذه الثلاثة، لم يجب عليه ذلك باتفاق العلماء. ولو نذر أن يأتي مسجد النبي صلى الله عليه وسلم أو المسجد الأقصى، لصلاة أو اعتكاف، وجب   1 البخاري: الجمعة (1189) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1410) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 397 عليه الوفاء بهذا النذر، عند مالك والشافعي وأحمد، كما نص عليه شيخ الإسلام ابن تيمية. إذا عرفت أقوال العلماء في هذه المسألة، فاعلم أن الزائر إذا نوى الزيارة التي فيها شد الرحل لسفر زيارة مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، صار ذلك به سفر طاعة بإجماع العلماء، ويحصل له به زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم تبعاً إذا وصل المسجد، وفعل ما هو المشروع من البداءة بتحية المسجد، ثم السلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم والسلام على صاحبيه، رضي الله عنهم؛ وذلك لا محذور فيه بوجه، بل هو مصلحة محضة. فأي محذور في تحصيل المصلحة المطلوبة على وجه صحيح بالإجماع؟ قال الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: ومن البدع: الاجتماع في وقت مخصوص، على من يقرأ سيرة المولد الشريف، اعتقاداً أنه قربة مخصوصة مطلوبة دون علم السير، فإن ذلك لم يرد. ومنها: الاجتماع على رواتب المشايخ برفع الصوت، وقراءة الفواتح، والتوسل بهم في المهمات، كراتب السمان، وراتب الحداد ونحوهما؛ بل قد يشتمل على شرك أكبر، فيقاتَلون على ذلك، فإن سلموا من الشرك، أرشدوا إلى أنه على هذه الصورة المألوفة غير سنة، فإن أبوا عزرهم الحاكم بما يراه ردعاً. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 398 قال الشيخ عبد الله أبا بطين: وأما ما يحكى من حال سبب وضع الشباك على الحجرة، فله سبب ولا أستحضر صورته الآن، ونقل عن السيد السمهودي، في خلاصة الوفا بأخبار دار المصطفى، عن الكمال الإسنوي الشافعي، في الباب التاسع عشر من الخلاصة المذكورة، من الحوادث الغريبة، والوقعات العجيبة في المدينة المنورة، والحجرة الشريفة. وكذلك المطري ذكر ذلك، فقال: وصل السلطان نور الدين محمود بن زنكي بن قسنقر التركي، في سنة 557 إلى المدينة، بسبب رؤيا رآها: رأى النبي صلى الله عليه وسلم في منامه ليلة، ثلاث مرات، وهو يشير إلى رجلين أشقرين، ويقول: أنجدني! أنقذني من هذين! فأرسل إلى وزيره، وتجهزا في بقية ليلتهما على رواحل خفيفة في عشرين نفراً، واستصحب مالاً كثيراً، فقدم المدينة في ستة عشر يوماً، فزار، ثم أمر بإحضار أهل المدينة بعد كتابتهم، وصار يتصدق عليهم، ويتأمل تلك الصفة، إلى أن انقضت الناس، فقال: هل بقي أحد؟ فقالوا: لم يبق سوى رجلين صالحين عفيفين مغربيين يكثران الصدقة، فطلبهما، فرآهما الرجلين اللذين أشار إليهما النبي صلى الله عليه وسلم فسأل عن منْزلهما، فأخبر أنهما برباط بقرب الحجرة، فأمسكهما ومضى إلى منْزلهما، وذكر القصة - إلى أن قال - وأمر بضرب رقابهما، فقتلا تحت الشباك الذي يلي الحجرة، ثم أمر الجزء: 5 ¦ الصفحة: 399 بإحضار رصاص عظيم، وحفر خندقاً عظيماً إلى الماء حول الحجرة كلها، وأذيب ذلك الرصاص وملئ به الخندق، فصار حول الحجرة سور رصاص. سئل الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن: عما ذكر الشيخ من أمر الصخرة؟ فأجاب: ما أشكل من أمر الصخرة، فما ذكر الشيخ لا إشكال فيه، ولا يدل على أنها على الأرض ولا بعضها - كما توهمه صاحب الهامش - لأن ارتفاع الصخرة زمن سليمان عليه السلام اثنا عشر ذراعاً بذراع الإنسان، ذراع وشبر وقبضة، لكن دفنها بختنصر، فإنه أمر عسكره أن يملأ كل إنسان منهم ترسه تراباً ويقذفه ببيت المقدس، وبعده الروم استولوا على بيت المقدس، وطرحوا الزبل والتراب الكثير على الصخرة، مغايظة لبني إسرائيل. فلما فتحها عمر رضي الله عنه بسط رضي الله عنه رداءه، وجعل يكنس التراب والزبل فيه، فأخذ المسلمون يكنسون معه، ويفعلون ما فعل. فإن قصد صاحب الهامش أنها كانت على الأرض قبل أن تكشف فصحيح، وإلا فوهم، والله أعلم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 400 باب الأضاحي الأضحية عن الميت سئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله: أيما الصدقة عن الميت أو الأضحية؟ قال: الأضحية. وأجاب في موضع آخر: وأستحسن الصدقة عن الميت على الأضحية. وأجاب الشيخ حمد بن ناصر بن معمر: هذه المسألة اختلف العلماء فيها: فذهب الحنابلة وكثير من الفقهاء، إلى أن ذبحها أفضل من الصدقة بثمنها، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية. وذهب بعضهم إلى أن الصدقة بثمنها أفضل؛ وهذا القول أقوى في النظر، وذلك لأن التضحية عن الميت لم يكن معروفاً عن السلف، إلا أنه روي عن علي رضي الله عنه أنه كان يضحي عن النبي صلى الله عليه وسلم، ويذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصاه بذلك. والحديث ليس في الصحاح، وبعض أهل العلم تكلم فيه، وبعض الفقهاء لما سمعه أخذ بظاهره، وقال: لا يضحى عن الميت إلا أن يوصي بذلك، فإن لم يوص فلا يذبح عنه، بل يتصدق بثمنها. فإذا كان هذا صورة المسألة، فالأمر في ذلك واسع إن شاء الله. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 401 وأجاب الشيخ عبد الله أبا بطين: والصدقة بثمن الأضحية، ذكر بعض العلماء: أن ذبحها أفضل من الصدقة بثمنها مطلقاً. [هل يضحي عن الغير قبل أن يضحي عن نفسه] سئل الشيخ حمد بن ناصر بن معمر: هل له أن يضحي عن غيره قبل أن يضحي لنفسه؟ وهل له أن يضحي وعليه نذر قبل أن يوفي بنذره؟ فأجاب: التضحية عن الغير قبل أن يضحي لنفسه لا أعلم فيها بأساً، وإنما المنع فيمن عليه حجة الإسلام، فليس له أن يحج عن غيره قبل أن يحج فريضة الإسلام. وأما تقديم الأضحية على النذر، فالواجب تقديم النذر على النافلة، فإذا كان المنذور أضحية ذبحها قبل أضحية التطوع، فإن تطوع وترك النذر الواجب، وجب عليه أن يذبح الواجب أيضاً، أما إذا أراد أن يذبحهما جميعاً، لكنه قدم التطوع على النذر فلا أعلم في هذا بأساً. وسئل الشيخ حمد بن عبد العزيز: إذا لم يعق عنه ولا ضحى لنفسه، هل يضحي لوالديه ... إلخ؟ فأجاب: إذا ضحيت، فضح لك ولوالديك وأهل بيتك، لأن الأمر واسع. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 402 فضل الأضحية سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: عن قوله: " استفرهوا ضحاياكم، فإنها على الصراط مطاياكم "؟ فأجاب: هذا الحديث ليس من الأحاديث المعروفة، ولا هو مخرج في الكتب المعتمدة، وإنما أسنده الديلمي من طريق ابن المبارك عن يحيى بن عبد الله عن أبي هريرة، رفعه بهذا؛ ويحيى ضعيف جداً عند أهل الحديث. وقال بعضهم: هذا الحديث ليس معروفاً ولا ثابتاً فيما علمناه. وقال ابن العربي المالكي: ليس في فضل الأضحية حديث صحيح، ومنها قوله: " إنها مطاياكم إلى الجنة "، ذكر ذلك السخاوي في كتاب المقاصد الحسنة. فمثل هذا الحديث لا يحتج به، وإن ذكره بعض أهل العلم، فعادتهم يتساهلون في فضائل الأعمال، في ذكر الأحاديث الضعيفة، فلا ينبغي أن يجزم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاله، بل يذكر بصيغة التمريض. وأما معناه، فقيل إنها تسهل الجواز على الصراط. [اشترى شاة ونواها أضحية] سئل الشيخ عبد الله العنقري: إذا اشترى شاة ونواها أضحية ... إلخ؟ فأجاب: هذه المسألة فيها روايتان عن أحمد; الأولى - وهي المذهب عند أصحابه -: أنها لا تعين أضحية إلا باللفظ لا بالنية، كقوله: هذه أضحية، وينوي مع ذلك. الثانية: إذا اشتراها ونواها أضحية، تعينت بذلك، ولو لم يقل: هذه أضحية؛ وهذا اختيار الشيخ تقي الدين بن تيمية، وبه قال مالك وأبو حنيفة. فعلى هذا، لا يصح بيعها ولا هبتها إذا تعينت. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 403 [وقت الأضحية وما يجزئ فيها] سئل الشيخ حسن بن حسين بن الشيخ: عن قوله: " البدنة عن سبعة " ... إلخ؟ فأجاب: قوله: " الجزور عن سبعة " يعني: التضحية بالإبل والبقر عن سبعة أشخاص مجزية: عن كل واحد سبع. انتهى من المفاتيح. وقال عن حديث ابن عباس، الذي رواه الترمذي والنسائي: " كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، فحضر الأضحى، فاشتركنا في البقرة سبعة، وفي البعير عشرة " 1: إن هذا الحديث منسوخ بما تقدم: " الجزور عن سبعة " 2. قال في المغني عن حديث رافع: " أن النبي صلى الله عليه وسلم قسم فعدل عشراً من الغنم ببعير " 3 هو في القسمة لا في الأضحية. انتهى. وقد أخذ كثير من العلماء بمفهوم الناسخ، فقال: لا تجزي البدنة كالبقرة عن أكثر من سبعة أشخاص، لكن لو اشترك جماعة في بدنة أو بقرة، فذبحوها على أنهم سبعة، فبانوا ثمانية، ذبحوا شاة وأجزأتهم؛ قال في الإنصاف: على الصحيح من المذهب، ونقله ابن القاسم، وعليه أكثر الأصحاب. وقال مهنا: تجزي عن سبعة ويرضون الثامن، ويضحي، وهو قول في الرعاية. قال في حاشية التنقيح: قوله: عن سبعة، ويعتبر ذبحها عنهم، قال الزركشي: ويعتبر أن يشترك جماعة دفعة واحدة؛ فلو اشترك ثلاثة في بقرة، وقالوا: من جاء يريد الأضحية شاركنا، فجاء قوم فشاركوهم،   1 الترمذي: الأضاحي (1501) , والنسائي: الضحايا (4392) , وابن ماجة: الأضاحي (3131) . 2 أبو داود: الضحايا (2807) . 3 البخاري: الشركة (2488) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 404 لم تجز إلا عن ثلاثة. انتهى. وإذا صح الاشتراك، فالظاهر لا يمنع كون أحدهم مضح لنفسه، وبعضهم مضح لميته. وأما الحديث الثاني، فقال الخطابي في معالم السنن: في قوله صلى الله عليه وسلم: " اللهم تقبل من محمد وآل محمد " 1 دليل على أن الشاة الواحدة، تجزي عن الرجل وأهله وإن كثروا. وروي عن أبي هريرة وابن عمر كانا يفعلان ذلك، وأجازه مالك والشافعي، والأوزاعي، وأحمد بن حنبل، وإسحاق; وكره ذلك الثوري وأبو حنيفة. انتهى. قال في الفتاوى المصرية: أجزأه ذلك في أظهر قولي العلماء؛ وهو مذهب مالك وأحمد وغيرهما، فإن الصحابة كانوا يفعلون، وقد ثبت في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم ضحى، فذكر الحديث. وترجم جده في المنتقى: باب الاجتزاء بالشاة الواحدة لأهل البيت، ثم ذكر حديث علي بن يسار عن أبي أيوب. وذكر في الإفصاح عن مالك: أنه لا يجوز الاشتراك فيها بالأثمان والأعراض، بل على سبيل الإرفاد، كأن يشرك رب البيت أهل بيته، وسواء في ذلك عنده البدنة والبقرة والشاة. وقال في الإنصاف: وتجزئ الشاة عن واحد بلا نزاع، وتجزي عن أهل بيته وعياله على الصحيح من المذهب؛ نص عليه أحمد، وعليه أكثر الأصحاب، وقطع به كثير منهم; وقيل: لا تجزي، وقدمه في الرعاية الكبرى، وقال: وقيل في الثواب لا في الإجزاء. انتهى. والمعتمد عند الشافعية: عدم إجزاء الشاة عن أكثر من واحد؛ قال في المنهاج   1 مسلم: الأضاحي (1967) , وأبو داود: الضحايا (2792) , وأحمد (6/78) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 405 وشرحه: والشاة عن واحد، فلو اشترك اثنان في شاة لم تجز; والأحاديث في ذلك كحديث: " اللهم هذا عن محمد وأمة محمد " 1 محمولة على أن المراد التشريك في الثواب، لا في الأضحية. انتهى. وقال الخلخالي في المفاتيح: ذكر في الروضة: إن الشاة الواحدة لا يضحى بها إلا عن واحد، لكن إذا ضحى بها واحد عن أهل بيته تأدى الشعار والسنة لجميعهم؛ وعلى هذا حمل ما روي: " أنه صلى الله عليه وسلم ضحى بكبشين، وقال: اللهم تقبل من محمد وآل محمد " 2. وكما أن الفرض بنفسه ينقسم إلى عين وكفاية، فقد ذكروا أن الضحية كذلك، وأنها مسنونة لكل أهل بيت،؛وقد حمل جماعة الحديث على الاشتراك في الثواب، لأنه قال: " وأمة محمد ". وأجاب الشيخ عبد الله أبا بطين: وأما كون البدنة أو البقرة تجزي عن سبع من الغنم، فهذا في الإجزاء، وأما في الفضل فقد ذكر العلماء أن الشاة أفضل من سُبْع بدنة. وقال: إذا أراد إنسان أن يضحي بأضحية عن جماعة، جاز تشريكهم فيها؛ وتكفي النية، فلا يشترط أن يسمي من أرادهم بالأضحية، لكن تستحب تسميتهم، فيقول بعد التسمية والتكبير: عن فلان، وفلان، وعن أهل بيتي، أو عن والدي ونحوه. وأما مسألة التشريك في سبع البدنة أو البقرة، فلم أر ما يدل على الجواز ولا عدمه، وإن كان بعض الذين أدركنا يفعلون ذلك، لكني ما رأيت ما يدل عليه.   1 أحمد (6/391) . 2 مسلم: الأضاحي (1967) , وأبو داود: الضحايا (2792) , وأحمد (6/78) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 406 وأجاب الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف: ما ذكرت من حال التعريض بالخلاف بين العلماء، فلا خلاف مع وجود النص، لقوله صلى الله عليه وسلم: " البدنة عن سبعة " 1؛ والتشريك في السبع زيادة على النص، فلا يجوز؛ فانتبه. وأجاب الشيخ محمد بن عبد اللطيف: الظاهر: المنع من التشريك في السبع. سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عمن ضحى بعد صلاة الإمام ولو لم يصل هو ... إلخ؟ فأجاب: وأما الذي ضحى بعد صلاة الإمام، فأضحيته مجزية ولو لم يصل، لأن العبرة بصلاة الإمام، لا صلاة كل إنسان بنفسه. وسئل الشيخ عبد الله بن محمد بن حميد: عن التضحية بسبع البدنة عن عدة أشخاص، هل يجوز ذلك كالشاة، أم لا؟ فأجاب: لا يخفى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " تجزئ الشاة عن الرجل وأهل بيته "، وإلى ظاهر الحديث ذهب أحمد، وإسحاق; وذهب أكثر أهل العلم، منهم أبو حنيفة، ومالك، إلى أنه لا يجوز التضحية بالشاة عن أكثر من واحد، قياساً على الهدي، وهو أيضاً مذهب الشافعي، كما قاله الرافعي، وأن معنى الحديث عندهم - إذا ضحى الرجل من أهل البيت -: تأتّى الشِّعار والسنة لجميعهم، كرد السلام من واحد يجزي عن الجماعة.   1 مسلم: الحج (1318) , والترمذي: الحج (904) والأضاحي (1502) , وأبو داود: الضحايا (2809) , وابن ماجة: الأضاحي (3132) , وأحمد (3/293, 3/316, 3/353) , ومالك: الضحايا (1049) , والدارمي: الأضاحي (1955) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 407 وقد حكى النووي وابن رشد: اتفاق العلماء على ذلك، وهو غلط، إذ السنة واضحة في جواز الاشتراك في الشاة، كما هو مذهب أحمد، وقول كثير من العلماء. أما الاشتراك في سبع البدنة، فلم أر أحداً من أهل العلم يقول به؛ بل أفتى الرملي الشافعي وبعض فقهاء نجد قبل هذه الدعوة بالمنع، لمفهوم قوله صلى الله عليه وسلم: " تجزي الشاة عن الرجل وأهل بيته "، ولأن الشاة دم مستقل، بخلاف سبع البدنة، فإنه شركة في دم، ولعدم مساواته لها في العقيقة والزكاة، فحينئذ يقتصر على مورد النص، والله أعلم. سئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله: عن الذبح في اليوم الثالث من أيام التشريق؟ فأجاب: وأما الذبح في اليوم الثالث من أيام التشريق، ففيه خلاف، والراجح أنه يجوز. وأجاب الشيخ عبد الله بن حمد الحجازي: إذا مضى يومان مع يوم العيد، فقد مضى وقت الأضحية؛ والذي رجح ابن كثير: أنها ثلاثة أيام مع يوم العيد، وهو قول الشافعي، رحمه الله. وهذا قول قوي جيد يؤخذ به، وأما ما عدا ذلك فلا نرى التضحية فيه مجزية. [دفع الأضاحي من بلاد المسلمين إلى من هو مقيم في بلاد المشركين] سئل الشيخ حمد بن عبد العزيز: عن ضحايا في بلدان سدير، وأهلها في الزبير، وطلبوها ولهم أقارب بعيدو النسب ... إلخ؟ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 408 فأجاب: دفع الأضاحي من بلاد المسلمين إلى من هو مقيم في بلاد المشركين لا يجوز، لأن الاستيطان في بلاد الشرك معصية لله ورسوله، ومعرضة للردة عن الإسلام؛ فلا يعطى من هذه حاله ما يستعين به على معصيته، بل تدفع للقريب الذي في بلاد الإسلام، ولو بَعُد. [هل للوكيل أن يجعل الأضحية أثلاثاً كصاحبها] سئل الشيخ حسن بن حسين بن علي: هل للوكيل أن يجعلها أثلاثاً، كصاحبها ... إلخ؟ فأجاب: لا يفعل ذلك إلا أن يجعل صاحبها ذلك للوكيل. من أهدي إليه جلد الأضحية أو لحمها سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عمن أهدي إليه جلد الأضحية، أو لحمها ... إلخ؟ فأجاب: وأما الذي يتصدق عليه بجلد الأضحية أو لحمها، أو يهدى إليه ذلك، فإنه يتصرف فيه بما شاء من بيع أو غيره. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 409 فصل في العقيقة العقيقة عن الكبير سئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب: هل يعق عن الكبير ... إلخ؟ فأجاب: العقيقة عن الكبير ما علمت لها أصلاً. الصدقة عن المولود وسئل ابنه: الشيخ عبد الله: عن الصدقة إذا ولد المولود ... إلخ؟ فأجاب: الصدقة التي تخرج إذا ولد المولود لا بأس بها، والسنة التي وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم: " أن يذبح عن الغلام شاتان، وعن الجارية شاة " 1. [هل يعق الإنسان عن نفسه] وسئل الشيخ عبد الله أبا بطين: إذا لم يعق الأب، هل للابن أن يعق عن نفسه؟ فأجاب: العقيقة مشروعة في حق الأب فقط عند الجمهور، واستحب جماعة من الحنابلة أنه يعق عن نفسه إذا بلغ، وهي مشروعة ولو بعد موت المولود. [العقيقة عن السقط] وسئل: عن العقيقة عن السقط ... إلخ؟ فأجاب: والعقيقة إنما تشرع فيمن ولد حياً. [التسمي بمالك ونافع ومحسن] سئل الشيخ حسين، والشيخ عبد الله: ابنا الشيخ محمد، رحمهما الله: عن تسمية مالك، ونافع، ومحسن، ومحمد رفيع الدين، أو محمد الصادق؟ فأجابا: لا بأس بالتسمي بمالك، ونافع، ومحسن، ومحمد رفيع الدين، ومحمد الصادق، لأنه لم يرد في الحديث النهي عن ذلك؛ وقد كان في الصحابة من اسمه   1 الترمذي: الأضاحي (1516) , والنسائي: العقيقة (4215, 4216, 4217, 4218) , وأبو داود: الضحايا (2834, 2836) , وابن ماجة: الذبائح (3162) , والدارمي: الأضاحي (1966) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 410 مالك، ونافع، ومحسن، وفي التابعين جعفر الصادق وغيره. سئل الشيخ حمد بن ناصر بن معمر: عن قوله في كتاب التوحيد: اتفقوا على تحريم كل اسم معبد لغير الله، حاشا عبد المطلب، ما الحكمة في هذا الاستثناء ... إلخ؟ فأجاب: سبب الاستثناء أن بعض العلماء أجاز التسمية بعبد المطلب، لظاهر ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في غزوة حنين، لما انهزم عنه أصحابه إلا قليلاً: " أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب " 1. فلما حكى ابن حزم الإجماع على تحريم كل اسم معبد لغير الله، استثنى التسمية بعبد المطلب من ذكر الإجماع، لأجل ما تقدم عن بعض العلماء. [معنى لفظتي: السيد والمولى] سئل الشيخ أبا بطين: عن معنى لفظتي: السيد والمولى؟ فأجاب: لهما معان كثيرة، ذكر النووي للمولى ستة عشر معنى، منها: المالك، والناصر، والقريب، والصديق، والمعتق، والعتيق، والحليف، والجار؛ والناس يستعملونه، وبعض أهل العلم يكره أن يقال: يا مولاي، ويشدد فيه، وبعضهم يبيحه، والله أعلم. وأما لفظة: السيد، فكره بعض أهل العلم إضافتها إلى غير الله، وأجازه الأكثرون؛ وفي الحديث: " وليقل: سيدي "، يعني: المملوك لمالكه. وقال صلى الله عليه وسلم: " إن ابني هذا سيد " 2، وقال: " قوموا إلى سيدكم ". وأجاب الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن: وأما قول: يا   1 البخاري: الجهاد والسير (2864) , ومسلم: الجهاد والسير (1776) , والترمذي: الجهاد (1688) , وأحمد (4/280, 4/281, 4/289, 4/304) . 2 البخاري: الصلح (2704) , والترمذي: المناقب (3773) , والنسائي: الجمعة (1410) , وأبو داود: السنة (4662) , وأحمد (5/37, 5/44, 5/51) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 411 سيدي، ومولاي ... إلخ، فهذه الألفاظ تستعملها العرب على معان، كسادة الرياسة والشرف. والمولى يطلق على: السيد، والحليف، والمعتق، والموالي بالنصرة، والمحبة، والعتق. وأطلق السيد على الزوج، كما قال تعالى: {وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ} [سورة يوسف آية: 25] . فإطلاق هذه الألفاظ على هذا الوجه معروف لا ينكر؛ وفي السنة من ذلك كثير. وأما إطلاق ذلك في المعاني الحديثة، كمن يدّعي أن السيد هو الذي يُدْعَى ويعظم، والولي هو الذي ينبغي منه النصر والشفاعة، ونحو ذلك من المقاصد الخبيثة، فهذا لا يجوز، بل هو من أقسام الشرك. [هل يدعى المسلم لأمه] وسئل: عمن يدعو المسلم لأمه؟ فأجاب: إن الله عز وجل ذكره، قال: في شأن زيد بن حارثة، لما دعاه الناس: زيد بن محمد: {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ} [سورة الأحزاب آية: 4-5] . وهذه الآية الكريمة دلت على وجوب دعاء الرجل لأبيه، فإن جهل فيدعى بالأخوة الإسلامية، أو بمولى فلان، أو آل فلان، ولم يذكر قسماً رابعاً، وهو دعاؤه لأمه. ونسبة الرجل إلى أمه تأنف منه العرب وأهل المروءة، فضلاً عن أهل العلم والدين، لما في ذلك من غمص والده، والتنويه بأمه بين الأجانب؛ وما ظننت عاقلاً يرضى هذا ويستحسنه، فضلاً عن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 412 أن ينكر على من كرهه ونهى عنه. والآية الكريمة، وإن كانت نصاً في دعوى الرجل إلى من تبناه غير أبيه، فهي عامة في دعائه لأمه، لأن قوله: {ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ} [سورة الأحزاب آية: 5] نص في أنه لا يدعى لغيره، ولا شك في دخول الأم في الغير؛ وعلى هذا فالنص عام، ولو قيل بخصوصه أخذاً من خصوص السبب، فلا مانع من إلحاق النظير. والجمهور يرون في هذه المسألة أن عموم اللفظ مقدم في الاعتبار على خصوص السبب؛ والأول قال به بعض الأصوليين. وجماهير أهل العلم والتأويل قد رجحوا الثاني؛ وقوله: {ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ} عام في ترك دعائهم لغيرهم، وإن كان المدعو إليه أُمًّا؛ فتفطن. [تلقيب الإنسان] سئل الشيخ سعيد بن حجي: عن لقب الإنسان ... إلخ؟ فأجاب: قال النووي: باب النهي عن الألقاب التي يكرهها صاحبها: قال تعالى: {وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ} [سورة الحجرات آية: 11] ، واتفق العلماء على تحريم تلقيب الإنسان بما يكرهه، سواء كان صفة له، كالأعمى والأعمش، أو صفة لأبيه، أو غير ذلك مما يكرهه، واتفقوا على جواز ذلك على سبيل التعريف، لمن لا يعرف إلا بذلك. ثم قال: باب استحباب اللقب الذي يحبه صاحبه: فمن ذلك علي رضي الله عنه، " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجده نائماً في المسجد، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 413 وعليه التراب، فقال: قم أبا تراب، قم أبا تراب " 1، فلزمه هذا اللقب الحسن الجميل، وكان أحب أسمائه إليه. انتهى. فقد عرفت الفرق بين اللقب الذي يحبه صاحبه، واللقب الذي يكرهه صاحبه، فإنه ينهى عنه. وقال الشيخ تقي الدين: وأما الألقاب، فكانت عادة السلف الأسماء والكنى، فإذا أكرموه كنوه بأبي فلان، وتارة يكنى الرجل بولده، وتارة بغير ولده، كما يكنون من لا ولد له إما بإضافة اسمه، أو أبيه، أو أبي سميه، أو إلى أمر له به تعلق، كما كنى النبي صلى الله عليه وسلم عائشة باسم ابن اختها عبد الله، وكما يكنون داود أبا سليمان، لموافقته اسم داود الذي اسم ولده سليمان، وكذلك كني إبراهيم أبا إسحاق، وكما كنى النبي صلى الله عليه وسلم أبا هريرة باسم هرة كانت تكون معه؛ ولا ريب أن الذي يصلح من الكنى، ما كان السلف يعتادونه. انتهى. فقد عرفت أن هذه الألقاب التي يكرهها صاحبها، ليست من عادة السلف، وهم القدوة، والخير في اتباعهم. [نداء الشخص والديه أو قرابته بأسمائهم] وسئل: هل نداء الشخص والديه أو قرابته بأسمائهم، من العقوق؟ فأجاب: قال في كتاب الأذكار: باب نهي الولد والمتعلم والتلميذ، أن ينادي أباه، أو معلمه، أو شيخه باسمه: روينا في كتاب ابن السني: عن أبي هريرة " أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً معه غلام، فقال: يا غلام من هذا؟   1 البخاري: الصلاة (441) , ومسلم: فضائل الصحابة (2409) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 414 قال: أبي، قال: لا تمش أمامه، ولا تستسب له، ولا تجلس قبله، ولا تدعه باسمه "؛ قلت: معنى " لا تستسب له " أي: لا تفعل فعلاً تتعرض فيه لأن يسَب أبوك زجراً وتأديبا على فعلك القبيح. وروينا فيه عن عبد الله بن زحر، قال: كان يقال من العقوق أن تسمي أباك باسمه، وأن تمشي أمامه في الطريق. انتهى. وأما القرابة غير الوالدين، فلا أعلم في ندائهم بأسمائهم بأساً. وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. انتهى الجزء الخامس ويليه الجزء السادس وأوله: كتاب البيع الجزء: 5 ¦ الصفحة: 415 المجلد السادس: (كتاب البيع) * ... كتاب البيع الإيجاب والقبول سئل الشيخ: عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين، رحمه الله: عمن كتب إلى آخر ببلد بإيجاب في بيع أو قبول؟ فأجاب: هذه المسألة لم أر من ذكرها إلا صاحب الإقناع فيه، حيث قال: وإن كان المشتري غائبا عن المجلس، فكاتبه البائع أو راسله: أني بعتك داري بكذا، أو أني بعت فلانا داري بكذا، فلما بلغه الخبر قبل البيع، صح العقد; قال شارحه: لأن التراخي مع غيبة المشتري لا يدل على إعراضه عن القبول، بخلاف ما إذا كان حاضرا، ففرق المصنف في تراخي القبول عن الإيجاب، بينما إذا كان المشتري حاضرا وبينما إذا كان غائبا. وهذا يوافق رواية أبي طالب في النكاح، قال في رجل مشى إليه قوم، فقالوا: زوج فلاناً فلانة، فقال: زوجته على ألف، ورجعوا إلى الزوج وأخبروه بذلك، فقال: قد قبلت ; هل يكون هذا نكاحا؟ قال: نعم؟ قال الشيخ تقي الدين: ويجوز أن يقال: إن كان العاقد الآخر حاضرا، اعتبر قبوله في الجزء: 6 ¦ الصفحة: 5 المجلس، وإن كان غائبا جاز تراخي القبول عن المجلس، كما قلنا في ولاية القضاء، قال شارحه: ولم أر المسألة ههنا في الفروع، ولا في الإنصاف، ولا غيرهما البيوع المنهي عنها قال الشيخ عبد الله أبا بطين: وهذه الصور التي نهى عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلم في البيع. نهى عن ثمن الكلب، ومهر البغي، وحلوان الكاهن، وثمن السنور، وكسب الحجام، وبيع الخمر، وكل ما حرم أكله، وبيع الميتة، وبيع الأصنام وبيع الحر، وبيع عسب الفحل، وبيع فضل الماء، وبيع الكلأ، وبيع الحصاة، وبيع الغرر، وبيع حبل الحبلة، وبيع الملامسة، وبيع المنابذة، وبيع المزابنة، والمحاقلة، والمخابرة، والمعاومة، والثنيا، وبيع الثمرة قبل الصلاح، وبيع الطعام قبل قبضه، والبيع على بيع أخيه، والنجش، والتصرية، وبيع حاضر لباد، وتلقى الركبان، والغش، والكذب والاحتكار، وأكل الربا وتوكيله، وبيع الذهب بمثله متفاضلا. وبيع الفضة بمثلها متفاضلة، والبر بالبر متفاضلا والذهب بالذهب نسأ، والفضة بالفضة نسأ، والتمر بالتمر نسأ، والشعير بالشعير نسأ، والبر بالبر نسأ، والملح بالملح نسأ، والذهب بالفضة نسأ، والتمر بالبر نسأ، والتمر بالشعير نسأ، والتمر بالملح نسأ، والبر بالشعير نسأ، والبر بالملح نسأ، والشعير بالملح نسأ، واشتراط ليس في كتاب الله، وكل ما تقدم ذكر في الصحيحين، أو أحدهما. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 6 قوله: المزابنة، وهي: أن يبيع ثمر حائطه إن كان نخلا بتمرٍ كيلا، وإن كان كرما أن يبيعه بزبيب كيلا، وإن كان زرعا أن يبيعه بطعام كيلا، نهى عن ذلك كله، ويروى المزابنة: أن يباع ما في رؤوس النخل بتمر كيلا مسمى، إن زاد فلي وإن نقص فعلي، قوله: نهى عن المخابرة والمحاقلة، فالمحاقلة: أن يبيع الرجل الزرع بمائة فرق حنطة، والمزابنة: أن يبيع الثمر في رؤوس النخل بمائة فرق مثلا، والمخابرة: كرى الأرض بالثلث أو الربع, والمعاومة: أن يبيع حمل الشجر المستقبل أعواما. قوله: المنابذة، وهي: طرح الرجل ثوبه بالبيع إلى الرجل، قبل أن يقلبه أو ينظر إليه، قوله: الملامسة، وهي: لمس الثوب لا ينظر إليه. قوله حبل الحبلة، وكان بيعا يبيعه أهل الجاهلية، كان الرجل يبتاع الجزور إلى أن تنتج الناقة، ثم تنتج التي في بطنها; وقيل: إنه كان بيع الشارف ; وهي الكبيرة المسنة بنتاج الجنين الذي ببطن ناقته، وقوله: بيع الحصاة، وهو أن يقول: أي موضع وقعت عليه هذه الحصاة من هذه الأرض، فهو لي. وسئل الشيخ: عبد الله أبا بطين عن ثمن الكلب ومهر البغي: الخ؟ فأجاب: ثمن الكلب هو أخذ العوض عنه ; ومهر البغي هو الجعل الذي تأخذه على زناها، وحلوان الكاهن: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 7 هو ما يأخذه الكاهن في مقابلة إخباره بالمغيبات، وثمن السنور: هو أخذ العوض عنه، وكسب الحجام: هو ما يأخذه أجرة على حجامته، فأما ما يعطاه بغير شرط فرخص فيه بعض العلماء، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى الذي حجمه، قالوا: ولو كان حراما لم يعطه النبي صلى الله عليه وسلم، وحملوا النهي على الاشتراط خاصة، وتحريم بيع الخمر ظاهر، وهو المعاوضة عنه ; وكذا حكم كل مسكر، وبيع الميتة وما حرم أكله، لما في الحديث المشهور " إن الله إذا حرم شيئا حرم ثمنه " وثمن الحر ظاهر، وهو أخذ العوض عنه، وبيع عسب الفحل: وهو أخذ العوض عن ضرابه، كما يفعله كثير من الناس في أخذ العوض على نزو الحصان على الرمكة. وسئل أيضا: الشيخ عبد الله أبا بطين، عن بيع الحصاة وبيع الغرر ... الخ؟ فأجاب: وأما بيع الحصاة، فهو أن يقول: إرم بهذه الحصاة، فعلى أي ثوب وقعت، أو دابة، فهو لك بكذا، وفسر بأن يقول: أبيعك من هذه الأرض ما تبلغ هذه الحصاة، إذا رميت بها بكذا، وبيع الغرر يدخل تحته صور كثيرة، منها: بيع العبد الآبق، والدابة الشاردة، ومنها بيع الدين لغير من هو في ذمته، إذا كان غير مليء، ويدخل تحته كل مبيع لا يدري مشتريه، أيحصله أم لا، وأما بيع حبل الحبلة، ففيه تفسيران: أحدهما أن أهل الجاهلية كانوا يشترون الجزور ونحوها إلى أن تلد الناقة، ثم يلد ولدها، فيكون النهي لأجل الجزء: 6 ¦ الصفحة: 8 جهالة الأجل، وقيل: هو أن يبيعه نتاج ما في بطن هذه الناقة، وهو ولدها، لما فيه من الغرر. وأما بيع الملامسة: فنحو أن يقول: أي ثوب لمسته فهو لي بكذا، فيشتريه من غير نظر إليه ولا تقليب ; وأما بيع المنابذة: هو أن يقول-: كل ثوب نبذته إلي فهو علي بكذا، والعلة في ذلك جهالة المبيع وقت العقد، ولهذا اشترط العلماء لصحة البيع، معرفة المبيع، ونهيه عن الثنيا إلا أن تعلم، فهو أن يبيعه عددا من الدواب أو الثياب ونحوها، ويستثنى منها غير معين، نحو أن يقول: بعتك هذه الغنم بكذا، ولي منها واحدة أختارها، وفيه صور كثيرة. وقال رحمه الله تعالى: وأما بيع المضامين والملاقيح، فقيل في المضامين ما في بطون الإناث، والملاقيح ما في ظهور الفحول، وفسر بالعكس، وبيع الغنيمة قبل القسمة، المراد به: الإنسان يبيع نصيبه من الغنيمة قبل تمييزه وقبضه. سئل الشيخ: عبد الله بن الشيخ محمد، عن بيع المكره بحق؟ فأجاب: وأما قوله: إلا أن يكره بحق، كما يكرهه الحاكم على بيع ماله لوفاء دينه، فهذا لا بأس بالشراء منه، سواء رضي بذلك أو لم يرض. سئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن، عن سكوت المرأة عن بيع نصيبها من العقار، هل يوجب صحة البيع أم لا؟ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 9 فأجاب: لا يجب به بيع، لعدم وجود الرضا منها صريحا وهي على ملكها، والمشتري يرجع على من باعه، سواء أدرك منه الثمن أم لا، والمرأة لا رجوع عليها والحالة هذه، وما استغل من عقارها رده عليها، أو مثله إن تلف. بيع الفضولي سئل الشيخ: حمد بن ناصر بن معمر، عن تصرف الفضولي؟ فأجاب: اختلف الفقهاء، فمنهم من قال: لا ينعقد البيع أصلا، ولا تدخل هذه المسألة في الخلاف، بل الملك باق على ملك صاحبه، ولا ينتقل بتصرف الفضولي، ونماؤه لمالكه، وأما قوله، إذا قال الفضولي للمشتري: أنا ضامن ما لحقك من الغرامة، هل يلزمه غرامة النماء؟ فنقول: إن كان المشتري جاهلا أن هذا مال الغير، أو كان عالما لكن جهل الحكم وغره الفضولي، فما لزم المشتري من الغرامة من هذا النماء الذي تلف تحت يده، فهو على الضامن الغارم. وأجاب الشيخ: حسن بن حسين بن الشيخ محمد، رحمهم الله: الأشبه بالقواعد الشرعية، ما اقتضته المعاقد المذهبية، من تحريم التصرف في مال الغير بغير إذنه إذا علم بالحال، وأن حكمه حكم الغاصب، لتعديه بتناوله المحظور عليه شرعا بغير إذن مالكه، فنصحح تصرفه، يعني أن الربح الحاصل بتصرفه لمالك المال كأصله، لأنه نماء ملكه ونتيجته، وليس للمتصرف من الربح شيء، ونص عليه الإمام الجزء: 6 ¦ الصفحة: 10 أحمد في المتجر بالوديعة في رواية الجماعة، قال ابن نصر: نصوص أحمد متفقة على أن الربح للمالك. سئل الشيخ: حمد بن ناصر بن معمر رحمه الله تعالى، عن قوله: " لا تبع ما ليس عندك " 1؟ فأجاب: أهل العلم ذكروا أن النهي يقتضي الفساد، فقالوا: لا يصح أن يبيع ما ليس في ملكه، ثم يمضي فيشتريه ويسلمه للمشتري، فعلى هذا: إذا خالف وفعل لم يصح البيع، وتكون على ملك الذي اشتراها من السوق، فإن تلفت بيد المشتري الثاني ضمنها بقيمتها، لا بثمنها الذي اشتراها به، فإن كانت مثلية مثل المكيل والموزون، ضمنه بمثله. وأجاب الشيخ عبد الله أبا بطين: وأما ربح ما لم يضمن، فهو أن يبيع ما لا يدخل في ضمانه، كأن يشتري طعاما ويبيعه قبل اكتياله. وسئل الشيخ عبد الله العنقري: عن الرجل يقول: من أراد منكم أبيعه ثمن العشرة بأربعة عشر إلى أجل، ويذهب مع المشتري إلى السوق فيشتري ثم يقبضه. فأجاب: هذا العقد لا يصح، لأن النبي صلى الله عليه وسلم وسلم نهى عن ربح ما لم يضمن؟ وقال لحكيم بن حزام " لا تبع ما ليس عندك " 2 أي لا تبع ما ليس في ملكك، والحديثان صحيحان، وقد ذكر العلماء رحمهم الله من شروط البيع: أن يكون البائع   1 الترمذي: البيوع (1232) , والنسائي: البيوع (4613) , وأبو داود: البيوع (3503) , وأحمد (3/402 ,3/434) . 2 الترمذي: البيوع (1232) , والنسائي: البيوع (4613) , وأبو داود: البيوع (3503) , وأحمد (3/402 ,3/434) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 11 مالكا للمبيع حالة العقد، أو مأذونا له فيه كالوكيل ونحوه، والمقصود: أن هذا البيع باطل محرم. سئل الشيخ: عبد الرحمن بن حسن رحمه الله: عمن باع شيئا من عقار بيت المال حال وضع يده عليه ثم رجعت في بيت المال، هل يحكم برد الثمن؟ فأجاب: نعم، لأن البيع غير صحيح. سئل بعضهم: عن بيع فضل الماء؟ فأجاب: الذي اطلعت عليه من الكلام على مسألة بيع فضل الماء، لا يخفاك أن الأحاديث في ذلك مطلقة في الصحيحين وغيرهما، وقد فهم أئمة الحديث من ذلك العموم، كما في حديث: " الناس شركاء في ثلاث " 1 الخ، ولم يخصصوا من هذا العموم إلا ما كان منه محرزا في آنية فإنه يجوز بيعه، قياسا على جواز بيع الحطب إذا أحرزه الحاطب، وهذا على مذهب من يجوز التخصيص بالقياس، وأما شراء نصف رومة من اليهودي، فقد أجاب المحققون: أن هذا كان في صدر الإسلام، وأيضا: فالماء تبع للبئر، قال في مختصر الشرح: ولا يجوز بيع كل ماء عد، كمياه العيون، ونقع، ولا ما في المعادن الجارية، ولا ما نبت في أرضه من الكلأ والشوك، وأما نفس البئر وأرض العين، فهي مملوكة والماء غير مملوك. والوجه الآخر: يملك، وروى عن أحمد نحو ذلك،   1 أبو داود: البيوع (3477) , وأحمد (5/364) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 12 فإنه قيل له: رجل له أرض ولآخر ماء، يشتركان الزرع يكون بينهما؟ فقال: لا بأس، وكذا النابت في الأرض، فكله يخرج على الروايتين في الماء، قال الأثرم: سئل أبو عبد الله عن قوم بينهم نهر، فشرب منه أرضوهم، لهذا يوم ولهذا يومان، فيتفقون عليه بالحصص، فجاء يومي ولا أحتاج إليه، أُكْرِيه بدارهم؟ قال: ما أدري، أما النبي صلى الله عليه وسلم فقد نهى عن بيع الماء، فقيل له: إنما نكريه، فقال: إنما احتالوا بهذا ليحبسوه، فأي شيء هذا إلا البيع؟، انتهى يؤيده ما روى أبو عبيد: أنه صلى الله عليه وسلم " نهى عن بيع فضل الماء إلا ما يحمل منه " 1. وسئل الشيخ: حسن بن حسين بن الشيخ محمد، عن بيع النهر؟ فأجاب: جواز بيعه مبني على ملك الماء وعدمه، والصحيح أن الماء يملك بالعمل فيه، لا نفس النقع، فإنه لا يملك إذا لم يكن نبع في ملكه، والعمل هو احتفار السواقي وإصلاحها، وبعث الآبار وعمارتها، فبهذا تكون مملوكة، ونحن نذكر لك كلام صاحب الشرح، قال: أما الأنهار النابعة في غير ملك، كالأنهار الكبار فلا تملك بحال، ولا يجوز بيعها، ولو دخل إلى أرض رجل لم يملكه بذلك، كالطير يدخل في أرضه، ولكل واحد أخذه ويملكه، إلا لأن يحفر منه ساقية، فيكون أحق بها من غيره، وأما ما ينبع في ملكه، كالبئر والعين المستنبطة، فنفس البئر وأرض العين مملوكة لمالك الأرض، والماء الذي فيها غير مملوك في ظاهر   1 مسلم: المساقاة (1565) , والنسائي: البيوع (4660 ,4670) , وابن ماجه: الأحكام (2477) , وأحمد (3/338 ,3/339 ,3/356) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 13 المذهب، وهذا أحد الوجهين لأصحاب الشافعي. والوجه الآخر: يملك، لأنه نماء الملك، وقد روي عن أحمد نحو ذلك، فإنه قيل له: في رجل له أرض، ولآخر ماء، يشترك صاحب الماء وصاحب الأرض الزرع، يكون بينهما، فقال: لا بأس، اختاره أبو بكر، وهذا يدل من قوله: على أن الماء مملوك لصاحبه، وجواز بيع ذلك مبني على ملكه، قال أحمد: لا يعجبني بيع الماء البتة، وقال الأثرم: سمعت أبا عبد الله يُسْأل عن قوم بينهم نهر، فشرب منه أرضوهم، لهذا يوم ولهذا يومان، فيتفقون عليه بالحصص، فجاء يومي ولا أحتاج إليه، أكريه بدارهم؟ قال: ما أدري، أما النبي صلى الله عليه وسلم وسلم فنهى عن بيع الماء، قيل له: إنه ليس يبيعه إنما يكريه، قال: إنما احتالوا بهذا ليحبسوه، فأي شيء هذا إلا البيع؟!. وروى الأثرم بإسناده عن جابر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " المسلمون شركاء في ثلاث، الكلأ والنار والماء " 1 فإن قلنا يملك جاز بيعه، وإن قلنا لا يملك، فصاحب الأرض أحق به من غيره، لكونه في ملكه، والخلاف في بيع ذلك إنما هو قبل حيازته، فأما ما يحوزه من الماء في إنائه، أو يأخذه من الكلأ في حبله أو يحرزه في رحله، أو يأخذه من المعادن، فإنه يملكه بذلك بغير خلاف بين أهل العلم، وليس لأحد أن يشرب منه، ولا يأخذ ولا يتوضأ إلا بإذن مالكه لأنه ملكه، قال أحمد: إنما نهى عن بيع فضل ماء البئر والعيون في   1 أبو داود: البيوع (3477) , وأحمد (5/364) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 14 قراره، ويجوز بيع البئر نفسها والعين، ومشتريها أحق بمائها. ثم ذكر حديث بئر رومة، وقال بعد ذكره: وفي هذا دليل على صحة بيعها وتسبيلها، وملك ما يستقيه منها، وجواز قسمة مائها بالمهايأة، وكون مالكها أحق بمائها، وجواز قسمة ما فيه حق، وليس بمملوك ملك مياه الأمطار، فأما المصانع المتخذة لمياه الأمطار يجمع فيها ونحوها من البرك وغيرها، فالأولى أن يملك ماؤها ويصح بيعه، لأنه مباح حصل بشيء معد له، فملكه كالصيد يحصل في شبكته، والسمك في بركة معدة له ولا يحل أخذ شيء منه بغير إذن مالكه، وكذلك إن أجرى من نهر غير مملوك ماء إلى بركة في أرضه يستقر الماء فيها لا يخرج منها، فحكمه حكم مياه الأمطار تجتمع في البركة قياسا عليه، انتهى ملخصا، وقد عرفت ما قدمناه. وسئل الشيخ: محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف، عمن عنده فضل ماء، وإلى جنبه من هو محتاج إليه هل يجوز بذل ذلك الفضل، بجزء مما يخرج من الزرع الذي بجواره، أو بدراهم معلومة، أو آصع معلومة؟ فأجاب: أما فضل الماء، فالسنة واضحة في المنع من بيعه، ووجوب بذله مجانا، لكن ذكر العلامة ابن القيم رحمه الله: إمكان التحيل على المعاوضة عنه بحيلة جائزة. قال رحمه الله تعالى: المثال الثامن والثلاثون، إذا استنبط في ملكه، أو أرض استأجرها عين ماء ملكه، ولم الجزء: 6 ¦ الصفحة: 15 يملك بيعه لمن يسوقه إلى أرضه، أو يسقي بها بهائمه، بل يكون أولى به من كل أحد، وما فضل منه لزمه بذله لبهائم غيره وزرعه، فالحيلة على جواز المعاوضة: أن يبيعه نصف العين، أو ثلثها، أو يؤجره ذلك، فيكون الماء بينه وبينه على حسب ذلك، ويدخل الماء تبعا لملك العين أو لمنفعتها، ولا تدخل هذه الحيلة تحت النهي عن بيع الماء، فإنه لم يبعه، وإنما باع العين، ودخل الماء تبعا، والشيء قد يستتبع ما لا يجوز أن يفرد وحده، انتهى، فلا بد فيما ذكره من بيع جزء من البئر مثلا، أو إجارته، وشروط البيع والإجارة غير خافية عليك. سئل الشيخ: عبد الله بن الشيخ محمد رحمهم الله، هل يملك المفلا 1 الخ؟ فأجاب: المفلا لا يملك ولو بالشراء. سئل الشيخ: إسحاق بن عبد الرحمن بن حسن رحمهم الله، عما جلب في أسواق المسلمين من الجلاء ... الخ؟ فأجاب: وأما ما جلب في أسواق المسلمين من الجلاء إذا كان فيها من يصيد من المسلمين وغيرهم، يحتمل أن يكون الصائد له مسلما، فمن قال: إن الأصل فيما دخل أسواق المسلمين الإباحة، أجازه، ومن جعل الأصل   1 المفلا: مرتع المواشي. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 16 استصحاب الوصف المثبت للحكم حتى يثبت خلافه، أبقى الصيد على أصله في التحريم، حتى ينقله ناقل. قال ابن القيم رحمه الله: وقد دلنا الشارع على تعليق الحكم به- يعني بالوصف- في قوله في الصيد "وإن وجدته غرقا فلا تأكله، فإنك لا تدري الماء قتله أو سهمك " 1 وقال في الكلاب: "ولا تأكل فإنك إنما سميت على كلبك، ولم تسم على غيره " 2 لما كان الأصل في الذبائح التحريم، ونشك هل وجد الشرط المبيح أم لا؟ بقى الصيد على أصله، انتهى، إذا تبين هذا، فالأحوط: اجتناب ما يتطرق إليه الاحتمال الذي صورنا، حتى يتحقق أن الصائد مسلم، على ما قرره ابن القيم رحمه الله. سئل الشيخ: عبد الله أبا بطين، عن فرس شريت بمال حرام وحلال، هل يصح الشراء ... الخ؟. فأجاب: وأما الفرس التي شريت بمال حرام وحلال، إن اشتراها بعين المال الحرام المخلوط بالحلال، لم يصح الشراء، وإن اشتراها في ذمته، ثم نقد ذلك الثمن صح البيع، وعليه إثم الحرام، ووجب عليه رد نظيره إلى صاحبه، فعلى القول بعدم صحة البيع، فولدها وولد ولدها على فذلك، وعلى القول بالصحة، فالجميع ملكه. سئل الشيخ: محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، عمن باع ما لم يره ..... إلخ؟   1 مسلم: الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان (1929) , والترمذي: الصيد (1469) . 2 البخاري: الوضوء (175) والبيوع (2054) , ومسلم: الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان (1929) , والنسائي: الصيد والذبائح (4264 ,4269 ,4270 ,4272 ,4273 ,4274 ,4275) , وأبو داود: الصيد (2854) , وأحمد (4/380) , والدارمي: الصيد (2002) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 17 فأجاب: ومن باع ما لم يره ثبت له خيار الرؤية، إذا كان ما استوفى صفات البيع. وقال الشيخ: حسن بن حسين بن علي: أهل العلم ذكروا أن البيع بالصفة ينقسم إلى قسمين، موصوف معين، وموصوف في الذمة، فالأول كأن يقول: بعتك عبدي التركي، أو من أمتعتي التي في ظروفها، أو تمري الذي على رؤوس النخل، ويصفه له بما يميزه، فهذا لا يشترط فيه قبض ثمن ولا مثمن، ويصح أن يكون ثمنه دينا كالحاضر، والثاني: يشترط فيه قبض الثمن أو المثمن بالمجلس، فلا يصح أن يكون ثمنه دينا، كأن يقول: بعتك عبدا تركيا أو ثمرا من ذمتي ويصفهما، هذا ما ظهر من كلامهم. وسئل: عمن اشترى طعاما لم يره، ولم يوصف له ... إلخ؟ فأجاب: إذا اشترى من ذمته زادا لم يره، ولم يوصف له، بثمن مؤجل، لم يلزمه العقد، وليس بصحيح، وهو من بيع الدين بالدين، وإن كان رأى الزاد، أو وصفه له، انعقد فيما إذا رأى الزاد، وأما الموصوف، فإن كان موصوفا معينا انعقد أيضا وإن كان في الذمة لم يصح، ولم ينعقد إلا بقبض الثمن في المجلس قبل التفرق. سئل الشيخ: سعد بن حمد بن عتيق: إذا باع رجل جملا، واشترط حملانه إلى موضع معين، هل يصح؟ وإذا تلف هل ضمانه على المشتري أو البائع؟ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 18 فأجاب: إذا باع الجمل واشترط حملانه إلى موضع معين، صح الشرط، كما دل عليه حديث جابر، فإن تلف في يد البائع، فضمانه على المشتري، وليس على البائع ضمان، لأنه أمانة في يده، إن تلف بغير تعد منه فلا ضمان عليه، ثم بعد أن كتبنا هذا الجواب: عثرت على كلام لابن القيم رحمه الله في هذه المسألة، وقرر: أن ضمان البعير في هذه الصورة على البائع، وعلل بأن قبض المشتري والحالة هذه غير تام، فليراجع كلام ابن القيم رحمه الله، وهو في كتاب الإعلام في آخره. وأجاب الشيخ: عبد الله بن عبد العزيز العنقري: أما البيع بالصفة، فالبيع صحيح، ولو تلف قبل القبض كان من ضمان البائع، لكن للمشتري الخيار إذا بان بخلاف ما وصف له. سئل الشيخ: سليمان بن الشيخ عبد الله بن محمد، رحمهم الله: إذا اشترى رجل من شخص ناقة بصفة، وتركها مع البائع ثم نتجت بنتاج منفصل، هل النتاج للبائع في مقابلة الضمان أم لا؟ فأجاب: إن كان المشتري قد قبضها ثم تركها مع البائع، فيد البائع يد أمانة لا ضمان عليه فيها، فيكون النتاج للمشتري لذلك، وإن كان البائع لم يمكنه من القبض، لأنه لم يعطه الثمن ونحو ذلك، فالنماء للبائع في مقابلة ضمانه، إذ لو الجزء: 6 ¦ الصفحة: 19 تلفت في هذه الحال لانفسخ فيها العقد، هذا فيما إذا كانت معينة، كما هو ظاهر السؤال، والله أعلم. سئل الشيخ: حسن بن حسين بن الشيخ محمد، رحمهم الله: عن بيع التمر بظروفه. فأجاب: قال في المنتهى وشرحه: ويصح بيع ما بوعاء، كسمن مائع أو جامد مع وعائه موازنة، كل رطل بكذا، أي: سواء علما مبلغ الوعاء أو ما به أو لا، لرضاه بشراء الظروف كل رطل بكذا، كالذي فيه، ويصح ما بوعاء دونه، أي: الوعاء، مع الاحتساب بزنته، أي الوعاء على اشتراط، إن علما حال العقد مبلغ كل منهما وزنا، لأنه إذا علم أن ما بالوعاء عشرة أرطال، وأن الوعاء رطلان، واشترى كذلك كل رطل بدرهم، صار كأنه اشترى العشرة التي بالوعاء باثني عشر درهما، فإن لم يعلما مبلغ كل منهما لم يصح البيع، لأدائه إلى جهالة الثمن، انتهى، فتأمله فإنه صريح في المسألة، وافهم الفرق بين الصورتين. سئل الشيخ: عبد الله بن الشيخ محمد، إذا باع رجل شقصا، واستثنى سهما معلوما من غلة الشقص مدة ... إلخ؟ فأجاب: لا يصح هذا الاستثناء، فإن استثناء الغلة مدة سنين، لا أعلم أحدا قال بجوازه من العلماء، وإنما إلخلاف بينهم فيما إذا باع نخلا لم يؤبر، واستثنى البائع غلته الموجودة تلك السنة، فمالك رحمه الله، قال: لا يجوز، والحنابلة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 20 يقولون: بالجواز، وعللوا ذلك بأنه بيع حال العقد، فصح استثناؤه كغيره من العين المبيعة، وأما استثناء الغلة مدة سنين معلومة، فقد جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه " نهى عن الثنيا إلا أن تعلم " 1 بل منع كثير من الفقهاء استثناء الحمل، الذي في بطن الدابة أو الأمة مع كونه موجودا حالة العقد، كما هو المشهور في المذهب، فإذا كان هذا كلامهم في الموجود حالة العقد، فما ظنك بالمعدوم. وسئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عمن اشترى فرسا، واستثنى شيئا لم يخلق؟. فأجاب: من باع فرسا واستثنى شيئا لم يخلق، فهذه ثنيا باطلة، للحديث: " نهى عن الثنيا إلا أن تعلم " 2. وأجاب أيضا: وأما بيع الخيل بالمثاني فهو حرام، لا تجوز الشهادة عليه، ولا الكتابة بينهم. سئل الشيخ: محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: عمن اشترى عضوا من الذبيحة قبل الذبح؟ فأجاب: العضو إذا اشتري من الذبيحة فهو غرر، هذا إذا كان قبل الذبح. وأجاب: الشيخ عبد الله العنقري: والذي يبيع حيوانا مما يؤكل ويستثنى منه عضوا، فهذا لا يجوز، فإن كان المستثنى رأسا أو جلدا أو سواقط، أو يكون المستثنى سهما   1 النسائي: الأيمان والنذور (3880) . 2 النسائي: الأيمان والنذور (3880) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 21 مشاعا، كالربع ونحوه، فلا بأس بذلك. سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: هل يجوز بيع ما هو مستتر في الأرض، كالبصل ونحوه؟ فأجاب: المسألة فيها روايتين وجزم الشيخ بالجواز. قال الشيخ: عبد الله أبا بطين: ومن بيع الغرر بيع اللبن في الضرع، نحو أن يشتري من حليبها أسبوعا أو شهرا، ونحو ذلك. سئل الشيخ: محمد بن عبد الوهاب رحمه الله عن البيع بما ينقطع به السعر .... إلخ؟ فأجاب: الرجل الذي باع على ما ينقطع به سعر فلان، فالشيخ يصححه، وغالب العلماء ما يصححونه. سئل الشيخ: حمد بن ناصر بن معمر: عن بيع الصبرة فيها كذا وكذا بالدراهم، هل يجوز؟ فأجاب: لا يجوز، واحتجوا بما روى الأثرم بإسناده عن الحكم، قال: "قدم طعام لعثمان رضي الله عنه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال اذهبوا إلى عثمان نعينه على طعامه فقال عثمان: إن في هذه الغرارة كذا وكذا، وأبيعها بكذا وكذا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سميت الكيل فكل " واحتج به أحمد، فعلى هذا إذا أعلمه بالكيل والوزن، ثم باعه إياه مجازفة على أنه له بذلك الثمن زاد أو نقص لم يجز. وسئل بعضهم: عن بيع الصبرة جزافا ... إلخ؟ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 22 فأجاب: يجوز ويصح، قال ابن أبي عمر: لا نعلم فيه خلافا، لقول ابن عمر "كنا نشتري الطعام جزافا" قال ولا فرق بين الأثمان والمثمنات في صحة بيعها جزافا، وقال مالك: لا يصح في الأثمان، لأن لها خطرا، ولا يشق وزنها ولا عددها، وإن كان البائع يعلم قدر الصبرة لم يجز بيعها جزافا، وكرهه عطاء وابن سيرين ومجاهد، وبه قال مالك وإسحاق، وقال مالك لم يزل أهل العلم ينهون عن ذلك، ولم ير الشافعي بذلك بأسا، لأنه إذا جاز مع جهلهما فمع العلم من أحدهما أولى، وروى الأوزاعي " أنه صلى الله عليه وسلم قال: من عرف مبلغ شيء، فلا يبعه جزافا حتى يبينه " قال القاضي وأصحابه: هذا بمنْزلة التدليس، إن علم به المشتري فلا خيار له، انتهى. وأجاب الشيخ: حمد بن عبد العزيز، وأما كون البائع قبض تمره، وآواه إلى منْزله، ثم باعه، يشاهده المشتري، بثمن معلوم، فهذا يدخل في بيع الصبرة، وهو جائز، ولا يخرجه عن بيع الصبرة كونهما يعلمان وزنه الأول، أو كونهما اتفقا على إسقاط وزان عن نقصه، كل ذلك لا يخرجه عن كونه صبرة مشاهدة، بيعت بثمن معلوم، وذلك جائز عند الفقهاء، انتهى. قال الشيخ: عبد الله بن الشيخ محمد رحمهما الله: وأما الذي قال أنا أعطيك بعشرة هذه الزرور، التي في ذمة هذا الرجل عشرة آصع، فلا يجوز هذا، لأنه غرر. سئل بعضهم: عمن قال لمن اشترى سلعة بعشرة، أنا أعطيك مثلها بتسعة ... إلخ؟ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 23 فأجاب رحمه الله تعالى: وأما من قال لمن اشترى سلعة بعشرة: أنا أعطيك مثلها بتسعة، أو قال لمن باع سلعة بتسعة، عندي فيها عشرة، ليفسخ البيع ويعقد معه ; فهذه المسألة لها صور، فإن الأولى تسمى: بيع الرجل على بيع أخيه، والصورة الثانية: الشراء على شراء أخيه وفعله حرام، ويتصور ذلك في خيار المجلس، وخيار الشرط وهو محرم، لقول النبي صلى الله عليه وسلم " ولا يبع بعضكم على بيع بعض " 1 ومثله أن يقول: أبيعك خيرا منها بثمنها، أو يعرض عليه سلعة يرغب فيها المشتري، ليفسخ البيع ويعقد معه، فلا يجوز ذلك للنهي عنه، ولما فيه من الإضرار بالمسلم والإفساد عليه، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم " نهى أن يخطب الرجل على خطبة أخيه " 2 متفق عليه، وهذا في معنى الخاطب، فإن خالف وفعل، فالبيع الثاني باطل للنهى عنه، والنهي يقتضي الفساد. وفيه وجه آخر: أنه يصح، لأن المحرم هو عرض سلعته على المشتري، وذلك سابق على البيع، ولأن النهي لحق آدمي، فأشبه بيع النجش، وهذا مذهب أحمد، وقال الشيخ تقي الدين رحمه الله: يحرم الشراء على شراء أخيه، فإن فعل كان للمشتري الأول مطالبة البائع بالسلعة، وأخذ عوضها. وأجاب الشيخ: عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين: وأما بيعه على بيع أخيه، فهو أن يقول لمن اشترى سلعة من مسلم   1 البخاري: البيوع (2150) , والنسائي: البيوع (4496) , وأبو داود: البيوع (3443) , وأحمد (2/420 ,2/465) . 2 البخاري: النكاح (5142) , ومسلم: النكاح (1412) , والترمذي: البيوع (1292) , والنسائي: النكاح (3243) , وأبو داود: النكاح (2081) , وأحمد (2/21) , ومالك: النكاح (1112) , والدارمي: النكاح (2176) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 24 بعشرة مثلا: أبيعك مثلها بتسعة، ليفسخ البيع ويعقد معه، وقيد بعضهم ذلك بمجلس الخيار، وقال بعض العلماء: هذا ممنوع بعد التفرق من المجلس، لأن ذلك يوجب للمشتري التحيل على رد البيع وفسخه، وأما النجش، فهو: أن يزيد في ثمن السلعة من لا يريد شراءها، ليغر المشتري ويضر به، انتهى. وأجاب الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: وقوله: لا يجوز بيع الرجل على بيع أخيه، إذا فعل ذلك في مجلس الخيار، وكذلك الإثم في تلقي الركبان حاصل لهم، ولا أدري عن صحة البيع أو عدمها. قال الشيخ إبراهيم، والشيخ عبد الله وعلي، أبناء الشيخ محمد رحمهم الله: ومنها، أي: المعاملات الربوية، أن يبيعه سلعة بنسيئة، ثم يشتريها منه بأقل مما باعها به نسيئة. وأجاب الشيخ: حمد بن ناصر بن معمر، رحمه الله: الذي ذكر العلماء رحمهم الله تعالى في صفة العينة المحرمة، هي المسؤول عنها، قال علماؤنا رحمهم الله: ومن باع سلعة بنسيئة، أو بثمن لم يقبضه، لم يجز أن يشتريها بأقل مما باعها به، فإن فعل بطل البيع الثاني، ولو كان بعد حلول أجله. قال الشيخ تقي الدين رحمه الله: إن قصد بالعقد الأول الثاني، بطل الأول والثاني جميعا، وهو قول أبي حنيفة ومالك، وهذه هي مسألة العينة المشهورة، وروي تحريمها الجزء: 6 ¦ الصفحة: 25 عن ابن عباس وعائشة، وهو قول مالك وأبي حنيفة، وإسحاق وأصحاب الرأي. واحتجوا على ذلك: بما رواه الإمام أحمد في مسنده، عن ابن عمر - رضي الله عنهما -، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم الزرع، وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلا لا ينْزعه عنكم حتى تراجعوا دينكم " 1 وهذا وعيد شديد، يدل على التحريم، وروى غندر عن شعبة، عن أبي إسحاق، عن امرأته العالية، قالت: "دخلت وأم ولد زيد بن أرقم، وامرأة، على عائشة أم المؤمنين - رضي الله عنها -، فقالت: إني بعت غلاما من زيد بن أرقم بثمانمائة درهم إلى العطاء، ثم اشتريته منه بستمائة درهم، فقالت لها: بئس ما شريت، وبئس ما اشتريت، أبلغي زيد بن أرقم أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يتوب" رواه الإمام أحمد، وسعيد بن منصور. قالوا: والظاهر أنها لا تقدم على مثل هذا الوعيد الشديد، إلا بتوقيف من النبي صلى الله عليه وسلم ولأن ذلك ذريعة إلى الربا، فإنه يدخل السلعة ليستبيح به بيع ألف بخمسمائة، ولذلك قال ابن عباس - رضي الله عنهما - في مثل هذا، أرى مائة بخمسين بينهما حريرة، ولم يستثنوا من ذلك إلا أن تتغير صفتها بما ينقصها، أو ينقص ثمنها، مع أن أحمد رحمه الله توقف في رواية مهنا، فيما إذا نقص في نصه، لأن علة المنع باقية. واختار الموفق وغير واحد من أصحاب أحمد: الجواز   1 أبو داود: البيوع (3462) , وأحمد (2/42 ,2/84) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 26 إذا تغيرت الصفة، وذلك مثل هزال العبد، أو نسيان الصنعة، أو تخرق الثوب، وذلك لأن الثمن لنقص البيع، لا للتوسل إلى الربا، فهذه الصورة مما استثنوها من بيع العينة المحرمة; الصورة الثانية: إذا كان بيعها الأول بعرض، قال في المغني: لا نعلم فيه خلافا. الصورة الثالثة: إذا كان بيعها الأول بنقد واشتراها بعرض، قال- في المغني: لا نعلم فيه خلافا. الصورة الرابعة: إذا كان باعها بنقد، واشتراها بنقد آخر، فقيل: يجوز، وقال الموفق وغير واحد: لا يجوز، قال في الإنصاف: وهو الصواب. الصورة الخامسة: إذا باعها بمثل الثمن الأول، من غير زيادة ولا نقصان، فإن ذلك جائز، قاله غير واحد من علمائنا رحمهم الله. الصورة السادسة: إذا باعها بأكثر من ثمنها الأول جاز أيضا فإن باع سلعة بنقد، ثم اشتراها بأكثر منه، فهي كمسألة العينة. الصورة السابعة: إذا وجدها تباع من غيره، إلا أن يكون وكيلا له، وقال أحمد في رواية حرب: لا يجوز إلا أن تتغير السلعة، لأن ذلك يتخذ وسيلة إلى الربا، فهي كمسألة العينة، ونقل أبو داود عن أحمد: يجوز بلا حيلة; وأما إن اشترى السلعة التي باعها، بنقد بسلعة أخرى، أو بأقل من ثمنها، أو بمثله، جاز، فإن اشتراها بنقد آخر بأكثر من ثمنها، فهو كمسألة العينة أيضا; ونقل المروذي فيمن يبيع الشيء ثم يجده يباع، أفيشتريه بأقل مما باعه بالنقد؟ قال لا، ولكن بأكثر لا بأس، قال الموفق رحمه الله: يحتمل أن يجوز له شراؤها بجنس الثمن بأكثر منه، إذا لم يكن مواطأة ولا حيلة، بل وقع الجزء: 6 ¦ الصفحة: 27 اتفاقا بلا قصد، ومن مسائل العينة أيضا: إذا باعه شيئا بثمن لم يقبضه، ثم اشتراه بأقل مما باعه نقدا على الخلاف المتقدم، لم يصح، ذكره غير واحد من أئمة الحنابلة، وهو ظاهر كلام أحمد، قاله في الإنصاف. وأجاب الشيخ عبد الله أبا بطين: وأما بيع السلعة بنسيئة، ثم يشتريها البائع بأقل مما باعها به نقدا، نحو أن يبيعه إياها بخمسين إلى أجل، ثم يشتريها بثلاثين نقدا قبل قبض الخمسين، فهذه مسألة العينة، لكن اشترط الفقهاء لعدم الجواز، أن لا تتغير صفتها، فإن تغيرت بهزل أو نحوه، فلا بأس أن يشتريها بأقل مما باعها به نقدا. وأجاب الشيخ سعد بن حمد بن عتيق: إذا تغير المبيع جاز بأكثر أو أقل. وأجاب الشيخ عبد الله بن عبد العزيز العنقري: صاحب الدار الذي عجز عن بعض ثمنها، وقال للمشتري: خذها بما بقي من ثمنها، إن كانت تغيرت عن حالها الأولى ولو يسيرا فلا بأس بذلك، وإلا فيبيعها على غير البائع. سئل الشيخ: محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: عن أخذ العروض عن النقود وبالعكس ... إلخ؟ فأجاب: إن كان المراد أخذ العروض عن النقود التي في الذمة عن ثمن ربوي، كما إذا باع تمرا أو نحوه بأحد النقدين إلى أجل، ثم أخذ عما في الذمة من جنس المبيع، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 28 أو ما لا يجوز بيعه به نسيئة، فهذا لا يصح على المعتمد، وإن كان غير ذلك، كقيمة متلف أو أجرة ونحو ذلك، فيجوز أن يأخذ عما في الذمة عن النقد عرضا وبالعكس، بل يجوز أخذ أحد النقدين عن الآخر بسعر يومها، كما في حديث ابن عمر. وقال أبناؤه: ومنها: أي المعاملات الربوية، ما يفعله كثير من الناس، يبيع الطعام نسيئة، فإذا حل ثمنه أخذ عنه طعاما بسعر الواقع، وقد ذكر العلماء أن هذا لا يجوز، لأنه حيلة وذريعة إلى بيع الطعام بالطعام نسيئة. وقالوا أيضا: ومنها كونه يبيع تمرا أو عيشا إلى أجل، فإذا حل الأجل أخذ منه بتلك الدراهم تمرا أو عيشا، وهذا حرام عند أكثر العلماء، لا سيما إذا قصد في ابتداء العقد، وعرف أنه لا يستوفي منه إلا تمرا أو عيشا. وأجاب الشيخ: عبد الله أيضا، وأما من باع طعاما بدراهم إلى أجل معلوم، فهذا لا بأس به، ولا يجوز أن يأخذ عن الدراهم طعاما، من جنس ما باع عليه بالدراهم. قال الشيخ: عبد الرحمن بن حسن، تحت رسالة أعمامه في الربا والحيل المحرمة، الأعمام رحمهم الله: اختاروا عدم التفصيل خوفا من الاسترسال، وردعا للعامة الذين لا يحسنون التفصيل، ولا يفهمون الشروط عن الوقوع في الربا الصريح، فحسموا المادة حسما تاما. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 29 وأجاب الشيخ عبد الله أبا بطين: إذا اشترى إنسان من آخر طعاما يجري فيه الربا بنسيئة ثم اشترى منه بذلك الثمن ما لا يجوز بيعه به نسيئة، ففي المسألة خلاف مشهور، فمذهب أحمد وطائفة تحريم ذلك، ومذهب الشافعي جوزاه، واختار الشيخ تقي الدين جواز ذلك للحاجة، وكثير من أهل الزمان لو لم يأخذ منه غريمه طعاما، ما أوفاه، فلو امتنع من أخذ الطعام ذهب حقه، فالظاهر أن الشيخ يجيز ذلك، لأن هذا حاجة أبلغ من احتياجه إلى الطعام، والحنابلة يتوصلون إلى إجازة ذلك، بأن يشتري الذي له الدين من غريمه الطعام بثمن في الذمة، فإذا ثبت الثمن في ذمة المشتري الثاني، قال لغريمه: في ذمتك لي مثلا ريال، وفي ذمتي لك ريال، فهذا بهذا ويسمون هذا مقاصة، وهو جائز عندهم. وأجاب أيضا: وأما أخذ الطعام عن الدراهم ثمن السمن، فالخلاف في هذه المسألة مشهور في زمن السلف، هذا إذا كان الطعام حاضرا ليس مؤخرا، وأرى في هذه المسألة الغفلة عن الفاعل. وأجاب أيضا: الذي يأخذ عن الدراهم ثمن الغنم زادا، فهذا لا بأس به إن شاء الله تعالى، فإن كانت الدراهم ثمن لحم، فلا ينبغي أخذ الزاد منها، خروجا من الخلاف. وسئل الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن: عمن باع ربويا بدراهم نسيئة، فلما حل الأجل أعسرت الدراهم على الجزء: 6 ¦ الصفحة: 30 المبتاع، وهو موسر بحب أو تمر، هل يحل أخذ الطعام بسعر الدراهم؟ فأجاب: هذه المسألة مسألة خلاف بين العلماء، والمذهب في ذلك المنع، وهو الذي عليه مشايخنا، وجوز ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية إذا لم يكن بينهما حيلة، والثانية صفة الأولى، لكن المباع قهوة، هل يحل أخذ الطعام بسعره مع عدم الدراهم؟ فالجواب عن هذه المسألة جواب ما قبلها. وسئل: إذا كان عند إنسان طعام، أو قهوة أو نحو ذلك، وأتاه رجل وقال: أعطني سعر ريال بريالين نسيئة، هل يصح؟ فأجاب: يصح بغير خلاف. وسئل: إذا قال اشتر لي هذه الدابة ونحوها بثمن عاجل، وبعنيه بالمثلين آجلا، هل يصح؟ فأجاب هذه المسألة مسألة العينة، التي وردت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها بتحريمها، وأنها عين الربا. سئل الشيخ: عبد الله بن الشيخ محمد رحمهما الله: رجل عليه دين لرجل، أو يحتاج إلى بضاعة أو حيوان ينتفع به، أو يتاجر فيه، فيطلبه من إنسان دينا فلم يكن عنده، هل للمطلوب أن يشتريه، ثم يبيعه له بثمن إلى أجل؟ وهل له أن يوكله في شراه، ثم يبيعه له بعد ذلك بربح اتفقا عليه قبل الشراء؟. فأجاب: من كان له عليه دين، فإن كان موسرا وجب عليه أن يوفيه، وإن كان معسرا وجب إنظاره، ولا يجوز قلبه الجزء: 6 ¦ الصفحة: 31 عليه بمعاملة ولا غيرها، وأما البيع إلى أجل ابتداء، فإن كان مقصود المشتري الانتفاع بالسلعة، أو التجارة فيها، جاز إذا كان على الوجه المباح، وأما إذا كان مقصوده الدراهم، فيشتريها بمائة مؤجلة، ويبيعها في السوق بسبعين حالة، فهذا مذموم منهي عنه في أظهر قولي العلماء، وهذا يسمى التورق، قال أبو عمر بن عبد البر: التورق أخية الربا. سئل الشيخ: حمد بن ناصر بن معمر، هل يحبس أحد عن الموسم ... إلخ؟ فأجاب: أما الموسم الذي يقع فيه البيع والشراء، فلا يحبس عنه أحد، ولا يجبر البائع على بيع سلعته في بلاد معينة، بل يترك يبيع سلعته في القرية التي يريدها من قرى المسلمين. سئل الشيخ: عبد الرحمن بن حسن، عن الاحتكار ... إلخ؟ فأجاب: أما الاحتكار، فإذا اشترى أحد من الأسواق ينتظر الغلا، فهو الاحتكار. وأجاب الشيخ سعيد بن حجي، المحتكر: من يشتري ولا يبيع، مع حاجة الناس إليه، فيضيق عليهم، وأما من يشتري ويبيع في الحال، فالجالب مرزوق ليس محتكرا. وأجاب: الشيخ عبد الله أبا بطين، وأما الاحتكار فنحو إذا كان بالناس حاجة إلى الطعام، فيشتري إنسان ما يجلب الجزء: 6 ¦ الصفحة: 32 للبلد من الطعام ليبيعه على أهل البلد، فنهى عن ذلك لما فيه من التضييق عليهم. وسئل: عمن لا يبيع ولا يشتري إلا بيمينه؟ فأجاب: الذي يظهر لنا أن هذا يتناول المكثر من الحلف بالله، بحيث إنه لا يبيع شيئا ولا يشتري إلا مع الأيمان، وإن لم يكن متعمدا للكذب، فمن كان كذلك فلا بد أن يقع في اليمين الكاذبة. سئل الشيخ عبد الله بن عبد العزيز العنقري، عن رفع الصوت بالذكر في مجالس الناس، كالأسواق ونحوها؟ فأجاب: لا أعلم فيه دليلا شرعيا، ومن ادعى المشروعية طولب بالدليل، فإن أتى بدليل سلم إليه، والعبادات مبناها على أمر الشارع صلى الله عليه وسلم وأما مجرده من غير رفع صوت، فهو مأثور. وقد سألنا الشيخ إبراهيم بن عبد اللطيف عن هذه المسألة، فلم ير رفع الصوت في الأسواق بالذكر. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 33 باب الشروط في البيع سئل الشيخ: محمد بن عبد الوهاب: عمن كان له في ذمة رجل دراهم، واشترى من آخر شيئا، بشرط أن يقبل الثمن من ذمة غريمه؟ فأجاب: وأما إذا كان في ذمة رجل لرجل دراهم، واشترى من آخر شيئا بشرط شرط له: يقبل الثمن من ذمة فلان، فلا أرى فيه بأسا. سئل الشيخ: حسن بن حسين بن الشيخ، إذا اشترط قوة الكيل، ورضي البائع؟ فأجاب: إذا اتفق البائع والمشتري على ما ذكر، ولا غرر في ذلك، فلا مانع، وقد نص أحمد على كراهة الزلزلة عند القبض، لاحتمال زيادة على الواجب، قال الفتوحي في شرح المنتهى: ولأن الرجوع في كيفية الاكتيال إلى عرف الناس في أسواقهم، ولم تعهد فيها، انتهى. قال الشيخ منصور: وفيه نظر، بل عهد ذلك في بعض الأشياء، فعليه لا يكره فيها كالكشك، انتهى، قلت: وعليه أيضا: لا يكره في القهوة ونحوها، لكون العرف فيها زلزلة المكيال، وذكر الشيخ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 34 محمد الخلوتي: أن الآية محمولة على ما يتضمن أخذ زيادة، لا تسمح بها النفوس عادة. وسئل الشيخ: أبا بطين عمن اشترى قهوة مثلا، وكالها كيلا جيدا، فلما باعها اشترط أن يكيلها هو، أو فلان، والحال أنه أنقص من الأول ... إلخ؟ فأجاب: الذي أرى- والله أعلم- أنه إذا قال للمشتري أكيل أنا، أو فلان، والحالة أن كيله أو كيل فلان، أنقص من الكيل الأول الذي اكتاله البائع، أن ذلك لا يمنع، وأما إذا اشترط البائع على المشتري: أنه لا يكيلها إلا أنت، أو فلان، فهنا الشرط غير صحيح; ويجوز أن يتولى الكيل غير المعين المشروط، كما قالوا إذا اشترط في السلم مكيالا معينا له عرف، أنه لا يصح هذا الشرط، ولا يلزم التعيين. سئل بعضهم: إذا اشترط شرطين ... إلخ؟ فأجاب: رحمه الله إذا اشترط المشتري على البائع شرطين، كحمل الحطب وتكسيره، فهذه المسألة فيها قولان للعلماء، هما روايتان عن أحمد، إحداهما: أن ذلك لا يجوز، وهو قول الشافعي وأصحاب الرأي، وعن أحمد: أن ذلك جائز، وهو اختيار الشيخ تقي الدين رحمه الله، واحتج من أبطل ذلك بما روى عبد الله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع، ولا تبع ما الجزء: 6 ¦ الصفحة: 35 ليس عندك " 1 أخرجه أبو داود والترمذي، وقال حديث حسن صحيح. واختلف أهل العلم في تفسير الشرطين المنهي عنهما، فروي عن أحمد: أنهما شرطان صحيحان، ليسا من مصلحة العقد، فحكى ابن المنذر عنه، وعن إسحاق فيمن اشترى ثوبا، وشرط على البائع خياطته وقصارته، أو طعاما واشترط طحنه وحمله، إن شرط أحد هذه الأشياء فالبيع جائز، وإن شرط شرطين فالبيع باطل، وكذلك فسر القاضي الشرطين المبطلين بنحو هذا التفسير، وكذلك روى عن أحمد: أنه فسر الشرطين، أن يشتريها على أنه لا يبيعها لأحد ولا يطوها، ففسره بشرطين فاسدين، ومحل الخلاف إذا لم يكونا من مصلحة العقد، فأما إن كانا من مصلحة العقد، كشرط الرهن والضمين فإن ذلك يصح، اختاره الموفق والشارح والمجد وغيرهم من العلماء، انتهى. وقال الشيخ: حمد بن ناصر بن معمر رحمه الله تعالى: عبارة الشرح في تفسير الشرطين، وكذا عبارة الإنصاف التي نقلت أشرفنا عليها، والذي عليه الفتوى: أن الشرطين الصحيحين لا يؤثران في العقد، كما هو اختيار الشيخ تقي الدين. وأجاب أيضا: وأما البيعتان في بيعة، فالمشهور عن أحمد: أنه اشتراط أحد المتعاقدين على صاحبه عقدا آخر، كبيع أو إجارة أو صرف الثمن، أو قرض ونحو ذلك. وعنه:   1 الترمذي: البيوع (1234) , والنسائي: البيوع (4611) , وأبو داود: البيوع (3504) , والدارمي: البيوع (2560) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 36 البيعتان في بيعة، إذا باعه بعشرة نقدا، وعشرين نسيئة، وقال في "العمدة" البيعتان في بيعة، أن يقول: بعتك هذا بعشرة صحاح، أو بعشرين مكسرة، أو يقول: بعتك هذا على أن تبيعني هذا، انتهى، فجمع، بين الروايتين، وجعل كلا الصورتين، دخلا في معنى بيعتين في بيعة. وأجاب: الشيخ عبد الله أبا بطين: وأما قوله صلى الله عليه وسلم " من باع بيعتين في بيعة، فله أوكسهما أو الربا " 1 فهذا الحديث رواه الإمام أحمد وأبو داود، قال الشيخ تقي الدين رحمه الله، للناس في البيعتين في البيعة تفسيران، أحدهما: أن يقول هو لك بكذا بنقد، أو بنسيئة بكذا، كما رواه سماك بن حرب عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود، عن أبيه قال " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صفقتين في صفقة " 2 قال سماك: هو الرجل يبيع البيع، فيقول: هو بنسأ بكذا، وبنقد بكذا وكذا، رواه الإمام أحمد. وعلى هذا فله وجهان، أحدهما: أن يبيعه بأحدهما مبهما، ويتفرقا على ذلك، وهذا تفسير جماعة من أهل العلم، لكنه يتعذر من هذا الحديث، فإنه لا مدخل للربا هنا، ولا صفقتين هنا، وإنما هي صفقة واحدة بثمن مبهم، والثاني أن يقول: هي بنقد بكذا، وأبيعه بنسيئة بكذا، كالصورة التي ذكرها ابن عباس، قال: إذا استقمت بنقد فبعت بنقد فلا بأس، وإذا استقمت بنقد فبعت بنسيئة فلا خير فيه.   1 أبو داود: البيوع (3461) . 2 أحمد (1/398) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 37 ومعنى استقمت: أي قومت السلعة، يعني إذا قومت السلعة بنقد فلا تبعها بنسيئة، معناه: إذا قومتها بنقد بعشرة مثلا، يجعلها بأكثر نسيئة، يعني إذا قلت هي بنقد بكذا وأبيعها بنسيئة بكذا، فيكون قد جمع صفقتي النقد والنسيئة في صفقة واحدة، وجعل النقد معيار النسيئة، وهذا مطابق لقوله صلى الله عليه وسلم " فله أوكسهما أو الربا " 1 فإنه مقصوده حينئذ هو بيع دراهم عاجلة بآجلة، فلا يستحق إلا رأس ماله، وهو أوكس الصفقتين، وهو مقدار القيمة العاجلة، فإن أخذ الربا فهو مربي. التفسير الثاني: أن يبيعه الشيء بثمن، على أن يشتري المشتري منه ذلك الثمن، وأولى منه: أن يبيعه السلعة على أن يشتريها البائع بعد ذلك، وهذا أولى بلفظ البيعتين في بيعة، فإنه باع السلعة وابتاعها، أو باع الثمن وابتاعه، وهذه صفقتان في صفقة، وهذا بعينه هو العينة المحرمة وما أشبهها، مثل أن يبيعه نسأ ثم يشتري بأقل منه نقدا، أو بنقد ثم يشتري بأكثر منه نسأ ونحو ذلك، فيعود حاصل هاتين الصفقتين، إلى أن يعطيه دراهم ويأخذ أكثر منها، وسلعته عادت إليه، فلا يكون له إلا أوكس الصفقتين، وهو النقد، فإن ازداد فقد أربى، انتهى كلام الشيخ رحمه الله ملخصا على هذا الحديث. وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه " نهى عن بيعتين في بيعة " 2 وقال: " لا يحل سلف وبيع " 3 وقد ذكر العلماء رحمهم الله   1 أبو داود: البيوع (3461) . 2 الترمذي: البيوع (1231) , والنسائي: البيوع (4632) . 3 الترمذي: البيوع (1234) , والنسائي: البيوع (4611) , وأبو داود: البيوع (3504) , والدارمي: البيوع (2560) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 38 لذلك صورا كثيرة، وضابطها: أن يشترط أحد المتعاقدين على صاحبه عقدا آخر، وقد نص الإمام أحمد رحمه الله على صور من ذلك، نحو أن يشترط أحدهما على صاحبه سلما، أو إجارة أو بيعا، أو قرضا أو شركة، أو صرفا للثمن أو غيره، قال الأصحاب: وكذلك كل ما كان في معنى ذلك، مثل أن يقول: بعتك كذا بكذا، بشرط أن تزوجني ابنتك، أو أزوجك ابنتي، وكذا أن تنفق على عبدي أو دابتي، أو نصيبي من ذلك قرضا أو مجانا، وذكروا صورا. فإذا عرفت ضابط المسألة، تبين لك تفصيلها وأنواعها، فإذا أجره أرضه أو زارعه عليها، وشرط عليه أن يقرضه أو يبيعه كذا، أو ساقاه على نخله وشرط أن يبيعه أو يسلم إليه كذا، ونحو ذلك من اشتراط عقد في عقد آخر، فهذا ونحوه، من نحو بيعتين في بيعة، وصفقتين في صفقة، وقد روى الإمام أحمد عن ابن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم " نهى عن صفقتين في صفقة " 1 2. وأجاب أيضا: وأما النهي عن بيعتين في بيعة، فنحو أن يقول: أبيعك دابتي هذه بكذا، بشرط أن تبيعني السلعة الفلانية بكذا، أو تؤجرني دارك بكذا، أو يسلم إليه في طعام، ويشترط أن يشتري منه شيئا، ومنه أن يقول: أشتري دابتك هذه بعشرة مثلا، ويشترط عليه أن يأخذ عن العشرة أو   1 أحمد (1/398) . 2 وله جواب آخر في الطبعة الأولى شبيه بهذا فحذف هنا خشية التكرار. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 39 بعضها ثوبا أو صرفها أو نحو ذلك، كما يفعله كثير، وضابطه: أن يشتري شيئا، ويشترط أحدهما على صاحبه عقدا آخر; وأما النهي عن سلف وبيع، فنحو أن يشتري منه سلعة، أو يسلم إليه في طعام أو غيره، ويشترط عليه أن يقرضه شيئا. وأما اشتراط صاحب الأرض ونحوها على مستأجرها، أن يستسلم منه فلا يجوز، وهو كبيعتين في بيعة كما تقدم، وأما إذا اشترط البائع على المشتري اشتراء سلعة من غيره، فالذي يظهر أن هذا شرط فاسد. سئل الشيخ: عبد الله بن الشيخ، إذا قال إن جئتني بحقي في مدة كذا، وإلا فالرهن لك. فأجاب: الرجل الذي رهن رهنا، وقال له المرتهن إن لم تقضني في هذه المدة أو مضت المدة ولا قضيتني، فهي لي بالذي عندك، فهذا لا يجوز، وهذا يسمى غلاق الرهن، وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " لا يغلق الرهن " 1. وأجاب أيضا: إذا قال إن جئتك بالدراهم إلى كذا وكذا، وإلا فالرهن لك، فهو رهن فاسد، وهذا ينافي مقتضى العقد، فإذا اشترط هذا فسد العقد، ويتخرج لا يفسد، والأول أظهر. وسئل عن بيع العربون؟ فأجاب: هذه المسألة ورد فيها حديث، رواه أبو داود وابن ماجه، وفيه راو لم يسم، وسمي   1 ابن ماجه: الأحكام (2441) , ومالك: الأقضية (1437) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 40 في رواية، فإذا هو ضعيف، وله طرق ولا تخلو عن مقال، قال " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع العربان " 1 وفسره مالك بصورة المسألة، قال في سبل السلام: اختلف الفقهاء في جواز هذا البيع، فأبطله مالك والشافعي لهذا النهي، ولما فيه من الشرط الفاسد والغرر، ودخوله في أكل المال بالباطل، وروي عن عمر وابنه وأحمد جوازه، انتهى، قلت: وضعف أحمد حديث العربون في النهي عنه، قال في الشرح، الثالث: أن يشترط شرطا يفسد البيع، كقوله: بعتك إن جئتني بكذا، أو إن رضي فلان، فلا يصح، وكذلك إذا قال: إن جئتك بحقك في محله، وإلا فالرهن لك، فلا يصح البيع إلا بيع العربون، فقال: أحمد لا بأس، لأن عمر فعله. وسئل أيضا: إذا اشترط البراءة من جميع العيوب هل يبرأ. فأجاب: إذا شرط البراءة من كل عيب لم يبرأ، وعنه يبرأ إلا إذا علم البائع العيب فكتمه. وقال الشيخ: سليمان بن سحمان، قال ابن القيم في أعلام الموقعين: المثال الثاني والثلاثون، إذا رهنه رهنا بدين، وقال: إن أوفيتك الدين إلى كذا وكذا، وإلا فالرهن لك بما عليه، صح ذلك، وفعله الإمام أحمد، وقال أصحابنا: لا يصح، وهو المشهور من مذاهب الأئمة الثلاثة، واحتجوا بقوله " لا يغلق الرهن " 2 ولا حجة لهم فيه، فإن هذا كان موجبه في الجاهلية: أن المرتهن يتملك الرهن بغير إذن   1 أبو داود: البيوع (3502) , وابن ماجه: التجارات (2192) . 2 ابن ماجه: الأحكام (2441) , ومالك: الأقضية (1437) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 41 المالك إذا لم يوفه، فهذا هو غلق الرهن الذي أبطله النبي صلى الله عليه وسلم. وأما بيعه للمرتهن بما عليه عند الحلول، فلم يبطله كتاب ولا سنة، ولا إجماع، ولا قياس صحيح، ولا مفسدة ظاهرة، وغاية ما فيه: أنه بيع علق على شرط ونعم، فكان ماذا؟ وقد تدعو الحاجة والمصلحة إلى هذا من المتراهنين، ولا يحرم عليهما ما لم يحرمه الله ورسوله، ولا ريب أن هذا خير للراهن والمرتهن، من تكليفه الدفع إلى الحاكم، وإثباته الرهن، واستئذانه في بيعه، والتعب الطويل الذي لا مصلحة فيه، سوى الخسار والمشقة، فإن اتفقا على أنه له بالدين عند الحلول، كان أصلح لهما وأنفع، وأبعد من الضرر والمشقة والخسارة، والحيلة في جواز ذلك، بحيث لا يحتاج إلى حاكم أن يملكه العين التي يريد أن يرهنها منه، ثم يشتريها منه بالمبلغ الذي يريد استدانته، ثم يقول: إن وفيتك الثمن إلى كذا وكذا، وإلا فلا بيع بيننا، فإن وفاه وإلا انفسخ البيع، وعادت السلعة إلى ملكه، وهذه حيلة حسنة، محصلة لغرضها من غير مفسدة، ولا يتضمن لتحريم ما أحل الله ولا تحليل ما حرم الله، انتهى. سئل الشيخ: حسن بن حسين بن علي: عمن باع دابة، وشرط مرضا ... إلخ؟ فأجاب: وأما المرض الذي يذكره البائع للمشتري، فإن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 42 أطلق عم جميع أنواع المرض، وإن خص مرضا دون غيره فماتت الدابة، ولم يعلم المشتري هل هو من المرض المشروط، أو من غيره، فهنا تتوجه اليمين على المشتري، {وَالصُّلحُ خَيْر} ، [النّساء: 128] . سئل الشيخ: عبد الله أبا بطين، عن قولهم: من اشترى متاعا فوجده خيرا مما اشترى. إلخ؟ فأجاب: وأما قولهم: من اشترى متاعا فوجده خيرا مما اشترى، فعليه رده، فهذا كما لو اشترى عباءة، يقول صاحبها إنها صوف أو قز، فوجدها المشتري قيلانا، والبائع جاهل الحال، كما لو اشتراها قيلانا فوجدها المشتري صوفا، ونحوه فله ردها، وكما لو اشترى "غازيا" على أنه ناقص فوجده وافيا لزمه رده، والظاهر أنه إذا أخبر صاحبه بالحال، فسمحت به نفسه، جاز. سئل الشيخ: حمد بن ناصر بن معمر، عن قولهم: ويحرم تعاطيهما عقدا فاسدا، فلا يملك به. فأجاب: معنى ذلك أن العقود الفاسدة التي نهى عنها الشرع، يحرم تعاطيها، ولا ينتقل الملك بها، ولو تراضيا على ذلك المتعاقدان، فقولهم: ويحرم ذلك، يعنون أن من فعل ذلك فهو آثم، لأنه فعل ما لا يجوز له، ومع الإثم لا يتم به ملك أيضا، لئلا يظن الجاهل أن من فعل ذلك فسد عقده الجزء: 6 ¦ الصفحة: 43 فقط، بل يقال: يأثم ويفسد العقد ولا يملك به، فيجب رد السلعة إلى البائع، وصور العقد الفاسد كثيرة لا تنضبط، يدخل فيه كل بيع نهي عنه، سواء كان من الربويات أو من غيرها، كالطعام الذي يباع قبل قبضه، وكالعينة، وكما لو جمع بين سلف وبيع، أو شرطين في بيع، أو باع ما ليس عنده. فكل هذه العقود يحرم تعاطيها، ولا ينتقل الملك فيها، بل يبقى الثمن على ملك المشتري، والمثمن على ملك البائع، ويرد كل مال إلى مالكه بزياداته إن كان قد زاد، وهذا مذهب أحمد والشافعي، وأما أبو حنيفة: فعنده إن تقابضا حصل الملك، قال: وللبائع المطالبة في رد المبيع، فيأخذه بزيادته المتصلة، وأما قبل القبض فلا يحصل الملك بالعقد الفاسد، كما ذهب إليه الشافعي، وأحمد. وأجاب الشيخ: حسن بن حسين بن الشيخ محمد، كل موضع فسد العقد فيه لم يحصل به ملك وإن قبض، لأنه مقبوض بعقد فاسد، أشبه ما لو كان المثمن ميتة، ولا ينفذ تصرف المشتري فيه، وعليه رده بنمائه المتصل والمنفصل، وأجرة مثله مدة مكثه تحت يده، ويضمنه إن تلف أو نقص بما يضمن به المغصوب، قاله في الكافي. وقال في الإنصاف منافع المقبوض بعقد فاسد، كمنافع المغصوب، تضمن بالفوات والتفويت، انتهى. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 44 وقال في الإقناع والمقبوض بعقد فاسد لا يملك به، ولا ينفذ تصرفه فيه ويضمنه كالغصب، ويلزمه رد النماء المتصل والمنفصل، وأجرة مثله مدة بقائه في يده، وإن نقص ضمن نقصه، وإن تلف فعليه ضمانه بقيمته، وقال في باب الغصب: وإن كان للمغصوب منفعة تصح إجارتها، فعلى الغاصب أجرة مثله مدة بقائه في يده، استوفى المنافع أو تركها تذهب، وإن ذهب بعض أجزائه في المدة، كخمل المنشفة لزمه الأجرة وأرش نقصه، وما لا تصح إجارته مما لا منفعة له لم يلزمه له أجرة، انتهى، فقد عرفت أنه يلزم المشتري بالعقد الفاسد الأجرة وأرش النقص معا. وأجاب الشيخ: سعيد بن حجي: قال في الإقناع: ويحرم تعاطيهما عقدا فاسدا فلا يملك به ولا ينفذ تصرفه، ويضمنه وزياداته بقيمته، كمغصوب لا بالثمن، انتهى ; وقال الموفق في الكافي- لما ذكر الاختلاف في الشروط في البيع- وكل موضع فسد العقد فيه لم يحصل به ملك وإن قبض، لأنه مقبوض بعقد فاسد أشبه ما لو كان الثمن ميتة، ولا ينفذ تصرف المشتري فيه، وعليه رده بنمائه المنفصل والمتصل، وأجرة مثله مدة مقامه في يده، ويضمنه إن تلف أو نقص بما يضمن به المغصوب، لأنه ملك غيره حصل في يده بغير إذن الشرع، أشبه المغصوب، انتهى. وقال في الإنصاف "فائدة" ويحرم تعاطيهما عقدا فاسدا، فلو فعلا لم يملك به، ولا ينفذ تصرف على الصحيح الجزء: 6 ¦ الصفحة: 45 من المذهب؟ وقال الشيخ تقي الدين: يترجح أن يملك بعقد فاسد، فعلى المذهب حكمه حكم المغصوب في الضمان، وقال ابن عقيل وغيره: حكمه حكم المقبوض على وجه السوم، وعلى المذهب أيضا يضمنه بقيمته، وذكر أبو بكر: يضمنه بالمسمى، واختاره الشيخ تقي الدين، انتهى، وكلامه في المبدع قريب من كلام الإنصاف، فهذه عبارات الحنابلة كما ترى. وأما كلام الشافعية: فقال في كتاب الأنوار "تكملة" حيث فسد البيع وحصل القبض لم يملكه المشتري، ولم ينفذ تصرفه فيه، ولزمه الرد ومؤنته، وأجرة المثل بمدة وضع يده وإن لم ينتفع، وأرش النقص إن نقص، وأقصى القيم من القبض إلى التلف إن تلف، والزوايد مضمونة عليه، ولو أنفق مدة لم يرجع إن جهل الفساد، انتهى وقال في الحاوي: وحيث فسد لو قبض المشتري فهو كالمغصوب، أي في موضع فسد البيع، بانضمام شرط فاسد، أو للإخلال بشرط، أو ركن لو قبض المشتري المبيع بذلك البيع الفاسد، فالمشترى المقبوض مثل المغصوب، وإن قبضه بإذن البائع حتى لا يجوز تصرفه فيه، ولزم أقصى القيم أو المثل، ويجب عليه مؤنة الرد؛ ولا يرجع بما أنقق، سواء علم الفساد أو ظن الصحة، ويجب عليه أجرة المثل لمدة التصرف، سواء استوفى المنفعة أو لا، ورد الزوائد متصلة كانت أو منفصلة، انتهى. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 46 وأما كلام المالكية: فقال أبو الجودي في شرحه على رسالة ابن أبي زيد، المسمى: "إيضاح المسالك على المشهور من مذهب مالك" ص " وكل بيع فاسدا، فضمانه من البائع، فإن قبضه المبتاع فضمانه من المبتاع من يوم قبضه، فإن حال سوقه أو تغير في يده، فعليه قيمته يوم قبضه، ولا يرده، وإن كان مما يوزن أو يكال فعليه مثله، ولا يفيت الرباع حوالة سوق " ش " إذا وقع عقد المبيع فاسدا، فضمان المبيع على البائع، لأن البيع الفاسد لا ينقل الملك، فإن قبضه المبتاع انتقل الضمان إلى المبتاع، فإذا فسد رد المبيع إلى بائعه، ولا شيء على المبتاع مما اغتله لأنه خراج، والخراج للضامن، فإن تعذر الرد لفوات عين المبيع، ضمن قيمته في الْمُقَوَّم ومثله في المثلي، والمشهور: أن التقويم يوم القبض لا يوم الفوات، انتهى، ثم ذكر أنواع الفوات. وقال محمد بن غانم البغدادي الحنفي، في كتابه "مجمع الضمانات" البيع الباطل لا يفيد الملك بالقبض، ولو هلك المبيع في يد المشتري، كان أمانة عند بعض، وعند البعض يكون مضمونا، لأنه لا يكون أدنى حالا من المقبوض على سوم الشراء- إلى أن قال- والفاسد: يفيد الملك عند القبض، ويكون المبيع مضمونا في يدي المشتري، يلزمه مثله إن كان مثليا، والقيمة إن كان قيميا، كما في الهداية، انتهى، وذكر في المقبوض بعقد غير صحيح من الخلاف، ما يطول الجزء: 6 ¦ الصفحة: 47 ذكره عند الحنفية، فمن تأمل هذه العبارات، اتضح له الحق، والله الموفق. وسئل الشيخ: عبد الله أبا بطين، عن رجل اشترى ذهبا بعضه نسيئة، وأعطى زوجته الذهب فباعته وأخذت ثمنه، ثم مات الزوج وضاقت التركة عن وفاء دينه، فتبينا أن العقد فاسد، وقد أتلفت المرأة الذهب، ولم يعلم المشتري الثاني، فمن يستقر الضمان عليه؟. فأجاب: لبائع الذهب تضمين من شاء من الثلاثة، المشترى منه، وزوجته، والمشتري منها إن علم، ويستقر الضمان عليه، فلو ضمنه المالك القيمة، رجع على المرأة بما دفع من الثمن فقط، هذا هو الظاهر من كلام الأصحاب وغيرهم، حيث شبهوا المقبوض بعقد فاسد بالمغصوب، فيقتضي ذلك المشابهة في جميع الأحكام، إلا ما استثنى بعضهم من نفوذ العتق في المقبوض بعقد فاسد، وبعضهم استثنى صحة عبادة فيه، قال في القواعد: المعروف في المذهب أنه غير منعقد وتترتب عليه أحكام الغصب، وما قلنا من جواز تضمين المالك من شاء من الثلاثة، واستقرار الضمان على من تلف في يده، صرح به في الشرح الكبير. فقال: إن باع المشتري المبيع الفاسد لم يصح، لأنه باع ملك غيره بغير إذنه، وعلى المشتري رده إلى البائع الأول لأنه مالكه، ولبائعه أخذه حيث وجده، ويرجع المشتري الثاني الجزء: 6 ¦ الصفحة: 48 بالثمن على الذي باعه، ويرجع الأول على بائعه، فإن تلف في يد الثاني فللبائع مطالبة من شاء منهما، لأن الأول ضامن، والثاني قبضه من يد ضامنه بغير إذن صاحبه، فكان ضامنا، فإن كانت قيمته أكثر من ثمنه فضمنها الثاني، لم يرجع بالفضل على الأول، لأن بالتلف في يده استقر الضمان عليه، وإن ضمن الأول رجع بالفضل على الثاني، انتهى. قلت: قوله في القواعد: تترتب عليه أحكام الغصب يدل لذلك، ولذلك ذكر مرعي في "الغاية" اتجاها جازماً به، لو تلف عند قابضه الآخر، فللمالك مطالبة كل منهما، وقرار ضمان على التالف عنده، لأن تفصيله كغصب كما يأتي، إلا في صحة عبادة فيه، لإعراض ربه عنه بطيب نفسه، انتهى. إذا تقرر ذلك: فللبائع تضمين الزوجة قيمة الذهب، وترجع بها في تركة زوجها، فتضرب بها مع الغرماء، ومقتضى ما ذكرناه أنها لا ترجع مع علمها بفساد العقد، وقولنا بضمان القيمة، إنما هو إذا كان الذهب مصوغا أو مغشوشا، وأما إذا كان خالصا غير مصوغ، ضمنه بمثله، ويشترط في ضمان غصب بالقيمة: أن تكون من غير الجنس أيضا. وأجاب أيضا: إذا باع الرجل بيعا فاسدا، وقبض الثمن، ودفعه إلى غيره عن دين عليه أو اشترى به منه شيئا، فإن صاحب الثمن الذي دفعه في الشراء الفاسد، يرجع الجزء: 6 ¦ الصفحة: 49 بثمنه على من هو في يده، أو على البائع لكون قبض البائع الثمن- والحالة هذه- قبضا فاسدا، فيرجع دافع الثمن على من أحب، على البائع أو من قبضه من البائع، هذا في البيع الفاسد; وأما إذا كان فسخ البيع لأجل عيب في المبيع، فإن المشتري يرجع بثمنه على البائع فقط، لا على من قبضه من البائع، لكون قبض البائع قبضا صحيحا لصحة العقد، فليس له مطالبة غير البائع بالثمن، سواء كان معسرا أم لا. وأما إذا غرم المسروق ماله شيئا بسبب ذلك، فإنه يرجع به على السارق، لكونه السبب في ذلك، كما قاله الشيخ تقي الدين، فيما إذا مطله غريمه فاحتاج إلى الشكاية، فما غرم بسببه لزم المماطل، وقالوا: لو غرم بسبب كذب عليه عند ولي الأمر، رجع به على الكاذب، انتهى. فمسألتنا أولى بالرجوع، وقد صرح بعض المتأخرين، بأنه لو لم يحصل له ما سرق منه، إلا ببذل بعض المال لحليف ونحوه، أنه يرجع بذلك على السارق. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 50 باب الخيار خيار المجلس سئل الشيخ: عبد الله بن الشيخ محمد رحمهما الله تعالى: ما خيار المجلس؟ وما صورته؟. فأجاب: خيار المجلس يثبت للمتبايعين، لكل منهما فسخه ما داما مجتمعين ولم يتفرقا، وهو قول أكثر أهل العلم، لما في الصحيحين عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إذا تبايع الرجلان فكل واحد منهما بالخيار، ما لم يتفرقا وكانا جميعا، أو يخير أحدهما الآخر، فإن خير أحدهما الآخر فتبايعا على ذلك، فقد وجب البيع، وإن تفرقا بعد أن تبايعا، ولم يترك أحدهما البيع، فقد وجب البيع " والمرجع في التفرق إلى عرف الناس وعادتهم. وأجاب الشيخ: حمد بن ناصر: خيار المجلس يثبت للمتبايعين، لكل منهما فسخه ما داما مجتمعين لم يتفرقا، وهو قول أكثر أهل العلم، لما في الصحيحين عن ابن عمر، أنه قال: " إذا تبايع الرجلان فكل واحد منهما بالخيار، ما لم يتفرقا وكانا جميعا، أو يخير أحدهما الآخر، فإن خير أحدهما الآخر فتبايعا على ذلك، فقد وجب البيع " والمرجع في التفرق إلى عرف الناس وعادتهم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 51 سئل الشيخ: عبد الله بن الشيخ محمد: ما يثبت في خيار المجلس من العقود؟. فأجاب: يثبت في البيع في قول جمهور العلماء، خلافا لمالك وأصحاب الرأي، للأحاديث الصحيحة، ويثبت في الصلح بمعنى البيع، وفي الهبة إذا شرط فيها عوضا معلوما، ويثبت في الإجارة، وفي الصرف، وفي السلم، كل هذا يثبت فيه خيار المجلس، ولا يثبت في سائر العقود، كالنكاح، والوقف، والهبة بغير عوض، فكل هذا لازم لا خيار فيه، وكذلك الرهن لازم في حق الراهن وحده، لا خيار فيه، وكذلك الضامن والكفيل لا خيار لهما، وكذلك الحوالة، والأخذ بالشفعة عقد لازم، لا خيار فيهما على المشهور. وأما المساقاة والمزارعة، فإن قلنا: إنهما عقد لازم على القول الراجح، ثبت فيهما خيار المجلس؟ وإن قلنا: إنهما عقد جائز، فلا خيار فيهما، لأن الخيار مستغنى عنه حينئذ. وأجاب أيضا: إذا وليت الإجارة العقد لم يثبت فيها خيار، وإن كانت لا تلى العقد ثبت فيها خيار. وسئل بعضهم: إذا أبطل خيار المجلس أيبطل أم لا؟ فأجاب: وإذا شرطا أن ليس بينهما خيار مجلس، يلزم البيع، ويبطل الخيار، لقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر: " فإن خير أحدهما صاحبه فتبايعا على ذلك، فقد وجب البيع " 1.   1 البخاري: البيوع (2112) , ومسلم: البيوع (1531) , والنسائي: البيوع (4472) , وأحمد (2/119) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 52 يعني: لزم البيع، قال في الشرح: وهو مذهب الشافعي، وهو الصحيح- إن شاء الله- لحديث ابن عمر رضي الله عنهما. وسئل الشيخ: عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين: عن اشتراط الخيار في السلم؟. فأجاب: اشتراط الخيار في السلم لا يصح، على الصحيح من المذهب، وعند بعض العلماء يصح، اختاره ابن الجوزي، وعند الشيخ تقي الدين: يصح اشتراط الخيار في كل العقود، وهذا بخلاف خيار المجلس، فإنه يثبت في السلم والصرف، ونحوهما. سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: عمن قال: بعني هذه النخلات بمالي عليك، ولك الخيار إلى شهر؟. فأجاب: إذا قال بعني هذه النخلات بالذي عليك، ولك الخيار شهرا، يملكها إذا انقضت مدة الخيار، ويكون البيع صحيحا، إن شاء الله تعالى. وأجاب الشيخ حسن بن حسين بن علي: من باع عقارا بثمن في ذمته، وجعل له أجلا معلوما، فإن حل الأجل قبل وفائه لزم البيع، إذا كان صدر من جائز التصرف بإيجاب وقبول، فهو صحيح مطلقا، لازم بحلول الأجل قبل الوفاء، ولا ينازع في ذلك إلا من نازع في صحة البيع بالجملة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 53 وأجاب الشيخ: إبراهيم بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن، رحمهم الله: أما بيع الخيار دارا، أو نخلا ثمنه دين في الذمة وكل واحد منهما ما قصد حقيقة البيع، البائع يريد دفع الغريم إلى وقت، لعله أن يجد فيه قضاء الدين، والمشتري ما قصد حقيقة الشراء، وإنما قصده استخراج حقه، فهذا البيع يغلب فيه حكم الرهن. سئل الشيخ: حسين، وعبد الله ابنا الشيخ محمد، رحمهم الله: عمن اشترى نخلا بثمن معين، ونذر متى جاء البائع بثمنه أرجع إليه نخله؟ فأجابا: هذا العقد المذكور في السؤال عقد باطل، وهو حيلة باطلة، والحيل لا تجوز في الدين، ويجب على المشتري رد الثمن، ويعود النخل على بائعه، وأما ما أكل في حال كفره وجهله من غلة النخل، فإنه لا يطالب بذلك. سئل الشيخ: حسن بن حسين بن الشيخ محمد: هل يصح الخيار المجهول؟ فأجاب: لا يصح سواء كان أبدا، أو مدة مجهولة أو أجلا مجهولا، أو تعليقا على مشيئة، أو على نزول مطر ونحوه، كما صرح بذلك الفقهاء. خيار الشرط سئل الشيخ: عبد الله بن الشيخ محمد: ما يثبت فيه خيار الشرط من العقود؟ فأجاب: أما خيار الشرط فيثبت في البيع، والصلح الجزء: 6 ¦ الصفحة: 54 بمعنى البيع، والهبة بعوض، والإجارة في الذمة ونحو ذلك، ولا يثبت في الصرف والسلم ونحوهما، وقال الشيخ تقي الدين: يثبت خيار الشرط في كل العقود، فيثبت عنده في الصرف والسلم إذا تقابضا، ثم جعلا الخيار لهما، أو لأحدهما مدة معلومة. وأجاب أيضا: لا يثبت خيار الشرط إلا في البيع والصلح، والإجارة في الذمة، أو على مدة لا تلي العقد، ويثبت في أشياء غير ذلك. وأجاب أيضا: أما بيع الحيوان وغيره إلى أجل، ويشترط البائع الخيار إلى الأجل، إما بدراهم وإما بتمر، فهذا فيه تفصيل، فإن كان البيع بدراهم، أو بتمر حاضر، فهو جائز، ولا إشكال فيه، وأما إن جعله رأس مال سلم في تمر، وشرط الخيار، فهذا فيه خلاف، والمشهور في المذهب: أن السلم لا يجوز فيه خيار الشرط، وذكر في الشرح أنه رواية واحدة، واختار الشيخ تقي الدين الجواز، وعليه عمل الناس اليوم عندنا. وأجاب الشيخ: عبد الله أبا بطين: وأما اشتراط الخيار في السلم، فلا يصح على الصحيح من المذهب، وعن بعض الأصحاب يصح، اختاره ابن الجوزي، وعند الشيخ تقي الدين رحمه الله: يصح اشتراط الخيار في كل العقود، وهذا بخلاف خيار المجلس، فإنه يثبت في السلم والصرف ونحوهما. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 55 وأجاب الشيخ: حسن بن حسين بن الشيخ: المساقاة إذا قلنا إنها عقد لازم، ثبت فيها خيار الشرط، قياسا على الإجارة، وقد اختار أبو العباس ثبوت خيار الشرط في كل عقد. سئل الشيخ:- محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: عن البيع إذا انقطع الخيار، وصار بدون القيمة، هل يصح؟ فأجاب: والبيع يصح إذا انقطع الخيار، ولو كان بدون القيمة. وسئل عن ضمان المبيع في مدة الخيار؟ فأجاب: وضمان المبيع في مدة الخيار للمشتري ونماؤه له. وأجاب أيضا والنماء المتصل للبائع، إذا فسخ المشترى. وأجاب ابنه: الشيخ عبد الله، ما حصل من غلات المبيع ونمائه في مدة الخيار، فهو للمشتري أمضيا العقد أو فسخاه، لقول النبي صلى الله عليه وسلم " الخراج بالضمان " 1 فيجب أن يكون خراجه له في مقابلة ضمانه. وأجاب الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين: ما حصل من غلات المبيع ونمائه مدة الخيار، فهو للمشتري أمضيا العقد أو فسخاه، لقول النبي صلى الله عليه وسلم " الخراج بالضمان ".   1 الترمذي: البيوع (1285) , والنسائي: البيوع (4490) , وأبو داود: البيوع (3508) , وابن ماجه: التجارات (2243) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 56 قال الترمذي هذا حديث صحيح، وهذا من ضمان المشتري، فيجب أن يكون خراجه له في مقابلة ضمانه. وأجاب الشيخ: حسن بن حسين بن علي، وأما النماء في مدة الخيار فهو للمشتري، أي النماء المنفصل، لقوله: " الخراج بالضمان " 1. وأجاب الشيخ: عبد الله بن حمد الحجازي، رحمه الله تعالى: بيع الخيار إن كان ثمنه منقودا للبائع، فالثمرة للمشتري في مدة الخيار، وإن كان الخيار ثمنه دين ساقط من ذمة البائع، فالثمرة للبائع، لأن هذا البيع زيادة في التوثيق على الرهن، لأنه ينطر فيه بعد حلول الأجل، هل فيه غبن أم لا. سئل الشيخ: عبد الله بن الشيخ محمد رحمهما الله: عن التصرف في المبيع في مدة الخيار؟ فأجاب: لا يجوز التصرف في المبيع في مدة الخيار، إلا بما يحصل به تجربة المبيع، فإن كان لأحدهما صح، وبطل خياره. وسئل عن التصرف في الثمن: إذا كان معينا في مدة الخيار؟ فأجاب: نعم يؤخذ ولا يتصرف فيه في مدة الخيار، وإذا أعتق المشتري في مدة الخيار،، ينفذ عتقه ويبطل   1 الترمذي: البيوع (1285) , والنسائي: البيوع (4490) , وأبو داود: البيوع (3508) , وابن ماجه: التجارات (2243) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 57 خياره، وكذلك إن تلف المبيع، وعنه: لا يبطل خيار البائع، وله الفسخ والرجوع بالقيمة، والرواية الأولى أظهر، ويرجع البائع- بثمنه. سئل الشيخ: عبد الله أبا بطين: إذا اشترى رجل نخلا والخيار فيه للمشتري، وحدث قطع في النخل ... إلخ؟ فأجاب: إذا فسخ المشتري قبل قطع النخل صح الفسخ، فإن ثبت قطع شيء منه قبل الفسخ فعلى المشتري، لأن الملك للمشتري فضمانه عليه. سئل الشيخ: محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: هل يبطل خيار الشرط بالموت؟ فأجاب: وأما خيار الشرط فلا يبطل بموت أحدهما، ويرثه ورثته. وأجاب ابنه الشيخ حسين، ولا ينقطع الخيار بموت مشترطه. سئل الشيخ: عبد الرحمن بن حسن: عن تلقي الركبان؟ فأجاب: وأما تلقي الركبان للمشترى منهم ما جلبوه، فيلزم منعهم من ذلك. وأجاب الشيخ عبد الله أبا بطين: وما سألت عنه، من ثبوت الخيار في البيع في صورة تلقي الركبان، والنجش، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 58 والمسترسل إذا غبنوا غبنا يخرج عن العادة، والمسترسل الذي يثبت له الخيار، هو الجاهل بقيمة السلعة، وأما العارف الحاذق إذا غبن لأجل عجلته، فلا خيار له. وأجاب أيضا: وأما تلقي الركبان فهو ظاهر، والبائع بالخيار إذا قدم البلد، كما في الحديث، وبيع الحاضر للبادي معروف، والبادي من لا يكون من أهل البلد، من غير اشتراط أن يكون بدويا، واشترط بعض العلماء لذلك شروطا مذكورة في مواضعها. وأجاب الشيخ حسن بن حسين بن علي: الذي عليه أكثر الأصحاب، كما نقل عنهم صاحب الإنصاف وغيره، وجزم به في الإقناع: لا يثبت لغير المسترسل، وقال صاحب المذهب فيه، لو جهل الغبن فيما اشتراه لعجلة وهو لا يجهل، ثبت له الخيار أيضا، قال في الإنصاف: وجزم به في النظم، وعنه يثبت أيضا لمسترسل مع بائع لم يماكسه، اختاره الشيخ تقي الدين، وذكره المذهب، وقال في الانتصار: له الفسخ ما لم يعلمه. سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عن التصرية؟ فأجاب: التصرية معروفة، وهو الذي يسمى التحيين، 1 وهو حرام، وأما الغش فأنواع كثيرة، وضابطه:   1 التحيين: حبس اللبن في الضرع, ليغتر بذلك المشتري. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 59 إذا كان المبيع غير متساو، بأن أظهر الحسن للمشتري وأخفى الذي دونه، أو يخفي عيبا في المبيع ويكتمه عن المشتري، أو يفعل فعلا في المبيع فيحسنه في عين المشتري، وهو غير ثابت في المبيع، كتحمير وجه الجارية المبيعة، وتسويد شعرها ونحو ذلك. وأما خلط البر بالشعير، فقد ورد فيه حديث بالنهي عن خلطه للبيع لا للبيت، انتهى. وأجاب الشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمه الله تعالى: أما خلط البر بالشعير فلا يجوز، لما ورد في ذلك من الآثار التي رواها ابن أبي شيبة في مسنده. وأجاب الشيخ حسن بن حسين بن الشيخ: أما خلط البر بالشعير للبيت فيجوز، وأما للبيع ونحوه فمكروه، لما فيه من الغش والتدليس، وضابط الغش المحرم: اشتمال المبيع ونحوه على وصف نقص، لو علم به المشتري امتنع من شرائه، وأكثر الناس لا يعلمون قدر المشوب، وإن شاهدوه، وروى ابن ماجه، وابن عساكر، عن صهيب مرفوعا: "ثلاث فيهن البركة، البيع إلى أجل، والمقارضة، وخلط البر بالشعير للبيت لا للبيع" 1 لكن قال الحافظ الذهبي: إنه واه جدا، وقال البخاري فيما نقله عنه ابن حجر: أنه موضوع.   1 ابن ماجه: التجارات (2289) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 60 سئل الشيخ إبراهيم بن الشيخ عبد اللطيف، بن عبد الرحمن: عن مبيع غبن صاحبه الثلث أو الربع ... إلخ؟ فأجاب: الغبن في صور مخصوصة، فإذا كانت المسألة تدخل في إحدى الصور المنصوص عليها، فالغبن المشهود به، أي الثلث أو الربع غبن فاحش، وإذا توجه الحكم به، فالبائع له الخيار بين الإمضاء والفسخ، ولا تلتفت إلى قول المشتري أنا أدفع قيمة الغبن، ولا يفسخ البيع، لأن المغبون يملك الفسخ إن أراده، وأما سقوط الغبن إذا أسقطه البائع، فالظاهر سقوطه إذا كان البائع عالما به، وأما إذا لم يعلم به وإنما قال ذلك على ما يعتاد بعض الناس، فلا أدري هل يسقط أم لا وأجاب الشيخ حسن بن حسين بن علي: دعوى الغبن لا يثبت إلا لثلاثة، كما هو مقرر في كتب أهل العلم، المتلقى، والمسترسل الذي لا يحسن أن يماكس، وبزيادة الناجش الذي لا يريد شراء، وما سوى هذه المسائل الثلاث لا يثبت فيه غبن قل أو كثر. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 61 فصل في خيار العيب سئل الشيخ: محمد بن عبد الوهاب: عن قصاب اشترى بعيرا أعور، ولم يعلم به إلا بعد ذبحه؟ فأجاب: والبعير إذا ذهبت عينه، وهو مثل فاطر، وذبحها ولا علم القصاب أن عينها ذهبت إلا بعد ذبحها، فليس له مطالبة. سئل الشيخ: عبد الله أبا بطين: إذا ذبح الجزار ناقة، وصارت أنقص مما ظن فيها، هل يثبت له خيار؟ فأجاب: مثبت الخيار له غالط، والفقهاء ذكروا خيار الغبن في ثلاث صور، وهذا يثبت صورة رابعة، وهي: ما إذا اشترى جزافا فبان دون ما ظنه، كمشتري الصبرة جزافا، فبانت أقل مما ظنه، فكذلك مشتري الجزور، ظانا أنه يحصل منها مثلا ثلاثون رطل شحم، فبان أقل من ذلك، وقد تنازع فقهاء نجد وغيرهم في الهزال، هل هو عيب؟ فقال سليمان بن علي، وابن ذهلان: إنه عيب، وقال عبد الوهاب وابن عطوة ليس بعيب، لكن قال الأولون: إذا كان قيمتها بعد الجزء: 6 ¦ الصفحة: 62 الذبح، تقارب ثمنها الذي اشتريت به، فلا فسخ ولا رد، وبكل حال فهذا القول غلط. سئل الشيخ: إبراهيم بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن: عن الدبرة 1 إذا قطرت، ولا علمت ورؤيت إلا بعد الذبح؟ فأجاب: يرجع فيه إلى قول أهل الخبرة والحذق، لأنه مرض خفي، ولا يعلم هل هو قبل العقد أو بعده، ولا ملازمة بين وجود الدبرة وتقطيرها، فإذا ثبت بقول أهل الخبرة والمعرفة: أن مثل هذا لا يكون إلا قديما قبل العقد، عمل بقولهم، وإن كان محتملا فيحلف البائع على نفيه قبل البيع، مع أنا نميل إلى الصلح في مثل هذه الصورة. سئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن: عن حكم عيب الجرب ... إلخ؟ فأجاب: وأما عيب الجرب فحكمه حكم سائر العيوب، فإذا ادعى المشتري انتقال المبيع بذلك العيب ولا بينة، حلف المشترى على ما ادعاه على الأصح. وأجاب الشيخ عبد الله أبا بطين: وأما عهدة الحيوان إذا بان فيه جرب بعد البيع بمدة، فقول أهل الخبرة بذلك، أنه يمكن حدوثه في هذه المدة، مقبول، وإن ثبت تقدمه على   1 "الدبرة" في لغة أهل نجد: قرحة تحدث في الدابة أثر قتب ونحوه. وقوله: قطرت, أي: نفذت إلى داخل الدابة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 63 البيع أثبتنا الرد بفسخ البيع، وإن احتمل الأمرين: أوجبنا اليمين على البائع بنفي تقدم الجرب، على إحدى الروايتين من أن القول قول البائع بيمينه على البت، إذا اختلفا في حدوث العيب، وكان محتملا الأمرين. سئل الشيخ: عبد الله بن الشيخ محمد: عمن اشترى بعيرا وسافر به، ثم ظهر به عيب وشهد عليه شهود، بأن هذا العيب فيه عند مالكه الأول، وبائعه ليس معه ليرده عليه؟ فأجاب: الذي اشترى بعيرا وسافر عليه من الخرج للأحساء، ثم بعد ذلك تبين له عيبه، وهو في أثناء الطريق، وشهد عنده الشهود بأن هذا العيب عند البائع، فأشهد على فسخ البيع، ولكن ركبه لأجل حاجته، فالذي يظهر لي من كلام الفقهاء: أن مثل ذلك لا يمنع الرد، إذا لم يكن عنده ما يركبه غيره، لكن عليه أجرة ركوبه لمالكه، إن ثبت له الرد، بأن يكون منتقلا إلى المشتري بهذا العيب. قال في الشرح: وإن استعمل المشتري المبيع، أو عرضه على البيع أو تصرف فيه تصرفا دالا على الرضا به، قبل علمه بالعيب، لم يسقط خيار الرد، لأن ذلك لا يدل على الرضا به معيبا، وإن فعل بعد علمه بعيبه بطل خياره، في قول عامة أهل العلم انتهى. ومراده: إذا فعل ما يدل على الرضا بعد علمه بالعيب، لأن ركوب المشتري لهذا البعير وهو في الطريق، لا يدل على رضاه به، خصوصا إذا أشهد على الفسخ والمطالبة بالعيب. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 64 ثم قال صاحب الشرح: وكذلك إن ركب الدابة لينظر سيرها، أو استخدم الأمة ليختبرها، أو لبس القميص يعرف قدره، لم يسقط خياره، لأن ذلك ليس برضا، ولهذا لا يسقط به خيار الشرط، وإن استخدمها استخداما كثيرا بطل رده، وإن كان يسيرا لم يبطل الخيار، قيل لأحمد: إن هؤلاء يقولون، إذا اشترى عبدا فوجده معيبا فاستخدمه، بأن يقول: ناولني هذا الثوب، بطل خياره، فأنكر ذلك، وقال: من أين لهم هذا؟ ليس هذا برضا، حتى يكون شيء بين، ويطول، انتهى، فانظر إلى تصريح أحمد، بأنه لا بد أن يتصرف فيه، ويستعمله استعمالا يدل على رضاه به. وأجاب بعضهم: إذا اشترى سلعة ليسافر به، ثم وجد بها عيبا، فالوجه المناسب في هذه الصورة: أن يشهد من حضر أنه فسخ العقد، فإن أمكنه حفظها معه حتى يأتي صاحبها فعل، وإلا أودعها عند ثقة. سئل الشيخ إبراهيم بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن، عن العيب إذا عاد بعد برئه؟ فأجاب: إذا كان في الدابة عيب، مثل ضلع في يد أو رجل أو غيره، فبرأت منه، ثم باعها ولم يعلم المشتري به من البائع ولا من غيره، فعادها ذلك العيب، فللمشتري الفسخ. سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: إذا اشترى دابة، ثم علم بها عيبا وركبها ليردها على صاحبها ... إلخ؟ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 65 فأجاب: الركوب الذي لا يدل على الرضا لا يمنع الرد، وإذا اشترى مصراة وهو عالم بالتصرية، فلا يثبت له الخيار، وإذا اشترى دارا فوجد جار سوء، فالجار السوء عيب يرد به المبيع. وسئل: عمن اشترى جارية فاطلع على عيب ... إلخ؟ فأجاب: إذا اشترى جارية، فاطلع على عيب لم يعلم به وقت البيع، ثم وطئها بعد علمه، فلا خيار له، وإذا وطئها ثم علم بالعيب، فله الخيار بين الإمساك وأخذ أرش العيب، وبين الرد وأرش البكارة. وسئل: عمن اشترى شيئا ثم باعه، ثم علم بعيب منتقل به من البائع فهل يثبت له الأرش؟ فأجاب: إذا علم المشتري الثاني العيب فله رده، وكذلك المشتري الأول إن لم يكن عالما بالعيب، ولم يوجد منه ما يدل على الرضا، فكذلك له رده، فإن أرادا الأرش فلهما ذلك. وسئل أيضا: عن الأرش ما هو؟ فأجاب: الذي ذكره العلماء أنها 1 تقوم بالثمن الذي اشتريت به، قال في الإقناع، والأرش: قسط ما بين قيمة الصحيح والمعيب، فيرجع بنسبته من ثمنه، فيقوَّم المعيب   1 أي: السلعة ونحوها. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 66 صحيحا، ثم يقوَّم معيبا، فإذا كان الثمن مثلا مائة، فقوم المعيب صحيحا بمائة، ومعيبا بتسعين، فالعيب نقص عشرة، نسبتها إلى قيمته صحيحا عشره، فينسب ذلك إلى المائة تجده عشرا، وهو الواجب للمشتري، هذا على القول بأنه مخير بين الرد وأخذ الأرش مع الإمساك، وأما على المفتى به عندنا، وهو الرواية الأخرى عن أحمد، واختيار الشيخ تقي الدين رحمه الله: أن المشتري إذا وجد بها عيبا لم يعلمه، فليس له إلا الإمساك بلا أرش، أو الرد. وسئل الشيخ: حسن بن حسين بن الشيخ: إذا قلنا إنه ليس إلا الرد أو الإمساك في المعيب، كما هو رواية عن أحمد ومذهب أبي حنيفة، وكان ظهور العيب بموضع ضرورة كالمسافر على الدابة، وراكب السفينة، فهل يتعين الأرش في هذه الحال على هذا القول، حضر البائع أو غاب؟ فأجاب: لا ريب أن القائلين بهذا القول كأبي حنيفة والشافعي، وأبي العباس يقيدونه بما إذا لم يتعذر رده، لكن الذي يظهر من كلامهم، أن ما ذكرته في السؤال، ليس من صور التعذر الذي عنوه، وإنما الذي أرادوه، كعتق العبد، وإباقه، وقتله، وموته، ونحو ذلك مما ييئس معه من الرد، غير عالم بعيبه، أما ما ذكرته فلا يظهر أنه تعذر، ولا يوصف بموضع الضرورة، لاندفاعه بالإمساك مجانا، لا سيما واللزوم والجواز عارض، ثم رأيت بعض القائلين بهذا القول، صرح في كتابه باعتبار اليأس من الرد، وانحصار أسباب يستحق معها الجزء: 6 ¦ الصفحة: 67 الأرش في ثلاثة أمور، فقال: ولغير مقصر، أيس من رد، بتلف، ونكاح، وتعيب، لا بيع أرش، انتهى. قال شارحه: قوله "أرش" مبتدأ خبره: ولغير مقصر أيس، ويجوز أن يجعل قوله "أرش" فاعلا لفعل مقدر، دل عليه قوة الكلام، وأيس صفة لغير، والمعنى: ويثبت لغير مقصر في أداء المعيب أرش، وأفاد انحصار الأسباب في الأمور الثلاثة، انتهى، من بعض كتب الشافعية; وقوله: " لا بيع" جرى على أحد القولين عندهم، من أن البيع لا يحصل به اليأس من رد المعيب، لأنه ربما عاد، والقول الثاني لهم: أن البيع أثر رابع يحصل به اليأس، كالتلف والنكاح والتعيب. إذا تقرر لك ما ذكرناه، فاعلم: أنه إن كان من التزام ما يلزم، أن يقوى عندنا من المذهبين في هذه المسألة، ما عليه جماهير أصحاب الإمام أحمد، من القول بالأرش مع الإمساك مطلقا، أو الرد سواء أمكن الرد أو تعذر، لأنه أمكن تقرير العقد من غير ضرر; قال في الشرح الكبير: ولأنه ظهر على عيب لم يعلم به، فكان له الأرش كما لو تعيب عنده، انتهى، ولرضا المتعاقدين على أن العوض في مقابلة المعوض، فكل جزء من العوض مقابله جزء من المعوض، ومع العيب فاته جزء، فيرجع ببدله وهو الأرش، انتهى من شرح المنتهى لمنصور. وأجابوا عن حديث المصراة، الذي استدل به المانعون الجزء: 6 ¦ الصفحة: 68 من الإمساك مع الأرش، سوى ما ذكروه، بأن البيع في المصراة ليس فيه عيب، إنما ثبت له الخيار بالتدليس، لا لفوات جزء كما في المعيب، فلم يستحق شيئا، انتهى، وحيث اختير الرد على كل من المذهبين، فإنه لا يفتقر إلى حضور البائع، كما لا يفتقر إلى رضاه، والمبيع بعد فسخ أمانة، ذكره في المنتهى وغيره. وأجاب شيخنا: الشيخ سعد بن حمد بن عتيق، رحمهم الله تعالى: يخير بين الإمساك بلا أرش، أو الرد، وقضى به غير مرة، وأنا أسمع. وسئل: عن أخذ المسلَم فيه المعيب مع أرشه، ما صورته؟ فأجاب: صورة ذلك فيما يظهر لي، أنه إذا وجد المسلم فيه معيبا بالسوس مثلا، أو غير ذلك من الفساد، كما إذا أسلم في مائة صاع تمر مثلا، فقبض المسلم فيه فوجده مسوسا، فإنه ينظر في قدر ما ينقص العيب هذا التمر، لو كان سليما من الفساد، فإذا كان ينقصه العشر، رجع بعشر المائة تمرا صحيحا، ولا يرجع بأرش العيب من النقدين، ولا من غير جنس المسلم فيه، لأنها حينئذ تجيء مسألة الاعتياض عن دين السلم بغير جنسه، وفيها الخلاف المعلوم، ومقتضى كلام الأصحاب، أن ذلك لا يصح، وفد عرفت مما ذكرنا: أن هذا في العيب كالسوس مثلا، وأما إذا وجد المسلم فيه رديئا، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 69 فليس له إلا قبوله أو رده، كما نبهوا عليه، فراجعه في محله. سئل الشيخ: محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله: إذا كان في المبيع عيب وتلف إلخ؟ وأجاب: إذا كان في المبيع عيب ولا علم به المشتري، وتلف المبيع بسببه، مثل الإباق في العبد، أو الشرادة في الدابة، فإن كان البائع علمه وكتمه، فهم يذكرون أنه يضمن البائع، لأنه غره. وأجاب ابنه الشيخ عبد الله: إذا أراد إمساك المدلس مع الأرش لم يكن له ذلك، فإن تلف رجع الموكل بالتدليس، على الوكيل في أرش التدليس، وإذا أعتقه ثم علم بالعيب، فله الأرش. وأجاب أيضا: هو، والشيخ حمد: المبيع المعيب إذا زال ملك المشترى عنه، بعتق، أو موت، أو وقف، تعذر رده، وكان تصرف ذلك قبل علمه بالعيب فله الأرش، لتعذر الرد في هذه الصورة، والخلاف المشهور بين الفقهاء فيما إذا أمكن الرد، وامتنع المشتري وطالب بالأرش. وأجاب أيضا الشيخ عبد الله: إذا زال ملك المشتري بعتق، أو وقف، أو تعذر الرد قبل علمه بالعيب، فله الأرش هذا المذهب، وعليه الأصحاب. سئل الشيخ: محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله: عن النماء في مدة خيار العيب؟ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 70 فأجاب: النماء المتصل للبائع في خيار العيب، وكذا لو اشترى ناقة أو غيرها فهزلت عنده، أو طالت مدة الثوب رده، ورد نقصه. وأجاب أيضا: والنماء المتصل للبائع في خيار العيب، ولا يقبل إقرار الوكيل على موكله في العيب، لكنه يصير شاهدا. وأجاب أيضا: وأما إذا اشترى ثوبا فصبغه أو نسجه أو خاطه وهو معيب وثبت أنه معيب عند البائع فهو يرده، وله قدر صبغه أو نسجه أو خياطته وقت الرد، وللبائع قدر استعماله. وسئل ابنه الشيخ عبد الله: إذا تبايع رجلان، ثم ترافعا بعد ذلك إلى الحاكم وبطل العقد، والعين قائمة، فأراد البائع أو المشترى الرد، ولها نماء منفصل، هل يرد معها؟ فأجاب: الذي صححه كثير من العلماء: أن الملك ينتقل إلى المشتري بنفس العقد، فعلى هذا يكون نماؤه المنفصل له، لأن ضمانه عليه سواء كان فيه خيار أو لم يكن، واستدلوا على ذلك بما رواه الترمذي مرفوعا، إلى النبي صلى الله عليه وسلم " الخراج بالضمان " 1 قال الترمذي: حديث صحيح. فإذا كان ضمانه عليه، لزم أن يكون خراجه له، وذلك هو النماء المنفصل، فعلى هذا يكون النماء المنفصل للمشتري، هذا إذا رد بخيار.   1 الترمذي: البيوع (1285) , والنسائي: البيوع (4490) , وأبو داود: البيوع (3508) , وابن ماجه: التجارات (2243) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 71 وأما إذا تعيب المبيع عند المشتري، فالذي عليه أكثر الحنابلة: أن للبائع الأرش، وهو قيمة نقص عيبه عند المشتري، اللهم إلا أن يكون البائع دلس العيب على المشتري، فعن أحمد يرده بلا أرش، قال في الإنصاف، قال الزركشي: هذا المذهب المنصوص المعروف، حتى قال القاضي ولو تلف المبيع عنده، ثم علم أن البائع دلس العيب، رجع بالثمن كله، نص عليه في رواية حنبل، قال أحمد: في رجل اشترى عبدا فأبق، وأقام البينة أن إباقه كان موجودا في يد البائع، يرجع على البائع بجميع الثمن، لأنه غر المشتري ويتبع البائع عبده حيث كان، انتهى، قلت: وهذا هو الصواب الذي لا يعدل عنه، انتهى كلامه. وأما إن تلفت العين، ولم يدلس البائع العيب، فإنه يرجع إلى قيمة مثلها، سواء كانت مثلية أو غير مثلية، هذا الذي عليه أكثر أصحاب أحمد، قال في الإنصاف، قال في التلخيص: ثم يرد عين المبيع عند التفاسخ إن كانت باقية وإلا فمثلها، فإن لم تكن مثلية فقيمتها، فاعتبر المثلية، فإن لم تكن مثلية فالقيمه، والجماعه أوجبوا القيمة وأطلقوا. وأجاب الشيخ عبد الرحمن بن حسن: وأما قولكم إذا نقصت الناقة بالاستعمال، والثوب كذلك، فهذا النقص الحاصل في المبيع، يرجع على البائع بأرش العيب الأول، والعيب عند التجار: ما نقصت به القيمة وعده التجار نقصا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 72 وسئل الشيخ حسن بن حسين بن علي: عمن اشترى دابة واستعملها بركوب وغيره، ثم بان له عيب قديم هل يرد معه قدر استعماله ... إلخ؟ فأجاب: إذا رد المبيع فلا يخلو، إما أن يكون بحاله، أو يكون قد زاد أو نقص، فإن كان بحاله رده وأخذ الثمن، وإن زاد بعد العقد، أو حصلت له فائدة، فإن كانت الزيادة متصلة، كالسمن والحمل والثمرة قبل الظهور، فإنه يرده بنمائه، لأنه يتبعه في العقود والفسوخ، وإن كانت الزيادة منفصلة، فإن كانت من غير المبيع كالكسب والأجرة، فهو للمشتري في مقابلة ضمانه، وهو معنى قوله عليه السلام: " الخراج بالضمان" 1 ولا نعلم في هذا خلافا. وروى ابن ماجه عن عائشة: " أن رجلا اشترى عبدا فاستعمله ما شاء الله، ثم وجد به عيبا فرده، فقال يا رسول الله: استعمل غلامي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم الخراج بالضمان " 2 رواه أبو داود، وبهذا قال أبو حنيفة ومالك والشافعي، ولا نعلم عن غيرهم خلافهم، وإن كانت الزيادة من عين المبيع، كالولد والثمرة واللبن، فهو للمشتري أيضا، ويرد الأصل بدونها، وبهذا قال الشافعي، إلا أن الولد إذا كان لآدمية لم يملك ردها دونه، وعنه ليس له رده دون نمائه المنفصل، قياسا على النماء المتصل. فإن اشتراها، أي: الدابة، حاملا فولدت عند المشتري   1 الترمذي: البيوع (1285) , والنسائي: البيوع (4490) , وأبو داود: البيوع (3508) , وابن ماجه: التجارات (2243) . 2 أبو داود: البيوع (3510) , وابن ماجه: التجارات (2243) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 73 فردها، رد ولدها معها، لأنه من جملة المبيع، والولد هنا نماء متصل، وإن نقص المبيع، فسيأتي حكمه، انتهى من الشرح الكبير، وحكمه: أن يرد مع المعيب أرش النقص عنده، كأن وطئ البكر، أو قطع الثوب، أو هزلت الدابة، ونحو ذلك مما تنقص به قيمته، صرح به في المغني وغيره، قال في شرح الإقناع: لما روى الخلال بإسناده، عن ابن سيرين: أن "عثمان قال في رجل اشترى ثوبا فلبسه، ثم اطلع على عيب، يرد وما نقص، فأجاز الرد مع النقص" وعليه اعتماد أحمد، انتهى. وقال في الإنصاف- عند قول المقنع: وعنه ليس له رده دون نمائه، أي المنفصل- فلو صدر العقد وهي حامل فولدت عنده، ثم ردها، رد ولدها معها، وأما إذا حملت وولدت بعد الشراء، فهو نماء منفصل بلا نزاع، والصحيح من المذهب: أنه لا يردها إلا بولدها، فتعين الأرش جزم به في المحرر، انتهى، فقد عرفت أنه إن كان بحاله رده مجانا وأخذ ثمنه، وإن زاد ففيه التفصيل، أو نقص فإنه يرد معه أرش ما نقص عنده. وسئل الشيخ: عبد الله أبا بطين، عن قوله: " الخراج بالضمان "؟ فأجاب: وأما حديث " الخراج بالضمان " 1 وفي لفظ آخر "الغلة بالضمان" 2 فهذا الحديث، وإن كان واردا في صورة رد المبيع بالعيب فيتناول بعمومه صورا كثيرة، ذكرها الفقهاء في   1 الترمذي: البيوع (1285) , والنسائي: البيوع (4490) , وأبو داود: البيوع (3508) , وابن ماجه: التجارات (2243) . 2 أحمد (6/80) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 74 مواضعها، غير صورة الرد بالعيب، كالنماء الحاصل في مدة الخيار، وكذا المبيع إذا رجع بالإقالة وقد حصل منه غلة، أو نماء عند المشتري، وكذا الشقص المشفوع إذا أخذه الشفيع، وقد نما عند المشتري، والعين عند المفلس إذا استردها بائعها، وكذا هبة الأب لولده، إذا رجع فيها وقد نمت عند الولد، وكذلك الصداق إذا نمى بيد الزوجة، ثم رجع نصفه إلى الزوج بطلاق قبل الدخول ونحوه، وغير ذلك من الصور، يعرفها من تتبع مظانها من كتب الفقه. سئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: عمن اشترى ثوبا فصبغه، ثم بان معيبا ... إلخ؟ فأجاب: وأما إذا اشترى ثوبا فصبغه أو نسجه أو خاطه، وهو معيب عند البائع، فهو يرده وله قدر صبغه، أو نسجه أو خياطته وقت الرد، ويدفع إلى البائع بقدر استعماله له. وأجاب ابنه الشيخ عبد الله: إذا صبغه أو نسجه، فظهر معيبا فله الأرش، ولا رد له في أظهر الروايتين. سئل الشيخ: محمد بن عبد الوهاب: عمن اشترى شيئين صفقة واحدة، فوجد بأحدهما عيبا؟ فأجاب: أما من اشترى شيئين صفقة واحدة، فإذا ثبت العيب أنه عند البائع فله الرد، هذا إذا تلف الصحيح، وإن لم يتلف فالأرش، ومثله عيب بعض المبيع عند المشتري، إذا كان فيه عيب، هل يمنع الرد أم لا؟ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 75 سئل ابنه الشيخ عبد الله: إذا اختلف في حدوث العيب ... إلخ؟ فأجاب: إن كان لا يحتمل حدوثه، كالاصبع الزائدة، والشجة المندملة التي لا يمكن حدوث مثلها، أو الجرح الطري الذي يحتمل كونه قديما، فالقول قول من يدعي ذلك بغير يمين، للعلم بصدقه وإن احتمل قول كل منهما، كالخرق في الثوب، والرفو، ونحوهما، ففيه روايتان، إحداهما: القول قول المشتري مع يمينه، فيحلف بالله أنه اشتراها وبها هذا العيب، وأنه ما حدث عنده، ويكون له الخيار، وقال به بعض الأصحاب، والثانية: القول قول البائع مع يمينه، وكأن الرواية الثانية أظهر، لأنه مُنكِر. وأجاب الشيخ محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف: على رواية أن القول قول المشتري بيمينه، تكون اليمين على البَتّ، وأما على الرواية الأخرى التي عليها الفتوى، وفاقا للثلاثة، وهي: أن القول قول البائع بيمينه، فتكون اليمين على حسب جوابه، على الصحيح من المذهب. وسئل بعضهم: عن رجل قضى رجلا جديدة مثلا، والذي عندهم أنها صحيحة، وأخذت أياما عنده يعبرها وترد عليه، وأخرجها من يده، وربما رفعها عند أهله، ولما لم تعبر جاء بها للذي قضاه، فأنكرها ولم تكن بينة؟ فأجاب: الذي يظهر من كلامهم في هذه الصورة، أن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 76 القول قول الدافع بيمينه، أنها ليست جديدته التي دفعها، إذا كانت قد خرجت من يده، وأما إذا لم تخرج من يده، ففيها قولان في المذهب، أحدهما- وهو المشهور في المذهب- أن القول قول المشتري مع يمينه، قال في الإنصاف: لو باع سلعة بنقد أو غيره، معين حال العقد وقبضه، ثم أحضره وبه عيب، وادعى أنه الذي دفعه إليه المشتري، وأنكر المشتري كونه الذي اشتراه به، ولا بينة لواحد منهما، فالقول قول المشتري مع يمينه، لأن الأصل براءة ذمته، وعدم وقوع العقد على هذا المعين. ولو كان الثمن في الذمة، ثم نقده المشتري، أو قبضه من قرض أو سلم، أو غير ذلك مما هو في ذمته، ثم اختلفا كذلك ولا بينة، فالقول قول البائع، وهو القابض مع يمينه على الصحيح، لأن القول في الدعاوى قول من الظاهر معه، والظاهر مع البائع، لأنه ثبت له في ذمة المشتري، ما انعقد عليه العقد غير معين، فلم يقبل قوله في ذمته- إلى أن قال- ومحل الخلاف: إذا لم يخرج عن يده، انتهى، ومراده: أنه إذا أخرجه البائع من يده، كما في الصورة المسؤول عنها، فالقول قول المشتري وهو الدافع، بلا خلاف عندهم. وسئل بعضهم: إذا اشترى سلعة فوجدها معيبة، فقال البائع: العيب حدث عند المشتري وقال المشتري: هي معيبة قبل الشراء، ولا بينة لهما؟ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 77 فأجاب: هذه المسألة فيها روايتان عن أحمد، إحداهما: أن القول قول البائع مع يمينه، وهذا مذهب أبي حنيفة ومالك، لأن الأصل سلامة المبيع وصحة العقد، ولأن المشتري يدعى أنه يستحق فسخ البيع، والبائع ينكره، والقول قول المنكِر; والرواية الثانية: أن القول قول المشتري مع يمينه، فيحلف بالله أنه اشتراه وبه هذا العيب، أو أنه ما حدث عنده، ويكون له الخيار، اختارها الخرقي، لأن الأصل عدم القبض في الجزء الفائت، واستحقاق ما يقابله من الثمن، والقول الأول أظهر، قال في الإنصاف: ومحل الخلاف: إذا لم تخرج عن يده، فإن خرجت من يده إلى غيره لم يجز له ردها، نقله مهنا، واقتصر عليه في الفروع، والله أعلم. وسئل الشيخ عبد الله أبا بطين: إذا علم المشترى بالعيب، وأمسكه ليرجع بالأرش فهل يقبل قوله بلا بينة؟ فأجاب: اختلف في هذه المسألة فقهاء نجد، فبعضهم يقول: يقبل بيمينه، وبعضهم يقول: لا يقبل قوله إلا ببينة أشهدها حين بان له العيب، وهذا الذي يترجح عندي. سئل الشيخ: حسن بن حسين بن الشيخ: عن قوله في شرح الزاد: ويقبل قول قابض في ثابت في ذمة، من ثمن، وقرض، وسلم ونحوه، إن لم يخرج عن يده؟ فأجاب: معناه: أنه إذا ثبت على عمرو لزيد عشرة آصع مثلا، سواء كانت ثمن مبيع باعه زيد على عمرو، أو الجزء: 6 ¦ الصفحة: 78 قرض أقرضه زيد عمرا، أو دين سلم في ذمة عمرو لزيد، أو أجرة دار في ذمة عمرو لزيد، أو قيمة سلعة، أتلفها عمرو لزيد، فثبت غرمها في ذمته، فبعد ما قبضه زيد من عمرو، رده بعيب وجده فيها، وأنكر عمرو كون الآصع المردودة، هي الآصع التي دفعها، فإن القول في هذه الصور التي صورنا، قول القابض للثابت، وهو قول زيد بيمينه، لأن الأصل بقاء شغل الذمة بهذا الحق الثابت، والقاعدة: أن القول قول مدعي الأصل، وإنما عبرنا لقابض، ليشمل البائع والمقرض والمسلم، والمؤجر والمتلف ونحوهم. فصل (باعه مرابحة على أن ثمنها مائة ويربح عشرة ثم بان أن ثمنها تسعون) سئل الشيخ: عبد الله بن الشيخ محمد، رحمهما الله: إذا باعه مرابحة، على أن ثمنها مائة ويربح عشرة، ثم بان أن ثمنها تسعون؟ فأجاب: إذا علم ببينة أو إقرار، أن ثمنها تسعون، فالبيع صحيح ويرجع في الزيادة على الثمن وهو عشرة، وحصتها من الربح وهو درهم، ويبقى له تسعه وتسعون. [اشترى بثمن مؤجل أو ممن لا تقبل شهادته له أو بأكثر من ثمنه حيلة] وسئل: إذا اشترى بثمن مؤجل إلخ؟ فأجاب: إذا اشترى بثمن مؤجل، أو ممن لا تقبل شهادته له، أو بأكثر من ثمنه حيلة، أو باع بعض الصفقة بقسطها من الثمن، ولم يبين ذلك، فمتى علم بذلك فهو الجزء: 6 ¦ الصفحة: 79 بالخيار، إن شاء رده، وإن شاء أمسكه وأخذه بثمنه مؤجلا، حكى ذلك ابن المنذر عن الإمام أحمد، وفيه رواية ثانية: إن شاء رده، وإن شاء أخذه بثمنه الذي وقع عليه العقد حالا، والأظهر الأول. اختلاف المتبايعين سئل الشيخ: محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله: إذا اختلف المتبايعان ... إلخ؟ فأجاب: قال الشيخ تقي الدين رحمه الله: إذا اختلف المتبايعان في قدر الثمن وليس بينهما بينة، تحالفا، لأن كلا منهما مدع ومدعى عليه، فيبدأ بيمين البائع، ثم إن شاء المشتري أخذ المبيع، وإن شاء حلف وفسخ; وإن تلف المبيع فالقول قول المشترى. وأجاب الشيخ محمد أيضا: وإذا اختلف المتبايعان والمتصارفان، فالقول قول المنكِر مع يمينه. وأجاب ابنه الشيخ: عبد الله، إذا اختلفا في قدر الثمن ولا بينة لأحدهما، تحالفا، فيحلف البائع أولا ما بعته بكذا وإنما بعته بكذا، ثم يحلف المشتري ما اشتريته بكذا وإنما اشتريته بكذا، فإذا تحالفا ولم يرض أحدهما بقول الآخر، انفسخ البيع، وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي، ورواية عن مالك. وعن أحمد: أن القول قول البائع، أو يترادان البيع، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 80 لما روى ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إذا اختلف المتبايعان وليس بينهما بينة، فالقول ما قال البائع، أو يترادان البيع" 1 رواه سعيد وابن ماجة. قال الزركشي: هذه الرواية، وإن كانت خفية مذهبا، فهي ظاهرة دليلا، وذكر دليلها ومال إليها. وأجاب أيضا: إذا اختلفا في الثمن والسلعة قائمة، ولأحدهما بينة حكم بها، وإن لم يكن لهما بينة تحالفا، فيبدأ بيمين البائع، لأنه منكِر؛ إذا أقام كل منهما بينة وتعادلت بينتاهما، ثبت العقد للمشتري، وإذا اختلفا في قدر الثمن، والسلعة تالفة، ففيه روايتان، إحداهما: يتحالفان، والثانية: القول قول المشترى مع يمينه، واختارها أبو بكر، وهو قول النخعي والثوري، والأوزاعي وأبي حنيفة. وأجاب أيضا: المشتري إذا ادعى أنه اشترى بنسيئة فعليه البينة، وإلا حلف البائع أنه حاضر. وأجاب الشيخ: عبد الرحمن بن حسن، إذا اختلف المتبايعان، والسلعة تالفة، فالمسألة ذات قولين، المقدم في المذهب أنهما يتحالفان، ويكون للبائع القيمة وقت العقد ; والقول الثاني: أن القول قول المشتري بيمينه، وكلا القولين قوي في النظر والاستدلال.   1 الترمذي: البيوع (1270) , والنسائي: البيوع (4648) , وأبو داود: البيوع (3511) , والدارمي: البيوع (2549) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 81 فصل (لزوم البيع) سئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله: هل يلزم البيع بالعقد؟ فأجاب: يلزم البيع بالعقد، وأجاب أيضا: وأما الذين يبيعون الثمرة وقت الجذاذ، فبيعهم صحيح، ولو ما نقد المشتري الثمن وقبض الثمرة، فإنه يلزم إذا خلّى بينه وبينها ويكون قبضا، لأن قبض هذا بالتخلية. وأجاب ابنه الشيخ عبد الله: يلزم البيع بمجرد العقد، ولا يوافق على فسخ البيع إلا برضا المشتري. وأجاب أيضا: المبيع الذي يتعلق فيه توفية، مثل المكيل والموزون، فهذا يلزم بالعقد، ولا يحصل فيه فسخ إلا بتراضيهما. وأجاب الشيخ حمد بن ناصر بن معمر: إذا اشترى رجل من آخر مائة صاع مثلا، وواعده يكيلها من الغد، فلما أتاه قال: بدا لي، ولم ينقد الثمن، فالبيع يلزم بمجرد العقد، ولا يوافق على فسخ البيع إلا برضا المشتري، ولا يجوز بيعه الجزء: 6 ¦ الصفحة: 82 قبل قبضه، لقوله صلى الله عليه وسلم " من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يستوفيه " 1 متفق عليه. انتهى. وقال أبناء الشيخ: حسن وإبراهيم وعبد الله وعلي، رحمهم الله، ومنها: أي المعاملات الربوية، ما يفعله بعض الناس: إذا كان له في ذمة رجل طعام معلوم، استوفى منه بثمرة يأخذها خرصا في رؤوس النخل ثم يبيعها، وهذا لا يجوز، نص عليه العلماء ونهوا عنه، وذكروا أن من اشترى بالكيل والوزن، لا يحصل قبضه إلا بكيله أو وزنه، فإن قبضه جزافا كان قبضا فاسدا، لا يجوز بيعه حتى يكال أو يوزن. لأنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يكتاله " 2 وفي الحديث الآخر: أنه " نهى عن بيع الطعام حتى يجري فيه الصاعان، صاع البائع وصاع المشتري " 3 وفي حديث آخر: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعثمان: " إذا سميت الكيل فكل " ومنها: ما يفعله بعض الناس في الأحساء وغيره، يشتري طعاما من أهل بيت المال، أو من غيرهم، ثم يبيعه قبل قبضه، وهذا لا يجوز، بل ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عنه، وقال: " من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يقبضه " 4 وأجاب أيضا: الشيخ عبد الله بن الشيخ، ذكر الفقهاء أن الفقير لا يملك الزكاة، ولا يتصرف فيها بالبيع قبل قبضها، واستدلوا على ذلك بحديث مرفوع، رواه أحمد وابن ماجه. وأجاب في موضع آخر: لا يجوز بيعه قبل قبضه، لقول   1 البخاري: البيوع (2126) , ومسلم: البيوع (1526) , والنسائي: البيوع (4595) , وأبو داود: البيوع (3492) , وابن ماجه: التجارات (2226) , ومالك: البيوع (1335) . 2 مسلم: البيوع (1525) , والنسائي: البيوع (4597) , وأبو داود: البيوع (3496) . 3 ابن ماجه: التجارات (2228) . 4 البخاري: البيوع (2133) , ومسلم: البيوع (1526) , والنسائي: البيوع (4596) , ومالك: البيوع (1336) , والدارمي: البيوع (2559) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 83 النبي صلى الله عليه وسلم " من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يستوفيه " 1. وأجاب الشيخ عبد الله أبا بطين: وأما بيع الطعام قبل قبضه، إن كان بيعه على الكيل، فقبضه اكتياله، وإن كان جزافا، فقبضه بالتخلية، لكن لا يبيعه حتى ينقله من مكانه. وأجاب أيضا: وأما ربح ما لم يضمن، فهو: أن يبيع ما لا يدخل في ضمانه، كأن يشتري طعاما ويبيعه قبل اكتياله. [قبض المبيع] سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد، رحمهما الله هل يباع ما لا يكال ولا يوزن بما لا يؤكل ولا يشرب، قبل قبضه؟ فأجاب: لا يجوز بيعه قبل قبضه، والرواية الثانية: الجواز. وسئل الشيخ: عبد الرحمن بن حسن: عمن باع طعاما قبل قبضه وجعل ميزانين ... إلخ؟ فأجاب: ما أحدثه بعض الناس عند بيع الطعام، من جعلهم ميزانين، زعموا أن أحدهما للقبض، والثاني للبيع، فليس قبضا شرعيا، ولا يكون فاعله خارجا عما نهي عنه، من بيع الطعام قبل قبضه، فإن الأحاديث مصرحة بالنهي عنه، لحديث ابن عمر: " من اشترى طعاما، فلا يبعه، حتى يستوفيه " 2 متفق عليه وعند مسلم من حديث " ابن عمر: كنا نبتاع الطعام، فيبعث علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم من يأمرنا: بانتقاله من   1 البخاري: البيوع (2126) , ومسلم: البيوع (1526) , والنسائي: البيوع (4595) , وأبو داود: البيوع (3492) , وابن ماجه: التجارات (2226) , ومالك: البيوع (1335) . 2 البخاري: البيوع (2126) , ومسلم: البيوع (1526 ,1527 ,1526) , والنسائي: البيوع (4595) , وأبو داود: البيوع (3492) , وابن ماجه: التجارات (2226) , ومالك: البيوع (1335) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 84 المكان الذي ابتعناه فيه، إلى مكان سواه قبل أن نبيعه " 1 ولأحمد من حديث ابن عمر: " من اشترى طعاما بكيل أو وزن، فلا يبعه حتى يقبضه " 2 ورواه أبو داود، والنسائي، بلفط: " نهى أن يبيع أحد طعاما اشتراه بكيل، حتى يستوفيه " 3 وحديث جابر: " نهى عن بيع الطعام حتى يجري فيه الصاعان، صاع البائع وصاع المشتري " 4. هذه الأحاديث: ظاهرة في النهي عن بيع الطعام قبل قبضه، بألفاظ مختلفة، والمراد منها واحد، ففيها حتى يستوفيه، وحتى يقبضه، وفيها: وكان يأمر بانتقاله من المكان الذي ابتعناه فيه، إلى مكان سواه قبل أن يبيعه، فليس بعد ذلك بيان. وقول القائل: هذا خاص بما بيع جزافا، فمردود بقول الشارع صلى الله عليه وسلم " حتى يستوفيه " و " حتى يقبضه " وبقوله: " من اشترى طعاما بكيل أو وزن، فلا يبعه حتى يقبضه " 5 ولفظ القبض، والاستيفاء: يكذب معنى التخصيص بالجزاف; وقد ذكر الفقهاء: أن قبض المكيل بالكيل، والموزون بالوزن. فيقال لصاحب الميزانين: من أين جئت بهذا، أو في أي كتاب وجدته؟ فإنا لم نجد ذلك لأحد من العلماء المتقدمين، ولا المتأخرين، وإنما فسرتم ألفاظ النصوص بما تهوونه وتحبونه، ولم تذكروا ذلك عن أحد من العلماء، فهل يكون ذلك حجة شرعية؟   1 البخاري: البيوع (2124) , ومسلم: البيوع (1527) , والنسائي: البيوع (4605) , وأبو داود: البيوع (3493) , وابن ماجه: التجارات (2229) , وأحمد (2/112 ,2/142) . 2 البخاري: البيوع (2133) , ومالك: البيوع (1335 ,1336) , والدارمي: البيوع (2559) . 3 البخاري: البيوع (2126 ,2136) , ومسلم: البيوع (1526) , والنسائي: البيوع (4604) , وأبو داود: البيوع (3492 ,3495) , وابن ماجه: التجارات (2226) , ومالك: البيوع (1335) . 4 ابن ماجه: التجارات (2228) . 5 البخاري: البيوع (2133) , ومالك: البيوع (1335 ,1336) , والدارمي: البيوع (2559) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 85 وأبلغ من ذلك: أن مذهب محمد بن إسماعيل البخاري، وطائفة: أن استيفاء المبيع المنقول، وتبقيته في منْزل البائع، لا يكون قبضا شرعيا، حتى ينقله المشتري إلى مكان اختصاص البائع به، قال وهو منقول عن الشافعي، ودليله ما رواه أحمد عن ابن عمر: " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تبتاع السلع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم " 1 وفي صحيح مسلم: " كنا نبتاع الطعام، ويبعث علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم من يأمرنا بانتقاله، من المكان الذي ابتعناه فيه، إلى مكان سواه قبل أن نبيعه " 2 وقد تقدم. فيا عباد الله: أين عقولكم؟! ويا طلبة العلم أين أفهامكم؟! قال الله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [سورة النور آية: 63] . سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: هل يبيعه بكيله الأول؟ فأجاب: وإذا كال المشتري الطعام، ثم أراد أن يبيعه بكيله الأول من غير كيل، فالمشهور جوازه، إذا كان المشتري الثاني حاضرا، شاهدا الكيل الأول، وفيه وجه: لا يجوز إلا بكيل ثان، وهو مذهب الشافعي، لما روى ابن ماجه: أن النبي صلى الله عليه وسلم " نهى عن بيع الطعام حتى تجري فيه الصاعان، صاع البائع وصاع المشتري " 3. وسئل: عن صفة القبض للطعام ونحوه؟   1 البخاري: البيوع (2131 ,2137) والحدود (6852) , ومسلم: البيوع (1527) , والنسائي: البيوع (4608) , وأبو داود: البيوع (3499) , وأحمد (2/157) . 2 البخاري: البيوع (2124) , ومسلم: البيوع (1527) , وأبو داود: البيوع (3493) , وابن ماجه: التجارات (2229) , وأحمد (1/56 ,2/112) , ومالك: البيوع (1337) . 3 ابن ماجه: التجارات (2228) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 86 فأجاب: أهل العلم ذكروا أن القبض في كل شيء بحسبه، فإن كان مكيلا أو موزونا، بيع كيلا أو وزنا، قبضه بكيله أو وزنه، لأنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من اشترى طعاما فلا يبعه حتى يكتاله " 1 رواه مسلم وأما قول السائل: وهل القبض يحصل بالكيل والوزن، وإن لم ينقل؟ فنعم، كما نبه عليه منصور في شرح الإقناع والمنتهى، وهو ظاهر الحديث المتقدم. وأجاب أيضا: القبض كيله أو وزنه، والرواية الثانية: أنه التخلية مع التمييز. سئل الشيخ حسن بن حسين بن الشيخ: عمن اشترى مكيلا، فكال منه وزنة بالميزان، ثم أخذ الباقي وزنا؟ فأجاب: إذا انتفى الغرر، وحصل العلم بالمبيع المكيل وزنا، فلا مانع من صحة القبض، لنص الفقهاء على جواز قبض المكيل وزنا، وبالعكس في غير بيع الجنس الواحد بعضه ببعض، وفي غير اقتضاء دين السلم، في رواية المروذي، واختارها جمع، منهم ابن أبي عمر، وجزم به في الوجيز، وتقدم قول المنتهى وشرحه، كسمن مائع أو جامد مع وعائه موازنة، مع أن كل مائع مكيل. وأجاب الشيخ حمد بن عبد العزيز: وأما أنه يباع مثلا أربعة آصع، ثم يوزن سنبل وزنا، فلا يجوز، لأنه قد ينقص، فلو باعه وزنا، ولو كان مكيلا، كما يباع التمر اليوم   1 مسلم: البيوع (1528) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 87 وزنا، وأصله مكيل، كان أهون. سئل الشيخ: محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: عمن اشترى تمرا في الجصاص 1 جزافا، هل يبيعه قبل نقله؟ فأجاب: والذي يشتري التّمر في الجصاص، لا ينفذ البيع إلا إذا نقله صاحبه. وأجاب ابنه الشيخ عبد الله: وأما الصبرة المشتراة جزافا، فلا يجوز بيعها حتى ينقلها المشتري من مكانها إلى آخر، ويكفي في ذلك أن ينقلها من موضع في السوق، إلى آخر. وأجاب أيضا: وأما الصبرة، فإذا بيع الطعام جزافا، فقبضه نقله، ولا يجوز بيعه قبل نقله، لحديث ابن عمر المتفق عليه. وأجاب أيضا: وأما إذا اشترى رجل من رجل، سمنا أو غيره من أنواع الطعام مجازفة، ثم أراد بيع الطعام نسيئة إلى أجل معلوم فلا بأس بذلك إذا كان قد نقله من مكانه الذي اشتراه فيه، ولا يجوز له أن يبيع الطعام الذي اشتراه مجازفة، في المكان الذي وقع عقد البيع والشراء فيه، لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك.   1 جمع جصة: مكان يجعل فيه التمر يسمى بذلك; لأنه يبنى من الجص. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 88 سئل الشيخ: محمد بن عبد الوهاب: عن ضمان المكيل والموزون، إذا لم يقبضه. فأجاب: وأما الشيء المشترى إذا لم يقبض، إذا كان مكيلا أو موزونا، فضمانه على البائع. وأجاب أيضا: وإذا تلفت المواشي قبل التمكن من القبض، فمن ضمان البائع، وإن تلفت بعد التمكن، فمن ضمان المشتري، وأما الصبرة إذا كان المشتري متمكنا من القبض، فإنها تصير من ضمان المشتري. الإقالة سئل الشيخ: عبد الله بن الشيخ محمد: هل الإقالة تجوز بأقل من الثمن، أم لا تجوز إلا بمثله؟ فأجاب: لا تجوز إلا بمثل الثمن، عند كثير من أهل العلم. وسئل الشيخ حسن بن حسين بن الشيخ: عن الإقالة في غير السلم بأكثر من رأس المال؟ فأجاب: لا تصح مع زيادة على ثمن معقود به، أو مع نقصه أو بغير جنسه، لأن مقتضى الإقالة رد الأمر على ما كان عليه، ورجوع كل منهما إلى ماله، فلو قال: ولك كذا ففعل، فكرهه أحمد لشبهه بمسائل العينة، لأن السلعة ترجع إلى صاحبها، ويبقى له على المشترى فضل دراهم. قال ابن رجب: لكن محذور الربا هنا بعيد، انتهى من المنتهى وشرحه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 89 ولا فرق فيما قبل القبض أو بعده، حتى في مكيل أو موزون، لكونها فسخا على المشهور المختار للأصحاب، لإجماع العلماء، كما حكاه ابن المنذر على جوازها في السلم، مع النهي عن بيع الطعام قبل قبضه. وسئل الشيخ سعيد بن حجي: هل الإقالة لها خيار مجلس؟ فأجاب: ليس لها خيار مجلس، لأنها ليست بيعا ولا بمعناه، وإنما هي فسخ للعقد من أصله، فليس فيها خيار مجلس، وتجوز الإقالة في دين السلم، حكاه ابن المنذر إجماع من يحفظ عنه من أهل العلم، لأنها فسخ للعقد إذا قبض رأس مال السلم في مجلس الإقالة، هذا المختار عند الموفق والشارح وصاحب المبدع وغيرهم، يعني قبض رأس مال السلم في مجلس الإقالة. سئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن، عن قولهم: ومؤنة رد مبيع تقايلاه على بائع؟ فأجاب: وأما ما ذكره الفقهاء من أن مؤنة رد مبيع تقايلاه على بائع، فهو المشهور. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 90 باب الربا قال الشيخ حسين وإبراهيم وعبد الله وعلي، أبناء الشيخ محمد رحمهم الله، قال الله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} [سورة البقرة آية: 275] وقال تعالى: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} [سورة البقرة آية: 276] والنبي صلى الله عليه وسلم " لعن آكل الربا وموكله، وكاتبه وشاهديه " 1. وأجاب: أيضا عبد الله بن الشيخ، المراباة حرام بالكتاب والسنة والإجماع، وقد " لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله، وكاتبه وشاهديه، والمحلل والمحلل له " 2 قال الترمذي حديث صحيح، فالاثنان ملعونان; وكان أصل الربا في الجاهلية: أن الرجل يكون له على الرجل المال المؤجل، فإذا حل الأجل، قال له: أتقضي أم تربى؟ فإن وفاه وإلا زاد هذا في الأجل، وزاد هذا في المال، فيتضاعف المال والأصل واحد. وهذا الربا حرام بإجماع المسلمين، وأما إذا كان هذا هو المقصود، ولكن توسلوا بمعاملة أخرى، فهذا تنازع فيه المتأخرون من المسلمين، وأما الصحابة فلم يكن منهم نزاع   1 النسائي: الزينة (5103) . 2 مسلم: المساقاة (1597) , والترمذي: البيوع (1206) , وأبو داود: البيوع (3333) , وابن ماجه: التجارات (2277) , وأحمد (1/394 ,1/402 ,1/430) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 91 في أن هذا محرم، فإن الأعمال بالنيات والآثار عنهم بذلك كثيرة مشهورة، والله تعالى حرم الربا لما فيه من ضرر المحتاجين، وأكل المال بالباطل، وهذا موجود في المعاملات الربوية. وإذا حل الدين وكان الغريم معسرا، لم يجز بإجماع المسلمين أن يلزم بقلب، لا بمعاملة ولا غيرها، بل يجب إنظاره، وإن كان موسرا كان عليه الوفاء، فلا حاجة إلى القلب لا مع يساره، ولا مع إعساره، والواجب على ولاة الأمور: تعزير المتعاملين بالمعاملة الربوية، بأن يأمروا المدين أن يؤدي رأس المال، ويسقط الزيادة الربوية، فإن كان معسرا وله مغلات يوفي منها، وفى دينه منها بحسب الإمكان. وقال الشيخ: عبد الرحمن بن حسن: اعلم وفقنا الله وإياك، أن الله تعالى نهى عباده عن أكل الربا، وأنزل بتحريمه القرآن المجيد، الذي {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [سورة فصلت آية: 42] وزجر عنه عباده بضروب من التحذير والتهديد والوعيد الشديد، فقال عز من قائل: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} [سورة البقرة آية: 275-276] قال ابن عباس في معنى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 92 الآية: " آكل الربا يبعث يوم القيامة مجنونا يخنق " رواه ابن أبي حاتم. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِين َفَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [سورة البقرة آية: 278] إلى قوله: {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [سورة البقرة آية: 281] قال البخاري رحمه الله في صحيحه: قال ابن عباس: "هذه آخر آية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم" وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبا أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَاتَّقُوا اللَّهَ} [سورة آل عمران آية: 130] الآية، إلى غير ذلك من الآيات المحكمات. وقد جاءت السنة الصحيحة بالزجر عنه والتحذير، وإيضاح ما أجمل منه بالبيان والتفسير، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "اجتنبوا السبع الموبقات قالوا يا رسول الله: وما هن؟ قال: الشرك بالله، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات " 1 رواه البخاري ومسلم، وأبو داود والنسائي. وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله، وكاتبه وشاهديه، وقال هم سواء" 2 رواه مسلم. وعن سمرة بن جندب، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " رأيت الليلة رجلين أتياني، فأخرجاني إلى أرض مقدسة، فانطلقنا حتى أتينا على نهر من دم، فيه رجل قائم، وعلى وسط النهر   1 البخاري: الوصايا (2767) , ومسلم: الإيمان (89) , والنسائي: الوصايا (3671) , وأبو داود: الوصايا (2874) . 2 مسلم: المساقاة (1598) , وأحمد (3/304) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 93 رجل بين يديه حجارة، فأقبل الرجل الذي في النهر، فإذا أراد أن يخرج رمى الرجل بحجر في فيه، فرده حيث كان، فجعل كلما جاء ليخرج، رمى في فيه بحجر فيرجع كما كان، فقلت ما هذا؟ فقال الذي رأيته في النهر: آكل الربا " 1 رواه البخاري في صحيحه، وعن ابن عباس - رضي الله عنهما -، قال "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نشتري الثمرة حتى تطعم " 2 وقال: " إذا ظهر الزنى والربا في قرية، فقد أحلوا بأنفسهم عذاب الله " رواه الحاكم وقال صحيح الإسناد ; وفي حديث الإسراء: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر ليلتئذ، بأقوام لهم أجواف مثل البيوت، فسأل عنهم؟ فقيل هؤلاء أكلة الربا " 3 رواه البيهقي. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " يأتي على الناس زمان يأكلون فيه الربا قال قيل له: الناس كلهم؟ قال: من لم يأكله منهم ناله من غباره " 4 رواه الإمام أحمد، وأبو داود والنسائي وابن ماجه، وعن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " الربا ثلاثة وسبعون بابا " 5 رواه ابن ماجه والحاكم في مستدركه، وزاد " أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه، وإن أربى الربا عرض الرجل المسلم " 6 وقال على شرط الشيخين، ولم يخرجاه ; ورواه محمد بن نصر عن ابن مسعود موقوفا، قال: "الربا بضع وسبعون بابا، والشرك نحو ذلك" ورواه أيضا عن أبي هريرة موقوفا قال: " الربا سبعون حوبا أدناهن مثل ما يقع الرجل على أمه، وأربى الربا استطالة المرء في عرض أخيه " 7 وروي أيضا عن   1 البخاري: البيوع (2085) . 2 البخاري: البيوع (2196) , ومسلم: البيوع (1536) , والنسائي: البيوع (4524 ,4550) . 3 ابن ماجه: التجارات (2273) . 4 النسائي: البيوع (4455) , وأبو داود: البيوع (3331) , وابن ماجه: التجارات (2278) , وأحمد (2/494) . 5 ابن ماجه: التجارات (2275) . 6 ابن ماجه: التجارات (2274) . 7 ابن ماجه: التجارات (2274) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 94 أبي هريرة مرفوعا قال: " ليأتين على الناس زمان، لا يبالي المرء بما أخذ من المال بحل أم بحرام " 1 ورواه البخاري ولفظه: " لا يبالي المرء ما أخذ منه، أمن الحلال أم من الحرام " 2. وعن أبي سعيد الخدري: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض; ولا تبيعوا الورق بالورق إلا مثلا بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا منها شيئا غائبا بناجز " 3 رواه مالك والبخاري، والنسائي. وللبخاري: " الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، سواء بسواء، من زاد أو استزاد فقد أربى، الآخذ والمعطى فيه سواء " 4 وعن سالم بن عبد الله، عن أبيه - رضي الله عنهما -: أن أبا سعيد حدثه مثل ذلك، حديثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلقيه عبد الله بن عمر، فقال يا أبا سعيد: ما هذا الذي تحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أبو سعيد في "الصرف" سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "الذهب بالذهب مثلا بمثل، والورق بالورق مثلا بمثل " 5 رواه البخاري. وقال محمد بن نصر المروزي، حدثنا إسحاق بن إبراهيم، أنبأنا روح بن عبادة، حدثنا حبان بن عبد الله العدوي، وكان ثقة قال: سألت أبا مجلز عن "الصرف" فقال: "كان ابن عباس لا يرى به بأسا زمانا، ما كان منه يدا بيد، فلقيه أبو سعيد الخدري، فقال له: إلى متى؟ ألا   1 البخاري: البيوع (2059 ,2083) , والنسائي: البيوع (4454) , وأحمد (2/435) , والدارمي: البيوع (2536) . 2 البخاري: البيوع (2059) , والنسائي: البيوع (4454) , وأحمد (2/435 ,2/452 ,2/505) , والدارمي: البيوع (2536) . 3 البخاري: البيوع (2177) , ومسلم: المساقاة (1584) , والنسائي: البيوع (4570) , وأحمد (3/4 ,3/61) , ومالك: البيوع (1324) . 4 مسلم: المساقاة (1584) , والنسائي: البيوع (4565) , وأحمد (3/4 ,3/49 ,3/66 ,3/97) . 5 البخاري: البيوع (2176) , والترمذي: البيوع (1241) , وأحمد (3/53) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 95 تتقي الله، حتى متى توكل الناس الربا؟ أما بلغك: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:- وهو عند زوجته أم سلمة- إني لأشتهي تمر عجوة فبعث بصاعين، فأتي بصاع عجوة، فقال. من أين لكم هذا؟ فأخبروه، فقال: ردوه، التمر بالتمر، والحنطة بالحنطة، والشعير بالشعير، والذهب بالذهب، والفضة بالفضة، يدا بيد، عينا بعين، مثلا بمثل، فما زاد فهو ربا ثم قال: وكذلك ما يكال أو يوزن أيضا فقال ابن عباس: جزاك الله الخير يا أبا سعيد، ذكرتني أمرا كنت نسيته، فاستغفر الله وأتوب إليه" قال: فكان ينهى عنه بعد، قال روح، وكان حبان رجل صدق. ربا الفضل والبيوع الربوية وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن بيع الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، إلا سواءا بسواء، عينا بعين " 1 رواه مسلم. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " الذهب بالذهب، وزنا بوزن، مثلا بمثل، والفضة بالفضة، وزنا بوزن، مثلا بمثل، فمن زاد أو استزاد فقد أربى " 2 رواه مسلم والنسائي وعن أبي بكرة رضي الله عنه قال " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الفضة بالفضة، والذهب بالذهب، وأمرنا أن نبتاع الذهب بالفضة كيف شئنا، والفضة بالذهب كيف شئنا " 3 رواه البخاري، والنسائي، وله في رواية: " نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نبيع الفضة بالفضة، إلا عينا بعين، سواء بسواء، ولا نبيع   1 مسلم: المساقاة (1587) . 2 مسلم: المساقاة (1588) . 3 البخاري: البيوع (2182) , ومسلم: المساقاة (1590) , والنسائي: البيوع (4578) , وأحمد (5/38 ,5/49) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 96 الذهب بالذهب، إلا عينا بعين سواء بسواء " 1. وعن مجاهد أنه قال: "كنت مع عبد الله بن عمر، فجاءه صائغ، فقال: يا أبا عبد الرحمن، إني أصوغ الذهب ثم أبيع الشيء من ذلك بأكثر من وزنه، فأستفضل من ذلك قدر عمل يدي، فنهاه عبد الله عن ذلك، فجعل الصائغ يردد عليه المسألة، وعبد الله ينهاه، حتى انتهى إلى باب المسجد، أو إلى دابة يريد أن يركبها، ثم قال عبد الله بن عمر: الدينار بالدينار، والدرهم بالدرهم، لا فضل بينهما، هذا عهد نبينا إلينا، وعهدنا إليكم" رواه مالك والنسائي. وعن سعيد بن المسيب، عن بلال قال: " كان عندي تمر دون، فابتعت به من السوق تمرا أجود منه بنصف كيله، فقدمت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما رأيت كاليوم تمرا أجود منه، من أين لك هذا يا بلال؟ " قال فحدثته بما صنعت، فقال: انطلق فرده إلى صاحبه، وخذ تمرك، فبعه بحنطة أو شعير، اشتر به من هذا التمر قال ففعلت، ثم أتيته به، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم التمر بالتمر مثلا بمثل، والملح بالملح مثلا بمثل، والذهب بالذهب وزنا بوزن، والفضة بالفضة وزنا بوزن، فما كان من فضل فهو ربا " رواه الإمام محمد بن نصر المرزوي.   1 النسائي: البيوع (4579) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 97 فتضمنت هذه النصوص: تحريم بيع الجنس من هذه الأجناس الستة ونحوها بجنسه، ما لم تعلم مساواته للآخر، وفرق النبي صلى الله عليه وسلم بين الحلال والحرام، بقوله: " مثلا بمثل، يدا بيد، سواء بسواء، وزنا بوزن، عينا بعين " 1 وأكد ذلك بقوله: " فما كان من فضل فهو ربا " وبقوله: " فمن زاد أو استزاد فقد أربى، الآخذ والمعطي فيه سواء " 2 فليس فوق هذا البيان بيان. وبهذا يعلم: أن الصور في بيع الجنس الربوي، ثلاث صور، صورة منها تحل، وهي: ما إذا علم بالتماثل، وحصل التقابض في المجلس، وصورتان لا تحلان، وهما: إذا جهل التماثل، أو علم التفاضل، وعلى هذا دلت الأحاديث الصحيحة، وبه صرح العلماء رحمهم الله تعالى، قال ابن حزم رحمه الله تعالى: وافترض رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يباع الذهب، أو الفضة بشيء من نوعه، إلا عينا بعين، وزنا بوزن، وأن لا يباع شيء من الأصناف الأربعة، بشيء من نوعه، إلا كيلا بكيل، وعينا بعين، فإذا بان في أحد الأنواع المذكورة خلط شيء مضافا إليه، فلا سبيل إلى بيعه بشيء من نوعه، عينا بعين، ولا كيلا بكيل، ولا وزنا بوزن، لأنه لا يقدر على ذلك أصلا، انتهى. وقال العماد بن كثير رحمه الله، في تفسيره: قال الفقهاء: الجهل بالمماثلة كحقيقة المفاضلة، انتهى، وهذا الذي حكاه العماد رحمه الله عن الفقهاء رحمهم الله، يكفينا عن   1 مسلم: المساقاة (1587) . 2 مسلم: المساقاة (1584) , والنسائي: البيوع (4565) , وأحمد (3/49 ,3/66 ,3/97) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 98 تتبع أقوالهم، قال في الشرح الكبير: وأما ربا الفضل، فيحرم في مكيل أو موزون بيع بجنسه، وإن كان يسيرا وإن لم يأت فيه الكيل أو الوزن، إما لقلته كالحبة والحفنة، وما دون الأرزة من الذهب والفضة، أو لكثرته كالصبرة العظيمة، قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن ذلك لا يجوز، إذا كان من جنس واحد، وفي الكافي وغيره الربا: في كل ما كان جنسه مكيلا أو موزونا، وإن تعذر الكيل فيه والوزن، إما لقلته كالتمرة والقبضة، وما دون الأرزة من الذهب والفضة، وإما لعظمته كالزبرة العظيمة، وإما للعادة كلحم الطير، لأنه من جنس فيه الربا. وفي المنتهى: يحرم ربا فضل في كل مكيل أو موزون بجنسه وإن قل، كتمرة بتمرة، قال المحشي: قوله: وإن قل، لعدم العلم بالتساوي، انتهى، وفي الكافي: وما جرى الربا فيه اعتبرت فيه المماثلة، في المكيل كيلا، وفي الموزون وزنا، لقول النبي صلى الله عليه وسلم " الذهب بالذهب وزنا بوزن، والفضة بالفضة وزنا بوزن، والبر بالبر كيلا بكيل، والشعير بالشعير كيلا بكيل " رواه الأثرم، قال: ولا يجوز بيع خالصه بمشوبه، كحنطة فيها شعير وزوان، بخالصة، أو غير خالصة، ولبن مشوب بخالص أو مشوب، أو عسل بشمعه بمثله، إلا أن يكون الخلط يسيرا لا وقع له، كيسير التراب ; و"الزوان" الذي لا يظهر في المكيل، ولا يمكن التحرز منه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 99 وقال بعضهم: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على أشرف المرسلين، محمد وآله وصحبه أجمعين، وسلم تسليما كثيرا. إلى من يصل إليه هذا الكتاب من المسلمين، وفقنا الله وإياهم، اتباع الحق المبين، والتمسك بسنة سيد المرسلين ; سلام عليكم ورحمة الله وبركاته؟ وبعد: فاعلموا أن الله تعالى حرم على عباده الربا في المعاملات، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه من السبع الموبقات، وقد قال تعالى في كتابه العزيز، الذي {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [سورة فصلت آية: 42] . {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} [سورة البقرة آية: 275] أي: أنه يكون يوم القيامة كالمجنون {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} [سورة البقرة آية: 275-276] وقال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} [سورة البقرة آية: 278-279] وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبا أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 100 وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [سورة آل عمران آية: 130-132] . فتدبروا ما في هذه الآيات من الوعيد الشديد. وفي الحديث: " لعن الله آكل الربا وموكله، وكاتبه وشاهديه " 1 وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ليأتين على الناس زمان لا يبالي المرء بما أخذ المال، بحلال أم بحرام " 2 وعنه قال صلى الله عليه وسلم " الربا سبعون حوبا، أدناهن مثل ما يقع الرجل على أمه، وأربى الربا استطالة المرء في عرض أخيه " 3 وعن عبد الله بن مسعود قال: " الربا بضع وسبعون بابا، والشرك نحو ذلك " وقد روي هذا عن ابن مسعود من طرق، وعن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " الذهب بالذهب ربا إلا ها وها، والبر بالبر ربا إلا ها وها، والتمر بالتمر ربا إلا ها وها، والشعير بالشعير ربا إلا ها وها " 4 أخرجه البخاري ومسلم، وأبو داود والترمذي، والنسائي وابن ماجه. وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: وهو عند زوجته أم سلمة " إني لأشتهي تمر عجوة فأتي بصاع عجوة، فقال: من أين لكم هذا؟ فأخبروه فقال ردوه، التمر بالتمر، والحنطة بالحنطة، والشعير بالشعير، والذهب بالذهب، والفضة بالفضة، يدا بيد، عينا بعين، مثلا بمثل ثم قال وكذا ما يكال ويوزن أيضا ". وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلا   1 مسلم: المساقاة (1597) , والترمذي: البيوع (1206) , وأبو داود: البيوع (3333) , وابن ماجه: التجارات (2277) , وأحمد (1/393 ,1/394 ,1/453) . 2 البخاري: البيوع (2083) , والنسائي: البيوع (4454) , وأحمد (2/435 ,2/452 ,2/505) , والدارمي: البيوع (2536) . 3 ابن ماجه: التجارات (2274) . 4 البخاري: البيوع (2134) , وابن ماجه: التجارات (2253) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 101 بمثل، سواء بسواء، يدا بيد، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم، إذا كان يدا بيد " 1. رواه مسلم، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " الذهب بالذهب وزنا بوزن مثلا بمثل، والفضة بالفضة وزنا بوزن مثلا بمثل، فمن زاد أو استزاد فهو ربا " 2 رواه مسلم. وعن فضالة بن عبيد، قال: " اشتريت يوم خيبر قلادة بإثني عشر دينارا، فيها ذهب وخرز، ففصلتها فوجدت فيها أكثر من اثني عشر دينارا، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: لا تباع حتى تفصل " 3 رواه مسلم وأبو داود. وعنه أيضا قال: " أتي النبي صلى الله عليه وسلم عام خيبر بقلادة فيها ذهب وخرز، قال أبو بكر وابن منيع: فيها خرز معلقة بذهب، ابتاعها رجل بتسعة دنانير، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لا حتى تميز بينه وبينه فقال: إنما أردت الحجارة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لا حتى تميز بينهما " 4 رواه أبو داود. وأنتم اليوم: وقعتم فيما نهيتم عنه، من ذلك: يباع السيف المحلى بالفضة بريالات ولا يحصل تمييز الفضة من غيرها، فلا يحصل تساو في الفضة، ولا يدا بيد; وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الأحاديث: أنه لا بد من التماثل والتقابض، فإذا لم يحصل ذلك، فهو الربا الذي حرمه الله ورسوله، فتدبروا ما في حديث فضالة، من قول المشتري: إنما أردت الحجارة، فقال صلى الله عليه وسلم " لا حتى تميز بينهما " وقد جاءتكم الموعظة من كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم بالنهي عن ذلك،   1 مسلم: المساقاة (1587) , والنسائي: البيوع (4560 ,4561 ,4562) , وابن ماجه: التجارات (2254) , وأحمد (5/320) . 2 صحيح مسلم: كتاب المساقاة (1588) , وسنن النسائي: كتاب البيوع (4569) . 3 مسلم: المساقاة (1591) , والنسائي: البيوع (4573) , وأبو داود: البيوع (3352) , وأحمد (6/21) . 4 أبو داود: البيوع (3351) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 102 فانتهوا عما حرمه الله عليكم، فإن فيما أحل الله لكم غنى عما حرم عليكم، فإن البركة في الحلال، وفي السلامة من الوعيد والوبال، فإياكم والتعرض لسخط الله. فإذا اشترى أحدكم سيفا أو غيره مما فيه من الفضة، فافصلوا الفضة واقبضوا عوضها في مجلس العقد يدا بيد، فإن كانت بريالات وفضتها فضة الريال، فبيعوها وزنا بوزن وإلا فبيعوها بغير الفضة يدا بيد، فإن في ذلك السلامة من اللعنة والنار، ومحق البركة، قال الله تعالى: {قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [سورة المائدة آية: 100] وكونوا من معاصي الله على حذر، فإن للمعاصي عقوبات عاجلا وآجلا، أجارنا الله وإياكم من المعاصي وعقوباتها، ووفقنا وإياكم لتقوى الله، والعمل بما يحبه ويرضاه. أكل الربا وتأكيله والشهادة عليه وكتابته وقال الشيخ: عبد الله أبا بطين، وأما أكل الربا وتأكيله، والشهادة عليه وكتابته، فإنما يستحق هؤلاء الثلاثة اللعن إذا علموا به، كما في الحديث. وقال الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف - رحمه الله -: ومن أعظم الكبائر التي تمحق البركات، ويسعى بها صاحبها في حرب الله تعالى، المعاملات الربوية، وقد فشت وكثرت في الناس، وأكثر من غرهم بعض المنتسبين عياذا بالله، وقد شدد صلى الله عليه وسلم في الربا وغلظ فيه، وبين شعبه وأنواعه، وألحق الجزء: 6 ¦ الصفحة: 103 وسائله بأصوله في التحريم، قال صلى الله عليه وسلم " الربا سبعون بابا أسهلها مثل من يأتي أمه علانية " سئل الشيخ: محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله -: عن الربا يختص في المطعومات؟. فأجاب: مذهب الشيخ وابن القيم: أن الربا يختص في المكيل والموزون بالمطعوم، والذي قال: أنا أعطيك عن ثلاثين هذا الحمر، التي في ذمة هذا الرجل الغائب عشرين زرا، فهذا عين الربا، كيف يشكل هذا عليك؟ وقد اجتمع فيه ربا النسيئة وربا الفضل جميعا. سئل ابنه: الشيخ عبد الله: عن بيع جنس بجنسه؟. فأجاب: وأما بيع الحب بحب مثله متفاضلا. فلا يجوز ; وأما إذا كان من جنسين، كشعير بحب، وحب بشعير، فإنه يجوز التفاضل فيه، ولا يجوز بيع بعض ببعض في الذهب والفضة والمطعومات، إلا بشرط التقابض في المجلس، كما في الحديث: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والتمر بالتمر، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والملح بالملح، مِثلا بمثل، فإذا اختلفت هذه الأصناف، فبيعوا كيف شئتم يدا بيد " 1 والعمل على هذا عند أهل العلم، لا يرون أنه يباع البر بالبر إلا مثلا بمثل، وباقي الأصناف المذكورة في الحديث كذلك، فإذا اختلفت الأجناس، فلا   1 الترمذي: البيوع (1240) , والنسائي: البيوع (4561) , وابن ماجه: التجارات (2254) , وأحمد (5/320) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 104 بأس أن يباع بعضها ببعض متفاضلا، بشرط التقابض في المجلس. وأجاب أيضا: وأما بيع البر بالبر، والشعير بالشعير، فلا يجوز إلا سواء بسواء، يدا بيد، إلا إذا اختلفت الأجناس، فيجوز الزيادة لكن يدا بيد. وأجاب الشيخ: حمد بن ناصر بن معمر: هذه المسألة اختلف فيها كثير من العلماء، يقولون إن العلة في الذهب والفضة، كونها موزونتي جنس، فيطردون العلة في كل موزون من جنس واحد، فلا يجوز بيع الصفر بالصفر، والرصاص بالرصاص، والنحاس بالنحاس، والحديد بالحديد; وكذلك الأصناف الأربعة: البر والشعير، والتمر والملح، المنصوص عليها في حديث عبادة، المخرج في صحيح مسلم، والذهب والفضة، يقولون: العلة في البر والشعير، والتمر والملح "الطعم والكيل" فيطردون في كل مكيل مطعوم. وأما المطعوم الذي لا يكال ولا يوزن، كالمعدودات كالبطيخ، والرمان، وكالبعير والفرس، وما جرى هذا المجرى، فيجوز التفاضل في ذلك، إذا كان يدا بيد، ولا يجوز بيع ذلك بعضه ببعض نسأ، هذا قول أكثر العلماء، وعليه الفتوى عندنا، واستدلوا على ذلك، بما روى الإمام أحمد في المسند: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا تبيعوا الدينار، بالدينارين، ولا الدرهم بالدرهمين، ولا الصاع الجزء: 6 ¦ الصفحة: 105 بالصاعين، فإني أخاف عليكم الرماء " 1. وهو الربا، فقام إليه رجل فقال: يا رسول الله، الرجل يبيع الفرس، بالأفراس، والنجيبة بالإبل، فقال "لا بأس إذا كان يدا بيد " 2. وأجاب الشيخ عبد الله أبا بطين: وأما الأصناف الستة الربوية المذكورة، فلا يجوز بيع واحد منها بجنسه، إلا مثلا بمثل يدا بيد، وأما بيعه بغير جنسه، فيجوز التفاضل فيه، بشرط التقابض في مجلس العقد. وسئل: عن بيع الشاة بالشاة، وبيع اللبن في الشاة ... إلخ؟. فأجاب: وأما بيع اللبن في الشاة على هذه الصورة، فكثير من العلماء يمنعه، وأباحه بعضهم، وبيع الشاة بالشاة فلا بأس به. وسئل الشيخ: عبد الله بن الشيخ: عن بيع اللحم بالشحم، أو عكسه؟. فأجاب: اللحم والشحم أجناس، فمن الأصحاب من جوز بعضه ببعض متفاضلا، وقال القاضي هما جنس واحد، لا يجوز بيع بعضه ببعض متفاضلا. سئل الشيخ: محمد بن عبد الوهاب، - رحمه الله -: عن بيع التين متفاضلا؟. فأجاب: بيع التين متفاضلا، لا يجوزه الشيخ وابن القيم.   1 أحمد (2/109) . 2 أحمد (2/109) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 106 سئل الإمام: عبد العزيز بن محمد بن سعود عن الربا، هل هو في الستة الأنواع المنصوص عليها؟ أم ليس هو إلا في النسيئة؟. فأجاب: الذي ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم واتفقت عليه الأمة، هو: ربا النسيئة في الأنواع الستة، التي في حديث عبادة: " البر بالبر، والتمر بالتمر، والشعير بالشعير، والذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والملح بالملح " 1. وأما ربا الفضل مع عدم النسيئة، فالذي عليه كثير الأمة: تحريمه; ودليلهم عليه أحاديث كثيرة مشهورة، في الصحيحين وغيرهما، وخالف في ذلك ابن عباس رضي الله عنهما، ثم قيل إنه رجع عن ذلك، لما ناظره أبو سعيد الخدري، وغيره من الصحابة. وأما من باع متاعا بأكثر من سعر يومه، لأجل النسيئة مع اضطرار المشتري إليه، هل يحل أم لا؟ فهذه المسألة تسمى "بيع المضطر" وهي جائزة عند أكثر العلماء، لظاهر قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} [سورة البقرة آية: 275] فإن كان المشتري متورقا، فمسألة "التورق" اختلف العلماء فيها، وجمهورهم على جوازها، ومنعها عمر بن عبد العزيز، وبعض التابعين، وأحمد في رواية عنه.   1 مسلم: المساقاة (1587) , والترمذي: البيوع (1240) , والنسائي: البيوع (4561 ,4562 ,4564) , وابن ماجه: التجارات (2254) , وأحمد (5/314) , والدارمي: البيوع (2579) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 107 سئل الشيخ: عبد الرحمن بن حسن، - رحمه الله -: عن بيع النوى بحب، أو تمر؟. فأجاب: أما بيع النوى بتمر فيه نوى، ففيه روايتان: إحداهما- وهو المذهب- يجوز، قال في الإنصاف: صححه في التصحيح وغيره واختاره ابن حامد، وابن أبي موسى، والقاضي وغيرهم، قال في الشرح: وعلى القول بالجواز: يجوز متفاضلا ومتساويا، وعلى الرواية الأخرى لا يجوز; وأما بيع النوى بالمكيل من غير جنسه نسيئة فيجرى على الخلاف في علة الربا، فعلى القول: بأن العلة الكيل والوزن، على المشهور في مذهب الإمام أحمد، ومذهب أبي حنيفة، فلا يجوز ذلك، وعلى القول الثاني: أن علة الربا الطعم، وفي الذهب والفضة الثمينة، يجوز بيع النوى بكل مكيل وموزون وغيره، لأن النوى ليس من طعام الآدمي. والقول: بأن العلة الطعم مع الكيل والوزن، اختارها الموفق، والشيخ تقي الدين، ومالك خص الربا بالقوت وما يصلحه، ورجحه ابن القيم - رحمه الله -، فعلى هذين القولين أيضا: يجوز بيع النوى بغيره نسيئة، لعدم وجود العلة فيه، فيمتنع على القول الأول، ويجوز على ما بعده من الأقوال. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 108 سئل الشيخ: عبد الله بن الشيخ محمد: عن معنى مد عجوة؟. فأجاب: هو جنس يباع بعضه ببعض، ومع أحدهما أو معهما من غير جنسهما، كدرهم ومدين، أو بمد ودرهم، وظاهر المذهب أن ذلك لا يجوز، نص عليه أحمد في مواضع كثيرة، وقيل: يجوز بشرط أن يكون المفرد أكثر من الذي معه. وأجاب الشيخ: عبد الرحمن بن حسن: ومن صورها مد ودرهم، بدرهمين، فالجمهور من الفقهاء قالوا بعدم الجواز، بناء على أن جملة المد والدرهم في مقابلة الدرهمين، فلم يتميز ما يقابل الدرهم من جميع الدرهمين، ولا ما يقابل المد، وإنما الجملة قابلت الجملة، فلا تحصل المماثلة بين الجنس الذي هو لغة للجمل بما يقابل كلا، وكذلك إذا وزعت الأفراد على الجمل، كما إذا اعتبر الدرهم الذي مع المد في مقابلة مجموع الجملة من الدرهمين، والمد كذلك، فلم يتميز ما يقابل الجنس من جنسه، هل هو درهم، أو أقل، أو أكثر; والجهل بالتساوي كالعلم بالتفاضل. وذهب شيخ الإسلام: كأبي حنيفة، إلى الجواز، فوزعوا الأفراد على الأفراد، فصار الدرهم يقابل درهما من غير زيادة، والمد يقابل الدرهم الآخر، فحصلت المماثلة والتساوي في الجنس، وهو مشكل، والله أعلم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 109 فصل سئل الشيخ: عبد الله بن الشيخ محمد: هل يجوز بيع الذهب والفضة بعرض، كالجدد وغيرها نسيئة؟. فأجاب: لا يجوز ذلك إذا كان العرض جدد، لأنها بمنْزلة الأثمان، إذا اختلفت أجناسها، يجوز بيع بعضها ببعض ولا يجوز نسيئة، وأما العروض التي ليست بأثمان، فلا بأس بذلك، ولا أعلم في هذه المسألة نزاعا بين العلماء. سئل الشيخ: عبد الرحمن بن حسن - رحمه الله - تعالى: عن صرف الريال بالجدد؟. فأجاب: ظهر لنا بعد التحري، أن في عشرين الجديدة من الفضة الخالصة، مثل ما في الريال من خالص الفضة، ورفعنا الأمر لتركي - رحمه الله -، ومنع الناس من المصارفة بأكثر أو أقل، فحصل منهم الامتثال في الظاهر دون الباطن، فدخل في الأمر ما أفسده وهو: تقطيع الريال، وسكه عشرين قطعة أو أكثر، فصار الناس يتصارفون الريال بفضة مقطعة مضروبة، فوقعوا في الربا الصريح، ببيع الفضة الخالصة بالفضة الخالصة متفاضلا. فلما صارت المفسدة أكبر نهيناهم عن ذلك، لأن المفسدة فيه أعظم، لكونه صريح الربا، وسكتنا عن الأمر الأول، وهو: المصارفة بالجدد الأولى المغشوشة، لوجهين: الأول: أنه قد تقدم منا النهي، وصار معلوما عند الخاص الجزء: 6 ¦ الصفحة: 110 والعام، وأني صنفت في ذلك مصنفا. الوجه الثاني: أن فيه ارتكاب أدنى الضررين لدفع أعلاهما، فصرنا لا نأمرهم ولا ننهاهم، وكنا سابقا قد بلغناهم، وفي تلك الحال لم يحصل امتثال. سئل الشيخ: محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله: عن بيع الحديد بالنحاس، واللحم بالتمر نسيئة؟. فأجاب: ومسألة الحديد بالنحاس، واللحم بالتمر نسيئة، ما ندري عنها، والورع تركه. وأجاب ابنه الشيخ عبد الله: وأما السمن بالتمر، واللحم بالتمر، والأقط بالتمر، فالذي يعمل عليه أكثر أهل العلم، أنه لا يجوز، وينهى عنه، وهو الذي نعمل عليه. وأجاب أيضا: وأما إذا باع ذرة، ببر نسأ، فهذا لا يجوز، وهو ربا إلا إن كان يدا بيد، وأما بيع السمن بالحب مؤجلا، فلا ينبغي فعله. وأجاب أيضا: وأما بيع الحيوان بالتمر نسأ، فلا أرى به بأسا، وأما بيع الدهن بالتمر، أو البر نسأ، فلا يجوز عند جمهور العلماء، وأجازه نفاة القياس، القائلون بقصر الربا على الأنواع الستة، المذكورة في حديث عبادة، لكن قول الجمهور أولى وأحوط، وأما إذا بيع ذلك يدا بيد فهو جائز، لقوله عليه السلام فإذا اختلفت هذه الأجناس إلخ، وأما بيع الدراهم بالحب، وبيع الحب بالدراهم مؤجلا، فجائز إذا حضر أحد النوعين. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 111 وأجاب الشيخ: عبد الرحمن بن حسن: أما بيع اللحم بالطعام نسيئة، فإن كان الطعام مكيلا، فهو من باب بيع الموزون بالمكيل، لأن اللحم من الموزونات، فيجوز حالاًّ مقبوضا بلا ريب، وأما إذا اشترى به مكيلا نسيئة، ففيه روايتان: إحداهما يجوز وهو المذهب، صححه في الخلاصة وغيرها، وهو الذي ذكرته عن شيخنا: الشيخ حمد بن ناصر - رحمه الله -، أنه أفتاك به، والرواية الثانية: أنه لا يجوز، قطع به الخرقي وصاحب الوجيز، وصححه في التصحيح، وهذه الرواية تجري على مذهب مالك، إذا كان كلاهما من القوت، وتجري أيضا على الرواية الثانية عن الإمام أحمد، وقول الشافعي وابن المسيب أن العلة الطعم، فتأمله يظهر لك أقواهما. وسئل الشيخ: عبد الله أبا بطين: عن بيع اللحم بالحيوان ... إلخ؟ فأجاب: وأما بيع اللحم بالحيوان، فهو من مراسيل سعيد بن المسيب، عن النبي صلى الله عليه وسلم وذكر الإمام أحمد حديثا مرفوعا: " لا يباع حي بميت " واختلف العلماء في ذلك، فقال أبو حنيفة: يجوز بيع اللحم بالحيوان مطلقا، ومذهب مالك والشافعي وأحمد: أنه لا يجوز بيع اللحم بحيوان من جنسه، وفي بيعه بغير جنسه خلاف، المشهور في المذهب الجواز، وأما بيعه بحيوان غير مأكول، ففيه قول بعدم الجواز، وقال الشارح ظاهر قول أصحابنا الجواز، وهو قول عامة الفقهاء. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 112 وسئل الشيخ: سعيد بن حجي: عن بيع النوى بالتمر، أو البر نسأ؟. فأجاب: يجوز بيع النوى بالتمر، أو بالبر نسأ، لأن ما انعدم فيه الطعم فلا ربا فيه، رواية واحدة، وهو قول أكثر أهل العلم، وذلك كالتبن والنوى والقت، والماء والطين ونحو ذلك، قاله في الشرح، فعلى هذا يجوز بيع النوى بالتمر، وبالبر ونحوهما نسأ، لأن النوى لا يدخله الربا. وسئل: عن رجل نهى أن يبيع عشرة آصع من البر وغيره، بعشرين صاعا نسأ، فاحتال وقال: أعطيك قروشا على عشرين، واشتر بها مني على عشرة؟. فأجاب: لا يجوز بيع الربوي بالربوي، إلا يدا بيد، فإن كان جنسا واحدا كالتمر بالتمر، والبر بالبر ونحوها، اشترط فيه المساواة والتقابض في مجلس العقد، وإن كان جنسا بجنس آخر، كالتمر بالبر ونحوهما، اشترط التقابض في المجلس، ولم تشترط المساواة، فيجوز صاع تمر بصاعي بر، ونحو ذلك بشرطه المتقدم. وأما الحيلة المسؤول عنها: فلا تجوز، لا سيما إذا كان يعامل بالربا ثم نهى عنه، قال في الشرح: وأما الحيل فهي محرمة كلها، قال أيوب السختياني: إنهم ليخادعون الله كما يخادعون الصبيان، لو أتوا الأمر على وجهه كان أهون علي، وقال أبو حنيفة: هي جائزة إذا لم يشترط عند العقد ولنا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 113 أن الله عذب أمة بحيلة احتالوها، وجعل ذلك {نَكَالاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} [سورة البقرة آية: 66] يتعظون بهم انتهى، وذكر في الإقناع نحوا من ذلك، وهل إذا أسلم عليه القروش. وتقابضا، واشترى منه بذلك الثمن ربويا يجوز؟ أما إذا لم يتقابضا شيئا فالبيع فاسد. سئل الشيخ: محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله -: عن بيع البعير بالبعيرين نسأ؟ فأجاب: والبعير بالبعيرين إلى أجل فيه اختلاف، الأصح أنه يجوز للحاجة. وأجاب ابنه الشيخ عبد الله: وأما بيع الإبل بالحيوان نسيئة ففيه خلاف، ومن منعه احتج بالحديث المروي في ذلك: أنه نهى عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة، ومن أجازه احتج بالحديث الصحيح في قصة وفد هوازن: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ومن لم تطب نفسه، فله بكل فريضة ست فرائض، من أول ما يفيء الله علينا " والتفريق بين ما كان معد للحم وغيره، عند مالك وغيره إنما هو في مسألة بيع اللحم بالحيوان، هل يصح ذلك أم لا؟ فمنعه مالك فيما كان معدا للحم، دون ما هو معدا للركوب وغيره. وأجاب الشيخ حمد بن ناصر رحمه الله: بعض العلماء ذكر ذلك، وكثير منهم لا يرى بذلك بأسا، لما روي أن عليا رضي الله عنه باع بعيرا، يقال له عصيفير، بأربعة أبعرة إلى أجل معلوم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 114 سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: عن بيع ثوب بثوبين نسأ؟ فأجاب: يجوز بيع ثوب بثوبين. سئل الشيخ: محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - تعالى: إذا حل لرجل دراهم، وأراد أن يقلبها بزاد وأخرج دراهم وصحح بها وأوفاه بها؟ فأجاب: قد ذكرت لك أن هذه من الحيل الباطلة، التي أنكرها الإمام أحمد وغيره من الأئمة، وأغلظوا القول فيها وأهلها، وذلك: أن عندهم لا بد من كون رأس مال السلم مقبوضا في مجلس العقد، وعندهم أن كونه دينا، أعني رأس مال السلم ربا، وهذه مسألتكم بعينها، لأنه لما اعترف بكونه ربا، أحضر من بيته عدة من الدين المقلوب وعقد به، والعاقدان والشهود ومن حضرهم، يعلمون أن المكتوب هذا الدين الحال، والتاجر يقول له، أوفنى أو اكتبها 1 والمشتري يقول: وردت له دراهم وكتبتها منه، ويفهمون أن الدراهم الحاضرة غير مقصودة، ويسمون هذا العقد التصحيح، هذا لا ينكره إلا مكابر معاند. وحينئذ فعبارتهم: والحيل التي تحل حراما، أو تحرم حلالا، لا تجوز في شيء من الدين; وهو أن يظهرا عقدا   1 الكتب: السلم و "اكتبها" اجعلها سلما, في لغة بعض أهل نجد. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 115 صحيحا، ومرادهما التوصل به إلى غير صحيح، وهذه عبارة الإقناع وشرحه، فإن جادلكم أحد: أن هذه الصورة غير داخلة في ذلك، فقل له: ما صورة الحيلة المحرمة؟ فإنه لا يذكر شيئا من الصور، إلا ومسألتكم مثلها، أو أشد بطلانا; وأعجب من هذا: أن ابن القيم، ذكر في أعلام الموقعين، في صورة لو أراد أن يجعل رأس مال السلم دينارا، يوفيه إياه في وقت آخر، بأن يكون معه نصف دينار، ويريد أن يسلم إلى رجل دينارا في كر حنطة، فالحيلة: أن يسلم إليه دينارا غير معين، ثم يوفيه نصف دينار؛ وهذه الحيلة من أقبح الحيل، فإنهما توصلا إلى ذلك بالقرض، الذي جعلاه صورة مبيحة لصريح الربا، ولتأخير رأس مال السلم، وهذا غير القبض الذي جاءت به الشريعة، وإنما اتخذه المتعاقدان تلاعبا بحدود الله، انتهى كلامه. فإذا كان هذا كلامهم، فيمن أراد أن يسلم إلى رجل مائة "محمدية" 1 من بيته باطنا وظاهرا، لكن لم يحضر في المجلس إلا خمسين، وكتبها عليه، ثم استقرضها وكتبها أخرى، إلى أن يخرج بالخمسين آخر النهار، أو بكرة، فكيف بكلامه في التحيل على قلب الدين، وجعله رأس مال السلم؟ ! وإذا كان هذا كلامه في أعلام الموقعين، وهم ينسبون عنه: أنه إذا أراد أن يشتري دابة بخمسين، وجاء رجل   1 المحمدية: نقود متداولة في زمن الشيخ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 116 وأربحه في الخمسين خمسة، أو أكثر، قال: أنا موكلك تشتريها لي، ثم تبيعها على نفسك، وهذه الحيلة الملعونة، التي هي مغلظ الربا، أو الحيلة التي استباح بها أكثر المطاوعة إلى الآن الربا الصريح، ونسبوها إلى أعلام الموقعين، وحاشاه منها، بل هذا صفة كلامه في رأس مال السلم الحاضر، إذا تأخر قبض بعضه إلى آخر النهار، فضلا عن هذه المسألة وأمثالها، ومع هذا كله: فإن الله تعالى لا مرد لحكمه، يضل من يشاء ويهدي من يشاء، {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ} [سورة يونس آية: 96-97] . وأجاب أيضا: ورد الدين على المعسر ما يجوز، إن كان ثمن زاد أو غيره. قلب الدين على المعسر وقال أبناء الشيخ: حسين وإبراهيم وعبد الله وعلي ومنها: أي المعاملات الربوية، قلب الدين على المعسر، إذا حل الدين على الغريم ولم يقدر على الوفاء، أحضر طالب الدين دراهم، وأسلمها إليه في طعام في ذمته، ثم أوفاه بها في مجلس العقد، ويسمون هذا تصحيحا، وهو فاسد ليس بصحيح، فإنه لم يسلم إليه دراهم، وإنما قلب عليه الدين الذي في ذمته، لما عجز عن استيفائه، والمعسر لا يجوز قلب الدين عليه. فعليكم بتقوى الله (واحذروا عقوبته، فإن هذه الجزء: 6 ¦ الصفحة: 117 المعاملات تمحق المال، وتذهب بركته، وعاقبته في الآخرة أعظم مما يعاقب به صاحبه في الدنيا، من عدم البركة فيه، فإذا حل الدين على المعسر، لم يجز لغريمه التحيل على قلبه عليه، كما قال تعالى: {فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} 1 وإن كان الغريم مليا، وأراد أن يسلم إليه ويعامله، فليدفع إليه دراهم، ويقبضها البائع، ويذهب بها إلى بيته، ولا يوفيه بها في الحال، فإذا تملكها وأخذت عنده يوما أو يومين، بحيث يتصرف فيها بما يشاء، ثم أوفاه منها، فهذا لا بأس به إن شاء الله تعالى. وأما الاستيفاء بها في مجلس العقد، فلا ينبغي لكم، لأنه ذريعة إلى الحيل، والحيل كلها محرمة; وكذلك إذا حل التمر على الكَدَّاد، فلا بد من قبضه بالقبض الشرعي، وأما التحيل على قلبه على صاحبه، فلا ينبغي أيضا، بل يأخذه صاحبه، ولا يبيع على الذي أوفاه منه شيئا، لا كثيرا ولا قليلا، فإن أحب البيع فليبعه طعاما غير الطعام الذي قبضه منه، فتحصل المعاملة، ويحصل التنَزه والاحتياط عن الحيل، التي لا يجوز تعاطيها. وأجاب أيضا: الشيخ عبد الله: إذا كان في ذمة الكداد دراهم للتاجر أو الأجير، وأراد أن يقلبها عليه في زاد فهذه المسألة خطرها كبير، فينبغي التفطن فيها، لئلا يقع الإنسان في الربا وهو لا يشعر، وصورة المسألة: أن العلماء اختلفوا هل للتاجر أن يسلم إلى غريمه دراهم يستافي بها عن دينه   1 سورة البقرة آية: 280. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 118 فمنعه مالك، وقال: ما خرج من اليد وعاد إليها فهو لغو، وجوده كعدمه، ومذهبه - رحمه الله -: أن هذا التصحيح الذي يفعله الناس اليوم لا يجوز. وأما الأئمة الثلاثة، فيفرقون بين المليء الباذل، وبين المعسر المماطل، فالمعسر لا يجوز قلب الدين عليه، والواجب إنظاره، قال الله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [سورة البقرة آية: 280] وأما الملي الباذل فظاهر كلامهم جواز السلم إليه، ولو أوفاه من الدراهم التي أسلمها إليه، إذا كان على غير وجه الحيلة ومن أعظم ما يكون، وأشده خطرا: قلب الدين إذا عجز عن استيفائه، فتجد الرجل يطلب الفلاح دراهمه، فإذا عجز عن استيفائها، كتبها عليه وصحح فيها، وهو لو يطمع أن دراهمه تحصل له بتمامها، ولو بعد سنة، ما كتبها عليه بزاد ولكن إذا علم أنه لا يحصل له دراهم، وعرف أنها باقية في ذمة الكداد، قلبها عليه لئلا يفوته الربح، وهذه من الحيل الباطلة، المتضمنة للربا. والواجب: على كل من يداين الناس، أو يفتيهم، التفطن لهذه الأمور، وكثير من الناس يعقد عقودا ظاهرها الصحة، وهي باطلة، لأجل الحيلة، فينبغي لمن أسلم إلى غريمه أن يدفعها إليه، ولا يستافى منها بشيء في مجلس العقد، بل يدفعها إليه، ويمضي بها إلى بيته، فإذا حازها وتملكها، وصارت الدراهم مالا له، يتصرف فيها كسائر ماله، فلا بأس إذا أوفاه بها بعد ذلك. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 119 فصل بيع الدين بالدين وأجاب الشيخ حمد بن ناصر بن معمر - رحمه الله -: وأما بيع الدين بالدين فله صور، منها ما هو منهي عنه بالاتفاق، ومنها ما هو مختلف فيه، وهو ينقسم إلى بيع واجب بواجب، وساقط بساقط، وساقط بواجب، وواجب بساقط; فالذي لا شك في بطلانه: بيع الكالئ بالكالئ، وهو بيع ما في الذمة مؤخرا، بشيء في الذمة مؤخرا، فإن الكالئ هو المؤخر، فإذا أسلم شيئا في ذمته، في شيء في ذمة الآخر، وكلاهما مؤخر، فهذا لا يجوز باتفاق العلماء. ومثال الساقط بالساقط: صورة المقاصة، فإن اتفق الدينان جنسا وأجلا فلا بأس بها، وإن اختلف الجنس، كما لو كان لكل واحد من الاثنين دين على صاحبه من غير جنسه، كالذهب والفضة، وتساقطا ولم يحضرا شيئا، فهذا فيه خلاف، المنصوص عن أحمد: أنه لا يجوز إذا كانا نقدين من جنسين، واختار الشيخ تقي الدين الجواز. وأما الساقط بالواجب، فكما لو باعه دينا في ذمته، بدين آخر من غير جنسه فسقط الدين المبيع، ووجب عوضه، وهو بيع الدين الحال ممن هو في ذمته، بدين لم يقبض، وأما بيع الواجب بالساقط، فكما لو كان لرجل دراهم في ذمة رجل آخر، فجعل الدراهم سلما في طعام في ذمته، فقد وجب له عليه دين، وسقط عنه دين غيره ; وقد حكى ابن المنذر إجماع من يحفظ عنه من أهل العلم: أنه لا يجوز، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 120 وليس في ذلك إجماع، بل قد أجازه بعض العلماء، لكن القول بالمنع هو قول الجمهور. وأجاب أيضا: من كان له دين على مليء أو مفلس وأراد صاحب الدين أن يسلم على المدين ويقضيه إياه، هل يجوز أم لا؟ فإذا كان المدين مفلسا فلا يجوز ذلك. لأن ذلك يكون حيلة على الربا، والحيل لا تجوز في الدين، وأما إذا كان المدين مليا، وكل من أراد أن يسلم عليه في ذمته فعل، سواء كان رب الدين أو غيره وكل يود أن يسلم إليه، لأجل ملاءته، فلا أعلم في ذلك بأسا عند أكثر العلماء، واشترط بعض المالكية: أن يدفع إليه رأس مال السلم، ويذهب به عن مجلس العقد إلى بيته، أو إلى السوق، ثم إن بدا له بعد ذلك أن يوفيه إياه فعل. فصل (قلب الدين على المدين) وأجاب الشيخ عبد الرحمن بن حسن - رحمه الله -: قلب الدين على المدين لا يخلو من ثلاثة أحوال: الحال الأول. أن يضيق المال عن الدين، فهذا مفلس في عرف العلماء رحمهم الله، إذا سأل غرماؤه الحاكم، أو بعضهم لزمه الحجر عليه في ماله، وذهب جمع من المحققين إلى أنه يكون محجورا عليه بدون حكم حاكم، وهذا لا يجوز قلب الدين عليه بحال، لعجزه عن وفاء ما عليه من الدين. الحال الثاني. أن يكون ماله أكثر من دينه، لكن لا يقدر على وفاء دينه إلا بالاستدانة في ذمته، وهذا يشبه الجزء: 6 ¦ الصفحة: 121 الأول، لا يجوز قلب الدين عليه، لأنه غير مليء، ولا يخفى أن المليء عند العلماء، هو الذي إذا طلب ما عليه بذله من غير مشقة عليه، وهو الواجد للوفاء. الحال الثالث. أن يكون عليه دين، وفي يده مال يقدر على الوفاء من غير استدانة، وهذا مليء ولكن منع بعض العلماء قلب الدين عليه حسما للمادة، وسدا للذريعة. قال شيح الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: وقد سئل عن المعاملات التي يتوصل بها إلى الربا فمن ذلك: أن يكون المدين معسرا فيقلب الدين إلى معاملة أخرى بزيادة مال وما يلزم ولاة الأمر في هذا؟ وهل يرد على صاحب المال رأس ماله دون ما زاد؟ فأجاب: المراباة حرام بالكتاب والسنة والإجماع، وقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله، وكاتبه وشاهديه، ولعن المحلل والمحلل له، وكان أصل الربا في الجاهلية: أن الرجل يكون له على الرجل المال المؤجل، يقول له: أتقضي أم تربي؟ فإن وفاه وإلا زاد هذا في الأجل، وزاد هذا في المال، فيتضاعف المال والأصل واحد، وهذا الربا حرام بإجماع المسلمين، وأما إذا كان هذا هو المقصود، ولكن توسلوا بمعاملة أخرى، فهذا تنازع فيه المتأخرون ; وأما الصحابة فلم يكن منهم نزاع أن هذا محرم، والآثار عنهم بذلك كثيرة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 122 والله تعالى حرم الربا لما فيه من ضرر المحتاجين، وأكل المال بالباطل، وهو موجود في المعاملات الربوية، فإذا حل الدين وكان الغريم معسرا، لم يجز بإجماع المسلمين أن يقلب عليه الدين، بل يجب إنظاره وإن كان موسرا كان عليه الوفاء، فلا حاجة إلى القلب، لا مع يساره ولا مع إعساره، والواجب على ولاة الأمر: تعزير المتعاملين بالمعاملات الربوية، أن يأمروا المدين بأن يؤدي رأس المال، ويسقطوا الزيادة الربوية، فإن كان معسرا وله مغلات يوفي دينه منها، وفي دينه منها بحسب الإمكان، والله أعلم، انتهى كلام شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى-، فتأملوا قوله: إن كان معسرا وله مغلات كيف سماه معسرا، مع وجود عقار يستغله. ومن صور قلب الدين: أنه إذا حل أجل ما في ذمة المدين من الدراهم وعلم صاحب الدين أنه لا يجد دراهم يدفعها إليه قال له: بعني طعاما في ذمتك علي بكذا وكذا، فيسلم إليه الدراهم بطعام في ذمته، فإذا قبض منه رأس المال ردها إليه وفاء، وحقيقة الأمر: أن الذي في ذمته الأول، قلبه طعاما فينمو المال في الذمة، والأصل واحد. وأجاب أيضا: وأما قلب الدين على المدين، فمن صوره: أنه إذا كان له على شخص دراهم ثمن زاد، أسلم إليه دراهم في زاد ليستوفى منه بتلك الدراهم، وكل منهما يعلم أن رأس المال راجع إلى صاحبه، فتكون حقيقته تربية الدين في ذمة المدين، وهذه الصورة وأمثالها: ذكر شيئ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 123 الإسلام محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - تعالى، المنع منها وأمثالها. وسئل أيضا: رجل اشترى تمرا بنسيئة من آخر، ثم رده عليه عما في ذمته؟ فأجاب: إن كان قبضه قبضا صحيحا، جاز أن يوفيه به المشتري، إذا كان له قدرة على أن يوفيه دينه من غيره، بخلاف ما إذا كان لا يقدر على الوفاء لعسرته، واضطره إلى أن يستدين من نفسه ليوفيه، فهذا لا يجوز لوجهين، أحدهما. أن المعسر يجب إنظاره وهذا ضرر به يزيد به عسرته؛ الثاني. أنه من قلب الدين الذي نص العلماء رحمهم الله، كشيخ الإسلام ابن تيمية أنه لا يجوز. وسئل أيضا: عن مليء عليه دين لآخر، فأسلم عليه دراهم قضاه دينه منها؟ فأجاب: إن هذه الصورة من صور قلب الدين، وقد نص على أنه يضارع الربا، وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية: أن السلف منعوا منه، وأفتى هو بالمنع، وكذا شيخنا الإمام - رحمه الله - تعالى، وذلك لأنه تنمية للدين في ذمة المدين بمجرد القلب، وهو بمعنى ربا الجاهلية: إما أن تقضي وإما أن تربى. وأجاب الشيخ حسن بن حسين بن الشيخ: قلب الدين على المعسر لا يجوز، لأنه إنما قلبه عليه لعجزه عن الوفاء، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 124 فكأنه حيلة، فإن كان مليا ولم يكن المسلم شرط عليه الوفاء بها، فإذا قبضها البائع، وذهب بها إلى بيته قدر اليومين أو الثلاث، وتملكها تملكا تاما، بحيث يتصرف فيها بما شاء فلا بأس أن يوفيه بها عما في ذمته له من الدراهم، وكونها قرضا لا يضر، وأما إن كان أخذها من أمانته بغير إذن صاحبها، فإنه لا يصح، اللهم إلا أن يعلم منه الرضا بذلك، هذا ما ظهر لنا، والله أعلم. وسئل: ما ضابط الإعسار الذي يحرم قلب الدين على من قام به؟ فأجاب: اختلف في ضابطه، ولعل أقرب الأقوال فيه: أنه عدم القدرة على الوفاء، بإعدام أو كساد متاع ونحوه، وكون موجوده أقل من دينه، قال الشيخ تقي الدين، بعد كلام سبق: وإن كان معسرا وله مغلات يوفى منها، أو في دينه بحسب الإمكان، فسماه معسرا وله مغلات. وأجاب الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين: أما قلب الدين، فشيخ الإسلام - رحمه الله - ذكر حكم القلب على المعسر في الصورة التي لا خلاف فيها، أي في عدم جوازها، وعلله بالإكراه، وأما غيرها من صور القلب التي لا إكراه فيها،، وربما يجوزها من لا يمنع بعض الحيل، من الحنفية والشافعية، فلم يصرح بها في هذا الموضع، وكلامه معروف في إبطال الحيل، وصنف في ذلك كتابه المعروف، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 125 وهو قول الإمام مالك، والإمام أحمد وأصحابهما، وقول أئمة الحديث، وبعض أهل زماننا: أخذ من قول الشيخ في المسألة، أنه إذا كان ذلك برضا الغريم فلا بأس به. والذي نرى ونفتي به: المنع في الصورة التي يسميها العامة التصحيح، فيما إذا كان لإنسان على آخر عشرة مثلا، فقال: ما عندي ما أعطيك ولكن يقول في لفظ العامة: إما اكتبها 1 علي فيقول: كتب الذي في ذمته ما يجوز، ولكن نصحح: أكتب عليك عشرة توفيني بها إذا قبضتها، أو يقول ذلك في العادة المستمرة والعرف المطرد، كالتواطي: أنه يرد عليه دراهمه في المجلس غالبا، فيكون ذلك في العادة مواطأة، والقابض للدراهم لا يتصرف فيها، فلا يصير ملكه تاما عليها، بل يردها عليه بعينها في الحال، فدراهمه رجعت إليه ويصير رأس مال السلم الذي في الذمة، وربما يكون أصل الدين عشرة، فيصل بالقلب مرة بعد مرة، إلى مائة أو أكثر. وذكر الإمام مالك - رحمه الله - في الموطأ، مسألة تشبه هذه المسألة، فقال: من اشترى طعاما بثمن معلوم إلى أجل مسمى فلما حل الأجل، قال الذي عليه الطعام لصاحبه: ليس عندي طعام فبعني الطعام الذي علي إلى أجل، فيقول صاحب الطعام: هذا لا يصح، لأنه قد نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم   1 اكتبها: اجعلها سلما. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 126 عن بيع الطعام حتى يستوفى، فيقول الذي عليه الطعام لغريمه: فبعني طعاما إلى أجل حتى أقضيك، فهذا لا يصح، لأنه إنما يعطيه طعاما ثم يرده إليه، فيصير الذهب الذي أعطاه ثمن الطعام الذي كان عليه، ويصير الطعام الذي أعطاه محللا فيما بينهما، ويكون ذلك إذا فعلاه بيع الطعام قبل أن يستوفى، انتهى. وفي مسألتنا: تكون الدراهم التي يعطيه ثم يردها إليه وفاء محللا، ويكون رأس مال السلم ما في ذمة غريمه، هذا الذي يظهر لي، والله أعلم. وأجاب أيضا: ونذكر لكم صورة من صور قلب الدين، ذكرها مالك في الموطأ يفعلها بعض الناس، إذا صار له على آخر مائة مثلا وطلبها منه قال: ما عندي نقد لكن بعني سلعة بثمن مؤجل كما يقول بعضهم: العشر اثنا عشر فيبيعه سلعة بمائة وعشرين مؤجلة تساوي مائة نقدا ثم يبيعها المشتري ويعطيه ثمنها مائة؛ قال مالك - رحمه الله -: في الرجل يكون له على الرجل مائة دينار إلى أجل فإذا حلت قال الذي عليه الدين بعني سلعة يكون ثمنها مائة دينار نقدا، بمائة وخمسين إلى أجل؛ قال مالك هذا بيع لا يصلح، ولم يزل أهل العلم ينهون عنه. قال: إنما كره ذلك لأنه إنما يعطيه ثمن ما باعه بعينه، ويؤخر عنه المائة الأولى إلى الأجل الذي ذكره له آخر مدة، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 127 ويزداد عليه خمسين دينارا في تأخيره عنه، فهذا مكروه لا يصلح، وهو يشبه حديث زيد بن أسلم في بيع أهل الجاهلية، أنهم كانوا إذا حلت ديونهم، قالوا للذي عليه الدين: إما أن تقضني وإما أن تربى، فإن قضى أخذوا، وإلا زادوهم في حقوقهم، وزادوهم في الأجل، انتهى، والسلف يعبرون كثيرا بالكراهة فيما هو محرم عندهم، وقوله: إنما يعطيه ثمن ما باعه، يعني: أن مشتري السلعة يبيعها على غيره، ويعطيه ثمنها مائة، وأخبر - رحمه الله -: أن أهل العلم لم يزالوا ينهون عن ذلك. وأجاب أيضا: الذي له على إنسان دراهم وأراد أن يأخذ منه دراهم في تمر أو حب، والغالب من الناس أنه يقول لغريمه: عندنا لك كذا وكذا، نأخذهن بتمر أو حب، ونود بهن منك لا من غيرك، فإذا صار له عليه مثلا عشرة أريل1، أعطاه إياهن بمائتي صاع مثلا، ويرد إليه العشرة في المجلس وفاء، فدراهمه رجعت إليه وصارت العشرة التي في الذمة بمائتي صاع، هذا حجة من منع هذه الصورة، والأحوال تختلف، وفي المسألة إشكال، والله أعلم، وإذا كان جعل ما في الذمة رأس مال سلم غير جائز قال أعطيك كذا سلما وتردها علي، فيتخذه حيلة على ما منع منه. وأجاب أيضا: وإذا استلم رجل من آخر دراهم ثم اشترى بها منه طعاما فهذا إذا كان بشرط أو مواطاة فلا يجوز، وأما إذا أخذ دراهمه وذهب ليشتري بها من غيره فلم يجد عند   1 أي: ريالات. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 128 غيره شيئا ثم رجع فاشترى منه فلا بأس بذلك. وأجاب أيضا: وبيع الكالئ بالكالئ، له صور كثيرة مذكورة. في كتب الفقه، منها: ما هو متفق عليه، ومنها ما فيه خلاف وهو بيع مؤخر بمؤخر، ومنها أن يسلم إليه في طعام أو نحوه، ولم يقبض رأس مال السلم في المجلس، ومنه عند كثير من العلماء: أن يكون له في ذمته دراهم، ويكتبها عليه في طعام في ذمته؛ والمسألة التي يسمونها "التصحيح" إنما يفعلونها حيلة إلى التوصل إلى ذلك، لأنه يعطيه ريالا بكذا طعاما ثم يرده إليه، فيرجع برياله وهو لم يعطه إياه، ويملكه إياه تمليكا تاما، بل إنما أعطاه إياه بشرط أن يرده إليه في الحال، فيكون العقد وقع على ما في الذمة من الدراهم. وأجاب أيضا: وأما قلب الدين إذا كان له على آخر دراهم، وطلب منه الوفاء، وادعى العسرة، فقال أسلم إليك دراهم في طعام توفيني بها، فإن كان المسلم إليه معسرا، وأكرهه غريمه على ذلك، فهو حرام باتفاق الأئمة، قاله الشيخ تقي الدين رحمه الله تعالى، قال: لأنه مكره بغير حق، وإن كان المسلم إليه غير معسر، فالذي يظهر لنا عدم الجواز، لأن ذلك يتخذ حيلة على جعل الدين رأس مال سلم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 129 وأجاب الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف: لا يجوز قلب الدين، ولا يفرق بين الغني وغيره، بل قلبه هو صريح الربا. وأجاب الشيخ حسن بن حسين بن علي: لا يجوز قلب الدين لمن هو عليه مطلقا. وأجاب الشيخ حمد بن عبد العزيز: وأما مسألة الدراهم ثمن التمر، إذا حل الأجل أسلمها عليه، ثم ردها عليه قضاء للدين في زعمه فهذا عين الربا، لأن الحقيقة رأس ماله التمر الأول، فكأنه باع خمس عشرة وزنة بثلاثين، ولا يفعل هذا من يخاف الله ويتقيه. وأجاب الشيخ عبد الله بن حمد الحجازي: لا يجوز قلب الدين. لا على معسر ولا موسر، بل ذلك كله من الربا الذي ورد الوعيد عليه، ومن فعل ذلك فليس له إلا رأس ماله. وأجاب الشيخ سعد بن حمد بن عتيق: ويذكر أمور ما تصلح، ولا يجوز السكوت عليها، منها: بعض المعاملة الفاسدة مثل الإنسان الذي يحل له على غريمه دراهم، ثمن تمر أو حب، ثم يجعلها في ذمة غريمه بزاد، وهذا أمر ما يجوز، والذي يفعل هذا ما يمكن من أخذ الزاد من المدين، ولا يحصل له إلا رأس ماله يرده عليه المدين. وأجاب الشيخ عبد الله بن فيصل: والضامن إذا لم يحصل له من المضمون عنه إلا أن يقلب عليه، فالظاهر عدم جوازه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 130 فصل (الوفاء في العقد الفاسد) سئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - تعالى: عن الوفاء في العقد الفاسد ... إلخ؟ فأجاب: وإذا أوفاه بالعقد الفاسد مثل الرد على المعسر، فليس له إلا رأس ماله. وأجاب ابنه الشيخ عبد الله: إذا كان المتعاقدان جاهلين بالتحريم أو كان ذلك في الجاهلية قبل الإسلام ثم أسلما، فإنه يجب على من أخذ الدراهم ردها على صاحبها، وربا الجاهلية موضوع، وأما قبض الدراهم في مقابلة نفع دراهمه، في جاهلية أو بعد إسلام المدين قبل أن يبلغه النهي، فهو له، فإن كان العوض لم يقبض، بل كان باقيا في ذمة المقترض، فليس للمقرض إلا رأس ماله، ولا يأخذ معه زيادة، وقد دل على ذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [سورة البقرة آية: 278] إلى قوله: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} [سورة البقرة آية: 279] . وعقود الشرك ما مضى منها في حال الشرك، وقبضه المتعاقدان قبل الإسلام، يُقَرَّان على ما مضى منه، لأن الإسلام يهدم ما قبله {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ} [سورة البقرة آية: 275] وأما الذي له دراهم أخذ بها في الأعشار، فالشيء الذي أخذ في الجاهلية منها، لا يحسب عليه من رأس ماله، وأما الذي دخل عليه بعدما أسلم من الجزء: 6 ¦ الصفحة: 131 الثمار، فهو يحسب عليه من رأس ماله، وبقية رأس ماله الذي يقدر من المسلمين يوفيه، والذي ما يقدر يلزمه الصبر حتى يوسر، فإن كان دفع لهم من رأس المال عروضا، مثل بقر أو عيش أو سلاح أو إبل، فهم يردون عليه مثله، وأما الذي ما عنده إلا عقارات مرهونة، رهنها تاجر آخر داخل فيها بدراهم، فهي فاسدة، ربا، ويصير له رأس ماله، وما أكل من ثمارها بعدما أسلم، يحسب عليه من رأس ماله. وأجاب أيضا: وأما رهون الجاهلية من الربا والرهون، التي لا تجوز في الإسلام، فليس لصاحبها إلا رأس المال، فإن كان الذي عليه الحق معسرا، لزم صاحب الدين إنظاره إلى ميسرة. وأجاب الشيخ حمد بن ناصر بن معمر: وكذلك عقود الربا، إذا أسلما ولم يتقابضا، بل أدركهما الإسلام قبل التقابض، فليس لصاحب الدين إلا رأس ماله، لقوله تعالى: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ} [سورة البقرة آية: 279] وأما المال المقبوض، فلا يطالب به القابض إذا أسلم، لقوله تعالى: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ} [سورة البقرة آية: 275] . وأجاب الشيخ عبد الرحمن بن حسن: إذا وقع عقد فاسد في معاملة في الإسلام، قد انقضت بالتقابض في أكثرها ... إلخ، فيظهر: مما قاله شيخ الإسلام - رحمه الله - في آية الربا، في قوله تعالى: {فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ} [سورة البقرة آية: 275] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 132 فاقتضى أن السالف للقابض، وأن أمره إلى الله ليس للغريم فيه أمر، وذلك أنه لما جاءه موعظة من ربه فانتهى، كان مغفرة ذلك الذنب والعقوبة عليه، وأمره إلى الله إن علم من قلبه صحة التوبة غفر له وإلا عاقبه، ثم قال: {اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [سورة البقرة آية: 278] فأمر بترك الباقي ولم يأمر برد المقبوض، وقال: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} [سورة البقرة آية: 279] إلا أنه يستثنى منها ما قبض، وهذا الحكم ثابت في حق الكافر، إذا عامل كافرا بالربا، وأسلما بعد القبض، وتحاكما إلينا، فإن ما قبضه يحكم له به، كسائر ما قبضه الكافر بالعقود التي يعتقدون حلها. وأما المسلم: فله ثلاثة أحوال، تارة يعتقد حل بعض الأنواع باجتهاد أو تقليد، وتارة يعامل بجهل ولا يعلم أن ذلك ربا محرم وتارة يقبض مع علمه بأن ذلك محرم، أما الأول والثاني ففيه قولان: إذا تبين له فيما بعد أن ذلك ربا محرم، قيل يرد ما قبض كالغاصب، وقيل لا يرده وهو أصح، لأنه إذا كان معتقدا أن ذلك حلال، والكلام فيما إذا كان مختلفا فيه، مثل الحيل الربوية، فإذا كان الكافر إذا تاب يغفر له ما استحله، ويباح له ما قبضه فالمسلم إذا تاب أولى أن يغفر له، إذا كان أخذ بأحد قولي العلماء في حل ذلك، فهو في تأويله أعذر من الكافر في تأويله. وأما المسلم الجاهل، فهو أبعد لكن ينبغي أن يكون كذلك، فليس هو شر من الكافر، وقد ذكرنا فيما يتركه من الجزء: 6 ¦ الصفحة: 133 الواجبات، التي لم يعرف وجوبها، هل عليه قضاء؟ قولين: أظهرهما لا قضاء عليه، وأصل ذلك، أن أصل الخطاب هل يثبت في حق المسلم قبل بلوغ الخطاب؟ فيه قولان في مذهب أحمد وغيره، ولأحمد روايتان فيما إذا صلى في معاطن الإبل، أو صلى وقد أكل لحم الجزور، ثم تبين له النص، هل يعيد؟ على روايتين. وقد نصرت في موضع: أنه لا يعيد وذكرت على ذلك أدلة متعددة، منها: قصة عمر، وعمار، لما كانا جنبين، فصلى عمار ولم يصل عمر، ولم يأمره النبي صلى الله عليه وسلم بإعادة; ومنها المستحاضة التي قالت: منعني الصوم والصلاة، ومنها الأعرابي المسيء في صلاته، الذي قال: والله ما أحسن غير هذا، أمره أن يعيد الصلاة الحاضرة، لأن وقتها باق، وهو مأمور بها، ولم يأمره بإعادة ما صلى قبل ذلك، ومنها الذين أكلوا حتى تبين الخيط الأبيض من الأسود، ولم يأمرهم بالإعادة. والشريعة: أمر ونهي، فإذا كان حكم الأمر لا يثبت إلا بعد بلوغ الخطاب، فكذلك النهي، فمن فعل شيئا لم يعلم أنه محرم، ثم علم، لم يعاقب؟ وإذا عامل بمعاملات ربوية يعتقدها جائزة، وقبض منها ما قبض، ثم جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف، ولا يكون شرا من الكافر، والكافر إذا غفر له ما قبضه لكونه قد تاب، فالمسلم بطريق الأولى، والقرآن يدل على هذا بقوله: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 134 فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ} [سورة البقرة آية: 275] . وهذا عام في كل من جاءه موعظة من ربه فانتهى، فقد جعل الله له ما سلف، انتهى ملخصا من كلامه - رحمه الله -، وبه يظهر للسائل تفصيل ما أجمله في السؤال، فليتأمل. وأجاب الشيخ إبراهيم بن عبد اللطيف - رحمه الله -: لا يخفى أن الله تبارك وتعالى حرم الربا، وأوضح تحريمه في مواضع كثيرة من كتابه، وأذن بحرب من لم يلتزم حكمه فيه، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} [سورة البقرة آية: 278-279] وهذا صريح في تحريم أخذ الزيادة على رأس المال، لأن قوله: { (وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا} [سورة البقرة آية: 278] يعني ما فضل على رؤوس الأموال، فيلزم من قبض شيئا في معاملة ربوية رد ما زاد على رأس ماله، لأنه قبض غير صحيح، ولا يقال في مثل هذا العقد فاسد، بل باطل، وما قبضه بسببه فهو قبض بغير حق، والعفو إنما كان فيما قبض في الجاهلية قبل التحريم. وما ذكرته من الإشكال فيما قبض بمعاملة ربوية، وقيل برده هل يصار إلى القيمة إذا تعذر المثل؟ أعني القيمة وقت القبض، فكلام الشيخ كما ذكرت صريح في ذلك في الغصب، لا سيما إذا تغير السعر، ولا تغير أعظم مما حصل في هذا الزمان، ولا تعذر في المثل أشد، وذلك المقبوض الجزء: 6 ¦ الصفحة: 135 أكثر ما يقال فيه إنه كالغصب، ولو قيل بالقيمة اليوم لما تعذر المثل، لكان فيه اجتياح على القابض. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 136 فصل (حكم التعامل بالجدد حين رخصت وصارت الفضة فيها أكثر من المقابل) سئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - تعالى: عما يتعامل به أهل نجد، من الجدد حين رخصت وصارت الفضة فيها أكثر من المقابل؟ فأجاب: هي صورة مسألة مد عجوة لا بد فيها من أن يكون المفرد أكثر من الذي معه غيره على الرواية القائلة بالجواز، وهي اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، فعلى هذا: إذا كان الذي في الجدد من الفضة أكثر من فضة الريال، فلا يجوز بيعها به على كلا الروايتين، والوفاء بالزررة عن المشاخصة جائز، بشرط كونه وفاء باطنا وظاهرا. وأجاب ابنه: الشيخ عبد الله، أما رد البدل إذا اقترض ريالية، ودفع إليه البدل زرورا، أو بالعكس فهذا جائز، لأنه أخذ به نقدا عن نقد آخر، لحديث ابن عمر: "ولكن بسعر يومه" وكذلك لو أخذ بدل القرض برا، أو شعيرا، أو تمرا، أو كان القرض طعاما فأخذ عنه دراهم، فكل ذلك جائز إن شاء الله تعالى، لكن لا يلزم إلا بالقبض، لئلا يكون بيع دين بدين. وأجاب أيضا: هو والشيخ عبد الرحمن بن حسن: "الجدد" لما رخصت، وصار فيها من الفضة أكثر مما في الجزء: 6 ¦ الصفحة: 136 الريالات المقابل لها في المصارفة، محرم إذا قلنا بأن هذه الصورة من صور مد عجوة، فلا بد أن يكون المفرد أكثر من الذي معه، وهذا الشرط يجري على الرواية القائلة بالجواز، اختارها شيخ الإسلام، وأما إذا كان ما يقابل الريال من الجدد، أكثر فضة من الريال، فلا يجوز صرفه بها قولا واحدا، لما في ذلك من التفاضل في الفضة من غير مقابلة بشيء، وهذا صريح الربا، اهـ. وقال أيضا الشيخ: عبد الرحمن بن حسن: إن مما كثر البحث عنه والسؤال، فيما عمت به البلوى بين العوام من الجهال: الاعتياض بالنقود المسماة بالجدد عن الريال، وقد ورد علينا ونحن بالديار المصرية، من بعض أعيان بلادنا النجدية، كتاب يتضمن السؤال عن ذلك، ويستدعي الجواب عما وقع هنالك؟ فأجاب شيخنا شيخ الإسلام، خاتمة الأئمة الأعلام: عبد الله بن الشيخ الإمام، شيخنا محمد بن عبد الوهاب، أجزل الله له الأجر والثواب، بما حاصله: إذا كان يعرف بين أهل الخبرة والاستعمال، أن ما يبذل منه هذا النقد في الريال، يشتمل من الفضة على أكثر مما فيه، فهذا ربا بلا إشكال، وكذا إذا كانت الزيادة من الفضة، أو المساواة يتطرق إليهما الاحتمال، فهو من الربا باتفاق أهل النظر والاستدلال، لأن من أصول هذا الباب، عند ذوي العقول والألباب: أن الجهل بالتماثل، كالعلم بالتفاضل، بغير شك ولا ارتياب. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 137 ولما يسر الله رجوعي من تلك الديار، وحصل لي بالوطن مكث واستقرار; رأيت أن مما يتعين علي: تنبيه إمام المسلمين وفقه الله لطاعته، بأن يصرف الهمة إلى منهج الصواب والسداد، لما في ذلك من صلاح البلاد والعباد، فبادر إلى ما أشرت إليه، فدفع إلى من يرضى أمانته، عشرين من تلك النقود، وأمره أن يختبر ما فيها من الفضة، بالسبك على الوجه المعهود، فحضرت تصفيتها مع ذلك الثقة المأمور، فحصل من العشرين خمسة بزنة المثقال، وهذا القدر لا يزيد عما في الريال منها ولا ينقص بحال، فأفتيت بعد ذلك التحرير والاختبار، بأن هذه المصارفة لا تحل إذا زادت الجدد عن ذلك المقدار. ثم ذكر أدلة تحريم الربا، وتقدم- إلى أن قال- قلت فتأمل كيف أفاد: أن ما يخل من الخلط بالتماثل، يمنع من بيع الجنس بجنسه، وهو صريح كلام الجميع، ولا يخفى أن النحاس المخالط للفضة في الجدد، يخل بالتماثل، وما يخل بالتماثل لا يجوز. فصل ومن نظائرهما: ما نص عليه في الشرح والمغنى والكافي وغيرهم، من أنه لا يجوز بيع الزبد بالسمن، قالوا: لأن في الزبد لبنا يسيرا يخل بالتماثل قلت: فإذا كان الخلط اليسير من اللبن في الزبد، يخل بالتماثل، فالنحاس مع الفضة من باب أولى، لكونها أصلا وذلك فرع ; فإن قال قائل: إن الفضة فيها تبع قلت: هذا باطل من وجوه: الأول أنه لا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 138 قيمة للنحاس الذي فيها، إذ لو صفت الفضة عنه لعاد خبثا، الثاني: أن الفضة أصل في الربا وفي الثمنية، وهو فرع فيهما، فلا يجعل ما هو أصل تبعا لفرعه وأيضا فالفضة جوهر ثمين، فلا تكون تابعة لما ليس كذلك، قال ابن حزم: وحبة ذهب أو فضة لها بال عند المساكين، نعم وعند التجار، وعند أكثر الناس، ولا يحل أن يزيدهما في الموازنة، انتهى، وما أسلفته من الأحاديث، يبطل هذا الاعتراض. فإن قيل: قد جوز الفقهاء درهما فيه نحاس، بنحاس واختلاف، قلت: هذا عليكم لا لكم، لأن الفضة ليست من جنس النحاس، واختلاف الجنس لا يمنع التفاضل بالاتفاق، وأما ما كان من النحاس في الدرهم، فقد أخرجته الصنعة عن أصله، وما أخرجته الصنعة مما أصله الوزن، فلا يجري فيه الربا غير الذهب والفضة، نص عليه في المنتهى ; فإن قيل: قد أجازوا بيع درهم بمساويه في غش؟ قلت: وهذا أيضا من الحجة عليكم، لأنه لا سبيل إلى العلم بتساوي الدرهمين المتساويين وزنا في الغش، إلا من جهة العلم بتساويهما في الفضة، وبالعلم بالتساوي يزول المانع، بخلاف مسألتكم فإن التساوي فيها غير معلوم. فإن قيل: قد رأيناهم جوزوا بيع التمر فيه النوى بمثله، قلت: هو كذلك، ولكنه قد اشتمل على شيئين بأصل الخلقة، وما اشتمل على شيئين كذلك جاز، نص عليه في الكافي وغيره، ففارقت هذه المسألة، وقد نص الفقهاء الجزء: 6 ¦ الصفحة: 139 رحمهم الله تعالى: على أنه لو نزع النوى من التمر، لم يجز بيع التمر المنْزوع منه النوى، بتمر فيه نوى، سواء ترك معه أولا، ومسألتكم أولى بالمنع ولا بد، وهذا شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -، قد صرح في الفتاوى المصرية أنها إذا كانت الفضة المغشوشة أكثر من المفردة، فإنه لا يجوز بيع إحداهما بالأخرى، وهي مسألتكم بعينها، وعلى المنع منها اتفق العلماء رحمهم الله. وأما مسألة: مد عجوة ودرهم التي منع الجمهور منها فللبطلان فيها مأخذان، أحدهما: سد ذريعة الربا، وفي كلام الإمام إيماء إلى ذلك; الثاني: وهو مأخذ القاضي وأصحابه: أن الفضة إذا اشتملت على شيئين مختلفي القيمة، يقسط الثمن على قيمتيهما، وهذا يؤدي هنا إلى يقين التفاضل وإما إلى الجهل بالتساوي، وكلاهما مبطل للعقد، فإنه إذا باع درهما ومدا يساوي درهمين، بمدين يساويان ثلاثة، فالدرهم في مقابلة ثلثي مد، ويبقى مد في مقابلة مد وثلث وذلك ربا فلو فرض التساوي، كمد يساوي درهما ودرهم بمد يساوي درهما، ودرهم لم يصح أيضا لأن التقويم ظن وتخمين، فلا تحقق معه المساواة والجهل بالتساوي كالعلم بالتفاضل، انتهى عثمان م ص. 1. وأجازها: أبو حنيفة وأحمد فى رواية عنه، وعليه فلا   1 أي: ملخصا من حاشية عثمان بن قائد, على شرح منصور للمنتهي. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 140 تشبه هذه المسألة بحال، فإن المجوزين لها اشترطوا شروطا، لم يوجد واحد منها في هذه المسألة، فمنها: أنهم يشترطون: أن يكون المفرد أكثر من الذي معه غيره، وبعضهم اشترط أن يكون الزائد يسيرا بقدر قيمة ما مع الجنس، وهذا الثاني نص عليه الشيخ تقي الدين - رحمه الله - في الفتاوى المصرية، فقال: إذا كانت الفضة المفردة أكثر من الفضة المغشوشة بشيء يسير بقدر النحاس، فهذا يجوز في أظهر قولي العلماء، انتهى. فافهم كلامه: أنه إذا لم توجد القيود الثلاثة امتنع الجواز، وذلك في أربع صور أحدها: أن لا تكون المفردة أكثر، وذلك بأن علم أنها أقل أو جهل، وأن تكون أكثر بشيء غير يسير، أو بيسير أكثر من قيمة النحاس. ومسألتكم لا تخرج عن هذه الأربع، فلا تجوز ومنعه المتأخرون كصاحب المستوعب، ومن يشترط في مسألة مد عجوة، إذا كان مع كل واحد من غير جنسه من الجانبين التساوي، جعله لكل جنس في مقابلة جنسه، قال في الإنصاف: وهو من جعل الجنس في مقابلة غيره لا سيما مع اختلافهما في القيمة، انتهى. واشترطوا أيضا: أن لا يكون حيلة على الربا، وبعضهم اشترط أن لا يكون الجنس الذي مع غيره مقصودا كالسيف المحلى، وهو رواية عن الإمام أحمد، اختارها شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -. وعلى كل: فالمجوزون لمسألة مد عجوة محجوجون عند الجمهور بما تقدم من الأحاديث، وبما في السنن وغيرها الجزء: 6 ¦ الصفحة: 141 من حديث فضالة بن عبيد، قال أبو داود في حلية السيف: تباع بالدراهم؛ والقلادة فيها الذهب والفضة، حدثنا محمد بن عيسى وأبو بكر بن أبي شيبة وأحمد بن منيع، قالوا حدثنا ابن المبارك، وحدثنا ابن العلاء، أنبأنا ابن المبارك عن سعيد بن يزيد، حدثني خالد بن أبي عمران، عن فضالة بن عبيد، قال: " أتى النبي صلى الله عليه وسلم عام خيبر بقلادة فيها ذهب وخرز، قال أبو بكر وابن منيع، فيها خرز معلقة بذهب، ابتاعها رجل بتسعة دنانير، أو سبعة دنانير، قال صلى الله عليه وسلم لا، حتى تميزوا بينها فقال: إنما أردت الحجارة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لا، حتى تميزوا بينها " 1 قال ابن حزم: فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكتف بنيته، في أنه إنما غرضه الخرز، ويكون الذهب تبعا، ولا راعى كثرة من قلة، وأوجب التمييز في الموازنة ولا بد، انتهى. قال الشيخ: فهذا ما انتهى إليه علمنا القاصر في هذه المسألة، وقد أتينا في هذه الرسالة بما لعلك لا تجده مجموعا في غيرها، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب. فصل (حكم التعامل بالجدد حين رخصت وصارت الفضة فيها أكثر وأجاب أيضا: وأما إذا كانت الفلوس فيها فضة مثل قروش محمد علي، 2 وتصرف بدراهم من الفضة، فإن هذه الصورة من أفراد مسألة مد عجوة، فمن جوزها قال: تجوز هذه، ومن لا فلا، وشرط جوازها عند من يقول به: أن يكون المفرد أكثر من الذي معه غيره، واختار شيخ الإسلام الجواز   1 أبو داود: البيوع (3351) . 2 خديوي مصر, المعروف. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 142 بشرطه، وهو رواية عن الإمام أحمد، ومذهب أبي حنيفة. والرواية الأخرى: لا يجوز، وهو المذهب، قال في الإنصاف: وللأصحاب في توجيه المذهب مأخذان أحدهما- وهو مأخذ القاضي وأصحابه- أن الصفقة إذا اشتملت على شيئين مختلفي القيمة، يقسط الثمن على قيمتيهما، وهذا يؤدي هنا إما إلى يقين التفاضل، وإما إلى الجهل بالتساوي وكلاهما مبطل للعقد في باب الربا، فإن اتخاذ ذلك حيلة على الربا الصريح واقع، كبيع مائة درهم في كيس، بمائتين، جعلا للمائة في مقابلة الكيس، وقد لا يساوي درهما فمنع من ذلك وإن كانا مقصودين حسما لهذه المادة وفي كلام أحمد إيماء إلى هذا المأخذ، والله أعلم. وأما معنى المكسرة في كلام الفقهاء؟ فالجواب: أني وقفت على عبارة في غاية مرعي، تبين ذلك، فإنه قال: ومن اشترى شيئا بنصف دينار لزمه، ثم إن اشترى آخر بنصف آخر لزمه، ويجوز إعطاؤه عنها صحيحا، انتهى. فيقال على الريال هذا صحيح، وعلى النصفين ريال مكسر، وكذا الأرباع، والله أعلم. وسئل: عمن أراد أن يسعر ببعض الريال فقال لمن أراد أن يأخذ منه شيئا بنصفه: خذ هذا وأعطني بنصفه، ورد علي النصف الآخر نصفا. فأجاب: هذا جائز إذا قبض النصف قبل التفرق، لأنه الجزء: 6 ¦ الصفحة: 143 صارفه بالنصف مثلا بمثل يدا بيد، وليس هذا من أفراد مسألة مد عجوة، لأن صاحب الطعام يستحق نصف الريال ثمنا، والنصف الآخر أخذه مصارفة، ودفع عنه ما يماثله، فافهم هذا، قال في الأنصاف: فلو دفع إليه درهما، وقال: أعطني بنصف هذا الدرهم نصف درهم، وبنصفه فلوسا، أو حاجة أخرى جاز، انتهى. وأجاب الشيخ: سليمان بن عبد الله بن الشيخ رحمهم الله، هذه الجدد قد قيل إنها ملحقة بالعروض كالفلوس، لكن هذا عندي لا يتوجه على المذهب، لوجهين، أحدهما: ما فيها من الفضة من غير اعتبار له، الثاني: أن قاعدة المذهب تحريم مسألة مد عجوة، ومعنى مسألة مد عجوة- كما هو مقرر- أن يبيع جنسا فيه الربا بجنسه، ومع أحدهما أو معهما من غير جنسهما، ويلزم من ألحقها بالعروض أن يبيح مد عجوة، فيخالف فيها المذهب، كما هو الواقع في صرفها بالفضة الآن، فعرفت أن إلحاقها بالعروض خلاف المذهب، لكنه يتمشى على القول بإباحة مسألة مد عجوة، إما مطلقا، أو بشرط أن يكون الذي مع الجنس الآخر غير مقصود، إن فسر القصد بأن يكون مقصود الصياغة ونحوها، إذ الفضة في الجدد غير مقصودة لصياغة ونحوها، أو بشرط أن يكون مع كل واحد من غير جنسه، وقد اختار هذين القولين، في مسألة مد عجوة، الشيخ تقي الدين في موضعين من كلامه. ووجه ثالث: وهو أن الفلوس التي ذكر الأصحاب، أنها الجزء: 6 ¦ الصفحة: 144 كالعروض ليس فيها ذهب ولا فضة، فكيف يصح إلحاق ما فيه شيء منهما بالفلوس، التي فيها شيء منهما، مع وجود الفارق؛ وأما إلحاقها بالنقدين فلا يصح أيضا، لأنها ليست بنقد أصلا، فكيف يلحق ما ليس بنقد بالنقد؛ ولا أظن أحدا يقول ذلك. والأولى عندي أن يقال: هي وما أشبهها ملحقة بالمغشوش، فينظر فيها، فإن بلغ ما فيها من الفضة نصابا بنفسه، أو بالضم إلى فضة أخرى، أو نقول بضم الفضة إلى الذهب، كما هو رواية عن أحمد، وقول مالك وأبي حنيفة، فإنه يزكيها زكاة النقدين، وإن لم يبلغ ما فيها من الفضة نصابا، ولو بالضم إلى فضة أخرى، أو كان عنده ذهب ولم نقل بضم الفضة إلى الذهب، فإنه يزكيها زكاة التجارة، على أني لم أر أحدا من الأصحاب ذكر ذلك غيره، بل ذكروا أن المغشوش ليس فيه زكاة، إلا أن يكون نصابا، هكذا ذكروه ولم يقيدوا، فظاهر كلامهم: أنه لا زكاة فيه حتى يبلغ نصابا مطلقا، هذا ما ظهر لي على أني لم أجد فيها كلاما لأحد، وأما جعلها رأس مال السلم، فيصح ذلك لانتفاء المانع، لأنها معلومة. وأما اشتراط القبض في مجلس الصرف، فيشترط ذلك على كل تقدير، لاتحاد علة الصرف فيه قبل القبض، لكن ينبغي أن يعرف أن صرفها بفضة لا يجوز، إلا على القول بجواز مسألة مد عجوة وقد عرف ما فيها من الخلاف. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 145 فصل وسئل الشيخ: علي بن حسين بن الشيخ محمد رحمهم الله: إذا كان لرجل على آخر فضة، كريالات الناس وللآخر عليه مثلها فتصارفا بالقول؟ فأجاب: ليس هذا بصرف، وإنما هو تساقط، وليست هذه الصورة التي ذكر صاحب الشرح، بقوله: إذا كان رجل في ذمته لآخر ذهب، وللآخر عليه دراهم فاصطرفا لم يصح، لأنه بيع دين بدين، لأنه تصارف في الذمم، وهذا تساقط فيصح، قال في المنتهى وشرحه: ومن استحق على غريمه مثل ماله عليه من دين، جنسا وقدرا وصفة حالين، بأن اقترض زيد من عمرو دينارا مصريا ثم اشترى عمرو من زيد شيئا بدينار مصري حالين أو مؤجلين أجلا واحدا، كثمنين اتحد أجلهما، تساقطا إن استويا، أو سقط من الأكثر بقدر الأقل، إن تفاوتا قدرا بدون تراض، لأنه لا فائدة في أخذ الدين من أحدهما ثم رده إليه، والله أعلم. وسئل الشيخ عبد الله أبا بطين: إذا كان لرجل على آخر ريالات وأراد أن يعطيه عنها نوعا من الفضة، مثل هذه التي يسمونها المجيديات، أو غيرها. فأجاب: هذا حرام بلا شك، لأن النبي صلى الله عليه وسلم اشترط المماثلة في بيع الفضة بالفضة، في أحاديث كثيرة، كما في الصحيحين من حديث أبي سعيد مرفوعا " لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 146 بمثل، ولا تبيعوا الورِق بالورِق إلا مثلا بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض " 1. والأحاديث في مثل هذا كثيرة، ولم يستثن من ذلك صورة، كما استثنى العرايا من المزابنة بشروطها، فمن ذا الذي يجترئ على تخصيص هذه العمومات بالرأي؟ والنبي صلى الله عليه وسلم سمى مبادلة الذهب بالذهب، والفضة بالفضة بيعا. ولا فرق بين كون العوضين عينا، أو أحدهما في الذمة لوجود المبادلة فيها، التي عرف بها الفقهاء البيع، فقالوا في حده: هو مبادلة مال بمال، وقالوا بيع الدين المستقر لمن هو في ذمته، فسموا المبادلة بما في الذمة بيعا، والفقهاء يسمون الاعتياض عما في الذمة من أحد النقدين بجنسه صرفا، كما قالوا: فيما إذا انفسخ عقد السلم، أنه يرد رأس ماله إن كان موجودا، أو يرد عوضه إن لم يوجد، فإن كان رأس مال السلم نقدا وأخذ عنه نقدا من جنسه، فصرف له حكمه، وقالوا فيما إذا اقترض دراهم مكسرة، وحرمها السلطان، ورد المقترض فضة، فصرف تعتبر له شروطه، وقال في الشرح الكبير في مسألة اقتضاء أحد النقدين عن الآخر: أنه يشترط لجواز ذلك، أن يكون بالسعر، وأنه قول الجمهور خلافا لأصحاب الرأي، واستدل لقول الجمهور بحديث ابن عمر، وعلله بأن هذا جرى مجرى القضاء، فتقيد بالمثل كالقضاء من الجنس، قال والتماثل هنا بالقيمة لتعذر التماثل بالصورة، انتهى. فكلامه صريح في أنه إذا كان من الجنس، فلا بد من التماثل بالصورة، وجعل ذلك أصلا لمسألة الخلاف، فدل   1 البخاري: البيوع (2177) , ومسلم: المساقاة (1584) , والترمذي: البيوع (1241) , وأحمد (3/4) , ومالك: البيوع (1324) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 147 على أنه لا بد من التماثل في الصورة، إذا كان القضاء من الجنس بلا خلاف، وهذا أمر ظاهر، وقد علمتم كلام الفقهاء: أن من اشترى طعاما بكيل لا يصح قبضه جزافا، لحديث " إذا سميت الكيل فكل " 1 وغير ذلك. وليس في حديث جابر، وهو "أن جابرا طلب من غرماء أبيه أن يقبلوا ثمر حائطه، ويحللوا أباه" ما يستدل به للجواز، وقد استدل به ابن عبد البر وجماعة، على جواز أخذ الثمر على الشجر عما في الذمة، إذا علم أنه دون حقه، إرفاقا بالمدين، وإحسانا إليه، وهذا شبه مسألة ذكرها الفقهاء في الصلح، فيما إذا أقر إنسان لآخر بدين في ذمته، فصالحه بجنسه بأقل أو أكثر على سبيل المعاوضة لم يجز، وإن صالحه بأقل على سبيل الإبراء أو الهبة، لا بلفظ الصلح، فهو جائز، وقولهم إن الناس لا مندوحة لهم عن ذلك، حجة فاسدة، وللناس عن ذلك مندوحة: بأن يشتري بالمجيديات أو القطع، ولا يسمى الريالات، لكن الشيطان يضيق طرق الحلال، ويفتح طرق الحرام، نسأل الله لنا ولكم الهداية والسداد. وأجاب في موضع آخر: أما صرف الريالات بالقرانات 2 فحرام صرح، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " الفضة بالفضة مثلا بمثل " 3 وقال: " من زاد أو ازداد فقد أربى " 4 والتفاضل بين الريالات والقرانات معلوم، ولو فرض الجهل   1 ابن ماجه: التجارات (2230) . 2 نقود معروفة, وبعضهم يسميها: غرانات, جمع غران, بتخفيف الراء. 3 الترمذي: البيوع (1240) , وأحمد (5/319) . 4 مسلم: المساقاة (1587) , والترمذي: البيوع (1240) , والنسائي: البيوع (4560 ,4561 ,4562 ,4563 ,4564) , وأبو داود: البيوع (3349) , وأحمد (5/314) , والدارمي: البيوع (2579) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 148 بالتماثل، فالجهل بالتماثل كالعلم بالتفاضل مثلا بمثلا فاشترط لجواز ذلك العلم بالتماثل، وأما صرف الريالات بالجدد، فالذي رأينا من كلام العلماء، في بيع الدراهم المغشوشة بعضها ببعض، أنه لا يجوز إلا إن علم تساويها في الفضة، ونقل غير واحد عن مذهب الحنفية أنهم يجعلون الحكم للغالب، فإن كان غالب الدراهم نحاسا، فهي نحاس تباع بالفضة الخالصة، فعلى هذا يجوز صرف الجدد والمحاليق 1 بالريالات، واقتضاء أرباع القرش عن الريال صرف لا يجوز وإن كان ذلك بهذه الأنصاف الحمر، فأرجو أنه جائز. وأجاب أيضا: وأما صرف الريال بالجدد، فالذي يظهر لي أنه ليس من مسائل مد عجوة، لأن النحاس الذي في الجدد غير مقصود، وإن قيل إن له قيمة، فيجعل في مقابلة وزن نحو سدس جديدة من فضة الريال تبقى، ففضة الريال الكثيرة في مقابلة يسير فضة الجدد، وفي أثناء كلام لشيخ الإسلام تقي الدين - رحمه الله - على نحو هذه المسألة، قال بعد كلام سبق: لو باع حنطة فيها شعير، بحنطة فيها شعير يسير، فإن ذلك يجوز عند الجمهور، وكذلك إذا باع الدراهم التي فيها غش بجنسها، كان الغش غير مقصود، والمقصود بيع الفضة بالفضة، وهما متماثلان، فجعل العلة في الجواز تماثل الدرهمين، فيؤخذ من كلامه: أنه لو فقد التماثل لم يجز.   1 نقود أيضا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 149 وقال أيضا: إذا باع دراهم خالصة بمغشوشة، فإن كانت فضة الدرهم الخالص تزيد على فضة المغشوش زيادة يسيرة، بقدر النحاس الذي في الآخر، جاز ذلك في أحد قولي العلماء، فدل كلامه: أن المسألة ذات قولين، الجواز وعدمه، واقتصاره على حكاية القول بالجواز، دليل على أنه يقول به بشرطه المذكور، وهو: أن فضة الدرهم الخالص، تزيد على فضة المغشوش زيادة يسيرة، بقدر النحاس الذي في الآخر، وهذا مختلف بين الريال والجدد، هذا مع اختياره - رحمه الله - في مسائل مد عجوة: أنه إذا كان المفرد أكثر من الذي معه غيره كمدي بر بمد ودرهم، أو كان مع كل واحد منهما من غير جنسه، كمد ودرهم، بمد ودرهم، وكلامه المتقدم: يدل على أن الدراهم المغشوشة بالفضة المتفاوتة، ليست كهذه المسألة التي اختار جوازها ويستدل لعدم الجواز، بعموم قوله صلى الله عليه وسلم " الفضة بالفضة مثلا بمثل " 1 هذا ما ظهر لي، والله أعلم، والذي يظهر لي، أن صرف الريال بالجدد، يتمشى على مذهب الحنفية، الذين يعتبرون النقود المغشوشة بالغالب، إن كان غالبها فضة فهي فضة، وإن كان غالبها نحاسا فهي نحاس. وأجاب الشيخ: عبد الله العنقري: الذي عنده لآخر ربابي، فدفع إليه ذهبا أو عرضا، أو طعاما أو غير ذلك، من غير الفضة، فهذا لا بأس به بشرط القبض في مجلس العقد.   1 الترمذي: البيوع (1240) , وأحمد (5/319) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 150 سئل الشيخ: عبد الله بن الشيخ محمد: هل تتعين الدراهم والدنانير بالتعيين أم لا؟ وما فائدة الخلاف؟ فأجاب: هذه المسألة فيها روايتان عن أحمد، والمذهب أنها تتعين، وأما فائدة الخلاف، فذكروا له فوائد كثيرة: منها أنه لا يجوز إبدالها إذا عينت، وإن خرجت مغصوبة بطل العقد، ويحكم بملكها للمشتري بمجرد التعيين فيملك التصرف فيها، وإن تلفت فمن ضمانه، وإن وجدت معيبة من غير جنسها بطل العقد، إلى غير ذلك من الفوائد، كما نبه على ذلك في الإنصاف وغيره. وسئل: إذا دفع رجل إلى آخر دراهم صرفا، أو ثمن مبيع ثم مضى بها الذي دفعت إليه، فلما أخذ مدة أتاه بدراهم قد ظهرت زيوفا، فأنكرها فمن القول قوله؟ فأجاب: القول قول الصارف، أو المشتري مع يمينه، فيحلف بالله: لقد أوفيتك الدراهم صحاحا ويبرأ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 151 باب بيع الأصول والثمار سئل الشيخ إبراهيم بن عبد اللطيف: عن نخل اشتري بحقوقه، وفيه منازل ... إلخ؟ فأجاب: أما النخل الذي اشتري بجميع حقوقه وتوابعه، فالمتعارف بين أهل الوقت، أن المنازل من آكد التوابع. سئل الشيخ: عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين: عمن دفع أرضه لإنسان ليغرسها، بما اتفقا عليه من نصيب كل منهما فهل يجوز لصاحب الأرض بيع نصيبه من الغرس، ولو لم تتم المدة التي بينه وبين المغارس؟ فأجاب: يجوز لصاحب الأرض بيع نصيبه من الغرس، ولو لم تتم المدة التي بينه وبين المغارس، لأن بيع المشاع صحيح، والمشتري يقوم مقام البائع، في إلزام العامل بإتمام العمل الذي شرط عليه في العقد، وإذا تلف نصيب الغارس من النخل رفع يده عن الأرض، لأنه ليس له فيها حق، بل لو اشترط في ابتداء العقد، أن له شيئا من الأرض فسد العقد بلا خلاف بين العلماء، والمشتري من مالك الأرض، إن كان الجزء: 6 ¦ الصفحة: 152 إنما اشترى نصيبه من الغرس، فهو صحيح كما ذكرنا، وإن كان الشراء لنصيبه من الغرس، وجميع الأرض، فالذي أرى أنه لا يصح، لأنه ما يمكنه تسليم الأرض والحالة هذه. سئل الشيخ: عبد الله بن الشيخ محمد رحمهما الله: إذا باع رجل على آخر أرضا أو نخلا أو غير ذلك ثم أراد المشتري بيعها على غير من اشتراها منه ... إلخ؟ فأجاب: له بيعها على من شاء من الناس، ولا يلزمه بيعها على من اشتراها منه. وسئل: إذا باع رجل نخلا مؤبرا فأراد مالك الأصل أن يشتري الثمرة قبل بدو صلاحها؟ فأجاب المسألة فيها روايتان الأولى: لا تباع الثمرة قبل بدو صلاحها لنهيه صلى الله عليه وسلم وهي رواية عن مالك وأحد الوجهين للشافعي والثانية: عدم المنع. وأجاب بعضهم: إذا باع نخلا قد تشقق طلعه، ولم يشترط المشتري الثمرة ثم تنازعا بعد ذلك في الثمرة فأكثر أهل العلم على أن الثمر إذا تشقق، ثم بيع النخل بعد ذلك ولم يشترط المشتري الثمرة، فإنها تكون للبائع، سواء أُبِّرت أو لم تؤبر، وبالغ الموفق - رحمه الله - في ذلك، وقال: لا خلاف فيه بين العلماء، وعن أحمد رواية ثالثة: وهو أن الحكم منوط بالتأبير، وهو التلقيح، لا بالتشقق، فعليها لو الجزء: 6 ¦ الصفحة: 153 تشقق ولم يؤبر تكون الثمرة للمشتري، ونصر هذه الرواية الشيخ تقي الدين، واختارها في الفائق. وأما قبل التشقق، فهي للمشتري، وبه قال مالك والليث والشافعي، وقال ابن أبي ليلى هي للمشتري في الحالين، وقال أبو حنيفة والأوزاعي هي للبائع في الحالين، ووجه الأول: ما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من ابتاع نخلا بعد أن تؤبر فثمرتها للذي باعها، إلا أن يشترط المبتاع " 1 وهذا صريح في قول ابن أبي ليلى، وحجة على أبي حنيفة والأوزاعي بمفهومه، لأنه جعل التأبير حدا لملك البائع للثمرة، فيكون ما قبله للمشتري، وإلا لم يكن حدا ولا كان التأبير مفيدا. وسئل الشيخ: عبد الرحمن بن حسن: عن استثناء حمل النخل قبل اطلاعه. فأجاب: وأما استثناء حمل النخل قبل اطلاعه، فالذي ظهر لنا أن ذلك غير صحيح لشبهه بالمعدوم، وأما ما استدل به القائل من عبارة شرح الإقناع، فلعدم فهمه لعبارته، وليست عبارته مخالفة لعبارة الأصحاب، ومراده- والله أعلم- أن قوله قبل ظهوره من غلافه، أي: كافوره، أي قبل تشققه وتلقيحه. سئل الشيخ: محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - عن بيع الثمر قبل الجذاذ هل يلزم ولو لم ينقد الثمن؟   1 البخاري: البيوع (2204 ,2206) , ومسلم: البيوع (1543) , والترمذي: البيوع (1244) , والنسائي: البيوع (4636) , وابن ماجه: التجارات (2210) , وأحمد (2/54 ,2/82) , ومالك: البيوع (1302) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 154 فأجاب: أما الذين يبيعون الثمر وقت الجذاذ يصح البيع ولو لم ينقد الثمن، ولم يقبض المشتري الثمر فهو لازم ولو ما نقد، لأنه إذا خلى بينه وبينه فهذا قبض. وسئل ابنه الشيخ عبد الله: عن بيع الثمرة قبل بدو صلاحها؟ فأجاب: أما بيع الثمرة قبل بدو صلاحها فهو منهي عنه، فإن فعل فهو فاسد ويرد الثمن إلى المشتري، ويلزم الإنكار على من فعله والثمرة إذا بيعت في رؤوس النخل ثم حدث بها عيب لم تجر به العادة مثل ";السعيف" 1 الكثير، و "الخنان" 2 فهذا من ضمان البائع، وتثبت الجائحة عليه، يطالبه المشتري بذلك، وأما بيع العنب رطبا فلا بأس به إذا بدا منه الصلاح. وأجاب الشيخ عبد الله أبا بطين: وأما إذا باع الثمره بعد بدو صلاحها بشرط القطع، فقدم في الشرح وغيره: يجوز هذا الشرط، وهو ظاهر، إذا تلفت والحالة هذه، فإن كان تلفها قبل تمكين المشتري من أخذها، فهي من ضمان بائع، وإن كان تلفها بعد التمكن من أخذها، فهي من ضمان مشتر لتفريطه، وقد صرح الأصحاب: فيما إذا اشترى ثمرة قبل بدو صلاحها بشرط القطع، فتلفت بجائحة سماوية بعد تمكنه   1 التواء ويبوسة قبل وقت اليبوسة. 2 مرارة يعسر معها الابتلاع. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 155 من قطعها، فهي من ضمانه، وإن تلفت قبل تمكنه من قطعها، فهي من ضمان بائع، لعموم الحديث؛ وصرحوا أيضا فيما إذا اشتراها بعد بدو الصلاح، ولم يشترط القطع في الحال، بأنها من ضمان بائع، ما لم يؤخرها المشترى عن وقت أخذها المعتاد، فإن أخر أخذها عن الوقت المعتاد، فالثمرة التالفة من ضمان مشتر لتفريطه. وسئل: عن رجل اشترى ثمر نخلة ثم خرفها نحو ثلاث خرفات ثم أهضبت 1 فأراد الفسخ، فأبى البائع وقال: اخرفها، وأبدله تمرا صحيحا وهل يقبل قوله في قدر ما خرف؟ فأجاب: الظاهر أن للمشتري الفسخ، وأن القول في قدر الذي أخذ من النخلة قوله بيمينه لأنه غارم، والقول قول الغارم بيمينه، وذلك حيث لا بينة لأحدهما. وأجاب بعضهم: إذا باع رجل ثمرة بعد بدو صلاحها، بشرط القطع لنفي الضمان لا حقيقة الشرط، فإن مثل هذا الشرط الذي لا يقصد المتعاقدان حقيقته، وإنما قصدوا إبطال ما أثبته الله ورسوله، من وضع الجائحة، لأن المقصود إلى العقود معتبر، والأعمال بالنيات، ومن اشترط شرطا يخالف حكم الله ورسوله فهو باطل، وإن كان مائة شرط، وكذلك إذا   1 الهضاب, والسعيف, عند أهل نجد, بمعنى: التواء ويبوسة قبل وقت اليبوسة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 156 اشترط شرطا لا حقيقة له، وإنما قصده ونيته غير الشرط، وقد ذكر الشيخ تقي الدين، وتلميذه ابن القيم من ذلك صورا كثيرة. سئل الشيخ: عبد الله بن الشيخ محمد عمن اشترى ثمر نخلة بآصع بر معلومة، وأسلمها في مجلس العقد وهو يريد نخلة مقيظا ولا يقدر ... إلخ؟ فأجاب: الذي يظهر أن ذلك لا يجوز، إلا بشروط، على ما ذكر أهل العلم في شروط العرية; وأما إذا كان عنده ثمن غير البر من الأثمان أو العروض، فالذي يظهر: أن ذلك لا تجوز له العرية، وأما إذا لم يكن عنده غير العيش، وتمت الشروط التي ذكر أهل العلم فإنه جائز. وسئل: عن بيع الزرع الأخضر، لمالك الأرض؟ فأجاب: هو كبيع الثمر، على روايتين، منهم من قال بالصحة، ومنهم من لم يقل، وممن قال بالصحة أبو الخطاب; وبيع الزرع قبل حصاده بالدراهم إذا اصفر جائز. وسئل أيضا: إذا باع رجل على آخر زرعا أخضر أو أثلا ونحوه، بشرط جزه في الحال إلخ؟ فأجاب: إذا باعه بشرط القطع، ثم تركه المشتري حتى بدا الصلاح، أو طالت الجزة، أو زادت قيمة الأثل، أو حدثت ثمرة أخرى فلم تتميز أو اشترى عرية ليأكلها رطبا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 157 فأتمرت، فالظاهر أنه يبطل البيع في الرواية الأولى، والثانية لا يبطل البيع، ويشتركان في الزيادة، والرواية الثالثة يتصدقان بالزيادة، وأما بيع غلة الأرض سنين معلومة فهذا لا يجوز ولا يصح. وأجاب الشيخ: سعيد بن حجي: إذا كان لرجل أرض، وفيها قطن وخضراوات، فلا أعلم شيئا يدفع صحة البيع، إذا بيع من أصوله، لكن الزرع الأخضر لا يجوز بيعه منفردا، إلا بشرط قطعه في الحال. وأجاب بعضهم: وأما بيع الزرع فلا يجوز قبل اشتداد حبه، إلا بشرط القطع في الحال، لما روى مسلم: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع السنبل حتى يبيض ويأمن العاهة " 1 نهى البائع والمشتري، قال ابن المنذر: لا أعلم أحدا يعدل عن القول به، نعم لو باعه مع الأرض جاز. وأما بيعه منفردا لمالك الأرض، فوجهان، أحدهما: يصح وهو المشهور عن مالك، والثاني: لا يصح لأنها تدخل في عموم النهي، بخلاف بيعهما معا، وبيع القت قبل تمامة، فمتأخروا الفقهاء منعوا من ذلك، قال في الإقناع وشرحه: وكذا حكم رطبة وبقول، فلا يباع شيء منها منفردا بعد بدو صلاحه، إلا جزة جزة، بشرط جزه أي قطعه في الحال، لأن الظاهر منه معلوم لا جهالة فيه ولا غرر، بخلاف ما في الأرض، فإنه مستور مغيب، وما يحدث منه مجهول فلم يجز   1 مسلم: البيوع (1535) , والترمذي: البيوع (1227) , والنسائي: البيوع (4551) , وأبو داود: البيوع (3368) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 158 بيعه، كالذي يحدث من الثمرة، انتهى، قال ابن أبي عمر: ولا يجوز بيع الرطبة والبقول، إلا بشرط جزه، ولا القثاء ونحوه إلا لقطة لقطة، إلا أن يبيع أصله، ورخص مالك في شراء جزتين وثلاث، انتهى. وقال الشيخ - رحمه الله -: يجوز بيع اللقطة الموجودة والمعدومة إلى أن تيبس المقثاة قال ابن القيم - رحمه الله -: ليس في كتاب الله ولا سنة رسول الله جمعه ولا في كلام أحد من الصحابة، أن بيع المعدوم لا يجوز، لا بلفظ عام ولا بمعنى خاص، إنما في السنة النهي عن بيع بعض الأشياء التي هي معدومة، وفيها النهي عن بيع بعض الأشياء الموجودة، فليست العلة في المنع العدم ولا الوجود بل الذي وردت به السنة النهي عن بيع الغرر، وهو ما لا يقدر على تسليمه، سواء كان موجودا أو معدوما- إلى أن قال- وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم هبة المشاع المجهول في قوله لصاحب كبة الشعر، حين أخذها من المغنم، وسأله أن يهبها له فقال: " أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لك " 1 انتهى. فكلام ابن القيم يؤيد قول مالك، وقول شيخه - رحمه الله -: أن بيع الرطبة ونحوها جائز، لأنه وإن كان معدوما فليس فيه غرر، لأنه يقدر على تسليمه فلا غرر. وأجاب بعضهم: اعلم أن في هذه المسألة قولان للعلماء، أحدهما: أنه لا يجوز حتى يقلع، كما هو مذهب الشافعي، ورواية عن أحمد، قالوا: لأن هذه أعيان غائبة لم   1 أبو داود: الجهاد (2694) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 159 ترَ، الثاني: جواز بيعه وإن لم يقلع، وهذا هو الصواب، لأن هذا ليس من الغرر، بل أهل الخبرة يستدلون بما ظهر من الورق على المغيب في الأرض، كما يستدلون بما يظهر في العقار من ظواهره على بواطنه، وكما يستدلون أيضا بما يظهر من الحيوان على بواطنه، ومن سأل أهل الخبرة أخبروه بذلك، والمرجع في ذلك إليهم.. وأيضا: العلم بالمبيع شرط في كل شيء بحسبه، فما يظهر بعضه وكان في إظهار باطنه مشقة إذا خرج، اكتفى بظاهره، كالعقار، فإنه لا يشترط رؤية أساسه ودواخل الحيطان، وكذلك الحيوان وأمثال ذلك، وأيضا: إن ما احتيج إلى بيعه، فإنه يسوغ فيه ما لا يسوغ في غيره، فيبيحه الشارع للحاجة مع قيام السبب، كما رخص في العرايا بخرصها، وأقام الخرص مقام الكيل بجنسه إذا، ولم يكن ذلك من المزابنة المنهي عنها. سئل الشيخ: عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين - رحمه الله -: عن بيع المخاضرة والمعاومة؟ فأجاب: بيع المخاضرة، هو بيع الزرع الأخضر قبل اشتداد حبه، وبيع المعاومة نحو: أن يشتري منه ثمرة هذا النخل سنتين أو أكثر، وبيع الثمرة قبل بدو صلاحها ظاهر. وسئل: عمن ساقى على نخل وعمل فيه مدة، ثم جاء الجزء: 6 ¦ الصفحة: 160 آخر فاشترى منه عمله في سقيه للنخل تلك المدة، ونزل منْزلته في المساقاة؟ فأجاب: إن كانت الثمرة قد ظهرت، فإنه لا يجوز بيعها، لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها، إلا إن باعها لمالك الأصل، فيصح على الصحيح من المذهب، وإن كانت الثمرة لم تظهر فباع عمله وتعبه. فقد نص الإمام أحمد على أنه لا يجوز للمزارع بيع عمله قبل ظهور الزرع، قال لأنه لم يجب له شيء. وسئل الشيخ: عبد الله بن ذهلان: عن بيع العامل تعبه إذا أراد الظهور؟ فأجاب: بأن ذلك لا يصح، لكن إذا كانت المساقاة صحيحة، فعليه تمام العمل، قال: فلو دفع إليه شيئا وقال أنا أقوم مقامك، ثم يتحاسبان صح ذلك، انتهى. فليتأمل قوله ثم يتحاسبان، ولعل مراده: أنه إذا دفع إليه شيئا ثم حاسبه بعد ذلك بما غر في سقيه، ويحسبه مما دفع إليه، فيصح على هذا الوجه لا على وجه البيع. وسأل الشيخ: عبد الله بن حمد الحجازي الشيخ إبراهيم بن عبد اللطيف: عن رجل أخذ آصعا يبذرها وله نصف، ولصاحب البذر النصف وقال كل منهما من يعطيني قدر تعبي وذهابي وأجرة الأجير، وله نصيبي من الزرع؟ فأجاب: وما ذكرت من المسألة وفتواك فيها، فالظاهر الجزء: 6 ¦ الصفحة: 161 صحة ما أفتيت به من عدم صحة البيع، وأنه داخل في بيع الزرع الذي لا يجوز بيعه إلا بشرط القطع، والإشكال الواقع في نفسك، إن كان بسبب كلام لأحد من أهل العلم فاذكره لي، لأن هذه المسألة كثيرة الوقع. وسئل الشيخ: حسن بن حسين بن علي عن النماء المنفصل في ثمرة النخل؟ فأجاب: الظاهر أنه وجود الطلع، وقبله نماء متصل، وفي ذلك خلاف مشهور قرره الشيخ منصور في حاشيته. سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد رحمهما الله: هل صلاح بعض الشجر صلاح لكل نوع؟ فأجاب: هذه المسألة على روايتين، والصحيح أن صلاح البعض صلاح للكل. وأجاب الشيخ عبد الرحمن بن حسن: وأما قوله في النخل: أن تحمار وتصفار فهو الذي تراه بعينك، انقلابه بعد الخضرة إلى الحمرة والصفرة. سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ: عن بيع القطن وهو في رؤوسه قبل أن يخرج؟ فأجاب لا يجوز حتى يتبين صلاحه ويزول عنه الغرر. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 162 باب السلم سئل الشيخ: حسن بن حسين بن الشيخ محمد رحمهم الله: إذا دخلت باء البدلية على الْمُسْلَم فيه وكان بلفظ البيع هل يكون بيعا أم سلما؟ فأجاب: اعلم أن أصل تأسيس القاعدة المذكورة اختلاف وقع في الثمن، هل هو النقد أو ما اتصلت به الباء؟ وإن كان أحد العوضين نقدا فهو الثمن وإلا يكن فأدخلت عليه الباء، فيه أقوال ثلاثة إذا عرفت ذلك، فالمذكور سلم لأنا إن قصرنا القاعدة على بيوع الأعيان دون غيرها بقرينة ذكرهم لها في قبض المبيع أو التصرف للاحتياج فيها أي في بيوع الأعيان إلى تمييز الثمن من المثمن المعينين الحاضرين، فهي لا تتناول عقد السلم، ويرجحه ما نبه عليه بعضهم من أن قواعد الأصحاب كلية وأكثرية، وإن لم نقصر القاعدة على بيوع الأعيان، لكوننا لم نجده صريحا في كلامهم، وإن صرح به غيرهم في قولهم: لما تساوى الثمن المعين والمبيع، احتيج إلى معرفة الثمن من المثمن بالباء، انتهى، فالذي أظهره إمام التصحيح في التنقيح، أولى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 163 بالترجيح، حيث قال: وقيل إن كان أحدهما نقدا فهو الثمن، وإلا تميز بالباء، وهو أظهر. سئل الشيخ: سليمان بن الشيخ عبد الله بن محمد رحمهم الله: عن السلم في الجدد؟ فأجاب: وأما السلم فيها أي: الجدد المغشوشة، فلا يجوز لوجهين، الأول: أن السلم لا يجوز إلا فيما يمكن ضبطه، وهي لا يمكن ضبطها إذ هي تختلف بالصغر والكبر، والطول وصفائها، وخضرتها، وقلة الفضة وكثرتها والثاني: أن فيها فضة، ولا يجوز إسلام أحد النقدين في الآخر. وسئل الشيخ: عبد الله أبا بطين: هل يصح السلم بالعروض كحيوان وغيره؟ فأجاب: يجوز جعل رأس مال السلم عرضا من العروض، على الصحيح. سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد رحمهما الله: عمن أسلم إلى آخر في عناقين ... إلخ؟ فأجاب: وإذا دين ريالا في ذمة رجل في عناقين، موصوفة بالسن والأجل، فلا بأس به، وأما شراء اللبن في الضرع فلا يجوز، إلا أن يباع كيلا معلوما في ذمته. وأجاب بعضهم: وأما إذا باع رجل على آخر سلعة، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 164 بغنم مؤجلة من الربيع ونحوه، وهي مسننة، فهذا بيع صحيح إن شاء الله. سئل الشيخ: حمد بن ناصر عن البعير بالبعيرين أو أقل أو أكثر إلى أجل؟ فأجاب: بعض العلماء كره ذلك، وكثير منهم لا يرى بذلك بأسا لما روي: "أن عليا باع بعيرا يقال له "عصيفير" بأربعة أبعرة إلى أجل معلوم". سئل الشيخ: محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف عمن أسلم في الحيوان على الوصف المشروع ولم يوجد في وقته عند من استلم سنه، وعنده أسن منه، هل يأخذه المسلم بزيادة قيمته أم لا؟ فأجاب: لا يأخذه المسلم بزيادة يدفعها إلى المسلم إليه بل له أخذه مجانا. سئل الشيخ: حسن بن حسين بن الشيخ: عمن أسلم عجلا في بقرة موصوفة، فلما حل الأجل وجدت الصفة في عين رأس المال، هل يجزي دفعه ويلزم قبوله؟ فأجاب: إذا اتحدا صفة، ولم يفعل ذلك حيلة لينتفع بالعين، أجزأ ولزم قبوله، قطع به في الإقناع. سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عمن أسلف لرجل في حمل حيوان معين؟ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 165 فأجاب: هذا لا يصح في أصح الوجهين، للجهالة، ولأن الصفة لا تأتي عليه. سئل الشيخ: محمد بن عبد الوهاب: عن السلم في التمر ... إلخ؟ فأجاب: ما ذكرت من جهة السلم في التمر، وقولك أرجو صحته فى التمر والعيش، كأن عليك فيه إشكالا، فالذي نفتي به قلة التفريق بين التمر والعيش، والسلم في الكل صحيح إن شاء الله، إذا كان وزنا معلوما، وكيلا معلوما، إلى أجل معلوم، وأما الشروط: فليس إلا العرف، 1 إذا صار أن العيش يوفي الدّيّان عن ديّانه، فلا للديان إلا هو، وكذا شرط الوفاء من هذا النخل، قال صلى الله عليه وسلم للذي أراد تعيين وفائه من نخل بني فلان "أما من نخل بني فلان فلا، ولكن وزنا معلوما، أو كيلا معلوما". وأما إذا أسلم في ذمته، وأوثقه ثمرة نخله، أو وعده الذي يأتيه من هذا الرجل، أو من هذا المغل، فلا بأس، لأنه يعطيه إن جاء منه، وأكثر الواقع: أنه يدين الإنسان في ذمته، ولا يعين النخل ويوثقه الثمرة، ويعرف أنه إن أغل أخذ ثمرته، وإن لم يغل فمن غيره، فيبين عدم التعيين، والفرق بين الذمة ونخل بني فلان.   1 إذا قال أهل الخبرة: هذا من الوسط الذي تبرأ به الذمة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 166 سئل الشيخ: عبد الله الخليفي عن السلم في السنبل، هل يجوز أم لا فأجاب: الظاهر عدم الصحة، لأن من شروط السلم معرفة قدر المسلم فيه، وصفته، وأن ينضبط بالصفة، والسنبل معدوم فيه ذلك، لأنا نعلم أن الكعب ليس مقصودا لذاته في السلم قطعا، وليس بقليل يعفى عنه، مع أنه لو قصد لا ينضبط. وأما الحب الذي في باطنه، فلا يعلم قدره ولا صفته إلا بعد تصفيته من الكعب، مع أن السلم في ذلك، إما بالوزن أو الكيل، والسنبل لا يتحقق فيه الكيل ولا الوزن، هذا الذي يظهر مما ذكر الفقهاء رحمهم الله، في باب السلم. قال في المغني والشرح الكبير: ولا يسلم فيه- أي البر- إلا مصفى، وكذلك الشعير ... إلى آخر عبارته، وقال في الإقناع وشرحه: ولا يسلم فيه- أي البر- إلا مصفى من تبنه وعقده وكذلك الشعير ... الخ، والله أعلم. سئل الشيخ: عبد الله أبا بطين: هل يصح السلم في السمن بمطعوم، مكيل أو موزون؟ فأجاب: إن قلنا إن السمن موزون، جاز أن يسلم فيه بمكيل، وإن قلنا إنه مكيل، جاز أن يسلم فيه بموزون، وبعض الأصحاب يقولون: إن السمن إذا كان جامدا موزون، وإن كان مائعا فهو مكيل، فعلى هذا إن أسلم مكيلا في الجزء: 6 ¦ الصفحة: 167 سمن، اشترط أن يقبضه جامدا وزنا، إن أسلم فية موزونا، اشترط أن يأخذه مائعا كيلا، هذا الذي يظهر، بناء على المشهور في المذهب، من أنه يجوز بيع المكيل بالموزون نسيئة، وعلى القول الآخر: لا يجوز مطلقا. سئل الشيخ: عبد الله بن عبد اللطيف: هل يصح السلم في الصمغ؟ فأجاب: يجوز لأنه يضبط بالصفة. سئل الشيخ: محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله -: عما إذا وعده أن يوفيه قبل الأجل ... إلخ؟ فأجاب: وأما السلعة التي تباع بعشرة، ويعده الوفاء قبل الأجل، فلا علمت به بأسا. سئل ابنه الشيخ عبد الله: إذا أسلم إنسان إلى آخر شيئا، وشرط إن كان من هذه السنة فعلى كذا ... إلخ؟ فأجاب: إذا أسلم إلى آخر دراهم معلومة، وشرط إن كان من هذه السنة فعلى ثمان، وإن كان من السنة التي بعدها فعلى عشر، ولم يقطع الخيار في مدة قريبة، بل علق إلى حصول الثمرة الأولى، فهذا لا يجوز عند جمهور العلماء، من الحنابلة وغيرهم، وذكروا: أن هذا بيعتان في بيعة. وسئل: عن الأجل إلى الجذاذ والحصاد؟ فأجاب: وأما الأجل إلى جذاذ الثمرة والحصاد، ففي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 168 هذه المسألة عن الإمام أحمد روايتان، إحداهما: لا يجوز، والثانية: يجوز إلى الحصاد والجذاذ، وإن منعناه في المجهول، لأنه في العادة لا يتفاوت كثيرا، قال في الإنصاف: وهو الصواب، قلت: فأما الأجل إلى فتح بغداد والبصرة، فلا يجوز. وأجاب أيضا: وأما إذا باع إلى الحصاد والجذاذ، فهذا لا بأس به إن شاء الله تعالى، لازم للأجل المعلوم عند بعض أهل العلم، واختلافه يسير. سئل الشيخ: محمد بن ناصر بن معمر: إذا اختلفا في حلول الأجل، من القول قوله؟ فأجاب: القول قول المسلم إليه، لأنه منكِر والأصل معه، إذ الأصل في السلم التأجيل. وهذا بخلاف الأداء، إذا قال المسلم إليه: أديت إليك دينك، فإن القول قول المسلم، لأنه منكر والأصل معه، وهو ثبوت الدين في ذمة المسلم إليه، انتهى. قال الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد رحمهما الله: (أحل الله البيع وحرم الربا) على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم فينبغي لكل مؤمن أن يسأل عما أحل الله في البيع وحرم فيه، ومنه الأمور المحرمة في البيع، إذا أراد تاجر أن يسلم إلى كدّاد، أسلم إليه في نخل معين، ولا يحصل له من غيره، إن أوفاه حاصل النخل إلا صبر إلى السنة الأخرى، وهذا أمر ممنوع في الجزء: 6 ¦ الصفحة: 169 الشرع، فإذا فعله أحد فسد بيعه وشراؤه، وليس له إلا رأس ماله، فإن رهن النخل وأسلم عليه في ذمته فلا بأس، فإن رهن الثمرة قبل ظهورها فلا يصح ذلك، والجائز أن يسلم عليه في ذمته، ويسترهن نخله أو مكدته، والذين يفعلونه بعد ما نبهناكم وبان لهم أنه ما يجوز، يستحقون الأدب البليغ. وأجاب الشيخ سعيد بن حجي: إذا أسلم في ثمرة بستان بعينه، أو قرية صغيرة، أو في نتاج فحل بني فلان أو غنمه، لم يصح، لأنه لا يؤمن تلفه وانقطاعه، أشبه ما لو أسلم في شيء قدره بمكيال معلوم، أو صنجة بعينها، ودليل الأصل: ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أسلف إليه يهودي، من ثمر حائط بني فلان، فقال النبي صلى الله عليه وسلم "أما من حائط بني فلان فلا " رواه ابن ماجه، ورواه الجوزجاني في المترجم، وقال: أجمع العلماء على كراهة هذا البيع، قال ابن المنذر: المنع منه كالإجماع، لاحتمال الجائحة، ونقل أبو طالب وغيره: يصح إذا بدا صلاحه واستحصد، ويعارضه ما سب، انتهى من المبدع. وعبارة الشرح الكبير: وقال ابن المنذر إبطال السلم إذا أسلم في ثمرة بستان بعينه، كالإجماع من أهل العلم، منهم الثوري ومالك والشافعي والأوزاعي، وأصحاب الرأي، انتهى، وذكر في الكافي وغيره نحو ذلك، فقد علمت: أن المسؤول عنه ليس بصحيح، وأن الخلاف فيه ضعيف، والله أعلم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 170 وأجاب بعضهم: من أسلم في ثمرة نخل بعينه ست سنين فالسلم والحالة هذه باطل، قال ابن المنذر إبطال السلم إذا أسلم في ثمرة بستان بعينه كالإجماع من أهل العلم، وممن حفظنا ذلك عنه الثوري ومالك والأوزاعي والشافعي وإسحاق، وأصحاب الرأي، قال: وروينا عن النبي صلى الله عليه وسلم "أنه أسلم إليه رجل من اليهود، دنانير في ثَمر مسمى، قال اليهودي من ثمر حائط بني فلان، فقال النبي صلى الله عليه وسلم أما من ثمر حائط بني فلان فلا، ولكن كيل مسمى إلى أجل مسمى" رواه ابن ماجه وغيره، ورواه الجوزجاني في المترجم، وقال: أجمع الناس على الكراهة لهذا البيع. وأجاب الشيخ عبد الله أبا بطين: وأما السلم في ثمرة نخل بعينه، أو زرع بعينه، فهذا لا يجوز، بل لا بد أن يكون السلم في ذمته، وإن أسلم إليه في ذمته، واشترط عليه أن يعطيه من ثمرة نخله أو زرعه، فقد أجاز الشيخ تقي الدين هذا الشرط، وأما منع السلم في زرع غير معلوم، أو كيل غير معلوم، فلما فيه من جهالة المسلم فيه، ومن شروط السلم ما في الحديث " من أسلم في شيء فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم، إلى أجل معلوم ". تعذر التسليم في السلم سئل الشيح عبد الله بن الشيخ: إذا تعذر تسليم المسلم فيه، فهل ينفسخ بنفس التعذر؟ فأجاب: إذا تعذر تسليم المسلم فيه، ففيه روايتان، إحداهما: أن المسلم بالخيار بين الصبر، وبين أخذ الثمن إن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 171 كان موجودا، وإلا فمثله إن كان مثليا. والثانية: أنه ينفسخ بنفس التعذر، والرواية الأولى أظهر. وأجاب الشيخ حسن بن حسين بن الشيخ: إذا أسلم إلى محل يوجد فيه عاما، فانقطع وتحقق بقاؤه لزم تحصيله ولو شق، كبقية الديون، وإن تعذر أو بعضه بأن لم يوجد، خير المسلم بين الصبر إلى وجوده، أو الفسخ ويرجع برأس ماله إن وجد، أو عوضه إن عدم، هذا حكم المسألة، لكن الذي أرغب الناس فيه: ترك المضايقة في ذلك، والتجاوز في التقاضي كما ورد. الإعتياض عن دين السلم سئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن: إذا أسلم إلى آخر في طعام معلوم، ثم طلب منه أن يبيع عليه أرضا يملكها، بدين السلم المذكور في مجلس عقد السلم؟ فأجاب: لا يصح البيع المذكور، لأنه اعتياض عن دين السلم قبل قبضه، وهو غير صحيح. وسئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عمن أسلم إلى آخر دراهم في طعام، وخاف عدم الوفاء، فاشترى منه شيئا بثمن مؤجل بأجل دين السلم، مراده: إن لم يحصل وفاء، اقتضى حقه من ثمن ذلك المبيع. فأجاب: إن كان هذا المبيع مشروطا مع عقد السلم، فالسلم صحيح، وأما البيع فليست صورته صورة خيار، وإنما الجزء: 6 ¦ الصفحة: 172 هو تعليق للبيع على شرط عدم وفاء دين السلم، وتعليق البيع على شرط مستقبل، لا يصح عند الجمهور. وسئل أيضا: الشيخ عبد الله أبا بطين: عمن استدان سلما أو غيره، ورهن نصيبه من الثمرة، ثم احتاج إلى زيادة مؤنة فأتى إلى المسلم في الثمرة، وقال: أقرضني أو أسلم علي، وإلا استلمت من غيرك وقدمته في الثمرة الموجودة، والثمرة لا تفي بجميع ذلك؟ فأجاب: الذي أرى - والله أعلم- أنه يؤمر المرتهن بتقويم الكداد ببيع أو نحوه، دفعا لضرره، إن لم يخف فوات مال المرتهن المقوم عند الكداد، فإن خيف فوات مال المقوم، فلا يُزال الضرر بالضرر، فإما أن يقال للكداد ساق على كدك، أو استأجر من يسقيه ويقوم عليه، وكذلك إذا عجز المقوم بأن لم يبق في يده ما يخرجه على الفلاح، فإما أن يترك له بعض الكد، ويترك بعضه لمن يقوم بقية المدة، أو نحو ذلك مما يزال فيه ضرر الكل. وأما قول بعض الناس للمقوم، إذا عجز أو خاف تلف ماله: أنفق وإلا قدمنا عليك من يقوم الكد، فليس هذا بصواب; كيف يزال ضرر الكداد، بضرر غريمه المنفق عليه؟! والذي نرى في مثل هذا: النظر إلى حال الاثنين، ودفع الضرر مهما أمكن عنهما، ولا يزال ضرر أحدهما بارتكاب ضرر الآخر. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 173 رأس مال السلم سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد - رحمه الله -: إذا أراد أن يسلم إلى آخر دراهم، وعرفا السعر ودفع المسلم بعض الدراهم إلى المسلم إليه، وبعضها أعطاها أجير المسلم إليه أو غريمه، أو تقاولا على سعر وفرقها أو استوفى بها ... إلخ؟ فأجاب: إذا أراد إنسان أن يسلم إلى إنسان مائة مثلا، أو ساومه وعرفا السعر، ثم دفعها إليه متفرقة، أو أعطاها أجيره أو غريمه، فاعلم أن الذي عليه جمهور العلماء، أن من شرط صحة السلم: قبض رأس المال في مجلس العقد، فإن تفرقا قبل القبض بطل العقد، فإن أخر رأس المال في مجلس آخر، وتراضيا على إمضاء العقد، وأسلمها إليه صح ; فإن أسلم إليه بعض الدراهم، صح فيما أسلم إليه، وبطل فيما لم يقبض، فإذا أحضره بعد ذلك، ودفعه إلى المسلم إليه، وقبله، صح كالذي قبله، وأما إذا لم يكن أسلم إليه رأس المال، بل دفعه إلى أجير المسلم إليه أو غريمه، ولم يقبضه المسلم إليه، فإن ذلك لا يصح عند الجمهور. وأجاب أيضا: لا بد من قبض رأس مال السلم في مجلس العقد، فإن تفرقا قبل قبضه لم يصح، وهذا مذهب أبي حنيفة والشافعي، وقال مالك: يجوز أن يتأخر قبضه بيوم أو يومين أو ثلاثة، وأكثر، ما لم يكن شرطا. وسئل الشيخ حمد بن ناصر: إذا افترقا في بيع السلم قبل قبض الثمن ... إلخ؟ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 174 فأجاب: وأما إذا طلب رجل من آخر، أن يسلم إليه، فلما كان بعد ذلك بيوم جاءه بالدراهم، يريد أن يسلم إليه، فأبى وقال: بدا لي، فإنه لا يلزمه ذلك، لأنه لابد من قبض رأس مال السلم في مجلس العقد، فإن تفرقا قبل قبضه لم يصح، وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي; ومالك: يجوز أن يتأخر بعد يوم أو يومين وأكثر، ما لم يكن ذلك شرطا. وأجاب الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين: وأما إذا باع إنسان على آخر طعاما بالكيل، وهو موصوف في الذمة، فيشترط لصحته قبض الثمن في المجلس، لئلا يصير بيع دين بدين، وإن كان الطعام ليس في الذمة، بل هو موجود في منْزل صاحبه، وباع هذا الطعام المعين بكيل معلوم، والمشتري قد رآه أو وصف له، فهذا يصح العقد فيه، وإن لم يقبض الثمن في المجلس، ويلزم العقد فيه بالتفرق من المجلس. وسئل: عمن أقرض رجلا دراهم، ثم أسلم المقترض إلى غريمه دراهم في طعام، يوفيه بها عن القرص؟ فأجاب: هذا يمنع منه، لأن هذا يتخذ وسيلة إلى أن يسلم إليه الذي في ذمته، فلما علموا أن هذا لا يجوز، وهو إسلام ما في الذمة، اتخذوا هذا حيلة، ولو لم يكن ذلك مقصودا لهما، فإن هذا من باب سد الذرائع عن التحيل إلى إسلام ما في الذمة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 175 وسئل: عمن استسلم من آخر دراهم، ثم اشترى بها منه طعاما ... إلخ؟ فأجاب: إن كان بشرط أو مواطأة فلا يجوز، وأما إذا أخذ الدراهم وذهب ليشتري بها من غيره، فلم يجد عند غيره شيئا ثم رجع فاشترى منه، فلا بأس بذلك. وسئل: إذا أسلم إلى آخر، مثل ما أسلم فلان ... إلخ؟ فأجاب: إذا أسلم رجل على آخر، مثل ما أسلم فلان فهذا سلم فاسد، بل لا بد من تقديره بالكيل، أو الوزن في مجلس العقد، والحديث الصحيح نص في ذلك، وأما ما ذكره الشيخ تقي الدين، وابن القيم رحمهما الله: من صحة البيع بما ينقطع به السعر، وبما باع به فلان، فلا يقولان بذلك في السلم فيما أظن، لأنهما إنما ذكرا ذلك في البيع فقط، مع أن الشارح قال: لا نعلم في اشتراط ذلك خلافا. سئل الشيخ: سليمان بن عبد الله بن الشيخ، عن الجدد المغشوشة، هل تصح رأس مال سلم؟ فأجاب: وأما جعلها رأس مال سلم، فيصح ذلك لانتفاء المانع، لأنها معلومة. سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عن جعل رأس مال السلم عرضا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 176 فأجاب: يجوز جعل رأس مال السلم عرضا من العروض، على الصحيح. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 177 فصل (بعض صور المعاملات الربوية) قال الشيخ: حسن، وإبراهيم وعبد الله وعلي: أبناء الشيخ محمد، رحمهم الله: ومنها- أي المعاملات الربوية- ما يجري في بعض البلدان، إذا حل دين السلم باعه صاحبه على الذي هو في ذمته قبل قبضه فيبيعه ويربح فيه، وهو لم يقبضه؟ وهذا لا يجوز، لأنه قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن بيع الطعام قبل قبضه: ولا فرق بين من هو عليه وغيره، وفي الحديث الآخر عن النبي صلى الله عليه وسلم " أنه نهى عن ربح ما لم يضمن " 1 فإذا باع إنسان طعاما على بائعه، فقد باعه قبل قبضه، وحصل له ربح في طعام لم يدخل في ضمانه، فصار في هذا مخالفا لما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم من البيع قبل القبض، وأخذ ربح ما لم يضمن. وأجاب أيضا: الشيخ عبد الله: وكذلك إذا حل أجل التمر، وعرف أنه إن أراد أن يأخذ تمره من الكداد، لم يحصل له، وخاف أن يقول إن أخذت تمري وقفت، فإذا تحقق أنه لا يحصل له تمر يأخذه، قال اشتره مني، وجاءه التاجر في نخله، ووزنه ورده عليه، وهذه من الحيل الباطلة، المفضية إلى الربا، فالتمر إذا حل ينبغي أن ينظر في حال ديّانه، فإن علم منه أنه يوفيه تمره بتمامه، ولو ما باع عليه منه   1 الترمذي: البيوع (1234) , وأبو داود: البيوع (3504) , وابن ماجه: التجارات (2188) , وأحمد (2/205) , والدارمي: البيوع (2560) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 177 شيئا، ووزن له وصار مالا للتاجر، إن أراد أخْذَه، أخذه ونقله من عنده، فهذا لا بأس أن يبيعه عليه بعد قبضه، وإن كان ما يحصل له أن ينقله، وعرف أنه إن لم يبعه، عليه لم يوفه، فهذا لا يجوز بيعه، فإن باعه فهو بيع فاسد، والحيل ما تحل الحرام، ولا تجوز في أمور الدين. وأجاب أيضا: إذا كان لإنسان عند آخر تمر، فباعه على الذي هو في ذمته قبل قبضه، فهو بيع فاسد بالسنة الثابتة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه " نهى عن بيع الطعام قبل قبضه " وهو عام في النهى عن بيعه ممن هو عليه، أو من أجنبي، ولأنه إذا باعه لمن هو في ذمته، فقد ربح فيما لم يدخل في ضمانه، وقد ثبت في السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن ربح ما لم يضمن، وحكى في المبهج رواية عن أحمد: أنه يجوز بيعه من بائعه قبل قبضه، رواية ضعيفة في المذهب، لأنها تخالف ظاهر السنة، وتخالف ما عليه الجمهور، بل أكثر العلماء: أنه لا يجوز الاعتياض عن المسلم فيه قبل قبضه قال في المغني: فأما بيع المسلم فيه من بائعه، فهو أن يأخذ عما أسلم فيه عوضا عن المسلم فيه، فهذا حرام سواء كان المسلم فيه موجودا أو معدوما، وسواء كان العوض مثل المسلم فيه في القيمة، أو أقل أو أكثر، وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي. وذكر ابن أبي موسى عن أحمد رواية أخرى، فيمن أسلم في بر فعدمه عند المحل فرضي أن يأخذ الشعير مكان الجزء: 6 ¦ الصفحة: 178 البر جاز، ولم يجز أكثر من ذلك، وهذا يحمل على الرواية التي فيها: البر والشعير جنس واحد، والصحيح في المذهب خلافه، وقال مالك: يجوز أن يأخذ غير المسلم فيه مكانه، يتعجله ولا يؤخره، إلا الطعام، قال ابن المنذر: ثبت أن ابن عباس قال: "إذا أسلم في شيء إلى أجل، فإن أخذت ما أسلمت فيه وإلا فخذ عوضا أنقص منه، ولا تربح مرتين،" رواه سعيد; ولنا: قول النبي صلى الله عليه وسلم " من أسلم في شيء، فلا يصرفه إلى غيره " 1 رواه أبو داود، وابن ماجه، ولأن أخذ العوض عن المسلم فيه بيع له، فلم يجز، كبيعه من غيره، انتهى. فتبين بما ذكرناه: أن بيع المسلم فيه قبل قبضه لا يجوز، ولو لمن هو في ذمته، كما هو ظاهر الأحاديث، ومن أجاز ذلك احتج بكلام ابن عباس، وكلام ابن عباس لا تعارض به سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأيضا فقوله: ولا تربح مرتين، يخالف ظاهر الحديث، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن ربح ما لم يضمن، لأنه نهى عن ربحه مطلقا، والمسلم فيه قبل قبضه من ضمان البائع، فلا يباح ربحه قبل قبضه. وسئل أيضا إذا باع العامي دين السلم قبل قبضه؟ فأجاب: لا يجوز ذلك، كما نص عليه في الشرح، واستدل عليه بالحديث الصحيح، وأما الرواية الثانية، التي اختارها الشيخ، فالمراد جواز بيعه من بائعه فقط لا مطلقا، بدليل تعليل الشيخ بذلك، قال في المبدع وغيره: رواية بأنه   1 أبو داود: البيوع (3468) , وابن ماجه: التجارات (2283) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 179 يصح بيع المسلم فيه قبل قبضه، اختاره الشيخ، وقال هو قول ابن عباس، لكن يكون بقدر القيمة فقط، لئلا يربح فيما لم يضمن قال: وكذا كره أحمد في بدل القرض، انتهى. وبدليل ما ذكره صاحب الإنصاف، عند قول صاحب المقنع: ومن اشترى مكيلا أو موزونا، لم يجز بيعه حتى يقبض، هذا هو المذهب مطلقا، وعليه الأصحاب. وعنه: يجوز لبائعه، اختاره الشيخ، وجوز التولية فيه والشركة، انتهى. فدل ذلك على أن المراد بيعه من بائعه، والصحيح عندنا عدم جواز بيعه من بائعه وغيره حتى يقبضه، فيكون بيع العامي المسؤول عنه باطلا، لمخالفته للحديث: " نهي عن بيع الطعام قبل قبضه " ثم رأيت كلام الشيخ في الاختيارات على عمومه، كما ذكره صاحب الإنصاف في السلم، فقال: يصح بيع الدين في الذمة من الغريم وغيره، وهو رواية عن أحمد، وقاله ابن عباس لكن يكون بقدر القيمة، لئلا يربح فيما لم يضمن. وأجاب أيضا: وإذا كان لإنسان عند آخر تمر، وأمر صاحب التمر الذي هو عنده، أن يبيعه على أجنبي أو غيره، فهذه مسألة استنابة من عليه الحق للمستحق، وهي جائزة، لكن لا يجوز له بيعه حتى يقبضه من نفسه لموكله، فإذا قبضه ثم باعه جاز، ولا بد من وزن ثان، إلا أن يكون المشتري قد حضر الوزن الأول، فيجري فيه الخلاف الذي تقدم، وتقدم في باب البيع. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 180 وأجاب الشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمهما الله: وكذلك بيع دين السلم، لا يجوز إلا بعد قبضه، ولو على من هو في ذمتة، وهذا قول جمهور العلماء، وهو الأصح إن شاء الله تعالى. وأجاب أيضا: وأما إذا قبض دين السلم قبضا تاما، يتمكن من التصرف فيه، جاز له أن يبيعه على من أوفاه به مطلقا، وليست هذه من صور عكس العينة. وأجاب الشيخ عبد الله أبا بطين: أما دين السلم فلا يباع قبل القبض، ولا يؤخذ ممن هو عليه عوض عن دين السلم، في قول أكثر العلماء. وأجاب أيضا: أما بيع دين السلم لمن هو عليه، فأكثر أهل العلم لا يجوزونه، والشيخ ابن تيمية يرى الجواز. وأجاب أيضا وأما بيع دين السلم المستقر لمن هو في ذمته، فيشترط لصحته: أن يكون بسعر يومه، وأن يقبض العوض في المجلس، كما إذا أخذ عن الذهب فضة وعكسه. وأجاب الشيخ محمد بن عبد اللطيف، والشيخ سليمان بن سحمان: وأما قولكم: إن حل الربا أفتى به الشثري ... الخ، فلا يخفى عليك أن التحليل والتحريم، إذا كان مخالفا للكتاب والسنة، وفعل ذلك متعمدا، فهذا كفر; وقد ذكر العلماء: أن من أحل ما حرمه الله، وحرم ما أحله الله، فهو كافر، وأما إذا كانت الفتوى في المسائل الجزء: 6 ¦ الصفحة: 181 الخلافية، وأخذ بأحد أقوال العلماء، إما مجتهدا، أو مقلدا، فهذا لا ينكر عليه ولا يضلل، فضلا عن كونه يرمى بأعظم من ذلك. وأما المسألة التي أفتى بها، فقد سبقه على ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه، وطائفة من العلماء، فقال في الجواب لما سئل عن رجل باع قمحا بثمن مؤجل، فلما حل الأجل لم يكن عند المدين إلا قمح، هل يجوز له أن يأخذ قمحا؟ فأجاب: نعم يجوز له أن يأخذ قمحا، وليس في ذلك ربا عند أكثر العلماء، كأبي حنيفة والشافعي، وطائفة من أصحاب أحمد، إذا كان أخذ القمح أرفق بالمدين، فالأفضل أخذه، انتهى، قال الموفق: والذي يقوى عندي جوازه، إذا لم يفعله حيلة، ويقصده في ابتداء العقد، انتهى. وقال الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين، في جواب له، المسألة الأولى: إذا اشترى إنسان من آخر طعاما يجري فيه الربا بنسيئة ثم اشترى منه بذلك الثمن ما لا يجوز بيعه به نسيئة، ففي المسألة خلاف مشهور، فمذهب أحمد وطائفة تحريم ذلك، ومذهب الشافعي جوازه. واختار الشيخ تقي الدين جواز ذلك للحاجة، وكثير من أهل الزمان لو لم يأخذ منه غريمه طعاما، ما أوفاه فلو امتنع من أخذ الطعام ذهب حقه، فالظاهر أن الشيخ يجيز ذلك ; لأن هذا حاجة أبلغ إلى احتياجه إلى الطعام، إلى آخر كلامه. إذا تحققت هذا: فلا ينبغي الاعتراض على الشثري فيما الجزء: 6 ¦ الصفحة: 182 أفتى به، لأنه أخذ بكلام من ذكرنا من أهل العلم، ولو وجهنا العتب عليه، لتوجه العتب على من قاله من العلماء قبله، ولا ينبغي لنا أن نتعرض على من تقدمنا من العلماء، ولا من تأخر ما لم يكن مخالفا لكتاب الله وسنة رسوله. سئل الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن: عن رجل أعطى رجلا دراهم مضاربة، يسلمها في الثمرة وبعد ذلك احتاج، وقال: رد علي دراهمي، ويصير لك الطعام المؤجل؟ فأجاب: هذا بيع لدين السلم قبل قبضه، وفي الحديث الذي رواه الجماعة " من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يستوفيه " 1 سئل الشيخ حسن بن حسين بن الشيخ: عن التولية في دين السلم ... إلخ؟ فأجاب: لا تصح، لكونها من أنواع البيع، لكنها اختصت بهذه الأسماء، كاختصاص الصرف والسلم بأسمائها، والجميع بيع، فالتولية: البيع برأس المال، والشركة: بيع بعضه بقسطه من الثمن، ولا يصح بيع المسلم فيه قبل قبضه، قال في المغني والشرح: بغير خلاف نعلمه، لنهيه عليه السلام عن بيع الطعام قبل قبضه. سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عن أخذ الشعير عن البر في السلم؟   1 البخاري: البيوع (2126) , ومسلم: البيوع (1526) , والنسائي: البيوع (4595) , وأبو داود: البيوع (3492) , وابن ماجه: التجارات (2226) , ومالك: البيوع (1335) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 183 الاختلاف في حلول الأجل فأجاب: وأما أخذ صاع شعير عن صاع بر فلا يجوز. سئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن: عن أخذ دابة ونحوها عما في الذمة ... إلخ؟ فأجاب: وأما أخذ الدابة عما في ذمة المدين من الطعام، فلا يجوز على قول جمهور العلماء، لأنه صرف للسلم إلى غيره، وهو منهي عنه، وأجازه ابن عباس إذا كان أقل من قيمة الطعام، فإنه قال: "خذ عرضا أنقص ولا تربح مرتين". وسئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عن دين السلم الثابت في الذمة، هل يصح الشراء به من الذي هو في ذمته عرضا؟ كأرض أو نخل أو غير ذلك؟ فأجاب: لا يجوز عند أكثر العلماء أن يأخذ عرضا عن دين السلم ممن هو في ذمته، واحتجوا بحديث " من أسلم في شيء فلا يصرفه إلى غيره " 1 وعن أحمد رواية أخرى: أنه يجوز أن يأخذ عرضا بدون حقه، اختاره الشيخ لقول ابن عباس: "إذا أسلفت في شيء فإن أخذت ما أسلفت فيه وإلا خذ عرضا أنقص منه ولا تربح مرتين" وعند مالك: يجوز أن يأخذ غير الطعام يتعجله ولا يتأجله، فبان لك أن الجمهور على المنع مطلقا، واختيار الشيخ الذي هو رواية عن أحمد ما ذكرته، وعليه عمل أهل هذه البلدان فيما مضى. سئل الشيخ: محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف: عمن   1 أبو داود: البيوع (3468) , وابن ماجه: التجارات (2283) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 184 باع ربويا بدراهم نسيئة على شخص، ثم أحاله على آخر بما له عليه هل يجوز أن يعتاض عنها ربويا، على كلام الفقهاء؟ فأجاب: أما إذا باع ربويا بدراهم نسيئة على شخص، ثم أحاله على آخر بما له عليه، فاعتاض عنها ربويا، فإنه لا بأس بذلك، لأنه إنما منع من الاعتياض عن ثمن الربوي، بما لا يباع به نسيئة من منعه، لكونه ذريعة إلى بيع الربوي بالربوي نسيئة، وهذا إنما يتصور بين البائع والمشتري، والاعتياض في مسألتنا، إنما هو بين المشتري والمحال عليه، وهو أجنبي من العقد الأول، الواقع بين البائع والمشتري. وسئل أيضا: عن بيع العجم- وهو النوى- بالطعام نسيئة؟ فأجاب: أما بيع العجم بالطعام نسيئة فلا يصح لكونه مكيلا بناء على المشهور عند أصحابنا الحنابلة رحمهم الله تعالى، من أن علة ربا الفضل في الطعام كالتمر ونحوه، هي الكيل فقط، وأما عند من يجعل علة ربا الفضل في التمر ونحوه، هي كونه مكيلا مطعوم آدمي، كما هو اختيار الموفق، والشيخ تقي الدين، ومن يجعل العلة هي الطعم فقط، ومن لا يعلل، كالمانعين من القياس، المخصصين الأعيان الواردة في حديث عبادة بالربا، فلا بأس بذلك. وأجاب بعضهم: وأما إذا أسلم رجل على آخر ريالا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 185 بحب إلى أجل معلوم، فلما حل الأجل أعسر صاحب الحب، فنقول: هل يجوز أن يأخذ عرضا عن الحب؟ حيوانا أو غيره؟ فهذه المسألة فيها روايتان عن الإمام أحمد، الأولى- وهي المقدمة عندهم- ليس له إلا ما أسلم فيه، لقوله عليه السلام " من أسلم في شيء فلا يصرفه إلى غيره " 1 والرواية الثانية: يجوز، وهو اختيار الشيخ تقي الدين، لقول ابن عباس: "إذا أسلمت في شيء إلى أجل، فإن أخذت ما أسلفت فيه، وإلا فخذ عرضا أنقص منه ولا تربح مرتين" والله أعلم أن المراد بقدر القيمة. وقال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن: عرض علينا أحمد العجيري كتابا فيه حكم سعيد بن عيد، بصحة العقد والبيع الذي صدر من سهل بن باتل، في بيع النخل بالدين الحال الذي في الذمة قبل قبضه، وكتب على هذا الحكم بأنه لا ينقض إذا حكم به من يراه، وقد حكم به شيخنا محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله -، كما حدثني به الوالد عفا الله عنه، وقال بصحته شيخ الإسلام ابن تيمية، ثم رأيت ابن عوين تعرض لهذا ولم ينشرح له صدره ; لأنه رأى خلافا لبعض الفقهاء، نسبه لكل العلماء، ولم ينظر ما قالوه في أن حكم القاضي لا ينقض بمثل هذا الخلاف، وهو في كتابه الذي نقله، إذا عرفت هذا: فالعمل على ما حكم به سعيد لا ينقض، والله أعلم. وسئل: إذا اتفقا على تقويم الرهن بثمن حاضر،   1 أبو داود: البيوع (3468) , وابن ماجه: التجارات (2283) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 186 وحسبوا الطعام المؤجل بسعر وقته، بدراهم، على صاحب الرهن؟ فأجاب: هذا لا يجوز، لأنه اعتياض دراهم زائدة على رأس ماله، فهذا عين الربا وليس له إلا ما أسلم فيه، أو رأس ماله إن اتفقا على فسخ العقد، وأما الربح والتقويم بسعر الوقت، فهذا لا يصح. سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: إذا كان لرجل على آخر طعام، فلم يجد عنده ما يوفيه، فأعطاه دراهم على السعر عن الطعام الذي في ذمته ... إلخ؟ فأجاب: لا يجوز ذلك، وهو قول جمهور العلماء، قال في المغني والشرح: لا نعلم فيه خلافا، أعني إذا كان الطعام سلما أو مبيعا، وإن لم يكن سلما وكان عمارة نخل، أو قرضا أو أجرة أو قيمة متلف، فهذا يجوز لصاحبه أن يأخذ ثمنه ممن هو في ذمته، بشرط قبضه في المجلس، لئلا يكون بيع دين بدين ; لأنه ليس مبيعا، وأما السلم والمبيع، فلا يجوز بيعه قبل قبضه ولو لبائعه، وذلك لصحة الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنهي عنه. فثبت في الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم قال " من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يستوفيه " 1 وفي لفظ في الصحيحين " فلا يبعه حتى يكتاله " 2 فإذا باعه رب الدين لبائعه قبل قبضه، فقد خالف النصوص الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجهين أحدهما: أنه باعه   1 البخاري: البيوع (2126) , ومسلم: البيوع (1526) , والنسائي: البيوع (4595) , وأبو داود: البيوع (3492) , وابن ماجه: التجارات (2226) , ومالك: البيوع (1335) . 2 البخاري: البيوع (2132) , ومسلم: البيوع (1525) , والنسائي: البيوع (4597) , وأبو داود: البيوع (3496) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 187 قبل قبضه، والنبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الطعام قبل قبضه، ولم يفرق بين بيعه لمن هو عليه وبين غيره، ومن زعم أن بيعه لمن هو عليه جائز، فعليه الدليل الذي يخصص العموم، وإلا فلا يجوز مخالفته السنة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لقول أحد من الناس. الثاني: أنه قد ثبت في السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن ربح ما لم يضمن، فإذا باعه لبائعه بربح فقد ربح فيما لم يضمن، لأنه لا يدخل في ضمانه إلا بعد قبضه، فيصير هذا الربح حراما، وقد أخذ جمهور العلماء بظاهر الأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم في النهي عن بيع الطعام قبل قبضه، وأجروها على ظاهرها وعمومها، وشمولها للبائع وغيره، حتى إنهم منعوا من الاعتياض عن المسلم فيه، فقالوا: لا يجوز أن يأخذ عنه عوضا، ولا يستبدل به، واحتجوا لذلك بما روى أبو داود، وابن ماجه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من أسلم في شيء فلا يصرفه إلى غيره " 1. وغاية ما يحتج به من أجاز بيعه لبائعه قبل قبضه: كلام الشيخ تقي الدين - رحمه الله -، الذي حكاه صاحب الإنصاف وغيره، أنه أجاز ذلك، واحتج بكلام ابن عباس الذي رواه عنه ابن المنذر، ومثل هذا لا تعارض به النصوص الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم في منع بيع الطعام قبل قبضه، والشيخ رحمه الله من الأئمة المجتهدين، لكن إذا خالف كلامه الحديث الصحيح، وجب الأخذ بالحديث الصحيح دون ما خالفه، وما   1 أبو داود: البيوع (3468) , وابن ماجه: التجارات (2283) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 188 أحسن ما قاله الشافعي: إذا صح الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بخلاف قولي فاضربوا بقولي الحائط، ومعلوم: أن الشيخ - رحمه الله - قد اطلع على هذه الأحاديث، في النهي عن بيع الطعام قبل قبضه، وأنه تأولها. لكن إذا لم نعلم وجه تأويله، ولم يتبين لنا رجحان دليله، لم يجز لنا أن نخالف هذه الأدلة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم في النهي عن بيع الطعام قبل قبضه، بل نجريها على عمومها للبائع وغيره، حتى يثبت عندنا دليل راجح يخصص هذا العموم، وإلا فلا يجوز لنا أن نتركها تقليدا للشيخ - رحمه الله -، ولا غيره، بل يجب اتباع النص. فإذا أفتى بعض المفتين بخلافها، وعارض الأحاديث بكلام الشيخ، وكلام ابن عباس، أجيب بما أجاب به ابن عباس لمن خالفه في المتعة، حيث يقول: "يوشك أن تنْزل عليكم حجارة من السماء أقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقولون: قال أبو بكر وعمر" وأبلغ من هذا في الزجر عن مخالفة النصوص، لقول بعض العلماء، قوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [سورة النور آية: 63] ، كما استدل بها الإمام أحمد، فقال: عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته، يذهبون إلى رأي سفيان، والله يقول: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [سورة النور آية: 63] أتدري ما الفتنة؟ الفتنة الشرك، لعله إذا رد بعض قوله، أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 189 فالواجب فيما تنازع فيه العلماء: رده إلى الله وإلى رسوله، كما قال: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [سورة الشورى آية: 10] وقوله: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [سورة النساء آية: 59] فإذا وجدنا مسألة قد اختلف فيها العلماء، وجب علينا الرد إلى النصوص، فما وافق النصوص وجب الأخذ به، وما خالفها وجب رده. وأما تركها لقول بعض العلماء، والتعليل بأنهم أعلم منا بمعانيها، فلا يجوز، بل هذا عين التقليد المذموم الذي أنكره شيخنا - رحمه الله -، كما أنكره العلماء قبله. وسئل أيضا: إذا أراد أن يشتري له طعاما من السوق فقال صاحب الطعام أعطني ثمن طعامي الذي لي عليك، ذهبا أو فضة، على ما كان يباع في السوق؟ فأجاب: أما إذا أسلم على رجل في طعام، ولم يوجد ذلك الطعام عند الحلول، فلا يجوز له أن يأخذ عن الطعام دراهم على السعر، هذا الذي يترجح عندي في المسألة. وسئل إذا دفع إلى آخر دراهم، وقال اشتر بها طعاما مثل الذي لك علي؟ فأجاب: الأظهر عدم الصحة. وأجاب أيضا: إذا كان لرجل تمر على آخر، ودفع إلى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 190 غريمه دراهم يشتري له بها تمرا مثل الذي عليه، فهذه المسألة فيها تفصيل، قال في المغني: ولو دفع زيد إلى عمرو دراهم، وقال: اشتر لك بها مثل الطعام الذي لك علي، لم يصح ; لأن دراهم زيد لا يكون عوضها لعمرو، فإن اشترى الطعام بعينها أو في ذمته، فهو كتصرف الفضولي، وإن قال اشتر لي بها طعاما، ثم اقبضه لنفسك ففعل جاز، وقال أصحاب الشافعي: لا يجوز، لأنه لا يجوز أن يكون قابضا من نفسه لنفسه، انتهى. فتبين بما ذكرناه: أن الذي يجوز في مسألة السؤال، أن يدفع إليه الدراهم ويأمره أن يشتري بها للدافع، فإذا اشترى بها طعاما لموكله قبضه الوكيل للموكل ثم أذن له الموكل أن يقبضه لنفسه قبضا ثانيا، وفعل ذلك جائز، ومنعه أصحاب الشافعي. وأجاب الشيخ حسن بن حسين بن الشيخ: لا يصح أن يدفع إليه دراهم عن الذي له عليه من التمر، وطريق الصحة أن يقول: اشتر بها طعاما واقبضه لي، ثم اقبضه لنفسك فيصح. قال الشيخ: محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله -: يجري عندكم مسألتان، الأولى: صورة المقاصة، يريد بعض الناس أن يحتال على المنهي عنه، من بيع الطعام قبل قبضه، ويقول للشريك - إذا جاء بدراهم - بعها علي بتمر، قدر الذي في الجزء: 6 ¦ الصفحة: 191 ذمته، ثم يتساقطان، ويجعل هذا من المقاصة المباحة ; وكذلك ذكروا: إذا اشترى منه سلعة، وشرط عليه أن يوفيه بها، صح العقد وفسد الشرط، وبعض الناس: يريد أن يجعل هذه حيلة إلى قلب الدين الذي في ذمته دينا آخر، وينسب الصحة إلى الإقناع والمنتهى، وهما من أشد الناس كلاما وتحريما لمثل هذا، حتى إنهما يحرمان صورا مع كون المتعاقدين لم يقصدا الحيلة، لئلا يتخذ ذريعة، مثل العينة وغيرها. وأنا قد ذكرت لكم مرارا: إذا ادعى أحد في هذا وأمثاله الجواز، فاسألوه عن الحيل المحرمة التي هي مخادعة لله، ما معناها وما صورتها؟ مثال ذلك: أنك تسألني عن رجل اشترى منك سلعة بعشرين مشخصا وهي تساوي العشرين ثيابا أو طعاما أو غيرهما، قلت لك: هذا صحيح بالإجماع ; فإذا قلت: إنه لم يشتر مني، ولم أبرئه إلا لأنه يريد أن يقرضني مائتي مشخص، بربح عشرين مشخصا، وقال لي: هذا ربا لا يصح، ولكن بعني سلعة تساوي عشرين، ثم بعد ذلك أبرئني منها، قلت لك هذا صريح الربا، والمخادعة لله بلا شك وكذلك أشباه هذه الصورة، فالذي يجعل التحيل على بيع الطعام قبل قبضه من المقاصة، أو يجعل بيع السلعة ليوفيه بها، حيلة إلى جعل كون رأس مال السلم دينا، مع تصريحهم بتحريمه بلا هذه الحيلة، اسألوه: ما الفرق بين هاتين الصورتين وبين تلك؟، فإنه لا يجد فرقا إلا بالمكابرة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 192 وههنا فائدة: ينبغي التنبيه عليها، وهي: أن الحيل على الربا قد نشأتم عليها أنتم ومشايخكم، وتسمونها "التصحيح" والأمور التي نشأ الإنسان عليها، صعب عليه مفارقتها بالكلية، والاستجابة لله والرسول، وترك مذهب الآباء وما عليه المشايخ، أمر عظيم لا يوفق له أكثر الخلق، فأمر الحيل ومسائله مثل أمر الشرك، فكما أنكم لم تفهموا الشرك أول مرة، ولا ثانية ولا ثالثة، ولم تفهموه كله إلى الآن، فكذلك الحيل، لأجل نشأتكم عليها، وتسميتها التصحيح تحتاج منكم إلى نظر وفطنة، فأكثروا التدبر لها، والمطالعة والتمثيل في إغاثة اللهفان وغيرها. وأجاب الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين: وأما مسألة المقاصة، فتفهم كلامهم فيها، وصرح صاحب المغني بجواز المقاصة، لكن ذكر الخلوتي بحثا، فقال: لعل ذلك ما لم يكن حيلة، ومراده في صورة المقاصة، فيما إذا اشترى بثمن نقده ثم أوفاه به، ولا يبعد المنع من ذلك مع الحيلة. سئل الشيخ: عبد الرحمن بن حسن: عمن اشترى تمرا نسيئة من غريمه، ثم رده عليه عما في ذمته؟ فأجاب: إن كان قبضه قبضا صحيحا، جاز أن يوفيه به المشتري، إذا كان له قدرة على أن يوفيه دينه، بخلاف ما إذا كان لا يقدر على الوفاء لعسرته، واضطره إلى أن يستدين له من نفسه ليوفيه، فهذا لا يجوز لوجهين، أحدهما: أن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 193 المعسر يجب إنظاره، وهذا إضرار به يزيد به عسرته الثاني. أنه من قلب الدين الذي نص عليه العلماء رحمهم الله- كشيخ الإسلام ابن تيمية- أنه لا يجوز. الحوالة بدين السلم سئل الشيح عبد الله بن الشيخ محمد رحمهما الله: إذا أسلم رجل دراهم بتمر أو حب، فلما حل الأجل وخاف صاحب السلم أن التمر الذي أسلم فيه لا يساوي رأس ماله، وقال صاحبه: ما أبغي إلا رأس مالي إلى أجل، ولولا الأجل ما رضي صاحب الدين. فأجاب: هذه مسألة فيها خلاف بين العلماء، والأحسن والأحوط تركها. وسئل عن الحوالة بدين السلم؟ فأجاب: أما الحوالة بدين السلم، فقال في المغني: وأما الحوالة به فغير جائزة، ومعنى الحوالة به: أن يكون لرجل طعام من سلم، وعليه مثله من قرض أو سلم أو بيع، فيحيل من عليه الطعام على الذي له عنده السلم، فلا يجوز، وإن أحال المسلم إليه بالطعام الذي عليه لم يصح أيضا، لأنه معاوضة بالمسلم فيه قبل قبضه، فلم يجز كالبيع، انتهى كلامه. واختار الشيخ تقي الدين: جواز الحوالة بدين السلم والحوالة عليه، وعلله بتعاليل جيدة، فعلى القول بجوازه لا يجوز للمحال بيعه قبل قبضه من نفسه، فلا بد أن يقبضه من الجزء: 6 ¦ الصفحة: 194 نفسه قبل البيع، فإذا قبضه ثم بعد ذلك باعه لموكله، فلا بأس إن شاء الله ; وأما الشافعية فلا يجوزون القبض في مثل هذه الصورة ; وأما الحوالة بالمسلم فيه، فالأكثرون لا يجوزونه، وأجازه الشيخ تقي الدين لأنه لا محذور فيه ; لأن الحوالة ليست بيعا. الإقالة في السلم وسئل هل تجوز الإقالة في جميع ما أسلم فيه، أو تجوز في البعض؟ فأجاب: حكى ابن المنذر على جوازها الإجماع، وفي جوازها في البعض روايتان، والأظهر جوازها في البعض. وسئل: إذا انفسخ العقد بإقالة أو غيرها، هل يصرف ذلك الثمن في عقد آخر؟ فأجاب: هذه المسألة فيها خلاف، والأظهر من ذلك المنع. وسئل: إذا تقايلا دين السلم، فهل يجوز التفرق قبل قبض رأس المال؟ فأجاب: قال في المنتهى ويجوز إقالة في السلم وبعضه، بدون قبض رأس ماله، أو عوضه إن تعذر في مجلسه، لأنه إذا حصل الفسخ ثبت الثمن في ذمة البائع، فلم يشترط قبض بدله في المجلس كالقرض، وفيه وجه: يشترط، انتهى، قلت: هو الذي جزم به في مختصر الشرح، والله أعلم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 195 وأجاب الشيخ حسن بن حسين بن الشيخ: حكى ابن المنذر الإجماع على جوازها في جميعه، وفي البعض روايتان عن أحمد، ولا بد من قبض رأس المال في مجلس الإقالة. أخذ الثمار في السلم خرصا سئل الشيخ: محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله -: عن رجل له تمر معلوم المقدار على رجل آخر فلما حضرت ثمرته أخذه خرصا بلا وزن بتراض منهما، ورجل له آصع معلومة كيلا، فاستوفى منها سنبلا وزنا، دق منه زنبيلا وكالوه، فلما عرفوا قدره كيلا أخذ باقيه وزنا بقدره؟ فأجاب: الاستيفاء أوسع من غيره، فلم ير به بأسا. وأجاب أيضا: وأما أخذ الثمار في السلم خرصا، فالذي يتوجه عندنا الجواز، إذا كان الثمر المأخوذ دون ما في الذمة بيقين، لحديث جابر المخرج في الصحيح، فيكون من باب أخذ الحق والإبراء عما بقي. وأجاب ابنه الشيخ عبد الله: يجوز أن يأخذ المسلم فيه جزافا، مثل أن يأخذ ثمرة من التمر خرصا على رءوس النخل، أو في البيدر ; قال البخاري - رحمه الله - تعالى: باب إذا قاص أو جازف في الدين فهو جائز، تمرا بتمر أو غيره، ثم روى بإسناده عن جابر: "أن أباه توفي وترك عليه ثلاثين وسقا لرجل من اليهود، فاستنظره جابر فأبى أن ينظره، فكلم جابر رسول الله صلى الله عليه وسلم يشفع له إليه، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلم اليهودي ليأخذ تمر نخله بالذي له، فأبى، فدخل الجزء: 6 ¦ الصفحة: 196 رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديقة فمشى فيها، ثم قال لجابر: جُذَّ له فأوف الذي له فجَذَّه بعدما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأوفاه ثلاثين وسقا، وفضل له سبعة عشر وسقا، فجاء جابر النبي صلى الله عليه وسلم ليخبره بالذي كان، فوجده يصلي العصر، فلما انصرف أخبره فقال: أخبر بذلك ابن الخطاب فذهب جابر إلى عمر فأخبره، فقال: لقد علمت حين مشى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليبارَكَنَّ فيها" 1 انتهى. فترجمة البخاري، والحديث الذي ذكره، دال على جوازه، وهو اختيار شيخنا - رحمه الله -، وترجم البخاري على حديث جابر ترجمة أخرى، فقال: باب إذا قضى دون حقه وحلله فهو جائز، انتهى ; وباب الإيفاء عندهم أوسع من باب البيع، ويغتفر فيه ما لا يغتفر في البيع. وأما كلام الفقهاء، فقال في المغني والشرح: لا يقبض ما أسلم فيه كيلا إلا بكيل، ولا وزنا إلا بوزن، ولا بغير ما قدر به وقت العقد، لأن الكيل والوزن يختلفان، فإن قبضه بذلك، أي قبض المكيل وزنا، والموزون كيلا، فهو كقبضه جزافا، ومتى قبضه جزافا، فإنه يأخذ قدر حقه ويرد الباقي، ويطالب بالنقص إن نقص، وهل له أن يتصرف في قدر حقه من قبل أن يعتبره؟ على وجهين، انتهى. فمعنى كلامهم: أنه إذا قبضه جزافا فلا بأس به، لكن لا يتصرف فيه ببيع أو نحوه حتى يعتبره بما قدر به، وهذا على الرواية الأولى التي هي المذهب عندهم، وقد عرفت أن الراجح الجواز.   1 البخاري: في الاستقراض وأداء الديون والحجر والتفليس (2396) , وابن ماجه: الأحكام (2434) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 197 وأجاب أيضا: وأما إذا قبض التمر خرصا، بأن يكون في ذمة زيد لعمرو تمر قرضا أو سلما، فأراد أن يأخذ منه نخلة بخرصها من الدين الذي في ذمته، فلا أعلم فيه منعا إذا تراضيا على ذلك، ولم يكن بينهما شرط عند العقد، فأما مع الشرط فلا يجوز خصوصا في مسألة القرض، فهو أبلغ، لأن كل قرض جر نفعا فهو ربا. وقال أيضا: ومن الأمور المنهي عنها: أن التاجر يأتي فأخبره، ويأخذ نخله منه خرصا أو بعضه، وفي ذمته له شيء معلوم، فيصير أخذ مجهولا عن معلوم، وهذا ربا، وكذلك أعظم من هذا: أن يشتريه منه كدّاد النخل أو غيره، وهو في رءوسه، بلا كيل ولا وزن ولا قبض، وهذا نهى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الطعام قبل قبضه، فالذي ننصحكم به التواصي بالحق، والقيام على الجاهل وردعه، ورده إلى الحق وأجاب أيضا: هو والشيخ عبد الرحمن بن حسن: ومن ذلك أخذ الثمار في السلم خرصا، فيتوجه عندنا جواز ذلك، إذا كان المأخوذ أنقص مما في الذمة، لحديث جابر، فيكون من باب أخذ بعض الحق والإبراء عما بقي، والله أعلم. وأجاب الشيخ عبد الرحمن بن حسن - رحمه الله -: وأما أخذ بعض دين السلم خرصا، فالجمهور على المنع، وذكر ابن عبد البر عن بعض العلماء، أنه يجوز إذا أخذ دون حقه، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 198 وبه أفتى شيخنا الشيخ عبد الله ابن الشيخ محمد رحمهما الله تعالى. وأجاب أيضا: قال البخاري - رحمه الله -: باب إذا قاصه أو جازفه في الدين فهو جائز، زاد في رواية كريمة تمرا بتمر أو غيره، وساق حديث جابر أن أباه توفي وترك عليه ثلاثين وسقا لرجل من اليهود، فاستنظره جابر فأبى أن ينظره، فكلم جابر رسول الله صلى الله عليه وسلم ليشفع له إليه، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلم اليهودي، ليأخذ ثمر نخله بالذي له، فأبى ... الحديث ; وبه استدل ابن عبد البر وغيره من العلماء رحمهم الله، على جواز أخذ الثمر على الشجر عما في الذمة، إذا علم أنه دون حقه، إرفاقا بالمدين وإحسانا إليه، وسماحة بأخذ الحق ناقصا، وترجم البخاري بهذا الشرط، فقال: إذا قضى دون حقه أو حلله فهو جائز، وساق حديث جابر أيضا. فأما إذا كان يحتمل أنه دون حقه، أو مثله أو فوقه، فهذا غير جائز أن يأخذ عما في الذمة شيئا مجازفة أو خرصا، لا سيما إذا كان دين سلم، لما روى البخاري وغيره عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من أسلف في شيء فليسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم إلى أجل معلوم " 1 ومضمون هذا الحديث عام، وبه أخذ الجمهور، وقد يقال إن قضية جابر قضية عين لا عموم لها، ويترجح المنع بهذا سدا للذريعة، لا سيما في هذه الأوقات لكثرة الجهل، والجراءة بأدنى شبهة.   1 الترمذي: البيوع (1311) , والنسائي: البيوع (4616) , وأحمد (1/222) , والدارمي: البيوع (2583) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 199 وسئل أيضا: إذا خاف صاحب الدين عدم الوفاء، فطلب من الغريم أن يعطيه الثمرة عما في ذمته؟ فأجاب: إذا كان الأمر كذلك، جاز أن يأخذ الثمرة خرصا على رءوس الشجر، إذا كان دون حقه، ودليله ما أشرت إليه من حديث جابر، قال البخاري - رحمه الله - تعالى: باب إذا قاصه أو جازفه في الدين فهو جائز ; وساق حديث جابر: " أن أباه توفي وترك عليه ثلاثين وسقا لرجل من اليهود فاستنظره جابر فأبى أن ينظره، فكلم جابر رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها ليشفع له إليه، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلم اليهودي ليأخذ ثمر نخله بالذي له فأبى " 1 وساق الحديث بتمامه، وبه استدل ابن عبد البر أيضا وغيره من العلماء رحمهم الله، على جواز ذلك، فلا بد من تحقق الشرط المذكور. وأما إذا كان يحتمل أنه دون حقه أو أكثر، فهذا لا يجوز لما عرفت من الحديث الصحيح " من أسلف في شيء فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم " 2 هذا هو الأصل، ودل حديث جابر على جواز أخذها خرصا، لما في ذلك من الإرفاق بالمدين وبراءة ذمته من الدين، بأخذ الغريم له ناقصا. وأجاب ابنه الشيخ عبد اللطيف: حديث جابر حديث صحيح مشهور، خرجه الجماعة وترجم له تراجم متعددة، بحسب ما تضمن من الفقه ; فقال البخاري: باب إذا قاصه أو جازفه في الدين تمرا بتمر وغيره وذكره، وقال باب إذا قضى دون حقه فهو جائز، وكذلك أهل السنن وسياقهم متقارب،   1 البخاري: في الاستقراض وأداء الديون والحجر والتفليس (2396) , وابن ماجه: الأحكام (2434) . 2 الترمذي: البيوع (1311) , والنسائي: البيوع (4616) , وأحمد (1/222) , والدارمي: البيوع (2583) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 200 وقال البخاري في باب المقاصة والمجازفة، قال وهب بن كيسان: " إن جابر بن عبد الله أخبره أن أباه توفي، وترك عليه ثلاثين وسقا لرجل من اليهود، فاستنظره جابر فأبى أن ينظره، فكلم جابر رسول الله صلى الله عليه وسلم ليشفع له إليه، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلم اليهودي ليأخذ ثمر نخله بالذي له فأبى، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم النخل فمشى فيه، ثم قال لجابر: جُذَّ له فأوف له الذي له فَجَذَّه بعد ما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأوفاه ثلاثين وسقا، وفضلت له سبعة عشر، فجاء جابر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخبره بالذي كان، فوجده يصلي العصر، فلما انصرف أخبره بالفضل، فقال: أخبر بذلك ابن الخطاب فجاء جابر إلى عمر فقال عمر: لقد علمت حين مشى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليبارَكَنَّ فيها " 1. وقبل هذا قال رحمه الله: باب إذا قضى دون حقه أو حلله فهو جائز، وساق الحديث مختصرا من طريق آخر، لكن ذكر فيه شاهدا للترجمة، وهو قوله: "فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فسألهم أن يقبلوا ثمر حائطي ويحللوا أبي" إذا عرف هذا بطل قول السائل، وظاهر هذا إباحة بيع المجهول بالمعلوم في الجنس، فلا جهالة والحالة هذه ; لأن الحديث صريح في أن تمر الحديقة دون الثلاثين، وإنما بورك فيه لما مشى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقول السائل: وهو ممنوع شرعا ; عبارة لا ينبغي أن تورد على الأحاديث النبوية، وهل الشرع إلا ما جاء عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم وأيضا فهي فاسدة في نفسها، فإن الاعتياض   1 البخاري: في الاستقراض وأداء الديون والحجر والتفليس (2396) , وابن ماجه: الأحكام (2434) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 201 بالمجهول عن المعلوم في الجنس جائز في غير ربا الفضل، إذا حصل التراضي ; لأن للمدين أن يزيد و" خيركم أحسنكم قضاء " 1 ولرب الدين أن يضع من دينه ما شاء، وفي حديث كعب "ضع الشطر" وأنت امنع هذه المسألة، لما فيها من الضرر والغرر في المبايعات والمعاملات، هذا ما ظهر لي وهو المعروف من القواعد الشرعية، فانتبه لا زالت قريحتك وقادة زكية. الرهن والكفيل بالمسلم فيه سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ: هل يجوز الرهن والكفيل، بالمسلم فيه؟ فأجاب: الظاهر الجواز في قول أكثر الفقهاء. وأجاب الشيخ حسن بن حسين بن الشيخ: الأصح من الروايتين، والمعتمد في الفتوى عندنا: أنه يصح، وفاقا للأئمة الثلاثة. وأجاب: الشيخ عبد الله أبا بطين: وأما أخذ الرهن والضمين بدين السلم، ففيه عن أحمد روايتان، إحداهما: لا يجوز أخذ الرهن، ولا أخذ الكفيل بذلك، وهذا هو المشهور في المذهب ; والرواية الأخرى: يجوز ; اختاره الموفق وغيره، وهو قول أكثر العلماء، وهو الصحيح إن شاء الله تعالى ; وقوله: بثمنه، أي رأس مال السلم إذا فسخ عقد السلم، ورجع إلى رأس ماله، فلا يصح أخذ الرهن والضمين به، على المشهور في المذهب، والصحيح الجواز. وأجاب أيضا: وأما الرهن والضمين في السلم، فيجوز شرطهما عند أكثر العلماء، وهو الصحيح إن شاء الله تعالى.   1 البخاري: الوكالة (2306) , ومسلم: المساقاة (1601) , والنسائي: البيوع (4618 ,4693) , وأحمد (2/416 ,2/456) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 202 باب القرض سئل الشيخ عبد الله بن محمد: عن حديث القرض الذي يقال إنه بثمانية عشر ضعفا، صحيح أم لا؟ فأجاب: حديث القرض لا يصححه الحفاظ. سئل الشيخ: عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين: إذا كسدت السكة بتحريم السلطان لها أو بغيره، أو رخصت ... إلخ؟ فأجاب: قد بسط القول في هذه المسألة ناظم المفردات وشارحها، فنتحفك بنقل كلامهما ملخصا، قال الناظم: والنقد في المبيع حيث عينا ... وبعد ذا كساده تبينا نحو الفلوس ثم لا يعامل ... بها فمنه عندنا لا تقبل بل قيمة الفلوس يوم العقد ... والقرض أيضا هكذا في الرد أي: إذا وقع العقد بنقد معين، كدراهم مكسرة أو مغشوشة، أو بفلوس، ثم حرمها السلطان فمنع المعاملة بها قبل قبض البائع لها، لم يلزم البائع قبضها، بل له الطلب بقيمتها يوم العقد، وكذلك لو أقرضه نقدا أو فلوسا، فحرم الجزء: 6 ¦ الصفحة: 203 السلطان المعاملة بذلك، فرده المقترض لم يلزم المقرض قبوله، ولو كان باقيا بعينه لم يتغير، وله الطلب بقيمة ذلك يوم القرض، وتكون من غير جنس النقد، إن أفضى إلى ربا الفضل، فإذا كان دراهم أعطى عنها دنانير، وبالعكس لئلا يؤدي إلى الربا. ومثله من رام عود الثمن ... من رده المبيع خذ بالأحسن قد ذكر الأصحاب ذا في ذي الصور ... الصور والنص في القرض عيانا قد ظهر مثل ما تقدم، أي: من اشترى معيبا ونحوه، بدراهم مكسرة أو مغشوشة أو فلوسا، وأقبضها للبائع فحرمها السلطان، ثم رد المشتري المبيع لعيب ونحوه، وكان الثمن باقيا فرده، لم يلزم المشتري قبوله منه لتعيبه عنده، والأصحاب ذكروا هذه الصور بالقياس على القرض، والنص عن الإمام، إنما ورد في القرض في الدراهم المكسرة، قال: يقومها كم تساوي يوم أخذها ثم يعطيه ; وقال مالك والليث والشافعي: ليس له إلا مثل ما أقرضه ; لأن ذلك ليس بعيب حدث بها، فهو كرخص سعرها، ولنا أن تحريمها منع نفاقها وأبطل ماليتها، فأشبه كسرها. والنص بالقيمة في بطلانها ... لا في ازدياد القدر أو نقصانها بل إن غلت فالمثل فيها أحرى الصور ... كدانق عشرين صار عشرا يعني أن النص في رد القيمة، إنما ورد من الإمام فيما إذا أبطلها السلطان فمنع المعاملة بها، لا فيما إذا زادت قيمتها الجزء: 6 ¦ الصفحة: 204 أو نقصت، مع بقاء التعامل بها وعدم تحريم السلطان لها، فيرد مثلها سواء غلت أو رخصت أو كسدت، إلى أن قال: وشيخ الإسلام فتى تيمية ... قال قياس القرض عن جلية الطرد في الديون كالصداق ... وعوض في الخلع والإعتاق والغصب والصلح عن القصاص العقد ... ونحو ذا طرا بلا اختصاص أي قال شيخ الإسلام بحر العلوم: أبو العباس تقي الدين ابن تيمية رحمه الله، في شرح المحرر، قياس ذلك - أي القرض - فيما إذا كانت مكسرة أو فلوسا وحرمها السلطان، وقلنا يرد قيمتها في جميع الديون في بدل المتلف والمغصوب مطلقا، والصداق والفداء والصلح عن القصاص والكتابة انتهى. قال: وجاء في الدين نص حرره الأثرم إذ يحقق ; يعني قال ابن تيمية: إن الأصحاب إنما ذكروا النص عن أحمد في القرض، قال وكذلك المنصوص عن أحمد في سائر الديون، قال الأثرم: سمعت أبا عبد الله سئل: عن رجل له على رجل دراهم مكسرة أو فلوس، فسقطت المكسرة، قال: يكون له بقيمتها من الذهب. وقولهم إن الكساد نقصا ... فذاك نقص النوع عيب رخصا قال ونقص النّوع ليس يعقل ... فيما سوى القيمة ذا لا يجهل يعني في تعليل القاضي ومن تابعه والأصحاب، بوجوب رد قيمة الفلوس إذا كسدت، لمنع السلطان التعامل بها، بأن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 205 الكساد يوجب النقصان وهو نوع عيب، معناه عيب النوع، إذ ليس المراد عيب الشيء المعين، فإنه ليس هو المستحق، وإنما المراد عيب النوع، والأنواع لا يعقل عيبها إلا نقصان قيمتها، هذا معنى كلام الشيخ تقي الدين في الاستدلال، لما ذكره المصنف عنه، في البيتين المذكورين، كما ستقف عليه إن شاء الله تعالى - إلى أن قال: وخرج القيمة في المثلى ... بنقص نوع ليس بالخفي واختاره وقال عدل ماض ... خوف انتظار السعر بالتقاضي ثم نقل الشارح كلام الشيخ - إلى أن قال: إذا أقرضه أو غصبه طعاما فنقصت قيمته، فهو نقص النوع، فلا يجبر على أخذه ناقصا، فيرجع إلى القيمة، وهذا هو العدل، فإن المالين إنما يتماثلان إذا استوت قيمتهما، وأما مع اختلاف القيمة فلا تماثل، قال: ويخرج في جميع الديون من الثمن والصداق، والفداء والصلح عن القصاص، مثل ذلك كما في الأثمان، انتهى ملخصا ; وكثير من الأصحاب تابعوا الشيخ تقي الدين في إلحاق سائر الديون بالقرض ; وأما رخص السعر، فكلام الشيخ صريح في أنه يوجب رد القيمة أيضا ; وهو أقوى، فإذا رفع إلينا مثل ذلك، وسطنا بالصلح بحسب الإمكان، هيبة الجزم بذلك. وسئل الشيخ عبد الله أبا بطين: إذا غلت الدراهم المتعامل بها، أو رخصت الخ؟ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 206 فأجاب: قد ذكر الأصحاب رحمهم الله، أنه إذا وقع البيع بنقد معين، كدراهم مكسرة أو مغشوشة، أو فلوسا، ثم حرمها السلطان، فمنع المعاملة بها قبل قبض البائع لها، لم يلزم البائع قبضها، بل له الطلب بقيمتها يوم العقد، وكذا لو أقرضه نقدا أو فلوسا، فحرم السلطان المعاملة بذلك، فرده المقترض لم يلزم المقرض قبوله، ولو كان باقيا بعينه لم يتغير، وله الطلب بقيمة ذلك يوم القرض، وتكون من غير جنس النقد إن أفضى إلى ربا الفضل. ووجه رد القيمة فيما ذكرنا: أما في مسألة البيع، فلأنها من ضمان المشتري حتى يقبضها البائع، وقد تعيبت بيد المشتري فلم يلزم البائع قبولها، وأما في مسألة القرض، فلأنها بقيت في ملك المقترض فلم يملك ردها، وإنما يملك القيمة والحالة هذه على المذهب، فيما إذا منع السلطان المعاملة بها خاصة، أما إذا زادت قيمتها أو نقصت مع بقاء التعامل بها، وعدم تحريم السلطان لها، فيرد مثلها سواء غلت أو رخصت أو كسدت، هذا حاصل المذهب في المسألة عند أكثر الأصحاب. وقال شيخ الإسلام: تقي الدين رحمه الله: قياس القرض فيما تقدم جميع الديون، من بدل المتلف والمغصوب، والصداق والصلح عن القصاص، والكتابة ; قال: وكذا نص أحمد في جميع الديون، قال الأثرم: سمعت أبا عبد الله يسأل عن رجل، له على رجل دراهم مكسرة، فسقطت المكسرة أو الجزء: 6 ¦ الصفحة: 207 فلوس، قال: يكون له عليه قيمتها من الذهب، انتهى. وقال الشيخ أيضا: وقد نص في القرض على أن الدراهم المكسرة، إذا منع التعامل بها، فالواجب القيمة، فيخرج في سائر المتلفات كذلك في الغصب والقرض، فإنه معلوم أنه ليس المراد عيب الشيء المعين، فإنه ليس هو المستحق، وإنما المراد عيب النوع، والأنواع لا يعقل عيبها إلا نقصان قيمتها، فإذا أقرضه أو غصبه طعاما، فنقصت قيمته، فهو نقص النوع، فلا يجبر على أخذه ناقصا، فيرجع إلى القيمة، وهذا هو العدل، فإن المالين إنما يتماثلان إذا استوت قيمتهما، وأما مع اختلاف القيمة فلا تماثل، فعيب الدين إفلاس المدين، وعيب العين المعينة خروجها عن الكمال بالنقص، وأما الأنواع فلا عيب فيها بالحقيقة، وإنما نقصانها كعيبها، انتهى. فالحاصل: أن الأصحاب إنما أوجبوا رد قيمة ما ذكرنا في القرض، والثمن المعين خاصة فيما إذا منع السلطان التعامل بها فقط، ولم يروا رد القيمة في غير القرض والثمن المعين، وكذا لم يوجبوا رد القيمة والحالة هذه فيما إذا كسدت بغير تحريم السلطان لها، ولا فيما إذا غلت أو رخصت ; وأما الشيخ تقي الدين فأوجب رد القيمة في القرض والثمن المعين، وكذلك سائر الديون فيما إذا كسدت مطلقا، وكذلك إذا نقصت القيمة فيما ذكروا في جميع المثليات، والله أعلم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 208 وسئل الشيخ: حسن بن حسين بن علي: عن رجل عنده لآخر جدد، حال كون صرف الريال خمسا من الجدد، فطالت المدة حتى بلغ مبلغا هل يحكم له بالقيمة حال الاستدانة، أو القرض ... إلخ؟ فأجاب: قال في شرح المفردات عند قول الناظم: والنص بالقيمة في بطلانها ... لا في ازدياد القدر أو نقصانها ما لفظه، أي: أن النص إنما ورد عن الإمام أحمد، فيما إذا أبطلها السلطان فمنع المعاملة بها، لا فيما إذا زادت قيمتها أو نقصت، مع بقاء التعامل بها، وعدم تحريم السلطان لها فيرد مثلها سواء غلت أو رخصت أو كسدت، وسواء كان الغلاء والرخص كثيرا، بأن كان عشرة بدانق، فصارت عشرين بدانق وعكسه أو قليلا، لأنه لم يحدث فيه شيء إنما تغير السعر، فأشبه الحنطة إذا رخصت أو غلت، قال: والشيخ في زيادة أو نقص ... مثلا كقرض في الغلا والرخص أي: وقال الشيخ الموفق، إذا زادت قيمة الفلوس أو نقصت رد مثلها، كما لو اقترض عرضا مثليا، كبر وشعير ونحاس وحديد، فإنه يرد مثله ولو غلا أو رخص ; لأن علو القيمة ونقصانها لا يسقط المثل عن ذمة المستقرض، فلا يوجب المطالبة بالقيمة، وهذا معنى ما تقدم، من أن نص الإمام بالقيمة إنما هو إذا أبطل السلطان المعاملة بها، لا في الجزء: 6 ¦ الصفحة: 209 زيادة القيمة أو نقصانها، انتهى ; وحكى فيه مذهب مالك والشافعي والليث القول بالمثل، ثم قال: ولنا أن تحريمها منع نفاقها، وأبطل ماليتها، فأشبه كسرها، انتهى. وقال الشيخ: تقي الدين في شرح المحرر: إذا أقرضه أو غصبه طعاما، فنقصت قيمته فهو نقص النوع، فلا يجبر على أخذه ناقصا فيرجع إلى القيمة، وهذا هو العدل، فإن المالين إنما يتماثلان إذا استوت قيمتهما، وأما مع اختلاف القيمة فلا تماثل، فعيب الدين إفلاس المدين، وعيب العين المعينة خروجها عن المعتاد، انتهى، وكلام الشيخ هذا، هو الذي ذكره الناظم عنه تخريجا له واختيارا، فقد عرفت أنه تحصل في المسألة من حيث هي ثلاثة أقوال، التفريق بين ما إذا حرمها السلطان، فبطلت المعاملة بها بالكلية، ومثله إن تكسرت أو كسدت، فلا يتعامل بها فالقيمة، وبين ما إذا كان غايته الغلاء والرخص، مع بقاء المعاملة بحالها، فالمثلي والمثل مطلقا كما هو المنقول عن مالك والشافعي والليث، وثالثها: اختيار أبي العباس، وهو المعتمد لدينا في الفتوى. تنبيه: في المثلي الذي اختار أبو العباس القيمة فيه أوجه، أصحها: أن المثلي ما حصره كيل أو وزن، وجاز السلم فيه، فإن وجد أحد الوصفين دون الآخر فليس بمثلي، وذكر معناه في الروض وغيره من كتب الأصحاب، وعلى هذا فالجدد ليست مثلية ; لأنه لا يجوز السلم فيها لعدم الانضباط، فإنها تختلف بالكبر والصغر، والثقل والخفة، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 210 والطول والصفاء والخضرة، وقلة الفضة وكثرتها ; وأيضا ففيها فضة، ولا يجوز إسلام أحد النقدين في الآخر، لكن رأيته جزم في الإقناع بأن الدراهم المغشوشة مثلية، والجدد مثلها فيما يظهر لي، والله أعلم. سئل الشيخ: عبد الله بن الشيخ محمد رحمهما الله: هل يجوز طلب ما أقرض؟ فأجاب: وأما قولك: هل يجوز للمقرض أن يطلب المقترض ما أقرضه، إذا أخر الرد وأبطأ عليه، فلا علمت به بأسا، وهذا الذي يقوله العوام: إنه لا يجوز طلبه، ما علمت له أصلا، والذي ذكره الفقهاء، وحكوا فيه القولين: إذا أقرضه إلى أجل معلوم، هل يجوز طلبه قبل الأجل؟ فعند الحنابلة وكثير من الفقهاء، أن القرض لا يتأجل بالتأجيل، والقول الثاني: أنه يتأجل بالتأجيل، فلا يطلبه قبل حلول الأجل الذي أجله إليه. وقال أيضا هو والشيخ حسين وإبراهيم، وعلي أبناء الشيخ: ومنها: أي المعاملات الربوية، ما يفعله بعض الناس إذا كان عنده تمر قد استغنى عنه، ورأى السعر رخيصا وأراد إبداله بتمر من الثمرة المقبلة، أقرضه لمن يعطيه بدله تمرا جديدا، وليس هذا بالقرض المسنون، إنما هذا إبدال تمر بتمر نسيئة، وإبدال التمر بتمر نسيئة لا يجوز، بل هو ربا ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم النهي عنه، والقرض المندوب إليه: قصد الجزء: 6 ¦ الصفحة: 211 المقرض الإرفاق بالمقترض ونفعه، أما إذا كان قصده نفع نفسه إبدال تمر بتمر آخر، فليس بقرض إنما هو بيع نهى عنه ; لأنه بيع تمر بتمر، قال عبد الله بن عمر رضي الله عنه "السلف على ثلاثة أوجه: سلف تسلفه تريد به وجه الله، فلك وجه الله ; وسلف تريد به وجه صاحبك، فلك وجه صاحبك ; وسلف لتأخذ به طيبا بخبيث، فذلك الربا" ومنها ما يفعله بعض الناس: يقرض غريمه دراهم وغيرها، ويتسامح عنه في الاستيفاء، فيسامحه الغريم، فالمبايعة إذا بايعه فلعميله بيع، ولغيره بيع من الناس أغلى منه، لأن العميل يقرضه ويسامحه في الاستيفاء، فيقول فلان فلان، يسلف ويتسامح، ويأخذ ويدع، ولا يعلم المتعاقدان أن هذا ربا، وكل قرض جر منفعة فهو ربا، ولأنه إذا زاده في البيع لأجل تأخيره بعض الدين الذي قد حل عليه، كان ما أخذه في مقابلة التأخير ربا، من جنس ربا الجاهلية الذي نزل القرآن بتحريمه، وقد ذكر العلماء: أن من كان له قرض عند رجل، أو عليه دين حال، فأهدى إليه صاحب الدين هدية قبل الوفاء، فإنه لا يقبلها بل يردها، فإن لم يفعل فليحسبها من الدين الذي له في ذمة المهدي. وقد جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إذا أقرض أحدكم قرضا فأهدى إليه أو حمله على الدابة فلا يقبل، إلا أن يكون جرى بينه وبينه معاملة قبل ذلك " 1 قال عبد الله بن سلام: "إذا كان لك على رجل حق، فأهدى إليك   1 ابن ماجه: الأحكام (2432) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 212 حمل تبن، أو حمل شعير، أو حمل قَتّ1، فلا تأخذه فإنه ربا" وأجاب أيضا: الشيخ عبد الله، إذا كان عند إنسان تمر أو حب، وكسد في يده لأجل رخصه، وأراد أن يسلفه إنسانا إلى الثمرة المقبلة، لأجل منفعة ثمرة المقبل، فهذا لا يجوز ; لأنه قرض يجر نفعا إليه، وكل قرض يجر منفعة فهو ربا. وأجاب أيضا: وإذا اقترض منه ليوفيه، فالمسألة فيها خلاف، والأظهر الكراهة لا التحريم، وإذا أقرض فلاحه في شراء بقرة أو بذر، فالظاهر المنع ; لأنه قرض جر منفعة. وأجاب أيضا: إذا أعطى آخر دراهم معلومة ينتفع بها، بشرط نفع معلوم ما دامت الدراهم في يده، فهذا من أنواع الربا، بل كل قرض جر نفعا فهو ربا، ويجب على من أخذ الدراهم أن يردها إلى صاحبها، ثم ينظر في حال الدافع والمدفوع إليه، فإن كانا يعتقدان أن هذا لا يجوز، وأن ما فعلاه حرام عليهما، وجب على الأمير تأديبهما بما يزجرهما وأمثالهما عن ذلك، وما قبضه دافع الدراهم في مقابلة الدراهم، وجب رده إلى ربه، ولا يباح لقابضه ; لأنه ربا. وأجاب أيضا: وأما الذي يعطي إنسانا دراهم، ويأكل عليها شيئا معلوما، ورأس ماله باق، فهذا حرام لا يجوز، ويعطي رأس ماله، ولا يحتسب عليه ما أكله قبل الإسلام، بل   1 بفتح القاف وتشديد التّاء، وهو علف الدّواب، كما في فتح الباري، انظر: باب مناقب عبد الله بن سلام من صحيح البخاري. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 213 صاحب الدراهم يعطي رأس ماله ولا ينجم، بل يعطاه حاضرا، إلا إن كان من عليه الدراهم معسرا، فينظر إلى ميسرة، قال الله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [سورة البقرة آية: 280] . وسئل أيضا: الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمهما الله تعالى: عن الرهون التي استعملها كثير، إذا احتاج إنسان: أخذ مالا من آخر، لا بعقد القرضة بل على سبيل الإباحة والتراضي، ودفع المحتاج إلى صاحب المال أرضه بالمزارعة، لأجل المال الذي في ذمته ... الخ؟ فأجاب: قال الله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [سورة البقرة آية: 278] وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [سورة النساء آية: 59] وعن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع، ولا ربح ما لم يضمن، ولا بيع ما ليس عندك " 1 رواه أبو داود والترمذي، وصححه. قال علماؤنا رحمة الله عليهم: بين النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يحل أن يقرض الرجل الرجل ويبيعه ليحابيه، لأجل ذلك القرض،   1 الترمذي: البيوع (1234) , والنسائي: البيوع (4611) , وأبو داود: البيوع (3504) , والدارمي: البيوع (2560) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 214 وهو من أكثر حيل الربا وقوعا، كما إذا أقرضه ألفا، وباعه ما يساوي مائة بخمسين، لأجل ذلك القرض ; وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه رضي الله عنهم أجمعين: تحريم الهدية بعد عقد القرض قبل الوفاء، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه سئل عن الرجل يقرض أخاه المال فيهدي إليه، فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا أقرض أحدكم قرضا، فأهدى إليه أو حمله على الدابة، فلا يركبها ولا يقبلها، إلا أن يكون بينه وبينه قبل ذلك " 1 رواه ابن ماجه بإسناد حسن. وعن أبي بردة بن أبي موسى، قال قدمت المدينة، فلقيت عبد الله بن سلام، فقال: "إنك بأرض الربا فيها فاش، فإن كان لك على رجل حق، فأهدى إليك حمل تبن، أو حمل شعير، أو حمل قت، فلا تأخذه فإنه ربا" رواه البخاري في صحيحه، وروى مثله سعيد بن منصور في سننه عن أبي بن كعب، وروى عن ابن مسعود نحو ذلك، وعن سالم بن أبي الجعد، قال: "جاء رجل إلى ابن عباس، فقال: إني أقرضت رجلا يبيع السمك عشرين درهما، فأهدى إلي سمكة قومتها بثلاثة عشر درهما، فقال خذ منه سبعة دراهم" رواه سعيد في سننه بإسناد صحيح. وعن ابن عمر، أنه "أتاه رجل فقال: إني أقرضت رجلا بعيرا فأهدى إلي هدية جزلة، فقال: رد إليه هديته أو احسبها له" رواه سعيد أيضا ; فإذا كان هذا فيما يتبرع به للمقرض بعد القرض، فكيف إذا تواطآ على التبرع، مثل أن يقرض من   1 ابن ماجه: الأحكام (2432) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 215 يعيره داره، أو يرهنها عند من يأذن له في سكناها، أو يضاربه بأقل من جعل مثله، أو يبتاع منه الشيء بأضعاف قيمته، أو يكري داره بثلث كراها، أو يدفع إليه شجرة مساقاة بأضعاف جعل مثله، انتهى. فتأمل رحمك الله: هذا الكلام بعين الإنصاف، ليتبين لك أن الرهون التي تفعل عندكم لأجل المال الذي في ذمته، فيصبر عليه، وينظره ما دام يستغل الشجر أو الأرض، هو حيلة على أكل الرهن والانتفاع به، لأجل القرض، ولو لم يكن في ذمته ذلك المال لم يتركه يستغل أرضه، وربما تركها له بدون قيمة مثلها، فهذا هو المحاباة، وهو الربا الذي نص العلماء على تحريمه، سواء سمي ذلك المال قرضا أو غيره، أو كان دينا في ذمته، وكان أهل الجاهلية قبل الإسلام، إذا كان لأحدهم دين على رجل إلى أجل، فحل الأجل قال له: إما أن تقضي وإما أن تربي، فيزيده هذا في المال، ويزيده هذا في الأجل، فحرم الله ذلك ; فلولا أن الأرض أو الشجر أو الدار ينتفع بها، لما صبر عليه وأنظره. وعن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لعن الله اليهود، حرمت عليهم الشحوم، فجملوها فباعوها " 1 متفق عليه وقال الخطابي رحمه الله "جملوها" معناه: أذابوها حتى تصير ودكا، فيزول عنها اسم الشحم ; قال: وفي هذا الحديث بيان، أن كل حيلة يحتال بها للتوسل إلى محرم، فإنه لا يتغير حكمه بتغير هيئته وتبديل اسمه.   1 البخاري: البيوع (2223) , ومسلم: المساقاة (1582) , والنسائي: الفرع والعتيرة (4257) , وابن ماجه: الأشربة (3383) , وأحمد (1/25) , والدارمي: الأشربة (2104) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 216 وأما إن كان صاحب المال لا يقدر على وفائه، فينجمه عليه صاحب الدين بقدر غلته عليه كل سنة، ويأخذ الغلة ويحسبها بسعر يومها، ولا بأس بذلك إذا خلت عن المحاباة، والله أعلم. وأجاب أيضا: وأما الأرض ورهونها، فيجوز أن تعطوا الرجل أرضه لمن يحرثها، ولصاحب الأرض جزء معلوم من الثمرة ; وأما أن يرهنها رجل آخر بدراهم معلومة، ويأخذ صاحب الدراهم غلتها من كل الثمرة، فهذا لا يجوز، سواء كان من الثمرة أو غيرها من بقية الثمار. وأجاب أيضا: وأما الرهون التي تؤكل غلتها بغير بذر ولا حرث، فلا يجوز، ويرد صاحب الأرض على المرتهن ما قبضه من دراهم كانت أو طعاما، فإن كان معسرا لزمه إنظاره إلى ميسرة، فإن قدر على وفاء البعض أوفاه بما قدر عليه. وأجاب الشيخ: حمد بن ناصر بن معمر: وأما الذي ما عنده إلا أرض مرهونة، رهنها تاجر آخر، داخل آخر فيها بدراهم، فهي فاسدة ربا، ويصير رأس مال، وما أكل من ثمارها بعد ما أسلم يحسب عليه من رأس ماله، فإن كان ما عند صاحب الدين إلا أرضه، وأراد أن يتراضيا هو وإياه على قطعة منها يوفيه بها فحسن، ويحضرهما اثنان عدلان يعرفان القيمة، إن كان له رأس مال فهو يرد ما أسلم من يده، الدراهم دراهم، والعروض عروضا، وإن كان ما له إلا قدر معيشته الجزء: 6 ¦ الصفحة: 217 وعياله، فلا يأخذ صاحب الدين إلا ما فضل من كفاية عياله، ويستوفى منه بقدر السهم الذي يأخذ منه أولا، ودين الربا الذي مضى في الشرك، إن كان يقدر يوفيه رأس ماله فيوفيه، وإلا ما له إلا ما فضل عن معشيته وعياله، وبقره الذي يحرث عليها، لا يأخذها إذا كان أخذها يضر به ويعطل حرثه. وأجاب الشيخ عبد الله أبا بطين، وقول أحمد: أكره قرض الدور ... إلخ، وذلك لأنه قرض جر منفعة، وبعض الناس يتوصل إلى ذلك بحيلة باطلة، إذا أراد أن يرتهن دارا، أو أرضا في قرض، وينتفع بها، أظهروا صورة بيع، وهو في باطن الأمر رهن، فيبيعه ما يساوي مائة بخمسين، أو أقل أو أكثر بأقل من قيمتها، ويشترط الخيار، وهذا يسميه بعض الناس: بيع الأمانة، وأما إذا كان بيعا حقيقيا ظاهرا وباطنا، بأن يبيعه إياها بقيمتها من غير نقص، ويشترط الخيار، فلا بأس بانتفاعه بالمبيع في مدة الخيار، كما نص عليه أحمد ; وهذه العقود المنهي عنها حرام عند العلماء، وقالوا: يحرم تعاطيهما عقدا فاسدا، فإذا كان العقد فاسدا، فتعاطيه حرام على المتعاقدين جميعا. سئل الشيخ: حسين وعبد الله ابنا الشيخ محمد: عمن اشترى نخلا بثمن معين، ونذر نذرا لله على أنه متى دفع البائع دراهمي أن أرجع إليه نخله وإذا ادعى البائع في النخل هل له أخذه ... الخ؟. فأجابا: هذا العقد المذكور في السؤال عقد باطل، وهو الجزء: 6 ¦ الصفحة: 218 حيلة على الربا، وهو من باب " كل قرض جر نفعا فهو ربا" وتحيله بهذا العقد والنذر لا يحل له الربا، وهي حيلة باطلة، والحيل لا تجوز في الدين ; ويجب على المشتري رد الثمن، ويعود النخل إلى بائعه، وأما ما أكل في حال كفره وجهله من غلة النخل، فإنه لا يطالب بذلك. وسئل الشيخ: عبد الله أبا بطين: عن قول الصحابة وغيرهم، فيما إذا أهدى الغريم لصاحب الدين شيئا وأخذه، فهو ربا؟ فأجاب: هذا كذلك ذكر الفقهاء أنه لا يجوز أخذه، إلا أن يعاوضه عنه، أو يحسبه من دينه، إلا إن كان شيئا جرت عادة به قبل دينه، فلا بأس. وأجاب أيضا: وأما المنفعة التي يجرها القرض، فهي حرام، ومنها الهدية لأجل إقراضه إياه، إلا أن يحسبها من دينه فلا بأس، وكذلك لو قضاه خيرا مما أخذ منه، من غير شرط ولا مواطاة، فلا بأس، لأن النبي صلى الله عليه وسلم استلف بكرا، ورد خيرا منه، وقال: " خيركم أحسنكم قضاء " 1. وسئل الشيخ: عبد الرحمن بن حسن: عن صاحب السفينة إذا أقرض أجيره؟ وقوله: سلفني ... إلخ؟ فأجاب: وأما صاحب السفينة، وقوله: سلفني، فلا، ولو يجعله من الأجرة، ويقدمها عليه جاز. وسئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: عمن أخذ في الجاهلية أو غيرها نفع دراهم ... إلخ؟   1 البخاري: في الاستقراض وأداء الديون والحجر والتفليس (2390) , ومسلم: المساقاة (1601) , وأحمد (2/416 ,2/456) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 219 فأجاب: إذا كان المتعاقدان جاهلين بالتحريم، أو كان ذلك في الجاهلية قبل الإسلام ثم أسلما، فإنه يجب على من أخذ الدراهم ردها إلى صاحبها، وربا الجاهلية موضوع ; وأما قبض الدراهم في مقابلة نفع دراهمه في جاهليته، أو بعد إسلامه قبل أن يبلغه النهي، فهو له، فإن كان العوض لم يقبض، بل كان باقيا في ذمة المقترض، فليس للمقرض إلا رأس ماله، ولا يأخذ معه زيادة، وقد دل على ذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [سورة البقرة آية: 278] إلى قوله: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} [سورة البقرة آية: 279] وعقود الشرك ما مضى منها في حال الشرك، وقبضه المتعاقدان قبل الإسلام، يقران على ما مضى منه ; لأن الإسلام يهدم ما قبله {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ} الآية [سورة البقرة آية: 275] . سئل الشيخ: محمد بن عبد الوهاب: إذا اختلف المقرض والمقترض ... إلخ؟ فأجاب: وإذ اختلفا فقال المقرض أقرضتك، وقال الآخر وهبتني، فالقول قول المقرض مع يمينه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 220 باب الرهن سئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى: عن رهن ما في ذمة الغير. فأجاب: الرهن على ما في ذمة الغير من أجرة وما أشبهها، فغير صحيح. صيغة الرهن سئل الشيخ حسن بن حسين بن الشيخ محمد رحمهم الله: عما إذا قال: دينك قادم في نخلي أو زرعي ... الخ؟ فأجاب: إذا توفرت شروط الصحة واللزوم، واطرد العرف بهذه الصيغة، أو بالمعاطاة فيما يتناول، أو بالتخلية المعتبرة في نحو ما ذكر بدون صيغة لفظية، فلا مانع، قال في الغاية، وينعقد بلفظ ومعاطاة، انتهى ; فأما التزام لفظ مخصوص، فليس فيه أثر ولا نظر، قاله أبو العباس. وأجاب الشيخ عبد الله أبا بطين: هذا ليس برهن، وإنما هو وعد، فيصير المقول له ذلك أسوة الغرماء، وإن لم يكن له غريم غيره، فيستحب الوفاء بوعده، ولا يجب عند أكثر العلماء. وأجاب الشيخ حسن بن حسين بن الشيخ: إذا قال أنا مقدمك في ثمرة هذا النخل، بعد التأبير، أو الزرع الأخضر، اعتبر فيه مقاصدهما، وأما في عرف لسان أهل زماننا، فإن كان ذلك يدل على الرهن اعتبر، وإلا فلا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 221 وسئل الشيخ عبد الله العنقري: عمن له على آخر دراهم، فقال: هذا بعيري مثلا، قضابة لك، فيه دراهمك إلى نصف شهر، فإن مضى ولم أخلصك، فبعه وخذ دراهمك ... الخ؟ فأجاب: الذي قال بعيري قضابة لك في دراهمك، فإذا مضى نصف الشهر فبعه، فالظاهر أن هذا توكيل في البيع المذكور، فإذا احتاط لنفسه وباعه، وأشهد على البيع فلا بأس. أحكام المرهون سئل الشيخ: عبد الله بن الشيخ محمد رحمهما الله: عما يصح الرهن فيه في الإسلام إلخ؟ فأجاب: الرهن الصحيح في الإسلام، أن يرهن عنده شيئا يقبضه، من عروض ودواب، أو أرض أو نخل أو دار، ولا ينتفع بشيء من الرهن ما دام مرهونا، فإن انتفع بشيء من غلته حسبه من الدين. وسئل: هل يجوز رهن الصبرة من الطعام الذي لا يعرف قدره بالكيل والوزن؟ فأجاب: ما جاز بيعه جاز رهنه، ولا وجه للمنع. وسئل: عن رهن المبيع في مدة الخيار أو رهن مشتريه؟ فأجاب: لا يصح رهن المبيع في مدة الخيار، فإن رهنه المشتري والخيار له وحده صح، وبطل خياره. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 222 وسئل: عن رهن الوارث تركة الميت ... الخ؟ فأجاب: وإذا رهن الوارث تركة الميت أو باعها، وعلى الميت دين، صح في أصح الروايتين، وهو الصحيح إن شاء الله. وسئل: إذا استعار من آخر شيئا، أو غصبه فأراد صاحبه رهنه؟ فأجاب: يصح رهنه في العارية، والمغصوب إذا أراد غاصبه رده. وسئل: عن رهن المكيل والموزون قبل قبضه؟ فأجاب: وأما رهن المكيل والموزون قبل قبضه، ففيه خلاف، والمشهور من المذهب أنه لا يجوز قياسا على البيع، قال في الإنصاف: ظاهر ما قطع به المصنف في باب الرهن، عدم جواز رهنه، حيث قال: ويجوز رهن غير المكيل والموزون قبل قبضه، قال في القاعدة الثانية والخمسين: قال القاضي في المجرد وابن عقيل، لا يجوز رهنه ولا هبته، ولا إجارته قبل قبضه، كالبيع ; ثم ذكر في الرهن عن الأصحاب: أنه لا يصح رهنه قبل قبضه، انتهى ; واختار القاضي الجواز، واختاره الشيخ تقي الدين. وأما رهن الثمرة المعدومة، كأن يرهن الثمرة قبل أن تخلق، فهذا لا يصح ; لأنه معدوم، فإذا أراد أن يرهن الثمرة دون الأصل، والثمرة لم تخلق لم يصح، إلا أن يرهن الأصل، فيصح حينئذ، وتكون الثمرة التي تستحدث رهنا ; لأن نماء الرهن يكون رهنا تبعا لأصله ; والخلاف بين الجزء: 6 ¦ الصفحة: 223 الفقهاء، إنما هو في رهن الثمرة الموجودة قبل بُدُوّ صلاحها. قال في الإنصاف: وما لا يجوز بيعه لا يجوز رهنه، إلا الثمرة قبل بدو صلاحها من غير شرط القطع، والزرع الأخضر، فيجوز في أحد الوجهين، وهو المذهب جزم به في الوجيز، واختاره القاضي، وهو من مفردات المذهب ; والوجه الثاني: لا يجوز انتهى ملخصا ; وأما رهن أجرة المؤبر فالظاهر عدم الصحة، لأن الأجرة دين في ذمة المؤجر، ليست عينا معينة، وما لا يصح بيعه لا يصح رهنه. وأجاب الشيخ: سعيد بن حجي: يجوز رهن ثمرة النخل قبل بدو صلاحها، والزرع الأخضر، قال الموفق: باب ما يصلح رهنه وما لا يصلح، إلى أن قال: ويصح رهن الثمرة قبل بدو صلاحها، والزرع الأخضر مطلقا، وبشرط التبقية ; لأن الغرر يقل فيه لاختصاصه بالوثيقة، مع بقاء الدين بحاله، خلاف البيع، انتهى، وكذا قال غيره من فقهاء الحنابلة، ولا شيء يرده. وأجاب الشيخ عبد الله أبا بطين، بعد كلامه على مسألة بيع العمل في المساقاة، قال: وأما الرهن فحكمه حكم البيع، فما صح بيعه صح رهنه، وقد نصوا على أنه لا يصح رهن الثمرة قبل ظهورها، فعدم صحة رهن العمل أولى. سئل الشيخ حمد بن ناصر بن معمر: إذا قال لا أضمن إلا أن ترهنني كذا وكذا؟ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 224 فأجاب: الذي يظهر الصحة فيما ذكر، لكونه تبرع بالتزام حق، إنما يلزم ويثبت ويجب بالتزامه، فإذا التزمه وطلب الوثيقة عليه صح. وأجاب الشيخ عبد الله أبا بطين: أما رهن الضامن فلا يصح ; لأنه لم يثبت له حق عند المضمون عنه، ولا يعلم أنه يئول إلى الثبوت. سئل الشيخ: محمد بن عبد الوهاب: عمن رهن عقاره، وعليه دين كثير ... الخ؟ فأجاب صورة المسألة أولا: أن الراجح الذي عليه كثير من العلماء أو أكثرهم، أن الرهن لا يلزم إلا بالقبض، وقبض كل شيء هو المتعارف، وقبض الدار والعقار هو تسلم المرتهن له، ورفع يد الراهن عنه، هذا هو القبض بالإجماع ; ومن زعم أن قوله: مقبوض، يصيره مقبوضا، فهو خارق للإجماع، مع كونه زورا مخالفا للحس. إذا ثبت هذا: فنحن ما أفتينا بلزوم هذا الرهن، إلا لضرورة وحاجة، فإذا أراد صاحبها أن يأكل أموال الناس، ويخون في أمانته لمسألة مختلف فيها، فالرجوع إلى الفتوى بقول الجمهور في هذه المسألة، فإن رجعنا إلى كتاب الله وسنة رسوله، في إيجاب العدل وتحريم الخيانة، فهذا هو الأقرب قطعا، وإن رجعنا إلى كلام غالب العلماء، فهم لا يلزمون ذلك إلا برفع يد الراهن، وكونه في يد المرتهن. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 225 وأما قولك: لم أجد الخلاف إلا في الصدقة والهبة، فهذا هو العجب، تراهم يبطلون العتق الذي هو من أحب الأشياء إلى الله، ويسري في ملك الغير، ويردون الصدقة بعد ما يأخذها الفقير، لأجل العدل ووفاء الدين، ويمنعونه في الرهن ولو كان صحيحا. وأما قولك: إن صح هذا لم يحتج إلى الحجر ; فيقال: إن الحجر يمنع تصرفه مطلقا، ولو كان فيه إصلاح لنفسه وللغرماء، وأما هذه المسألة فتصرفه صحيح كله، إلا ما عصى الله فيه ورسوله، وخان أمانته وظلم الناس. وهذا هو المطابق للعقل والنقل، ولكن هذا وحشة الغربة، كما استوحشوا من إنكار الشرك. لزوم الرهن بالقبض ورهن المواشي وسئل ابنه الشيخ عبد الله: عن رهن المواشي وعن القبض؟ فأجاب: أما رهن المواشي هل يجوز أم لا؟ فالجواز ظاهر لا يخفى، كما دلت عليه السنة الصحيحة، وإنما الإشكال في القبض، هل هو شرط لصحة الرهن أو غير شرط، والمشهور عند أهل العلم: أن القبض شرط لصحة الرهن وأما استدامة القبض، فهل هي شرط أم لا؟ فعلى قول من يشترط الاستدامة فالأمر ظاهر، وعلى القول الثاني إذا قبضه المرتهن، فلا بأس أن يأذن للراهن في الانتفاع به، فيكون تحت يد الراهن ينتفع به والرهن بحاله. وأجاب أيضا: هذه المسألة اختلف الفقهاء فيها على الجزء: 6 ¦ الصفحة: 226 قولين، بل أقوال ; والمشهور في المذهب: أنه لا يصح إلا بقبضه، للآية الكريمة، وهذا قول أبي حنيفة والشافعي، وقال مالك: يلزم الرهن بمجرد العقد قبل القبض، كالبيع، ولكن يجبر الراهن على التسليم، وقال في الإنصاف: الصحيح من المذهب أنه لا يلزم إلا بالقبض، وعنه: أن القبض ليس بشرط في المتعين، فيلزم بمجرد العقد، نص عليه، فعليها متى امتنع الراهن من تقبيضه، أجبر عليه كالبيع ; وإن رده المرتهن على الراهن بعارية أو غيرها ثم طلبه، أجبر الراهن على رده، انتهى. وأما قول السائل: هل استدامته شرط في اللزوم؟ فهذا ينبني على الخلاف في أصل المسألة، فعلى قول الجمهور: الاستدامة شرط للزوم الرهن، وهو المذهب، وهو قول أبي حنيفة ومالك، وقال الشافعي: استدامة القبض ليست شرطا، قال في الإنصاف: واستدامته شرط في اللزوم هذا المذهب، وعنه أن استدامته في المتعين ليست بشرط، اختاره في الفائق، انتهى ملخصا. وأجاب ايضا: لا يلزم الرهن إلا بالقبض، وفرقوا في هذه المسألة فقالوا: ما كان مكيلا أو موزونا لا يلزم رهنه إلا بالقبض ; وفيما عداهما روايتان، إحداهما: لا يلزم إلا بالقبض ; والثانية: يلزم بمجرد العقد، والأول أصح، واستدامة القبض شرط للزوم الرهن، فإن أخرجه من يده باختياره زال لزوم الرهن ; وقال مالك: لا يزول الرهن ولو الجزء: 6 ¦ الصفحة: 227 أخرجه من يده، وهو الذي عليه العمل اليوم. وأجاب أيضا هو والشيخ حمد بن ناصر: قد اختلف العلماء، هل من شرط صحة الرهن القبض؟ أم يصح ويكون رهنا بمجرد العقد؟ فمذهب أبي حنيفة والشافعي وأحمد في المشهور عنه: أنه لا يلزم إلا بالقبض، وقبل القبض يكون جائزا لا لازما ; ومذهب مالك رحمه الله: يلزم بمجرد العقد قبل القبض كالبيع. فإذا علمت الخلاف في أصل المسألة ; فالقائلون باشتراط القبض، اختلفوا فيما إذا أخرجه المرتهن باختياره، هل يزول لزومه ويبقى العقد كأنه لم يوجد فيه قبض؟ فمذهب الحنابلة يزول لزومه، فإن عاد إلى المرتهن عاد لزومه بحاله بحكم العقد السابق، وهذا مذهب أبي حنيفة ; وقال الشافعي: استدامة القبض ليست شرطا، وذلك لأنه عقد يعتبر القبض في ابتدائه، فلم تشترط استدامته، وهذا هو المفتى به عندنا. وأجاب أيضا الشيخ حمد بن ناصر: المسألة اختلف الفقهاء فيها على قولين، بل أقوال، فالمشهور في المذهب: أنه لا يصح إلا بقبضه، للآية الكريمة، وهذا قول أبي حنيفة والشافعي، وقال مالك: يلزم الرهن بمجرد العقد قبل القبض كالبيع، ولكن يجبر الراهن على التسليم ; وقال في الإنصاف: الصحيح من المذهب أنه لا يلزم إلا بالقبض ; وعنه: أن القبض ليس بشرط في المتعين، فيلزم بمجرد العقد الجزء: 6 ¦ الصفحة: 228 نص عليه، فعليها متى امتنع الراهن من تقبيضه أجبر عليه كالمبيع، وإن رده المرتهن على الراهن بعارية أو غيرها، ثم طلبه أجبر الراهن على رده. وأما استدامته فينبني على الخلاف في أصل المسألة، فعلى قول الجمهور الاستدامة شرط للزوم الرهن، وهو المذهب، وهو قول أبي حنيفة ومالك ; وقال الشافعي: استدامة القبض ليست شرطا، قال في الإنصاف: واستدامته شرط في اللزوم هذا المذهب، وعنه: أن استدامته في المتعين ليست بشرط، اختاره في الفائق. وسئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمه الله: إذا رهن نخله أو زرعه، واحتاج لما يصلح الرهن وامتنع المرتهن من مداينته؟. فأجاب: هذا القول مبني على لزوم الرهن وإن لم يقبض، والصحيح خلافه، وأن الرهن لا يلزم إلا بالقبض، والاستدامة، كما هو شرط للزوم أيضا على المختار عند عامة الأصحاب، قال في الشرح الكبير: ولا يلزم الرهن إلا بالقبض، ويكون قبل رهنا جائزا يجوز للراهن فسخه، وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي، وسواء في ذلك المكيل والموزون وغيرهما ; وقال بعض أصحابنا: في غير المكيل والموزون رواية أنه يلزم بمجرد العقد، وقد نص عليه الإمام أحمد في رواية الميموني، وبه قال مالك، ووجه الأولى قوله تعالى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [سورة البقرة آية: 283] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 229 فعلى هذا: إن تصرف الراهن فيه قبل القبض بهبة أو بيع أو عتق، أو جعله صداقا أو رهنه ثانيا، بطل الرهن الأول، سواء قبض الهبة أو المبيع أو الرهن الثاني أو لم يقبضه، فإن أخرجه المرتهن إلى الراهن باختياره زال لزومه، وبقي العقد كأن لم يوجد فيه قبض ; وهذا التفريع على القول الصحيح، فأما على قول من قال: ابتداء القبض ليس بشرط، فالأولى أن يقال: الاستدامة غير مشروطة، انتهى ملخصا. وفي الإنصاف: ولا يلزم إلا بالقبض، فشمل مسألتين ; إحداهما: أن يكون موصوفا غير معين، فلا يلزم إلا بالقبض، وهذا المذهب وعليه الأصحاب، فعلى هذا يكون قبل القبض جائزا، وقال الزركشي: ظاهر كلام الخرقي، وابن أبي موسى والقاضي، وابن عقيل: أن القبض شرط في صحة الرهن. الثانية: أن يكون معينا كالعبد والدار ونحوهما، فالصحيح من المذهب أنه لا يلزم إلا بالقبض كغير المتعين، قال في الكافي وابن منجا وغيرهما: هذا هو المذهب، ونصره أبو الخطاب، والشريف أبو جعفر وغيرهما واستدامته شرط في اللزوم، هذا المذهب وعليه أكثر الأصحاب، وعنه: أن استدامته في المعين ليس بشرط واختاره في الفائق، انتهى ملخصا. وقد علمت: أن المذهب الصحيح المنصور، عند أكثر الجزء: 6 ¦ الصفحة: 230 الأصحاب، اشتراط القبض واستدامته للزوم، والغالب أن مثل هذا الرهن، كرهن العقارات والثمار والمواشي، لا تقبض أو لا يستديم الراهن قبضها، كما هو الواقع في هذه الأقطار، فعلى القول الصحيح لا يقع على الراهن أضرار لزوال اللزوم، وله أن يتصرف فيه برهن وغيره، فإذا تصرف بطل الرهن الأول، وصح الثاني، ولا يلزم إلا بشرطه المتقدم، ولا يسع الناس إلا هذا. وقد رأينا مما يترتب على القول الثاني، من التضييق والخصومات والتشاجر ما الله به عليم، والقائل من أصحابنا بأنه يلزم بمجرد العقد لا دليل معه، وإنما قوي عنده هذا القول لما رأى عمل عوام الناس على استعمال هذه الرهون، واعتقاد لزومها، فيظن أنه قد أفتاهم من هو من العلماء، ولو سلمنا صحة صدور تلك الفتوى عن عالم، فليس حجة في العدول عن القول الصحيح ; لأن الحجة التي تنفع المستدل، إنما هي الأدلة الشرعية، وهي: الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس الصحيح، والاستصحاب على خلاف فيه ; وما سوى الخمسة ليس دليلا شرعيا، والإجماع: هو اتفاق مجتهدي العصر على قول واحد. وأما المقلد فليس معدودا من أهل العلم، كما ذكره أبو عمر بن عبد البر، والعلامة ابن القيم وغيرهما ; فلا إله إلا الله، كم غير من أحكام الشرع بعرف العوام، وكم دار من تتبع الرخص بين الجهال والطغام، وكم حمل على المشائخ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 231 مما يقولونه بمجرد الظنون والأوهام، فإذا أوردت ما في المسألة من الدليل، للقول الصحيح الجليل، فأجارك الرحمن من إثم ما تسمعه من التأويل. فإن قيل: القول الذي ذكرتموه واخترتموه، قد خالفه بعض الأئمة الكبار، من أهل الاجتهاد والاعتبار، أجيب: بأن المجتهد معذور ; لأنه على كلا الحالين مأجور، وأما من ليس من أهل الاجتهاد، فلا يحل له أن يختار قولا بلا دليل، وليس معه إلا حسن الظن بالمتبوع، وأشياء من التأويل، ولا شك أنه على خطر عظيم، ولو ظن السلامة فما هو بسليم، والله المستعان وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وأجاب أيضا: الصحيح من أقوال العلماء، أن القبض والاستدامة شرط للزوم الرهن، قال في الشرح: ولا يلزم الرهن إلا بالقبض، ويكون قبل رهنا جائزا، يجوز للراهن فسخه ; وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي، وقال بعض أصحابنا: في غير المكيل والموزون، رواية أنه يلزم بمجرد العقد، ونص عليه الإمام أحمد في رواية الميموني، وهو مذهب مالك، ووجه الأولى قوله تعالى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [سورة البقرة آية: 283] فعلى هذا إن تصرف الراهن فيه قبل القبض بهبة أو بيع أو عتق، أو جعله صداقا أو رهنه ثانيا، بطل الرهن الأول، سواء قبض الهبة أو المبيع، أو الرهن الثاني أو لم يقبضه، فإن أخرجه المرتهن إلى الراهن باختياره الجزء: 6 ¦ الصفحة: 232 له، زال لزومه، وبقي العقد كأنه لم يوجد فيه قبض، انتهى ; قال في الإنصاف: هذا المذهب، وعليه الأصحاب ; وعنه: أن استدامته في المعين ليس بشرط، واختاره في الفائق، انتهى ملخصا. فقد عرفت الأصح من الأقوال، الذي عليه أكثر العلماء رحمهم الله، فعليه لا ضرر على الراهن لبطلان الرهن بالتصرف، إذا لم يكن في قبضة المرتهن، وقد ذكر العلماء رحمهم الله أيضا: أن المرتهن لا يختص بثمن الرهن إلا إذا كان لازما، وما عدا هذا القول لا دليل عليه من كتاب ولا سنة، ويترتب على الفتوى به من المفاسد ما لا يتسع لذكره هذا الجواب ; وليس مع من أفتى به إلا محض التقليد، وأن العامة تعارفوه فيما بينهم، ورأوه لازما ; وأنت خبير بأن هذا ليس بحجة شرعية، وإنما الحجة الشرعية: الكتاب، والسنة، والإجماع، وهو: اتفاق مجتهدي العصر على حكم، ولا بد للإجماع من مستند، والدليل الرابع: القياس الصحيح ; وكذا الاستصحاب علي خلاف فيه ; فلا إله إلا الله، كم غلب على أحكام الشرع في هذه الأزمنة من التساهل في الترجيح، وعدم التعويل على ما اعتمده المحققون من القول الصحيح. وقد ادعى بعضهم: أن شيخنا الإمام شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، كان يفتي بلزوم الرهن وإن لم يقبض، فاستبعدت ذلك على شيخنا رحمه الله، ولو فرضنا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 233 وقوع ذلك، فنحن بحمد الله متمسكون بأصل عظيم، وهو أنه لا يجوز لنا العدول عن قول موافق لظاهر الكتاب والسنة، لقول أحد كائنا من كان، وأهل العلم معذورون، وهم أهل الاجتهاد، كما قال الإمام مالك رحمه الله: ما منا إلا راد ومردود عليه، إلا صاحب هذا القبر، يعني: رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم بعد زعم هذا الزاعم: مَنَّ الله علي بالوقوف على جواب شيخنا الإمام رحمه الله، فإذا هو جار على الأصح الذي عليه أكثر العلماء، وصورة جوابه: أن الراجح الذي عليه كثير من العلماء رحمهم الله، أو أكثرهم، أن الرهن لا يلزم إلا بالقبض، وقبض كل شيء هو المتعارف، فقبض الدار والعقار هو تسلم المرتهن له، ورفع يد الراهن عنه، هذا هو القبض بالإجماع، ومن زعم أن قوله: مقبوض، يصيره مقبوضا، فقد خرق الإجماع، مع كونه زورا مخالفا للحس، إذا ثبت هذا: فنحن إنما أفتينا بلزوم هذا الرهن، لضرورة وحاجة، فإذا أراد صاحبها أن يأكل أموال الناس، ويخون في أمانته، لمسألة مختلف فيها، فالرجوع إلى الفتوى بقول الجمهور في هذه المسألة، فإن رجعنا إلى كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم في إيجاب العدل، وتحريم الخيانة، فهذا هو الأقرب قطعا، وإن رجعنا إلى كلام غالب العلماء، فهم لا يلزمون ذلك إلا برفع يد الراهن، وكونه في يد المرتهن، انتهى المقصود. فذكر رحمه الله في هذه الفتيا: أن الراجح الذي عليه أكثر العلماء، أن الرهن لا يلزم إلا بالقبض، وأنه إنما أفتى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 234 بخلافه لضرورة وحاجة ; وأنه رجع إلى قول الجمهور، لما قد ترتب على خلافه من الخروج عن العدل ومن الخيانة ; وهذا الذي أشار إليه رحمه الله، من الخروج عن العدل، وأكل أموال الناس بالباطل، والخيانة في الأمانة، قد رأيناه عيانا، وسببه الإفتاء بخلاف قول الجمهور في هذه المسألة، وقد قرر رحمه الله في هذه الفتيا: أن قول الجمهور أقرب إلى العدل، فلا يجوز أن ينسب إليه غير هذا القول المقرر هنا، والله أعلم. وأجاب أيضا: وأما مسألة الرهن، فقد تكرر السؤال عنها، فنقول: الذي عليه جمهور العلماء، والصحيح من مذهب الإمام أحمد، أن الرهن لا يلزم إلا بالقبض، فلو تصرف فيه الراهن قبل قبضه صح تصرفه، واستدلوا بقوله: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [سورة البقرة آية: 283] واستدامته شرط في اللزوم للآية، فإن أخرجه المرتهن عن يده زال لزومه، فإن رده الراهن إليه عاد اللزوم بحكم العقد السابق; لأنه أقبضه باختياره، فلزم به كالأول، فإن أزيلت يد المرتهن بعد، كأن غصب ونحوه، فالرهن بحاله، لأن يده ثابتة حكما، هذا ما ذكره العلماء رحمهم الله، ومن كتبهم نقلنا، انتهى. وأجاب الشيخ: سليمان بن الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد رحمهم الله تعالى: في لزوم الرهن مطلقا من غير قبض، قولان ; أحدهما: وهو المشهور في مذهب أحمد والشافعي وأبي حنيفة: أنه لا يلزم إلا بالقبض، لظاهر قوله الجزء: 6 ¦ الصفحة: 235 تعالى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [سورة البقرة آية: 283] وقولنا مطلقا، أي: سواء كان موصوفا غير معين، كعبد ودار، أو كان معينا كهذا العبد والدار والسيف ونحو ذلك، وسواء كان من الرقيق والدواب، أو كان من السلاح والثياب ونحو ذلك. والقول الثاني: أنه يلزم بمجرد العقد من غير قبض، وهو قول مالك ورواية عن أحمد في المتعين، وهو المذهب عند ابن عقيل وغيره، قال القاضي: هذا قول أصحابنا ; وقال الفخر بن تيمية في التلخيص: هذا أشهر الروايتين، فعلى هذا يجبر الراهن على دفع الرهن من المرتهن إذا طلبه، لعموم قوله تعالى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [سورة المائدة آية: 1] وهذا عقد ولقوله صلى الله عليه وسلم " المؤمنون عند شروطهم " وأجابوا عن قوله تعالى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [سورة البقرة آية: 283] أنه وصف أغلبي لا شرطي، فلا مفهوم له. إذا تبين هذا: فاعلم أنه لا مانع من الحكم بصحة الرهن المعين الذي لم يقبض، ولزومه إذ لم يكن في القرآن نص على أن القبض شرط، لا سيما والحاجة داعية إلى ذلك في الديون والمعاملات، وقد ذكر: أن المشقة تجلب التيسير، فإذا كان لا يمكن القبض، ولا الاعتياض من الراهن في مثل الدور والعبيد، والزروع والثمار والدواب، إذ لو قيل للمرتهن: اقبضها، ما أراد ذلك، وكان عليه من المشقة ما لا يخفى ; ولو قيل للراهن اقبضها لم يستطع ; لأنه إنما يستدين فيما رهنه، فلا تمتنع الفتيا باللزوم ; لأنها من طرق الترجيح، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 236 فاعلم ذلك ; وإن كان الأولى هو القول الأول. وسئل: هل استدامة القبض شرط في الرهن؟ فأجاب: أما على المشهور في المذهب فنعم، وأما على الثاني الذي رجحنا فليس بشرط، وقد تقدم ترجيحها، فعلى الثاني متى رده المرتهن على الراهن، بعارية أو غيرها، ثم طلبه أجبر الراهن على رده، لما ذكرنا سابقا في عدم اشتراط القبض لصحة الرهن. وأجاب الشيخ حسن بن حسين بن الشيخ محمد: أشهر الروايتين عن أحمد: لا يلزم إلا بالقبض، مع أنه صحيح ; وعنه: يلزم في المتعين بدونه، قال القاضي: هذا قول أصحابنا ; وأما استدامته هل هي شرط أم لا؟ فأما على المذهب فنعم، وأما على الثاني فلا. وأجاب الشيخ: عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين: وأما اشتراط القبض للزوم الرهن، فهذا نعمل به في المنقولات، وأما العقار ونحوه، فالذي عليه العمل عندنا: عدم اشتراط القبض للزوم، وبعض أصحابنا من أهل العصر يشترط فيه القبض، ويقول: إن القبض في العقار: أن لا يمنع الراهن المرتهن من دخوله، وإذا حصلت الثمرة صار نظره عليها، ويجعل هذا قبضا ; ولا يظهر لي كون ما ذكر قبضا ; لأن القبض في هذا ونحوه بالتخلية، ولم تحصل ; لأن التخلية أن يرفع المالك يده عن الرهن، ويخلى بينه وبين المرتهن، وهو الجزء: 6 ¦ الصفحة: 237 الذي حملنا على عدم اشتراط القبض في ذلك، لقلة ما في أيدي الناس، ولاضطرارهم إلى ذلك، إذ لا يمكن صاحب العقار أن يرفع يده عن عقاره، لأن معيشته فيه. وأما مذاهب العلماء في ذلك: فالمشهور في مذهب أحمد عند أكثر أصحابه، اشتراط القبض مطلقا، وكذلك استدامته ; ومذهب مالك عدم اشتراطه ; وعن أحمد رواية أخرى: أن القبض ليس بشرط في المتعين، فيلزم بمجرد العقد، قال القاضي في التعليق هذا قول أصحابنا، وقال في التلخيص: هذا أشهر الروايتين، وهو المذهب عند ابن عقيل وغيره. وأجاب أيضا: وأما رهن المعسر داره في دينه، أنت تعرف المذهب في أن دار المعسر لا تباع في دينه، لكن إذا رهنها في دين عليه اختيارا، فنحن نفتي ببيعها لوفاء ذلك الدين، فإذا كان هو فيها، ولم يخل بين المرتهن وبينها، فلا يخفاك ما في اشتراط القبض للزوم الرهن من الخلاف ; والمشهور في المذهب: اشتراطه مطلقا، وعن أحمد رواية أخرى: أنه لا يشترط في المتعين، اختارها كثير من الأصحاب، وقال بعضهم: إنها هي المذهب ; والذي أدركنا عليه من قبلنا: عدم اشتراط القبض في مثل الدار، والعقار ونحوهما، ويقضون بلزومه في مثل ذلك، من غير اشتراط قبض، ونحن نقضي به فيما مضى، والشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمه الله: يشترط القبض في الجميع، كما هو الجزء: 6 ¦ الصفحة: 238 المشهور عند أكثر الأصحاب. وأجاب الشيخ: عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن، رحمهم الله تعالى: حاصل ما ذكره العلماء في صحة الرهن وفساده، ولزومه وعدمه: اتفقوا على أن من شروطه، أن يكون إقراره في يد المرتهن من قبل الراهن، وذهب مالك: إلى أنه يجوز أن يؤخذ الرهن في جميع الأثمان، الواقعة في جميع البياعات، إلا الصرف، ورأس مال السلم المتعلق بالذمة ; وعنده: يجوز الرهن في السلم، وفي القرض، وفي الغصب، وفي قيم المتلفات، وأرش الجنايات في الأموال، وفي الجراح التي لا قود فيها، ولا يجوز في الحدود، ولا في القصاص، ولا الكتابة. واشترط الشافعية في الرهن: ثلاثة شروط، أحدها: أن لا يكون دينا، فإن الدين لا يرهن بعين؛ الثاني: أن يكون واجبا، فلا يرهن قبل الوجوب، مثل أن يسترهنه فيما يستقرضه، ويجوز عند مالك ; الثالث: أن لا يكون لزومه متوقعا ; وأما شروط الرهن، فالمنطوق بها في الشرع: ضربان ; شروط الصحة، وشروط الفساد، فأما شروط الصحة، فشرطان أحدهما متفق عليه. في الجملة ; والثاني: مختلف في اشتراطه ; أما القبض فاتفقوا في الجملة، على أنه شرط في الرهن، لقوله تعالى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [سورة البقرة آية: 283] واختلفوا هل هو شرط للتمام، أو شرط للصحة؟ وفائدة الفرق: أن من الجزء: 6 ¦ الصفحة: 239 قال هو شرط للصحة، قال: ما لم يقع القبض لم يلزم الرهن. وقال مالك: القبض شرط لتمام الرهن، وقال: يلزم بالعقد، ويجبر الراهن على الإقباض، إلا أن يتراخى المرتهن عن المطالبة، وذهب الشافعي وأبو حنيفة وأهل الظاهر: إلى أنه من شروط الصحة، وعمدتهم قوله تعالى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [سورة البقرة آية: 283] وعند مالك: أن من شروط صحة الرهن، استدامة القبض، وأنه متى عاد إلى الراهن بإذن المرتهن بعارية، أو وديعة أو غير ذلك، فقد خرج من اللزوم ; وقال الشافعي: ليس استدامة القبض من شرط الصحة، فمالك عم الشرط على ظاهر ما لزم، من قول الله تعالى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [سورة البقرة آية: 283] وشرط وجود القبض واستدامته ; والشافعي يقول: إذا وجد القبض، فقد صح الرهن والعقد، فلا يحل ذلك بإعارته، ولا غير ذلك من التصرف، وقد كان الأولى بمن يشترط القبض في صحة العقد، أن يشترط الاستدامة، ومن لم يشترطه في الصحة لا يشترط الاستدامة. وأما الشرط المحرم الممنوع بالنص، فهو أن يرهن الرجل رهنا، على أنه إن جاءه بحقه عند أجله، وإلا فالرهن له، فاتفقوا على أن هذا الشرط يوجب الفسخ، وأنه معنى قوله صلى الله عليه وسلم " لا يغلق الرهن " 1 ومن مسائل هذا الباب المشهورة: اختلافهم في نماء الرهن المنفصل، مثل الثمرة في الشجر المرهون، ومثل   1 ابن ماجه: الأحكام (2441) , ومالك: الأقضية (1437) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 240 الغلة، هل يدخل في الرهن أولا؟ فذهب قوم إلى أن نماء الرهن المنفصل، لا يدخل شيء منه في الرهن، أعني الذي يحدث منه في يد المرتهن، وهذا قول الشافعي ; وذهب آخرون إلى أن جميع ذلك يدخل، وبه قال أبو حنيفة والثوري ; وأما مالك ففرق، فقال: ما كان من نماء الرهن المنفصل، على خلقة المرهون وصورته، فإنه داخل في الرهن كولد الجارية، وأما ما لم يكن على خلقته، فإنه لا يدخل في الرهن متولدا عنه، كثمر النخل أو غير متولد ككراء الدار، وخراج الغلام، انتهى ما لخصته. فتبين من هذا: أن ما اعتمد القاضي حسين لنفسه، من دعواه أنه أحق بالثمرة، من سائر الغرماء، لكونها أو أصلها رهنا له، فلا يتمشى على قول أحد من العلماء ; فإن الشافعي يشترط لصحة الرهن ولزومه: القبض حال العقد، وفي واقعة القاضي المذكور لا قبض، فلا يصح الرهن ولا يلزم ; وأما مالك فيصحح الرهن بالعقد، لكن لا يتم ولا يلزم، إلا بالقبض والاستدامة عنده، وهذا هو الصحيح المعتمد في مذهب أحمد، ومذهب مالك: أن الثمرة الحادثة في يد المرتهن لا تتبع، وفي هذه القضية التي وقعت من قاضي الحريق: إنما حدثت الثمرة فيما لم يقبض، فتكون الثمرة لا يصح رهنها على قول مالك، وعلى قوله، وقول الجمهور: ليس صحيحا في الأصل، ولا في الثمرة، وعلى كل حال فهذا الرهن إما صحيح غير لازم، فيكون أسوة الغرماء، أو الجزء: 6 ¦ الصفحة: 241 يكون فاسدا، وعلى كلا الحالين، فلا يختص بشيء من ثمرة المدين. وأجاب أيضا: اعلم أن القبض والاستدامة شرط للزومه لا لصحته، فيصح ولو لم يحصل قبض ولا استدامة، لكن لو تصرف الراهن ببيع أو هبة صح ذلك، بخلاف المقبوض المستدام، فلا يتصرف فيه إلا بإذن المرتهن، ولمصلحة وفائه. وأجاب الشيخ حسن بن حسين بن علي: اعلم أن في لزوم الرهن الذي لم يقبض قولين، أحدهما: وهو المشهور في مذهب الإمام أحمد، وقول الشافعي وأبي حنيفة: أنه لا يلزم إلا بالقبض، لظاهر قوله تعالى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [سورة البقرة آية: 283] والقول الثاني: أنه يلزم بمجرد العقد من غير قبض، وهو قول مالك ورواية عن أحمد، وهو المذهب عند ابن عقيل وغيره، قال القاضي: هذا قول أصحابنا، وقال الفخر بن تيمية في التلخيص هذا أشهر الروايتين، فعلى هذا يجبر الراهن على دفع الرهن للمرتهن إذا طلبه، لعموم قوله تعالى: {وْفُوا بِالْعُقُودِ} [سورة المائدة آية: 1] وهذا عقد، ولقوله عليه السلام: " المؤمنون عند شروطهم " وهذا شرط، وأجابوا عن قوله تعالى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [سورة البقرة آية: 283] إنه وصف أغلبي لا شرطي، فلا مفهوم له. إذا تبين هذا: فاعلم أنه لا مانع من الحكم بصحة الرهن المعين الذي لم يقبض، إذ لم يكن في القرآن نص الجزء: 6 ¦ الصفحة: 242 على أن القبض شرط، لا سيما والحاجة داعية إلى ذلك في الديون والمعاملات، وقد ذكروا: أن المشقة تجلب التيسير ; فإذا كان لا يمكن القبض من المرتهن، ولا الإقباض من الراهن، في مثل العقار والعبيد والزروع والثمار والدواب، لم تمتنع الفتيا باللزوم ; لأن هذا من طرق الترجيح فاعلم ذلك، وهذا هو الذي نفتي به والحاجة إليه داعية، ولا سيما في قرى نجد لقلة ما في أيديهم، وضعف أماناتهم وفساد معاملاتهم. وأجاب أيضا: وأما الرهن فإن كان في دابة فهو صحيح ولو لم يقبض، بحيث أن المرتهن يمنع الراهن من التصرف فيه، وليس بلازم حتى يقبض، بحيث لو باعه الراهن لم يملك المرتهن الرجوع عليه، ولا على المشترى، انتهى. وسئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن: عن قبض العقار في الرهن كغيره؟ فأجاب: قبض المرتهن له بالتخلية، بأن يمكنه الراهن منه تمكينا تاما، بحيث لا يضع يده عليه، فإن وضع يده عليه بأن يتولى سقيه أو زرعه، أو إجارته زال لزوم الرهن. الزيادة في الرهن سئل الشيخ: عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمهما الله تعالى: هل للمرتهن أن يزيد دراهم، يكون الرهن بها وبالدين الأول؟ فأجاب: المشهور عدم الجواز، وعبارة الإنصاف: يجوز الزيادة في الرهن، ويكون حكمها حكم الأصل، ولا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 243 يجوز زيادة دين الرهن ; لأنه رهن مرهون. وسئل أيضا: إذا قال الراهن للمرتهن، ويكون الذي عندك به رهنا؟ فأجاب: الأظهر في هذه المسألة عدم المنع. وأجاب الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين: إذا رهن إنسان شيئا معلوما بدين معلوم وأراد الراهن أن يستدين من غير المرتهن، ويرهن عنده ما فضل بعد قدر دين المرتهن الأول، فهذا رهن فاسد ; لأن من شرط صحة الرهن أن يكون معلوما، وهذا ليس كذلك، وقد اختلف الفقهاء فيما إذا رهن إنسان شيئا في دين له ثم قال الغريم بعني كذا بكذا، ويكون الرهن الذي عندك رهنا به وبالدين الأول، والمذهب أن ذلك لا يصح. وأما الصورة المسئول عنها: فلا أظن أحدا يجوزها، وقد ذكر في الشرح وغيره عدم صحة رهن المجهول، كما لو قال: رهنتك هذا الجراب بما فيه، ونحو ذلك، ولم يذكر في ذلك خلافا ; والمسألة المسئول عنها أولى بعدم الجواز ; لأنه لا يعلم هل يبقى منه شيء بعد استيفاء المرتهن الأول حقه أم لا، وهذا ظاهر لا خفاء به ولله الحمد. وأجاب أيضا: ما يفعله بعض الناس اليوم إذا كان عنده رهن في مائة مثلا، ثم استدان من المرتهن دينا آخر وأدخله في الرهن، فالأكثر من العلماء لا يجوزون ذلك، وهو المشهور في المذهب ; وفيه قول آخر بالجواز، وعمل الناس الجزء: 6 ¦ الصفحة: 244 عليه ويحكم به، والله أعلم. تصرف الراهن والمرتهن في الرهن سئل الشيخ حسن بن حسين بن الشيخ: إذا استدان زيد من عمرو دينا ورهنه به رهنا ثم استدان عمرو من بكر دينا فرهن به مرهون زيد برضا زيد، هل يصح؟ أم لا بد من فسخ عمرو للرهن، ويقع عقد الرهن بين زيد وبكر؟ فأجاب: ظاهر كلامهم صحة رهن المرتهن للمرهون، بإذن راهنه عند أجنبي، ويكون فسخا للرهن الأول، كالبيع بالإذن ; وأما قولهم: المشغول لا يشغل، والمرهون لا يرهن، فمرادهم به: جعله مرهونا بالدينين معا، فاعلمه. وسئل: عن السيف ونحوه، إذا رهنه شخص عند آخر ثم رهنه المرتهن عند غيره بغير إذن راهنه الأول ... الخ؟ فأجاب: يزول لزومه عنهما معا، أما المرتهن فلإخراجه باختياره، واستدامة قبضه شرط للزومه، فانتفى المشروط بانتفاء شرطه، قال في شرح الإقناع: فإن لم يكن المرهون في يده زال، انتهى، وأما الثاني وهو راهنه، فلأنه ممنوع التصرف مطلقا بغير إذن المرتهن، صرح به في شرح الإقناع وغيره. سئل الشيخ محمد بن إبراهيم: هل يجوز رهن ثمرة العقار الموقوف قبل الصلاح كالطلق أم لا؟ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 245 فأجاب: نعم، يجوز رهنها، كما يجوز رهن ثمرة الطلق، فإن ثمرة الوقف مملوكة للموقوف عليه. سئل الشيخ عبد الله أبا بطين رحمه الله: إذا باع الراهن العين المرهونة بغير إذن المرتهن ... الخ؟ فأجاب: البيع فاسد بلا خلاف بين العلماء، فإن أمكن المرتهن استرجاع الرهن استرجعه، وهو رهن بحاله، وإن لم يتمكن من استرجاعه، لزم الراهن دفع قيمته للمرتهن، فتكون رهنا سواء كانت القيمة مثل الثمن الذي بيع به، أو أقل أو أكثر. تلف الرهن سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ: إذا تلف الرهن ... الخ؟ فأجاب: إذا تلف الرهن من غير تفريط المرتهن فلا ضمان عليه، وهو من مال الراهن، فإن تلف بتفريط المرتهن فإنه يضمنه. وأجاب أيضا: إذا تلف الرهن في يد المرتهن، فإن كان بتعديه أو تفريطه في حفظه ضمنه، قال في الشرح: لا نعلم فيه خلافا، فأما إن تلف بغير تعد منه ولا تفريط، فلا ضمان عليه، وهو من مال الراهن، يروى ذلك عن علي رضي الله عنه وبه قال عطاء والزهري، والأوزاعي والشافعي، وأبو ثور وابن المنذر، فإذا تلف بغير تعد ولا تفريط لم يضمنه، ولم يسقط شيء من الدين، بل هو ثابت في ذمة الراهن، لأن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 246 الدين ثابت في ذمة الراهن، ولم يوجد ما يسقطه. وأما القرض الذي فيه رهن، فلا يجوز تملك الرهن ولا استعماله، فإذا حل الأجل وامتنع أن يوفيه أمر الأمير عليه، ويباع ويعطى صاحب القرض، وإن بقي شيء رجع على صاحبه. وأجاب أيضا: المفتى به عندنا: أن الرهن وثيقة في الدين، يباع عند حلول الدين إذا امتنع الراهن من الوفاء، فمتى امتنع الراهن من الوفاء، وطلب المرتهن بيع الرهن، بيع واستوفى من ثمنه، ولم يجز مطله ولا إجباره على المناجمة ; ومن أجبره على المناجمة فهو جاهل، ومن نسب ذلك إلينا فقد غلط، بل لا يجوز ذلك عندنا إلا برضا المرتهن. وأجاب أيضا: إذا أذن له في البيع جاز، وإلا باعه الحاكم إن أمكن ووفاه حقه منه، ومن العلماء من يقول: إذا تعذر ذلك دفعه إلى ثقة يبيعه، ويحتاط بالإشهاد على ذلك، واستوفى حقه منه. وأجاب أيضا: إذا رهن عند رجل دارا في عشرة مثلا وأعطاه الراهن عن العشرة بقرة قيمتها ثمانية، ورضي بذلك فهذا صحيح، وإن خسرت البقرة فهي عليه، وإن ربحت فهي له. وأجاب الشيخ: عبد الله أبا بطين: وأما إذا امتنع الراهن من قضاء الدين، وأبى أن يأذن في بيع الرهن، وتعذر الجزء: 6 ¦ الصفحة: 247 إجباره، وتعذر الحاكم ... إلخ، فقال الشيخ تقي الدين: جوز بعض العلماء للمرتهن دفع الرهن إلى ثقة يبيعه، ويحتاط بالإشهاد على ذلك، ويستوفى حقه إذا تعذر الحاكم، ولم يكن الراهن أذن للمرتهن في بيع الرهن بعد حل الأجل، انتهى، وهذا قول حسن إن شاء الله، تدعو الحاجة إليه في كثير من البلدان، والأزمان. وأجاب الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن: وأما بيع الرهن وأن الراهن طلب التقويم، فلا يجبر المرتهن على أخذ البعض بالتقويم، بل يلزم صاحب الرهن الوفاء، وإن تعذر بيع الرهن بإذنه، فإن امتنع بيع بإذن الحاكم الشرعي. إغلاق الرهن سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد رحمهما الله: عن إغلاق الرهن؟ فأجاب: وأما إغلاق الرهن المنهي عنه، ففسره كثير من أهل العلم، بأن يقول الراهن للمرتهن: إن جئتك بالدين في الأجل، وإلا فالرهن لك بما لك فيه ; فإن كان فعل ذلك في الشرك، فلا يطالب بما فعل في الشرك، ويكون الرهن لمن قبضه، وأما في الإسلام فلا يفعل ذلك، لكن إذا حل الدين بيع الرهن في الدين الذي ارتهن فيه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 248 فصل: (اختلاف الراهن والمرتهن) سئل الشيخ عبد الله أيضا: إذا اختلف الراهن والمرتهن فقال الراهن: هو رهن عندك ; وقال المرتهن: بل بعتنيه. فأجاب: المشهور في هذه المسألة، أنهما يتحالفان، فيحلف كل منهما على نفي ما ادعاه الآخر، ويأخذ الراهن رهنه ; وعبارة أهل المذهب: وإن قال رهنتك ما بيدك بألف ; فقال: بل بعتنيه، أو قال بعتكه، فقال رهنته بها، حلف كل على نفي ما يدعيه عليه، وأخذ الراهن رهنه، وبقي الألف بلا رهن. وأجاب الشيخ حمد بن ناصر: وأما إذا ادعى المرتهن، أنه اشترى الرهن وأنكر الراهن، فالقول قول الراهن، إلا إن أقام المرتهن بينة على الشراء. وسئل: إذا كان على رجل ألفان أحدهما برهن والآخر بغير رهن، فقضى ألفا، وقال: قضيت الألف الذي فيه الرهن، وقال المرتهن: بل قضيت الآخر؟ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 249 فأجاب: القول قول الراهن مع يمينه، سواء اختلفا في نية الراهن بذلك أو في لفظه ; لأنه أعلم بنيته وصفة دفعه، ولأنه يقول الباقي بلا رهن، والقول قوله في أصل الرهن، فكذلك في صفته، والخلاف بين الفقهاء فيما إذا أطلق ولم ينو شيئا، فبعضهم يقول: له صرف الألف إلى أيهما شاء، كما لو كان له مال حاضر وغائب، فأدى قدر زكاة أحدهما، كان له أن يعين عن أي المالين شاء ; وقال بعضهم: يقع عن الدينين معا، عن كل واحد نصفه، لأنهما قسط في القضاء، فقسط في وقوعه عنهما، هذا إذا أطلق ; وأما إذا ادعى أنه نواه عن الألف الذي فيه الرهن، فالقول قوله، لأنه أعلم بنيته. وسئل بعضهم: إذا اختلف الراهن والمرتهن في قدر الدين فقال الراهن: الرهن في ثمانية ; وقال المرتهن: في عشرة ; ولا بينة لهما؟ فأجاب: قد اختلف العلماء رحمهم الله في ذلك، فقال مالك: القول قول المرتهن، ما لم يدع أكثر من ثمن الرهن أو قيمته، وحكى ذلك عن الحسن وقتادة، واختاره الشيخ تقي الدين وابن القيم، قالوا: لأن الله سبحانه جعل الرهن بدلا من الكتابة والشهود التي تنطق بالحق، فلو لم يقبل قول المرتهن في ذلك، بطلت التوثقة من الرهن به، وادعى الراهن أنه رهنه على أقل شيء، فلم يكن في الرهن فائدة ; ولأن الله أمر بكتابة الدين، وأمر بإشهاد الشهود، ثم أمر بعد ذلك بما تحفظ به الحقوق، عند عدم القدرة على الكتابة والشهود، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 250 وهو السفر في الغالب، فقال تعالى {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِباً فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [سورة البقرة آية: 283] فدل ذلك دلالة بينة: أن الرهن قائم مقام الكتابة والشهود، شاهد مخبر بالحق، كما يخبر الكتاب والشهود، فلو لم يقبل قول المرتهن على الراهن في قدر الدين، لم يكن الرهن وثيقة ولا حافظا لدينه ; ولا بد من الكتابة والشهود، فإن الراهن يتمكن من أخذه منه، ويقول: إنما رهنته على درهم ونحوه، وهذا القول هو أرجح القولين. والقول الثاني: أن القول قول الراهن، وبه قال النخعي والثوري، والشافعي والبستي، وأبو ثور وأصحاب الرأي ; قالوا: لأن الراهن منكر للزيادة التي يدعيها المرتهن، والقول قول المنكِر، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " لو يعطى الناس بدعواهم لأخذ قوم دماء رجال وأموالهم، ولكن اليمين على المدعى عليه " 1 رواه مسلم ; وفي الحديث الآخر: " البينة على المدعي واليمين على من أنكر " 2 ولأن الأصل براء الذمة من الزائد، فكان القول قول من ينفيه، كما لو اختلفا في قدر الدين. سئل الشيخ: حمد بن ناصر بن معمر: هل يجوز لمرتهن الدار أن يسكنها بنفسه؟ فأجاب: هذه المسألة فيها خلاف، فإن سكنها بغير إذن الراهن حرم، فإن كان بإذنه وأذن الراهن للمرتهن في الانتفاع من غير عوض، وكان دين الراهن قرضا لم يجز ; لأنه يصير   1 البخاري: تفسير القرآن (4552) , ومسلم: الأقضية (1711) , والنسائي: آداب القضاة (5425) , وابن ماجه: الأحكام (2321) , وأحمد (1/363) . 2 الترمذي: الأحكام (1341) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 251 قرضا جر منفعة، وذلك حرام ; وإن كان الرهن بثمن مبيع، أو دين غير قرض وأذن له الراهن بالانتفاع جاز ذلك، وكذلك إن كان انتفاعه بعوض، مثل أن يستأجرها بأجرة مثلها من غير محاباة، جاز في القرض وغيره، لكونه ما انتفع بالقرض، بل بالأجرة، فإن حاباه في داره فحكمه حكم الانتفاع بغير عوض، فلا يجوز في القرض، ويجوز في غيره. وأجاب الشيخ عبد الله أبا بطين: وأما الرهن إذا كان محلوبا أو مركوبا، فإن المرتهن يحلب ويركب بقدر نفقته متحريا للعدل، وأما غير المحلوب والمركوب، فلا ينتفع به بغير إذن صاحبه. قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: وأما مسألة المرأة التي أذنت لبعض بنيها يرهن نخلها في دين عليه، وبعد موتها فك بعضه، فإذا صار النخل مشاعا فالذي فك بين الورثة، والذي بقى: في الرهن. سئل الشيخ حمد بن ناصر بن معمر: إذا أعار رجل رجلا سلعة يرهنها فقال المعير: أذنت لك في رهنها بدينار ; وقال المستعير: بل أذنت في الرهن من غير تقييد بشيء ; من القول قوله؟ فأجاب: هذه المسألة القول فيها قول المالك صرحوا بذلك في باب الرهن. سئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن: عن المرتهن إذا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 252 أحرز الرهن في غير بيته فتلف وقد كان المرتهن قبل ذلك يستعمله أحيانا، فهل يضمنه؟ فأجاب: الرهن أمانة في يد المرتهن، يضمنه بتعديه أو تفريطه ; قال في الإقناع: فإن انتفع به بغير إذن الراهن، فعليه أجرته، وإن تلف ضمنه للتعدي، انتهى. قلت: ويؤخذ من صريح كلامهم، في باب الرهن والوديعة: أنه إذا أخرجه عن يده لغير مالكه، يقوم مقامه بلا عذر ضمنه، فعليه: يكون جعله في غير بيته، بغير إذن الراهن تفريطا، يوجب الضمان، والله أعلم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 253 باب الضمان سئل بعضهم: عن ضمان المجهول، كمن ضمن على إنسان دينا لا يعلم قدره، ثم علم ذلك؟ فأجاب: الصحيح في هذه المسألة صحة ذلك، وهو قول أبي حنيفة وأحمد، وهو اختيار الشيخ وابن القيم، لقول الله تعالى {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [سورة يوسف آية: 72] وحمل البعير غير معلوم، بل يختلف باختلاف المحمول عليه، ولعموم قوله عليه السلام " الزعيم غارم " 1 ولأنه التزام حق في الذمة من غير معاوضة، فصح في المجهول كالنذر ; وقال الثوري والليث، وابن أبي ليلى والشافعي،   1 الترمذي: البيوع (1265) , وأبو داود: البيوع (3565) , وأحمد (5/267) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 253 وابن المنذر: لا يصح ; لأنه التزام فلم يصح مجهولا، كالثمن. سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد رحمهما الله: عن رجل ضمن على رجل ريالا مثلا، فلما حل الأجل لم يعطه المضمون عنه الريال؟ فأجاب: لصاحب الريال مطالبة الضمين بالريال، والضامن يرجع على المضمون عنه بالريال خاصة، فإن أعطاه زيادة فهي عليه. وأجاب الشيخ حمد بن ناصر بن معمر: إذا ضمن رجل على آخر، وادعى المضمون عنه أنه أعطى الضامن، فلصاحب الحق مطالبة من شاء الضامن والمضمون عنه، وبه قال الشافعي والثوري وإسحاق، وأصحاب الرأي وأبو عبيد، لقوله عليه السلام "الزعيم غارم " 1 فإذا أدى المضمون عنه برئت ذمة الضامن، وإن أدى الضامن الدين، ونوى الرجوع رجع إلى المضمون عنه، لما أداه لصاحب الحق، وهو مذهب مالك والشافعي. وسئل بعضهم: إذا طالب صاحب المال المشتري وترك الضامن؟ فأجاب: الذي ذكره العلماء أن صاحب الحق مخير فيمن شاء منهما، قال في مختصر الشرح: لصاحب الحق مطالبة من شاء منهما في حال الحياة والموت.   1 الترمذي: البيوع (1265) , وأبو داود: البيوع (3565) , وأحمد (5/267) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 254 وسئل الشيخ صالح بن محمد الشثري: إذا قال رجلان لآخر ضمنا مالك على فلان؟ فأجاب: اعلم أن المعاني قوالب الألفاظ، فإذا قالا: كل واحد منا ضامن لك ما عليه، فهو ضمان اشتراك في انفراد، له مطالبة كل واحد منهما بما عليه، ومطالبتهما معا، فإن قضاه أحدهما لم يصر له رجوع إلا على الآخر، وإن قالا ضمنا مالك عليه، فهو بينهما بالحصص. سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: إذا كان لرجل على آخر طعام، وقال اشتر لي واضمن الثمن؟ فأجاب: ظاهر المذهب صحة الضمان ; لأن غايته أن يؤول الضمان، إلى نقد الثمن عن المضمون عنه، وقد صرحوا في باب القرض، بأنه إذا قال: أقرضني دراهم، اشتري لك بها البر الذي علي لك، أنه جائز ; وهذا هو المذهب، وفيه رواية بالكراهة، وكرهه سفيان كراهية شديدة، أعني في مسألة القرض. سئل الشيخ: حمد بن عبد الوهاب رحمه الله، عن الضمين إذا أخذ للمضمون عنه؟ فأجاب: الضمين إذا أخذ للمضمون عنه فهو على الضامن، إلا أن يذكر وقت العقد أنه لفلان، بحضور البينة أو المشتري. وسئل ابنه الشيخ عبد الله: عن صاحب الرشوة، الذي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 255 سلم له الضمين من ماله قبل الإسلام، ثم بعد الإسلام، امتنع المضمون عنه أن يسلم للضمين؟ فأجاب: صاحب الرشوة الذي سلم له الضمين قبل الإسلام ثم بعد الإسلام امتنع المضمون عنه، فالإسلام لا يبطل مثل هذا ; لأنه سلم من ماله، فلزم المضمون عليه أن يسلم للضمين ما سلم الضمين. وأجاب أيضا: إذا ضمن رجل على رجل، وعجز عن وفاء دينه، لزم الضمين وفاء دينه. سئل الشيخ: محمد بن عبد الوهاب: عمن عليه دينان بضمين وغير ضمين، ووفى أحدهما فادعى صاحب الدين، أن المقبوض غير المضمون؟ فأجاب: وأما الرجل الذي عليه دين شيء بضمين، وشيء ما عليه ضمين، ودفع إليه بعض الدين، وادعى صاحب الدين: أنه ليس من الدين المضمون، فالقول قول المضمون عنه مع يمينه. سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عمن ثبت عليه لآخر دين، ثم ثبت على من له الحق دين لآخر وقال للمدين الأول: لا تعطه دينك إلا بحضرتي، فإني قارع ما عندك له في يدك، وأوفى غريمه، هل يلزمه ضمان ما قرع في يده؟ فأجاب: لم أر للفقهاء في هذه المسألة نصا، ومقتضى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 256 أصولهم: أنه لا يلزم المقول له إيفاء ما عنده، فإذا أعطى صاحب الحق حقه، لم يكن ضامنا ; لأنه ليس ضامنا ولا محالا عليه، ومقتضى قوله صلى الله عليه وسلم " أد الأمانة إلى من ائتمنك " 1 وجوب الدفع إلى المستحق حقه، ولا يمنعه حقه بمجرد قول إنسان لا تعطه، وقد يثبت لهذا القائل حق، وقد لا يثبت، ولكن ينبغي للمدعي رفع الأمر للحاكم إن كان ثم حاكم، وينظر الحاكم فيه بمقتضى الشرع، إن رأى الحكم على الغائب، وقضى للمدعي بما ادعى به، وإن أمكن إحضار المدعى عليه أحضره مع خصمه، ونظر في أمرهما، هذا ما ظهر لي، والله أعلم.   1 الترمذي: البيوع (1264) , وأبو داود: البيوع (3535) , والدارمي: البيوع (2597) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 257 باب الحوالة سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ: عمن أقام بينة أنه أحاله ... الخ؟ فأجاب: إذا أقام بينة أنه أحال عليه لزمه الدفع إلى المحال، فإن لم يكن له بينة وأنكر المدعى عليه، فهل يلزمه اليمين؟ فيه وجهان ; وإذا لم يكن له بينة واعترف المدين بصحة دعواه، فهذه المسألة فيها وجهان، أحدهما: يلزمه الدفع ; لأنه مقر بدينه ; والثانية: لا يلزم الدفع إليه ; لأنه لا يأمن إنكار المحيل ورجوعه عليه، فله الاحتياط لنفسه. سئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن: إذا أحال إنسان على الجزء: 6 ¦ الصفحة: 257 آخر، ولم يعلم بذلك حتى قضاه دينه أو قضى من أحاله عليه ثانيا؟ فأجاب: قد برئت ذمة المدين من الدين إذا دفعه إلى صاحبة، أو إلى من أذن له صاحبه في الدفع إليه لوجوب القضاء بعد الطلب فورا، ولا يلزمه قبل العلم شيء للأول، وبعد العلم قد برئت ذمته من الدين، فيرجع المحال الأول على غريمه إذا كان هو الذي قبض الدين، وعليه أو على الثاني إذا كان هو الذي قبضه، ولا رجوع على المحال عليه لأن الشرائع لا تلزم إلا بعد العلم، كما قرره شيخ الإسلام رحمه الله، في قاعدته المعروفة عند أهل هذا الشأن. وأجاب أيضا: قد برئت ذمة المدين إذا دفعه إلى صاحبه، أو إلى من أذن له أن يدفعه إليه، لوجوب القضاء بعد الطلب فورا، ولا يلزم المدين غرم ما قضاه من الدين ; لأن الشرائع لا تلزم إلا بعد العلم، فلا تبعة عليه فيما لم يعلم، وقد أفرد شيخ الإسلام ابن تيمية هذه القاعدة، وقرر أدلتها، فعلى هذا: يرجع من أحيل أولا بدينه على المحيل، كما قبل الحوالة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 258 باب الصلح سئل الشيخ: عبد الله بن الشيخ محمد: عن صلح جرى في الجاهلية ... الخ؟ فأجاب: والفعل الذي قد أصلح فيه، بدية أو غرامة في الجاهلية، من دم أو غيره، فهو يسلم ويتم في الإسلام. وسئل: عن الصلح عن المؤجل ببعضه حالا؟ فأجاب: وأما الصلح عن المؤجل ببعضه حالا، فالذي يظهر لي الصحة. وأجاب أيضا: إذا كان لرجل على آخر عشرة أريل مثلا، وأراد أن يعجل له بخمسة ويترك الباقي، ففيها خلاف مشهور بين العلماء، قال في الإنصاف، ولو صالح عن المؤجل ببعضه حالا لم يصح، هذا هو المذهب، نقله الجماعة عن أحمد، وعليه جماهير الأصحاب، وفي الإرشاد والمبهج رواية يصح، واختاره الشيخ تقي الدين، لبراءة الذمة هنا، وكدين الكتابة، جزم به الأصحاب في دين الكتابة، ونقله ابن منصور، انتهى. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 259 والذي يترجح عندي هو القول الأخير، وهو الذي اختاره الشيخ ابن تيمية قدس الله روحه، وأما إذا كان الدين حالا فوضع بعضه وأجل باقيه، فقال في الإنصاف: صح الإسقاط دون التأجيل، أما الإسقاط فيصح على الصحيح من المذهب، وعنه لا يصح الإسقاط، وأما التأجيل فيصح على الصحيح من المذهب، وعليه الأصحاب لأنه وعد، وعنه لا يصح، وذكر الشيخ تقي الدين رواية بتأجيل الحال في المعاوضة لا التبرع، قال في الفروع: والظاهر أنها هذه الرواية، والله أعلم. وسئل بعضهم: عمن له ريالان عند رجل نسيئة، وأخذ ريالا ونصفا؟ فأجاب: الأئمة الأربعة لا يجوزونه، وأفتوا لنا عيال الشيخ بالجواز، وهو الذي نعمل عليه الآن. سئل الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن: عما إذا اصطلحا أن الدين يكون نجوما ... الخ؟ فأجاب: هذا ليس بصلح، ولا يدخل في حد الصلح، كما نص عليه الحجاوي وغيره بل هو وعد يستحب الوفاء به على المشهور، وكونه فيه إرفاق فذلك لا يغير الحدود الشرعية، ولا يدخل في مسمى الصلح، كما لا تدخله الهبة والعطية. سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: هل يجوز مصالحة المرأة عن ثمنها؟ فأجاب: الظاهر عدم الصحة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 260 سئل الشيخ حسن بن حسين بن علي: إذا اصطلح اثنان في خصومة، ثم بعد ذلك ظهرت البينة بصحة الدعوى لمن هي له؟ فأجاب: تسمع البينة ويحكم بها، ويبطل الصلح. وأجاب الشيخ محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف: إذا وجد أحد المتداعيين بينة على ما ادعاه، بعد صدور الصلح الذى لم يرض به إلا لعدم اطلاعه على البينة، فالذي اطلعنا عليه من كلام بعضهم: أن المذهب عدم نقض الصلح، واختيار الشيخ تقي الدين نقض الصلح ; لأنه إنما صالح مكرها في الحقيقة، إذ لو علم البينة لم يسمح بشيء من حقه. سئل الشيخ: عبد الله بن الشيخ: إذا أراد أن يجري ساقية في أرض غيره بغير إذنه ... الخ؟ فأجاب: قال في المغنى، وإذا أراد أن يجري ماء في أرض غيره، لغير ضرورة لم يجز إلا بإذنه، وإن كان لضرورة مثل أن تكون له أرض للزراعة، لها ماء لا طريق له إلا أرض جاره، فهل له ذلك؟ على روايتين، إحداهما: لا يجوز بغير إذنه، كما لو لم تدع إليه ضرورة ; والأخرى يجوز، ثم ساق الأثر المروي عن عمر، حيث قال لمحمد بن مسلمة: "لم تمنع أخاك ما ينفعه وهو لك نافع؟ والله ليمرن به ولو على بطنك" فأمره عمر أن يمر به ففعل، رواه مالك في الموطأ، انتهى ; والقول الأول هو المذهب، ومال إليه في المغنى والشرح، وقال هو أقيس، والقول الثاني هو اختيار الشيخ تقي الدين رحمه الله. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 261 سئل الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف: عن إجراء السيل مع أرض الغير؟ فأجاب: مجرى السيل مع أرض الغير قده عندكم 1 في بلدكم، وافق الشيخ حمد رحمه الله: بإجرائه إذا لم يتعد الضرر، وحجته قوية، قصة عمر لمحمد بن مسلمة، لما قال له: أجره ولو على بطنك، والعمل عليها. وأجاب الشيخ محمد بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن: وأما صاحب الأرض الذي أرادوا إجراء النهر على أرضه، فهذه المسألة فيها روايتان، إحداهما وهي المذهب أنه لا يجبر ; والثانية: أنه يجبر، فعلى هذه الرواية ينظر، فإن كان لا طريق لذلك النهر إلا مع تلك الأرض، أجرى معها مجانا بلا ضرر يعود على صاحب الأرض، فإن كان له طريق غير تلك الأرض، فالظاهر أنه لا يجبر. سئل الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين: عن طريق أقام المدعى بينة، أنهم يعرفون أنهم يستطرقون معه ... الخ؟ فأجاب: هذا لا يثبت لهم به طريق، حتى تشهد البينة أن لهم طريقا ثابتا ; لأن الملك إذا لم يكن محصنا بالبناء، لا يدل الاستطراق معه على حق ثابت.   1 يعني: عند الشيخ عبد الله بن فيصل, ساكن بلد "القرينة" وهو إذاك قاضي بلد "المحمل". الجزء: 6 ¦ الصفحة: 262 سئل الشيخ: عبد الله بن محمد: إذا بنى رجل على طريق نافذ بإذن الإمام، هل يصح؟ فأجاب: إذا كان نافذا ليس بسد مشترك، فإن له بناه بإذن الإمام، بشرط أن لا يكون به ضرر. سئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن: إذا غير الطريق النافذ مسجدا، هل هو جائز أم لا؟ فأجاب: الذي رأينا من كلام العلماء رحمهم الله، كصاحب الإنصاف وغيره، أنه لا يجوز البناء في طريق نافذ مطلقا، قال في المغني والشرح: لا نعلم فيه خلافا ; قال شيخ الإسلام في الفتاوى المصرية، لا يجوز لأحد أن يخرج في طريق المسلمين شيئا من أجزاء البناء، حتى إنه ينهى عن تجصيص الحائط، إلا أن يدخل في حده بقدر الجص انتهى، فعلى هذا يكون مغصوبا لا تصح الصلاة فيه، بخلاف ما إذا كانت الطريق واسعة، ولا ضرر في البناء، فإنه يجوز ; قال البخاري في صحيحه: "باب المسجد يكون في الطريق من غير ضرر بالناس" وبه قال الحسن وأيوب ومالك ; قال القسطلاني: وعليه الجمهور، وأما ما رواه عبد الرزاق عن علي وابن عمر من المنع، فسنده ضعيف لا يحتج به. سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ: إذا كان باب رجل في أول الدرب، فأراد نقله إلى أدخل منه، فهل له ذلك؟ فأجاب: إذا كان على طريق نافذ فله ذلك. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 263 سئل الشيخ: حمد بن ناصر بن معمر: إذا بنى رجل بيتا، وبنى فيه مدابغ ... الخ؟ فأجاب: إن كانت المدابغ والكنيف سابقة على ملك جاره، ولا حدثت دار جاره إلا بعد بناء الكنيف والمدابغ، فلا تزال ; لأنها سابقة علي ملك الجار، والجار هو الذي أدخل الضرر على نفسه، وفي إزالة ضرره إضرار بجاره، فلا يزال الضرر بالضرر ; فإذا كانت المدابغ ونحوها سابقة على ملك الجار لم تزل، وإن أضرت بالجار، وأما إذا بناها بعد بناء جاره، وأقام جاره بينة أنها تضر به، فيمنع الجار أن يحدث في ملكه ما يضر بجاره، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا ضرر ولا ضرار " 1 فإذا أراد أن يحدث في ملكه ما يضر بجاره، فإنه يمنع للحديث، وهذه المسألة عكس التي قبلها في الصورة والحكم. وأجاب بعضهم رحمه الله: وأما إذا كانت الأرض محددة مملوكة، فلا يجوز لأحد أن يأخذ من ملك أخيه شيئا، لا من الهواء ولا من تحت الأرض، ولا يجوز للجار أن يحدث في ملكه ما يضر جاره، كالمرحاض الذي له رائحة كريهة، وأشباه ذلك. سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: إذا كان لأحد علو بيت، ولآخر أسفله، فانهدم البيت، هل يلزم صاحب العلو البناء معه؟ فأجاب: الظاهر أنه يجبر على البناء معه.   1 ابن ماجه: الأحكام (2340) , وأحمد (5/326) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 264 سئل الشيخ سعيد بن حجي: إذا كان لإنسان بناء مشرف سابق، وطلب الجار ستره؟ فأجاب: لم نقف للعلماء على تفرقة بين البناء المتقدم والحادث، وإنما ذكروا في المغني والشرح وغيرهما، أنه إذا كان سطح أحدهما أعلى من سطح الآخر، فليس لصاحب العلو الصعود على وجه يشرف على جاره، إلا أن يبني سترة تستره ; لأنه إضرار بجاره، فأشبه ما لو اطلع عليه من خلل بابه، وقد دل على المنع قوله صلى الله عليه وسلم " لو أن رجلا اطلع عليك، فخذفته بحصاة ففقأت عينه، لم يكن عليك جناح " 1 لكن قال في الإقناع والروض: فإن استويا اشتركا، وأيهما أبى أجبر مع الحاجة إلى السترة. سئل الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف: عن مسجد أحدث عليه بعض جيرانه بناء، يمنع الشمس زمن الشتاء، وادعى أهل المسجد بالضرر؟ فأجاب: بأن البناء والحالة هذه تجب إزالته. سئل الشيخ: حسن بن حسين بن الشيخ محمد رحمهم الله: عن معنى قوله عليه السلام: " لا ضرر ولا إضرار " 2. فأجاب: قال أبو الفرج ابن رجب، في شرح الأربعين: اختلفوا هل بين اللفظتين أعني - الضرر والإضرار - فرق أم لا؟ فمنهم من قال: هما بمعنى واحد على وجه التأكيد، والمشهور: أن بينهما فرقا ; ثم قيل: إن الضرر الاسم،   1 البخاري: الديات (6902) , ومسلم: الآداب (2158) , والنسائي: القسامة (4861) , وأبو داود: الأدب (5172) , وأحمد (2/243 ,2/428) . 2 مالك: الأقضية (1461) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 265 والإضرار الفعل، فالمعنى أن الضرر نفسه منتف في الشرع، وإدخال الضرر بغير حق كذلك ; وقيل: الضرر أن يدخل على غيره ضررا بما ينتفع به هو، والإضرار أن يدخل على غيره ضررا مما لا منفعة له به، كمن منع ما لا يضره ويتضرر به الممنوع ; وقيل إن الضرر أن يضر بمن لا يضر به، والضرار أن يضر بمن قد أضر به، بوجه غير جائز. وبكل حال: فالنبي صلى الله عليه وسلم إنما نفى الضرر والضرار بغير حق، فأما إدخال الضرر على أحد بحق، إما لكونه تعدى حدود الله فيعاقب بقدر جريمته، أو كونه ظلم غيره، فيطلب المظلوم مقابلته بالعدل، فهذا غير مراد قطعا، وإنما المراد إلحاق الضرر بغير حق، وهذا على نوعين. أحدهما: أن لا يكون في ذلك غرض سوى ضرر بذلك، فهذا لا ريب في قبحه وتحريمه ; وقد ورد النهي في القرآن عن المضارة في مواضع - إلى أن قال: - وأما النوع الثاني: أن يكون له غرض صحيح، مثل أن يتصرف في ملكه بما فيه مصلحة له، فيتعدى ذلك إلى ضرر غيره، أو يمنع غيره من الانتفاع في ملكه توفرا، فيتضرر الممنوع. فأما الأول: فإن كان على غير الوجه المعتاد، مثل أن يؤجج في أرضه نارا في يوم عاصف فيحترق ما يليه، فإنه متعد بذلك وعليه الضمان، وإن كان على الوجه المعتاد، ففيه الجزء: 6 ¦ الصفحة: 266 للعلماء قولان مشهوران، أحدهما: لا يمنع من ذلك وهو قول الشافعي وأبي حنيفة، وغيرهما ; والثاني: المنع وهو قول أحمد، ووافقه مالك في بعض الصور. فمن صور ذلك: أن يفتح كوة في بنائه العالي مشرفة على جاره، أو أن يبني عاليا ليشرف على جاره ولا يستره، فإنه يلزمه يستره نص عليه أحمد، ووافقه طائفة من أصحاب الشافعي، قال الروياني منهم في كتاب الحلية، يجتهد الحاكم في ذلك، ويمنع إذا ظهر له التعفن في الفساد، قال وكذلك القول في إطالة البناء، ومنع الشمس والقمر، وقد خرج الخرائطي وابن عدي بإسناد ضعيف، عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعا، حديثا طويلا في حق الجار، وفيه: "ولا يستطيل عليه بالبناء فيحجب عنه الريح إلا بإذنه" ومنها: أن يحفر بئرا بالقرب من بئر جاره فيذهب ماؤها، فإنها تطم في مذهب مالك وأحمد، وأخرج أبو داود في المراسيل، من حديث أبي قلابة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا تضاروا في الحفر، وذلك: أن يحفر الرجل إلى جنب بئر الرجل ليذهب بمائه " ومنها: أن يحدث بما يضر بملك جاره، من هز ودق ونحوهما، فإنه يمنع منه في ظاهر مذهب مالك وأحمد، وهو أحد الوجوه للشافعية. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 267 ومنها: أن يكون له ملك في أرض غيره، ويتضرر صاحب الأرض بدخوله إلى أرضه، فإنه يجبر على إزالته، ليدفع به ضرر الدخول، وخرج أبو داود في سننه، من حديث أبي جعفر محمد بن علي، أنه حدث عن سمرة بن جندب، أنه كان له عضيد من نخل في حائط رجل من الأنصار، ومع الرجل أهله، فكان سمرة يدخل إلى أهله، فيتأذى به ويشق عليه، فطلب إليه أن يناقله، فأبى، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر له ذلك، فطلب النبي صلى الله عليه وسلم أن يبيعه فأبى، فطلب أن يناقله فأبى، قال: فهبه له ولك كذا وكذا، أمرا أرغبه فيه، قال فقال: أنت مضار ; فقال النبي صلى الله عليه وسلم للأنصاري: " اذهب فاقلع نخله " 1 وقد روى عن أبي جعفر مرسلا. قال أحمد: في رواية حنبل بعد أن ذكر له هذا الحديث، فما كان على هذه الجهة وفيه ضرر يمنع من ذلك، فإن أجاب وإلا أجبره السلطان، ولا يضر بأخيه في ذلك إذا كان من فعاله، وذكر حديثا من نحوه، ثم قال: ففي هذا والذي قبله إجباره على المعاوضة حيث كان على شريكه أو جاره ضرر في شركه، وعلى وجوب العمارة على الشريك الممتنع من العمارة، وعلى إيجاب البيع إذا تعذرت القسمة، بكون المقسوم يتضرر بقسمته، وطلب أحد الشريكين البيع، أجبر الآخر وقسم الثمن، نص عليه الإمام أحمد، وأبو عبيد وغيرهما من الأئمة.   1 أبو داود: الأقضية (3636) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 268 وأما الثاني: وهو منع الجار من الانتفاع بملكه والارتفاق به، فإن كان ذلك يضر بمن انتفع بملكه فله المنع، وأما إن لم يضر به، فهل يجب عليه التمكين، ويحرم عليه الامتناع أم لا؟ فمن قال في القسم الأول: لا يمنع المالك من التصرف في ملكه وإن أضر بجاره، قال هنا للجار المنع من التصرف في ملكه بغير إذنه، ومن قال هناك بالمنع، فاختلفوا هاهنا على قولين، أحدهما: المنع هاهنا وهو قول مالك ; والثاني: أنه لا يجوز المنع، وهو مذهب أحمد في طرح الخشب على جدار جاره، ووافقه الشافعي في القديم. وفي الصحيحين: عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم " لا يمنع أحدكم جاره أن يغرز خشبه على جداره " 1 قال أبو هريرة: "ما لي أراكم عنها معرضين، والله لأرمين بها بين أكتافكم" "وقضى عمر بن الخطاب على محمد بن مسلمة: أن يجري ماء جاره في أرضه، وقال ليمرن ولو على بطنك" وفي الإجبار على ذلك روايتان عن أحمد، ومذهب أبي ذر الإجبار على إجراء الماء بأرض جاره، إذا أجراه في قناة في باطن أرضه، نقله عنه حرب الكرماني - إلى أن قال: وقال عبد الرحمن الحضرمي الشافعي، في شرح الأربعين، في الكلام على هذا الحديث "فائدة" يؤخذ من هذا الحديث قاعدتان عظيمتان، وهما رعاية المصالح ودرء المفاسد، ويتفرع منهما أيضا قواعد أخر، كقولهم: الضرر يزال، وقولهم: إذا ضاق الأمر اتسع، والمشقة تجلب   1 البخاري: المظالم والغصب (2463) , ومسلم: المساقاة (1609) , والترمذي: الأحكام (1353) , وأبو داود: الأقضية (3634) , وابن ماجه: الأحكام (2335) , وأحمد (2/240 ,2/274 ,2/327 ,2/396 ,2/447 ,2/463) , ومالك: الأقضية (1462) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 269 التيسير، والضرر يبيح المحظورات، وما أبيح للضرورة يقدر بقدرها، والضرر لا يزال بالضرر، وقولهم: يراعى أخف الضررين، ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح، والحاجة العامة أو الخاصة، تنْزل منْزلة الضرورة، وكل واحدة من هذه القواعد، لها فروع منتشرة في كتب الفقه، لا يمكن حصرها. وسئل الشيخ: عبد الله أبا بطين: عن قول الفقهاء: الضرر لا يزال بالضرر ... الخ؟ فأجاب: قول الفقهاء الضرر لا يزال بالضرر، فهذا كما قالوا: في أن الجار لا يملك وضع الخشب على جدار جاره، إلا عند الضرورة إليه، فإن كان جدار الجار يتضرر بوضع الخشب عليه فلا يجوز ; لأن الضرر لا يزال بالضرر، وكما لو كان مع إنسان طعام أو شراب هو مضطر إليه، وإنسان آخر مضطر إلى ذلك، فصاحبه أحق به، فلا يزال ضرر غير المالك بإدخال الضرر على المالك، ويدخل في ذلك صور كثيرة. وأجاب الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف: لا يجوز له منعه من غرز خشبه في جداره، سواء كان الأول قديما أو حديثا هذا بالنص، كما دل عليه حديث أبي هريرة رضي الله عنه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 270 سئل الشيخ: عبد الله بن الشيخ محمد رحمهما الله: إذا كان لرجل بئر وأرض، ولجاره أرض ليس لها ماء ... الخ؟ فأجاب: إذا امتنع صاحب الماء من إجرائه إلى جاره من غير حاجة بالماء، فإنه يجبر على إجرائه. وسئل بعضهم: إذا فضل ماء هل لمالكه منعه؟ فأجاب: وأما من حفر بئرا أو قناة، فإنه أحق بمائها من غيره، ولا يجوز له منع فضل مائها. وأجاب الشيخ حسن بن حسين بن علي: وأما الذي له قليب مستغن عن مائها، لا يجوز له منع جاره منها، إذا لم يكن عليه ولا على القليب ضرر منه. وسئل: عن الجزوى؟ 1 فأجاب: وأما الجزوى إذا قل الماء، فهي على نظر الأمير، وأهل المعرفة بمصالح البلد، فيقدم الأصلح فالأصلح، وتحتمل المضرة اليسيرة على من عنده زيادة الماء. وأجاب الشيخ عبد العزيز بن حسن: وأما إن رأى أهل الخبرة والإنصاف، أن الجزوى في سنين المحل أصلح لحال الملك، لزمتهم لتوفير الماء عليه.   1 هي ترك السني في بعض الأوقات لتوفير الماء. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 271 باب الحجر سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: عن مفلس أراد أن يبيع أو يرهن بعض ما في يده، هل يحجر عليه ... الخ؟ فأجاب: إذا كان رجل معروفا بالفلس، ويعامله الناس مع ظهور فلسه، وأراد رهن بعض ما في يده، أو أوفى به بعض الغرماء، وطلب الغرماء من الحاكم الحجر عليه، لزمه إجابتهم، وهذا هو الصحيح إن شاء الله تعالى. سئل الشيخ: محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، عن رهن المفلس ... الخ؟ فأجاب: والذي مستغرق دينا، لا يصح له رهن إلا بإذن الديانين. وسئل ابنه: الشيخ عبد الله، عن رهن المفلس قبل الحجر؟ فأجاب: في نفوذ تصرفه قبل الحجر عليه قولان، هما روايتان، إحداهما: أنه يصح تصرفه وينفذ، قاله في الإنصاف، على الصحيح من المذهب نص عليه، وعليه الجزء: 6 ¦ الصفحة: 272 جماهير الأصحاب ; وقيل لا ينفذ تصرفه، ذكره الشيخ تقي الدين، وحكاه رواية واختاره، وسأله جعفر - يعني الإمام أحمد - من عليه دين يتصدق بشيء؟ قال الشيء اليسير، وقضاء دينه أوجب عليه، قلت: وهذا القول هو الصواب، خصوصا وقد كثرت حيل الناس، وجزم به في القاعدة الثالثة والخمسين، وقال: المفلس إذا طلب البائع منه سلعته، التي يرجع بها قبل الحجر، لم ينفذ تصرفه نص عليه، وذكر في ذلك ثلاثة نصوص، لكن ذلك مخصوص بمطالبة البائع، انتهى كلامه في الإنصاف، وهو الراجح إن شاء الله تعالى. وسئل: عن الفلاح الذي أوفى بعض الديّانين؟ فأجاب: والفلاح الذي أوفى بعض ديانيه، وبعضهم ما أوفاهم، وهو مفلس، فالذين ما جاءهم شيء يجيئهم قدر المواساة. وأجاب الشيخ: عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين، وأما إذا ضاق مال الإنسان عن دينه، وكان له عين مرهونة عند بعض الغرماء، فإن المرتهن أحق بثمن الرهن من سائر الغرماء، إذا كان رهنا لازما بلا نزاع، قال في الشرح: لا نعلم فيه خلافا، فإن كان الراهن حين الرهن قد ضاق ماله عن دينه، انبنى صحة رهنه على جواز تصرفه وعدمه، وهو أنه: هل يكون محجورا عليه إذا ضاق ماله عن ديونه بغير حكم حاكم، كما هو قول مالك، ويحكى رواية عن أحمد، اختاره الجزء: 6 ¦ الصفحة: 273 الشيخ تقي الدين، أو لا يكون محجورا عليه إلا بحكم حاكم؟ كما هو قول أبي حنيفة والشافعي، وأحمد في المشهور عنه. وأجاب الشيخ حسن بن علي: إذا رهن الغريم شيئا من ماله، عند أحد غرمائه، وهو حال الرهن قد ضاق ماله عن وفاء دينه، فالذي قرره شيخ الإسلام تقي الدين، وحكاه رواية عن أحمد، وصوبه في الإنصاف، أنه محجور على المفلس حكما، حين ضاق ماله عن ديونه، وأن حكمه حكم من حجر عليه الحاكم، فلا يصح رهنه والحالة هذه، وعليه الفتوى. وسئل بعضهم: إذا كان لرجل على آخر سلم في تمر أو عيش وقد أعطاه حين دخوله في الفلاحة، ما يحتاج إليه في شراء نواضح وغيرها، ثم بعد ذلك احتاج الفلاح لزيادة لتمام الزرع والثمرة، فهل يجبر الغريم على إعطاء الفلاح ما يحتاج إليه أم لا؟ وهل إذا امتنع أو غاب فاستدان الغريم من غيره، لأجل تكميل الثمرة يقدم الثاني بحقه أم لا؟ وإن قدمه حاكم وساغ تقديمه قدم أو لا؟ فأجاب: الذي يعمل به أنه إذا احتاج الفلاح لزيادة نفقة لإصلاح ثمرته وزرعه، وطلب ذلك من غريمه، وامتنع معتذرا أن ثمرته وزرعه لا تفي بما عليه، قائلا: لا أخرج مالي يذهب علي مجانا لإصلاح غيري، أنه إن أمكن التوفيق بينهما بما فيه منفعة للفلاح، من غير ضرر يلحق الغريم، وتطيب به الجزء: 6 ¦ الصفحة: 274 نفسه فعلنا ; وإن لم يكن إلا بضرر ظاهر يلحق الغريم، فلا نجبره على المعاوضة أو القرض، لأجل مصلحة المدين ; لأن من شرط ذلك التراضي ولا مسوغ للإجبار، وليس هذا موضع ضرورة. وإن سميت ضرورة فلا يزال الضرر بالضرر، لحديث " لا ضرر ولا ضرار" 1 وسواء وعده عند دخولهما في المعاملة أو لم يعده، فلا يترتب على ذلك حكم، لكن إن تيسر التوفيق بما لا ضرر فيه على الكل فحسن، كأن يجعل للأول بعض الزرع، أو الثمرة في مقابلة حقه، ويصير الباقي لمن ينفق عليه آخر المدة، أو يعطى رهنا أو ضمينا في حقه، أو نحو ذلك مما تطيب به النفس، فإن تعذر ذلك: بأن غاب الغريم، أو تعذر بنفاد ما في يده، أو خوفا من ذهاب ماله، بأن ليس عند المدين مقابلة لجميع ذلك ونحو ذلك، فلا نرى جواز التقديم بغير رضا الغريم ; لأنه ربما استغرق حق الثاني جميع الثمرة والزرع، فيذهب الأول بلا شيء، وهذا يرده حديث "لا ضرر ولا ضرار " 2. وقد أمكن دفع الضرر، بأن يدفع لكداد آخر كده معاملة، بما يتراضيان عليه إلى تمامه، أو يستأجر من يقوم به، وقد استقر حكم الشريعة العادلة، أن صاحب الحق يعطى حقه وإن تضرر بذلك الغريم، فلم تعتبر الشريعة تضرر المدين بأداء الحق إلى مستحقه، ومن أدخل غريما ثانيا على أول، وقدمه بحقه، فقد عكس حكم الشريعة: "خذوا ما وجدتم"   1 ابن ماجه: الأحكام (2340) , وأحمد (5/326) . 2 ابن ماجه: الأحكام (2340) , وأحمد (5/326) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 275 وبيع مال معاذ لوفاء دينه، وبيع عتيق واسترق، وبيع مال الأسيفع، ولم ينظر إلى كونهم يتضررون بذلك، ولهذا ذهب مالك والشافعي: إلى أن جميع مال المفلس يباع لوفاء دينه، حتى مسكنه وخادمه، ومذهب الإمام أحمد المشهور عنه: أنه لا يباع المسكن ولا الخادم، إلا إذا كانا نفيسين، وكذلك إذا كان ذا حرفة ترك له ما يحترف به، وإن لم يكن ذا حرفة ترك له ما يتجر به لمؤنته، وهذا من مفردات المذهب. قال الشارح: وهذا محمول على الشيخ الكبير، وذوي الهيئات الذين لا يمكنهم التصرف بأبدانهم، والنبي صلى الله عليه وسلم جعل الغرماء أسوة، ما عدا صاحب المتاع إذا وجده بعينه عند المفلس، وألحق به الفقهاء المرتهن، أنه يقدم بقيمة رهنه، لتعلق حقه بالعين والذمة، فلا يجوز لنا أن نقدم من لم يقدمه الله ورسوله، وكل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، واستقر عند الناس في نواحينا: تقديم صاحب البذر، والأجير في هذه المسألة، ويرون الحكم بغير ذلك جائرا، لكونهم لا يعرفونه، ولا حول ولا قوة إلا بالله. سئل بعضهم: إذا وجد معسر قد اقتسم غرماؤه ماله، وبقي لهم عليه بقية من حقوقهم بعد أن أخذوا ما في يده، ثم استدان وثبت في ذمته حقوق ضاق ماله عن وفائها، وربما كان للمتجددة حقوقهم رهن، فهل إذا حلت حقوقهم يشاركهم الأول، أم لا؟ فأجاب: إنما يرد هذا السؤال على القول الذي ذكرتموه الجزء: 6 ¦ الصفحة: 276 عن الشيخ تقي الدين، وحكاه رواية عن أحمد، وصوبه في الإنصاف من أنه محجور عليه حكما، وعليه الفتوى، فيكون المدين في حالتيه الأولى والثانية محجورا عليه حكما، حين ضاق ماله عن ديونه، فالظاهر - والحالة هذه - أن حكمه حكم من حجر عليه الحاكم في كلتي حالتيه، فإن كان للذين تجددت حقوقهم رهن صحيح لازم، فهم أحق بالرهن أو قيمته ; وإن لم يكن لهم رهن شاركهم غرماء الحجر الأول ; لأن حقوق الجميع متعلقة بذمته، هذا قول الجمهور، وهذا المذهب. وقول غرماء الحجر الثاني: ما في يده إنما نتج من أموالنا؟ جوابه: أن مالكم هو ما في ذمته، وأما دراهمكم ونحوها، فهي ماله من حين صارت في يده، وأن الذي لكم في ذمته ; وعند مالك: أن غرماء الحجر الأول، لا يشاركون غرماء الحجر الثاني، إلا أن يكون له فائدة مواريث، أو تجني عليه جناية، وهذا كله في محجور الحاكم ; والظاهر: أن حكمهما سواء، وبعض من أدركنا من القضاة يقضي بنحو قول مالك ; وأفاد سؤالكم أنه يترجح عندكم القول بعدم اشتراط القبض للزوم، وهذا هو الذي نفتي به، والحاجة إليه داعية. سئل الشيخ: عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين، هل يبيع الحاكم مال المفلس فورا ... الخ؟ فأجاب: أما بيع الحاكم مال المفلس، فقال الأصحاب الجزء: 6 ¦ الصفحة: 277 رحمهم الله يبيع كل شيء في سوقه، قال الشيخ تقي الدين وغيره: ولا يبيعه إلا بثمن مثله المستقر في وقته، أو أكثر على الفور، ذكره في الإنصاف، واقتصر عليه في الفروع، والضمير في قولهم: في وقته راجع للبيع، أي: في وقت البيع، فدل كلامهم على أن الحاكم إذا باع مال المفلس، يجب عليه الاستقصاء وعدم العجلة، حتى يبذل في الجميع قيمته في ذلك الوقت، فهذا ما دل عليه كلامهم، خلاف ما فهمه من لا علم عنده، من أن مرادهم أنه إذا كانت العين المبيعة من مال المفلس، في وقت قد رخص فيه مثلها، بعد زمن كانت غالية فيه، أنها لا تباع زمن الرخص، رجاء أن تعود قيمتها إلى ما كانت في الزمن الماضي ; فهذا لم يدل عليه كلامهم، بل هو مخالف لصريح قولهم في وقته، أي وقت البيع، ولم يعتبروا قيمته في غير ذلك الوقت، وأوجبوا الفورية في البيع، كما تقدم في كلام الشيخ وغيره. قال في الإقناع وشرحه، ويجب عليه، أي: الحاكم، ذلك أي بيع مال المفلس، وقسم ثمنه على غرمائه، ويكون ذلك على الفور ; لأن تأخيره مطل وفيه ظلم لهم، وقال في المنتهى وشرحه: وبيعه بثمن مثله المستقر في وقته، أو أكثر من ثمن مثله إن حصل فيه راغب، وقسمه أي الثمن، فورا حال من قسم وبيع ; لأن هذا جل المقصود من الحجر عليه، وتأخيره مطل وظلم للغرماء، انتهى ; وكذا حكم المرهون، لا يبيعه الحاكم أو العدل إلا بثمن مثله، فإن باعه بدون ثمن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 278 المثل صح البيع، وضمن البائع النقص على المذهب، قاله في الإنصاف، وعلى قياسه مال المفلس، إذا بيع بدون ثمن المثل، قال الشيخ منصور: ومقتضى القواعد أنه إذا بيع بدون ثمن المثل، صح البيع وضمن البائع النقص، وكذلك حكم مال اليتيم إذا دعت الحاجة إليه، لم يبعه الولي إلا بثمن المثل، فإن نقص عن ثمن المثل، فهل يبطل البيع أو يصح ويضمن الولي النقص؟ فيه وجهان، والمغصوب يضمن بقيمته مطلقا يوم تلفه، على الصحيح من المذهب. وأما قولكم: هل القيمة وصف قائم بالمتقوم؟ أو هي ما تنتهي إليه رغبات الراغبين؟ قال الغزي الشافعي: والصحيح أن ثمن المثل ما تنتهي إليه الرغبات المعتادة في الغالب، ومرادهم: ما تنتهي إليه رغبات الراغبين في ذلك الوقت ; وفرق طائفة منهم بين المرهون ومال المفلس، على تفصيل عندهم، وهذا التفريق لم أره لأصحابنا. سئل الشيخ: محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى: عمن وجد عين ماله ... الخ؟ فأجاب: والرجل إذا وجد عين ماله وقد زادت قيمته، أو نقصت لم يكن له الرجوع. وأجاب: ابنه الشيخ عبد الله: إذا وجد أحد الشيئين إلخ، فهذه المسألة فيها روايتان عن الإمام أحمد، قال في الشرح الكبير: وإن كان المبيع عينين، كعبدين أو ثوبين تلف الجزء: 6 ¦ الصفحة: 279 أحدهما، أو نقص، ففي جواز الرجوع في الباقي روايتان، إحداهما لا يرجع نقلها أبو طالب عنه، قال لا يرجع ببقية العين، ويكون أسوة الغرماء ; لأنه لم يجد المبيع بعينه، فأشبه ما لو كان عينا واحدة ; لأن بعض المبيع تالف، فلم يملك الرجوع فيه، كما لو قطعت يد العبد ; ونقل الحسن بن ثواب عن أحمد: إن كان ثوبا واحدا فتلف بعضه، فهو أسوة الغرماء، وإن كان رزما، فتلف بعضها، فإنه يأخذ بقيتها إذا كان بعينه ; لأن السالم من المبيع وجده البائع بعينه، فيدخل في عموم الحديث المذكور، ولأنه مبيع وجده البائع بعينه، فكان للبائع الرجوع، كما لو كان جميع المبيع، فإن باع بعضه أو وهبه أو وقفه، فهو بمنْزلة تلفه ; لأن البائع ما أدرك ماله بعينه. وسئل: عما إذا زادت قيمته؟ فأجاب: من شرط الرجوع في السلعة إذا وجدها صاحبها عند المفلس، أن لا يكون المبيع زاد زيادة متصلة، كالسمن والكبر، وتعلم صنعه، فإن هذا يمنع الرجوع، وهو اختيار الخرقي ; وعن أحمد رحمه الله: أن ذلك لا يمنع ; قال في الشرح الكبير: وهو مذهب مالك والشافعي، إلا أن مالكا قال يخير الغرماء بين أن يعطوه السلعة، أو ثمنها الذي باعها به، واحتجوا بالخبر، يعني قوله: " من وجد متاعه بعينه عند رجل قد أفلس، فهو أحق به " 1 ولأنه فسخ لا يمنع الزيادة المنفصلة، فلم يمنع المتصلة كالرد بالعيب.   1 البخاري: في الاستقراض وأداء الديون والحجر والتفليس (2402) , ومسلم: المساقاة (1559) , والترمذي: البيوع (1262) , والنسائي: البيوع (4676) , وأبو داود: البيوع (3519) , وابن ماجه: الأحكام (2358) , وأحمد (2/474) , ومالك: البيوع (1383) , والدارمي: البيوع (2590) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 280 قال: ولنا أنه فسخ بسبب حادث، فلم يملك به الرجوع في عين المال الزائد زيادة متصلة، كفسخ النكاح بالإعسار، أو الرضاع، ولأنها في ملك المفلس فلم يستحق البائع أخذها كالمنفصلة، انتهى ; والذي يترجح عندي: مذهب مالك رحمه الله، وهو أن الغرماء يخيرون بين أن يعطوه السلعة بعينها، وبين أن يعطوه الثمن الذي باعها به ; فعلى هذا: إن كان لهم مصلحة في زيادتها المتصلة، أعطوه ثمنه، وأخذوا السلعة، وتكون الزيادة المتصلة للمفلس، يستوفى بها الغرماء. وأجاب الشيخ حسن بن حسين بن الشيخ: المسألة فيها روايتان عن أحمد، إحداهما: أنه يرجع في العين الباقية، جزم به في المنتهى والإقناع، وذكر في الإنصاف أنه الصحيح من المذهب ; لأن السالم وجده ربه بعينه، فيدخل في عموم الخبر، قاله في شرح المنتهى، ووجه في الغاية: أن مثله المكيل والموزون، فيأخذ ما وجد منه، والرواية الثانية: أن المتعين كغيره، إذا لم يجده كله كان أسوة الغرماء، لتعذر كل العين قال في الإنصاف: وهو ظاهر كلام المصنف هنا وجماعة، انتهى ; وفي الأولى قوة مع كونها مختار المتأخرين. سئل الشيخ عبد الله بن محمد: عن الغريم إذا أعسر ... الخ؟ فأجاب: إذا كان له فلائح لا تفي بكفايته وكفاية من الجزء: 6 ¦ الصفحة: 281 تحت يده، ولا يقدر على حرفة غير ذلك تغنيه وتغني أولاده ومن تحت يده، فلا يجوز لصاحب الدين يأخذ ذلك ويتركه يضيع ومن تحت يده، بل يصبر إلى أن الله يغنيه، أو يصالحه على شيء يعطيه إياه كل سنة لا يضر به. وسئل الشيخ: عبد الله أبا بطين ما يترك للمفلس؟ فأجاب: الغريم إذا ضاق ماله عن الديون التي عليه، فالمشهور في المذهب فيها معروف، وأنه يترك له المسكن والخادم، إذا كان مثله يخدم، ما لم يكونا عين مال غريم ; ويشتري أو يكتري له بدلهما، ويترك له ما يتجر به إن كان تاجرا، أو يترك له آلة محترف إن كان ذا صنعة، ومقتضى قولهم: أنه إذا كانت حرفته الحراثة، أنه يترك له ما يحرث عليه، من سوان وآلة الحراثة، ومقتضى قولهم: أنه إذا لم يكن له حرفة وله عقار أنه يترك له، إذا لم يكن له فيه فضل عما يقوم به معاشه، والذي أرى: أنه ما يمكن العمل اليوم بالمذهب في بلدان نجد، لقلة أموالهم، والغالب على الحراثين الفقر، ويمكن أحدهم أن يستدين من الناس أموالهم، ويشتري بها دارا وعقارا، أو يشتري بها سوان، فإذا طلب أهل الحقوق حقوقهم، لم يجدوا إلا هذه التي ذكرنا، أيقال: تترك له الدار، أو يترك له العقار يعيش به، إذا لم يكن له ما يعيش به، أو تترك له السواني؟ وإن كان تاجرا وفي يده رأس مال، قيل يترك له ما يتجر به؟ وهذا فيه إشكال. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 282 وأما ما سوى مذهب أحمد، فأبو حنيفة يقول: يترك له المسكن فقط، وقال مالك والشافعي: تباع ويكترى له بدلها، لحديث " خذوا ما وجدتم " 1 والقول بأنه يترك له ما يتجر به إن كان تاجرا، أو آلة الحرفة إن كان له صنعة من مفردات المذهب ; ونقل عبد الله عن أبيه: يباع الكل إلا المسكن، وما يواريه من ثياب وخادم يحتاجه، وفي رواية يترك له ما يقوم به معاشه ; قال في الشرح: وهذا في حق الشيخ، وذوي الهيئات الذين لا يمكنهم التصرف بأبدانهم، ومع ذلك قال أصحابنا: إن كانت أمواله كلها أعيان أموال الناس، أفلس بأثمانها، أخذوها بشروطها، لقوله صلى الله عليه وسلم " من وجد متاعه بعينه عند إنسان قد أفلس، فهو أحق به " 2 لكن إن كانت الدار ونحوها رهنا، ففي حكمها على المذهب تردد ; قال في الغاية: إن كانت الدار ونحوها رهنا توجه احتمالان، والله أعلم. سئل الشيخ: عبد الرحمن بن حسن: إذا استأجر أرضا للزرع ونحوه، ثم رهنه فقصرت الثمرة عن الدين والأجرة وأجرة الحداد والخراز والذي يعمل في الزرع. فأجاب: إذا انتفى اللزوم بعدم القبض أو الاستدامة، تحاصوا في الثمرة وغيرها، على قدر مالهم من دين أو أجرة ; لأن محل ذلك ذمة المدين، وتقديم أحدهم على غيره، ترجيح من غير مرجح، وما اشتهر بين الناس من تقديم العامل   1 مسلم: المساقاة (1556) , والترمذي: الزكاة (655) , والنسائي: البيوع (4530 ,4678) , وأبو داود: البيوع (3469) , وابن ماجه: الأحكام (2356) , وأحمد (3/36 ,3/58) . 2 البخاري: في الاستقراض وأداء الديون والحجر والتفليس (2402) , ومسلم: المساقاة (1559) , والترمذي: البيوع (1262) , والنسائي: البيوع (4676) , وأبو داود: البيوع (3519 ,3523) , وابن ماجه: الأحكام (2358) , وأحمد (2/228 ,2/247 ,2/249 ,2/258 ,2/347 ,2/385 ,2/410 ,2/413 ,2/468 ,2/474 ,2/487) , ومالك: البيوع (1383) , والدارمي: البيوع (2590) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 283 في الزرع ونحوه بأجرته، لم نقف له على أصل يوجب المصير إليه. وأجاب الشيخ عبد الله أبا بطين: وأما إذا ضاق مال الإنسان عن دينه، وكان له عين مرهونة عند بعض الغرماء، فإن المرتهن أحق بثمن الرهن من سائر الغرماء، إذا كان لازما بلا نزاع ; قال في الشرح: لا نعلم فيه خلافا ; فإن كان الراهن حين الرهن قد ضاق ماله عن دينه، انبنى صحة رهنه على تصرفه وعدمه، وهو أنه هل يكون محجورا عليه، إذا ضاق ماله عن ديونه بغير حكم حاكم؟ كما هو قول مالك، ويحكى رواية عن أحمد، اختاره الشيخ تقي الدين؟ أو لا يكون محجورا عليه، إلا بحكم حاكم؟ كما هو قول أبي حنيفة والشافعي وأحمد في المشهور عنه؟ سئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله عن تقديم الأجير ... الخ؟ فأجاب: والأجير يقدم على الغرماء. سئل الشيخ: عبد اللطيف بن عبد الرحمن، عن بيع عقار الميت لوفاء دينه، إذا خيف عليه التلف؟ وهل للمسغبة تأثير في البيع؟ فأجاب: بيع العقار إذا خيف عليه التلف، خير وأولى من تلفه، والمسغبة لا تأثير لها في البيع وتركه، وعبارة بعضهم: إذا كسد العقار كسادا ينقصه عن مقاربة ثمن المثل ويضر بالمالك، فلا يباع حتى تعود الرغبة، وهذا القول محله إذا أمن التلف، ولم يرج زوال الرغبة مع حياة المدين، وأما الجزء: 6 ¦ الصفحة: 284 مع موته فلا حق للورثة إلا فيما أبقته الديون والوصايا، وليس للحاكم منعهم من استيفاء الدين والحالة هذه. وسئل الشيخ حسن بن حسين بن علي: هل يباع الملك في وقت كساد الأملاك وغور المياه والجدب، بغير اختيار من المالك، لوفاء دينه أم لا؟. فأجاب: لا يباع العقار في الدين بكساد لأنه يرجى نفاقه بثمن المثل في العادة الماضية أو قريب منها ; وشيخ الإسلام ابن تيمية يرى عدم الإجبار على البيع، إذا حصل الكساد الخارج عن العادة لجدب ونحوه ; وعليه: فلا يلزم بيعه والحالة هذه. سئل الشيخ إبراهيم بن عبد اللطيف: عن امتناع ورثة المدين من قضاء دينه؟ فأجاب: كثير من الناس لو يخلى ونفسه ما دان الله بقضاء دينه، فضلا عن دين غيره، ولكن الواجب عليك القيام بما يلزم، وإجبار مثل من حكيت حاله على بيع العقار وقضاء الدين، لا سيما إذا كان المدين ميتا فقضاء دينه على الفور، فكيف والغريم له رهن؟ ولو كان الراهن موجودا، وامتنع من بيع الرهن بعد حلول الدين، باع عليه الحاكم كما لا يخفى، فهذا أولى. سئل الشيخ: عبد الله بن الشيخ محمد: هل يحل الدين المؤجل بالموت؟ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 285 فأجاب: هذه المسألة فيها خلاف، فمنهم من قال: لا يحل بالموت، ومنهم من قال: يحل ; والأظهر أنه لا يحل بالموت، فمن قال يحل بالموت، قال: يحل جميع الطعام المسلم فيه ; ومن قال بعدم حلوله بالموت، قال إلى الأجل الذي بينهما. وأجاب أيضا: المسألة فيها قولان في المذهب، والأظهر أنه لا يحل بالموت إذا وثقه الورثة. وأجاب بعضهم: لا يحل الطعام المسلم إليه فيه بموته أو الدين، كما لا تحل الديون التي له بموته، لقوله عليه السلام " من ترك حقا أو مالا فلورثته " 1 والأجل حق للميت، فينتقل إلى الورثة كسائر حقوقه ; والقول الثاني: وهو رواية عن أحمد، أنه يحل وفاقا للأئمة الثلاثة. سئل الشيخ عبد الله بن حمد الحجازي رحمه الله: هل ينفك حجر المفلس إذا أخذ الغرماء ما تحت يده؟ فأجاب: المفلس إذا أخذ الغرماء ما تحت يده انفك عنه الحجر، وإذا انفك عنه الحجر صح تصرفه، ببيع الرهن أو غير ذلك، فإن كثر دينه بعد ذلك أعيد الحجر عليه، فإذا أعيد الحجر عليه، قدم من كان له رهن صحيح على غيره، وما فضل بعده فهو أسوة الغرماء.   1 البخاري: في الاستقراض وأداء الديون والحجر والتفليس (2398) , ومسلم: الفرائض (1619) , والترمذي: الجنائز (1070) , والنسائي: الجنائز (1963) , وأبو داود: الخراج والإمارة والفيء (2955) , وابن ماجه: الأحكام (2415) , وأحمد (2/290) , والدارمي: البيوع (2594) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 286 فصل: (دفع إلى السفيه أو الصبي أو المجنون ماله ببيع أو قرض) سئل الشيخ حسن بن حسين بن الشيخ محمد رحمهم الله: عمن دفع إلى السفيه أو الصبي أو المجنون ماله ببيع أو قرض، هل يرجع بعد فك الحجر عنهم؟ فأجاب: لا يضمنون شيئا من ذلك، إلا إن حصل في يد أحدهم بغير رضا صاحبه، كالغصب أو الجناية، فعليه ضمانه، وإن أودع عند الصبي أو المجنون، أو أعارهما، فلا ضمان عليهما، وإن أتلفاه، فوجهان: قال في الشرح الكبير: الضرب الثاني: المحجور عليه لحظ نفسه، وهو الصبي والمجنون والسفيه، فلا يصح تصرفهم، ومن دفع إليهم ماله ببيع أو قرض، رجع فيه ما كان باقيا، فإن أتلفه واحد منهم فمن ضمان مالكه لأنه سلطه عليه برضا، علم الحجر أو لم يعلم، فإن حصل في يده برضا صاحبه من غير تسليط، كالوديعة والعارية، فاختار القاضي أنه يلزمه الضمان، إن كان تلفه بتفريطه، ويحتمل أن لا يضمن، وأما ما أخذه من ذلك بغير اختيار المالك، كالغصب أو الجناية فعليه ضمانه. سئل الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن: متى يدفع إلى اليتيم ماله؟ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 287 فأجاب: إذا بلغ خمسة عشر، أو نبتت العانة، أو احتلم مع رشده، فإذا ظهر رشده في المال، دفع إليه. وسئل أيضا: عن ولاية الصغير؟ فأجاب: الصغير قبل البلوغ، لا يصح أن يلي العقد، فإن زوج يعاد العقد على يد الولي البالغ الرشيد. سئل الشيخ: عبد الله بن الشيخ: عن تصرف المرأة؟ فأجاب: يجوز للمرأة البيع والشراء في مالها، بلا إذن زوجها. وأجاب الشيخ عبد الله أبا بطين: والمرأة إذا كانت رشيدة يصح لها التصرف في مالها، ولا يمنعها زوجها عن التصرف في مالها. سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ: من يتولى اليتيم؟ فأجاب: ومال اليتيم ينظر فيه الأمير والجماعة بالمصلحة، ويجعل بيد من يحفظه ولا يعترض بشيء. سئل الشيخ: عبد اللطيف بن عبد الرحمن: هل للوالد أن يتصرف في مال ولده الصغير بما ليس فيه مصلحة؟ أم هو أسوة غيره من الأولياء ليس له النظر إلا فيما فيه مصلحة؟ فأجاب: الواجب على كل من كانت له ولاية: أن يتقي الله فيها، ويصلح، ولا يتبع سبيل المفسدين ; وفي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 288 الحديث: " كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته " 1 بل يحرم على المكلف إضاعة مال نفسه، وإنفاقه في غير مصلحة، وهو من الإسراف، إلا أن الوالد ليس كغيره في العزل، ورفع اليد إذا ثبت رشده. وأجاب أيضا: وأما اليتيم إذا كان له مال، فيتولاه الوصي من جهة أبيه، فإن لم يكن هناك وصي، فيجب على الحاكم الشرعي، وهو قاضي البلد أو الأمير: أن يولي على ماله من يحفظه، من أهل الأمانة والديانة. سئل بعضهم رحمه الله: عن ولاية أم الأيتام على أولادها؟ فأجاب: إن كانت مصلحة في ولايتها، فهي تأكل من مالهم بالمعروف بغير إسراف، بشرط أنها محتاجة، فإن كانت غنية فالترك لها أحسن، لقوله تعالى: {وَمَنْ كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} [سورة النساء آية: 6] . وأجاب بعضهم: إذا كان النخل لليتيم، فليس لأمه ولا لأخته تصرف، فأما إذا احتاج فإن رأى الولي بيعه باع، وإن رأى الرهن رهن. سئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: عن بيع عقار اليتيم؟ فأجاب: ومسألة الصغير الذي ورث عصبا له، فإن كان   1 البخاري: الجمعة (893) , ومسلم: الإمارة (1829) , والترمذي: الجهاد (1705) , وأبو داود: الخراج والإمارة والفيء (2928) , وأحمد (2/54 ,2/111) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 289 الأمير يقول إن بيعه أصلح، فلا أمنع منه ; وإن كان الأمير والجماعة يقولون: عدمه أصلح، فالذي أرى أن البيع لا يتم. سئل الشيخ محمد بن إبراهيم: هل يصح لغير أبي الصغير إذا كان وليا لليتيم التصرف بنفسه من نفسه، بأن يتولى طرفي العقد، فيبيع عقاره على موليه؟ فأجاب: لا يصح ذلك، كما هو المشهور، المفتى به، وهو المذهب الجزء: 6 ¦ الصفحة: 290 باب الوكالة تأليف: الشيخ عبد الرحمن بن قاسم سئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن: عن الأب إذا عجز عن القيام في أمور دنياه، لكثرتها أو عجزه، وأقام وأحدا من أولاده ممن تحرى فيه العدالة والثقة، وجعله وكيلا على ماله؟ فأجاب: هذه وكالة صحيحة، حكمها حكم وكالة الأجنبي، يقبل قوله فيما ذكر من النفقة وغيرها، ما لم يدع نفقة تخرج عن العادة، وفيما أنفق على ماله، وما استفاده بيمينه دون ما ادعاه من الزمن، فلا يقبل إنفاقه إلا ببينة على ابتداء الزمن، فإن لم يجد البينة، فعلى الورثة يمين: أن مورثهم ما وكله إلا من وقت كذا. سئل الشيخ: عبد الله بن الشيخ: هل للوكيل أن يبيع لنفسه؟ فأجاب: المسألة فيها خلاف، وقال بعض الأصحاب: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 290 شراء الوكيل من نفسه غير جائز، فأما الوكيل في البيع، فشراؤه من نفسه جائز بشرط أن يزيد في مبلغ ثمنه في النداء، أو وكل من يبيع وكان هو أحد المشترين، فذلك جائز، والرواية الثانية: أن شراءه من نفسه جائز بشرط أن يتولى النداء غيره، وهو رواية عن الإمام أحمد. سئل بعضهم: هل يغرم الوكيل إذا أعسر المشتري.. إلخ؟ فأجاب: وأما الوكيل إذا أمره موكله ببيع شيء نسيئة، ثم أعسر المشتري أو غاب، فالوكيل لا يغرم. سئل الشيخ: عبد الله بن الشيخ: إذا باع بأقل من ثمن المثل أو بأقل مما قدر له؟ فأجاب: قال في الاختيارات قال في المحرر، وإذا اشترى الوكيل أو المضارب، بأكثر من ثمن المثل، أو باع بدونه صح، ولزمه النقص في مسألة البيع ; قال أبو العباس: وكذلك الشريك والوصي، والناظر على الوقف وبيت المال ونحو ذلك، قال: وهذا ظاهر فيما إذا فرط، وأما إذا احتاط في البيع والشراء، ثم ظهر غبن أو عيب لم يقصر فيه، فهذا معذور يشبه خطأ الإمام أو الحاكم، ويشبه تصرفه قبل علمه بالعزل ; وأبين من هذا: الناظر والوصي، والإمام والقاضي، إذا باع أو أجر أو زارع، أو ضارب ثم تبين أنه بدون القيمة بعد الاجتهاد، أو تصرف تصرفا ثم تبين الخطأ فيه، مثل أن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 291 يأمر بعمارة أو غرس ونحو ذلك، ثم تبين أن المصلحة في خلافه ; وهذا باب واسع، وكذلك المضارب والشريك، فإن عامة من يتصرف لغيره بوكالة أو ولاية، قد يجتهد ثم يظهر فوات المصلحة أو حصول المفسدة، ولا لوم عليه ولا تضمين بمثل هذا، انتهى. فقد عرفت: أن اختيار الشيخ عدم تضمينه إذا لم يفرط، ومقتضى كلام الشيخ هو القول المشهور في المذهب، وهو صحة البيع، وتضمين الوكيل النقص، وشرط الشيخ في ذلك إذا فرط وهو الأظهر عندنا. وأما إذا فرط: فحينئذ يتوجه القول بالبطلان وعدم انعقاد البيع، كما هو قول أهل العلم. وأجاب أيضا: السلعة تلزم الموكل، وإذا اختلف الوكيل والموكل، فإن كان مع الوكيل بينة، وإلا حلف الموكل ما أمرتك بهذا ولا صح بيعه. سئل بعضهم: عمن وكل رجلا في بيع سلعة بعشرة فباعها بثمانية ووكله في شراء سلعة بثمانية، فاشتراها بعشرة؟ فأجاب: هذه المسألة فيها قولان للعلماء، هما روايتان عن أحمد ; إحداهما: أن حكمه حكم من لم يؤذن له في البيع، فيكون تصرفه كتصرف الأجنبي، فلا يصح البيع، وهذا قول أكثر أهل العلم، واختاره الموفق رحمه الله، قال في الجزء: 6 ¦ الصفحة: 292 الشرح: وهو أقيس ; لأنه بيع غير مأذون فيه، أشبه بيع الأجنبي، وكل تصرف كان الوكيل فيه مخالفا لموكله، فحكمه حكم تصرف الأجنبي ; والرواية الثانية: أن البيع صحيح ويضمن الوكيل النقص ; لأن من صح بيعه بثمن المثل صح بدونه. قال في الاختيارات: قال في المحرر، إذا اشترى المضارب أو الوكيل بأكثر من ثمن المثل، صح ولزمه النقص أو الزيادة نص عليه، قال أبو العباس: وكذلك الشريك والوصي والناظر على الوقف، وبيت المال ونحو ذلك، قال وهذا ظاهر فيما إذا فرط، وأما إذا احتاط في البيع والشراء، ثم ظهر غبن أو عيب لم يقصر فيه، فهذا معذور يشبه خطأ الإمام والحاكم، وأبين من هذا الناظر والوصي، إذا باع أو أجر أو زارع، ثم تبين أنه بدون القيمة بعد الاجتهاد، أو تصرف تصرفا ثم تبين الخطأ فيه، مثل أن يأمر بعمارة أو غرس ونحو ذلك، ثم تبين أن المصلحة كانت في خلافه، وهذا باب واسع ; وكذلك الشريك والمضارب، فإن عامة من يتصرف لغيره بوكالة أو ولاية، قد يجتهد ثم يظهر فوات المصلحة أو حصول المفسدة، ولا لوم عليه فيها، وتضمين مثل هذا فيه نظر. وقال أبو حفص في المجموع: وإذا سمى له ثمنا فنقص منه، فنص الإمام أحمد في رواية منصور، إذا أمر رجلا أن يبيع له شيئا فباع بأقل، قال: البيع جائز وهو ضامن، قال أبو الجزء: 6 ¦ الصفحة: 293 العباس: لعله لم يقبل قولهما على المشتري في تقدير الثمن ; لأنهما يدعيان فساد العقد، وهو يدعي صحته، فكان القول قوله، ويضمن الوكيل النقص، انتهى من الاختيارات ملخصا. وسئل الشيخ: عبد اللطيف بن عبد الرحمن: إذا قال بعها بعشرة فباعها بزيادة، هل يحل للبائع أخذ الزيادة؟ فأجاب: لا يحل له ذلك، والزيادة لصاحب السلعة، والمودع أمين ليست من ضمانه، ولا يستحق شيئا من الزيادة. وسئل: عمن يجبر رفاقته على الشراء من رجل، ليحصل له زيادة؟ فأجاب: وأما من قال لصاحب السلعة: إن أسقطت عني من قيمة ما يشتري به رفقتي، أو جعلت لي جعلا أجبرتهم على الشراء منك، فهذا لا يحل، وإجبارهم لا يجوز ولا يستحق هذا شيئا، إلا أن يكون سمسارا يمشي بينهما على العادة المعروفة، فيستحق ما جرت به العادة للدلال. سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: إذا دلس الوكيل ثم تلف المبيع في يد المشتري؟ فأجاب: إذا أراد إمساك المدلس مع الأرش لم يكن له ذلك، فإن تلفت رجع الموكل بالتدليس على الوكيل في أرش التدليس. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 294 وسئل: إذا باع الوكيل ثم ظهر به عيب، وأقر الوكيل وأنكر الموكل؟ فأجاب: إن كان العيب مما يمكن حدوثه وأقر به الوكيل، وأنكر الموكل فقال بعض الأصحاب: يقبل إقراره على موكله بالعيب، لأنه أمر استحق به الرد، فيقبل إقراره على موكله ; وقال بعضهم: لا يقبل وهو اختيار الموفق، وبه قال أصحاب أبي حنيفة والشافعي. وسئل: إذا كان عند رجل دين أو وديعة، فادعى رجل أنه وارث صاحبها، ولا وارث له سواه فصدقه، هل يلزمه الدفع إليه؟ فأجاب: إذا أقام البينة أنه وارثه ولا وارث له غيره لزمه الدفع، وفيها قول ثان، والأول أظهر. سئل الشيخ: محمد بن عبد الوهاب: إذا اختلف الوكيل والموكل، من القول قوله؟ فأجاب: إذا اختلف الوكيل والموكل، فالقول قول الوكيل. وأجاب أيضا: والدلال لا يضمن إلا إذا فرط، ويقبل قوله في دعوى التلف بيمينه. وأجاب ابنه الشيخ عبد الله: وأما كونه مشكلا عليك الوكيل والمضارب، إذا ادعيا رد المال، هل القول قولهما الجزء: 6 ¦ الصفحة: 295 أم قول المالك؟ فالقول قول المالك على الراجح عند متأخري الحنابلة، وكذا الوكيل بجعل، والذي نفهم من كلامهم صوابه، ولا نعلم شيئا يرده من الكتاب والسنة، وذلك: أن الدليل دل على أن القول قول المنكِر بيمينه، والبينة على المدعي، كما في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " البينة على المدعي واليمين على من أنكر " وهذه قاعدة عظيمة، وكلمة جامعة من جوامع الكلم التي اختص بها نبينا صلى الله عليه وسلم ومعلوم: أن الوكيل والمضارب قد أقرا بوصول المال لهما، ثم ادعيا وصوله إلى صاحبه، فإن أقرا بالواصل فلا كلام، وإن أنكرا فالقول قوله بيمينه ; لأن الأصل عدم الوصول حتى تقوم البينة بذلك، والوكيل بجعل من هذا الباب. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 296 باب الشركة سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: عن رجلين اشتركا بأموالهما، من عقار وعروض وأثمان وغيرها، هل هذه شركة صحيحة، أو فاسدة؟ فأجاب: قال في الإنصاف: من شرط صحة الشركة أن يكون المالان معلومين، وإن اشتركا في مختلط بينهما شائع صح ; إن علما قدر ما لكل واحد منهما، ثم قال: ويشترط أن يعملا فيه أو أحدهما على الصحيح، لكن يشترط أن يكون له أكثر من ربح ماله، وهي شركة عنان على الصحيح من الجزء: 6 ¦ الصفحة: 296 المذهب. وقيل مضاربة ; فإن شرط له ربحا قدر ماله فهو إبضاع. وأما الشركة في العقارونحوه، فلم أر في كلامهم تصريحا بجوازه، وقضية إطلاقهم الأموال، يقتضي جوازه في العروض والعقار، فإذا عرفا قدر ماليهما، واشتركا في العمل فيه، ثم فسخ أحدهما تقاسما الربح على قدر ماليتهما، ورجع العقار إلى مالكه الأول. وأما المسألة التي أشكلت عليك، وهي: أن أهل بلدكم يجعلون للأجير الذي يسقي الزرع جزءا مشاعا، وأنك نهيتهم عن ذلك ; لأنك وقفت على كلام لبعض أهل العلم، في اشتراط معرفة الأجرة - وإن كانت مجهولة لم يصح- فاعلم أن الذي يظهر من كلام أهل العلم، أن مثل هذه المسألة لا بأس بها، ويكون ذلك من باب المشاركة، لا من باب الإجارة، كما إذا دفع أرضه لمن يزرعها بجزء مشاع من الزرع، أو نخله لمن يقوم عليه ويصلحه بجزء من ثمره، أو ثوبه إلى من يخيطه، أو غزلا إلى من ينسجه بجزء منه مشاع، فقد نصوا على أن مثل هذا جائز، وكذلك إذا دفع ثوبه إلى من يخيطه، أو غزلا إلى من ينسجه بجزء من ربحه، فإن هذا جائز. قال في المغنى: وإن دفع ثوبه إلى خياط ليفصله قمصانا يبيعها له وله نصف ربحها بحق عمله جاز، نص عليه في رواية حرب، وإن دفع غزلا إلى رجل ينسجه ثوبا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 297 بثلث ثمنه أو ربعه جاز، نص عليه، وهذه المسائل أبلغ في الجهالة والضرر من مسألتكم، فمسألتكم أولى بالجواز، والجهالة في مثل هذه المسائل مغتفرة، كما اغتفرت في المزارعة والمساقاة، التي ثبتت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بجوازها، وهي في الحقيقة أجرة للأرض، والله أعلم. سئل الشيخ: علي بن حسين بن الشيخ: عن أخوين اقتسما ما ورثاه نصفين من نخل وأرض، ودراهم ودواب وغيرها، ثم اشتركا في ذلك مشاعا بينهما، وقاما على النخل بالسقي والعمل، فأثمر الكبير ونما الصغير، وركزا وأخذا على ذلك سنين طويلة، ثم اختلفا هذه السنة في شركة العقار، وأقرا بالشركة فيما سواه؟ فأجاب: الكلام على هذه المسألة ينبني على أصلين ; إما أن يقال: إنهما اشتركا بعد القسمة الأولى في النخل، والأرض تبعا لسائر المال، من الدواب والدراهم وعروض التجارة، فيطلق عليهما الاشتراك بعد الافتراق في جميع المال، وإن كانا قد أشهدا في ابتداء الشركة، أن العقار على القسمة الأولى، فشاهد الحال الواقع منهما، بتصرف كل واحد منهما في مال الآخر، بالغرس والقلع والسقي وبناء الجدار والبئر والدار، يدل على أنهما اشتركا في العقار تبعا لغيره. وأما ما أشكل عليك أنهما لم يشهدا على الاشتراك في العقار، فشاهد الحال أعدل البينات وأبينها، ومعلوم بالضرورة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 298 أنها لا تطيب نفس أحد من أهل هذا الزمان، أن يفعل ذلك في ملك غيره مجانا، والبينة ما بين الحق، ويدل على ذلك أن من تدبر أصول الشريعة، وجدها موافقة لذلك، فمن ذلك: أن الشارع صلى الله عليه وسلم جعل البينة في اللقطة أن يصف مدعيها عفاصها ووكائها فتدفع إليه إذا وافق الوصف، ومن ذلك الحكم بالاستفاضة في كثير من القضايا، ومن ذلك الحكم باللوث الظاهر في الدماء، وغير هذا كثير لمن تدبره، وقد ذكر ابن القيم رحمه الله من هذا كثيرا في الطرق الحكمية. وأما قولك: هل يكون هذا في حكم الهبة المقبوضة؟ كما يدل عليه قرائن الحال، فهذا بعيد لا سيما لمن عرف حال الشخص وشريكه، وشح كل واحد منهما بماله عن الآخر، فيبعد أن يظن فيه أنه عمل هذا العمل الكثير بالنفقة الكثيرة إلى المدة الطويلة، وأنه قصد بذلك الهبة، هذا لا يقع من أجود الناس فضلا عن مثل أهل هذه القضية، فلا يكاد يتطرق إلى ظن أن مثله يجود بمثل هذا، ويدل عليه تغير حاله، ومظنة افتتانه لما قيل له ذلك. الأصل الثاني: إن قيل بعدم الاشتراك في العقار، فيقال كل واحد مساقا ومساق لصاحبه، فتعطى هذه الشركة حكم المساقاة، وحكم المناصبة والمغارسة ; لأن هذه الشركة أقرب شيء لشركة المفاوضة، وقد ذكر الفقهاء ذلك في موضعه، وشاهد الحال يدل على الاشتراك في الجميع بالفعل، وإن لم يوجد بالقول ; لأن الشركة كالبيع والإجارة، تنعقد بكل ما عده الجزء: 6 ¦ الصفحة: 299 الناس شركة، من قول أو فعل من متعاقب ومتراخ. قال صاحب الإقناع: إذا كان الغراس من العامل، فصاحب الأرض بالخيار بين قلعه ويضمن نقصه، وبين تركه في أرضه ويدفع إليه صاحب الأرض قيمته، كالمشتري إذا غرس في الأرض، ثم أخذها الشفيع، وإن اختار العامل قلعه فله ذلك، سواء بذل له القيمة أو لا، وإن اتفقا على إبقائه ودفع أجرة الأرض جاز، وقيل يصح كون الغراس من مساق ومناصب ; قلت: هو الصحيح وعليه العمل، انتهى كلامه ; ولو تتبعنا ما يدل على صحة هذه الشركة، وعدم إبطالها، لوجدنا ما يدل على ذلك كثيرا، والذي أحب لك: أن مثل هذه المسألة إذا كان فيها إشكال، تجتهد فيها بالصلح، عن الخطر في القدوم على الفتيا في أمر ليس بصريح لك، فهو أسلم. سئل الشيخ: حسن بن حسين بن الشيخ محمد رحمهم الله: إذا اشتركا في جمع زرعيهما، يداسان معا، ويكون نصفين، ولأحدهما زيادة دراهم؟ فأجاب: شرط زيادة الدراهم يبطل الشركة، والله أعلم. سئل الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين: عن حكم ما يغرس أو ينبت من النخل ونحوه على ماء الشريك في المشاع، إذا أراد الشركاء القسمة؟ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 300 فأجاب: أما ما غرسه الشريك في الأرض المشاع بغير إذن شريكه، فقد صرح الأصحاب بأن حكمه حكم غرس الغاصب، ونص على ذلك الإمام أحمد، فإنه سئل عمن غرس نخلا في أرض بينه وبين قوم مشاعا، قال إن كان بغير إذنهم قلع نخله; قال في الإنصاف: قلت وهذا مما لا يشك فيه; قالوا: وكذلك لو غرس نوى فصار شجرا، فحكمه حكم الغرس لا كالزرع، على الصحيح من المذهب. وأما قول الشيخ رحمه الله: من زرع بلا إذن شريكه، والعادة بأن من زرع فيها له نصيب معلوم، ولربها نصيب، قسم ما زرعه في نصيب شريكه كذلك، فالظاهر أن هذا في الزرع خاصة دون الغرس، ولجريان العادة بذلك. وأما إذا نبت في الأرض المشاعة شجر بغير فعل صاحب الماء، وإنما نبت على مائه بغير فعل منه، فلم أر في كتب الأصحاب ذكرا لهذه المسألة بعينها، ورأيت جوابا للشيخ عبد الله بن محمد بن ذهلان النجدي، في هذه المسألة ما نصه: اعلم أن الغرس النابت في الأرض المؤجرة أو الموقوفة، لم نظفر فيه بنص، وتعبنا من زمن، وجاءنا فيه جواب للبلباني أظنه غير محرر. وأرسلنا من زمن طويل للشيخ عبد الرحمن بن عبد الله الشافعي، المفتي بالأحساء، فيمن استأجر أرضا مدة طويلة، فنبت فيها غراس، الظاهر سقوطه في مدة الإجارة، ونما بعمل مستأجر، ما حكمه؟ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 301 فأجاب: إذا استأجر شخص أرضا مدة طويلة، ووقع منه نوى في الأرض المذكورة، ولم يعرض عنه، كان النابت ملكا للمستأجر، إن تحقق أن النوى ملكه، وإن لم يتحق أنه ملكه، أو أعرض عنه، وهو ممن يصح إعراضه، فهو ملك لصاحب الأرض، وإن نما بعمل مستأجر، هذا جوابه; ومن جواب محمد بن عثمان الشافعي: الودي النابت في الأرض، لمالكها لا للمستأجر، وإن حصل نموه بفعل المستأجر من سقيه وتعاهده، انتهى. وقال في الشرح: وإن رهن أرضا فنبت فيها شجر فهو رهن، لأنه من نماء الأرض، سواء نبت بفعل الراهن أو بغيره، وكذا قال في المغني وغيره، فتعليلهم أن النابت من نماء الأرض ربما يلحظ منه شيء، والله أعلم. 1 سئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب: هل يصح قسم الدين في الذمم؟ فأجاب: يصح قسم الدين في الذمم. وأجاب ابنه الشيخ عبد الله: وأما قسمة الدين في الذمم، فالمسألة فيها روايتان: الأولى المنع، والثانية الجواز، وقال الشيخ بالجواز. وسئل إذا أشركه أحدهما، فقال بعضهم له ثلث حصتهما، وقال بعضهم له ثلث حصته، فليس له إلا ثلث حصته، وليس على الشريك الثاني تبع.   1 ويأتي أيضا: هذا الجواب وغيره في المساقاة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 302 فصل (المضاربة بالعروض والمغشوش) سئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب: عن المضاربة بالعروض، والمغشوش هل تصح؟ فأجاب: روي عن أحمد أن المضاربة لا تصح بالعروض، اختاره جماعة، ولم يذكروا على ذلك حجة شرعية نعلمها; وعن أحمد: أنه يجوز، وتجعل قيمة العروض وقت العقد رأس المال، قال الأثرم: سمعت أبا عبد الله يُسئل عن المضاربة بالمتاع، فقال جائز، واختاره جماعة، وهو الصحيح، لأن القاعدة في المعاملات: أن لا يحرم منها إلا ما حرمه الله ورسوله، لقوله "وسكت عن أشياء رحمة لكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها" وأما المغشوش: فقد تقدم أن الصحيح جوازه بالعروض، وهي أبلغ من المغشوش، وقد أطلق الموفق في المقنع الوجهين، ولم يرجح واحدا منهما، ولكن الصحيح جواز ذلك لما تقدم، وما ذكر في السؤال من غش ذهب المعدن، فهذا غش لا قيمة له، فأين هذا من غش قيمته: أبلغ من قيمة الفضة الخالصة أو مثلها؟ وسئل: هل تصح المضاربة بالدين؟ فأجاب: وأما جعل الدين مضاربة، فبعض العلماء يجوزه، والاحتياط أنه لا يضارب إلا بشيء حاضر. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 303 وسئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمهما الله: إذا جعل قيمة العروض رأس مال المضاربة؟ فأجاب: يشترط في المضاربة، وشركة العنان: أن يكون رأس المال دراهم أو دنانير، وهو المذهب، وعن الإمام أحمد رحمه الله رواية أخرى، أنها تصح بالعروض; واختارها أبو بكر وأبو الخطاب، وصاحب الفائق وغيرهم، قال في الإنصاف: قلت وهو الصواب، وعلى هذه الرواية يرجع عند المفارقة بقيمة العروض عند العقد، كما جعلنا نصابها قيمتها، وسواء كانت مثلية أو غير مثلية. سئل الشيخ: عبد الله أبا بطين: عما يفعله بعض الناس يدفع إلى آخر سلعة، يقول قيمتها كذا وكذا، وهي مضاربة؟ فأجاب: هذا لا يسمى بيعا، وإنما هو مضاربة بمسمى العروض، وذلك لا يجوز عند أكثر العلماء، وجوزه طائفة منهم، لكن بشرط أن يجعل رأس المال قيمة العروض وقت العقد; وبعض من يفعل ذلك يجعل رأس المال أكثر من قيمتها، وذلك لا يجوز. وسئل: إذا أخذ رجل من آخر مجيديات فضة مضاربة، واشترى بها عروضا، وظهر ربح هل يدفع ريالات؟ فأجاب: وأما مسألة المضاربة فإن طلب المالك من الجزء: 6 ¦ الصفحة: 304 العامل أن يرد رأس ماله، كما أخذه لزمه ذلك بطريق مباح; وأما إذا رضي رب المال بقبض الريالات الرائجة، فالذي أرى أن هذا جائز لا محذور فيه، لأنه عين ماله انقلب بالتجارة فيه من نوع إلى نوع آخر، لم يكن في ذمة العامل، بل رأس المال والمنضوض 1 ملك لرب المال، فإن كان قد ظهر ربح قوم، وأعطى العامل حصته من الربح من الناض، لا من رأس المال. سئل الشيخ: عبد الله بن الشيخ محمد، عن الدراهم التي يباع فيها بنصف الربح إذا تلفت بموت المواشي أو ضياع؟ فأجاب: إذا كان الذي يبيع فيها ويشتري، يجتهد فيها مثل ما يجتهد لنفسه ولم يفرط، فليس عليه غرامة ولو تلفت. وأجاب أيضا: وإذا أخذ من رجل بضاعة على أنه يسافر بها ثم بعد ذلك سافر بها وأخذت أو ضاعت بلا تفريط، فليس عليه غرامتها. وسئل: عن رجل أعطى آخر خمسين زرا وضاربه والزر إذ ذاك بثمان، ونزل السعر، هل يرجعان إلى القيمة ذلك الوقت؟   1 المنضوض: المصفى, وتنضيضه تصفيته من العروض, بجعله نقدا, والناض: الحاصل, يقال: ما نض بيده شيء, أي: ما حصل. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 305 فأجاب: الذي رأيناه مذكورا في كتب الفقه، أنهما لا يرجعان إلى القيمة، وليس له إلا دراهمه التي دفعها إليه، وتغير السعر بالغلاء والرخص، يكون من الربح الذي يقتسمانه بينهما، لأن صاحب خمسين الحمر مثلا، إذا نقصت قيمتها عن يوم الدفع، يطالبه بالنقص ليجبره من الربح، فكذلك إذا زادت القيمة، طالبه المضارب بأن له بعض الزائد، كما لو دفع له عروضا بسعر يومها، ثم زادت أو نقصت، فمعلوم أن النقص يؤخذ من الربح، والنقص يكون بينهما. وهذا: لا يشبه ما اختاره الشيخ تقي الدين، في مسألة الديون والمغصوب والصلح، وعوض الخلع، وما أشبه ذلك، يكون بقيمته يوم العقد، مع أن أكثر العلماء لا يوافقه في ذلك، لكن كلامه له وجه واضح; والحنابلة لم يذكروا الرجوع إلى القيمة في هذه المسائل، إلا إذا حرمها السلطان بالكلية، وأما إذا نقصت القيمة، كدانق يساوي عشرين زرا يوم العقد نقص النصف، وصار لا يساوي إلا عشرة، فليس له إلا الدراهم المعقود عليها، كما ذكر ذلك صاحب الإنصاف وغيره. سئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن: إذا أخذ من رأس المال شيء أو خسر، ففسخ العامل، هل عليه أن يعمل فيه حتى يكمل رأس المال؟ فأجاب: ليس عليه أن يعمل فيه بعد فسخ المضاربة، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 306 لكن نقل في القواعد الفقهية، عن ابن عقيل ما حاصله: أنه لا يجوز للمضارب الفسخ، حتى ينض رأس المال ويعلم به ربه، لئلا يتضرر بتعطل ماله عن الربح، وأن المالك لا يملك الفسخ إذا توجه المال إلى الربح، ولا يسقط به حق العامل، قال: وهو حسن جار على قواعد المذهب، في اعتبار المقاصد وسد الذرائع، ولهذا قلنا: إن المضارب إذا ضارب لآخر من غير علم الأول، وكان عليه في ذلك ضرر، ردّ حقه من الربح في شركة الأول، انتهى. أقول مراده بقوله: حتى ينض رأس المال، يعني أنه إذا لم ينقص، أما إذا نقص فليس على المضارب إلا تنضيض ما بقي في يده من رأس المال، لأن المضاربة عقد جائز، ولا ضمان على المضارب فيما تلف من غير تعد المضارب ولا تفريطه، فلا يضمنه. وأجاب بعضهم: وأما قسمة العامل الذي يبيع في رأس المال من الربح، فلا أرى إلزامه إلا برضاه. اختلاف المضارب ورب المال سئل بعضهم: إذا دفع إنسان مالا مضاربة، فاشترطا لأحدهما ثلث الربح، وللآخر الثلثين، ثم اختلف العامل ورب المال فيمن له الثلث، ولا بينة لهما؟ فأجاب: قال في الشرح، إذا اختلفا فيما شرطا للعامل، ففيه روايتان، إحداهما: القول قول رب المال، نص عليه أحمد في رواية منصور، وسندي، وبه قال الثوري الجزء: 6 ¦ الصفحة: 307 وإسحاق وأبو ثور، وأصحاب الرأي وابن المنذر، لأن رب المال منكر للزيادة التي ادعاها العامل، والقول قول المنكر; والراوية الثانية: أن العامل إن ادعى أجرة المثل، وما يتعامل الناس به، فالقول قوله، لأن الظاهر صدقه، إن ادعى أكثر فالقول قول رب المال، فيما زاد على أجرة المثل، كالزوجين إذا اختلفا في الصداق. وقال الشافعي: يتحالفان لأنهما اختلفا في عوض عقد، فيتحالفان كالمتبايعين، ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " ولكن اليمين على المدعى عليه " 1 ولأنه اختلاف في المضاربة، فلم يتحالفا كسائر اختلافهما، والمتبايعان يرجعان إلى رءوس أموالهما، بخلاف ما نحن فيه. باب المساقاة سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد رحمه الله: إذا دفع إنسان إلى آخر أرضه يغرسها، وشرطا بينهما مدة سنين ... إلخ؟ فأجاب: الذي عليه كثير من العلماء، أن مثل هذا لا يصح، سواء سمي مساقاة، أو مزارعة، أم لا؟ والذي اختاره الشيخ تقي الدين بن تيمية رحمه الله: جواز ذلك، وهو الذي تقتضيه الأصول والقواعد في المساقاة والمزارعة، على النصف أو الثلث أو الربع، كما ثبتت السنة بذلك قي قصة خيبر. وقال الشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمه الله: وذكرت   1 البخاري: تفسير القرآن (4552) , ومسلم: الأقضية (1711) , والنسائي: آداب القضاة (5425) , وابن ماجه: الأحكام (2321) , وأحمد (1/363) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 308 لك أن الأصل في العقود الصحة، ووجد مع الأصل ظاهر، وهو الكتب على العقد، فلا يسعنا نقول في الصحيح أنه فاسد، بل يتعين أن نذكر لك ما يظهر لنا; وأما ما ذكرت أن مستندك في القول بفسادها: أنهم جعلوا للعامل بعض الأرض، وهذا تفسد به المغارسة; فاعلم يا أخي: أنه ليس في الأصل الذي بين أيديهم ما يقتضي ذلك، ولو قدر أن الخصم ادعاه وثبتت به دعواه، فالمعتمد الذي عليه شيوخنا، القول بجوازه; وما علمت أن أحدا منهم قال بفساده، لا ابتداء ولا دواما، ودليلهم في ذلك: أن هذا عقد من العقود، وقد أمر الله سبحانه بالوفاء بالعقود، والأصل في المعاملات الإباحة، ولنا في ذلك القول سلف من الأئمة. قال في الاختيارات: ولو دفع أرضه إلى آخر يغرسها بجزء من الغراس صح كالمزارعة، واختاره أبو حفص العكبري، والقاضي في تعليقه، وهو ظاهر مذهب أحمد، ثم قال: ومقتضى قول أبي حفص: أنه يجوز أن يغارسه بجزء من الأرض، كما جاز النسج بجزء من الغزل نفسه; وقال في الفروع: وظاهر نص الإمام أحمد جواز المساقاة على شجر يغرسه، ويعمل عليه بجزء معلوم من الشجر والثمر كالمزارعة، واختاره أبو حفص، وصححه القاضي في التعليق، واختاره في الفائق، والشيخ تقي الدين رحمه الله. قال في الإنصاف: لو كان الاشتراك في الغراس والأرض فسد وجها واحدا، قاله المصنف رحمه الله تعالى والشارح الجزء: 6 ¦ الصفحة: 309 والناظم وغيرهم، وقال الشيخ تقي الدين: قياس المذهب صحته; قال في الفائق، قلت: وصحح المالكيون المغارسة في الأرض الملك لا الوقف، بشرط استحقاق العامل جزءا من الأرض، مع القسط من الشجر، انتهى، فإذا عرفت أن القول بصحة المغارسة أقوى، وأن عليه جمعا من المحققين وعليه الفتوى، وهذا على تقدير ثبوت هذه الدعوى، مع وجود شهود أصل العقد بخطهم وقت المعاملة والمعاقدة، وسلامة العقد ظاهرة، فكيف لا نقول بصحته، وهذا هو الذي أوجب المراجعة، وبالله التوفيق. سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: إذا كان عند رجل أرض بيضاء، وأراد آخر أن يغرسها بشجر من عنده هل يجوز؟ فأجاب: ذلك جائز، وأكثر العلماء لا يجيز ذلك، ولا يظهر لنا وجه المنع. وسئل بعضهم: إذا غارس رجل رجلا في أرض، على أن يغرس فيها قدرا معلوما من النخل والنخل من العامل، وينفق عليه العامل حتى يثمر، ثم يقتسمان النخل والأرض، هل يصح ذلك؟ أم لا يصح إلا على أن الأرض له بها والنخل بينهما؟ أو تصح في الصورتين، كما أفتى به أبو العباس رحمه الله تعالى؟ فأجاب: قال في الشرح: لو دفع أرضه إلى رجل الجزء: 6 ¦ الصفحة: 310 يغرسها، على أن الشجر بينهما لم يجز، ويحتمل الجواز بناء على المزارعة، فإن الزارع يبذر في الأرض، فيكون بينه وبين صاحب الأرض، وهذا نظيره، فأما إن دفعها على أن الأرض والشجر بينهما، فذلك فاسد وجها واحدا; وقال الشيخ قدس الله روحه: قياس المذهب صحته; وبه قال مالك والشافعي، وأبو يوسف ومحمد، ولا نعلم فيه مخالفا، انتهى; وكذا قال أبو محمد في المغني، وعلل بأنه شرط اشتراكهما في الأصل، ففسد كما لو دفع إليه الشجر والنخل، ليكون الأصل والثمر بينهما، أو شرط في المزارعة كون الأرض والزرع بينهما، انتهى. وقال في الإنصاف: واختار الشيخ جواز المساقاة على شجر يغرسه ويعمل عليه، بجزء معلوم من الشجر والثمر، كالمزارعة، وذكر أنه هو المذهب، قال: ولو كان مغروسا، ولو كان ناظر وقف، وأنه لا يجوز لناظر بعده بيع نصيب الوقف بلا حاجة، وأن للحاكم الحكم بلزومها، ومحل النّزاع فقط والحكم به من جهة عوض المثل، ولو لم يقم به بينة، لأنه الأصل، ويتوجه اعتبار بينة، وقال في التوضيح: وإن ساقاه على شجر يغرسه، ويعمل عليه حتى يثمر، بجزء معلوم من الثمر أو من الشجر أو منهما، وهي المغارسة والمناصبة صح، إن كان الغرس من رب الأرض، وقيل يصح كونه من مساق أو مناصب، وعليه العمل، انتهى. وقال في الروض المربع: ولا يشترط في المزارعة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 311 والمغارسة كون البذر والغراس من رب الأرض، فيجوز أن يخرج العامل في قول عمر، وابن مسعود وغيرهما; ونص عليه في رواية مهنا، وصححه في المغني والشرح، واختاره أبو محمد الجوزي، والشيخ تقي الدين، وعليه عمل الناس; لأن الأصل المعمول عليه في المزارعة، قصة خيبر، ولم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن البذر على المسلمين، وظاهر المذهب اشتراطه، نص عليه في رواية الجماعة، واختاره عامة الأصحاب، وقدمه في التنقيح وتبعه المصنف في الإقناع وقطع به في المنتهى، انتهى; فقد علمت: أنه فاسد في الثانية بلا خلاف، وإنما الخلاف في الأولى، وأن العمل على جوازه. سئل الشيخ محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف، والشيخ عبد الله بن عبد العزيز العنقري: عن تصبير الأرض التي غورس عليها قبل أن يغل الغرس ولو لم يذكرا مدة الصبرة؟ فأجاب: نعم يجوز ذلك وعليه الفتوى عند أهل نجد، وذكرا أن عمل الشيخ عبد الرحمن بن حسن على ذلك، والجهالة تغتفر في مثل ذلك للحاجة، ويؤيده: ما اختاره الشيخ تقي الدين، من جواز إجارة الأرض، والمغارسة على الشجر. سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: إذا دفع أرضه لإنسان يغرسها، هل يجوز لصاحب الأرض بيع نصيبه من الغرس؟ ولو لم تتم المدة؟ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 312 فأجاب: يجوز لصاحب الأرض بيع نصيبه من الغرس، ولو لم تتم المدة، لأن بيع المشاع صحيح، والمشتري يقوم مقام العامل، بإتمام العمل الذي شرط عليه في العقد، وإذا تلف نصيب الغارس من النخل رفع يده عن الأرض، ليس له فيها حق، بل لو شرط في ابتداء العقد أن له شيئا من الأرض فسد العقد، بلا خلاف بين العلماء، والمشتري من مالك الأرض، إن كان إنما اشترى نصيبه من الغرس فهو صحيح، كما ذكرناه، وإن كان اشترى نصيبه من الغرس وجميع الأرض، فالذي أرى أنه لا يصح، لأنه لا يمكنه تسليم الأرض والحالة هذه. وسئل: إذا قطع الغراس هل ترجع الأرض لأهلها؟ أو تكون في يد المغارس، وهل الحكم واحد إذا بقي فيها شيء، أو لم يبقَ فيها شيء من الغرس الأول؟ إذا كان فيه خيار وفسخ المشتري لما حدث قطع في النخل؟ فأجاب: إذا قطع الغراس، فالذي أرى أن الأرض ترجع إلى صاحبها، وليس للعامل إحداث غرس، إلا بعقد جديد بتراضيهما، وأما إذا بقي شيء من الغرس قليل أو كثير، ففيه إشكال، والذي أرى: أنه يشبه مسألة من اشترى أرضا، وغرس فيها، ثم أخذت بالشفعة، أن الشفيع يدفع قيمة الغراس، إن لم يختر صاحبه قلعه; وكذا إذا انقضت مدة الإجارة وغرسه باق، مع أن التالف في هذه الحادثة يقل ويكثر، فيحتاج أن ينظر فيما لا ضرر فيه على صاحب الأرض الجزء: 6 ¦ الصفحة: 313 والغارس، والصلح جائز بين المسلمين، وأما إذا فسخ المشتري قبل قطع النخل صح الفسخ، فإن ثبت قطع شيء منه قبل الفسخ فعلى المشتري، لأن الملك للمشتري فضمانه عليه. سؤال: ما الحكم فيما ينبت على ماء المساقي، أو المستأجر من الشجر؟ هل يكون لمالك الأرض؟ أو مالك المنفعة، أو يشتركان فيه؟ أفيدونا؟ أجاب الشيخ عبد الرحمن: ما نبت بغير فعل لا تعدي فيه، فلصاحب الأرض تملكه من صاحبه بقيمته، أو يقلعه ويضمن صاحب الأرض نقصه. وأجاب الشيخ عبد الله أبا بطين: لم أر في كتب الأصحاب ذكرا لهذه المسألة بعينها، ورأيت جوابا للشيخ عبد الله بن ذهلان النجدي، في هذه المسألة: اعلم أن الغرس النابت في الأرض المؤجرة أو الموقوفة، لم نظفر فيه بنص، وتعبنا من زمن، وجاءنا فيه جواب للبلباني، أظنه غير محرر. وأرسلنا من زمن طويل للشيخ عبد الرحمن بن عبد الله الشافعي، المفتي بالأحساء، فيمن استأجر أرضا مدة طويلة، فنبت فيها غراسٌ الظاهر سقوطه في مدة الإجارة، ونما بعمل مستأجر، ما حكمه؟ فأجاب: إذا استأجر شخص أرضا مدة طويلة، ووقع منه الجزء: 6 ¦ الصفحة: 314 نوى في الأرض المذكورة، ولم يعرض عنه، كان النابت ملكا للمستأجر، إن تحقق أن النوى ملكه; وإن لم يتحق أنه ملكه، أو أعرض عنه وهو ممن يصح إعراضه، فهو ملك لصاحب الأرض، وإنما نما بعمل المستأجر، هذا جوابه. ومن جواب لمحمد بن عثمان الشافعي: الودي النابت في الأرض لمالكها، لا للمستأجر، وإن حصل نموه بفعل المستأجر من سقيه ومعاهدته، انتهى; وقال في الشرح: وإن رهن أرضا فنبت فيها شجر فهو رهن، لأنه من نماء الرهن، سواء نبت بفعل الراهن أو غيره، فتعليلهم أن النابت من نماء الأرض، ربما يلحظ منه شيء صورة ما ظهر للفقير حسن، عن جواب هذا السؤال الذي تفيده قواعد المذهب، وتفهمه عبائر الأصحاب: أن هذا النابت ملك للمنمي له بعمله، كما لمحه الشيخ عبد الرحمن; وقال في المستوعب: لو أعاره أرضا بيضاء، ليجعل فيها شوكا للدواب، فتناثر فيها حب أو نوى، فهو للمستعير، وللمعير إجباره على قلعه بدفع القيمة، لنص أحمد على ذلك في الغاصب، انتهى. وأخبرني الثقة: أن العم الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد، كان يفتي أن ما ظهر على ماء الشريك المساقي يكون له، دون شريكه الذي لا ماء له. ثم رأيت في فتاوى ابن زياد، ما صورته: مسألة عن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 315 رجل شرك من آخر أرضا، وبذرها بدخن وعطب مشترك بينهما وبعد أن حصل زرع الدخن، سقيت الأرض ونبت فيها زرع كثير، من الحب المتناثر من الدخن المشترك، بين صاحب الأرض والشريك، والحال أن الأرض تحت يديهما معا، فهل يشتركان في الزرع المذكور والحال ما ذكر؟ مع بقاء يد الشريك، وعدم إعراضه، أم لا؟ الجواب: نعم; يكون الزرع النابت من الحب المذكور، مشتركا بين الشريك، وبين صاحب الأرض، والحال أن يد الشريك باقية على الأرض، بتجديد العمل فيها، وحيث لم يجدد العمل، فالزرع النابت لمالك الأرض، ولا تحقق يد الشريك إلا بتجديد العمل، ذكر ذلك السيد العلامة بدر الدين حسين الأهدل، انتهى; والله أعلم. وسئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن، رحمهما الله: عن رجل غرس أرضا وقفا، وادعى تملكها، وأخذ مدة يستغلها، ثم بعد ذلك ثبتت وقفيتها، وطالبه أرباب الوقف، واستحقوها عليه، فما حكم المغارسة والحالة هذه؟ وهل يجبر على قسمتها وإفراز نصيب الوقف إذا كان ممتنعا؟ وما حكم الغلة مدة مقامها في يده؟ فأجاب: غرس الوقف لا يصح إلا إذا كان بإذن الناظر، وبغير إذن الناظر الخاص أو العام، يفسد، ويكون حكم هذا الغرس حكم الغصب، فيفعل فيه ما يفعل في غراس الغاصب، بقلع الجزء: 6 ¦ الصفحة: 316 الشجر وتسوية الحفر على الغارس، أو يأخذه الناظر بقيمته، وعليه أجرة الأرض مدة وضع يده عليها، واختار شيخ الإسلام في مثل هذه الصورة، أن تكون مثل المغارسة الصحيحة، على ما هو المعتاد في محله; وعلى هذا تكون الثمرة كلها للوقف الماضي منها والمستقبل، حتى يتم الغراس وتصح المقاسمة بتمام العمل. وقال الشيخ حمد بن عتيق: أرض وقف باعها أولاد أولاد الموقف فغرس المشتري وبنى وأنفق، مع علمه بأن الأرض وقف، فلما كبر النخل وأثمر، نازع البائع واعتذر عن البيع بأعذار فاسدة، واعتذر المشتري بمثلها، والوقف مشتهر عند أهل البلد، والبائع والمشتري يعلمان ذلك، واجتهدت في البحث وشاورت من حولي من الإخوان، وكاتبت أهل المعرفة والدين، واتفق الرأي على الإصلاح بما هو أقرب إلى مقصود الواقف ومصلحة الأرض، وأقل ضررا على المشتري، والنخل مائة وخمسون، أصلحنا بنصفها للوقف، والثمن الذي أخذ البائع يسقط عن المشتري، إعانة له على سقي النخل، ورضيا، وذلك بحضور جماعة من المسلمين. وقال الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف: قال في المغني والشرح: وإذا زارع رجلا، أو آجره أرضه فزرعها وسقط من الحب شيء وقت الحصاد، نبت في تلك الأرض عاما آخر، فهو لصاحب الأرض، نص عليه أحمد في رواية أبي داود، ومحمد بن الحارث، وقال الشافعي: هو لصاحب الحب الجزء: 6 ¦ الصفحة: 317 فهو كما لو بذره قصدا. ولنا أن صاحب الحب أسقط حقه منه بحكم العرف، وزال ملكه عنه، لأن العادة ترك ذلك لمن يأخذه، ولهذا أبيح التقاطه، ولا نعلم خلافا في إباحة ما خلفه الحصادون، من سنبل وحب وغيرهما، فجرى ذلك مجرى نبذه على سبيل الترك له، وصار كالشيء التافه كالتمرة واللقمة ونحوهما. قلت: لمن سلم من التعصب والهوى، وطلب الحق والهدى، انظر كلام صاحب المغني، وابن أبي عمر في شرحيهما، وهما بعد زمن نجم الدين، ابن حمدان رحمه الله، صاحب الرعاية، ولم يذكرا إلا قول الشافعي، وبينا اختيارهما، ولم يلتفتا إلى تقييد ابن حمدان رحمه الله، ولا ذكره أحد عنه إلا المتأخرون، ولو كان هنا عناية بما استقر عليه الحال، في زمن الدعوة الإسلامية، وعلمائنا ومشايخنا رحمهم الله تعالى، لكان بهم قدوة، ولنا فيهم أسوة، خصوصا بعد ما فهموا من تقريرات شيخهم محمد رحمه الله، وقوله في رسائله: أكثر ما في الإقناع والمنتهى، مخالف لنص أحمد، فضلا عن نص رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرف ذلك من عرفه، رادّا بهذا الكلام رحمه الله، على مثل هذا البليد المعاند الطاعن بالهوى. فدع عنك الكتابة لست منها ... ولو سودت وجهك بالمداد ونزيد ذلك إيضاحا وحجة، تفهم المقصود من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية، قال: وقد سئل عمن استأجر أرضا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 318 مدة طويلة، ونبت فيها غراس، الظاهر سقوطه في مدة الإجارة، ونما بعمل المستأجر، ما حكمه؟ أجاب: بما صورته: إذا استأجر شخص أرضا مدة طويلة، ووقع منه نوى في الأرض المذكورة، ولم يعرض عنه، كان النابت ملكا للمستأجر، إن تحقق النوى ملكه، وإن لم يتحقق أنه ملكه، أو أعرض عنه وهو ممن يصح إعراضه عنه، فهو ملك لصاحب الأرض، كذا ذكره القاضي أبو يعلى، وابن عقيل إذا رهن أرضا ونبت فيها شجر، فهو رهن، لأنه من نمائها، سواء نبت بنفسه أو بفعل الراهن، انتهى كلامه رحمه الله وقدس روحه. وقال ابن مفلح، في الفروع، في الدار المؤجرة والأرض: إذا وجد بها ركازا، أو لقطة، فهي لصاحب الأرض أو الدار، وقيل هي للمستأجر، والرواية الثانية: هي لمالك الدار أو الأرض، كالمعدن وغيره، وهو الصحيح من المذهب، انتهى، هذا الذي عليه اعتمادنا، وندين الله به، وفيه كفاية، والقصد في ذلك بيان الحق لملتمسه; وأما صاحب الهوى والمناقضات، فقد علم هذا وتحققه: وقل للعيون الرمد للشمس أعين ... سواك تراها في مغيب ومطلع وسامح نفوسا أطفأ الله نورها ... بأهوائها لا تستفيق ولا تعي ونقول لمن وجد غير هذا، من كلام الله وكلام رسوله أو كلام الصحابة والتابعين، ومن بعدهم من أئمة الدين أرشدنا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 319 إليه وبينه، فإن الحق ضالة المؤمن، والمعصوم من عصمه الله، وقد قيل: عليك في البحث أن تبدي غوامضه ... وما عليك إذا لم تفهم البقر سئل الشيخ: عبد الله بن الشيخ محمد رحمهما الله: إذا ساقاه على النخل بسهم معلوم، كالثلث أو الربع وشرط عليه زيادة وزان معلومة، أو دراهم معلومة، أو ساقاه على نخله بخمسمائة وزنة، أو أقل أو أكثر، أو جعل بدل التمر دراهم، وآجر النخل بدراهم معلومة؟ فأجاب: هذا النوع أجازه الشيخ تقي الدين، وهو المفتى به اليوم، والجمهور على المنع، ولا أعلم دليلا يدل على المنع من ذلك، بل ظاهر الحجة مع الشيخ، وليس هذا موضع ذكرها. وأما الجمع بين السهم المشاع، كالنصف والثلث، وبين وزان معلومة زائدة على ذلك، أو دراهم معلومة زائدة على ذلك، فهذا لا يجيزه الشيخ، بل حكى في بعض أجوبته: أنه لا يجوز باتفاق أهل العلم. وأجاب أيضا: وأما المساقاة فلا يجوز للمالك أن يشترط طليعة نخلة أو نخلتين، أو يشترط شيئا زيادة على السهم الذي له، فإن فعل ذلك فسدت المساقاة، وسواء في ذلك النخل والعنب والخوخ، فإذا فسدت فالحكم واضح في كلام العلماء. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 320 وأما قولك: هل تفسد المساقاة أم يفسد الشرط وحده؟ فالعمل عندهم على أن ذلك يفسد العقد، ويستأنفون عقداً آخر. وأجاب أيضا: إذا استثنى صاحب النخل ثمرة نخلة أو أكثر خالصة له دون العامل، فالعقد فاسد، لكن سوغ بعض متأخري فقهاء نجد، فيما إذا كانت نخلة وقفا على بركة، مثل أن يشترط للعامل جزءا يسيرا من ثمرتها، وكذا لو شرط الواقف بأن هذه النخلة على البركة، أو الساقي لا يزال عنها ذلك، فلا يزال. سئل الشيخ: عبد اللطيف بن عبد الرحمن، هل تصح المساقاة من كل نخلة عذق؟ فأجاب: لا تصح المساقاة بعذق معين، أو ثمرة نخلة معينة، وأما بالسدس أو السبع أو أقل أو أكثر، من غير تعيين الشجر فيصح. قال الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد لبعض معاصريه: إذا صار لرجل نخلة أو نخلتان في نخل، ولا هن سبيل، وقال: ما أوجرهن ولا أسقيهن، وتذكر أنك سألت الشيخ عفا الله عنه، وقال: ما يجبر مالكهن على إجارتهن، ولا سقيهن، فهو على ما ذكر رحمه الله، إلا أن فعل مالكهن مضرة، كدخوله على أهل النخل، أو سقيهن وتردده لذلك، لأن هذا يعرف أن ذلك يضر بصاحب النخل الذي هو فلاحه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 321 سئل الشيخ: عبد الرحمن بن حسن:، عن قول صاحب الإنصاف، نقلا عن الفروع، في جواز إجارة الشجر مفردا، إلى آخره؟ فأجاب: وما ذكرت من عبارة الإنصاف، نقلا عن الفروع، فهذه المسألة خالف فيها شيخ الإسلام ابن تيمية أكثر العلماء، فجوز إجارة الشجر مفردا بآصع معلومة لمن يقوم عليها بالسقي، وتكون الثمرة له، أي: العامل، وليس لصاحب الشجر، إلا ما وقع عليه العقد من الأجرة، سواء كانت الأجرة من جنس ما يحمل به ذلك الشجر أو غيره، كما تجوز إجارة المزارع، بجامع أن كلا منهما، إنما قصد مغله، بخلاف بيع السنين، وهو: بيع ما أثمر هذا البستان من الثمر مثلا سنة، أو سنتين فأكثر من غير أن يقوم عليه، وإنما اشترى نماء سنين معدودة، فهذا لا يجوز بالإجماع، لأن الثمرة لا يجوز بيعها قبل بدو صلاحها، ولو كانت موجودة، فكيف إذا كانت معدومة؟ وهذا هو الذي دلت السنة على المنع منه. واما إجارة الشجر لمن يعمل عليه لأجل الثمرة، فليس بيعا للثمرة قبل وجودها، وإنما وقع العقد على الشجر، كالأرض المستأجرة، لكن لما ورد على طريقة الشيخ، أن هذا الشجر قد لا يحمل، وقد تنقص ثمرته عن العادة، فيكون الضرر على المستأجر، أجاب عن ذلك: بأن الثمرة لو لم توجد أو وجدت ثم تلفت قبل أوان جذاذها، فلا أجرة، ويرجع بها على المؤجر إن كان قد قبضها منه، لعدم حصول الجزء: 6 ¦ الصفحة: 322 المقصود بعقد الإجارة، وإن نقصت ثمرة الشجر عن العادة انفسخ، ويرجع بالأجرة وقدر عمله أو أرش النقص، كما إذا كانت العادة أنها تثمر بألف مثلا، فلم يحصل منها هذا العام إلا نصفه مثلا، رجع بنصف الأجرة أو ثلاثة أرباعها، وكذلك الجائحة، أي: كما توضع الجوائح عن مستأجر الأرض، أو الحوانيت ونحوها، إذا أصاب الزرع جائحة من الآفات، فإنه يوضع من الأجرة عن المستأجر بقدر ما نقص المغل بالجائحة نصفا كان، أو أقل أو أكثر. سئل الشيخ: عبد الله بن الشيخ محمد، عن قوله: وهل تصح على ثمرة موجودة؟ فأجاب: معناه ما يفعله الناس اليوم، إذا أبرت الثمرة وأراد ترك الفلاحة، ساقى على ثمرة نخله بالنصف أو الثلث، فيقوم الثاني مقام الأول في تصليح الثمرة وتنميتها، وهذه المسألة فيها خلاف، والمذهب عند المتأخرين جواز ذلك، إذا بقي من السقي والكلفة ما تنمو به الثمرة، وهو المفتى به اليوم. وسئل: إذا فسدت لشرط ... إلخ؟ فأجاب: أما إذا فسدت المساقاة أو المزارعة لشرط شرط، أوجب فسادها، ثم أسقط المشترط شرطه طلبا لصحة العقد، فإن العقد لا يعود صحيحا بعد فساده، وهذا ظاهر، وقد علل الفقهاء رحمهم الله تعالى بقاء عقود فاسدة على الجزء: 6 ¦ الصفحة: 323 فسادها، بأن العقد لا ينقلب صحيحا بعد فساده، والله أعلم. وسئل: عن المساقاة والمزارعة، هل هي لازمة، أو جائزة؟ فأجاب: وأما المساقاة والمزارعة إذا شرط رب الأرض أن لا يخرج منها سنين معلومة، فالظاهر لزوم ذلك الشرط، كما في الحديث " المسلمون على شروطهم " 1 وكثير من العلماء يقول: إنها لازمة على المساقي والمزارع، وإن لم يشرط رب الأرض لزومه. وسئل: هل حكم المزارعة والإجارة واحد؟ فأجاب: المذهب التفريق; فمن الأصحاب من قال: المساقاة عقد جائز ليس بلازم; ومنهم من قال: إنها لازمة صاحب العقار، لا في حق المساقي. وأجاب الشيخ حمد بن ناصر بن معمر: وأما المساقاة: فأكثر العلماء على أنها عقد لازم، واختاره الشيخ تقي الدين; وعند شيخنا: أنها عقد لازم من جهة المالك، وعقد جائز من جهة العامل، واللازم هو الذي لا يتمكن أحد المتعاقدين من فسخه إلا برضا الآخر، والجائز هو الذي يفسخه بغير رضا صاحبه. وأجاب الشيخ عبد الرحمن بن حسن: الصحيح اللزوم، وهو الذي عليه الفتوى من شيخنا شيخ الإسلام، ومن أخذ عنه   1 أبو داود: الأقضية (3594) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 324 لا يختلف فيه اثنان منهم، واستمر الأمر على ذلك إلى الآن، وهو الصواب، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية، وقول بعض متقدمي الأصحاب، لأنه عقد معاوضة، فكان لازما كالإجارة، فيفتقر إلى ضرب مدة. وأجاب الشيخ حسن بن حسين بن الشيخ: الجمهور على أنها عقد لازم، فتفتقر إلى ضرب مدة معلومة كالإجارة; والقول: بأنها عقد جائز من المفردات، واختار صاحب التبصرة قولا ثالثا، وهو: أنها لازمة من جهة المالك فقط، وقيد بعض المحققين القول بجواز عقدها بقيد حسن. وأجاب الشيخ إبراهيم بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن: المغارسة عقد لازم، وذكرها في باب المساقاة، من أجل المشاركات اللازمة. سئل الشيخ: عبد الله بن الشيخ محمد رحمهما الله: عن المزارعة بجزء من الثمرة، إذا قيل بأنها لازمة أو جائزة، فإذا زرعها العامل وشغل الأرض بزرعه، وفوت على صاحب الأرض أجرة أرضه، فهرب ... إلخ؟ فأجاب: ظاهر كلامهم أنه يجب عليه قيمة مغل الأرض لصاحبها، على ما تشارطا عليه، فإذا كانت الأرض تغل بألف صاع مثلا، وزارعه عليها بثلثها، وشغل أرضه ثم هرب العامل، وجب عليه ثلث الألف، هذا على القول بأنها جائزة، وأما على القول بأنها لازمة، فإن الحاكم يستأجر من الجزء: 6 ¦ الصفحة: 325 ماله من يقوم على الزرع; وأما إذا خرج منها قبل العمل، وقيل إنها جائزة، فليس عليه شيء. وأجاب أيضا: وإذا خرج العامل في المساقاة، وقد مضى بعض السنة، فإذا كان قبل ظهور الثمرة فلا شيء له، وإن كان بعد ظهور الثمرة، استؤجر من ماله من يقوم على النخل إن أمكن، وإلا جيء برجل أمين يقوم مقامه في تتميم العمل، والذي قرره ابن القيم وغيره: أن الإمام ونائبه في هذا سواء، وأن تصرف الغير في مال المالك، إذا كان لمصلحة ظاهرة، ينفذ تصرفه، واستدلوا على ذلك بقوله تعالى: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} [سورة التوبة آية: 91] والله أعلم. سئل الشيخ: إبراهيم بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن رحمهم الله: عن سقي الحائل 1 إلى آخر السؤال؟ فأجاب: العامل يقوم بتمام العمل الذي يستحق به نصيبه من النماء، ويحصل به صلاح الثمرة، والعرف الجاري إنما هو بين العمال، مع أن العادة تغيرت على قولكم، فيلزم الفلاح تصليح جميع الثمرة، ولا يمكن من ترك نصيب المالك، لأن العقد عليه، وترك نصيب المالك ينافي مقصود المساقاة. سئل الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن: عن قطع الشجرة المثمرة بغير إذن المالك؟   1 أي الذي لم يحمل. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 326 فأجاب: الشجرة المثمرة يحرم قطعها بغير إذن المالك; وعلى من قطع الضمان بالقيمة، وكذلك إذا قطع السعف من النخل، ففيه القيمة بحسب حال البلد. سئل الشيخ: محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: إذا اختلف الفلاح وصاحب النخل في النقص؟ فأجاب: وأما اختلاف صاحب النخل والفلاح، فالقول قول مدعي النقص مع يمينه. سئل ابنه الشيخ عبد الله عن قوله: إن زرعت أرضي حبا، فهي بكذا كيلا مسمى أو شعيرا بكذا، أو قطنا بكذا، وزنا معلوما؟ فأجاب: هذه المسألة فيها خلاف مشهور في القديم والحديث، والذي نعمل عليه من أقوال العلماء: أن هذا لا بأس به إذا كان كيلا معلوما، أو وزنا معلوما، أو جزءا مشاعا معلوما، كالثلث أو الربع ونحو ذلك، والله أعلم. وأما إذا كان لرجل أرض، ودفعها لرجل يحرثها ويزرعها هو وولده من بعده، بلا أجل معلوم، وجاء الإسلام والأرض في أيديهم، فإن مالك الأرض يرجع فيها، وما أحدث الزرَّاع من شجر أو بناء أو غرس فهو له، يأخذه بقيمته إن أراد. سئل الشيخ حمد بن ناصر: إذا كان بين شريكين نخل أو زرع، وأراد أحدهما تركه للآخر، وعوضه كيلا معلوما، أو الجزء: 6 ¦ الصفحة: 327 جزءا مشاعا من الثمر؟ فأجاب: هذا مساقاة لشريكه ولا بأس بها، فإن كان بجزء مشاع فهي مساقاة، وإن كان بكيل معلوم فهي إجارة، وفيها خلاف، والمفتى به عندنا جوازها. سئل الشيخ إبراهيم بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن: عن ماء المغارسة؟ فأجاب: ماء المغارسة أحق به المغارس من مالك الأصل، لأجل دفع الضرر عنه، إذا دخل عليه مالك الأصل أو غيره. وأجاب الشيخ حسن بن حسين بن علي: وأما ما فضل من الماء بعد سقي الغرس فهو لمالك الأصل، إذا كان محتاجا له، وأما كون صاحب الغرس يختص به، ويسقي بفضل مائه ملكا له غير الغرس، وصاحب الأصل يحرم ذلك مع حاجته إليه، فهذا لا يكون في قاعدة الشرع، والله أعلم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 328 فصل (حكم المزارعة) سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد رحمهما الله: عن جواز المزارعة؟ فأجاب: اختلف العلماء في جواز المزارعة، فأجازها جمهور العلماء من الصحابة والتابعين والأئمة بعدهم، وكرهها الجزء: 6 ¦ الصفحة: 328 أبو حنيفة والنخعي، وأجازها الشافعي في الأرض بين النخل، ومنعها في الأرض البيضاء، والحجة مع الجمهور، هذا إذا كان العقد على مزارعة، وهي العقد على أرض ببعض ما يخرج منها، كثلث وربع ونحو ذلك، وأما إذا كان العقد عليها إجارة لا مزارعة، فإن آجرها بدراهم معلومة فهذا جائز، قال ابن المنذر: أجمع عوام أهل العلم: على أن كري الأرض وقتا معلوما جائز، بالذهب والفضة. وأما إجارة الأرض بالطعام، فينقسم ثلاثة أقسام; أحدها. أنه يؤجرها بطعام معلوم غير الخارج منها، فيجوز نص عليه أحمد الثاني. أن يؤجرها بطعام معلوم من جنس ما يزرع فيها، كإجارتها بقفزان حنطة من زرعها، ففيه روايتان إحداهما. المنع، وهو مذهب مالك والثانية. الجواز، وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي، وهي المذهب. القسم الثالث. إجارتها بجزء مشاع مما يخرج منها، كنصف وثلث وربع، فالمنصوص عن أحمد جواز ذلك، وهو الصحيح من المذهب، وهو قول أكثر الأصحاب، وقد نص أحمد فيمن قال آجرتك هذه الأرض، بثلث ما يخرج منها: أنه يصح; قال بعضهم: وهذه مزارعة بلفظ الإجارة. وقال بعضهم بل هذه إجارة، والإجارة تصح بجزء معلوم مشاع، مما يخرج من الأرض المؤجرة، كما نص عليه أحمد; قال الشيخ تقي الدين: تصح إجارة الأرض للزرع ببعض الخارج منها، وهو ظاهر المذهب، وقول الجمهور. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 329 والقول الثاني: أنه لا يجوز إجارتها بجزء مشاع منها، لأنها إجارة بعوض مجهول، وهذا مذهب أبي حنيفة والشافعي، واختاره الموفق في المغني; قال في الشرح: وهو الصحيح، انتهى; وبما فصّلناه يتبين لك جواب ما سألت عنه، إن شاء الله تعالى. وأما قولك في المزارعة: إذا كان له سهم كالربع ونحوه، وشرط زيادة عشرة آصع، أو زيادة دراهم، هل حكمها حكم المساقاة؟ فنقول: نعم، متى اشترط في المساقاة والمزارعة، ما يعود بجهالة نصيب كل منهما، أو اشترط أحدهما نصيبا مجهولا، أو اشترط مع نصيبه المعلوم دراهم أو آصعا زائدة على الربع ونحوه، فهذا كله يفسد العقد، لأنه يعود إلى جهالة المعقود عليه. ومعنى قوله: لو صح فيما تقدم إجارة، أو مزارعة فلم يزرع، نظر إلى معدل المغل، فيجب القسط المسمى فيه. فهذه المسألة ذكرها صاحب الإنصاف، عقب المسألة المتقدمة، وهي إجارة الأرض بجزء مشاع معلوم، كنصف وثلث، وذكر الخلاف بين الأصحاب، هل هذه مزارعة بلفظ الإجارة، أم هي إجارة؟ وصحح أنها إجارة وأنها جائزة، ثم قال: فوائد، الأولى: لو صح فيما تقدم إجارة أو مزارعة فلم يزرع، نظر إلى معدل المغل، فيجب القسط المسمى فيه، وإن فسدت وسميت إجارة، فأجرة المثل. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 330 وأما المخابرة فاختلف الفقهاء في تفسيرها، فمنهم من فسرها بما جاء في سنن أبي داود، عن زيد قال: " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المخابرة، قلت: وما المخابرة؟ قال: أن تأخذ الأرض بنصف أو ثلث أو ربع " 1 ومنهم من فسر المخابرة المنهي عنها، بما في حديث رافع، قال: كنا من أكثر الأنصار حقلا، فكنا نكري الأرض على أن لنا هذه ولهم هذه، فربما أخرجت هذه ولم تخرج هذه، فنهى عن ذلك; فأما بالذهب والورق فلم ننه، متفق عليه، فأما بشيء معلوم مضمون فلا بأس، وهذا الذي فسر به المخابرة في حديث رافع، لا يختلف في فساده، وهذا التفسير هو الراجح، في تفسير المخابرة المنهي عنها. وأجاب أيضا: أما الفرق بين المحاقلة، والمخابرة، فالمحاقلة بيع الحب المشتد في سنبله، بحب من جنسه، فإذا بيع هذا الزرع الذي قد اشتد حبه، بحب من جنس الحب الذي في الزرع، فهذه هي المحاقلة المنهي عنها، لأن الجهل بالتساوي، كالعلم بالتفاضل. وأجاب الشيخ: عبد الله أبا بطين: وأما نهيه عن المخابرة، ففسر بأن يدفع إليه أرضه يزرعها بالربع أو الثلث ونحوهما، وفسر بأن يزارعه على أرض بجزء معلوم كالربع ونحوه، ويشترط زرع بقعة بعينها، أو يشترط زيادة آصع معلومة على الجزء المسمى ونحو ذلك، وفي المساقاة: أن يساقيه على نخله بالربع ونحوه، ويشترط زيادة نخلة معينة أو   1 أبو داود: البيوع (3407) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 331 غير معينة يختارها كما يفعله كثير، وهذا حرام عند العلماء. وأجاب أيضا: وما أشكل عليكم من عبارة المختصر في المزارعة حيث قال: وتصح إجارة أرض بجزء مشاع معلوم مما يخرج منها، وهذا إذا وقع العقد بلفظ الإجارة، كأن يقول: استأجرت منك هذه الأرض لزرعها مدة كذا، بنصف الخارج منها أو ربعه ونحو ذلك، ويكون ذلك إجارة حقيقة لازمة، لا مزارعة جائزة، فيشترط لها شروط الإجارة، من تعيين المدة وغيره. وقد نص: الإمام أحمد رحمه الله تعالى، في رواية جماعة من أصحابه، فيمن قال: آجرتك هذه الأرض بثلث ما يخرج منها أنه يصح، فقال أبو الخطاب: ومن تبعه هذه مزارعة بلفظ الإجارة، فمعنى قوله: آجرتك هذه الأرض بثلث ما يخرج منها، أي: زارعتك بثلث، عبر عن المزارعة بالإجارة على سبيل المجاز، وهذا على الرواية التي لا يشترط فيها كون البذر من رب الأرض. وقال أكثر الأصحاب، عن نص أحمد المتقدم هي إجارة، لأنها مذكورة بلفظها، فتكون إجارة حقيقة، وتصح ببعض الخارج من الأرض كما تصح بالدراهم، قال في الإنصاف - بعد حكاية نص أحمد - اختار المصنف وأبو الخطاب، وابن عقيل أن هذه مزارعة بلفظ الإجارة، فعلى هذا يكون ذلك على قولنا: لا يشترط كون البذر من رب الجزء: 6 ¦ الصفحة: 332 الأرض، كما هو مختار المصنف وجماعة، قال والصحيح من المذهب: أن هذه إجارة، وأن الإجارة تصح بجزء مشاع معلوم مما يخرج من الأرض المؤجرة، نص عليه، وعليه جماهير الأصحاب. قال الشيخ تقي الدين رحمه الله: تصح إجارة الأرض للزرع ببعض الخارج منها، وهذا ظاهر المذهب وقول الجمهور، إلى أن قال صاحب الإنصاف: وعنه لا تصح الإجارة بجزء مما يخرج من المأجور، اختاره أبو الخطاب والمصنف، قال الشارح: وهو الصحيح، قال: فعلى المذهب يشترط لها شروط الإجارة من تعيين المدة وغيره، انتهى ملخصا. فتبين: أن الصحيح من المذهب، صحة إجارة الأرض للزرع بجزء معلوم مشاع مما يخرج منها، خلافا لأبي الخطاب والموفق والشارح، وهذا معنى قوله في شرح الزاد: تصح إجارة الأرض بجزء مشاع مما يخرج منها، فتكون إجارة حقيقة، يثبت لها حكمها من اللزوم وغيره، والمذهب أيضا: صحة المزارعة بلفظ الإجارة، وهو مراد شارح الزاد، بقوله: تصح مساقاة بلفظ إجارة، وتكون مزارعة حقيقة لها حكمها. وقولهم: فإن لم تزرع، سواء قلنا إنها إجارة أو مزارعة، نظر إلى معدل المغل، أي: المغل الموازن لما يخرج منها لو زرعت، فيجب القسط المسمى فيه، فإذا قيل الجزء: 6 ¦ الصفحة: 333 لو زرعت حصل من زرعها مائة صاع، والعقد وقع على نصف الخارج منها، فيجب لصاحبه خمسون صاعا. وسئل: عن زرع الأرض المغصوبة هل يكون عيشها مكروها؟ وعن الشراء منه؟ فأجاب: وأما زرع الأرض المغصوبة فما علمت فيه حكما واضحا، والأولى التنَزّه عنه، ولا أحب المعاملة فيه. سئل الشيخ: حمد بن ناصر بن معمر: إذا احتاج العامل إلى جعل حظيرة على زرعه، تمنع الرياح عن مضرة الزرع، ومنعه المالك معللا بأن الحظيرة تجمع التراب؟ فأجاب: الأقرب في مثل هذا، أن العامل لا يمنع عن فعل ذلك، لأن فيه منفعة مقصودة، ولكن يلزمه إزالة الحظيرة، وقلع ما اجتمع فيها من التراب الذي ألقته الريح، فتحصل المصلحة للعامل من غير ضرر على المالك. سئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن: عن أرض سبل في ملك إنسان ... إلخ؟ فأجاب: إذا طلبت أرض السبل التي في ملك زيد، بإجارة معلومة أو سهم، فزيد أحق بها بما طلبت به. الضرائب والمكوس ونوائب السلطان سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: عن الضرائب التي تؤخذ من أهل البلد ... إلخ؟ فأجاب: الأحسن فيها أن يجعل ذلك على قدر المال الجزء: 6 ¦ الصفحة: 334 من عقار وغيره، وتقسط النائبة على قدر الأموال، كما هو المعمول به في بلدان المسلمين. وقال أيضا: هو وإخوته، الشيخ حسن وعلي وإبراهيم: ومن الأمراء والنظراء من يصرف الجهاد عن الأغنياء، ويجعله على الفقراء الذين لم يجعل الله عليهم شيئا. وقال الشيخ عبد الرحمن بن حسن: وهنا مسألة مما يتعلق بالعدل في حقوق الخلق، وهي: أن النوائب التي يضعها الأمراء والنظراء، ربما يقع فيها الجور وعدم المساواة، فمن ذلك تنويب المعسر الذي لا يقدر على وفاء جميع ما عليه من الدين، لكون جميع ماله لا يقابل دينه، فهذا لا يجوز أخذ النائبة منه، وقد بلغني أن الشيخ محمد رحمه الله: أفتى أناسا من أهل سدير وغيرهم، أن هذه النوائب توضع بالقسط على الناتج، هذا إذا كانت لمصلحة الدين كالجهاد خاصة، فتوضع بالعدل على الناتج، قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [سورة النساء آية: 58] الآية. وأجاب ابنه الشيخ عبد اللطيف: أشرفت على خط الوالد الشيخ رحمه الله، نقل في خطه فتوى شيخنا: الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، قال الوالد فيه: لا يخفاكم أن شيخنا محمدا، أفتى أهل سدير، بأن نائبة الجهاد تصير على الناتج، وكتبناها لإخوانكم من أهل البلدان، أنها لا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 335 تخص صاحب الملك في نصيبه، كذا رأيت وكتبت، ونقلت هذه العبارة لحاجة الناس إليها، خصوصا هذه الأيام، والعدل من أوجب الواجبات حتى في النوائب، كما أفتى به شيخ الإسلام أحمد بن تيمية رحمه الله في النوائب السلطانية، فنظراء البلد يجب عليهم النظر في هذا والتسوية بحسب الثمرة، وبحسب الجدة والتجارة، وقد ذكر سبحانه الجهاد بالمال في كتابه، وقدمه على الجهاد بالنفس في مواضع من القرآن، وإذا ترك الناس هذا مع الحاجة إليه، فقد هدموا ركنا عظيما من أركان الإسلام. وأجاب ابنه الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف، مقام العدل والإنصاف: أن الجهاد على الغني، وأما النوائب التي ترد البلاد جميعها تكون بينهم بالسوية متجرهم وفلاحهم، والفقير العاجز الذي ليس له كسب، ليس له راحم إلا الله ثم الولاية، فلا يدخل في أوامرهم. وأجاب أيضا: في رسالته للإمام عبد الرحمن آل فيصل: حضر عندي أهل حريملاء، وأمرهم ما يخفاك، وأهل نجد ليست نوائبهم حادثة، وبينت لهم: أن مقام العدل والإنصاف بينهم، أن الجهاد على الغني، وأما النوائب التي ترد البلاد جميعها تكون بينهم بالسوية، متسببهم، وحرّاثهم; وكتب لهم الإمام: أن هذا كتاب الشيخ، وتعملون على ما فيه، وإن كان بعض المتسببة في السابق لا يحملون شيئا، فالموجب له أن الفلاليح بالسابق، عندهم ثمار كثيرة والوارد الجزء: 6 ¦ الصفحة: 336 قليل، والأمور اليوم كلها اختلفت، الكدّاد ما عنده محصول، والواردات كثرت، والولاية فيها بالعدل كما ذكر الشيخ. وقال الشيخ عبد الله بن فيصل: ما ذكر الشيخ فيه كفاية، ومقنع لمن يريد العدل والإنصاف. وكتب عليه الشيخ محمد بن عبد اللطيف ما نصه: ما أفتى به الأخ الشيخ عبد الله هو الصواب الذي تقتضيه قواعد الشريعة المطهرة، وهو العدل والإنصاف، وما أفتى به هو الذي أفتى به إمام الدعوة الإسلامية: شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، وحفيده الوالد عبد الرحمن، والشيخ الوالد عبد اللطيف رحمهم الله، أفتوا: بأن نوائب الجهاد على الأغنياء، والفقير ليس عليه شيء منها، والنوائب تكون على الناتج، من ثمرة وعقار، ودواب، ونقود، كل تجب عليه بحسب قدرته واستطاعته، هذه نوائب الجهاد، وأما النوائب التي غير الجهاد فهي على الجميع، من فقير وغني، على قدر طاقتهم، فيجب على نظراء البلد تقوى الله، وتحري العدل، وأن لا يحملوا من لا يطيق شيئا من النوائب. وأجاب الشيخ: حسن بن حسين بن علي: ذكر العلماء رحمهم الله، أن ما طلب من قرية ونحوها من الضرائب السلطانية، يكون على قدر الأموال; وإن وضعت على الزرع فعلى ربه، وعلى العقار على ربه، وإن وضعت مطلقا، فالعادة، قاله شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وإن وضعت الجزء: 6 ¦ الصفحة: 337 على الثمرة فعلى ربها، من مالك وعامل على قدر حصصهم، ويستوي نخيل القرية المخروص منها وغير المخروص، إذا كان به ثمرة. أجاب الشيخ عبد الله بن حمد الحجازي: الكلف السلطانية تتبع ما وضعت عليه، فإن كانت على الثمار فعليها، وإن كانت على الأملاك فكذلك، وإن كانت على الأموال فكذلك، وإذا وضعت وجبت فيها التسوية، لئلا يتكرر الظلم على الضعيف، ومن قام فيها بنية العدل فكالمجاهد في سبيل الله، ذكره شيخ الإسلام. والنخيل التي ذكرت: حكمها حكم نخيل الجماعة، ذكرت في الخرص أو أسقطت، وإن كان النخل للأمير فكل أهل بلد وعادتهم، فإن كان نخل الأمير لا ينوب عندكم، مثل أمراء بعض البلدان فلا ينوب، وإلا حكمه حكم غيره. سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: عن جعل نظراء فيما ينوب البلد؟ فأجاب: وأما كون العشيرة يجعلون اثنين أو ثلاثة يواسون عليهم ما ينوبهم للضيف والجهاد، فهذا سيرة المسلمين، يلزم الأمير يقدمهم ولا يقدم إلا من أهل الأمانة، وأما إذا أجمع أهل بلد على أن يجمعوا طعاما عند رجل فيما ينوبهم من جهاد أو ضيف أو دية قتيل، المسمى العشر في بلادكم، فهذا لا بأس به. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 338 سئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: هل على مال اليتيم شيء من النوائب؟ فأجاب: وأما الأيتام فلا يحملون مع أهل البلد في الذي يذكر، إلا إن كان في ترك الجهاد على أهل البلاد خطر. وأجاب ابنه الشيخ عبد الله: وأما الأيتام الذين لهم أموال فليس عليهم من النوائب شيء، مثل الضيف وأشباه ذلك، ولا شيء عليهم إلا أن يأتي البلاد كفار يقتلون المسلمين، فهم يدخلون مع الجماعة في النائبة. وأجاب أيضا: وأما اليتيم فليس عليه شيء من النوائب سوى الزكاة، وكذلك المرأة. وأجاب الشيخ عبد الرحمن بن حسن: من كان تحت يده عقار للوقف، وطلب منه نائبة للترك وغيرهم، فلا يرجع على الوقف بشيء من النوائب. وأجاب الشيخ حسن بن حسين بن علي، وأما النخل المسبل فإن كان على معين فعليه نائبة، وإن كان على غير معين، مثل سراج وصوّام وأضحية فلا يلحقه شيء من النوائب، انتهى. قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن: الذي ينْزل به ضيف من الناس النائين عن البلد، فيما يحاسب به مما ينوب البلد من ضيف، فإن كان ما يخصه من قرى الضيف قائما به، فهو الجزء: 6 ¦ الصفحة: 339 الذي عليه، ولا ينوب ولا يحسب له ما أنفق هذا مقتضى العدل. وأجاب ابنه الشيخ عبد اللطيف: من قام بما يجب عليه للضيف الذي يختص به، سقط عنه ما يوضع على البلد من جهة الضيف، إذا كان الخارج منه للضيف قدر ما يستحقه، لوجوب العدل الذي أمر الله تعالى به. سئل الشيخ حمد بن ناصر بن معمر: إذا وضع نائب الإمام على جماعته النائبة وكان بعضهم غائبا، وأخذ الأمير من رجل دراهم، وجعلها سلما في ثمر في ذمة الغائب، هل تلزمه؟ فأجاب: إذا ترافعا فالذي يظهر لي، أن هذا السلم لا يلزم الغائب، لأن الغائب معذور، وطريق الحيلة: أن يقترض عليه أو يقرضه الأمير بنفسه، فإذا قدم طالبه بما لزمه من النائبة; وأما قياسكم على صاحب الدين، إذا امتنع من وفاء دينه، وباع الحاكم لوفاء دينه، فقياس غير صحيح، وذلك أن الحاكم له تسلط على بيع مال الممتنع من وفاء دينه، إذ لا طريق للوفاء إلا بذلك، وأما هذا الغائب فلم يمتنع، بل لو كان الذي عليه الدين غائبا، لم يكن للحاكم بيع ماله. سئل الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف: عن أخذ نائب البلد الرءوس مما ذبح فيها؟ فأجاب: أما أخذ النائب الرءوس، فهذا لا يجوز إلا إن طابت نفوسهم، من غير إكراه ولا إلزام. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 340 باب الإجارة سئل الشيخ: عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمهما الله، إذا آجر إنسان أرضه لمن يزرعها قطنا وشرط عليه أن الأجرة له في السنة الأولى، فإذا خرج عنها، فالشجر والثمر لربها عن أجرة أرضه؟ فأجاب: الظاهر أن مثل هذا لا يجوزه الفقهاء، لما فيه من الغرر، وإنما جوزوا الإجارة بشيء معلوم. وسئل: إذا استأجر رجلا ليعمل، وشرط عليه مع ذلك أن يلقح نخله، أو يبذر أرضه أو يقلبها أو يبذر فيها علفا، وشيئا من آلة الحرث من عنده، أو غير ذلك؟ فأجاب: اعلم أن الذي عليه الفتوى أن الإجارة جائزة على المنفعة، إذا كانت المنفعة معلومة، قلت، أو كثرت، وما ذكره السائل كله من المنافع المعلومة عند المؤجر والمستأجر. سئل الشيخ: حمد بن ناصر بن معمر: عن إجارة الإنسان نفسه ودابته، بجزء مشاع من الثمرة، قبل ظهورها أو بدو صلاحها؟ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 341 فأجاب: اعلم أن الثمرة لا يصح بيعها قبل بدو صلاحها، ولا تجعل أجرة لعمل، لأن جعلها أجرة بيع لها، وأما إن ساقاه على الثمرة بجزء منها، فذلك صحيح قبل ظهورها وبعده. سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عن استئجار الرجل على تأبير نخله، كل نخلة بعذق؟ فأجاب: هذا لا يصح لأن فيه غررا، وإن كان الرجل قد أبر النخل، فأرى فيه أجرة المثل. وأجاب الشيخ جمعان بن ناصر: كتبنا لأولاد الشيخ، فكتب لنا عبد الله بن الشيخ، وحمد بن ناصر، وذكر لنا عبد الله بن الشيخ كلاما لبعض أهل العلم، قال في المغني: وإن دفع ثوبه إلى خياط، ليفصله قمصانا ليبيعها له وله نصف ربحها بحق عمله جاز، نص عليه في رواية حرب، وإن دفع غزلا إلى رجل ينسجه ثوبا، بثلث ثمنه أو ربعه جاز نص عليه، وهذا يقاس عليه العمل المعروف لأجل الحاجة الداعية وهذه مشاركة لا إجارة وأما مذهب مالك وأبي حنيفة والشافعي، فلم يجوزوا ذلك، نقله لنا حمد بن ناصر من كتاب المغني. والإمام أحمد وكثير من أصحابه: جوزوا ذلك وجعلوه من باب المشاركة، وأما من جعله من باب الإجارة، فهو يمنع ذلك كله، ولكن تركنا تعرضهم لأجل الحاجة والضرورة إلى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 342 ذلك، لكن بشرط أن لا يجعل للعامل إلا جزء مشاع من الثمرة يكثر أو يقل، ولا يجعل له زيادة على ذلك لا نخلة ولا عذق، فإن ذلك فاسد يفسد العمل، ومن جعل هذا في إجارته فأدبوه، ولا تجعلوا له ولا تعطوه شرطه المشروط، إذا كان كما وصفنا، بل يتفاسخون ويعطى قدر أجرة مدته التي قد عمل، وإلا يستأجره بأجرة جديدة بعمل صحيح، بجزء مشاع أو جزء أو بعض جزء، أو دراهم معدودة بلا شرك، أو كيل مسمى بلا شرك في الثمرة انتهى. وقال الشيخ: عبد الرحمن بن حسن: يذكر لنا أنكم تعاملون في كراء الأرض بحب معلوم، وتشترطون على الزارع جزءا من التبن، وهذه إجارة يشترط فيها أن تكون الأجرة معلومة، وشرط التبن شيء مجهول تفسد به الإجارة، وطريق السلامة في هذا: أن تزيدوا في الأجرة شيئا من الحب معلوما، وتتركوا اشتراط التبن. وأجاب الشيخ سعيد بن حجي: تصح إجارة الأرض بطعام معلوم من غير الخارج منها عند الأكثر، وكذا بالتبن مع الطعام، بشرط أن يكون معلوما بما يعرف به قدره، وكذا يجوز إن كان بسهم من تبنها كالمزارعة، ولأن التبن من العروض. سئل الشيخ: حمد بن ناصر: ما قول العلماء فيمن دفع دابته إلى آخر، يسقي عليها زرعا بجزء من الثمرة سواء الجزء: 6 ¦ الصفحة: 343 كانت مدة السقي معلومة أو مجهولة، مثل إلى أن تهزل أو تحفى، هل هذا جائز يشبه دفع الدابة إلى من يعمل عليها ببعض مغلها؟ أم هذا ليس بصحيح لعدم معرفة الأجرة والجهل بالمدة إذا لم توقت؟ فأجاب: هذه المسألة لم أقف عليها منصوصة في كلام العلماء، ولكنهم نصوا على ما يؤخذ منه حكم هذه المسألة; فمن ذلك أنهم ذكروا: أن من شرط صحة الإجارة معرفة قدر الأجرة، ومعرفة قدر المدة; قال في المغني: يشترط في عوض الإجارة كونه معلوما، لا نعلم في ذلك خلافا، انتهى، ولكن هذه المسألة هل تلحق بمسائل الإجارة وتعطى أحكامها، أم تلحق بمسائل الشركة وتعطى أحكامها، مثل المساقاة والمزارعة والمضاربة، وغير ذلك من مسائل المشاركات؟ فإن قلنا: إنها بمسائل الإجارة أشبه، فالإجارة لا تصح إلا بأجرة معلومة، على مدة معلومة، ولهذا اختلف العلماء في جواز إجارة الأرض ببعض ما يخرج منها، كثلث أو ربع، فمنعه أبو حنيفة والشافعي وغيرهما، وعللوه بأن العوض مجهول، فلا تصح الإجارة بعوض مجهول; وأجازه الإمام أحمد، فمن أصحابه من قال هو إجارة، ومنهم من قال بل هو مزارعة بلفظ الإجارة; قال في الإنصاف: والصحيح من المذهب، أن هذا إجارة، وأن الإجارة تصح بجزء مشاع معلوم مما يخرج من الأرض الموجودة، وهي من مفردات المذهب، انتهى. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 344 قال في المغني: إجارة الأرض بجزء مشاع مما يخرج منها، كنصف وثلث وربع، المنصوص عن أحمد جوازه، وهو قول أكثر الأصحاب; واختار أبو الخطاب أنها لا تصح، وهو قول أبي حنيفة والشافعي، وهو الصحيح إن شاء الله، لما تقدم من الأحاديث في النهي من غير معارض لها، ولأنها إجارة بعوض مجهول، فلم تصح كإجارتها بثلث ما يخرج من أرض أخرى; ولأنه لا نص في جوازها، ولا يمكن قياسها على المنصوص، فإن النصوص إنما وردت بالنهي عن إجارتها بذلك، ولا نعلم في تجويزها نصا; وفي النصوص: جواز إجارة ذلك بذهب أو فضة أو شيء معلوم، فأما نص أحمد فيتعين حمله على المزارعة بلفظ الإجارة، انتهى. وقال في المغني أيضا: قال إسماعيل بن سعيد: سألت أحمد عن الرجل يدفع البقرة إلى رجل على أن يعلفها ويحفظها وما ولدت من ولد فهو بينهما، قال أكره ذلك، وبه قال أبو حنيفة وأبو خيثمة، ولا أعلم فيه مخالفا، وذلك لأن العوض معدوم مجهول، ولا يدري أيوجد أم لا، والأصل عدمه، انتهى. وأما إن ألحقنا هذه المسألة المسئول عنها، بمسائل الشركة، وقلنا هي بها أشبه، جرى فيها من اختلاف العلماء ما جرى في نظائرها، وأنا أذكر لك بعض ما ذكره العلماء في هذا الباب، قال في المغني: وإن دفع دابته إلى آخر ليعمل عليها، وما رزق الله بينهما نصفين، أو أثلاثا، أو كيفما الجزء: 6 ¦ الصفحة: 345 شرطا صح، نص عليه في رواية الأثرم، ومحمد بن سعيد، ونقل عن الأوزاعي ما يدل على هذا، وكره ذلك الحسن والنخعي; وقال الشافعي وأبو ثور، وابن المنذر وأصحاب الرأي: لا تصح والربح كله لرب المال، وللعامل أجرة مثله. ولنا: أنها عين نمت بالعمل عليها، فصح العقد عليها ببعض نمائها، كالدراهم والدنانير، وكالشجر في المساقاة، أو الأرض في المزارعة، وقد أشار أحمد رحمه الله إلى ما يدل على تشبيهه لمثل هذا بالمزارعة، فقال لا بأس بالثوب يدفع بالثلث أو الربع، لحديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى خيبر على الشطر; وهذا يدل على أنه صار في مثل هذا إلى الجواز، لشبهه بالمساقاة والمزارعة، لا المضاربة ولا الإجارة; ونقل أبو داود عن أحمد، فيمن يعطي فرسه على النصف من الغنيمة، أرجو أن لا يكون به بأس، ونقل أحمد بن سعيد فيمن دفع عبده إلى رجل ليكتسب عليه، ويكون له ثلث ذلك أو ربعه فجائز. والوجه فيما ذكرناه في مسألة الدابة، وإن دفع ثوبه إلى خياط ليفصله قميصا وله نصف ربحه بعمله جاز، نص عليه في رواية حرب، وإن دفع غزلا إلى رجل ينسجه ثوبا بثلث ثمنه أو ربعه جاز، نص عليه، ولم يجز مالك وأبو حنيفة والشافعي شيئا من ذلك; وقال الأثرم: سمعت أبا عبد الله يقول: لا بأس بالثوب يدفع بالثلث أو الربع، وسئل عن الرجل: يعطي الثوب بالثلث ودرهم أو درهمين قال: أكرهه الجزء: 6 ¦ الصفحة: 346 لأن هذا شيء لا يعرف، الثلث إذا لم يكن معه شيء نراه جائزا، لحديث جابر " أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى خيبر على الشطر " 1 قيل لأبي عبد الله: فإن كان النساج لا يرضى حتى يزاد على الثلث درهما؟ قال: فليجعل له ثلث وعشر ثلث، ونصف عشر، وما أشبهه، انتهى ملخصا. وقد نص أحمد أيضا: على جواز دفع الثوب لمن يبيعه بثمن يقدر له ويقول: ما زاد فهو لك ; قال في الإنصاف: ولو دفع عبده أو دابته إلى من يعمل عليها بجزء من الأجرة، أو ثوبا يخيطه أو غزلا ينسجه، بجزء من ربحه جاز، نص عليه، وهو المذهب، جزم به ناظم المفردات وهو منها، وقال في الحاوي الصغير: ومن استأجر من يجذ نخله أو يحصد زرعه، بجزء مشاع منه جاز، نص عليه في رواية مهنا; وعنه: لا يجوز، وللعامل أجرة مثله; ونقل مهنا في الحصاد هو أحب إلي من المقاطعة، وعنه: له دفع دابته أو نخله لمن يقوم به بجزء من نمائه، اختاره الشيخ تقي الدين; والمذهب: لا لحصول نمائه من غير عمله، انتهى ملخصا. وقال في المغني: وإن اشترك ثلاثة، من أحدهم الأرض، ومن الآخر البذر ومن الآخر البقر والعمل على أنّ ما زرق اللهب بينهم، فعملوا فهذا عقد فاسد، نص عليه أحمد في رواية أبي داود، ومهنا وأحمد بن القاسم، وبهذا قال مالك والشافعي وأصحاب الرأي، فعلى هذا: يكون الزرع لصاحب البذر، لأنه نما ماله، ولصاحبيه عليه أجرة مثلهما، انتهى;   1 البخاري: الإجارة (2286) والمزارعة (2328 ,2329 ,2331) والشركة (2499) والمغازي (4248) , ومسلم: المساقاة (1551) , والترمذي: الأحكام (1383) , والنسائي: الأيمان والنذور (3929 ,3930) , وأبو داود: البيوع (3408 ,3409) , وابن ماجه: الأحكام (2467) , وأحمد (2/157) , والدارمي: البيوع (2614) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 347 وقال في موضع آخر: فإن اشترك ثلاثة، من أحدهم دابة، ومن الآخر راوية، ومن الآخر العمل، على أن ما رزق الله بينهم، صح في قياس قول أحمد، فإنه قد نص في الدابة يدفعها إلى آخر يعمل عليها، على أن لهم الأجرة على الصحة، وهذا مثله، وهكذا لو اشترك أربعة من أحدهم دكان، ومن الآخر رحى، ومن آخر بغل، ومن آخر العمل، على أن يطحنوا بذلك، فما رزق الله بينهم، صح وكان بينهم على ما شرطوه; وقال القاضي: العقد فاسد في المسألتين جميعا، وهو ظاهر قول الشافعي، انتهى; ومن تأمل ما نقلناه: تبين له حكم المسألة، والله أعلم. سئل الشيخ: عبد الله بن الشيخ: عما يأخذ الجزار من الذبيحة إذا ذبحها إذا كان له عادة يأخذها معروفة، هل هو جائز، والأجنبي قد يجهله إلخ؟ فأجاب: ما يأخذ الجزار من الذبيحة أجرة له فهذا إن كان عرفا جاريا في البلد، ولا جهالة فيه بل شيء معروف، فهذا لا بأس به، وإن لم يشترطه وقت الذبح، لأن من استأجر على شيء ولم يبين، انصرف إلى أجرة المثل. سئل بعضهم: عن جماعة آجروا رجلا، على خدمة ضيفهم بعذق من كل نخل؟ فأجاب: هذه إجارة مجهولة، والشارع نهى عن الضرر والجهالة، وما لا يصح بيعه لا يصح أن يجعل أجرة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 348 فصل سئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله: عن استئجار الدابة لأجل لبنها؟ فأجاب: استئجار الدابة لأخذ لبنها جائز. وأجاب الشيخ عبد الله بن عبد العزيز العنقري: من استأجر الغنم مدة معلومة، بأجرة معلومة، فعند الأصحاب لا يجوز لأخذ لبنها، وعند الشيخ تقي الدين ومتابعيه: أنه لا بأس بذلك، وذلك هو الذي نرى، والله أعلم. والذي أرضع من شاته سخلة له، قدر لبن الشاة لو تؤجر مدة إرضاعه لها، يرجع في ذلك إلى المثل إن نوى الرجوع. سئل الشيخ عبد الله بن محمد: هل تجوز إجارة الأرض والشجر لحملها؟ فأجاب: لا تجوز إجارة الأرض والشجر لحملها، حكاه أبو عبيد إجماعا وجوزه ابن عقيل تبعا للأرض، والصحيح الأول إن شاء الله تعال الجزء: 6 ¦ الصفحة: 349 سئل الشيخ حمد بن ناصر بن معمر: عن أخذ الأجرة على من أراد أن يعلى فرسه بحصان غيره؟ فأجاب: إن ذلك لا يجوز ولا يصح، لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن عسب الفحل. سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ: إذا استأجر أرضا ثم آجرها غيره؟ فأجاب: إذا استأجرها وآجرها غيره، فالظاهر الصحة. وأجاب الشيخ حمد بن ناصر بن معمر: المشهور جواز إجارة العين المستأجرة، قال في المغني: يجوز للمستأجر أن يؤجر العين المستأجرة إذا قبضها نص عليه أحمد، وهو قول سعيد بن المسيب وابن سيرين، ومجاهد وعكرمة، والنخعي والشعبي، والثوري والشافعي، وأصحاب الرأي; وأما إجارتها قبل قبضها فلا يجوز من غير المؤجر، في أحد الوجهين، وهو قول أبي حنيفة والمشهور من قولي الشافعي، ويجوز للمستأجر إجارة العين بمثل الأجرة وزيادة، نص عليه أحمد، وهو مذهب الشافعي وابن المنذر. سئل الشيخ: محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: عن وقف تعطل وبيع نصفه لإصلاح النصف بمائة أحمر واستؤجر بمائة الأحمر من يسقي النصف الآخر عشر سنين فمات الذي استؤجر لما مضى سنتان وأراد ورثته أن يتموا باقي المدة وأراد المستأجر الفسخ؟ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 350 فأجاب: الإجارة صحيحة ثابتة لا تنفسخ بموت المستأجر، فإذا تمم الورثة ما على ميتهم استحقوا ما استحقه، وليس للمؤجر الفسخ; ودليل هذا: أن القول بانفساخ الإجارة، أو المساقاة قول ضعيف، رده أهل العلم بالنص الثابت، من ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما ساقى أهل خيبر، لم يجدد الخلفاء بعده عقدا، فإذا ثبت هذا فقد أمر الله بالوفاء بالعقود بقوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [سورة المائدة آية: 1] وهذا لفظ عام من جوامع الكلم، فمن ادعى في صورة من العقود أنه لا يجوز، أو لا يجوز الوفاء به لأجل الموت أو غيره، فعليه الدليل، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل وكذلك: أن من ادعى أن مثل هذا العقد وغيره، لا يجب الوفاء به، لأجل شرط أو ترك شيء من العقد أو غيره، فعليه الدليل، وقد كمل الله الدين بمحمد صلى الله عليه وسلم والله أعلم. وسئل ابنه الشيخ عبد الله: هل تنفسخ بالموت من الطرفين؟ فأجاب: المسألة فيها خلاف، والصحيح: أنها لا تنفسخ بالموت من الطرفين. سئل الشيخ: حسين بن الشيخ محمد رحمهما الله: عن منع ورثة أرضا، في غلتها آصع أو دراهم معلومة ... إلخ؟ فأجاب: الورثة لا يمنعون زرعها كل سنة، بسبب أن الواقف جعل هذا في غلتها، فإن أرادوا أن يمنعوه فالأمير الجزء: 6 ¦ الصفحة: 351 يؤجرها، إلا إن كان في عرف الناس أنه أصلح للأرض، إذا حالت في بعض السنين، ولو تزرع كل سنة ملّت ونقصت عن معتادها، فأنتم انظروا الأصلح، فإن كان الأصلح للأرض قلة زرعها كل سنة، فالورثة لا يجبرون على إجارتها كل سنة. سئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن: عن رجل آجر وقفا ثم مات؟ فأجاب: إن كان هذا المؤجر قد ولي على هذا الوقف من جهة الواقف، أو من جهة القاضي، فلا تنفسخ بموت المؤجر بالاتفاق، وإن كان الذي آجره إنما وليه من جهة استحقاقه للوقف مدة حياته، فالصحيح من المذاهب أنها لا تنفسخ الإجارة بموته، وقدم في التنقيح أنها تنفسخ، لأن الوقف انتقل استحقاقه إلى غير المؤجر، والأول هو المشهور والمقدم في المذهب. وأجاب الشيخ صالح بن محمد الشثري: لا تنفسخ الإجارة بموته ولا عزله، وكذا لو آجره الموقوف عليه، لأنه آجره الوقف في زمن ولايته عليه، فلا تنفسخ بموته. سئل الشيخ: عبد اللطيف بن عبد الرحمن: عن مدة الإجارة إذا انقضت، وفي الأرض شجر أو بناء ... إلخ؟ فأجاب: يبقى الشجر والغرس والبناء بأجرة المثل إن شاء رب الأرض، فإن كانت وقفا فأمرها إلى الناظر الخاص إن كان، وإلا فالحاكم الشرعي، لأن له النظر العام، ولا عبرة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 352 بأجرة الأرض مدة الإجارة بعد انقضائها، فالذي أرى أن الأرض المغروسة تبقى على عادة المغارسة في تلك البلد، حتى يفنى الغراس، ولا يحتاج لذكر مدة، هذا إن كان فيه مصلحة للوقف، وإلا فالأمر إلى الناظر، وترك ذكر المدة مبطل للعقد. سئل الشيخ حمد بن ناصر بن معمر: عمن آجر أرضه بنصف غرسها وشرط عليه المستأجر أن يقومها سنين معلومة، فإذا مضت السنين تقاسما النخل؟ فأجاب: الذي عليه الفتوى عندنا أن هذه إجارة صحيحة لازمة، ليس فيها شيء من الغرو، انتهى. وأجاب الشيخ عبد الله بن الشيخ: وأما إذا أعطاه أرضا في حال الشرك يحرثها، والعادة الجارية أنها له ولعياله ما يغير عليه، فهذا لا يجوز في الإسلام، لا بد أن يستأجر سنين معلومة، بسهم معلوم وإجارة معلومة، وما أحدث الحراث فيها من غرس أو بناء، فهو يحسب له بقيمته إن رضي صاحب الأرض، فإن لم يأخذه بقيمته أخذه صاحبه من الأرض. وأجاب أيضا: الذي ينبت على ماء المستأجر بغير إذن المالك هو للفلاح، فإن أراد المالك أخذه بقيمته وتراضيا على ذلك فلهما، وإن قال اقلعه، قلعه. وأجاب الشيخ: حسن بن حسين: إذا انقضت مدة إجارة أرض طلق أو موقوفة، استؤجرت للغراس أو البناء، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 353 فحاصل ما ذكره العلماء رحمهم الله، في حكم هذه المسألة: أنه إن كان شرط قلع الغراس أو البناء عند انقضاء مدة الإجارة أو في وقت معين، فإن المستأجر يقلعه مجانا، ولا يسوي الحفر، ولا يغرم لمالك الأرض نقصه بالقلع، وإن لم يشرط قلعه، أو شرط بقاءه ولم يقلعه مالكه، خير مالك الأرض بين ثلاثة أمور، أخذه بقيمته، فتقوم الأرض مغروسة أو مبنية، ثم تقوم خالية منهما، فما بينهما فهو القيمة، ومحل تملكه بقيمته إذا كان مالك الأرض تام الملك، فخرج الموقوف عليه، والمستأجر والمرتهن ونحوهم، لأن ملكهم غير تام; الأمر الثاني: تركه بالأجرة; الثالث: قلعه وضمان نقصه، هذا إذا لم يختر مالكه قلعه كما تقدم، أما إن اختاره فله ذلك، قال في الغاية: ويتجه لو أبى صاحب الأرض الثلاثة، ومالك الغرس أو البناء قلعه، بيعت الأرض بما فيها كعارية، انتهى. وكون المستأجر: وقف الغراس أو البناء في الأرض المستأجرة، لا يمنع الخيرة بين الثلاثة الأمور، وإذا لم يترك لم يبطل وقفه بالكلية، فيكون كل ما يؤخذ بسبب قلعه وضمان نقصه، أو تملكه بقيمته، ويشتري بها ما يقوم مقامه كقيمته إذا أتلف، يشتري بها ما يقوم مقامه، ذكر معناه في الفروع وغيره; قال في الإقناع: وهو ظاهر، وظاهر كلامهم لا يقلع الغراس لذا كانت الأرض وقفا، قال في شرحه: وتقدم أنه لا يتملكه إلا تام الملك، وحينئذ فيبقى بأجرة المثل، انتهى. قال في متنه: بل قال الشيخ ليس لأحد أن يقلع غرس الجزء: 6 ¦ الصفحة: 354 المستأجر وزرعه، صحيحة كانت الإجارة أو فاسدة، بل إذا بقي فعليه أجرة المثل وفي الفائق، قلت: فلو كانت الأرض وقفا لم يتملك إلا بشرط واقف، أو رضا مستحق، انتهى قال المنقح، إذا حصل به نفع كان له ذلك. وأجاب أيضا: الشيخ حسن بن حسين بن الشيخ محمد: الوقف الذي على قدر ستين نفسا اليوم، وآجرها فلان مائة سنة وبعض الموقوف عليهم أجاز، وبعضهم لم يجز، فهذه الإجارة غير صحيحة إلا في حق من أجاز، على أحد الأقوال في صحة تصرف الفضولي مع الإجازة، لكن النظر للموقوف عليهم إذا لم يعين الواقف ناظرا. وقول السائل: فإن قلتم بصحتها، فما حكم ما فيها من البناء ونحوه؟ فنقول: حكمه حكم الغصب على المعتمد عند أصحاب الإمام أحمد، كما هو حكم كل عقد فاسد، قال في الإنصاف: في تعريف الغصب: وشمل كلام المصنف: ما لو كان المغارس أو الباني أحد الشريكين، وهو كذلك ولو لم يغصبه، لكن بنى وغرس من غير إذن، وهو الصحيح نص عليه; وفي رواية جعفر: أنه سئل - يعني أحمد - عن رجل غرس نخلا في أرض بينه وبين قوم مشاعا؟ قال: إن كان من غير إذنهم قلع نخله، انتهى. قال في الشرح الكبير: وإن غرس أو بنى في أرض غيره بغير إذنه، فطلب صاحب الأرض قلع ذلك لزمه، لا نعلم في الجزء: 6 ¦ الصفحة: 355 ذلك خلافا، لقوله صلى الله عليه وسلم " ليس لعرق ظالم حق " 1 قال الترمذي: حديث حسن فإن أراد صاحب الأرض أخذه بغير عوض فليس له ذلك، وإن طلبه بالقيمة وأبى المالك إلا القلع فله ذلك، لأنه ملكه فملك نقله، انتهى، فقد صرحوا بأن من غرس أو بنى بغير إذن مالك الأرض، فحكمه حكم المغصوب اهـ. وسئل الشيخ: عبد الرحمن بن حسن: عمن غرس أرضا مستأجرة للغراس، ومضت مدة الإجارة ... إلخ؟ فأجاب: قال في الكافي: إن استأجرها للغراس جاز وله الغرس فيها، فإن غرس وانقضت المدة، وكان مشروطا عليه القلع عند انقضائها أخذه بشرطه، ولا يلزمه تسوية الحفر، فإن لم يكن شرط القلع لم يجب القلع، وللمستأجر قلع غرسه لأنه ملكه ويلزمه تسوية الحفر، فإن لم يفعل فللمؤجر دفع قيمته ليملكه وإن أراد قلعه وكان لا ينقص بالقلع أو ينقص لكنه يضمن أرش النقص فله ذلك، وإن اختار إقراره بأجرة مثله فله ذلك، ولصاحب الشجر بيعه للمالك ولغيره فيكون بمنْزلته، والبناء كالغراس في جميع ما ذكرنا، انتهى ملخصا، فتأمله فإنه كاف في الجواب عما في السؤال، والله أعلم. وأجاب الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين رحمه الله: من استأجر أرضا لغراس أو بناء مدة معلومة ...   1 الترمذي: الأحكام (1378) , وأبو داود: الخراج والإمارة والفيء (3073) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 356 إلخ؟ فالمذهب: أن مالك الأرض يخير بين تملك الغراس، أو البناء بقيمته; أو تركه بأجرة المثل مدة بقائه، أو قلعه وضمان نقصه، فإن اختار صاحب الغراس قلعه فله ذلك; وليس لرب الأرض منعه إذا أراده، وهذا ما لم يشترط قلعه عند انقضاء المدة. وأما صفة تقويمه: إذا اختار رب الأرض أخذه بقيمته، فقال في المغني والشرح: لا يمكن إيجاب قيمته باقيا لأن البقاء غير مستحق، ولا قيمته مقلوعا لأنه لو كان كذلك لملك القلع مجانا، ولأنه قد لا يكون له قيمة إذا قلع، قالا: ولم يذكر أصحابنا كيفية وجوب القيمة; والظاهر: أن الأرض تقوم مغروسة ومبنية، ثم تقوم خالية، فيكون ما بينهما قيمة الغرس والبناء، انتهى، وجزم بذلك ابن رزين في شرحه، وتبعه في الإقناع وشرحه، وكذا في شرح المنتهى. وبيان ذلك: إذا قومت الأرض خالية بمائة، ومغروسة أو مبنية بمائتين مثلا، صار قيمة الغراس أو البناء مائة; فإن اختار مالك الأرض القلع، مع ضمان النقص وقيمة الأرض خالية، وقيمتها مغروسة مائتان، فقيمة الغراس أو البناء مائة، فإذا قلع صارت قيمته عشرين مثلا، تبينا أن النقص بالقلع ثمانون، يدفعها صاحب الأرض لصاحب الغراس أو البناء; وهكذا الحكم لو اشترى أرضا فغرس فيها أو بنى، ثم فسخ العقد بنحو عيب أو إقالة، قال في الإنصاف: على الصحيح من المذهب; قال: وأما البيع بعقد فاسد إذا غرس فيه المشتري الجزء: 6 ¦ الصفحة: 357 أو بنى، فالصحيح من المذهب أن حكمه حكم المستعير إذا غرس أو بنى، ذكره القاضي وابن عقيل والمصنف في المغني، وقدمه في الفروع، انتهى. وأما العارية التي لم يشترط فيها القلع على المستعير عند رجوع المعير، فمالك الأرض: يخير بين القلع وضمان النقص، وبين أخذه بقيمته لا تبقيته بالأجرة بغير رضا المستعير; قالوا: فإن أبى المالك من أخذه بقيمته وقلعه وضمان نقصه، ولم يتراضيا على تبقيته بالأجرة، بيعا عليهما إن رضيا أو أحدهما، ويجبر الممتنع منهما إذا طلب صاحبه البيع، وقسم الثمن بينهما يقسط على الأرض والغراس كما تقدم، ولم يقولوا بالبيع والحالة هذه في صورة الإجارة السابقة، إلا أن صاحب الغاية، قال: ويتجه لو أبى صاحب الأرض الثلاثة، ومالك الغرس أو البناء قلعه، بيعت الأرض بما فيها كعارية انتهى، وقول صاحب المحرر في العارية: إذا امتنع المالك من أخذه بقيمته، ومن قلعه مع ضمان نقصه، بقي في أرضه مجانا وهو وجه في المذهب. والوجه الثاني: وهو المشهور أنه إذا امتنع المالك من أخذه بقيمته، ومن قلعه مع ضمان نقصه، ولم يتراضيا على أجرة، بيع عليهما بطلب أحدهما; وما ذكرتم من عبارة التحفة، فيحتمل أن يكون مراده بالتقويم كما ذكرنا، ويحتمل أن يريد أن يقوم الغرس وحده قائما، كما هو قول لبعض أصحابنا; وقال الشيخ تقي الدين رحمه الله: ليس لأحد أن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 358 يقلع غراس المستأجر وزرعه وبناءه، صحيحة كانت الإجارة أو فاسدة، بل يبقى وعلى ربه أجرة المثل ما دام قائما فيها; وقال: فيمن احتكر أرضا بنى فيها مسجدا أو بناء وقفه عليه، فمتى فرغت المدة وانهدم البناء، زال حكم الوقف، وأخذوا أرضهم فانتفعوا بها، وما دام البناء قائما فيها فعليه أجرة المثل، قال في الإنصاف: وهو الصواب، ولا يسع الناس إلا ذلك، انتهى; وإذا بقي الغراس أو البناء بأجرة لم يشترط تقدير المدة، لأنهم لم يذكروا ذلك وهو ظاهر، بل يشترط تقدير أجرة كل سنة. سئل الشيخ: حسن بن الشيخ رحمهم الله: إذا آجر إنسان أرضا من غير تقدير مدة معلومة بل قال كل سنة بكذا، هل يكون لهما أو لأحدهما الفسخ عند مضي السنة؟ فأجاب: إن أكرى الدار ونحوها كل شهر بدرهم، أو أكراه للسقي كل دلو بثمن صح العقد، فعلى هذا تلزم الإجارة في الشهر الأول بإطلاق العقد قاله في المغني والشرح، وما بعده يكون مراعا، ونبه عليه بقوله: كلما دخل شهر لزمهما حكم الإجارة، إن لم يفسخا الإجارة أوله، ولكل واحد منهما، أي: من المؤجر والمستأجر عقب انقضاء كل شهر الفسخ على الفور في أول الشهر، وليس بفسخ على الحقيقة، لأن العقد الثاني لم يثبت، قاله في المغني والشرح والرعاية، قال في المغني والشرح: إذا ترك التلبس به فهو كالفسخ لا تلزمه أجرة، انتهى من الإقناع وشرحه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 359 سئل الشيخ: عبد الله بن الشيخ: عمن يقرأ للميت بالأجرة؟ فأجاب: سئل شيخ الإسلام عن هذه المسألة بعينها؟ فأجاب: أما قراءة القرآن، ففي وصوله للميت نزاع إذا قرأ لله، فأما استئجار من يقرأ ويهدي إلى الميت، فهذا لم يستحبه أحد من العلماء المشهورين، فإن المعطي لم يتصدق لله، لكن عاوضوا على القراءة والقارئ قرأ للعوض; والاستئجار على نفس التلاوة غير جائز; وإنما النّزاع في الاستئجار على التعليم ونحوه، مما فيه منفعة تصل إلى الغير، والثواب لا يصل إلى الميت إلا إذا كان العمل لله، وما وقع بالأجر فلا ثواب فيه، وإن قيل يصح الاستئجار عليه، وإذا تصدق على من يقرأ القرآن ويعلمه ويتعلمه، كان له مثل أجر من استأجره على القراءة، من غير أن ينقص من أجورهم شيء، وينتفع الميت بذلك. سئل بعضهم رحمه الله: هل يجوز أخذ الأجرة على عقد النكاح؟ فأجاب: يتخرج جواب هذه المسألة على جواز أخذ الأجرة على تعليم القرآن وهو على روايتين، قال ابن أبي عمر: ولا تجوز على عمل يختص فاعله أن يكون من أهل القرب، كالحج والأذان ونحوهما، وكره إسحاق تعليم القرآن بأجر قال عبد الرحمن بن شقيق: هذه الرغفان التي يأخذها الجزء: 6 ¦ الصفحة: 360 المعلمون من السحت، وعنه: يصح، وأجازه مالك والشافعي، قال فإن أعطي المعلم شيئا من غير شرط جاز; قال أحمد: لا يطلب ولا يشارط، فإن أعطي شيئا أخذه، وقال: أكره أجر المعلم، انتهى. وقال في التبيان: وأما أخذ الأجرة على تعليم القرآن فقد اختلف العلماء فيه، فحكى الإمام أبو سليمان الخطابي رحمه الله: منع أخذ الأجرة عليه عن جماعة من العلماء، منهم الزهري وأبو حنيفة، وعن جماعة: أنه يجوز إذا لم يشترطه، وهو قول الحسن البصري، والشعبي وابن سيرين; وذهب عطاء ومالك والشافعي وآخرون، إلى جوازها إذا شارطه، واستأجره إجارة صحيحة، وقد جاءت بالجواز الأحاديث الصحيحة; واحتج من منعها بحديث عبادة: "أنه علم رجلا من أهل الصفة، فأهدى إليه قوسا، فقال النبي: إن سرك أن تطوق به طوقا من نار فاقبلها " 1 وهو حديث مشهور، رواه أبو داود وغيره، وبآثار كثيرة عن السلف. وأجاب المجوزون عن حديث عبادة بجوابين، أحدهما: إن في إسناده مقالا; والثاني أنه كان تبرع بتعليمه فلم يستحق شيئا، ثم أهدي إليه على سبيل العوض، فلم يجز الأخذ، بخلاف من يعقد معه إجارة قبل التعليم انتهى. فإذا علمت أقوال العلماء على جواز أخذ الأجرة على تعليم القرآن، أو المنع منه، علمت الجواب عن جواز أخذ الأجرة على عقد   1 أبو داود: البيوع (3416) , وابن ماجه: التجارات (2157) , وأحمد (5/315) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 361 النكاح، وكذا كل قربة والمنع منه، والله أعلم، انتهى. وأجاب الشيخ عبد الله أبا بطين: وأما أخذ الجعل على عقد النكاح، فلا بأس به إذا أعطي بغير شرط، فإن كان بشرط فلا أدري وأنا أكرهه. وسئل: عن عمار ما انهدم؟ فأجاب: أما من استأجر عقارا، فإنه يلزم المؤجر عمار ما انهدم من الحائط، وكذلك عمار البئر التابعة للعقار في طي ما اختلف من طيها ونحوه، ونقل ما في بطنها من تراب إن احتاج إلى ذلك، فالإجارة توافق المساقاة في أحكام، وتخالفها في أشياء أعني فيما يجب على المالك، وما لا يجب عليه. فصل سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد رحمهما الله: هل حكم المزارعة والإجارة واحد ... إلخ؟ فأجاب: المذهب التفريق فمن الأصحاب من قال: المساقاة عقد جائز ليس بلازم ومنهم من قال: إنها لازمة في حق صاحب العقار، جائزة في حق المساقي، وأما الإجارة فالظاهر أنها عقد لازم من الطرفين، ليس لأحدهما فسخها. وأجاب الشيخ حمد بن ناصر بن معمر: الإجارة عقد لازم، وهو قول جمهور العلماء، لأنها بمعنى البيع، وأما الجزء: 6 ¦ الصفحة: 362 معنى اللازم والجائز، فاللازم هو الذي لا يتمكن أحد المتعاقدين من فسخه إلا برضا الآخر، والجائز هو الذي يفسخه بغير رضا صاحبه. سئل الشيخ: محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: عمن آجر أجيرا فحصل له مانع إلخ؟ فأجاب: إذا آجر أجيرا إلى مكان يجيء منه بشيء، فحصل له مانع لزمته الأجرة. وأجاب ابنه الشيخ عبد الله: الأجير الخاص لا يستحق شيئا، إذا فسخ بلا عذر. وسئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن: إذا ترك الأجير شيئا مما التزم به ... إلخ؟ فأجاب: أما مسألة الأجير، فما التزمه لصاحب النخل، فإن قام به كله فله أجرة المثل، فإن ترك شيئا مما التزمه نقص من الأجر بحسب ذلك ولكن هذا يحتاج إلى نظر من له معرفة بهذه الأمور ويتحرى فيها العدل من الجانبين لصعوبتها. وأجاب الشيخ سعيد بن حجي: الذي مشى عليه متأخرو الحنابلة، أنه إذا امتنع من تمام المدة لا شيء له، وكذا المستأجر إذا حوله قبل تمام المدة، لا شيء له من الأجرة، لكن قال في المبدع على المقنع، بعد ما ذكر الجزء: 6 ¦ الصفحة: 363 المذهب الذي ذكرناه، يحتمل أن له الأجرة بقسطه، وهو قول أكثر الفقهاء، لأنه استوفى ملك غيره على وجه المعاوضة، كالمبيع إذا استوفى بعضه ومنعه المالك بقيته، انتهى. وقال الوزير في الإفصاح: واختلفوا فيما إذا حول المالك المستأجر في أثناء الشهر فقالوا له أجرة ما سكن إلا أحمد فإنه قال لا أجرة له وكذلك قال إذا تحول الساكن لم يكن له أن يسترد أجرة ما بقي انتهى وهذا الذي نميل إليه مع أن للنظر فيه مدخلا. وأجاب الشيخ: عبد الله أبا بطين، وأما الأجير إذا مات قبل تمام عمله، فللعلماء من أصحابنا وغيرهم، في هذه المسألة ثلاثة أقوال، أحدها: لا يستحق شيئا; والثاني: يستحق بقسطه; والثالث: إن ترك العمل لعذر شرعي يستحق، وإلا فلا. وأجاب الشيخ حسن بن حسين بن علي: الذي يفتى به أنه إن ترك لعذر فله أجرة الماضي، وإن تركه لغير عذر فليس له شيء منها، إلا بعد كمال المدة، وهذا القول هو المشهور في المذهب. سئل الشيخ: عبد الله أبا بطين: عمن استأجر من يعمل له في الذمة؟ فأجاب: إذا استأجر أجيرا يعمل له في الذمة، مثل أن يحمل له شيئا إلى موضع معين وتلف المحمول قبل تمام الجزء: 6 ¦ الصفحة: 364 العمل فلا يستحق الأجير شيئا والحالة هذه، لأن الأجرة في مقابلة العمل، وهو الحمل إلى الموضع المشروط، فإذا لم يمكن تسليم العمل الذي وقع عليه العقد، لم يجب تسليم الأجرة التي هي في مقابلته، كما لا يجب تسليم الثمن في المبيع إلا بتسليم المبيع، فالعمل في الإجارة كالمبيع، والأجرة كالثمن، ولهذا لو استأجر خياطا يخيط ثوبه فخاطه، وتلف قبل تسليمه لربه، لم يستحق الخياط شيئا، ومسألتنا أولى بعدم الاستحقاق، وهذا بخلاف ما إذا استأجر دابة بعينها ليركبها إلى موضع معين، أو استأجرها لحمل شيء معلوم، فإن صاحبها يستحق من الأجرة بقدر ما قطع من المسافة، في صورة تلف الدابة المعينة. وسئل بعضهم: إذا استأجر رجلا على رعي دابة وطلاها عن جرب فأخذ يرعاها ثم ماتت الدابة حتف أنفها هل يستحق شيئا من الأجرة؟ فأجاب: هذه المسألة فيها قولان للعلماء هما روايتان عن الإمام أحمد، أحدهما: أنه لا يستحق شيئا من الأجرة إلا بتسليم العين، وهذا هو المشهور في المذهب، قال في الإنصاف: ويضمن الأجير المشترك ما جنت يده أو تلف بفعله على الصحيح من المذهب وقال أيضا: وتجب الأجرة بنفس العقد هذا المذهب; وتستحق كاملة بتسليم العين، أو بفراغ العمل الذي بيد المستأجر، كطباخ استؤجر لعمل شيء في بيت المستأجر، انتهى. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 365 قال في المغني: وإنما توقف استحقاق تسليمه على العمل، لأنه عوض فلا يستحق تسليمه إلا مع تسليم المعوض، كالصداق والثمن في المبيع، ولا ضمان عليه، أي الأجير المشترك، فيما تلف من حرزه أو بغير فعله إذا لم يتعد; قال في الإنصاف: هذا المذهب، قال الزركشي: هو المنصوص عليه في رواية الجماعة، ثم قال: ولا أجرة له فيما عمل فيه، أي الذي تلف في يده، سواء قلنا إنه لا يضمن أو عليه الضمان، هذا هو المذهب مطلقا، وعليه أكثر الأصحاب. والقول الثاني: أن له أجرة ما عمل في بيت ربه دون غيره; وعنه: له أجرة البناء لا غير، نص عليه في رواية ابن منصور، وعنه: له أجرة البناء والمنقول إذا عمل في بيت ربه. وقال ابن عقيل في الفنون: له الأجرة مطلقا، لأن وضعه النفع فيما عينه له كالتسليم إليه، كرفعه إلى البائع غرارة، وقال ضع الطعام فيها، وكاله فيها كان ذلك قبضا لأنه كيله; ولهذا لو ادعيا طعاما في غرارة أحدهما كان له، قال في الإنصاف وهو قوي، وقال في المنتهى وشرحه: وله أي الحامل أجرة حمله إلى محل تلفه، ذكره في التبصرة، واقتصر عليه في الفروع، لأن ما عمل فيه من عمل بإذن; وعدم تمام العمل ليس من جهته، وهذا القول هو الذي يترجح عندنا، والله أعلم. وأجاب الشيخ: عبد الله بن عبد اللطيف بن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 366 عبد الرحمن: وأما الرجل الذي استأجر جملا يحمل عليه إلى موضع معين فلما انتصف في الطريق أخذ الجمل وحمله، فنعم يكون له أجرته من غير إشكال، قدر ما مشى من طريقه. وأجاب الشيخ علي بن عيسى: الذي أخذ أحمالا ليحملها على جماله إلى بلد معين، بأجرة معلومة فلما كان في بعض الطريق أخذت الجمال والأحمال، فلا يستحق شيئا من الأجرة، حتى يسلم الأحمال في البلد المعين هذا الذي نفتي به نحن ومشايخنا، وأما بعض مشايخ نجد، فيفتي بأن له من الأجرة بقدر حمله إلى محل تلفه، كما في المنتهى، لكن اعترض بعض الأصحاب على صاحب المنتهى، في قوله: وله أجرة حمله إلى محل تلفه. قال الشيخ عبد الله أبا بطين: تعليله هنا وجوب أجرة المحمول إلى محل تلفه، لأن عدم تمام العمل ليس من جهة الأجير فلا فرق، وعلله هنا - أعني تلف المحمول - بأن وضع العمل فيه بإذن، فيقال: وهكذا خياطة الثوب ونحوها بإذن، فالظاهر عدم الفرق، وأنه كالمشترك قبل تمام العمل وتسليمه، فما الذي أخرج صورة الحمل كما قال هنا، وما عللت به صورة الحمل، في أن عدم تمام العمل ليس من جهة الأجير، وبأن عمله بإذن موجود في غيرها. سئل الشيح: عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين: هل يعطى الأجير من المال الحرام؟ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 367 فأجاب: أما الرجل المستأجر للأجير فلا يجوز له أن يعطيه أجرته من المال الحرام الذي عنده وإنما يعطيه من الحلال فإن أعطاه أجرته من الحرام ولم يشعر جاز له التصرف ولا إثم عليه وإثمه على المستأجر. سئل الشيخ حمد بن ناصر بن معمر رحمه الله: إذا استأجر إنسان من آخر ناضحا يسقي عليه، وشرط عليه إن مات الناضح، أو عجف فالأجرة تامة، وإن لم يبق عليه إلا يوم واحد ورضي كل منهما بذلك؟ فأجاب: الذي يظهر لي صحة ذلك العقد، إذا كانت الأجرة معلومة والمدة معلومة، وأما الشرط فهو فاسد، فإن مات الناضح أو عجف، لزم المستأجر قسط ما مضى من المدة، وانفسخ فيما بقي إن لم يتراضيا على إتمام العمل على ناضح آخر. سئل الشيخ: عبد الله بن الشيخ محمد رحمهما الله: عمن استأجر أرضا ليزرعها وتركها؟ فأجاب: إذا تعذر الزرع بمانع لم تلزمه الأجرة، لأن الانتفاع بها غير ممكن، فإن أمكنه الانتفاع بالأرض بالزرع في بقية المدة فلم يفعل، فعليه الأجرة، وقال الشيخ: يثبت قسط المثل. وسئل: إذا استأجر رجل أرضا بأربعين مثلا وانتقلت إلى أن المستأجر يؤجرها بعشرة وصاحب الأرض قد شرط الجزء: 6 ¦ الصفحة: 368 على المستأجر مدة سنين وأراد المستأجر الفسخ، هل تدخل في حكم وضع الجوائح؟ فأجاب: الذي نفهم من كلام أهل العلم، أنها لا تدخل في مسألة وضع الجوائح، لأن المراد بذلك إذا كانت الجائحة من قبل الله، بآفة سماوية كالمطر والبرد، والسيول وأشباه ذلك، وأما الإجارة فهي لازمة من قبل المؤجر والمستأجر، إلا إذا انهدمت الدار، وتعطلت الأرض بآفة سماوية، انفسخت الإجارة فيما بقي من المدة، وأما هذه الصورة، فهي مثل أن يشتري سلعة غالية، ثم ترخص بعد ذلك بتغير الأسعار، وإذا نقصت عن العادة بتعذر المنفعة المقصودة بالعقد، فله الأجرة كاملة، وقال الشيخ: تقسط الأجرة بقسط ما تلف. وإذا استأجرها للزرع، فزرعها ثم تلف، فالظاهر أنه لا يلزمه شيء. وسئل: إذا استأجرها بصبرة فتلف الزرع إلا قدر الصبرة فهل يدفعه إلى المؤجر؟ فأجاب: إذا تلفت بآفة فإنه يدفع إليه أجرة كاملة واختار الشيخ وضع الجوائح، وأن كلا على قدر حصته. وأجاب أيضا: إذا اكترى رجل من آخر أرضا أو نخلا، فأصابته جائحة فإنه يطرح عن المؤجر بقدر ما نقصت الجائحة من الثمرة من الأجرة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 369 وأجاب الشيخ: حسين بن الشيخ: وما ذكرت من جهة الجائحة التي جرت على الزروع من البرد، فهو ينظر إلى معدل المغل، فإذا صارت هذه الأرض مثلا، يجيء زرعها على المتوسط قيمة كذا وكذا، أعطى العامل صاحب الأرض قدره، ويسقط عن الزارع قدر هذه الجائحة، وكذلك النخل إذا صارت هذه الجائحة كما تذكر بردا، فمثل ما ذكرنا في الزرع كل شيء يسقط بقدره. وأجاب الشيخ حمد بن ناصر بن معمر: إذا استأجر إنسان أرضا بدراهم يريدها للزراعة، وزرعها وأصاب الزرع جائحة سماوية، بحيث لم يحصل منها إلا ثلث ما يحصل منها في العادة، فهذه المسألة فيها خلاف بين العلماء، فالجمهور يقولون تثبت الدراهم في ذمة المستأجر ولا يسقط منها شيء; وأما الشيخ تقي الدين، فاختار ثبوت الجائحة، وأنه يسقط من الأجرة بقدر الجائحة الخارجة عن العادة، وهذا هو الذي عليه الفتوى اليوم. وأجاب الشيخ صالح بن محمد الشثري: إذا أوجرت الأرض فلم تنبت أو غرق زرعها أو تلفت بجراد أو حرق ونحوه، فالمذهب عند علماء الحنابلة أن الأجرة لازمة، ولو تلف ما استؤجرت له، وشيخ الإسلام رحمه الله وأتباعه، يرون دخولها في حكم وضع الجوائح، وأفتى بها شيخنا الشيخ عبد الرحمن بن حسن، فوضع أجرة الحوانيت في الرياض مدة تعطلها في أيام الحرب. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 370 وأجاب الشيخ: عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين: وأما ثبوت الجائحة في إجارة الأرض ونحوها، فاختيار الشيخ تقي الدين معلوم لديكم وأكثر العلماء على خلافه; قال في المغني: فإن استأجر أرضا فزرعها فتلف الزرع، فلا شيء على المؤجر نص عليه أحمد، ولا نعلم فيه خلافا، لأن المعقود عليه منافع الأرض ولم تتلف، وإنما تلف مال المستأجر فيها، فصار كدار استأجرها ليقصر فيها ثيابا، فتلفت الثياب فيها انتهى. فظاهر قوله: فلا شيء على المؤجر يتناول الأجرة وغيرها، لكن قال في الاختيارات - لما ذكر إثبات الجائحة في أجرة الأرض - وبعض الناس يظن أن هذا خلاف ما في المغني من الإجماع، وهو غلط، فإن الذي في المغني: أن نفس الزرع إذا تلف يكون من ضمان المستأجر صاحب الزرع، لا يكون كالثمرة المشتراة، فهذا ما فيه خلاف; وإنما الخلاف في نفس أجرة الأرض ونقص قيمتها، فيكون كما لو انقطع الماء عن الرحى، انتهى. وقد ذكر الشيخ عن اختياره: أنه خلاف ما رواه عن أحمد، ولم يحك صاحب الإنصاف إثبات الجائحة، في صورة الإجارة عن غير الشيخ، إلا ما حكاه عن أبي الفضل ابن حمزة في الحمام، وفرق الأصحاب بين الثمرة المشتراة وبين الأجرة، بأن المعقود عليه في الإجارة نفع الأرض، فالتالف غير المعقود عليه، والمعقود عليه في الثمرة المشتراة، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 371 هو نفس الثمرة، فهي التالفة، والله أعلم; والذي نعتمده في المسألة هو الإلزام بجميع الأجرة، إن تعذر الصلح بين الخصوم. وأجاب أيضا: وأما مسألة الجائحة في الإجارة، فالشيخ تقي الدين رحمه الله، يقول بثبوت الجائحة في الإجارة للأرض ونحوها، كما ثبت في الثمرة المشتراة بنص الحديث; وأكثر العلماء يفرقون بين الصورتين، على خلاف ما قاله الشيخ، وهو الذي نفتي به، أعني بقول أكثر العلماء. وسئل: عن الأجير الخاص هل يستنيب؟ فأجاب: وأما الأجير الخاص، فكلامهم صريح في أنه لا يستنيب مطلقا، وعبارتهم: وإن كانت الإجارة على عينه في مدة أو غيرها فمرض، لم يقم غيره مقامه، لأن الإجارة وقعت على عمله بعينه، لا على شيء في ذمته، أشبه ما لو اشترى معينا، لم يجز أن يدفع إليه غيره ولا يبدله. وأما الاستئجار للرعي، فصرحوا بأنه لا يصح العقد في الرعي إلا على مدة معلومة، لأن العمل فيها لا ينحصر، وتعريفهم الأجير الخاص: بأنه من استؤجر مدة معلومة يستحق المستأجر نفعها في جميعها، مرادهم جميع نفعه لا بعضه، لأنهم صرحوا بأنه إذا لم يستحق جميع نفعه في جميع المدة فهو مشترك، قال في الشرح: فالخاص هو الذي يقع العقد عليه في مدة معلومة، يستحق المستأجر نفعه في الجزء: 6 ¦ الصفحة: 372 جميعها، كمن استؤجر لخدمة أو خياطة، أو رعاية شهرا أو سنة، سمي خاصا لأن المستأجر يختص بنفعه في تلك المدة دون سائر الناس، والمشترك الذي يقع العقد معه على عمل معين، كخياطة ثوب أو بناء حائط، أو حمل شيء إلى مكان معين، أو على عمل في مدة لا يستحق جميع نفعه فيها، كالكحال والطبيب، سمي مشتركا لأنه يتقبل أعمالا لاثنين في وقت واحد، ويعمل لهم، فيشتركون في منفعته، فسمي مشتركا لاشتراكهم في منفعته، انتهى. فهذا صريح في تعريف الخاص بأنه الذي يختص مستأجره بجميع نفعه في مدة الإجارة، وأنه إذا لم يستحق جميع نفعه ولو كان على مدة فهو مشترك، وتسمية أحدهما خاصا، والآخر مشتركا صريح في ذلك، وقال في الإقناع وشرحه: الأجير الخاص من قدر نفعه بالزمن، بأن استؤجر لخدمة أو عمل في بناء أو خياطة يوما أو أسبوعا ونحوه، يستحق المستأجر نفعه، في جميع المدة المقدر نفعه فيها، لا يشركه فيها أحد، فإن لم يستحق نفعه في جميع الزمن فمشترك - إلى أن قال - والأجير المشترك: من قدر نفعه بالعمل، كخياطة ثوب وبناء حائط، أو على عمل في مدة لا يستحق نفعه في جميعها، كالطبيب والكحال، أو يتقبل الأعمال لجماعة في وقت واحد يعمل لهم، يشتركون في نفعه فلذلك سمي مشتركا، انتهى. فدل كلامهم على أنه إذا استأجر واحد أو جماعة رجلا، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 373 ليرعى لهم عددا معلوما من الماشية، شهرا أو سنة ونحو ذلك، فهذا خاص كإجارة موسى عليه السلام نفسه المدة المذكورة، وكاستئجار البدوي من يرعى إبله أو غنمه سنة أو نحوها، لأنه يختص بنفعه في تلك المدة، ودل على أنه إذا دفع قروي إلى بدوي ناقته ليرعاها سنة، ودفع إليه آخر ناقتين، ودفع إليه آخر نحو ذلك، أن هذا مشترك، لأنه يتقبل أعمالا لجماعة في وقت لا يختص بنفعه واحد، لأنه يأخذ لمن شاء ماشيته ليرعاها في تلك المدة، وكون عمله مقدرا بمدة لا يخرجه عن كونه مشتركا، كما صرحوا به. وأما قولهم: في الأجير المشترك، لا أجرة له فيما عمل حتى يسلمه لربه معمولا، فالذي نرى ونعمل به في حال رعاة الإبل، كمعاملة الحضر مع البدو اليوم، فالذي يأخذ الإبل للناس ليرعاها ويقوم عليها أنه لا يستحق شيئا ما لم يسلمها لربها، لأنه مشترك، فلو هلكت قبل تسليمها لربها لم يستحق شيئا، انتهى. وأجاب الشيخ: محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: وأما الأجير إذا صار الخلل منه، فلا أجرة له ولا يضمن إلا إن فرط. وأجاب ابنه الشيخ عبد الله: وأما الراعي لجماعة أو مختص بمنفعة واحد، فالظاهر من كلام أهل العلم: أن الراعي لا ضمان عليه إلا بالتعدي والتفريط، سواء كان لجماعة أو لشخص معين، ولا أعلم في ذلك خلافا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 374 وأجاب بعضهم: وأما الراعي فلا ضمان عليه إن شاء الله تعالى، إلا أن يفرط في رعيته. وأجاب الشيخ عبد الله بن عبد العزيز العنقري: رعاة الغنم إذا ضيعوا منها شيئا، فإن كانوا فرطوا فيها بنوم عنها أو بغيره، لزمهم ضمانها، وإن لم يفرطوا لم يلزمهم، وعليهم الاجتهاد في طلبها، فإن وجدوها، وإلا ليس لهم على ما ضاع منها أجرة. سئل الشيخ: حمد بن ناصر بن معمر: إذا قال صاحب البعير الكروة عشرة، وقال المكتري ثمانية ... إلخ؟ فأجاب: إذا اختلفا في قدر الأجرة، فهو كما إذا اختلفا في قدر الثمن في المبيع، نص أحمد على أنهما يتحالفان، وهو مذهب الشافعي، قال في الشرح، وهو الصحيح إن شاء الله تعالى وإذا قال صاحب البيت: أكريتك سنة وقال المستكري سنتين، فالقول قول المالك مع يمينه، قال في الشرح: لأنه منكر للزيادة، فكان القول قوله بيمينه، كما لو قال بعتك هذا العبد بمائة، وقال بل هذين العبدين بمائتين. وسئل بعضهم: إذا اختلفا في قدر الأجرة؟ فأجاب: إذا أعطى ثوبه خياطا بلا عقد، ثم اختلفا في قدر الأجرة، فقال في الشرح: إذا دفع ثوبه إلى خياط ليخيطه، أو قصار ليقصره من غير عقد، ولا تعريض بأجرة، مثل أن يقول: خذ هذا فاعمله، وأنا أعلم أنك إنما تعمل الجزء: 6 ¦ الصفحة: 375 بأجرة، وكان القصار والخياط منتصبين لذلك، ففعلا ذلك، فلهما الأجرة، لأن العرف الجاري بذلك يقوم مقام القول، فصار كعقد البلد، ولأن شاهد الحال يقتضيه، فصار كالتعريض، فأما إن لم يكونا منتصبين لذلك، لم يستحقا أجرة إلا بعقد أو شرط، أو تعريض به، لأنه لم يجرِ عرف يقوم مقام العقد، فهو كما لو تبرع به، وفي المسألة قول آخر: له الأجرة مطلقا، سواء كان منتصبا للعمل بأجرة أو لم يكن، قال في الإنصاف: وهو الصحيح من المذهب، وعليه كثير من الأصحاب. سئل الشيخ: حسن بن حسين بن الشيخ محمد رحمهم الله: عن أرض مغصوبة، أو نخل استأجرها إنسان مدة معلومة كل سنة بجديدة أو ربع مثلا وبطل التعامل بها ولم نعلم قيمتها وقت العقد. فأجاب: يبعد تعذر معرفة القيمة في الجديدة أو الربع لقرب العهد بالتعامل وإذا فرضناه فقياس كلامهم فيما إذا كان رأس مال السلم جوهرة ونحوها وفيما إذا باعه الشقص المشفوع بجوهرة ونحوها وجهلت القيمة: أن القول قول المستأجر هنا لأنه غارم وإن جهلها المؤجر والمستأجر معا فمقتضى القواعد الرد إلى أجرة المثل وهي: ما انتهت إليه رغبات الناس بعد الاشتهار لأن ما قَوَّمَه المقومون في قياس ما ذكروه وفيما إذا وقع ثمن الشقص المشفوع عرضا وكان موجودا أن يعرض على المقومين ليشهدوا بقيمته. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 376 باب العارية وسئل الشيخ حسن بن حسين بن الشيخ: عن رجل له أرض، فقال من أراد أن يبني له فيها دارا، فإذا أراد الانتقال فليأخذ خشبه، ولتعد لي أرضي، فبنى فيها أناس وسكنوا مدة من الدهر، ثم مات رب الأرض، فهل يكون إذنه في عمارتها والسكنى فيها هبة؟ أو ملحقة بالعارية؟ فأجاب: هذه فيما يظهر ملحقة بالعارية، ونحن نذكر لك كلام صاحب الشرح، قال فيه: باب العارية، وهي: إباحة الانتفاع بعين من أعيان المال، وتنعقد بكل لفظ وفعل يدل عليها، وهي هبة منفعة، تجوز في كل المنافع إلا منافع البضع، وتجوز مطلقة وموقتة، وللمعير الرجوع فيها متى شاء، سواء كانت مطلقة أو مؤقتة، وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي، وقال مالك: إن كانت موقتة فليس له الرجوع قبل الوقت، وإن لم يوقت مدة لزمه تركه مدة ينتفع بها في مثلها، لأن المعير قد ملكه المنفعة مدة، وصارت العين في يده بعقد مباح، فإن أشغله بإذنه في شيء يستضر المستعير برجوعه فيه لم يجز له الرجوع، مثل أن يعيره سفينة لحمل متاعه، لم الجزء: 6 ¦ الصفحة: 377 يجز له الرجوع ما داما في لجة البحر، وله الرجوع قبل دخولها في البحر، وبعد خروجها منه، لعدم الضرر. وإن أعاره أرضا للدفن لم يرجع حتى يبلى الميت، وله الرجوع قبل الدفن، وإن أعاره حائطا ليضع عليه أطراف خشبه لم يرجع ما دام عليه، وإن أعاره أرضا لم يرجع إلى الحصاد، إلا أن يكون مما يحصد قصيلا فيحصده، وإن أعارها للغراس أو البناء، وشرط عليه القلع في وقت، أو عند رجوعه ثم رجع، لزمه القلع، لقول النبي صلى الله عليه وسلم " المؤمنون على شروطهم " 1 حديث صحيح، وليس على صاحب الأرض ضمان نقصه، ولا نعلم في هذا خلافا، فأما تسوية الحفر: فإن كانت مشروطة عليه لزمه لما ذكرنا وإلا لم يلزمه، وإن لم يشترط المعير القلع لم يلزم المستعير، لما فيه من الضرر، فإن ضمن له النقص لزمه، فإن قلع فعليه تسوية الأرض، وكذلك إن اختار أخذ بنائه وغراسه فإنه يملكه، فإن أبى القلع في الحالة التي لا يجبر عليها، فبذل له المعير قيمة الغراس والبناء ليملكه، أجبر المستعير عليه كالشفيع مع المشتري، والمؤجر مع المستأجر، فإن قال المستعير أنا أدفع قيمة الأرض لتصير لي لم يلزم المعير، وبهذا كله قال الشافعي. وقال أبو حنيفة ومالك: يطالب المستعير بالقلع من غير ضمان، إلا أن يكون أعاره مدة معلومة فرجع قبل انقضائها، لأن المعير لم يغره، فإن امتنع المعير من دفع القيمة وأرش النقص، وامتنع المستعير من القلع ودفع الأجر لم يقلع، ثم   1 الترمذي: الأحكام (1352) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 378 إن اتفقا على البيع بيعت الأرض بغراسها وبنائها، ودفع إلى كل واحد منهما قدر حقه، وإن أبيا البيع ترك بحاله، وقلنا لهما انصرفا فلا حكم لكما عندنا حتى يتفقا، انتهى المقصود ملخصا، فتأمله يتبين لك منه الجواب عن سؤالك، لا سيما قوله: وإن أعارها للغراس أو البناء إلى آخره. سئل الشيخ: حمد بن ناصر: هل منيحة الناقة ونحوها كالعارية والقول فيها سواء؟ فأجاب: المنيحة عارية، لأنه قبضها للانتفاع بها فهو قابض لحظ نفسه، وللمعير الرجوع في العارية متى شاء، فإن تلفت عند المستعير فهل هي مضمونة بكل حال، كما هو المشهور عن أحمد والشافعي، أم لا تضمن مطلقا كما هو المشهور عن مالك وأبي حنيفة، وهو اختيار ابن القيم في الهدي، أم لا تضمن إلا أن يشترط ضمانها، كما هو اختيار الشيخ، ولا يخفى الراجح عند التأمل، وبالله التوفيق. سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: عمن استعار عارية ورهنها بغير إذن المالك فلما تبين للمالك أراد أخذها. فأجاب: ذلك ليس بتقرير من المالك: بل هو خيانة من المستعير حيث رهنها بلا إذن المالك وللمالك أخذها من المرتهن، وقد نص في الشرح الكبير على أنه لا يجوز له رهنها بلا إذن المالك. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 379 وسئل: هل يضمن المستعير العارية إذا تلفت؟ وهل يعتبر تفريطه؟ فأجاب: لا تضمن إلا بالتفريط فيها. وأجاب أيضا: من استعار دابة وتلفت من كده فهو يغرمها، وإذا استعار عبد شيئا فتلف، فإن غرامته في رقبته، على قول من يقول بضمان العارية. وأجاب الشيخ عبد الله أبا بطين: والدابة المعارة إذا ماتت عند المستعير لزمته قيمتها، سواء فرط أو لم يفرط. وأما منيحة الحرام فحرام، وعليه إثمها، وعلى الآخذ الثاني إثمها أيضا إذا علم ذلك فإنه يجب ردها إلى صاحبها. سئل الشيخ: عبد الله بن الشيخ محمد: إذا قال أعرتك، قال بل آجرتني؟ فأجاب: إذا قال المالك أعرتك، قال بل آجرتني فالقول قول المالك، وكذلك الغاصب إذا ادعى أنه غصبه، فالقول قول المالك، وقيل القول قول الغاصب. وسئل بعضهم: إذا اختلف المعير والمستعير في الدابة بعد مضي المدة فقال المالك آجرتك وقال الآخر أعرتني، ولا بينة لهما؟ فأجاب: قال في الشرح إذا اختلف الراكب ورب الدابة فقال المالك هي عارية وقال رب الدابة أكريتكها الجزء: 6 ¦ الصفحة: 380 وكانت الدابة باقية لم تنقص وكان الاختلاف عقيب العقد فالقول قول الراكب لأن الأصل عدم عقد الإجارة ويرد الدابة إلى مالكها ولأن الأصل براءة ذمته منها وإن كان الاختلاف بعد مضي مدة لها أجرة فالقول قول المالك فيما مضى من المدة دون ما بقي منها وحكي ذلك عن مالك وقال أصحاب الرأي: القول قول الراكب وهو منصوص الشافعي، لأنهما اتفقا على تلف المنافع على ملك الراكب وادعى المالك عوضا لها، والأصل عدم وجوبه وبراءة ذمة الراكب منه، فكان القول قوله. ولنا: أنهما اختلفا في كيفية انتقال المنافع إلى ملك الراكب فكان القول قول المالك; كما لو اختلفا في عين، فقال المالك; بعتكها، وقال الآخر: وهبتها، ولأن المنافع تجري مجرى الأعيان في الملك والعقد عليها، ولو اختلفا في الأعيان كان القول قول المالك، فكذا هنا، وما ذكروه يبطل بهذه المسألة، فيحلف المالك وتستحق الأجرة، والله أعلم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 381 باب الغصب سئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: عما يأخذه الأعراب ونحوهم ممن هو مثلهم، أو من أهل القرى؟ فأجاب: أما ما يأخذونه ممن هو مثلهم في ترك ما فرض الله عليهم والتهاون بما حرمه الله، مما يكفر أهل العلم فاعله، فلا إشكال في حله كما أفتى به شيخ الإسلام وغيره من العلماء وهو ظاهر لظهور دليله، وأما إذا كان المأخوذ من أهل القرى ونحوهم، ممن يلتزم أركان الإسلام، ولا يظهر منه ما ينافيه، فحكم ما أخذ منه حكم الغصب، وتفصيله لا يجهل. وسئل: عمن عرف متاعه وهو إما ضائع أو مسروق، ولم يعرف المشتري من اشترى منه، هل يؤخذ بلا ثمنه، أو يعطى ما اشترى به؟ فأجاب: إذا قامت البينة أنه ضائع أو مسروق أخذ بلا عوض، ويرجع على من اشتري منه ولو لم يعرفه. وأجاب أيضا: ومسألة الذي يجد عين ماله عند رجل، يدعي أنه اشتراه ممن لا يعرفه أو من حربي أو بدوي، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 382 فليس له إلا يمينه، وإذا ثبت أن المال مسروق، أو وجده عند رجل، أخذه صاحبه ولو ادعى أنه اشتراه ممن لا يعرفه. وأجاب أيضا: وإذا اشترى سلعة وعرفها صاحبها، فإذا أقام البينة: أنها يوم تتلف وتضيع وهي في ملكه، فيأخذها صاحبها، ويرجع المشتري على من غره، وإذا أخذ الكفار مال مسلم، وتملكه مسلم منهم بشراء أو هبة، ما صار لصاحبه الأول عليه سبيل. وأجاب ابنه الشيخ: عبد الله: الفقهاء رحمهم الله، قد ذكروا هذه المسألة، وذكروا أن المغصوب منه يأخذ عين ماله أينما وجده، سواء كان الغاصب، أو المشتري أو المنتهب، ويرجع المشتري على الغاصب أو السارق بالثمن، ولا فرق في ذلك بين أن يكون الغاصب غنيا أو فقيرا، ومن أسلم على شيء في يده قد ملكه في الجاهلية، لم ينْزع من يده في الإسلام، لأن الإسلام يجُبُّ ما قبله، وكذلك ما حصل بينهم من القتل والإتلافات، فالذي نفتي به أنه لا يطالب بشيء من ذلك، وذلك لأن حال الناس قبل هذا الدين، أكثرهم حاله كحال أهل الجاهلية الأولى، وكل قوم لهم عادة وطريقة استمروا عليها، تخالف أحكام الشرع في المواريث والدماء والديات وغير ذلك، ويفعلون ذلك مستحلين له، فإذا أسلموا لم يطالبوا بشيء مما فعلوه في جاهليتهم، وتملكوه من المظالم ونحوها، وأما الديون والأمانات: فالإسلام لا يسقطها، بل يجب أداؤها إلى أربابها، والله أعلم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 383 وأما المرأة إذا أعطاها ولدها ثلث ماله في الشرك، وأسلمت وهو في يدها، فهو لها، ولا يجوز للعصبة يأخذونه منها في الإسلام وإن كانوا ظلموها في الشرك، وأخذوه من يدها وطردوها في الجاهلية، وأسلموا وهو في أيديهم، فلا لها عليهم سبيل. وأجاب أيضا: فيما أملاه على الشيخ عبد الرحمن بن حسن، وله معه بعض مشاركة وتصرف، نقلته من خطه، وصورته: ما يأخذه الأعراب ممن هو مثلهم، فالأقرب أن يقال فيه بمضمون ما نص عليه شيخ الإسلام رحمه الله: بأن المكسوب من التتر، أو العرب الذين يغير بعضهم على بعض، فيأخذ هؤلاء من هؤلاء، وهؤلاء من هؤلاء، لا يحرم شراؤه والاعتياض عنه، إن لم يعرف صاحبه الذي أخذ منه، ومفهومه: أنه إن عرف، حرم شراؤه وردّ إلى صاحبه. وأما إذا أخذه مثل هؤلاء الأعراب من مسلم، فإن لم يعرف صاحبه، جعل في المصالح، وقد نص على ذلك شيخ الإسلام أيضا، فيما اشتراه مسلم من التتر، إذا لم يعرف صاحبه جعل في المصالح، وأعطي مشتريه ما اشتراه به، لأنه لم يصر إليها إلا بنفقته، وإن لم يقصد ذلك; هذا كلامه بحروفه، ومقتضاه: إن عرف صاحبه يردّ إليه مجانا، لأن ذلك البائع لا يملك مال المسلم، وكذا المشتري بناء على أن المرتد لا يملك مال المسلم بغير رضاه بحال، وكذا الحربي إذا لم يسلم; هذه طريقته المقررة في كتبه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 384 وسئل أيضا: الشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمه الله، ما حكم مال المسلم إذا أخذه الكفار، ثم اشتراه بعض التجار؟ فأجاب: يتفرع عن ذكر هذه المسألة تحريرا وتقريرا، فنقول: اختلف العلماء رحمهم الله في الكافر الأصلي، هل يملك مال المسلم بالقهر أم لا؟ فذهب القاضي أبو يعلى: إلى أنه يملكه، وهو المذهب عنده; والمذهب عند أبي الخطاب: أنهم لا يملكونه، وحكى طائفة عن أحمد روايتين، منهم ابن عقيل في فنونه ومفرداته، وصحح فيها عدم الملك; وقال شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه: إن أحمد رحمه الله لم ينص على الملك ولا عدمه، وإنما نص على أحكام أخذ منها ذلك، والصواب: أنهم يملكونها ملكا مقيدا، لكن لا يساوي أملاك المسلمين من كل وجه، انتهى. وقوله: مقيدا، أي: بالإسلام عليها، كما صرح به في كتاب الصارم وغيره، ونصه: ولو أسلم الحربي وبيده مال مسلم، قد أخذه من المسلمين بطريق الاغتنام ونحوه، مما لا يملك به مسلم من مسلم، لكونه محرم في دين الإسلام كان له ملكا ولم يرده إلى المسلم الذي كان يملكه، عند جماهير العلماء من التابعين ومن بعدهم، وهو معنى ما جاء عن الخلفاء الراشدين، وهو مذهب أبي حنيفة ومالك، ومنصوص أحمد، وقول جماهير أصحابه، بناء على أن الإسلام أو العهد، قرر ما بيده من المال الذي كان يعتقده الجزء: 6 ¦ الصفحة: 385 ملكا له، لأنه خرج عن مالكه المسلم في سبيل الله، ووجب أجره على الله، وأخذه متحللا له، وقد غفر الله له بإسلامه ما فعله في دماء المسلمين وأموالهم، فلا يضمنه بالرد إلى مالكه، كما لم يضمن ما أتلفه من النفوس والأموال، ولا يقضي ما تركه من العبادات، لأن كل ذلك كان تابعا للاعتقاد، فلما رجع عن الاعتقاد غفر ما تبعه من الذنوب، فصار ما بيده من المال لا تبعة عليه، فلم يؤخذ منه كجميع ما بيده من العقود الفاسدة التي كان يستحلها. ومن العلماء من قال: يرده على مالكه المسلم، وهو قول الشافعي وأبي الخطاب، بناء على أن اغتنامهم لا يملك به مسلم من مسلم بأن يغنمه أو يسرقه، فإنه يرد إلى مالكه المسلم، لحديث ناقة النبي صلى الله عليه وسلم وهو فيما اتفق الناس - فيما نعلم - عليه ولو كان قد ملكوه لملكه الغانم منهم ولم يرده، والأول أصح، لأن المشركين كانوا يغنمون من أموال المسلمين الشيء الكثير من الكراع والسلاح وغير ذلك، وقد أسلم عامة أولئك المشركين، فلم يسترجع النبي صلى الله عليه وسلم من أحد منهم مالا، مع أن بعض تلك الأموال لا بد أن يكون باقيا، انتهى المقصود. وهو صريح في أن المقرر للملك، إنما هو إسلامهم، وهو المانع من رد ما بأيديهم مما أخذوه من مال المسلمين، وهي طريقة حسنة، قد صار إليها شيخنا الجد رحمه الله آخرا، بعد أن كان يفتي بقول الشافعي وموافقيه، لكن يرد الجزء: 6 ¦ الصفحة: 386 على هذه الطريقة: ما روى مسلم في صحيحه عن وائل بن حجر، قال كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتاه رجلان يختصمان في أرض، فقال أحدهما: إن هذا انتزى على أرضي يا رسول الله في الجاهلية، وهو امرؤ القيس بن عابس الكندي، وخصمه ربيعة بن عبدان، قال: " بيّنتك قال ليس لي بينة، قال: يمينه قال إذًا يذهب بها، قال: ليس لك إلا ذلك " 1 الحديث. وقد بنى: ابن الصيرفي هذه المسألة، على القاعدة المشهورة: هل الكفار مخاطبون بفروع الشريعة أم لا؟ الرواية الصحيحة: أنهم مخاطبون بها، وهو قول الجمهور من الفقهاء والمتكلمين، فعلى ذلك لا يملكون أموال المسلمين بالاستيلاء، ولا بالحيازة إلى دارهم، وقد تقدم لك في كلام الشيخ ما ذهب إليه الإمام الشافعي وأبو الخطاب، من أنهم لا يملكونها مطلقا، قال في القواعد الأصولية، وسمعت بعض شيوخنا يعزو وجوب الضمان على الحربي، إلى إسحاق بن راهويه رحمه الله، وقد يرد على ما عزا إلى إسحاق من وجوب ضمان التالف، حديث " الإسلام يجُبُّ ما قبله " 2 وقد نقل بعض الشافعية عن المزني: أنه استدل بالحديث المذكور فيما أتلفه الكافر ثم أسلم. وأما ما ذهب إليه القاضي رحمه الله، من أنهم يملكونها بالاستيلاء، مع الحيازة إلى دارهم، فلا دليل عليه، وقد أورد العلماء رحمهم الله على هذا القول سؤالا، لا يمكن أن يجاب   1 مسلم: الإيمان (139) , والترمذي: الأحكام (1340) , وأبو داود: الأيمان والنذور (3245) والأقضية (3623) , وأحمد (4/317) . 2 أحمد (4/205) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 387 عنه إلا بتكلف، وليس هذا محل ذكره، وهذا كله في الكافر الأصلي، وأما المرتد فلا يملك مال المسلم بحال، ولا نعلم أحدا قال به، وإنما الخلاف فيما أتلفه إذا كان في طائفة ممتنعة، أو لحق بدار حرب، والمذهب أنه يضمن ما أتلفه مطلقا. إذا عرفت ذلك فاعلم: أنه قد يغلط بعض الناس في معنى الإتلاف والتلف، فيظن أنه إذا استنفق المال، أو باعه أو وهبه ونحو ذلك يسمى تلفا، وليس كذلك، بل هو تصرف، وقد فرق العلماء بين التلف والتصرف، ومن صور التلف أن يضيع من بين يديه، أو يسرق أو يحرق أو يغرق، أو يقتل ونحو ذلك مما يسمى تلفا وضابطه: فوات الشيء على وجه لا يعد من أنواع التصرفات. فيكون الجواب عن السؤال على ما تقرر: أن هذا المال الذي اشتراه بعض التجار ممن أخذه، يرد إلى مالكه الأول من غير ثمن، ويرجع مشتريه بالثمن على من اشترى منه، حتى يستقر الضمان على الآخذ، فلو كان الكافر يملك بمجرد الاستيلاء، لم يرد النبي صلى الله عليه وسلم على ابن عمر فرسه التي أخذها العدو لما ظهر عليها المسلمون، فلو كانت قد أخذت على ملك الكافر، لتعلقت بها حقوق الغانمين والمستحقين، كسائر الغنيمة، فلما ردها رسول الله صلى الله عليه وسلم على ابن عمر، دل على أنها باقية على ملكه، وليس لتخصيصه بها دون سائر الغانمين معنى غير ذلك، وعمل بذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعده الجزء: 6 ¦ الصفحة: 388 والأحاديث معروفة في كتب الأحكام وغيرها. والقائلون: بأن الكفار يملكون أموال المسلمين بالاستيلاء وحده، أو بالحيازة إلى دارهم، لا يخالفون فيما دلت عليه الأحاديث، من أنه إذا أخذها المسلمون منهم ردت إلى صاحبها بغير شيء، قال في الشرح: في قول عامة أهل العلم، منهم عمر وسلمان بن ربيعة، وعطاء والنخعي والليث والثوري، ومالك والأوزاعي والشافعي، وأصحاب الرأي، ودليلهم: ما تقدمت الإشارة إليه، وهو حجة من قال إنهم لا يملكونها بالاستيلاء. وروى سعيد والأثرم عن جابر بن حيوة، أن أبا عبيدة "كتب إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فيما أحرزه المشركون من المسلمين، ثم ظهر المسلمون عليهم بعد، قال: من وجد ماله بعينه فهو أحق به، ما لم يقسم" فمفهوم قوله: ما لم يقسم، أنه إذا قسم مع الغنيمة فليس هو أحق به، لكن اشترط العلماء لذلك: أن لا يكون الإمام ولا المسلمون قد اطلعوا على أنه مال مسلم، فإن اطلع الإمام والمسلمون قبل قسمه فقسم، وجب رده وصاحبه أحق به بغير شيء، لأن قسمته كانت باطلة من أصلها، فهو كما لو لم يقسم. فأما إذا قسم من غير علم أنه مال مسلم، ففيه عن أحمد روايتان; إحداهما: يكون صاحبه أحق به بالثمن الذي حسب به على آخذه، وكذلك إن بيع في الغنيمة ثم قسم ثمنه الجزء: 6 ¦ الصفحة: 389 فهو أحق به بالثمن، وهذا قول أبي حنيفة والثوري، والأوزاعي ومالك، واستدل لذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لصاحب البعير: " إن أصبته قبل أن نقسمه فهو لك، وإن أصبته بعدما قسم أخذته بالقيمة " وهذا الحديث لم أره معزوا إلى شيء من كتب الحديث، قالوا: وإنما امتنع أخذه له بغير شيء كي لا يفضي إلى حرمان آخذه من الغنيمة، أو تضييع الثمن على المشترى من الغنيمة وحقه ينجبر بالثمن، فيرجع صاحب المال في عين ماله. والرواية الثانية: أنه لا حق له فيه بعد القسمة بحال، نص عليه أحمد في رواية أبي داود وغيره، وهو ظاهر ما تقدم عن عمر، وقال الشافعي وابن المنذر: يأخذه صاحبه قبل القسمة وبعدها، ويعطى مشتريه ثمنه من خمس المصالح، لأنه لم يزل عن ملك صاحبه، فوجب أن يستحق أخذه بغير شيء كما قبل القسمة، ويعطى من حسب عليه القيمة، لئلا يفضي إلى حرمان أخذ حقه من الغنيمة، وجعل من سهم المصالح لأن هذا منها، وهذا القول قد تقدمت الإشارة إليه في كلام شيخ الإسلام، وهذا الخلاف فيما بعد القسمة إنما هو فيما استولى عليه الكافر الأصلي، ثم غنمه المسلمون فقسموه على الغانمين، وهم لا يعلمون أنه مال مسلم، فالحكم منصب على المسألة بقيودها. وأما إذا تخلفت القيود أو بعضها، وجب الرجوع إلى الأصل، وهو رد مال المسلم بغير شيء; ففي المسألة أربعة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 390 قيود، يجب اعتبارها على القول المشهور، وهو أنه لا يأخذها صاحبها إذا قسمها المسلمون، أو اشتراها التجار من غنيمة المسلمين إلا بالقيمة أو الثمن، بخلاف ما إذا لم يقسم في غنيمة المسلمين، أو اشتراها التاجر من غير الغنيمة، فإنها ترد إلى مالكها الأول بغير شيء على القولين. وقد روى مسلم في صحيحه: "أن قوما أغاروا على سرح النبي صلى الله عليه وسلم فأخذوا ناقة وجارية من الأنصار، فأقامت عندهم أياما ثم خرجت في بعض الليل، قالت فما وضعت يدي على ناقة إلا رغت، حتى وضعتها على ناقة ذلول، فامتطيتها ثم توجهت إلى المدينة، ونذرت: إن نجاني الله عليها أن أنحرها، فلما قدمت المدينة استعرفت الناقة، فإذا هي ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذها، وقلت: يا رسول الله إني نذرت أن أنحرها، فقال: بئسما جازيتيها، لا نذر في معصية الله " وفي رواية " لا نذر فيما لا يملك ابن آدم " 1 وهذا الحديث من أقوى الأدلة: على أنهم لا يملكون مال المسلم بالاستيلاء ولا بالحيازة، والله أعلم. وقد يستأنس من أفتى في المسألة من غير تحقيق ولا تفريق، بأن المسلم إذا وجد عين ماله مع من اشتراه، من مرتد أو غيره، يأخذه بالثمن، ويعتمد في ذلك على ما نقله عن شيخ الإسلام، فيمن اشترى مال المسلم من التتر لما دخلوا الشام، إن لم يعرف صاحبه صرف في المصالح، وأعطى مشتريه ما اشتراه به، لأنه لم يصر لها إلا بنفقته، وإن   1 مسلم: النذر (1641) , والنسائي: الأيمان والنذور (3812 ,3849 ,3851) , وأبو داود: الأيمان والنذور (3316) , وأحمد (4/429) , والدارمي: النذور والأيمان (2337) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 391 لم يقصد ذلك، كما رجحه فيمن اتجر في مال غيره وربح انتهى; وهذا يفيد من تأمله: أن الشيخ لا يقول بأنهم يملكونها، لأن القول بالملك يقتضي أنها تكون لمن اشتراها منهم، وقد أفتى بأنها تكون في المصالح، إذا لم يعرف صاحبها، ولا تقر في يد من اشتراها منهم. وأما قوله: وأعطى مشتريه ما اشتراه به، لأنه لم يصر لها إلا بنفقته، فعلل إعطاءه الثمن بأنه لم يصر للمصالح إلا بنفقة المشتري، وهذا يخالف ما لو كان المالك موجودا، فإنه قد صار له قبل الأخذ والشراء، فلا يستحق المشتري عليه نفقة، لأنه لم يستفد هذا الشيء من جهته، بل يكون حكم يده حكم الأيدي المترتبة على يد الغاصب، وبما قررناه يظهر الجواب عن المسألة، وأنه لا يصح قياس ما جرى في هذه السنين، مما وقع من نهب البغاة والمرتدين والظالمين، على ما أخذه الكافر الأصلي من أموال المسلمين. وقد سئل شيخنا: الشيخ عبد الله رحمه الله في آخر حياته، عن هذه الأموال، فأفتى بأنها غصوب يحكم لها بحكم الغصب، وأفتى بذلك أيضا الشوكاني قاضي صنعاء، وما ظننت أن أحدا من المعروفين بالعلم يخالفهما، انتهى. وسئل الشيخ: عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين، رحمه الله: عن شراء نهب البدو ... إلخ؟ فأجاب: أما نهب البدو بعضهم بعضا: فالذي أرى عدم الجزء: 6 ¦ الصفحة: 392 الشراء منهم مطلقا، إذا تحقق أنه بعينه نهب، لاشتباه أمرهم. وقال أيضا رحمه الله: "مسألة" قال المجد: باب أن درك المبيع على البائع، إذا خرج مستحقا، عن الحسن عن سمرة، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من وجد عين ماله عند رجل فهو أحق به، ويتبع المبتاع من باعه " 1 رواه أحمد وأبو داود والنسائي وفي لفظ " إذا سرق من رجل متاع أو ضاع منه، فوجده بيد رجل بعينه فهو أحق به، ويرجع المشتري على البائع بالثمن " 2 رواه أحمد وابن ماجه. أقول: ما رأيت في كلام أحد من العلماء ما يخالف هذا الحديث، بل كل ما رأيت من كلامهم موافق لهذا الحديث، قال أحمد رحمه الله: أذهب إلى حديث سمرة يرفعه " من وجد متاعه عند رجل فهو أحق به، ويتبع المبتاع من باعه " 3 يرويه هشام عن موسى بن السائب، عن قتادة عن سمرة، قال: وموسى بن السائب ثقة، ولا يلتفت إلى قول من طعن في رواية الحسن عن سمرة، لاختلاف أئمة الحديث في سماع الحسن عن سمرة، فابن المديني يصحح سماعه عن سمرة، والترمذي يصحح حديثه عنه، والإمام أحمد لا يصحح سماعه عنه، ومع هذا يحتج بحديثه عنه في مواضع كثيرة، لأن المرسل عنده، وعند مالك وأبي حنيفة حجة، وعند الشافعي تفصيل في ذلك، فهو حجة ما لم يعارضه مثله، أو ما هو أقوى منه، ويقال: إن رواية الحسن من صحيفة، وهذا لا يقدح كما قرر ذلك العلامة ابن القيم رحمه الله أحسن تقرير.   1 أبو داود: البيوع (3531) , وأحمد (5/10) . 2 ابن ماجه: الأحكام (2331) . 3 البخاري: في الاستقراض وأداء الديون والحجر والتفليس (2402) , ومسلم: المساقاة (1559) , والترمذي: البيوع (1262) , والنسائي: البيوع (4676) , وأبو داود: البيوع (3519) , وابن ماجه: الأحكام (2358) , وأحمد (2/347) , ومالك: البيوع (1383) , والدارمي: البيوع (2590) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 393 ورأيت فتوى منسوبة إلى إسماعيل بن رميح، يقول: إن صاحب المتاع إذا وجد متاعه بيد المشتري من الغاصب ونحوه، أنه لا يستحقه حتى يدفع الثمن للمشتري، ورد على من خالف في ذلك، وخطأه، وهو المخطئ بلا شك، واستدل بقول الشيخ تقي الدين: ومن لم يخل مال غيره من التلف إلا بما أدى عنه، رجع به في أظهر قولي العلماء، ولم يلتفت الناقل لكلام الشيخ رحمه الله، إلى ما قبل هذه العبارة وما بعدها، حتى يتبين له معنى كلام الشيخ. وصورة كلام الشيخ في حكم المظالم المشتركة قال - بعد كلام سبق ـ: وكذلك من خلص مال غيره بما أدى عنه رجع به عليه مثل من خلص ماله من قطاع الطرق أو متول ظالم أو عسكر ظالم ولم يخلصه إلا بما أدى عنه، فإنه يرجع بذلك عليه وهو محسن إليه بذلك و {هَلْ جَزَاءُ الْأِحْسَانِ إِلَّا الْأِحْسَانُ} [سورة الرحمن آية: 60] وإن لم يكن مؤتمنا على ذلك المال، ولا مكرها على الأدى عنه، فإنه محسن إليه بذلك، فإذا خلص عشرة آلاف درهم بألف درهم، كان من المحسنين، فإذا أعطاه الألف كان قد أعطاه بدل قرضه، وبقي عمله وسعيه إحسانا إليه لم يجزه به، هذا أصوب قولي العلماء. ومن جعل مثل هذا متبرعا ولم يعطه شيئا، فقد قال منكرا من القول وزورا، وقد قابل الإحسان بالإساءة; ومن قال هذا هو المشروع الذي بعث الله به رسوله، فقد قال على الله الجزء: 6 ¦ الصفحة: 394 غير الحق، لكنه قول بعض العلماء، وخالفهم آخرون، انتهى; وقوله رحمه الله: ومن لم يخلص مال غيره هذا فيمن قصد التخليص لمال الغير، لا لمن قصد التملك. ورأيت في أثناء كلام شيخ الإسلام رحمه الله أنه قال: وأما معاملة التتار، فيجوز أن يبتاع الرجل من مواشيهم، كما يبتاع من مواشي التركمان والأكراد، وأنه إذا كان الذي معهم ومع غيرهم، أموال يعرف أنهم غصبوها من معصوم، لم يجز شراؤها لمن يتملكها، لكن إن شريت على طريق الاستنقاذ، لتصرف في مصارفها الشرعية - فتصرف إلى أصحابها إن أمكن، وإلا صرفت في مصالح المسلمين - جاز، انتهى. ورأيت فتوى له رحمه الله: سئل شيخ الإسلام عمن اشترى فرسا ثم ولدت عنده حصانا، وأخذ السلطان الفرس وأهدى الحصان إلى رجل وأعطاه عوضه ثم ظهرت الفرس أنها مكسوبة نهبا من قوم فهل يحرم ثمن الحصان؟ فأجاب: إن كان صاحب الفرس معروفا ردت إليه فرسه ورجع المشتري بالثمن على بائعه ورجع عليه بقيمة الحصان الذي يستحقه صاحبه لكونه غره وإن كانت مكسوبة من التتر أو الأعراب الذين يغير بعضهم على بعض، فيأخذ هؤلاء من هؤلاء وهؤلاء من هؤلاء ولم يعرف صاحبها لم يحرم على مهدي الحصان عوض هديته والله أعلم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 395 فقوله: إن كان صاحب الفرس معروفا ردت إليه فرسه ورجع المشتري بالثمن على بائعه، صريح في أنه لا شيء على صاحب الفرس وأنه لا يطالبه بالثمن الذي دفعه للبائع، وأنه إنما يطلبه من البائع، انتهى، ومشترى الفرس في هذه المسألة مغرور لم يعلم أنها منهوبة، كما يدل على ذلك حديث سمرة " من وجد متاعه " 1 ولم يفرق بين كون المشتري مغرورا، أو غير مغرور، ومن استدل على خلاف ذلك بما ذكره كثير من العلماء في حكم الغنيمة، أن المسلم إذا وجد ماله في الغنيمة من الكفار، إن كان قبل القسمة أحذه بغير شيء، وإن كان بعدها فله أخذه ممن هو بيده بقيمته; وكذلك إذا وجده بيد من اشترى من كافر، أنه يأخذه بالثمن الذي اشتراه به، فهذا بناء على أن الكفار يملكون أموال المسلمين بالاستيلاء عليها. وفي المسألة قولان للعلماء، هما روايتان عن الإمام أحمد، إحداهما أنهم يملكونها بالقهر والاستيلاء، وهو قول مالك وأبي حنيفة; والقول الآخر: أنهم لا يملكونها، بل هي باقية على ملك المسلم; وأصحاب هذا القول يقولون: إن المسلم إذا وجد ماله في الغنيمة، يأخذه بغير شيء ولو بعد القسمة، أو وجده في يد من اشتراه من الكفار، أخذه من المشتري بغير شيء يرجع به عليه، ومن المعلوم أن الغاصب ونحوه، لا يملك ما أخذه بإجماع المسلمين، ففي حكم الغنيمة حجة ظاهرة لتصحيح ما قلنا.   1 البخاري: في الاستقراض وأداء الديون والحجر والتفليس (2402) , ومسلم: المساقاة (1559) , والترمذي: البيوع (1262) , والنسائي: البيوع (4676) , وأبو داود: البيوع (3519) , وابن ماجه: الأحكام (2358) , وأحمد (2/474) , ومالك: البيوع (1383) , والدارمي: البيوع (2590) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 396 وأما من استدل على خلاف ذلك، بحديث "لا ضرر ولا إضرار " 1 فهو استدلال مردود، لأن في الاستدلال به على هذه المسألة دفع ضرر بضرر، ومن المعلوم أن صاحب المتاع المغصوب، إذا وجده بعينه، أقوى جانبا من المشتري الذي ماله في ذمة الغاصب فكيف ندفع ضرر من ماله في ذمة الغاصب، بتحميل الضرر من وجد ماله بعينه؟ فلو لم يكن في هذه المسألة حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا كلام للأئمة وأتباعهم، لم يكن في هذا الحديث دليل للمخالف بل هو على العكس أقرب وأقوى وقد روى ابن أبي شيبة: أن حذيفة عرف جملا له عند رجل، فخاصمه إلى قاض من قضاة المسلمين، فصارت على حذيفة اليمين، فحلف بالله الذي لا إله إلا هو، ما باع ولا وهب، وروي عن شريح قال: إذا شهد الشهود أنها دابته، أحلفه بالله ما أهلكت ولا أمرت مهلكا، فهذا صريح في دفع الدابة إلى صاحبها بلا دفع ثمن، لأنهم لم يذكروه. وأجاب أيضا: وأما من وجد ماله المسروق أو الضال ونحوه عند إنسان مشتريه، فلا أرى العدول عن العمل بالحديث الذي احتج به الأئمة أحمد وغيره، وهو حديث سمرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من وجد متاعه عند رجل فهو أحق به، ويتبع المبتاع " 2 ويعضد ذلك ما روى ابن أبي شيبة، عن ابن سيرين: أن حذيفة عرف جملا له عند إنسان، فخاصم فيه إلى قاض من قضاة المسلمين، فصارت على حذيفة يمين في القضاء، فحلف بالله الذي لا إله إلا هو ما باع ولا وهب;   1 مالك: الأقضية (1461) . 2 البخاري: في الاستقراض وأداء الديون والحجر والتفليس (2402) , ومسلم: المساقاة (1559) , والترمذي: البيوع (1262) , والنسائي: البيوع (4676) , وأبو داود: البيوع (3519) , وابن ماجه: الأحكام (2358) , وأحمد (2/347) , ومالك: البيوع (1383) , والدارمي: البيوع (2590) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 397 وروى ابن أبي شيبة عن شريح أنه قال: إذا شهد الشهود أحلفه بالله، ما أهلكت ولا أمرت مهلكا. وأما تضمين من نهب مال مسلم في هذه الحادثة 1 فالذي نعتقده: وجوب رده على صاحبه، وتضمينه إن تلف. وسئل أيضا: الشيخ عبد الله أبا بطين، عن مسلم له ثمرة أخذها جيرانه، يدعون أنهم اشتروها من رجل آخر اشتراها من عدو تغلب عليهم، من أمراء الأتراك المتغلبين على البلاد، وأقام صاحب الثمرة بينة: أن هذا الرجل الذي باعها على جيرانه، استوهبها من العدو المتغلب فوهبها له، والبينة تشهد بإقرار البائع لها، وكذلك تشهد البينة على إقرار المشترين، الذين باشروا أخذها من رءوس النخل ... إلخ؟ فأجاب: الحمد لله رب العالمين، لا بد من الكلام على أصل هذه المسألة، وهو ما حكم مال المسلم إذا استولى عليه الكفار، هل يملكونه بذلك أم لا؟ وفي المسألة قولان مشهوران للعلماء، هما روايتان عن أحمد، حكاهما أكثر الأصحاب؟ أحدهما: لا يملكونه بذلك، اختاره جماعة من الأصحاب، وهذا مذهب الشافعي، والرواية الأخرى: يملكونه وهو قول مالك وأبي حنيفة، فعلى هذا هل يملكونه بمجرد الاستيلاء؟ أو بالحيازة إلى دارهم؟ الثاني: قول أبى حنيفة، قال في القواعد الفقهية: وهو   1 هي: استيلاء الترك على بلاد نجد. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 398 المنصوص عن أحمد، قال في الفروع: نص عليه فيما بلغ به قبرص، يرد إلى صاحبه، ليس غنيمة ولا يؤكل، لأنهم لم يحوزوه إلى بلادهم، ولا إلى أرض هم الأغلب عليها، ولهذا قيل: أصبنا في قرب هرمز من متاع المسلمين، قال يعرف. وقال أبو العباس رحمه الله: لم ينص أحمد على الملك، ولا على عدمه، وإنما نص على أحكام أخذ منها ذلك، قال: والصواب أنهم يملكونها ملكا مقيدا، لا يساوي أملاك المسلمين من كل وجه، انتهى; ولهذا إذا وجدها صاحبها قبل القسمة أخذها مجانا. ومن فوائد الخلاف في هذه المسألة: أن من أثبت الملك للكفار من أموال المسلمين، أباح للمسلمين إذا ظهروا عليها قسمتها، والتصرف فيها، ما لم يعلموا صاحبها، وإن كان الكافر أسلم، وهي في يده فهو أحق بها، ومن لم يثبت الملك لم يجوز قسمتها، وتوقف إذا جهل ربها، ولربه أخذه بغير شيء حيث وجده، ولو بعد القسمة أو الشراء منهم، أو إسلام آخذه وهو معه، فيأخذه من مشتريه مجانا، فعلى القول بعدم الملك، ومقتضى اختيار أبي العباس: أن الثمرة المذكورة باقية على ملك صاحبها، يرجع بها مجانا على من هي بيده، ومقتضى هذا القول أيضا: أن صاحبها يضمنها من انتفع بها، إذا كانت تالفة، وعلى القول الثاني: يأخذها صاحبها ممن هي في يده مجانا، إن كان مُتَّهبا، وإن كان مشتريا أعطاه الثمن الذي اشتراها به. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 399 وإذا اختلف في كونه مشتريا، أو متهبا، وأقام من هي في يده بينة أنه مشتر، وأقام صاحب الثمرة بينة أنه أقر أنه متهب، فالظاهر تعارض البينتين، فيصيران كمن لا بينة لهما، ويكون القول قول صاحب الثمرة بيمينه، أن ما في يده متهب، لأنه غارم، كالمذهب فيمن اشترى أسيرا مسلما من الكفار بنية الرجوع، وتنازعا في قدر ما دفع فيه، أن القول قول الأسير، لأنه منكر زيادة، ولأنه غارم. وكلامهم هذا واختلافهم، إنما هو في الكفار الأصليين، وأما المرتدون: فكلامه رحمهم الله صريح في أن حكمهم ليس كذلك، وأنهم لا يملكون ما استولوا عليه من أموال المسلمين، لأنهم صرحوا أن المرتد إذا أسلم، وفي يده مال مسلم، أن صاحبه يأخذه مطلقا، ولم نرهم ذكروا في ذلك خلافا، وإنما تنازعوا في تضمينه ما أتلفه حال ردته، وفي تضمينه ذلك قولان، هما روايتان عن أحمد، المذهب منهما عند أصحابه الضمان، ومن لم يضمنه علل ذلك بأن في تضمينه تنفيرا له عن الإسلام، ولم يعللوه بأنه ملكه، وقد أجمعوا: أن الكافر الأصلي، لا يضمن ما أتلفه حال كفره، على القولين جميعا، أعني: ملكه لمال المسلم وعدمه، ولم نعلم بينهم نزاعا في أن المرتد إذا أسلم، يرد ما في يده من أموال المسلمين. واختلفوا في الأصلي إذا أسلم، هل ينْزع ما في يده من أموال المسلمين؟ فظهر من كلامهم الفرق بين الأصلي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 400 والمرتد، وأن المرتد لا يملك مال المسلم بالاستيلاء; وعلى هذا فمن انتقل إليه مال مسلم من مرتد، بقهر أو هبة أو شراء، فصاحبه أحق به إذا وجده بغير شيء. إذا ثبت ذلك: فهؤلاء الأعداء الذين استولوا على نجد وأهلها، من حكمنا بكفره منهم، فحكمه حكم المرتدين، لا الأصليين، لأن دارهم دار إسلام، وحكم الإسلام غالب عليها; وإن كان الشرك موجودا فيهم كثيرا، فهذا الذي نراه ونعتقده، والله أعلم. وأجاب الشيخ حسن بن حسين بن علي: إذا عرف رجل دابته عند رجل، فالذي نفتي به أن صاحبها يأخذها مجانا، ويرجع المشتري على من باعه مطلقا عرفه أم لا، هذا هو الذي قرره الشيخ عبد الله أبا بطين، في مسألة مشهورة له، صدرها بحديث سمرة الذي رواه عنه الحسن، ورواية الحسن عن سمرة حجة عند الإمام أحمد، ومن وافقه من العلماء، وأفتى به الشيخ عبد الرحمن بن حسن أخيرا، وأخبر أنه لا يزال ضرر المشتري بضرر المالك، لأن المالك أحق بدفع ضرره، لحديث " لا يزال الضرر بالضرر " ولفظ حديث سمرة " من وجد متاعه عند رجل أو قال عند مشتريه، فهو أحق به، ويتبع المبتاع من باعه " 1 وأبا بطين رحمه الله مسئول عن هذه المسألة، واستدل السائل بالحديث الذي في السنن، فقال هو لا يقاوم حديث سمرة في الصحة، وعمل الجمهور بحديث سمرة كاف في   1 البخاري: في الاستقراض وأداء الديون والحجر والتفليس (2402) , ومسلم: المساقاة (1559) , والترمذي: البيوع (1262) , والنسائي: البيوع (4676) , وأبو داود: البيوع (3519) , وابن ماجه: الأحكام (2358) , وأحمد (2/228 ,2/247 ,2/249 ,2/258 ,2/347 ,2/385 ,2/410 ,2/468 ,2/474 ,2/487) , ومالك: البيوع (1383) , والدارمي: البيوع (2590) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 401 الاحتجاج به، مع أن الحديث فيه عكرمة بن خالد، أو خالد بن عكرمة، انتهى كلامه. وقال: ما وقع في هذه السنين من النهب والظلم، يرد ما وجد منه إلى مالكه، من غير أخذ قيمة ولا ثمن، وحكم يد المشتري حكم الأيدي المترتبة على يد الغاصب; قلت إن كان عكرمة بن خالد بن سلمة، فقد قال البخاري فيه هو منكر الحديث، قاله في الخلاصة; وأما خالد بن عكرمة، فلم أجد له ذكرا فيها، وأما عكرمة بن خالد بن العاص فوثقة بن معين، انتهى، ثم إني نظرت فيها، فيمن روى عن أسيد بن حضير، فلم يذكر عكرمة بن خالد فيمن روى عنه، فلعل مراد الشيخ عبد الله أبا بطين، عكرمة بن خالد بن سلمة، انتهى. وقال الشيخ: حمد بن عتيق، وبعد: بلغني ما ساءني، وهو أنك تنكر على من اشترى من أموال أهل الإحساء، التي تؤخذ منهم قهرا، ولا ينكر مثل هذا إلا من يعتقد معتقد أهل الضلال، القائلين إن من قال لا إله إلا الله لا يكفر، ومن له مشاركة فيما قرره المحققون، قد اطلع على أن البلد إذا ظهر فيها الشرك، وأعلنت فيها المحرمات، وعطلت فيها معالم الدين، أنها تكون بلاد كفر، تغنم أموال أهلها، وتستباح دماؤهم. وأجاب الشيخ عبد اللطيف: الذي جاءكم مع اللصوص، هو من مال قحطان، ولا يخفاكم أن كثيرا من قحطان: يلتزم الأحكام في التحليل والتحريم، ويتحاشا من الجزء: 6 ¦ الصفحة: 402 الاعتداء إلا على من اعتدى عليه، ولا يعجبني أكل ما أخذ منهم على هذا الوجه; وأما نهائب الأعراب، التي لا يعرف حال أهلها، فلبعض أهل العلم كلام في جواز شرائها وتملكها، وأما استحباب اجتناب ذلك كله، فهو طريقة جمهور أهل العلم. وأجاب الشيخ محمد بن عبد اللطيف، والشيخ سليمان بن سحمان: إذا وجد المسلم ماله بعينه عند أحد، فإنه يأخذ ماله من المرتد، أو ممن انتقل إليه بعوض وغيره بغير شيء، لأن المرتد لا يملك مال المسلم بأمان ولا غيره، لأن إعطاءه الذمة إنما هو على ماله، لا على مال المسلم; والمرتد: هو الذي دخل في الإسلام، وصدر منه ناقض من نواقض الإسلام، من قول أو فعل، بخلاف الكافر الأصلي الذي لم يدخل في الإسلام أصلا، هذا مضمون كلام العلماء. وأجاب الشيخ: عبد الله بن عبد العزيز العنقري: الذي عرف ماله عند أخيه المسلم، وهو مأخوذ منه انتهابا، لا يخفى أن مثل هذا يأخذ ماله ممن وجده عنده، لأن العلماء رحمهم الله ذكروا أن الأيدي المترتبة على يد الغاصب عشر، كلها أيدي ضمان، ومنها: يد المشتري من الغاصب; إذا علم ذلك: فقد ذكر الشيخ عبد الله أبا بطين، وغيره من مشائخ هذه الدعوة، أن البدوي إذا عرف ماله عند حضري، قد اشتراه من بدوي آخر، ليس له انتزاعه منه، إذا كان كل من البدويين ينهب من الآخر; ومثل البدو اليوم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 403 فالذي أرى: أنه إن كان المال الذي عرفه عند أخيه المسلم، قد أخذه منه قبل أن يتوب عن حاله الأولى، فالظاهر أنه ما ينتزعه من أخيه المسلم، لأنه أخذه منه وهو في حال كل منهما يأخذ مال صاحبه، وإن كان المال أخذ بعد التوبة، فهو يأخذه ممن وجده عنده بغير بذل ثمن. سئل الشيخ: عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين: عن نهب البدو بعضهم بعضا، إذا عرف أحدهم منه شيئا عند الحضر ... إلخ؟ فأجاب: إذا عرف أحدهم ماله عند حضري، وثبت أنه منهوب منه بالبينة، فالذي نفتي به في أزمنة هذا الاختلاف: أنه يعطي المشتري ثمنه الذي دفع إليه، ويأخذ ماله إن لم يكونوا حربا للحضر، وقد أفتى بذلك غير واحد من متأخري الأصحاب. وسئل: عن قولهم من خلص مال غيره ... إلخ؟ فأجاب: قولهم إن من خلص مال غيره من هلكة، استحق أجرة المثل; قالوا: كما لو أخرجه من بحر، أو خلصه من فم سبع، أو وجده بمهلكة، بحيث يظن هلاكه في تركه، لأنه يخشى هلاكه وتلفه على مالكه، بخلاف اللقطة; وفيه حث وترغيب في إنقاذ الأموال من الهلكة، لكن لو قيل في هذه الأزمنة: إن من وجد حيوان غيره بمهلكة، بحيث يظن هلاكه بتركه فأنقذه بنية الرجوع على ربه بما غرمه، أو الجزء: 6 ¦ الصفحة: 404 بأجرة عمله، والحال إن لم يكتمه لم يكن بعيدا رجوعه; ولا يفهم من قولهم هذا: أن المشتري من الغاصب ونحوه يرجع بثمنه على المغصوب منه، إذا أخذ سلعته، لأنهم ذكروا هذه المسألة وفسروها بما ذكرنا، وذكروا أن المشتري من الغاصب يرجع بثمنه على من اشترى منه، لا على من عرف سلعته وأخذها، وهذا ظاهر. وقولهم: من خلص متاع غيره، من جملة ما تضمنه كلام الشيخ، في قوله: ومن لم يخلص مال غيره من التلف إلا بما أدى، رجع به في أظهر قولي العلماء، لأنه محسن، فقوله: لأنه محسن، مشعر بأن ذلك فيمن خلص مال غيره استنقاذا لصاحبه، لا ليتملكه، لأنه الذي يوصف بالإحسان; وأما الذي يشتري من الغاصب ونحوه للتملك، ويستعمل المبيع ويعجفه إن كان حيوانا، فهذا لا يوصف بأنه محسن; وأيضا الحديث المرفوع، الذي احتج به الإمام أحمد وغيره " من وجد متاعه عند إنسان فهو أحق به ويتبع المبتاع من باعه " 1 لا يجوز أن يعارض بقول أحد كائنا من كان. وأجاب الشيخ عبد الله العنقري: ودفع الشاة عن غنم إلى ذي يد قاهرة، تلزم جميع الغنم.   1 البخاري: في الاستقراض وأداء الديون والحجر والتفليس (2402) , ومسلم: المساقاة (1559) , والترمذي: البيوع (1262) , والنسائي: البيوع (4676 ,4677) , وأبو داود: البيوع (3519 ,3523) , وابن ماجه: الأحكام (2358 ,2359 ,2360) , وأحمد (2/347) , ومالك: البيوع (1382 ,1383) , والدارمي: البيوع (2590) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 405 سئل الشيخ: علي بن الشيخ حسين بن الشيخ رحمهم الله: عن رجل غصب شجرا ثم بايع به هل يضمن الغاصب غلة نخل من بايعه، كما ضمن نماء الغصب؟ فأجاب: هذا المغصوب من أفسد العقود; وقد ذكروا في العقد الفاسد، ما يبين أن لصاحب النخل أو الشجر، الرجوع على الغاصب، بما أخذ منه المالك، قال في الإقناع: ومنافع المقبوض بعقد فاسد كمنافع المغصوب، تضمن بالفوات والتفويت. وسئل: عن الأيدي المترتبة على يد الغاصب؟ فأجاب: الأولى، والثانية: يد المشترى منه، ويد المستعير; الثالثة: يد المستأجر; الرابعة، والخامسة: يد المتملك بلا عوض، ويد القابض بعقد أمانة، السادسة: يد المتزوج للأمة المغصوبة، إذا تزوجها وكانت بيده وماتت; السابعة: يد المتصرف في المال بما ينميه، كالمضارب والمزارع، إذا تلف بيد العامل ونحوه; الثامنة: يد القابض تعويضا، بأن يجعل المغصوب عوضا في نكاح، أو خلع أو إيفاء دين ونحوه; التاسعة: يد المتلف للمغصوب، نيابة عن الغاصب، كالذابح للحيوان المغصوب، يرجع بما ضمنه للمالك على الغاصب، إن لم يعلم بالحال; العاشرة: الغاصب من الغاصب، فالقرار على الثاني مطلقا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 406 وسئل أيضا رحمه الله: إذا استأجر رجل أرضا مغصوبة، هل يحرم عليه نصيبه؟ لتولده من الأرض المغصوبة؟ فأجاب: يد هذا العامل إحدى الأيدي المترتبة على يد الغاصب، وكلها أيدي ضمان، وقد مثلوا الثالثة بيد المستأجر; والسابعة بيد المساقي والمضارب والشريك، فأرجى هذه الأيدي: اليد العاشرة مما عدى التحريم والتغريم. سئل الشيخ: عبد الله أبا بطين: عن الوجهين المذكورين في ثمر ما غرسه الغاصب، هل هو للغاصب أو حكمه حكم الزرع؟ فأجاب: إن قلنا للغاصب، فلصاحب الأرض أجرة أرضه إلى حين يتسلمها، وإن قلنا حكمه حكم الزرع، واختار صاحب الأرض أخذه بنفقته، فالظاهر: أن ابتداءها في النخل ونحوه، من سقيه بعد جذاذه للسنة المستقبلة، إلى حين اختيار أخذه; وهذا الخلاف والحكم، إنما هو في ثمر ما غرسه الغاصب، وأما ثمر الشجر المغصوب، فهو لربه بغير خلاف; وأما إيجابهم الأجرة على من حبس حرا غصبا مدة لمثلها أجرة، فالذي يظهر أن مرادهم: كل من له منفعة يصح عقد الإجارة عليها، قال في شرح الإقناع معللا عدم ضمان غاصب الأمة مهرها، إذا حبسها عن النكاح، حتى فات نكاحها بسبب كبرها، قال: لأن النفع إنما يضمن بالتفويت، إذا كان مما الجزء: 6 ¦ الصفحة: 407 يصح المعاوضة عليه بالإجارة، والبضع ليس كذلك; وقد قالوا في العبد المغصوب: إذا كان ذا صنائع، لزم الغاصب أجرة أعلاها; قال بعضهم: فدل كلامهم أنه لو لم يحسن صنعة، لم يلزمه أجرة صنعة مقدرة، ولو حبسه مدة لا يمكن أن يتعلم فيها صنائع. وأما صفة: تقويم المريض إذا أتلفه متلف، فقال المجد في شرح الهداية: من استهلك على رجل زرعا أخضر، ضمن قيمته على رجاء السلامة والعطب; قال: وهذا مذهب مالك، وقياس مذهبنا في تقويم المريض، والجاني ونحوهما، انتهى; فظهر: أن صفة ذلك في تقويم المريض ونحوه، أن يقال: يساوي إذا كان ترجى حياته ويخاف موته، ثلاثين ريالا مثلا، وإن كان لا يخاف عليه الموت من ذلك المرض، يساوي خمسين مثلا، وإن كان لا ترجى سلامته يساوي مثلا عشرة، فإذا كان ترجى حياته ويخاف موته، صارت قيمته ثلاثين، فهي الواجب فيه، انتهى. سئل الشيخ: عبد الله بن الشيخ: إذا أفسدت دابة إنسان بالليل ملك الغير، ما كيفية الضمان؟ فأجاب: صفة التقويم في الزرع الأخضر ونحوه، أن ينظر أهل المعرفة ما نقص الزرع من الثمر، فيغرم له قيمة ذلك الناقص، هذا هو الذي يظهر من كلام الفقهاء. وأجاب الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن: الزرع إذا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 408 ضمن على المتلف، ينظر لقيمته إن كان سليما أو مريضا، كالعبد الجاني، فإن جنايته تتعلق برقبته، ويقوم إذا استغرقت الجناية قيمة رقبته بحسب حاله، إن صحيحا فصحيح، وإن مريضا فمريض; وبالجملة: فالضمان بحسب القيمة في المقومات، أو مثله في المثليات. فصل سئل الشيخ محمد رحمه الله: عمن في يده شيء لا يعرف مالكه؟ فأجاب: وإن اشتبه الحال على من وقع في يده شيء لا يعرف مالكه، فله التصدق بثمنه. وأجاب الشيخ عبد الله بن عبد العزيز العنقري: العدائل المجهول صاحبها، وهي المنائح، العلماء رحمهم الله قد ذكروا: أن المال المجهول صاحبه، يتصدق به صاحبه مضمونا، أو يدفعه إلى الحاكم; وقد أفتى الشيخ تقي الدين: أن الغاصب إذا تاب وهو فقير، جاز له الأكل مما بيده من المال المغصوب، مع معرفة المالك وعدمها، فقد يؤخذ منه أن المسؤول عنه، أولى بجواز أكل ما بيده من المذكور إذا كان فقيرا. سئل الشيخ: عبد الله بن الشيخ: عمن قطع السيل على ناس ودمر عليهم؟ فأجاب: يضمن ما دمر عليهم بسببه، والدابة المركوبة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 409 يضمن الراكب ما أتلفت، وأما التي لا تركب فهدر ما أتلفت، وما أتلفت البهيمة بلا سبب تعد من صاحبها، فهو هدر. وأما الأرض التي للعشرة، إذا سرح فيها واحد منهم مواشيه بغير إذنهم وخربت شيئا، لزمة غرامتة إذا كان في الليل، وأما في النهار فيلزم كل واحد منهم يحرس زرعه، أو يقسمون ويجعلون جدرانا. وأجاب الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن: على أهل الدواب أن يحفظوها ليلا، وما أكلته بالليل فهو مضمون لصاحبه بقيمته، وما أكلته نهارا فلا ضمان فيه، لأن الحفظ والحراسة في النهار على أهل المزارع والخضرة، إلا إن فتح صاحب الدابة لها بابا مغلقا، أو هدم جدارا وأدخلها، فيضمن حيئنذ. وأجاب الشيخ محمد بن مقرن: لا ينبغي للجار يضر بجاره، ففي النهار يحفظ أهل الأموال أموالهم، وفي الليل يضمن أهل المواشي ما أتلفت; والنخل الذي عليه جدار يحميه عن البقر، إذا دخلت فيه الغنم يحفظها أهلها، وكذلك الإبل إذا أفسدت ما هو محمي. سئل الشيخ: عبد الله بن الشيخ محمد رحمه الله: عن الصائل المعاند؟ فأجاب: دفعه بالأسهل فالأسهل، فإن اندفع بغير قتل لم يجز قتله، وإن لم يندفع إلا بالقتل، جاز قتله ودمه هدر. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 410 وأجاب الشيخ عبد الله أبا بطين: من قصد إنسانا بخشبة ونحوها ليضربه بها، فللمقصود دفعه بالأسهل، أو بالهرب عنه ما أمكنه، فإن لم يندفع بذلك، فله ضربه بما يندفع به، وأرجو أنه ما يضمن والحالة هذه. سئل بعضهم: هل يضمن مالك الضاري، من الدواب وغيره ما جناه؟ فأجاب: إذا علم المالك ذلك من طبعها بتجربة، وجب عليه حبسها، فإن لم يحبسها ضمن، حتى قيل: إن الإنسان إذا عرف أنه يعين الناس بعينه، وجب حبسه. وسئل بعضهم أيضا: عن البلد إذا كان بها حيوان كثير من بقر وغنم وغيره ويلحق أهل النخيل والزروع بإهمالها ضرر عظيم، وربما تسلط العدو الكافر بأشياء تضر المسلمين بإهمالها، فلما رأى ولي الأمر ذلك نبه بحفظها: إما أن تربطوا أدباشكم أو تجعلون لها راعيا يحفظها، ومن عصى وأهمل دبشته، تواني آمر بعقرها أدبا له، أيجوز ذلك أم لا؟ وإن اعترض معترض، وقال: على أهل الزرع حفظها بالنهار، وعلى أهل الدبش حفظها بالليل، ونحن غير طائعين في هذا، فبينوا لنا رحمكم الله؟ فأجاب: إن كان الأمر كما ذكر في السؤال، من خوف المضرة وعمومها، على أهل النخيل والحروث والزروع، من إتلاف زروعهم وفسادها، وضياع غرسهم وخرابه، من إهمال الجزء: 6 ¦ الصفحة: 411 الأدباش، فيجب على ولي الأمر: رفع الضرر وكف الأذى عن الناس، لما روى الحاكم بسنده عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لا ضرر ولا ضرار، من ضار ضره الله، ومن شاق شق الله عليه " 1 وعن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا ضرر ولا إضرار في الإسلام " 2. وعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ملعون من ضار مؤمنا أو مكر به " 3 قال الإمام الحافظ أبو الفرج: عبد الرحمن بن رجب رحمه الله في شرح الأربعين على هذا الحديث: إن الضرر نفسه منتف في الشرع، وإدخال الضرر بغير حق كذلك; وقيل، الضرر: أن يدخل على غيره ضررا بما ينتفع هو به، والضرار: أن يدخل على غيره ضررا بلا منفعة له به. فهذا يصرح: أن الواجب على الإمام، وولي الأمر أن يرفع الأشياء التي بها يحدث المضرة والفساد، لا سبب لم تحدث به مضرة على أحد، ورفع المضرة في هذه المسألة ممكن فعلها، بربطها، أو يجعل لها رعاة; والناس إذا أمرهم ولي الأمر بذلك لما يراه من الصلاح، وجب عليهم السمع والطاعة فيما يحبون، وفيما يكرهون، ومن عصاه استحق العقوبة. والمعترض بهذا الحديث: ليته تعلم قبل أن يتكلم أن معنى الحديث نوع، وهذا نوع آخر; فنحن نفتي وأئمتنا   1 ابن ماجه: الأحكام (2340) , وأحمد (5/326) . 2 مالك: الأقضية (1461) . 3 الترمذي: البر والصلة (1941) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 412 رحمهم الله بما أفتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم أن البهيمة إذا شذت من المرعى الذي جرت به العادة أنه يكون بالفلاة خارج البلد، وشذت عن الراعي، أن لا ضمان على مالكها، وأما إذا سيبها تلقاء الزروع وأهملها تخرب على الناس، فعليه الضمان ولو نهارا. وقال الحافظ بن رجب رحمه الله في شرح الأربعين على حديث النعمان بن بشير من سيب دابته ترعى بقرب زرع غيره فإنه ضامن لما أفسدته من الزرع لو كان نهارا، وهذا هو الصحيح، لأنه مفرط بإرسالها في هذه الحال، انتهى كلامه. حاصل الجواب: أن أهل البلدان إذا كان لهم ماشية تضر الزرع، والحرث، بإهمالها، ورأى الإمام رفع المضرة عن الناس بحفظها برد أو رعاة لها، لزمهم ذلك، ومن أبى استحق الأدب. والنبي صلى الله عليه وسلم لم ينه عن ربطها، ولا نهى أن يجعل لها رعاة، ولا أمر بتسييبها وإهمالها بين الزروع والنخيل، وإنما ذكر الحكم في الضمان أنه متعلق بفساد الليل، ونحن نقول بذلك، وأما ما يراه ولي الأمر من المصالح هذا نوع آخر، ولو ذهبنا نذكره لطال. ونحن نذكر للمسترشد من ذلك نوعين الأول: إذا كان لإنسان ابن مجنون، ومن المعلوم أن القلم قد رفع عنه، وحصل منه تعدي على الناس بضرب وغيره، فيلزم أباه أن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 413 يحفظه، ولا يقال: إنه رفع القلم عنه. الثاني: من له ولد أو غلام صغير، وتبين منه فجور وفساد، فعلى أبيه ووليه زجره وأدبه ومنعه من ذلك، وإن كان القلم قد رفع عنه. وبهذا يتبين لك أيها المسترشد: أن المنع من الفساد والمضرة غير الحكم، هذا نوع، وهذا نوع، ويتبين لك فساد قول المعترض: إن هؤلاء قد رفع القلم عنهم فلا تتعرضوهم، ولا تمنعوهم، وهذا باب واسع يتبين لك أن النبي صلى الله عليه وسلم أباح أشياء واستحبها، ولما رأى الخلفاء الراشدون عاقبتها الضرر والفساد نهوا عنها. منها: قوله صلى الله عليه وسلم "لا تمنعوا إماء الله مساجد الله " 1 وقد منعهن الخليفة الراشد عمر ولم ينكر، ومنها: أنه استحب الجمة واللمة من الشعر، وكانت مستحبة للرجال، وقد حلق عمر ذلك من رأس نصر بن حجاج، وطرده إلى البصرة لما تغزلت بحسنه النساء، وخشي من الضرر والفساد، ومنها: حكمه صلى الله عليه وسلم في شارب الخمر أربعين جلدة وقد زاد عمر أربعين فكان ثمانين جلدة ولم ينكره. ومنها: أن الطلاق على عهده صلى الله عليه وسلم الثلاث مجموعة واحدة، فلما رأى عمر رضي الله عنه أن الناس تتابعوا في ذلك أمضاه عليهم، فجعل الثلاث ثلاثا مُبِينة للمرأة من زوجها أدبا وعقوبة لهم، وهذا كله بحضرة الصحابة ولم ينكر.   1 البخاري: الجمعة (900) , ومسلم: الصلاة (442) , والنسائي: المساجد (706) , وابن ماجه: المقدمة (16) , وأحمد (2/16) , والدارمي: المقدمة (442) والصلاة (1278) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 414 فتأمل أيها المسترشد: أن الحكم يتغير بموجباته وأسبابه، والحكم نوع والسمع والطاعة نوع آخر، والأسباب التي كانت على عهده صلى الله عليه وسلم غير الأسباب التي كانت على عهد عمر، ولا تكن كمن قيل فيه: وكم عائبا قولا صحيحا ... وآفته من الفهم السقيم سئل الشيخ: محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى: عن حديث هند، وحديث " لا تخن من خانك " 1؟ فأجاب: هذه تسمى مسألة الظفر، فمن الناس من منع مطلقا، واستدل بقوله: " ولا تخن من خانك " 2 ومنهم من أباح مطلقا، واستدل بحديث هند، ومنهم من فصل، وقال: حديث هند له موضع، والآخر له موضع، فإن كان سبب الحق ظاهرا لا يحتاج لبينة، كالنكاح والقرابة، وحق الضيف، جاز الأخذ بالمعروف، كما أذن لهند، وأذن للضيف إذا منع أن يعقبهم بقدر قراه. وإن كان سبب الحق خفيا، وينسب الآخذ إلى خيانة أمانته، لم يكن له الأخذ وتعريض نفسه للتهمة والخيانة، ولعل هذا أرجح الأقوال، وبه تجتمع الأدلة، وأما إذا قدر على استيفاء حقه من مال الغاصب من غير أمانته، ولا يمكن رفعه إلى الحاكم، فلا أعلم في هذا بأسا، وقد أفتى به ابن سيرين، وقرأ قوله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [سورة النحل آية: 126] .   1 الترمذي: البيوع (1264) , وأبو داود: البيوع (3535) , والدارمي: البيوع (2597) . 2 أبو داود: البيوع (3534) , وأحمد (3/414) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 415 وأجاب ابنه: الشيخ عبد الله: إذا كان لرجل على آخر حق، وقدر له على مال، فهذه المسألة قد اختلف العلماء فيها على خمسة أقوال، وتسمى هذه المسألة مسألة الظفر، أحدها: أنه ليس له أن يخون من خانه، ولا يجحد من جحده، ولا يغصب من غصبه، وهذا ظاهر مذهب أحمد ومالك. والثاني: يجوز أن يستوفي قدر حقه إذا ظفر بماله، سواء ظفر بجنسه أو بغير جنسه، وفي غير الجنس يدفعه إلى الحاكم يبيعه، ويستوفي ثمنه منه; وهذا قول أصحاب الشافعي. والثالث: يجوز أن يستوفى قدر حقه إذا ظفر بجنس ماله، وليس له أن يأخذ من غير الجنس، وهذا قول أصحاب أبي حنيفة. والرابع: إن كان عليه دين لغيره، لم يكن له الأخذ، وإن لم يكن عليه دين فله، وهذا إحدى الروايتين عن مالك. والخامس: إن كان سبب الحق ظاهرا، كالنكاح والقرابة وحق الضيف، جاز للمستحق الأخذ بقدر حقه، كما أذن فيه النبي صلى الله عليه وسلم لهند أن تأخذ من مال أبي سفيان، ما يكفيها ويكفي بنيها، وكما أذن لمن نزل بقوم ولم يضيفوه، أن يعقبهم في مالهم بمثل قراه، كما في الصحيحين عن عقبة بن عامر، قال قلت للنبي صلى الله عليه وسلم إنك تبعثنا فننْزل بقوم لا يقرونا فما ترى؟ فقال لنا: " إن نزلتم بقوم فأمروا لكم بما ينبغي للضيف فاقبلوا، فإن لم يفعلوا فخذوا منهم حق الضيف الذي ينبغي لهم " 1.   1 البخاري: المظالم والغصب (2461) والأدب (6137) , ومسلم: اللقطة (1727) , وأبو داود: الأطعمة (3752) , وابن ماجه: الأدب (3676) , وأحمد (4/149) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 416 وإن كان سبب الحق خفيا، بحيث يتهم بالأخذ والنسب إلى الخيانة ظاهرا، لم يكن له الأخذ، وعرض نفسه للتهمة والخيانة، إن كان في الباطن آخذ حقه، كما أنه ليس له أن يتعرض للتهمة التي تسلط الناس على عرضه، وإن ادعى أنه محق غير متهم، قال ابن القيم رحمه الله: وهذا القول أصح الأقوال وأسدها، وأوفقها للشريعة، وبه تجتمع الأحاديث. فإنه قد روى: أبو داود في سننه، من حديث يوسف بن ماهك، قال: كنت أكتب لفلان نفقة أيتام كان وليهم، فغالطوه بألف درهم فأداها إليهم، فأدركت له من أموالهم مثلها، فقلت اقبض الألف الذي ذهبوا به منك، قال: لا، حدثني أبي، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك " 1 وهذا وإن كان في حكم المنقطع، فإن له شاهدا من وجه آخر، وفي المسند عن بشير بن الخصاصية، أنه قال: "يا رسول الله: إن لنا جيرانا لا يدعون لنا شاذة ولا فاذة إلا أخذوها، فإذا قدرنا لهم على شيء أنأخذه؟ قال: أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك". فهذه الأحاديث: تبين أن المظلوم في نفس الأمر، إذا كان ظلمه غير ظاهر، وقدر على مال لمن ظلمه وأخذه خيانة، لم يكن له ذلك، وإن كان هو يقصد أخذ نظير حقه، لكن خان الذي ائتمنه، فإنه إذا سلم إليه ماله، فأخذ بعضه بغير إذنه ولا باستحقاق ظاهر كان خائنا، وإن قال أنا مستحق في   1 الترمذي: البيوع (1264) , وأبو داود: البيوع (3535) , والدارمي: البيوع (2597) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 417 نفس الأمر لما أخذته، لم يكن له ما ادعاه ظاهرا معلوما، وصار كالمتزوج امرأة فأنكرت نكاحه، ولا بينة، فإذا قهرها على الوطء من غير حجة ظاهرة، فإنه ليس له ذلك، ولو قدر أن الحاكم حكم على رجل بطلاق امرأته ببينة اعتقد صدقها، وكانت كاذبة في الباطن، لم يكن له أن يطأها لما يعلم في الباطن. فإن قيل: هذا ليس بخيانة بل هو استيفاء حق، والنبي صلى الله عليه وسلم نهى عن خيانة من خان، وهو أن يأخذ من ماله ما لا يستحق نظيره. فأجاب شيخ الإسلام رحمه الله عن هذا السؤال، بأن قال: هذا ضعيف لوجوه; أحدها: أن الحديث فيه "أن قوما لا يدعون لنا شاذة ولا فاذة إلا أخذوها، أفنأخذ من أموالهم بقدر ما يأخذون منا؟ فقال: لا" الثاني: أنه قال: " ولا تخن من خانك " 1 ولو أريد بالخيانة الأخذ على طريق المقابلة، لم يكن فرقا بين من خانه ومن لم يخنه، وتحريم مثل هذا ظاهر، ولا يحتاج إلى بيان وسؤال، وهو قوله: " ولا تخن من خانك " 2 فعلم أنه أراد أنك لا تقابله على خيانته، فتفعل به مثل ما فعل بك، فإذا أودع الرجل الرجل مالا فخانه في بعض، ثم أودع الأول نظيره فأراد أخذ ماله منه، فهذا هو المراد بقوله: " ولا تخن من خانك " 3. الثالث: أن كونه خيانة لا ريب فيه، وإنما الشأن في جوازه على وجه القصاص، فإن الأمور منها ما يباح القصاص   1 أبو داود: البيوع (3534) , وأحمد (3/414) . 2 أبو داود: البيوع (3534) , وأحمد (3/414) . 3 أبو داود: البيوع (3534) , وأحمد (3/414) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 418 فيه، كالقتل وقطع الطريق وأخذ المال، ومنها: ما لا يباح فيه القصاص، كالفواحش والكذب ونحو ذلك، قال الله تعالى في الأول: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [سورة الشورى آية: 40] وقال: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [سورة النحل آية: 126] فأباح الاعتداء والعقوبة بالمثل، فلما قال صلى الله عليه وسلم هنا " ولا تخن من خانك " 1 علم أن هذا مما لا يباح فيه العقوبة بالمثل، والله أعلم; فإذا تقرر هذا: عرفت أن الصواب في المسألة، ما رجحه الشيخ تقي الدين وابن القيم رحمهما الله فيما تقدم، وهذا هو الموافق لقواعد الشرع. وأجاب الشيخ حسين بن الشيخ محمد: وأما مسألة الظفر، فإن كان سبب الحق ظاهرا، جاز له أن يأخذ قدر حقه. وسئل الشيخ: عبد الرحمن بن حسن: عن حديث عمران بن حصين، في قصة العقيلي الذي قال للنبي صلى الله عليه وسلم "بم أخذتني، وأخذت سابقة الحاج؟ فقال: أخذتك بجريرة حلفائك ثقيف " 2. فأجاب: الحديث أخرجه الإمام أحمد ومسلم، وأبو داود والنسائي، وها أنا أسوق رواية أحمد في مسنده: حدثنا إسماعيل عن أيوب، عن أبي قلابة عن أبي المهلب، عن عمران بن حصين، قال: "كانت ثقيف حلفاء لبني عقيل، فأسرت ثقيف رجلين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسر   1 أبو داود: البيوع (3534) , وأحمد (3/414) . 2 مسلم: النذر (1641) , وأبو داود: الأيمان والنذور (3316) , وأحمد (4/430) , والدارمي: السير (2505) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 419 أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا من بني عقيل، وأصيبت معه العضباء، فأتى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في الوثاق، فقال: يا محمد يا محمد يا محمد، فقال: ما شأنك؟ فقال: بم أخذتني؟ وأخذت سابقة الحاج؟ إعظاما لذلك، فقال: أخذت بجريرة حلفائك ثقيف ثم انصرف عنه، فقال: يا محمد يا محمد، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم رحيما رفيقا، فأتاه فقال: ما شأنك؟ فقال إني مسلم، قال: لو قلتها وأنت تملك أمرك، أفلحت كل الفلاح ثم انصرف عنه، فناداه يا محمد يا محمد، فأتاه فقال: ما شأنك؟ فقال: إني جائع فأطعمني، وظمآن فأسقني، قال: هذه حاجتك؟ قال ففدي بالرجلين. وأسرت امرأة من الأنصار، وأصيبت معها العضباء، فكانت المرأة في الوثاق، فانفلتت ليلة من الوثاق، فأتت الإبل، فجعلت إذا دنت من البعير رغا فتتركه، حتى انتهت إلى العضباء فلم ترغ، قال: وهي ناقة منوقة، فقعدت في عجزها وزجرتها فانطلقت، ونذروا بها وطلبوها فأعجزتهم، ونذرت: إن الله نجاني عليها لأنحرنها، فلما قدمت المدينة رآها الناس، فقالوا العضباء ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: إني نذرت إن الله نجاني عليها لأنحرنها، فأتوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكروا ذلك له، فقال: سبحان الله بئسما جازتها، إن الله سبحانه وتعالى أنجاها لَتنحرها، لا وفاء لنذر في معصية الله، ولا فيما لا يملك العبد " ولأبي داود: ابن آدم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 420 قال النووي رحمه الله: في شرحه: قوله صلى الله عليه وسلم " أخذت بجريرة حلفائك " 1 أي: بجنايتهم، قوله صلى الله عليه وسلم " لو قلتها وأنت تملك أمرك، أفلحت كل الفلاح " 2 معناه: لو قلت كلمة الإسلام قبل الأسر، حين كنت مالك أمرك، أفلحت كل الفلاح، لأنه لا يجوز أسرك لو أسلمت قبل الأسر، فكنت فزت بالإسلام وبالسلامة من الأسر، ومن الاغتنام; وأما إذا أسلمت بعد الأسر، فيسقط الخيار في قتلك، ويبقى الخيار بين الاسترقاق، والمن والفدى; وفي هذا جواز المفاداة، وأن إسلام الأسير لا يسقط حق الغانمين منه، بخلاف ما لو أسلم قبل الأسر، انتهى. فليس في الحديث دليل على أن المسلم يؤخذ بجناية غيره أو حق عليه، بخلاف الكافر فإنه يؤخذ ويغنم ماله لكفره، ولو كان من قوم معاهدين، إذا نقضوا العهد، كحال هذا الرجل العقيلي، فإنه لما قال إني مسلم، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم " لو قلتها وأنت تملك أمرك، أفلحت كل الفلاح " 3 وهو صريح في أن هذا الرجل لم يكن قبلُ مسلما. وفي الحديث أيضا: ما يدل على ذلك، وهو قوله: "ففدى الرجل بعد بالرجلين" فتأمله فإنه ظاهر بحمد الله، والحديث لا علة له; قال الحافظ المنذري: وأخرجه مسلم والنسائي بطوله، وأخرج الترمذي منه طرفا، وأخرج النسائي وابن ماجه منه طرفا، انتهى كلامه رحمه الله; وقد ذكرنا في أول الحديث ما وقفنا عليه من مخرجيه، واتحفنا السائل بسياق الإمام أحمد رحمه الله.   1 مسلم: النذر (1641) , وأبو داود: الأيمان والنذور (3316) , وأحمد (4/430) , والدارمي: السير (2505) . 2 مسلم: النذر (1641) , وأبو داود: الأيمان والنذور (3316) , وأحمد (4/430) , والدارمي: السير (2505) . 3 مسلم: النذر (1641) , وأبو داود: الأيمان والنذور (3316) , وأحمد (4/430) , والدارمي: السير (2505) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 421 وقال ابنه الشيخ: عبد اللطيف: سألت والدي رحمه الله عما يفعله بعض الأمراء بنجد، من أخذ ابن العم بجريرة ابن عمه، أو غير ابن عمه من الأصول والفروع، هل له مستند شرعي؟ أو لا مستند له؟ فأجاب: اعلم وفقك الله أن أهل نجد، كانوا قبل ظهور هذه الدعوة الإسلامية فيهم، بأسوأ حال; أما الأعراب: فلا يلتفت أحد منهم لشريعة الإسلام، لا في العبادات ولا في غيرها من الأحكام، ولا في الدماء ولا في الأموال، ولا في النكاح ولا في الطلاق، والمواريث وغير ذلك; وكانوا في شر عظيم فيما بينهم من الحروب، كل طائفة تقاتل الأخرى وتستحل دماءها وأموالها، والحضر عندهم في غاية الذل، يأخذون المال منهم كرها. فلما من الله بهذه الدعوة وأقام الجهاد، أجلبوا كلهم على محاربة من دعاهم إلى الإسلام، والتزام شرائعه وأحكامه، فحصل التأييد من الله لمن قام بدينه، فجاهدوا الأعراب وغيرهم على طاعة ربهم والتزام ما شرعه، فبقوا على جهاد الأعراب، كلما أسلمت قبيلة جاهدوا بها الأخرى، فما زالوا يجاهدونهم على أن يسلموا ويصلوا ويزكوا، وأكثرهم ألقى السلم لأهل الإسلام، لكن بقي من البغي والظلم والعدوان، على من قدروا عليه واستضعفوه، ممن دخل فيما دخلوا فيه من الإسلام، فكل من نهب أو قطع طريقا، أو قتل استند إلى قبيلة، فلا يقدر أحد من ولاة الأمر أن يأخذ الحق الجزء: 6 ¦ الصفحة: 422 منه والحالة هذه. فلو تركوا رأسا ولم ينظر إلى جنايتهم، ونظر إلى جناية المباشر فقط، لفهم يفهمه بعض القاصرين، من حديث: " لا يجني جان إلا على نفسه " 1 لضاعت حقوق الناس ودماؤهم وأموالهم، وعطلت القواعد الشرعية، وقصر بالحديث عما يتناوله، ويدل عليه عند إمعان النظر، فعلى قدر ما أحدثوا من البغي، والظلم والعدوان والتعاون على ذلك، ساغ للأئمة أن يحبسوا ابن العم في ابن عمه، ليقوم بأداء ما وجب عليه من الحق والطاعة في المعروف من نصرة المظلوم، وإغاثة الملهوف والبراءة من المحاربين وقطاع الطريق، ومثل هذه القبائل: لما تركوا ما وجب من أمر الشرع مع القدرة على القيام، ورضوا محاربة الله ورسوله، ساغ للأئمة ما ذكر، وما لم يتم الواجب إلا به فهو واجب. وأيضا: فلو خلوا بين أهل الإسلام، وبين هذا الجاني من أبناء عمهم، لتمكن المظلوم من أخذ حقه ورد مظلمته، فهم قد آووا محدثا، وفي الحديث: " لعن الله من آوى محدثا " 2 وفي الحقيقة: هذا إحسان إلى القبيلة، وسبب لتخليصهم من ارتكاب ما حرم عليهم، وهذا الذي أخذ في ابن عمه، لم يقصد ماله، بل حبس لأخذ ما بيد مولاه الذي هو ابن عمه. وبالجملة: فهذا من أسباب صلاح الناس وصيانتهم،   1 الترمذي: الفتن (2159) , وابن ماجه: المناسك (3055) . 2 مسلم: الأضاحي (1978) , والنسائي: الضحايا (4422) , وأحمد (1/108 ,1/118 ,1/152) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 423 وهذا الذي ذكرناه هو الذي تأوله الأئمة، وظهرت مصلحته، وقَلَّت مفسدته، والذي أخذ النبي صلى الله عليه وسلم ناقته العضباء، قال له: لم تأخذ سابقة الحاج؟ فقال: " أخذتها بجريرة حلفائك من ثقيف " 1 أو كما قال صلى الله عليه وسلم قلت: فظهر من هذا البيان الذي أفاده شيخنا، أنه حكم خاص بأهل القوة والنصرة، بخلاف المستضعف الذي لا قدرة له ولا جناية، ولا مصلحة في حبسه ولا يؤبه له عند قبيلته، فعلى الحاكم إمعان النظر في جلب المصالح ودفع المفاسد. ثم ذيل على ذلك ذيلا، فقال رحمه الله: ما قاله شيخنا ووالدنا حفظه الله، في أسر ابن العم في ابن عمه لمصلحة، فهو الحكم العدل، وهو الذي عليه أكثر السلف، فإن الرجل إذا قطع السبيل وأخافه وامتنع بنفسه، وترك من يؤويه وينصره، صار قوة له وإعانة له على ظلمه، فإن أخذ بجريرته وأسر فيه، حصل له فيه ودع وامتناع، وهذا يعلم بالاضطرار. قال الخطابى في شرح سنن أبي داود، في باب النذر فيما لا يملك ابن آدم، حدثنا سليمان بن حرب، ومحمد بن عيسى قالا حدثنا حماد، عن أيوب عن أبي قلابة عن أبي المهلب، عن عمران بن حصين قال: " كانت العضباء لرجل من بني عقيل، وكانت من سوابق الحاج قال فأسر فأتى به النبي صلى الله عليه وسلم وهو في وثاق، والنبي صلى الله عليه وسلم على حمار عليه قطيفة، فقال: يا محمد علام تأخذني، وتأخذ سابقة الحاج، قال: آخذك بجريرة حلفائك من ثقيف. وكانت ثقيف قد أسروا   1 مسلم: النذر (1641) , وأبو داود: الأيمان والنذور (3316) , وأحمد (4/430) , والدارمي: السير (2505) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 424 رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم" قال الشيخ: قوله: " آخذك بجريرة حلفائك من ثقيف " اختلفوا في تأويله، فقال بعضهم: هذا يدل على أن بني عقيل عاهدوا، أن لا يتعرضوا للمسلمين، ولا أحد من حلفائهم، فنقض حلفاؤهم العهد، ولم ينكره بنو عقيل، فأخذوا بجريرتهم; وقال آخرون: هذا الرجل كافر لا عهد له، وقد يجوز أخذه وأسره وقتله، فإذا جاز أن يؤخذ بجريرة نفسه وهي كفره، جاز أن يؤخذ بجريرة غيره، ممن كان على مثل حاله من حليف وغيره، ويحكى معنى هذا عن الشافعي. وفيه وجه ثالث، وهو: أن يكون في الكلام إضمار، يريد أنك إنما أخذت ليدفع بك جريرة حلفائك، ويفدوا بك الأسيرين الذين أسرتهم ثقيف، ألا تراه يقول: ففدى الرجل بعد بالرجلين انتهى، فتأمل هذا فإنه يدلك على صواب الحكم; والآية وهي قوله تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [سورة الأنعام آية: 164] ليس فيها ما يدفع هذا ولا يرده. سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: إذا قال لا تعطه قبلي ... إلخ؟ فأجاب: لم أر في هذه المسألة نصا، ومقتضى أصولهم: أنه لا يلزم المقول له إبقاء ما عنده، فإذا أعطى صاحب الحق حقه، لم يكن ضامنا ولا محالا عليه، ومقتضى قوله صلى الله عليه وسلم " أد الأمانة إلى من ائتمنك " 1 وجوب الدفع إلى   1 الترمذي: البيوع (1264) , وأبو داود: البيوع (3535) , والدارمي: البيوع (2597) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 425 المستحق حقه، ولا يمنعه حقه بمجرد قول إنسان لا تعطه، وقد يثبت لهذا القائل حق وقد لا يثبت، ولكن ينبغي للمدعي رفع الأمر للحاكم إن كان ثم حاكم، وينظر الحاكم فيه بمقتضى الشرع، إن رأى الحاكم القضاء على الغائب قضى للمدعي بما ادعى به، وإن أمكن إحضار المدعى عليه أحضره مع خصمه ونظر في أمرهما، هذا ما ظهر لي، والله أعلم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 426 باب الشفعة سئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: هل تثبت الشفعة بالشركة في الطريق والبئر؟ والشركة في السيل؟ فأجاب: تثبت للجار إذا كان شريكا في الطريق والبئر، ولا تثبت الشفعة بالشركة في الجدار، ولا بالشركة في السيل. وسئل ابنه الشيخ عبد الله: إذا لم يكن بينهما إلا شركة في البئر، فهل تثبت الشفعة. فأجاب: إذا لم يكن بينهما إلا شركة في البئر خاصة، فالصحيح من أقوال العلماء والمفتى به عندنا: أن للشريك الشفعة، كما هو اختيار الشيخ ابن تيمية وغيره من العلماء، وإذا اشترى رجل أرضا ليس لشريكه فيها شركة، لا في ماء ولا في طريق، ليس له فيها شفعة. وأجاب أيضا: قولك هل تثبت الشفعة بالشركة في البئر والطريق ومسيل الماء؟ فالمفتى به عندنا أنها تثبت بذلك، كما الجزء: 6 ¦ الصفحة: 426 هو اختيار الشيخ تقي الدين وغيره من العلماء. وأجاب أيضا: وأما الجار إذا كان شريكا لجاره في طريق وليس لغيرهما فيه شركة، ففي الشفعة خلاف، والمشهور الراجح أن له الشفعة، وهو المفتى به عندنا، وهو اختيار الشيخ تقي الدين. وأجاب أيضا: إذا باع شريك في مسيل حقه، وأراده شريكه بالشفعة جاز، وأما شفعة الجوار ففيها خلاف بين العلماء، ولا عادتنا نفتي بلزوم الشفعة فيها، إلا إذا كان فيها شركة من طريق أو ماء. وسئل الشيخ: محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف: عن ثبوت الشفعة بالشركة بالسيل: فأجاب: المذهب عدم ثبوت الشفعة بالطريق، والسيل مثله، واختيار الشيخ التشفيع بمرافق الأملاك، من الطرق والبئر والسيل، وهو الذي عليه الفتوى عند أئمة هذه الدعوة، لحديث " الجار أحق بشفعة جاره، ينتظر بها وإن كان غائبا، إذا كان طريقهما واحدا " 1 ولمفهوم حديث: " فإذا وقعت الحدود، وصرفت الطرق، فلا شفعة " 2 وهو الذي نفتي به، انتهى. سئل الشيخ: حمد بن ناصر، على القول بإثبات الشفعة بالشركة في الطريق، هل إذا باع عقاره وقد وقعت الحدود إلا أن الشركة باقية في البئر، والطريق ومسيل الماء، هل   1 أبو داود: البيوع (3518) . 2 البخاري: البيوع (2213) , والترمذي: الأحكام (1370) , وأبو داود: البيوع (3514) , وابن ماجه: الأحكام (2499) , وأحمد (3/296 ,3/399) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 427 يأخذ المبيع كله ... إلخ؟ فأجاب: على القول بإثبات الشفعة بالشركة في البئر والطريق، يأخذ الشفيع المبيع كله، بالشركة في البئر والطريق، ولا يختص ذلك في البئر نفسها، ولا بالطريق وحده، وقد نص على ذلك أحمد في رواية أبي طالب، فإنه سأله عن الشفعة لمن هي؟ قال: للجار إذا كان الطريق واحدا، فإذا صرفت الطرق، وعرفت الحدود فلا شفعة، ويدل على ذلك: ما رواه أهل السنن الأربعة، من حديث جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " الجار أحق بشفعة جاره، ينتظره بها وإن كان غائبا، إذا كان طريقهما واحدا " 1 وفي حديث جابر المتفق عليه " الشفعة في كل ما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق، فلا شفعه " 2 فمفهوم الحديث الآخر، موافق لمنطوق الأول، بإثبات الشفعة إذا لم تصرف الطرق، والشركة في البئر تقاس على الشركة في الطريق، لأن الشفعة إنما شرعت لإزالة الضرر عن الشريك، ومع بقاء الشركة في البئر والطريق، يبقى الضرر بحاله، وهذا اختيار الشيخ تقي الدين، وهو الذي عليه الفتوى. وأما الشفعة فيما لم ينقل وليس بعقار، كالشجر إذا بيع مفردا ونحو ذلك، فاختلف العلماء في ذلك، والمشهور في المذهب أنها لا تثبت فيه، وهو قول الشافعي وأصحاب   1 الترمذي: الأحكام (1369) , وأبو داود: البيوع (3518) , وابن ماجه: الأحكام (2494) , وأحمد (3/303) , والدارمي: البيوع (2627) . 2 البخاري: الشفعة (2257) , والترمذي: الأحكام (1370) , وأبو داود: البيوع (3514) , وابن ماجه: الأحكام (2499) , وأحمد (3/296 ,3/399) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 428 الرأي، وعن أحمد رواية أخرى: أن الشفعة تثبت في البناء والغراس، وإن بيع مفردا، لعموم قوله صلى الله عليه وسلم " الشفعة فيما لم يقسم " 1 ولأن الشفعة تثبت لدفع الضرر، والضرر فيما لم يقسم أبلغ منه فيما ينقسم، وقد روى الترمذي من حديث عبد العزيز بن رفيع، عن ابن أبي مليكة عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " الشريك شفيع، والشفعة في كل شيء " 2 وقد روى مرسلا، وقد رواه الطحاوي من حديث جابر مرفوعا، ولفظه: " قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل شيء ". وسئل أيضا: هو، والشيخ عبد الله بن الشيخ محمد رحمهم الله تعالى: عن الشفعة في أرض لا تمكن قسمتها إجبارا. فأجاب: هذه المسألة اختلف الفقهاء فيها، وفيها قولان للعلماء هما روايتان عن أحمد; الأولى: أن الشفعة لا تثبت إلا في المبيع الذي تمكن قسمته، فأما ما لا تمكن قسمته من العقار كالحمام الصغير، والعضادة، والطريق الضيق، والعرص الضيقة، فلا شفعة فيه، وبه قال يحيى بن سعيد وربيعة والشافعي، وهذا هو المذهب عند المتأخرين من الحنابلة، قال الموفق في المغنى: وهو ظاهر المذهب، لما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا شفعة في فناء ولا في طريق ولا في منقبة" والمنقب الطريق الضيق، رواه أبو الخطاب في رؤوس المسائل.   1 أبو داود: البيوع (3514) , وابن ماجه: الأحكام (2497) , وأحمد (3/296 ,3/372) , ومالك: الشفعة (1420) . 2 الترمذي: الأحكام (1371) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 429 والرواية الثانية: تثبت الشفعة فيه، وهو قول أبي حنيفة والثوري وابن سريج، ورواية عن مالك، واختاره ابن عقيل وأبو محمد الجوزي، والشيخ تقي الدين، قال الحارثي: وهو الحق، لعموم قوله عليه السلام " الشفعة فيما لم يقسم " 1 وسائر الألفاظ، ولأن الشفعه تثبت لإزالة الضرر بالمشاركة، والضرر في هذا النوع أكثر، لأنه يتأبد ضرره، وهذا هو المفتى به عندنا، وهو الراجح. وأجاب الشيخ عبد الله أبا بطين: في هذه المسألة عن الإمام أحمد روايتان، إحداهما- وهي المذهب عند أكثر الأصحاب - لا تجب الشفعة إلا فيما يقسم قسمة إجبار، فلا تجب في الدار الضيقة والبئر ونحو ذلك، لحديث جابر مرفوعا: " أنه قضى بالشفعة في كل ما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة " 2 قالوا: والحدود إنما تقع فيما يقبل القسمة، فإذاً تقدير الحديث: الشفعة في كل شيء يقبل القسمة ما لم يقسم، والرواية الثانية: ثبوت الشفعة في ذلك، اختارها ابن عقيل والشيخ تقي الدين وغيرهما; قال الحارثي: وهو الحق; وروى عبد الله بن أحمد عن عبادة مرفوعا: " أنه قضى بالشفعة بين الشركاء في الدور والأرضين " 3. سئل الشيخ: محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: هل الأحق بالشفعة شريك البئر، أو النخل؟ فأجاب: ومسألة الشريك في البئر ليس له شفعة، بل الشفعة للشريك في النخل.   1 أبو داود: البيوع (3514) , وابن ماجه: الأحكام (2497) , وأحمد (3/296 ,3/372) , ومالك: الشفعة (1420) . 2 البخاري: الشفعة (2257) , وأبو داود: البيوع (3514) , وابن ماجه: الأحكام (2499) , وأحمد (3/296) . 3 أحمد (5/326) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 430 وأجاب الشيخ عبد الرحمن بن حسن: شريك الأصل أحق من شريك المصالح، ما لم يترك الطلب بها بغير خلافً نصَّ عليه في المغنى والشرح، والإنصاف وغيرها. وأجاب أيضا: وأما الشفعة بالمصالح، كالطريق والسيل ونحوه، فشريك الأصل مقدم عليه، أي: على الشريك في المصالح مطلقا، لأن شريك الأصل في الشفعة مما لا نزاع فيه بين العلماء فيما أعلم. وأما مسألة: زيادة المشتري في الثمن، لعلمه أنّ الشريك يشفع، فلا بأس بذلك؟ إذا كان راغبا في الشراء، ولا يكون هذا إضرارا، إن شاء أخذ وإن شاء ترك، لكن يشترط أن يكون الأخذ فورا، فإن تراخى عن الأخذ بطلت شفعته، انتهى. وسئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب: هل الشفعة على الفور؟ فأجاب: هي على الفور، إذا لم يطالب بها من حين يخبر بالبيع، فليس له شفعة. وسئل الشيخ: عبد الله بن حمد الحجازي: عمن أخبر بالشراء فلم يشفع، وشهد عليه عدل ثم طلب الشفعة وجحد علمه السابق بها؟ فأجاب: خبر العدل الثقة يقبل، لكن إن كان المخبر الجزء: 6 ¦ الصفحة: 431 منبها بطلب الشفعة في الحال، وسعى إلى المشتري ليدفع إليه ثمنه، إن أمكنه ذلك ثبتت الشفعة، وإن كان غائبا أو مريضا أو غير ذلك من الأعذار، وأمكنه الإشهاد على الطلب فلم يشهد، بطلت. سئل الشيخ عبد الله بن حسن: عن شريك بيع نصيبه مع شركائه بغير رضاه إذا طلب الشفعة في نصيب الباقين من الشركاء، هل له شفعة؟ فأجاب: الذي بيع نصيبه بغير رضاه، إن كان قد تقدم منه طلب بالشفعة وقت البيع، فلم يجب لوجود معارض فله الشفعة، وأما إذا لم يطلب، أو طلب ولا معارض، فأعرض عنه رغبة، سقطت شفعته، انتهى. قال الشيخ عبد الله أبا بطين: ادعى زيد على عمرو في شقص بيع، ظنه مرهونا في المدة وأوجبنا عليه اليمين: بأنه يحسبه في المدة السابقة رهنا في يد المشتري، وأنه من حين علم أنه شراء شفع عليه، فإذا حلف فله الشفعة في الشقص المبيع، بقدر نصيبه السابق، وباقيه لعمرو بقدر نصيبه السابق، فيصير السهم المبيع بينهم، على قدر ملكهم السابق، هذا إذا كان ثمنه معلوما، فإن لم يعلم قدر ثمنه فلا يثبت فيه شفعة. سئل الشيخ: إبراهيم بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن، رحمهم الله: عن تأني الشفيع في دفع الثمن؟ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 432 فأجاب: وأما أناة الشفيع في دفع الثمن إلى المشتري، إذا لم يطلبه المشترى، فلا تبطل به الشفعة. وسئل: عن الشفعة في منازل النخل خاصة؟ فأجاب: وأما النخل الذي اشترى بجميع حقوقه وتوابعه، فالمتعارف بين أهل الوقت: أن منازل النخل من آكد التوابع; فأما الشفعة فيها: فإن كان الشافع لا شركة له في المبيع إلا فيما شفع فيه، فله الشفعة ويعطى ثمنه، وإن كان شريكا في غيرها، وإنما شفع فيها فقط، فلا شفعة، لما في ذلك من تفريق الصفقة، والضرر على المشتري. سئل الشيخ: سعد بن حمد بن عتيق رحمهما الله: عمن ارتحل من بلده إلى بلد الزبير، وأقام فيه مدة عشرين سنة وتزوج فيه عند القبوريين، ويصلى وراءهم، وفي أثناء المدة مات مورثه، وله ملك وبيع شقص منه، وخرج بعد أربع سنين، فطلب الشفعة في الشقص؟ فأجاب: أما السؤال عن ثبوت الشفعة للشخص الموصوف في الشقص المبيع، فلعل السائل خطر بباله ما قاله جمع من العلماء: أنه لا شفعة لكافر على مسلم، وتلك مسألة أخرى غير المسئول عنها، وقريب مما سأل عنه السائل، الكلام في التوارث بين أهل نجد، وبين من نشأ في تلك البلدان، أو انتقل إليها من أهل نجد، بعد ظهور الدعوة الإسلامية، مثل من انتقل من بلاد الإسلام إلى تلك البلدان، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 433 ومكث فيها وبقي مع المشركين، وطالت إقامته بينهم يخالطهم، ويصلي معهم، ويأكل ذبائحهم، فلعل السائل خطر بباله شيء من ذلك; فاعلم: أن الذي علمنا من حال أهل هذه الدعوة الإسلامية، وعلمائهم رحمهم الله: أنهم لم يروا قطع التوراث بين أهل نجد، وبين من كان في تلك البلدان ممن وصفنا. وقد حدثني أبي رحمه الله: أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، وأولاده وأتباعهم رحمهم الله، ما قطعوا التوارث بين أهل نجد، وبين من كان في تلك البلدان; إذا عرف ذلك، فالذي يظهر لي: ثبوت الشفعة لمن كان كما وصفنا، كما نقول في مسألة الميراث، والشخص المسئول عنه، له حكم غيره من الشركاء، إذا بيع الشقص في غيبة الشريك، وفي ثبوت الشفعة للغائب خلاف، والقول الراجح قول الجمهور، وهو ثبوت الشفعة للغائب، إذا طلبها عند علمه بالبيع، والأدلة من السنة تدل على ذلك. ويدل عليه حديث جابر: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " الجار أحق بشفعة جاره، ينتظر بها وإن كان غائبا " 1 مع ما دلت عليه الأحاديث العامة، في ثبوت الشفعة للشريك، قال في الشرح الكبير: إذا لم يعلم بالبيع إلا عند قدومه، فله المطالبة وإن طالت غيبته، لأنه خيار يثبت لإزالة الضرر عن المال، فتراخى الزمان قبل العلم به لا يسقطه، كالرد بالعيب، ومتى علم فحكمه في المطالبة حكم الحاضر، في أنه إن طالب على   1 أبو داود: البيوع (3518) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 434 الفور استحق، وإلا بطلت شفعته. وأجاب الشيخ: عبد الله بن الشيخ عبد اللطيف رحمهما الله: إذا ثبت إسلام الآخذ بالشفعة، لزم تمكينه ولو مع كبيرته، ووكيله يقوم مقامه في ماله وعليه. سئل الشيخ: حسن بن حسين بن على: إذا اشترى شقصا في نخل أو أرض بشقص آخر، هل تقع فيه شفعة؟. فأجاب: نعم تقع الشفعة، ويقوم الشقص - الذي هو الثمن - بقيمته يوم التبايع، ويدفعه الشفيع، ولا عذر لهما بالجهل في وقوع الشفعة، وربما قصد الحيلة في إبطال الشفعة بذلك. سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ: إذا بيع شقص في وقف، والوقف على معين، هل له فيه شفعة؟ فأجاب: المسألة فيها خلاف بين العلماء، منهم من يقول بثبوت الشفعة فيه، ولا يتبين لي الراجح من أقوال العلماء في ذلك. وسئل الشيخ عبد العزيز بن حسن: عن الشفعة ببيت المال؟ فأجاب: وما ذكرت أن الشيخ ذكر: أن الشركة ببيت المال لا تثبت بها شفعة، فهذا هو الحق لكونه وقفا، والوقف لا يشفع به، انتهى. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 435 قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ: ما حكم به الشيخ عبد العزيز، بأن بيت المال لا يشفع به من هو في يده، ولا المتولى عليه، هو القول الصحيح. وسئل الشيخ: عبد الله بن حمد الحجازي: عن الشفعة في المبيع، إذا وقفه المشتري؟ فأجاب: الذي ترجح عندي، أن المشتري إذا وقف وقفا صحيحا، أنه لا شفعة فيه، هذا نص الإمام أحمد، وما سواه ففيه الشفعة. سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: ما الحال التي يستحق اليتيم والغائب الشفعة فيها، والمشتري قد طال عهده، وأحدث بناء أو غرسا؟ فأجاب: الشافع مخير بين أخذ البناء والغراس بالقيمة، مع ثمن الشقص أو الترك، وهذا الذي يترجح عندنا; ومتأخروا الحنابلة يقولون: إنه مخير بين أخذه بالقيمة، أو تركه في الأرض بأجرة، إلا إن أراد المشتري قلع الغراس أو البناء فله ذلك، لكن يلزمه تسوية حفر الأرض، ونقصها إن نقصت. وسئل الشيخ: حسن بن حسين بن الشيخ محمد: عن قوله في الإقناع في الشفعة: وإن نما عنده نماء متصلا، كشجر كبر وطلع لم يؤبر تبعه في عقد وفسخ، هل للشفيع أخذ النماء المتصل، إذا كان سببه مال المشتري ... إلخ؟ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 436 فأجاب: المجزوم به عند جمهور الحنابلة: أن النماء المتصل كالشجر يكبر وطلع لم يؤبر، يتبع في الأخذ بالشفعة والرد بالعيب، فيكون ملكا للشفيع، قال في الإنصاف: وقاله الأصحاب، منهم القاضي في المجرد، وابن عقيل في الفصول، والمصنف في المغني، والكافي والشرح وغيرهم، انتهى، وفي شرح الإقناع كالرد بالعيب، فيأخذه الشفيع بزيادته، لا يقال: فلم لا يكون حكم الزوج إذا طلق قبل الدخول؟ لأن الزوج يقدر على الرجوع بالقيمة، إذا فاته الرجوع في العين، وهذا يسقط حقه منها إذا لم يرجع في الشقص، فافترقا، انتهى. فهذا كلام فقهاء الحنابلة، ولم يحك في الإنصاف خلافا في المذهب، لكن إذا قاسوه على الرد بالعيب، فأبو العباس ابن تيمية اختار هناك: أن النماء المتصل كالمنفصل، يكون للمشتري لا للبائع، وقال: نص عليه أحمد في رواية ابن منصور، قال في الإنصاف: فعلى هذا يقوم على البائع، انتهى; أي: في الرد بالعيب، ولا يبعد قياس مسألتنا عليه، مع أني أتوقف عن الإفتاء في هذه المسألة، والله أعلم. سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: إذا لم يشفع ولي اليتيم ليتيمه ... إلخ؟ فأجاب: إن ترك الولي الشفعة لمصلحة ظاهرة، فلا شفعة بعد البلوغ، وإن تركها تفريطا منه، فالشفعة باقية بحالها لليتيم إذا بلغ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 437 وسئل الشيخ حسن بن حسين بن علي: هل يلزم الشفيع الأخذ بالثمن الساقط من ذمة البائع؟ فأجاب: الذي يظهر لي إما أن يأخذه بثمنه الذي اشتراه به، ساقطا من ذمة البائع، وإما أن يترك. سئل الشيخ: محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى: عن رجل باع سهما له بسبعة وعشرين في الباطن، وأشهد بأنه باثنين وعشرين؟ فأجاب: إن ثبت بالبينة أنه سبعة وعشرون، ثبت بها الثمن، وإن لم يكن له بينة، فليس له إلا ما شهدت عليه البينة، فإذا صار البائع مقرا أنه سبعة وعشرون، ولا يتهم أن له شيئا من الملاحظ، ثبت أن الثمن سبعة وعشرون، فإن اتهمه الشفيع أحلفه أن هذا هو الثمن، والشفيع بالخيار بعد ذلك، وإذا كان في المبيع سبيل، أو عيب وشرطه البائع على المشتري، وأقر به البائع، لزم الشفيع، ولا يسمع إنكاره. وأجاب الشيخ إبراهيم بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن رحمه الله: البيع إذا شرط فيه شرط يفسده فسد، ولو بعد قيام الشفيع على الشفعه، ولو لم يشهد الشهود إلا بعد قيام الشريك عليها، ولو كانوا شهود البيع، ولم تذكر شهادتهم في وثيقة البيع، إذا كانوا عدولا غير متهمين. وأجاب أيضا: الحكم بصحة البيع لا يمنع الشفعة، لأن ثبوت الشفعة يتوقف عليه توقف المسبب على سببه، فلو حصل رجوع عن تصحيح بيع الشقص، انتفت الشفعة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 438 باب الوديعة سئل الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن: المشرك إذا أودع المسلم، أو: أودعه المسلم ... إلخ؟ فأجاب: يصح الإيداع والتوديع والرهن وشبهه، وعليه الحذر من المداهنة والمجالسة التي يرى، أو يسمع فيها المنكر. سئل الشيخ: عبد الله بن الشيخ محمد رحمهما الله تعالى: إذا أودع إنسان وديعة، هل له التصرف فيها بسلف أو غيره؟ وكذا إذا ارتحل من محله، أو مات مودعه؟ فأجاب: أما الاقتراض من الوديعة، فلا يجوز إلا أن يعلم رضا صاحب المال، فإن شك في رضاه لم يجز، وإن لم يكن على المال خطر، وإذا دفعت إليه الوديعة في غير بلده، وأمره صاحبها أن يذهب بها إلى بلده، وعلم من صاحب المال: أنه يرضى باقتراضه منها، واقترض منها، فلما قدم بلده ردها على هيئتها، فهذا لا بأس به إن شاء الله تعالى، لكن من اقترضها فهي ثابتة في ذمته، حتى يأخذها صاحبها، فلو عزلها وتلفت ضمنها. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 439 وأجاب بعضهم: وأما الاقتراض من الوديعة، فإن علم المودع علما يطمئن إليه قلبه: أن صاحب المال يرضى بذلك، فلا بأس بذلك، وهذا إنما يعرف من رجل اختبرته خبرة تامة، وعلمت منْزلتك عنده، كما نقل ذلك عن غير واحد، وكما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل في بيوت بعض أصحابه، وكما بايع عن عثمان وهو غائب، ومتى وقع في ذلك شك، لم يجز الاقتراض، والله أعلم. سئل الشيخ: عبد الله بن الشيخ محمد: إذا كان عند رجل دين أو وديعة، فادعى رجل أنه وارثه .... إلخ؟ فأجاب: إذا كان عند رجل دين أو وديعة، فادعى رجل أنه وارث صاحبها ولا وارث له غيره، لزم الدفع، وفيها قول ثان، والأول أظهر. وسئل الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن رحمهم الله: عن دعوى المودع انتقال الوديعة إليه بالبيع؟ فأجاب: هذا مما لا يقبل قوله فيه، بل حكمه حكم سائر المودعين، وكلام الفقهاء صريح في أنه لا يقبل قوله مطلقا، بل في مسائل مخصوصة، بعضهم اكتفى بعدها عن حدها، وما عداها فهو باق على أصله، وقد أشار بعضهم إلى ذلك، في الكلام على قبول قول الأمين في المضاربة، وغيرها من مسائل هذا الباب، وعموم قولهم في باب الدعاوى والبينات داخل فيه، ما لم ينص على استثنائه; وإن وقفت الجزء: 6 ¦ الصفحة: 440 على كلام خاص في هذه المسألة، رفعته إليك إن شاء الله؟ وذكر ابن رجب في شرح الأربعين في شرح حديث " لو أعطى الناس بدعواهم " 1 شيئا من تعريف المدعى، فراجعه إن شئت.   1 البخاري: تفسير القرآن (4552) , ومسلم: الأقضية (1711) , والنسائي: آداب القضاة (5425) , وابن ماجه: الأحكام (2321) , وأحمد (1/363) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 441 باب إحياء الموات سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ، وحمد بن ناصر: هل إجراء الماء على الأرض يكون إحياء؟ فأجابا: قال في الإنصاف، وإحياء الأرض أن يحوزها بحائط، أو يجري لها ماء، أو يحفر فيها بئرا، هذا هو الصحيح من المذهب نص عليه، وقطع به الخرقي وابن عبدوس، والقاضي والشريف، وصاحب الهداية والخلاصة والوجيز وغيرهم; وقيل: إحياء الأرض ما عد إحياء، وهو عمارتها بما تتهيأ به لما يراد بها، من زرع أو بناء أو إجراء ماء، وهو رواية عن أحمد، اختارها القاضي وابن عقيل والشيرازي، وابن الزاغوني، والموفق في العمدة وغيرهم; وعلى هذا قالوا: يختلف باختلاف غرض المحيي، من مسكن وحظيرة وغيرهما، فإن كان مسكنا اعتبر بناء حائط بما هو معتاد، وقيل: ما يتكرر كل عام، كالسقي والحرث فليس بإحياء، وما لا يتكرر فهو إحياء، قاله في المغني; ولم يورد في المغنى خلافه. وقوله: إحياء الأرض أن يجري لها ماء، يعني: أن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 441 إحياء الأرض أن يجري لها ماء، إن كانت لا تزرع إلا بالماء، ويحصل أيضا بالغراس، قال في الفروع: ويملكه بغرس وإجراء ماء، نص عليه. وسئل الشيخ عبد الله بن الشيخ هل مرافق الأملاك، كالأفنية والطرق ومسيل الماء مملوكة، ويثبت فيه حق الاختصاص؟ فأجاب: المسألة فيها وجهان; والأظهر منهما: ثبوت الاختصاص. قال الشيخ: عبد العزيز بن حسن بن يحيى، ذكر لعبد العزيز أبو وحيمد، وإدريس بن حسين: أن من أراد أن يبث في الأرض الموات، خارج جدار نخل "الودي" بغرس أو غيره، فلا يمنع، لكن يمنع من إحداث قليب غير آبار النخيل الموجودة الآن، ويمنع من إحداث ضرر على "الوضائم" بتضييق عليها، أو سد منفس لها معروف، فمن أحدث من ذلك شيئا أزيل، لسبق الاستحقاق، وإن رأى أهل الخبرة والإنصاف من أهل عشيرة: أن الجزوى في سنين المحل أصلح لحال الملك، لزمتهم لتوفير الماء عليهم، والله أعلم. وسئل الشيخ سليمان بن عبد الله رحمهما الله: إذا كان أرض موات لم يعرف أنه جرى عليها إحياء، لكن هنا من يدعيها ويعرف أنها ملك فلان أو جماعة، وربما يقاتلون من أراد أن يحييها في الجاهلية، وربّما أن دعواهم أنها تحاذي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 442 بلدهم العامرة، ولو مسيرة ميل؟ فأجاب: الذي تصور لنا في هذه المسألة، أن الأرض المذكورة لم يعرف أنه أجرى عليها إحياء أصلا، ولا هنا إلا مجرد دعوى هذا الشخص، أن آباءه تسموا عليها، وادعوا أنها ملكهم من غير إحياء، فإن كان الأمر كذلك، فاعلم: أن هذه الأرض باقية على حكم الموات، فمن أحياها - والحالة هذه - ملكها بإجماع العلماء، القائلين بملك الأرض الموات بالإحياء، قال في الشرح الكبير: ما لم يجر عليه ملك لأحد، ولم يوجد فيه أثر عمارة، فهذا يملك بالإحياء، بغير خلاف بين القائلين بالإحياء، لأن الأخبار المروية متناولة له، كحديث جابر مرفوعا " من أحيا أرضا ميتة فهي له " 1 رواه أحمد والترمذي وصححه، وعن سعيد بن زيد مرفوعا مثله، رواه أبو داود، والترمذي وحسنه، وعن عائشة مثله، رواه مالك وأبو داود; قال ابن عبد البر: هو متلقى بالقبول عند فقهاء المدينة وغيرهم، إلى غير ذلك من الأحاديث، وقال في المبدع: الموات إذا لم يجر عليه ملك أحد، ولم يوجد فيه أثر عمارة، فإنه يملك بالإحياء، انتهى. ونقل أبو الصقر عن أحمد، في أرض بين قريتين، ليس فيها مزارع ولا عيون وأنهار، تزعم كل قرية أنها لهم ; فإنها ليست لهؤلاء، ولا لهؤلاء، حتى يعلم أنهم أحيوها; فمن أحياها فهي له، فعرفت: أن مجرد دعوى أنها ملك لهم، من غير إحياء، لا تصير به الأرض ملكا لهم، بل هي باقية على   1 الترمذي: الأحكام (1378) , وأبو داود: الخراج والإمارة والفيء (3073) , ومالك: الأقضية (1456) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 443 الأصل، وهذا مما لا يمتري فيه أحد; وقد ذكر كثير من الأصحاب، ما ذكر الشارح، وصاحب المبدع. وأما قولك: وأشكل علينا هذا، مع قول الفقهاء: من تحجر مواتا فهو أحق به; فكأنك ظننت أن التحجر هو مجرد التسمي عليه بالملك ودعواه، فاعلم: أن الأمر ليس كذلك، قال في الإقناع: ومن تحجر مواتا، بأن حفر بئرا ولم يصل إلى مائها أو أدار حول الأرض ترابا، أو حجرا أو جدارا صغيرا، لم يملكه بذلك، وهو أحق به، انتهى باختصار. وقال في الشرح الكبير: تحجر الموات: الشروع في إحيائه، مثل أن يدير حول الأرض ترابا، أو أحجارا، أو يحيطها بجدار صغير، فلا يملكها بذلك، لأن الملك بالإحياء، وليس هذا إحياء، لكن يصير أحق الناس به، لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو أحق به " رواه أبو داود وغيره فعرفت: أن مجرد دعوى أنها ملكهم من غير إحياء لا يملكونها به، وأن دعواهم أنها ملكهم ليس من التحجر، وأن التحجر هو الشروع في الإحياء على ما وصفنا، فبطلت دعواهم، وبقيت سالمة من الاختصاص وملك معصوم، فتملك بالإحياء. وقولك: إن الفقهاء قالوا إن أحياه غيره ملكه; ليس كذلك على الإطلاق، قال في الإقناع: فإن لم يتم إحياءه وطالت المدة عرفا كثلاث سنين، قيل له: إما أن تحييه، وإما الجزء: 6 ¦ الصفحة: 444 أن تتركه إن حصل متشوف للإحياء، فإن طلب المهلة لعذر أمهل شهرين أو ثلاثة، أو أقل على ما يراه الحاكم، وإن لم يكن له عذر فلا يمهل، وإن أحياه غيره في مدة المهلة، أو قبلها لم يملكه، وبعدها ملكه. وقولك: قال في شرح الزاد، باب إحياء الموات، وهي الأرض المنفكة عن الاختصاصات، وملك معصوم، بخلاف الطرق والأفنية، ومسيل المياه، والمحتطبات ونحوها، وما جرى عليها ملك معصوم، شراء أو عطية أو غيرهما، فلا يملك شيء من ذلك بالإحياء، فظاهر هذا أنها لا تملك بالإحياء، ولو كانت مواتا إذا كان هنا من يدعي الملك، فكلامك هذا الذي زعمت: أنه ظاهر كلامه في شرح الزاد، غير صحيح، فليس في كلامه ما يدل على ذلك، لا بنص ولا ظاهر ولا مفهوم. وإنما الذي في كلامه: أنه إذا كان لها مالك معصوم لا تملك بالإحياء، وهذه الأرض المسئول عن حكمها في هذه المسألة، لم يثبت لمدعي الملك فيها ملك أصلا، بل قد أقر بأنه لم يحيها، والأرض الموات لا تملك إلا بالإحياء، ولم يوجد; فكلام صاحب شرح الزاد فيما إذا ثبت الملك، وهذه الأرض لم يثبت ملكها بعد، وقد عرفت أن مجرد الدعوى ليس بشيء، وهكذا يقال فيما نقلت من كلام العلماء ابن عبد البر وغيره، فالشأن في ثبوت الملك. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 445 وأما قولك: وأكثر الأرض سواء قربت من العمران أو بعدت، لا تخلو ممن يدعي ملكه، حتى إنهم في الجاهلية يمنعون من رعي الأرض إلا بثمن، فقد ذكر الفقهاء أن الأرض لا تملك إلا بالإحياء، وذكروا ما يثبت به الإحياء، واختلفوا هل تملك بالتحجر أم لا؟ فذهب طائفة إلى أنها لا تملك بذلك، وهو المذهب المشهور عن أحمد، وهو قول الجمهور; وعن أحمد رواية أنها تملك بالتحجر، ذكرها الحارثي واختارها، وذكر من صور التحجر كما نقلناه، وليس الدعوى بأنها ملك لهم مع إقرارهم بأنهم لم يحيوها من الإحياء، ولا من التحجر، فتبقى الأرض على الإباحة. وسئل: عن إطلاقهم ما قرب من العامر؟ فأجاب: ظاهر كلامهم لا فرق في ذلك بين الزرع ونحوه، ولا بين الدور، والمعنى يقتضي ذلك; والأصل: أن ما قرب من العامر وتعلق بمصالحه لا يملك، وحديث: " من أحيا أرضا ميتة في غير حق مسلم فهي له " فمفهومه: أن ما تعلق به حق مسلم لا يملك بالإحياء، لأنه تابع للمملوك; فإذا عرفت ذلك، فمتى وجد هذا المعنى في الزرع، وتعلق ما قرب منه بمصالحه، لم يملك لما ذكرنا. قال في الشرح: كل ما تعلق بمصالح العامر من طرقه ومسيل الماء، ومطرح قمامته وملقى ترابه وآلاته، لا يجوز إحياؤه بغير خلاف في المذهب، وكذلك ما تعلق بمصالح الجزء: 6 ¦ الصفحة: 446 القرية كفنائها، ومرعى ماشيتها ومحتطبها، وطرقها ومسيل مائها، لا يملك بالإحياء، لا نعلم فيه خلافا بين أهل العلم، وكذلك حريم البئر والنهر والعين، وكل مملوك لا يجوز إحياء كل ما تعلق بمصالحه، لقوله عليه السلام: " من أحيا أرضا ميتة في غير حق مسلم " وقال في الإقناع: ولا يملك بإحياء ما قرب من عامر وتعلق بمصالحه، كطرقه وفنائه ومجمع ناديه ومسيل مائه، ومطرح قمامته وملقى ترابه وآلاته، ومرعاه ومحتطبه، وحريم البئر والنهر والعين، ومرتاض الخيل، ومدفن الأموات، ومناخ الإبل، والمنازل المعتادة للمسافرين حول المياه، والبقاع المرصدة لصلاة العيدين والاستسقاء، والجنائز ودفن الموتى ونحوهم، فكل مملوك لا يجوز إحياء ما تعلق بمصالحه، قال في شرحه: لمفهوم قوله عليه السلام: " من أحيا أرضا ميتة في غير حق مسلم فهي له " ولأن ذلك من مصالح الملك فأعطى حكمه، فعرفت أنه لا فرق في ذلك، بين البيوت والقرى والزرع والشجر وغيرها، إذا وجد ما ذكرنا فيها وتعلق بمصالحها. وظهر من كلام صاحب الشرح الكبير: أن إطلاقكم ما قرب من العامر لا يملك بإحياء على إحدى الروايتين خطأ، إما من الأصل المنقول منه أو من غيره، لأن ما قرب من العامر وتعلق بمصالحه لا يملك بالإحياء بغير خلاف، وإنما الخلاف في المذهب فيما قرب من العامر ولم يتعلق بمصالحه، هل الجزء: 6 ¦ الصفحة: 447 يملك بالإحياء أم لا، على روايتين عن أحمد، إحداهما يملك بالإحياء وهي المذهب، وبه قال الشافعي، والثانية: لا يملك بالإحياء، وبه قال الليث وأبو حنيفة، وفي هذا القدر كفاية. وسئل الشيخ: حسن بن حسين بن الشيخ، عن أرض موات تبايعها أناس في الجاهلية، أو في الإسلام كانت قرب بلاد عامرة مسير ثلث فرسخ، صارت محتجرا لأهل العامرة، على عادة مشوا عليها، هل إذا أحياها إنسان يملكهما، ولو ادعى مدع أنها بشراء، لكنها موات كما ذكرنا؟ فأجاب: قال في الشرح الكبير: الموات قسمان; أحدها: ما لم يجر عليه ملك لأحد، ولم يوجد فيه أثر عمارة، فهذا يملك بالإحياء بغير خلاف. القسم الثاني: ما جرى عليه ملك، وهو ثلاثة أنواع: أحدها: ما له مالك معين، وهو ضربان: أحدهما: ما ملك بشراء أو عطية، فهذا لا يملك بالإحياء بغير خلاف، قال ابن عبد البر: أجمع العلماء على أن ما عرف بملك مالك غير منقطع، أن لا يجوز إحياؤه لأحد غير أربابه؟ الثاني: ما ملك بالإحياء ثم ترك حتى عاد مواتا، فهو كالذي قبله سواء. الثاني: ما يوجد عليه آثار ملك قديم جاهلي، كآثار الروم ومساكن ثمود ونحوهم، فهذا يملك بالإحياء في أظهر الروايتين; والثانية: لا يملك، لأنها آثار لمسلم أو ذمي أو الجزء: 6 ¦ الصفحة: 448 بيت المال، أشبه ما لو تعين مالكه، قال شيخنا، ويحتمل: أن كل ما فيه أثر الملك، ولم يعلم زواله قبل الإسلام، أنه لا يملك. النوع الثالث: ما جرى عليه الملك في الإسلام لمسلم أو ذمي غير معين، فظاهر كلام الخرقي: أنه لا يملك، وهو إحدى الروايتين عن أحمد، لما روى كثير بن عبد الله بن عوف عن أبيه عن جده، قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من أحيا أرضا مواتا في غير حق مسلم فهي له " فقيده في غير حق مسلم، ولأن هذه الأرض لها مالك، فلم يجز إحياؤها كما لو كان معينا، فإن كان له ورثة فهي لهم، وإن لم يكن له ورثة ورثه المسلمون. والثانية: أنها تملك بالإحياء، وهو مذهب مالك وأبي حنيفة، لعموم الأخبار، وكل ما قرب من العامر وتعلق بمصالحه، من طرقه ومسيل مائه، ومطرح قمامته، وملقى ترابه، لا يجوز إحياؤه بغير خلاف في المذهب، وكذلك ما تعلق بمصالح القرية، كفنائها ومرعى ماشيتها، ومحتطبها ومسيل مائها، لا يملك بالإحياء، لا نعلم فيه خلافا بين أهل العلم، وكل مملوك لا يجوز إحياؤه وما تعلق بمصالحه، لقوله صلى الله عليه وسلم " من أحيا أرضا ميتة في غير حق مسلم فهي له " فمفهومه: أن ما تعلق به حق مسلم لا يملك بالإحياء، انتهى، من الشرح الكبير ملخصا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 449 وقال في الإقناع: وهي - أي الموات - الأرض المنفكة عن الاختصاصات وملك معصوم، فإن كان الموات لم يجر عليه ملك لأحد، ولم يوجد فيه أثر عمارة، ملك بالإحياء، وإن علم ولم يعقب لم يملك، وأقطعه الإمام من شاء، وإن كان قد ملك بالإحياء، ثم ترك حتى دثر وعاد مواتا لم يملك بإحياء، إذا كان لمعصوم; إن علم مالكه المعين غير معصوم، فإن كان بدار حرب واندرس كان كموات أصلي، يملكه مسلم بإحياء، وإن كان فيه أثر ملك غير جاهلي، كالخرب التي ذهبت أنهارها واندرست آثارها، ملك بالإحياء، وكذلك إن كان جاهليا قديما كديار عاد، انتهى. فقد عرفت: أن هذا المحيي الثاني الأرض المذكورة، لا يملكها بإحيائه لها، إذا ثبت الإحياء الأول بشروطه، وثبت التبايع المذكور ودعوى الشراء، والله أعلم. وأجاب بعضهم: وأما من أراد إحياء الأرض الميتة، فليس لأحد منعه إذا لم يكن قريبا من الأرض العامرة، ولا يجوز لأحد تحجره على المسلمين. وأجاب الشيخ عبد الله أبا بطين: وأما إذا تحجر إنسان مواتا بما يعد تحجرا، كما ذكروه في باب إحياء الموات، فإنه أحق بها من غيره، وقد بين الفقهاء حكم المسألة في إحياء الموات. وأما إذا تنازعا أرضا ميتة كل منهما يريدها له ولم يسبق الجزء: 6 ¦ الصفحة: 450 أحدهما الآخر، فلم أر تصريحا في هذه المسألة من كلامهم، ولعل اقتسامها على السواء والحالة هذه، يشبه ما ذكروه في بعض المسائل. وسئل أيضا: الشيخ عبد الله: عن مستأجر أجرى ماءه إلى موات ... إلخ؟ فأجاب: وأما إذا أجرى مستأجر الأرض، أو المستعير من بئر تلك الأرض الموات، وزرعها به ملكها، لأنه هو المحيي، ومن أحيا الأرض الميتة فهي له، والمستأجر ونحوه يملك الماء بإخراجه من البئر، فهو ملك له لا لصاحب الأرض. سئل الشيخ: حسن بن حسين بن علي: عن "الثمد" إذا عمره من يصيد عليه إلخ؟ فأجاب: الثمد إذا عمره إنسان ليصيد عليه فله بيعه، لأنه من باب إحياء الموات. سئل الشيخ: عبد الله بن صالح الخليفي، فيما يتعاطاه أهل الوقت، من الأعراب وأشباههم، من حماية الأغوار، وأوكار الطيور التي في رؤوس شواهق الجبال، وادعائهم ملكيتها بمجرد الدعوى، أو وضع صورة وسم على صخرة من تلك الصخور، أو علامة من العلامات، واعتقادهم: أن ذلك يثبت ملكيتها ملكا تاما يتوارثونه، ويطالبون به، هل يثبت الملك بذلك، أو تثبت الأحقية؟ وإذا ثبت أحد الأمرين، ثم الجزء: 6 ¦ الصفحة: 451 حصل فيها شيء من فراخ الطيور، هل تتبعها في وصفها، بحيث لو أخذه غير مدعي الوكر نزع من يده؟ أو يكون ملكا له، ولا ينْزع من يده، لأنه من جهة المباح المشترك بين الناس؟ أفتونا مأجورين. فأجاب: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده. أما بعد: فإن الله سبحانه وتعالى، قد جعل عباده شركاء في المباحات، من الماء، والكلأ، والنار، والصيد، والمعادن، وغير ذلك مما أباح لهم، وأذن لهم في اكتسابه، ونص رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك في غير ما حديث، ولم يجعله لأحد دون أحد، ولم يملكه أحد إلا بالحيازة التامة، التي ذكرها الفقهاء في كتبهم. وأما ما وقع عنه السؤال: من ملكية الأغوار، والأوكار، وغيرها من موات الأرض، فإن العلماء قد عرفوا ذلك، ووضحوه أتم إيضاح، في باب إحياء الموات، وهذه الأوكار لم يكن عليها مما ذكروا، ولا قريبا منه، من جميع ما يثبت به الملك، بل ولا من جميع ما تثبت به الأحقية، فإنهم قالوا: فإن تحجر مواتا، بأن أدار حوله أحجارا، أو ترابا، أو شوكا، أو حائطا غير منيع، أو حفر بئرا لم يصل ماءها، أو حرث الأرض، أو خندق حولها، لم يملكه بذلك، ولكنه أحق به من غيره، ووارثه من بعده، فهذه الأوكار خالية من سبب الجزء: 6 ¦ الصفحة: 452 الملك، وسبب الأحقية; فهده حال الأغوار، والأوكار; وأما ما يحصل فيها من الطيور والفراخ، فهذه مسألة قد كشف العلماء قناعها، وأبرزوا لعين البصيرة شعاعها، فقد ذكروا في أول البيوع، وفي كتاب الصيد، ما لعله يشفي ويكفي. قال في المنتهى، في كتاب الصيد: ومن حصل أو عشش بملكه صيد أو طائر، لم يملكه بذلك، ولغيره أخذه; وعبارته في أول البيوع كعبارة المقنع والإقناع، في الموضعين معناها معنى عبارة المنتهى، لكن مقتضى عبارتهم كغيرهم: أنه يحرم على الغير دخول ملكه بغير إذنه، فإن خالف ودخل بغير إذنه حرم، وملك ما أخذه، من الطيور والكلأ، والمعدن الجاري، ولم ينتزع من يده. قال ابن القيم رحمه الله: في كتابه "زاد المعاد" لما ذكر كلاما طويلا في مسألة اشتراك الناس في المباح، وعلى هذا: فإذا دخل غيره بغير إذنه، فأخذ منه شيئا من الكلأ ونحوه، ملكه، لأنه مباح في الأصل، فأشبه ما لو عشش في أرضه طائر، أو حصل فيه ظبي، أو نضب ماؤها عن سمك، فدخل إليه فأخذه. فإن قيل: فهل له منعه من دخول ملكه؟ وهل يجوز له دخوله في ملكه بغير إذنه؟ قيل: قد قال بعض أصحابنا، لا يجوز له دخول ملكه لأخذ ذلك، بغير إذنه، وهذا لا أصل له في كلام الشارع، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 453 ولا في كلام الإمام أحمد رحمه الله، بل قد نص أحمد رحمه الله: على جواز الرعي في أرض غير مباحة، مع أن الأرض ليست ملكا له، ولا مستأجرة - إلى أن قال: - والصواب أنه يجوز له دخولها، لأخذ ما له أخذه، وساق كلاما في هذا المبحث - إلى أن قال في آخره - فدل ذلك على جواز الدخول، إلى بيت غيره وأرضه، غير المسكونة، لأخذ حقه من الماء والكلأ، فهذا ظاهر القرآن، وهو مقتضى نص أحمد رحمه الله، وبالله التوفيق، انتهى. وذكر في الفصل قبله كلاما، يدل على ما دل عليه كلامه في هذا الفصل، وذكر في أثناء كلامه هذا كما ترى: أن له دخول البيوت والأرض المملوكة، غير المسكونة، بلا إذن أصحابها، لأخذ المباح منها. فإذا كان هذا حال الأرض المملوكة، ملكا تاما، وحكم العلماء ونصوص الفقهاء فيها، وفيما يحصل فيها من المباحات، فكيف بحال شواهق الجبال ورؤوس الهضبات، التي لا ملك عليها، ولا أثر إحياء، ولا سبب استحقاق، إلا أنه يوجد عليها خط أو خطان، أو صخرة منصوبة، أو أن الأمير الفلاني من الأعراب، قال: هذا ملكي، أو ملك آل فلان، فما تجدي هذه الأشياء من تأثير الملك، واستحقاق نزع المباح، من يد من أخذه، وملكه بالحيازة، وقد أذن له الشارع في أخذه، وبماذا يستحقه مدعي الملك بلا حقيقة؟ فالذي يعلم من لوامع عبارات العلماء، وسواطع إشارات الجزء: 6 ¦ الصفحة: 454 الفقهاء: أن هذه الأغوار والأوكار، حكمها كغيرها من الأرض المباحة، وأن الناس فيها شركاء، لم يستحقها أحد دون أحد، إلا من سبق إليها، وأقام عندها وحفظها، فهو أحق بها إلى أن يفارقها، كحال الأمكنة المباحة للعامة، من المساجد والمجالس والأسواق، ومواضع العبادات، والبيع والشراء، لورود النصوص بذلك، لكن لو استوى في السبق جماعة فهم شركاء. وإن بنى برجا محكما، أو عمل بركة لقصد الصيد، فما حصل فيها فهو له، وإن عملها لغير قصد الصيد فكغيرها، هو أحق بما يحصل فيها، ولغيره أخذه، كما ذكره في الإقناع وغيره، والله المسئول أن يوفقنا للصواب، وأن يلهمنا رشدنا، إنه على ذلك قدير، وبالإجابة جدير، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم دائما أبدا. وسئل الشيخ حسن بن حسين بن علي عن جماعة شرعوا في إجراء نهر ثم تركوه ثم جاء آخرون فعملوا فيه وتركوه قبل إكماله، ثم جاء آخرون فأكملوا العمل وأجروه؟ فأجاب: إن كان تركه الأول رغبة عنه، فليس له شيء من نفقته; وإن كان تركه عجزا، قله قدر ما بقي يقدر له ذلك من أثر عمله. وأجاب الشيخ: محمد بن عبد اللطيف: أما الأولى، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 455 والثانية، فلا يملكونه، لأن الملك لا يثبت إلا بإحياء تام، لكن الجماعة الأولى الذين شرعوا في العمل أحق به من غيرهم، إلا أن يكونوا تركوه رغبة عنه، بصريح لفظ أو دلالة عرفية، كسكوتهم وعدم منازعتهم المدة الطويلة، مع رؤيتهم من يعمل فيه; وأما الجماعة الثالثة، وهم الذين أحيوه فهم المستحقون له، إن كانت الأولى لم تنازعهم، فإن كانت قد نازعت، فهي أحق كما تقدم. سئل الشيخ: عبد الله أبا بطين: عن واد غرس فيه في الزمن السابق ويسقون نخيلهم من السيل، وغرس ناس أعلى منهم، وطلبوا لهم مسيلا من الوادي، وأهل الغرس الأول عليهم ضرر ... إلخ؟ فأجاب: هذه المسألة مذكور حكمها في كتب الفقه، في باب إحياء الموات، قالوا: ولمن في أعلى ماء غير مملوك، كماء الأمطار والأنهار الصغار، أن يسقي ويحبسه إلى كعبه، قالوا: ولو أراد إنسان إحياء أرض فوقهم، فهل لهم منعه؟ على قولين، أصحهما: ليس لهم منعه إن لم يضر بهم، لكن ليس له أن يسقي قبلهم، لسبقهم، ولأنهم ملكوا الأرض بحقوقها قبله، فلا يملك إبطال حقوقهم، وسبقهم إياه بالسقي من حقوقها، ولحديث " من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو أحق به " ولا فرق بين واد كبير، أو صغير، لأنه إذا صار السيل غير جيد، ولو كان الوادي كبيرا أضربهم وسده عنهم، هذا الذي ذكره الفقهاء ومشوا عليه، انتهى. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 456 وسئل الشيخ: عبد الله بن الشيخ محمد: عن السيل إذا سقى مزارع الرجل الأعلى، وفرغ منه إلى آخره؟ فأجاب: لا يمنع عن زرع الذي يليه ولو لم يكن له قسم، وكذلك العين لا يمنع ما فضل من مائها. وأجاب الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن: ومن المعلوم المشتهر عند الفقهاء، أن الأعلى يسقى قبل الأسفل، ويحبس إلى الجدر، ومن خالف في ذلك فلا التفات إليه. وأجاب ابنه الشيخ عبد الله: إن كان ملكه سابقا فله أن يحبس إلى الجدر، وإن لم يكن ملكه سابقا على من تحته، فكل له شركة ويعطى بالقسمة قدر حقه، انتهى. قال عبد العزيز بن عثمان بن عبد الجبار: المسيل الذي هو شركة بين البلدين، يدعى محمد أن السيل قد انتحى عنهم، وأن الشعبة ارتفعت، وأنكر خصماؤه، وأن الضرر عليهم أكثر، فالضرر يزال عمن كان مستضرا بما يمكن إزالته، من أخذ تراب أو غيره، يلزم الأمير يبعث إليه أربعة رجال عدولا، من أهل الأمانة والديانة، من غير أهل البلدتين، أو من له شركة في السيل، فمن رأوا عليه الضرر أزيل عنه. وأجاب إبراهيم بن حسن: أن بطن الوادي يضرب بمدرج مع وجه الأرض، ويقسم بينهم كل على حسب حاله من أراضيهم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 457 وقال الشيخ: علي بن حسين بن الشيخ: نظرت في هذا الحكم، فرأيته صحيحا موافقا لأصول الشرع، فإذا طويت السلسلة المذكورة، قسم السيل على قدر الأملاك التي تسيل من هذا الوادي في البلدين. وقال الشيخ عبد الرحمن بن حسن: نظرت في خط عبد العزيز بن عثمان، وما أمضاه في السيل المذكور، فرأيته صحيحا موافقا لما تقرر في كتب الأحكام. وقال ابنه الشيخ عبد اللطيف: نظرت فيما ذكر أعلاه، فيجب العمل بمقتضاه. قال الشيخ عبد العزيز بن حسن: زيد ما يمنع من تحويض نخله الذي في الوضيمة، وإن حصل فيها حبط من السيل فنقله على أهل الوضيمة، إلا ما كان في حياض النخل، فنقله على صاحبه. سئل الشيخ: عبد الله بن محمد: عن قوله: " لا تمنعوا فضل الماء لتمنعوا به الكلأ" 1؟ فأجاب: أما معنى قوله: " لا تمنعوا فضل الماء لتمنعوا به الكلأ " 2 فقال الخطابي: تأويله أن الرجل إذا حفر بئرا في موات، ملكها بالإحياء، فإذا جاء قوم لينْزلوا في ذلك المكان الموات، ويرعوا نباتها وليس هناك ماء إلا تلك البئر، فلا يجوز له منع أولئك القوم من شرب ذلك الماء، لأنه لو منعهم منه لا يمكنهم رعي ذلك الكلأ، فكأنه منعهم عنه.   1 البخاري: المساقاة (2354) , ومسلم: المساقاة (1566) , والترمذي: البيوع (1272) , وأبو داود: البيوع (3473) , وابن ماجه: الأحكام (2478) , وأحمد (2/273 ,2/309) , ومالك: الأقضية (1459) . 2 البخاري: المساقاة (2354) , ومسلم: المساقاة (1566) , والترمذي: البيوع (1272) , وأبو داود: البيوع (3473) , وابن ماجه: الأحكام (2478) , وأحمد (2/273 ,2/309) , ومالك: الأقضية (1459) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 458 وأجاب أيضا: وأما الفجاج التي يحجرها أهل البلد لا يرعاها الناس، فهذا لا يجوز في الإسلام، وحكم الشرع: أن الناس شركاء في الكلأ والمرعى. وأجاب أيضا: والحجر ما يجوز في الإسلام، إلا رأيا يراه الأمير مصلحة للمسلمين. وأجاب أيضا: أما الحجر، فالحضري لا يحجر على الحضري، الحجر على البدوي، عن كل ما تصله سارحة البلاد، ويصله حشاش، وما وراء هذا لا يحجر. وأجاب الشيخ: عبد الله أبا بطين: وأما نهيه صلى الله عليه وسلم عن منع فضل الماء، فهذا إذا كان لرجل بئر، واحتاج الناس لسقي بهائمهم، فلا يحل له أن يمنعهم ما فضل عن حاجته، وهذا إذا كان الماء في قراره، وأما ما يخرج الإنسان من البئر في بركته أو آنيته، فإنه يملكه ويختص به، ويجوز له بيعه; وأما نهيه عن منع الكلأ، فالكلأ والعشب ونحوه النابت في أرضه; وبعض العلماء يقولون: إذا كان في أرض محوطة، فلا يدخلها إلا بإذن صاحبها، وقال الشيخ تقي الدين: إذا ترك زرع أرضه قاصدا كلأها، فإنه يختص به، ويجوز له بيعه. وأجاب بعضهم: وأما الكلأ فإن الناس فيه شركاء، سواء قرب أو بعد. وأجاب الشيخ عبد الله العنقري: والحمى لا أعلم دليلا شرعيا يدل عليه، إلا ما حمى ولي الأمر. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 459 باب الجعالة سئل الشيخ: عبد الله بن الشيخ محمد رحمه الله: إذا ذهبت لرجل دابة، وجعل لمن جاء بها شيئا فأخبر، ولم يعمل شيئا؟ فأجاب: جزم الفقهاء بأنه لا يستحق الجعل، فلو التقطها مثلا قبل أن يعلم بالجعالة، لم يستحق الجعل; قال في الشرح الكبير- في باب الجعالة - هي أن يقول: من رد عبدي، أو لقطتي فله كذا، فإذا قال ذلك، فمن فعله بعد أن بلغه، استحقه لما ذكرنا من الآية، وحديث أبي سعيد، يعني قوله تعالى: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِير} [سورة يوسف آية: 72] وحديث أبي سعيد، في رقية اللديغ; قال: وإن فعل قبل ذلك لم يستحقه، سواء رده قبل بلوغه الجعل، أو بعده، إذا التقطه لقطة قبل أن يبلغه الجعل، لم يستحق الجعل، لأنه التقطها بغير عوض، وعمل في مال غيره بغير جعل، فلم يستحق شيئا، كما لو التقطها، ولم يجعل فيها ربها شيئا. وفارق الملتقط بعد بلوغه الجعل، فإنه إنما بذل منافعه بعوض جعله، فاستحقه كالأجير إذا عمل بعد العقد، وسواء الجزء: 6 ¦ الصفحة: 460 كان التقاطه لها بعد الجعل أو قبله، لما ذكرناه، ولا يستحق أخذ الجعل بردها، لأن الرد واجب عليه من غير عوض، فلم يجز أخذ العوض عن الواجب، كسائر الواجبات، وسواء ردها قبل العلم بالجعل أو بعده، وكذلك ما يأخذه الملتقط، في موضع يجوز له أخذه، عوضا عن الالتقاط المباح، انتهى; وقال في الفروع: فمن فعله بعد علمه استحقه كدين، وإلا حرم، نقل حنبل في اللقطة: إن وجد بعدما يسمع النداء، فلا بأس أن يأخذ منه، وإلا ردها، ولا جعل له، انتهى. فإذا تقرر هذا: فلا يخلو، إما أن يجد الدابة قبل أن يسمع النداء، أو يبلغه مخبر، فهذا صريح كلامهم أنه لا يستحق جعلا وإن ردها، فكيف إذا لم يعمل شيئا، إنما هو مجرد الخبر; أما إن سمع النداء أو الجعالة: أن من رد دابتي أو عبدي أو أخبرني بها فله كذا وكذا، ثم بحث عنها، وسأل عنها في البوادي والبرية وغيرها حتى وجدها، أو رد لصاحبها خبرها، فإنه يستحق الجعالة المذكورة. سئل الشيخ: عبد الرحمن بن حسن: عمن التقط لقطة وكتمها، ليبذل له جعل؟ فأجاب: هذه لقطة، ويكون آثما بتركه التعريف، وحكمه حكم الغاصب، فلا يستحق شيئا أصلا; والجعالة قد عرفها الفقهاء: بأنها جعل شيء معلوم لمن يعمل له عملا، فمن فعله بعد أن بلغه استحقه، وفي أثنائه استحق حصة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 461 تمامه، ومن فعله قبل ذلك لم يستحقه، وحرم أخذه، انتهى من التنقيح ملخصا، وبه يتحصل الجواب. وأجاب الشيخ عبد الله بن عبد العزيز العنقري: إذا قال من جاء بها فله كذا، فجاء بها رجل فطلب الجعل المجعول، فقال: لم أعينك، يستحق الجعل; وأما من وجد ضالة من ضوال الإبل، وطلب عليها بعد وجدانها جعلا، فلا يظهر لي أنه يستحق عليها شيئا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 462 باب اللّقطة سئل الشيخ سعيد بن حجي: هل يجوز التقاط الإبل؟ وإذا التقطها ثم ردها إلى موضعها ... إلخ؟ فأجاب: نذكر لك شيئا من كلام العلماء، لكي يتبين لك الصواب، قال في المغنى: ولا يتعرض لبعير ولا لما فيه قوة يمنع عن نفسه، قال عمر: "من أخذ ضالة فهو ضال" - أي مخطئ - وبهذا قال الشافعي والأوزاعي وأبو عبيد; وقال مالك والليث - في ضالة الإبل - من وجدها في القرى عرفها، ومن وجدها في الصحراء لا يقربها; وكان الزهري يقول: من وجد بدنة فليعرفها، فإن لم يجد صاحبها فلينحرها; وقال أبو حنيفة: هي لقطة. ولنا: قوله صلى الله عليه وسلم - لما سئل عنها - " مالك ولها معها حذاؤها وسقاؤها، ترد الماء وتأكل الشجر، حتى يجدها ربها " 1.   1 البخاري: في اللقطة (2427) , ومسلم: اللقطة (1722) , والترمذي: الأحكام (1372) , وأبو داود: اللقطة (1704) , وابن ماجه: الأحكام (2504) , وأحمد (4/115) , ومالك: الأقضية (1482) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 462 الحديث متفق عليه; وقيل: " يا رسول الله إنا نصيب هوامي الإبل؟ فقال: ضالة المسلم حرق النار " وروى عن جابر بن عبد الله: أنه أمر بطرد بقرة لحقت بقره، حتى توارت، وقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " لا يؤوي الضالة إلا ضال " 1 رواه أبو داود بمعناه إلى أن قال - فإن أخذ الذي لا يجوز أخذه ضمنه، لأنه أخذ ملك غيره بغير إذنه، ولا أذن الشارع له، فهو كالغاصب; فإن رده إلى موضعه لم يبرأ من الضمان، وبهذا قال الشافعي; وقال مالك يبرأ، لأن عمر قال أرسله في الموضع الذي أصبته فيه، وجابر طرد البقرة التي لحقت ببقره. ولنا: أن ما لزمه ضمانه، لا يزول عنه إلا برده إلى صاحبه; وأما حديث جابر: فإنه لم يأخذ البقرة، ولا أخذها راعيها، وإنما لحقت بالبقر فطردها عنها، فمن لم يأخذها لا يلزمه ضمانها، سواء طردها أو لم يطردها، فإن أخذها فلزمه ضمانها، فدفعها إلى الإمام أو نائبه زال عنه الضمان، انتهى. وقال في الإنصاف: الثاني الضوال التي تمتنع من صغار السباع، كالإبل، فلا يجوز التقاطها بلا نزاع، ومن أخذها ضمنها - يعني إذا تلفت - ويضمن نقصها إذا تعيبت، لكن تلفها لا يخلو، إما أن يكون قد كتمها أم لا، فإن كان ما كتمها وتلفت ضمنها كغاصب، وإن كان كتمها حتى تلفت، ضمنها بقيمتها مرتين على المذهب، نص عليه; وقال أبو بكر: للخبر، وقال في المبدع: ولا يجوز التقاطها - يعني   1 أبو داود: اللقطة (1720) , وابن ماجه: الأحكام (2503) , وأحمد (4/360 ,4/362) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 463 الإبل - لقول عمر: "من أخذ الضالة فهو ضال" أي: مخطئ; ومن أخذها ضمنها، لأنه أخذ ملك غيره بغير إذنه، ولا أذن الشارع له، فهو كغاصب; فإن ردها إلى موضعها لم يبرأ منه، لكن إذا التقطها وكتمها ضمنها بقيمتها مرتين، نص عليه للخبر، انتهى، فتأمل كلامهم يتبين الحق. سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عمن وجد صقرا ... إلخ فأجاب: وأما الصقر إذا صاده ولم يظهر فيه أثر ملك، ولم يعرف له مالك، جاز الانتفاع به، ومتى ظهر له مالك وجب رده عليه. سئل الشيخ: عبد الله بن الشيخ محمد: عن تعريف اللقطة ... إلخ؟ فأجاب: واللقطة يعرفها سنة، فإن لقي صاحبها وإلا وضعها في ماله. وأجاب الشيخ عبد الله العنقري: واللقطة يعرف عفاصها ووكاءها، ثم يعرفها حولا، ثم يتملكها بشرط الضمان إن جاء ربها، وإلا فهو مال الله يؤتيه من يشاء. سئل الشيخ: حسن بن حسين بن الشيخ: عمن كتمها ليبذل له ... إلخ؟ فأجاب: لا يحل له أخذ المال المبذول والحال ما ذكر، لوجوب تعريفها عليه، وإيصالها إلى صاحبها فورا متى جاء، بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحرم عليه كتمانها، ولو تلفت في الجزء: 6 ¦ الصفحة: 464 هذه الحال ضمنها بقيمتها مرتين، قال أبو بكر في التنبيه: لست أعدل عن خبر النبي صلى الله عليه وسلم في الضالة المكتومة: غرامتها، ومثلها معها، وهذا حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يرد، انتهى. وصرح الفقهاء: بأن أجرة المنادي عليه، ولكتمانه لها ارتكب محرما، وترك واجبات متعددة، فيجب عليه رد ما أخذه إن لم تطب نفسه ببذله بعد علمه بالحال، وقول مالكها حال الإنشاد: حلال من الله لا تأثير له، وقد صرحوا فيمن رد ضالة، قبل بلوغه بذل مالكها للجعل، أنه يحرم أخذه، وهو من أكل المال بالباطل، مع كونه بعد بذل صاحب الضالة، لكنه لم يسمعه، وهذا في مقابلة عمله، ولم يرتكب فيه عملا محرما، ويمتنع من واجب، فكيف بمن كتم وأثم؟ سئل الشيخ: محمد بن عبد الوهاب عن ضالة الكافر؟ فأجاب: والضالة التي توجد حول البلد، وهي من مال الكافر، فهي لمن وجدها، وأما لقطة النثار: فإذا لم تعرف بصفة تعرف بها، لم يجب تعريفها. سئل ابنه الشيخ عبد الله: عمن أخذ ضالة الإبل يريد الحفظ، وهو معروف بالأمانة، ثم تلفت؟ فأجاب: قال في الإنصاف: ويجوز للإمام أو نائبه أخذ ما يمتنع من صغار السباع، وحفظه لربه، ولا يلزمه تعريفه، قاله الأصحاب; ولا يكتفي فيها بالصفة، قاله المصنف وغيره، واقتصر عليه في الفروع; ولا يجوز لغيرهما أخذ شيء الجزء: 6 ¦ الصفحة: 465 من ذلك لحفظه لربه، على الصحيح من المذهب، وقال المصنف، ومن تبعه: يجوز أخذها إذا خيف عليها، كما لو كانت في أرض مسبعة، أو قريبا من دار حرب، أو موضع يستحل أهله أموال المسلمين، أو في برية لا ماء فيها ولا مرعى، ولا ضمان على آخذها، لأنه إنقاذ من الهلاك، قال الحارثي قالوا كما قال، وجزم به في تجريد العناية، قلت: ولو قيل بوجوب أخذها والحالة هذه، لكان له وجه، انتهى. والذي يترجح عندي: أن الرجل إذا عرف بالأمانة، وأنه محسن في حفظها، ولم يتعرض لها بركوب ولا غيره، أنه لا يضمن، كما اختاره هؤلاء الأئمة. وسئل الشيخ سعد بن حمد بن عتيق: إذا وجد الحيوان قريب الموت، ولم يعلم صاحبه هل يذكيه أم لا؟ وهل يغرم أم لا؟ فأجاب: أما تذكيته فمن المعروف، وأما الغرم فإن بينه، أو كان مأمونا غير متهم فلا غرم عليه، وإن كان متهما أو غير مأمون، ولم يصدقه صاحب الدابة، ولم يعف عنه، لزمه الغرم. وسئل: إذا وجد ضالة الغنم غير صاحبها، وباعها على آخر هل تكون عنده الخراج بالضمان، كما في مدة الخيار؟ فأجاب: لا فرق. وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. آخر الجزء السادس، ويليه الجزء السابع وأوله: "كتاب الوقف" الجزء: 6 ¦ الصفحة: 466 المجلد السابع: (من كتاب الوقف إلى نهاية الإقرار) كتاب الوقف ... [كتاب الوقف] قال الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد، رحمهما الله تعالى: ونرى الوقف صحيحاً. وسئل: إذا أراد إنسان أن ينفع نفسه من ماله ... إلخ؟ فأجاب: إذا أراد إنسان أن يوقف وقفاً من ماله، فإن شاء جعله معيناً في أرض بعينها، أو نخلاً بعينه، وإن شاء جعله شيئاً معلوماً، قادماً في غلة نخله أو أرضه؛ وما فعل من ذلك فهو حسن إن شاء الله تعالى. وسئل: هل يلزم الوقف المعلق بالموت، أو شرط فيه الرجوع؟ وهل يجوز ذلك؟ فأجاب: الذي صححه غير واحد من الحنابلة وغيرهم، أنه يصح تعليقه بالموت، ويصير وصية، ويعتبر من الثلث، كسائر الوصايا؛ قال في الشرح الكبير: يصح في قول الخرقي، وهو ظاهر كلام الإمام أحمد. قال في الإنصاف: قال الحارثي: كلام الأصحاب يقتضي أن الوقف المعلق على الموت، أو على شرط الحياة، لا يقع لازماً قبل وجود المعلق عليه; قال الحارثي: المنصوص عن أحمد في المعلق على الموت هو اللزوم. قال الميموني الجزء: 7 ¦ الصفحة: 5 في كتابه: سألته عن الرجل يقف على أهل بيته، أو على المساكين بعده، فاحتاج إليها، أيبيع على قصة المدبر؟ فابتدأني أبو عبد الله بالكراهة لذلك، فقال: الوقوف إنما كانت من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم على أن لا يبيعوا ولا يهبوا. قلت: فمن شبهه وتأول المدبر عليه، والمدبر قد يأتي عليه وقت يكون فيه حراً، والموقوف إنما هو شيء وقفه بعده، وهو ملك الساعة، قال لي: إذا كان يتأول. قال الميموني: وإنما ناظرته بهذا، لأنه قال: المدبر ليس لأحد فيه شيء، وهو ملك الساعة، وهذا شيء وقفه على قوم مساكين، فكيف يحدث به شيئا؟ فقلت: هكذا الوقوف، ليس لأحد فيها شيء، الساعة هو ملك، وإنما استحق بعد الوفاة، كما أن المدبر الساعة ليس بحر، ثم يأتي عليه وقت يكون فيه حراً. سئل الشيخ محمد بن إبراهيم: عما إذا لم يجد من كان الوقف تحت يده حججاً للوقف، ولا شهوداً، ولا شيئاً من البينات غير مجرد وضع اليد، فما العمل فيه؟ هل إذا أقر بوقفيته، ولم يعين الواقف، يقبل منه؟ فأجاب: يثبت الوقف بالاستفاضة، ولا حاجة إلى معرفة اسم الواقف. وإن لم يستفض فيكفي إقرار من هو تحت يده بذلك، ما لم ينازع في ذلك بحجة شرعية. سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عن موضع النخلة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 6 الوقف إذا سقطت؟ فأجاب: إذا وقف نخلة معينة، فالذي نرى أن موضعها لا يكون وقفاً بذلك، فإذا سقطت النخلة زال حق أهل الوقف؛ وقد صرح بذلك الفقهاء، فيما إذا أقر بنخلة أو باعه إياها، تناول ذلك الجذع فقط، فإذا سقطت لم يكن له إعادتها، كما نص عليه الإمام أحمد، فيما إذا أقر له بنخلة. وأجاب الشيخ صالح بن محمد الشثرى: إذا وقف نخلة فبادت، فالعرف ومقاصد الناس معتبر; والعرف في وقتنا: أن الْمُوقف لا يقصد إلا جذع النخلة، وأنها لا تعاد إذا بادت، مع أن القياس يقتضي ذلك في أن الفرع لا يتبعه الأصل، وأن الأصل يتبعه الفرع، إلا أن يوقف بستاناً ونحوه، فالقرينة تقتضي دخول الأصل والفرع معاً في الوقفية. سئل الشيخ عبد العزيز بن حسن: عن جعل بعض الواقفين وقفه قدراً معلوماً في ملكه أو نخله، فإذا باد النخل ... إلخ؟ فأجاب: العمل: على جواز ذلك، وجوز شيخ الإسلام وقف المنفعة المفردة، كخدمة عبد موصى بها مدة، ثم يقفها الموصى له فيها. انتهى. فيؤخذ ذلك القدر من غلة ما جعل فيها حيث حصل، فاضلاً عن حصة العامل الجزء: 7 ¦ الصفحة: 7 على النخل، إن كان المجعول فيه نخلًا ولو لم يبق للمالك سواه، ويؤخذ كاملاً من غلة الأرض، إن كان المجعول فيها أرضاً، حيث فضل عن نصيب رب الزرع، ولو لم يبق لرب الأرض غيره، وإن كان هو الزارع أخذ منه على كل تقدير. وسمعت شيخنا عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ محمد، رحمه الله، أفتى مرة بذلك، أعني: أخذ تمر مقدر في ثمر نخل، ولا بين الوارث والمشتري فرق في ذلك، سواء كان المشتري عالماً به أو جاهلاً، إلا أن الجاهل يثبت له الخيار إذا علم. فلو قال قائل: إذا لم يبق من ريع النخل سوى القدر الموقوف، جعلتم الموروث عن الواقف للموقوف عليه، فأين التركة التي يخرج من ثلثها؟ قلنا العبرة بخروج الموقوف، أو الموصى به من الثلث حين الموت، ليس قبله ولا بعده. وإذا باد النخل فالذي يظهر لي: أن القدر الموقوف ينقطع بفناء النخل، وتبقى الأرض طلقاً؛ هذا إن كانت الصيغة: وقفت في نخلي. أما إن قال: في ملكي، فالظاهر أن ذلك القدر يستمر في الأرض، ما دامت حيث انتفع بها، لأن المتعارف من ألفاظ أهل هذه الأعصار، أن الملك اسم للأرض، سواء اتصل بها غراس أم لا، لا سيما في بلدتكم وما قاربها من البلاد. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 8 وكذلك الحكم لو قال: في هذه الدمنة، بل هذا أولى، ولو كان القدر الموقوف في الملك أو الدمنة تمراً؛ إذ لا تفيد قرينة كونه تمراً خصوصيته بالنخل، فينقطع بانقطاعه، بدليل قول بعض الواقفين: جعلت في ملكي أو أرضي أو داري أضحية، فيعلم بالاضطرار أن قصده: يشترى من غلة الأرض، أو بثمن غلتها أو بأجرتها، أو أجرة الدار أضحية. سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: عن الوقف على المسجد؟ فأجاب: الوقف على المسجد جائز، بل مستحب، لأنه من أعمال البر والقربات; وأما وقف الشرك الذي على طاعة، فيجب الوفاء به في الإسلام. وسئل: عن وقف لم يذكر له مصرف، أو ذكر ... إلخ؟ فأجاب: إذا وقف وقفاً وذكر مصرفه ثم انقطع، أو لم يذكر مصرفاً، فقد اختلف العلماء في هذا الوقف: هل يصح أو لا؟ وقدم في المغني أنه يصح، وذكره قول مالك وأبي يوسف، وأحد قولي الشافعي: أنه إذا وقف وقفاً على قوم يجوز انقراضهم بحكم العادة، ولم يجعل آخره لجهة غير منقطعة كالمساكين ونحوهم، قال في المغني: ويصرف عند انقراض الموقوف عليهم إلى أقارب الواقف، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 9 وبه قال الشافعي. وعن أحمد أنه يصرف إلى المساكين؛ واختاره القاضي والشريف. وعن أحمد رواية ثالثة: أنه يجعل في بيت مال المسلمين. وأما إذا كان وقف وقفاً، ولم يذكر له مصرفاً بالكلية، فقال في المغني: إذا قال: وقفت هذا، وسكت ولم يذكر سبيله، فلا نص فيه؛ وابن حامد يصحح الوقف، قال القاضي: هو قياس قول أحمد، وإذا صح صُرف إلى مصارف الوقف المنقطع الذي ذكرناه في أول المسألة، وأن فيه ثلاث روايات عن أحمد؛ فتأمله يتضح لك الأمر إن شاء الله. وسئل الشيخ محمد بن إبراهيم: عن دعاوى في أوقاف لم يكن لها وثائق، منها: أناس ببعض القرى التي نهبت في آخر القرن الثالث عشر؛ ومشهور عند أهل الأحساء: أن أوراقهم أتلفت، وإنما بقي عندهم الولاية في الأملاك والأوقاف، فإذا حصل بينهم نزاع في الأوقاف، وليس هناك نص واقف، هل يكون حكمها حكم الوقف المنقطع الآخر، أم لا؟ وهل يجب يمين على المدعى عليه، والأمر مشتهر أن الأوراق ضلت منه؟ فأجاب: قال في الإنصاف، عند قول المقنع: وهل يدخل فيه ولد البنت - فذكر كلاماً طويلاً - ثم قال: فوائد - الجزء: 7 ¦ الصفحة: 10 إلى أن قال - الرابعة: قال في التلخيص: إذا جهل شرط الواقف، وتعذر العثور عليه، قسم على أربابه بالسوية؛ فإن لم يعرفوا، جعل كوقف مطلق لم يذكر مصرفه. انتهى. وقال في الكافي: لو اختلف أرباب الوقف فيه، رجع إلى الواقف؛ فإن لم يكن، تساووا فيه، لأن الشركة ثبتت ولم يثبت التفضيل، فوجبت التسوية، كما لو شرك بينهم بلفظه. انتهى. وقال الحارثي: إن تعذر الوقوف على شرط الواقف، وأمكن التأنس بتصرف من تقدم ممن يوثق به، رجع إليه، لأنه أرجح مما عداه؛ والظاهر صحة تصرفه، ووقوعه على الوفق. انتهى. فقد عرفت منه: أنه إذا كان الوقف في يد ثقة، يصرفه مصرفاً معيناً في مثل هذه المسألة، أنه يعمل بذلك، وأنه إذا لم يكن شيء من ذلك، يصير حكمه حكم الوقف المطلق، يكون لأقرب ورثة الواقف نسباً وقفاً عليهم، كالوقف المنقطع؛ هذا إذا جهل أصل المصرف. وأما إن علم أصله، لكن جهل شرط الواقف، أو التقديم، أو التأخير، أو التفضيل، ونحو ذلك، فهذا يستأنس فيه بصرف الثقة الذي هو بيده، وبعمله كما تقدم؛ فإن لم يكن فيقسم بين أهل الجهة بالسوية، كما تقدم، والله أعلم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 11 وأجاب الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين: وأما الوقف الذي لم يذكر له مصرف، إذا انقرض الموقوف عليهم، فمشهور المذهب أنه يكون لورثة الواقف، وقفاً عليهم نسباً بقدر إرثهم، ويقع الحجب بينهم: فللبنت مع الابن الثلث، والباقي له. وإن كان الوارث أخاً شقيقاً وأخاً لأب، انفرد به الشقيق. وقال ابن أبي موسى: يكون ملكاً للورثة؛ قال الشيخ تقي الدين: وهذا أصح وأشبه بكلام أحمد. وقال الشافعي: يكون وقفاً على أقرب الناس للواقف، الذكر والأنثى فيه سواء. واختار الموفق أنه يصرف إلى المساكين؛ وهو رواية عن أحمد. فإن كان في أقارب الواقف فقراء، فهم أحق به من غيرهم لا على سبيل الوجوب؛ هذا كلامه في المغني. وأجاب أيضاً: الذي وقف وقفاً على جهة بر، ولم يعين مصرفاً معيناً، فالذي أرى أنه يصرف في فقراء أقاربه، لا سيما فقراء ورثته، ويصرف في غير ذلك من وجوه البر، كفطر صوام ونحو ذلك. فصل سئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن، رحمه الله: عن مراعاة شرط الواقف؟ فأجاب: منصوص علمائنا، رحمهم الله، في كتبهم: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 12 يلزم بشرط مستحب، خاصة وأن الشرط المكروه باطل اتفاقاً؛ قال شيخ الإسلام: وقول الفقهاء نصوص الواقف كنصوص الشارع، يعني في الفهم والدلالة، في وجوب العمل، مع أن التحقيق: أن لفظ الموقف والموصي والناذر والحالف وكل عاقد، يحمل على عادته ولغته التي يتكلم بها، وافقت لغة العرب أو لغة الشارع أو لا. وقال: لا خلاف أن من وقف على صلاة، أو صيام أو قراءة أو جهاد غير شرعي لم يصح؛ والشرط إنما يلزم الوفاء به، إذا لم يفض ذلك إلى الإخلال بالمقصود الشرعي. سئل الشيخ حسن بن حسين بن الشيخ، رحمهم الله: إذا وقف إنسان وقفاً وأشهد عليه، والشاهد والكاتب يعرفان معنى ما نطق به من لغته وعرفه، فكتب الكاتب خلاف ما نطق به الموقف وأراده، ظناً منه أن المعنى واحد، كما إذا قال: على أولادي وأولادهم، وهم عالمون منه إرادة التعقيب دون التشريك؟ فأجاب: يتعين العمل بما شهدا عليه من لفظ لغته، وعلماه من إرادته، وإنما يحكم على العامة في هذا ونظائره بما تقتضيه لغتهم، ويدل عليه عرفهم، وإن عدلوا عن الصيغ الاصطلاحية عند الفقهاء، لكون المعتد بالمقصود; قال أبو العباس: للفقهاء في صفة العقود ثلاثة أقوال: أحدها: الأصل في العقود أنها لا تصح إلا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 13 بالعبارات التي يخصها بعض الفقهاء باسم الإيجاب والقبول، سواء في ذلك البيع والإجارة، والنكاح والوقف، والعتق وغير ذلك; وهذا ظاهر قولي الشافعي، وهو قول في مذهب أحمد، لكون الأصل عندهم هو اللفظ. والقول الثاني: أنها تصح بالأفعال كالوقف، كمن بنى مسجداً وأذن للناس بالصلاة فيه، وكبعض الإجارة؛ فهذه العقود لو لم تنعقد بالأحوال الدالة عليها، لفسدت أكثر أحوال الناس. وهذا هو الغالب على أصول أبي حنيفة، وقول في مذهب أحمد، ووجه في مذهب الشافعي، بخلاف المعاملات في الأموال الجليلة، فإنه لا حاجة إليه، ولم يجره العرف. والقول الثالث: أن العقود تنعقد بكل ما دل على مقصودها، من قول أو فعل؛ فكل ما عده الناس بيعاً أو إجارة، فهو بيع وإجارة، وإن اختلف اصطلاح الناس في الألفاظ والأفعال؛ انعقد العقد عند كل قوم بما يفهمونه من الصيغ والأفعال، وليس لذلك حد مستمر، لا في شرع ولا في لغة، بل يتنوع اصطلاح الناس كما تتنوع لغاتهم. فلا يجب على الناس التزام نوع معين من الاصطلاحات، ولا يحرم عليهم التعاقد بغير ما يتعاقد به غيره، إذا كان ما يتعاقدون به دالاً على مقصودهم، وإن كان قد يستحب بعض الصفات؛ وهذا هو الغالب على الجزء: 7 ¦ الصفحة: 14 أصول مالك، وظاهر مذهب أحمد. فأما التزام لفظ مخصوص، فليس فيه أثر ولا نظر. وهذه القاعدة: من أن العقود تصح، بكل ما دل على مقصودها من قول أو فعل، هي التي تدل عليها أصول الشريعة، وهي التي تعرفها العامة؛ ولم ينقل عن أحد من الصحابة والتابعين، أنه عين للعقود صيغة معينة من الألفاظ أو غيرها، أو قال ما يدل على ذلك من أنها لا تنعقد إلا بالصيغ، بل قد قيل: إن هذا القول يخالف الإجماع القديم، وهو من البدع، وهذه قاعدة عظيمة نافعة. انتهى ملخصاً. والمنصف لا يعدل عنه. سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ: إذا وقف إنسان قِدْرا أو رحى، هل ذلك وقف عام ينتفع به، كالمساجد والمقبرة؟ فأجاب: إن ذلك يرجع إلى شرط الواقف، فإن قال ذلك وأطلق، كان ذلك وقفاً عاماً ينتفع به، وإن قيد ذلك على شخص أو جهة، تقيد به. وأجاب الشيخ عبد الله أبا بطين: الذي وقف على عمارة مواعين سبل، وذكر أن المواعين ما تحتمل غلة ذلك الوقف، فالذي أرى أنه يصرف فيما يناسب ذلك، مثل أن يشترى به قِدْر ونحوه، من نظيره من الوجه المذكور. فإن كان ذلك وصية لا وقفاً، فيعمر منها الماعون، وما فضل الجزء: 7 ¦ الصفحة: 15 للورثة. سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ: عن أوقاف في يد من لا يصرفها في مصارفها؟ فأجاب: والأسبال والأوقاف، يجب صرفها إلى أهلها؛ وإن كانت في يد من لا يصرفها أخذت منه، وصرفت إلى من يستحقها. والأرض المنذورة للمساجد، لعمارتها أو ضيوفها، أو المساكين فيها، فهي على وقفها ولا يغيرها الوارث، ويلزمه أن يؤديها إلى أهل المساجد الذين يحفظونها، يصرفونها في مصارفها. وسئل: عن وقف على مسجد لم يبين مصرفه؟ فأجاب: الوقف الذي على المسجد، ولا بين مصرفه، فإنه يصرف إلى إمامه ومؤذنه وعمارته وما ينوبه، ويجعل على الركية منه شيء. وأجاب الشيخ حمد بن ناصر بن معمر: وأما الذي وقف على المسجد بعض أملاكه، فإن عين الصائمين، أو الإمام أو المؤذن، تعين ما عينه الواقف من الجهات؛ فإن لم يعين جهة، فالوقف على المسجد يدخل فيه الإمام والمؤذن، والقيم، وكذا عمارته كتطيين سطحه، وإبدال خشبة تنكسر فيه، ونحو ذلك. سئل الشيخ: عبد الله أبا بطين، رحمه الله: عن ريع الجزء: 7 ¦ الصفحة: 16 عقار وقف، انتقل من طبقة إلى طبقة، أرضاً أو نخلاً من مزارعة، أو مساقاة أو أجرة، بعد ظهور الثمرة، ومتى تستحق الطبقة الثانية لذلك؟ وهل بين من كان يستحقها بوصف، أو مقابلة عمل فرق؟ فأجاب: الكلام في هذه المسألة كالكلام في الحمل، في أنه يتجدد حقه من الوقف بوضعه لا قبله، من ثمر وزرع، كتجدد حق المشتري؛ هذا هو المشهور في المذهب. ومن المعلوم أنه إذا بيعت أرض وفيها زرع كبر ونحوه، أنه للبائع ما لم يشترطه مشتر، وكذا إذا بيع نخل قد تشقق طلعه، أنه للبائع ما لم يشترطه المشتري. فهكذا حكم الحمل المستحق للوقف بعد وضعه; قال في المغني: ومن وقف على أولاده، أو أولاد غيره وفيهم حمل، لم يستحق شيئاً قبل انفصاله؛ قال أحمد في رواية جعفر بن محمد، فيمن وقف نخلاً على قوم وما توالدوا، ثم ولد مولود: فإن كانت النخل قد أبرت، فليس له فيها شيء، وهو للأول، وإن لم تكن قد أبرت فهو معهم. وإنما قال ذلك، لأنها قبل التأبير تتبع الأصل في البيع، وهذا الموجود يستحق نصيبه، فيتبعه حصته من الثمر، كما لو اشترى ذلك النصيب من الأصل، وبعد التأبير لا تتبع الأصل، ويستحقها من كان له الأصل، فكانت للأول، لأن الأصل كان كله له فاستحق ثمرته، كما الجزء: 7 ¦ الصفحة: 17 لو باع هذا النصيب منها، ولم يستحق المولود منها شيئاً كالمشتري; وهذا الحكم في سائر ثمر الشجر الظاهر، فإن المولود لا يستحق منه شيئاً، ويستحق مما ظهر بعد ولادته. وإن كان الوقف أرضاً فيها زرع يستحقه البائع، فهو للأول؛ وإن كان مما يستحقه المشتري فللمولود حصته منه، لأن المولود يتجدد استحقاقه للأصل، كتجدد ملك المشتري فيه. انتهى كلامه. وهذا التعليل الذي علل به، ظاهر في أن حكم الطبقة الثانية حكم الحمل، وهو واضح - ولله الحمد -؛ قال في الإنصاف: تجدد حق الحمل بوضعه من ثمر وزرع، كمشتر؛ نقله المروذي، وجزم به في المغني والشرح والحارثي، وقال: ذكره الأصحاب في الأولاد، وقدمه في الفروع، ونقل جعفر: يستحق من زرع قبل بلوغه الحصاد، ومن نخل لم يُؤبَّر، فإن بلغ الزرع الحصاد، وأُبِّر النخل لم يستحق شيئاً - إلى أن قال - قال في الفروع: ويشبه الحمل إن قدم إلى ثغر موقوف عليه فيه، أو خرج منه إلى بلد موقوف عليه فيه، نقله يعقوب، قال: قياسه من نزل في مدرسة ونحوه. قال ابن عبد القوي: ولقائل أن يقول: ليس كذلك، لأن واقف المدرسة ونحوها جعل ريع الوقف في السنة، كالجعل على اشتغال من هو في المدرسة عاماً، فينبغي أن يستحق بقدر عمله من السنة، من ريع الوقف في السنة، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 18 لئلا يفضي إلى أن يحضر الإنسان شهراً مثلاً، فيأخذ جميع مغل الوقف، ويحضر غيره باقي السنة بعد ظهور الثمرة، فلا يستحق شيئاً، وهذا يأباه مقتضى الوقوف ومقاصدها. انتهى. قال الشيخ تقي الدين: يستحق بحصته من مغله، وقال: من جعله كالولد فقد أخطأ، وللورثة من المغل بقدر ما باشر مورثهم. انتهى. قال في القواعد الفقهية: واعلم أن ما ذكرناه في استحقاق الموقوف عليه هاهنا، إنما هو إذا كان استحقاقه بصفة محضة، مثل كونه ولداً أو فقيراً ونحوه؛ أما إن كان استحقاقه الوقف عوضاً عن عمل، وكان المغل كالأجرة، فيقسط على جميع السنة، كالمقاسمة القائمة مقام الأجرة، حتى من مات في أثنائه استحق بقسطه، وإن لم يكن الزرع قد وجد؛ وبنحو ذلك أفتى الشيخ تقي الدين. انتهى. فظهر من كلامهم: أن من كان استحقاقه بصفة، ككونه ولداً أو فقيراً، أو نحو ذلك، أن حكمه في استحقاقه من زرع الأرض الموقوفة، وثمر الشجر الموقوف حكم المشتري؛ هذا هو المعمول به في المذهب. وأما من كان استحقاقه في مقابلة عمل، ففيه الخلاف كما تقدم; فصاحب الفروع قاس هذه على المسألة التي قبلها، فقال: وقياسه من نزل في مدرسة ونحوه، وتبعه في الإقناع وغيره; وكلام الشيخ تقي الدين، وابن عبد القوي، وابن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 19 رجب، بخلاف ذلك، والعمل به أولى إن شاء الله تعالى. وأما إن كان الوقف مؤجراً، فالذي ظهر لنا من كلامهم، أن الأجرة تقسط على جميع السنة. فمن مات من المستحقين في أثناء السنة، فله من الأجرة بقدر ما مضى من السنة، وهو صريح في كلام بعضهم، كما قال ابن رجب، رحمه الله، في أثناء كلام له، قال: لا نقول في الوقف إذا انتقل إلى البطن الثاني، ولم تنفسخ إجارته، أنهم يستحقون الأجرة من يوم الانتقال. انتهى. فهذا على القول بأنها لا تنفسخ بموت المؤجر من الطبقة الأولى، وعلى القول الثاني، الذي هو الصحيح عند ابن رجب، وصححه الشيخ تقي الدين، وصوبه في الإنصاف: أنها تنفسخ; فإن المنافع تنتقل للطبقة الثانية، فتكون الأجرة لهم من حين انتقل الوقف إليهم. قال ابن رجب أيضاً، في أثناء كلام له: ومن أمثلة ذلك: الوقف إذا زرع فيه أهل البطن الأول، أو من آجروه، ثم انتقل إلى البطن الثاني والزرع قائم، فإن قيل الإجارة لا تنفسخ، وللبطن الثاني حصتهم من الأجرة، فالزرع مبقى لمالكه بالأجرة السابقة. وإن قيل بالانفساخ، وهو المذهب الصحيح، فهو كزرع المستأجر بعد انقضاء المدة، إذا كان بقاؤه بغير تفريط من المستأجر، فيبقى بالأجرة إلى أوان أخذه؛ وقد نص عليه الإمام أحمد في الجزء: 7 ¦ الصفحة: 20 رواية مهنا، في مسألة الإجارة المنقضية، وأفتى به في الوقف الشيخ تقي الدين، رحمه الله تعالى. سئل الشيخ حسن بن حسين بن علي: عن ثمرة وقفت على إمام مسجد، ومات الإمام قبل ظهور الثمرة؟ فأجاب: ذكر ابن رجب، رحمه الله، في قواعده، أن الثمرة تقسط على جميع السنة، فيستحق كل منهما بقسطه; قال: وبه أفتى شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله، وقال به ابن عبد القوي; وعند صاحب الفروع: أن حكمه حكم المشتري، في أن الثاني إن كان إماماً قبل ظهور الثمرة، ثم ظهرت في مدته، فهو يستحقها كلها; وإن كان بعد ظهورها فهي للأول دون الثاني، وتبعه في الإقناع وغيره; والعمل بالقول الأول أولى إن شاء الله تعالى، لأن القول الثاني يفضي إلى أنه قد يصلي إمام شهراً، وتخرج الثمرة في مدته، ثم يزول بعد ذلك، فيستحق مغل الوقف، ويصلي غيره سائر العام، ولا يستحق شيئاً من المغل، وهذا يأباه مقتضى الوقوف ومقاصدها. سئل الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين: عن رجل وقف أضحية وقربة، هل يكتفي بجلد الأضحية؟ فأجاب: إذا شرط في غلة الوقف أضحية وقربة، فالذي أرى أنه يلزم شراء قربة، فلا يكتفي بجلد الأضحية. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 21 وسئل الشيخ محمد بن إبراهيم: عن وقف على من يقوم مقامه؟ فأجاب: هو على ظاهره، إن كان مقامه علماً وتدريساً، أو مقامه أنه كهف لأرامل عشيرته، أو أنه في محل ضيف ومقصد، أو نحو ذلك، أو تعليم قرآن، أو غير ذلك من المقامات، مثل نزوله في بيت آبائه وأجداده لمن يقصده، وقيامه بمسألة مثلهم، أو نحو ذلك من المقامات المحمودة التي يجب أن يوجد بعده من يقوم مقامه فيها، والله أعلم. سئل الشيخ محمد بن إبراهيم بن محمود: عن رجل وقف على ضيف قصراً فيه أولاده؟ فأجاب: هذا الوقف له سبب ومقتضى: فأما السبب فهو: إعانة ساكن القصر من ذرية الواقف على الضيف، والمقتضى: ورود الضيف. والسبب له ركنان: أحد ركنيه: تعيين المحل، والثاني: القرابة، فإذا تخلف أحد ركنيه وهو خلو المحل من الساكن، تعين الركن الثاني مع وجود المقتضى؛ فإذا كان الضيف يرد على بعض الأولاد دون بعض، تعين الصرف عليه دون من لا يرد عليه الضيف. سئل الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين: عن كتاب وقف في بلد؟ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 22 فأجاب: وأما إذا شرط واقف الكتب ونحوها، لا تخرج من بلد سماه، فلا أرى جواز نقلها من تلك البلد، ما دام في البلد من ينتفع بها. سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد، رحمهما الله: من أحق بولاية الوقف؟ فأجاب: الأحق من أوصى إليه الواقف، وعينه ناظراً على الوقف، فإن لم يعين ناظراً، فإن كان الوقف على عدد محصور، كقرابته مثلاً، فكل إنسان ناظر على حصته. وإن كان الوقف على غير معين، كالوقف على المساجد ونحو ذلك، فالنظر في ذلك إلى الحاكم، ويستنيب في ذلك من هو أصلح، ولا يجعل نيابة الوقف بيد من لا يصلح للولاية؛ وليس لأحد منهم أن يفعل في الوقف ما يضر به، من أي أنواع الضرر. وسئل: عن الوقف على المسجد، هل القيام والنظر وما يتعلق به على الإمام؟ فأجاب: هذه المسألة وجوابها يعلم مما تقدم، وذلك إذا عرفت أن ولايته إلى الحاكم: فإن كان الحاكم جعل ولايته إلى إمام المسجد فذلك إليه، وإن جعله الحاكم إلى غير الإمام فليس للإمام الاعتراض على نائب الحاكم، فإن فعل ما لا يجوز رفع أمره إلى الحاكم. ولا ينبغي للإمام ولا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 23 غيره السكوت، إذا رأى من النائب خللاً وتضييعاً للوقف. سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: من وقف وقفاً وجعل للناظر وضعه فيما يراه أنفع، والمراد فيما يراه أكثر ثواباً، هل يجوز للناظر أو يجب أو يستحب له صرف شيء من منافع الوقف، في قضاء دين الواقف بعد موته؟ فأجاب: لا يجب صرف شيء من غلة الوقف في قضاء دين الواقف، حياً كان أو ميتاً، بل لا يستحب، بل لا يجوز; قال الخرقي، رحمه الله: ولا يجوز أن يرجع إليه - أي الواقف - شيء من منافعه؛ قال في المغني - بعد ذكره كلام الخرقي -: وجملة ذلك: أن من وقف وقفاً صحيحاً، فقد صارت منافعه للموقوف عليه، وزال عن الواقف ملكه وملك منافعه، فلم يجز أن ينتفع بشيء منها، إلا أن يكون وقف شيئاً للمسلمين، فيدخل في جملتهم: مثل أن يقف مسجداً، فله أن يصلي فيه، أو شيئاً يعم المسلمين فيكون كأحدهم، لا نعلم في هذا كله خلافاً. ثم قال الخرقي بعد كلامه: إلا أن يشترط الأكل منه، فيكون له ما شرط؛ وصحة هذا الشرط من مفردات المذهب، وأكثر العلماء يقولون بفساد الوقف المشروط فيه ذلك. وقولهم: لا يجوز للواقف أن ينتفع بشيء منه، عام، وقضاء دين الميت بعد موته فيه نفع له، وأظنه لو كان حياً واستفتاكم، لم تجوزوا له ذلك؛ فما الفرق بين الحياة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 24 والموت؟ وما الفرق بينه وبين الناظر. سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ: عن عمار الوقف ... إلخ؟ فأجاب: عمار الوقف مقدم على مستحقه، ويعمر من الغلة إلا إن كان لأهل البلد، عرف أنه يعمره الفلاح أو شيء سهل، والعادة أنه ما يخصه شيء من ذلك؛ فكذلك إذا صار لرجل نخلة أو نخلتان في نخل، وليستا بسبل، وقال: ما أؤجرهما ولا أسقيهما; وتذكر أنك سألت الشيخ، عفا الله عنه، وقال: ما يجبر مالكهما على إجارتهما ولا سقيهما؛ فهو على ما ذكر، رحمه الله، إلا إن فعل مالكهما مضرة، كدخوله على أهل النخل أو سقيهما وتردده لذلك، لأن هذا يعرف أن ذلك يضر بصاحب النخل الذي فالحه. وسئل الشيخ محمد بن إبراهيم: عن بيت، وقف في رغبته شيء مقدر، وعمر فيه بعض الأولياء من الورثة، وكان ساكناً فيه، ثم نازعه بعض الورثة، هل يرجع بما أنفقه على الوقف؟ فأجاب: يرجع، لأنه في العادة لا ينفق إلا لأجل السكنى. وأجاب الشيخ عبد العزيز بن حسن: وإذا احتاج الملْك الذي فيه الصّبْرة إلى تحصيل ماء، أو إصلاح مسيل، أو سد حائط، أو غير ذلك مما يراد لحفظ الأصل، فهو على الجزء: 7 ¦ الصفحة: 25 المالك، ولا يبخس المستحق شيئاً لذلك، لأن ما كان لحفظ الأصل فمؤنته على المالك، وهذا الأصل مملوك، بدليل جواز بيعه، والشفعة بالشركة فيه إذا بيع منه شقص؛ وقد عرفت أن الوقف لا يجوز بيعه ولا يشفع بشركته. نعم لو كان الوقف نخلات معينة، أو موضعاً من أرض معيناً، خصه من مؤنة تحصيل الماء، وتصليح المسيل ونحوهما بقدر نسبته إلى العقار، لمصادفة الوقف عينه، وهذا الموقوف أصله. سئل الشيخ سليمان بن عبد الله: عن أرض سبل بعض السنين ما تزرع، وبعض السنين تزرع، هل يجوز غرسها؟ ويجعل فيها قيمتها من العيش، كل سنة إجارة لها؟ فأجاب: يجوز له أن يغرسها، ويجعل فيها كل سنة شيئاً معلوماً من العيش، لأجل السبالة ما دام النخل راكداً فيها، ولو دون الشيء الذي قدره مسبلها الأول، على نظر الولي. قال الشيخ إبراهيم بن عبيد: لما وقعت الفتنة، وسفكت الدماء، واستحلوا الأموال، حاذر زيد على وقف أبيه أن يؤخذ، أو يقطع نخله، فنظرنا المصلحة في بيع شقص من الوقف، يكافي عن الوقف من أخذ الكل، وأجزنا له ذلك لأجل المصلحة الراجحة، فباع ثمن الوقف، ودفع بالثمن عن الوقف المذكور. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 26 سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: عن قسمة الوقف؟ فأجاب: قسمة الوقف يعمل فيها بما هو أصلح للوقف: فإن كان الأصلح قسمته قسم، وإلا ترك بحاله؛ ولا يجوز تغيير الوقف عن حاله إلا لمصلحة. ولو أراد بعضهم القسمة من غير مصلحة منع من ذلك. وسئل: عن أرض في غلتها آصع، وتعطلت، وطلب بعض الورثة قسمتها؟ فأجاب: أما الأرض التي جعل في غلتها آصع وهي متعطلة، وطلب أهلها قسمتها، فلا مانع من القسمة والحالة هذه؛ فإذا اتفقوا على القسمة قسمت بينهم، والسبالة قادمة في غلة الأرض المذكورة، فإن حصل في القسمة ضرر، وامتنع بعضهم لم يجبر، وكذا إن كان فيها ضرر على السبل. وسئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عن الأرض يجعل فيها أصواع ... إلخ؟ فأجاب: الأرض التي يجعل فيها أصواع معلومة، إذا زرعت أخذ منها ما جعل فيها، وإذا لم تزرع فلا يجب شيء؛ وكل سنة لها حكمها. وأجاب الشيخ عبد الرحمن بن حسن: الوقف إذا كان الجزء: 7 ¦ الصفحة: 27 جزءاً مشاعاً معلوماً، كالربع أو الخمس مثلاً، جاز أن يقسم؛ ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية. وأما إذا كان الوقف مقدماً في غلة هذا النخل، فلا يقسم إلا أن يكون قسم مهايأة غير لازم، كأن يكون لهؤلاء ما فضل بعد الوقف من غلة هذه السنة مثلاً، ويكون للآخرين ما فضل عن غلة السنة بعدها. ولو طلب أحد الشركاء المساقاة عليه أجيبوا، ويقسم ما فضل بعد الوقف على الورثة بحسب سهامهم. وأجاب أيضاً: وما ذكرت من وصول الجواب، فالحمد لله على ذلك، وتذكر أن عدم الإجبار في المسألة ظاهر، وأما عدم جوازها بالتراضي فمشكل; فأقول: نص العلماء على المنع من قسمة مثل هذا، إذا كان الوقف شيئاً مقدراً من الغلة؛ ودليل المنع ظاهر في كلامهم، مما سأشير إليه بعد، إن شاء الله تعالى. وأما ما سنح لك من القول بالجواز فمشكل، حتى على قولك، لأن التراضي من جهة الوقف متعذر لكونه على الوجوه التي ذكرت، ولعدم أهلية ناظر الوقف. وأما قولك: إن العقار المذكور مقدم في غلته صبرة، وباقيه طلق، فهذا علة المنع من القسمة والبيع، لأن غلة الأصل قد تنقص فلا يبقى منها إلا بقدر المقدر للوقف أو دونه فسيستغرق الأصل. وأما قولكم: فهي كالخراج في الأرض الخراجية، فأقول لا يقاس الوقف على أرض الخراج، وما علمت أحداً الجزء: 7 ¦ الصفحة: 28 من العلماء سبق له مثل هذا القياس، وهو أيضاً قياس مع الفارق؛ فإن الزكاة لا تجب في الوقف على غير معين، بخلاف الخراجية فإنه يجب فيها العشر والخراج، ففارقها بذلك; والخراج الذي وضعه عمر رضي الله عنه لا ينقص الغلة، ولا يمنع من هي في يده استغلالها لقلة الخراج، وكل إمام عدل لا يضع على الأرض من الخراج إلا ما تطيقه، فلا يمنع أهلها من الاستغلال; فلذلك قال العلماء: إنه لا يزاد فيه ولا ينقص، إلا إذا تغير السبب؛ ففارقت مسألتنا من هاتين الجهتين أيضاً؛ فتأمل، فإن هذا الوقف لا يزاد ولا ينقص، ولو لم يبق من المغل إلا قدره. وقولكم: كما منعوا بيع أرض العنوة لموقفها، أقول: هذا مما يؤيد المنع من البيع والقسمة في هذه الصورة، وإن كنا نرى أن سبب المنع غير هذا. وأما قولكم: الثانية: أنهم قد صرحوا بجواز قسمة الوقف على جهة واحدة، على ما استظهر صاحب الفروع صحيح، لكن ذكر في الإنصاف عن القواعد ما يخالف ما في الفروع، فقال: وقال في القواعد، هل يجوز قسمته؟ فيه طريقان: أحدهما: أنه كإفراز الطلق من الوقف، وهو المجزوم به في المحرر. والطريق الثاني: أنه لا يصح قسمته على الوجهين جميعاً على الأصح؛ وهي طريقة صاحب الترغيب. وعلى القول بالجواز، فهو مختص بما الجزء: 7 ¦ الصفحة: 29 إذا كان وقفاً على جهتين لا على جهة واحدة؛ صرح به الأصحاب، نقله الشيخ تقي الدين. انتهى. إذا عرفت أن القول بالجواز، الذي هو خلاف الأصح في هذه الصورة بعينها، فأين هذه من مسألتنا؟ وهي لا يمكن فيها معرفة مقدار ما يخص هذه الغلة الموقوفة من أصلها التي عينت فيه، مع ما في ذلك أيضاً من الضرر الظاهر على الوقف، من تفريقه في أيدي أناس لا يمكن تمييز نصيبهم بدون مشاركة نصيب الوقف لهم. وقولكم: فليس هو كالوقف المحض الذي فيه كلام الشيخ، أقول: نعم ليس كهو، فإذا كان الشيخ قد منع من قسمة الوقف إذا كان جهة واحدة، مع إمكان إفراز نصيب كل واحد من العدد الموقوف عليهم المحصورين، مع ما في ذلك من مصلحة انتفاء ضرر المشاركة، فلأن يمنع من قسمة وقف لا يمكن معرفة ما يخصه من الأصل، لتطرق النقصان على الغلة غالباً، من باب أولى. وقولكم: إن قسمته تقلل أيدي الملاك عليه، فلا يكونوا شركاء متشاكسين، أقول: تقليل الوقف وأتعاب ناظره بتكثير الطامع فيه. فقد ظهر من هذا الجواب بعض ما أخذ المانعون، فتأمله يظهر لك صحة مأخذهم، وحسن مداركهم. وأما ما ذكرته عن الإقناع، في قسمة المهايأة، فقد ذكرت في الجواب قبل هذا عبارة شيخ الإسلام، وقال الجزء: 7 ¦ الصفحة: 30 في الإنصاف: إذا اقتسما المنافع بالزمان والمكان صح، وكان ذلك جائزاً على الصحيح من المذهب، قدمه في المغني والشرح، والنظم والرعايتين، والحاوي الصغير والفروع وغيرهم; ثم قال عن الشيخ تقي الدين: لا تنفسخ حتى ينقضي الدور، ويستوفي كل واحد حقه. انتهى; وآثرنا الإيجاز والاختصار على التطويل والإكثار، وبالله التوفيق. وأجاب أيضاً: وإذا كان قسم نخل المغارسة أصلح للوقف، قسم. وأجاب الشيخ حسن بن حسين بن الشيخ: إذا اقتسموا وجعلوا للوقف قطعة تفي، ثم تعطلت، فالذي تقتضيه قواعد الفقهاء: أن الإفراز للوقف المذكور الموقوف لا يصح، لوجوب العمل بنص الواقف وتعيينه؛ وهذا تَحيّل على إبطال الوقف، أو تقليله بتحويله عن جميع الملك، إلى جزء يسير منه، يتلف بتلفه، ويضعف بضعفه; ومن المعلوم ضرورة، أن غرض الواقف جعله في غلة جميع الملك، وبقاؤه على الدوام، وعبارة الفقهاء طافحة بمنع التصرف في الوقف، ممن له الولاية عليه، بما لاحظَّ أو مصلحة للوقف فيه، أو بما يقلل الرغبة فيه، ولو مآلاً. وأجاب الشيخ عبد العزيز بن حسن: وأما حصر الأضاحي المقدمة في جميع الملك، في جانب منه معين، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 31 أو نخلات معينة، فلا ينبغي هذا، لأن المعين قد ينقطع نفعه وغيره باق. قال الشيخ علي بن عيسى: هذا صحيح، وهو المفتى به عندنا. وأجاب الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف: الذي أوصى في ثلث ماله بثلاث أضاحي، ثم أفرز له الورثة شقصاً قدر عشير الثلث، وهو وقت الإفراز يفي بالأضاحي، والآن لا يفي بواحدة، ثم طلب ولي الأضاحي إكمالها من ثلث مال الموصي، فهذا الإفراز ظلم من الورثة، لا يجوز للورثة حيازتها في بعض الثلث، لأن ظاهر لفظ الموصي تقديم الأضاحي، والخارج من الثلث بعدها، ولا يجوز العدول عن نصه. فصل قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب، أجزل الله له الأجر والثواب: الدليل على بطلان أوقاف كثير من أهل الوقف على الذين يرثونهم، أمور كثيرة من الأصول والفروع، ويعرف ذلك بمعرفة الوقف المشروع، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم شرط في أنواع الصدقة: أن يتصدق الإنسان ببعض ماله في الطرق التي أمر الله بها، مريداً بذلك وجه الله والدار الآخرة، ويجعلها صدقة جارية صح الأصل، مع الانتفاع الجزء: 7 ¦ الصفحة: 32 بالفرع، كما فعل عمر وطلحة وغيرهما. فإذا عرفت أن الوقف بالإجماع ما قصد به القربة، فهنا قاعدة مجمع عليها، وهي: أنه لا يجوز لأحد بعد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يشرع شيئاً من الواجبات، ولا من المستحبات، بل يكون ذلك العمل بدعة وضلالة يضر ولا ينفع؛ والدليل ليس على النافي، بل على المثبت، فإذا لم يرد دليل عن الشارع أن هذا الوقف مشروع، فالأصل مع النافي، وهو أنه لا دين إلا ما شرعه الله ورسوله. يوضح هذا: أن العباس بن عتبة، أوصى بوصايا عند موته، فسأل الوالي القاسم بن محمد، فقال: انظر ما وافق الحق منها فأمضه، وما لا فرُدَّه، فإن عائشة حدثتني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من عمل عملاً ليس عليه أمرنا، فهو رد " 1. فإذا كان بعض مشاهير التابعين، يرد من وصاياه كل ما لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم، فكيف بما حدث بعد ذلك؟ كما لو لم نجد نصاً في المسألة. وأما النصوص على بطلان هذا الوقف، فمن وجوه: منها ما ثبت أن رجلاً في زمن النبي صلى الله عليه وسلم أعتق ستة أعبد عن دُبُر، ليس له مال غيرهم، فأقرع بينهم، وجزأهم ثلاثة أجزاء، فأعتق اثنين، وأَرَقَّ أربعة، وقال فيه قولاً شديداً; وفي رواية أنه قال: " لو حضرته، لم يدفن في مقابر المسلمين " 2؛ وفي هذا الحديث عبرة عظيمة، وذلك أن فعل   1 البخاري: الصلح (2697) , ومسلم: الأقضية (1718) , وأبو داود: السنة (4606) , وابن ماجة: المقدمة (14) , وأحمد (6/180, 6/240, 6/256) . 2 أبو داود: العتق (3958) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 33 هذا خير من أوقافهم بكثير، وأقرب إلى الحق. ومثله من الأوقاف: أن يكون عند الرجل العقار، الذي لا مال له غيره، فيقفه على مسجد، ووجه بر لله تعالى، ويستثني غلته مدة حياته، وليس فيه من المخالفة إلا الزيادة على الثلث؛ وأوقافنا هذه يقف الرجل عقاراته التي هي غالب أمواله، أو لا مال له غيرها، ويستثني غلتها، ويزيد على فعل ذلك الرجل، بأن مقصده تعدي حدود الله، وعدم الرضى بها؛ فأين هذا من هذا؟ فلو قدرنا أن هذه الأوقاف كوقف طلحة، فهذا الحديث صريح: أنه لا يجوز للحاكم أن يجيز منها ما زاد على الثلث، فكيف وهي باطلة من وجوه كثيرة. الدليل الثاني: ما رواه الإمام أحمد: "أن بعض الصحابة طلق نساءه، وقسم ماله بين بنيه، فقال عمر: إني أظن الشيطان قذف في قلبك أنك تموت عن قريب، وأيم الله لتراجعهن، أو لأورثهن من مالك، ثم آمر بقبرك فيرجم كما رجم قبر أبي رغال". فليتدبر المؤمن الخالي عن التعصب والهوى هذا الحديث، ويعرف الفرق بينه وبين مسألتنا. ومعلوم: أن الطلاق حلال بالإجماع، لكن لما ظن عمر أن مراده حرمان النساء، وحجر المال على بنيه، قال فيه هذا القول الغليظ؛ فكيف يجعل هذا الأمر الذي من الجزء: 7 ¦ الصفحة: 34 فعله، أمر عمر برجمه كقبر أبي رغال أمراً مشروعاً، ويجوز الوقف فيه، ويثاب على حرمان النساء وغيرهن؟! ويتحيل بهذا بطلب الصدقة والقربة; وإنما هذه الأوقاف تشابه من قال الله فيهم: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي} [سورة التوبة آية: 49] تحيلاً على ترك الجهاد بالورع؛ وهؤلاء تحيلوا على تعدي الحدود بالوقف، ولا شك أن هذا من أنواع النفاق. وأما كلام الأئمة: فقال في الشرح الكبير: إن الميموني سأل أحمد عن بعض مسائل الوقف، فقال: ما أعرف الوقف إلا ما ابتغي به وجه الله; وقال أيضاً: قال أحمد أحب إلي أن لا يقف ماله، ويدعه على فرائض الله؛ ومعلوم: أن توقيف المال لو كان صحيحاً عند أحمد على الورثة، لكان أحب إليه من تركه، لكونه قربة مطلوبة للشارع. وأما كلام المتأخرين: فقال في الشرح أيضاً: إذا وقف ثلثه في مرضه على بعض ورثته، فروي عن أحمد عدم الجواز. والثانية: يجوز، واحتج بأن وقف عمر قال: "تليه حفصة ما عاشت، لا جناح على من وليه إن أكل". ثم رجح الشارح الرواية الأولى، قال: وأما خبر عمر فإنه لم يخص بعض الورثة بوقفه، وإنما جعل الولاية إلى حفصة، وليس ذلك وقفاً عليها، فلا يكون ذلك وارداً في محل النّزاع. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 35 إذا تبين هذا، فالذين يصححونه يحتجون بثلاث حجج: إحداها: العمومات الدالة على الصلة، كقوله: " صدقتك على ذي الرحم: صدقة وصلة " 1، وقوله: "ثم أدناك أدناك" 2؛ وهذا من العجائب، وهو من جنس من أجاز الصلاة في أوقات النهي، والصيام في الأعياد، بالعمومات الدالة على فضيلة الصلاة والصيام؛ ولكن هذا شأن من أراد اتباع المتشابه، يترك النصوص الصريحة، ويستدل بما لا دليل فيه. والذين يقولون: لا يجوز لأحد أن يشرع ما لم يشرع الله، ولا يجوز لأحد أن يغير حدود الله، يأمرون بصلة القريب، خصوصاً الأدنى، ولا تناقض بين ذلك، والذي أمر بالصلة والصدقة، هو الذي قال: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا} [سورة النساء آية: 14] ، وهو الذي قال: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [سورة الشورى آية: 21] ؛ فلا يجوز أن تضرب الأدلة بعضها ببعض، ويترك بعضها، بل كلها حق يصدق بعضها بعضاً. الثانية: أن الصحابة وقفوا على أولادهم، ويحتجون بجواب الحميدي، وهذا عنه جوابان: أحدهما: أن المرسل الذي اختلف في العمل به، هو مرسل التابعين،   1 الترمذي: الزكاة (658) , والنسائي: الزكاة (2582) , وابن ماجة: الزكاة (1844) , وأحمد (4/214) , والدارمي: الزكاة (1680) . (2) أحمد (2/226) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 36 وأما مراسيل المتأخرين، فأهل العلم مجمعون على أنه لا يثبت بها حكم. الجواب الثاني: أنهم ذكروا في جملتهم عمر والزبير، وهذا عمر وقفه معروف، وإنما جعل الولاية إلى حفصة، ومعلوم أن الإنسان إذا وقف على ابن السبيل والأيتام، وجعل ولِيَّهُ المصلح من ذريته، وله على عمله كذا وكذا، ليس مما نحن فيه. وأما الزبير، فعبارة البخاري في صحيحه: "وتصدق الزبير بدوره، واشترط للمردودة من بناته أن تسكن"؛ ومثال ذلك: أن يقف على بر مثل مسجد، أو الفقراء أو الأضاحي، ويقول: إن افتقر أحد من ذريتي فهو مقدم على ذلك، وليس هذا مما نحن فيه، ولعل وقف الصحابة كلهم على هذه الكيفية. وعلى كل حال: من ادعى خلاف ما قلناه، فعليه الدليل بالإسناد الثابت عنهم. الثالثة: العبارات التي توجد في كلام بعض العلماء: وإن وقف على أولاده، أو قال كذا وكذا وأمثال ذلك، يستدلون به على صحة هذا الوقف؛ وليس في هذا كله ما يدل على ما ذهبوا إليه، وغاية ما يدل كلامهم عليه، أن الرجل إذا وقف بعض ماله يريد به وجه الله والدار الآخرة، ولا يريد حرمان أحد، ولا تحريم بيعه عليهم خوف الفقر، بل مقصوده وجه الله، أنه يصح. وهذه المسألة مع كون فيها ما فيها، فليست مسألتنا، والذين قالوا هذه العبارات هم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 37 الذين اشترطوا: أنه لا بد أن يكون على وجه بر. وذكروا أن الوقف على المباح باطل، وهم الذين ذكروا أن الحيل على الحرام لا تحل؛ فإذا جمع الإنسان كلامهم تبين له ما قلنا، ولو قدرنا أنهم أرادوا ذلك، فالواجب عند التنازع الرد إلى الله والرسول، وقد تقدم من نصوص الكتاب والسنة ما يشفي ويكفي. وإذا كان الشارع قال: " إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث " 1، فحجر عليه ذلك مع كونه لا يعده ديناً، فكيف إذا قصد التقريب بهذا المنهي عنه، وأقر على نفسه أن هذا مقصده. ومثل من منعه في الوصية وأجازه في الوقف، مثل من حرم نكاح الأخت إذا كان لمجرد الشهوة، ثم يقول: إن قصد بر أخته فهو نكاح صحيح، وعمل ينال به ثواب الأبرار؛ فعسى الله أن يوفقنا وإخواننا لما يحب ويرضى. وقال أيضاً، قدس الله روحه ونور ضريحه: هذه كلمات، جواب عن الشبهة التي احتج بها من أجاز وقف الجنف والإثم، ونحن نذكر قبل ذلك صورة المسألة، ثم نتكلم على الأدلة، وذلك: أن السلف اختلفوا في الوقف الذي يراد به وجه الله على غير من يرثه، مثل الوقف على الأيتام، وصوام رمضان، والمساكين أو أبناء السبيل، فقال شريح القاضي وأهل الكوفة: لا يصح ذلك الوقف،   1 أبو داود: الوصايا (2870) , وابن ماجة: الوصايا (2713) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 38 حكاه عنهم الإمام أحمد; وقال جمهور أهل العلم: هذا وقف صحيح؛ واحتجوا بحجج صحيحة صريحة ترد قول أهل الكوفة. فهذه الحجج التي ذكرها أهل العلم، يحتجون بها على علماء أهل الكوفة، مثل قوله: صدقة جارية، ومثل وقف عمر، وأوقاف أهل المقدرة من الصحابة على جهات البر التي أمر الله بها ورسوله، ليس فيها تغيير لحدود الله. وأما مسألتنا فهي: إذا أراد الإنسان أن يقسم ماله على هواه، وفَرَّ من قسمة الله، وتمرد عن دين الله، مثل أن يريد أن امرأته لا ترث من هذا النخل، ولا تأكل منه إلا حياة عينها، أو يريد أن يزيد بعض أولاده على بعض فراراً من وصية الله بالعدل، أو يريد أن يحرم نسل البنات، أو يريد أن يحرم على ورثته بيع هذا العقار، لئلا يفتقروا بعده، ويفتي له بعض المفتين أن هذه - البدعة الملعونة - صدقة بر تقرب إلى الله، ويقف على هذا الوجه قاصداً وجه الله، فهذه مسألتنا؛ فتأمل هذا بشراشر قلبك، ثم تأمل ما نذكره من الأدلة. فنقول: من أعظم المنكرات وأكبر الكبائر: تغيير شرع الله ودينه، والتحيل على ذلك بالتقرب إليه؛ وذلك مثل أوقافنا هذه، إذا أراد أن يحرم من أعطاه الله من امرأة، أو امرأة ابن، أو نسل بنات، أو غير ذلك، أو يعطي من الجزء: 7 ¦ الصفحة: 39 حَرَمَه الله، أو يزيد أحداً عما فرض الله، أو ينقصه من ذلك، ويريد التقرب إلى الله بذلك مع كونه مبعداً عن الله، فالأدلة على بطلان هذا الوقف، وعوده طلقاً، وقسمه على قسم الله ورسوله أكثر من أن تحصر. ولكن من أوضحها دليل واحد، وهو أن يقال لمدعي الصحة: إذا كنت تدعي أن هذا مما يحب الله ورسوله، وفعله أفضل من تركه، وهو داخل فيما حض عليه النبي صلى الله عليه وسلم من الصدقة الجارية وغير ذلك، فمعلوم أن الإنسان مجبول على حبه لولده، وإيثاره على غيره، حتى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} [سورة التغابن آية: 15] . فإذا شرع الله لهم أن يقفوا أموالهم على أولادهم، ويزيدوا من شاؤوا، أو يحرموا النساء والعصبة ونسل البنات، فلأي شيء لم يفعل ذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! ولأي شيء لم يفعله التابعون؟ ولأي شيء لم يفعله الأئمة الأربعة وغيرهم؟ أتراهم رغبوا عن الأعمال الصالحة، ولم يحبوا أولادهم، وآثروا البعيد عليهم وعلى العمل الصالح، ورغب في ذلك أهل القرن الثاني عش؟ أم تراهم خفي عليهم حكم هذه المسألة ولم يعلموها، حتى ظهر هؤلاء فعلموها؟ سبحان الله ما أعظم شأنه وأعز سلطانه! الجزء: 7 ¦ الصفحة: 40 فإن ادعى أحد: أن الصحابة فعلوا هذا الوقف، فهذا عين الكذب والبهتان؛ والدليل على هذا: أن هذا الذي تتبع الكتب وحرص على الأدلة، لم يجد إلا ما ذكره، ونحن نتكلم على ما ذكره. فأما حديث أبي هريرة الذي فيه: " صدقة جارية " 1، فهذا حق؛ وأهل العلم استدلوا به على من أنكر الوقف على اليتيم وابن السبيل والمساجد، ونحن أنكرنا على من غير حدود الله، وتقرب بما لم يشرعه الله، ولو فهم الصحابة وأهل العلم هذا الوقف من هذا الحديث لبادروا إليه. وأما حديث عمر: أنه "تصدق بالأرض على الفقراء، والرقاب، والضيف، وذوي القربى، وأبناء السبيل"، فهذا بعينه من أبين الأدلة على مسألتنا، وذلك أن من احتج على الوقف على الأولاد، ليس له حجة إلا هذا الحديث، لأن عمر قال: "لا جناح على من وليه أن يأكل بالمعروف"، وإن حفصة وليته، ثم وليه عبد الله ابن عمر؛ فاحتجوا بأكل حفصة وأخيها دون بقية الورثة، وهذه الحجة من أبطل الحجج، وقد بينه الشيخ الموفق رحمه الله والشارح، وذكرا أن أكل الولي ليس زيادة على غيره، وإنما ذلك أجرة عمله كما كان في زماننا هذا. يقول صاحب الضحية: لوليها الجلد والأكارع، ففي هذا دليل من وجهين: الأول: أن من وقف من الصحابة مثل عمر وغيره، لم   1 مسلم: الوصية (1631) , والترمذي: الأحكام (1376) , والنسائي: الوصايا (3651) , وأبو داود: الوصايا (2880) , وأحمد (2/372) , والدارمي: المقدمة (559) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 41 يقفوا على ورثتهم، ولو كان خيراً لبادروا إليه؛ وهذا المصحح لم يصحح بقوله: "ثم أدناك أدناك " 1. فإذا كان وقف عمر على أولاده أفضل من الفقراء وأبناء السبيل، فما باله لم يوقف عليهم؟ أتظنه اختار المفضول وترك الفاضل؟ أم تظن أنه هو ورسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أمره لم يفهما حكم الله؟ الثاني: أن من احتج على صحة الوقف على أولاده وتفضيل البعض، لم يحتج إلا بقوله: "تليه حفصة، ثم ذو الرأي، وأنه يأكل بالمعروف"؛ وقد بينا معنى ذلك، وأنه لم يبر أحداً، وإنما جعل ذلك للولي عن تعبه في ذلك. فإذا كان المستدل لم يجد عن الصحابة إلا هذا، تبين لك أن قولهم: تصدق أبو بكر بداره على ولده، وتصدق فلان وفلان، وأن الزبير خص بعض بناته، ليس معناه كما فهموا، وإنما معناه: أنهم تصدقوا بما ذكر صدقة عامة على المحتاجين، فكان أولاده إذا قدموا البلد نزلوا تلك الدار، لأنهم من أبناء السبيل، كما يوقف الإنسان مسقاة ويتوضأ منها، وينتفع بها هو وأولاده مع الناس، وكما يقف مسجداً ويصلي فيه. وعبارة البخاري في صحيحه: "وتصدق أنس بدار، فكان إذا قدم نزلها، وتصدق الزبير بدوره، واشترط للمردودة من بناته أن تسكن". فتأمل عبارة البخاري يتبين لك ما ذكر   1 أحمد (2/226) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 42 عن الصحابة، مثل من وقف نخلاً على المفطرين من الفقراء في المسجد، ويقول: إن افتقر أحد من ذريتي فليفطر معهم، فأين هذا من وقف الجنف والإثم؟ على أن هذه العبارة كلام الحميدي، والحميدي في زمن القاضي أبي يعلى؛ وأجمع أهل العلم على أن مراسيل المتأخرين لا يجوز الاحتجاج بها، فمن احتج بها فقد خالف الإجماع، هذا لو فرضنا أنه يدل على ذلك، فكيف وقد بينا معناه، ولله الحمد. إذا تبين لك: أن من أجاز الوقف على الأولاد والتفضيل، لم يجد إلا حديث عمر. وقوله: "ليس على من وليه جناح"، وأن الموفق وغيره ردوا على من احتج به، تبين لك أن حديث عمر من أبين الأدلة، على بطلان وقف الجنف والإثم. وأما قوله: لم يكن من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذو مقدرة إلا وقف، فهل هذا يدل على صحة وقف الجنف والإثم؟ وما مثله إلا كمن رأى رجلاً يصلي في أوقات النهي، فأنكر عليه، فقال: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى عَبْداً إِذَا صَلَّى} [العلق: 9-10] ، ويقول: إن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلون، أو يذكرون فضل الصلاة. وكذلك مسألتنا، إذا قلنا: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ} [سورة النساء آية: 11] ، {وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ} [سورة النساء آية: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 43 12] . أو قلنا: " إن الله أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث " 1، أو قلنا: إن النبي صلى الله عليه وسلم غلظ القول فيمن تصدق بماله كله، أو قلنا: " اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم " 2، وادعوا علينا: أن الصحابة وقفوا، هل أنكرنا الوقف كأهل الكوفة، حتى يحتج علينا بذلك؟! وأما قول أحمد: من رد الوقف فكأنما رد السنة، فهذا حق، ومراده: وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، كما ذكره أحمد في كلامه. وأما وقف الإثم والجنف، فمن رده فقد عمل بالسنة، ورد البدعة، واتبع القرآن. وأما قوله: إن في صدقة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأكل بالمعروف، وإن زيداً وعمراً سكنا داريهما التي وقفا، فيا سبحان الله! من أنكر هذا؟ وهذا كمن وقف مسجداً وصلى فيه وذريته، أو وقف مسقاة واستقى منها وذريته; وقول الخرقي: والظاهر أنه عن شرط فكذلك، وهذا شرط صحيح وعمل صحيح، كمن وقف داره على المسجد، أو أبناء السبيل، أو استثنى سكناه مدة حياته؛ وكل هذا يردون به على أهل الكوفة، فإن هذا ليس من وقف الجنف والإثم. وأما قوله: "ابدأ بنفسك، ثم بمن تعول"، وقوله: " صدقتك على رحمك: صدقة وصلة " 3، وقوله: " ثم أدناك أدناك " 4، وأشباه ذلك؛ فكل هذا صحيح لا إشكال فيه، لكن لا يدل على تغيير حدود الله، فإذا قال: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي   1 أبو داود: الوصايا (2870) , وابن ماجة: الوصايا (2713) . 2 البخاري: الهبة وفضلها والتحريض عليها (2587) , ومسلم: الهبات (1623) , وأحمد (4/270) . 3 الترمذي: الزكاة (658) , والنسائي: الزكاة (2582) , وابن ماجة: الزكاة (1844) , وأحمد (4/214) , والدارمي: الزكاة (1680) . 4 أحمد (2/226) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 44 أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [سورة النساء آية: 11] ، ووقف الإنسان على أولاده، ثم أخرج نسل الإناث، محتجاً بقوله: " ثم أدناك أدناك " 1، أو صلة الرحم، فمثله كمثل رجل أراد أن يتزوج خالة، أو عمة فقيرة، فتزوجها يريد الصلة، واحتج بتلك الأحاديث، فإن قال: إن الله حرم نكاح الخالات والعمات، قلنا: وحرم تعدي حدود الله، التي حد في سورة النساء قال: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا} [سورة النساء آية: 14] ؛ فإذا قال: الوقف ليس من هذا، قلنا: هذا مثل قوله: من تزوج خالته، إذا تزوجها لفقرها، ليس من هذا، فإذا كان عندكم بين المسألتين فرق، فبينوه. وأما قول عمر: "إن حدث بي حادث أن "ثمغى" صدقة"، هذا يستدلون به على تعليق الوقف بالشرط؛ وبعض العلماء يبطله، فاستدلوا به على صحته. وأما قوله: إن عمر وقفه على الورثة، فيا سبحان الله! كيف يكابرون النصوص، ووقف عمر وشرطه ومصارفه في "ثمغى" وغيرها، معروفة مشهورة; وأما قول عمر: "إلا سهمي الذي بخيبر، أردت أن أتصدق بها"، فهذا دليل على أهل الكوفة، كما قدمناه، فأي دليل في هذا على صحة هذا الوقف الملعون، الذي بطلانه أظهر من بطلان حيلة أصحاب السبت بكثير. وأما "وقف حفصة الحلي على آل الخطاب"، فيا   1 أحمد (2/226) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 45 سبحان الله! هل وقفت على ورثتها؟ أو حرمت أحداً أعطاه الله، أو أعطت أحداً حرمه الله، أو استثنت غلة مدة حياتها؟ فإذا وقف محمد بن سعود نخلاً، على الضعيف من آل مقرن، أو مثل ذلك، هل أنكرنا هذا؟ وهذا وقف حفصة، فأين هذا مما نحن فيه؟ وأما قولهم: إن عمر وقف على ورثته، فإن كان المراد ولاية الوقف فهو صحيح، وليس مما نحن فيه، وإن كان مراد القائل: أنه ظن أنه وقف يدل على صحة ما نحن فيه، فهذا كذب ظاهر، ترده النقول الصحيحة في صفة وقف عمر. وأما كون حفصة وقفت على أخ لها يهودي، فهو لا يرثها، ولا ننكر ذلك. وأما كلام الحميدي فتقدم الكلام عنه. وسر المسألة: أنك تفهم أن أهل الكوفة يبطلون الوقف على المساجد، وعلى الفقراء والقرابات الذين لا يرثونهم، فرد عليهم أهل العلم بتلك الأدلة الصحيحة؛ ومسألتنا هي إبطال هذا الوقف الذي يغير حدود الله، وإيتاء حكم الجاهلية، وكل هذا ظاهر لا خفاء فيه؛ ولكن إذا كان الذي كتبه يفهم معناه، وأراد به التلبيس على الجهال، كما فعل غيره، فالتلبيس يضمحل، وإن كان هذا قدر فهمه، وأنه ما فهم هذا الذي تعرفه العوام، فالخلف والخليفة على الله؟ وأما ختمه الكلام بقوله: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 46 وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [سورة الحشر آية: 7] ، فيا لها من كلمة ما أجمعها! ووالله إن مسألتنا هذه من إنكارها، وقد أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم بلزوم حدود الله والعدل بين الأولاد، ونهانا عن تغيير حدود الله والتحيل على محارم الله، وإذا قدرنا أن مراد صاحب هذا الوقف وجه الله، لأجل من أفتاه بذلك، فقد نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البدع في دين الله ولو صحت نية فاعلها، فقال: " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه، فهو رد " 1، وفي لفظ: " من عمل عملاً ليس عليه أمرنا، فهو رد " 2؛ هذا نص الذي قال الله فيه: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [سورة الحشر آية: 7] ، وقال: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [سورة النور آية: 54] ، وقال: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [سورة آل عمران آية: 31] . فمن قبل ما آتاه الرسول وانتهى عما نهى، وأطاعه ليهتدي، واتبعه ليكون محبوباً عند الله، فليوقف كما وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم وكما وقف عمر رضي الله عنه وكما وقفت حفصة، وغيرهم من الصحابة وأهل العلم. وأما هذا الوقف المحدث الملعون، المغير لحدود الله، فهذا الذي قال الله فيه بعدما حد المواريث والحقوق للأولاد والزوجات وغيرهم: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ   1 البخاري: الصلح (2697) , ومسلم: الأقضية (1718) , وأبو داود: السنة (4606) , وابن ماجة: المقدمة (14) , وأحمد (6/240) . 2 البخاري: الصلح (2697) , ومسلم: الأقضية (1718) , وأبو داود: السنة (4606) , وابن ماجة: المقدمة (14) , وأحمد (6/180, 6/240, 6/256) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 47 وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} [سورة النساء آية: 13-14] . وقد علمتم ما قال الرسول فيمن أعتق ستة العبيد، وما رد وأبطل من ذلك، فهو شبيه من أوقف ماله كله خالصاً لوجه الله، على مسجد أو صوام أو غير ذلك، فكيف بما هو أعظم وأطم من هذه الأوقاف؟! وأما قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [سورة الحج آية: 77] ، فوالله الذي لا إله إلا هو، إن فعل الخير: اتباع ما شرع الله، وإبطال ما غير حدود الله، والإنكار على من ابتدع في دين الله؛ هذا هو فعل الخير المعلق به الفلاح، خصوصاً مع قوله صلى الله عليه وسلم: " وإياكم ومحدثات الأمور! فإن كل بدعة ضلالة " 1، وقوله: " لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود، فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل "، وقوله: " لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم، فجملوها فباعوها وأكلوا ثمنها " 2. فليتأمل اللبيب الخالي من التعصب والهوى، الذي يعرف أن وراءه جنة وناراً، الذي يعلم أن الله يطلع على خفيات الضمير، هذه النصوص، ويفهمها فهماً جيداً، ثم ينَزلها على مسألة وقف الجنف والإثم، ثم يتبين له الحق إن شاء الله. وأجاب أيضاً: وأما المسائل التي ذكرت، فاعلم أولاً: أن الحق إذا لاح واتضح، لم يضره كثرة المخالف،   1 أبو داود: السنة (4607) , وابن ماجة: المقدمة (42) , والدارمي: المقدمة (95) . 2 البخاري: أحاديث الأنبياء (3460) , ومسلم: المساقاة (1582) , وابن ماجة: الأشربة (3383) , وأحمد (1/25) , والدارمي: الأشربة (2104) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 48 ولا قلة الموافق، وقد عرفت بعض غربة التوحيد، الذي هو أوضح من الصلاة والصوم، ولم يضره ذلك. فإذا فهمت قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [سورة النساء آية: 59] ، وتحققت أن هذا حتم على المؤمنين، فاعلم: أن مسألة الأوقاف، فيها النزاع معروف في كتب المختصرات; ذكر في شرح الإقناع في أول الوقف: أنهم اتفقوا على صحة الوقف على المساجد والقناطر، يعني نفعهما لا الوقف عليهما، واختلفوا فيما سوى ذلك. إذا تبين لك، فاعلم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه، فهو رد " 1، وفي الصحيح: " من عمل عملاً ليس عليه أمرنا، فهو رد " 2، وتقطع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يأمر بهذا، ولو أمر به لكان الصحابة أسبق الناس إليه وأحرصهم عليه، وتقطع أيضاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى بسد الذرائع، وهو من أعظم الأشياء ذريعة إلى تغيير حدود الله، هذا على تقدير أن العالم المنسوب إليه هذا، يصحح مثل أوقافنا، وأنى ذلك، وحاشا وكلا، بل يبطل الوقف الذي يقصد به وجه الله على أمر مباح، ويقول: لا بد منه على أمر قربة. وأما كونه جعل ماله بعد الورثة على بر هذا لم يرد   1 البخاري: الصلح (2697) , ومسلم: الأقضية (1718) , وأبو داود: السنة (4606) , وابن ماجة: المقدمة (14) , وأحمد (6/240) . 2 البخاري: الصلح (2697) , ومسلم: الأقضية (1718) , وأبو داود: السنة (4606) , وابن ماجة: المقدمة (14) , وأحمد (6/180, 6/240, 6/256) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 49 إلا بعد انقراضهم، وعادتنا نفتي ببطلان مثل هذا، ولا نلتفت إلى هذا المصرف الثاني; وذكر بطلان مثل هذا، في الشرح الكبير، وغيره. وأما وقف المرأة على ولدها، وليس لها زوج، فكذلك تعرف: أن الوقف على الورثة ليس من دين رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو شرعه لكان أصحابه أسرع الناس إليه، سواء شرط على قسم الله أم لا؛ وهذا في الحقيقة يريد أمرين: الأول: تحريم ما أحل الله لهم، من بيعه وهديته والتصرف فيه. والثاني: يحرم زوجات الذكور وأزواج الإناث، فيشابه مشابهة جيدة ما ذكره الله عن المشركين في سورة الأنعام؛ ولكن كون الرسول صلى الله عليه وسلم لم يأمر به كاف في فساده، صلحت نية صاحبه أم فسدت. وأما إذا لم يعلم هل هذا على من يرث أم لا، ولكن الاستفاضة أنه على من يرث، فأنا لا أدري عن هذه المسألة؛ لكن أرى التوقف عنها، ولا ينْزع عن يد من يأكله إلا ببينة. وأما مسألة آل جمعة، فهي باطلة، لكونها وقفاً على الورثة، وأيضاً يحرم بعضهم، وأيضاً لم يشرع. وأجاب الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ محمد: وأما الذي وقف على ذريته الذكور، والأنثى حياة عينها، فهذا وقف الإثم والجنف، لما فيه من الحيلة على حرمان أولاد البنات ما جعل الله لهم في العاقبة، وهذا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 50 الوقف على هذه الجهة بدعة ما أنزل الله بها من سلطان؛ وغايته: تغيير فرائض الله بحيلة الوقف; وقد صنف فيها شيخنا، رحمه الله تعالى، وأبطل شبه المعارضين، ولا يجيزه إلا مرتاب في هذه الدعوة الإسلامية، وقصده مخالفة إمام المسلمين، أو جاهل لا يعرف السنة من البدعة، والهدى من الضلال، جاهل بأصول الشرع ومقاصد الشريعة؛ نعوذ بالله من الإفتاء في دين الله وشريعته بلا علم. وأجاب ابنه: الشيخ عبد اللطيف: الذي أوصى فيما خلف بثلاث حجج، وثلاث أضاحي، وباقي ثلث ماله وقفاً على عياله، وعلى عيال عياله ما تناسلوا، ويخص الضعيف، فإن استووا فهم فيه بالسوية على حسب الميراث ... إلخ; ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا وصية لوارث " 1، فما أوصى به الميت لورثته من الوقف باطل، وإنما يثبت ما فيها من الوصية بالحجج والأضاحي، والباقي ميراث على ما بينه الله في كتابه. وسئل الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف: عمن أوصى بأن يجعل الثلث من ماله يشتري به ملكاً في الأحساء، ويجعل على الذرية بموجب الشرع، ولم يعين فيه أعمال بر، فهل يكون على ذرية الموصي ذكورهم، وإناثهم بالسوية؟ أو يكون للذكر مثل حظ الأنثيين؟ وإن مات أحد من الذكور، أو الإناث، فهل أولاده ينَزلون منْزلته في   1 الترمذي: الوصايا (2121) , والنسائي: الوصايا (3641, 3643) , وابن ماجة: الوصايا (2712) , وأحمد (4/187) , والدارمي: الوصايا (3260) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 51 الموصى به؟ وهل أولاد الموجودين الأحياء، يشاركون آباءهم في الموصى به؟ فأجاب: الوقف المذكور على هذه الصفة وقف باطل، كما هو الصحيح عند محققي الحنابلة وغيرهم، إلا إذا اتفقت الورثة، وكانوا كلهم مرشدين، على جعل شيء منه في عمل بر وقربة، صح ذلك، وما فضل من الريع حكمه حكم الميراث، للذكر مثل حظ الأنثيين. وإن مات أحد من الورثة الذكور أو الإناث، فنصيبه لورثته، ينَزلون منْزلته، وكذلك الزوجة لها ميراث في الثلث، هذا هو العدل والشرع. وأجاب أيضاً: الذي وقف الثلث، ثم وقف بقية ملكه على أولاده، على حسب الميراث، وقفه باطل، لأنه مضاد لقسم الله في المواريث، فالذي يطلب تصحيح هذا، مبتلى بالهوى ومعارضة الشرع. سئل الشيخ حسن بن الشيخ حسين بن علي، رحمهم الله: عن الوقف على أعمال البر، وفاضله على الذرية؟ فأجاب: الوقف على الذرية لا يجوز، سواء كان كله أو فاضلاً، وللشيخ والدنا رحمه الله رسالة في هذا الوقف مبطلاً له، سماها: إبطال وقف الجنف والإثم، فتأملها يزل عنك إن شاء الله الإشكال. فيقسم فاضل هذا الوقف على الجزء: 7 ¦ الصفحة: 52 ورثة الواقف، وورثتهم من بعدهم: فيكون لهذه البنت نصف أمها، وباقيه على عصبة أمها. هذا الذي ندين الله به، ولا نتوقف لأجل كلام الأصحاب، والحق ضالة المؤمن. وسئل أيضاً: إذا وقف على عياله، هل يدخل أولاد البنت والبنات، قبل أن ينقرض البطن الأول؟ فأجاب: هذا الوقف هو وقف الجنف والإثم والميل، كما قرره الشيخ محمد، رحمه الله، في رسالته المعروفة، وأقام الأدلة القاطعة على ذلك، فراجعها، وأبطل هذا الوقف، وهو الحق الذي لا شك فيه؛ وعلى قول المتأخرين: لا يدخل ولد البنت والبنات إلا بعد انقراض البطن الأول، وقد أخرجوا ولد البنات من الأولاد؛ فلا تلتفت إلى ما قرروه، وعليك بإبطاله. وقال الشيخ عبد الله أبا بطين: أما حرمان أولاد البنات، فالشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله، أفتى بفساد هذا الوقف، وأدلة فساده ظاهرة - ولله الحمد - أنها على غير ملة الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه. وسئل أيضاً: إذا وقف رجل وقفاً، وجعل الفاضل على ذريته، هل يدخل فيه الزوجة وغيرها من الورثة؟ وذرية الولد الذي مات أبوه وهو حي؟ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 53 فأجاب: هذا الوقف غير صحيح، على الصحيح، كما هو معروف من كلام الشيخ محمد رحمه الله، وغيره من أهل التحقيق، لأن هذا في حكم الوصية للذرية، وقد قال صلى الله عليه وسلم: " إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث " 1. وأما على قول من صححه، فلا يدخل فيه أحد من الورثة غير الذرية، وأما ذرية الولد فيستحقونه بعد آبائهم مرتباً بطناً بعد بطن، ولا فرق بين من مات أبوه قبل أو بعد. وسئل: عن لفظ القريب والأقرب. فأجاب: أما لفظ القريب والأقرب فبينهما فرق، وهو أن القريب يعم الأقارب كلها، والأقرب يخص من كان إلى الميت أقرب من غيره من القرابة. سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عمن وقف نخلاً على جهة من جهات البر أو على أناس معينين، واشترط أن ذريته أولى به إن احتاجوا إليه؟ فأجاب: هذا صحيح عند العلماء، ولا نعلم أحداً منعه، ومما يدل على ذلك وقف الزبير الذي اشترط فيه السكنى للمردودة من بناته. وأما من وقف على عياله، فهذا إذا لم يكن له ورثة غيرهم، فالظاهر الجواز، ولا نعلم علة توجب المنع، وإن   1 الترمذي: الوصايا (2121) , والنسائي: الوصايا (3641) , وابن ماجة: الوصايا (2712) , وأحمد (4/187) , والدارمي: الوصايا (3260) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 54 كان له ورثة غيرهم وقف على الإجازة. وأما من وقف على المحتاج من ذريته، فلا أرى به بأساً، وكلام العلماء ظاهر في جوازه؛ فعلى هذا لو استغنى أولاده لصلبه، وفي أولادهم من هو محتاج، صرف إلى ولد ولده. وسئل أيضاً: عن وقف صورته: وقف زيد ملكه المسمى بكذا، المعروف في البلد الفلاني، على أخيه عمرو، ثم على ذريته من بعده؟ فأجاب: هذا الوقف المذكور صحيح لازم من رأس المال، لا يحسب من الثلث، لكونه منجزاً في الصحة. وقلنا: إنه وقف منجز، لإقراره بذلك إقراراً مطلقاً، غير معلق بموته؛ فبذلك صار وقفا منجزا. سئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن: عن رجل وقف على الضعفاء من عياله وأقاربه؟ فأجاب: يدخل فيه أولاده حتى ولد البنات، وأولاد أبيه، وأولاد جده، وأولاد جد أبيه، الأقرب فالأقرب، فإن لم يكن فيهم ضعيف، فحكمه حكم المنقطع، يصير على أقرب ورثته بالنسب حينئذ وقفاً عليهم، ولو كانوا أغنياء. وأجاب الشيخ عبد اللطيف: أما الوقف على الضعيف، فكثير من الناس يستعمل الضعيف بمعنى الفقير، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 55 والفقير عندهم من لا يجد كفاية، ولو بالقدرة على الكسب؛ والفقراء متفاوتون بعضهم أحوج من بعض، فيلزم الناظر أن يعطي كلاً بحسبه. وأجاب الشيخ عبد العزيز بن حسن: أما الذي وقف على الضعفاء من ذريته وأقاربه، يدخل فيه الضعيف من أولاده، وأولاد أبيه، وأولاد جده، وأولاد جد أبيه وإن نزلوا، الأقرب فالأقرب; فإن لم يكن فيهم ضعيف، فالظاهر أن حكمه حكم المنقطع، يكون على أقرب ورثة الواقف نسباً حينئذ وقفاً عليهم ولو أغنياء. سئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن: عمن وقف على أولاده ... إلخ؟ فأجاب: الذي تقرر في وقف الذي وقف على أولاده، للذكر مثل حظ الأنثيين، على أن من مات عن ولد فنصيبه لولده، ومن مات عن غير ولد رجع نصيبه إلى أهل الوقف. إنه لما مات ابن الابن عن غير ولد، رجع نصيبه لابن الموصي وبناته الأربع، فلما مات الابن صار نصيبه لابنه وابنته، للذكر مثل حظ الأنثيين، ثم مات اثنتان من بنات الموصي عن أختيهما وابن أخيهما وأخته، للذكر مثل حظ الأنثيين. فصحت المسألة من تسعين: للأختين اثنان وأربعون، ولابن الابن اثنان وثلاثون، ولأخته ستة عشر. ثم مات ابن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 56 الابن عن أخته وعمته، فصار لابنة الابن ثلث الوقف إلا تسعه، ولعمتيها ثلثاه وتسع الثلث. هذا ما تحقق في هذه المسألة، وليس فيها انقطاع لا في الوسط ولا في الانتهاء، خلافاً لمن توهم ذلك. قال في الشرح الكبير: فإن قال: وقفت على أولادي، ثم على أولاد أولادي، على أن من مات من أولادي عن ولد فنصيبه لولده، ومن مات منهم عن غير ولد فنصيبه لأهل الوقف، وكان له ثلاثة بنين، فمات أحدهم عن ابنين، انتقل نصيبه إليهما، ثم مات الثاني عن غير ولد، فنصيبه لأخيه وابن أخيه بالسوية، لأنهم أهل الوقف. صورة وقف أفتى فيه الشيخ عبد الرحمن بن حسن: أوقف رجل نصيبه في العقار المسمى ... على أولاد أخيه بطناً بعد بطن، للذكر مثل حظ الأنثيين، وليس للبنت إلا حياتها. فقال الشيخ عبد الرحمن بن حسن، رحمه الله: الصورة التي أبطلها الشيخ محمد، رحمه الله، هي: ما إذا وقف شخص على ورثته، واشترط فيه ما لا يحل من حرمان أولاد البنات، فأما هذا فليس فيه حرمان وارث يمنع صحته، والله أعلم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 57 سئل ابنه: الشيخ عبد اللطيف: عمن وقف على ابني ولده زيد، وهما: عمرو، وبكر، وما تناسلوا بطناً بعد بطن، ومن بعدهم على عيال ولده خالد وما تناسلوا؟ فأجاب: مقتضاه أن عيال خالد، وعيالهم، في الوقف سواء، من غير ترتيب، للذكر مثل حظ الأنثيين. وسئل: عمن أوصى بثلث ماله، وقفاً على أولاده ما تعاقبوا وتناسلوا، والوقف المذكور على أولاده لصلبه، وأوصى بأن ابن ابنه داخل في وقف الثلث، له ما لأبيه؟ فأجاب: هذه الوصية صحيحة، يشترك فيها أولاد الموصى لصلبه ذكرهم وأنثاهم، وما ذكر لابن ابنه صحيح، ينَزل منْزلة أبيه وأعمامه، ويقاسمهم حصته كما ذكره الموصى، ولا يحجب الأعلى منهم من دونه. سئل الشيخ محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف: عن رجل بيده وقف منصوص، وموقوف على يده وذريته، بطناً بعد بطن، واستولى ابنه عليه بعده، وخلف ثلاث بنات ... إلخ؟ فأجاب: ظاهر السؤال أن الذي بيده الوقف ليس وكيلاً، بل موقفاً عليه وذريته، بمعنى: أن غلة الوقف له ولذريته، وإن أوهم قول السائل على يده الوكالة؛ إذا ثبت هذا، فالموقوف عليه إن كان من ورثة الواقف، كولده الجزء: 7 ¦ الصفحة: 58 ونحوهم فهو باطل، وهو وقف الجنف والإثم، الذي ألف شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب في إبطاله رسالتين أو أكثر، وذكر على ذلك من الأدلة ما فيه كفاية; وأما الأصحاب فيجيزون مثل هذا الوقف. وأما إن كان الموقوف عليه ليس من ورثة الواقف، فهو صحيح، ويكون الوقف بين ثلاث البنات المذكورات بالسوية، ومن مات منهن رجع نصيبها لبقية أخواتها؛ فإذا لم يبق من الثلاث أحد، صار الوقف لأولاد الثلاث بالسوية: الذكر والأنثى سواء؛ فإذا لم يبق منهم أحد، انتقل للدرجة التي بعدهم على التفصيل السابق، وهكذا كما هو نص الواقف بقوله: بطناً بعد بطن. ودخول أولاد البنات هو على رواية عن أحمد، اختارها جمع، منهم صاحب الشرح الكبير، وهي المفتى بها عندنا لقوة دليلها. والرواية الأخرى: لا يدخلون، وهي المذهب، واختارها أكثر الأصحاب؛ فعليها يكون الوقف بعد انقراض البنات الثلاث، حكمه حكم منقطع الآخر، والمذهب: أنه لورثة الواقف نسباً وقفاً عليهم، وفيه خلاف. وسئل الشيخ عبد الله بن محمد بن حميد: عن قول الواقف: هذا وقف على أولادي، ثم على أولادهم، هل هذا ترتيب جملة على مثلها؟ أم ترتيب أفراد؟ وإذا قال: من الجزء: 7 ¦ الصفحة: 59 مات عن ولد فنصيبه لولده، هل هذا قرينة في دخول أولاد البنات أم لا؟ وما معنى ترتيب الجملة؟ وترتيب الأفراد؟ أفيدونا مأجورين. فأجاب: إذا قال: هذا وقف على أولادي، ثم أولادهم، فقد ذهب أكثر أصحابنا إلى أن هذا من باب ترتيب الجملة على مثلها، ومعناه: أنه إذا مات واحد من الأولاد الموقوف عليهم وله أولاد، لم يستحق أولاده شيئاً، بل يرجع نصيبه إلى من في درجته، وليس للبطن الثاني شيء ما دام موجوداً من البطن الأول أحد؛ هذا هو معنى ترتيب الجملة على مثلها. وقد ذهب جماعة من محققي أصحابنا إلى أن هذا من باب ترتيب الأفراد على مثله، منهم الشيخ تقي الدين، والعلامة ابن مفلح صاحب الفروع، وابن قاضي الجبل؛ وقال ابن أبي المجد: هو قوي في المعنى. وقال ابن اللحام - جامع الاختيارات -: هو أظهر. ومعنى هذا الذي ذهب إليه هؤلاء المحققون: أنه من باب ترتيب الأفراد على مثلها: إذا مات واحد من المذكورين في السؤال، انتقل نصيبه إلى أولاده، لا إلى من في درجته، والله أعلم. وأما إذا قال الموقف: من مات عن ولد فنصيبه لولده، فقد حكى غير واحد من الأصحاب: الإجماع في دخول أولاد البنات والحالة هذه، والله أعلم. وأما معنى: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 60 ترتيب الجملة على مثلها، وترتيب الأفراد، فقد ظهر لك معناهما مما تقدم، والله أعلم. وسئل الشيخ محمد بن إبراهيم: عن رجل وقف على المستضعف من ذريته، والموجود له ابن هو الآن غني وولد ابن، وأولاد بنت، ولابن الموقف الغني أولاد بنت، يريد أن ينْزلوا منْزلته؟ فأجاب: الكلام في المسألة في مقامات: الأول: صحة مثل هذا الوقف أو عدمها. الثاني: من يدخل في هذا الوقف ومن لا يدخل. الثالث: كون استحقاقهم على الترتيب أو الاشتراك. الرابع: التفضيل بين الذكر والأنثى وعدمه. فأما المقام الأول: فإنه لا ريب في صحة مثل هذا الوقف، وكلام العلماء في ذلك معروف، وقد استدل عليه بوقف الزبير رضي الله عنه حيث جعل للمردودة السكنى. وأما المقام الثاني: فإنه يدخل في هذا الوقف: المستضعف من أولاد بنيه وإن نزلوا بلا نزاع، كما في الإنصاف. وأما أولاد البنات، فالمذهب أنهم لا يدخلون، وعن الإمام أحمد رواية أنهم يدخلون. قال في الإقناع وشرحه: وإن وقف إنسان على عقبه، أو عقب غيره أو نسله، أو ولد الجزء: 7 ¦ الصفحة: 61 ولده أو ذريته، دخل فيه - أي الوقف - ولد البنين وإن نزلوا، لتناول اللفظ لهم، ولا يدخل فيه ولد البنات بغير قرينة، لأنهم لا ينتسبون إليه كما تقدم; وعنه: يدخلون، قدمها في المحرر والرعاية، واختارها أبو الخطاب في الهداية، لأن البنات أولاده، وأولادهن أولاده حقيقة، لقوله: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ} إلى قوله: {وَعِيسَى} [سورة الأنعام آية: 84-85] وهو ولد بنته، وقوله صلى الله عليه وسلم: " إن ابني هذا سيد " 1 يعني: الحسن، الحديث رواه البخاري; قال في الشرح: والقول بدخولهم أصح وأقوى دليلاً. انتهى من الإقناع وشرحه. قال في الإنصاف: ونقل عنه في الوصية: يدخلون، وذهب إليه بعض أصحابنا، وهذا مثله. قلت: بل هي هنا رواية منصوصة من رواية حرب; قال في القواعد: ومال إليه صاحب المغني، وهي طريقة ابن أبي موسى والشيرازي; قال الشارح: القول بأنهم يدخلون أصح وأقوى دليلاً، وصححه الناظم، واختاره أبو الخطاب في الهداية في الوصية، وصاحب الفائق، وجزم به في منتخب الآدمي، وقدمه في المحرر والرعايتين والحاوي الصغير وغيرهم، واختاره ابن عبدوس في تذكرته. انتهى كلام صاحب الإنصاف. وهذا هو المفتى به، وأفتى به الشيخ حمد بن   1 البخاري: الصلح (2704) , والترمذي: المناقب (3773) , والنسائي: الجمعة (1410) , وأبو داود: السنة (4662) , وأحمد (5/37, 5/44, 5/47, 5/49, 5/51) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 62 عبد العزيز، وقال في فتواه: وهذا اختيار ابن القيم، رحمه الله، وأفتى به شيخنا: الشيخ عبد الرحمن بن حسن. ويأتي في المقام الثالث بعض النقول، التي تزيد هذا إيضاحاً، إن شاء الله تعالى. وأما المقام الثالث: فإن استحقاقهم يكون على الترتيب بطناً بعد بطن؛ هذا هو الذي يدل عليه كلام الأصحاب، فإنهم صرحوا بذلك فيما إذا وقف على أولاده. قال ابن ذهلان: وإذا قال: هذا وقف على الضعيف من أولادي، أو أولاد زيد، فللبطن الأعلى فالأعلى، والذكر كالأنثى، أي كل ضعيف منهم. انتهى. وسئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن: عن رجل وقف على الضعفاء من عياله وأقاربه؟ فأجاب: يدخل فيه أولاده، حتى ولد البنات، وأولاد أبيه، وأولاد جده، وأولاد جد أبيه، الأقرب فالأقرب، فإن لم يكن فيهم ضعيف فحكمه حكم المنقطع، يصير على أقرب ورثته بالنسب حينئذ وقفاً عليهم، ولو كانوا أغنياء. انتهى، وبمثل ذلك أفتى الشيخ عبد العزيز بن حسن حرفاً بحرف، إلا أنه زاد: الذكر والأنثى سواء. وقال الشيخ عبد الله أبا بطين - في أثناء جواب له -: وأما من وقف على المحتاج من ذريته، فلا أرى به بأساً، وكلام العلماء ظاهر في جوازه؛ فعلى هذا لو استغنى أولاده الجزء: 7 ¦ الصفحة: 63 لصلبه، وفي أولادهم من هو محتاج، صرف إلى ولد ولده. انتهى. وأفتى بذلك الشيخ حسن بن حسين بن علي في مسألتين، وكلامه موجود عندنا، لولا خشية الإطالة لنقلته لك. فقد عرفت من هذا: أن أولاد بنت ابن الواقف لا يشاركون أولاد أولاد الواقف، لكونهم أعلى منهم درجة. وأما المقام الرابع: فكلام الأصحاب ظاهر في أن الذكر والأنثى سواء، إذا وقف على أولاده؛ قال في المغني والشرح والإنصاف: بغير خلاف نعلمه؛ فتحصل مما تقدم: أنه متى وجد مستضعف من البطن الأول، فلا شيء للمستضعف من البطن الثاني، وهكذا، وأن أولاد البنات يدخلون على الراجح. وسئل الشيخ عبد الله العنقري: عن معينات وقف بالأحساء؟ فأجاب: أما الأضاحي فهي وقف مطلق، والمفتى به عندنا أنها تصرف إلى ورثة الواقف نسباً، سواء كانوا أغنياء أو فقراء; وأما المنصوص عليه للفقراء والمساكين، وأهل الحاجة، فالذي أرى: أن أقارب الواقف الفقراء الموجودين في المجمعة أولى بذلك، لأنه قد قام بهم وصفان: القرابة والفقر، والواقف قد أطلق ولم يقيد صرفه بمحل، فتعين صرفه إلى أقاربه الفقراء، لترجح جانبهم بالقرابة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 64 قال أبو العباس ابن تيمية: إذا وقف على الفقراء، فأقارب الواقف الفقراء أحق من الفقراء الأجانب مع التساوي في الحاجة. اهـ. وقال في الإقناع وشرحه: ويصرف منقطع الآخر، كما لو وقف على جهة تنقطع ولم يذكر له مالاً، أو على من يجوز ثم على من لا يجوز. وكذا ما وقفه وسكت، إن قلنا: يصح الوقف حينئذ، فإنه يصرف إلى ورثة الواقف نسباً، لأن الوقف مصرفه البر، وأقاربه أولى الناس ببره، لقوله عليه السلام: " إنك إن تدع ورثتك أغنياء، خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس " 1، ولأنهم أولى الناس بصدقاته النوافل والمفروضات، فكذا صدقاته المنقولة، ولأن الإطلاق إذا كان له عرف صحيح صح وصرف إليه؛ وعرف المصرف هنا، أولى الجهات به، فكأنه عينهم لصرفه. انتهى ملخصاً. يؤيد ذلك: ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم " أن أبا طلحة لما تصدق ببيرحاء، وطلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يضعها حيث شاء، جعلها صلى الله عليه وسلم في أقارب أبي طلحة " 2، فهذه صدقة مطلقة، وقد صرفها النبي صلى الله عليه وسلم إلى أقارب المتصدق; وقد أجبنا في مسألة تشبه هذا. وكتب الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ على جوابنا ما أجاب به الأخ عبد الله العنقري، وفقه الله، من أن أقارب الواقف الفقراء أحق بالوقف من غيرهم هو الصواب؛ فليعلم   1 البخاري: الوصايا (2742) , ومسلم: الوصية (1628) , والترمذي: الوصايا (2116) , والنسائي: الوصايا (3627) , وأبو داود: الوصايا (2864) , وأحمد (1/176) , ومالك: الأقضية (1495) , والدارمي: الوصايا (3196) . 2 البخاري: الزكاة (1461) , ومسلم: الزكاة (998) , والترمذي: تفسير القرآن (2997) , والنسائي: الأحباس (3602) , وأبو داود: الزكاة (1689) , وأحمد (3/141) , ومالك: الجامع (1875) , والدارمي: الزكاة (1655) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 65 ذلك، والله أعلم بالصواب. سئل الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين: إذا قال: على أولادي أو على ذريتي ... إلخ؟ فأجاب: يختلف: أما إذا قال: على أولادي، فما دام باق من أولاده أحد ذكر أو أنثى، استحق جميع الوقف، فإذا انقرض البطن الأول صار لولدهم؛ وفي دخول أولاد البنات خلاف مشهور. وكذا إذا قال: على أولادي كل على قدر ميراثه، فلا يستحق البطن الثاني شيئاً حتى ينقرض البطن الأول. وأما الوقف على الذرية، فيتناول جميعهم: قريبهم وبعيدهم، ذكورهم وإناثهم سواء؛ وفي دخول أولاد البنات أيضاً، الخلاف المشهور. وأجاب الشيخ حمد بن عبد العزيز: الراجح أن أولاد البنات يدخلون في الذرية، وعليه الدليل من الكتاب والسنة، لأن الله ذكر عيسى في جملة ذرية إبراهيم، وهو ابن ابنته، وقال النبي صلى الله عليه وسلم للحسن: " إن ابني هذا سيد " 1 وهو ابن ابنته فاطمة. وقول المتأخرين من الحنابلة: إن أولاد البنات لا يدخلون في الذرية والأولاد، قول ضعيف مخالف للدليل، وليس معهم إلا قول الشاعر 2 وهو دليل   1 البخاري: الصلح (2704) , والترمذي: المناقب (3773) , والنسائي: الجمعة (1410) , وأبو داود: السنة (4662) , وأحمد (5/37, 5/44, 5/47, 5/49, 5/51) . 2 هو قوله: بنونا بنو أبنائنا وبناتنا ... بنوهن أبناء الرجال الأباعد الجزء: 7 ¦ الصفحة: 66 ساقط لا يعارض به الكتاب والسنة. وهذا قول شيخ الإسلام، وقدماء الأصحاب، وهو الذي يفتى به شيخنا عبد الرحمن بن حسن، رحمه الله تعالى. حكم الشيخ عبد الله بن دهيش في وقف نصه على أولاده، ثم من بعدهم أولادهم وأولاد أولادهم، ما تناسلوا بطناً بعد بطن، والآخر أوصى بعقاره على ابنه وابنته، ثم بعدهما على أولادهما، وأولاد أولادهما بطناً بعد بطن: أن تكون غلة الأوقاف بين ابن بنت بنت الموقف، وابن ابن بنته، وابنة ابن ابنته، وابنة ابن ابنه، بينهم أرباعاً، دون البطن الرابع. وفي وقف نصه على ابن له، ولم يذكر له مالاً، فصار منقطع الآخر، ولم يكن له سوى بنت ابنه، وابنة ابن ابنه: بينهم أرباعاً فرضاً ورداً، كما هو المقرر في المذهب، ودفعه إلى الشيخ محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف يسأله عن صحته؟ فأجاب: ما حكمت به في الأوقاف الثلاثة، من اشتراكهم دون غيرهم، وفي الوقف الرابع من أن حكمه حكم منقطع الآخر، وقسمته من أربعة فرضاً ورداً، هو الصواب، والله أعلم. سأل الشيخ عبد الله العنقري، الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف: عن دخول أولاد البنات في الوقف على الجزء: 7 ¦ الصفحة: 67 الأولاد، إذا كان مطلقاً بلا نص، ولا قرينة؟ فأجاب: أنت فاهم مسائل الخلاف؛ ومسألة دخول أولاد البنات في عموم الأولاد في الدخول في الوقف من غير قرينة، مسألة خلافية، في مذهب أحمد، رحمه الله: وبعض الأصحاب من المتأخرين يرون المنع مع عدم القرينة، وبعض الأصحاب من المتقدمين، وهو الذي اختاره في الشرح الكبير - لما ذكر الخلاف - دخول أولاد البنات ولو مع الإطلاق. فإذا عرفت هذا، فالأمر الذي قد سبقك من مفاتي نجد، لا تلتفت إليه، ولا يسوغ معارضته، والأمر الجديد الذي يرجع إليك عند أول حدوثه، قوة الدليل: ما ذهب إليه صاحب الشرح، والمفتى به قريب من الصواب، والله أعلم. فصل سئل الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين: عن بيع نخلة وقف تعطلت ... الخ؟ فأجاب: أما بيع ذلك لما ذكر فلا يجوز، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: " لا يباع أصلها، ولا يوهب، ولا يورث " 1. وقد تنازع العلماء في جواز بيع الوقف إذا تعطلت منافعه: فأجازه أحمد وغيره، ومنعه الشافعي وغيره.   1 البخاري: الشروط (2737) , ومسلم: الوصية (1633) , والترمذي: الأحكام (1375) , وأبو داود: الوصايا (2878) , وأحمد (2/55) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 68 والبيت الذي للغرباء، فالذي أرى: - إذا لم يمكن إصلاحه على نحو حالته الأولى - أنه يباع ويجعل في شيء يختص به الغرباء. وسئل الشيخ محمد بن محمود: عن وقف خرب وتعطل نفعه ... إلخ؟ فأجاب: إذا بلغ الحد المذكور الذي هو قريب تعطل المنفعة، جاز بيعه وصرف ثمنه في مغل يصرف في مستحق الوقف المذكور. سئل الشيخ حمد بن ناصر بن معمر عن إبدال الوقف ... إلخ؟ فأجاب: إذا أبدل صاحب الملك صاحب الوقف، فإن كان ذلك لمصلحة الوقف، بحيث يكون بالياً، أو كثير الخراب، وأراد إبداله بعامر، فهذا يجوز على القول الراجح؛ وهو القول بجواز المناقلة بالوقف للمصلحة، كما هو اختيار الشيخ تقي الدين، وابن القيم، رحمهما الله، بشرط أن يكون ذلك صادراً ممن له ولاية على الوقف، من جهة الواقف، أو من جهة الحاكم. وأما على كلام الحنابلة، وكثير من الفقهاء: فلا يجوز إلا أن تتعطل منافع الوقف، وحينئذ فمتى صدر المناقلة على غير الوجه المأذون فيه، فالوقف بحاله، لا تتغير الجزء: 7 ¦ الصفحة: 69 وقفيته، ولا يملك بالمبادلة. وسئل الشيخ حمد بن عتيق: النخل الوقف الذي تعطل سنتين مثلاً، ولا وجد من يعمره، وخيف هلاكه، ووجد أرض طيبة هل ينقل فيها؟ فأجاب: ينقل في الأرض الطيبة، لأنها أصلح للوقف من النخل المذكور. وسئل الشيخ محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف: عمن أوصى بثلث ماله من عقار، ودار، وأثاث، جعل الوصية في قطع متعددة، والمصلحة تقتضي بجعلها في عقار متحد؟ فإن كان تعلمون أن لفظ الموصي يجعل القطع المذكورة وقفاً لازماً لا يجوز العدول عنه، فتبقى على وقفيتها، وإن رأيتم جواز جمعها في العقار الذي يكون أصلح للوقف وللموقوف عليهم، فبينوا لنا ذلك جزيتم عنا وعن المسلمين خيراً؟ فأجاب: الذي يظهر لي: جواز جعلها في عقار متحد، لأن ذلك مصلحة ظاهرة للوقف وللورثة؛ وقد قرر شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله: أنه يجوز مخالفة نص الواقف إلى ما هو أنفع وأحب إلى الله. وقد ذكر الحافظ ابن رجب، رحمه الله، في شرح الأربعين، في الكلام على حديث عائشة، رضي الله عنها: " من عمل عملاً ليس عليه أمرنا، فهو رد " 1.   1 البخاري: الصلح (2697) , ومسلم: الأقضية (1718) , وأبو داود: السنة (4606) , وابن ماجة: المقدمة (14) , وأحمد (6/180, 6/240, 6/256) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 70 قال: وهذا الحديث إنما رواه القاسم بن محمد، لما سئل عن رجل له مساكن، فأوصى بثلث ثلاث مساكن، هل يجمع له في مسكن واحد؟ حدثتني عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من عمل عملاً ليس عليه أمرنا، فهو رد " 1"، خرجه مسلم؛ ومراده: أن تغيير وصية الموصي إلى ما هو أحب إلى الله وأنفع جائز، وقد حكي هذا عن عطاء، وابن جريج. انتهى. والله أعلم. سئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله: إذا كان ولد المسبل فقيراً ... إلخ؟ فأجاب: إذا كان ولد المسبل فقيراً، فهو أولى بالسبالة. سئل ابنه: الشيخ عبد الله: عن أسبال الجاهلية التي لا يعرف مصرفها؟ فأجاب: تصرف على المساجد وأبواب البر. وأما إذا انتقل أهل بلد عن بلادهم، وفيها مسجد عامر وفيه خشب، فإن كان يصلى فيه فلا يجوز نقضه، وإن كان متعطلاً فلا بأس أن يؤخذ خشبه، ويجعل في مسجد غيره. وأجاب أيضاً: وأما خشب المسجد المتعطل، فتؤخذ وتجعل في نظيره وهو مسجد آخر، ولو كان ببيع أو غيره، ولا تترك تعطل بلا نفع. وأما أرض المسجد المتعطلة، فلا بأس أنها تزرع بأجرة، وتصرف أجرتها في عمارة مسجد آخر.   1 البخاري: الصلح (2697) , ومسلم: الأقضية (1718) , وأبو داود: السنة (4606) , وابن ماجة: المقدمة (14) , وأحمد (6/180, 6/240, 6/256) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 71 وأجاب أيضاً: وأما ما فضل عن حاجة مسجد، صرف إلى مسجد محتاج. وله أيضاً: أما صرف الفاضل من تمر الصوام، فإذا استغنى أهل المسجد الذين جعل الوقف عليهم، فقال الشيخ تقي الدين: ما فضل عن حاجة المسجد صرف إلى مسجد آخر، لأن الواقف له غرض في الجنس والجنس واحد. وقال في موضع آخر: يجوز صرفه في سائر المصالح، وبناء مساكن لمستحقي ريعه القائمين بمصالحه، وإن علم أن وقفه يبقى وجب صرفه، لأن بقاءه فساد. انتهى. فعلى كلامه الأول: يصرف في نظيره في مسجد آخر، وعلى كلامه الثاني: يجوز للناظر صرفه إلى جهة وإن لم تكن نظير الجهة الأولى، إذا رأى المصلحة في ذلك. وإذا كان في النخل الموقوف فسيل، وغرس في وقف آخر، فلا أرى به بأساً، إذا كان النخل الموقف غنياً عن ذلك؛ وصرف الوقف من جهة إلى جهة جائز له إذا كان لمصلحة. وأما تبديل ولي الوقف تمراً بعيش أو عيشاً بتمر، فإذا كان فعله للمصلحة فلا أعلم فيه بأساً، إذا كان أصلح للموقف عليها. وأما كونه يسلم في الوقف قبل حصول الثمرة فلا يجوز، ويدعه إلى السنة المقبلة. وسئل الشيخ حسن بن حسين بن الشيخ: إذا وقف الجزء: 7 ¦ الصفحة: 72 على جهة معينة، ثم أراد الواقف أو غيره صرفه إلى جهة أخرى ... إلخ؟ فأجاب: يتعين مصرف الوقف إلى الجهة المعينة، على الصحيح من المذهب، نقله الجماعة، وقدمه في الفروع وغيره، وقطع به أكثرهم، وعليه الأصحاب. وقال الشيخ تقي الدين: يجوز تغيير شرط الواقف إلى ما هو أصلح منه، وإن اختلف ذلك باختلاف الأزمان، حتى لو وقف على الفقهاء والصوفية، واحتاج الناس إلى الجهاد صرف إلى الجند. انتهى من الإنصاف. فجوز الشيخ تغييره إلى ما هو أصلح، لا إلى ما هو مثله أو دونه، ووجه الأول وقوع الوقف لازماً، وانتقال الملك فيه بمجرد عقده إلى الله تعالى، ومعنى الانتقال هو انفكاكه عن اختصاصات الآدميين. قال العلامة ابن زياد الشافعي: والذي يظهر المنع في صورة السؤال، والواقف وغيره في هذا سواء، لزوال الملك عنه بالوقف. وسئل الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين: عمن وقف نخلة أو نخلتين مثلاً، يشترى من غلتها أضحية، واحتاج أولاد الواقف حاجة شديدة، ربما من مثله يموت جوعاً إذا لم يبع الأصل، هل يجوز صرف الغلة إلى من احتاج من أولاد الواقف ... إلخ؟ فأجاب: وأما صرف غلة ذلك إلى المحتاج من أولاد الجزء: 7 ¦ الصفحة: 73 الواقف، فقال: الأصحاب: يتعين صرف غلة الوقف إلى الجهة المعينة إلا ما فضل عنها; ونص على ذلك الإمام أحمد، ولم يفرق أحمد والأصحاب بين حالة الحاجة وغيرها. وقال الشيخ تقي الدين: يجوز تغيير شرط الواقف إلى ما هو أصلح منه، وإن اختلف ذلك باختلاف الأزمان، حتى لو وقف على الفقهاء والصوفية، واحتاج الناس إلى الجهاد صرف إلى الجند. فعلى اختيار الشيخ، رحمه الله: يجوز صرف ثمن الأضحية إلى من اشتدت حاجته من ولد الواقف. وذكر عبد الرزاق عن ابن جريج، قال: قال رجل لعطاء: رجل جعل ذوداً في سبيل الله، قال: له ذو قرابة محتاجين؟ قال: نعم، قال: فادفعها إليهم؛ فكانت هذه فتياه في هذا وأشباهه. وسئل الشيخ محمد بن إبراهيم: عن وقف على مسجد محبس على ذرية الواقف، وفيهم من يصلح للإمامة، ولكن أقل أحوالهم أشاعرة ... الخ؟ فأجاب: لا يجوز تقديم مبتدع إماماً في الصلاة، وإن كان نص الواقف وشرطه كما ذكرت؛ فإن قضاء الله أحق، وشرط الله أوثق، وغير خاف عليك إمامة الفاسق، فكيف بالمبتدع؟ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 74 وسئل أيضاً: عمن أوصى بثلثه في حجة وأضحية، وأوقف باقيه على ذريته وذريتهم، للذكر مثل حظ الأنثيين، وماتت واحدة من البنات قبل الموصي، فهل يستحق ورثتها كورثة من ماتت بعده؟ فأجاب: نعم يستحق كغيره. وسئل الشيخ عبد الله أبا بطين: إذا وقف إنسان وقفاً على مدرسة معينة، أو سراج مسجد، هل يصرف إلى مدرسة أو مسجد آخر ... إلخ؟ فأجاب: إذا وقف إنسان وقفاً على مدرسة معينة ... إلخ، فقد صرح الفقهاء بأن هذا شرط يجب العمل به، وإنما تنازعوا فيما فضل عن الجهة المعينة: فنص أحمد: أن ما فضل من وقف المسجد من حصره وزيته عن حاجته، يجوز صرفه إلى مسجد آخر، ويجوز الصدقة به على فقراء المسلمين؛ وعنه رواية أخرى: يجوز صرفه في مثله دون الصدقة به. وقيل: إن علم أن ريعه يفضل عنه دائماً وجب صرفه وإلا فلا، قاله الشيخ تقي الدين. وأما الأرض التي يجعل فيها آصع معلومة، فالذي نرى: أنها إذا زرعت أخذ منها ما جعل فيها، وإذا لم تزرع فلا يجب شيء، وكل سنة لها حكمها. سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: عمن يصح له الجزء: 7 ¦ الصفحة: 75 الإفطار في المسجد؟ هل هو الفقير؟ أو من أراده؟ فأجاب: إن كان الواقف خصه بالفقراء، فلا يأكل منه إلا الفقراء، ولا يجوز للغني الأكل منه، وإن كان جعله لمن أفطر في المسجد، فمن حضر فليفطر، الغني والفقير. وأجاب الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف، والشيخ إبراهيم بن عبد اللطيف، والشيخ سليمان بن سحمان، رحمهم الله: أن الوقف المذكور على الصورة المسؤول عنها، يجب صرفه إلى إمام المسجد المعين الراتب، ولا يجوز الاجتهاد فيه وصرفه إلى غير مستحقه الراتب فيه. وقال الشيخ عبد الله أيضاً: وأما الريع إذا لم يكف أضحية، أرصد حتى تكمل الأضحية، ولا يسلف. وقال الشيخ عبد الله بن حمد الحجازي: إن كان إذا أخرها سنة أو سنتين حصل من الغلة ثمن أضحية، فيؤخرها، وإن كان الريع قليلاً وتأخذ مدة ما حصل أضحية، فيجتهد: إما أن يؤخرها، أو يضمها مع غيرها. والشيخ حسن بن حسين أفتى أنه يرصد الريع قل أو كثر حتى يكمل ثمن أضحية؛ هذا في الوصايا خاصة، وأما التبرع فأمره واسع. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 76 وسئل الشيخ محمد بن عبد اللطيف، والشيخ سليمان بن سحمان: عن فرش المسجد، هل يجوز أخذ شيء منه أو يبقى في موضعه؟ أو يصرف في مصلحة أخرى للمسجد أو لغيره؟ فأجاب: لا يجوز أخذ شيء منه، بل ترصد لمصالح المسجد. وأجاب الشيخ عبد الله العنقري: أنقل كلام العلماء وأشير إلى ما هو الراجح عندنا: قال في المقنع وشرحه الإنصاف للمحقق المرداوي، رحمه الله: وما فضل من حصره وزيته، جاز صرفه إلى مسجد آخر، والصدقة به على فقراء المسلمين؛ هذا هو المذهب نص عليه، وجزم به في الهداية، والمذهب، ومسبوك الذهب، والمستوعب، والخلاصة، والوجيز وغيرهم، وقدمه في الفروع وغيره. وعنه: يجوز صرفه في مثله دون الصدقة به، واختاره الشيخ تقي الدين. وقال أيضاً: يجوز صرفه في سائر المصالح وبناء المساكن، لمستحق ريعه القائم بمصلحته. انتهى. قلت: ما ذكره شيخ الإسلام هو الصواب، لأنه أسعد بالدليل من غيره. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 77 سئل بعضهم: إذا سبل إنسان في أرض نقداً معلوماً، ثم امتنعت المعاملة به، ما الحكم في ذلك؟ فأجاب: هذه المسألة نظيرة ما لو أقرضه فلوساً فحرمها السلطان، فذكر أهل العلم أن له القيمة وقت القرض، حتى إن الشيخ تقي الدين، رحمه الله، طرد ذلك في الديون، كالصداق وعوض الخلع، والغصب والصلح؛ فإذا أقرضه فلوساً أو باعه بها ونحو ذلك، ثم حرمها السلطان، وتركت المعاملة بها بعد ذلك، فإنه يرجع بقيمتها على من هي عليه؛ فهذه المسألة مثلها، فإذا جعل الواقف نقداً معلوماً في أرض ونحوها، ثم حرمه السلطان وتركت المعاملة به، جعل بدله قيمة تلك الفلوس قبل كسادها. وسئل الشيخ محمد بن الشيخ إبراهيم آل الشيخ: إذا تعطلت منافع الوقف وبيع، ولم يأت ثمنه بمثله؟ فأجاب: إذا كان لبيع الوقف مسوغ، وبيع ولم يأت ثمنه بمثله، فإنه يشتري به من جنسه أنقص منه، والله أعلم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 78 باب الهبة والعطية سئل الشيخ سعيد بن حجي: إذا بلغ الغلام خمس عشرة سنة، هل تصح عطيته؟ فأجاب: قال في المغني: فأما الهبة من الصبي لغيره فلا تصح، سواء أذن الولي فيها أو لم يأذن، لأنه محجور عليه لحظ نفسه، فلا يصح تبرعه كالسفيه. انتهى. فقد صرح بأن السفيه لا تصح هبته. وقال في الإنصاف: سئل أحمد: متى تجوز هبة الغلام؟ قال ليس فيه اختلاف، إذا احتلم أو صار ابن خمس عشرة سنة. وقال في التوضيح: ويعتبر أن تكون الهبة من جائز التصرف. انتهى. وقال في المبدع: ويعتبر أن تكون - يعني الهبة - من جائز التصرف. انتهى. فقد علمت: أنه لا بد فيمن بلغ خمس عشرة سنة أن يكون رشيداً، والرشد: الصلاح في المال، في قول أكثر العلماء، قاله في الشرح والمبدع، وكلام أحمد يحتمل أنه رشيد. سئل الشيخ إبراهيم بن عبد اللطيف: عمن وهب مجهولاً؟ فأجاب: الهبة تصح مع الجهالة، لأن الشيخ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 79 تقي الدين وجمعاً من أهل العلم صححوا هبة المجهول المشاع، واستدلوا على ذلك بأدلة ظاهرة، وجهالة العين أخف من جهالة العدد؛ فالظاهر صحة الهبة في الصورة المذكورة، والوارث يقوم مقام الواهب في التعيين. وقول بعض أهل العلم: لا تملك إلا بالقبض، معناه: أن الواهب له الرجوع في الهبة قبل القبض، ولا رجوع في مسألتنا. سئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن: عن امرأة دفعت حليها إلى ابنتها، تجمل به لزوجها وهم في بيت واحد، فكانت تستعمله في حياة أمها، فلما ماتت ادعت البنت استحقاقه بذلك؟ فأجاب: الذي يظهر لنا أن البنت لما لم تدع الهبة، لا تملك بمجرد الإذن في الاستعمال، والظاهر أن ذلك إعارة لا تمليك؛ ومفهوم كلام الأصحاب الذي أشرتم إليه، دليل على هذا، لأن الأم لم تجهزها به إلى بيت زوجها، فلم يوجد ما هو تمليك. وأما الصورة التي سئل عنها الشيخ سليمان بن علي، فالفرق بينها وبين مسألتنا ظاهر، وذلك أن الأم ادعت أن ذلك الحلي الذي اشترته وألبسته البنت أنه ليس للبنت، والظاهر أن ما كان عليها، فهو لها بحكم اليد، وليس هنا أصل يعارض هذا الظاهر. وأما مسألتنا فالأصل فيها قوي، ولم يوجد ما ينقل عن ذلك الأصل القوي، فيبقى الجزء: 7 ¦ الصفحة: 80 حكم الأصل. هذا ما ظهر لي في حكم المسألة، والله أعلم. سئل الشيخ حسن بن حسين بن الشيخ: إذا جهزها أبوها بجهاز إلى بيت زوجها، هل تملكه بنقله ... الخ؟ فأجاب: تملكه بذلك، قال في المغني: فرع: ما جهزت به المرأة إلى بيت زوجها من مالها، أو مال أمها، أو مال أبيها، ليس لواحد منهما ولا غيرهما أخذه، ولا شيء منه; وقال في الإقناع: وتنعقد بإيجاب وقبول، وبمعاطاة بفعل يقترن بما يدل عليها؛ فتجهيز ابنته بجهاز إلى بيت زوجها تمليك لها. انتهى. فعلى هذا، إذا أرادت أمها أن تأخذ منه شيئاً، لم يكن لها ذلك. وإن أراد الأب الرجوع لأجل التسوية بين أولاده - كما ذكرت في السؤال - فلا مانع له بشرطه، وهو: أن لا يتعلق به حق غير، أو رغبة، نحو أن يتزوج الولد أو يفلس، أو يفعل ما يمنع التصرف مؤبداً أو مؤقتاً، فإن تعلق به شيء مما ذكر فإنه لا يرجع؛ اختاره المصنف وابن عقيل والشيخ تقي الدين، وهو مذهب مالك، لأن في رجوعه إبطال حقه، يؤيده قوله صلى الله عليه وسلم: " لا ضرر ولا ضرار " 1، كذا عللوه، هذا الذي يظهر لنا. وأجاب الشيخ عبد الله أبا بطين: أما إذا ألبست الأم ابنتها حلياً ... إلخ، فقد رأيت في ذلك جواباً لأحمد بن   1 ابن ماجة: الأحكام (2340) , وأحمد (5/326) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 81 يحيى بن عطوة، فإنه سئل: عما إذا وجد على البنت الصغيرة حلي، وثياب فاخرة، فما حكم ذلك؟ وهل تسمع دعوى الأم أن ذلك لها وإنما ألبسته إياها تجميلاً؟ أو دعوى الورثة أنه لمورثهم، وإنما جملها به؟ وهل بين الصغيرة والكبيرة فرق في ذلك؟ وهل ذلك عامٌّ الأب والأم. فأجاب: الظاهر من شواهد الأحوال والعرف والعادة المستمرة، أن تجميل الأبوين بنتهما بكل ما يعد تجميلاً، أنه تخصيص لها بذلك، دون سائر من يرثهما، إذا لم تجر عادتهما بأنه عارية تجري عليها أحكامها. إذا عرف ذلك، فلا كلام لسائر الورثة في ذلك، بعد موت المخصِّص المعطي للزوم ذلك بموته، كما صرح به الأصحاب؛ والتخصيص سائغ أيضاً في مسائل، كفقر وعلم ونحوهما. وأما الأم، فإن أقامت بينة شرعية أن ذلك لها، وأنه عارية، ساغت دعواها بذلك، وإلا فلا. ولا فرق بين الصغيرة المميزة والكبيرة في ذلك; وأما غير المميزة فمحل نظر وتأمل. والذي يظهر لي: أن ذلك عام الأب والأم، وإنما يعد الأب لأنه الغالب، والشيء إذا خرج مخرج الغالب، لا مفهوم له - إلى أن قال - فحيث ثبت إمكان ملك البنت، في المسألة المذكورة بما ذكر، فلا يجوز انتزاع ما صار إليها إلا بدليل راجح، يسوغ المصير إليه شرعاً. انتهى. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 82 ومن جواب للشيخ سليمان بن علي - وقد سئل عن هذه المسألة -: إذا كان الحلي على البنت، ولو لم تذهب به إلى بيت زوج، وادعته الأم، لم تقبل إلا بينة أنه للأم، وأنه على البنت عارية؛ ولو أقامت الأم بينة أنها التي اشترته لم تقبل، حتى تقول: وهو عارية على البنت. انتهى. سئل بعضهم: هل يجوز لإمام المسلمين قبول هدية المشركين أم لا؟ والمستدل على منعها بقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ} [سورة الأنفال آية: 36] مصيب أم لا؟ فبينوا لنا، رحمكم الله بالدليل. فأجاب: قبول هدية المشركين للأئمة جائز عند جميع علماء الإسلام، والإمام مخير بين قبولها وردها، وبين قبولها والمكافأة عليها؛ ولا ينكر هذا إلا رجل جاهل بهديه صلى الله عليه وسلم. وقد "أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم ملك أيلة من ملوك الروم بغلة، فكساه برداً. وقد أهدى له المقوقس هدايا كثيرة منها جبة سندس، فعجب الناس منها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده، لمناديل سعد بن معاذ في الجنة خير من هذا. وأهدى له صلى الله عليه وسلم أكيدر دومة هدايا، منها سلاح، ومنها بغال، ومنها حماره "يعفور" وأهدت له صلى الله عليه وسلم اليهودية شاة مشوية وقبلها وأكل منها، وأهدى له صلى الله عليه وسلم بالطائف عتبة وشيبة، طبق رطب مع عداس غلام عتبة، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 83 وقبله وأكل منه، ومعه زيد بن حارثة". وقال البخاري في صحيحه: باب قبول هدية المشركين، وذكر حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "هاجر إبراهيم عليه السلام بسارة، فدخل قرية فيها ملك أو جبار، فقال: أعطوها آجر"، ثم ذكر البخاري أحاديث لا نطول بذكرها، فمن أراد يراجعها فليراجعها في مكانها. وقد "خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه إلى بني النضير، يكلمهم أن يعينوه في دية الرجلين العامريين اللذيْن قتلهما عمرو بن أمية الضمري، فقالوا: نفعل يا أبا القاسم، اجلس هاهنا حتى نقضي حاجتك"، ذكره البخاري. فتأمل أيها المسترشد، رحمك الله تعالى، هديه وسيرته، يغنك عن هدي غيره، وعن تحكمات من لا يعلم؛ فهو صلى الله عليه وسلم أعلم بالقرآن ومعانيه ومضمونه وأوامره ونواهيه، ولو كان معنى الآية الكريمة ما ذكره هذا المعترض، لفهمه رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمل به، وبينه لأمته، كما بين أنواع المنهيات؛ بل إنه صلى الله عليه وسلم نهى أمراء السرايا والمغازي عن قبول الهدايا، وأخبر أنها غلول، وهذا منه سد للذريعة، وإبعاد لهم عن التهمة؛ والكلام على هذا يطول جداً. وأما معنى الآية الكريمة، فقال البغوي، رحمه الله، في معالم التنْزيل، في تفسير قوله تعالى: {لِيَصُدُّوا عَنْ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 84 سَبِيلِ اللَّهِ} [سورة الأنفال آية: 36] : أي: ليصرفوا عن دين الله؛ قال الكلبي ومقاتل: نزلت في المطعمين يوم بدر، وكانوا اثنا عشر رجلاً: أبو جهل بن هشام، وعتبة، وشيبة ابنا ربيعة بن عبد شمس، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج، وأبو البختري بن هشام، والنضر بن الحارث، وحكيم بن حزام، وأبيّ بن خلف، وزمعة بن الأسود، والحارث ابن عامر بن نوفل، والعباس بن عبد المطلب، وكلهم من قريش، وكان يطعم كل واحد منهم عشر جزر. وقال الحكم بن عيينة: نزلت في أبي سفيان، أنفق على المشركين يوم أحد أربعين أوقية ... إلى آخر ما ذكر، رحمه الله. فحكمها باق إلى يوم القيامة فيمن عمل عملهم؛ ولا ينبغي لمن يخشى الله والدار الآخرة أن يستدل بالقرآن على مراده وهواه، فإنه يجني على الشريعة أعظم جناية، ويكون من المفترين. سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ: عمن وهب للثواب هل يرجع؟ فأجاب: الواهب إذا كان مراده الثواب، فإنه يرجع فيها إذا لم يُثَب، وأما الصدقة فليس حكمها حكم الهبة، لأن الصدقة أن يتصدق على إنسان لفقره، والهبة أن يهب لآخر شيئاً ولو مع غناه، تارة يريد بها المكافأة، وتارة على الجزء: 7 ¦ الصفحة: 85 وجه الكرم والتفضل. وأجاب الشيخ إبراهيم بن عبد اللطيف: الهبة للثواب أو إرادته، الحكم فيها ظاهر، سواء اشترط ثواباً مجهولاً أو لا؛ وقد ذكر الموفق فيها روايتين: إحداهما: لا تصح. وعنه: يرضيه بشيء فتصح; وذكرها الشيخ تقي الدين ظاهر المذهب، قال الحارثي: هذا المذهب. فعلى هذا، عليه أن يعطيه حتى يرضيه، فإن لم يفعل فللواهب الرجوع؛ وقد قال عمر رضي الله عنه: "من وهب هبة أراد بها الثواب فهو على هبته، يرجع فيها ما لم يُرض منها"، وروى معناه عن علي وفضالة بن عبيد، رضي الله عنهم. وأما الفرق بين بذل الثواب قبل النّزاع، أو بعده فلم يتبين لي فيه شيء. وأجاب الشيخ حسن بن حسين بن علي: للواهب الرجوع في هبته، إذا لم يحصل له مقصوده الذي وهب لأجله. سئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن: إذا كان لرجل أرض ووهبها لابنه الصغير؟ فأجاب: إن قبضها له وأشهد، أو جعلها في يد رجل آخر، وجعله وكيلاً في قبضها منه لابنه، لزمه ذلك وقبضه من شرطه؛ وإن لم تقبض فلا لزوم. وعلى كل حال، فللوالد أن يرجع في هبته للولد، وأما إذا مات وصح القبض فلا رجوع، على ما ذهب إليه الأكثرون من العلماء. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 86 سئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله: عن الهبة، هل تلزم بمجرد العقد؟ فأجاب: الهبة تلزم بمجرد العقد. سئل الشيخ حمد بن ناصر بن معمر: عمن أبرأ غرماءه مما عليهم من الدين، فلما برئ من المرض أراد الرجوع فيما زاد على الثلث ... إلخ؟ فأجاب: هذا لا رجوع فيه، بل سقط الدين بمجرد إسقاطه؛ وإنما التفصيل فيما إذا أبرأ من الدين، ومات في ذلك المرض. وأما الذي أبرأ غريمه على شرط مجهول، بأن شرط عليه ذلولاً في الجهاد دائماً، ومتى ماتت اشترى أخرى، أو شرط عليه أضحية كل سنة على الدوام، فهذا لا يصح، والبراءة والحالة هذه لا تصح. سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ: عن الولد يبرئ من دين أبيه ... إلخ؟ فأجاب: الولد لا يجوز له أن يبرئ من دين أبيه من غير رضاه. وسئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عمن أبرأت أباها من شيء في ذمته لها، ولم يذكر الكاتب أنه سمعها تقر بذلك، ولا شهد على لفظها، هل يثبت الإبراء شرعاً والحال أنها منكرة صدور ذلك؟ فأجاب: أرى أنه لا يثبت بذلك براءة والحالة هذه، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 87 لأن الكاتب لم يذكر سماعه لكلامها، ولا ذكر شهادة منه بذلك. فصل سئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب: هل يجوز للوالد أن يفضل أحداً من أولاده في العطية؟ فأجاب: لا يجوز أن يفضل أحداً من أولاده على أحد منهم في العطية. وأجاب أيضاً: الوالد إذا أعطى بعض بنيه عطية وحازها، لم يرجعوا عليه. وأجاب ابناه: الشيخ حسين، والشيخ عبد الله: لا يجوز للوالد التفضيل بين أولاده في العطية، بل يحرم عليه ذلك، ويجب عليه ردها أو التسوية بينهم، كما ثبت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قصة النعمان بن بشير، لما نحله أبوه نحلة، فقالت أمه: لا أرضى حتى تشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتاه فأخبره فقال: " كل أولادك أعطيت مثل هذا؟ فقال: لا، فقال: اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم " 1، وفي لفظ آخر: " لا تشهدني على جور " قال النعمان: فرد أبي تلك العطية 2؛ وهذا مذهب الإمام أحمد وغيره، وهو الصواب. وسئل أيضاً الشيخ عبد الله: عمن أعطى بعض بنيه، فلما مرض أراد الرجوع، هل يجوز له؟   1 البخاري: الهبة وفضلها والتحريض عليها (2586, 2587) والشهادات (2650) , ومسلم: الهبات (1623) , والترمذي: الأحكام (1367) , والنسائي: النحل (3672, 3673, 3674, 3675, 3676, 3677, 3678, 3679, 3680, 3681, 3682, 3683, 3684, 3685, 3686) , وأبو داود: البيوع (3542، 3543، وابن ماجة: الأحكام (2375, 2376) , وأحمد (4/268, 4/269, 4/270, 4/273, 4/276) , ومالك: الأقضية (1473) . 2 البخاري: الشهادات (2650) , ومسلم: الهبات (1623) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 88 فأجاب: يجوز له، بل هو الواجب عليه، الذي إن تركه أثم بارتكاب معصية رسول الله صلى الله عليه وسلم لقوله: " اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم " 1؛ بل عند الشيخ تقي الدين وغيره من أهل العلم: أنه لو مات ولم يعدل، ولم يرجع في الهبة، صار للباقين مشاركته في تلك الهبة. سئل الشيخ محمد بن إبراهيم: عن الجمع بين حديث النعمان بن بشير: " اتقوا الله واعدلوا ... " 2، وحديث عائشة: " إن أباها نحلها جذاذ عشرين وسقاً ... " 3 ... إلخ؟ فأجاب: لا يعارض قول رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول أبي بكر ولا قول غيره، ويحتمل أن أبا بكر رضي الله عنه خصها لحاجتها، وعجزها عن الكسب والتسبب مع اختصاصها بفضلها، وكونها أم المؤمنين، وغير ذلك من فضائلها; ويحتمل: أن يكون نحلها، ونحل غيرها من ولده، أو نحلها وهو يريد أن ينحل غيرها، فأدركه الموت قبل ذلك؛ ويتعين حمل حديثه على أحد هذه الوجوه، لأن حمله على مثل محل النّزاع منهي عنه، وأقل أحواله: الكراهة. والظاهر من حال أبي بكر رضي الله عنه اجتناب المكروهات؛ هذا معنى ما في الشرح الكبير، والله أعلم. سئل الشيخ عبد الله: عمن أعطت أولادها الذكور،   1 البخاري: الهبة وفضلها والتحريض عليها (2587) , ومسلم: الهبات (1623) , وأحمد (4/270) . 2 البخاري: الهبة وفضلها والتحريض عليها (2587) , ومسلم: الهبات (1623) , وأحمد (4/270) . 3 مالك: الأقضية (1474) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 89 وهل الأم كالأب؟ فأجاب: كلام الشارع صلى الله عليه وسلم في وجوب التسوية شامل للأم، فإن كانت المرأة تزعم أنها أعطت البنات مثل ما أعطت الأولاد، وأمكن صدقها فحسن. فإن ثبت عندكم بأمارة أنها بارة الأولاد وقاطعة البنات، لزمكم أن تلزموها أن تعطي البنات مثل ما أعطت الأولاد على قدر ميراثهم، للذكر مثل حظ الأنثيين، على ظاهر كلام أحمد وغيره من أهل العلم. فإن ادعت غير ذلك، وزعمت أنها ما أعطتهم هذا العطاء الجزيل، إلا لأجل أن عندها لهم شيئاً أو غير ذلك من الأعذار التي يمكن معها صدقها، تركت. وسئل: عن رجل جهز بناته الكبار، وله أولاد صغار، وأشهد في صحته بأن ثلاثين نخلة لأولاده الصغار، في مقابلة ما أعطى البنات ... الخ؟ فأجاب: هذا عندي صحيح لازم، لأنه فعل ما أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم من التسوية بين الأولاد، والعدل بينهم; والراجح في عطية الوالد ولده عند الموت لأجل العدل بينهم أنها صحيحة لازمة، حتى إن الشيخ، رحمه الله، يختار أن الولد يرجع به على إخوانه، ولو ما أوصى به. وسئل: إذا فضل الوالد بعض أولاده بإذن ... إلخ؟ فأجاب: إذا فضل الوالد بعض الأولاد، بإذن الذين الجزء: 7 ¦ الصفحة: 90 لم يفضلوا، فالذي يظهر لي صحة ذلك، إذا أذنوا بطيب نفس ورضى، لأن الحق لهم في ذلك، كما أنه لا يجوز الوصية بزيادة على الثلث، إلا بإذن الورثة. وأجاب الشيخ حمد بن ناصر بن معمر: وأما مسألة العطية، فلا خلاف بين أهل العلم في استحباب التسوية بين الأولاد، وكراهة التفضيل، لكن اختلفوا في صفة التسوية: فالمشهور عن أحمد: إن المستحب أن يقسم بينهم على حسب قسمة الله في الميراث، فيجعل للذكر مثل حظ الأنثيين. وعند أبي حنيفة ومالك والشافعي: أنه يعطي الأنثى مثل ما يعطي الذكر. وسئل أيضاً: إذا فضل الوالد بعض أولاده لمعنى فيه، كفقر أو عمى أو زمانة، فهذه المسألة فيها خلاف، واختار الموفق الجواز، وقواه في الإنصاف. واستدل الموفق لذلك بقصة عائشة، حيث نحلها أبو بكر جذاذ عشرين وسقاً، الحديث بطوله. وأجاب الشيخ عبد الرحمن بن حسن: الذي أعطى أحد أولاده لضعفه، فالولد الضعيف يلزم أباه الغني أن ينفق عليه، فيكون من باب الواجب الذي سبب وجوبه حاجة الابن؛ فإن كان من الأولاد من هو مثله، وجب له مثل ما يجب لأخيه الماضي لفقره. سئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب: عمن أعطى الجزء: 7 ¦ الصفحة: 91 بعض أولاده وحازها، ومات ولم يعط الآخرين؟ فأجاب: الوالد إذا أعطى بعض بنيه عطية وحازها، ولم يعط الآخرين لم يرجعوا عليه. وأجاب ابناه: الشيخ حسين، والشيخ عبد الله: إذا أعطى بعض أولاده في حال الصحة، وفضلهم على الآخرين، وقبض المعطى العطية، ومات الوالد ولم يرجع في عطيته، فإن هذه المسألة فيها خلاف بين العلماء: فالأكثرون قالوا: تمضي العطية لمن أعطيها، والإثم على الوالد المفضل بينهم، ولا تحسب من الميراث. ومن العلماء من قال: إما أن ترد، وإما أن تحسب عليه من الميراث، ولا يأخذ زيادة على إخوته؛ وهذا القول أقرب إلى الدليل وأحوط. وأجاب الشيخ عبد الله أيضاً: الذي عليه أكثر أهل العلم، وهو الراجح عند كثير من الحنابلة وغيرهم، أنها تثبت للمعطى، ولا يرجع عليه الذين لم يعطَوْا شيئاً، ويكون الإثم على الوالد؛ وهذا هو الذي يفتي به شيخنا. والقول الثاني: أنهم يرجعون على المعطى ويكونون فيها سواء؛ وهذا اختيار الشيخ تقي الدين، وهو أقرب إلى ظواهر الأدلة. وسئل أيضاً: عن الذي يحيف في عطيته لأولاده، هل يجب الإنكار عليه؟ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 92 فأجاب: هذا من المنكر الذي يجب على المسلمين إنكاره ورده. وأجاب الشيخ حسن بن حسين بن الشيخ محمد: إذا أعطى بعض أولاده عطية في حال الصحة، وفضلهم على الآخرين، أو خصهم وقبض المعطى العطية، ومات الوالد ولم يرجع في عطيته، فإن هذه المسألة فيها خلاف بين العلماء: فذهب الإمام أحمد في المشهور عنه، ومالك والشافعي وأصحاب الرأي، وأكثر العلماء إلى أنه ليس لهم الرجوع، لأنها صارت لازمة في حق المعطَى بانتقالها إليه في حياة المعطي، واتصل بها القبول والقبض، قالوا: والإثم على الوالد المفضل بينهم. وعن أحمد رواية ثانية: أنها لا تثبت، وللباقين الرجوع; اختارها ابن بطة وأبو الوفاء ابن عقيل، والشيخ تقي الدين، ذكره عنهم صاحب الإنصاف، وروى عن عروة بن الزبير وإسحاق بن راهويه. فعلى هذه الرواية الأخيرة: إما أن ترد، وإما أن تحسب عليه من ميراثه. قال الوالد والعم عبد الله في جوابهما: هذا القول أقرب إلى الدليل وأحوط. انتهى. لكن الذي أفتى به شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، واستمرت عليه الفتوى: مذهب الجمهور. انتهى. وأجاب الشيخ سعيد بن حجي: ليس لهم الرجوع، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 93 قال في المغني والشرح: إذا مات - يعني الأب - قبل أن يسترده، ثبت ذلك للموهوب له ولزم، وليس لبقية الورثة الرجوع؛ هذا المنصوص عن أحمد، وبه قال مالك وأصحاب الرأي، وأكثر أهل العلم، لكن بشرط صحة العطية، وأن لا تكون في مرض الموت. وأجاب بعضهم: إذا فضل بعض أولاده بعطية مال، فمات قبل المساواة، فالكلام في هذه المسألة في مقامين: المقام الأول: في جواز التفضيل وعدمه; فمذهب الإمام أحمد، رحمه الله: أن ذلك لا يجوز إذا كان على سبيل الأثرة. فإن خص بعضهم بعطية أو فاضل بينهم أثم، إذا لم يختص بمعنى يبيح التفضيل، ووجب عليه المساواة، إما برد الفاضل أو إعطاء الآخر حتى يتم نصيبه؛ وبهذا قال ابن مبارك، وروى معناه عن مجاهد وعروة، واختار هذا القول الشيخ تقي الدين. وذهب الإمام مالك والثوري والليث، والشافعي وأصحاب الرأي إلى جواز التفضيل، وروى معنى ذلك عن شريح وجابر بن زيد والحسن بن صالح، لأن أبا بكر نحل عائشة جذاذ عشرين وسقاً دون سائر أولاده، واحتج الشافعي بقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث النعمان: " أشهد على هذا غيري " 1، فأمره بتأكيدها دون الرجوع. واحتج من ذهب إلى تحريم التفضيل، بما في   1 مسلم: الهبات (1623) , وأبو داود: البيوع (3542) , وابن ماجة: الأحكام (2375) , وأحمد (4/270) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 94 الصحيحين عن النعمان بن بشير قال: " تصدق علي أبي ببعض ماله، فقالت أمي عمرة بنت رواحة: لا أرضى حتى تشهد عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم. فجاء أبي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليشهده على صدقتي، فقال: أكُلَّ ولدك أعطيته مثله؟ قال: لا، قال: فاتقوا الله واعدلوا بين أولادكم. قال: فرجع أبي، فردّ تلك الصدقة " 1، وفي لفظ: "قال: فاردده"، وفي لفظ: "فارجعه"، وفي لفظ: " فلا تشهدني على جور " 2، وفي لفظ: " فأشهد على هذا غيري " 3، وفي لفظ: "سوِّ بينهم"، متفق عليه، وهو دليل على التحريم، لأنه سماه جوراً وأمره برده، وامتنع من الشهادة عليه؛ والجور حرام، والأمر يقتضي الوجوب، ولأن تفضيل بعضهم يورث بينهم العداوة والبغضاء وقطيعة الرحم فمنع منه، كتزويج المرأة على عمتها وخالتها. وقول أبي بكر: لا يعارض قول النبي صلى الله عليه وسلم ولا يحتج به، ويحتمل أن أبا بكر خصها لعجزها عن الكسب والتسبب مع اختصاصها بفضلها، ولكونها أم المؤمنين، وغير ذلك من خصائصها. ويحتمل أن يكون نحلها ونحل غيرها من ولده، أو يريد أن ينحل غيرها، فأدركه الموت قبل ذلك. ويتعين حمل حديثه على أحد هذه الوجوه، لأن التفضيل منهي عنه، وأبو بكر لا يفعل المنهي عنه مع علمه بذلك.   1 البخاري: الهبة وفضلها والتحريض عليها (2587) , ومسلم: الهبات (1623) . 2 البخاري: الشهادات (2650) , ومسلم: الهبات (1623) , والنسائي: النحل (3681, 3682, 3683) , وأحمد (4/273) . 3 مسلم: الهبات (1623) , وأبو داود: البيوع (3542) , وابن ماجة: الأحكام (2375) , وأحمد (4/270) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 95 وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم: " أشهد على هذا غيري " 1 فليس بأمر، وكيف يجوز أن يأمر بتأكيده، مع أمره برده وتسميته إياه جوراً؟ ولو أمره النبي صلى الله عليه وسلم بإشهاد غيره لامتثل ولم يرده؛ لكن قوله: " أشهد على هذا غيري " 2 تهديد، كقوله تعالى: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} [سورة فصلت آية: 40] . فأما إن خص بعضهم لمعنى يقتضي تخصيصه، من حاجة، أو زمانة، أو عمى، أو كثرة عياله، أو لاشتغاله بالعلم، ومنع بعض ولده لفسقه، أو بدعته، أو لكونه يعصي الله بما يأخذه، ونحوه، فاختار الموفق جواز ذلك، واستدل له بحديث أبي بكر، ولأن بعضهم اختص بمعنى يقتضي العطية، فجاز أن يختص بها، كما لو اختص بالقرابة. وأجاب عن حديث النعمان بأنه قضية عين لا عموم لها; وقد روي عن أحمد ما يدل على جواز ذلك، فإنه قال في تخصيص بعضهم بالوقف: لا بأس إذا كان لحاجة، وأكرهه إذا كان على سبيل الأثرة; والعطية بمعنى الوقف. قال في الإنصاف: قلت وهذا قوي جداً، ويحتمل أن يمنع من التفضيل بكل حال، لحديث النعمان لكون النبي صلى الله عليه وسلم لم يستفصل بشيراً في عطيته. وأما المقام الثاني: وهو إذا فضل أو خص بعضهم، ثم مات قبل الرجوع والمساواة، فهل تثبت العطية للمعطى أو للباقين؟ فقد اختلفت الرواية في ذلك عن أحمد، فروي   1 مسلم: الهبات (1623) , وأبو داود: البيوع (3542) , وابن ماجة: الأحكام (2375) , وأحمد (4/270) . 2 مسلم: الهبات (1623) , وأبو داود: البيوع (3542) , وابن ماجة: الأحكام (2375) , وأحمد (4/270) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 96 عنه: أنها تثبت للمعطَى وليس لبقية الورثة الرجوع، نص على ذلك في رواية محمد بن الحكم والميموني، واختاره الخلال وصاحبه أبو بكر. قال مالك والشافعي وأصحاب الرأي وأكثر أهل العلم: لقول أبي بكر لعائشة لما نحلها: "وددت لو أنك حزتيه"، فيدل على أنها لو حازته لم يكن لهم الرجوع. وقال عمر: "لا نحلة إلا نحلة يحوزها الولد، دون الوالد". والرواية الأخرى: لباقي الورثة أن يرجعوا ما وهبه، اختاره أبو عبد الله ابن بطة وأبو حفصة العكبريان، وابن عقيل والشيخ تقي الدين، وصاحب الفائق، وهو قول عروة بن الزبير وإسحاق. قال أحمد: عروة قد روى الأحاديث الثلاثة: حديث عائشة، وحديث عمر، وحديث عثمان، وتركها، وذهب إلى حديث النبي صلى الله عليه وسلم، والنبي صلى الله عليه وسلم سمى ذلك جوراً بقوله لبشير: " لا تشهدني على جور " 1، والجور لا يحل للفاعل فعله، ولا للمعطي تناوله، والموت لا يغيره عن كونه جوراً حراماً، فيجب رده. ولأن "أبا بكر وعمر، رضي الله عنهما: أمرا قيس بن سعد برد قسمة أبيه حين ولد له"، ولم يكن علم به ولا أعطاه شيئاً، وكان ذلك بعد موت سعد، فروى سعيد بإسناده: أن "سعد بن عبادة قسم ماله بين أولاده، وخرج إلى الشام فمات بها. ثم ولد له بعد ذلك ولد، فمشى أبو   1 البخاري: الشهادات (2650) , ومسلم: الهبات (1623) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 97 بكر وعمر، رضي الله عنهما، إلى قيس بن سعد، فقالا: إن سعداً قسم ماله ولم يدر ما يكون، وإنا نرى أن ترد هذه القسمة، فقال: لم أكن أغير شيئاً صنعه سعد، ولكن نصيبي له". سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: عن أخذ الأب من مال ابنه ... إلخ؟ فأجاب: وأما الأب فيجوز له الأخذ من مال ابنه؟ سواء كانت الأم موجودة أو لم تكن، ولا يجوز له أن يعطي منه، ولا يهب، ولا يتصدق. وأجاب أيضاً: وأما الأب فيجوز له الأخذ من مال ابنه، صغيراً كان أو كبيراً، بالشروط المذكورة في كتب الفقه. سئل الشيخ محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف: ما قولكم، وفقكم الله للصواب: إذا كان زيد أباً لعمرو، وأخذ زيد قسماً من مال عمرو، هل يحل له ذلك؟ وإذا طلب عمرو وأولاده بعده، استرجاع ما أخذ زيد، فهل لهم ذلك؟ أفتونا مأجورين. فأجاب: الحمد لله، يجوز للوالد أن يأخذ من مال ولده، لقوله صلى الله عليه وسلم: " أنت ومالك لأبيك " 1، وقوله: " إن أطيب ما أكلتم من كسبكم، وإن أولادكم من كسبك م" 2.   1 ابن ماجة: التجارات (2291) . 2 الترمذي: الأحكام (1358) , وابن ماجة: التجارات (2290) , وأحمد (6/162) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 98 ويشترط لأخذه من ماله ستة شروط: أحدها: أن يأخذ ما لا يضر الولد، ولا يحتاجه. الثاني: أن لا يعطيه لولد آخر. الثالث: أن لا يكون في مرض موت أحدهما. الرابع: أن لا يكون الأب كافراً، والابن مسلماً. الخامس: أن يكون عيناً موجودة. السادس: تملكه ما يأخذه من مال الولد، بقبض مع قول أو نية. هذا معنى كلام فقهائنا، رحمهم الله، وعليه الفتوى. ومنه يعلم: أنه ليس للولد استرجاع ما أخذه الأب بهذه الشروط الستة المذكورة; وأما مع فقدها أو فقد بعضها، فللولد استرجاعه، لعدم ثبوت ملك الأب عليه. هذا إن كان عيناً موجودة؛ وإن لم يكن كذلك، ثبت المثل في ذمة الأب، إن كان مثلياً، والقيمة إن كان متقوماً. وحكم أولاد عمرو، حكم أبيهم، إن استمر عدم ثبوت ملك زيد لذلك إلى وفاة عمرو، لأنه حينئذ يكون من جملة مخلفات عمرو. وسئل الشيخ حسن بن حسين بن الشيخ: عن امرأة ماتت عن زوجها وابنها وبنات، وخلفت شيئاً من الحلي وصار تحت يد الزوج جميعه، فمات ولم يوص به لعياله، ولم يشهد أنه تملكه أبوهم؟ فأجاب: قال في المقنع: وإن تصرف يعني الأب في مال ولده قبل تملكه ببيع أو عتق أو إبراء من دين، لم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 99 يصح تصرفه. انتهى. وهذا المذهب. وله تملكه بالقبض، نص عليه، مع القول أو النية، قاله الفقهاء، رحمهم الله، من أصحاب أحمد. فقد عرفت: أنه لا يصح التصرف قبل التملك، لأن مجرد قبض الوالد لمال ولده لا يكتفى به في ثبوت الملك، بل لا بد معه من القول المصرح بتملك مع القبض ومع الإشهاد عليه، مع أن مذهب مالك والشافعي وأصحاب الرأي: أن الأب لا يتملك من مال ولده إلا ما احتاج إليه فقط، ذكره عنهم في المغني وغيره، خلافاً لأحمد. وسئل الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن: هل للوالد أن يتملك جميع مال ولده الصغير، أو بعض ماله الذي يضر به؟ أم حكم الصغير كالكبير والغني كالفقير ... إلخ؟ فأجاب: للأب أن يتملك من مال ولده ما شاء، صغيراً كان الولد أو كبيراً، غنياً كان الأب أو فقيراً، بشروط ستة مقررة في محلها: منها: أن لا يضر بالولد ضرراً يلحقه في الحاجات الضروريات، كتملك سريته ونحو ذلك، وأن لا يكون في مرض موت أحدهما، وأن لا يعطيه ولداً آخر، وأن تكون عيناً موجودة، وله الرجوع في الهبة إذا كانت عيناً باقية في ملك الابن، لم يتعلق بها حق أجنبي ولا رغبة، كمداينة الأجنبي، وأن لا تزيد زيادة متصلة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 100 وعنه: الرجوع فيما زاد زيادة متصلة كالمنفصلة، وليس من جنس النماء، كما توهمه السائل؛ بل ذلك من التصرفات في الهبة. وقد نص فقهاؤنا: على أن كل تصرف للابن لا يمنعه من التصرف في العين، ليس بمانع للأب من الرجوع في هبته والتصرف فيها. والنقص الحاصل بقلع الغراس وأخذ الحلية لا يمنع الرجوع. وأجاب الشيخ عبد الله بن عبد العزيز العنقري: للأب أن يتملك من مال ولده، مع حضوره وغيبته، ورضاه وسخطه، وصغره وكبره؛ فإذا ملكه فله التصرف فيه، بأي نوع من أنواع التصرفات. ولا بد من قول الأب: تملكت هذه العين من مال ابني. وأما ما تصرف فيه الولد من أعيان ماله، من بيع أو هبة أو غير ذلك، فلا يملك الأب إبطال تصرفه، لتعلق حق الغير به. سئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله: إذا قال: وهبتك عمرك أو عشر سنين ... إلخ؟ فأجاب: إذا وهبه وقال: وهبتك عمرك، أو عشر سنين، فمثل هذا يجوز. وأجاب ابنه: الشيخ عبد الله: أما العمرى والرقبى، ففيها خلاف بين الفقهاء، ولا يتبين لي الآن وجه كونها لمن أَعمَرها أو لمن أُعمِرها. وأما الذي يشبه لفظ العمرى الجزء: 7 ¦ الصفحة: 101 عندنا، هو أن يقول: هي لك حياة عينك، أو ما عشت، أو حياة عيني، وأشباه ذلك. وأجاب أيضاً: وأما العمرى والرقبى، ففيها خلاف مشهور، والأحاديث فيها متعارضة؛ والذي نختاره: أنه إذا شرط الرجوع فيها رجعت إلى مالكها. وإذا أعطى عطية وقبضها المعطَى، فلا يجوز للمعطي الرجوع; فإن أعطاه أرضاً يستغلها سنة أو سنتين أو ثلاثاً، فإذا مضت المدة جاز له إرجاعها. وسئل أيضاً: عن كلام الشيخ في الهبة، إذا اشترط رجوعها إلى المعمِّر؟ - بالكسر - أو قال: لآخرنا موتا، هل ترون شيئاً يمنعه؟ فأجاب: الذي نرى أن الأحاديث تمنعه، وأخذ بظاهرها كثير من الفقهاء؛ وكلام الشيخ هو الموافق للأصول والقواعد. وأجاب الشيخ محمد بن محمود: وأما مسألة العطية، فإن كان على وجه المنيحة، كأن يقول: ولك غلته أو لك سكناه أو لك خدمته، فحكمه حكم العارية متى شاء استردها، وإن قال: هي لك حياتك أو عمرك أو حياتي، فهذه العمرى تكون للذي أعطيها ولورثته، ولا ترجع للذي أعطاها. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 102 سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: عمن حضرتها الوفاة، وأحضرت شاهد عدل، وأشهدت على نفسها: أنها أبرأت زوجها من صداقها؟ فأجاب: إن كان الصداق ثابتاً عليه إلى أن مرضت مرض الموت، لم يصح ذلك إلا بإجازة بقية الورثة، وأما إن كانت أبرأته في الصحة جاز ذلك، وثبت بشاهد ويمين عند مالك والشافعي وأحمد، ويثبت أيضاً بشهادة امرأتين ويمين عند مالك، وقول في مذهب أحمد. وإن أقرت في مرضها: أنها أبرأته في الصحة، لم يقبل هذا الإقرار عند أبي حنيفة وأحمد وغيرهما، ويقبل عند الشافعي. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: " إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث " 1، وليس للمريض أن يخص الوارث بأكثر مما أعطاه الله. وسئل الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين: عن إبراء المريض في مرض الموت، ورجوعه ... إلخ؟ فأجاب: إبراء المريض في مرض موته من الثلث، ولا يصح رجوعه عن الإبراء.   1 أبو داود: الوصايا (2870) , وابن ماجة: الوصايا (2713) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 103 سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد، رحمهما الله: عن الفرق بين العطية والوصية ... إلخ؟ فأجاب: أما الفرق بين العطية والوصية، فالفرق بينهما ظاهر كما ذكر في الشرح: أنها تفارقها في أربعة أشياء; وأما كون أهل بلدك لا يفرقون بينهما، فالألفاظ لا يعتبر بها. فإذا كان عندهم أن الوصية بمعنى العطية والهبة، فهي كذلك، وكذلك اللفظ؛ فكل هذا ينظر إلى مقصود المتكلم بذلك وعرفه في بلده، فإن كان مراده أنه يمضيها له في حياته وبعد موته، صارت بمعنى العطية والهبة، وإن كان العرف عندهم أن مراده بذلك إن مات، فهي بمعنى الوصية، ثبتت لها أحكامها. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 104 كتاب الوصايا سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: عمن أوصى في الجاهلية، هل هو كمن أوصى في الإسلام؟ وهل يفرق بين صحيحها وفاسدها؟ فأجاب: الذي يوصي بوصايا في الجاهلية لا تجوز في الإسلام، فما أدركه الإسلام قبل قبضه بطل، ولا ينفذ على الوجه الصحيح الشرعي. وأما إذا مات الموصي، وقبض الموصَى له المال، ثم أسلم بعد ذلك، فهذا يقر في يده ما كان قد تملكه قبل الإسلام، ولو كان بغير وجه صحيح؛ والإسلام يجُبُّ ما قبله، وسواء في ذلك الوصية والمواريث، والعقود الفاسدة. وأجاب أيضاً: الذي أوصى في الجاهلية بأعمال البر، فالعادة ندعه على ما أوصى به، ولا نتعرضه. وسئل، رحمه الله: عمن لا يملك إلا عشرين ريالاً، أو خمسة عشر، ويوصي بحجة، أو لا يوصي، هل تقدم الحجة على الميراث والحالة هذه؟ فأجاب: كلام أهل العلم لا يخفى عليك، ولكن مشكل علي كون مثل هذا يؤخذ من ماله، أو تصح الوصية الجزء: 7 ¦ الصفحة: 105 به والحالة هذه؛ والذي ذكر أهل العلم: أن من شروط الحج أن يملك زاداً وراحلة، وما يحتاج إليه في سفره، بشرط أن يكون ذلك فاضلاً عن قوته وقوت عياله، حتى قال أكثر الحنابلة على الدوام، وفاضلاً عن وفاء دينه، سواء كان الدين حالاً أو مؤجلاً، أو لغيره. وأتحرى أن مثل هذا الذي تذكر، ما توجد فيهم هذه الشروط، وعلى هذه الحال، لا يؤخذ من مالهم شيء، ولو وصى به أحد منهم، لم تصح وصيته. وسئل الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف: عن شخص أوصى في ثلث ماله بثلاث أضاحي، وأفرز الورثة شقصاً قدر عشر الثلث، وهو وقت الإفراز يفي بالأضاحي، والآن ما يفي بواحدة، فطلب ولي الأضاحي إكمالها من ثلث مال الموصي، فهل له ذلك؟ فأجاب: إذا عين الموصي الأضاحي في ثلث ماله، لم يجز للورثة حيازتها في بعض الثلث، لأن ظاهر لفظ الموصي تقديم الأضاحي، والخارج من الثلث بعدها، ولا يجوز العدول عن نصه؛ وهذا الإفراز ظلم من الورثة، والله أعلم. سئل الشيخ سعيد بن حجي: متى تصح وصية الصبي؟ فأجاب: أما وصيته، فقال في المغني: من جاوز عشر سنين، فوصيته جائزة إذا وافق الحق؛ قال أبو بكر: لا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 106 يختلف المذهب أن من له عشر سنين تصح وصيته، ومن له دون سبع سنين فلا تصح وصيته؛ وهذا قول أكثر أهل العلم، منهم مالك والأوزاعي والشافعي وأصحاب الرأي. وما بين السبع والعشر فعلى روايتين. انتهى. وقال في الشرح الكبير نحو ذلك. سئل الشيخ عبد الله بن عبد العزيز العنقري: عن وصية الجارية التي لم تبلغ؟ فأجاب: قد ذكر العلماء أنها تصح وصية الصبي العاقل في ماله بقدر الثلث. سئل الشيخ حمد بن ناصر بن معمر: عمن اعتقل لسانه عن بعض الكلام وهو مريض، وقيل له: أوص لفلان بكذا، وكرر عليه، ثم قال: فلاناً يسميه، ويشير برأسه إشارة ولم يتكلم به. فأجاب: العلماء اختلفوا في وصية من اعتقل لسانه: فقال في الشرح لما ذكر صحة وصية الأخرس: فأما الناطق إذا اعتقل لسانه فعرضت عليه وصية، فأشار بها وفهمت إشارته، فلا تصح وصيته إذا لم يكن ميؤوساً من نطقه؛ ذكره القاضي وابن عقيل، وبه قال الثوري والأوزاعي وأبو حنيفة. ويحتمل أن تصح؛ وهو قول الشافعي وابن المنذر. وقال في الإنصاف: لا تصح وصية من اعتقل لسانه، وهو المذهب، وعنه التوقف. ويحتمل أن تصح إذا اتصل الجزء: 7 ¦ الصفحة: 107 بالموت وفهمت إشارته؛ اختاره في الفائق؛ قلت: وهو الصواب. قال الحارثي: وهو الأولى، واستدل له بحديث رَضِّ اليهودي رأس الجارية وإيمائها. انتهى. وهذا الاختلاف فيما إذا اعتقل لسانه واتصل به الموت. وهذا المسؤول عنه قد تكلم باسم الرجل، فالظاهر من حاله أنه يقدر على التلفظ بالوصية فلم يلفظ بها، فلا يدخل تحت الصورة المختلف فيها، والأقرب عندي عدم الصحة. وأجاب أيضاً: إذا أوصى رجل في مرض موته، فقال الورثة: أوصى وهو لا يعقل، وقال بعضهم: بل أوصى وهو عاقل. هل تصح وصيته أو لا؟ فالذي يظهر لي صحة الوصية; لأن الأصل ثبوت العقل وصحة الوصية؛ ومن ادعى خلاف ذلك فعليه البينة. قال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن: وجدت على ظهر وثيقة أوصى بها عبد الرحمن بن محمد القاضي: إن كانت هذه الوثيقة بيد ورثة الموصي، وسبق عمل بها من وارثه أو وارث وارثه، ولم ينازع أحد من الورثة في صدورها عن مورثهم، فهذا منهم إقرار بالوصية وتسليم لمقتضاها؛ فيثبت الحكم الشرعي والتقرير لمضمون الوصية، وهو حجة شرعية. وإذا كان بخط من يوثق به من طلبة العلم المعروفين بالدين والأمانة، فهو مما يقوي ثبوت هذه الوصية والعمل بها. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 108 [الوصية بالأضاحي ووصية افقير] سئل الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين: عن الوصية بالأضاحي ووصية الفقير؟ فأجاب: أما الوصية بالأضحية فلا أرى بها بأساً، ولكن إنما تستحب الوصية لمن ترك خيراً؛ قال العلماء: المراد بالخير المال الكثير عرفاً، وأما الفقير فتكره الوصية في حقه، لا سيما إن كان ورثته فقراء، وكذلك من عليه دين لا ينبغي له ذلك، بل يبدأ بإبراء ذمته. لكن من طلب منك أن تكتب له فاذكر له المشروع، فإن عرفت أنه فقير ووارثه فقير، فلا أرى أنك تكتب له، وكذلك من عليه دين ربما يستغرق ملكه أو يقارب، فلا أرى الكتابة له. وسئل الشيخ حمد بن عبد العزيز: عمن قال: الوصية بالحجة والأضحية بدعة؟ فأجاب: القائل هو المبتدع بهذا القول، لأنه لم يسبق لذلك، وإذا كان الحج فرضاً من فرائض الإسلام، والتطوع به من أفضل القرب، كيف ينهى عن الوصية بالتطوع به، أو يقال هو بدعة؟ والقائل جاهل لا يعرف أصول السنة. غاية ما يقال: قد تكون الوصية للأقارب أفضل من ذلك، لا سيما حين فشا أخذ الجعالة على ذلك، كما أرشد النبي صلى الله عليه وسلم أبا طلحة حين تصدق بحديقته "بيرحاء"، ولم يعين جهة، قال صلى الله عليه وسلم: " اجعلها في الأقربين " 1؛ لكن القائل لا يحسن، أراد أن يجعل ترك الأولى بدعة ينهى عنه. كذلك الأضحية   1 البخاري: الزكاة (1461) , ومسلم: الزكاة (998) , والترمذي: تفسير القرآن (2997) , والنسائي: الأحباس (3602) , وأبو داود: الزكاة (1689) , وأحمد (3/141) , ومالك: الجامع (1875) , والدارمي: الزكاة (1655) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 109 مشروعة بالإجماع ومرغب فيها، ولا نهى أحد من الأئمة المقتدى بهم عنها في حق الميت، وإن كانت من الحي أولى وأفضل، لكن تسمية ترك الأولى بدعة، والنهي عنه جهل وضلال. سئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى: عمن أوصى بوصية ثم أوصى بعد بثلث ماله؟ فأجاب: أما إذا أوصى بوصية وعلقها على الموت، ثم أوصى بعد ذلك بثلث ماله، فإن الوصية تكون من الثلث، إلا إن كان منجزها. وأجاب ابنه: الشيخ عبد الله: أما الوصايا، فإنها من الثلث بلا إشكال، وأما الوقف، فإن كان ذلك صادراً في حال الصحة فهو من رأس المال، وإن كان لم يصدر إلا في حال المرض فهو من الثلث. وإذا قال في أوقافه أو وصاياه: هذا قادم في جميع مالي، فقوله هذا لا عبرة به؛ فلو وصى بزيادة على الثلث لم يصح إلا برضى الورثة. وأجاب الشيخ حسن بن حسين بن الشيخ: الذي أوصى في مرض موته، بأن بستانه وقف على بناته دون غيرهن من الورثة، فالوقف والحال ما ذكر غير صحيح، ولو خرج من الثلث، كما اختاره أبو حفص العكبري، والشيخ أبو محمد، وأبو الوفاء ابن عقيل؛ وهو رواية عن الإمام أحمد، خلافاً للمنصوص الثاني المعتمد عند المتأخرين، لأن الواقف قد الجزء: 7 ¦ الصفحة: 110 خصص بعض ورثته بالمال دون الباقين، والقرينة مشعرة بالحرمان، فمنع منه كالوصية في المرض، وقد قال صلى الله عليه وسلم: " لا وصية لوارث " 1، ويكون البستان المذكور بين الورثة على قدر ميراثهم إرثاً. سئل الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن، رحمهم الله: عن رجل أوصى فيما خلف بثلاث حجج، وثلاث أضاح، وأوصى بثلث ماله وقفاً على عياله وعيال عياله ما تناسلوا، ويخص الضعيف، فإن استووا، فهم فيه بالسوية على حسب الميراث؟ فكتب على الوصية المذكورة: ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا وصية لوارث " 2؛ فما أوصى به الميت لورثته من الوقف باطل، وإنما يثبت ما فيها من الحجج والأضاحي، والباقي ميراث على ما بيّنه الله في كتابه. أوصى رجل: بثلث ماله في ثلاث حجج، وثلاث أضاح ومسقاة ومسجد، وعلى المسجد ثلاثين وزنة، وأوجب على نفسه في حياته لابنيه علي وأحمد، كل واحد خمسة عشر ريالاً يتزوج بها، وذلولاً في الجهاد في سبيل الله، وما فضل عما ذكر فعلى الضعيف القريب. وللقائم في الوصية خمسون وزنة، والولي الأصلح من العيال يختاره أهل المعرفة من القرابات. والزوجة إن لم تتزوج فتأكل مع القرابة من الوصية. كاتب الوصية: الشيخ   1 الترمذي: الوصايا (2121) , والنسائي: الوصايا (3641, 3643) , وابن ماجة: الوصايا (2712) , وأحمد (4/187) , والدارمي: الوصايا (3260) . 2 الترمذي: الوصايا (2121) , والنسائي: الوصايا (3641, 3643) , وابن ماجة: الوصايا (2712) , وأحمد (4/187) , والدارمي: الوصايا (3260) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 111 محمد بن مقرن، وكتب عليها الشيخ عبد الرحمن بن حسن: هذا صحيح ثابت، والوقف ما فيه نائبة ولا زكاة. سئل الشيخ حسين والشيخ عبد الله: ابنا الشيخ محمد، رحمهم الله: عمن أوصى لبعض أولاده؟ فأجابا: إذا أوصى الرجل لبعض أولاده أو بعض ورثته، لم تصح الوصية، ولا يجوز إنفاذها بعد موته؛ وقد اتفق العلماء: أن لا وصية لوارث. فإذا أوصى بذلك فالوصية باطلة، إلا إذا أجاز ذلك الورثة، بشرط أن يكونوا رشيدين ليس فيهم سفيه ولا صغير. أوصى لبعض ولده بقصد التعديل وسئل الشيخ: عبد الرحمن بن حسن: عمن أوصى لبعض ولده بقصد التعديل ... إلخ؟ فأجاب: مقتضى ما اعتمده علماؤنا وصححوه، أن على الوالد التسوية بين أولاده، إما بالرجوع أو الإعطاء للآخر حتى يستويان، ولو في مرضه. فظاهره: حصرهم التسوية في هذين الأمرين، ولو جاز له الإيصاء بالتسوية لكان أمراً ثالثاً، ولو كان جائزاً لما أهملوه، وليس على الأب واحد منهما بعينه، حتى يقال يجب أو يجوز الإيصاء; فإذا انتفى وجوب الإعطاء بعينه، انتفى موجب تخصيص عموم حديث: "لا وصية لوارث " 1، يوضحه قول الفقهاء: فإن مات قبل التعديل ثبت للمعطَى، ولم يرجع الباقون على الأصح.   1 الترمذي: الوصايا (2121) , والنسائي: الوصايا (3641, 3643) , وابن ماجة: الوصايا (2712) , وأحمد (4/187) , والدارمي: الوصايا (3260) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 112 وعنه: يثبت للباقين الرجوع؛ اختاره ابن بطة وأبو حفص وابن عقيل، والشيخ تقي الدين وصاحب الفائق، فلم يقيدوا واحداً من القولين بعدم الإيصاء، فعدم تقييدهم به يدل على عدم جوازه; ومن المعلوم أن الوصية تبرع بعد الموت، وهو غير مأذون فيه للوارث، ونصهم في الوصايا: ولا تجوز لوارث بشيء إلا بإجازة الورثة; وقال بعض الأصحاب: الوصية باطلة، يؤخذ من عمومه المنع في صورة السؤال، والله أعلم. سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: عن وارث أجاز الوصية فيما زاد على الثلث، ثم أراد أن يرجع ... إلى آخر السؤال؟ فأجاب: ليس له ذلك بل متى أجازه لزمه، وكذا لو أقر بدين على مورثه ثم رجع، أخذ بإقراره في قدر نصيبه، وأما إذا أجاز الوارث الوصية، لظنه أن الموصَى به قليل، فكان كثيراً، فالقول قوله مع يمينه، وله الرجوع فيما زاد على ظنه، إلا أن يكون لا يخفى عليه قدره. وكذا لو أوصى بثلث التركة لبعض الورثة، فأجازه بعضهم لظنه أن مال الميت قليل فبان كثيراً، فله الرجوع فيما زاد على ظنه، إلا أن يكون المال ظاهراً لا يخفى. انتهى. [الوصية لبعض الورثة دون بعض] وسئل الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين: عن الوصية لبعض الورثة دون بعض؟ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 113 فأجاب: الحمد لله، الوصية للوارث لا تجوز، لما ثبث في السنن والمسانيد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا وصية لوارث " 1، كما رواه أحمد والترمذي وصححه، وابن ماجة والنسائي وغيرهم، عن عمرو بن خارجة أن النبي صلى الله عليه وسلم خطبهم على راحلته فقال: " إن الله قسم لكل إنسان نصيبه من الميراث، فلا تجوز لوارث وصية " 2. وعن أبي أمامة الباهلي، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في حجة الوداع في خطبته: " إن الله قد أعطى كل ذي حظ حظه، فلا وصية لوارث " 3، رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة والبيهقي، وفي إسناده إسماعيل بن عياش، وقد روى حديثه عن الشاميين جماعة، منهم الإمام أحمد والبخاري؛ وهذا من روايته عن الشاميين، فإنه رواه عن شرحبيل بن مسلم الشامي وهو ثقة، وقد صرح في روايته بالتحديث عنه الترمذي. وفي الباب عن أنس عند ابن ماجة، وعن عبد الله بن عمرو بن العاص وجابر، كلاهما عند الدارقطني، وعن علي عند ابن أبي شيبة، ولا يخلو إسناد كل منهما من مقال؛ لكن بمجموعها يقتضي أن للحديث أصلاً، بل احتج الشافعي أن متنه متواتر. وترجم البخاري في الصحيح: باب لا وصية لوارث: حدثنا محمد بن يوسف حدثنا ورقى، عن ابن أبي نجيح عن عطاء عن ابن عباس قال: "كان المال للولد والوصية للوالدين، فنسخ الله من ذلك ما أحب،   1 الترمذي: الوصايا (2121) , والنسائي: الوصايا (3641, 3643) , وابن ماجة: الوصايا (2712) , وأحمد (4/187) , والدارمي: الوصايا (3260) . 2 النسائي: الوصايا (3642) , وابن ماجة: الوصايا (2712) , وأحمد (4/186) . 3 أبو داود: البيوع (3565) , وأحمد (5/267) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 114 فجعل للذكر مثل حظ الأنثيين، وجعل للأبوين لكل واحد منهما السدس، وجعل للمرأة الثمن أو الربع، وجعل للزوج الشطر أو الربع"، رواه ابن جرير. وروى أبو داود في كتاب الناسخ والمنسوخ، وابن أبي حاتم في تفسيره عن ابن عباس في قوله: {الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} [سورة البقرة آية: 180] : نسختها هذه الآية: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً} [سورة النساء آية: 7] ، وبما قال ابن عباس، روي عن ابن عمر وأبي موسى وسعيد بن المسيب، والحسن البصري وسعيد بن جبير وشريح، ومجاهد ومحمد بن سيرين والضحاك وعكرمة وقتادة، وزيد بن أسلم والربيع بن أنس، ومقاتل بن حيان والسدي وإبراهيم النخعي ومسروق، ومسلم بن يسار والزهري والعلاء بن زياد وغيرهم; هذا إذا قلنا إن الوصية واجبة في أول الأمر، كما هو الظاهر من قوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ} . وقيل: إنها غير منسوخة، وإنما هي مفسرة بآية الميراث، ومعناه: كتب عليكم ما أوصى الله به من توريث الوالدين والأقربين، من قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} [سورة النساء آية: 11] . والصحيح: قول ابن عباس وابن عمر وأبي موسى وغيرهم كما تقدم؛ وبمقتضى هذه الجزء: 7 ¦ الصفحة: 115 الأحاديث قال فقهاء الأمصار في القديم والحديث. وأما إذا أوصى لبعض الورثة دون بعض، مع إجازة الورثة، فاختلف العلماء في ذلك: فالجمهور يقولون: تصح الوصية إذا أجاز الورثة. وقال المزني وداود: لا تجوز الوصية وإن أجاز الورثة، واحتجوا بما تقدم من الأحاديث. واحتج الجمهور بحديث ابن عباس مرفوعاً: " لا تجوز الوصية لوارث، إلا أن يشاء الورثة "، رواه الدارقطني والبيهقي عن عطاء عن ابن عباس، ورجاله ثقات، لكنه معلول؛ فقد قيل: إن عطاء هو الخراساني، وقد تكلم فيه الحفاظ، وقال الذهبي: إنه صالح الإسناد. وأجابوا عن حديث: " لا وصية لوارث " 1 بأن المراد: إذا لم يجز الورثة، لأن المنع في الأصل لحق الورثة، فإذا أجازوا لم يمتنع; فتبين بما ذكرنا: أن الوصية لبعض الورثة دون بعض موقوفة على إجازة بقية الورثة، على قول الجمهور، وأنهم إذا لم يجيزوا ذلك فهي باطلة بالإجماع. وأما إن أجاز بعضهم دون بعض، فتجوز في حق من أجاز منهم، ومن أبى أخذ حقه. سئل الشيخ حسن بن حسين بن الشيخ: عمن أوصى لآخر بوصية، فماتا بحادث؟ فأجاب: الذي يظهر أنها لا تنفذ ولا تصح من وجهين: الأول: أن الوصية هي التمليك بالتصرف بعد   1 الترمذي: الوصايا (2121) , والنسائي: الوصايا (3641, 3643) , وابن ماجة: الوصايا (2712) , وأحمد (4/187) , والدارمي: الوصايا (3260) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 116 الموت، فهي جارية مجرى الميراث، من حيث كونها انتقال مال من إنسان بغير عوض؛ فلا تُسْتَحَق إلا بتحقق حياة الموصَى له بعد موت الموصي. الوجه الثاني: أن الذي عليه جمهور الفقهاء: أن الملك لا يثبت للموصَى له إلا بالقبول بعد الموت، إذا كان الموصَى له واحداً، أو جمعاً محصوراً. قال أحمد: الهبة والوصية واحد. وقد عرفت أن الوصية المذكورة لا تنفذ ولا تصح. فصل سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد، رحمهما الله تعالى: عمن أوصى في الجاهلية لإناث، وجاء الإسلام والمال في أيديهن؟ فأجاب: وأما إذا أوصى لإناث بوصية مدة حياتهن، وجاء الإسلام والمال في يد الإناث، فإنه يكون لهم ولورثتهم. وإذا أوصى الميت أن يصرف ماله في ختمة، وقصده التقرب إلى الله، فصرفت في محاويج يقرؤون القرآن ختمة وأكثر، كان ذلك أفضل وأحسن. أوصى عند موته بعشاء لجيرانه، فهل ترده على الورثة؟ وسئل أبوه: عن الذي يوصي عند موته بعشاء لجيرانه، فهل ترده على الورثة، أو تصرفه في قرابة الميت؟ فأجاب: يصير على ما قال الموصي، لأنه لا يخالف الشرع. وأما الذي أوصى من ثلث ماله بحجة دراهم معلومة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 117 وهو ميت قبل هذا الدين وورثته فقراء، هل تصرف عليهم أو يحج عنه؟ فيقول: إن وجدوا من يحج لوجه الله لا لأجل الدراهم لكن يتعاون بها، فهي على وصيته، وإن كان ما حصل أحد يحج عنه على هذا الوجه، فهي تصرف على قرابته. انتهى. وسئل أيضاً: الشيخ عبد الله: عمن أوصى بحجة ولم يبين قدرها وكذلك الأضحية؟ فأجاب: الحجة الموصى بها المرجع في ذلك إلى العرف، فإذا أوصى بحجة أخرج من ثلثه ما يكفي الحاج، سواء قيل القدر عشرة أو أكثر. وكذلك الأضحية الموصى بها، يجزي فيها الجذع من الضأن، والثني من المعز. فإذا أوصى بغلّة نخلة في أضحية صرفت في ذلك، فإن فضل منها شيء اشترى به ثانية، لأن التعدد في الأضحية جائز. فإن أراد الولي صرف الفاضل إلى قريب محتاج، فهو حسن ولا يمنع من ذلك. وقد ذكر الشيخ تقي الدين، وغيره من أهل العلم: إن صرف الوقف من جهة إلى جهة جائز للمصلحة، فإذا كان يجوز صرفه عن الفقراء إلى الجهاد ونحوه للمصلحة، فالفاضل عن الجهة أولى وأحرى. سئل الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين: إذا دَبَّرَ عبده وأوصى بثلث ماله ... إلخ؟ فأجاب: إذا دبر عبده وأوصى بثلث ماله في بر، فإن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 118 الجميع يخرج من الثلث، لأن التدبير وصية على المشهور، وله الرجوع في الوصية وبيع المدبر على اختلاف في ذلك. والذي أوصى بوصية لمن أذّن في هذه المنارة المعينة جميع الأوقات، واشترط في استحقاق الوصية المذكورة: أن لا يخل بذلك وقتاً من الأوقات، فإذا لم يلتزم المؤذن ذلك الشرط لم يستحق شيئاً، فإن رأوا صرفه إلى المؤذن وإن لم يلتزم ذلك الشرط فحسن، وإلا صارت الوصية المذكورة ميراثاً. وسئل: عمن أوصى بدراهم يحج عنه بها، فاشترى بها نخلات وحصل من ريعها ما يفي بحجة ... إلخ؟ فأجاب: النخلات وما حصل منها يصرف كله في حجج عن الموصي. ونص أحمد فيمن أوصى بدراهم في وجه بر، أو ليشترى بها ما يوقف، فاتجر بها الوصي، فربحه مع أصل المال فيما أوصى فيه ولا زكاة فيه، وإن خسر ضمن النقص؛ هذا نص أحمد نقله عنه جماعة من أصحابه. وذكر الشيخ تقي الدين وغيره في الموصى به ليوقف، أنه إذا نما بعد الموت وقبل إيقافه، أن نماءه يصرف مع الوقف. سئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن: عمن أوصى بثلث ماله على أعمال بر وذريته ضعفاء؟ فأجاب: إن كانت الوصية على أعمال البر، جاز الجزء: 7 ¦ الصفحة: 119 لمتوليها أن يدفع إليهم من الوصية ما يستعينون به في حاجاتهم، وإن كانت الوصية لأناس معينين أعطوا ما وصى به، فإن كانت على حجج غير حجة الإسلام، فتصرف على المحتاج من ذريته، وكذلك ما كان على الأضحية صرف على فقراء ذريته، لأن الصدقة عليهم أفضل إذا احتاجوا لها، فلا بد من تنفيذ الوصية ابتداء، ثم يكون النظر للمتولى عليها. [الوصية على الأقارب] وسئل الشيخ إبراهيم بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن، رحمهم الله: عن الوصية على الأقارب ... إلخ؟ فأجاب: الوصية على الأقارب يدخل أولاد الموصي فيها، لأنهم أقرب القرابة ولا يختصون بها. سئل الشيخ علي بن عيسى: إذا قدر الموصي الأضحية بريال ... إلخ؟ فأجاب: الظاهر أن تقدير الموصي الأضحية بريال قصده الأعلى، لأن الريال في ذلك الوقت قيمة أعلى أضحية، وأما الريال اليوم فلا يحصل به شيء، ولا أدنى مجز، فلا يصار إلى التقدير المذكور، وتكون الأضحية في أعلى الموجود. سئل الشيخ عبد العزيز بن حسن: عمن أوصى لأمه بأضحية في حياتها، ولا أجاز الورثة ... إلخ؟ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 120 فأجاب: الوصية المذكورة ظاهرها الصحة، والوصية للوارث الممنوعة شرعاً هي التي يقصد بها الموصي التمليك، بحيث أن الموصى له يتصرف فيها تصرف الملاك بالبيع وغيره، وأما إذا أوصى الإنسان لبعض ورثته كوالده، بأضحية دائمة في ملك معين، فهو في الحقيقة لم يوص له إلا بالثواب؛ وهذا من البر الذي يحبه الله. وهذا الموصى له لا يملك إبطال الوصية، ولا التصرف فيها، والموصي ما قصد إلا تولي أضحيتها في حياتها، ولا مانع لولايتها عليها. وأما قول بعض الورثة: ما نجيز الأضحية لها إلا أن يقسم لحمها على الورثة، فهذا خطأ من وجهين: الأول: أن الأضحية لها بلا إجازة. والثاني: أن الأضحية قربة إلى الله ما يقسم لحمها على الورثة، والذي يليها إن أحسن أحسن لنفسه، وإن أساء فعليها. قال الشيخ علي بن عيسى: هذا صحيح، وهو المفتى به عندنا. وأجاب الشيخ حسن بن حسين بن علي: وأما وصية الرجل لأمه أو أبيه، بأضحية أو حجة وهم أحياء، فلا يمنع من ذلك، لأنه ليس بتمليك، وإنما هو من باب البر والإحسان إليهما بالثواب. انتهى. وسئل الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين: عما الجزء: 7 ¦ الصفحة: 121 إذا أوصى الإنسان بشيء من ماله يحج به لبعض ورثته أو يضحى به عنه؟ فأجاب: الذي يظهر صحة هذه الوصية ولزومها في الثلث بدون إجازة، لأن الموصى له لا يملكها ولا ينتفع بها، وإنما يرجو ثوابها في الآخرة؛ فهي كصدقة في مرضه وجعل ثوابها للوارث. وقد قال الأصحاب في تعليل صحة وقف المريض ثلثه أو وصيته بوقفه على بعض الورثة، بأنهم لا يبيعون ذلك ولا يهبونه، وإنما ينتفعون به. ومسألة السؤال أولى بالجواز، لأن الموصى له بأن يحج عنه ونحوه لا يملك الموصى به، ولا ينتفع به في الدنيا، والموقوف عليه ينتفع بالوقف، ويملكه على المشهور. ولما ذكر الزركشي تعليل الأصحاب لمسألة الوقف المذكورة، قال: قلت فكأنه عتق الوارث. انتهى. يشير - والله أعلم - إلى ما ذكروه في تصرف المريض إذا ملك وارثه بشراء ونحوه. وقياس مسألتنا على مسألة العتق أولى، والله أعلم. وبعد ختم الكتاب، عثرت على فتيا منسوبة لأبي المواهب الحنبلي، أنه سئل: عمن أوصى بأنه يحج عن أمه من ماله، وأمه حية، فأفتى: بأن ذلك يقف على إجازة الورثة، والله أعلم. والذي يترجح عندي: ما ذكرته في جوابي لك، ولكن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 122 حصل بعض التردد، وأحببت تشريفك على ذلك لتنظر وتأمل. ومن كلام لأحمد المذكور، قال: وأما الحجة، فليست بمال ولا يقصد بها المال، وإنما هي قربة، فلا يملك الموصى له بها لو كان حياً تصرفاً، فلا تثبت بدون رجلين. سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد، رحمهما الله: عما يوصي به الميت ... إلخ؟ فأجاب: والصدقة التي يوصي بها الميت، فيلزم إخراجها - ولو كثرت - منها، إلى الثلث. وسئل الشيخ إسحاق بن عبد الرحمن بن حسن: عن رجل أوصى في غلة نخله بعد مماته بشيء معلوم، هل يعم النخل كله إذا لم يكن له نخل غيره؟ أم يحصر في ثلثه؟ فأجاب: أمر الصبرة وما يتفرع عليها مشكل علي من قديم، وهذا كلام الشيخ محمد بن محمود وإملاؤه بحروفه: قال: فهذا كلام الشيخ فيها، وأنها من المشكلات لمن نظر في أصولهم، وباقي الإخوان يقولون: تحاز في جميع ثلث ماله، ولكن جعل الثلث محصوراً في النخل أولى. سئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن، رحمه الله: عمن ماله مائة وخمسون، وقد أوصى لرجل بثلث ماله، ولآخر بعشرة؟ فأجاب: إذا لم يجز الورثة ما زاد على الثلث، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 123 فيجعل الثلث وهو خمسون، ستة أسهم: لصاحب الثلث خمسة أسهم، كل سهم ثمانية وثلث، ولصاحب العشرة واحد منها: ثمانية وثلث. فصل سئل الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين: عمن أوصى بشيء من ماله وقال: وكيلي فلان؟ فأجاب: العامة يسمونه وكيلاً، والعلماء يسمونه وصياً، فالمأمور بالتصرف بعد الموت: وصي لا وكيل، بخلاف الحياة. فإذا قال الموصي: وكيلي فلان، أو وصيي فلان، فمراده تفويض التصرف إليه، فما أوصى إليه فيه فهو منفذ للوصية. فالموصي بشيء من ماله في جهة، وقال: وصيي فلان، فمراده تنفيذ وصيته، ولا يصح أن يحج بنفسه، وعبارة الفقهاء فيمن أوصى بحجة: أنه لا يصح حج وصي ولا وارث. قال في الشرح الكبير: لا يصح حج وارث إذا كان فيها فضل، إلا بإذن الورثة. وفي الإنصاف وغيره: من أوصى أن يحج الوارث بالنفقة جاز، وإذا أوصى الميت بشيء معين في حجة، دفع إلى من يحج عنه، وإن كان أكثر من أجرة المثل أو نفقة المثل، إذا لم يكن من الورثة، ما لم يزد على الثلث. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 124 سئل الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن: عن الوصي على صدقة الميت فطرة أو غيرها؟ فأجاب: الوصي على صدقة الميت أحق بالولاية من الورثة والعصبة، لأن الميت اختاره ورضيه، والله أعلم. وأجاب الشيخ عبد الله أبا بطين: إذا مات الوصي، أقام الحاكم في ذلك عدلاً من العصبة أو غيرهم، وليس للعصبة ولاية إلا مع عدم حاكم ووصي، على قول غير مشهور، لكنه متوجه مع عدم الحاكم. وأجاب الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن: واليتيم إذا كان له مال، يتولاه الوصي من جهة أبيه، فإن لم يكن هناك وصي، يجب على الحاكم الشرعي - وهو قاضي البلد أو الأمير - أن يولي على ماله من يحفظه، من أهل الأمانة والديانة. والوصي على صدقة الميت فطرة أو غيرها، أحق بالولاية من الورثة والعصبة، لأن الميت اختاره ورضيه. وأجاب ابنه الشيخ إبراهيم: الذي مات وعليه دين وبعض الورثة غائب، فإن كان المدين قد عين وكيلاً لقضاء الدين، نفذ تصرفه بغير إذن الورثة، وإن لم يكن عين وكيلاً، فلا ينفذ تصرف بعضهم بقضاء الدين إلا بإذن الحاكم، لأن له الولاية العامة. سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عن الوكيل على الجزء: 7 ¦ الصفحة: 125 القاصرين، هل يمضي تصرفه بكل حال ... إلخ؟ فأجاب: الوصي على القاصرين، إنما يملك التصرف فيما وُصي عليه به، فإذا أوصاه أبو الصغار عليهم، بالنظر في مالهم وما يصلح لهم، ملك التصرف فيما فيه مصلحة، وكذلك إذا كان لهم شريك في شيء، وطلب قسمه فالولي عليهم يقسم لهم وتمضي قسمته. ولا يملك الوصي تزويج صغير، إلا إن نص له الأب على التزويج، بأن يقول: وصيت إليك بتزويج بناتي، ونحو هذا. سئل الشيخ حسن بن حسين بن علي: إذا أوصى الرجل لأخيه أو عمه بأضحية ... إلخ؟ فأجاب: إن كان الميت وكل عليها وكيلاً، فهو أحق بولايتها، وارثاً أو غير وارث، وإن لم يوكل فالنظر للحاكم لا للوارث. والأضحية يذبحها الوكيل في بلد الموصي، ليكون الخارج منها لأقارب الموصي. وإذا لم يجعل الموصي الأضحية للوكيل أثلاثاً، فله قدر عمله منها، والباقي يخرجه في أقارب الميت والجيران والفقراء، وليس للورثة منازعة الوكيل. وقد يكون الميت نفع الوكيل بتوكيله مع حفظها. انتهى. وسئل الشيخ حمد بن ناصر بن معمر: عمن أوصى عند موته بأضحية، هل للموصى إليه أو غيره من ورثة الميت الأكل منها؟ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 126 فأجاب: الذي يظهر لي من كلام العلماء أنه لا بأس بذلك، وإنما اختلفوا في أضحية اليتيم. وأجاب الشيخ عبد الله أبا بطين: ما ذكرت من قول ابن ذهلان: أن ولي الأضحية لا يأكل منها ولا من تلزمه مؤنته، فرأيت كلاماً لبعض الأصحاب في الوكيل في التضحية: أن لا يأكل من أضحية موكله بلا نص من الموكل لوكيله على الأكل منها، كما لو قال: تصدق عني بهذا أو بكذا على الفقراء، والوكيل فقير لم يأخذ منها بلا نص من الموكل عليه. انتهى. والوصي وكيل، فقاسوه على الوكيل في التصدق كما ترى، وأباحوا له الأكل إذا أذن الموكل، ويمكن أن يقال: إن دلالة الحال من الموصي تدل على الإذن العرفي للموصى إليه في الأكل منها. وأجاب أيضاً: وأما الوصي في الأضحية، فقاسوه على من أوصي إليه بتفرقة شيء مثلاً على الفقراء وهو فقير؛ والمشهور في المذهب أنه لا يأخذ شيئاً; وأجاز جماعة له الأخذ; وفيه قول: يجوز له الأخذ، إن دلت قرينة على الإذن وإلا فلا، وتعليلهم يدل على أنه يجوز مع الإذن; فكذلك إذا أذن الموصي للوصي في الأكل من الأضحية جاز، وصرح ابن عبد الهادي بجواز الأكل له كغيره. وأما ما أفهمه كلام أحمد بن محمد، من أنه لا يجوز الجزء: 7 ¦ الصفحة: 127 له الأكل حتى مع الإذن، فالظاهر أنه ليس بصواب، لأن كلام الأصحاب قد دل على جواز الأخذ لمن أوصي إليه بتفرقة شيء، أو وكل فيه إذا أذن له في الأخذ، فكذلك إذا أذن الموصي للوصي في الأخذ من لحم الأضحية، وأي فرق؟! وأما إذا قال الموصي لوصيه في الأضحية: لك جلدها ونحوه على سبيل الوصية له بذلك، أو على طريق العوض، فالظاهر عدم جواز ذلك. وأما إذا قال: أذنت لك في الأكل من لحمها، فلا مانع منه. سئل الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن: عن قسمة الولي إلى آخره؟ فأجاب: قسمة الولي الشرعي، وتعيينه ما بيد الرجل المودع للصغار القاصرين قبل تلف ما بيده، قسمة شرعية تثبت بالإقرار والتعيين، فما تلف بعدها فهو مختص بمستحقه من القسمة الصادرة من الولي، وتعيين حصة الصغار فقط قسمة شرعية، وإن تلف الباقي قبل قسمته بين الثلث والكبار المرشدين; والحيف والإضرار يعتبر حال القسمة، ويرجع إلى العدل والتسوية، وأما بالنظر والتلف أو الكساد الحادث بعد القسمة، فلا حيف ولا ضرر في الإفراز والقسمة والحالة هذه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 128 كتاب الفرائض وسئل الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن: عن حديث زينب؟ فأجاب: اعلم أن الحديث قد دل بمنطوقه: على أن امرأة عثمان بن عفان، ونساء من المهاجرات، اشتكين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ضيق المنازل وإخراجهن منها، فأمر صلى الله عليه وسلم أن تُوَرَّث دور المهاجرين النساء المهاجرات، وتورث بضم التاء وفتح الواو وتشديد الراء، معناه: أن تجعل الدور لهن ميراثاً. فمات عبد الله بن مسعود، فورثت امرأته داره في المدينة أخذاً بهذا الحديث. هذا معناه. والناس مختلفون في وجه اختصاص النساء بذلك: فقال بعضهم: يشبه أن يكون ذلك على معنى القسمة بين الورثة، وإنما خصهن بالدور لأنهن بالمدينة غرائب لا عشيرة لهن، فحاز لهن الدور لما رأى من المصلحة؛ وهذا مختص بالمهاجرات، لاختصاصهن بعلة الحكم على هذا الوجه. وقد ألغز في ذلك بعض الأفاضل فقال: سلم على مفتي الأنام وقل له ... هذا سؤال في الفرائض مبهمُ قوم إذا ماتوا يحوز ديارهم ... زوجاتهم ولغيرهم لا تقسمُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 129 وبقية المال الذي قد خلفوا ... يجرى على أهل التوارث منهمُ وقيل: هو أمر منه صلى الله عليه وسلم باختصاص الزوجات المهاجرات سكنى دور أزواجهن مدة حياتهن، على سبيل الإرفاق بالسكنى دون الملك، كما كانت دور النبي صلى الله عليه وسلم وحجره في أيدي نسائه بعده، لا على سبيل الميراث، لقوله عليه السلام: " نحن لا نورث، ما تركناه صدقة " 1؛ لكن يحكى عن سفيان بن عيينة، أنه قال: "نساء النبي صلى الله عليه وسلم في معنى المعتدات، لأنهن لا ينكحن بعده، وللمعتدات السكنى، فجعل لهن سكنى البيوت ما عشن لا تملكها". ويشبه أن يكون أمره بذلك، قبل نزول آية الفرائض، فقد كانت الوصية للوالدين والأقربين مفروضة، وقد كان المهاجرون والأنصار يتوارثون بالمؤاخاة بينهم، فنسخ بآية الفريضة، وبقوله تعالى: {وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} [سورة الأنفال آية: 75، والأحزاب:6] ؛ وعمل الناس يدل على هذا ويرجحه. وأما استدلال أبي داود، في باب إحياء الموات، فتأوله على وجهين: أحدهما: أنه إنما أقطعهم العرصة ليبنوا فيها الدور، وعليه يصح ملكهم في البناء الذي أحدثوه في العرصة؛ وهذا الذي يظهر من صنع أبي داود. الوجه الثاني: أنهم إنما أقطعوا الدور عارية، وإلى هذا ذهب أبو إسحاق المروزي؛ ويرجح ذلك أن إقطاع الإرفاق وقع في المقاعد في الأسواق والمنازل في الأسفار، وهي يرتفق بها   1 البخاري: فرض الخمس (3094) , ومسلم: الجهاد والسير (1757) , والترمذي: السير (1610) , والنسائي: قسم الفيء (4148) , وأبو داود: الخراج والإمارة والفيء (2963) , وأحمد (1/48) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 130 ولا تملك؛ ومن هنا يحصل احتمال رابع في معنى اختصاص النساء بالدور دون سائر الورثة. وتقريره على هذا الوجه، أن يقال: الدور لم تملك بالإقطاع، بل هي عارية في يد أربابها، وبعد هلاكهم أمرها إلى الإمام، يسكنها من شاء بحسب المصلحة، فلذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم باختصاص المهاجرات، دون سائر الورثة. وقول بعضهم: إن الميراث لا يجرى إلا فيما كان المورث مالكاً له، فيه نظر ظاهر، والله أعلم. سئل الشيخ محمد بن إبراهيم: عن الميت إذا تنازع عصبته في ميراثه، وكل واحد يدعي أنه أقرب، ولا بينة مع أحدهم على دعواه، إلا قول الميت قبل وفاته: إن الأقرب إليه فلان؟ فأجاب: اعلم أن قول المورث هذا لا يصير إقرارا بوجه، وإنما هو من باب الشهادة؛ وإذا كان كذلك، فإنه لا يظهر لي أنه يشترط في مثل تلك الشهادة بيان الدرجة، هل هي الثانية أو الثالثة مثلاً، أو لا يشترط شيء من ذلك، بل يكتفى بمجرد شهادته أنه أقرب من غير تفصيل. ومثل هذه ينبغي التأني فيها، إذ ربما يثبت مدع آخر، أو يوجد بينة مع أحد الطرفين. وقال الشيخ محمد بن محمود: سألني عبد العزيز بن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 131 جماز عن مسألة أخت عثمان السليمان، وقد كنت كتبت سابقاً - تحت فتيا الشيخ عبد العزيز بن حسن، نسأ الله في أجله - من كلامهم ما ظهر لي في المسألة، وحاصله: أن النسب لا يثبت بمجرد الدعوى، ولا يثبت إلا ببينة تعين الأحق بالإرث، إما بشهادة قاطعة، أو استفاضة تقرب من القطع، وأما مجرد دعوى بني فلان مع كثرة المدعي، وتكاثر شعوب المُدَّعَى، فلا يثبت بذلك التوارث. يبقى الإرث بعد فروض الزوج لذوي الأرحام، إذا لم يثبت عصبة النسب، فيكون لولد البنت نصف الباقي، ولبنات الإخوة نصفه، ويستوي ذكرهم وأنثاهم، إلا أن يكونوا أولاد إخوة لأم، فيسقطون، ويكون الباقي لولد البنت، لأن أمه تحجبهم حتى لا يخفى. قال الشيخ علي بن عبد الله بن عيسى: الحمد لله، ما ذكره الشيخ محمد بن محمود جار على قواعد المذهب. ويشترط في البينة الشاهدة لمدعي قرابة شخص: أن تجمع بينه وبين المدعي قرابته في جد واحد، فتقول: فلان بن فلان بن فلان، وفلان بن فلان بن فلان، حتى يجتمعا في شخص واحد. هذا ما ظهر لي من كلامهم، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. سئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى: عن العصبة إذا كانوا من رجلين، وهم في درجة واحدة من الجزء: 7 ¦ الصفحة: 132 الميت، وأبناء واحد أكثر من واحد، هل كل في منْزلة أبيه؟ أم كلهم في الميراث سواء ... إلخ؟ فأجاب: العصبة سواء، ولو كان أبناء واحد أكثر من واحد، وأما الأخ للأم فلا يعصب. سئل الشيخ حمد بن ناصر بن معمر: هل يرث العاصب بالتعصيب ولو بَعُدَ؟ فأجاب: العاصب للميت من كان أقرب من غيره، بَعُدَ العاصب أو قرب، فمتى ثبت النسب بأن هذا ابن عم الميت ولا يعرف أحد أقرب منه فهو العاصب - ولو بعد عن الميت -. فإن عرف أن هذا الميت من هذه القبيلة، ولم يعرف له عاصب معين، وأشكل الأمر، دفع إلى أكبرهم سناً. فإن كان للميت وارث ذو فرض أخذ فرضه، وإن لم يوجد عاصب. فالرد إلى ذوي الفروض أولى من دفعه إلى بيت المال؛ ويرث على أهل الفروض على حسب ميراثهم، إلا الزوج أو الزوجة، فلا يرد عليهما. وسئل أيضاً رحمه الله تعالى: عن معنى بيت الجعبري، حيث قال: فبالجهة التقديم ثم بقربه ... وبعدهما التقديم بالقوة اجعلا فأجاب: اعلم أنه إذا اجتمع عصبة، فتارة يستوون في الدرجة والجهة والقوة أو لا: فإن استووا فيما ذكرنا اشتركوا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 133 في المال، أو فيما أبقت الفروض، وإن لم يستووا في ذلك حجب بعضهم بعضاً. والجهات سبع: البنوة، ثم بعدها الأبوة، ثم الجدودة والأخوة، عند من يقول إن الإخوة يشاركون الجد، ثم بنو الإخوة، ثم العمومة، ثم الولاء، ثم بيت المال 1. إذا فهمت ذلك، فإذا اجتمع عاصبان، فمن كانت جهته مقدمة فهو المقدم، وإن بعد على من كانت جهته مؤخرة؛ فإذا اجتمع ابن ابن أخ شقيق أو لأب، فهو مقدم على ابن العم؛ وهذا معنى قول الجعبري، رحمه الله: فبالجهة التقديم. فإن كانوا في الجهة سواء، فالقريب درجته هو المقدم، كالابن يقدم على ابن الابن، وكذلك لو اجتمع ابن أخ لأب مع ابن ابن أخ شقيق، فابن الأخ لأب يقدم على ابن ابن الأخ الشقيق النازل بالإجماع، لأن الأول أقرب. ومعنى قول الجعبري: ثم بقربه: إذا اجتمع عاصبان من جهة واحدة، وكان أحدهما أقرب درجة، فلا شيء للبعيد كما مثلته لك. فإن استووا في الجهة والدرجة، وكان أحدهما أقوى، وهو الذي يدلي بقرابتين، فهو المقدم على المدلي بقرابة   1 عدُّ بيت المال جهة, جرياً على مذهب الموالك والشوافع, وعند الحنابلة ليس من التعصب, بل ولا من الإرث في شيء, وإنما هو مصرف للأموال المجهول أربابها ونحوها؛ ومن ذلك من مات ولم يخلف ورثة, فإن ماله يصرف إلى بيت المال. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 134 واحدة. مثاله: إذا اجتمع أخ شقيق وأخ لأب، فقد استويا في الجهة والدرجة، فالشقيق هو المقدم. وهذا معنى قول الجعبري: وبعدهما التقديم بالقوة اجعلا; يعني: ذا القرابتين يقدم على ذي القرابة الواحدة، إذا استويا في الجهة والدرجة. وحاصل الأمر: أن الابن يقدم على ابن الابن، وأن ابن الابن مقدم على الأب في العصب، والأب مقدم على الجد مطلقاً، والأب مقدم على الأخ الشقيق، والأخ الشقيق مقدم على الأخ للأب، والأخ للأب مقدم على ابن الأخ الشقيق، وابن الأخ الشقيق مقدم على ابن الأخ للأب، وابن الأخ للأب مقدم على ابن ابن الأخ الشقيق الذي هو أنزل منه، وبنو الإخوة الأشقاء أو لأب مقدمون على العمومة، فلا يرث العم مع ابن الأخ، سواء كان ابن أخ شقيق أو لأب وإن نزل، والعم لأب لا يرث مع العم الشقيق، والعم للأب يقدم على ابن العم الشقيق لأنه أقرب، وابن العم الشقيق يقدم على ابن العم لأب لأنه أقوى. سئل الشيخ سعيد بن حجي: هل يعصب بنو الإخوة أخواتهم في الميراث كالإخوة؟ فأجاب: قال في المغني: أربعة من الذكور يعصبون أخواتهم فيمنعونهن الفرض، ويقتسمون ما ورثوا، للذكر مثل حظ الأنثيين، وهم: الابن وابن الابن وإن نزل، والأخ من الجزء: 7 ¦ الصفحة: 135 الأبوين، والأخ من الأب. وسائر العصبات ينفرد الذكور بالميراث دون الإناث، وهم: بنو الاخوة، والأعمام، وبنوهم. ثم ذكر الدليل والتعليل - إلى أن قال - وهذا لا خلاف فيه بحمد الله. انتهى. فتبين: أن بني الإخوة المسؤول عنهم، ينفردون بالميراث دون أخواتهم. وسئل: إذا كانت الأخوات عصبة مع الغير، هل يحجبن الأخ للأب، ومن أبعد منه من العصبة؟ فأجاب: الأخوات مع البنات عصبات، لهن ما فضل بعد الفرض؛ والمراد بالأخوات: الأخوات من الأبوين، ومن الأب. ولهذا ذهب عامة الفقهاء؛ فإن ابن مسعود قال في بنت وبنت ابن وأخت: "لأقضين فيها بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم: للبنت النصف، ولبنت الابن السدس تكملة الثلثين، والباقي فلِلأخت"، رواه البخاري وغيره. وما تأخذه مع البنت ليس بفرض، وإنما هو تعصيب، كميراث الأخ. وأجمع أهل العلم على أن بنات الابن بمنْزلة البنات عند عدمهن في إرثهن، وفي جعل الأخوات معهن عصبات وغير ذلك. انتهى ملخصاً من المغني. قال الشنشوري: تتمة: حيث صارت الأخت الشقيقة عصبة مع الغير، صارت كالأخ الشقيق، فتحجب الإخوة لأب ذكوراً كانوا أو إناثاً، ومن بعدهم من العصبات. وحيث صارت الأخت للأب عصبة مع الغير، صارت كالأخ للأب، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 136 فتحجب بني الإخوة ومن بعدهم من العصبات. [هل الجد أب] سئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى: هل الجد أب ... إلخ؟ فأجاب: أما كون الجد أباً، فرجح بأمور: الأول: العموم، واستدلال ابن عباس، رضي الله عنهما على ذلك بقوله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ} . الثاني: محض القياس، كما قال ابن عباس: ألا يتقي الله زيد؟! يجعل ابن الابن ابناً، ولا يجعل أبا الأب أباً. الثالث: أنه مذهب أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وهو، هو. الرابع: أن الذين ورثوا الإخوة معه، اختلفوا في كيفية ذلك، كما قال البخاري - لما ذكر قول الصديق -: ويذكر عن علي وابن مسعود وزيد أقاويل مختلفة. الخامس: أن الذين ورثوهم، لم يجزموا، بل معهم شك، وأقروا أنهم لم يجدوه في النص، لا بعموم ولا غيره. السادس، وهو أبينها كلها: أن هذا التوريث وكيفياته، لو كان من الله لم يتصور أن يهمله النبي صلى الله عليه وسلم بالكلية من صعوبته والاختلاف فيه. وأما حجة المخالف، فهم مقرون أنه محض رأي، لا حجة فيه إلا قياساً، فيما زعموا. وقال ابنه: الشيخ عبد الله: إذا صح لنا نص جلي، من كتاب أو سنة، غير منسوخ ولا مخصص، ولا معارض بأقوى منه، وقال به أحد الأئمة الأربعة، أخذنا به وتركنا المذهب، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 137 كإرث الجد والإخوة؛ فإنا نقدم الجد بالإرث، وإن خالفه مذهب الحنابلة. وأجاب الشيخ عبد الرحمن بن حسن: وأما مسألة الجد والإخوة، فذكر في الاختيارات: أن الجد يحجب الإخوة، وهو قول أبي بكر، وقال به غيره من الصحابة، وهو رواية عن أحمد، وهو الذي يختاره أشياخنا. سئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى: ذوي الأرحام مع عدم العصبة أحق أم بيت المال؟ فأجاب: ذوو الأرحام أولى بالميراث من بيت المال. وسئل ابنه: الشيخ عبد الله، والشيخ حمد بن ناصر: إذا هلك هالك، عن ابن أخت شقيقة، وابني خالين؟ فأجابا: العمل على مذهب المنَزلين، فينَزل كل منْزلة من أدلى به: فيكون لابن الأخت النصف: ثلاثة من ستة، ويكون لابني الخالين اثنان، ويبقى واحد يرد عليهم على قدر سهامهم؛ فيجعل المال خمسة أسهم: لصاحب النصف ثلاثة أخماس، ولصاحب الثلث خمسان. لكن انظر في ابني الخالين، هل هما وارثان؟ أو أحدهما محجوب بالآخر؟ كما نص الفقهاء على ذلك. مثال ذلك: ابن الخال لأب، مع ابن الخال لأبوين، فالمال لابن الخال الشقيق، ولا شيء لابن الخال لأب، نبه عليه صاحب الشرح الكبير. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 138 وسئل الشيخ عبد الله: عمن لا وارث له ... إلخ؟ فأجاب: من مات لا وارث له، فماله لبيت المال. سئل الشيخ حمد بن ناصر بن معمر: عن معنى التماثل، والتناسب؟ فأجاب: اعلم أنه إذا كان الكسر على أكثر من فريق، ونظرت بين كل فريق وسهامه، ثم نظرت بين الرؤوس والرؤوس، فإنه لا يخلو من أربعة أحوال: إما أن تجد بين الرؤوس والرؤوس مماثلة، ومعنى المماثلة هي: المساواة في العدد كثلاثة وثلاثة وخمسة وخمسة، وستة وستة، فهذه المماثلة، وحكمها كما قال الناظم: 1 فخذ من المماثلين واحدَا فإذا وجدت رؤوساً متماثلة في العدد، فخذ رؤوس أحدهما واكتف به. فإن لم تجد بين الرؤوس والرؤوس مماثلة، فانظر هل تجد بينهما مناسبة، والمناسبة هي: المداخلة، ومعناها: أن الأصغر يدخل في الأكبر، فإذا سلطته عليه أفناه من غير زيادة ولا نقصان; وذلك: كاثنين وأربعة، واثنين وثمانية، أو خمسة وعشرة، وثلاثة وتسعة، هذا هو معنى المناسبة، وحكمه كما قال الناظم: وخذ من المناسبين الزائدَا يعني:   1 هو ناظم الرحبية في علم الفرائض: أبو عبد الله محمد بن علي بن محمد بن حسين الرحبي, المعروف بابن موفق الدين الشافعي. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 139 العدد الأكبر خذه، واكتف به عن الأصغر. فإن لم تجد بينهما مماثلة ولا مناسبة، فانظر هل تجد بينهما موافقة، وهي: أن يكون بينهما موافقة في جزء من الأجزاء، كأربعة وستة، أو ستة وثمانية، أو ستة وتسعة، أو أربعة وعشرة; وحكم هذا النوع، هو ما قال الناظم: واضرب جميع الوفق في الموافق فإذا كان معك أربعة وستة، فقد توافقتا بالأنصاف، فخذ نصف أحدهما واضربه في كامل الأخرى، فتبلغ اثنا عشر؛ وهكذا تفعل في الباقي، تأخذ الوفق وتضربه في كامل الآخر. فإن لم تجد بينهما مماثلة ولا مناسبة ولا موافقة، فقد حصل التباين، وحكمه كما قال الناظم: وخذ جميع العدد المباين ... واضربه في الثاني ولا تداهن وذلك كثلاثة وخمسة، وخمسة وتسعة. سئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب: عمن أخذ الحمل في بطنها سنة، وقد صلح قبل وفاة مورثه: أخيه من أمه، بثلاثة أشهر. فأجاب: المسألة ما ظهر لي فيها إشكال، بل هي واضحة، لأن الحمل متحقق قبل موت مورثه، فعلى هذا يرث الحمل، ويوقف له سدس؛ فإن ولد حياً ورث، وإن خرج ميتاً لم يرث. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 140 وسئل ابنه: الشيخ عبد الله: عن امرأة لها ابن، وله إخوة من غيرها لأبيه، ولها زوج، فتوفي الابن، فادعت بعد موته أنها حامل؟ فأجاب: أما الحمل قبل الموت إذا ثبت وخرج حياً، فهو يرث. سئل أيضاً، رحمه الله: عن قسمتهم الميراث في الشرك، أو إسلامهم قبل؟ فأجاب: أما مواريث الشرك، فإذا كان الوارث في الجاهلية قد منع شريكه من نصيبه من الإرث، وأسلم والمال في يده، فالمال له دون شريكه، سواء كان الممنوع رجالاً أو نساء، وإن كان مزبوراً لم يقسم حتى جاء الإسلام، فإنه يقسم على فرائض الله، ويعطى كلٌّ نصيبه من المال. وأجاب أيضاً: وأما الناس إذا ورثوا أهلهم في الشرك، وهم رجال ونساء، وتزوجت النساء، وأعطاهن إخوانهن ما يسر الله من المال، وجاء الإسلام قبل أن يقتسموا، فإن كانوا منعوهن وطردوهن عن حقهن، فلا يقسم لهن في الإسلام، وأما إن كانوا لم يطردوهن، بل تركوهن على شركتهن، ومعروف عند جماعتهم أن كلاً على حقه، فهن على حقهن، ويقسم للنساء إن طلبن. وأجاب أيضاً: المواريث التي قسمت في حال الشرك الجزء: 7 ¦ الصفحة: 141 والجهل، تقر على ما هي عليه، ولا تعاد القسمة في الإسلام. وأجاب أيضاً: المواريث التي قسمت في الشرك، وتملكها أهلها، ثم أسلموا، لا تعاد قسمتها. ومن أسلم على شيء أقر في يده، إذا كان قد تملكه في جاهليته. وأما إذا لم تقسم التركة، وأسلم أهلها وهي موقوفة، فإنها لا تقسم إلا على قسمة الله في كتابه العزيز، التي يعرفها أهل العلم. وأجاب الشيخ حمد بن ناصر بن معمر، رحمه الله: وأما كون الناس قبل الإسلام، منهم من لا يورث المرأة، ومنهم من يصالحها، ويسلمون وبينهم عقار ونحوه من الإرث، شيء باعه الرجال ولم يعطوا النساء منه شيئاً قبل الإسلام، فالذي عليه الفتوى في هذه المسائل، أعني: عقود الجاهلية، من نكاح وبياعات، وعقود الربا والغصوب، ومنع المواريث أهلها ونحو ذلك: من أسلم على شيء من ذلك لم نتعرض له؛ فلا نتعرض لكيفية عقد النكاح هل وقع بشروطه، كالولي والشهود ونحو ذلك. وكذلك البياعات، لا ينقض إذا أسلم المتعاقدان، ولا ينظر كيف وقع العقد. وكذلك عقود الربا إذا أسلما ولم يتقابضا، بل أدركهما الإسلام قبل التقابض، فليس لصاحب الدين إلا رأس ماله، لقوله تعالى: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ} [سورة البقرة آية: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 142 279] . وأما المال المقبوض، فلا يطالب به القابض إذا أسلم، لقوله تعالى: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ} [سورة البقرة آية: 275] . وكذلك المواريث والغصوب، إذا استولى الإنسان على حق غيره، وتملكه في جاهليته ومنع مالكه بحيث أيس منه، ثم أسلم وهو في يده، لا ينازعه فيه؛ فهذا لا نتعرض له، لظاهر قوله صلى الله عليه وسلم: " الإسلام يجُبُّ ما قبله " 1، ولأن الناس أسلموا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين، ولم يبلغنا أنهم نظروا في أنكحة الجاهلية، ولا في عقودهم ومعاملاتهم، ولا في غصوبهم ومظالمهم التي تملكوها في حال كفرهم. قال ابن جريج: قلت لعطاء: أبلغك أن النبي صلى الله عليه وسلم أقر أهل الجاهلية على ما كانوا عليه؟ قال: "لم يبلغنا إلا ذلك"، وقال الإمام أحمد في رواية مهنا: من أسلم على شيء فهو عليه. وقال الشيخ تقي الدين: ولو تزوج المرتد كافرة أو غيرها ثم أسلما، فالذي ينبغي أن يقال هنا أن نقرهم على مناكحهم، كالحربي إذا نكح نكاحاً فاسداً ثم أسلم، فإن المعنى واحد؛ وهذا جيد في القياس إذا قلنا: إن المرتد لا يؤمر بقضاء ما ترك في الردة من العبادات، فأما إذا قلنا: إنه يؤمر بقضاء ما ترك من العبادات، ويضمن ويعاقب على ما فعله، ففيه نظر؛ ومما يدخل في هذا كل عقود المرتدين،   1 أحمد (4/205) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 143 إذا أسلموا قبل التقابض، وبعده. وهذا باب واسع، يدخل فيه جميع أحكام أهل الشرك في النكاح وتوابعه، والأموال وتوابعها، أو استولوا على مال مسلم، أو تقاسموا ميراثاً ثم أسلموا بعد ذلك، وكذا الدماء وتوابعها. انتهى كلام الشيخ. وقال، رحمه الله، في موضع آخر: ولو تقاسموا ميراثاً جهلاً، فهذا شبيه بقسم ميراث المفقود إذا ظهر حياً، لا يضمنون ما أتلفوه، لأنهم معذورون، وأما الباقي فيفرق بين المسلم والكافر، فإن الكافر لا يرد باقياً ولا يضمن تالفاً. انتهى. وأما قولك: وأيضاً ذكر الفقهاء أن المرتد لا يرث، فكفار أهل زماننا هل هم مرتدون؟ أم حكمهم حكم عبدة الأوثان، وأنهم مشركون؟ فنقول: أما من دخل منهم في دين الإسلام ثم ارتد، فهؤلاء مرتدون، وأمرهم عندك واضح. وأما من لم يدخل في دين الإسلام، بل أدركته الدعوة الإسلامية وهو على كفره، كعبدة الأوثان، فحكمه حكم الكافر الأصلي، لأنا لا نقول: الأصل إسلامهم والكفر طارئ عليهم، بل نقول: الذين نشؤوا بين الكفار، وأدركوا آباءهم على الشرك بالله، كآبائهم، كما دل عليه الحديث الصحيح في قوله: " فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه " 1. فإن كان دين آبائهم الشرك بالله، فنشأ هؤلاء واستمروا عليه، فلا نقول: الأصل الإسلام والكفر طارئ عليهم، بل   1 البخاري: الجنائز (1358) , ومسلم: القدر (2658) , وأحمد (2/233, 2/275) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 144 نقول: هم الكفار الأصليون؛ ولا يلزمنا على هذا تكفير من مات في الجاهلية قبل ظهور الدين، فإنا لا نكفر الناس بالعموم، كما أنا لا نكفر اليوم بالعموم، بل نقول: من كان من أهل الجاهلية عاملاً بالإسلام تاركاً للشرك فهو مسلم، وأما من كان يعبد الأوثان ومات على ذلك قبل ظهور هذا الدين، فهذا ظاهره الكفر، وإن كان يحتمل أنه لم تقم عليه الحجة الرسالية لجهله وعدم من ينبهه، لأنا نحكم على الظاهر، وأما الحكم على الباطن فذلك إلى الله تعالى، لا يعذب أحداً إلا بعد قيام الحجة عليه، كما قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [سورة الإسراء آية: 15] . وأما من مات منهم مجهول الحال، فهذا لا نتعرض له، ولا نحكم بكفره ولا بإسلامه، وليس ذلك مما كلفنا به، {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [سورة البقرة آية: 134-141] : فمن كان منهم مسلماً أدخله الله الجنة، ومن كان كافراً أدخله النار، ومن كان منهم لم تبلغه الدعوة فأمره إلى الله؛ وقد علمت الخلاف في أهل الفترات، ومن لم تبلغهم الحجة الرسالية. وأيضاً، فإنه لا يمكن أن نحكم في كفار زماننا بما حكم به الفقهاء في المرتد، أنه لا يرث ولا يورث، لأن من قال: لا يرث ولا يورث، يجعل ماله فيئاً لبيت مال المسلمين؛ وطرد هذا القول أن يقال: جميع أملاك الكفار اليوم بيت مال، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 145 لأنهم ورثوها عن أهليهم، وأهلوهم مرتدون لا يورثون، وكذلك الورثة مرتدون لا يرثون، لأن المرتد لا يرث ولا يورث. وأما إذا حكمنا فيهم بحكم الكفار الأصليين، لم يلزم شيء من ذلك، بل يتوارثون، فإذا أسلموا، فمن أسلم على شيء فهو له، ولا نتعرض لما مضى منهم في جاهليتهم، لا المواريث ولا غيرها. وقد روى أبو داود عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كل قسم قسم في الجاهلية فهو على ما قسم، وكل قسم أدركه الإسلام فهو على قسم الإسلام " 1. وروى سعيد في سننه من طريقين، عن عروة، وابن أبي مليكة، عن النبي صلى الله عليه وسلم: " من أسلم على شيء فهو له "، ونص أحمد على مثل ذلك، كما تقدم عنه في رواية مهنا. واعلم: أن القول بأن المرتد لا يرث ولا يورث، هو أحد الأقوال في المسألة، وهو المشهور في المذهب، وهو مذهب مالك والشافعي. والقول الثاني: أنه لورثته المسلمين، وهو رواية عن أحمد، وهو مروي عن أبي بكر الصديق، وعلي بن أبي طالب وابن مسعود، وهو قول جماعة من التابعين، وهو قول الأوزاعي وأهل العراق. والقول الثالث: أنه لأهل دينه الذي اختاره إن كان منهم من يرثه، وإلا فهو فيء، وهو رواية عن أحمد، وهو مذهب داود بن علي. سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ: عن رجل مات في   1 أبو داود: الفرائض (2914) , وابن ماجة: الأحكام (2485) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 146 الشرك وله بنات؟ فأجاب: من مات في الشرك وله بنات، لا يصير لهن في الإسلام إرث. والتي تزوجت في الشرك ثم أسلمت ومات أبوها، فلها نصيبها في الميراث، وكذلك نصيبها في أبيها وأخيها وزوجها. وسئل الشيخ عبد الله أبا بطين: إذا مات مسلم وله أولاد، منهم مسلم وكافر، فأسلم الكافر بعد مدة طويلة أو غير طويلة، وبعض التركة بحاله ... إلخ؟ فأجاب: في هذه المسألة عن الإمام أحمد روايتان: إحداهما - وهي المذهب -: أن من أسلم من الورثة قبل قسمة التركة ورث، وكذلك إن أسلم وقد قسم بعضها، ورث مما لم يقسم؛ واحتجوا بما روى أبو داود، عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " كل قسم قسم في الجاهلية فهو على ما قسم، وكل قسم أدركه الإسلام فهو على قسم الإسلام " 1، وبما روى سعيد بن منصور في سننه، عن عروة وابن أبي مليكة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من أسلم على شيء فهو له ". ويروى أن عمر وعثمان قضيا بذلك. وعلى هذه الرواية: إن كان الوارث واحداً، فتصرفه في التركة وحيازتها بمنْزلة قسمها؛ ذكر ذلك الموفق وغيره. والرواية الثانية: لا شيء له، لحديث: " لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم " 2. وهذا حين الموت كان كافراً، فلا   1 أبو داود: الفرائض (2914) , وابن ماجة: الأحكام (2485) . 2 البخاري: الفرائض (6764) , ومسلم: الفرائض (1614) , والترمذي: الفرائض (2107) , وأبو داود: الفرائض (2909) , وابن ماجة: الفرائض (2729, 2730) , وأحمد (5/200, 5/201, 5/202, 5/208, 5/209) , والدارمي: الفرائض (2998, 3000, 3001) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 147 يرث بمقتضى هذا الحديث؛ وهذا قول أكثر العلماء; والقول الأول من مفردات المذهب. وقال الشيخ سعد بن الشيخ حمد بن عتيق، رحمهما الله: اعلم: أن الذي علمناه من حال أهل هذه الدعوة الإسلامية، وعلمائهم، رحمهم الله: أنهم لم يقطعوا التوارث بين أهل نجد، وبين من كان في تلك البلدان ممن وصفنا، يعني من انتقل من بلاد المسلمين إلى بلاد المشركين، من المنتسبين إلى الإسلام. وقد حدثني أبي، رحمه الله، أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأولاده وأتباعهم، رحمهم الله، ما قطعوا التوارث بين أهل نجد، وبين من كان في تلك البلدان. سئل الشيخ سليمان بن سحمان: هل يستدل بالحديث: " لا يرث كافر مسلماً " 1 على من مات من النازلين من باديتنا اليوم، على من لم ينْزل منهم، أو من هو مع بادية ولايتهم في يد كافر مثلاً، أو من هو بين أظهر المشركين، هل يحرم إرثه إذا كان مورثه مات مسلماً بين أظهر المسلمين؟ فأجاب: من مات من المهاجرين النازلين في بلاد المسلمين، وله وارث كافر من أهل البادية أو الحاضرة، فلا يحل له إرثه لكفره، بنص الحديث. ومن كان وارثه مسلماً وكان مسكنه في البادية، أو في بلد من بلدان المسلمين، أو كان في بلد كفر، أو في بادية ولايتها في يد كافر، فلا مانع من إرثه لأنه مسلم ورث مسلماً.   1 البخاري: الفرائض (6764) , ومسلم: الفرائض (1614) , والترمذي: الفرائض (2107) , وأبو داود: الفرائض (2909) , وابن ماجة: الفرائض (2729) , وأحمد (5/200, 5/209) , والدارمي: الفرائض (3000) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 148 سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد، رحمهما الله: عمن طلبت من زوجها المريض الطلاق، وهل ترثه؟ فأجاب: إذا طلبت المرأة من زوجها المريض طلاقها، فطلقها ثلاثاً، صح طلاقه؛ والظاهر أنها لا ترث لعدم التهمة. وسئل هو وأخوه الشيخ حسين: إذا قال لزوجته: أنت طالق قبل موتي بشهر، ومراده حرمانها من الميراث. فأجابا: إذا عرف أن قصده بكلامه ذلك حرمانها من الميراث، فإنها ترثه ولو خرجت من العدة، كما هو مذهب الإمام أحمد وغيره من العلماء؛ وهذا الذي تدل عليه قصة عمر بن الخطاب رضي الله عنه مع غيلان بن سلمة، لما طلق زوجاته وقسم الميراث بين أولاده. سئل الشيخ حمد بن ناصر بن معمر: عمن طلق زوجته في مرض موته وأبانها؟ فأجاب: الذي عليه العمل أنها ترثه ما دامت في العدة، في قول جمهور العلماء، وكذلك ترثه بعد العدة ما لم تتزوج، كما ذهب إليه مالك والإمام أحمد في رواية؛ بل مذهب مالك أنها ترثه ولو تزوجت، والراجح الأول. وأجاب بعضهم: إذا طلقها بالثلاث في صحته أو في المرض، ومات وهي في العدة، فإن كان في المرض فهي ترثه، وإن كان في الصحة ثم مات بعد ذلك، فلا يبين لي الجزء: 7 ¦ الصفحة: 149 أنها ترثه. سئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن، رحمه الله: عمن ادعت أن زوجها أبانها، وأقامت معه حتى مات ... إلخ؟ فأجاب: وأما الزوجة إن ادعت أن زوجها أبانها ثلاثاً وأنكر دعواها، وأقامت معه حتى مات، فإن كانت في مدة إقامتها معه رجعت عن دعواها وأقرت بكذبها، ورثت، وإلا لم ترث؛ قال في المنتهى وشرحه: ومن جحد إبانة امرأة ادعت عليه إبانة تقطع التوارث ثم مات، لم ترثه إن دامت المرأة على قولها أنه أبانها إلى موته، لإقرارها أنها مقيمة تحته بلا نكاح. فإن أكذبت نفسها قبل موته، ورثت، لتصادقها على بقاء النكاح، ولا أثر لتكذيب نفسها بعد موته، لأنها متهمة فيه إذًا، وفيه رجوع عن إقراره لباقي الورثة. انتهى. وكذا قال في الإقناع وشرحه وغيرهما. وأما الذي تزوج أخته أو ابنته ونحوهما من الرضاع، ولم يعلم بالرضاع حتى مات الزوج، فالنكاح باطل من أصله، إذا ثبت الرضاع بشهادة امرأة مرضية بالرضاع، وعدد الرضعات المحرمة، ولم يثبت فيه شيء من أحكام النكاح الصحيح. وإن اتهمت من شهدت، أو لم تكن ثقة مرضية، أو لم تشهد بعدد الرضعات المحرمة، فالنكاح صحيح، وتثبت أحكامه. وأجاب أيضاً: إذا ثبت الرضاع بشهادة امرأة ثقة غير الجزء: 7 ¦ الصفحة: 150 متهمة، تبين بطلان العقد، كما ورد بذلك النص، ولم ينقلب العقد صحيحاً بعد بطلانه، وسواء علم بطلانه قبل الفرقة أو بعدها، وترتب على العقد مقتضاه من صحة وبطلان. سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عمن طلق زوجته، وأقر أنها خرجت من العدة قبل موته ... إلخ؟ فأجاب: يقبل قوله، ولا يقبل قولها أنه واقعها بعد ذلك إلا ببينة. وسئل: عمن طلق زوجته ومات، والشهود لا يعلمون وقت طلاقه؟ فأجاب: يحكم للمرأة بالإرث، ما لم يعلم انقضاء عدتها قبل موته. سئل الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن: هل ترث بالنكاح الفاسد ... إلخ؟ فأجاب: إذا زوج غير الولي، فالنكاح فاسد ولا ترث. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 151 كتاب العتق سئل الشيخ حسين، وعبد الله: ابنا الشيخ محمد، رحمهم الله: إذا قال لغلامه: أنت حر لوجه الله قبل موتي بشهر، وأعطاه جميع ماله، ومراد هذا الرجل حرمان ورثته، فهل الغلام حر ... إلخ؟ فأجاب: العتق صحيح، فإذا مات السيد تبين أن العتق وقع قبل موته بما قدر به، وأما المال، فلا يصح تمليكه إياه ولا هبته له، لأنه حين تمليكه المال رقيق؛ والعبد لا يملك بالتمليك في أصح قولي العلماء. وسئل الشيخ حمد بن ناصر بن معمر: إذا دبر الرجل جاريته، كقوله: أنت عتيقة عند موتي، أو إذا مت فأنت حرة ... إلخ، هل بين هذه الألفاظ فرق؟ فأجاب: لا فرق بين هذه الألفاظ، بل متى علق صريح العتق بالموت، فقال: أنت حرة أو محررة أو عتيقة بعد موتي، صارت مدبرة، بغير خلاف علمته. وأما قوله: إذا دبرها وهي حامل أو حملت بعد التدبير، فما الحكم في ولدها؟ فنقول: أما إذا دبرها وهي حامل، فإن ولدها يدخل معها في التدبير بغير خلاف علمناه، لأنه الجزء: 7 ¦ الصفحة: 152 بمنْزلة عضو من أعضائها; وأما إذا حملت بعد التدبير ففيه خلاف بين العلماء: فذهب الجمهور إلى أنه يتبع أمه في التدبير، ويكون حكمه حكمها في العتق بموت سيدها، وهو مروي عن ابن مسعود وابن عمر، وبه قال سعيد بن المسيب والحسن والقاسم، ومجاهد والشعبي والنخعي وعمر بن عبد العزيز والزهري، ومالك والثوري وأصحاب الرأي. وذكر القاضي: أن حنبلاً نقل عن أحمد، أن ولد المدبرة عبد إذا لم يشرطه المولى، قال: فظاهره أنه لا يتبعها، ولا يعتق بموت سيدها؛ وهذا قول جابر بن زيد، وهو اختيار المزني من أصحاب الشافعي، قال جابر بن زيد: إنما هو بمنْزلة الحائط تصدقت به إذا مت، فإن ثمرته لك ما عشت. وللشافعي قولان كالمذهبين. سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عمن قيل له: لِم ضربت غلامك ولِم أدميته؟ فقال: إن كان ظهر منه دم فهو حر، هل يعتق بذلك التعليق إذا وجد الشرط، وهو ظهور الدم ... إلخ؟ فأجاب: الظاهر أنه يعتق إذا كان قد وجد الشرط، وهو ظهور الدم. والتعليق على الماضي معلوم من الكتاب والسنة، وسائر الكلام؛ ونحو هذا التعليق يسمى حلفاً، لأن التعليق الذي يقصد به الحث على فعل أو المنع منه، أو الجزء: 7 ¦ الصفحة: 153 يراد به تصديق خبر أو تكذيبه يسمى حلفاً. وأما التعليق الذي لا يقصد به شيء من ذلك، فلا يسمى حلفاً على الصحيح من المذهب; فلو قال: إن كنت فعلت كذا فزوجتي طالق أو عبدي حر، كما ذكروه في باب التأويل في الحلف. وما ذكرتموه من كلام منصور، بأن المعلق عليه لا يكون ماضياً، فلعل مراده إذا تجرد الشرط من لفظ كان، كما قال القاضي فيما روي عن أحمد، في رجل قال لامرأته: إن وهبت كذا فأنت طالق، وإذا هي قد وهبته، قال الإمام: أخاف أن يكون قد حنث، قال القاضي: هذا محمول على أنه قال: إن كنت قد وهبتيه، وإلا فلا يحنث حتى تبتدي هبة. انتهى. فإذا اتصلت "كان" بأداة الشرط، جاز كون المعلق عليه ماضياً وحالاً; وقول المصنف: وقد يكون المعلق عليه موجوداً في الحال، وقد يكون مستقبلاً ولا يكون ماضياً، ولذلك تقلب أدوات الشرط الماضي إلى الاستقبال. فدل قوله: لذلك ... إلخ، على أن مراده بقوله: ولا يكون ماضياً إذا تجرد من "كان"، لأن الماضي إذا اقترنت به "كان"، لا يكون مستقبلاً بل يبقى على مضيه، وهي إنما تقلب الماضي إلى الاستقبال، إذا لم تقترن بـ"كان" أو "يكون" أو مضارعها، فدل قوله: لذلك ... إلخ: تقلب أدوات الجزء: 7 ¦ الصفحة: 154 الشرط. وفي شرح المتممة للفاكهي، في الكلام على الجوازم، ويسمى الفعل الأول من الفعلين المجزومين بإحدى هذه الأدوات شرطاً، لتعليق الحكم عليه، ولا يكون ماضي المعنى، لأنه مفروض حصوله في المستقبل، فيمتنع مضيه، فلا تقول إن قام زيد أمس. وأما قوله: {إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ} [سورة المائدة آية: 116] ، فالمعنى: إن تبين إن كنت قلته، ويسمى الثاني منهما جواباً، يترتب على الأول ترتب الجواب على السؤال، وجزاء لأن مضمونه جزاء المضمون الأول، وهو كالشرط لا يكون ماضي المعنى، لأن حصوله معلق على حصول الشرط في المستقبل، ويمتنع تعليق الحاصل الثابت على حصول ما يحصل في المستقبل. وأما قوله: {إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ} [سورة يوسف آية: 26] ، فالمعنى: إن ثبت ذلك ثبت صدقها 1. سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد، رحمهما الله: هل المفتى به عندكم التفرقة بين المملوكة وولدها بعد البلوغ، أو لا؟ فأجاب: هذه المسألة فيها خلاف بين أهل العلم، وأنا أذكر لك المسألة وكلامهم فيها، حتى يتبين لك وجه   1 آخر الموجود من الجواب. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 155 الصواب، إن شاء الله تعالى. قال في الشرح الكبير: ولا يفرق في البيع بين ذي رحم محرم إلا بعد البلوغ، على إحدى الروايتين، أجمع أهل العلم على أن التفرقة بين الأم وولدها الطفل غير جائز. ثم ذكر الدليل والتعليل، ثم قال: ولا فرق بين أن يكون الولد بالغاً، أو طفلاً في ظاهر كلام الخرقي، وإحدى الروايتين، ولعموم الخبر، ولأن الوالدة تتضرر بمفارقة ولدها الكبير، ولهذا حرم عليه الجهاد إلا بإذنها، قال في الإنصاف: وهو المذهب، وجزم به في المنور، وناظم المفردات وهو منها، واختاره ابن عبدوس، وقدمه في المحرر وغيرهم. قال الشارح: والرواية الثانية: يختص تحريم التفريق بالصغر، وهو قول الأكثرين، منهم مالك والأوزاعي، والليث وأبو ثور، وهو قول الشافعي، لأن سلمة بن الأكوع أتى بامرأة وابنتها، فنفله أبو بكر ابنتها، فاستوهب منه النبي صلى الله عليه وسلم فوهبها له، ولم ينكر التفريق بينهما، لأن الأحرار يتفرقون بعد الكبر، فإن المرأة تزوج ابنتها وتفارقها، فالعبد أولى. قال في الإنصاف: والثانية: يجوز التفريق ويصح البيع؛ جزم به في العمدة والوجيز، قال الناظم: وهو أولى. انتهى. وهذا الذي احتجوا به، نص في جواز التفرقة بينهما بالهبة بعد البلوغ، والبيع مثله إن شاء الله تعالى، وهو الجزء: 7 ¦ الصفحة: 156 حديث ثابت صحيح، رواه مسلم وغيره، وهو الأصح عندنا. قال في الإنصاف: حكم التفرقة في القسمة وغيرها، كأخذ بجناية، والهبة والوصية، والصدقة وغيرها: حكم البيع على ما تقدم، وعليه أكثر الأصحاب; قال الخطابي: لا أعلمهم يختلفون في العتق، لأنه لا يمنع من الحضانة. وقولك: هل يختص بالأم أم يعم ذلك كل ذي رحم محرم، كالأب والأخ ونحوهم؟ فالجواب: قال في الشرح: ولا يجوز التفريق بين الأب وولده، وبه قال أصحاب الرأي والشافعي. وقال مالك والليث: يجوز، وبه قال بعض الشافعية، لأنه ليس من أهل الحضانة بنفسه، ولأنه لا نص فيه ولا هو في معنى المنصوص، لأن الأم أشفق; ولنا أنه أحد الأبوين أَشْبَهَ الأم، ولا نسلم أنه ليس من أهل الحضانة. انتهى. قال في الإنصاف: لا يجوز التفريق بين ذي محرم، هذا المذهب وعليه الأصحاب، قال في المغني، وتبعه في الشرح: قاله أصحابنا غير الخرقي، وجزم به في الفروع والرعايتين والحاويين وغيرهم، فيدخل في ذلك العمة مع ابن أخيها، والخالة مع ابن أختها. وظاهر كلام الخرقي اختصاص ذلك بالأبوين، والجدين، والأخوين، ونصره في المغني والشرح. وظاهر كلام المصنف تحريم التفريق ولو رضي به، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 157 وهو صحيح نص عليه أحمد. انتهى. واحتج في الشرح على تحريم ذلك بين الإخوة، لحديث علي في الغلامين الأخوين، فلما باع أحدهما، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رُدَّهُ " 1، رواه الترمذي وحسنه، وبما روي أن عمر كتب إلى عماله:? "لا تفرقوا بين الأخوين، ولا بين الأم وولدها". وإنما يحرم التفريق بينهم في الصغر، وما بعده فيه الروايتان كالأصل، والأولى الجواز، لأن النبي صلى الله عليه وسلم "أهديت له مارية وأختها سيرين، فأمسك مارية، ووهب سيرين لحسان بن ثابت". وأجاب أيضاً: وأما التفرقة بين الوالدة وولدها، وكذلك الإخوة، فالحد في ذلك البلوغ؛ فإذا بلغ واحد منهم جاز أن يفرق بينهما. وأجاب الشيخ حمد بن ناصر بن معمر عن التفريق بين الوالدة وولدها قبل البلوغ، وكذلك بين الإخوة في البيع: فأما قبل البلوغ فلا يجوز التفريق، وأما بعد البلوغ ففيه خلاف؛ والمشهور عن أحمد وكثير من الفقهاء أنه لا يجوز، لحديث: " من فرق بين الوالدة وولدها، فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة " 2، وكذلك حديث علي في التفرقة بين الإخوة، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " رُدَّهُ، رُدَّهُ ". سئل الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين: إذا وطئ الأب مملوكة ولده؟   1 الترمذي: البيوع (1284) , وابن ماجة: التجارات (2249) , وأحمد (1/102) . 2 الترمذي: البيوع (1283) , وأحمد (5/412, 5/414) , والدارمي: السير (2479) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 158 فأجاب: هو حرام يوجب التعزير. فإن حملت من الأب صارت أم ولد له، وولده حر ولا مهر عليه. فإن كان الابن قد وطئها ولو لم تلد منه، لم يملكها الأب بالإحبال، ولم تصر أم ولد له، وحرمت عليهما؛ هكذا ذكر الفقهاء. وسئل الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن: إذا وطئ جارية ابنته، ولم يتملكها قبل ذلك، وابنته محتاجة إليها، وهي قد ملكتها بالميراث من زوجها؟ فأجاب: لا يجوز له أن يطأ مملوكة ولده، ما دامت في ملك الولد، وأما إذا تملكها تملكاً شرعياً، بشرط أن لا يضر بولده، ولا تتعلق بها حاجة الولد، ولا يقصد إعطاءها لولد آخر؛ فإذا تمت هذه الشروط وقبضها، جاز له بعد الاستبراء أن يطأها، والله أعلم. وأجاب الشيخ محمد بن الشيخ إبراهيم بن الشيخ عبد اللطيف، رحمهم الله: وأما إذا وطئ الرجل أمة أبيه فولدت منه، فإن كلام أهل المذهب ظاهر في أنه يكون الولد رقيقاً، وأنه المنصوص عن أحمد، وهو أيضاً مذهب مالك والشافعي. وقد سئل شيخ الإسلام: عن هذه المسألة، وهذا نص السؤال والجواب: مسألة: فيمن له والدة ولها جارية، فواقعها بغير إذن والدته، فحملت منه وولدت غلاماً، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 159 وملكها، ويريد أن يبيع ولده من الزنى؟ الجواب: هذا ينبغي له أن يعتقه، باتفاق العلماء، بل قد تنازع العلماء: هل يعتق عليه من غير إعتاق؟ على قولي:; أحدهما: أنه يعتق عليه، وهو مذهب أبي حنيفة، وقول القاضي أبي يعلى من أصحاب أحمد؛ ولكن مع هذا لا يرث هذا لهذا، ولا هذا لهذا. والقول الثاني: لا يعتق عليه، وهو مذهب مالك والشافعي، وأحمد في المنصوص عنه. انتهى. فجواب شيخ الإسلام، رحمه الله، هذا، ظاهر في أن ولد جارية أم ذلك الواطئ، لا يلحقه نسبه عند أحد من الأئمة الأربعة، وأن النّزاع بينهم في العتق، عتق ذلك المولود بمجرد انتقاله إلى الواطئ بالإرث: فقال به أبو حنيفة، رحمه الله، والقاضي أبو يعلى من أصحاب أحمد، ومنعه الجمهور أحمد ومالك والشافعي. وأما عدم لحوق النسب فلم يختلفوا فيه، فإن عند أبي حنيفة والقاضي أبي يعلى: أنه لا يرث هذا لهذا، ولا هذا لهذا، مع قوله بعتقه بمجرد انتقاله إلى الواطئ بالإرث. وقوله، رحمه الله: ينبغي أن يعتقه، يفيد تأكد الاستحباب عند الشيخ; وقال في الفروع: ويحدّ على الأصح، بوطئه أمة أبيه وأمه عالماً تحريمه، ولا يلحقه ولد، نقله حنبل وغيره. انتهى. وكونه لا يلحقه، لأنه الجزء: 7 ¦ الصفحة: 160 زان، وفي الحديث: " وللعاهر الحجر " 1، وكونه لا يلحقه هو السبب في كونه لا يعتق بملكه إياه، لأنه حينئذ لا يصير ذا رحم محرم؛ هذا هو وجه ما ذهب إليه جمهور الأئمة، كما تقدم. وأما إذا أولد الأب أمة ابنه، التي لم يكن الابن وطئها، فإنها تصير أم ولد له، ويصير ولده منها حراً، لأن له فيها شبهة ملك، فصار ولده منها كولده من سائر إمائه؛ قال في الإقناع وشرحه: أو ولدت من أبي مالكها، لأنها حملت منه بحر، لأجل شبهة الملك، فصارت أم ولد له كالجارية المشتركة. انتهى. وشبهة الملك هي أن للأب أن يأخذ ويتملك من مال ولده ما لا يضره ولا يحتاجه، كما استدل عليه العلماء بقوله صلى الله عليه وسلم: " أنت ومالك لأبيك " 2، فظهر أن التعليل في حرية الولد، هي شبهة الملك فقط، فعلم افتراقها هي والمسألة التي قبلها، والله أعلم. سئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن: عمن دبر عبده أو أمته، ثم بدا له أن ينجز عتقه، فأعتق المدبر واشترط خدمته مدة حياته؟ فأجاب: يصح العتق والحالة هذه، ويلزم الشرط، كما نص عليه الأصحاب في كتبهم؛ ونصهم: على أن تخدمني سنة يعتق بلا قبول، وتلزم الخدمة، وكذا لو استثنى خدمته مدة حياته، وللسيد بيعها للعبد أو غيره. انتهى ملخصاً.   1 البخاري: البيوع (2053) , ومسلم: الرضاع (1457) , والنسائي: الطلاق (3484) , وأبو داود: الطلاق (2273) , وأحمد (6/129, 6/200, 6/237, 6/246) , ومالك: الأقضية (1449) . 2 ابن ماجة: التجارات (2291) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 161 وبعد العتق يكون حراً بلا ريب، وإن كانت منافعه مملوكة كالأجير، وله ما للحر وعليه ما عليه، من وجوب صلاة الجمعة، وغير ذلك من العبادات والكفارات، والجناية منه وعليه، بخلاف المدبر، فإنه قِنٌّ ما لم يعتق. وأما حديث المنتقى المعزو لأحمد وابن ماجة، عن سفينة أبي عبد الرحمن، قال: " أعتقتني أم سلمة، واشترطت علي أن أخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما عاش "، فهذا هو حجة الأصحاب، لقولهم بصحة هذا الشرط. سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عمن اشترى مملوكاً بمال حرام وأعتقه ... إلخ؟ فأجاب: وأما عتق المملوك إن كان اشتراه بعين المال الحرام، لم يصح شراؤه ولا عتقه. وإن كان اشتراه في الذمة، فله أجر عتقه، وعليه إثم ثمنه؛ فإنه لا يجوز للمشتري التصرف في المال الحرام، بل يجب عليه دفعه إلى صاحبه; قال عبد الله بن الإمام أحمد: سألت أبي عن رجل اكتسب مالاً من شبهة، يعني ويتصرف فيه، صلاته وتسبيحه يحط عنه من إثم ذلك؟ قال: إن صلى وسبح يريد بذلك، قال: أرجو، قال الله تعالى: {خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً} [سورة التوبة آية: 102] . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 162 كتاب النكاح سئل الشيخ: عبد الله بن الشيخ محمد، رحمهما الله، عن قولهم: النكاح حقيقة لغة في الوطء ... إلخ؟ فأجاب: صورتها أنهم اختلفوا هل النكاح إذا أطلق في الكتاب والسنة يراد به الوطء حقيقة، ويكون مجازاً في العقد، أم بالعكس؟ فبعضهم قال: إنه حقيقة في العقد، مجاز في الوطء; وبعضهم قال: حقيقة في الوطء، مجاز في العقد; والأصح عند المحققين أنه مشترك. قال الشيخ تقي الدين: النكاح في الإثبات حقيقة في العقد والوطء والنهي لكل منهما. انتهى. وبيان ذلك قوله تعالى: {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [سورة النساء آية: 22] يراد به النهي عن العقد والوطء جميعاً، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: " لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها "، وقوله: " لا ينكح المحرم، ولا ينكح "1، وغير ذلك من الأحاديث، يراد بذلك النهي عن العقد والوطء جميعاً. فإذا تأملت نصوص الكتاب والسنة، تبين لك أن المراد بالنكاح لفظ مشترك، يعم العقد والوطء، إلا قوله: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} [سورة البقرة آية: 230] ، فإن   1 مسلم: النكاح (1409) , والترمذي: الحج (840) , والنسائي: مناسك الحج (2842) ، والنكاح (3275, 3276) , وأبو داود: المناسك (1841) , وابن ماجة: النكاح (1966) , وأحمد (1/57, 1/64, 1/65, 1/73) , ومالك: الحج (780) , والدارمي: المناسك (1823) والنكاح (2198) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 163 المراد بالنكاح في هذه الآية: الوطء بعد العقد الصحيح؛ فلا تحل بوطء من غير عقد، ولا يكفي العقد وحده، لا بد من الوطء، لقوله صلى الله عليه وسلم: " حتى تذوق عسيلته " 1 الحديث. وسئل: عن المرأة تمشي من غير عباءة، أو مكشوفة الوجه ... إلخ؟ فأجاب: وأما المرأة التي تمشي من غير عباءة، أو مكشوفة الوجه، فإذا سترت وجهها وصدرها وشعرها، فليس عليها في ذلك، إذا كان ذلك عادتهم، لكن لا تخالط الرجال الأجانب، فإن بدنها كله عورة شعرها وبشرتها. وأجاب أيضاً: والمرأة يلزمها تغطية شعرها وصدرها ويديها، وجميع بدنها، إلا وجهها في الصلاة. وأجاب الشيخ حمد بن ناصر بن معمر، رحمه الله: والمرأة التي لا تستر عورتها، تؤدب إلى أن تستر عورتها. وأجاب الشيخ سعيد بن حجي: وجه الأمة لا يلزمها ستره، لأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان ينهى الإماء عن التقنع، فاشتهر ولم ينكر، فكان إجماعاً؛ لكن إن كانت الأمة جميلة يخشى بها الفتنة، لم يجز النظر إليها بشهوة. وأما الحرة فلا يجوز كشف وجهها في غير الصلاة، والأمة إذا أعتقت فهي حرة.   1 النسائي: الطلاق (3414) , وابن ماجة: النكاح (1933) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 164 سئل الشيخ عبد الله: عن الخلوة بالأجنبية؟ فأجاب: الذي يخلو بالمرأة الأجنبية، يؤدب عن مثل هذا الفعل بما يراه الأمير. وأجاب الشيخ حمد بن ناصر: الرجل لا يجوز له أن يدخل على أخت زوجته إلا متغطية عنه، ولا يجوز له أن يخلو بها، ولا يصير محرما لها، وإن كان ليس له أن يتزوجها ما دامت أختها معه. سئل الشيخ محمد بن إبراهيم: هل جدي من قبل الأم تغطي عنه زوجتي أم لا؟ فأجاب: لا تغطي عنه، لأنه أبوك، ولو كان ليس أباك حقيقة فإنك ابن ابنته، وكذلك زوجته لا تغطي عنك، سواء كان بعيداً، أو قريباً. سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: عن الحنَّاء للرجل؟ فأجاب: الحناء لا بأس به إذا اختضب به الرجل في يديه ورجليه، غير قاصد للتشبه بالنساء، ولا يريد به الزينة. وأجاب أيضاً: وأما الحناء إذا كان ليس قصده التشبه بالنساء، وإنما قصده إزالة أثر العمل والتبرد والتداوي، فلا بأس به. وسئل: إذا خطب أخت زوجته ليسخطها؟ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 165 فأجاب: هذه المسألة لم أقف عليها، ومنصوص كلامهم وظاهر عباراتهم جواز ذلك، لأنهم لم يذكروا إلا المنع من العقد خاصة، وأما الخطبة فلم يتعرضوا لها بمنع، ولم يمنع إلا من خطبة المعتدة من غيره، فقالوا: لا يجوز التعريض بخطبة الرجعية، ولا يجوز التصريح بخطبة البائن، والمتوفى عنها زوجها؛ فإن فعل بأن عرض في موضع لا يجوز فيه التعريض، أو صرح في موضع لا يجوز فيه التصريح، ولم يعقد عليها إلا بعد انقضاء العدة، فالعقد صحيح مع الإثم. وأما خطبة المرأة في عدة أختها، أو خالتها أو عمتها، فلا علمت فيه منعاً، ولكن الأحسن تركه، أو ترك إظهاره، لما فيه من حصول العداوة وقطيعة الرحم، التي عللوا بها في عدم جواز الجمع بينهما. فإن أراد الخطبة فلتكن سراً بحيث لا تعلم زوجته، مع أن ذلك لا يفيده شيئاً، لأنها ربما وعدته، فإذا انقضت عدة أختها ربما بدا لها. وسئل: عن رجل زوج ابنته، وقد وعد آخر قبله؟ فأجاب: وأما الذي زوج ابنته على رجل، وقد وعد آخر قبله أن يزوجه إياها، وأخلف وعده، فإخلاف الوعد من أخلاق المنافقين، ولا يجوز إخلاف الوعد. والإثم على الأب، وأما الزوج فلا إثم عليه إذا كان لم يعلم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 166 وسئل: عن الصدقة عند العقد؟ فأجاب: والصدقة عند الختان والزواج، والصدقة للميت عند موته، فهذا لا بأس به. سئل الشيخ عبد الله بن عبد العزيز العنقري: عن التحجير ... إلخ؟ فأجاب: وما يفعله بعض الأعراب، من تحجير الرجل بنت عمه - وهو منعها من التزوج بغيره - وما يأخذه من العوض منها، أو من غيرها بغير إذنها، لا يجوز ذلك، ولا يجوز اشتراط شيء من صداقها لبعض أقاربها غير الأب بغير إذنها، لأنه في مقابلة بذل البضع للزوج، فتكون هي المستحقة له دون غيرها. والعقد على المرأة في الحيض جائز ولا بأس به. سئل الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين، رحمه الله: عن عمل العقد عند العقد؟ فأجاب: وأما عقد بعض الناس عقداً عند عقد النكاح، فهذا لا يجوز؛ فإن كان المقصود حيلولة ذلك بين الرجل وامرأته، فهذا من السحر المحرم. [كيف عقد النكاح] سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمهما الله تعالى: كيف عقد النكاح؟ فأجاب: أما عقد النكاح، فلا بد من الولي، ورضى الجزء: 7 ¦ الصفحة: 167 الزوجين، وشاهدي عدل يحضران العقد، ويقول الولي للزوج: زوجتك فلانة على مهر كذا وكذا، ويقول الزوج قبلت ذلك. ويستحب أن يخطب عند العقد بخطبة النكاح المعروفة في كتب أهل العلم. وسئل: عمن تزوجت بغير عقد ... إلخ؟ فأجاب: وأما الذي يتزوج برضاها ورضى أوليائها على مهر مفروض، لكن بغير عقد ولا شهود، فمثل هذا يعذر بالجهل ولا يصير عليه أدب؛ والذي فعل هذا في الجاهلية فلا يطالب بنكثه في الإسلام. وسئل أيضاً: هل يجوز أن يتزوج امرأة بغير عقد، مع حصول الشهود والمهر. فأجاب: لا يجوز للرجل أن يتزوج المرأة إلا بعقد، وشاهدين؛ هذا المفتى به عندنا. وسئل: عن تزويج اليتيمة إذا طلبت النكاح؟ فأجاب: اليتيمة إذا طلبت النكاح، فيجوز لوليها تزويجها وإن لم تبلغ، إذا كان لها تسع سنين؛ لكن لا يجبرها، ولا يزوجها إلا برضاها، إذا كانت يتيمة. والأب يجوز له إجبار الصغيرة التي لم تبلغ. والبلوغ يحصل بالحيض، وبإنبات الشعر الخشن حول القبل. وأجاب أيضاً: والأب يجوز له إجبار ابنته الصغيرة بلا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 168 إذنها، ولا يجوز لغير الأب إجبارها. وسئل الشيخ حمد بن عبد العزيز: عمن زَوّج نفسه بحضور الشاهدين؟ فأجاب: إذا كان برضى المرأة وهو أقرب الأولياء، صح النكاح، وإن كان مراد السائل: زَوّج نفسه، أنه هو الذي خطب خطبة النكاح، فهو جائز ولا بأس به. سئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن: إذا قال ولي البكر: استأمرتها فلم تتكلم، وشاهد الحال قد قرر ذلك، وعملوا له عمله، فهل يكفي، أم لا بد من الإشهاد؟ فأجاب: لا يشترط للبكر النطق، لحديث: " وإذنها صماتها " 1، والإشهاد على الاستئذان لا يشترط بل مستحب؛ لكن لو أنكرته قبل الدخول فقولها، وبعده لا يقبل. وأجاب الشيخ حسن بن حسين بن علي: وأما إذن المرأة لوليها بعد العقد، لا أرى ذلك يكفي بل يعاد، وأما كونها عالمة بالذي أراد تزوجها، وتتهيأ له بالطيب وغيره، فهذا لا يكفي عن الإذن. [إشهاد ولي المرأة على إذنها في التزويج] سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عن إشهاد ولي المرأة على إذنها في التزويج؟ فأجاب: لا يشترط الإشهاد على إذنها له، وصرح بذلك الفقهاء، ولو كان الولي غير الأب؛ فإذا قال وليها:   1 مسلم: النكاح (1421) , والترمذي: النكاح (1108) , والنسائي: النكاح (3260, 3261, 3262, 3264) , وأبو داود: النكاح (2098) , وأحمد (1/219, 1/241, 1/261) , ومالك: النكاح (1114) , والدارمي: النكاح (2188, 2189) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 169 استأذنتها فأذنت، أو سكتت وكانت بكراً، جاز العقد عليها من غير طلب شاهدين على إذنها. وكذا إذا خطب المرأة من نفسها، وعلم أبوها أنها راضية بمن خطبها، وتيقن ذلك منها بخبر أمها له بذلك ونحوه، ورآها تتأهب أهبة التزوج من التجمل باللباس والطيب ونحوهما، وانضم إلى ذلك إخبار أمها ونحوها لأبيها برضاها، جاز له تزويجها بغير استئذان، ولا يشترط رضى وقد تيقن ذلك. وسئل: عمن ادعت عدم الإذن بعد الدخول؟ فأجاب: ذكر أصحابنا أنها لا تصدق، قالوا: لأنها لو كانت صادقة لم تمكن من نفسها، فتمكينها من الوطء دليل على الإذن؛ فكان القول قول الزوج، لأن الظاهر معه؛ هذا إذا كان اختلافها مع الزوج، وأما إذا اختلفت هي ووليها في الإذن وعدمه، بعد دخول الزوج بها، فقال في الفروع: يتوجه في دعوى الولي إذنها كذلك، وذكر شيخنا قولها. انتهى. وأما إن شهدت البينة أنها زوجت مكرهة، أو بغير إذنها وهي ممن يعتبر إذنه، تبيناً بطلان العقد بشهادة البينة لا تصديقاً للمرأة، ولأنهم عللوا قبول قول الزوج بأن الظاهر معه، وهذا مما يقدم فيه الظاهر على الأصل؛ فإذا شهدت البينة بما يخالف الظاهر عمل بها، كما أن القاعدة في الدعاوى: أن القول قول مَن الأصلُ أو الظاهر معه، فإذا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 170 وجدت بينة تخالف ذلك قدمت، ووجب العمل بها. وأجاب الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف: إذا ثبت عند الحاكم رضى المرأة حال العقد وعدم إجبارها، وشهد الشهود على ذلك، وحكم الحاكم بصحة العقد، فلا يجوز لأحد نقضه، ولا اعتراضه إلا إن طلق الزوج المعقود له من غير إكراه، وإلا فهي باقية في ذمته، ولا يتشوف أحد لإبطال العقد بمجرد الحيل، إلا من يستحل الزنى، عياذاً بالله. وأجاب أيضاً: وأما اليتيمة التي ذكرت، فأنت عارف أن المرأة من طبعها الميل إلى الرجل، ولا بد لها منه، فإن كان الخاطب كفواً وهي مشتهية فزوِّجْها، فإن كان أنها لم ترد الزوج فلا تلزمها. سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: عن الولي؟ فأجاب: وأما المرأة فوليها الأقرب من أهلها الرجال خاصة بإذنها، وبحضور شاهدين على الإملاك، وسواء الليل والنهار. وأما إذا غاب وليها قدر مسافة القصر، فلا يجوز لها أن توكل من يزوجها. وهذا يحتاج إلى تفصيل: فإن كان لا يمكن الإرسال إليه ومشاورته إلا بمشقة شديدة، جاز لولي الأمر أن يوكل من يزوجها، أو يزوجها بنفسه على كفو مثلها. وأخو المرأة أو وليها، إذا أبى أن يزوجها من أجل أنها تخدمه، يزوجها الأمير. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 171 وأجاب الشيخ علي بن الشيخ محمد، رحمهما الله: إذا كانت المرأة لا ولي لها يزوجها، أو كان وليها غائباً غيبة منقطعة لا تقطع إلا بكلفة ومشقة، فإنه يزوجها الأمير. وحد المسافة التي يزوج فيها البعيد، المشهور أنها لا تقطع إلا بكلفة ومشقة. وإذا زوج الأبعد من غير عذر للأقرب، فهذه المسألة فيها خلاف بين العلماء: منهم من يقول: إنه لا يصح النكاح; ومنهم من يقول: يصح إذا أجازه الولي؛ والأحوط في مثل هذا تجديد العقد، لأنه ليس في المسألة نص قاطع. وأجاب الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن: إذا امتنع المسلم عن تزويج موليته من غير وجه شرعي، فهو عاضل، تنتقل الولاية منه إلى أقرب عصبتها بعده، ويزوجها من هو أقرب منه. والصغير قبل البلوغ لا يصح أن يلي العقد، فإن زوج فيعاد العقد على يد الولي البالغ الرشيد. وسئل: إذا زوج ولي الأمر، والأولياء حاضرون بغير إذنهم؟ فأجاب: لا يصح العقد لحديث: " لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل ". وأما إذا امتنع الولي، ولم يكن سواه من الأولياء إلا ولي الأمر، فيزوج إذا كان القريب عاضلاً يمنع الكفو، ويطلب دراهم لنفسه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 172 وسئل: هل للمشرك ولاية على المسلمة؟ فأجاب: ليس للمشرك على المسلمة ولاية، فإن لم يكن لها ولي مسلم، فأمرها إلى الأمير. وأجاب أيضاً: وأما الولي، فالمشهور الذي عليه الأكثر: تقديم المكلف الرشيد في تزويج موليته، على من هو أقرب منه ممن لم يبلغ التكليف، ولم يعرف مصالح النكاح. سئل بعضهم: عن رجل تزوج امرأة بلا ولي مع وجود القاضي، ولها ولي في بلد آخر، لكنها وكلت من يزوجها؟ فأجاب: هذا نكاح فاسد، فيزوجها وليها إن كان حاضراً، فإن لم يكن أو كان في مسافة بعيدة، فيزوجها القاضي من زوجها المذكور. وليس عليها عدة، لأن الماء واحد، ولا يحتاج لطلاق ولا فسخ، بل يكفي عقد صحيح من غير فسخ للعقد الفاسد. وسواء كانت حاملاً أم لا، فلا تجب عليها العدة، بل يعقد له عليها عقداً جديداً، إما وليها إن أمكن، أو الحاكم. قال في الإقناع وشرحه: ولا يصح تزويج من نكاحها فاسد قبل طلاق أو فسخ، فإن أبى الزوج الطلاق، فسخه - أي النكاح الفاسد – حاكم. انتهى. وعلى هامشه بخط الشيخ عبد الله أبا بطين، رحمه الله، قوله: ولا يصح تزويج الجزء: 7 ¦ الصفحة: 173 من نكاحها فاسد ... إلخ، يعني لغير صاحب النكاح الفاسد؛ أما صاحب النكاح الفاسد، فلا يحتاج إلى طلاق ولا فسخ، بل يكفيه عقد صحيح من غير فسخ للعقد الفاسد، صرح به في حاشية المنتهى. سئل بعضهم: عن بنت تسع ولا ولي لها حاضر، هل تزوج أم لا؟ فأجاب: إن كانت تطيق الزوج والولي غائب، والزوج كفو، وهي محتاجة، زوّج الأبعد، فإن عدم زوج الأمير. سئل بعضهم: عن يتيمة ليس لها إلا أخ لأم؟ فأجاب: إذا لم يكن للمرأة إلا أخ من الأم، ولا قرابة لها من جهة الأب، ولّى عليها الحاكم من يزوجها. سئل بعضهم: إذا كان سيد العبد أو الأمة غائباً مسيرة يوم، هل يزوجان بغير إذنه؟ فأجاب: لا يزوجان إلا بإذنه والحالة هذه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 174 سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد، رحمهما الله تعالى: عمن أراد أن يزوج وليس معه إلا شاهد؟ فأجاب: وأما ولي المرأة الذي يريد أن يزوجها، وليس معه إلا شاهد واحد، فلا يجوز ذلك إلا بشاهدين عدلين. وأما من أراد تزويج أخته، وليس معه إلا شاهد ويمين، فمثل هذا يشترط له كثير من أهل العلم شاهدين، وليس لليمين مدخل في مثل هذا؛ إنما ذلك في المال وما يقصد به المال. وأجاب الشيخ عبد الرحمن بن حسن: وأما الإشهاد على العقد فيشترط لصحة النكاح، وأدلة ذلك معروفة في كتب الأحاديث والفقه. سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: هل تزوج الهاشميات من ليس منهم؟ فأجاب: وأما الذي يدعي أنه من الأشراف وعنده أخوات له، فلا بأس أن يزوجهن من المسلمين الطيبين، ولو لم يكونوا من الأشراف، لأن النبي صلى الله عليه وسلم زوج بناته بعض الصحابة الذين ليسوا من بني هاشم، مثل عثمان بن عفان، وأبي العاص بن الربيع، رضي الله عنهم. وقال أيضاً: ورد سؤال على علماء الدرعية، في تزويج الهاشمية غير الهاشمي، فكان الجواب ما نصه: وأما الجزء: 7 ¦ الصفحة: 175 نكاح الفاطمية غير الفاطمي، فجائز إجماعاً، بل ولا كراهة في ذلك؛ وقد زوج علي عمر بن الخطاب، رضي الله عنهما، وكفى بهما قدوة. وتزوجت سكينة بنت الحسين بن علي، بأربعة ليس فيهم فاطمي، بل ولا هاشمي. ولم يزل عمل السلف على ذلك من غير إنكار، إلا أنا لا نجبر أحداً على تزويج موليته ما لم تطلب هي، وتمنع من غير الكفء، والعرب أكفاء بعضهم لبعض؛ فما اعتيد في بعض البلاد من المنع، دليل التكبر وطلب التعظيم، وقد يحصل بذلك فساد كبير، كما ورد، بل يجوز الإنكاح لغير الكفء، وقد تزوج زيد - وهو من الموالي - زينب أم المؤمنين، رضي الله عنها، وهي قرشية؛ والمسألة معروفة عند أهل المذاهب. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 176 باب المحرمات في النكاح سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: عمن تزوج امرأة وطلقها قبل الدخول، وتزوجت ثلاثة بعده، ثم تزوج بها ولد الأول. فأجاب: الذي تزوج امرأة وطلقها قبل أن يمسها، وأراد ولده أن يتزوجها فلا يجوز ذلك، سواء كان أبوه دخل بها أو لم يدخل. وسئل: عن الربيبة؟ فأجاب: وأما الربيبة فلا تحرم إلا على زوج أمها، وأما ابنه وأخوه فلا بأس أن يتزوج بها. سئل الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين: عن نكاح المرأة في عدة أختها وخالتها، ونكاح خامسة في عدة رابعة؟ فأجاب: إن كان الطلاق رجعياً فهذا النكاح باطل عند جميع العلماء، وإن كانت العدة من طلاق بائن ففيه خلاف مشهور؛ والمذهب التحريم. قال في الشرح الكبير: إذا تزوج الرجل امرأة، حرمت عليه أختها وعمتها وخالتها، وبنت أخيها وبنت أختها، تحريم جمع، وكذلك إذا تزوج الجزء: 7 ¦ الصفحة: 177 الحر أربعاً حرمت عليه الخامسة تحريم جمع بلا خلاف؛ فإذا طلق زوجته طلاقاً رجعياً، فالتحريم باق بحاله في قولهم جميعاً، وإن كان الطلاق بائناً أو فسخاً فكذلك حتى تنقضي عدتها؛ روي ذلك عن علي وابن عباس وزيد بن ثابت; وبه قال سعيد بن المسيب ومجاهد والنخعي، والثوري وأصحاب الرأي. وقال القاسم بن محمد وعروة ومالك والشافعي، وأبو عبيد وابن المنذر: له نكاح جميع من سميناه من غير تحريم. انتهى. وأجاب الشيخ حمد بن ناصر بن معمر: من معه أربع نسوة، فأبان واحدة، وأراد أن يتزوج مكانها أخرى ولم تعتد المطلقة، فالذي نص عليه العلماء أن ذلك لا يجوز؛ بل لا بد من انقضاء العدة، وليس له أن يجمع ماءه في رحم خمس نسوة. وأجاب الشيخ سعيد بن حجي: مذهب أحمد وأبي حنيفة: لا يجوز حتى تنقضي عدة المطلقة، ولأنه لا يجوز أن يجمع ماءه في رحم خمس نسوة؛ وهذا هو المفتى به عندنا. وسئل بعضهم: إذا تزوج الرجل امرأة ومعه من لا يجوز الجمع بينها وبين الثانية؟ فأجاب: قد ثبت بالكتاب والسنة، أن الجمع بين المرأة وأختها، وبين المرأة وعمتها أو خالتها، حرام في الجزء: 7 ¦ الصفحة: 178 دين الله كما هو معلوم عند السائل، وفقه الله لحسن الفهم وصلاح القصد. فإن جمع بينهما في عقد واحد لم يصح العقد، وإن تزوجهما في عقدين، أو تزوج إحداهما في عدة الأخرى - سواء كانت بائناً أو رجعية - فنكاح الثانية باطل. فإن لم يعلم أولاهما فعليه فراقهما معاً. قال أحمد في رجل تزوج أختين لا يدري أيهما تزوج أولا: يفرق بينه وبينهما، لأن إحداهما محرمة عليه ونكاحها باطل، ولا تعرف المحللة له، فقد اشتبه عليه، ونكاح إحداهما صحيح، ولا نتيقن بينونتها منه إلا بطلاقهما جميعاً، أو فسخ نكاحهما، فوجب ذلك. وإن أحب أن يفارق إحداهما ثم يجدد نكاح الأخرى ويمسكها، فلا بأس. ولا يخلو من ثلاثة أقسام: أحدها: أن لا يكون دخل بواحدة منهما، فله أن يعقد على إحداهما في الحال، بعد فراق الأخرى. الثاني: إذا دخل بإحداهما، فإن أراد نكاحها فارق التي لم يصبها بطلقة، ثم ترك التي أصابها حتى تنقضي عدتها، ثم ينكحها، لأننا لا نأمن أن تكون هي الثانية، فيكون قد أصابها في نكاح فاسد، فلهذا اعتبرنا انقضاء عدتها، ويحتمل جواز العقد عليها في الحال، لأن النسب لاحق به فلا يصان ذلك عن مائه؛ اختاره الموفق. ومذهب الشافعي: أنه أجاز للواطئ نكاحها في عدتها منه، وعلله بأنه وطء يلحق به النسب كما لو وطئ في نكاح، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 179 ولأن العدة إنما شرعت حفظاً للنسب وصيانة للماء، والنسب لاحق به. وإن أحب نكاح الأخرى فارق المصابة بطلقة، ثم انتظرها حتى تنقضي عدتها، ثم تزوج أختها؛ ولا يجوز أن يتزوجها في عدة المصابة، لئلا يجمع بين أختين. القسم الثالث: إذا دخل بهما فليس له نكاح واحدة منهما، حتى يفارق الأخرى وتنقضي عدتها من حين فُرْقَتها، وتنقضي عدة الأخرى من حين إصابتها؛ وإن لم يرد نكاحهما فارقهما بطلقة. فأما إن تزوج امرأة ودخل بها، ثم تزوج أختها كما هو ظاهر سؤال السائل، فنكاح الثانية باطل كما تقدم، ويجب عليه أن يعتزل زوجته حتى تنقضي عدة الثانية، لئلا يجمع ماءه في رحم أختين، وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فلا يجمع ماءه في رحم أختين ". قال أحمد، رحمه الله: إذا تزوج أختها ودخل بها، اعتزل زوجته حتى تنقضي عدة الثانية، وذلك أنه لو أراد العقد على أختها في الحال لم يجز له حتى تنقضي عدة الموطوءة؛ فكذلك لا يجوز له وطء امرأته حتى تنقضي عدة أختها التي أصابها، والله أعلم. سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: عمن تزوج في العدة أو بعقد فاسد؟ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 180 فأجاب: إذا تزوج المرأة في العدة، أو بعقد فاسد وفسخ النكاح، فإن كان الفاعل لذلك جاهلاً، فإنه يجوز له نكاحها إذا انقضت عدتها بعقد جديد برضى المرأة والولي، وإن كان فاعل ذلك عارفاً بالتحريم، فإنه يفرق بينهما ولا تحل له أبداً، كما ذكر ذلك عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وأجاب أيضاً: وأما حكم من تزوج في عدة الطلاق وهو جاهل من البوادي، فلا يصير حكمه حكم الزاني، بل يعذر بالجهل، ويفرق بينهما حتى تنقضي العدة الأولى من الطلاق الأول، ثم تعتد من وطء الثاني الذي وطئها في عدتها، فإذا انقضت العدتان حلت للأزواج وهو أحدهم. وسئل الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن: عمن تزوجت قبل الحيضة الثالثة؟ فأجاب: إذا حاضت المرأة حيضتين بعد الطلاق، وتزوجت قبل الثالثة، فالنكاح باطل وتعتد من الأول والثاني. سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: عن المرأة إذا كانت حاملاً وتوفي زوجها، هل تزوج؟ فأجاب: المرأة إذا كانت حاملاً وتوفي زوجها، فلا تتزوج حتى تضع حملها. وكذا المطلقة تكون في عدة حتى الجزء: 7 ¦ الصفحة: 181 تضع حملها، ولا تزوج إلا بعد وضع الحمل. وسئل أيضاً: عمن توفي عنها حين الوضع؟ فأجاب: إن كان أنها وضعته بعد موته ولو بساعة انقضت عدتها، وليس عليها إحداد، وتتزوج إن أرادت، ولكن لا يدخل بها إلا إذا طهرت من النفاس. وإن كانت وضعته قبل موته بقليل أو كثير، فإحدادها أربعة أشهر وعشر، ولا تعتد بالحيض. فإذا مضت الأشهر الأربعة والعشر، ظهرت من الإحداد، وحلت للأزواج، ولو لم تحض. وسئل: عمن أبرأته من صداقها وطلقها ... إلخ؟ فأجاب: الذي أبرأته زوجته من صداقها، وقال: أنت طالق، ثم بعد ذلك أراد مراجعتها وهي تريده، فإن كان ما طلقها إلا بشرط البراءة من الصداق، فهي تصير مطلقة واحدة، فإن كان ما طلقها إلا مرة واحدة، جاز له أن يتملك عليها بعقد جديد ومهر جديد برضاها، فإن كان طلقها قبل هذا مرتين لم تجز له إلا أن تنكح زوجاً غيره. وسئل الشيخ حمد بن ناصر: عن العقد على المطلقة؟ فأجاب: أما المطلقة فلا يجوز العقد عليها في العدة بإجماع أهل العلم، بل لا يجوز التصريح بخطبتها. فإن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 182 كانت رجعية حرم التعريض أيضاً، لأنها زوجة ما دامت في العدة؛ فإن عقد عليها فالنكاح باطل، ولا يحتاج إلى طلاق، لأنه باطل إجماعاً، بل يفرق بينهما، فإذا اعتدت فهو خاطب من الخطاب. وعند مالك أنها تحرم عليه أبداً، وهو إحدى الروايتين عن عمر رضي الله عنه، والأول قول علي، وهو المشهور عن أحمد، والجديد من قولي الشافعي. وسئل أيضاً: عمن طلق امرأته قبل أن يدخل بها ثلاث تطليقات؟ فأجاب: إن كان طلقها ثلاثاً بكلمة واحدة حرمت عليه، ولم تحل له إلا بعد الزوج الثاني بعد أن يجامعها، ولا تحل للأول قبل جماع الزوج الثاني. وأما إن كان طلقها ثلاثاً واحدة بعد واحدة، فإنها تَبِين بالأولى ولا يلحقها بقية الطلاق، لأن غير المدخول بها لا عدة عليها، ولا يلحقها الطلاق، فإذا بانت بالأولى حلَّت لزوجها بعقد ثان وإن لم تتزوج غيره، وتبقى معه على طلقتين. ومن طلق زوجته تطليقتين بعد المسيس، ثم تزوجت زوجاً ثانياً، وطلقها قبل أن يمسها، هل ترجع إلى الأول؟ فالأمر كذلك، ولا تأثير لهذا الزوج في حل العقد، لأنها حلال لزوجها قبله؛ فإذا اعتدت حلت لزوجها الأول بعقد جديد. فإن لم يكن خلا بها فلا عدة عليها، ويعقد عليها الثاني في الحال. والذي تزوج امرأة وادعت أن عدتها انقضت، ثم بعد العقد أنكرت انقضاء العدة، فهذه مسألة ينظر فيها: فإن كانت أقرت بانقضاء العدة ثم أنكرت قبل العقد، لم يعقد عليها، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 183 فإن كان إنكارها بعد العقد لم تقبل دعواها. سئل بعضهم: عمن خالع امرأته على عوض ... إلخ؟ فأجاب: الذي خالع امرأته على عوض وطلقها، وأقامت قريب سنتين ما نكحت، فإن كان طلاقه بالثلاث كلمة واحدة، فلا تجوز له إلا بعد زوج، وإن كان غير ذلك فتجوز له بعقد جديد ورضى الزوجة؛ لكن يشترط أن هذا الطلاق الذي مع الخلع ما تقدمه طلاق سابق. وكذلك من طلق زوجته على براءة، ورجعت إليه برضاها حتى جامعها من غير عقد، فلا يحل، ويؤدب على جراءته إذا كان جاهلاً؛ فإن كان عالماً بأنه لا يجوز فاذكر لنا، وإن أرادته الزوجة فيعقد عقد جديد. وسئل الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن: الذي طلق زوجته واحدة، ثم بعد ما انقضت عدتها تزوجهاوطلقها بالثلاث بلفظة واحدة، ثم استرجعها؟ فأجاب: لا تحل له حتى تنكح زوجاً غيره، عند جمهور العلماء. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 184 سئل بعضهم: إذا تزوج رجل امرأة في العدة بجهالة، هل يجب عليها أن تعتد من وطئه الفاسد ... إلخ؟ فأجاب: قد ثبت بإجماع المسلمين أن المعتدة لا يجوز لها أن تنكح في عدتها، أي عدة كانت، لقول الله تعالى: {وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} [سورة البقرة آية: 235] ، قال ابن عباس وجمهور المفسرين: {حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} يعني: حتى تنقضي العدة؛ وإن تزوجت فالنكاح باطل. قال ابن كثير في تفسيره: أجمع العلماء أنه لا يصح العقد في مدة العدة، ويجب أن يفرق بينه وبينها، فإن لم يدخل بها فالعدة بحالها، ولا تنقطع بالعقد الثاني، لأنه باطل لا تصير به المرأة فراشاً، ولا تستحق عليه بالعقد شيئاً، وإن وطئها انقطعت العدة، سواء علم التحريم أو جهله. وقال أبو حنيفة: لا تنقطع، لأن كونها فراشاً لغير من له العدة لا يمنعها، كما لو وطئت بشبهة وهي زوجة، فإنها تعتد وإن كانت فراشاً للزوج. وقال الشافعي: وإن وطئها عالماً بأنها معتدة وأنه يحرم، فهو زان، فلا تنقطع العدة بالوطء، لأنها تصير به فراشاً، والعدة تراد للاستبراء، وكونها فراشاً ينافي ذلك، فوجب أن يقطعها. ومن نصر الأول قال: هذا وطء بشبهة نكاح، فتنقطع به العدة كما لو جهل. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 185 وقولهم: إنها تصير به فراشاً، قلنا: لكنه لا يلحق نسب الولد الحادث بوطئه بالزوج، وإلا فهما شيئان، فإذا فارقها الثاني، أو فرق بينهما، وجب عليها أن تكمل عدة الأول، لأن حقه أسبق، ولأن عدته وجبت عن وطء في نكاح صحيح. وقال في المبدع: ولا يحتسب منها مقامها عند الثاني في الأصح، فإذا كملت عدة الأول وجب عليها أن تستأنف العدة من الثاني، ولا تداخل العدتان لأنهما من رجلين؛ وهذا مذهب الشافعي. وقال أبو حنيفة: يتداخلان، فتأتي بثلاثة قروء بعد مفارقة الثاني، تكون عن بقية عدة الأول وعدة الثاني، لأن القصد معرفة براءة الرحم، وهذا تحصل به براءة الرحم منهما جميعاً. واحتج من قال: إنها تستأنف العدة للثاني، بعد انقضاء عدتها من الأول، بما رواه مالك عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب، وسليمان بن يسار، أن رشيداً الثقفي طلق امرأته ونكحت في عدتها، "فضربها عمر ابن الخطاب، وضرب زوجها ضربات مخففة، وفرق بينهما. ثم قال: أيما امرأة نكحت في عدتها، فإن كان زوجها الذي تزوج بها لم يدخل بها فرق بينهما، ثم اعتدت بقية عدتها من زوجها الأول، وكان خاطباً من الخطاب. وإن كان دخل بها فرق بينهما ثم اعتدت بقية عدتها من الأول، ثم اعتدت من الآخر، ولا ينكحها أبداً". الجزء: 7 ¦ الصفحة: 186 وروى بإسناده عن علي، في التي تزوجت في عدتها "أنه يفرق بينهما، ولها الصداق بما استحل من فرجها، وتكمل ما فسدت من عدة الأول، وتعتد من الآخر"، وهكذا روى الشافعي والبيهقي بسند جيد عن عمر وعلي، ولم يعرف لهما مخالف من الصحابة، قالوا: لأنهما حقان مقصودان لآدميين فلم يتداخلا، كالدينين واليمينين، ولأنه حبس يستحقه الرجال على النساء، فلم يجز أن تكون المرأة في حبس رجلين، كحبس الزوجة. وأما قول عمر: "ثم لا ينكحها أبداً"، فهذا مما قد اختلف فيه أهل العلم: فذهب الإمام مالك إلى القول بهذا اتباعاً لعمر، وهو القديم للشافعي، ورواية عن أحمد، لقول عمر: "ولا ينكحها أبداً"، قالوا: ولأنه استعجل الحق قبل وقته، فحرمه في وقته، كالوارث إذا قتل مورثه، ولأنه يفسد النسب، فيوقع التحريم المؤبد كاللعان. والقول الثاني: أنها لا تحرم على التأبيد، بل له أن ينكحها بعد انقضاء العدتين. وقال الشافعي في الجديد: له نكاحها بعد انقضاء عدة الأول، ولا يمنع من نكاحها في عدتها منه، لأنه وطء يلحق به النسب كالوطء في النكاح، ولأن العدة إنما شرعت حفظاً للنسب وصيانة للماء، والنسب لاحق به هاهنا، فأشبه ما لو خالعها ثم نكحها في عدتها. قال الموفق: وهذا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 187 حسن موافق للنظر. وقال ابن كثير: اختلفوا فيمن تزوج امرأة في عدتها فدخل بها، فإنه يفرق بينهما. وهل تحرم عليه على التأبيد؟ على قولين: الجمهور على أنها لا تحرم عليه، بل له أن يخطبها إذا انقضت عدتها. وذهب مالك إلى أنها تحرم عليه على التأبيد. انتهى. واستدل الجمهور على إباحتها بعد انقضاء العدتين للزوج الثاني، بأن آيات الإباحة عامة، كقوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [سورة النساء آية: 24] ، وقوله: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ} [سورة النساء آية: 24] ، فلا يجوز تخصيصها بغير دليل، ولأن التحريم إما أن يكون بالعقد، أو بالوطء في النكاح الفاسد، أو بهما جميعاً، وجميع ذلك لا يقتضي التحريم، بدليل ما لو نكحها بغير ولي ووطئها، ولأنه لو زنى بها لم تحرم عليه على التأبيد، وهذا أولى. وما روي عن عمر في تحريمها، فقد خالفه علي، وروي عن عمر أنه رجع إلى قول علي، فإن علياً قال: ?"إذا انقضت عدتها فهو خاطب من الخطاب"، فقال عمر: "ردوا الجهالات إلى السنة"، ورجع إلى قول علي. قال في المبدع: ورواه البيهقي بإسناد جيد، قال ابن كثير: قلت هو منقطع عن عمر، وقد روى الثوري عن أشعث عن الشعبي عن مسروق: "أن عمر رجع عن ذلك، وجعل لها مهرها، وجعلهما يجتمعان". الجزء: 7 ¦ الصفحة: 188 وإن أتت المرأة بولد من أحدهما عينا، انقضت عدتها بوضعه، لقوله تعالى: {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [سورة الطلاق آية: 4] . فإن أتت به لدون ستة أشهر من وطء الثاني، وعاش أربع سنين فما فوقها من فراق الأول، فإنه يلحق بالأول وتنقضي عدتها منه بوضعه، ثم تعتد بثلاثة قروء عن الثاني، لأن عدة الموطوءة بشبهة أو في نكاح فاسد عدة المطلقة. قال في المبدع: ذكره في الانتصار إجماعاً، لأن الوطء في ذلك من شغل الرحم، ولحقوق النسب، كالوطء في النكاح. وعند الشيخ تقي الدين: أن الموطوءة بشبهة أو في نكاح فاسد لا عدة عليها، بل تستبرأ بحيضة، لأن المقصود معرفة البراءة من الحمل كأمة مزوجة. وإن كان الولد من الثاني وحده دون الأول، وهو أن يأتي لستة أشهر فما زاد إلى أربع سنين من وطء الثاني، ولأكثر من أربع سنين منذ بانت من الأول، فهو ملحق بالثاني دون الأول، فتنقضي به عدتها من الثاني، ثم تتم عدة الأول؛ وتقدم عدة الثاني هاهنا على عدة الأول، لأنه لا يجوز أن يكون الحمل من إنسان والعدة من غيره. وإن أمكن أن يكون منهما، وهو: أن تأتي به لستة أشهر فصاعدا من وطء الثاني، ولأربع سنين فما دونها من بينونتها من الأول، أُرِيَ القافة، فإن ألحقته بالأول لحق الجزء: 7 ¦ الصفحة: 189 به، كما لو أمكن أن يكون منه دون الثاني، وإن ألحقته بالثاني لحق به، وكان الحكم كما لو أمكنه كونه من الثاني دون الأول. وإن ألحقته القافة بهما لحق بهما، وانقضت عدتها منهما، لأن الولد محكوم به لهما، فتكون قد وضعت حملها منهما. وإن أشكل أمره على القافة، أو لم يكن لزمها أن تعتد بعد وضعه بثلاثة قروء، لأنه إن كان من الأول فقد قامت بما عليها من عدة الثاني، وإن كان من الثاني فعليها أن تكمل عدة الأول، ليسقط الفرض بيقين. فأما إن ولدت لدون ستة أشهر من وطء الثاني، ولأكثر من أربع سنين من فراق الأول، لم يلحق بواحد منهما، ولا تنقضي به عدتها، لأنا نعلم أنه من وطء آخر، لأن أقل مدة الحمل ستة أشهر عند مالك والشافعي وأحمد، وأقصاها أربع سنين على المشهور من مذاهبهم، فإذا ولدته انقضت به عدتها من ذلك الوطء، ثم تتم عدة الأول وتستأنف عدة الثاني، لأنه وجد ما يقتضي عدة ثانية وهو الوطء الذي حملت منه؛ فيجب عليها عدتان وإتمام العدة الأولى. وسئل الشيخ سعيد بن حجي: عمن طلقها آخر الثلاث فمضى عليها ثلاثة أشهر فتزوجت، فلما أخذت مع الثاني عشرة أيام إذا هي حبلى من الأول؟ فأجاب: لا يحل لهما لأنه نكاح باطل، قال في الجزء: 7 ¦ الصفحة: 190 الإقناع وشرحه: وإن تزوجت امرأة في عدتها فنكاحها باطل، لقوله تعالى: {وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} [سورة البقرة آية: 235] ، ولأن العدة إنما اعتبرت لمعرفة براءة الرحم، لئلا يفضي إلى اختلاط المياه واشتباه الأنساب؛ وذكر غيره نحو ذلك. وإنما تحل المطلقة ثلاثاً بشرطين: أحدهما: نكاح زوجٍ غيره للآية، ولا بد أن يكون نكاحاً صحيحاً. الثاني: أن يطأها الزوج في الفرج. وأما عدتها فإنها تعتد من الأول بوضع هذا الحمل، ثم تعتد من الثاني بثلاثة قروء. وأجاب الشيخ سعد بن حمد بن عتيق: المرأة التي تزوجت في عدتها، وجاءت بولد بعد الزوج الثاني بستة أشهر إلا عشرة أيام، فالذي ذكر العلماء: أن المرأة إذا تزوجت في عدتها فنكاحها باطل، والقرآن يدل على ذلك، لقوله تعالى: {وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} [سورة البقرة آية: 235] ، فيجب التفريق بينها وبين الزوج. وعليها أن تعتد للأول، وللثاني على الخلاف والتفصيل في عدتها من الثاني. وإن أتت بولد لأقل من ستة أشهر من وطء الثاني، ولأقل من أربع سنين من إبانة الأول، فالولد للزوج الأول، فتنقضي عدتها من الأول بوضع ذلك الحمل، ثم تعتد للثاني، وتحل للثاني بعد انقضاء العدتين. وهذه هي مسألتكم التي سألتم عنها، فالولد للزوج الأول. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 191 وإذا اعتدت عدة ثانية بعد الوضع، حلت للثاني إن أراد ورضيت بعقد جديد. ولزوم العدة للثاني فيه خلاف بين العلماء، وكذلك حلها للثاني بعد مضي العدة فيه خلاف؛ والقول الراجح: الحل، وهو المذهب. والقول بعدم عدتها للثاني في هذه الصورة قول حسن قوي، لأن براءة الرحم معلومة، وليس هناك محذور. والذي يظهر لي عدم وجوب العدة للثاني في هذه الصورة، فإن تزوج على هذه الحال فلا بأس به. سئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن، رحمه الله: إذا انقضت أربع سنين، هل تزوج ولو ارتابت في انتفاء الحمل؟ فأجاب: قال العلامة ابن القيم، رحمه الله، في تحفة المودود: إنه قد وجد لخمس سنين وأكثر منها إلى سبع، فعليه لا تمكن من التزوج إلا بعد تيقن براءة رحمها. سئل الشيخ حسن بن حسين بن علي: عمن طلق ثلاثاً ثم نظر، فإذا عقد نكاحه فاسد؟ فأجاب: لا يجوز ردها عليه بعقد ثان لأمرين: إن كان العقد مختلف في صحته فلا يجوز، لأنه قد يكون العقد صحيحاً فيكون الطلاق صحيحاً. وإن كان فاسداً فأبعد له، لأنه قد يكون عالماً بفساده مصراً عليه، فلا ينبغي فتح هذا الباب للناس. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 192 سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: عمن زوج ابنته مشركاً ... إلخ؟ فأجاب: الذي زوج ابنته مشركاً يؤدب، ويمنع المشرك من قربان المرأة. سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عن نكاح المسلم الكتابية؟ فأجاب: وأما نكاح المسلم الكتابية، فأهل الكتاب هم أهل التوراة والإنجيل. وأما الإنكليز فالظاهر أنهم نصارى، فإن كانوا ينتسبون إلى عيسى، واتباع الإنجيل فهم كذلك. سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: عن المعتق هل يتزوج الأمة؟ فأجاب: العبد إذا أعتق فلا يجوز أن يتزوج الأمة، ولو شرط سيدها أن أولاده أحرار، إلا بالشرطين المذكورين في كتاب الله: أحدهما: أن لا يجد طولاً يتزوج به الحرة. الثاني: أن يخاف العنت على نفسه؛ وصبره مع ذلك خير له من تزوج الأمة. وسئل: عمن أعتق وتحته أمة؟ فأجاب: إذا أعتق وتحته أمة، فالذي يظهر من كلامهم أنه لا بأس باستدامة نكاح الأمة، لأنهم نصوا في الجزء: 7 ¦ الصفحة: 193 الحر المسلم، إذا وجد فيه الشرطان المبيحان للنكاح، وهما: عدم وجود الطول لنكاح الحرة المسلمة، وخوف العنت، فتزوج الأمة، ثم أيسر أو زال خوف العنت، أنه يجوز استدامة نكاح الأمة، قالوا: لأن الاستدامة ليست كابتداء النكاح، قالوا: واستدامة النكاح تخالف ابتداءه، بدليل أن العدة والردة وأمن العنت، يمنع ابتداءه دون استدامته. قالوا: وكذلك لا يبطل النكاح بتزوج حرة عليها على الأصح، لما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال: "إذا تزوج الحرة على الأمة، قسم للحرة ليلتين وللأمة ليلة". ثم رأيت بعض فقهاء الشافعية صرح بذلك في المسألة التي سألت عنها، فقال: والصحيح أن العبد إذا عتق وتحته أمة، أنه لا خيار له; قلت: وظاهر هذا يقتضي جواز استدامة العبد - إذا أعتق - نكاح الأمة. سئل بعضهم: إذا كان الحر معه حرة، أو يملك صداق حرة، وأراد أن أعقد له على أمة ... إلخ؟ فأجاب: لا تعقد له والحالة هذه، إلا إن أمرك عالم نظر في أمره. سئل الشيخ حسن بن حسين بن علي: عمن زنى بامرأة ثم تابا؟ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 194 فأجاب: لا يجوز للزاني ولا لغيره أن يتزوج الزانية حتى تعتد، وتظهر توبتها بأن تراود فتأبى; وعند الشيخ تقي الدين، رحمه الله تعالى: أنه لا يجوز مراودتها على الزنى، وإنما توبتها بإظهار الندم، والإكثار من الاستغفار. سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد، رحمهما الله: عن رجل خبب امرأة على زوجها وتزوجها؟ فأجاب: نكاح الثاني الذي خببها على زوجها باطل، ويجب أن يفارقها، لأنه عاص لله في فعله ذلك. سئل الشيخ حسن بن حسين بن الشيخ محمد، رحمهم الله: عمن تزوج بعقد فاسد؟ فأجاب: المفتى به عندنا، أنه لا يحل تزوج من نكاحها فاسد لغير من تزوجها، حتى يطلقها أو يفسخ نكاحها، فإن أبى، فسخه الحاكم؛ وهذا المنصوص عن الإمام أحمد، وهو المذهب المقرر عند أصحابه خلافاً للشافعي. قال في المغني والشرح: لأنه نكاح يسوغ فيه الاجتهاد، فاحتاج إلى التفريق، ولأن تزويجها من غير فرقة يسلط زوجين عليها، كل منهما يعتقد صحة نكاحه وفساد نكاح الآخر، ويفارق النكاح الباطل من هذين الوجهين. انتهى. فافهم الفرق بين الفاسد والباطل، فالباطل لا يحتاج إلى طلاق ولا فسخ، ولا يجب به طلاق؛ فهو بخلاف الفاسد. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 195 سئل الشيخ سعيد بن حجي: عن نكاح المحلل، هل فيه خلاف أم هو باطل؟ فأجاب: قال في المغني، لما ذكر الشروط التي يبطل بها النكاح: وكذلك إن شرط عليه أن يحلها لزوج كان قبله؛ وجملته: أن نكاح المحلل حرام باطل في قول عامة أهل العلم، منهم الحسن وقتادة ومالك والشعبي، وسواء قال: زوجتكها إلى أن تطأها، أو شرط أنه إذا أحلها فلا نكاح بينهما، أو أنه إذا أحلها للأول طلقها. وحكي عن أبي حنيفة أنه يصح النكاح، ويبطل الشرط. ولنا: ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لعن الله المحلِّل والمحلَّل له " 1، رواه أبو داود وابن ماجة، والترمذي وقال: حديث حسن صحيح، والعمل عليه عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، منهم عمر وعثمان وابن عمر، وهو قول الفقهاء من التابعين. قال ابن مسعود: "المحلل والمحلل له ملعونان على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم". وروى ابن ماجة أنه صلى الله عليه وسلم قال: " ألا أخبركم بالتيس المستعار؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: هو المحلل. لعن الله المحلل والمحلل له " 2.   1 الترمذي: النكاح (1119) , وأبو داود: النكاح (2076) , وابن ماجة: النكاح (1935) . 2 ابن ماجة: النكاح (1936) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 196 فصل فإن شرط عليه التحليل قبل العقد، ولم يذكره في العقد، ونواه في العقد، أو نوى التحليل من غير شرط، فالنكاح باطل أيضاً. سئل أحمد عن الرجل يتزوج المرأة، وفي نفسه أن يحللها لزوجها الأول، ولم يعلم المرأة بذلك؟ قال: هو محلل، إذا أراد بذلك الإحلال فهو ملعون. وهذا ظاهر قول الصحابة، رضي الله عنهم، روى نافع عن ابن عمر أن رجلاً قال له: امرأة تزوجتها أحلها لزوجها، ولم يأمرني ولم يعلم؟ قال:? "لا، إلا النكاح رغبة، إن أعجبتك أمسكتها، وإن كرهتها فارقتها; قال: وإن كنا لنعده على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم سفاحاً، وقال: لا يزالان زانيين، وإن مكثا عشرين سنة، إذا علم أنه يريد أن يحللها". وجاء رجل إلى ابن عباس، فقال: إن عمي طلق امرأته ثلاثاً، أيحلها له رجل؟ قال:? "من يخادع الله يخدعه"، وهذا قول الحسن والليث ومالك; وقال أبو حنيفة والشافعي: العقد صحيح. ولنا: قول النبي صلى الله عليه وسلم " لعن الله المحلل والمحلل له " 1، وهو قول من سمينا من الصحابة، ولا مخالف لهم، فيكون إجماعاً.   1 الترمذي: النكاح (1119) , وأبو داود: النكاح (2076) , وابن ماجة: النكاح (1935) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 197 فصل فإن شرط عليه أن يحلها قبل العقد، فنوى بالعقد غير ما شرطوا عليه وقصد نكاح رغبة، صح العقد، لأنه خلا عن نية التحليل. وإن نوى وليها دون الزوج، لم يؤثر ذلك في العقد. وقال الحسن وإبراهيم: إذا هَمَّ أحد الثلاثة فسد النكاح، ونية المرأة ليس بشيء، وإنما قال النبي صلى الله عليه وسلم: " لعن الله المحلل والمحلل له " 1، ولأن العقد إنما يبطل بنية الزوج، لأنه الذي إليه المفارقة والإمساك، فأما المرأة فلا تملك رفع العقد، فوجود نيتها وعدمها سواء. وكذا الزوج الأول، لا يملك شيئاً من العقد ولا من رفعه فهو أجنبي، فإن قيل: كيف لعنه صلى الله عليه وسلم؟ قلنا: إنما لعنه إذا رجع إليها بذلك التحلل، لأنه لم تحل له فكان زانياً، فاستحق اللعنة لذلك.   1 الترمذي: النكاح (1119) , وأبو داود: النكاح (2076) , وابن ماجة: النكاح (1935) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 198 فصل ونكاح المحلل لا يحصل به الإحصان، ولا الإباحة للزوج الأول; فإن قيل: فقد سماه النبي صلى الله عليه وسلم: محللا، وسمى الزوج: محللا له، ولو لم يحصل الحل لم يكن محللا ولا محللا له، قلنا: إنما سماه محللا لأنه قصد التحليل في موضع لا يحصل فيه الحل، كما قال: " ما آمن بالقرآن من استحل محارمه " 1، وقال تعالى: {يُحِلُّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً} [سورة التوبة آية: 37] ، ولو كان محللاً في الحقيقة والآخر محللاً له، لم يكونا ملعونين. انتهى ملخصاً. فقد علمت ألهمك الله: أن المحلل إذا شرط عليه أن يحلها للزوج قبله، أن نكاحه باطل، وأنه إن شرط عليه التحليل قبل العقد، ولم يذكره في العقد، أو نوى التحليل من غير شرط، فالنكاح باطل أيضاً، وأنه إن شرط عليه أن يحلها قبل العقد، فنوى بالعقد غير ما شرطوا عليه، وقصد نكاح رغبة، أن العقد صحيح; وإن قصدت المرأة التحليل أو وليها دون الزوج، لم يؤثر ذلك في العقد، وأن نكاح المحلل لا يحصل به الإحصان، ولا الإباحة للزوج، والله أعلم. النكاح الباطل سئل الشيخ حسن بن حسين بن الشيخ، رحمهم الله تعالى: عن النكاح الباطل ... إلخ؟ فأجاب: أسلفنا لكم في الجواب المتقدم، أن النكاح   1 الترمذي: فضائل القرآن (2918) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 199 الباطل لا يحتاج إلى طلاق ولا فسخ، ولا يوجب مهراً بدون الوطء، بخلاف الفاسد؛ ونحن نذكر لكم هنا من عبارات الفقهاء، ما تبدو معه وجوه الفرق مسفرة ضاحكة: قال في الإقناع: ويقع الطلاق في النكاح المختلف في صحته، كالنكاح بولاية فاسق، أو بشهادة فاسقين، أو نكاح الأخت في عدة أختها، أو نكاح الشغار، أو المحلل، أو بلا شهود، أو بلا ولي، وما أشبه ذلك، كعقد حكم بصحته، ويثبت به النسب والعدة والمهر، ولا يقع في نكاح باطل إجماعاً، ولا في نكاح فضولي قبل إجازته، وإن نفذناه بها. انتهى ملخصاً. وقال في المنتهى وشرحه - لتقي الدين الفتوحي -: ولا فرق في عدة وجبت بدون وطء، بين نكاح فاسد وصحيح، نص عليه. والمراد بالفاسد: المختلف فيه، كالحنفي يتزوج بلا ولي ونحو ذلك; ولا عدة في نكاح باطل، أي: مجمع على بطلانه إلا بوطء، لأن وجود صورته كعدمه. انتهى ملخصاً. وقال في الروض المربع: تلزم العدة كل امرأة فارقت زوجها بطلاق أو فسخ أو خلع، حتى في نكاح فاسد فيه خلاف، كنكاح بلا ولي إلحاقاً له بالصحيح، ولذلك وقع فيه الطلاق، وإن كان النكاح باطلاً وفاقاً، أي: إجماعاً، كنكاح خامسة أو معتدة لم تعتد للوفاة إذا مات عنها، ولا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 200 إذا فارقها في الحياة قبل الوطء، لأن وجود هذا العقد كعدمه. انتهى. وبنحو ما ذكره من نقلنا كلامهم، قاله غيرهم، فلا نطيل بنقله، وقد أسلفنا لك في الجواب السابق قول المغنى والشرح، لأنه أي النكاح الفاسد يسوغ فيه الاجتهاد، فاحتاج إلى التفريق، ولأن تزويجها من غير فرقة يفضي إلى تسلط زوجين عليها، كل منهما يعتقد صحة نكاحه وفساد نكاح الآخر، ويفارق النكاح الباطل من هذين الوجهين. انتهى كلامه في المغنى والشرح. فظهر مما نقلناه الفرق بين الفاسد والباطل، فالباطل لا يحتاج إلى طلاق ولا فسخ، ولا يجب به عدة ولا مهر بدون الوطء. ومن صور الباطل أيضاً: نكاح الخامسة، ونكاح المعتدة كما مثل به صاحب الروض. ومنها أيضاً: نكاح الموطوءة بشبهة، ونكاح زوجة الغير، وذات المحرم من نسب ورضاع، والله أعلم. انتهى. وأجاب الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ محمد، رحمهم الله: الفاسد هنا هو ما اختلف في صحته، لأن كلاً من المختلفين إمام مجتهد، وله استدلال على ما ذهب إليه. فإذا قال الإمام أحمد: إن النكاح لا يصح لحديث كذا، وقال به أصحابه ومن تبعهم لقوة دليله عندهم، ورأينا غيرهم يقول بالصحة ويقدح في إسناد حديثه مثلاً، فإنا لا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 201 نحكم والحالة هذه بأن النكاح لم ينعقد، فنقول: هو فاسد، لا يخرج من ذلك إلا بالطلاق، خروجاً من خلاف العلماء. وأما الباطل: فهو ما أجمع على بطلانه، لظهور دليله وعدم المعارض، فيكون غير منعقد من أصله، فلا يحتاج إلى طلاق لكونه لم ينعقد بيقين. وأجاب أيضاً: الصحيح أن الباطل والفاسد مترادفان عند أهل الأصول والفقهاء من الحنابلة، والشافعية، كالفرض والواجب; وذهب بعض العلماء إلى أن الباطل: ما أجمع على بطلانه، والفاسد: ما اختلف في صحته وفساده، لأن هذا قد تترتب عليه أحكام غالباً بخلاف الأول; والقول الأول هو الصحيح، لكن بعض الفقهاء من أهل المذهب، يعبر عن المختلف فيه بالفاسد، والمجمع عليه بالباطل لتجري العبارة على القولين، ولعلهم لا يمنعون من تسمية ما عبروا عنه بالباطل فاسداً، وما عبروا عنه بالفاسد باطلاً، وبعضهم سمى المختلف فيه باطلاً أيضاً. وقال أبو حنيفة: إنهما متباينان، فالباطل عنده: ما لم يشرع بالكلية كبيع المضامين والملاقيح، والفاسد: ما شرع أصله ولكن امتنع لاشتماله على وصف محرم كالربا. وعندنا: كل ما كان منهياً عنه إما لعينه أو لوصفه ففاسد وباطل؛ ومثل ذلك: خلاف الحنفية في الفرض والواجب، فالفرض عندهم: ما دل عليه دليل قطعي، كآية وحديث الجزء: 7 ¦ الصفحة: 202 متواتر، والواجب: ما دل عليه دليل ظني، كالأحاديث غير المتواترة. وأجاب الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين: وأما الفرق بين الباطل والفاسد، فقال في مختصر التحرير وشرحه: وباطل وفاسد مترادفان، يقابلان الصحة الشرعية، أي: فيقال لكل ما ليس بصحيح باطل وفاسد، سواء كان عبادة أو عقداً. قال: وفرق أبو حنيفة بين البطلان والفساد، وفرق أصحابنا وأصحاب الشافعي بين الفاسد والباطل في الفقه، في مسائل كثيرة. قال في شرح التحرير: قلت: غالب المسائل التي حكموا عليها بالفساد، إذا كانت مختلفاً فيها بين العلماء، والتي حكموا عليها بالبطلان إذا كانت مجمعاً عليها، أو الخلاف فيها شاذ; قال: ثم وجدت بعض أصحابنا قال: الفاسد من النكاح ما يسوغ فيه الاجتهاد، والباطل ما كان مجمعاً على بطلانه. وأما صور النكاح الباطل، فمنها: نكاح خامسة، ومعتدة، وكذا نكاح المرأة على عمتها أو خالتها، ونكاح مطلقته ثلاثاً قبل أن تنكح زوجاً غيره، ونكاح الوثنية، والنكاح الخالي من الولي والشاهدين جميعاً. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 203 باب الشروط والعيوب في النكاح سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد، رحمهما الله: عما إذا شرطت طلاق ضرتها، أو طلاق نفسها بعد شهرين؟ فأجاب: أما شرطها طلاق نفسها بعد شهرين، فهذا لا يجوز اشتراطه، وهو شرط باطل; وأما اشتراط طلاق ضرتها، ففيه خلاف مشهور بين العلماء، والصحيح: أنه شرط باطل بما ثبت في الصحيحين وغيرهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا تسأل المرأة طلاق أختها، ولتنكح فإنه يأتيها ما قدر لها " 1. سئل الشيخ حسين بن الشيخ محمد، رحمهم الله: ما الفرق بين كون المرأة تشترط أن لا يتزوج عليها، وبين قولها: إن تزوجتَ علي فهو طلاقي؟ فأجاب: الظاهر أن الكل شرط صحيح، تملك به الفسخ إذا تزوج. وأما وقوع الطلاق، فشرطه: أن يكون حال التعليق صادراً من زوج؛ فلو علقه قبل العقد عليها على شرط لم يكن طلاقاً، لأن الزوجة لم تكن حال التعليق في نكاحه. فإن كان قد عقد عليها، وعلق طلاقها على شرط، صح التعليق، ووقع عند وجود شرطه.   1 البخاري: القدر (6601) , ومسلم: النكاح (1413) , والترمذي: الطلاق (1190) , والنسائي: النكاح (3239) , وأحمد (2/238) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 204 وأجاب الشيخ حمد بن ناصر بن معمر، رحمه الله تعالى: إذا شرطت عند العقد طلاق ضرتها، فهذا الشرط اختلف العلماء فيه: هل هو صحيح أم فاسد؟ فذهب الحنابلة إلى صحته، فعندهم يجب الوفاء به، أو خيار الفسخ له إذا لم يف; وذهب كثير من الفقهاء إلى أنه شرط باطل، للأحاديث الصحيحة في النهي عن ذلك، والنهي يقتضي الفساد. وعلى هذا، يبطل الشرط ويصح النكاح، لأن هذا ليس من الشروط المبطلة للعقد، كنكاح الشغار، والتحليل، والمتعة. وأما من شرطت على الزوج عند العقد شرطاً صحيحاً، ورضي بذلك الزوج، وقالت: إن فعلت كذا فهو طلاقي، ثم لم يف لها، بل خالف ما شرطت عليه، فهذا الشرط إن كان من الشروط الصحيحة فلها الفسخ إذا لم يف به، وإن لم تقل: فهو طلاقي، ولها إلغاؤه وإبطاله. فإذا أسقطته بعد البينونة سقط، وجاز له أن يرجع إليها بنكاح جديد، فإن كان الإسقاط قبل البينونة سقط والنكاح بحاله، وليس لها مطالبته بذلك بعد إسقاطه. وسئل: عمن تشاجر هو وزوجته ثم تراضيا على شروط صحيحة، كقوله: إن تزوجت عليك فهو طلاقك، ثم قالت له: أعد اللفظ، فأعاده مرتين أو ثلاثاً، هل يثبت هذا الشرط؟ وإن كان بعد عقد النكاح؟ وهل يقع عليها الجزء: 7 ¦ الصفحة: 205 الطلاق؟ وهل يفرق بين الحرفين فيما إذا قال: إن تزوجت فأنت طالق، أو إذا تزوجت؟ فأجاب: هذا الشرط - وهو تعليق الطلاق على التزوج - شرط لازم، وتعليقه صحيح؛ فمتى تزوج طلقت. ثم ننظر في نيته حال تكراره لفظ الطلاق، فإن قصد بالتكرار إفهامها، أو التأكيد، لم تطلق إلا واحدة، وله أن يراجعها بعد التزوج بالأخرى، لأن هذا الشرط لم يوجد عند العقد، بل حدث بعد ذلك. فإن لم يقصد بالتكرار الإفهام ولا التأكيد، طلقت ما نواه. فإن لم يكن له نية، ففيه خلاف، والأشهر: أنها تطلق بعدد التكرار; وبعضهم يقول: لا تطلق إلا واحدة. وأما التفرقة بين "إن" الشرطية و"إذا"، فالعامة لا يفرقون بينهما، فيحكم عليهم بلغتهم على قصدهم ونيتهم، مع أن في مثل هذه الصورة يقع الطلاق بكل حال. وأجاب الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين: إذا شرطت عليه طلاق ضرتها، فأكثر أهل العلم يصححون هذا الشرط، بمعنى أن لها الفسخ إذا لم يف; واختار الموفق وجماعة من الأصحاب عدم صحة هذا الشرط، وأنها لا تملك الفسخ إذا لم يف، للنهي عنه في الحديث الصحيح؛ وأرجو أن هذا القول أقرب. سئل بعضهم: إذا شرط النفقة عليها؟ فأجاب: وأما إذا تزوج المرأة بشرط أن النفقة عليها، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 206 فهو صحيح إذا تراضوا عليه. سئل بعضهم: إذا شرطت عليه أن لا تحول من منْزلها؟ فأجاب: إذا شرطت على زوجها عند العقد أن لا تحول من مسكنها، وتدعى المرأة بشهود نساء، فالمسألة خلافية، والحنابلة يجوزون هذا الشرط، إذا شهد للزوجة شاهدان عدلان، بالغان حران، غير متهمين؛ فأما النساء فلا تجوز شهادتهن في ذلك ولو كثرن. سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: إذا كان لرجل أمة، ولآخر عبد، وأراد تزويج واحد منهما الآخر، وشرطا أن الأولاد بينهما؟ فأجاب: هذا الشرط فاسد لا يصح، بل الأولاد يتبعون الأم في الحرية والرق. وسئل: عمن تزوج امرأة ولم يقدر على وطئها، وقد بذل لها صداقاً؟ فأجاب: لا يعود إليه شيء من الصداق، بل يصير كل الصداق للمرأة، ويؤجل حولاً، فإن قدر على الوطء لم يلزمه أن يطلقها، وإن مضت السنة ولم يقدر على الوطء، لزمه أن يطلقها، وإن أبى فسخها الأمير. وأما العيوب التي في المرأة توجب فسخ النكاح، فمثل: البرص، والجذام، والرتق، والعمى. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 207 باب نكاح الكفار سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: هل نكاح الشرك يحتاج لتجديد في الإسلام؟ فأجاب: نكاح الشرك لا يحتاج لتجديد في الإسلام. سئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن، رحمه الله: عن زوجة الكافر إذا كانت مسلمة ومات، هل عليها عدة؟ فأجاب: إن كان قد تزوجها في حال كفره، فالنكاح باطل، لقوله تعالى: {وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا} [سورة البقرة آية: 221] ، وقوله: {لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [سورة الممتحنة آية: 10] ، وإن كان كفره طارئاً على النكاح، أو كانا كافرين فأسلمت قبله، فإن كان قبل الدخول انفسخ نكاحها، وإن كان بعد الدخول، وقف على انقضاء العدة، على الصحيح عند متأخري الأصحاب، واستدلوا بحديث مالك في إسلام صفوان بن أمية، بعد إسلام زوجته بنحو شهر، والحديث مشهور عند أهل العلم، قالوا: فإن أسلم الثاني قبل انقضاء العدة، فهما على نكاحهما، وإلا تبينا فسخه منذ أسلم الأول، والمرتد كغيره. والذي اختاره ابن القيم، رحمه الله: عدم مراعاة زمن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 208 العدة، واستدل بأحاديث وآثار، منها: ما روى أبو داود في سننه، عن ابن عباس، رضي الله عنهما، قال: "رد رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب ابنته، على أبي العاص بن الربيع بالنكاح الأول، ولم يحدث شيئاً بعد ست سنين " 1، وفي لفظ لأحمد: ولم يحدث شهادة ولا صداقاً، ولم يحدث نكاحاً. وقال في حديث عمرو بن شعيب: "أن النبي صلى الله عليه وسلم ردها على أبي العاص بنكاح جديد": إن الإمام أحمد قال: هذا حديث ضعيف; والصحيح: أنه أقرهما على النكاح الأول. وقال الترمذي: في إسناد هذا الحديث مقال; وقال الدارقطني: هذا حديث لا يثبت، والصواب حديث ابن عباس. وفي صحيح البخاري عن ابن عباس قال: "كان المشركون على منْزلتين من رسول الله صلى الله عليه وسلم: أهل حرب يقاتلهم ويقاتلونه، وأهل عهد لا يقاتلهم ولا يقاتلونه. فكان إذا هاجرت امرأة من دار الحرب، لم تخطب حتى تحيض وتطهر، فإذا طهرت حل لها النكاح، فإن هاجر زوجها قبل أن تنكح ردت إليه". وذكر ابن أبي شيبة عن معتمر بن سليمان عن معمر عن الزهري قال: إذا أسلمت ولم يسلم زوجها فهما على نكاحهما، إلا أن يفرق بينهما سلطان; قال: ولا يعرف اعتبار العدة في شيء من الأحاديث، ولا كان النبي صلى الله عليه وسلم يسأل المرأة: هل انقضت عدتك أم لا؟   1 الترمذي: النكاح (1143) , وأبو داود: الطلاق (2240) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 209 ولا ريب، أن الإسلام لو كان بمجرده فرقة، لم يكن فرقة رجعية بل بائنة، فلا أثر لعدة في بقاء النكاح، وإنما أثرها في منع نكاحها للغير؛ فلو كان الإسلام قد نجز الفرقة بينهما، لم يكن أحق بها في العدة، ولكن الذي دل عليه حكم النبي صلى الله عليه وسلم أن النكاح موقوف، فإن أسلم قبل انقضاء عدتها فهي زوجته، وإن انقضت عدتها، فلها أن تنكح من شاءت. ولا نعلم أن أحداً جدد للإسلام عقداً غير عقده الأول البتة، بل كان الواقع أحد أمرين: إما افتراقهما ونكاحها غيره، وإلا بقاؤها عليه، وإن تأخر إسلامها وإسلامه. وقد رد النبي صلى الله عليه وسلم ابنته زينب على أبي العاص بن الربيع، وهو إنما أسلم زمن الحديبية، وهي أسلمت من أول البعثة، وبين إسلامها وإسلامه أكثر من ثمانية عشر سنة. وأما قوله: في الحديث: كان بين إسلامها وإسلامه ست سنين، فوهم؛ إنما أراد بين هجرتها وإسلامه. ولولا إقراره صلى الله عليه وسلم الزوجين على نكاحهما - وإن تأخر إسلام أحدهما عن الآخر بعد صلح الحديبية وزمن الفتح - لقلنا بتعجيل الفرقة بالإسلام من غير اعتبار عدة، لقوله تعالى: {لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [سورة الممتحنة آية: 10] ، وقوله: {وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [سورة الممتحنة آية: 10] ، وإن الإسلام سبب الفرقة، وكلما كان سبباً للفرقة تعقبته الفرقة، كالرضاع والخلع والطلاق؛ وهذا اختيار الخلال، وأبي بكر صاحبه، وابن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 210 المنذر وابن حزم، وهو مذهب الحسن وطاووس، وعكرمة وقتادة والحاكم. قال ابن حزم: وهو قول عمر بن الخطاب، وجابر بن عبد الله وابن عباس، وبه قال حماد بن زيد، والحكم بن عتبة، وسعيد بن جبير وعمر بن عبد العزيز، وعدي بن عدي الكندي، والشعبي وغيرهم. قلت: وهو إحدى الروايتين عن الإمام أحمد، لكن الذي نزل عليه قوله: {وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [سورة الممتحنة آية: 10] ، وقوله: {لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [سورة الممتحنة آية: 10] لم يحكم بتعجيل الفرقة، وما حكاه ابن حزم عن عمر، فما أدري من أين حكاه، والمعروف عنه خلافه. ثم ساق الرواية عن عمر بخلاف ما حكاه ابن حزم. انتهى ملخصاً. وأما: إذا مات الزوج قبل انقضاء العدة، فصحيح المذهب: أنها تستأنف العدة للوفاة، ويلغو ما مضى. وإن كان موته بعد انقضائها فلا عدة، والذي يتمشى عليه ما اختاره ابن القيم: أنها إن لم يفسخ نكاحها حاكم بطلبها، أنها تعتد منه أيضاً. سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: عن رجل له امرأة ارتدت إلى بلد الحرب، فلما تم لها عشر سنين بلغ زوجها عنها كلام أغضبه، فظاهر منها، ثم بعد ذلك أسلمت ... إلخ؟ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 211 فأجاب: الفرقة تكون بنفس الردة، وقيل تتوقف على انقضاء العدة، وهذا المشهور عن أحمد، رواه عنه خمسون رجلاً، والمختار لعامة الأصحاب. وعن أحمد رواية أخرى: الوقف في هذه المسألة. واختار الشيخ تقي الدين: فيما إذا أسلمت قبله بقي نكاحه، قبل الدخول وبعده، ما لم تنكح غيره، والأمر إليها ولا حكم ولا حق عليه، وكذا إن أسلم قبلها، وليس له حبسها، وأنها متى أسلمت ولو قبل دخوله أو بعده بمدة، فهي امرأته إن اختار. انتهى. فإن قلنا: إن النكاح ينفسخ بنفس الردة، أو انقضاء العدة، فهي أجنبية يجري فيها من الخلاف ما يجري في المظاهر من الأجنبية، وإن قلنا: إن الأمر في ذلك إليه كما اختاره الشيخ تقي الدين، ولم يرد زوجها انفساخ نكاحها، فهي امرأته يلحقها ظهاره، وعليه كفارة الظهار المذكورة في القرآن، من قبل أن يمسها؛ وكلامهم في الظهار من الأجنبية أنه يصح، ولا يطؤها حتى يكفّر. قال في الإنصاف: على الصحيح من المذهب، نص عليه. وقيل: لا يصح كالطلاق؛ قال في الانتصار: هذا قياس المذهب كالطلاق، وذكره الشيخ تقي الدين رواية; والفرق بينهما: أن الظهار يمين، والطلاق حل عقد ولم يوجد. انتهى ما ذكره في الإنصاف. وبما ذكرناه يتبين لك الجواب في المسألة، إن شاء الله تعالى. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 212 كتاب الصداق سئل الشيخ حمد بن ناصر بن معمر: عمن تزوج امرأة، وأصدقها أربع نخلات من نخل مسمى، هل يصح؟ وإن صح فهل يكون من خيار النخل، أو من أوساطه؟ فأجاب: هذه المسألة فيها خلاف بين أهل العلم: بعضهم يقول: يصح ذلك، ولها أربع نخلات من أوساط النخل، وهذا المذهب. وبعضهم يقول: لا يصح، وهذا اختيار الموفق والشارح؛ فعلى هذا القول يكون لها مهر المثل. سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عن تعليم شيء من القرآن، هل يجوز أن يكون صداقاً؟ والحديث الذي فيه: "لا تكون لأحد بعدك مهراً" هل هو صحيح؟ فأجاب: اختلف العلماء في جواز جعل تعليم القرآن صداقاً، وفي ذلك روايتان عن أحمد: إحداهما: لا يجوز، اختارها أكثر أصحابه، وفاقاً لمالك وأبي حنيفة. والرواية الثانية: يجوز، وفاقاً للشافعي. وأما حديث: " لا تكون لأحد بعدك مهراً "، فالظاهر عدم صحته. سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: عما يعطى أبو الجزء: 7 ¦ الصفحة: 213 المرأة؟ فأجاب: وأما من زوج ابنته على رجل، فأعطاه الزوج مقدار عشرين ريالاً، أو أكثر، فلا بأس به. وأجاب الشيخ حمد بن ناصر بن معمر: وأما اشتراط الرجل على زوج ابنته عند العقد، فهذا جائز، بخلاف غير الأب فلا يجوز. وأجاب أيضاً: وأما أخذ الأب من صداق ابنته، فالمشهور عن أحمد جوازه، وهو قول إسحاق، وقد روى عن مسروق:? "أنه زوج ابنته، واشترط لنفسه عشرة آلاف، يجعلها في الحج والمساكين، ثم قال للزوج: جهز امرأتك"، وروى ذلك عن علي بن الحسين أيضاً; واستدلوا على ذلك بما حكى الله عن شعيب: {اِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} [سورة القصص آية: 27] ، وبقوله صلى الله عليه وسلم: " أنت ومالك لأبيك " 1، وقوله: " إن أولادكم من كسبكم، فكلوا من أموالهم " 2؛ فإذا شرط لنفسه شيئاً من الصداق، كان آخذاً من مال ابنته، وله ذلك. وأجاب الشيخ سعيد بن حجي: نعم له ذلك بشروط، واستدل الفقهاء على جوازه بقصة شعيب مع موسى، وبقوله صلى الله عليه وسلم: "أنت ومالك لأبيك"3، وبقوله عليه السلام: " أطيب ما أكلتم من كسبكم، وإن أولادكم من كسبكم " 4،   1 ابن ماجة: التجارات (2291) . 2 الترمذي: الأحكام (1358) , والنسائي: البيوع (4450) , وأبو داود: البيوع (3529) , وابن ماجة: التجارات (2290) , وأحمد (6/41) , والدارمي: البيوع (2537) . 3 ابن ماجة: التجارات (2291) . 4 الترمذي: الأحكام (1358) , والنسائي: البيوع (4449, 4452) , وأبو داود: البيوع (3528) , وابن ماجة: التجارات (2290) , وأحمد (6/162) , والدارمي: البيوع (2537) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 214 رواه أبو داود والترمذي وحسنه، هذا إذا كان ممن يصح تملكه من مال ولده، على ما تقدم في الهبة؛ ومن شرطه، أن لا يجحف بمال البنت، قاله في المحرر، وابن عقيل، والموفق والشارح; وهذا مذهب المتأخرين. وقال الثوري وأبو عبيد: يكون كله للمرأة، وكلام الحنابلة أقرب على شروط تملك الأب من مال الولد في الهبة، فليراجع. سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: عمن قال لآخر: زوجتك ابنتي وهو يضحك؟ فأجاب: النكاح يلزمه، وإن كان الرجل يهزل به، كما في الحديث: " ثلاث جدهن جد، وهزلهن جد: الطلاق، والنكاح، والرجعة " 1. وسئل: إذا عقد ومات عنها قبل الوطء؟ فأجاب: وأما المرأة التي يعقد عليها الرجل، ثم يموت ولم يكن وطئها، فيجب لها نصيبها من الميراث، ويدفع باقي الصداق لها، وتلزمها العدة. وأجاب أيضاً: وإذا عقد عليها ثم طلقها قبل الدخول، فلها نصف الصداق المسمى، لقوله تعالى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [سورة البقرة آية: 237] . وأجاب الشيخ حسين بن الشيخ محمد: والرجل الذي   1 الترمذي: الطلاق (1184) , وأبو داود: الطلاق (2194) , وابن ماجة: الطلاق (2039) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 215 طلق امرأته بعد العقد عليها، قبل أن يدخل بها، فلها نصف جهاز مثلها. وأجاب الشيخ عبد الرحمن بن حسن: اعلم أن هذه المسألة تكثر الفكرة فيها، ولم نقف على نص صريح فيها، ولكن الذي يستقر في القلب، ويغلب عليه في الاعتقاد، وهو أقرب إلى أصول الشرع: أن التنصيف فيما يسمى جهازاً، وهو الذي يبذل قبل الدخول في العادة. ثم وجدنا في الاختيارات ما يقرر ذلك ويوافقه، ولفظه: والشرط المتقدم كالمقارن، والاطراد العرفي كاللفظي؛ قال أبو العباس: وقد سئلت عن مسألة من هذا، وقيل: ما مهر مثل هذه؟ فقلت: ما جرت العادة بأنه يؤخذ من الزوج، فقالوا: إنما يؤخذ المعجل قبل الدخول، فقلت: هذا مهر مثلها. انتهى. وهذا واضح لا غبار عليه، ويغلب على ظني أني قد أفتيت بها سابقاً. وسئل ابنه الشيخ عبد اللطيف، عما تعطاه الزوجة صبيحة الدخول ... إلخ؟ فأجاب: ما تعطاه الزوجة صبيحة الدخول، لا يحتسب به من صداقها عند المفارقة والمطالبة بالصداق، ولو نوى ذلك، لعدم الإعلام والإشهاد عند القبض. سئل الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين، رحمه الله: هل بين النكاح الفاسد والباطل، بعد الدخول الجزء: 7 ¦ الصفحة: 216 فرق، في وجوب المهر؟ فأجاب: نعم، بينهما فرق في الجملة: فيستقر المهر بالخلوة في النكاح الفاسد، بخلاف الباطل، فيجب للجهالة بالتحريم فيه مهر المثل بالوطء فقط، ويجب في الفاسد المسمى، لا مهر المثل على الصحيح من المذهب. قال في الإنصاف - فيمن نكاحها فاسد -: وإن دخل بها استقر المسمى، هذا المذهب نص عليه؛ قال في القواعد الفقهية: وهي المشهورة عند أحمد، وهي المذهب عند أبي بكر وابن أبي موسى، واختارها القاضي وأكثر أصحابه; وعنه: يجب مهر المثل; قال المصنف هنا: وهي أصح، وهو ظاهر كلام الخرقي، واختاره الشارح. وقال في الإنصاف أيضاً: ويستقر بالخلوة في النكاح الفاسد، هذا المذهب نص عليه، وعليه جماهير الأصحاب، وهو من مفردات المذهب، لكن هل الواجب المسمى، أو مهر المثل؟ مبني على الذي قبله. انتهى. وقال أيضاً: إذا كان نكاحها باطلاً فهي كمكرهة على الزنى، في وجوب المهر وعدمه، على الصحيح من المذهب، وقدمه في الفروع وغيره، وجزم به في الكافي والرعاية وغيرهما. وفي الترغيب رواية: يلزم المسمى. انتهى. ومراده بوجوب المهر: إذا لم تكن عالمة بالتحريم. والواجب للمكرهة على الزنى مهر المثل؛ قال في الإنصاف: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 217 هذا المذهب مطلقاً، وعليه جماهير الأصحاب; قال المصنف والشارح: هذا ظاهر المذهب; وعنه: يجب للبكر خاصة، اختاره أبو بكر. وعنه: لا يجب مطلقاً، ذكرها واختارها الشيخ تقي الدين، وقال: هو خبيث، وقال في الشرح: فأما من نكاحها باطل كالمزوجة والمعتدة، إذا نكحها رجل فوطئها عالماً بالتحريم، وتحريم الوطء، وهي مطاوعة عالمة، فلا مهر، لأنه زنى يوجب الحد، وهي مطاوعة عليه. وإن جهلت تحريم ذلك، أو جهلت كونها في العدة، فلها المهر، لأنه وطء شبهة. وفيه أيضاً: ويجب مهر المثل للموطوءة بشبهة، بغير خلاف علمناه. وقال في الإقناع وشرحه: وإذا تزوج معتدة من غيره، وهما، أي: العاقد والمعقود عليها، عالمان بالعدة، قلت: ولم تكن من زنى، وعالمان بتحريم النكاح فيها، أي: العدة، وطئها فيها، أي: العدة، فهما زانيان، عليهما حد الزنى ولا مهر لها، لأنها زانية مطاوعة؛ ولا نظر لشبهة العقد، لأنه باطل مجمع على بطلانه، فلا أثر له، بخلاف المعتدة من زنى فإن نكاحها فاسد، والوطء فيه حكمه حكم وطء الشبهة، للاختلاف في وجوبها؛ ومحل سقوط مهرها إن لم تكن أمة، فإن كانت أمة لم يسقط، لأنه لسيدها فلا يسقط الجزء: 7 ¦ الصفحة: 218 بمطاوعتها له، ولا يلحقه النسب لأنه من زنى. وإن كانا، أي: الناكح والمنكوحة جاهلين بالعدة، أو جاهلي التحريم، ثبت النسب وانتفى الحد، ووجب المهر، لأنه وطء شبهة. وإن علم هو دونها فعليه الحد للزنى، وعليه المهر بما نال من فرجها، ولا يلحقه النسب، لأنه زان. وإن علمت هي دونه، فعليها الحد ولا مهر لها إن كانت حرة، لأنها زانية مطاوعة، ويلحقه النسب، لأنه وطء شبهة. انتهى. وما صرح به: من أن النسب لا يلحقه بالوطء في النكاح الباطل، مصرح به في كلام جميع الفقهاء، ولا يذكرون فيه خلافاً. سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: عمن أعسر بالصداق والنفقة؟ فأجاب: وأما المرأة إذا طلبت من زوجها صداقها، وادعى العسرة ولم يقدر أن ينفق عليها، فلا تكره عليه إلا إذا أدى حقها وصداقها. وسئل: إذا دفع زوج إلى امرأته خمسة حمران 1 ثم بعد ذلك اختلفا، فقال الزوج: الخمسة من المهر، والمهر قدر عشرة حمران، ولم يذكر الزوج يوم العطاء أنه من المهر، فهل القول قول الزوج؟ لأنه أعلم بنيته أو لا؟ وإن   1 نقود مستعملة في عصر الشيخ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 219 قلتم: القول قوله، فهل يلزمه يمين؟ فأجاب: الذي يظهر من كلام الفقهاء في جنس هذه الصورة، أن القول قوله بلا يمين، لأنه أعلم بنيته؛ هذا الذي يظهر لي في هذه المسألة، والله أعلم. نكاح المتعة وسئل الإمام عبد العزيز بن محمد بن سعود: عن نكاح المتعة، الوارد في حله قوله تعالى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ} الآية [سورة النساء آية: 24] ، هل ورد له ناسخ؟ فأجاب: ثبتت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتحريمه، كما ثبت في الصحيحين، من حديث علي رضي الله عنه وغيره من الصحابة، رضوان الله عليهم أجمعين. وأما الآية: فليس فيها تصريح بحل المتعة، وإنما فيها الأمر بإيتاء المستمتَع به من النساء أجورهن، وهذا يعم كل من دخل بها من النساء؛ فإنه أمر بأن يعطي جميع الصداق، بخلاف المطلقة قبل الدخول، التي لم يستمتع بها، فإنها لا تستحق إلا نصفه. وأما ما ورد في بعض القراءات: {إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً} ، فقيل: ليست هذه متواترة، وغايتها أن تكون كأخبار الآحاد; ونحن لا ننكر أن المتعة أحلت في أول الإسلام، ثم حرمت، فيكون هذا الحرف منسوخاً بما ثبت في الصحيحين: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرم متعة النساء يوم خيبر. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 220 باب وليمة العرس سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ: عن وليمة العرس. فأجاب: وليمة العرس سنة. سئل الشيخ إسحاق بن عبد الرحمن: عن الوليمة من الأب، هل تسن أو تباح أو تكره؟ فأجاب: الأولى أن تكون من الزوج، للحديث المعروف. وسأل شيخه حسين بن محسن الأنصاري: هل لإباحتها من جهة الأب مستند؟ فأجابه: ومن جملته حديث رواه الحافظ الآجري، في إنكاح النبي صلى الله عليه وسلم فاطمة بعلي، أنه " أمر بلالاً بقصعة من أربعة أمداد أو خمسة، وبذبح جزور .... " الحديث. سئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله: هل يجوز ستر الجدر في وسط المنزل ليلة العرس بالبسط ونحوها، التي تسمى الحجبة؟ وهل ينهى عن ذلك؟ فأجاب: الحمد لله. هذا مكروه وينهى عنه، لأن أبا أيوب أنكره على ابن عمر، ورجع عن دعوته. [آداب الطعام والشراب] سئل بعضهم، رحمه الله تعالى: عن قول ابن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 221 عبد القوي، رحمه الله: وكن رافعاً قبل القيام الطعام قد ... نهي عن قيام قبل رفع المميد هل سمعت: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن القيام قبل رفع الطعام؟ فأجاب: قد ورد في حديث عبد الله بن بسر رضي الله عنه قال: " كان للنبي صلى الله عليه وسلم قصعة يقال لها الغراء، يحملها أربعة، فلما أضحوا وسجدوا الضحى أتي بتلك القصعة وقد ثرد فيها، فالتقوا عليها. فلما كثروا جثا النبي صلى الله عليه وسلم، فقال أعرابي: ما هذه الجلسة يا رسول الله؟ قال: إن الله جعلني عبداً، ولم يجعلني جباراً عنيداً. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كلوا من حواليها، ودعوا ذروتها، يبارك فيها. فلما فرغ القوم أمر برفع الطعام قبلهم "، رواه أبو داود بإسناد جيد. سئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ: ما قولكم فيمن يقول لمن شرب: هنيئاً، ويدعي جواز ذلك؟ وقد يستدل بقوله: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً} [سورة الطور آية: 19] ، وبقوله: {فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً} [سورة النساء آية: 4] . فأجاب: ليس في الآيتين ما يدل على مشروعية ذلك في حق كل من شرب. أما الآية الأولى: فإن ذلك يقال لأهل الجنة إذا دخلوها، نسأل الله الجنة برحمته، وليس في الآية ما يدل على أنه يقال لهم كلما أكلوا منها أو شربوا. وأما آية الجزء: 7 ¦ الصفحة: 222 النساء: فإنها في أمر خاص، يبين تعالى للأزواج: أنه لا يحل لهم أن يأكلوا من مال المرأة إلا ما طابت نفسها به، وليس فيها أن هذا القول يقال عند كل أكل وشرب. إذا عرفت هذا، فاعلم أنه لم يبلغنا عن أحد من الصحابة والتابعين، ولا الأئمة أنهم كانوا يستعملون ذلك فيما بينهم؛ فاتخاذ ذلك عادة يخالف ما كان عليه السلف والأئمة، ولو كان مشروعاً لسبق إليه من سلف من الأئمة، فلا ينبغي أن يتخذ ذلك شعاراً في حق من شرب. وأجاب الشيخ عبد الله أبا بطين: وأما قول الإنسان لمن شرب: هنيئاً، وأن بعض الناس يستدل بقوله تعالى: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً} [سورة الطور آية: 19] ، فلو كان في الآية دليل لذلك، لفعله السلف الصالح. وسئل: عما روي عن ابن عمر: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نشرب على بطوننا، ونهانا أن نغرف باليد الواحدة، كما يشرب القوم الذين سخط الله عليهم، ولا يشرب في الليل من إناء حتى يحركه، إلا أن يكون مخمراً، ومن شرب بيده وهو يقدر على إناء يريد التواضع، كتب الله له بعدد أصابعه حسنات، وهو إناء عيسى بن مريم عليه السلام؟ فأجاب: ما ذكرت من النهي عن الشرب باليد الواحدة، وحديث الترغيب في الشرب باليد، فلا أظن لذلك أصلاً. وأما الشرب على البطن - يراد به الكرع في الماء - الجزء: 7 ¦ الصفحة: 223 فقد ورد حديث يدل على جواز الكرع، ففي البخاري: أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل علي رجل من الأنصار، فقال له: "إن كان عندك ماء بات هذه الليلة في شنة، وإلا كرعنا " 1، والكرع: هو الشرب من النهر ونحوه بالفم، من غير إناء ولا يد. وورد حديث رواه ابن ماجة بالنهي عن الشرب كذلك، فيحمل هذا إن صح، على ما إذا انبطح الشارب على بطنه; وحديث البخاري، إذا لم ينبطح; ويحمل النهي على التنزيه، وحديث البخاري على الجواز. [آداب الاستئذان] سئل الشيخ عبد اللطيف رحمه الله: عن الإذن لزيد وعمرو، هل يكون إذناً لغيرهما ... إلخ؟ فأجاب: نص الاستئذان عام، يدخل فيه هذه الصورة المسؤول عنها، وإدخال زيد وعمرو، ليس فيه دلالة على الإذن لبكر وخالد، فكل قادم يشرع له أن يستأذن إذا أراد دخول بيت غيره، إلا أن يأذن رب البيت، إذناً عاماً صريحاً لكل من دخل؛ والمعروف من كلام أهل العلم: أن فتح الباب ليس صريحاً في الإذن، كما في الحديث: " دع ما يريبك إلى ما لا يريبك " 2 [آداب السلام والتحية] وسئل: عن بداءة الكافر بالسلام؟ فأجاب: وأما البداءة بالسلام، فلا ينبغي أن يبدأ الكافر بالسلام، بل هو تحية أهل الإسلام؛ لكن إن خاف مفسدة راجحة، أو فوات مصلحة كذلك، فلا بأس بالبداءة، لا   1 البخاري: الأشربة (5613) , وأبو داود: الأشربة (3724) , وابن ماجة: الأشربة (3432) , وأحمد (3/328, 3/343, 3/344, 3/355) , والدارمي: الأشربة (2123) . 2 الترمذي: صفة القيامة والرقائق والورع (2518) , والنسائي: الأشربة (5711) , وأحمد (1/200) , والدارمي: البيوع (2532) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 224 سيما من ينتسب إلى الإسلام، لكن يخفى عليه شيء من أصوله وحقوقه. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يأتي المشركين من العرب في منازلهم أيام الموسم، ويدعوهم إلى توحيد الله، وترك عبادة ما سواه، وأن يقولوا: لا إله إلا الله، ويتلو عليهم القرآن، ويبلغهم ما أمر بتبليغه، مع ما هم عليه من الشرك والكفر والرد القبيح، لما في ذلك من المصلحة الراجحة، على مصلحة الهجر والتباعد؛ والهجر إنما شرع لما فيه من المصلحة وردع المبطل، فإذا انتفى ذلك، وصار فيه مفسدة راجحة فلا يشرع، ومن تأمل السيرة النبوية، والآثار السلفية، يعرف ذلك ويتحققه. وقد أمر الله بالدعوة إليه على بصيرة، قال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} الآية [سورة يوسف آية: 108] ، وقال تعالى: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [سورة الحج آية: 78] ؛ والجهاد بالحجة والبيان، يقدم على الجهاد بالسيف والسنان، وقد مر صلى الله عليه وسلم على مجلس فيه أخلاط من المسلمين والمنافقين واليهود، وفيه عبد الله بن أُبَيّ رأسُ المنافقين، فسلم صلى الله عليه وسلم ونزل عن دابته، ودعاهم إلى الإسلام، وذلك حين ذهب إلى سعد بن عبادة يعوده في منْزله، والقصة مشهورة. وكثير من العلماء يبتلى بخلطة هذا الضرب من الناس، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 225 لكنه يكون مباركاً أينما كان، داعياً إلى الله مذكراً به هادياً إليه، كما قال عن المسيح عليه السلام {وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ} [سورة مريم آية: 31] أي: داعياً إلى الله مذكراً به معلماً بحقوقه؛ فهذه هي البركة المشار إليها، ومن عُدِمَها محقت بركة عمره وساعاته، وخلطته ومجالسته، نسأل الله لنا ولكم علماً نافعاً، يكون لنا لديه يوم القيامة شافعاً. وسئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عن بداءة بعض الناس بالسلام؟ فأجاب: بداءة بعض الناس بالسلام، أرجو أنك ما تأثم بذلك إذا بدأتهم بالسلام; قال أبو الدرداء: "إنا لنكشر في وجوه أقوام، وقلوبنا تلعنهم"; وإنما يخاف من الانبساط مع مثل من ذكرت والملاطفة، وأما مجرد السلام فأرجو أن لا إثم في ذلك، نسأل الله لنا ولكم الهدى والسداد; وأما من بدأ بتحية قبل السلام، فلا يرد عليه إلا مثل تحيته، أو يترك، لحديث: " من بدأ بالكلام قبل السلام فلا تجيبوه ". سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: عن الرجل هل يسلم على المرأة في الإحداد أو غيره؟ فأجاب: المرأة المحادة وغيرها في ذلك سواء، فأما المرأة مع الرجل، فإن كانت زوجته أو أمته، أو محرماً من محارمه كأمه وابنته وأخته ونحوها، فهي معه كالرجل، يستحب لكل واحد منهما ابتداء الآخر بالسلام، ويجب على الجزء: 7 ¦ الصفحة: 226 الآخر رد السلام عليه. وإن كانت المرأة أجنبية، وكانت جميلة يخاف الافتتان بها، لم يسلم الرجل عليها، ولو سلم لم يجز لها رد الجواب، ولم تسلم هي عليه ابتداء، فإن سلمت لم تستحق جواباً، فإن أجابها كره له. وإن كانت عجوزاً لا يفتتن بها، جاز لها أن تسلم على الرجل، وعلى الرجل رد السلام عليها. قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى: والذي أظن في قوله: بقيتم، وعشتم، أنه كلام لا تقصد حقيقته، لكن يجري لغواً بسبب العادة، كما ذكروا في قولهم: لعمرى، وأمثالها. سئل الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين: عما يستعمله بعض الناس، من قوله في التحية: الله بالخير؟ فقال: هكذا كلام فاسد، خلاف التحية التي شرعها الله ورضيها، وهو السلام، فلو قال: صبحك الله بالخير، أو قال: الله يصبحك بالخير، بعد السلام، فلا ينكر. وسئل الشيخ سليمان بن سحمان، عن قولهم: صبحك الله بالخير، وكيف أصبحت؟ وكيف أمسيت؟ هل بين هذه الألفاظ فرق؟ وهل فيها مسنون وغير مسنون؟ وما الفرق بين الدعاء والاستفصال؟ فأجاب: قد كان من المعلوم عند ذوي المعارف الجزء: 7 ¦ الصفحة: 227 والفهوم، أن قول الرجل لأخيه المسلم: صبحك الله بالخير، مساك الله بالخير، دعاء له بالخير، وأما قوله: كيف أصبحت؟ وكيف أمسيت؟ فهو سؤال عن حاله، وعن حقيقة ما هو عليه؛ وقد أمر الله بدعاء المؤمنين لإخوانهم المؤمنين، خصوصاً وعموماً، في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، كما هو معلوم مشهور لا ينكره إلا جاهل. وكان من المعلوم أيضاً: أن دعاء المسلم لأخيه المسلم، أفضل وأحب إلى الله من السؤال عن حاله، هذا لا يشك فيه من كان له أدنى ممارسة وإلمام بالعلوم الشرعية، والفرق بينهما ظاهر، ليس به - ولله الحمد - خفاء على من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، لأن دعاء المسلم لأخيه المسلم مما أمر الله به؛ فذنب الناهي عن ذلك خطره عظيم، نعوذ بالله من القول على الله بلا علم. وأما قوله: هل فيهما مسنون وغير مسنون؟ فنقول: كل من اللفظين جائز مسنون، ونحن نذكر ما ذكره العلماء في ذلك، وما ورد فيه من الأحاديث: قال في غذاء الألباب: فوائد: الأولى: لا بأس أن يقول لصاحبه: كيف أمسيت؟ وكيف أصبحت؟ قال الإمام أحمد، رحمه الله، لصدقة - وهم في جنازة -: يا أبا محمد، كيف أمسيت؟ فقال: مساك الله بالخير; وقال أيضاً للمروذي: كيف أصبحت يا أبا بكر؟ فقال: صبحك الله بالخير يا أبا عبد الله. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 228 وروى أيضاً عبد الله بن الإمام أحمد، رحمه الله، عن الحسن مرسلاً: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحاب الصفة: " كيف أصبحتم؟ "، وروى ابن ماجة بإسناد لين من حديث أبي سعيد الساعدي، أنه عليه السلام دخل على العباس، فقال: " السلام عليكم، فقالوا: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته، قال: كيف أصبحتم؟ قالوا: بخير، نحمد الله، كيف أصبحت بأبينا وأمنا أنت يا رسول الله؟ قال: أصبحت بخير، أحمد الله " 1. وروى أيضاً عن جابر قلت: " كيف أصبحت يا رسول الله؟ قال: بخير من رجل لم يصبح صائماً، ولم يعد سقيماً " 2، وفيه عبد الله بن مسلم بن هرمز ضعيف. وفي حواشي تعليق القاضي الكبير، عند كتاب النذور، روى أبو بكر البرقاني بإسناده عن ابن عباس، رضي الله عنهما، أنه قال: "لو لقيت رجلاً، فقال: بارك الله فيك، لقلت: وفيك"، قال في الآداب الكبرى: فقد ظهر من ذلك: الاكتفاء بنحو كيف أصبحت؟ وكيف أمسيت؟ بدلاً من السلام، وأنه يرد على المبتدئ بذاك، وإن كان السلام وجوابه أفضل وأكمل. انتهى. قلت: ما ذكره في الآداب الكبرى، من الاكتفاء بكيف أصبحت؟ وكيف أمسيت؟ خطأ، لمعارضته لما ثبت في الأحاديث الصحيحة من لفظ السلام؛ وكل يؤخذ من قوله ويترك، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وقد قال تعالى: {فَإِذَا دَخَلْتُمْ   1 ابن ماجة: الأدب (3711) . 2 ابن ماجة: الأدب (3710) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 229 بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً} [سورة النور آية: 61] . سئل أبناء الشيخ وحمد بن ناصر: عن المصافحة بالأيدي، والمعانقة، وتقبيل اليد؟ فأجابوا: المصافحة سنة مرغب فيها، والمعانقة لا بأس بها، وأما تقبيل اليد فورد فيه أحاديث تدل على ذلك، واعتياده في حق البعض، وبعض الأحيان دون بعض، وأما المداومة على ذلك واعتقاده سنة، فليس في الأحاديث ما يدل على ذلك. ونحن لم ننه الناس عن تقبيل اليد، على الوجه الوارد في الأحاديث، بل الواقع خلاف ذلك؛ فيقبلون أيدي السادة الذين يعتقدون فيهم "السر" ويرجون منهم البركة، ويجعلون التقبيل من باب الذل والانحناء المنهي عنه، وصار ذريعة إلى الشرك بالله، والشرع قد ورد بسد الذرائع. وأجاب أيضاً: الشيخ عبد الله وحسين: لا يجوز تقبيل أيدي الأمراء والعلماء والسادة، والانحناء في التحية، ويتخذ ذلك عادة وسنة، بل ذلك من البدع المحدثة، فينبغي للمسلمين إزالتها، والنهي عنها. وأما تقبيل اليد في بعض الأحيان، كتقبيل يد العالم لعلمه، أو من كان من أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم لشرف نسبه، فلا بأس بذلك إذا لم يجعل عادة مستمرة، كما صح في الحديث: "أن أبا عبيدة قبل يد عمر"؛ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 230 والفرق بين ما يفعل بعض الأحيان فيجوز، وما يجعل عادة وسنة فلا يجوز، وهذا ظاهر عند أهل العلم. وأجاب الشيخ عبد الرحمن بن حسن: تقبيل يد السادة المنسوبين لأهل البيت، لم يكن الصحابة، رضي الله عنهم، يعتادونه، لا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا مع أهل بيته؛ ولا شك أنهم أعظم الناس محبة له وتوقيراً، وإنما كانوا يعتادون السلام والمصافحة، اتباعاً لما سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمره وفعله، فقال: " أفشوا السلام بينكم " 1، وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قيل له: "الرجل يلقى أخاه، أينحني له؟ قال: لا، قيل: أيلتزمه ويقبله؟ قال: لا، قيل: أيصافحه؟ قال: نعم " 2. وأما ما ورد: أنه " لما قدم عليه أصحابه من غزوة مؤتة قبلوا يده، قالوا: نحن الفرارون، قال: بل أنتم العكارون " 3، وأما ما ورد في معنى هذا، فإنما وقع نادراً، وقد جوزه بعض الأئمة، كالإمام أحمد، رحمه الله، إذا وقع كذلك لا على وجه التعظيم للدنيا. واشترط الأئمة في ذلك: أن لا يمد إليه يده يقبلها، ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله; وذهب بعضهم: إلى كراهة تقبيل اليد مطلقاً، كالإمام مالك، رحمه الله. وقال سليمان بن حرب: هي السجدة الصغرى، هذا إذا لم يفض إلى التعظيم والخضوع وتغيير السنة، أما إذا اقترن   1 مسلم: الإيمان (54) , والترمذي: الاستئذان والآداب (2688) , وأبو داود: الأدب (5193) , وابن ماجة: المقدمة (68) والأدب (3692) , وأحمد (2/391, 2/442, 2/477, 2/495, 2/512) . 2 الترمذي: الاستئذان والآداب (2728) , وابن ماجة: الأدب (3702) . 3 الترمذي: الجهاد (1716) , وأبو داود: الجهاد (2647) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 231 بمثل هذه الأمور التي تدخل في نوع من الشرك والبدع، فلا يجوز أن ينسب إلى أحد من الأئمة تجويزه. قال في زاد المعاد: وأشرف العبودية عبودية الصلاة، وقد تقاسمها الشيوخ، يعني: من المتصوفة، والمتشبهين بالعلماء، والجبابرة; فأخذ الشيوخ أشرف ما فيها، وهو السجود، وأخذ المتشبهون بالعلماء منها الركوع، فإذا لقي بعضهم بعضاً ركع له كما يركع المصلي لربه سواء، وأخذ الجبابرة منها القيام، فيقوم الأحرار والعبيد على رؤوسهم - عبودية لهم - وهم جلوس. وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الأمور الثلاثة على التفصيل، فتعاطيها مخالفة صريحة له. فنهى عن السجود لغير الله تعالى، فقال: "لا ينبغي لأحد أن يسجد لأحد "، وأنكر على معاذ لما سجد له، وقال: "مه! "؛ فتحريم هذا معلوم من دينه بالضرورة، وتجويز من جوزه لغير الله، مراغمة لله ولرسوله، وهو من أبلغ أنواع العبودية، فإذا جوز هذا المشرك هذا النوع للبشر، فقد جوز عبودية غير الله; وأيضاً، فإن الانحناء عند التحية سجود، ومنه قوله تعالى: {وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً} [سورة البقرة آية: 58] أي: منحنين، وإلا فلا يمكن الدخول على الجباه. وسئل ابنه الشيخ عبد اللطيف: عن قبلة اليد والرجل وهل هي جائزة؟ فأجاب: بعض أهل العلم منعها مطلقاً، وبعضهم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 232 أجازها لمثل الوالد، والإمام العادل على سبيل التكرمة، ولا يتخذ ذلك دائما، بل في بعض الأحوال على ما ورد. سئل الشيخ سليمان بن سحمان: عن معانقة الناس بعضهم بعضاً يوم العيد، بعد الصلاة بالمصلى، وسلام بعضهم على بعض، وتخصيص الوقت والمكان بذلك، هل ذلك سنة يثاب على فعله، أم بدعة؟ فأجاب: لا أعلم أن ذلك سنة مشروعة مطلوبة، ولو كان ذلك سنة مأثورة مشروعة، لكان أسبق الناس إليها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعون لهم بإحسان، ولنقل ذلك أهل العلم ورغبوا فيه، كما نقلوا سائر السنن والمستحبات؛ فإذا لم يكن ذلك على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا فعله الصحابة، رضوان الله عليهم، كان هذا محرماً مبتدعاً إن كان على وجه القربة، لكن الظاهر أن ما يفعله الناس اليوم، لا يفعلونه على وجه القربة والعبادة، فيكون ذلك من البدع في الدين، وإنما يفعلونه فيما يظهر لي على سبيل العادة، والعادات لا مدخل لها في العبادات. فهذه العادة التي يفعلها الناس، من السلام في العيدين في المصلى، وفي البيوت، كانوا يفعلونها عند أئمة أهل هذه الدعوة، وفي وقتهم، ولا ينكرونها عليهم؛ فلو كان هذا الصنيع من البدع المنكرة المحدثة في الدين، لأنكر ذلك بعضهم أو كلهم، فدلنا على أن هذا من العادات، لا من الجزء: 7 ¦ الصفحة: 233 البدع المحدثة في العبادات. فما تقرب به العبد إلى الله وكان مشروعاً، فهو من العبادة المطلوبة المحبوبة لله، وما لم يكن كذلك، وكان الناس يعتادونه، فإن جر إلى مفسدة كان ذلك محرماً، والوسيلة إلى المحرم حرام، كما أن الوسيلة إلى الطاعة طاعة وقربة; والظاهر: أن هذه العادة التي يعتادها الناس تجر إلى مصلحة، فربما يلتقي المتهاجران فيسلم بعضهم على بعض، وربما انقطعت المهاجرة بينهما، أو زال بعض الشر وخف؛ وتقليل الشر محبوب مطلوب مندوب إليه، كما قيل: بعض الشر أهون من بعض. وأما المعانقة فهي: أن يلتزم الرجل الرجل، ويضمه إليه; وقد كنت أظن أن المعانقة كما يفعله الناس، من وضع عنق الرجل على عنق صاحبه، لكني لم أجد ذلك في شيء من كتب اللغة، ولا من كلام الشراح، فالله أعلم؛ وإن وجدتم ذلك، فأفيدونا به. وأما سعي الناس يوم العيد إلى أهل البيوت، للسلام والدخول عليهم وتخصيصهم يوم العيد بذلك، مع أنه يحصل بدخول بعض الجهال إثم، ومخالفة للسنة، من النظر إلى زينة صاحبة الدار، والتطلع على العورات، فالجواب عن هذه المسألة، هو الجواب عن التي قبلها، إلا ما كان من النظر إلى زينة صاحبة الدار، والتطلع على العورات، فهذا لا يجوز، لأن دخول الجهال على النساء غير ذوات المحارم لا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 234 يجوز. فلو كان سلام العيد مسنوناً مشروعاً، كان في حق الجهال محظوراً ممنوعاً; وقد علمتم كلام أهل العلم، في المنع من سلام الرجال الأجانب على النساء غير ذوات المحارم، والعجوز التي لا تشتهى ولا يرغب فيها؛ فتبرج النساء بالزينة، والجلوس للسلام عليهن، لا يجوز والحالة هذه، وقد قال صلى الله عليه وسلم: " ما تركت على أمتي فتنة، أضر على الرجال من النساء " 1. سئل الشيخ حسين، وعبد الله: ابنا الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمهم الله: عن القيام في وجوه الأمراء والعلماء، وأهل الفضل ... إلخ؟ فأجابا: لا يجوز القيام للعلماء، ولا الأمراء، بحيث يتخذ ذلك عادة وسنة، بل ذلك من فعل أهل الجاهلية والجبابرة، كملوك فارس والروم وغيرهم، فإنهم كانوا يفعلون ذلك مع عظمائهم؛ وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من أحب أن يتمثل له الرجال قياماً، فليتبوأ مقعده من النار " 2، وفي حديث آخر، عن أنس بن مالك قال: "لم يكن أحد أحب إليهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني الصحابة - وكانوا لا يقومون له، لما يعلمون من كراهيته لذلك "، وثبت في صحيح مسلم وسنن أبي داود، عن جابر قال:?"اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصلينا وراءه قياماً وهو قاعد، وأبو بكر يُسْمِعنا تكبيره، فالتفت إلينا، فإذا نحن قيام، فأشار إلينا فقعدنا، فصلينا بصلاته   1 البخاري: النكاح (5096) , ومسلم: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2740, 2741) , والترمذي: الأدب (2780) , وابن ماجة: الفتن (3998) , وأحمد (5/200, 5/210) . 2 الترمذي: الأدب (2755) , وأبو داود: الأدب (5229) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 235 قعود، فلما سلم قال: إن كدتم لتفعلون فعل فارس والروم، يقومون على ملوكهم وهم قعود، فلا تفعلوا. ائتموا بأئمتكم، وإن صلوا قياماً فصلوا قياماً، وإن صلوا قعوداً فصلوا قعوداً " 1. وأجاب بعضهم، رحمه الله: قال شيخ الإسلام في الجواب عن هذه المسألة: لم يكن من عادة السلف على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين، أنهم يعتادون القيام للداخل المسلم، كما يردون السلام عليه، كما يعتاد كثير من الناس، بل قد قال أنس بن مالك رضي الله عنه لم يكن شخص أحب إليهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا إذا رأوه لم يقوموا له، لما يعلمون من كراهته لذلك؛ ولكن ربما قاموا للقادم من مغيبه تلقياً له، كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قام لعكرمة; وقال للأنصار لما قدم سعد: "قوموا إلى سيدكم " 2، وكان سعد متمرضاً بالمدينة، وكان قد قدم إلى بني قريظة شرقي المدينة. والذي ينبغي للناس أن يعتادوا ما كان عليه السلف على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنهم خير القرون، وخير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم؛ فلا يعدل أحد عن هدى خير الخلق، وهدى خير القرون إلى ما دونه. وينبغي للمطاع أن يقر ذلك مع أصحابه، بحيث إذا رأوا لم يقوموا له، ولا يقوم لهم في اللقاء المعتاد; فأما القيام لمن   1 مسلم: الصلاة (413) , والنسائي: السهو (1200) , وأبو داود: الصلاة (602) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1240) , وأحمد (3/334) . 2 البخاري: الجهاد والسير (3043) , ومسلم: الجهاد والسير (1768) , وأبو داود: الأدب (5215) , وأحمد (3/22, 3/71) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 236 قدم من سفر ونحو ذلك تلقياً له فحسن. وإذا كان من عادة الناس إكرام القادم بالقيام، ولو ترك ذلك لاعتقد أن ذلك بخس من حقه، أو قصد لخفضه، ولم تعلم العادة الموافقة للسنة، فالأصلح أن يقام له لأن في ذلك إصلاح ذات البين، وإزالة التباغض والشحناء. وأما من عرف أن عادة القوم الموافقة للسنة، فليس في ترك ذلك إيذاء له، وليس هذا القيام هو القيام المذكور في قول النبي صلى الله عليه وسلم: " من سره أن يتمثل له الرجال قياماً، فليتبوأ مقعده من النار " 1، فإن ذلك أن يقوموا له وهو قاعد، ليس هو أن يقوموا لمجيئه إذا جاء؛ ولهذا فرقوا بين أن يقال: قمت إليه، وقمت له; فالقيام للقادم قد سواه في القيام، بخلاف القيام للقاعد، وقد ثبت في صحيح مسلم: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما صلى بهم في مرضه قاعداً وصلوا قياماً، أمرهم بالقعود، وقال: " لا تعظموني كما تعظم الأعاجم بعضها بعضاً" 2، فقد نهاهم من القيام في الصلاة وهو قاعد، لئلا يشبه الأعاجم الذين يقومون لعظمائهم وهم قعود. وجماع ذلك: أن الذي يصلح، اتباع عادة السلف وأخلاقهم، والاجتهاد في ذلك بحسب الإمكان؛ فمن لم يعتقد ذلك، أو لم يعرف العادة، وكان في ترك مقابلته بما اعتاده الناس مفسدة راجحة، فإنه تدفع إحدى المفسدتين بالتزام أدناهما، كما تحصل على المصلحتين بتفويت   1 الترمذي: الأدب (2755) , وأبو داود: الأدب (5229) . 2 أبو داود: الأدب (5230) , وأحمد (5/253 ,5/256) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 237 أدناهما. انتهى كلامه، رحمه الله. وقال ابن مفلح في الآداب الكبرى - لما تكلم على هذه المسألة، وذكر الفرق بين القيام له والقيام إليه – قال: وأما القيام عنه لإيثاره بمجلسه، فقد ورد من فعل النبي صلى الله عليه وسلم حيث قام صلى الله عليه وسلم عن فاطمة فأجلسها مكانه، ذكره ابن عبد البر في المجالس. انتهى. فتبين بهذا الكلام الذي حكيناه عن هذين الإمامين الجليلين، رحمة الله عليهما: أن من القيام ما هو محرم، كقيام بعض الناس لمن يعظمونه من الملوك ونحوهم، يقومون لهم تعظيماً وهم قعود، وهو مثل ما يفعله الأعاجم من قيام بعضهم لبعض; ومن القيام ما هو جائز، كالقيام على رأس بعض الأمراء خوفاً عليه، فهذا جائز لذلك السبب; وقد ورد مثل ذلك من بعض الصحابة مع النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك في صلح الحديبية، وهو مذكور في كتاب الهدي النبوي، في موضعه من الكتاب، فليرجع إليه. ومن ذلك: ما هو مستحب، كالقيام إلى القادم من سفر، والقيام عن الداخل لإيثاره بمجلسه، وكالقيام للذي لا يعرف عادة السلف في كراهة القيام، ويعتقد أن ترك القيام إليه بخس في حقه، أو قصد لخفضه، لأن القيام إليه في هذه الحال مصلحة راجحة، وهي إصلاح ذات البين، وإزالة الشحناء والتباغض؛ فهذا تفصيل الكلام في هذه الجزء: 7 ¦ الصفحة: 238 المسألة. وقال الشيخ سليمان بن سحمان، رحمه الله: قال في الفتح: وقال ابن القيم في حاشية السنن: والقيام ينقسم إلى ثلاث مراتب: قيام على رأس الرجل وهو فعل الجبابرة، وقيام إليه عند قدومه ولا بأس به، وقيام له عند رؤيته وهو المتنازع فيه. وفي الفتح أيضاً: عن أبي الوليد بن رشد، أن القيام يقع على أربعة أوجه: الأول: محظور، وهو أن يقع لمن يريد أن يقام إليه تكبراً وتعاظماً على القائمين إليه. والثاني: مكروه، وهو أن يقع لمن لا يتكبر ولا يتعاظم على القائمين، ولكن يخشى أن يدخل نفسه بسبب ذلك ما يحذر، ولما فيه من التشبه بالجبابرة. والثالث: جائز وهو أن يقع على سبيل البر والإكرام، لمن لا يريد ذلك، ويؤمن معه التشبه بالجبابرة. والرابع. مندوب، وهو أن يقوم لمن قدم من سفر، فرحاً بقدومه يسلم عليه، أو إلى من تجددت له نعمة فيهنيه بحصولها، أو مصيبة فيعزيه بسببها. انتهى. وقال الخطابي: في حديث الباب: جواز إطلاق السيد على الخير الفاضل، وفيه: أن قيام المرؤوس للرئيس الفاضل، والإمام العادل، والمتعلم للعالم مستحب، وإنما يكره لمن كان بغير هذه الصفات. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 239 وقال أيضاً: ذكر ابن القيم، رحمه الله، في الإغاثة، على قوله تعالى: {وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً} [سورة البقرة آية: 58] ما نصه: قال السدي: هو باب من أبواب بيت المقدس، وكذلك قال ابن عباس، قال: والسجود بمعنى الركوع، وأصل السجود الانحناء لمن تعظمه؛ فكل منحن لشيء تعظيماً له فهو ساجد له، قاله ابن جرير وغيره؛ قلت: وعلى هذا، فانحناء المتلاقيين عند سلام أحدهما لصاحبه، من السجود المحرم، وفيه نهى صريح عن النبي صلى الله عليه وسلم. انتهى ما ذكره ابن القيم، رحمه الله تعالى. وقد أشكل هذا على كثير من الناس، ممن لم يكن له معرفة بمدارك الأحكام، ومعاني الألفاظ، فزعموا: أن ما يفعله المسلمون الآن من المعانقة، من هذا القبيل، وأنه هو هذا الانحناء المحرم الذي ذكره ابن القيم؛ وليس الأمر كما زعموا، ولا على ما فهموا، لوجوه: أحدها: أن المسلمين لا يقصدون بهذه المعانقة، الانحناء لمن يسلمون عليه تعظيماً له بذلك، وإنما يقصدون المعانقة المشروعة; وحملهم على ما هو الحق، وما يقصدونه ويتعارفونه، أحسن وأوفق من حملهم على الأمر المحرم، الذي لا يقصدونه ولا يعرفونه، إذ حملهم على هذا من العنت والتحكم. الوجه الثاني: أن هذا من باب التحية والملاطفة والمحبة والشفقة، بعد الالتقاء من البعد والسفر وغير الجزء: 7 ¦ الصفحة: 240 ذلك، لا من باب التعظيم. الوجه الثالث: أن الانحناء المحرم الذي عناه ابن القيم، وتكلم فيه أهل العلم، هو: الانحناء للمعظَّم من الناس تعظيماً له بذلك، من غير مصافحة ولا معانقة، كما يفعله أهل الأمصار اليوم للمعظم عندهم، فيقومون له وينحنون له ويعظمونه بذلك، وهذا لا يفعلونه غالبا إلا للرؤساء. وأعظم من ذلك وأبلغ في التحريم: ما قد يفعله بعضهم غالباً مع الانحناء أو بدونه، من رفع يده والإشارة بها إلى محل السجود منه من أنفه وجبهته، وهذا فيه إشارة إلى السجود له، كما يفعله أهل الأمصار اليوم، من الانحناء والإشارة إلى الأنف والجبهة، وهو الانحناء المذموم المحرم، الذي عناه ابن القيم، رحمه الله، لا ما يفعله المسلمون الآن من المصافحة والمعانقة; ولا يقول هذا إلا جاهل متنطع متشدد، سمع لفظ الانحناء وأنه محرم، وأنه من السجود والتعظيم للمخلوق، فقاس عليه سلام أهل الإسلام، أو ظن أنه هو الذي عناه ابن القيم، وجعل إكبابه عليه للمعانقة انحناء له وتعظيماً، وهذا باطل كما تقدم بيانه، والله أعلم. ألفاظ منهي عنها سئل الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين: عن قول بعض الناس: نتبرك بالله ثم بك، نتبرك بدخولكم، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 241 نتبرك بحضرتكم؟ فأجاب: ما علمت فيه شيئاً، ولا أحبه، خاصة إذا قيل ذلك لمن لا يظن به خير. وقولهم: الله يسأل عن حالك، هذا كلام قبيح، ينصح من تلفظ به. ومتعنا الله بحياة فلان، مرادهم: أن الله يبقيه ما دمت حياً، ولا يبين لي فيه بأس. وقولهم: الله يخلي عنا، ما علمت فيها بأساً، لأن معناها: الله يتسامح عنا. وسئل أيضاً: عن قول بعض العوام: مالك صفاتي، ماذا يترتب عليه؟ فأجاب: هذا اللفظ قبيح، ولو قصد به نفي الوصف، مع أنه مراده فيما يظهر، ولو اعتقد معناه في نفي الصفات كان كفراً. وقول بعضهم: فلان ما يلقى في قبره إلا الدواب ونحو ذلك، لا يجوز ذلك، لأنه اعتراض على الله. وقول بعض الناس: يا عضدي، الظاهر: أن المراد بمثل هذه: المعاونة على ما ينوبه من أموره، مثل الانتصار به على عدوه ونحوه، لا بأس به. ومثل قولهم: فلان المرحوم، بل يقول: الله يرحمه، لأنه لا يدرى. وسئل عن قول بعض الناس: يحق من الله كذا، إذا كان أمر نعمة؟ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 242 فأجاب: إن قول بعض الناس الجهال: يحق من الله أن يكون كذا، فهذه كلمة قبيحة يخاف أن يكون كفراً؛ فينهى من قال ذلك وينصح. سئل الشيخ عبد الله بن عبد العزيز العنقري، هل ينكر على من قال: الحمد لله حمد الشاكرين؟ فأجاب: لو قال: رب العالمين، لكان أولى. وسئل: إذا حمد الله على جشائه، هل هو سنة؟ وإذا لم يكن سنة فهل ينكر عليه؟ فأجاب: ليس بسنة. سئل الشيخ سعد بن حمد بن عتيق، رحمهما الله: عما يستعمله الناس من قولهم: أنا صبي التوحيد، هل هو من دعوى الجاهلية؟ فأجاب: الجاهلية ما كان قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا نسب الأمر في السنة إلى الجاهلية، فالمراد ذمه والنهي عنه؛ وقد ذكر العلماء عبارات كثيرة في بيان دعوى الجاهلية، فقال بعضهم: هو قولهم: يا آل فلان، كأن يدعو بعضهم بعضاً عند الأمر الحادث الشديد. وقال بعضهم: دعوى الجاهلية أن ينادي من غلب عليه خصمه: يا آل فلان، فيبتدرون إلى نصره ظالماً أو مظلوماً، جهلاً منهم وعصبية. وقال شيخ الإسلام، رحمه الله تعالى، على قوله صلى الله عليه وسلم: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 243 " ليس منا من ضرب الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية " 1: هو ندب الميت; وقال غيره: هو الدعاء بالويل والثبور. وقال ابن القيم، رحمه الله تعالى: الدعوى بدعوى الجاهلية، كالدعاء إلى القبائل والعصبية، ومثله التعصب إلى المذاهب والطوائف والمشايخ، وتفضيل بعض على بعض، يدعو إلى ذلك، ويوالي عليه ويعادي عليه؛ فكل هذا من دعوى الجاهلية. انتهى. وبما ذكرناه من كلام العلماء، يعلم أن كل ما خالف ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فهو من دعوى الجاهلية، كما ذكر ذلك الشيخ عبد الرحمن بن حسن، رحمه الله، في شرح كتاب التوحيد. وأما ما استعمله الناس من قولهم: أنا صبي التوحيد، فالجواب: أن هذا إن كان المتكلم به ينصر حقاً، أو يدعو إلى حق، أو يدفع باطلاً فلا بأس به، وإن كان المتكلم به يدعو إلى باطل، أو ينصر باطلاً، أو كان مراده تزكية النفس أو الترفع بذلك والتعاظم، فذلك لا يجوز. ومثل ذلك قول: أنا ابن فلان، أو أبو فلان، إذا كان المتكلم به قصده إظهار الحق، أو الدعوة إلى الحق ونصرته، لا سيما إذا كان ذلك حال مناهضة العدو، ومكابدة أعداء الدين، فهذا لا بأس به؛ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم حنين: " أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب " 2، ومن ذلك قول سلمة بن الأكوع: خذها وأنا ابن الأكوع، واليوم يوم   1 البخاري: الجنائز (1297) , ومسلم: الإيمان (103) , والترمذي: الجنائز (999) , والنسائي: الجنائز (1860, 1862, 1864) , وابن ماجة: ما جاء في الجنائز (1584) , وأحمد (1/386, 1/432, 1/442, 1/456, 1/465) . 2 البخاري: الجهاد والسير (2864) , ومسلم: الجهاد والسير (1776) , والترمذي: الجهاد (1688) , وأحمد (4/280, 4/281, 4/289, 4/304) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 244 الرضع، ومثل ذلك قول الصحابة: نحن الذين بايعوا محمدَا ... على الجهاد ما بقينا أبدَا حكم النرد سئل الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين: عن النرد ... إلخ؟ فأجاب: وأما النرد المنهي عنه، فهو لعبة ما أعرف صفتها، ولفظ الحديث الذي ذكرتم: " من لعب بالنردشير "، والنردشير هو: النرد، وأضيف في الحديث إلى: أشي،" يقال: إنه اسم ملك من ملوك فارس صنع له هذا اللعب، فنسب إليه. [الدف والغناء في العرس] سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد، رحمهما الله: عن الدف والغناء في العرس؟ فأجاب: يستحب الدف والغناء في العرس للنساء، فإن حضرهن رجال أو سفهاء أدبوا. وأجاب أيضاً: الشيخ عبد الله: ويباح كل لعب مباح، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقر الحبشة على اللعب في يوم العيد، في مسجده صلى الله عليه وسلم. وأجاب الشيخ عبد الرحمن بن حسن، رحمه الله: وأما الدف فيحصل الإعلان بضربه في النهار قبل الدخول في وقت من النهار، وأما ضربه في الليل ففيه من المفاسد ما لا يخفى، ومن أقرهم على ذلك ممن له قدرة على منعهم فقد الجزء: 7 ¦ الصفحة: 245 ظلم نفسه. سئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى: هل يجوز الغناء على رؤوس النخل، وبين السواني ... إلخ؟ فأجاب: رفع الصوت بالغناء من الباطل، ولا يجوز؛ وأما الأدب عليه فلا يؤدب عليه إلا إن كان معه منكر، كاجتماع النساء والرجال والرقص ونحوهما، لترتب المفاسد، فأدبوا عليه بما يردع صاحبه. وأجاب ابنه: الشيخ عبد الله: الغناء خلف السواني، وفي رؤوس النخل مباح، إذا لم يشتمل على لفظ محرم. وأجاب الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف: ما يجري في بعض البلدان من التوسع في الغناء والملاهي، وما يترتب على ذلك من المفاسد الدينية، لا يخفى أنه محرم ولا يجوز، خصوصاً إذا جر إلى ما هو أعظم ضرراً منه. ولبعضهم ما نصه: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، ونسأل الله أن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، ويرينا الباطل باطلاً ويوفقنا لاجتنابه. أما بعد، فالنصيحة واجبة لأهل الإسلام، لأنها الدين الجزء: 7 ¦ الصفحة: 246 في الحقيقة، لقوله صلى الله عليه وسلم: " الدين النصيحة " 1، قيل: لمن يا رسول الله؟ قال: " لله ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم " 2؛ فهذه نصيحة لمن ولاه الله أمر الأمة، لما رأينا بعض الأمور المنكرة المحرمة في الشرع، فاشية في أهل الزمان، ولم يصر لها مُنكِر من أهل الإيمان، وجب علينا النصح للعباد والإرشاد إلى سبيل الرشاد. فنقول، وبالله التوفيق، ونسأله الهداية إلى سواء الطريق: قد كان الناس فيما مضى يستتر أحدهم بالمعصية إذا واقعها، ثم يستغفر الله ويتوب إليه منها، ثم كثر الجهل وقل العلم وتفاقم الأمر، حتى صار أحدهم يأتي المعصية جهاراً، ثم ازداد الأمر إدباراً، حتى إن طائفة من المسلمين، وفقنا الله وإياهم، استزلهم الشيطان واستغوى عقولهم، في حب الأغاني واللهو، والسماع والنقير والطقطقة، واعتقدته من الدين الذي يقربهم من الله، وجاهرت به جماعة من المسلمين، وخالفت العلماء والفقهاء وأهل الدين؛ {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} [سورة النساء آية: 115] ، قال الإمام ابن القيم، رحمه الله، في كتابه: إغاثة اللهفان في مكائد الشيطان:   1 مسلم: الإيمان (55) , والنسائي: البيعة (4197, 4198) , وأبو داود: الأدب (4944) , وأحمد (4/102) . 2 مسلم: الإيمان (55) , والنسائي: البيعة (4197, 4198) , وأبو داود: الأدب (4944) , وأحمد (4/102) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 247 فصل ومن مكائد عدو الله ومصائده، التي كاد بها من قل نصيبه من العلم والعقل والدين، وصاد بها قلوب الجاهلين والمبطلين: سماع المكاء والتصدية والغناء، والآلات المحرمة من ضرب الدف وغيره، التي تصد القلوب عن القرآن، وتجعلها عاكفة على الفسق والعصيان؛ فهو قرآن الشيطان، والحجاب الكثيف عن الرحمن، وهو رقية اللواط والزنى، وبه ينال العاشق الفاسق من معشوقه غاية المنى. فلو رأيتهم عند ذياك السماع، وقد خشعت منهم الأصوات، وهدأت منهم الحركات، وعكفت قلوبهم بكليتها عليه، وانصبت انصبابة واحدة إليه، فتمايلوا له كتمايل النشوان، وتكسروا في حركاتهم ورقصهم، لرأيت تكسر المخانيث والنسوان. فلغير الله، بل للشيطان قلوب هناك تمزق، وأثواب تشقق، وأموال في غير طاعة الله تنفق. حتى إذا عمل فيهم السكر عمله، وبلغ الشيطان منهم أمنيته وأمله، واستفزهم بصوته وحيله، وأجلب عليهم بخيله ورجله، وَخَزَ في صدورهم وخزاً، وأَزَّهم إلى ضرب الأرض بالأقدام أَزّاً، فَطَوْراً يجعلهم كالحمير حول المدار، وتارة كالذباب ترقص وسط الديار. فيا رحمتاه للسقوف والأرض من تلك الأقدام! ويا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 248 سوأتاه من أشباه الحمير والأنعام! ويا شماتة أعداء الإسلام، بالذين يزعمون أنهم خواص الإسلام! قضوا حياتهم لذة وطرباً، واتخذوا دينهم لهواً ولعباً، مزامير الشيطان أحب إليهم من استماع سور القرآن، لو سمع أحدهم القرآن من أوله إلى آخره لما حرك له ساكناً، ولا أزعح له قاطناً، ولا أثار فيه وجداً، ولا قدح فيه من لواعج الشوق إلى الله زنداً; حتى إذا تلا عليهم قرآن الشيطان، وولج مزموره سمعه، تفجرت ينابيع الوجد من قلبه على عينيه، فَجَرَت، وعلى أقدامه فرقصت، وعلى يديه فصفقت، وعلى سائر أعضائه فاهتزت وطربت، وعلى أنفاسه فتصاعدت، وعلى زفراته فتزايدت، وعلى نيران أشواقه فاشتعلت. فيا أيها الفاتن المفتون، والبائع حظه من الله بنصيبه من الشيطان صفقة خاسر مغبون، هلا كانت هذه الأشجان عند سماع القرآن؟ وهذه الأذواق والمواجيد، عند قراءة القرآن المجيد؟ ولكن كل امرئ يصبو إلى ما يناسبه، ويميل إلى ما يشاكله; ولقد أحسن القائل: تلا الكتاب فأطرقوا لا خيفةً ... لكنه إطراق ساهٍ لاهِ وأتى الغناء فكالحمير تناهقوا ... والله ما رقصوا لأجل الله دف ومزمار ونغمة شادن ... فمتى رأيت عبادة بملاهِ ثقل الكتاب عليهم لما رأوا ... تقييده بأوامر ونواهِ وهذا السماع الشيطاني، له في الشرع بضعة عشر الجزء: 7 ¦ الصفحة: 249 اسماً: اللهو، واللغو، والباطل، والزور، والمكاء، والتصدية، ورقية الزنى، وقرآن الشيطان، ومنبت النفاق في القلب، والصوت الأحمق، والصوت الفاجر، وصوت الشيطان، ومزمور الشيطان، والسمود. أسماؤه دلت على أوصافه ... تَبًّا لذي الأسماء والأوصافِ فبينما ترى الرجل وعليه سمة الوقار، وبهاء العقل وبهجة الإيمان، ووقار الإسلام وحلاوة القرآن، فإذا سمع الغناء وضرب الدفوف، نقص عقله وقل حياؤه، وذهبت مروءته وفارقه بهاؤه، وتخلى عنه وقاره، وخرج به شيطانه، وشكا إلى الله إيمانه، وثقل عليه قرآنه، وقال: يا رب لا تجمع بيني وبين قرآن عدوك؛ فاستحسن ما كان قبل السماع مُستقبِحه، وأبدى من شره ما كان يكتمه، وانتقل من الوقار والسكينة إلى كثرة الكلام والكذب، والهزهزة والفرقعة بالأصابع؛ فيميل برأسه ويهز منكبيه، ويضرب الأرض برجليه، ويدق على أم رأسه بيديه، ويثب وَثَبات الذباب، ويدور دوران الحمار حول الدولاب، ويصفق بيديه تصفيق النسوان، ويخور من الوجد كخوران الثيران; وتارة يتأوه تأوه الحزين، وتارة يزعق زعاق المجانين. وقد نهى صلى الله عليه وسلم عن صوتين أحمقين فاجرين: صوت عند نغمة لهو ولعب، ومزامير الشيطان، وصوت عند مصيبة خمش وجوه، وشق جيوب ورنة؛ قال ابن عباس، رضي الله الجزء: 7 ¦ الصفحة: 250 عنه، على قوله: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ} [سورة الإسراء آية: 64] : قال:? "كل داع إلى معصية"، وقال مجاهد: صوته الغناء والباطل; وقال الحسن البصري: ?"هو الدف، فكل متكلم بغير طاعة الله، أو مصوت بِيَراع أو مزمار، أو دف أو طبل، فذلك صوت الشيطان، وكل ساع في معصية الله على قدميه فهو من رَجِله، وكل راكب في معصية الله فهو من خيله". وقد أخبر صلى الله عليه وسلم: " أنه يمسخ قوم من هذه الأمة في آخر الزمان قردة وخنازير، قيل: يا رسول الله، أليس يشهدون أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله؟ قال: ويصومون ويصلون ويحجون. قيل: فما بالهم؟ قال: اتخذوا المعازف والدفوف، فباتوا على شربهم ولهوهم، فأصبحوا وقد مسخوا قردة وخنازير "، وقال صلى الله عليه وسلم: " تبيت طائفة من أمتي على أكل وشرب ولهو ولعب، ثم يصبحون قردة وخنازير. ويبعث على حي من أحيائهم ريح، فتنسفهم كما تنسف من كان قبلكم، باستحلالهم الخمر وضربهم بالدفوف " 1. وعنه صلى الله عليه وسلم قال: " يبيت قوم من هذه الأمة، على طعم وشرب ولهو ولعب، فيصبحون وقد مسخوا قردة وخنازير؛ وليصيبنهم قذف وخسف، حتى يصبح الناس فيقولون: خسف الليلة بدار فلان، وخسف الليلة ببني فلان، وليرسلن عليهم حجارة من السماء، كما أرسلت على قوم لوط على   1 أحمد (5/259) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 251 قبائل فيها، ولترسلن عليهم الريح العقيم التي أهلكت عاداً لشربهم الخمر، وأكلهم الربا وضربهم بالدفوف، واتخاذهم القينات، وقطيعتهم الرحم "، وعنه صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله بعثني رحمة وهدى للعالمين، وأمرني أن أمحق المزامير والكبارات - يعني الطبول والمعازف - والأوثان التي كانت تعبد في الجاهلية " 1. وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم قال: " إذا عملت أمتي خمس عشرة خصلة، حل بها البلاء. قيل: يا رسول الله، وما هن؟ قال: إذا كان الفيء دُوَلا، والأمانة مغنماً، والزكاة مغرماً، وأطاع الرجل زوجته وعق أمه، وبر صديقه وجفا أباه، وارتفعت الأصوات في المساجد، وساد القبيلة فاسقهم، وكان زعيم القوم أرذلهم، وأُكرم الرجل مخافة شره، وشربت الخمور، ولبس الحرير، واتخذت القينات والمعازف، ولعن آخر هذه الأمة أولها، فليرتقبوا عند ذلك رجماً وخسفاً ومسخاً " 2. وسئلت عائشة، رضي الله عنها، عن الزلزلة، فقالت:? "إذا استباحوا الربا، وشربوا الخمور، وضربوا بالمعازف - وهي الدفوف وغيرها، مما يضرب به من آلات اللعب واللهو -، غار الله في سمائه، فيقول: تزلزلي بهم، فإن تابوا وفزعوا، وإلا هدمتها عليهم". فاتق الله وأزل ما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإزالته، واعلم بأنك   1 أحمد (5/257) . 2 الترمذي: الفتن (2210) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 252 مسؤول عن ذلك، فاستعد وأعد للسؤال جواباً، وللبلاء والمحنة جلباباً، ولا تكن كمن قال الله في حقه: {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْأِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} [سورة البقرة آية: 206] . ولولا الشفقة عليك مع عدم من ينصحك، لم أبين لك هذا، ولكن تعين علينا ذلك؛ فإياك أن يكون حجة عليك، والسلام. من نظر في كتاب غيره بغير إذنه سئل الشيح محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى: عن قوله: من نظر في كتاب غيره بغير إذنه ... إلخ؟ فأجاب: أظن الذي أورده إنما عنى الرسالة، لأن هذا يكون من جنس استماع سر قوم وهم له كارهون، هذا بأذنه وذاك بعينه؛ ومما يدل عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن في زمنه كتاب مكتوب مستقل، بل ولا زمن الخلفاء، حتى المصحف لم يكتب إلا بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم في خلافة أبي بكر. وأما الحديث، فأول من أمر بكتابته عمر بن عبد العزيز، لما خشي اندراس العلم بموت العلماء واشتغال الناس بالدنيا. سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عما يقول بعض الناس: ضرني فلان، أو قتل دابتي فلان، يريد العائن، واعتقاد أنه يضر، ويتلفظون بذلك ويصرحون به؟ فأجاب: وأما قول الإنسان: ضرني فلان، أو قتل دابتي، يعني إنساناً حياً مباشراً للفعل، فلا بأس بذلك، وليس في هذا إشكال. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 253 باب عشرة النساء سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ، رحمهما الله: عن وطء المرأة المجدورة ... إلخ؟ فأجاب: أما وطء المرأة المجدورة فلا بأس به، وأما الضرر، فإن كان على المرأة ضرر في ذلك، لم يكن للزوج أن يضر بها. وسئل: عن وطء المرأة من دبرها في قبلها؟ فأجاب: وطء المرأة من دبرها في قبلها حلال، كما فسر به قوله تعالى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [سورة البقرة آية: 223] ، أي: مقبلة أو مدبرة، في صمام واحد. سئل الشيخ سعيد بن حجي: عن الكلام حال الجماع ... إلخ؟ فأجاب: أما الكلام حال الجماع، فيكره كثرة الكلام حال الوطء، قيل إنه يكون منه الخرس والفأفأة. سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد، رحمهما الله: عن رجل تزوج بثانية، فقالت له امرأته الأولى: إن تزوجت الجزء: 7 ¦ الصفحة: 254 فلانة فلا بد من رضوة تدفعها إلي، وإلا فلا تزوج ... إلخ؟ فأجاب: الرجل الذي عنده زوجة أخرى، فالله سبحانه قد أباح له أن يتزوج ثانية وثالثة ورابعة، وليس لزوجته الأولى منعه من ذلك؛ ولكن يجب عليه العدل بين زوجاته بالعطية والقسم، إلا إذا رضيت المرأة بترك العدل، فلا بأس بذلك برضاها، وليس لها عليه رضوة إلا بطيب نفس منه. وسئل: عن القسم للحائض أو المريضة أو النفساء ... إلخ؟ فأجاب: عليه أن يبيت عندها، لأن القسم يراد للأنس والإيواء، إلا إن أذنت له؛ ولكن لا يجامع الحائض والنفساء حتى تطهر وتغتسل بعده. وأجاب الشيخ حسين بن الشيخ محمد: الرجل الذي معه امرأتان، فالتي يأتيها الحيض يقسم لها في وقت الحيض; والنفساء في عرفنا لا تطلب القسم أيام نفاسها. وأجاب الشيخ عبد الله أبا بطين: وأما الرجل المتزوج اثنتين، فإنه يجب عليه المساواة في القسم بينهما، ولا يجب عليه أن يساوي بينهما في الجماع. سئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن: عن خروج الجزء: 7 ¦ الصفحة: 255 النساء بالزينة ... إلخ؟ فأجاب: أما خروج النساء من البيوت بالزينة، فيحرم، مخافة الفتنه بالنساء، فإنهن فتنة لكل مفتون. سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ، وحمد بن ناصر بن معمر: عمن قال لزوجته: ما حصل من الكسب فهو لي، ومؤنتك علي، فقالت: ما حصل فهو لي، وأقوم في بيتك مع صنعتي؟ فأجابا: اختلف الفقهاء في مسألة الخدمة، وهل يلزمها أن تخدمه، من طبخ وعجن وخبز ونحوه، أم لا؟ فمذهب الحنابلة: أنه لا يلزمها، وهو الذي نصره في الشرح. ومذهب مالك والشيخ تقي الدين: أنه يرجع في ذلك إلى العرف، وأنه يلزمها عادة أمثالها لمثله. وكذلك اختلفوا هل يجب عليها أن ترضع ولدها منه؟ فذهب الحنابلة إلى أنه لا يلزمها، ومذهب مالك أنه يرجع في ذلك إلى العرف، وأنه إن كان مثلها ترضع ولدها، وجب عليها أن ترضعه. وأما مسألة التكسب المسؤول عنها، فظاهر كلامهم أنه لا يلزمها، وليس له أن يجبرها عليه، ولكن ليس لها أن تكتسب إلا بإذنه، فإن أذن لها فظاهر كلامهم أنها تختص بالأجرة؛ ولهذا صرح الموفق في المقنع، في باب الإجارة: أنه يصح أن يستأجرها على رضاع ولده منها. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 256 وصرح في كتاب النفقات: أنها أحق برضاع ولدها بأجرة مثلها، سواء كانت في عصمة الزوج أو مطلقة. وصرح أيضاً في النفقات: أنه لا يملك إجبارها على رضاع ولده من غيرها، ولا على خدمته فيما يختص به. وأجاب أيضاً: الشيخ عبد الله: ما يجب للزوجة على زوجها من المؤونة، فكلام الشيخ في هذا من أحسن الكلام: أنه يجب عليه لمثلها من مثله، فإذا كان المعروف أنها تطبخ وتعجن لزوجها ولنفسها وجب عليها ذلك; فإن كان المعروف عند أهل بلدها أن مثلها لا تخدم نفسها، وجب على الزوج إخدامها، وأن يفعل بها ما يليق لمثلها من مثله; واستدل الشيخ، رحمه الله، وغيره على ذلك بقوله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [سورة النساء آية: 19] ، والمعروف يختلف باختلاف الأحوال والأشخاص والأزمان، وهو المفتى به عندنا. وأجاب أيضاً: يجب على الزوج التسوية بين الزوجات في النفقة والكسوة، لقوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [سورة النساء آية: 3] ، ولا بأس أن يولي إحداهما على الأخرى، إذا كانت أوثق وأصلح لحاله، إذا كان لم يرد في ذلك مضارة، ولا يلحق به ضرر من الزوجة الأخرى. سئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن: عن المرأة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 257 الناشز ... إلخ؟ فأجاب: وما ذكرت من حال المرأة الناشز، فقد قال تعالى: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ} إلى قوله: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} [سورة النساء آية:34 -35] ؛ فالذي عليه جمهور العلماء في معنى الآية: أن الحاكم يبعث حكماً ثقة من أهلها، وثقة من قوم الرجل، فإن حصل بينهما التوفيق، وإلا صارا إلى التفريق، إذا اتفقا عليه، ففرقا بطلقة أو طلقتين أو ثلاث، على حسب ما يريان؛ فهما حَكَمان من جهة الحاكم ووكيلان من جهة الزوجين، إذا تراضيا على توكيلهما فلهما التفريق. وعن الإمام أحمد: أنهما حكمان يفعلان ما يريانه، من جمع وتفريق وغيره، ولو لم يرضيا ولا وكلا، وهذا مذهب جمهور العلماء، ولم يذكر العلماء فيما وقفت عليه بذل العوض. وأجاب الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن: ومن حال المرأة مع زوجها، فلا يظهر لي في شأنها سوى ما تضمنه حديث ثابت بن قيس وامرأته جميلة، ولا تأل جهدا في نصيحة زوجها، والمشورة عليه بعدم المضارة. وأجاب الشيخ إبراهيم بن عبد اللطيف: لم أذكر لك بالفسخ، وإنما ذكرت أن حديث ثابت ظاهر، وأهل العلم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 258 اختلفوا: هل الأمر فيه بالطلاق أمر إيجاب أو إرشاد؟ وأما إذا امتنع الزوج في مثل هذه الصورة، هل يؤمر بفسخ أو يؤذن فيه للمرأة؟ فلم أر من ذكره فيما أشرفت عليه من كلام الشراح والفقهاء، ولا أظن الفسخ الصادر صار صحيحاً، وأولى ما يصار إليه إذا كان الحال هكذا: بعث حكمين كما ذكر الله، وتفويض الأمر إليهما. ولا يخفاك الخلاف: هل هما وكيلان فلا ينفذ طلاقهما إلا بإذن الزوج، أو حكمان فلا يحتاج إلى الإذن؛ ورجح هذا الثاني جمع، لظاهر القرآن من تسميتهما حكمين، والحاكم من ينفذ حكمه على غيره. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 259 باب الخلع سئل الشيح حسين بن الشيخ محمد: إذا كرهت زوجها، هل يجبر على الخلع؟ فأجاب: إذا كرهت زوجها، فالذي نفتي به أنه مستحب، ولا يجبر الزوج على الخلع؛ وإذا طلبته الطلاق وتبرئه من النفقة، وطلقها ثم طلبت النفقة، فإن كانت مبغضة له البغضاء المعروفة، فليس لها طريق في النفقة، وإن كان حين ضيق عليها طلبته الطلاق ومسيء عشرتها، فنفقتها تلزمه إلى أن تعتد، وإن كانت حاملاً إلى أن تضع. سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ: إذا طلق امرأته على عوض، ثم بعد ذلك ألحقها طلاق البت؟ فأجاب: الذي عليه أكثر الحنابلة، أن الخلع طلاق بائن إلا أن يقع بلفظ الخلع، أو الفسخ أو المفاداة، ولا ينوي به طلاقاً، فيكون فسخاً لا ينقص به عدد الطلاق، وهو من مفردات المذهب. والرواية الثانية عن أحمد: أنه طلاق بائن بكل حال. والرواية الثالثة: أنه فسخ ولو نوى به الطلاق، اختاره الشيخ تقي الدين. ومن شرط وقوع الخلع فسخاً، أن لا يوقعه بصريح الجزء: 7 ¦ الصفحة: 260 الطلاق، فإن أوقعه بصريح الطلاق كان طلاقاً على الصحيح من المذهب; وقيل: هو فسخ ولو أتى بصريح الطلاق أيضاً إذا كان بعوض، واختاره الشيخ تقي الدين أيضاً، وقال: عليه دل كلام الإمام أحمد وقدماء الأصحاب، وابن عباس، صح عنه أنه قال: ما أجازه المال فليس بطلاق، قاله في الإنصاف. فعلى القول الأول، لا يقع بالمعتدة من الخلع طلاق ولو واجهها به، قال في الإنصاف: لا يقع بالمعتدة من الخلع طلاق، هذا المذهب وعليه الأصحاب. انتهى. وعلى الرواية التي اختارها الشيخ تقي الدين: لا يلحقها الطلاق أيضاً، سواء كان بلفظ الطلاق أو لم يكن، لكن المراد بهذا الخلع الصحيح، وهو إذا كانت المرأة مبغضة للرجل، وتخشى أن لا تقيم حدود الله في حقه، كما قال تعالى: {وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا} الآية [سورة البقرة آية: 229] . وأكثر الخلع في وقتنا لا يوجد منه هذه الشروط، بل الغالب أنه لسوء عشرة الرجل; فلهذا كان شيخنا، رحمه الله، يفتي بأنه طلاق بائن، ينقص به عدد الطلاق، ولا يجوز له الرجعة إلا بعقد جديد ومهر، لكون الخلع في هذه الأزمنة، على غير الخلع الصحيح المذكور في القرآن. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 261 وسئل أيضاً: الشيخ عبد الله بن الشيخ: عمن طلبت من زوجها طلاقها ... إلخ؟ فأجاب: إذا طلبت المرأة طلاقها، فطلقها ثلاثاً، صح طلاقه وطلقت; وأما كلام ابن عباس في الخلع، وقوله: "ليس الخلع بطلاق"، فالظاهر أن مراده: الخلع الصحيح، وهو المستكمل للشروط المذكورة في القرآن، بقوله: {وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [سورة البقرة آية: 229] ، وهو رواية عن الإمام أحمد، وهو اختيار الشيخ تقي الدين، وهو مروي عن طاووس وعكرمة وإسحاق وأبي ثور، وهو أحد قولي الشافعي. وأما في مثل كثير من خلع الناس اليوم، فليس الخلع صحيحاً، والذي نفتي به لمثلهم أن الخلع طلاق بائن؛ وهذا هو المشهور في مذهب أحمد، سواء نوى به الطلاق أم لا، روي ذلك عن سعيد بن المسيب وعطاء والحسن، ومالك وأصحاب الرأي. وأجاب أيضاً: الذي خلع زوجته، وقال: أنت طالق عدد الخوص، فإن كان الخلع صحيحاً فليس بطلاق وإن قال ذلك، وإن كان الخلع كخلع أكثر الناس اليوم، فهو طلاق بائن. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 262 وأجاب أيضاً: الخلع الصحيح الموجود فيه الشروط التي ذكرها الله، ليس من عدد الطلاق، ولا يلحقها بعد الخلع طلاق؛ ولكن أكثر خلع الناس اليوم فاسد، والذي نفتي به: أنه يعد من الطلاق. وأجاب بعضهم: وأما الحلف بطلاق المختلعة، فينبني على صحة الخلع وعدمه: فإن كان غير صحيح، كما إذا ضارها الزوج لتفتدي منه، فالخلع غير صحيح; فإن كان بلفظ الطلاق أو نيته، مع اللفظ الصريح للخلع لحقها الطلاق، فإن كان بلفظ الخلع من غير نية الطلاق، فالزوجة بحالها، ولا يقع الطلاق على المختار عند الأصحاب؛ وهذا مذهب أحمد، وقول ابن عباس وابن الزبير وجمع من التابعين، وبه يقول مالك والشافعي. وحكي عن أبي حنيفة أنه يلحقها الطلاق الصريح دون الكناية، يروى عن سعيد بن المسيب وجماعة، لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " المختلعة يلحقها الطلاق ما دامت في العدة "، ولم يمكن آخر هذا اليوم البحث عن هذا الحديث وسنده، وإن صح فهو الحجة. وأجاب الشيخ حمد بن ناصر بن معمر: إذا طلق الرجل زوجته ثلاثاً على عوض، هل يجوز أن يتراجعا بملاك جديد؟ فهذه المسألة تحتاج إلى تفصيل: فإن كانت المرأة أعطت زوجها عوضاً على طلاقها، بأن كرهته وخافت أن لا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 263 تقيم ما أوجبه الله عليها من القيام بحقوق الزوج، من المعاشرة بالمعروف، وتمكينه من الاستمتاع منها، وخدمته كما ينبغي من مثلها لمثله، فلا بأس بذلك، ولا على الزوج حرج في أخذ العوض منها، إذا كانت الحال كما وصفنا؛ ويسمى هذا: الخلع الصحيح، كما قال تعالى: {وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [سورة البقرة آية: 229] . وقد اختلف العلماء: هل يكون هذا الخلع طلاقاً يعد من الطلقات الثلاث، أم لا يكون طلاقاً ولو خالعها أكثر من ثلاث؟ فمذهب ابن عباس، رضي الله عنهما، كما روى ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن طاووس، عن ابن عباس أن إبراهيم بن سعد بن أبي وقاص سأله عن رجل طلق امرأته تطليقتين، ثم اختلعت منه، أيتزوجها؟ قال: "نعم; ليس الخلع بطلاق، ذكر الله الطلاق في أول الآية وآخرها، والخلع فيما بين ذلك، فليس الخلع بشيء، ثم قرأ: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [سورة البقرة آية: 229] ، وقرأ: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} [سورة البقرة آية:230] "؛ وبهذا قال أحمد بن حنبل وجمهور أصحابه، وإسحاق وأبو ثور الجزء: 7 ¦ الصفحة: 264 وداود، واختار هذا القول طوائف من العلماء، منهم الشيخ تقي الدين، وهو اختيار شيخنا، رحمه الله. وقال أكثر العلماء من الصحابة وغيرهم: هو طلاق يعد من الطلقات الثلاث، وهو طلاق بائن لا رجعة فيه للزوج إلا برضاء الزوجة؛ فعلى هذا القول: لو خالعها ثلاث مرات، أو طلقها طلقتين وخالعها مرة، حرمت عليه حتى تنكح زوجاً غيره، سواء تلفظ بلفظ الطلاق أو غيره. واختلف العلماء: هل يلحق المختلعة طلاق، ما دامت في العدة؟ فقال مالك: إن طلقها بعد الخلع من غير سكوت طلقت، وإن كان بينهما سكوت لم تطلق; وقال الشافعي: لا يلحقها طلاق وإن كانت في العدة، وهو قول ابن عباس وابن الزبير، وبه قال أحمد وإسحاق وأبو ثور؛ وهذا هو المفتى به عندنا، وهو أظهر الأقوال، وعكس قول أبي حنيفة وكثير من التابعين. واختلف أيضاً: في قدر عدتها، فقال أكثر العلماء: عدة المطلقة. وقال عثمان وابن عباس، رضي الله عنهم: عدتها حيضة واحدة، وبه قال عكرمة وإسحاق بن راهويه، وحجتهم: ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنه جعل عدة جميلة بنت أبي بن سلول حيضة، حين اختلعت من زوجها ثابت بن قيس بن شماس"، وأصل القصة في الصحيحين. فالذين قالوا: إن الخلع الصحيح، المجتمع فيه الشروط التي الجزء: 7 ¦ الصفحة: 265 ذكرها الله، ليس من الطلاق، يقولون: إنه إذا خالعها ولم يذكر الطلاق لفظاً ولا نواه بقلبه، فإنه لا يقع به شيء من الطلاق. قال العسقلاني: واستدل لمن قال: إنه فسخ، بما وقع في بعض طرق حديث امرأة ثابت بن قيس، عند أبي داود والترمذي، والنسائي وابن ماجة، وحديث الربيع بنت معوذ: "أن عثمان رضي الله عنه أمرها أن تعتد بحيضة"; قالت: وتبع عثمان في ذلك قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في امرأة ثابت بن قيس؛ قال الخطابي: في هذا أقوى دليل لمن قال إن الخلع فسخ، وليس بطلاق، إذ لو كان طلاقاً لم تعتد بحيضة. انتهى. وأما إذا تلفظ بالطلاق عند الخلع، أو نواه بقلبه، فالذي عليه الجمهور من التابعين، وفقهاء الأمصار بالحجاز والعراق والشام، أنه يقع طلاقاً بائناً، لا تجوز الرجعة إلا بعد عقد جديد، ورضاء الزوجة، إلا أن يقول: أنت طالق ثلاثاً، فلا يجوز له مراجعتها إلا بعد زوج، كالمطلقة ثلاثاً بغير عوض. وقيل: إنه فسخ، سواء تلفظ بالطلاق أو نواه، أو لم يكن؛ وهو قول ابن عباس، فإنه صح عنه أنه قال: "ما أجازه المال فليس بطلاق"، وصح عنه أنه قال: "الخلع يفرق وليس بطلاق"، وصح عن ابن الزبير; وروي ذلك عن غير الجزء: 7 ¦ الصفحة: 266 واحد من الصحابة، رضي الله عنهم، والتابعين، رحمهم الله؛ واختاره الشيخ تقي الدين، رحمه الله، وعليه دل كلام أحمد رحمه الله، وقدماء أصحابه. قال صاحب الفروع: ومراده ما قال عبد الله: رأيت أبي كان يذهب إلى قول ابن عباس. وأما إذا كان حال الزوجين مستقيمة، ولم يوجد ما ذكر الله من الخوف أن لا يقيما حدود الله، ثم خالعها زوجها على ما بذلته له الزوجة أو غيرها، فالذي عليه جمهور الفقهاء أنه يكره، ويصح الخلع; وعن أحمد: أن ذلك لا يجوز ولا يصح. وأما إن عضلها وأساء عشرتها لتفتدي منه، ففعلت، فالخلع باطل، والعوض مردود، والزوجية بحالها إلا أن يذكر الطلاق فيقع رجعياً، وقيل يقع طلاقاً بائنا، إن قيل: إن الخلع يصح بلا عوض. قال العسقلاني في شرح البخاري: أخرج عبد الرزاق بسند صحيح، عن سعيد بن المسيب قال: ما أحب أن يأخذ منها ما أعطاها، ليدع لها شيئاً; وقال: لم أسمع أن الفدية تجوز بالصداق وبأكثر، لقوله تعالى: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [سورة البقرة آية: 229] ، ولحديث حبيبة بنت سهل؛ فإذا كان الخلع من قِبَلها حل للزوج ما أخذ منها برضاها، وإن كان من قِبَله لم يحل، ويرد عليها إن أخذ، وتمضي الفرقة. انتهى. قلت: وهذا القول كان يفتي به شيخنا، رحمه الله، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 267 لكثرة الظلم للنساء في هذا الزمان، لأن كثيراً من الذين لا يخافون الله، إذا أراد أن يطلق امرأته بعد أن تستقيم حالها مدة، عضلها وأضر بها، ومنهم من يضربها، فإذا فعل ذلك اشترت نفسها بمال تبذله له على طلاقها فيطلقها، فكان شيخنا - رحمه الله - يفتي: إذا كان الأمر ما وصفنا، أن العوض الذي بذلت له المرأة على الطلاق مردود، وتبين منه المرأة، فلا يمكن من مراجعتها إلا برضاها. وسئل الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن: إذا طلق على عوض، هل رجعتها بيده؟ فأجاب: الطلاق بائن إذا كان على عوض، لا رجعة فيه، بل لا بد من عقد جديد إن لم يكمل ثلاث طلقات للحر واثنتان للعبد. سئل الشيخ حمد بن ناصر: عمن بذلت له عوضاً على أن يطلقها فقبل، ثم قال: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق، ثلاثاً; هل تبين منه بالأولى ولا تلحقها البواقي؟ فأجاب: الذي ذكر الفقهاء، رحمهم الله، أنها تبين بالأولى ولا يلحقها ما بعدها، لأنها بانت بالجملة الأولى، فإذا لحقها جملة ثانية وثالثة لم يصادف ذلك محلاً; وأما عند من يقول: إن المختلعة يلحقها الطلاق، كما ذهب إليه كثير من التابعين، فالطلاق عندهم لاحق. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 268 وسئل أيضاً: عمن خلع زوجته، بأن بذلت له العوض وقبله، ولم يتلفظ بخلع ولا طلاق ولا فسخ، هل تبين بمجرد أخذ العوض؟ فأجاب: الذي عليه الجمهور: أنه لا بد من اللفظ، لقوله صلى الله عليه وسلم: " اقبل الحديقة، وطلقها تطليقة " 1. وأجاب الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين: وأما إذا طلق ثلاثاً في الخلع، فالأكثر على أنه طلاق إذا كان بلفظ الطلاق; والشيخ تقي الدين يقول: الخلع فسخ ولو كان بلفظ الطلاق. فعلى هذا: إن قيل بقول الجمهور حرمت عليه في الصورتين، وإن قيل بقول الشيخ تقي الدين، فله الرجوع في الصورتين بعقد جديد. وأجاب أيضاً: إذا طلق الرجل زوجته ثلاثاً، فإنها تقع الثلاث ولو كان على عوض. وأجاب أيضاً: إذا طلبت المرأة من زوجها الخلع على عوض بذلته وقبله الزوج، وقال: الله يرزقك، ونحو ذلك من ألفاظ العامة، فهذه مسألة مشكلة جداً، لأن فقهاء أصحابنا وغيرهم ذكروا كنايات الخلع، ولم يذكروا فيها شيئاً نحو هذه الألفاظ، وقالوا: إن ما لا يدل على الطلاق، من نحو: كلي واشربي، وبارك الله عليك، ونحو ذلك، لا يقع به طلاق ولو نواه، لأنه لا يحتمل الطلاق،   1 البخاري: الطلاق (5273) , والنسائي: الطلاق (3463) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 269 فلو وقع به الطلاق وقع لمجرد النية. وكذا كنايات الخلع، فمقتضى قولهم هذا أن قائل: الله يرزقك ونحوه، ناوياً به طلاقاً أو خلعاً، لا يقع به شيء من ذلك، لأن هذا اللفظ ونحوه ليس من الكنايات المذكورة، فلو أوقعنا به طلاقاً أو خلعاً، لكنا قد أوقعناه بالنية؛ ولكنهم قد ذكروا من كنايات الطلاق: أغناك الله، بلفظ الماضي، ولم يذكروه بلفظ المضارع، كالله يغنيك، مثله: الله يرزقك ونحوه، ولم يذكروا في ألفاظ الكنايات لفظ المضارع، والله أعلم. ولو ذهب ذاهب بوقوع الخلع، بقول العامي: الله يغنيك ونحوه، ولم يذكر طلاقاً أو فسخاً، مع بذل العوض وقبوله، لم يبعد، لقول الشيخ تقي الدين المنقول عن أحمد وقدماء أصحابه، ألفاظهم كلها صريحة في أن الخلع بلفظ البيع فسخ، وبأي لفظ كان. وقال أيضاً، بعد أن ذكر ألفاظ العقود في الماضي. والمضارع، واسم الفاعل واسم المفعول، وأنها لا تنعقد بالمضارع، قال: وما كان من هذه الألفاظ محتملاً، فإنه يكون كناية حيث تصح الكناية، كالطلاق ونحوه، ويعتبر دلالات الأحوال; قال: وهذا الباب عظيم المنفعة، خصوصاً في الخلع وبابه. انتهى. وأفتى بعض متأخري الأصحاب النجديين، بأن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 270 الزوجة إذا طلبت الفرقة على عوض بذلته لزوجها، فقال: خلعت جوازك، صح; قال: لأن ذلك لغة أهل بلدنا، قال: والعبرة في ذلك، ومثله بلغة المتكلمين به. انتهى. وقد ذهب طائفة من العلماء إلى أن الخلع يصح بمجرد بذل المال وقبوله من غير لفظ من الزوج، وإلى ذلك ذهب أبو حفص، وابن شهاب العكبريان من أصحابنا، واحتجا بما رواه ابن منصور عن أحمد، قال: قلت لأحمد، كيف الخلع؟ قال إذا أخذ المال فهي فرقة. وقال إبراهيم النخعي: أخذ المال تطليقة بائنة; وروي عن الحسن نحوه; وروي عن علي رضي الله عنه: "من قبل مالاً على فراق، فهي مطلقة بائنة". وبكل حال، ففي المسألة إشكال، وعدم إيقاع الطلاق أو الفسخ بنحو هذا اللفظ أسلم. وأجاب الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن: الخلع يقع بائناً لا تحل الزوجة بعده لزوجها إلا بعقد جديد، وليس له استرجاعها، كما نص عليه أهل العلم. سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عمن طلق زوجته طلقة على عوض منها، ثم بعد ذلك طلقها ثلاثاً؟ فأجاب: إذا صدقته الزوجة على قوله أنه طلقها الأولى على عوض منها، فلا يلحقها الطلاق الذي بعد ذلك، وتجوز له بعقد جديد. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 271 وسئل: هل للزوج أخذ أكثر من المهر؟ وهل الهدية منه؟ فأجاب: أما هدية الزوج فليست من المهر، والزوجة إذا نشزت لم يلزم الزوج أخذ شيء، لكن إن طلبت العوض ولا رضي بالمهر بل طلب غيره، فإن أحبوا أعطوه ما طلب، قليلاً كان أو كثيراً، ولا يجبر أحدهما على دفع شيء أو أخذ شيء مقدر. وسئل الشيخ عبد الله بن الشيخ: إذا خالعته، وشرطت أن لا تعطيه إلا إذا تزوجت؟ فأجاب: إذا خالعت المرأة زوجها على شيء مسمى، وشرطت عليه أنها لا تعطيه إلا إذا تزوجت، وطلقها على ذلك، فإنها تعطيه إياه إذا تزوجت. سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: إذا خالعت على نفقة الحمل، ثم تبين عدمه؟ فأجاب: وأما الخلع على نفقة الحامل ورضاع الولد، ثم تبين عدمه، فالموافق للقاعدة المشهورة من المذهب: صحة الخلع، ويرجع عليها بقدر النفقة المشترطة، وهي نفقة الحامل، وقدر أجرة المرتضع حولين، إذا كان الخلع على نفقتها ورضاع ولدها. وأجاب أيضاً: إن كانت الزوجة قالت: إني حامل، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 272 وطلبت من الزوج أن يطلقها على البراءة من الحمل وتوابعه، وصار ليس فيها حمل، فالذي يبين لي من كلام العلماء: أن الزوج يرجع عليها بقيمة ما غرته به; فإن كانت المرأة ما ادعت الحمل، لكن الزوج خاف أنها حامل، وطلب البراءة، فلا أرى له عليها شيئاً; وأما الطلاق فيقع بكل حال، وليس له منعها من نكاح غيره، إذا كانت قد انقضت عدتها، وهو يطالبها بالغرامة في صورة الغرر منها. سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ، رحمهما الله: إذا قال لزوجته: إذا أعطيتيني كذا وكذا فأنت طالق، وإذا نزلت إلى أهلك فأنت طالق، ونيته وقتاً معلوماً كيومين. فأجاب: لا تطلق إلا إذا مضى الوقت الذي نواه، والظاهر أنه يحلف أن هذا مراده; وأما إذا علق الطلاق على شرط، فأراد الرجوع عن ذلك التعليق قبل وجود الشرط، فالذي صححه في الإنصاف وغيره، أنه ليس له الرجوع عن ذلك. سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: إذا قال لزوجته: أنت طالق بالثلاث، إن لم تعطيني كذا؟ فأجاب: إن كان نيته الفورية، أو مع قرينة تقتضي الفورية، وقع الطلاق بفوات الفورية، وإن لم ينو فورية ولا قرينة تدل على الفورية، فهو للتراخي؛ لكن لو تلف الشيء المعلق عليه الطلاق، والحالة هذه، وقع الطلاق. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 273 سئل الشيخ حسين بن الشيخ: إذا قال: إن أبريتيني من صداقك طلقتك، فأبرأته فطلقها ثلاثاً؟ فأجاب: في هذه المسألة نظر، فإن كان الباعث على الإبراء أنها مبغضة للزوج، وهو قائم بحقها، فالإبراء صحيح، وإن كان غير ذلك، وأن الخلاف جاء من جهة الزوج، إما لعدم نفقة، أو لسوء عشرة، فالطلاق يتم، والصداق ما يبرأ منه لها. وسئل ابنه: الشيخ حسن: إذا وقع الطلاق في الخلع بلفظ الثلاث؟ فأجاب: قال في الإنصاف بعد كلام سبق: وأنت طالق ثلاثاً بألف، فقالت: قبلت واحدة بألف، أو بألفين، وقع الثلاث واستحق الألف; وقال في المنتهى وشرحه: ومن قالت له زوجته: طلقني واحدة بألف، فطلقها بأكثر، بأن قال لها: أنت طالق ثلاثاً، استحقه – أي: الألف - لأنه أوقع ما استدعته وزيادة. انتهى. وقال في تصحيح الفروع، عند قول المصنف: إن قالت: طلقني واحدة بألف، ونحوه، فقال: أنت طالق، وطالق، وطالق، بانت بالأولى، وقيل بالكل. انتهى. والصحيح أنها تطلق ثلاثاً، ولا فرق بين قوله: أنت طالق، وطالق وطالق، وبين قوله: ثلاثاً، نبه على ذلك في الجزء: 7 ¦ الصفحة: 274 القواعد الأصولية. انتهى. وقد صرحوا أيضاً بوقوعه ثلاثاً، فيما إذا قالت زوجة المريض له: طلقني ثلاثاً بعوض، فطلقها ثلاثاً، أنها تعود إليه بالطلاق الثلاث. سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عمن خالعت زوجها على شيء من مالها، وشرطت عليه أن يقف ذلك الشيء على ولدها منه، دون سائر أولاده؟ فأجاب: هذا فاسد من وجهين: أحدهما: شرط وقف ذلك الشيء المخالع عليه؛ فهذا الشرط فاسد، لأن الفقهاء قد ذكروا من الشروط الفاسدة في البيع، أن يشترط البائع على المشتري: أن يقف المبيع، ونحوه من الشروط؛ والخلع مثله، لأن كليهما معاوضة بمال. والثاني: شرطها تخصيص ولدها به، فهذا لا يجوز إلا بإجازة سائر الورثة، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: " اتقوا الله، واعدلوا بين أولادكم " 1. وسئل الشيخ محمد بن إبراهيم، رحمه الله: عما إذا ادعت المرأة أن زوجها طلقها على عوض سألها إياه، فأنكر ذلك، وأقامت شاهداً، والعوض تحت يد الزوج من نحو سنة منذ فارقها، هل قبض الزوج للعوض مع الشاهد يوجب صحة دعواها عليه، أم لا؟ فأجاب: القول في هذه المسألة قول الزوج مع يمينه، فإن نكل قضي عليه؛ قال العلامة ابن القيم، رحمه الله، في كتابه: الطرق الحكمية: الطريق التاسع: الحكم بالنكول   1 البخاري: الهبة وفضلها والتحريض عليها (2587) , ومسلم: الهبات (1623) , وأحمد (4/270) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 275 مع الشاهد الواحد، لا بالنكول المجرد، ذكر ابن وضاح عن أبي مريم عن عمرو بن أبي سلمة عن زهير بن محمد عن ابن جريج عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا ادعت المرأة طلاق زوجها، فجاءت على ذلك بشاهد واحد عدل، استحلف زوجها، فإن حلف بطلت عنه شهادة الشاهد، وإن نكل فنكوله بمنْزلة شاهد آخر، وجاز طلاقه " 1. اهـ. وتمام المسألة مبسوط في الطرق. وقبض الزوج العوض، وكونه عنده سنة، لا أثر له.   1 ابن ماجة: الطلاق (2038) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 276 كتاب الطلاق سئل الشيخ حمد بن ناصر بن معمر، رحمه الله: عن طلاق الصبي الذي لم يبلغ؟ فأجاب: قد اختلف العلماء في ذلك، فذهب مالك وطائفة من العلماء: إلى أنه لا يقع طلاقه حتى يبلغ، وذهب الإمام أحمد في المشهور عنه، والشافعي وطائفة من العلماء: إلى أنه إذا عقل الطلاق، وعلم أن زوجته تبين منه بذلك، خصوصاً إذا تجاوز العشر، فإنه يقع الطلاق. وسئل: عمن طلق زوجته واختل عقله؟ فأجاب: إن كان حال الطلاق ثابت العقل، وطلق مختاراً، فالطلاق واقع؛ فإن كانت آخر ثلاث تطليقات، لم تحل له إلا بعد زوج وإصابة، ولو اختل عقله بعد ذلك، ولو آل به الأمر إلى الجنون. وإن كان الطلاق الذي وقع بكلمة واحدة، جمع فيها الطلاق ثلاثاً، فكذلك عند الأئمة الأربعة، وهو الذي يفتى به عندنا. وعند الشيخ تقي الدين، وابن القيم: أن طلاق الثلاث بكلمة واحدة، تحسب طلقة واحدة، وحينئذ فله رجعتها، والعمل على كلام الجمهور. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 277 سئل الشيخ محمد، رحمه الله: عمن طلق من غير إكراه؟ فأجاب: إذا طلقها من غير إكراه، لزمه الطلاق. سئل الشيخ عبد الله بن عبد العزيز العنقري: إذا هدده ظالم قادر على قتله، أو أخذ ماله، أو آلمه بالضرب ونحوه، فهل يتخلص منه بحلف بالطلاق أو غيره؟ فأجاب: إن أمكن التأول في حلفه تأول، وإن لم يمكن فلا حنث عليه، سواء حلف بالطلاق أو غيره. سئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن: عن قولهم: يقع في النكاح الفاسد، ولا يقع في الباطل إجماعاً؟ فأجاب: الفاسد هنا، هو ما اختلف في صحته، لأن كلاً من المختلفين إمام مجتهد، وله استدلال على ما ذهب إليه; فإذا قال الإمام أحمد، رحمه الله: إن النكاح لا يصح، لحديث كذا، وقاله أصحابه لقوة دليله عندهم، ورأينا غيره يقول بالصحة، ويقدح في إسناد حديثه مثلاً، فإنا لا نحكم والحالة هذه بأن النكاح لم ينعقد، فنقول: هو فاسد، لا يخرج من ذلك إلا بالطلاق، خروجاً من خلاف العلماء. وأما الباطل: فهو ما أجمع على بطلانه، لظهور دليله وعدم المعارض، فيكون غير منعقد من أصله، فلا يحتاج إلى طلاق، لكونه لم ينعقد بيقين. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 278 وأجاب الشيخ عبد الله أبا بطين: وأما الطلاق في النكاح الفاسد، فقال في الإنصاف: يقع الطلاق في النكاح المختلف فيه، كالنكاح بلا ولي عند أصحابنا؛ ونص عليه أحمد، رحمه الله، وهو المذهب. ثم ذكر وجهاً بعدم الوقوع، ثم قال: حيث قلنا بالوقوع فيه، فإنه يكون طلاقاً بائناً، قاله في الرعاية والفروع والنظم وغيرهم، قال: فَيُعابا بها. انتهى. فعلى هذا، يحسب من الطلقات الثلاث. سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد، رحمهما الله: عن طلاق الغضبان؟ فأجاب: وأما طلاق الغضبان فهو يقع إذا لم يغب عقله. وأجاب الشيخ حسن بن حسين بن علي: إذا أقر بطلاق امرأته، وادعى أنه لا يشعر من شدة الغضب، فهذه الدعوى لا تقبل منه إلا ببينة تشهد أنه حال الطلاق لا شعور له، قد بلغ حد الإغماء والسكر؛ فإن شهدت بذلك لم يقع، وإن كان مجرد غضب وقع، أو لم يحضر بينة وقع أيضاً. سئل الشيخ حمد بن ناصر: عمن وكل وكيلاً في طلاق زوجته، هل للوكيل أن يزيد على طلقة، إذا كان الموكل لم يأمره بكثير ولا قليل؟ وهل إذا طلق ثلاثاً تقع أم لا؟ وهل يعتبر إنكار الموكل؟ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 279 فأجاب: هذه المسألة، الراجح فيها أن الوكيل لا يزيد على واحدة، لأن الزيادة خلاف السنة؛ فإن زاد لم يقع إلا واحدة، إلا أن يأمره الموكل بذلك، فإن لم يأمره بذلك ولم يثبت ببينة ولا بإقرار الموكل، لم يثبت إلا طلاق السنة، وهي الطلقة الواحدة. سئل الشيخ عبد الله بن محمد: عن تطليق المرأة نفسها؟ فأجاب: والمرأة إذا طلقت نفسها لم تطلق. انتهى. قال أبناء الشيخ محمد: حسين وإبراهيم وعبد الله وعلي، رحمهم الله: ومنها - أي من البدع -: ما يفعله بعض الناس من مخالفة أمر الله، وارتكاب ما نهى عنه في كتابه، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً} [سورة الطلاق آية: 1] . أمر الله من أراد أن يطلق: أن يطلق طلاق السنة، وذلك: بأن تكون المرأة طاهرة طهراً لم يجامعها فيه، ونهى الزوج عن إخراجها من بيتها الذي كانت فيه قبل الطلاق، وأوجب عليها أن تعتد في بيتها، ونهاها أن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 280 تخرج؛ فلا يجوز لزوجها أن يخرجها، ولا يجوز لها أن تخرج ولو تراضت هي والزوج على الخروج، فقال تعالى: {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ} [سورة الطلاق آية: 1] . وقال تعالى: {وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} [سورة الطلاق آية: 1] ؛ وكثير من الناس يتهاون بهذا مع هذا التغليظ الشديد فيه، وصار هذا عادة عند الأكثرين، إذا أراد الزوج الطلاق، خرجت المرأة من بيت الزوج، واعتدت في بيت أهلها. فالواجب عليكم تقوى الله بامتثال ما أمر، والانتهاء عما عنه نهى وزجر، كما قال تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا} [سورة التغابن آية: 16] . وأجابوا أيضاً، والشيخ حمد بن ناصر، رحمهم الله تعالى: وأما الطلاق، فله عدد؛ وقد ذكر العلماء، رضي الله عنهم: أن الناس كانوا يطلقون متى شاؤوا، ويراجعون متى شاؤوا، حتى أضر ذلك بالنساء، فقصرهم الله على ثلاث تطليقات، كما قال تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ إلى قوله: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} [سورة البقرة آية:229-230] ، فنسخ الله بهذه الآية الكريمة ما كانوا يفعلونه في أول الإسلام، فإذا طلق الرجل امرأته ثلاثاً واحدة بعد واحدة، حرمت عليه حتى تنكح زوجاً غيره. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 281 والسنة لمن أراد الطلاق: أن يطلقها في طهر لم يصبها فيه، طلقة واحدة، ثم يدعها حتى تنقضي عدتها، فإن بدا له أن يراجعها في العدة جاز له ذلك بغير رضاها ورضى وليها، فإن أراد بعد ذلك أن يطلقها جاز له ذلك، إذا طلقها في طهر لم يصبها فيه. ثم إن شاء أن يراجعها بعد الطلقة الثانية، جاز له ذلك بغير رضاها ما دامت في العدة. ثم إذا طلقها بعد ذلك حرمت عليه، حتى تنكح زوجاً غيره نكاحاً صحيحاً بلا تحليل. وأما جمع الثلاث بكلمة واحدة، فهذا عند جمهور العلماء طلاق بدعة، ويقع الطلاق، وتبين منه المرأة بذلك، ولا يجوز له ارتجاعها، ولا تحل له حتى تنكح زوجاً غيره؛ هذا الذي عليه الجمهور من الصحابة والتابعين، والأئمة الأربعة وأتباعهم، وهو الذي عليه الفتوى عندنا. وهذه المسألة ليست من مسائل الإجماع، فقد خالف في ذلك بعض العلماء، وقال: إن جمع الثلاث بكلمة واحدة تكون طلقة واحدة، واستدل بحديث طاووس عن ابن عباس، الذي رواه مسلم في صحيحه، وقد أجاب العلماء عنه بأجوبة كثيرة، ليس هذا موضع بسطها. مسألة الطلاق في الحيض وسئل أيضاً: الشيخ عبد الله بن محمد: عمن طلق امرأته وهي حائض ثلاثاً؟ فأجاب: أما مسألة الطلاق في الحيض، فالمشهور الجزء: 7 ¦ الصفحة: 282 والمفتى به عند علماء الأمصار، من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من الأئمة الأربعة وغيرهم، أن الطلاق في الحيض طلاق بدعة، ومعصية لله ولرسوله؛ ولكنه لازم ويحسب من الطلقات الثلاث؛ وهذا هو المعمول به عندنا، ودلائل ذلك كثيرة مذكورة في البخاري ومسلم وغيرهما. ومن أشهر ذلك: " أن ابن عمر، رضي الله عنهما، طلق امرأته في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر ذلك عمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فتغيظ فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمره بمراجعتها حتى تطهر، ثم تحيض، ثم تطهر، ثم إن شاء طلق وإن شاء أمسك "، وفي البخاري عن ابن عمر أنها حسبت عليه طلقة. وأجاب أيضاً: وأما الطلاق في الحيض، فهو يقع. وأجاب الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن، رحمهم الله: وأما مسألة الطلاق في الحيض، أو في الطهر الذي جامعها فيه، فمسألة معروفة مشهورة، وجمهور أهل العلم يوقعون الطلاق فيها، ويرون أنه طلاق بدعة محرم، فاعله مستهزئ بآيات الله. طلاق الثلاث سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: عن رجل تزوج امرأة وطلقها ثلاثاً قبل أن يدخل بها؟ فأجاب: تبين منه، ولا تحل له حتى تنكح زوجاً غيره؛ ولا أعلم فيه نزاعاً بين العلماء. ثم قال: واعلم أن مرادي الجزء: 7 ¦ الصفحة: 283 بذلك: إذا أوقع كل واحدة بعد الأخرى. ثم الأخ حمد بن ناصر بن معمر ذكر لي، أن فيها نزاعاً مشهوراً بين السلف، فراجعت المسألة، ورأيت فيها خلافاً بين الصحابة فمن بعدهم، وأما الأئمة الأربعة، فالمشهور عنهم هو ما ذكرته لك، وهو المفتى به والمعمول به عندنا. سئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله: عن طلاق الثلاث ... إلخ؟ فأجاب: المسألة التي ذكرتها مروية عن الصحابة في مسلم، ويكفي في ذلك ما ورد فيها عن المحدَّث الملهَم، الذي أُمِرْنا باتباع سنته، ثاني الخلفاء، عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، ولكن ليس في هذا ما يرد القول الآخر. وأما الحديث: " أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم؟ " 1، فهذا يدل على أن جمع الثلاث لا يجوز; وأما كونه ألزم بها فلم يذكر في الحديث؛ والذي يقول: إنها واحدة، لا يقول: إن التلفظ بها يجوز، بل يقول: هو منكر من القول وزور، كما في الحديث. وأما رد الإمام أحمد ذلك بمخالفة راويه له، فهذا مبني على مسألة أصولية، وهي: أن الصحابي إذا أفتى بخلاف ما روى، هل يقدح في روايته؟ والصحيح أنه لا يقدح فيها، فإن الحجة في روايته لا في رأيه; وبالجملة: فالمسألة مسألة طويلة، لعل المذاكرة تقع فيها مشافهة.   1 النسائي: الطلاق (3401) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 284 وقال ابنه: الشيخ عبد الله: وأما قولكم إنه يحكى لنا أنكم أحللتم المرأة بعد طلاق الثلاث، فنقول: هذا كذب وزور وبهتان علينا، بل نقول إن المرأة إذا طلقها زوجها ثلاثاً، لا تحل له حتى تنكح زوجاً غيره. وقال أيضاً: وعندنا أن الإمام ابن القيم وشيخه، إماما حق من أهل السنة، وكتبهم عندنا من أعز الكتب، إلا أنا غير مقلدين لهما في كل مسألة، فإن كل أحد يؤخذ من قوله ويترك، إلا نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم. ومعلوم مخالفتنا لهما في عدة مسائل، منها: طلاق الثلاث بلفظ واحد في مجلس، فإنا نقول به تبعاً للأئمة الأربعة. وأجاب أيضاً: وأما الثلاث المجموعة، ففيها خلاف مشهور بين العلماء في جوازها، وفي كونها تقع ثلاثاً؛ والذي عليه الأكثر: أن التلفظ بها بكلمة واحدة بدعة ومعصية، لأن الله تعالى إنما أباح الطلاق للعدة، وقال: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [سورة البقرة آية: 229] ، والمرتان لا تكون إلا مرة بعد مرة، كما قال في سورة البقرة: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} [سورة البقرة آية: 229] ، ولا تكون إلا مرة بعد أخرى، ولما أخرجه النسائي وغيره، أن رجلاً طلق امرأته ثلاثاً بكلمة واحدة، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فغضب، وقال: " أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم؟ " 1 الحديث، وأنها تقع ثلاثاً كما أمضاه عمر رضي الله عنه في   1 النسائي: الطلاق (3401) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 285 خلافته، وتبعه على ذلك جمهور الصحابة والتابعين لهم بإحسان، من الأئمة الأربعة وغيرهم؛ والأدلة على ذلك مذكورة في كتب الفقه، وشروح الحديث. وأجابوا عن حجج القائلين بعدم الوقوع، وأنها لا تقع إلا واحدة بأجوبة كثيرة، ليس هذا موضع ذكرها. وأجاب أيضاً: وأما الطلاق الثلاث بكلمة واحدة، فالذي نفتي به أنه يصير ثلاث طلقات، كما ألزم عمر رضي الله عنه، وتابعه الصحابة على ذلك. وأجاب أيضاً: والرجل إذا طلق زوجته ثلاثاً في مجلس واحد، لم يجز له مراجعتها إلا بعد زوج؛ وإذا قال: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق، فهذا إن نوى بالتكرار التأكيد، أو إفهامها، لم يقع به إلا واحدة، فإن نوى به طلاق ثلاث، وقعت ثلاثاً عند الجمهور. وأما إذا طلق البتة، وقال: لم أرد به التأكيد والإفهام، ولا إيقاع الثلاث، بل عزبت النية، فهذا محل الخلاف: فبعض أهل العلم يقول: يقع به ثلاث طلقات إن لم ينو التأكيد والإفهام، وبعضهم يقول: يقع واحدة، إلا لمن ينوي طلاق الثلاث فتقع. وطلاق الشرك يحسب عليه في الإسلام، فإن طلقها في الشرك ثلاثاً أو أكثر، وجاء الإسلام وهي معه، أمر بفراقها حتى تنكح زوجاً غيره. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 286 وأجاب أيضاً: وأما الذي طلق زوجته طلقتين في الجاهلية، يحسب عليه، فإذا تم الثلاث بالذي طلق في الجاهلية لم تحل له. وأجاب أيضاً: وطلاق الشرك مثل طلاق الإسلام، فإن طلق زوجته ثلاثاً، لم تجز له إلا بعد أن تنكح زوجاً غيره. وسئل أيضاً: عن رجل طلق امرأته حال الشرك ثلاث مرات، كل تطليقة باسترجاع وعقد، وبعدما أسلم الزوج - وهي معه ولها منه أولاد على الشرك، وأولاد على الإسلام - هل تحل له؟ فأجاب: الذي طلق امرأته في الشرك أكثر من الثلاث متفرقة، الأحوط له أن يفارقها، ولكن ما تبين لنا أنه لازم عليه. وسئل: عن رجل طلق امرأته حال الشرك، وقال: أنت طالق بالثلاث، واسترجع؟ فأجاب: الذي قال لامرأته في الشرك: أنت طالق ثلاثاً، بكلمة واحدة، تحسب عليه مرة واحدة، لأنه جاهل أن هذا لا يجوز في الشرع. وأجاب الشيخ حمد بن ناصر بن معمر، رحمه الله: إذا طلق امرأته ثلاثاً، بلفظة واحدة، ففيها خلاف بين العلماء من الجزء: 7 ¦ الصفحة: 287 السلف والخلف قديماً وحديثاً؛ وفيها قولان مشهوران للعلماء: القول الأول: قول أكثر العلماء من أهل الحديث والفقهاء وغيرهم، من المالكية والشافعية والحنابلة والحنفية، من المتأخرين والمتقدمين: أن الرجل إذا طلق زوجته ثلاثاً بكلمة واحدة، بانت منه، وصارت لا تحل له حتى تنكح زوجاً غيره. واستدلوا على ذلك بدلائل، منها قوله تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [سورة الطلاق آية: 6] ، قالوا: وهذا لا يكون إلا في المبتوتة، لأن غير المبتوتة ممن له عليها الرجعة، ينفق عليها حاملاً أو غير حام؛. فعلم أن قوله: {لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً} [سورة الطلاق آية: 1] راجع إلى بعض ما انتظمه الكلام، وهي التي لم يبلغ طلاقها ثلاثاً، كما أن قوله: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [سورة البقرة آية: 228] قد عم المطلقات ذوات القروء. وقوله في نسق الآية: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [سورة الطلاق آية: 2] راجع إلى من لم يبلغ الثلاث بطلاقها، وفي ذلك إباحة إيقاع ما شاء المطلق من الطلاق، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 288 وظاهر حديث ابن عمر يشهد بهذا، لأنه قال: " ثم إن شاء طلق، وإن شاء أمسك " 1، فلم يخص طلاقاً من طلاق، ولا عدة من عدة في الطلاق؛ قالوا: فله أن يطلق كم شاء إذا كان مدخولاً بها، وإن كانت غير مدخول بها طلقها كم شاء، ومتى شاء، طاهراً أو حائضاً، لأنه لا عدة عليها. ومما احتجوا به أيضاً: " أن العجلاني طلق امرأته بعد اللعان ثلاثاً، فلم ينكره رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن رفاعة بن سموأل طلق امرأته ثلاثاً، فلم ينكره عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن ركانة طلق امرأته البتة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أردت بها؟ " فدل على أنه لو أراد ثلاثاً لكانت ثلاثاً، ولم ينكر ذلك عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن فاطمة بنت قيس طلقها زوجها ثلاثاً، ذكره الشعبي عن فاطمة وشعبة، وسفيان عن أبي بكر، وكذلك قال أكثر أصحاب ابن شهاب في حديث فاطمة: طلقها ثلاثاً. قالوا: ومن جهة النظر: إن من كان له أن يوقع واحدة، كان له أن يوقع ثلاثاً، وليس في عدد الطلاق سنة ولا بدعة، قد أباحه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. فعند هؤلاء: أن من طلق امرأته ثلاثاً مجتمعات في طهر لم يصبها فيه، فقد طلقها طلاقاً مباحاً، ومنهم من يقول: إنه قد طلقها السنة. والقول الثاني: قول مالك وأصحابه، وأحمد بن حنبل في المشهور عنه: أن طلاق السنة: أن يطلقها طلقة في طهر   1 أبو داود: الطلاق (2185) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 289 لم يمسها فيه، ولو كان في آخر ساعة منه، ثم يمسكها حتى تنقضي عدتها؛ وذلك بأول طهر الحيضة الثالثة في الحرة، وأول الحيضة الثانية في الأمة، فيتم للحرة ثلاثة أقراء، وللأمة قرآن – القرء: الطهر المتصل بالدم عندهم -. فإن طلقها في طهر تطليقة، أو طلقها ثلاثاً مجتمعات في طهر لم يمسها فيه، فقد لزمه، وليس بمطلق للسنة عند مالك وجمهور أصحابه. وأجابوا عما احتج به أهل القول الأول، فقالوا: أما حديث العجلاني فلا حجة فيه، لأنه طلق في غير موضع طلاق، فاستغنى عن الإنكار عليه. وأما حديث رفاعة بن سموأل، فقالوا: يحتمل أن يكون طلقها ثلاثاً متفرقات في أوقات. وأما حديث فاطمة بنت قيس، فقد قال فيه أبو سلمة: بعث إلي زوجي بتطليقتي الثالثة. وأما حديث ركانة، فقد تكلموا فيه وضعفوه، فلا حجه فيه. واحتج هؤلاء بقوله: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} [سورة البقرة آية: 229] ، ثم قال: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} [سورة البقرة آية: 230] ، ومرتان لا تكون إلا في وقتين، والثلاث في ثلاثة أوقات، كما في قوله عليه السلام: "من سبح الله مائة مرة" 1، أي: مرة بعد مرة، ليس المراد أن يقولها مرة واحدة، وكذلك من قال: قرأ سورة مرتين، المراد: مرة بعد مرة. ومن حجتهم أيضاً: قول الله تعالى: {إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ   1 الترمذي: الدعوات (3471) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 290 فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} إلى قوله: {لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً} [سورة الطلاق آية: 1] ، أي: أمر يحدث بعد الثلاث؛ والأمر إنما أريد به المراجعة، فبطل أن يكون وقوع الثلاث للسنة. ومن حجتهم أيضاً: ما روى النسائي عن محمود بن لبيد: " أن رجلاً طلق امرأته ثلاث تطليقات جميعاً، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك، فقام مغضباً، فقال: أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم " 1، قال العسقلاني: رجاله ثقات، وبما روى سعيد بن منصور: "أن عمر كان إذا أتي برجل طلق امرأته ثلاثاً، أوجع ظهره"، قال العسقلاني: وسنده صحيح، وبما روى عبد الرزاق وغيره: " أن ابن عمر قال لمن طلق امرأته ثلاثاً مجموعة: عصيت ربك، وبانت منك امرأتك "، وبما روى أبو داود بسند صحيح عن مجاهد قال: "كنت عند ابن عباس، فجاءه رجل فقال إنه طلق امرأته ثلاثاً، فسكت حتى ظننت أنه سيردها إليه. فقال: ينطلق أحدكم فيركب الأحموقة، ثم يقول: يا ابن عباس! يا ابن عباس! إن الله قال: {َمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً} [سورة الطلاق آية: 2] ، وإنك لم تتق الله، فلا أجد لك مخرجاً. عصيت ربك، وبانت منك امرأتك". قالوا: ففي هذا دليل على أن من طلق امرأته ثلاثاً مجتمعات، فقد عصى ربه، وفعل ما هو محرم، ومن فعل مباحاً لا يقال: عصى ربه. وقال هؤلاء: يصير مطلقاً امرأته   1 النسائي: الطلاق (3401) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 291 ثلاثاً، فلا تحل له حتى تنكح زوجاً غيره، وإن كان فعله هذا محرماً عليه. ومن القائلين بالتحريم لا اللزوم، من قال: إذا طلق ثلاثاً مجموعة وقعت واحدة، وهو قول محمد بن إسحاق صاحب المغازي، ونقله ابن المنذر عن جماعة من التابعين، كعمرو بن دينار وطاووس وغيرهما. ومن أقوى ما احتجوا به: ما أخرجه مسلم في صحيحه عن ابن عباس قال: "كان الطلاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة، فقال عمر بن الخطاب: إن الناس استعجلوا في أمر كان لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم، فأمضاه عليهم"، قال أبو عمر بن عبد البر في حديث ابن عباس: هذا لم يتابع عليه طاووس، وإن سائر أصحاب ابن عباس يروي عنه خلاف ذلك، وما كان ابن عباس يروي عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم يخالفه إلى رأي نفسه، بل المعروف عنه أنه كان يقول: "أنا أقول لكم: سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنتم تقولون: قال أبو بكر وعمر"، قاله في فسخ الحج وغيره. قال جمهور العلماء: إن حديث طاووس في قصة أبي الصهباء، لا يصح معناه. وممن روينا عنه: أن الثلاث تحرم التي لم يدخل بها زوجها، حتى تنكح زوجاً غيره، كالمدخول بها سواء: علي بن أبي طالب وابن مسعود، وابن عباس وابن عمر، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وأبو الجزء: 7 ¦ الصفحة: 292 سعيد الخدري، وجابر بن عبد الله وعبد الله بن المغفل، وأبو هريرة وعائشة وأنس، وهو قول جماعة من التابعين. وبه قال فقهاء الأمصار، كابن أبي ليلى وابن شبرمة وسفيان الثوري، ومالك وأبي حنيفة والشافعي، وأصحاب أحمد وإسحاق، وأبي ثور وأبي عبيد والطبري. انتهى. إذا عرفت مذاهب أهل العلم في المسألة، فالقول المفتى به عندنا: ما ذكره ابن عبد البر وغيره، عن جماعة من العلماء: أن الرجل إذا طلق امرأته ثلاثاً بكلمة واحدة، سواء كان مدخولاً بها، أو غير مدخول بها، أو صغيرة أو كبيرة، أنها تحرم عليه حتى تنكح زوجاً غيره. وأجاب أيضاً: مذهب جمهور العلماء أنها تقع ثلاثاً، فمتى طلقها ثلاثاً بكلمة واحدة وقعت الثلاث، وحرمت عليه حتى تنكح زوجاً غيره، ولا فرق بين ما قبل الدخول وبعده؛ روي ذلك عن ابن عباس وأبي هريرة، وابن عمر وابن مسعود وأنس. وكان عطاء وطاووس وسعيد بن جبير، وأبو الشعثاء وعمرو بن دينار، ومحمد بن إسحاق، وإسحاق بن راهويه، يقولون: من طلق البكر ثلاثاً فهي واحدة. وذهب طائفة: إلى أن الثلاث المجموعة طلقة واحدة في حق البكر وغيرها؛ واختار هذا الشيخ تقي الدين وابن القيم. واحتج أهل هذا القول بما روى مسلم في صحيحه الجزء: 7 ¦ الصفحة: 293 عن ابن طاووس عن أبيه عن ابن عباس قال: "كان الطلاق الثلاث في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر، طلاق الثلاث واحدة، فقال عمر بن الخطاب: إن الناس استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم. فأمضاه عليهم"، قالوا: فهذا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة كلهم معه في عصره، وسنتين من خلافة عمر، على أن الثلاث واحدة، فتوى وإقراراً وسكوتاً، ولهذا ادعى بعض أهل العلم: أن هذا إجماع قديم، ولم تجمع الأمة على خلافه، بل لم يزل فيهم من يفتى به قرناً بعد قرن؛ فأفتى به ترجمان القرآن عبد الله بن عباس، وأفتى أيضاً بالثلاث، أفتى بهذا وهذا. وأفتى بأنها واحدة ابن الزبير، وعبد الرحمن بن عوف، وطاووس، وفلاس بن عمر، والحارث العكلي، وداود بن علي، وأكثر الصحابة، ولم يأت إجماع يبطله؛ ولكن رأى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب أن الناس قد استهانوا بأمر الطلاق، وكثر منهم إيقاعه جملة واحدة، فرأى من المصلحة عقوبتهم بإمضائه عليهم، ليعلموا أن أحدهم إذا أوقعه جملة بانت منه امرأته، وحرمت عليه حتى تنكح زوجاً غيره، فإذا علموا ذلك كَفُّوا عن الطلاق المحرم، فإن الله حرم الطلاق مرة بعد مرة، فمن جمع الثلاث في مرة واحدة، فقد تعدى حدود الله وظلم نفسه، ولعب الجزء: 7 ¦ الصفحة: 294 بكتاب الله، فحقيق أن يعاقب ويلزم بما التزمه، ولا يقر على رد رحمة الله وقد صعب على نفسه ولم يتق الله، ولم يطلق كما أمره الله، بل استعجل فيما جعل الله له الأناة فيه، واختار الأغلظ والأشد؛ فهذا مما تغيرت به الفتوى لتغير الزمان. ولما علم الصحابة حسن سياسة عمر وتأديبه لرعيته في ذلك، وافقوه على ما ألزم به، وصرحوا لمن استفتاهم بذلك؛ ولهذا لما سئل الإمام أحمد عن حديث ابن عباس، لم يكن عنده ما يدفعه به إلا مخالفته لما أفتى به ابن عباس. قال الأثرم: سألت أبا عبد الله عن حديث ابن عباس: "كان الطلاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر واحدة"، بأي شيء تدفعه؟ قال: برواية الناس من وجوه عن ابن عباس أنها ثلاث، وهو الذي أمضاه عمر على الناس، وقضى به عقوبة لهم على الطلاق المحرم، وتبعه عليه الصحابة، وأخذ به جمهور العلماء من التابعين ومن بعدهم من الأئمة، أن من طلق ثلاثاً بكلمة واحدة تحسب عليه ثلاثاً. وهو الذي كان يفتي به شيخنا، رحمه الله، وعليه الفتوى عندنا. وسئل: عمن قال لامرأته: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق؟ فأجاب: فإذا قال لامرأته: أنت طالق، أنت طالق، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 295 أنت طالق، ثلاثاً، كلمات مكررات، فالصحيح من مذهب أحمد: أن ذلك يرجع إلى نيته، فإن أراد التأكيد بطلقة واحدة، ولم يرد أنها ثلاث طلقات، فهي تصير واحدة، يجوز له رجعتها ما دامت في العدة، فإن خرجت من العدة لم يجز له مراجعتها إلا بعقد جديد. وإن أراد بقوله: أنت طالق، ثلاث تطليقات، لم تحل له حتى تنكح زوجاً غيره؛ وهذا هو المفتى به عندنا، لأنا لا نعلم شيئاً يخالفه من الكتاب والسنة. وأجاب الشيخ عبد الرحمن بن حسن: وأما طلاق الثلاث، فإنه يقع عند الجمهور مفرقاً، أو مجموعاً، وهو الذي عليه العمل سلفاً وخلفاً، من خلافة عمر ومن بعده، وهو كذلك عند الأئمة الأربعة، وهو الأصح في مذاهبهم عند أصحابهم؛ وإن كان الخلاف فيه إنما اشتهر عن شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم، رحمهما الله، أقوى مما كان الأمر عليه في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلافة أبي بكر، وصدر من خلافة عمر. والجمهور أخذوا بالآخِر من اجتهاد عمر، ولهم أجوبة عما استدل به شيخ الإسلام معروفة. وعمدتهم فيما ذهبوا إليه من إيقاع الثلاث: ظاهر القرآن، فإن الله تعالى لم يجعل إلا ثلاث تطليقات، قال الله تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} [سورة البقرة آية: 229] ، {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} [سورة البقرة آية: 230] ، وبذلك أفتى ابن عباس وغيره، وهو الجزء: 7 ¦ الصفحة: 296 حبر الأمة؛ فالاستدلال بفتيا ابن عباس والصحابة حق، والاستدلال بقول شيخنا أولى من الاستدلال بقول الشوكاني. وأجاب ابنه الشيخ عبد اللطيف: الذي طلقها واحدة، فلما انقضت عدتها تزوجها، وطلقها بالثلاث بلفظة واحدة، فلا تحل له حتى تنكح زوجاً غيره، عند جمهور العلماء. وأجاب الشيخ عبد الله أبا بطين: وأما إيقاع الطلاق الثلاث بكلمة واحدة، سواء كان في خلع أو غيره، فمذهب الشيخ تقي الدين وكثير من أتباعه معلوم لديكم: أن الزوج إذا طلق زوجته ثلاثاً بكلمة واحدة، أو بكلمات متفرقة قبل رجعة، أنه لا يقع إلا طلقة واحدة؛ والمفتى به في المذاهب الأربعة خلاف ذلك، ونصوص الأئمة الأربعة بخلاف قول الشيخ معروفة، ولا ينبغي مخالفتهم في ذلك، ولم نر أحداً ممن أدركناهم يفتي بقول الشيخ في هذه المسألة; وأخبرني بعض تلامذة الشيخ محمد، رحمه الله، أنه قال: لم أفت بقول الشيخ تقي الدين في هذه المسألة إلا مرة واحدة، ثم لم أفت إلا بقول الجمهور. وأجاب الشيخ عبد الله بن عبد العزيز العنقري: الذي طلق زوجته ثلاثاً بلفظة واحدة، قول الجمهور أنها تقع ثلاثاً، وتمضي عليه؛ وهذا هو المفتى به عند مشائخنا، ولا ينبغي العدول عنه. سئل بعضهم: عمن قال لزوجته: أنت طالق الجزء: 7 ¦ الصفحة: 297 بالثلاث، ويحلف أنه قاصد أصابعه الثلاث؟ فأجاب: هذا المقصد مشكل مع أنه بعيد، وهذا يشبه ما قاله شيخ الإسلام: أن النية إن أسقطت شيئاً من الطلاق لم يقبل، مثل قوله: أنت طالق ثلاثاً، وقال: نويت واحدة، فإنه لا يقبل رواية واحدة، وإن لم تسقط من الطلاق، وإنما عدل به من حال إلى حال، مثل أن ينوي من وثاق وعقال ودخول الدار إلى سنة ونحو ذلك، فهذا على روايتين: إحداهما: يقبل، قال في شرح المنتهى: إلا أن تكون قرينة من غضب، أو سؤالها الطلاق، والمقدم في المذهب: أنه يدين ولا يقبل في الحكم. وسئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عمن قال لزوجته: أنت طالق، فقالت: طلقني بالثلاث، فطلقها، وقال: أردت عصاي؟ فأجاب: الذي قال لزوجته: أنت طالق، وقالت: ما يكفيني هذا، طلقني بالثلاث، فقال: أنت طالق بالثلاث، وقال: أردت عصاي، فالذي أرى أنه ما يقبل قوله، وتقع الثلاث إذا كانت الأولى على غير عوض، لأن قوله: أنت طالق بالثلاث، جواب لسؤال مشافهة، وضمير "أنتِ" إنما هو للعاقل لا للجماد، وأيضاً: العصا لا تتصف بالطلاق. وسئل: إذا قال: أنت طالق قبل موتي بشهر؟ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 298 فأجاب: الذي نص عليه علماؤنا: أنه يجب على الزوج اعتزالها من حين ذلك، لأن كل شهر أو يوم يحتمل أن يموت فيه، فتكون قد طلقت قبله في الوقت الذي وقته، فإذا وطئها والحالة هذه، احتمل أن يموت، فيكون قد وطئها في حال بينونتها. وسئل: إذا قال أنت طالق من نجد إلى مكة؟ فأجاب، إذا قال لزوجته: أنت طالق من نجد إلى مكة، فإنها تطلق واحدة في الحال، كما ذكر في الإقناع أنه قال: إذا قال أنت طالق إلى مكة، طلقت في الحال. وأجاب الشيخ سعيد بن حجي: إذا قال لزوجته: أنت طالق إلى مكة، فقال في الإقناع وشرحه: وإن قال أنت طالق إلى مكة، ولم ينو بلوغها إلى مكة، أو قال: أنت طالق بعد مكة، طلقت في الحال; فقد علمت أنه إذا قال ذلك طلقت في الحال، وأنه إذا نوى بلوغ مكة لم تطلق حتى تبلغها. سئل بعضهم: إذا طلق الرجل زوجته، وقال: إنها طلقة، ثم أقام بينة أنها ثلاث، وأقام بينة أنها طلقة؟ فأجاب: هي طلقة مع يمين المطلق، وإذا طلقها وادعت أنها ثلاث، وأنكر، وأقامت شاهداً، فظاهر المذهب: أنها واحدة، ولا تكون ثلاثاً إلا بشاهدين. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 299 الصيغة التي يقع بها الطلاق سئل الشيخ حسن بن حسين بن علي، رحمهم الله: عن صيغة التنجيز؟ فأجاب: مثل أن يقول: امرأتي طالق، أو أنت طالق، أو فلانة طالق، أو مطلقة، ونحو ذلك، فهذه الصيغة يقع بها الطلاق بإجماع المسلمين. سئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى، عمن قيل له: امرأتك معك؟ فقال: لا؟ فأجاب: الرجل الذي سأله أخوه عن امرأته - وهي غائبة في بلاد - قائلا: امرأتك معك؟ فقال: لا، ويدعى أن مراده أنها ليست بهذا، فالذي أفهم أن هذا كناية، إن أراد به الطلاق طلقت، وإن لم يرد الطلاق، ولا أراد إلا أنها ليست عنده بهذه البلاد لم تطلق. وعبارة مختصر الشرح: ولو قيل: أطلقت امرأتك؟ فقال: نعم، وأراد الكذب لم تطلق، لأنه كناية يحتاج إلى نية، وإن نوى به الطلاق طلقت، وبه قال مالك والشافعي. فتأمل هذه العبارة، تجد المسألة المسؤول عنها قريبة من المسألة الأخيرة. سئل الشيخ إبراهيم بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن: عمن معه امرأتان، وأراد سفراً، فسئل فقال: ما معي إلا فلانة، وهو صحيح، ثم توفي؟ فأجاب: اللفظ محتمل قصد الطلاق أو غيره من الجزء: 7 ¦ الصفحة: 300 سقوط نفقة أو غير ذلك، والكناية تتقيد بالنية، وإذا كان كذلك لم تخرج من متيقن إلا بيقين. [فصل في طلاق البتة] سئل الشيخ سعيد بن حجي: عن طلاق البتة؟ فأجاب: قال في المطلع: وبتة بمعنى: مقطوعة، يقال طلقها ثلاثاً البتة; وفي حديث فاطمة بنت قيس: "أن أبا عمرو طلقها البتة وهو غائب"، وفي رواية:? "طلقها ثلاثاً ... ?" الحديث، متفق عليه; قال ابن دقيق العيد: لفظة "البتة" يعبر بها عن طلاق الثلاث دفعة، وتارة عن طلقة يتمم بها الثلاثة. سئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله: إذا قال لامرأته: اطلعي من داري؟ فأجاب: وأما قول الزوج اطلعي من داري، فليست قرينة؛ يحلف أنه ما أراد الطلاق. سئل ابنه: الشيخ عبد الله: إذا قالت المرأة لزوجها: طلقني، فقال: الله يرزقك؟ فأجاب: هذه من الكنايات، والقرينة تدل على أنه أراد الطلاق. فإذا قالت: ما يكفيني، وقال: الله يرزقك، الله يرزقك، فهذه تحتاج إلى نية. فإن قال: إن مرادي تأكيد الأول، ولا أردت إلا واحدة، وحلف على ذلك، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 301 فهي تصير واحدة. فإن قال: مرادي الثلاث، فهي تصير ثلاثاً. هذا الذي يبين لنا من كلام أهل العلم في المسألة، والله أعلم. وأجاب أيضاً: إذا قال لزوجته عند سؤالها منه الطلاق: الله يرزقك، فهذا كناية يحتاج إلى نية الطلاق، ويصدق بيمينه أنه لم ينو الطلاق. وأجاب الشيخ عبد الرحمن بن حسن: إذا قال الإنسان لزوجته: الله يرزقك بالثلاث، ناوياً الطلاق، ولكن لم يرد الثلاث، فإنها تقع الثلاث، ولا يقبل قوله إنه لم يردها، مع وجود اللفظ بها منه. انتهى. وسئل الشيخ حسين بن الشيخ محمد، عمن قال لامرأته: الله يرزقك، ثم طلقها طلقتين ... إلخ؟ فأجاب: الرجل إذا قال لامرأته: الله يرزقك، ثم طلقها طلقتين متواليتين، فهو يسأل عن نيته: هل نوى ثلاثاً، فهي ثلاث، أو يسمعها وقصده طلقة واحدة، فإن كان قصده واحدة، فهي تحل له. وأجاب أيضاً: الذي قال لامرأته: الله يرزقك، وطلعت من العدة، فلا له طريق عليها إلا بعقد; وأيضاً، إن كان قائلاً لامرأته: الله يرزقك، ثلاث مرات، ونيته ثلاث تطليقات، فلا له طريق عليها إلا بعد أن تتزوج زوجاً آخر، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 302 ويطلقها بعد الإصابة. وأجاب الشيخ محمد بن الشيخ إبراهيم بن عبد اللطيف: الذي يفتي به علماء هذه الدعوة، رحمهم الله: أنها من الكنايات الخفية، وحكم الكنايات الخفية معلوم في كتب المذهب. سئل بعضهم: إذا قال لزوجته: لست معي؟ فأجاب: هي كناية، وإن نوى به الطلاق فهو طلاق، سواء طلقة أو أكثر. وإن قاله بقرينة، كسؤالها أو عند الخصومة أو التنازع، فهي طلاق. وإذا قال لزوجته بعد سؤال الطلاق: أنت بالنفهان، فإن كان على عادتهم أنه طلاق، فهو طلاق. سئل بعضهم: إذا قال لامرأته: إن كان كذا ما جرى، فأنت فسخ؟ فأجاب: هذا تعليق، وذكر الفقهاء في كتاب الخلع ما يفيد أنه كناية، إذا نوى به الطلاق صار طلاقاً، وصرح به في الاختيارات، فقال: ولا يقع الطلاق بالكناية إلا بنية مع قرينة إرادة الطلاق، كما إذا قرن الكناية بلفظ يدل على الطلاق، مثل أن يقول: فسخت النكاح، وقطعت الزوجية، ورفعت العلاقة بيني وبين زوجتي. انتهى. وبه يتم الجواب. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 303 سئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله: عن الكنايات، هل يقع بها طلاق ... إلخ؟ فأجاب: وأما استعمال كنايات الطلاق، فالذي عليه أكثر العلماء، أن الكنايات لا يقع بها الطلاق إلا مع النية؛ فإذا تكلم الزوج بالكناية، وقال: لم أرد الطلاق، ولم أنوه، ولم يتكلم بذلك في حال الغضب، أو سؤالها الطلاق، فهذا يقبل قوله، ولا يقع به طلاق. وأما إن تكلم بذلك في حال الغضب، فهذا مما اختلف الفقهاء فيه، فقال بعضهم: يقبل قوله أنه لم يرد الطلاق ولم ينوه. وقال بعضهم: لا يقبل قوله في ظاهر الحكم، لأجل القرينة الدالة على إرادة الطلاق. وبعض أهل العلم يفرق بين الكنايات، ويقول: الكنايات التي يكثر استعمالها في الطلاق، ويعرف أن من تلفظ بها إنما يريد الطلاق، فهذا لا يقبل قوله; وأما الكنايات التي تستعمل في عرف أهل البلد في الطلاق، وفي غيره، فهذا يقبل قوله أنه ما أراد الطلاق، بل لو تلفظ بذلك، وقال: لم أرد الطلاق ولا غيره، لم تطلق إلا بالنية، إذا كان اللفظ يستعمل في الطلاق وفي غيره. وسئل: عن رجل غضب على زوجته، وسألته الطلاق، وقال لها: اخرجي عن بيتي، لست معي؟ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 304 فأجاب: هذه المسألة قد ذكر الفقهاء فيها: أن الزوج إذا تلفظ بكنايات الطلاق، في حال الغضب، أو سؤالها الطلاق، ثم قال الزوج: لم أرد بذلك الطلاق، أنه لا يقبل في الحكم، بل تحسب عليه من الطلاق؛ هذا في الظاهر، وأما بينه وبين الله، فإن علم من نفسه أنه لم يرد الطلاق، لم يقع عليه طلاق فيما بينه وبين الله. سئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله: عن الكنايات، هل منها ما يقع ثلاثاً؟ فأجاب: الكنايات ليس منها شيء يعد ثلاثاً. وأجاب الشيخ: حمد بن ناصر بن معمر: وأما "الخلية" و"البرية" و"البائن" من الكنايات في الطلاق، هل تقع ثلاثاً أم واحدة؟ فهذه المسألة اختلف الفقهاء فيها; وأكثر الروايات عن أحمد: كراهة الفتيا في هذه الكنايات الظاهرة، مع ميله إلى أنها ثلاث. وحكى ابن أبي موسى عنه روايتين: إحداهما: أنها ثلاث. والثانية: يرجع إلى ما نواه، وهو مذهب الشافعي، قال: يرجع إلى ما نواه؛ وإن لم ينو شيئاً وقع واحدة، واحتج بحديث ابن عبد يزيد. وقال الثوري، وأصحاب الرأي: إن نوى ثلاثاً فثلاث، وإن نوى اثنتين أو واحدة وقعت واحدة، ولا تقع اثنتين; وقال ربيعة ومالك: يقع بها الثلاث، وإن لم ينو الجزء: 7 ¦ الصفحة: 305 إلا في خلعه، أو قبل الدخول، فإنها تطلق واحدة، لأنها تقتضي البينونة، وهي تحصل في الخلع، وقبل الدخول بالواحدة، وفي غيرها تقع الثلاث. فهذا مذاهب الأئمة في هذه المسألة. وأجاب الشيخ عبد الرحمن بن حسن: كنايات الطلاق في مذهب أحمد، ذكرها في الزاد والمقنع والمطولات، على قسمين: قسم إذا نوى به الطلاق بانت زوجته، لكونها تدل على البينونة بوضعها، وقسم إذا نوى به الطلاق وقعت واحدة، إلا إذا نوى الثلاث وقع ما نوى. سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: عن توقف المفتي فيها ... إلخ؟ فأجاب: وأما قولك: إذا توقف المفتي عن الإفتاء في الكنايات، هل يكون داخلاً في الكتمان؟ فاعلم أن الذي يتناوله الوعيد، الذي عنده علم من الله ورسوله، فيُسأل عنه فيكتمه، وأما من أشكل عليه الحكم، فتوقف حتى يتبين له حكم الله ورسوله، فهذا لا حرج عليه إذا توقف، ولو عرف اختلاف العلماء، ولم يعلم الراجح من القولين; وأحمد، رحمه الله، وغيره من العلماء يتوقفون كثيراً في مسائل، مع معرفتهم بكلام العلماء قبلهم في تلك المسائل، إذا لم يتبين لهم الصواب. وأحمد يتوقف عن الإفتاء في كنايات الطلاق، في أكثر الجزء: 7 ¦ الصفحة: 306 أجوبته. وبعض العلماء لا يفتي في مسائل الطلاق بالكلية، لعظم خطرها. والواجب على المفتي: أن يراقب الله ويخشاه، ويعلم أنه قد عرض نفسه للحكم بين الله وبين عباده، فيما أحل لهم وحرم عليهم، فلا يتكلم إلا بعلم؛ وما أشكل عليه أو جهله فليكله إلى عالمه. [فصل في قوله: أنت عليّ كظهر أمي، أعني به الطلاق] سئل الشيخ حمد بن ناصر بن معمر: إذا قال: أنت علي كظهر أمي، أعني به الطلاق؟ فأجاب: هذا اللفظ ظهار، لا يكون طلاقاً، ولو نوى به الطلاق أو صرح به، ويكون عليه كفارة ظهار. وسئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: عمن قال لزوجته: أنت علي حرام ... إلخ؟ فأجاب: وأما جواب المسألتين اللتين ذكرتهما، فنذكر كلام أهل العلم، ونسأل الله أن يوفقنا وإياك للصواب: قال في المغنى: إذا قال أنت علي حرام، فإن نوى به الظهار فهو ظهار في قول عامتهم; وبه يقول أبو حنيفة والشافعي. وإن نوى به الطلاق، فقد ذكرناه في باب الطلاق. وإن أطلق ففيه روايتان: إحداهما: هو ظهار، ونص عليه أحمد في رواية جماعة من أصحابه، ذكره إبراهيم الحربي، عن عثمان وابن عباس وأبي قلابة، وسعيد بن جبير وميمون بن مهران والبستي، أنهم قالوا: الحرام ظهار. وروي عن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 307 أحمد ما يدل على أن التحريم يمين; وعن ابن عباس أنه قال: التحريم يمين في كتاب الله، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [سورة التحريم آية: 1] ، ثم قال: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [سورة التحريم آية: 2] . وأكثر الفقهاء على أن التحريم إذا لم ينو به الظهار ليس بظهار، وهو قول مالك وأبي حنيفة والشافعي؛ ووجه ذلك: الآية المذكورة، وأن التحريم يتفرع منه ما هو: بظهار، وبطلاق، وبحرام، وصيام، ومحيض، ولا يكون صريحاً في واحد منها، ولا ينصرف إليه بغير نية، كما لا ينصرف إلى تحريم الطلاق. ووجه الأول: تحريم أوقعه بامرأته، فكان بإطلاقه ظهاراً، كتشبيهها بظهر أمه. وقولهم: إن التحريم يتفرع، قلنا: إن تلك الأنواع ممتنعة، ولا يحصل منها إلا الطلاق وهذا أولى منه، لأن الطلاق يبين المرأة، وهذا يحرمها مع بقاء الزوجية، فكان أدنى التحريم يميناً، فكان أولى. فأما إن قال ذلك لمحرمة عليه بحيض ونحوه، وقصد الظهار فهو ظهار، وإن قصد أنها محرمة بذلك السبب فلا شيء فيه، وإن أطلق فليس بظهار لأنه يحتمل الخبر عن حالها، ويحتمل إنشاء التحريم فيها بالظهار، فلا يتعين أحدهما إلا بتعيين. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 308 [فصل في قوله: الحل علي حرام] وإن قال: الحل علي حرام، أو ما أحل الله علي حرام، أو ما انقلب إليه حرام، وله امرأة، فهو مظاهر؛ نص عليه في الصور الثلاث، قال أحمد فيمن قال: ما أحل الله علي حرام من أهل ومال، عليه كفارة الظهار، هو يمين، وتجزئه كفارة واحدة في ظاهر كلام أحمد. واختار ابن عقيل أنه يلزم الكفارتان للظهار، ولتحريم المال. ولنا أنها يمين واحدة، فلا توجب كفارتين، كما لو ظاهر من امرأتين، أو حرم من ماله شيئين؛ وفي قول أحمد: هو يمين، إشارة إلى التعليل بما ذكرناه. انتهى. وقال البخاري، رحمه الله: باب إذا قال لامرأته: أنت علي حرام، قال الحسن: بنيته، قال في شرح البخاري لابن حجر العسقلاني: أي: يحمل على نيته، وهذا التعليق وصله البيهقي، ووقع لنا عالياً في جزء محمد بن عبد الله الأنصاري شيخ البخاري، قال حدثنا الأشعث عن الحسن: في الحرام إن نوى يميناً فهو يمين، وإن نوى طلاقاً فهو طلاق، وبهذا قال النخعي والشافعي وإسحاق، وروي نحوه عن ابن مسعود وطاووس وابن عمر. وقال الأوزاعي وأبو ثور: الحرام يمين مكفرة، وروي نحوه عن أبي بكر وعمر وعائشة، وسعيد بن المسيب وعطاء وطاووس، واحتج أبو ثور بظاهر قوله تعالى: {لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [سورة التحريم آية: 1] ، وقال سعيد بن جبير وأبو قلابة: "من قال الجزء: 7 ¦ الصفحة: 309 لامرأته: أنت علي حرام، لزمته كفارة الظهار، وكان مظاهراً، وإن لم ينوه كان عليه كفارة يمين مغلظة، وهي كفارة الظهار، لأنه يصير مظاهراً حقيقة"، وفيه بُعْد. وقال أبو حنيفة وصاحباه، والحكم وابن أبي ليلى: في الحرام ثلاث تطليقات، ولا يسأل عن نيته، وبه قال مالك. وعن مسروق والشعبي وربيعة: لا شيء فيه. وفي المسألة اختلاف كثير عن السلف، بلغها القرطبي إلى ثمانية عشر قولاً. ثم ذكر البخاري حديث ابن عباس، أنه قال: "إذا حرم الرجل امرأته، ليس بشيء، وقال: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} " [سورة الأحزاب آية: 21] ، قال الشارح: يشير بذلك إلى قصة التحريم. وقد أخرج النسائي بسند صحيح، عن أنس: " أن رسول الله كانت له أمة يطؤها، فلم تزل به حفصة وعائشة حتى حرمها " 1، فأنزل الله هذه الآية: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [سورة التحريم آية: 1] ، وهذا أصح طرق هذا السبب، وله شاهد مرسل; وقد اختلفوا في سبب التحريم، هل هو تحريم العسل؟ أو تحريم مارية؟ وقوله ليس بشئ: يحتمل أنه يريد بالنفي التطليق، ويحتمل أن يريد به ما هو أعم من ذلك؛ والأول أقرب، ويؤيده ما تقدم في التفسير بهذا الإسناد، أنه قال في الحرام: يكفر; وفي رواية: "إذا حرم الرجل امرأته، فإنما هي يمين   1 النسائي: عشرة النساء (3959) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 310 يكفرها"; فعرف أن المراد بقوله: "ليس بشيء": بطلاق. وأنت تفهم، رحمك الله، أن مذهب ابن عباس في هذه المسألة، أقرب الأقوال إلى الكتاب والسنة، وهو اختيار شيخنا، رحمه الله. [مسألة الحلف بالطلاق] وذكر ابن القيم، رحمه الله: هذه المسألة، ومسألة الحلف بالطلاق في كتاب إعلام الموقعين، وبسطها، فأحببت أن أنقل لك أول المسألة: قال، رحمه الله: فصل: المثال الثامن مما تتغير به الفتوى لتغير العرف والعادة: موجبات الأيمان والإقرار والنذر وغيرها; فمن ذلك: أن الحالف إذا حلف لا ركبت دابة، وكان في بلد عرفهم في لفظ الدابة: الحمار خاصة، اختصت يمينه به، ولا يحنث بركوب الفرس ولا الجمل. وإن كان عرفهم في لفظ الدابة: الفرس خاصة، حملت يمينه عليها دون الحمار. وكذلك إذا كان الحالف مما عادته ركوب نوع خاص من الدواب، كالأمراء ومن جرى مجراهم، حملت يمينه على ما اعتاده من ركوب الدواب؛ فيفتى في كل بلد بحسب عرف أهله، ويفتى كل أحد بحسب عادته. وكذلك إذا حلف لا اشتريت كذا ولا بعته، ولا حرثت هذه الأرض ولا زرعتها، ونحو ذلك، وعادته أن لا يباشر ذلك بنفسه، كالملوك، حنث قطعاً بالإذن والتوكيل فيه، فإنه نفس ما حلف عليه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 311 وإن كان عادته مباشرة ذلك بنفسه، كآحاد الناس، فإن قصد منع نفسه من المباشرة لم يحنث بالتوكيل، وإن قصد عدم الفعل والمنع منه جملة حنث بالتوكيل، وإن أطلق اعتبر سبب اليمين وبساطها وما هيجها. وعلى هذا، إذا قيل له: جاريتك أو عبدك يرتكبان الفاحشة، فقال: ليس كذلك، بل هما حران لا أعلم عليهما فاحشة، فالحق المقطوع به أنهما لا يعتقان بذلك، لا في الحكم ولا فيما بينه وبين الله. ومن ذلك ما حدثني به بعض أصحابنا، أنه قال لامرأته: إذا أذنت لك في الخروج إلى الحمام فأنت طالق، فتهيأت للخروج إلى الحمام، فقال لها: اخرجي وأبصري. فاستفتى بعض الناس، فأفتوه بأنها قد طلقت منه، فقال للمفتي: بأي شيء أوقعت علي الطلاق؟ فقال: بقولك لها اخرجي، فقال: إني لم أقل لها ذلك إذناً، وإنما قلته تهديداً، أي: أنك لا يمكنك الخروج، وهذا كقوله تعالى: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} [سورة فصلت آية: 40] ، فهل هذا إِذْنٌ لهم أن يعملوا ما شاؤوا؟ فقال: لا أدري، أنت لفظت بالإذن، فقال له: ما أردت الإذن، فلم يفقه المفتي، وغلظ فهمه عن إدراكه، وفرق بينه وبين امرأته بما لم يأذن الله به ولا رسوله، ولا أحد من أئمة الإسلام. وأطال الكلام - إلى أن قال - فصل: ومن هذا الباب: اليمين بالطلاق والعتاق، فإن إلزام الحالف بهما إذا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 312 حنث بطلاق زوجته وعتق عبده، مما حدث الإفتاء به بعد انقضاء عصر الصحابة؛ فلا يحفظ عن صحابي في صيغة القسم إلزام الطلاق به أبداً، وإنما المحفوظ إلزام الطلاق بصيغة الشرط، والجزاء الذي قصد به الطلاق عند وجود الشرط، كما في صحيح البخاري، عن نافع قال: "طلق رجل امرأته البتة، إن خرجت. فقال ابن عمر: إن خرجت فقد بانت منه، وإن لم تخرج فليس بشيء"؛ فهذا لا ينازع فيه إلا من يمنع وقوع الطلاق المعلق بالشرط مطلقاً. وأما من يفصل بين القسم المحض، والتعليق الذي يقصد به الوقوع، فإنه يقول بالآثار المروية عن الصحابة كلها في هذا الباب، فإنهم صح عنهم الإفتاء بالوقوع في صور، وصح عنهم عدم الإفتاء بالوقوع في صور، والصواب ما أفتوا به في النوعين، ولا يؤخذ ببعض فتاويهم ويترك بعضها - إلى أن قال – فصل: قد عرف أن الحلف بالطلاق له صيغتان: إحداهما: إن فعلت كذا فأنت طالق، والثانية: الطلاق يلزمني لا أفعل كذا، وأن الخلاف في الصيغتين قديماً وحديثاً. وهكذا الحلف بالحرام له صيغتان: إحداهما: إن فعلت كذا فأنت علي حرام، أو ما أحل الله علي حرام، والثانية: الحرام يلزمني لا أفعل كذا. فمن قال في: الطلاق يلزمني، إنه ليس بصريح ولا كناية، ولا يقع به شيء، ففي قوله: الحرام يلزمني أولى; الجزء: 7 ¦ الصفحة: 313 ومن قال: إنه كناية، إن نوى به الطلاق كان طلاقاً وإلا فلا؛ فهكذا يقول في: الحرام يلزمني، إن نوى به التحريم كان كما لو نوى بالطلاق التطليق، فكأنه التزم أن يحرم كما التزم ذلك أن يطلق. ولا يجوز أن يفرق بين المسلم وبين امرأته بلفظ لم يوضع للطلاق، ولا نواه، وتلزمه كفارة يمين لشدة اليمين، إذ ليست كالحلف بالمخلوق التي لا تنعقد، ولا هي من لغو اليمين، فهي يمين منعقدة، وفيها كفارة يمين؛ وبه أفتى ابن عباس. وفي قوله: أنت علي حرام، أو أنت علي حرام كالميتة والدم ولحم الخنزير، مذاهب: أحدها: لغو وباطل لا يترتب عليه شيء، وهو إحدى الروايتين عن ابن عباس، وبه قال مسروق والشعبي، وأبو سلمة وعطاء وداود، وجميع أهل الظاهر، وأكثر أصحاب الحديث. الثاني: أنها ثلاث تطليقات، وهو قول علي بن أبي طالب، وزيد بن ثابت، وابن عمر، والحسن ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى. الثالث: أنها حرام عليه، ولم يذكر أهل هذا القول طلاقاً. الرابع: الوقف فيها، صح ذلك عن علي، وهو قول الشعبي. الخامس: إن نوى به الطلاق فهو طلاق، وإلا فيمين - إلى أن قال: التاسع: أن فيه كفارة الظهار، صح ذلك عن ابن عباس أيضاً، وأبي قلابة وسعيد بن جبير، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 314 ووهب بن منبه؛ قال: وهذا أقيس الأقوال وأفقهها - إلى أن قال: الثالث عشر: أنه يمين يكفره ما يكفر اليمين على كل حال، صح ذلك عن أبي بكر الصديق، وعمر، وابن عباس وعائشة وزيد بن ثابت، وابن مسعود، وخلق سواهم؛ وحجة أهل هذا القول: ظاهر القرآن، فإن الله سبحانه وتعالى فرض تحلة الأيمان عقب تحريم الحلال، فلا بد أن يتناوله يقيناً، فلا يجوز جعل تحلة الأيمان لغير المذكور، ويخرج المذكور عن حكم التحلة التي قصد ذكرها لأجله. وفي المسألة مذهب آخر وراء هذا كله، وهو: أنه إن أوقع التحريم كان ظهاراً ولو نوى به الطلاق، وإن حلف به كان يميناً مكفرة؛ وهذا اختيار شيخ الإسلام، وعليه يدل النص والقياس، فإنه إذا أوقعه كان قد أتى منكراً من القول وزوراً، وكان أولى بكفارة الظهار ممن شبه امرأته بالمحرمة، وإن حلف كان يمينا من الأيمان، كما لو حلف بالتزام الحج والإعتاق والصدقة، وهذا محض القياس والفقه. ألا ترى أنه إذا قال: لله علي أن أعتق أو أحج أو أصوم، لزمه; ولو قال: إن كلمت فلاناً فلله علي ذلك، على وجه اليمين، فهو يمين، وكذلك لو قال: هو يهودي أو نصراني، كفر بذلك، ولو قال: إن فعلت كذا فهو يهودي أو الجزء: 7 ¦ الصفحة: 315 نصراني، كان يميناً. وطرد هذا أيضاً إذا قال: أنت طالق، كان طلاقاً، ولو قال: إن فعلت كذا فأنت طالق، كان يميناً. فهذه هي الأصول الصحيحة المطردة، المأخوذة من الكتاب والسنة والميزان. انتهى كلامه في هذه المسألة. وقال في الإنصاف: لو قال: علي الحرام، أو الحرام يلزمني، فهو لغو لا شيء فيه مع الإطلاق، وفيه مع قرينة أو نية وجهان، وأطلقهما في المغني والشرح والفروع. قلت: الصواب أنه مع النية والقرينة، كقوله: أنت علي حرام، ثم وجدت ابن رزين قدمه، وقال في الفروع: ويتوجه الوجهان إن نوى به طلاقاً، وأن العرف قرينة. قلت: الصواب أنه مع النية أو القرينة، كقوله: أنت علي حرام. انتهى. وقال في المغني: فصل: واختلف أصحابنا في الحلف بالطلاق: فقال القاضي في الجامع، وأبو الخطاب: هو تعليقه على شرط، أي شرط كان، إلا قوله: إذا شئت فأنت طالق، ونحوه، فإنه تمليك، وإذا حضت فأنت طالق، فإنه طلاق بدعة، وإذا طهرت فأنت طالق، ونحوه، فإنه طلاق سنة؛ وهذا قول أبي حنيفة، لأن ذلك يسمى حلفاً عرفاً فيتعلق الحكم به، كما لو قال: إن دخلت الدار فأنت طالق، ولأن في الشرط معنى القسم، من حيث كونه جملة غير مستقلة، دون الجواب، فأشبه قوله: والله وبالله وتالله. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 316 وقال القاضي في المجرد: هو تعليقه على شرط يقصد به الحث على الفعل أو المنع، كقوله: إن دخلت الدار فأنت طالق، وإن لم تدخلي فأنت طالق، أو على تصديق خبره، مثل قوله: أنت طالق، قدم زيد أو لم يقدم. فأما التعليق على غير ذلك، نحو قوله: أنت طالق إن طلعت الشمس، أو قدم الحاج، أو إن لم يقدم السلطان، فهو شرط محض ليس بحلف، لأن حقيقة الحلف القسم، وإنما يسمى تعليق الطلاق على شرط حلفاً تجوزاً، لمشاركته الحلف في المعنى المشهور، وهو الحث أو المنع، أو تأكيد الخبر، نحو قوله: والله لأفعلن، أو لا أفعل، أو لقد فعلت; وما لم يوجد فيه هذا المعنى لا يصح تسميته حلفاً، وهذا مذهب الشافعي. فإذا قال لزوجته: إذا حلفت بطلاقك فأنت طالق، ثم قال: إذا طلعت الشمس فأنت طالق، لم تطلق في الحال على القول الثاني، لأنه ليس بحلف، وتطلق على الأول لأنه حلف. وإن قال: كلما كلمت أباك فأنت طالق، طلقت على القولين جميعاً، لأنه علق طلاقها على شرط يمكن فعله وتركه، فكان حلفاً، كما لو قال: إن دخلت الدار فأنت طالق. انتهى كلام صاحب المغني. قال في الاختيارات: ومن علق الطلاق على شرط، أو التزامه، لا يقصد بذلك إلا الحض والمنع، فإنه يجزئه الجزء: 7 ¦ الصفحة: 317 فيه كفارة يمين إن حنث. وإن أراد الجزاء بتعليقه طلقت، كره الشرط أو لا؛ وكذا الحلف بعتق وظهار وتحريم، وعليه يدل كلام أحمد في نذر اللجاج والغضب. انتهى. والله أعلم. وسئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن: عمن حرم زوجته ... إلخ؟ فأجاب: تحريم الزوجة ظهار ولو نوى به طلاقاً أو يميناً، نص عليه إمامنا، رحمه الله، في رواية الجماعة؛ وهو المذهب، ونقل عنه ما يدل على أنه يمين، وفاقاً للثلاثة; وجزم شيخ الإسلام ابن تيمية في الاختيارات، والفتاوى المصرية، في باب الظهار بالأول، لكن قال ابن القيم - في الإعلام -: إنه إن أوقع التحريم كان ظهاراً لو نوى به الطلاق، وإن حلف به كان يميناً مكفرة؛ وهذا اختيار شيخ الإسلام، وعليه يدل النص والقياس، فإنه إذا أوقعه كان قد أتى منكراً من القول وزوراً، وكان أولى بكفارة الظهار ممن شبه امرأته بالمحرم، وإذا حلف به كان يميناً من الأيمان، كما لو التزم الإعتاق والحج، وهذا محض القياس والفقه. انتهى. قلت: قوله وإذا حلف كان يميناً ... إلخ، بناء على ما ذهب إليه، من أن المعلق للطلاق على شرط، يقصد بذلك الحض أو المنع أو الالتزام، فإنه يجزئه كفارة يمين إن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 318 حنث، وإن أراد الإيقاع عند وجود المعلق عليه طلقت، وصرح به الشيخ في باب تعليق الطلاق بالشروط. قال: وكذا الحلف بعتق وظهار وتحريم. وأجاب الشيخ عبد الله أبا بطين: وأما تحريم الرجل زوجته، ففيه خلاف مشهور، وأقوال العلماء فيه كثيرة: قيل: هو طلاق ثلاث، وقيل: طلقة بائنة، وقيل: يمين فيه كفارة، وقيل: ظهار فيه كفارة الظهار؛ وهذا القول هو المشهور عند الحنابلة. وأما تحريم الإنسان أمته، أو الطعام، أو الشراب، أو اللباس ونحو ذلك، ففيه كفارة يمين. وأجاب أيضاً: وأما تحريم الرجل امرأته، فمعلوم لديكم ما في المسألة من الخلاف الكثير، وأن المشهور في مذهب أحمد أنه ظهار مطلقاً، وعند مالك طلاق ثلاث، وهو رواية عن أحمد; وعن أحمد: أنه يمين، وهو قول أبي حنيفة. والفتيا في هذه الأمور صعب، لاختلاف الصحابة في ذلك ومن بعدهم، والله أعلم. وسئل الشيخ محمد بن إبراهيم، رحمه الله: عمن ظاهر من امرأته بالثلاث؟ فأجاب: الذي قال: امرأتي علي كأمي بالثلاث، فالذي أرى: أن قوله: بالثلاث، لا يفيد شيئاً، أعني: ما يلزمه طلاق بذلك، وإنما هو مظاهر، فإن لم يجد ما يعتق الجزء: 7 ¦ الصفحة: 319 لفقره، لزمه صيام شهرين متتابعين. وكونه جامع قبل التكفير، فإنه يأثم بذلك، ولا يلزمه إلا الكفارة الواجبة، فإذا أخبر بما يجب عليه، فهو أمانة عنده، والله أعلم. وسئل أيضاً: عمن قال: مثل أمي ما أذوق لك طعاماً، أو ذبيحة؟ فأجاب: أما من قال: مثل أمي ما أذوق لك طعاماً، أو ذبيحة، ومراده: تشبيه زوجته بأمه، فإن هذا حلف بالظهار، فإن لم يأكل فلا حنث، وإن أكل حنث، ويلزمه حكم الظهار عند الأصحاب. وعند الشيخ تقي الدين، وابن القيم: أن الحالف بالظهار، لا يلزمه إلا كفارة يمين، وهذا هو الذي نفتي به. وسئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: عمن قال: علي الطلاق لأفعلن كذا، ثم حنث؟ فأجاب: هذه المسألة، الخلاف فيها مشهور بين السلف والخلف، وفيها روايتان عن أحمد: إحداهما: تطلق ثلاثاً، صححه في التصحيح; قال في الروضة: هو قول جمهور أصحابنا، لأن الألف واللام للاستغراق، فتقتضي استغراق الكل وهو ثلاث. والرواية الثانية: لا تطلق إلا واحدة، وهي المذهب، لأنه يحتمل أن تعود الألف واللام إلى معهود، يريد الطلاق الذي أوقعته؛ قال الموفق: والأشبه في هذا جميعاً، أن يكون واحدة في حال الجزء: 7 ¦ الصفحة: 320 الإطلاق، لأن أهل العرف لا يعتقدونه ثلاثاً، ولهذا ينكر أحدهم أن يكون طلق ثلاثاً، ولا يعتقد أنه طلق ثلاثاً. انتهى. وأما الروايتان عن أحمد، إذا قال ذلك وأطلق ولم ينو شيئاً، فأما إن نوى ثلاثاً، فإنه يقع به ثلاث طلقات. وأما الشيخ تقي الدين، فإنه فرق بين أن يقصد الحالف إيقاع الطلاق أو لا يقصده، وإن كان يكره وقوع الجزاء، ولكن علقه على شرط ليحث نفسه على فعل شيء أو تركه، فهذا يكون عنده من باب الأيمان، وتكون كفارة يمين. وإن كان يقصد إيقاع الطلاق، ولا يكره وقوع الجزاء، فهذا إذا وقع عنده الجزاء، وقع عنده الطلاق. وأجاب أيضاً: وأما من قال: علي الطلاق أو الحرام لا أفعلن كذا، وفعله، فالذي نعمل عليه: أنه ليس عليه إلا كفارة يمين، إذا فعل المحلوف عليه. وأجاب أيضاً: إذا قال: علي الطلاق بالثلاث إن لم أفعل كذا، أو لا أفعل كذا، فإذا لم ينو به الطلاق بل مراده الحث أو المنع، فهو يمين مكفرة، يخير بين عتق رقبة، أو إطعام عشرة مساكين لكل مسكين مد بر أو مدي شعير أو مدي تمر، فإن عجز عن ذلك صام ثلاثة أيام. وأجاب الشيخ حمد بن ناصر بن معمر: وأما إذا قال الرجل لامرأته: علي الطلاق بالثلاث ما أضاجعك سنة، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 321 فوطئها وضاجعها قبل ذلك، فهذه المسألة اختلف العلماء فيها، فذهب الجمهور: إلى أنه يقع به الطلاق، وتبين منه امرأته. وذهب الشيخ تقي الدين، وطائفة من التابعين، إلى أنه إن كان قصده بالحلف بالطلاق منع نفسه عن مضاجعتها، ولم يقصد إيقاع الطلاق، بل قصد منع نفسه فقط، لم يقع به الطلاق، ويكون ذلك بمنزلة اليمين، فيكفر كفارة يمين. وإن كان قصده وقوع الطلاق، عند فعل ما حلف عليه، وقع؛ قال الشيخ: بلا خلاف، لأنه قصد الإيقاع فوقع. وأجاب الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ محمد، رحمهم الله تعالى: وقول السائل: استعمال الناس اليوم الحلف بالطلاق، عند إلجاء أحدهم إلى الغضب، كقولهم: علي الطلاق لأفعلن ... إلى آخر ما نقل السائل، نقل شيخنا: الشيخ الهمام العلامة، رحمه الله، عن الإمام أحمد، رحمه الله، روايتين، في قول القائل: علي الطلاق: إحداهما: تطلق ثلاثاً ... إلخ. أقول: هذه الرواية هي المذهب، إذا نوى الثلاث. وإن لم ينو ثلاثاً فواحدة، عملاً بالعرف، وكذا قوله: الطلاق لازم لي، أو علي صريحاً، أو معلقاً، أو منجزاً، أو محلوفاً به؛ هذا شرح ما نقله عن شيخنا، وهو المعتمد. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 322 وأما ما فرق به شيخ الإسلام، فقد ذكرته للسائل في جوابنا الذي صدر قبل هذا في مسألة التحريم، وأشرت إلى قوة ما ذهب إليه شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم، وحاصله: أنهما اختارا أنه يقع بوجود شرطه، إذا أراد الجزاء بتعليقه، إلا إن أراد الحض أو المنع. وقولهم: إن أراد الجزاء، أي: الطلاق، احترازاً من أن يريد حضاً، أو منعاً، وهو يكره وقوعه عند شرطه، فإنه- والحالة هذه- عندها يمين مكفرة. انتهى. والذي عليه مشايخنا من أهل الفتوى: إنما يعتمدون كلام الجمهور في هذه المسألة، فيفتون بإيقاع الطلاق، إذا وجد المعلق عليه، وهو الشرط، كما عليه الأئمة وجمهور العلماء. وأجاب الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن: إذا قال الرجل: علي الطلاق بالثلاث إن لم أفعل كذا، أو لا أفعل كذا، ففعل، فإذا لم ينو به الطلاق، بل مراده الحث أو المنع، فهو يمين مكفرة؛ يخير بين عتق رقبة، أو كسوة عشرة مساكين، أو إطعام عشرة مساكين، لكل مسكين مدي شعير، أو مدي تمر أو مد بر، فإن عجز عن ذلك صام ثلاثة أيام. [ألفاظ الطلاق] سئل الشيخ حسين بن الشيخ محمد: إذا طلق امرأته عدد خوص النخل؟ فأجاب: إذا طلق امرأته عدد خوص النخل، فلا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 323 سبيل له عليها. وسئل الشيخ سعيد بن حجي: عن رجل تشاجر هو وزوجته عند الأمير، فقالت للأمير: أنصفني وإلا طلقني من إمارتك، فحرص زوجها، وقال: أنت طالق عدد زقان الجراد، فقالت: هبت ريحك، فقال لها: من إمارة فلان، ويحلف أن كلامه مجاوبة عن الأمير، حيث قالت: طلقني من إمارتك، فقال: أنت طالق عدد زقان الجراد من إمارته، ومعه على ذلك شهود؟ فأجاب: قال ابن رجب في شرح الأربعين: وقد روي "عن عمر أنه رفع إليه رجل، قالت امرأته: شبهني، قال: كأنك ظبية، كأنك حمامة، فقالت: لا أرضى حتى تقول أنت خلية، أنت طالق، فقال ذلك، فقال عمر: خذ بيدها فهي امرأتك"، خرجه أبو عبيد، وقال: أراد الناقة تكون معقولة، ثم تطلق من عقالها فيخلى عنها، فهي خلية من عقالها، وهي طالق لأنها قد طلقت منه، فأراد الرجل ذلك، فأسقط عنه عمر الطلاق بنيته. قال: وهذا أصل لكل من تكلم بشيء، يشبه لفظ الطلاق والعتاق، وهو ينوي غيره، أن القول فيه قوله، فيما بينه وبين الله (وفي الحكم على تأويل عمر رضي الله عنه. ويروى عن الأشيمط السدوسي، قال: "خطبت امرأة، فقالوا: لا نزوجك حتى تطلق امرأتك، فقلت: إني طلقتها الجزء: 7 ¦ الصفحة: 324 ثلاثاً، فزوجوني، ثم نظروا فإذا امرأتي عندي، فقالوا: أليس قد طلقتها ثلاثاً؟ قال: كان عندي فلانة فطلقتها، وفلانة فطلقتها، وأما هذه فلم أطلقها، فأتيت شقيقاً أبا ثور، وهو يريد الخروج إلى عثمان وافداً، فقلت: سل أمير المؤمنين عن هذه، فسأله، فقال: نيته"، خرجه أبو عبيد في كتاب الطلاق، وحكى إجماع العلماء على مثل ذلك. وقال إسحاق بن منصور: قلت لأحمد: حديث الأشميط تعرفه؟ قال: نعم، السدوسي إنما جعل نيته بذلك. انتهى كلام ابن رجب. وفي حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، عن النبي صلى الله عليه وسلم: " أن المرأة إذا أقامت شاهداً واحداً على الطلاق، فإن حلف الزوج أنه لم يطلق لم يقض عليه. وإن لم يحلف، حلفت المرأة ويقضى عليه ". انتهى من إعلام الموقعين لابن القيم. فهذا كلام الخليفتين الراشدين، عمر وعثمان، رضي الله عنهما، أنهما ردا ما احتمل معنيين إلى نية المطلق، ولأن الأصل مع الزوج وهو الزوجية، وفي حديث عمرو بن شعيب: أن الزوج يستحلف أنه لم يطلق. إذا تقرر هذا، فإن كان الزوج الذي قال لامرأته حين قالت للأمير: طلقني من إمارتك، قال: أنت طالق عدد زقان الجراد من إمارة فلان، لم يقع عليها طلاق لأنه وصله بما يصرفه عن ظاهره، فإن لم يكن وصل الطلاق الجزء: 7 ¦ الصفحة: 325 بقوله من إمارة فلان، حلف الزوج بالله الذي لا إله إلا هو، ما أردت طلاق زوجتي، وإنما أردت طلاقها من إمارة فلان، فإن حلف فهي زوجته؛ وهذا الذي ذكرنا، قد صرح به بعض العلماء في كتبهم، لكن إن كانت الزوجة قالت له: طلقني، وهو في شدة غضب، فقال: أنت طالق عدد زقان الجراد، ولم يصله بقوله من إمارة فلان، فلا يقربها إلا بمراجعة العلماء، والله أعلم. سئل الشيخ حمد بن ناصر بن معمر: إذا قال: أمرك بيدك؟ فأجاب: المشهور أن القضاء ما قضت، فإن طلقت نفسها ثلاثاً وقع، وإن نوى أقل منها؛ روي ذلك عن عثمان وابن عمر وابن عباس، وبه قال سعيد بن المسيب، وعطاء الزهري; وروي عن عمر وابن مسعود: أنها طلقة واحدة، وبه قال عطاء ومجاهد، والقاسم وربيعة، ومالك والشافعي; قال الشافعي: القول قوله في نيته; وعن أحمد ما يدل على ذلك، وأنه إذا نوى واحدة فهي واحدة. وسئل الشيخ عبد الله أبا بطين: ما الفرق بين: طلقي نفسك، وأمرك بيدك؟ فأجاب: أما قوله: طلقي نفسك، ونحو هذا اللفظ، فهذا وكالة صريحة، كما لو قاله لغير زوجته; وقوله: أمرك بيدك، كناية في التوكيل في الطلاق، يحتاج إلى نية الجزء: 7 ¦ الصفحة: 326 الزوج، أن مراده تفويض أمرها إليها. والفرق من جهة العربية، أن قوله: أمرك بيدك، يقتضي توكيلها في جميع أمرها، لأن قوله: أمرك، اسم جنس مضاف، فيتناول الطلقات الثلاث، أشبه ما لو قال: طلقي نفسك ما شئت. وكذا لو قال لأجنبي: أمر زوجتي بيدك، ملك تطليقها ثلاثاً. تفويض الطلاق للزوجة قال في الشرح: وإن قال لامرأته: طلقي نفسك، فلها ذلك كالوكيل، فإن نوى عدداً فهو على ما نوى، وإن أطلق من غير نية لم تملك إلا واحدة، لأن الأمر المطلق يتناول أقل ما يقع عليه الاسم؛ وكذلك الحكم لو وكل أجنبياً، فقال: طلق زوجتي، فالحكم على ما ذكرنا. قال أحمد فيمن قال لامرأته: طلقي نفسك، ونوى ثلاثاً، فطلقت نفسها ثلاثاً: فهي ثلاث; وإن كان نوى واحدة لم تطلق إلا واحدة، لأن الطلاق يكون واحدة، ويكون ثلاثاً، فأيهما نواه، فقد نوى بلفظه ما يحتمل، وإن لم ينو تناول اليقين، وهو واحدة. ثم قال الشارح: ولا يطلق الوكيل أكثر من واحدة، إلا أن يجعل ذلك إليه، لأن الأمر المطلق يتناول أقل ما يقع عليه الاسم، إلا أن يجعل إليه أكثر من واحدة، بلفظه، أو نيته، نص عليه، والقول قوله في نيته، لأنه أعلم بها.. ثم قال الشارح: إذا قال لامرأته: أمرك بيدك، كان الجزء: 7 ¦ الصفحة: 327 لها أن تطلق ثلاثاً، وإن نوى أقل منها؛ هذا ظاهر المذهب، لأنها من الكنايات الظاهرة، روي ذلك عن عثمان وابن عمر وابن عباس، وبه قال سعيد بن المسيب والزهري، قالوا: إذا طلقت ثلاثاً، فقال: لم أجعل لها إلا واحدة، لم يلتفت إلى قوله، والقضاء ما قضت. وعن عمر وابن مسعود: أنها طلقة واحدة، وبه قال عطاء ومجاهد والقاسم، ومالك والأوزاعي. وقال الشافعي: إن نوى ثلاثاً، فلها أن تطلق ثلاثاً، وإن نوى غير ذلك لم تطلق ثلاثاً، والقول قوله في نيته. ثم احتج الشارح للقول الأول، بما ذكرناه أولاً، من أن قوله: أمرك، اسم جنس مضاف، فيتناول الطلقات الثلاث، أشبه ما لو قال: طلقي نفسك ما شئت. انتهى. فإن ادعى الزوج، أنه لم يرد بقوله لزوجته: أمرك بيدك، تفويض الطلاق إليها، فالقول قوله، ما لم يقع ذلك جواباً لسؤالها الطلاق ونحوه. وأما قول العامة: طلقتك على نفسك، فالذي يظهر: أن هذا كناية في الوكالة، تملك به واحدة، وتعتبر نيته أيضاً، أو يكون ذلك جواباً لسؤالها. وأجاب أيضاً: إذا قال الزوج لامرأته: أمرك بيدك، فإنها تملك ثلاثاً، ولو قال: طلقي نفسك، لم تملك إلا واحدة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 328 الطلاق لحرمان الزوجة من الميراث سئل الشيخ حسين وعبد الله: ابنا الشيح محمد، رحمهم الله: إذا قال الرجل لزوجته: أنت طالق قبل موتي بشهر، أو بثلاثة أيام، أو قال: قبل موتي بثلاثة أيام أنت طالق، وطلب هذا الزوج أن يحرم زوجته من الميراث الشرعي، فهل يقع في الحال؟ أم يجوز له أن يطأها إلى أن يموت؟ فأجابا: الذي نص عليه علماؤنا، رحمة الله عليهم، أنه يجب على الزوج اعتزالها من حين ذلك، لأن كل شهر، أو يوم، يحتمل أن يموت فيه، فتكون قد طلقت قبله في الوقت الذي وقَّته، فإذا وطئها والحالة هذه، احتمل أن يموت، فيكون قد وطئها في حال بينونتها. وأما إذا عرف أن قصده بكلامه ذلك، حرمانها من الميراث، فإنها ترثه ولو خرجت من العدة، كما هو مذهب الإمام أحمد وغيره من العلماء؛ وهو الذي تدل عليه قصة عمر، مع غيلان بن سلمة الثقفي، لما طلق زوجاته، وقسم الميراث بين أولاده. وهذه المرأة في حال حياة زوجها، لها حكم الزوجات من النفقة والكسوة والسكنى، لا في الوطء والنظر، فإن ذلك لا يجوز. هذا الذي دل عليه كلام الحنابلة، والله أعلم 1.   1 وتقدم بعض من مضمونها في صفحة 149. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 329 [تعليق الطلاق على الماضي والمستقبل] سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عن تعليق الطلاق على الماضي والمستقبل ... إلخ؟ فأجاب: التعليق على الماضي، معلوم من الكتاب والسنة، ونحو هذا التعليق يسمى حلفاً، لأن التعليق الذي يقصد به الحث على شيء، أو المنع منه، أو يراد به تصديق خبر، أو تكذيبه، يسمى حلفاً; وأما التعليق الذي لا يقصد به شيء من ذلك، فلا يسمى حلفاً على الصحيح من المذهب. فلو قال: إن كنت فعلت كذا، فزوجتي طالق، وكان قد فعله، حنث. وكذا لو قال: إن لم أكن فعلت كذا، فزوجتي طالق، أو فعبدي حر، وكان لم يفعله، حنث إن لم يتأول، حيث جاز التأويل، كما ذكروه في باب التأويل في الحلف. وما ذكرتموه من كلام منصور: بأن المعلق عليه لا يكون ماضياً، فلعل مراده إذا تجرد الشرط عن لفظ كان، كما قال القاضي فيما روي عن أحمد، في رجل قال لامرأته: إن وهبت كذا فأنت طالق، وإذا هي قد وهبته، قال الإمام: أخاف أن يكون قد حنث؛ قال القاضي: هذا محمول على أنه قال: إن كنت قد وهبتيه، وإلا فلا يحنث حتى تبتدي هبته. انتهى. فإذا اتصلت كان بأدوات الشرط، جاز كون المعلق عليه ماضياً أو حالاً. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 330 وقال المصنف: وقد يكون المعلق عليه موجوداً في الحال، وقد يكون مستقبلاً، ولا يكون ماضياً، ولذلك تقلب أدوات الشرط الماضي إلى الاستقبال، فدل قوله: وكذلك ... إلخ، على أن مراده بقوله: ولا يكون ماضياً إذا تجرد من كان، لأن الماضي إذا اقترنت به كان، لا يكون مستقبلاً، بل يبقى على مضيه، وهي إنما تقلب الماضي إلى الاستقبال إذا لم تقترن بكان، أو يكون أو مضارعاً، فدل قوله: ولذلك تقلب أدوات الشرط 1.   1 آخر ما وجد من الجواب. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 331 باب تعليق الطلاق بالشروط سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: عن تعليق الطلاق ... إلخ؟ فأجاب: أما تعليق الطلاق، فالذي عليه أكثر أهل العلم، أنه إذا علقه على شرط ووجد الشرط وقع; وفرق الشيخ تقي الدين وغيره من أهل العلم في ذلك، فقالوا: إن كان قصده وقوع الطلاق، كما يقول: إن زنيت فأنت طالق طلقت، وإن كان قصده الحض، أو المنع للمرأة، أو لنفسه عن فعل الشرط، وليس قصده وقوع الطلاق، لم تطلق المرأة بذلك، ويكون يميناً مكفرة، نظراً إلى كونه إنما قصد بذلك الحلف الحض والمنع، لا وقوع الطلاق؛ وهذا هو الذي يختاره شيخنا، ويفتي به. وأجاب أيضاً: وأما من طلق وعلق الطلاق، ولم يأت بشيء من حروف الشرط، كـ "إذا" و "متى" و "إن"، كقول القائل: إلى جاني حقي فأنت طالق، فمثل هذا ينوى به الشرط والجزاء، على لغة أهل بلده، ولا يشترط أن يأتي باللغة العربية؛ هذا الذي نفهم من كلام أهل العلم، وأما الدليل فقد يخفى علينا، لكن هذا هو الذي نفتي به ونعمل. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 332 وسئل: إذا علق الرجل طلاق امرأته على شرط، وأراد إبطاله قبل وجود الشرط برجعتها، أو قال: أبطلت ما علقت؟ فأجاب: قال في الإنصاف: إذا علق الطلاق على شرط لزم، وليس له إبطاله، هذا المذهب، وعليه الأصحاب قاطبة، وقطعوا به؛ وذكر في الانتصار والواضح رواية: يجوز فسخ العتق المعلق على شرط، قال في الفروع: ويتوجه ذلك في طلاقه، ذكره في باب التدبير. وقال الشيخ تقي الدين أيضاً: لو قال: إن أعطيتني، أو إذا أعطيتيني، أو متى أعطيتيني ألفاً فأنت طالق، أن الشرط ليس بلازم من جهته، كالكتابة عنده؛ قال في الفروع: ووافق الشيخ تقي الدين على شرط محض، كإن قام زيد فأنت طالق، قال الشيخ تقي الدين: التعليق الذي يقصد به إيقاع الجزاء، إن كان معاوضة فهو معاوضة، فإن كانت لازمة فلازم، وإلا فلا يلزم الخلع قبل القول ولا الكتابة، وقول من قال: التعليق لازم، دعوى مجردة. انتهى. فتحرر: أن التعليق على شرط قسمان: أحدهما: تعليق محض بلا شرط معاوضة، كقوله: إن قدم زيد فأنت طالق، وإن دخلت الدار فأنت طالق، وإن خرجت فأنت الجزء: 7 ¦ الصفحة: 333 طالق، فهذا ليس له إبطاله على قول الجماعة؛ ووافقهم الشيخ تقي الدين على ذلك، وهو الصواب. القسم الثاني: تعليق بشرط معاوضة، كقوله: إن أعطيتيني ألفاً فأنت طالق، أو متى أعطيتيني، أو إذا ... فهذا تعليق بشرط معاوضة، وليس بلازم من جهة الزوج عند الشيخ تقي الدين. وأما قولك: هل له إبطال الشرط برجعتها؟ فمعلوم: أن الطلاق لا يقع حتى يوجد الشرط، فكيف يراجعها؟ وأما قولك: وهل الطلقتان والثلاث في ذلك سواء؟ فهما سواء ولا فرق بينهما في ذلك بلا نزاع نعلمه. وأجاب الشيخ حمد بن ناصر بن معمر: وأما من قال لزوجته: إذا جاءني حقي فأنت طالق، وإن نزلت على أهلك فأنت طالق، فأقامت مدة لم تعطه، ولم تنزل على أهلها، فإذا علق طلاقها على ذلك، فالشرط لازم، والتعليق ثابت، ولو اتفقا على إبطاله، وفي الحديث: " ثلاث هزلهن جد وجدهن جد ... " 1 الحديث. وأجاب أيضاً: وأما إذا قال رجل لامرأته: إن فعلت كذا فأنت طالق، ففعلته ناسية، هل يقع الطلاق مع النسيان، والحالة هذه، أم لا؟ فهذه المسألة فيها خلاف بين العلماء، على ثلاثة أقوال: القول الأول: أنه يحنث في الطلاق والعتاق إذا فعله ناسياً، ولا يحنث في سائر الأيمان   1الترمذي: الطلاق (1184) , وأبو داود: الطلاق (2194) , وابن ماجة: الطلاق (2039) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 334 مع النسيان، وهذا مذهب متأخري الحنابلة. والقول الثاني: أنه يحنث في الكل إذا فعله ناسياً، وهو مذهب مالك ورواية عن أحمد. والقول الثالث: أنه لا يحنث مع النسيان ولو في الطلاق والعتاق، وهذا ظاهر مذهب الشافعي، واختاره صاحب الفروع، وقال هذا أظهر؛ وقال في الإنصاف: قلت: وهو الصواب، وهو اختيار الشيخ تقي الدين، لقوله تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} [سورة الأحزاب آية: 5] . وسئل: عمن قال لواحدة من زوجتيه: أترضين بكل ما أفعل بك، وإلا الحقي بأهلك، فقالت: ما أرضى إلا بالمواساة؟ فأجاب: قوله لها كناية في الطلاق، إن أراد بها الطلاق طلقت، لأنه في معنى التعليق على رضاها، ولم يوجد. وأجاب الشيخ حسن بن حسين بن الشيخ: إذا علق الطلاق على شرط لزم، وليس له إبطاله؛ هذا المذهب، وعليه الأصحاب قاطبة، وقطعوا به، قاله في الإنصاف. وسئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن: إذا قال شخص لزوجته: إن لم تقومي فأنت طالق؟ فأجاب: إذا قامت إبراراً للقسم لم تطلق، وإن لم ينو الجزء: 7 ¦ الصفحة: 335 الفورية فلا تطلق، ولو تراخى القيام، ويدين في نيته. وإذا قال لامرأته: إن كنت تبغضيني فأنت طالق، فالعبرة بما قبلها: إن كانت تبغضه، فقد وجد ما علق الطلاق على وجوده، وتطلق حينئذ، وإن كانت لا تبغضه فلا تطلق، وتصدق لكون ذلك لا يعلم إلا من جهتها، تكلمت بذلك أم لا؛ وحيث وقع الاستفتاء يسألها المفتي عن ذلك، وعليها أن تجيب حينئذ بما تعلم في نفسها. سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: إذا قال الرجل لامرأته: إن خرجت فأنت طالق، وكرره ثلاثاً، ثم خرجت؟ فأجاب: تطلق ثلاثاً ولو لم ينو شيئاً، وإن ادعى إرادة الإفهام بالتكرار قبل منه. وسئل الشيخ إسحاق بن عبد الرحمن بن حسن، رحمهم الله: إذا قال لزوجته: إن خرجت من داري بغير إذني فأنت طالق، ثم أذن لها تخرج ما شاءت، هل تنحل يمينه؟ فأجاب: نعم تنحل يمينه، صرح بذلك في الإقناع، قال: فصل في تعليقه بالإذن، إذا قال: إن خرجت بغير إذني، أو إلا بإذني، أو حتى آذن لك، فأنت طالق، ثم أذن لها فخرجت مرة بإذنه، ومرة بغير إذنه، طلقت، إلا أن ينوي الإذن مرة، أو يقوله بلفظه; فإن أذن لها في الخروج كلما شاءت لم تطلق. فعلى هذا ينظر في حال الحالف الجزء: 7 ¦ الصفحة: 336 بالطلاق، هل أراد الإطلاق أو التقييد؛ هذا على كلام الأصحاب، ولا يخفاك أن هذا من أنواع الحلف بالطلاق، ولا يقع للمراء، فكيف والحال ما ذكرت؟ قال ابن القيم في الإعلام: وقد أفتى علي بن أبي طالب في الحالف بالطلاق: لا شيء عليه، ولم يعرف له مخالف من الصحابة - إلى أن قال - والحالف بالطلاق لم يقصد وقوعه، وإنما منع نفسه أو غيره بالحلف بما لا يريد وقوعه. سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد، رحمهما الله: عن الذي حلف بالطلاق الثلاث، أن لا يفعل كذا وكذا، ثم بدا له فعله، لأن في ترك فعله قطيعة رحم؟ فأجاب: كلام الفقهاء في المسألة: أنه طلاق; والذي يفتي به شيخنا، رحمه الله، وهو مذهب الشيخ تقي الدين، ومن قال بقوله: أن ذلك يمين مكفرة، كأيمان المسلمين، وكفارته كفارة يمين. وسئل: عمن حلف على امرأته لا تدخل بيت فلان، فدخلت ناسية؟ فأجاب: أما المرأة التي حلف عليها زوجها أن لا تدخل بيت فلان، وعلق طلاقها على دخوله، فدخلته ناسية، فهذه المسألة فيها خلاف بين الفقهاء، وفيها ثلاث روايات عن الإمام أحمد؛ والمذهب عند المتأخرين من الجزء: 7 ¦ الصفحة: 337 الحنابلة: أن الطلاق يقع وإن كانت ناسية; وعند الشيخ تقي الدين وغيره من العلماء: أنها لا تطلق، واستدلوا على ذلك بقوله تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} [سورة الأحزاب آية: 5] ، وقوله صلى الله عليه وسلم: " عفي لأمتي الخطأ والنسيان " 1. وأجاب الشيخ حمد بن عبد العزيز: وأما مسألة الحلف بالطلاق الثلاث، فمسألة خلاف، وكلام شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم فيها معروف، ولكن الشيخ محمد، رحمه الله، كثيراً ما يوافق اجتهاده في فتاوى مسائل الخلاف الشيخين، إلا في هذه المسألة، أخذ بقول الجمهور في وقوع الثلاث، سواء أوقعها إنشاء، أو حلفاً بها، أو تعليقاً. ويلزم الأمير أن يكف الرجل عن فتواه بذلك، وأظنه يحسب أن المفتين في نجد ما علموا بما في المسألة من الخلاف، حتى جاء هو; وعمر رضي الله عنه قد علم ذلك، فهو الذي قال: "استعجلوا أمراً كان لهم فيه أناة، فلو أوقعناه عليهم"، فأوقعه عليهم؛ وهو رضي الله عنه خليفة راشد، قد أمرنا باتباعه، وهو أولى بالاتباع من الشوكاني، الذي هو عمدة هذا المفتي. سئل الشيخ عبد الله بن عبد ال) وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ) (الأحزاب: من الآية5) لطيف: عمن طلق على وصول دراهم إلى غريمه، ثم تحاسبا، فصدق الغريم، وادعى النسيان، وهو حال الطلاق يظن صواب نفسه؟   1 ابن ماجة: الطلاق (2045) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 338 فأجاب: مسألة الجاهل والناسي، فيها أقوال للعلماء: فعن أحمد: أنه إذا حلف لا يفعل شيئاً ففعله ناسياً، أو حلف: لا فعلت كذا، ظاناً أنه لم يفعله، حنث في الطلاق والعتاق، ولم يحنث في اليمين المكفرة; وهذه الرواية أخذ بها المتأخرون. والرواية الأخرى: أنه لا يحنث في الطلاق والعتاق، وهذا قول عطاء وعمرو بن دينار، وابن أبي نجيح وإسحاق وابن المنذر، وهو ظاهر مذهب الشافعي، لقول الله تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ) (الأحزاب: من الآية5)) وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) الطلاق: من الآية2) [سورة الأحزاب آية: 5] ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله تجاوز لأمتي عن الخطإ والنسيان، وما استكرهوا عليه " 1.   1 ابن ماجة: الطلاق (2043) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 339 باب الرجعة سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: ما مقدار المدة التي تجوز فيها المراجعة؟ فأجاب: أما مقدار مدة المراجعة، فمتى طلق زوجته ثلاث تطليقات، حرمت عليه حتى تنكح زوجاً غيره، فإن كان لم يطلقها إلا طلقة أو طلقتين، فله رجعتها ما دامت في العدة; والعدة ثلاث حيضات إن كانت تحيض، وإلا بوضع الحمل إن كانت حاملا، أو ثلاثة أشهر إن كانت صغيرة ما تحيض، أو آيسة. وأجاب أيضاً: والرجل إذا طلق زوجته طلقة، ولم تخرج من العدة، جاز له مراجعتها ووطؤها، وأما إذا خرجت من العدة، فلا يجوز له مراجعتها ووطؤها. وإذا طلقها ثلاثاً في مجلس واحد، لم يجز له مراجعتها إلا بعد زوج، وإذا كان دعوى الرجعة بعد العدة لم تقبل، وتتزوج المرأة ولا يلتفت إلى شيء بينه وبين نفسه، والإثم في عنقه وليس له عليها حجة؛ حتى إن بعض العلماء قال: إذا راجع الزوج في العدة بشهود، وكتم الشهود، أدبوا على ذلك. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 340 ومنهم من يمنع الرجعة عليه تأديباً له، لأن ذلك تحيل على تضييع النفقة أو غيرها، قال تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} الطلاق: من الآية2)) مِنْ نِسَائِهِمْ) (المجادلة: من الآية2) } [سورة الطلاق آية: 2] . سئل الشيخ سعيد بن حجي: عمن طلق زوجته رجعية وغاب، ثم استرجعها في غيبته، وأشهد فلم يجد من يخبرها، فلما اعتدت تزوجت وحملت؟ فأجاب: إذا ثبت بشهادة رجلين عدلين أنه ارتجعها في العدة، فهذا النكاح الثاني باطل، لأنها زوجة غيره وترد على زوجها الأول؛ قال في الشرح: هذا هو الصحيح، وهو مذهب أكثر الفقهاء. انتهى. والولد يلحق الزوج، لأنه وطء شبهة، وتعتد منه بوضع الحمل، إلا إن أتت به لدون ستة أشهر من نكاح الثاني، فهو ولد الأول، لأنه لا يمكن أن يكون إلا منه فلحقه، وتعتد من الثاني بثلاثة قروء، كعدة النكاح الصحيح، ولا يقربها الزوج الأول ما دامت في عدة الثاني. حكم الإيلاء سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: إذا آلى من زوجته ... إلخ؟ فأجاب: وأما المولي من زوجته، فإذا فاء قبل مضي المدة فعليه الكفارة، وإن مضت المدة وقف؛ فإن وقتها بوقت معلوم، ومضى الوقت المعلوم لم يحنث. فإن حلف بلا توقيت، وقت له ما ذكر الله أربعة أشهر، فإن فاء فعليه الكفارة أيضاً، وإن طلق فلا كفارة عليه؛ هذا الذي أفهم الآن. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 341 كتاب الظهار سئل الشيخ حسين بن الشيخ محمد: عمن قال لامرأته: أنت علي كظهر أمي؟ فأجاب: الذي يقول: أنت علي مثل ظهر أمي، فعليه كفارة ظهار 1. سئل الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن: إذا قال: أنت علي حرام إلا أن يشاء الله، إن فعلت كذا وكذا؟ فأجاب: هو ظهار، لا يمنع وجوب الكفارة ما ذكر من الاستثناء بغير خلاف؛ وقول بعضهم: إنما فيه كفارة كاليمين بالله، والظهار لا يحنث إن استثنى فيه وقال: إن شاء الله، محله: إذا رجع الاستثناء إلى الفعل أو الترك، لا على نفس اليمين؛ قال ابن مفلح في هذا البحث: وكلامهم يقتضي إن رده، أي يمينه إلى الاستثناء، لم ينفعه لوقوعها، ولتبين مشيئة الله، وبه احتج الموقع في: أنت طالق إن شاء الله; وقال أبو يعلى الصغير، في اليمين بالله، ومشيئة الله. وتحقيق مذهبنا: أنها تقف على إيجاد فعل أو ترك، فالمشيئة معلقة على الفعل، فإذا وجد تبينا أن الله شاءه وإلا فلا، وفي الطلاق المشيئة انطبقت على اللفظ   1 وتقدم في صفحة 211 ذكر المرتدة التي ظاهر منها زوجها. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 342 بحكمه الموضوع، وهو الوقوع. انتهى. وقال شيخ الإسلام: الاستثئاء إذا رجع إلى فعل أو ترك محلوف عليه، إنما يفيد أن الفعل المعلق أو الترك لا يتعين فعله لتعليقه، لأن الجزاء إذا وقع لا كفارة فيه; وقال رحمه الله: الاستثناء إنما يقع لما علق به الفعل، فإن الأحكام التي هي الطلاق والعتاق ونحوها، لا تعلق على مشيئة الله بعد وجود أسبابها، فإنها واجبه بوجود أسبابها، فإذا انعقدت أسبابها فقد شاء الله تعالى، وإنما يعلق على المشيئة الحوادث التي قد يشاؤها، وقد لا يشاؤها. وقال في هذا المبحث أيضاً: المشيئة تعود عند الإطلاق إلى الفعل المحلوف عليه، والمعنى: إني حالف على هذا الفعل إن شاء الله فعله، فإذا لم يفعله لم يكن قد شاءه، فلا يكون ملتزماً له، وإلا فلو نوى عوده في الحلف، بأن يقصد: إني حالف إن شاء الله من أن أكون حالفاً، كان معنى هذا الاستثناء في الإنشاءات، كالطلاق والعتاق، وعلى مذهب الجمهور لا ينفعه. وأيضاً، فإنها بفعل المحلوف عليه يتبين إن شاء الله، فوقع ما علق عليه. ومن فقه هذا، عرف معنى كلام الفقهاء، وما المراد بالاستثناء المانع من الحنث; والواجب على المفتي والقاضي: أن يتبصر ويتعقل معاني الألفاظ والتراكيب، قبل أن تزل قدم بعد ثبوتها، وما أحسن ما الجزء: 7 ¦ الصفحة: 343 قيل: والعلم ليس بنافع أربابه ... ما لم يفد نظرا وحسن تَبَصُّرِ وأيضاً، فإن المظاهر في مثل هذه الصورة، لا يقبل منه دعوى الاستثثاء لو كان راجعاً إلى الفعل إلا ببينة عادلة، لأن الظهار ثبت بشهادة الغير، فلا بد من شهادة على الاستثناء؛ ثم لو سلمنا أنه ثبت بإقراره أو من جهته، فدعواه الاستثناء لا تقبل أيضاً، لأنها له وإقراره بالظهار عليه، وفي الحديث: " لو يعطى الناس بدعواهم " 1 الحديث. وقال شيخ الإسلام: والتحقيق أن يقال: إن المخبر إن أخبر بما على نفسه فهو مقر، وإن أخبر بما على غيره لنفسه فهو مدع. سئل الشيخ سعيد بن حجي: عن المظاهر إذا لم يملك إلا ثمن الرقبة، هل تلزمه؟ فأجاب: قال في الكافي بعد ذكر الآية والحديث: فمن ملك رقبة أو مالاً يشتري به رقبة، فاضلاً عن حاجته لنفقته وكسوته ومسكنه، وما لا بد له منه من مؤنة عياله ونحوه، لزمه العتق، لأنه واجد؛ وإن كانت له رقبة لا يستغني عن خدمتها لم يلزمه عتقها، لأن ما استغرقته حاجته كالمعدوم، انتهى. وقال غيره نحو ذلك، حتى قالوا: إن كان عليه دين ولو لم يكن مطالباً به، أو له دابة يحتاج إلى ركوبها، أو كان له رقيق يتقوت بخراجهم، أو له عقار يحتاج إلى غلته، أو عرض للتجارة ولا يستغنى عن ربحه في مؤنته ومؤنة عياله   1 البخاري: تفسير القرآن (4552) , ومسلم: الأقضية (1711) , والنسائي: آداب القضاة (5425) , وابن ماجة: الأحكام (2321) , وأحمد (1/363) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 344 وحوائجه الأصلية، لم يلزمه العتق، يعني: وينتقل إلى الصوم. وقال في الإرشاد للشافعية نحو ذلك. وسئل: إذا انتقل المظاهر إلى صيام شهرين، هل يشترط أن لا يكون فيهما يوم عيد؟ وهل من أفطر فيهما شيئاً من الأيام يكفيه قضاء ذلك اليوم .... إلخ؟ فأجاب: قال في الكافي: ومن لم يجد رقبة وقدر على الصيام، لزمه صيام شهرين متتابعين؛ فإن شرع في أول شهر، أجزأه صيام شهرين بالأهلة، تامين كانا أو ناقصين. وإن دخل في أثناء شهر، صام شهراً بالهلال، وأتم الشهر الذي دخل فيه بالعدد ثلاثين يوماً؛ فإن أفطر يوما لغير عذر، لزمه استئناف الشهرين، لأنه أمكنه التتابع. وإن حاضت المرأة أو نفست، أو أفطرت لمرض مخوف، أو جنون أو إغماء، لم ينقطع التتابع، لأنها لا صنع لها في الفطر. وإن أفطر لسفر، فظاهر كلام أحمد أنه لا ينقطع التتابع، لأنه عذر مبيح للفطر أشبه المرض؛ ويتخرج في السفر والمرض غير المخوف، أنه ينقطع التتابع، لأنه أفطر باختياره. وإن أفطر يوم عيد فطر أو أضحى، أو أيام التشريق، لم ينقطع به التتابع، لأنه فطر واجب، ويكمل الشهر الذي أفطر فيه يوم الفطر ثلاثين يوماً، لأنه بدأ من أثنائه; وإن صام ذي الحجة قضى أربعة أيام، وحسب بعدد ما أفطر، لأنه بدأ من أوله. وإن قطع صوم الكفارة بصوم رمضان، لم ينقطع الجزء: 7 ¦ الصفحة: 345 التتابع، لأنه زمن منع الشرع صومه في الكفارة، أشبه زمن الحيض. اهـ. وسئل: إذا ظاهر منها وتمت عدتها، هل تزوج وتصير مظاهرته محل طلاق؟ فأجاب: لا يكون الظهار طلاقاً وإن نوى به الطلاق أو صرح به؛ قال في الإقناع وشرحه: وإن قال لزوجته: أنت علي كظهر أمي، فهو ظهار، ولا يقع به الطلاق ولو نواه وصرح به فقال بعد قوله: أنت علي كظهر أمي، أعني به الطلاق، لم يصر طلاقاً، لأنه لا تصلح الكناية به عندهم؛ ذكره في الشرح والمبدع. انتهى. وقال في الكافي وغيره نحو ذلك. وقال في الإرشاد للشافعية: إذا قال لزوجته: أنت علي حرام كظهر أمي، فله أحوال - إلى أن قال – الخامس: أن يعكس فينوي بالحرام الظهار، وبالآخر الطلاق، فيصح الظهار فقط، لأن قوله: كظهر أمي، لا يصلح كناية عن الطلاق. انتهى. وقاله في شرح الرسالة. وأما حكم الظهار، فقال أيضاً في الإقناع وشرحه: ويحرم على مظاهِر ومظاهَر منها الوطء قبل التكفير، للآية ولحديث ابن عباس؛ ومن مات منهما ورثه الآخر، ولو مات أحدهما أو طلقها المظاهر قبل الوطء فلا كفارة عليه. وإن عاد المظاهر قبل الوطء فتزوجها، لم يطأها حتى يكفِّر. انتهى ملخصاً. وذكر في الكافي وغيره نحو ذلك. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 346 وأما إذا ظاهر من زوجته ولم يكفِّر، إضراراً بها بلا عذر، وطلبت زوجته منه ذلك، فقد ذكر بعض فقهاء الحنابلة: أن حكمة كحكم المولي من زوجته، فتضرب له مدة أربعة أشهر؛ فإذا مضت الأربعة الأشهر ولم يكفر ويطأ، أو يفيء بلسانه إن كان له عذر، ورافعته إلى الحاكم، أمره الحاكم بذلك، فإن أبى أمره الحاكم بالطلاق إذا طلبته الزوجة، فإن لم يطلق طلق الحاكم عليه بعد طلب الزوجة، فإن طلق عليه الحاكم طلقة أو طلقتين أو فسخ صح ذلك، لأن الحاكم قائم مقام الزوج لأنه نائبه. سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ: عن ظهار العبد؟ فأجاب: الذي عليه جمهور العلماء، أن الظهار يصح من كل زوج يصح طلاقه؛ قال في الإنصاف: وهذا هو الصحيح من المذهب، وعليه أكثر الأصحاب. فيصح ظهار الصبي حيث صححنا طلاقه، قال في عيون المسائل: سوى أحمد بينه وبين الطلاق - إلى أن قال - تنبيهان: أحدهما: شمل قوله: يصح من كل زوج يصح طلاقه: العبد، وهو الصحيح وهو المذهب، وعليه الأصحاب، وجزم به في الفروع وغيره; وقيل: لا يصح; والذي يترجح عندي هو قول جمهور العلماء. سئل الشيخ علي بن حسين بن الشيخ: إذا قال لزوجته: أنت علي كظهر أمي، أو قاله لمن أبانها ثم تزوجها؟ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 347 فأجاب: الأمر كما قال صاحب المحرر، وعليه تدل نصوص أحمد، قال في الإقناع: وإن قال لأجنبية: أنت علي كظهر أمي، أو إن تزوجتك فأنت علي كظهر أمي، فتزوجها، لم يطأها حتى يكفِّر كفارة ظهار، لأنه إذا تزوجها تحقق معنى الظهار بينهما. وعلم صحة الظهار من الأجنبية روى ذلك الإمام أحمد عن عمر بن الخطاب، أنه قال في رجل قال: "إن تزوجت فلانة فهي علي كظهر أمي، فتزوجها، فقال عمر: كفارة الظهار" قال الشارح: لأنها يمين مكفرة، فصح عقدها قبل النكاح، كاليمين بالله تعالى، والآيات خرجت مخرج الغالب، وهي قوله: {مِنْ نِسَائِهِمْ} [المجادلة: 2] . والفرق بينه وبين الطلاق: أن الطلاق حل قيد النكاح، ولا يمكن حله قبل عقده، والظهار: تحريم للوطء، فيجوز تقديمه على العقد. وإنما اختص حكم الإيلاء بنسائه لكونه يقصد الإضرار بهن، والكفارة في الظهار لكونه من المنكر والزور، فلا يختص تلك بنسائه. وسئل: إذا ظاهر منها وقتاً، وجامع قبل المدة، هل إذا مضى الوقت المحدود قبل التكفير، حكمه حكم المظاهر منها مطلقاً؟ فأجاب: قال في الإقناع وشرحه: وإن وطئ المظاهر منها قبل التكفير أثم، واستقرت علية الكفارة ولو مجنوناً، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 348 فلا تسقط بعد ذلك كالصلاة، وتحريم المظاهر باق عليه، لقوله صلى الله عليه وسلم: " لا تقربها حتى تفعل ما أمرك الله به " 1، وتجزئه كفارة واحدة، لحديث سلمة بن صخر، ولأنه وجد الظهار والعود في عموم الآية. [كفارة الظهار] سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ: عن كفارة الظهار؟ فأجاب: أما كفارة الظهار فهو عتق رقبة، فإن كان ما يقدر فلا بد أن يصوم شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا، فإن لم يستطع الصيام أطعم ستين مسكيناً. وأجاب الشيح عبد الرحمن بن حسن: وأما مسألة المظاهر، فاعلم أنه يجب على المفتي أن يعتبر شواهد أحواله، فإذا عرف شاهد الحال أنه يقدر على أن يصوم شهرين متتابعين، فلا يجوز للمفتي أن يفتح له باب الرخصة في الإطعام، بمجرد قوله لا أستطيع الصيام. وسئل: عن كفارة ظهار المملوك، هل هو كالحر؟ فأجاب: العبد كالحر في كفارة الظهار، غير أن العبد لا يكفِّر إلا بالصوم، بناء على المشهور في مذهبنا وغيره، لأنه لا يملك؛ قال في المنتهى: فإن لم يجد صام حر أو قن شهرين.   1 الترمذي: الطلاق (1199) , وابن ماجة: الطلاق (2065) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 349 سئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب: هل تكفِّر المرأة ... إلخ؟ فأجاب: والمرأة إذا حلفت بالظهار، فليس عليها إلا كفارة يمين. سئل الشيخ علي بن الشيخ حسين: عن سفر المظاهر، هل يقطع التتابع؟ فأجاب: قال في الإقناع وشرحه: سفر المظاهر إذا أفطر فيه لا يقطع التتابع، وقال في موضع آخر: إذا تخلله فطر السفر أو المرض المبيحان للفطر في السفر، لم ينقطع التتابع، أو تخلله فطر حامل أو مرضع، لخوفهما على أنفسهما أو على ولديهما، لم ينقطع التتابع، لأنه فطر أبيح لعذر. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 350 كتاب العدد سئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن، رحمه الله: عمن تزوج امرأة بلا ولي، هل تعتد إذا طلقها؟ فأجاب: إن كان قد دخل بها، فتعتد عدة كاملة بلا خلاف. سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ: عمن دخل بها ولم يطأها؟ فأجاب: الذي نعمل عليه أن العدة تجب عليها. وأجاب أيضاً: والمرأة التي يملك عليها الرجل، ثم يموت ولم يطأها تلزمها العدة. وأجاب الشيخ حمد بن ناصر بن معمر: الذي دخل بامرأة وأغلق باباً، وأرخى حجاباً، وأقرا أنه لم يجر بينهما جماع، فالذي عليه أهل العلم: أن العدة تجب في هذه الصورة. وأجاب الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين، رحمه الله: وأما العدة فتجب في النكاح الفاسد بمجرد الخلوة، وكذا تجب عليها عدة الوفاة، على الصحيح من الجزء: 7 ¦ الصفحة: 351 المذهب. ولا تجب العدة في النكاح الباطل إلا بالوطء إجماعاً، ولا تجب به عدة الوفاة؛ قال في الإنصاف: وإن كان النكاح مجمعاً على بطلانه، لم تعتد للوفاة من أجله، وجهاً واحداً؛ وذكر قبل ذلك وجوب العدة بالنكاح الفاسد، قال: وهو المذهب وعليه أكثر الأصحاب، ونص عليه الإمام أحمد. وقال ابن حامد: لا عدة بالخلوة في النكاح الفاسد، بل بالوطء كالنكاح الباطل إجماعاً; وفي الإنصاف أيضاً: وإذا مات عن امرأة نكاحها فاسد، كالنكاح المختلف فيه، فقال القاضي: عليها عدة الوفاة، نص عليه أحمد في رواية جعفر بن محمد، وهو المذهب، اختاره أبو بكر وغيره، وقدمه في الفروع والرعايتين والحاوي، والمحرر والنظم وغيرهم. وقال ابن حامد: لا عدة عليها للوفاة. انتهى. وقال في الشرح الكبير، لما تكلم في حكم النكاح الباطل، كمن نكح ذات محرمه، أو معتدة من غير الخلوة بها، كالخلوة بالأجنبية: لا يوجب عدة، وكذلك الموت عنها لا يوجب عدة الوفاة; وإن وطئها اعتدت لوطئه بثلاثة قروء منذ وطئها، سواء فارقها أو مات عنها، كالمزني بها من غير عقد. فأما إن نكحها نكاحاً مختلفاً فيه فهو فاسد، فإن مات عنها، فنقل جعفر بن محمد أن عليها عدة الوفاة؛ وهو اختيار أبي بكر. وقال أبو عبد الله بن حامد: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 352 ليس عليها عدة الوفاة، وهو مذهب الشافعي، لأنه نكاح لا يثبت فأشبه الباطل. فعلى هذا، إن كان قبل الدخول فلا عدة عليها، وإن كان بعده اعتدت بثلاثة قروء. ووجه الأول: أنه نكاح يلحق به النسب، فوجبت به العدة كالنكاح الصحيح، بخلاف الباطل، فإنه لا يلحق به النسب. انتهى. وأما عبارة المنتهى، وهي قوله: لا فرق في عدة وجبت بدون وطء، فلا إشكال فيها، لأن العدة تجب بمجرد الخلوة بدون وطء، على المذهب، ولا معارضة في ذلك للآية. وأما قولك: قد أجمعوا على أن المطلقة قبل المسيس لا عدة عليها، فليس ذلك بصواب; وأظن أن سبب الإيهام: أن هذه العبارة عندكم في مختصر الشرح هكذا، كما هي عندنا كذلك، وسقط من العبارة لفظ: الخلوة؛ فالصواب في العبارة: أجمعوا على أن المطلقة قبل المسيس والخلوة لا عدة عليها. وعبارة الشرح: كل امرأة فارقها زوجها قبل المسيس والخلوة فلا عدة عليها، أجمع العلماء على ذلك، ثم قال بعد ذلك: ولا خلاف بين أهل العلم في وجوبها على المطلقة بعد المسيس. فأما إن خلا بها ولم يصبها ثم طلقها، فإن العدة تجب عليها، روي ذلك عن الخلفاء الجزء: 7 ¦ الصفحة: 353 الراشدين، وزيد وابن عمر، وبه قال عروة وعلي بن الحسين وعطاء والزهري والثوري، والأوزاعي وإسحاق وأصحاب الرأي، والشافعي في قديم قوليه. وقال في الجديد: لا عدة عليها، لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [سورة الأحزاب آية: 49] ، هذا نص، ولأنها مطلقة لم تمس أشبهت من لم يخل بها. وأما إجماع الصحابة، فروى الإمام أحمد والأثرم بإسنادهما عن زائدة بن أبي أوفى قال: قضى الخلفاء الراشدون: أن من أرخى ستراً أو أغلق باباً فقد وجب المهر، ووجبت العدة. ورواه أيضاً عن الأحنف عن عمر وعلي، وعن سعيد بن المسيب عن ابن عمر وزيد بن ثابت؛ وهذه قضايا اشتهرت فلم تنكر فصارت إجماعاً. وضعف أحمد ما روي في خلاف ذلك، ولأنه عقد على المنافع، فالتمكين فيه يجري مجرى الاستيفاء في الأحكام كعقد الإجارة، والآية مخصوصة بما ذكره، ولا يصح القياس على من لم يخل بها، لأنه لم يوجد التمكين. انتهى. وقال في الإنصاف: وإن خلا بها وهي مطاوعة فعليها العدة، سواء كان بها أو بأحدهما مانع من الوطء، كالإحرام والصيام والحيض والنفاس والمرض والجبّ والعنَّة، أو لم يكن؛ هذا المذهب مطلقاً بشرطه الآتي، سواء كان المانع الجزء: 7 ¦ الصفحة: 354 شرعياً أو حسياً، كما مثل المصنف وعليه جماهير الأصحاب - إلى أن قال - إلا أن لا يعلم بها كالأعمى والطفل فلا عدة عليها، وكذا لو كانت طفلة، وهذا هو المشار إليه بقوله في شرطه الآتي. سئل الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن: عن المعتدة من الوفاة ما تفعل؟ فأجاب: تعتد أربعة أشهر وعشراً، تلزم فيها البيت الذي توفي عنها فيه. سئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله: عمن توفي زوجها وفي بطنها جنين ميت. فأجاب: المرأة التي توفى عنها زوجها وفي بطنها جنين ميت، ويأتيها الدم تارة وتارة ينقطع عنها، فالذي أفهم أنها تصير في عدة حتى تضع الحمل، مع أني لم أقف على كلام لأهل العلم في هذه المسألة. وسئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن: عن أكثر مدة الحمل إذا كانت أربع سنين على المشهور في مذهبنا، فهل لها إذا انقضت أن تتزوج ولو ارتابت؟ فأجاب: قد ذكر العلامة ابن القيم، رحمه الله، في تحفة المودود، أنه قد وجد لخمس سنين وأكثر منها إلى سبع؛ فعليه، لا تمكن من التزويج إلا بعد تيقن براءة رحمها. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 355 وسئل: عن المرأة يأتيها الدم ولا تحققت خروج الولد، هل تبقى في عدة ولو أكثر من أربع سنين ... إلخ؟ فأجاب: الذي أرى أنها باقية في العدة ما لم تحقق سقوطه؛ والتحديد بأربع سنين الظاهر أنه اعتبار بالغالب، وإلا فقد يبقى أكثر من ذلك كما حققه ابن القيم، وهو مشاهد اليوم. وأما تكرار الدم عليها في كل شهر، فيحتمل أنه دم فساد; وأيضاً عند الشافعي، ورواية عن أحمد، رحمه الله: أن الحامل تحيض. وسئل الشيخ محمد بن الشيخ إبراهيم بن عبد اللطيف: عن امرأة حبلى، لها أربع سنين، وتدعي أنه مضى من الخامسة سبعة أشهر، وتجد في بطنها مثل الرمانة الكبيرة يتحرك، وزوجها متوفى، والقوابل يقلن: في بطنها جنين، ومعلومك أكثر مدة الحمل؟ فأجاب: المرأة المذكورة في عدة إلى الآن، والله أعلم. وسئل أيضاً: عن زوجة تحرك حملها في الشهر السادس، ثم في التاسع مرة، ثم سكن بعد ذلك، وطلقها زوجها، والآن قد قاربت أربع سنين بعد دعواها الحمل، فهل لها أن تتزوج؟ وما حكم نفقتها؟ فأجاب: قال في المنتهى وشرحه لمنصور: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 356 والمعتدات ست: إحداهن الحامل، وعدتها من موت وغيره، كطلاق وفسخ، حرة كانت أو أمة، مسلمة أو كافرة، إلى وضع كل الولد إن كان الولد واحداً، أو وضع الأخير من عدد إن كانت حاملاً بعدد، حرة كانت أو أمة، مسلمة أو كافرة، طلاقاً كانت الفرقة أو فسخاً، لعموم قوله تعالى: {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [سورة الطلاق آية: 4] . وبقاء بعض الحمل يوجب بقاء بعض العدة، لأنها لم تضع حملها بل بعضه، وظاهره ولو مات ببطنها، لعموم الآية. قلت: ولا نفقة لها حيث تجب للحامل، ويأتي أن النفقة للحمل والميت ليس محلًا لوجوبها. انتهى. ومراده بقوله: حيث تجب للحامل، هي البائن، لأن الرجعية تجب نفقتها مطلقاً؛ فظهر أن المرأة المسؤول عنها: إن كانت قد تحققت الحمل، لا تزال في عدة إلى أن تضع، وأن النفقة لا تجب لها إن كانت بائناً وتحقق موت الحمل؛ هذا ما ظهر لي. سئل الشيخ حمد بن ناصر: عن قولهم في المطلقة: عليها أطول الأجلين، من ثلاث حيض أو أربعة أشهر وعشر. فأجاب: صورة المسألة على ما صورته في السؤال، وأما الخلاف: فالمشهور عن أحمد المعمول به عند أصحابه: أن المطلقة البائن في مرض الموت، تعتد أطول الجزء: 7 ¦ الصفحة: 357 الأجلين من عدة الوفاة أو ثلاثة قروء، وهذا مذهب أبي حنيفة; وقال مالك والشافعي: تبني على عدة الطلاق. وأجاب أيضاً: وأما المطلقة إذا مات زوجها وهي في العدة، فإذا كانت رجعية استأنفت عدة الوفاة أربعة أشهر وعشراً بلا خلاف بين العلماء، وإن كانت بائناً بنت على عدة الطلاق، إلا أن يطلقها في مرض موته، فتعتد أطول الأجلين من عدة الوفاة، أو ثلاثة قروء. وعند مالك والشافعي: أنها تبني على عدة الطلاق، لأنها بائن وليست بزوجة، كما لو طلقها في الصحة. فأما إذا كان الطلاق البائن في الصحة، فإنها تبني على عدة الطلاق عند الأئمة الثلاثة، وعند أبي حنيفة: تعتد أطول الأجلين. وأجاب أيضاً: المطلقة البائن إذا مات زوجها الذي أبانها وهي في العدة، فإن كان طلقها في الصحة، فإنها تبني على عدة الطلاق ولا تعتد للوفاة. وأجاب الشيخ عبد الله أبا بطين: وأما البائن في الصحة، فلا يلزمها إحداد إذا مات زوجها وهي في عدته، ولا تنتقل عن عدة الطلاق بل تتم عدة الطلاق فقط، ولا يستحب لها الإحداد. وأجاب بعضهم: إذا طلق رجل زوجته ثم مات وهي في العدة، فإن كان الطلاق رجعياً فهي تستأنف العدة أربعة أشهر وعشراً، وإن كان بائناً وهو مطلق في الصحة، فتبنى الجزء: 7 ¦ الصفحة: 358 على عدتها الأولى، وليس عليها إحداد. فإن كان بائناً وطلق في المرض فعليها أطول الأجلين، من ثلاث حيض أو أربعة أشهر وعشر. سئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله: عن عدة التي تحيض؟ فأجاب: تعتد بثلاث حيض. وأجاب ابنه الشيخ عبد الله: أما عدة التي تحيض: فثلاث حيض سواء كان ذلك طلاقاً أو فسخاً؛ هذا الذي عليه جمهور العلماء. وسئل: عن قولهم: أقل ما تنقضي به العدة تسعة وعشرون يوماً ولحظة؟ فأجاب: التي ذكروها في العدد، أن أقل ما تنقضي به العدة تسعة وعشرون يوماً ولحظة، مبني على أن أقل الحيض يوم وليلة، وأقل الطهر بين الحيضتين ثلاثة عشر، فإذا طلقها في آخر الطهر، وقد بقي من الطهر لحظة، ثم حاضت يوماً وليلة، ثم طهرت ثلاثة عشر يوماً، ثم حاضت يوماً وليلة، ثم طهرت، فقد انقضت عدتها؛ ومجموع ذلك: تسعة وعشرون يوماً ولحظة، وهذا هو أقل ما تنقضي به العدة. فإذا ادعت أنها حاضت في شهر ثلاث حيض، وأقامت البينة على ذلك صُدّقت، ولا تقبل دعواها إلا ببينة، لأن هذا لا يقع إلا نادراً. سئل بعضهم: إذا ادعت المرأة أنها حاضت ثلاث الجزء: 7 ¦ الصفحة: 359 حيض؟ فأجاب: المرأة مقبولة فيما ادعت من الحيض، إلا أن تدعي أنها حاضت ثلاثاً في شهر، فلا تقبل إلا ببينة مأمونة. وأجاب بعضهم: إذا ادعت المرأة أنها حاضت ثلاث حيض في عدة أيام يمكن فيها قبلت دعواها، وإذا قيل: القرء الأطهار، وطلقت المرأة في طهر أصابها فيه فهو طلاق بدعة، وتعتد بالطهر الذي طلقها فيه، فإذا شرعت في الحيضة الثالثة، فقد برئت منه. وإن قلنا: القرء الحيض، فإذا طهرت من الثالثة فقد برئت منه، فإن طلقها في حيض لم تعتد بتلك الحيضة. وأجاب الشيخ سعيد بن حجي: إذا ادعت أنها اعتدت بعد الطلاق، في وقت تمكن العدة فيه تُصَدَّق، لقوله تعالى: {وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} الآية [سورة البقرة آية: 228] . وإذا شهدت امرأة عدل أنها حاضت ثلاث حيض وهو يمكن، قُبِلَت؛ والأحوط شهادة امرأتين. وسئل الشيخ سعد بن حمد بن عتيق: عن امرأة تزوجت وهي صغيرة، ثم طلقها زوجها قبل البلوغ، ثم حاضت أول حيضها بعد طلاقها بشهر ونصف، ثم حاضت الحيضة الثانية بعد سنة، هل يصح تزويجها قبل الحيضة الثالثة؟ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 360 فأجاب: لا يصح تزويجها حتى تحيض الحيضة الثالثة، لأنها صارت من ذوات الأقراء، وطول المدة على هذه الحال ما يحصل به فراغ العدة؛ واعتداد الصغيرة بالأشهر يبطل، إذا وجد الحيض قبل تمام ثلاثة الأشهر، ويكون اعتدادها بثلاث حيض. سئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب: عن الراجح عنده في عدة المرضع ... إلخ؟ فأجاب: المعمول عليه عندهم: إلى أن يزول الرضاع; وعند الشيخ تقي الدين: إذا قامت سنة ولو كانت ترضع، ولا أعلم دليلاً يعارض كلامه. وسئل: عن قولهم: ولا تدري ما رفعه، أي الحيض، تعتد بسنة، أو علمت؟ قال: لا أعلم للفرق وجهاً ولا دليلاً. وسئل ابنه: الشيخ عبد الله، رحمهما الله تعالى: عمن ارتفع حيضها ولا تدري ما رفعه فاعتدت بسنة، ثم عاودها الدم قبل مضي السنة؟ فأجاب: ترجع وتعتد بالحيض ولا تحتسب بما تقدم، كالبكر إذا اعتدت بالأشهر، ثم جاءها الحيض فإنها تعتد بالأقراء. وأجاب أيضاً: وأما التي ذكرت، فعدتها بالحيض أو الجزء: 7 ¦ الصفحة: 361 تمام السنة، وإن كانت اعتدت فلا تجوز إلا بعقد، ولا يمكن منها وإن كان له عليها حجة، ولا يقبل الواحد، ويحلف الزوج. وأجاب الشيخ حسن بن حسين بن الشيخ: صرح الفقهاء من الحنابلة والشافعية: بأن المعتدة إذا علمت ما رَفَعَ حيضها من رضاع أو نفاس أو مرض، أو خوف أو قحط أو ضيق عيش وجوع ونحو ذلك، فإنها لا تزال في عدة حتى يعود الحيض فتعتد به، أو تبلغ سن الإياس فتعتد عدة الآيسة؛ نص عليه الإمام أحمد في رواية صالح وأبي طالب وابن منصور، وهو المجزوم به عند المتأخرين من الأصحاب، والمحققين من الشافعية، لقصة حبان بن منقذ وزوجته وهي مشهورة. وهذه المرأة المسؤول عنها، تذكر أنها عالمة بما رفع حيضها وهو الرضاع، فلا تزال في عدة حتى يعودها، أو تبلغ سن الإياس، على هذا القول المعتمد من الأقوال. وسئل: إذا ارتفع حيض المرأة مدة طويلة لا تدري ما رفعه، وهي تلك المدة مع زوج، ثم طلقها هل تعتد بسنة أو ثلاثة أشهر؟ فأجاب: إنما تعتد بسنة من الطلاق، قال في شرح الإقناع: من ارتفع حيضها ولو بعد حيضة أو حيضتين لا تدري ما رفعه، اعتدت بسنة منذ انقطع بعد الطلاق؛ فإن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 362 كان انقطاعه قبل الطلاق، فتعتد تسعة أشهر للحمل وثلاثة أشهر للعدة. انتهى. والقاعدة: عود الضمير إلى أقرب مذكور، فقد عرفت: أن العدة المسؤول عنها: سنة من الطلاق. وأجاب أيضاً: الشيخ حسن بن حسين بن محمد، رحمهم الله: إذا طلقها بعد وضعها، ومن عادتها أنها لا تحيض إلا بعد الفطام، فإن علمت ما رفعه من مرض أو رضاع ونحوه كنفاس، فإنها لا تزال في عدة حتى يعود الحيض، فتعتد به وإن طال الزمن، لأنها مطلقة لم تيأس من الدم، فيجب عليها العدة بالأقراء وإن تباعدت، كما لو كانت ممن بين حيضتها مدة طويلة أو تصير إليه، يعني أو تصير إلى سن الإياس فتعتد عدتها، أي: عدة الآيسة؛ نص على ذلك في رواية صالح وابن منصور. وعنه: تنتظر زوال ما رفع الحيض، ثم إن حاضت اعتدت بالأقراء، وإلا اعتدت بسنة. انتهى من شرح المنتهى. ووجه الأول: ما رواه الشافعي عن سعيد بن سالم عن ابن جريج، عن عبد الله بن أبي بكر، أخبره: "أن حبان بن منقذ طلق امرأته وهو صحيح وهي مرضع، فمكثت سبعة شهور لا تحيض، منعها الرضاع، ثم مرض حبان، فقيل له: إن مت ورثتك فجاء إلى عثمان، وأخبره بشأن امرأته وعنده علي وزيد، فقال لهما عثمان: ما تريان؟ قالا: نرى أنها الجزء: 7 ¦ الصفحة: 363 ترثه إن مات ويرثها إن ماتت، فإنها ليست من القواعد اللائي يئسن من المحيض، وليست من اللائي لم يحضن، ثم هي على عدة حيضها ما كان من قليل أو كثير. فرجع حبان إلى أهله فانتزع البنت، فلما فقدت الرضاع حاضت حيضة ثم أخرى، ثم مات قبل أن تمضي الثالثة، فاعتدت عدة الوفاة فورثته"، رواه مالك، والبيهقي عن محمد بن حبان بنحوه. وأجاب الشيخ عبد الله أبا بطين: وأما المرأة التي لم تحض، فإن عرفت السبب الرافع للحيض، من رضاع أو مرض أو غير ذلك، انتظرت زوال السبب المانع، والحيض بعده، وإن كانت لا تعلم السبب الرافع للحيض، فعدتها سنة بعد وقوف الحيض عنها، ثم تزوج. وأجاب أيضاً: إذا طلقت في الحيض، وارتفع حيضها بعد تلك الحيضة التي في الطلاق، فإن كانت تعلم ما رفع حيضها من جوع، أو مرض أو كبر أو روع طلاق أو غيره يزيل المانع، فتجلس حتى تحيض ثلاث حيض، وإن كانت لا تعلم ما رفعه، فتجلس اثني عشر شهراً، تسعة عن الحمل استبراء، وثلاثة عدة. وأجاب الشيخ سعيد بن حجي: إذا طلقت المرأة وحاضت حيضة أو حيضتين، ثم أمسكت عنها ولا تدري ما رفعه حتى مضت سنة، فتزوج بعد تسعة أشهر للحمل، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 364 لأنها مدته غالباً، وثلاثة أشهر عدة آيسة؛ قال الشافعي: هذا قضاء عمر بين المهاجرين والأنصار، لا ينكره منكر، علمناه فصار إجماعاً، وأما إذا طلقت وهي ترضع، فهي في عدة حتى يأتيها الحيض، فتعتد به ثلاث حيض، أو تصير آيسة فتعتد بثلاثة أشهر. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 365 [فصل في صفة الإحداد] سئل الشيخ عبد الله بن محمد: عن صفة الإحداد؟ فأجاب: الإحداد واجب في عدة الوفاة، وهي أربعة أشهر وعشر، أو شهران وخمسة أيام إن كانت أمة، فإن كانت حاملاً فعدتها بوضع الحمل، وذلك على الحرة والأمة، والكبيرة والصغيرة؛ فيحرم على المحادة الزينة، كالكحل والخضاب، والطيب والحلي، واستعمال الأدهان المطيبة، وما صبغ من الثياب للزينة، كالأحمر والأصفر ونحوهما، ويباح لبس الأبيض، وتقليم الأظفار، ونتف الإبط وحلق العانة، وغسل رأسها بالسدر، والمشط، واستعمال الدهن غير المطيب. ويجب عليها عدة الوفاة، في المنزل الذي مات زوجها وهي ساكنة فيه، إلا لعذر من خوف أو هدم ونحوهما، ولا تخرج من منزلها ليلاً، ولها الخروج نهاراً لحوائجها. وتجب العدة من حين الموت. وأجاب أيضاً: ذكر أهل العلم أنها تجتنب ثلاثة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 365 أشياء: أحدها: الطيب. والثاني: الزينة، فلا تختضب ولا تحمر وجهها، ولا تكتحل بالإثمد إلا لضرورة، فإن اضطرت إليه، اكتحلت بالليل ومسحته بالنهار، ولا تلبس ثياب الزينة، ولا تلبس الحلي كله حتى الخاتم. والثالث: المبيت في غير منزلها، فيجب عليها أن تبيت فيه دون غيره. وهذه الأمور التي نص عليها الفقهاء، هي التي يجب عليها اجتنابها. وأجاب أيضاً: وأما المتوفى عنها زوجها، فذكر أهل العلم: أن لها الخروج لحوائجها نهاراً، ولو وجدت من يقضيها، وأما في الليل فلا تخرج ولو لحاجة، وكذلك لا تخرج نهاراً لغير حاجة. وسئل أيضاً: إذا كان للمتوفى عنها نخل، والمنزل خارج النخل، هل لها الجلوس فيه؟ وقضاء شيء من الحاجات، إذا كان غيرها يكفيها؟ فأجاب: تقدم جوابها، وهو: أن لها الخروج نهاراً لحوائجها، ولو وجدت من يقضيها; وحديث المرأة التي أذن لها رسول الله صلى الله عليه وسلم في جذاذ نخلها، يدل على ذلك؛ قال في المغني: وللمعتدة الخروج في حوائجها نهاراً، سواء كانت مطلقة، أو متوفى عنها; ثم ساق حديث جابر في المرأة التي قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اخرجي فجذي نخلك " 1. ثم قال: وروى مجاهد: "استشهد رجال يوم أحد،   1 مسلم: الطلاق (1483) , والنسائي: الطلاق (3550) , وأبو داود: الطلاق (2297) , وابن ماجة: الطلاق (2034) , وأحمد (3/321) , والدارمي: الطلاق (2288) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 366 فجاء نساؤهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقلن: يا رسول الله، نستوحش بالليل، أفنبيت عند إحدانا، فإذا أصبحنا بادرنا إلى بيوتنا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تحدثن عند إحداكن، حتى إذا أردتن النوم، فلتؤب كل واحدة إلى بيتها ". وليس لها المبيت في غير بيتها، ولا الخروج ليلاً إلا لضرورة، لأن الليل مظنة الفساد، بخلاف النهار، فإنه مظنة قضاء الحوائج والمعاش، وشراء ما تحتاج إليه. انتهى. وأما الخروج إلى المسجد للتراويح، أو قيام رمضان في العشر، فتقدم أن المتوفى عنها لا تخرج من بيتها في الليل، ولو لحاجة; وأما خروجها في النهار للصلاة والدرس، فلم أقف على نص في المسألة، إلا ما تقدم من الرخصة في الخروج نهاراً لحوائجها. وسئل أيضاً: ماذا تجتنبه المتوفى عنها من جنس الكلام، والتحدث مع قريب أو صديق، إذا كان ذلك من عادتها قبل وفاة زوجها؟ فأجاب: هذه المسألة لم أقف عليها في كلام أهل العلم، والذي يظهر لي من كلامهم: أن المتوفى عنها وغيرها في هذا النوع سواء، فما كانت ممنوعة منه قبل الإحداد، فهو في الإحداد أشد منعاً، وما كان مباحاً لها من هذا النوع، خاصة قبله، فهو مباح فيه، ولم أقف على نص في المسألة بالتفرقة. انتهى. وتقدم جوابه في سلام الجزء: 7 ¦ الصفحة: 367 الأجنبي على المحادة، في باب الوليمة. وأجاب الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن: لا تخرج إلا لحاجة لا بد منها، وتجتنب الزينة من الثياب والكحل، والحناء والحلي والأدهان. سئل الشيخ حمد بن ناصر: عن المتوفى عنها وهي حامل، هل هي في إحداد ولو جاوزت أربعة أشهر وعشراً؟ فأجاب: الأمر كذلك، هي في إحداد حتى تضع حملها. سئل الشيخ سعيد بن حجي: عن بنت عشر تزوجت، فمات ولم يدخل بها، هل تجتنب الزينة ... إلخ؟ فأجاب: عليها عدة الوفاة والإحداد، وهو اجتناب الزينة، ويتقرر لها المهر المسمى. وسئل الشيخ حمد بن عبد العزيز: هل تحد في ثياب زوجها؟ فأجاب: وأما المرأة فلا يجوز لها أن تحد في ثياب زوجها، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لعن الرجل يلبس لبسة المرأة، والمرأة تلبس لبسة الرجل. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 368 كتاب الرضاع سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ: عن حكم الرضاع؟ فأجاب: أما حكم الرضاع، فيحرم من الرضاع ما يحرم من النسب. وأجاب أيضاً: القاعدة الكلية: كل ما حرم من النسب حرم من الرضاعة، وأما الرضاع الذي يحرم، فهو: خمس رضعات، ولو في مجلس واحد; وأما الرضاع بعد الحولين، فلا يحرم بإجماع أهل المذهب، والخلاف فيه قديم بين السلف، وأما أهل المذهب فليس فيه عندهم خلاف أنه لا يحرم، وهو المفتى به عندنا. وأجاب الشيخ حمد بن عبد العزيز: وأما الرضعة وهي المصة، والرضعتان وهي المصتان، فإذا كان قد تزوجها فلا تحرم عليه، وإن لم يكن تزوجها، فالورع تركها، لأجل الخلاف بين العلماء. سئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب: عن الرضاع بعد الحولين؟ فأجاب: الرضاع بعد الحولين، لا يجوزه الشيخ، وابن القيم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 369 وأجاب ابنه: الشيخ حسين: والبنت إذا ارتضعت وهي ابنة أربع سنين، أو خمس، فرضاعها ذلك لا يحرم. سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: عمن رضع من امرأة خمس رضعات معلومات؟ فأجاب: يحرم عليه بناتها وأخواتها وعماتها من النسب والرضاع، وكذلك بنات الفحل الذي حملت المرأة منه، يحرم على الرضيع بناته وأخواته وعماته وخالاته. وسئل أيضاً: إذا أرضعت امرأة طفلاً، وله إخوة وأخوات لم يرتضعوا منها، ولها بنون وبنات، هل يجوز لإخوته وأخواته أن يتزوجوا من أولاد التي أرضعته؟ والعكس؟ فأجاب: إذا أرضعت المرأة طفلاً رضاعاً يحرم شرعاً في الحولين، صار الطفل ابنا للمرضعة، وابنا لزوجها الذي نسب الحمل إليه، فصار في التحريم والخلوة ابناً لهما، وأولاده أولادهما وإن نزلت درجتهم، وجميع أولاد المرضعة من زوجها ومن غيره، وجميع أولاد الرجل الذي انتسب الحمل إليه من المرضعة ومن غيرها، إخوة للمرتضع وأخواته، وإن نزلت درجتهم. وأما المرتضع، وهو المسؤول عن إخوته، فالحرمة تنتشر إليه وإلى أولاده وإن نزلوا، ولا تنتشر إلى من في الجزء: 7 ¦ الصفحة: 370 درجته من إخوانه وأخواته، ولا إلى أعلى منه، كأبيه وأمه؛ فلا يحرم على زوجها نكاح أم الطفل المرتضع من النسب، ولا نكاح أخته وعمته، ولا بأس أن يتزوج الرجل أخت أخيه من الرضاع. وأجاب بعضهم: تباح أم المرتضع وأخته من النسب، لأبيه وأخيه من الرضاع، لأنهن في مقابلة من يحرم بالمصاهرة، لا في مقابلة من يحرم من النسب؛ والشارع صلى الله عليه وسلم إنما حرم من الرضاعة ما يحرم من النسب، لا ما يحرم بالمصاهرة. وتباح المرضعة وابنتها لأبي المرتضع وأخيه من النسب، وتباح أخت ابنه وأم أخته من الرضاع، ويحرمان من النسب، لأن أخت ابنه من النسب ربيبة، وأم أخته من النسب زوجة أبيه، فأخت ابنه وأم أخته يحرمان من النسب، ويباحان من الرضاع. سئل الشيخ حسن بن حسين بن الشيخ: إذا بطل العقد في النكاح قبل الدخول برضاع، هل يرجع الزوج بما أعطى الزوجة؟ فأجاب: إن ثبت الرضاع ببينة فلا مهر لها، ويرجع به لبطلان العقد من أصله، فوجوده كعدمه; وإن أقر به الزوج، وصدقته المرأة على إقراره، فكذلك، لأنهما اتفقا على أن النكاح باطل، أشبه ما لو ثبت ببينة; وإن كذبته ولا بينة له، فلها نصف المهر وإن قالت هي ذلك وأكذبها الجزء: 7 ¦ الصفحة: 371 الزوج، ولا بينة لها، فهي زوجته حكماً، لأنه لا يقبل قولها في فسخ النكاح؛ هذا حاصل كلام الفقهاء في دعوى الرضاع قبل الدخول. سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ: عمن تحته امرأة، وأراد أن يتزوج أخرى، وادعت زوجته: أنها أرضعت التي أراد أن يتزوجها؟ فأجاب: هذه لا تقبل شهادتها في مثل هذه الصورة، لأجل التهمة، والله أعلم 1. سئل الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين: إذا ثبت الرضاع بشهادة امرأة ... إلخ؟ فأجاب: إذا ثبت الرضاع بشهادة امرأة، فالمشهور في المذهب أنه ينفسخ النكاح به؛ وعن أحمد رواية: لا يقبل إلا امرأتان، وهو مذهب مالك. وعند أبي حنيفة: لا بد مع النساء من رجل. فعلى المذهب: يكون النكاح فاسداً، يحتاج إلى طلاق من الزوج، أو فسخ من الحاكم، ولا يكفي قول الحاكم: انفسخ نكاحها، بل لا بد من قول الحاكم: فسخت نكاح فلانة، ثم تعتد بعد ذلك؛ فإن كانت قد تزوجت فَرّق بينهما، حتى تعتد من الأول، وإن كانت حاملاً من الثاني، فلا بد من العدة بعد وضع الحمل بثلاث حيض، ونكاح الثاني باطل لا يحتاج إلى فسخ، وله العقد عليها إن شاء بعد العدة.   1 وتأتي إن شاء الله في صفحة 592. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 372 سئل الشيخ حسن بن حسين بن علي: إذا شهدت امرأة: أن فلانة أرضعته خمس رضعات ... إلخ؟ فأجاب: تقبل هذه الشهادة ولو أنكرت المرضعة، لأن الشهادة يقدم من أثبتها على من نفاها، فإن كانت شاهدة على إقرار المرضعة بذلك، وأنكرت المرضعة لم تقبل. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 373 باب النفقات سئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى: عن كسوة العرس، هل للمرأة أن تطلب كسوة بدن؟ وعن تقييد الكسوة بالحول؟ وإذا كان صواباً فهل هي لكل أحد؟ للعالي والمتوسط والداني؟ وإن بليت قبل مضي الحول ... إلخ؟ فأجاب: أما كسوة العرس، وتقييد الكسوة بالحول مطلقاً ومقيداً، فالذي يفتى به: أن هذه الأمور ترجع إلى عرف الناس، وهو مذهب الشيخ، وابن القيم، وأظنه المنقول عن السلف. وأما عدة الرجعية، فعلى الزوج فيها الكسوة والنفقة. سئل الشيخ سعيد بن حجي: إذا عقد على امرأة، هل يلزمه نفقة لها قبل الدخول؟ فأجاب: قال الموفق: باب نفقة الزوجات، يجب على الرجل نفقة زوجته وكسوتها بالمعروف، إذا سلمت الجزء: 7 ¦ الصفحة: 373 نفسها إليه ومكنته من الاستمتاع بها، لما روى جابر أنه صلى الله عليه وسلم قال: " اتقوا الله في النساء، فإنهن عوان عندكم، أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف " 1، رواه مسلم. فإن امتنعت من تسليم نفسها التسليم التام، فلا نفقة لها، وإن عرضت عليه التمكين التام وهو حاضر، لزمته النفقة، وإن كان غائباً لم تجب حتى يقدم هو، أو وكيله; وإن لم تسلم إليه، ولم تعرض عليه، فلا نفقة عليه، ولو عرضت صغيرة لا يوطأ مثلها، فلا نفقة لها. انتهى ملخصاً. فقد علمت: أن المرأة بعد العقد وقبل الدخول لا نفقة لها، إلا أن تمكنه من نفسها التمكين التام، أو تعرض عليه، وأنه إذا دخل بها ومكنته من نفسها التمكين التام، فلها النفقة والكسوة. سئل الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن: عن نفقة الحامل، والمرضع ... إلخ؟ فأجاب: الحامل ينفق عليها بحسب يسر الزوج وعسره، وبحسب حالها، فلا تجعل بنت الأغنياء المتنعمين مثل الفقيرة. وأما المرضع إذا لم تكن في عدة، فتعطى أجرة المثل. سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: عن نفقة الحامل المتوفى عنها، أو المطلقة؟ فأجاب: يجب على زوجها النفقة حتى تضع حملها،   1 مسلم: الحج (1218) , وأبو داود: المناسك (1905) , وابن ماجة: المناسك (3074) , والدارمي: المناسك (1850) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 374 كما قال تعالى: {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [سورة الطلاق آية: 6] ، فإن أرضعت ولده، أعطاها قيمة أجرة الرضاع ما دامت ترضع، كما قال تعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [سورة الطلاق آية: 6] . وسئل بعضهم: عن نفقة وكسوة المطلقة ثلاثاً ... إلخ؟ فأجاب: وأما الزوج الذي طلق زوجته بالثلاث، ليس لها عليه نفقة ولا سكنى، إلا أن تكون حاملاً، وأما إذا طلقت على براءة ليس لها نفقة ولا سكنى، إلا أن تكون من ذوات الحمل. سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عن نفقة الحامل المتوفى عنها؟ فأجاب: المتوفى عنها زوجها إذا كانت حاملاً، فنفقتها فيما يستحقه الحمل من الإرث، فإن لم يكن تركة، فنفقتها على نفسها، إلا أن يكون له قريب غني، تجب عليه نفقتها بالشروط التي اشترطها الفقهاء في نفقة القريب. وسئل الشيخ حسين بن الشيخ محمد: عن امرأة فسخ الحاكم نكاحها بغيبة الزوج، وهو لم يترك عندها نفقة ولا سكنى، وهي محتاجة؟ فأجاب: إذا كان في مكان يمكنهم أن ينبئوه، وأنبؤوه ولا حصل شيء، فالفسخ تام على ما ذكرنا، وتعتد الجزء: 7 ¦ الصفحة: 375 بحيضة واحدة. وأجاب الشيخ حسن بن حسين بن علي: المرأة التي غاب زوجها، ولم يترك لها نفقة ولا يمكنها الاستدانة، وتعذرت مراسلته وطلبت الفسخ، فلا بأس أن تفسخ بإذنها. سئل الشيخ حمد بن ناصر بن معمر: إذا أرضعت امرأة مطلقة ولدها، ولم يجر بينها وبين الأب مشارطة على الرضاع، ولكنها نوت الرجوع عليه، وأشهدت على أنها محتسبة عليه، فهل لها ذلك؟ أم لا يثبت لها أجرة إلا بالمشارطة بينها وبين الأب؟ فأجاب: قد ذكر الفقهاء أن الأم أحق برضاع ولدها، إذا طلبت ذلك بأجرة مثلها، ولكن اختلفوا: هل لها ذلك إن كانت في حبال الزوج، أم لا؟ وأما إذا كانت مطلقة، فهي أحق برضاعه وإن طلبت أجرة مثلها، ولو مع وجود متبرعة غيرها؛ واستدل صاحب الشرح، بقوله تعالى {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ} [سورة البقرة آية: 233] فقدمهن على غيرهن، وقال: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [سورة الطلاق آية: 6] . وأما الدليل على وجوب تقديم الأم إذا طلبت أجرة مثلها: فما ذكرنا من الآيتين، ولأن الأم أحنى وأشفق، ولبنها أمرى من لبن غيرها، فكانت أحق به من غيرها، كما لو طلبت الأجنبية إرضاعه بأجرة مثلها، ولأن في رضاع الجزء: 7 ¦ الصفحة: 376 غيرها تفويتاً لحقها من الحضانة، وإضراراً بالولد؛ ولا يجوز تفويت حق الحضانة الواجب، والإضرار بالولد، لغرض إسقاط حق أوجبه الله تعالى على الأب. انتهى. فإذا عرفت أنها أحق بإرضاعه بأجرة المثل، ولو وجد الأب متبرعة، تبين لك أن لها الرجوع بالأجرة على الأب، إذا نوت ذلك وأشهدت عليه، وإن لم تشارط الأب، لأن غاية ما يقال: لعل الأب يجد متبرعة، أو يجد من يرضعه بدون أجرة المثل، فيقال في جواب ذلك: الأم أحق به ولو حصل من يتبرع برضاعه، فحينئذ لا تأثير لكونها تشارط أو لا تشارط، لأنها متى أرضعته وطلبت أجرة مثلها لزم الأب ذلك، إلا أن تكون أرضعته متبرعة برضاع ابنها، ولم تنو الرجوع على الأب فلا شيء لها. سئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ: عن زوجة مفقود تعذر الإنفاق عليها من ماله؟ فأجاب: لها فسخ نكاحه بإذن حاكم، كما يجوز بحكم الشرع في الموجود، فإذا جاز ذلك في حق الموجود، جاز ذلك في حق المفقود أيضاً، ولا فرق، وكونه مفقوداً لا يمنع ثبوت الحكم بتعذر ما يجب لها عليه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 377 باب الحضانة سئل الشيخ حمد بن ناصر بن معمر: عن قوله صلى الله عليه وسلم: " أنت أحق به ما لم تنكحي " 1، هل تكون نفقته على الأم إذا كانت غنية؟ فأجاب: ليس الأمر كذلك، بل نفقته على الأب إذا كان موسراً، فتكون الحضانة للأم، والنفقة على الأب. سئل الشيخ حسين بن الشيخ: هل تسقط الحضانة بالتزوج، لقصة بنت حمزة؟ فأجاب: الذي علية الجمهور: أن الأم إذا تزوجت سقط حقها من الحضانة، لقوله صلى الله عليه وسلم: " أنت أحق به ما لم تنكحي " 2، وأما قصة بنت حمزة، فإنما قضى بها لخالتها، لأن زوجها من أهل الحضانة، ولا يساوي جعفراً في الاستحقاق إلا علي، وقد ترجح جعفر بأن امرأته من أهل الحضانة، فكان أولى؛ فالحديث يدل على أنه لو تنازع العمان في الحضانة، وأحدهما متزوج بالأم أو الخالة، فهو أحق بالحضانة، فليس بين قصة حمزة، وبين قوله: "أنت أحق به ما لم تنكحي" اختلاف، بل الحديثان متفقان ولله الحمد.   1 أبو داود: الطلاق (2276) , وأحمد (2/182) . 2 أبو داود: الطلاق (2276) , وأحمد (2/182) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 378 وأما قولك: هل قرابة الأم أحق، أم قرابة الأب؟ فالمشهور عن أحمد: أن الأم قراباتها يقدمن على الأب وقراباته. وعن أحمد رواية أخرى: أن الأب وقراباته أحق، قال في الاختيارات: العمة أحق من الخالة، وكذا نساء الأب يقدمن على نساء الأم، لأن الولاية للأب، فكذا أقاربه. وإنما قدمت الأم، لأنه لا يقوم هنا مقامها في مصلحة الطفل، وإنما قدم الشارع صلى الله عليه وسلم خالة بنت حمزة على عمتها صفية، لأن صفية لم تطلب، وجعفر طلب نائباً عن خالتها، فقضى له بها في غيبتها. وأجاب الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن: الأم أولى بحضانة أولادها، إلا إذا تزوجت، فتنتقل الحضانة إلى غيرها، كالجدة والأخت والخالة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 379 كتاب الجنايات سئل الشيخ إبراهيم بن الشيخ عبد الملك بن حسين بن محمد، رحمهم الله: عن صفة قتل العمد؟ فأجاب: ذكروا أن قتل العمد: أن يقصد مكلف الجناية على من يعلم أنه آدمي معصوم، بما يغلب على الظن أنه يقتل بحده أو ثقله، أو إلقاء حائط عليه، أو هدم سقف أو غير ذلك; فقولهم: أن يقصد الجناية: خرج به الخطأ، وبما يغلب على الظن قتله به: خرج به شبه العمد. فإذا مات المجني عليه بهذه الجناية وجب القصاص، إلا أن يعفو أولياء الدم إلى مال أو مجاناً، سواء نوى الجاني إزهاق روحه، أو قصد قطع طرف أو عضو، أو شجة لا يريد ولا يحب موته بها. وإن كان الذي أوجب لك الإشكال: عبارة الشيخ منصور، والحجاوي، فهي محمولة على الصورة التي لم يقصد الجاني بها الجناية، كأن ينقلب على إنسان فيقتله، أو يسقط عليه من علو، أو القتل بسبب كحفر بئر، ونصب سكين، أو ممن ليس من أهل القصد الصحيح، كالصبي والمجنون، فهذه الصور عندهم من قسم الخطأ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 380 سئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله: عن جنايات الصبيان ونحوهم؟ فأجاب: قال الشيخ تقي الدين - في كلامه على الجنايات -: لا قصاص بين الصبيان والمجانين، وكل من زال عقله بسبب يعذر فيه، إلا السكران ففيه روايتان، وليس في ذلك إلا الدية. سئل الشيخ عبد الله العنقري: عن امرأة ماتت ابنتها، وفيما يظهر لها: أنها سبب اغتمامها بتغطيتها لها؟ فأجاب: إن غلب على ظنها أنها هي السبب، فعليها الكفارة: عتق رقبة، أو صيام شهرين متتابعين، كما نص الله في الآية الكريمة، ولا يدخل الإطعام في كفارة القتل. [قتل الواحد بالجماعة] سئل بعضهم، رحمه الله: عن جماعة قتلوا واحداً؟ فأجاب: وأما إذا قتل الجماعة واحداً، فإنهم يقتلون كلهم، كما ثبت ذلك عن عمر رضي الله عنه، وأما قتل الواحد بالجماعة، فليس فيه إشكال ولا توقف. وأجاب الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين، رحمه الله: قتل الجماعة بالواحد بشرطه الآتي، هو المذهب وقول جمهور العلماء؛ قال في الشرح: ويقتل الجماعة بالواحد، إذا كان فعل كل واحد منهم لو انفرد الجزء: 7 ¦ الصفحة: 381 أوجب القصاص عليه، روي ذلك عن عمر، وعلي والمغيرة بن شعبة، وابن عباس، وبه قال سعيد بن المسيب والحسن، وأبو سلمة وعطاء وقتادة، وهو مذهب مالك والثوري، والأوزاعي والشافعي، وإسحاق وأبي ثور وأصحاب الرأي. وعن أحمد رواية أخرى: لا يقتلون به، وتجب عليهم الدية، والمذهب الأول - إلى أن قال - ولنا: إجماع الصحابة، فروى سعيد بن المسيب: "أن عمر رضي الله عنه قتل سبعة من أهل صنعاء قتلوا رجلاً، وقال: لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم جميعاً"، وعن علي رضي الله عنه: "أنه قتل ثلاثة، قتلوا رجلاً"، وعن ابن عباس: "أنه قتل جماعة بواحد"، ولم يعرف لهم في عصرهم مخالف، فكان إجماعاً. ولأنها عقوبة تجب لواحد على الجماعة، كحد القذف، ويفارق الدية فإنها تبعض، والقصاص لا يتبعض، ولأن القصاص لو سقط بالاشتراك، لأدى إلى تسارع القتل به، فيؤدي إلى إسقاط حكمة الردع والزجر - إلى أن قال - ولا يعتبر في وجوب القصاص على المشتركين التساوي في سببه؛ فلو جرحه أحدهما جرحاً، والآخر مائة، أو أوضحه أحدهما، وشجه الآخر آمة، أو أحدهما جائفة والآخر غير جائفة، فمات، كانا سواء في القصاص والدية، لأن اعتبار التساوي يفضي إلى سقوط القصاص عن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 382 المشتركين، إذ لا يكاد جرحان يتساويان من كل وجه، ولأن الجرح الواحد يحتمل أن يموت منه دون المائة، كما يحتمل أن يموت من الموضحة دون الآمة، ومن غير الجائفة دون الجائفة - إلى أن قال - وإذا اشترك ثلاثة في قتل رجل، فقطع أحدهم يده، والآخر رجله، وأوضحه ثالث فمات، فللولي قتل جميعهم، والعفو عنهم إلى الدية، فيأخذ من كل واحد ثلثها؛ وله العفو عن واحد فيأخذ منه ثلث الدية، ويقتل الآخرَين، وأن يعفو عن اثنين فيأخذ منهما ثلثي الدية، ويقتل الثالث. وإن برئت جراحة أحدهم، ومات من الجرحين الآخرين، فله أن يقتص من الذي برئ جرحه بمثل جرحه، ويقتل الآخرين، أو يأخذ منهما دية كاملة، أو يقتل أحدهما، ويأخذ من الآخر نصف الدية. وله أن يعفو عن الذي برئ جرحه، ويأخذ منه دية جرحه - إلى أن قال - وإن فعل أحدهما ما لا تبقى معه حياة، كقطع حشوته أو مريئه أو ودجيه، ثم ضرب عنقه آخر، فالقاتل هو الأول، ويعزر الثاني. وإن شق الأول بطنه أو قطع يده، ثم ضرب الثاني عنقه، فالثاني هو القاتل، وعلى الأول ضمان ما أتلف بالقصاص أو الدية. انتهى. وقال في الإنصاف: وتقتل الجماعة بالواحد، هذا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 383 المذهب بلا ريب، وعليه ظاهر الأصحاب، قال في الهداية: عليه عامة شيوخنا; وعنه: لا يقتلون به، نقلها حنبل - إلى أن قال - فعلى المذهب: مِن شَرْط قتل الجماعة بالواحد: أن يكون فعل كل واحد منهم صالحاً للقتل به، قاله الأصحاب - إلى أن قال - ولو قتلوه بأفعال لا يصلح واحد منها لقتله، نحو أن يضربه كل واحد سوطاً في حالة، أو متوالياً، فلا قود; وفيه: عن تواط وجهان في الترغيب، واقتصر عليه في الفروع، قلت: الصواب القود - إلى أن قال - قال المصنف والشارح: إن فعل ما يموت به يقيناً، وبقيت معه حياة مستقرة، كما لو خرق حشوته ولم يبنها، ثم ضرب آخر عنقه، كان القاتل هو الثاني، لأنه في حكم الحياة، لصحة وصية عمر رضي الله عنه. قال في الفروع: ويتوجه تخريج من مسألة الذكاة: أنهما قاتلان، قلت: وهو الصواب; قال في الفروع: ولهذا اعتبروا إحداهما بالأخرى، قال: ولو كان فعل الثاني كلا فعل، لم يؤثر غرق حيوان في ماء بقتل مثله بعد ذبحه، على إحدى الروايتين. انتهى. قال في الإقناع وشرحه: وتقتل الجماعة بالواحد، إذا كان فعل كل واحد منهم صالحاً للقتل به، لو انفرد، وإلا، أي: وإن لم يصلح فعل كل واحد من الجماعة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 384 للقتل، كما لو ضربه كل واحد منهم بحجر صغير، فمات، فلا قصاص عليهم، لأنه لم يحصل من واحد منهم ما يوجب القود، ما لم يتواطؤوا على ذلك الفعل ليقتلوه به، فعليهم القصاص، لئلا يتخذ ذريعة إلى درء القصاص - إلى أن قال - وإن قتله جماعة، اثنان فأكثر، بأفعال لا يصلح واحد منها لقتله، نحو أن يضربه كل واحد سوطاً في حالة، أو متواليين، فلا قود; وفيه: عن تواط وجهان، قال في الترغيب الصواب وجوب القود. انتهى ملخصاً. ومعنى قولهم: أن يكون فعل كل واحد منهم صالحاً للقتل به، أي: أن يكون فعل كل واحد صالحاً لأن يكون سبباً لموت المجني عليه، لا أنه يغلب حصول الموت من تلك الجناية، لأنهم مثلوا بالموضحة، مع أن حصول الموت بها نادر؛ وصرحوا بأن القصاص إنما يجب على المباشر بالشرط المذكور، فخرج المشير والآمر فلا يجب عليهم القصاص، لا سيما وقد صرحوا بعدم وجوب القصاص على الآمر في الجملة. وإن كان بعض الأصحاب حكى رواية بوجوب القصاص على الآمر، فالمذهب خلافها. قال في الشرح: وإن أمر كبيراً عاقلاً عالماً بتحريم القتل فقتل، فالقصاص على القاتل لا نعلم فيه خلافاً، لأنه قاتل ظلماً فوجب عليه القصاص، كما لو لم يؤمر. ثم ذكر حكم ما إذا أمر السيد الجزء: 7 ¦ الصفحة: 385 عبده بقتل رجل، وما فيه من التفصيل المذكور في كتب الفقه - إلى أن قال - وإن أمر السلطان بقتل إنسان بغير حق من يعلم ذلك، فالقصاص على القاتل، وإن لم يعلم فعلى الآمر. فإن كان المأمور يعلم أن المأمور بقتله لا يستحق القتل، فالقصاص عليه، لأنه غير معذور في قتله، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق " 1، وعنه عليه السلام: " من أمركم من الولاة بمعصية الله، فلا تطيعوه " 2، فلزمه القصاص، كما لو أمره غير السلطان؛ وإن لم يعلم ذلك فالقصاص على الآمر دون المأمور، لأن المأمور معذور بوجوب طاعة الإمام في غير المعصية، فالظاهر أنه لا يأمر إلا بحق. إن كان الآمر غير السلطان، فالقصاص على القاتل بكل حال، علم أو لم يعلم، لأنه لا تلزمه طاعته، وليس له القتل، بخلاف السلطان، فإن له القتل في الردة، والزنى، وقطع الطريق إذا قتل القاطع، ويستوفي القصاص للناس، وهذا ليس إليه شيء من ذلك. انتهى. وقوله: وإن لم يعلم ذلك فالقصاص على الآمر دون المأمور، هكذا قال جماعة من الأصحاب; وقال الشيخ تقي الدين، رحمه الله: هذا بناء على وجوب طاعة السلطان في القتل المجهول، وفيه نظر؛ بل لا يطاع حتى يعلم جواز   1 أحمد (1/129) . 2 ابن ماجة: الجهاد (2863) , وأحمد (3/67) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 386 قتله، وحينئذ فتكون الطاعة له معصية، لا سيما إذا كان معروفاً بالظلم، فهنا الجهل بعدم الحل كالعلم بالحرمة. انتهى. وما في شرح رسالة ابن أبي زيد: أنه إذا باشر القتل بعضهم، وحبسه البعض، قتلوا جميعاً، فهذا مذهب مالك، وهو رواية عن أحمد; واحتج بعض من قال بقتل الممسك، بقول عمر: "لو تمالأ عليه أهل صنعاء" أي: تعاونوا; والممسك ليقتل معين للقاتل. وأجاب الآخرون عن قول عمر: لو تمالؤوا عليه، أي: تشاوروا في قتله. قال في الشرح: وإن أمسكه له ليقتله، مثل إن أمسكه له حتى ذبحه، فاختلفت الرواية فيه عن أحمد، فروي عنه: أن الممسك يحبس حتى يموت، وهذا قول عطاء وربيعة، وروي عن علي رضي الله عنه. وروي عن أحمد: أنه يقتل أيضاً، وهو قول مالك وأبي حنيفة، والشافعي. وقال أبو ثور: يعاقب ويأثم ولا يقتل؛ وأما القاتل فيقتل بغير خلاف. فقوله: إن أمسكه له ليقتله، يدل على أن هذا الحكم مخصوص بما إذا أمسكه له ليقتله، لا إذا ما أمسكه له ولم يعلم أنه يريد قتله؛ وهكذا قيد كثير من الأصحاب، قال في الإنصاف: شرط في المغني في الممسك، أن يعلم أنه يقتله، وتابعه الشارح; قال القاضي: إذا أمسكه للعب أو الجزء: 7 ¦ الصفحة: 387 الضرب، وقتله القاتل، فلا قود على الممسك، وذكره محل وفاق، قال في منتخب الشيرازي: إلا مازحاً متلاعباً. انتهى. وظاهر كلام جماعة الإطلاق. وقال في الإقناع وشرحه: وإن كان الممسك لا يعلم أن القاتل يقتله، فلا شيء عليه، لأن موته ليس بفعله ولا بأثر فعله، بخلاف الجارح، فإنه لا يعتبر فيه قصد القتل، لأن السراية أثر جرحه المقصود له. انتهى. وأما الردء: فلم يذكروه هنا، ولم يعطوه حكم المباشر في هذا الباب، وإنما جعلوا حكم ردء قطاع الطريق حكم مباشرهم، للعلة التي عللوا بها؛ قال في الشرح، في باب قطاع الطريق: وحكم ردء حكم المباشر، وبهذا قال مالك وأبو حنيفة. وقال الشافعي: ليس على الردء إلا التعزير، ولأن الحد يجب بارتكاب المعصية فلا يتعلق بالعين كسائر الحقوق. ولنا: أنه حكم يتعلق بالمحاربة، فاستوى فيه الردء والمباشر، كاستحقاق الغنيمة؛ وذلك لأن المحاربة مبنية على حصول المنفعة، والمعاضدة والمناصرة، فلا تمكن المباشر من فعله إلا بقوة الردء، بخلاف سائر الحدود. فعلى هذا، إذا قتل واحد منهم، ثبت حكم القتل في حق جميعهم، فيجب قتل الكل، وإن قتل بعضهم وأخذ بعضهم المال، جاز قتلهم وصلبهم، كما لو فعل الأمرين واحد الجزء: 7 ¦ الصفحة: 388 منهم. انتهى. قال في الإقناع وشرحه: وردء المحارب، وهو المساعد والمغيث له عند احتياجه إليه، كمباشر، وطليع وهو: الذي يكشف للمحاربين حال القافلة ليأتوا إليها، فهو كمباشر، كما في جيش المسلمين إذا دخلوا دار الحرب، وباشر بعضهم القتال وأخذ المال، ووقف الباقون للحفظ والحراسة ممن يدهمهم من ورائهم، أو أرسل الإمام عيناً ليتعرف أحوال العدو، فإن الكل يشتركون في الغنيمة. وذكر أبو الفرج السرقة كذلك، فإذا قتل واحد منهم ثبت القتل في حق جميعهم، فيجب قتل الكل، لأن حكم الردء حكم المباشر؛ وإن قتل بعضهم وأخذ المال بعضهم، قتلوا كلهم وجوباً. انتهى. قال في الإنصاف: وحكم الردء حكم المباشر، هذا المذهب وعليه الأصحاب؛ قال في الفروع: وكذا الطليع. واختار الشيخ تقي الدين: يقتل الآمر كردء، وأن في السرقة كذلك. انتهى. وقول عمر رضي الله عنه: "لو تمالأ عليه أهل صنعاء"، أي: لو تعاون، وفي رواية: "لو أن أهل صنعاء اشتركوا في قتله لقتلتهم أجمعين". قال بعض العلماء في الكلام على أثر عمر المذكور: قوله: تمالأ: مهموز، أي: تعاون; وقال علي رضي الله عنه: "والله ما قتلت عثمان ولا مالأت في قتله" أي: عاونت. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 389 قال الخطابي في تصاحيف الرواة: هو مهموز من الملأ، أي: صاروا كلهم ملأ واحداً في قتله، قال: والمحدثون يقولونه بغير همز، والصواب الهمز، لأن الملأ مهموز غير مقصور. انتهى. واشتراط الفقهاء المباشرة للقتل من الجميع، وأن يكون فعل كل واحد منهم يصلح للقتل به، ومالك، رحمه الله يلحق الممسك، يدل على أنهم حملوا قول عمر رضي الله عنه على التعاون فقط، لا على التشاور. وأجاب أيضاً: وكذا لو أكره على قتل معصوم قتل به، وكذا مكره عند الجمهور. وسئل الشيخ محمد بن إبراهيم، رحمه الله: عما إذا قتل رجل أباه عمداً عدواناً، وهو صحيح، ثم جن، فهل لأولياء المقتول القصاص، باعتبار صحته وقت الجناية، أم لا؟ فأجاب: لا يسقط عنه القود بطرو الجنون، قال في الإقناع وشرحه: فأما إن قتله وهو عاقل، ثم جن، لم يسقط عنه القصاص، لأنه كان حين الجناية عاقلاً، سواء ثبت ذلك ببينة أو إقرار، ويقتص منه، أي ممن جنى عاقلاً ثم جن، في حال جنونه. وسئل أيضاً، رحمه الله: عن إزهاب الرشيد للسفيه الجزء: 7 ¦ الصفحة: 390 البندق، وأمره برميها على معصوم، أو غير معصوم؟ فأجاب: إذا أزهب 1 مكلف بندقاً، ودفعها إلى غير مكلف، وأمره أن يرمي بها معصوماً أو غيره، فالقاتل هو هذا المكلف الذي أزهب البندق ودفعها إلى غير المكلف وأمره بالقتل; وأما هذا المأمور المدفوع إليه البندق، فهو كالآلة، بخلاف ما لو كان المأمور مكلفاً، فإنه هو القاتل، سواء كان سفيهاً أو رشيداً، وحينئذ يكون على من أمره، وأزهب البندق له، التعزير فقط. [قتل الحر بالعبد] سئل الشيخ حمد بن ناصر بن معمر: عن قتل الحر بالعبد؟ فأجاب: إذا قتل الحرُّ العبدَ لم يُقَد به، لقوله تعالى: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} [سورة البقرة آية: 178] . وسئل: إذا ادعى رجل على آخر أنه قتل رجلاً، فأقر بالقتل، ولكن ادعى أنه قتله خطأ، فهل يقبل قوله؟ فأجاب: إذا لم يكن للمدعي بينة وعلم القتل، وصار ثبوت القتل بإقرار المدعى عليه، سئل المدعى عليه عن صفة القتل، فإن كان عمد الفعل بما يقتل غالباً، على تفصيل الفقهاء في أول كتاب الجنايات، فهذا لا يقبل قوله في   1 أي: وضع في البندق ما تثور به. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 391 دعوى الخطإ، لأنه أقر أنه ضربه بما يقتل غالبا؛ وإن أنكر أن يكون تعمد الفعل، بل زعم أنه خطأ محض، وفسره بذلك، فالقول قوله ولا قصاص عليه، لأن من شرطه أن يكون القتل عمداً محضاً، والأصل عدم ذلك، وعلى ذلك فتكون الدية في ماله في دون عاقلته. قال الشيخ إسحاق بن عبد الرحمن بن حسن، رحمهم الله: الذي يظهر لي في آية القصاص من كلام العلماء، رحمهم الله، أن آية البقرة 1 مفصلة لآية المائدة 2 لمنطوقها، وبعض مفهومها مقيد بأحاديث، وآثار عن الصحابة وغيرهم. أما قوله تعالى: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ} فمفهومها: أن الحر لا يقتل بالعبد، وهو مروي عن علي وابن عباس، وغيرهما من الصحابة والتابعين، وفيه حديث مرفوع، رواه الدارقطني، وقال علي: "من السنة لا يقتل حر بعبد"، رواه أحمد؛ وبهذا قال الجمهور، وخالف فيه أبو حنيفة وأصحابه، والثوري وطائفة. وأما قتل العبد بالحر، فمن قوله تعالى: {لنَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [سورة المائدة آية: 45] مفهوم الموافقة من ظاهر الآية، لما قتل العبد   1 هي قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص} الآية [البقرة: 178] . 2 هي قوله تعالى: {وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس} الآية [المائدة: 45] . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 392 بالعبد، فقتله بالحر أولى. وأما قوله تعالى: {وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى} [سورة البقرة آية: 178] فمنطوقها: أن الأنثى تقتل بالأنثى، وعمل بمفهوم المخالفة في عدم قتل الذكر بالأنثى طائفة من السلف، محتجين بسبب النزول، وهو أنه كان بين حيين من أحياء العرب حرب، فاستطال أحدهما على الآخر، وقالوا: لنقتلن الحر بالعبد، والذكر بالأنثى، فنزلت هذه الآية. ورد بمعارضة: المفهوم للمنطوق، في حديث اليهودي، وبمفهوم آية: {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [سورة المائدة آية: 45] ، وبحديث أبي بكر في كتاب الديات، وهو حديث تلقاه الناس بالقبول، وإن كان قد قيل بإرساله. وقد حكى ابن هبيرة اتفاق الأئمة الأربعة: على القول بأن الذكر يقتل بالأنثى، وحكى ابن المنذر الإجماع عليه، وهو المقطوع به، وقول أكثر أهل العلم من فقهاء الأمصار، ومشى عليه المتأخرون من أصحاب أحمد. وقال صديق 1 في تفسيره: والحق أن الذكر يقتل بالأنثى ولا زيادة; والمذهب الثالث: أنه يقتل الذكر بالأنثى، ويعطى أولياؤه نصف الدية، قال في سبل السلام: ولا حجة لهم إلا دعوى تفاوتهما في الدية، وعموم قوله: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [سورة المائدة آية: 45] ورد بأن التفاوت في الدية لا يوجب   1 هو: صديق حين خان صاحب التفسير المشهور. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 393 التفاوت في النفس، ولذا يقتل عبد قيمته ألف بعبد قيمته عشرون. [جراح العبد إذا جنى عليه الحر عمداً] سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ: عن جراح العبد، إذا جنى عليه الحر عمداً، فيما دون النفس؟ فأجاب: قال في الإنصاف: كل من أقيد بغيره في النفس، أقيد به فيما دونها، ومن لا فلا; يعني: ومن لا يقاد به في النفس، لا يقاد به فيما دونها؛ وهذا المذهب، وعليه الأصحاب، كذا ذكره في باب ما يوجب القصاص فيما دون النفس. وقال في باب شروط القصاص: ولا يقتل حر بعبد، هذا المذهب، وعليه الأصحاب. وقال الشيخ تقي الدين: ليس في العبد نصوص صحيحة صريحة، تمنع قتل الحر به، وقوى أنه يقتل به، وقال: هذا الراجح وأقوى على قول أحمد. ثم قال في الإنصاف: ولا يقتل مسلم بكافر، ولا حر بعبد إلا أن يقتله وهو مثله، أو يجرحه ثم يسلم القاتل أو الجارح، أو يعتق ويموت المجروح، فإنه يقتل به؛ يعني: إذا قتل عبد عبداً، أو ذمي أو مرتد ذمياً، أو جرحه، ثم أسلم القاتل أو الجارح، أو عتق، ويموت المجروح، فإنه يقتل به على الصحيح من المذهب، نص عليه، وعليه جماهير الأصحاب. جناية المملوك على الحر وقولك: العبد المملوك إذا جنى على الحر، ما حكمه؟ فجوابها: يعرف من التي قبلها، وهو أنه إن كان الجزء: 7 ¦ الصفحة: 394 موجباً للقصاص في النفس، أو فيما دونها، فإنه يقتص منه، وإن عفا عنه إلى الدية، فإنها تكون في رقبة العبد، أي في ذمته يباع فيها. الواجب بالقتل العمد وقولك: هل للإمام أو نائبه، أو الحاكم: أن يلزموا المجني عليه أن يقتص، ولو طلب الأرش؟ فالجواب: أنه لا يجوز للإمام ولا لنائبه، إلزام المجني عليه أن يقتص من الجاني، ولو طلب الدية، إلا في مسألة الغيلة، فإن مذهب مالك: أنه يقتل حداً، وأمره إلى الإمام ولو عفا أولياء القتيل؛ وهو اختيار الشيخ تقي الدين، لأنه لا يمكن التحرز منه بالمحاربة، وكذلك قاتل الأئمة، فإن القاضي خرج وجهاً في المذهب أنه يقتل حداً. وقول السائل: وهل إذا امتنع الجاني عن بذل الأرش إلا القصاص منه، يوافق على ذلك؟ أم العبرة بالمجني عليه؟ فهذه المسألة مبنية على أصل، وهو: أنه هل الواجب بقتل العمد أحد شيئين، القصاص أو الدية؟ أو أن الواجب في قتل العمد القصاص عيناً؟ وفي ذلك قولان للعلماء، هما روايتان عن أحمد. قال في الشرح الكبير: اختلفت الروايات عن أحمد، رحمه الله، في موجب العمد، فروي عنه: أن موجبه القصاص عيناً، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قتل عمداً فهو قَوَدٌ " 1، وقوله   1 النسائي: القسامة (4790) , وأبو داود: الديات (4539) , وابن ماجة: الديات (2635) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 395 تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [سورة البقرة آية: 178] ، والمكتوب لا يتخير فيه، ولأنه متلف يجب به البدل، فكان معيناً كسائر المتلفات؛ وبه قال النخعي ومالك وأبو حنيفة، قالوا: ليس للأولياء إلا القتل، إلا أن يصطلحا على الدية برضى الجاني. والمشهور في المذهب: أن الواجب أحد شيئين: إما القتل أو الدية، والخيرة في ذلك إلى الول:، إن شاء اقتص، وإن شاء أخذ الدية، وإن شاء قتل البعض إذا كان القاتلون جماعة، لأن كل من له قتله، فله العفو عنه كالمنفرد، ولا يسقط القصاص عن البعض بعفو عن البعض، لأنهما شخصان، فلا يسقط القصاص عن أحدهما بإسقاطه عن الآخر. فمتى اختار الأولياء أخذ الدية من القاتل، أو من بعض القتلة، كان لهم هذا من غير رضى الجاني; وبه قال سعيد بن المسيب، وابن سيرين وعطاء ومجاهد، والشافعي وإسحاق، وأبو ثور وابن المنذر، وهي رواية عن مالك، لقوله تعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} [سورة البقرة آية: 178] . قال ابن عباس: "كان في بني إسرائيل القصاص، ولم يكن فيهم الدية، فأنزل الله هذه الآية: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} الآية [سورة البقرة آية: 178] ?". انتهى. فالعفو: أن يقبل في العمد الدية، فاتباع بالمعروف، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 396 ويؤدي إليه المطلوب بإحسان {ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ} [سورة البقرة آية: 178] مما كتب على بني إسرائيل، رواه البخاري. وروى أبو هريرة رضي الله عنه قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "من قتل له قتيل فهو بخير النظرين: إما أن يؤدى، وإما أن يقاد" 1، متفق عليه. وروى أبو شريح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ثم أنتم يا خزاعة، قد قتلتم هذا القتيل، وأنا والله عاقله، فمن قتل بعده قتيلاً فأهله بين خيرتين: إن أحبوا قتلوا، وإن أحبوا أخذوا الدية "، رواه أبو داود وغيره. فإن قلنا: موجبه القصاص، فله العفو إلى الدية، والعفو مطلقاً، فإذا عفا مطلقاً لم يجب شيء؛ وهذا ظاهر مذهب الشافعي. وقال بعضهم: تجب الدية، لئلا يبطل الدم، وليس شيئاً، فإنه لو عفا عن الدية بعد وجوبها صح عفوه، ومتى عفا عن القصاص مطلقاً إلى غير مال لم يجب لشيء، إذا قلنا: الواجب القصاص عيناً، فإن عفا عن الدية لم يصح عفوه، لأنها لم تجب، وإن قلنا: الواجب أحد شيئين لا بعينه، فعفا عن القصاص مطلقاً، أو إلى الدية، وجبت الدية، لأن الواجب غير معين، فإذا ترك أحدهما تعين الآخر. وإن اختار الدية سقط القصاص ولم يملك طلبه، لأن الواجب أحد شيئين، فإذا تعين أحدهما سقط الآخر. وإن اختار القصاص تعين كذلك; وإن اختار بعد ذلك العفو إلى الدية فله ذلك، ذكره   1 البخاري: الديات (6880) , ومسلم: الحج (1355) , والترمذي: الديات (1405) , والنسائي: القسامة (4785) , وأبو داود: الديات (4505) , وابن ماجة: الديات (2624) , وأحمد (2/238) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 397 القاضي، لأن القصاص أعلى، فكان له الانتقال إلى الأدنى، ويكون بدلاً عن القصاص. وليست التي وجبت بالقتل، كما قلنا في الرواية الأولى: أن الواجب القصاص عيناً، وله العفو إلى الدية، ويحتمل أنه ليس له ذلك لأنه أسقطها باختياره القود، فلم يعد إليها. وعنه: أن الواجب القصاص عيناً وله العفو إلى الديه، وإن سخط الجاني لما ذكرنا؛ قال في الإنصاف: وهذا الصحيح على هذه الرواية، قال في المحرر: وعنه موجبه القود مع التخيير بينهما، وعنه: أن موجبه القود عيناً، وأنه ليس له العفو على الدية بدون رضى الجاني، فيكون قوده بحاله. انتهى. والصحيح - إن شاء الله - أن موجبه أحد شيئين: القصاص، أو الدية، وأن الخيرة في ذلك إلى الولي، والله أعلم. وأجاب أيضاً: والمسلم إذا قتل مسلماً متعمداً، فيخير ولي المقتول بين قتل من قتله، وأخذ الدية. وأجاب بعضهم: إذا عفا بعض الورثة عن القصاص، فإنه يتعذر القصاص، وتلزمه الدية. [من له الحق في العفو عن القصاص] وسئل الشيخ حمد بن ناصر بن معمر، رحمه الله: عن قوله في الإنصاف: وليس للنساء عفو، اختاره الشيخ، هل الجزء: 7 ¦ الصفحة: 398 المراد عفوهن عن القود؟ أو الدية؟ فأجاب: المراد العفو عن القود، وذلك، أن العلماء اختلفوا، هل كل من ورث المال ورث القصاص؟ أم القصاص حق للعصبة ولا مدخل للنساء فيه؟ فأكثر العلماء على الأول، وأنه حق لجميع الورثة، فإذا عفا بعضهم ولو امرأة سقط القصاص وتعينت الدية، سواء كان العافي عن القصاص والدية جميعاً، أو عن القصاص وحده. والقول الثاني: ليس للنساء عفو، وهو قول الحسن وقتادة، والزهري والليث والأوزاعي؛ وعلى هذا: للعصبة أن يقتصوا ولو عفا النساء عن حقهن. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 399 كتاب الديات قال الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: وأما قولكم: إنه يحكى لنا أنكم تأخذون من مال القاتل غير الدية، فنقول هذا كذب وزور، وبهتان علينا؛ بل المسلم إذا قتل المسلم، فالولي مخير بين القود، والدية، والعفو. سئل الشيخ سعد بن عتيق: عن رجل ثارت بندقه، لما أراد أخذ عصاه من الخرج بغير اختياره، وأصابت رجلاً ومات، وكان المصاب أحضر رجالاً عدولاً، وأشهدهم أنه عفا عن صاحب البندق، وأنه أعتقه، ولا يعارض بطرد ولا مطالبة؟ فأجاب: كلام العلماء في العفو عن الجاني وعن الجناية طويل، على أنواع جملة وتفصيلاً، وهذه المسألة هي مسألة: عفو القتيل عن قتل الخطإ. والذي يظهر لي في هذه المسألة: أن حكمها حكم الوصية، وأن الدية يراعى فيها الثلث، فإن خرجت من الثلث، أعني ثلث مال القتيل، فليس للورثة المطالبة بشيء من الدية، وإن كانت الدية أكثر من ثلث مال القتيل، فيعطي الجاني الورثة ما زاد على الثلث، فإن لم يكن للقتيل الجزء: 7 ¦ الصفحة: 400 مال سقط عن الجاني ثلث الدية، والله أعلم. سئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله: عن رجلين تكامخا ... إلخ؟ فأجاب: وأما مسألة الرجلين اللذين تكامخا، فالدية أو يصالحون على دون منها. وأما مسألة الصبي ابن خمس عشرة سنة، فأرجو أن مثله ما يضمن. وأجاب ابنه: الشيخ عبد الله: من روع صبياً فشهق فمات، ضمن الدية. مقادير ديات النفس وسئل: عن مقادير ديات النفس؟ فأجاب: وأما دية المسلم الحر إذا قتل عمداً، وقبل أولياؤه الدية، فهي مائة من الإبل: خمس وعشرون بنت مخاض، وخمس وعشرون بنت لبون، وخمس وعشرون حقة، وخمس وعشرون جذعة؛، وقيمتها وقتنا هذا، بتقدير أمير المسلمين عبد العزيز، وأهل المعرفة: ثمانمائة ريال، وتكون حالَّة. وأما دية الخطإ المخففة، فهي: خمسة أخماس على عشرين، منها عشرون ذكراً، وهي على العاقلة مؤجلة ثلاث سنين، إلا إن كان القتل لم يثبت بالبينة، بل ثبت بإقرار القاتل، فلا تحملها العاقلة، وتكون في مال القاتل. وأجاب أيضاً: ومقدار الدية: مائة ناقة، تقدر اليوم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 401 بقيمة ثمانمائة ريال، ودية المرأة: نصف دية الرجل. وإن كان قتله خطأ زلة، ما قصد قتله، فتلزمه الدية، وتصير على عاقلته، وتصير أثلاثاً في ثلاث سنين، ويلزمه معها عتق رقبة إن كان يقدر، وإن كان لا يقدر، فيصوم شهرين. [أصل الدية وتقديرها] وسئل الشيخ حسن بن الشيخ حسين بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمهم الله تعالى، ونص السؤال: أصول دية النفس من الإبل، والذهب، والفضة، والبقر، والغنم، والْحُلَل، غير خاف عليكم، وقدر عبد العزيز: مائة من الإبل بثمانمائة ريال، فهل هذا التقدير برخصة من الشيخ، رحمه الله، أو لا؟ والآن صارت قيمة الإبل عما هي معلومة ناقصة، فما المعمول به؟ فأجاب: لا نزاع في أن دية الحر المسلم: مائة من الإبل، أصل في الدية; واختلف عن أحمد، هل هي الأصل لا غير، أو معها غيرها؟ وهل ذلك الغير أربعة أشياء، أو خمسة؟ فعنه: أنها الأصل، لأن في حديث عمرو بن حزم: " في النفس مائة من الإبل "، رواه النسائي، ومالك عن عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده، قال: " قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن من قتل خطأ، فديته من الإبل: ثلاثون بنت مخاض، وثلاثون بنت لبون، وثلاثون حقة، وعشرة بني لبون ذكور " 1، رواه أبو داود والنسائي، وذكر حديث عقبة بن عامر بن أويس، وحديث عبد الله بن عمرو، ثم قال:   1 النسائي: القسامة (4801) , وأبو داود: الديات (4541) , وابن ماجة: الديات (2630) , وأحمد (2/217) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 402 وظاهر هذه الأحاديث، أن الدية هي الإبل خاصة، ويؤيد ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم فرق بين دية العمد والخطإ، فغلظ العمد، وخفف الخطأ، ولم يرد ذلك عنه إلا في الإبل. وعنه: أنها خمسة أشياء كل منها أصل برأسه: الإبل، والبقر، والغنم، والذهب، والفضة; أما في الإبل فلما تقدم; وأما في البقر والغنم، فإن في حديث عمرو بن شعيب:? "قضى على أهل البقر بمائتي بقرة، ومن كان دية عقله في شاء، فألفا شاة". وأما في الذهب والفضة، فلما روى ابن عباس: " أن رجلاً من بني عدي قتل، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ديته اثني عشر ألفاً " 1، رواه الترمذي والنسائي وأبو داود وهذا لفظه. ولمالك في الموطأ: بلغه أن "عمر بن الخطاب رضي الله عنه قوّم الدية على أهل القرى، فجعل على أهل الذهب: ألف دينار، وعلى أهل الورِق: اثني عشر ألف درهم"، قال مالك: فأهل الذهب أهل الشام ومصر، وأهل الورق أهل العراق. وعنه: أنها ستة أشياء، فيضاف إلى الخمسة السابقة: مائتا حلة، وهذه اختيار القاضي، وكثير من أصحابه، لما روى عطاء بن أبي رباح: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في الدية على أهل الإبل: مائة من الإبل، وعلى أهل البقر: مائتي بقرة، وعلى أهل الشاء: ألفي شاة، وعلى أهل الحلل: مائتي   1 الترمذي: الديات (1388) , والنسائي: القسامة (4803) , وأبو داود: الديات (4546) , وابن ماجة: الديات (2632) , والدارمي: الديات (2363) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 403 حلة، وعلى أهل القمح: شيئاً لم يحفظه محمد بن إسحاق " 1، والرواية الأولى أظهر دليلاً، على أن أحاديث تلك الرواية لا تقاوم تلك الأحاديث. وعلى تقدير مقاومتها، فيحمل على أنه جعل ذلك بدلاً عن الإبل، وظاهر في حديث عمرو بن شعيب، إذ أوله: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقوم الدية على أهل القرى: أربعمائة دينار، أو عدْلها من الورق، ويقومها على أثمان الإبل إذا غلت أرفع قيمتها، وإذا هاجت - رخصت - نقصت من قيمتها "، وبلغت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعمائة، إلى ثمانمائة، وعدلها: ثمانية آلاف درهم. قال: "وقضى على أهل البقر: بمائتي بقرة، ومن كان دية عقله في شاء: فألفا شاة"، وهذا ظاهر في أنه إنما كان يعتبر الإبل لا غير، بل هو نص في الذهب والورق، أنه كان يعتبرهما بالإبل، وحديث ابن عباس واقعة عين لا عموم له، وفعل عمر ظاهر على أن تلك في سبيل التقويم، فهو مؤيد لما قلناه. وأبو محمد يختار في العمد قولاً رابعاً، هو بعض الرواية الثانية، وهو: أن الدية: مائة من الإبل، أو ألف مثقال، أو اثنا عشر ألف درهم؛ وهذا ظاهر في الورق، لحديث ابن عباس إن صح. وعلى الرواية الأولى: من وجب عليه الدية، متى قدر على الإبل لا يجزئه غيرها،   1 أبو داود: الديات (4543) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 404 وإن عجز عنها انتقل إلى ما شاء من الأربعة أو الخمسة على اختلاف الروايتين، وكذلك إذا لم توجد الإبل إلا بأكثر من ثمن المثل. قال أبو محمد: وهذا ينبغي فيما إذا كانت الإبل موجودة بثمن مثلها، إلا أن هذا لا يحدها، لكونها في غير مثبت، أو نحو ذلك، فإذًا ينتقل إلى غيرها; أما إذا غلت الإبل من غير نظر إلى قيمة، وهذا إحدى الروايتين، واختيار الشيخين، لظاهر حديث عمرو بن حزم، وحديث عمرو بن شعيب، وغيرهما، فإنه صلى الله عليه وسلم أطلق الإبل، ولم يقيدها بقيمة، فتقييدها بها يحتاج إلى دليل، وكذلك الأحاديث التي فيها ذكر: البقر، والغنم، والحلل التي فيها اعتبار قيمة. أيضاً، فإنه صلى الله عليه وسلم فرق بين دية العمد والخطإ، فغلظ دية العمد وشبهه، وخفف دية الخطإ، واعتبار القيمة يفضي إلى التسوية بينهما، وهو خلاف ما تضمنته سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. والرواية الثانية: يعتبر أن لا تنقص المائة بعيراً عن دية الأثمان، نظراً إلى أن عمر قوّمها كذلك، فيعتبر أن قيمتها كذلك؛ وأجيب: أنه اتفق أن قيمتها في ذلك الوقت كان كذلك، فصرنا إليه عند ذلك، حذراً من التنازع. وحكى أبو محمد في الكافي الرواية: أنه يعتبر أن يكون قيمة كل الجزء: 7 ¦ الصفحة: 405 بعير مائة وعشرين درهماً، وقال في المغني: إن الأصحاب ذكروا أن ذلك مذهب أحمد، والتحقيق هو الأول. انتهى ملخصاً من شرح الزركشي على الخرقي. إذا تقرر هذا، فالمتعين المعمول به هو ما نص عليه الشارع - صلوات الله وسلامه عليه - مهما أمكن، ولا يقال بالقيمة إلا عند التعذر، فحينئذ يرجع إلى القيمة في الجميع، كل أصل بقيمته؛ وقيمة الريال بالدراهم الإسلامية، بالتحرير تقريباً: تسعة دراهم، كذا قيل. وما علمنا، فيما بلغنا عن شيخ الإسلام، رخصة بتقدير قيمة الإبل خاصة بما ذكر، وإنما ذلك من ولي الأمر، في دية أعوز السن فيها ذلك الوقت، فقومت المائة بثمانمائة ريال، لا أنها بدل وقيمة مطلقاً، بل في وقت تقوم تكون قيمتها الثمان، وفي وقت أربعاً، وفي غيره ثلاثاً، وغير ذلك بحسب الغلاء والرخص؛ فقد عرفت المتيقن المعمول به، هذا ما ظهر لي. وأجاب بعضهم، رحمه الله: وأما إذا اختلفت القيم، أي: قيم الدية والبلدان، فإنه ينظر إلى قيمة الإبل في بلد القاتل، إذا لم توجد الإبل. [حكم الدية على من قتل في الجاهلية ثم أسلم] سئل علماء الدرعية، رحمهم الله: عمن قتل في الجاهلية ثم أسلم؟ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 406 فأجابوا: وأما حكم هذا الشخص إذا قتل ثم أسلم قاتله، فإنا لا نحكم بديته على قاتله إذا أسلم، بل نقول: الإسلام يجُبُّ ما قبله، لأن القاتل قتله في حال كفره. وأجاب الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: وأما قتل الجاهلية، والجراحات، فما كان من ذلك مقطوعاً ديته، مضموناً، كثيراً أو قليلاً، فإنه يدفع إلى صاحبه، أو لم يكن مقطوعاً، ولا مطالباً به، فهدر. وأجاب أيضاً: إذا أسلم سقط ما فعله في الشرك، وليس عليه دية لأهل القتيل، فإن كانت ديناً في الذمة، وقدرت بشيء معلوم، ودفع بعضه فيدفع الباقي، فإن كان لم يطالب بها إلا بعد الإسلام، ولا دفع منها شيئاً، فهدر. سئل الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن: هل يودى المشرك؟ فأجاب: إذا ضرب المشرك أو جرح فدمه هدر، إلا الذمي، والمعاهد، والمستأمن، فديتهم إذا أصيبت نفس أحدهم، ثمانمائة درهم، والجروح ينظر فيها على قدر دياتهم. [هل المرأة تعاقل الرجل حتى تبلغ ثلث الدية] سئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ: هل المرأة تعاقل الرجل حتى تبلغ ثلث الدية؟ فأجاب: المرأة كالرجل، تساوي جراحها جراحه، حتى تبلغ ثلث ديته، على الصحيح من المذهب. واستدل الجزء: 7 ¦ الصفحة: 407 علماؤنا، رحمهم الله، في كتبهم، بحديث عمرو بن شعيب، الذي رواه النسائي، بكلام سعيد بن المسيب لربيعة، وهو ظاهر في أن المراد الثلث من دية الرجل؛ ولفظ الحديث الذي نقلت من شرح زاد المستقنع، هو كما نقلت، وهو كذلك في المنتقى والمحرر، والجامع الصغير، ولفظه: عن عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " عقل المرأة مثل عقل الرجل، حتى تبلغ الثلث من ديتها "1، رواه النسائي والدارقطني. قال الحافظ ابن عبد الهادي في محرره: هو من رواية إسماعيل بن عياش، وهو كثير الخطإ؛ وعلى تقدير صحته، واستدلال الفقهاء به، يحتمل أن يكون الضمير للمضاف إليه المحذوف، أي: عقل جراح المرأة، فهو راجع إلى الجراح، لكونه مفهوماً من الحديث، لا إلى المرأة، إذ لو كان كذلك، لما صح الاستدلال به، على أن جراح المرأة مثل جراح الرجل، حتى تبلغ الثلث من ديته، مع مخالفته لكلام سعيد؛ وقد استدل العلماء بهما معاً على حكم واحد، وذلك ينبئ عن الاتفاق في المعنى. دية الرقيق سئل الشيخ حمد بن ناصر بن معمر: عن دية الرقيق؟ فأجاب: دية المملوك قيمته، سواء كثرت أو قلت. وسئل: هل الغرة في الجنين واجبة على كل حال، خلق أم لا؟   1 النسائي: القسامة (4805) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 408 فأجاب: المشهور أن الغرة تجب إذا وضعت المرأة ما تنقضي به عدتها، وتصير به الأمة أم ولد، وذلك إذا تبين فيه خلق الآدمي. دية الجنين سئل الشيخ سعيد بن حجي: إذا شربت دواء أو جنى الزوج على زوجته وألقت جنيناً ميتاً، هل تجب الغرة ولا يرث منها ... إلخ؟ فأجاب: إذا شربت الحامل دواء وألقت جنينها، فعليها غرة عبد أو أمة، ولا ترث منها شيئاً، لأن القاتل لا يرث المقتول، فتكون الغرة لسائر ورثته، وعليها عتق رقبة؛ وليس في هذا اختلاف بين أهل العلم نعلمه. ولو كان الجاني المسقط الجنين أباً، أو غيره من ورثته، فعليه غرة لا يرث منها شيئاً ويعتق رقبة؛ وهذا قول الزهري والشافعي وغيرهما. ولو قتل حاملاً فلم تسقط جنينها، فلا شيء فيه، لأنه لا يثبت حكم الولد إلا بخروجه. انتهى من الإقناع وشرحه. وعبارة الكافي: وإن قُتِلت فلم تسقط لم يضمن جنينها، لعدم اليقين لحملها. انتهى. وكذا قال الزركشي وغيره، وكذا قال ابن المقري الشافعي في شرح الإرشاد. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 409 [فصل في دية العين والسمع والبصر] سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ: عن دية العين والسمع والبصر ... إلخ؟ فأجاب: أما دية العين والسمع إذا ذهب والبصر، مع عفو المجني عليه عن القصاص، كم هي دراهم؟ فالبصر إذا ذهب كله: الدية كاملة مائة من الإبل، تقديرها عندنا: ثمانمائة ريال. دية الأعضاء سئل الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن: عن اليد إذا قطعت من المرفق ولم يبق فيها إلا جلدة يسيرة؟ فأجاب: في اليد نصف الدية، ولا عبرة بالجلدة. سئل الشيخ حمد بن ناصر بن معمر: إذا عاب من الإنسان يده أو رجله وبقي العضو مع عيبه، هل الدية تامة؟ فأجاب: هذا فيه تفصيل، وذلك أن ينظر إلى العضو، فإن ذهب نفعه بالكلية، بحيث تعطل نفعه فديته تامة، وأما إذا كان في العضو نفع، فليس فيه من الدية إلا بقدر الذاهب من النفع. سئل الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن: عمن ضرب في كفه وحصل بالكف عيب؟ فأجاب: إن تعطل بالكلية ففيه الدية، وإن تعطل بعض الأصابع، ففي كل أصبع إذا تعطلت عُشْر الدية. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 410 وسئل بعضهم: عن الضلع، والترقوة، والسن السوداء ... إلخ؟ فأجاب: أما الضلع والترقوة والسن السوداء، أو السن الزائدة، واليد الشلاء، ففي مصنف عبد الرزاق:? "أن عمر قضى في السن السوداء، واليد الشلاء بثلث ديتها"، وفيه عن زيد بن ثابت أنه قال: "في السن الزائدة ثلث دية السن"، وفيه عن عمر أنه قال: "في الترقوة جمل، وفي الضلع جمل"، وأما السن الذي قد ذهب نفعها إلا للجمال، فلا يحضرني الآن فيها شيء مقدر. دية الشجاج سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: عن دية السن والإصبع والشجاج وغيره؟ فأجاب: دية السن: خمس من الإبل، وقيمتها: أربعون ريالاً. والإصبع: عشر من الإبل، وقيمتها: ثمانون ريالاً. والموضحة في الرأس تقدر: بخمس من الإبل، وهي: الموضحة التي توضح العظم، أي: يتبين ولو بقدر رأس إبرة، فيها: خمس قيمتهن: أربعون ريالاً للذي ما عنده إبل؛ وموضحة الوجه والرأس سواء. وإن أوضحه موضحتين بينهما حاجز، ففي كل واحدة دية الموضحة. ثم الهاشمة وهي: التي توضح العظم وتهشمه، ففيها: عشر من الإبل، قيمتهن: ثمانون ريالاً. ثم المنقلة وهي: التي توضح وتهشم، وتنقل عظامها بتكسرها، ففيها: خمس عشرة من الإبل، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 411 قيمتهن: مائة وعشرون ريالاً. ثم المأمومة، وهي: التي تصل إلى أم الدماغ، وهي الجلدة التي فيها الدماغ، وفيها: ثلث الدية. وفي الدامغة: ثلث الدية، وهي: التي تخرق جلدة الدماغ. وما سوى ذلك من الشجاج فليس فيه تقدير، بل يجتهد فيه الحاكم هو واثنان من أهل العدالة، ويقدرونه باجتهادهم. وفي الجائفة: ثلث الدية، وهي: التي تصل إلى باطن الجوف، من بطن أو صدر أو ظهر؛ فإن كانتا جائفتين وبينهما حاجز، ففيهما: ثلثا الدية. وفي قطع مارن الأنف: الدية. وفي كل واحد من المنخرين والحاجز بينهما: ثلث الدية. وفي كل واحدة من الثندوتين نصف الدية. وقال أيضاً: الشيخ عبد الله بن الشيخ: يعلم من يراه، بأن دية الموضحة، سواء كانت في الرأس أو في الوجه، إذا بان العظم ولو قدر مقرّ إبرة، فديتها: خمس من الإبل، فإن هشمت العظم فديتها: عشر، فإن سقط منها عظام فديتها: خمس عشرة. وفي الرجل المكسورة، أو اليد إن كان نفعها زائلاً بالكلية: خمسون ناقة؛ فإن كان ذهب بعض نفعها، ثبت من الدية بقدر ما ثبت من النفع. والإصبع إذا قطعت فيها: عشر من الإبل؛ وفي الفصلة من الإبهام خمس من الإبل. والرصاصة أو الرمح إذا هوى في البطن، ففيه: ثلث الجزء: 7 ¦ الصفحة: 412 الدية، فإن كانت خرقت الجنب الآخر، ففيها: ثلثا الدية، لأنها جائفتان. وفي الضلع: بعير، إذا انكسر. وفي الترقوة: بعير. وفي الذراع إذا انكسر: بعيران. وفي الفخذ إذا انكسر: بعيران. وفي العضد إذا انكسر بعيران. والجروح التي غير ما ذكرنا، يجتهد العمال في ديتها، ولا يبلغون بها دية ما ذكرنا. [أرش الجراحات] وقال الشيخ حسن بن الشيخ محمد: بيان أرش الجراحات على التقدير، أي: الحد، وهي في الرأس، والوجه، تسمى: شجاجاً، وفي البدن دون الرأس والوجه، تسمى: جراحات. الأولى: في الرأس والوجه، تسمى: حارصة، وهي ما تشق الجلد ولا تدميه، فأرشها: خمسة دنانير. الثانية: وهي التي تشق الجلد وتدمي، ولا يقطر دمها، فأرشها: عشرة دنانير؛ فإن سال منها الدم فهي: دامعة - بالعين المهملة – فأرشها: اثنا عشر مثقالاً ونصف مثقال. الثالثة: الباضعة، وهي: ما تقطع اللحم قليلاً، فأرشها: عشرون ديناراً. الرابعة: المتلاحمة، وهي: ما تقطع اللحم كثيراً، فأرشها: ثلاثون ديناراً. الخامسة: السمحاق، وهي: ما يبقى بينها وبين العظم جلدة رقيقة، فأرشها: أربعون ديناراً. السادسة: وهي ما توضح العظم في الرأس والوجه، ففيها القصاص إذا كان عمداً محضاً، فإن كان خطأً أو عفا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 413 عن المال، فأرشها: خمس من الإبل نصف عشر دية صاحبها. السابعة: الهاشمة، ففيها: عشر من الإبل. الثامنة: المنقلة، وهي: التي تنقل العظم، وأرشها: خمس عشرة من الإبل. التاسعة: وهي التي تصل إلى الجلدة التي تلي الدماغ، ففيها: ثلث الدية أيضاً، كالمأمومة والجائفة. هذا إذا كانت الجراحة في وجه الرجل المسلم الحر، أو في رأسه؛ فإن كانت على غير الرأس والوجه، ففي الكل: نصف ذلك، والمرأة: نصف ذلك، وهكذا مقتضى الحكومة. والمثقال هو: الدينار من الذهب: ثنتان وسبعون شعيرة، والدرهم: خمسون شعيرة وخمساها، وكل عشرة دراهم: سبعة مثاقيل. وأجاب الشيخ حمد بن ناصر: الجراحات المقدرات، مثل الموضحة، والمأمومة إذا كانت في العبد، فديتها فيه نسبتها من ثمنه، والموضحة من الحر ديتها: نصف عشر الدية، ومن العبد: نصف عشر قيمته بعد البرء، والجائفة في الحر فيها: ثلث الدية، ومن العبد: ثلث قيمته. وأما الجراحات التي لا مُقدَّر فيها من الحر، فديتها من العبد ما نقص قيمته بعد البرء. وأما قولك: من ينظر في جراحات النساء؟ فالذي ينظر في جراح النساء، من يوثق به من أهل الخبرة والمعرفة. وأجاب الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن: الجرح الجزء: 7 ¦ الصفحة: 414 في الرِّجل، والفخذ، لا تقدير فيها، إذا سلم العظم، ولم تتعطل منفعة العضو، ولكن فيها حكومة، وهي: أن يُقَوَّم المجني عليه قيمة عبد، ثم ينظر ما نقصته الجروح، فإن نقصته عشر القيمة أو ثمنها مثلاً، فيعطى من دية الحر الخمس أو العشر. وسئل الشيخ سعد بن حمد بن عتيق: عن جماعة تعدوا على رجل وضربوه، وحصل فيه شجاج، ويدعي أن هذه الشجة من فلان، وهذه من فلان مثلًا، وهم لا ينكرون أنهم تعدوا وضربوا، لكن كل ينكر تلك الشجة المعينة أن تكون منه؟ فأجاب: ما يكون من الشجاج والجروح، على الوجه الذي ذكرت، يعرف أرشه، وما يستحقه من القيمة على جميع المعتدين، المجتمعين على ذلك العدوان. وأما ما سألت عنه: من عادتنا في تقدير حكومة الشجاج التي دون الموضحة، فالجواب غير خاف عليك حقيقة الحكومة وكيفيتها، ونحن في الغالب ما نعتبر الحكومة، لكن نتحرى ما تأخذ الجناية من اللحم الحاصل بين البشرة وبين العظم - أعني: حد الموضحة - ثم نعرف نسبة ما أخذته الجناية من اللحم، إلى أرش الجناية، وهو: نصف عشر الدية؛ فإذا عرفنا أن الجناية أخذت ثلث ما بين البشرة إلى حد الموضحة، ففيها: ثلث أرش الموضحة، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 415 وهكذا. وهذا قد ذكره بعض العلماء، وهو حسن، لكنه يحتاج إلى عارف بصير بالجراحات؛ ولكن إذا علم الله من العبد تحري العدل والإنصاف، فالله يغفر له. سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: إذا لم تنقص الجناية المجني عليه بعد البرء ولا حالة جريان الدم؟ فأجاب: المشهور في المذهب أنه لا شيء فيها سوى التعزير، فقد صرحوا بوجوب التعزير في ذلك; قال في الإنصاف، في هذه المسألة: فإن لم تنقصه شيئاً بحال، أو زادته حسناً كإزالة لحية امرأة، أو إصبع زائدة ونحوه، فلا شيء فيه؛ هذا المذهب وعليه جماهير الأصحاب، قال في المحرر: فلا شيء فيها على الأصح، قال في الفروع: فلا شيء فيها في الأصح، وكذلك قال الناظم، وصححه في المغني والشرح وغيرهما. وقيل: بلى، قال القاضي: نص أحمد على هذا، قال المصنف: على هذا يُقَوَّم في أقرب الأحوال إلى البرء، فإن لم ينقص في ذلك الحال، قُوِّم حال جريان الدم، لأنه لا بد من نقص للخوف عليه، ذكره القاضي، وجزم بهذا القول في الهدى، والمذهب والخلاصة. انتهى. وعلى القول الأول، يعزر الجاني، لأنهم صرحوا بوجوب التعزير في جناية لا قصاص فيها، كالصفع والوكز ونحو ذلك، مع أن في اللطمة ونحوها، رواية في ثبوت الجزء: 7 ¦ الصفحة: 416 القصاص في ذلك؛ قال في الإنصاف، لما ذكر عدم وجوب القصاص في ذلك، قال: إنه المذهب، وعليه الأصحاب، قال ونقل حنبل والشالنجي: القود في اللطمة ونحوها. ونقل حنبل: قال الإمام أحمد والشعبي، والحكم وحماد، قالوا: ما أصاب بسوط أو عصا، وكان دون النفس، ففيه القصاص، قال أحمد: وكذلك أرى; ونقل أبو طالب: لا قصاص بين المرأة وزوجها في أدب يؤدبها به، فإن اعتدى أو جرح، يقتص لها منه. ونقل ابن منصور: إذا قتله بعصا، أو خنقه، أو شدخ رأسه بحجر، يقتل بمثل الذي قتل به، لأن الجروح قصاص; ونقل أيضاً: كل شيء من الجروح والكسر يقدر على القصاص، يقتص منه، للأخبار؛ واختار ذلك الشيخ تقي الدين، وقال: ثبت عن الخلفاء الراشدين. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 417 [فصل في الذين لا يلزمهم عقل] سئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب: عن عمودي النسب هل يعقلون؟ فأجاب: وعمودي النسب ما يلزمهم عقل. سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ: هل يحمل الصبي والمرأة واليتيم شيئاً من الدية؟ فأجاب: الصبي والمرأة واليتيم، ما عليهم شيء من الجزء: 7 ¦ الصفحة: 417 الدية التي تسوقها العشيرة، ولو كان أبو اليتيم القاتل. سئل الشيخ سعيد بن حجي: عن الذين يعقلون في الدية، ما حدهم الذي ينتهون إليه في البعد والقرب؟ فأجاب: لا خلاف بين أهل العلم، أن العاقلة العصبات، وأن غيرهم من الإخوة من الأم، وسائر ذوي الأرحام، والزوج، وكل من عدا العصبات، ليس هم من العاقلة; وسائر العصبات من العاقلة، بعدوا أو قربوا من النسب، والولاء؛ وبهذا قال عمر بن عبد العزيز، وحماد ومالك والشافعي، ولا أعلم عن غيرهم خلافهم، ولا يعتبر أن يكونوا وارثين في الحال، بل متى كانوا يرثون لولا الحجب عقلوا - إلى أن قال - وليس على فقير من العاقلة، ولا صبي، ولا زائل عقل، حمل شيء من الدية، وأكثر أهل العلم: أنه لا مدخل لأحد من هؤلاء في تحمل العقل. قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم، على أن المرأة والصبي الذي لم يبلغ، لا يعقلان، وأجمعوا على أن الفقير لا يلزمه شيء؛ وهذا قول مالك والشافعي، وأصحاب الرأي. انتهى ملخصاً. فقد علمت: أن العاقلة: العصبات الذين يرثون بالتعصيب، وأنهم يعقلون وإن حجبوا، وأن الفقير والمرأة والصبي لا عقل عليهم. سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ: عن قوم اجتمعوا وعقدوا بينهم العهود في الموازرة، والمعاونة على الجزء: 7 ¦ الصفحة: 418 الأضياف، والمدافعة، وأنهم يعقلون في الدماء، عمدها وخطأها؟ فأجاب: الحلف إذا وقع على خلاف أحكام الشرع لم يجب التزامه، ولا الوفاء به، فإن قضاء الله أحق وشرط الله أوثق، كما ثبت في الصحيحين من حديث بريرة - الحديث -. وهذا الحلف المذكور على هذا الوجه، يخالف حكم الله، فإن الحكم الشرعي: أن دية العمد على القاتل خاصة، ودية الخطإ على العاقلة؛ وهذا أمر لا خلاف فيه بين العلماء، فكيف يبطل هذا الحكم الشرعي، بحلف الجاهلية وعقودهم وعهودهم؟! وسئل: عن الصبي إذا قتل؟ فأجاب: الصبي إذا قتل أحداً خطأ أو عمداً، فدية المقتول على عاقلة الصبي، لأن عمده كالخطإ. ومن قتله المسلمون خطأ، فديته على بيت المال، والعاقلة لا تحمل إلا الخطأ في الجائفة فما فوقها، وأما دون الجائفة في الخطإ، ففيه خلاف بين العلماء؛ والذي نفتي به عندنا: أنها لا تحمل ما دون الثلث، وإنما تحمل ما فوق الثلث فأكثر في الخطإ خاصة; فدية الجائفة والمأمومة على الجاني خاصة في العمد، والظاهر أنها ليست منجمة، بل هي حالة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 419 سئل الشيخ حمد بن ناصر بن معمر: ما المعتبر فيما تحمله العاقلة ... إلخ؟ فأجاب: اعلم أن المشهور: أن العاقلة لا تحمل ما دون الثلث، ولا تحمل ما فوق الثلث إلا في الخطإ خاصة; وأما في العمد، فتلزم الجاني في ماله حالّة، وإذا حملت العاقلة رد ولم تحمل؛ فالاعتبار في ذلك بحال المجني عليه، إذا كان حراً مسلماً ولم يكن جنيناً. وأما دية الجنين، فلا تحمله العاقلة لنقصه عن الثلث، إلا إذا كان تبعاً لأمه. سئل الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين: إذا تعذر حصول الأرش الواجب على العاقلة لعدمهم أو فقرهم، وتعذر الأخذ من بيت المال، فهل يلزم به الجاني؟ فأجاب: الصحيح من المذهب: السقوط والحالة هذه، ولا يطالب الجاني بذلك؛ قال في الإنصاف: هو المذهب، وعليه أكثر الأصحاب، بناء على أن الدية وجبت على العاقلة ابتداء. وجزم به الخرقي وصاحب الوجيز والمنور، ومنتخب الآمدي، وغيرهم؛ قال ابن منجا في شرحه: هذا المذهب، وقدمه في المحرر والنظم والرعايتين، والحاوي الصغير والفروع وغيرهم، وهو من مفردات المذهب. ويحتمل أن تجب في مال القاتل؛ قال المصنف هنا: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 420 وهو أولى، فاختاره، يعني: اختار المصنف - وهو الشيخ موفق الدين بن قدامة - هذا القول الثاني; قال في الشرح: فإن لم يمكن الأخذ من بيت المال، فليس على العاقلة شيء؛ وهذا أحد قولي الشافعي; ولأن الدية لزمت العاقلة ابتداء، بدليل أنها لا يطالب بها غيرهم - إلى أن قال - فعلى هذا، إن وجد بعض العاقلة، حملوا بقسطهم، وسقط الباقي فلا يجب على أحد. قال شيخنا: ويحتمل أن تجب في مال القاتل، إذا تعذر حملها عنه، وهذا القول للشافعي، لعموم قوله تعالى: {وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [سورة النساء آية:92] ، ولأن قضية الدليل وجوبها على الجاني، جبراً للمحل الذي فوته، وإنما سقط عن القاتل، لقيام العاقلة مقامه في جبر المحل، فإذا لم يوجد ذلك بقي واجباً عليه بمقتضى الدليل، ولأن الأثر دائر بين أن يبطل دم المقتول، وبين إيجاب ديته على المتلف، ولا يجوز الأول، لأن فيه مخالفة الكتاب والسنة، وقياس أصول الشريعة، فتعين الثاني، ولأن إهدار الدم المضمون لا نظير له، وإيجاب الدية على القاتل له نظائر؛ وأطال الكلام في تقوية هذا القول. واختار هذا القول الثاني أيضاً: الشيخ تقي الدين، قال في الاختيارات: وتؤخذ الدية من الجاني خطأ عند تعذر العاقلة، في أصح قولي العلماء; قال في شرح الإقناع: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 421 وعنه: تجب في مال القاتل، قال في المقنع: وهو أولى، أي: من إهدار دم الأحرار في غالب الأحوال، فإنه لا يكاد توجد عاقلة تحمل الدية كلها، ولا سبيل إلى الأخذ من بيت المال، فتضيع الدماء. القسامة سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ: هل في العبيد والصبيان والنساء القسامة؟ فأجاب: نعم في العبيد والصبيان والنساء القسامة، إذا قتل أحد منهم، وإذا ثبت اللوث ثبتت القسامة؛ والذي ذكر بعض أهل العلم: أن النساء لا قسامة عليهن، يعنون بذلك أنهن لا يحلفن مع الرجال في القسامة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 422 كتاب الحدود سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد، رحمهما الله: عمن يقيم الحدود. فأجاب: الذي ذكر العلماء أن الإمام هو الذي يقيم الحدود، أو نائبه كالأمير الذي يؤمِّره الإمام على بلده، أو عشيرته؛ وإذا ثبت ذلك جاز له إقامة الحدود على الوجه المشروع الذي شرعه الله ورسوله، وبيّنه أهل العلم في كتبهم; وأما إذا كان لا يعرف ذلك، وليس عنده من يعلمه بذلك، فلا يجوز له الإقدام على ذلك. وأما إذا نصب نفسه أميراً من غير نصب من أمير المسلمين، فلا يجوز له الإقدام عليه أيضاً. وأجاب الشيخ حمد بن ناصر بن معمر: وأما الحدود إذا بلغت السلطان، فالمراد بالسلطان الأئمة والقضاة، وكمن يستنيبهم الإمام ويوليهم في بلدهم. وأجاب الشيخ عبد الرحمن بن حسن: وأما المعاصي التي فيها الحد، فلا يقيمه إلا الإمام أو نائبه; وأما الحدود إذا بلغت السلطان، فالمراد بالسلطان: الأئمة والقضاة، كمن يستنيبهم الإمام ويوليهم في بلدانهم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 423 [حد الزنى] سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ: عن حد الزاني؟ فأجاب: حد الزاني المحصن - وهو الذي قد تزوج -: الرجم، إذا ثبت زناه بشهادة أربعة شهود عدول، يشهدون بأنهم رأوا ذكره في فرجها داخلاً، كدخول الميل في المكحلة؛ فإن توقف واحد منهم في شهادته على ما ذكرنا، فالشهود يحدون حد القذف، كل واحد يضرب ثمانين جلدة؛ والشهادة المعتبرة في الزنى صعبة جداً. وإذا ثبت زناه بشهادة أربعة، رجم بالحجارة التي تؤخذ في اليد، واقفاً أو جالساً; والمرأة تشد عليها ثيابها عن التعري، أو يحفر لها حفيرة. وأما الرجل الذي لم يتزوج، والمرأة التي لم تتزوج، فإذا ثبت زناه بشهادة أربعة شهود عدول، فيجلد مائة جلدة ويغرب عن وطنه عاماً. وأما السوط الذي يجلد به، فهو مثل الجريدة والعصا، بشرط أنها لا تكسر العظام. وأجاب أيضاً: وأما حد الزاني، فإن كان محصناً - وهو الذي قد تزوج -: الرجم حتى يموت; وإن كان بكراً لم يتزوج: مائة جلدة، ويغرب عن بلده عاماً؛ والمرأة كالرجل في ذلك، هكذا ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وسئل: إذا وطئ ربيبته أو امرأة ابنه مطاوعة أو مكرهة؟ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 424 فأجاب: إن كانت مطاوعة لزمها الحد بغير خلاف، ومذهب أحمد: أنه إذا وطئ ذات محرم فإنه يقتل؛ وأما إذا كانت مكرهة، فليس عليها حد، وإن كانت مطاوعة فعليها الحد بشروطه. والصبي إذا زنى يؤدب أدباً بليغاً، ولا يحد إذا كان دون البلوغ، والأمة إذا زنت فيجلدها سيدها خمسين جلدة. سئل الشيخ حمد بن ناصر بن معمر: إذا وطئ الصبي الصبية هل يلزمهما غير التعزير؟ فأجاب: لا يلزمهما حد، بل يعزران تعزيراً بليغاً; قال الشيخ تقي الدين: لا خلاف بين العلماء أن غير المكلف يعزر على الفاحشة تعزيراً بليغاً. وسئل: إذا زنت المرأة البكر وجلدت، فهل تغرب؟ فأجاب: المسألة فيها خلاف بين العلماء، والمشهور أنها تغرب كما هو ظاهر الحديث، أعني قوله صلى الله عليه وسلم: " البكر بالبكر: جلد مائة، وتغريب عام "1. [الإقرار بالزنى] وسئل: عن الإقرار بالزنى هل يكفي فيه مرة أو أربع؟ فأجاب: المسألة خلافية بين أهل العلم، والأحوط أنه لا بد من الإقرار أربع مرات، كما هو مذهب الإمام أحمد، ولا بد أن يقيم على إقراره حتى يتم الحد؛ بل لو شرعوا في   1 مسلم: الحدود (1690) , والترمذي: الحدود (1434) , وأبو داود: الحدود (4415) , وابن ماجة: الحدود (2550) , وأحمد (5/313, 5/327) , والدارمي: الحدود (2327) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 425 إقامة الحد عليه فرجع، تُرك، لحديث ماعز. ما يثبت به الزنى سئل الشيخ محمد بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن: عن محصن زنى ببكر تزعم أنه غصبها، وهما عسيفان لرجل، وهرب الزاني، والمرأة ليس لها إلا عصبة أباعد، فما حكمها؟ فأجاب: الرجل إذا زنى وهو محصن، وثبت زناه بشهادة أربعة شهود عدول، وثبتوا على شهادتهم، أو أقر أربع مرات وهو صحيح العقل، وجب رجمه، فإن لم يكمل النصاب أو الإقرار، عزر. والمرأة البكر إذا ثبت زناها، جلدت مائة جلدة، وغربت عن وطنها عاماً، وغرب معها ذو محرم؛ فإن لم يكن لها محرم، أو خيف عليها من التغريب، تركت بعد تأديبها. فإن ادعت أنها مكرهة أو مغصوبة، سقط عنها الحد؛ ولا حد إلا بعد وضعها وفطام ولدها. والزاني المذكور إذا هرب، ولم يمكن إقامة الحد عليه، فلا شيء على عصبته. والحدود لا يقيمها إلا الإمام أو نائبه. ونفقة المرأة على القريب من عصبتها، وإن كان معسراً فمن بيت المال، فإن تعذر الكل فعلى أهل بلدها. وقولك: هل لمن عندهم المرأة أن يرسلوها إلى العراق؟ فلا يجوز تغريبها إلى أوطان المشركين. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 426 ولبعضهم: بسم الله الرحمن الرحيم هذه صورة واقعة في سنة 1218هـ في إمارة الأخ عبد الله بن عامر، حفظه الله، وفي محل ولايته، وهي: أن امرأة من المنجحة حبلت من غير زوج، بل ذكرت أنها رأت منياً مصبوباً على فرجها من غير أن يضاجعها أحد أو يولج في فرجها ذكر، وكانت عند ذلك نائمة، ثم استيقظت فرأت رجلاً قريباً منها، فاتهمته بذلك من غير أن تدعي أنه أدخل في فرجها ذكره وزنى بها، ولا رأته فوقها، ولا ترى أنها زنت، بل تقول: ما فرقني ولا فقعني، والحال هذه أنها نائمة لا تشعر. وذكر أبوها: أنها تنام نوماً بحيث تبول على فراشها وهي لا تشعر. وحبلت من هذا المني، وأنكر الرجل الذي اتهمته إنكاراً جلياً، والحال أنهما بكران؟ فالجواب، والله الموفق للصواب: أنه ذكر في الميزان للشعراني، في باب: قول أبي حنيفة والشافعي وأحمد في أظهر روايتيه: أنه إذا ظهر بالمرأة حمل ولا زوج لها، فلا حد. وقال مالك: يجب. ووجه الأول: يعني قول الثلاثة، عدم تحقيقنا منها ما يوجب الحد، لاحتمال أنها الجزء: 7 ¦ الصفحة: 427 وطئت وهي نائمة، فحملت من ذلك الوطء. وقد روى البيهقي: "أن امرأة لا زوج لها أتي بها إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين وجدوها حاملاً، فقال عمر للحاضرين: إن هذه ما هي من أهل التهمة، ثم استفهمها عن شأنها، فقالت: يا أمير المؤمنين، إني امرأة أرعى الغنم، وإذا دخلت في صلاتي فربما غلب علي الخشوع فأغيب عن إحساسي، فربما أتى أحد الفتيان فغشيني من غير علمي، فقال لها عمر: وذلك ظني بك، ودرأ عنها الحد" انتهى كلام الشعراني. وهذه الواقعة أعظم، لأنها لم توطأ، فشبهتها بينة جلية، والتي كلمت عمر قد وطئت، وإنما اعتذرت بما يصيبها إذا صلت، والأئمة الثلاثة عذروها، لاحتمال أنها وطئت وهي نائمة; وهذه الواقعة لا احتمال فيها، بل هي نائمة يقيناً ولا وطي أيضاً، بل سيلان المني عليها، فهي أعذر وأظهر. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية، في السياسة الشرعية: واختلفوا في المرأة إذا وجدت حبلى ولم يكن لها زوج ولا سيد، ولم تدع شبهة في الحمل، ففيها قولان في مذهب أحمد وغيره، وقيل: لا حد عليها، لأنه يجوز أن تكون حبلت مكرهة أو متحمل أو وطي شبهة; وقيل: بل تحد، وهذا هو المأثور عن الخلفاء الراشدين، وهو الأشبه بأصول الجزء: 7 ¦ الصفحة: 428 الشريعة، وهو مذهب أهل المدينة، فإن الاحتمالات الباردة لا يلتفت إليها. انتهى كلام ابن تيمية، رحمه الله. وتفطن: أن كلامه فيما إذا لم تدع شبهة، أما إذا ادعت شبهة كالنوم في مسألتنا هذه، فلا خلاف بين العلماء: أنها لا تحد عند أحمد وغيره، بل ولا عند ابن تيمية كما يظهر أيضاً من كلامه، ويدل عليه: أن عمر رضي الله عنه عذر المرأة لما ذكرت له ما يصيبها من الغيبة إذا صلت، وإلا فإن عمر يقول: "إن الحبل يثبت به الزنى"، كما ذكره عنه البخاري في خطبته بالمدينة بعد قفوله من الحج؛ وهذه لطيفة فاستفدها واعرف الفرق والجمع بين العبارات، ولا تختلط عليك المتشابهات. وفي الجامع الصغير للسيوطي، في حرف الدال: " ادرؤوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم، فإن وجدتم للمسلم مخرجاً فخلوا سبيله، فإن الإمام لأن يخطي في العفو خير من أن يخطي في العقوبة " 1، أخرجه الترمذي والحاكم والبيهقي عن عائشة، وقال فيه: " ادرؤوا الحدود بالشبهات " 2، أخرجه ابن عدي وقال فيه: " ادفعوا الحدود عن عباد الله ما وجدتم له مدفعاً " 3، أخرجه ابن ماجة عن أبي هريرة. ولا شك أن النوم فيه شبهة ظاهرة ومدفع صحيح، وقد رفع القلم عن النائم، قال صلى الله عليه وسلم: " رفع القلم عن   1 الترمذي: الحدود (1424) . 2 الترمذي: الحدود (1424) . 3 ابن ماجة: الحدود (2545) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 429 ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن المبتلى حتى يبرأ، وعن الصبي حتى يكبر " 1، أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجة والحاكم عن عائشة. وقال صلى الله عليه وسلم: " رفع القلم عن ثلاثة: عن المجنون المغلوب على عقله حتى يبرأ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم " 2. وهذه الأحاديث يستدل بها على من وُطِئت وهي نائمة، وأما هذه الواقعة فلا وطي فيها أصلاً، فهي أحق وأولى؛ قال في الأنوار: ولو زنى مجنونة أو مراهقة أو نائمة حدّ. انتهى. ولم يقلك حدت، فاعرف الفرق; وقال فيه: ويشترط الاختيار فلا حد على مُكرَه، والتكليف فلا حد على صبي ولا مجنون لارتفاع القلم عنهما. انتهى. ولم يذكر النائم وهو غير مكلف لأنه قد نص عليه. قال بعض أهل الأصول: ومُلْجَأ ومكره وغافل ... ليس التكليف غير مدخل انتهى. قال: ومنهم الساهي، وأولى منهم النائم؛ فهؤلاء لا يتناولهم اسم التكليف. وقد اتفق العلماء رحمهم الله: أن التكليف شرط لوجوب الحد، واتفقوا: أن النائم ليس بمكلف; قال في الإقناع: للشافعي في الذي يجب حده مكلف، فخرج الصبي والمجنون. وقد سمعت كلام أهل الأصول: أن النائم أولى منهما; وكذلك شرطوا إيلاج الحشفة أو قدرها في فرج،   1 النسائي: الطلاق (3432) , وأبو داود: الحدود (4398) , وابن ماجة: الطلاق (2041) , وأحمد (6/100, 6/144) , والدارمي: الحدود (2296) . 2 أبو داود: الحدود (4399) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 430 وتظاهروا على ذلك في عباراتهم. أما مطلق وصول المني بلا إيلاج فسكتوا عنه في الزنى، وذكروه في الجناية والعدة; قال في روض ابن المقري، رحمه الله: وتحد امرأة استدخلت ذكر نائم، لا المني لم تقه. انتهى. فذكر استدخال الذكر، لا المني. وقد مر كلام ابن تيمية: أن احتمال التحمل عذر وشبهة دافعة، فكيف يقينه لا احتماله؛ قال في المنهاج للنووي، رحمه الله: ولو شهد أربعة بزناها، وأربع نسوة أنها عذراء، لم تحد لشبهة بقاء العذرة. وقال القاضي زكريا: لا تحد، لأن الظاهر من العذراء أنها لم توطأ; وهذه المرأة تدعي أنها بكر عذراء، فأمرت أربع نسوة ثقات ورأوها، وشهدن بالله أنها عذراء لم تزل بكارتها، وهذا منها إقامة للحبل في ثبوت الزنى مقام الأربعة الشهداء احتياطاً، وإلا فقد عرفت ما فيه عند الأئمة وكلامهم أيضاً في الحبل من الوطي احتمالاً، أما مجرد دخول الماء من غير وطي فليس كذلك، وإنكارها للزنى فيه كفاية. قال في الأنوار: ولو وجد بامرأة حبل، أو ولدت وأنكرت الزنى، أو سكتت، فلا حد. إذا علمت هذا، فلنحصر لك الأسباب الدافعة للحد في هذه المسألة: الأول: أن الحبل وحده لا يثبت به الحد عند أكثر العلماء. الثاني: أن الحبلى إذا ادعت شبهة كالنوم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 431 مثلاً، فلا خلاف بينهم أنه يسقط الحد، كما ذكره ابن تيمية وصاحب الميزان والأنوار. الثالث: أنها غير مكلفة عند سبب الحمل في الظاهر، لأن القلم مرفوع عن النائم، كما ورد، ولو كان وطأ حقيقياً، فكيف بما نحن فيه. الرابع: أنه لم يوجد إيلاج الحشفة في فرجها، ولم تدع ذلك، وإنما ذكرت سيلان الماء عليها، والإيلاج شرط في الزنى، يلزم من عدمه العدم. الخامس: ما ذكره أبوها من شدة نومها وعدم إحساسها. السادس: كون بكارتها موجودة لم تزل كما شهد بذلك أربع نسوة. السابع: وجود الشبهة الدافعة بهذه الستة الأمور، وواحد منها يكفي في الدفع; هذا حكم المرأة. وأما الرجل، فلا حد عليه لأمور ثلاثة: الأول: أنها لم تدع عليه شبهة الزنى وإيلاج الحشفة في فرجها، إنما اتهمته بصب المني. الثاني: أنه لم يقر بهذا ولا بذاك. الثالث: أنه لم يشهد عليه الشهادة المعتبرة. هذا ما ظهر لي في هذه الحادثة العجيبة والواقعة الغريبة، حين وصل إلي: المرأة المذكورة، وأبوها، وأمير المنجحة، وجماعة منهم الرجل المتهم، وطلبوا: إظهار الحكم في ذلك، وجزى الله عنا نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم بما فصل ما جزى نبياً عن أمته؛ فقد تركنا على البيضاء ليلها كنهارها، وبلغ البلاغ المبين; وجزى الله ورثته العلماء خيراً فقد الجزء: 7 ¦ الصفحة: 432 وضحوا وبينوا، وجزى الله أمير البلاد عبد الوهاب أفضل الجزاء; وصلى الله على محمد وصحبه وسلم. الشبهه في الزنى وسئل الشيخ عبد الله بن صالح الخليفي، عن رجل عقد على امرأة ولم يدخل بها وهي بكر، فطلب الدخول فامتنع أهلها، فدخل بيتهم يوماً على غرة رجاء أن يصادف زوجته، فصادف أختها فظنها هي فهجم عليها وسدّ فاها، ووطئها. فلما علم أبوها غضب وحلف بالطلاق أنه ما يدخل على ابنته التي صارت سبباً لوطي أختها سفاحاً. فسكت الرجلان مدة، هذا على غضبه وهذا على حيائه وفشله، ولم يراجع أحدهما الثاني خوفاً من فشو ذلك عند الناس، ثم تبين أن الموطوءة قد حملت، فصار الكل في هم وحزن شديد، فما الحكم في ذلك، أثابكم الله؟ فأجاب: هذا الوطء على ما ذكرتم وطء شبهة ليس فيه حد، ويلحق به النسب، والذي فيه راحة وستر للجميع مع موافقة الحكم الشرعي أن يطلق الزوج زوجته التي عقد عليها ولم يدخل بها، ويعقد على الثانية التي وطئها ويدخل عليها بيومه، لأن الحمل له؛ والأولى ليس لها عدة، ولا يقع بذلك طلاق على زوجة الأب. وإن كان رغبة الزوج في زوجته الأولى، فيصبر حتى تنقضي عدة الثانية بوضع حملها، ثم يدخل على الأولى، ويقع على زوجة الأب طلقة واحدة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 433 إن لم يكن نوى أكثر، والله أعلم. الإكراه على فعل محرم سئل الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين، رحمه الله: عن الإكراه على فعل محرم ... إلخ؟ فأجاب: فيه تفصيل يعذر فيه ببعض دون بعض، فلو أكرهت المرأة لم تحد عند أكثر العلماء، لقوله تعالى: {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ} الآية [سورة النور آية: 33] . وطء الماشية سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ: عمن يطأ الماشية؟ فأجاب: والرجل الذي يطأ الماشية يؤدب أدباً بليغاً. حكم اللواط سئل الشيخ سعيد بن حجي: عن حكم من فعل اللواط، أو أتى بهيمة؟ فأجاب: أجمع أهل العلم على تحريم اللواط؛ وأما حكمه، فاختلفت الرواية عن أحمد: فعنه: أن حده الرجم بكراً كان أو ثيباً، وهذا قول علي وابن عباس وجابر، وغيرهم من الصحابة، ومالك وأحد قولي الشافعي; والرواية الثانية: حده حد الزنى، وبه قال ابن المسيب وغيره. ووجه الرواية الأولى، قوله صلى الله عليه وسلم: " من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط، فاقتلوا الفاعل والمفعول به " 1، رواه أبو داود وفي لفظ: "فارجموا الأعلى والأسفل " ولأن الصحابة أجمعوا على قتله، وإنما اختلفوا في صفته. انتهى ملخصاً من المغني.   1 الترمذي: الحدود (1456) , وأبو داود: الحدود (4462) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 434 وقال الشيخ تقي الدين - في جواب له -: وفي السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم: " من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط، فاقتلوا الفاعل والمفعول به " 1، ولهذا اتفق الصحابة على قتلهما جميعاً، لكن تنازعوا في صفة القتل: فمذهب جمهور الفقهاء: أنهما يرجمان، بكرين كانا أو ثيبين، حرين كانا أو مملوكين، أو كان أحدهما مملوكاً للآخر; واتفق المسلمون على أن من استحلها من مملوك أو غيره، أنه كافر مرتد. انتهى. وإنما يثبت هذا الحد ببينة أو إقرار كالزنى، سواء. وأما من أتى بهيمة فهو يعزر ويبالغ في تعزيره، ولا حد عليه، روي ذلك عن ابن عباس وحماد، ومالك وأصحاب الرأي; وهو قول الشافعي. وتقتل البهيمة ويكره أكلها. وإنما يثبت هذا التعزير بشهادة رجلين عدلين، أو إقراره، ولو مرة. حكم الوسم سئل بعضهم: عن شق أنف الحمار ... إلخ؟ فأجاب: لا يجوز أن يحمل الدابة ما لا تطيق، ولا يجوز وسمها في وجهها، ولا ضربها في الوجه، لأنه صلى الله عليه وسلم لعن من وسم أو ضرب في الوجه؛ وتشقيق المناخر أعظم، فانهوا عنه، فمن شق بعد النهي عزر.   1 الترمذي: الحدود (1456) , وأبو داود: الحدود (4462) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 435 باب حد القذف سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ: عن حد القذف؟ فأجاب: وأما حكم القذف بالزنى، فإذا قذف [إنسان] رجلاً أو امرأة بالزنى، ولم يأت بأربعة شهداء يشهدون بأنهم رأوا ذكره في فرجها، كالميل في المكحلة، فإنه يجب عليه حد القذف: ثمانون جلدة، ولا تقبل له شهادة أبداً. وحد القذف حق للمقذوف، إن طلبه أقامه عليه الأمير، فإن عفا عنه فلا يقيمه الأمير؛ لكن إن كان القاذف معروفاً بالشر، جاز للأمير تأديبه عن تعرض أعراض المسلمين. وأما الذي يرمي أخاه بالزنى، ويعتذر أن ما له قصد، وأنه من الشيطان، فليس هذا بعذر، فإن كان المقذوف بالزنى شكاه على الأمير، أقام عليه الحد، وإلا أدب أدباً يزجره عن مثل هذا الكلام القبيح. وأجاب أيضاً: وأما من قال: يا زان، فهذا يجلد حد القذف: ثمانين جلدة، إذا لم يأت بأربعة شهداء يشهدون على أنه زان. وأما الحرة إذا قذفت الحرة، فتجلد ثمانين جلدة، إذا لم تأت بأربعة شهداء؛ وشهادة النساء على الجزء: 7 ¦ الصفحة: 436 القذف ما يثبت بها جلد; وأما الرجال، فإذا شهد اثنان مقبولا الشهادة، على أن هذه المرأة قاذفة هذه المرأة، أو هذا الرجل قاذف هذا الرجل بالزنى، فيجلد ثمانين جلدة، لأن الله تعالى قال: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [سورة النور آية: 4] ؛ ولا تقبل شهادة القاذف بعد ذلك إلا إن تاب وكذّب نفسه. وأجاب أيضاً: وأما الذي يقذف المحصن أو المحصنة، ولم يأت بأربعة شهداء عدول، يجلد ثمانين جلدة ولا تقبل شهادته إلا إن تاب، كما قال: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [سورة النور آية: 4] . وأما الذي يسب المسلمين ويؤذيهم بلسانه، فيؤدبه الأمير بما يزجره. والذي قال لمسلم: يا مشرك، فهذا القول لا يجوز، ويؤدب من قال ذلك أدباً بليغاً. والذي قال لرجل: ما فيك إسلام، وهو مسلم، فكذلك يؤدب. وكذلك الذي يسب المسلمين يؤدب، وكذلك الذي يقذف أخاه بالفسق، وكذلك الذي قال للمسلم: يا عدو الله، وكذلك الذي قال للمسلم: يا حمار، وكذلك الذي قال لرجل مسلم: يا كلب، وكذلك الذي قال لأخيه: يا سارق، وهو كاذب، وكذلك الذي قال لأخيه: يا باطل، يا عفن، وليس كذلك؛ وكل هؤلاء يؤدبهم الأمير، بما يزجرهم عن الكلام الخبيث. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 437 وسئل أيضاً: إذا قذف إنسان جماعة بالزنى أمواتاً أو أحياء ... إلخ؟ فأجاب: الذي وقفنا عليه من كلام أهل العلم، أنه إذا قذفهم بلفظة واحدة، فإنه يحد حداً واحداً، إذا طلبوا إقامة الحد عليه، وأما قذف الأموات، فلا أدري عنه، وأقل ما فيه إذا كانوا مسلمين، يعزره الإمام على قدر ما يراه؛ وأما ما ذكره المالكية من شروط القذف، فهو كلام متوجه. وأجاب الشيخ حمد بن ناصر بن معمر: إذا قذف صبي صبية بالزنى، أو صبياً، فإن كان يمكن الوطء من مثله، كبنت تسع، وابن عشر، فهذا يقام الحد على قاذفهما، وإن لم يبلغا، بخلاف الصغير الذي لا يجامع مثله، والصغيرة التي لا يجامع مثلها، فليس على قاذفهما إلا التعزير، وأما الصغير إذا قذف الكبير، فليس عليه إلا التعزير. وأما مسألة القذف، فالقذف ينقسم إلى صريح وكناية، كالطلاق: فالصريح: ما لا يحتمل غيره، نحو: يا زان، يا عاهر، يا منيوك، ونحو ذلك. والكناية: التعريض بالألفاظ المجملة، المحتملة للقذف وغيره؛ فإن فسر الكناية بالزنى فهو قذف، لأنه أقر بالقذف، وإن فسره بما يحتمله غير القذف، قبل مع يمينه، ويعزر تعزيراً يردعه وأمثاله. فمتى وجد منه اللفظ المحتمل للقذف وغيره، ولم يفسره بما يوجب القذف، فإنه يعزر، ولا حد عليه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 438 سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عن قذف المملوك؟ فأجاب: أما قذف العبد فيوجب التعزير لا حد القذف، عند عامة العلماء. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 439 باب حد المسكر سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد، رحمهما الله: عن التنباك الذي اعتاد شربه كثير من الناس؟ فأجاب: لا ريب أن الله تعالى بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بجوامع الكلم، وهي من خصائصه التي خصه الله بها من بين الأنبياء، كما ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في ذكر خصائصه: " وأوتيت جوامع الكلم " 1، وهي: أن يقول الكلمة اليسيرة الجامعة لأحكام كثيرة لا تعد ولا تحصى، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: " كل مسكر حرام " 2، فدخل في هذه الكلمة جميع المسكرات، التي تسكر وتزيل العقل، من الأطعمة والأشربة الموجودة في زمانه صلى الله عليه وسلم والحادثة بعده إلى يوم القيامة. وقد تواترت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم بالنهي عن المسكر، وهو: الخمر الذي يغطي العقل ويزيله، كما في الصحيح عن ابن عمر، رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " كل مسكر خمر، وكل خمر حرام " 3، ولفظ مسلم: " وكل مسكر حرام " 4، وعن عائشة، رضي الله عنها: "أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن البتع؟ فقال: كل شراب أسكر فهو حرام " 5، متفق عليه، وفي   1 البخاري: الجهاد والسير (2977) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (523) , والنسائي: الجهاد (3087, 3089) , وأحمد (2/268) . 2 البخاري: المغازي (4343) , ومسلم: الأشربة (1733) , والنسائي: الأشربة (5595, 5597, 5602, 5604) , وأبو داود: الأشربة (3684) , وابن ماجة: الأشربة (3391) , وأحمد (4/410, 4/415, 4/417) , والدارمي: الأشربة (2098) . 3 صحيح مسلم: كتاب الأشربة (2003) , وسنن الترمذي: كتاب الأشربة (1861) , وسنن النسائي: كتاب الأشربة (5585, 5699) , وسنن أبي داود: كتاب الأشربة (3679) , وسنن ابن ماجة: كتاب الأشربة (3390) , ومسند أحمد (2/16, 2/29, 2/31, 2/98, 2/104) . 4 البخاري: الأدب (6124) , ومسلم: الأشربة (1733) , والنسائي: الأشربة (5595, 5597, 5602, 5604) , وأبو داود: الأشربة (3684) , وابن ماجة: الأشربة (3391) , وأحمد (4/410, 4/415, 4/417) , والدارمي: الأشربة (2098) . 5 البخاري: الأشربة (5585) , ومسلم: الأشربة (2001) , والترمذي: الأشربة (1863) , والنسائي: الأشربة (5592, 5593, 5594) , وأبو داود: الأشربة (3682) , وأحمد (6/190, 6/225) , ومالك: الأشربة (1595) , والدارمي: الأشربة (2097) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 439 رواية لمسلم: "كل شراب مسكر حرام " 1؛ ونقل ابن عبد البر: إجماع أهل العلم بالحديث على صحته، وأنه أثبت شيء روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في تحريم المسكر. وجاء التصريح بالنهي عن قليل ما أسكر كثيرُه، كما أخرجه أبو داود والترمذي وحسنه، من حديث عائشة مرفوعاً: " كل مسكر حرام، وما أسكر الفرق منه، فملء الكف منه حرام " 2، وفي رواية: " فالحسوة منه حرام "، وقد احتج به أحمد، وذهب إليه؛ وإلى هذا القول ذهب جمهور علماء المسلمين، من الصحابة والتابعين، ومن بعدهم من علماء الأمصار، وهو مذهب مالك والشافعي، والليث والأوزاعي، وأحمد وإسحاق. إذا تقرر هذا، فاعلم: أن المسكر الذي يزيل العقل نوعان: أحدهما: ما كان فيه لذة وطرب، قال العلماء: وسواء كان المسكر جامداً، أو مائعاً، وسواء كان مطعوماً أو مشروباً، وسواء كان من حب، أو من ثمر أو لبن، أو غير ذلك، وأدخلوا في ذلك الحشيشة التي تعمل من ورق القنب وغيرها، مما يؤكل لأجل لذته وسكره. الثاني: ما يزيل العقل ويسكر، ولا لذة فيه ولا طرب، كالبنج ونحوه; وأكثر العلماء الذين يرون تحريم ما أسكر كثيره، يرون حد من شرب ما يسكر كثيره، وإن   1 البخاري: الوضوء (242) والأشربة (5585, 5586) , ومسلم: الأشربة (2001) , والترمذي: الأشربة (1863) , والنسائي: الأشربة (5591, 5592, 5593, 5594) , وأبو داود: الأشربة (3682) , وابن ماجة: الأشربة (3386) , وأحمد (6/36, 6/96, 6/190, 6/225) , ومالك: الأشربة (1595) , والدارمي: الأشربة (2097) . 2 البخاري: المغازي (4343) , ومسلم: الأشربة (1733) , والنسائي: الأشربة (5595, 5597, 5602, 5604) , وأبو داود: الأشربة (3684) , وابن ماجة: الأشربة (3391) , وأحمد (4/410, 4/415, 4/417) , والدارمي: الأشربة (2098) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 440 اعتقد حله متأولاً، وهو قول الشافعي وأحمد، قال أحمد في رواية الأثرم: يحد من شرب النبيذ متأولاً، وذلك لضعف التأويل عنده في ذلك. وبما ذكرنا من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلام أهل العلم: يتبين لك بيان تحريم التتن، الذي كثر في هذا الزمان استعماله، وصح بالتواتر عندنا والمشاهدة إسكاره في بعض الأوقات، خصوصاً إذا أكثر منه، أو تركه يوماً أو يومين لا يشربه ثم شربه، فإنه يسكر ويزيل العقل، حتى إن صاحبه يُحْدِث عند الناس ولا يشعر بذلك، نعوذ بالله من الخزي وسوء البأس؛ فلا ينبغي لمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن يلتفت إلى قول أحد من الناس، إذا تبين له كلام الله وكلام رسوله في مثله من المسائل، وذلك لأن الشهادة بأنه رسول الله تقتضي طاعته فيما أمر، والانتهاء عما عنه نهى وزجر، وتصديقه فيما أخبر. حكم التنباك وسئل أيضاً، رحمه الله: ما حكم التنباك الذي اختلفت فيه آراء العلماء، منهم من أفتى بحله، ومنهم من أفتى بتحريمه بقيد وتعليق، ومنهم من أفتى بتحريمه مطلقاً؟ ولما أنكم أفتيتم فيه بأنه من المسكرات، اعتمدنا على قولكم، فعارض بعض الواصلين من عندكم، فقالوا: من شرب منه بعد ما تاب منه فقد ارتد وحل دمه وماله؟ فأجاب: من نسب إلينا القول بهذا، فقد كذب الجزء: 7 ¦ الصفحة: 441 وافترى، بل من قال هذا القول استحق التعزير البليغ، الذي يردعه وأمثاله؛ فإن هذا مخالف للكتاب والسنة، بل لو تاب منه ثم عاد إلى شربه لم يحكم بكفره وردته، ولو أصر على ذلك إذا لم يستحله. والتكفير بالذنوب، مذهب الخوارج الذين مرقوا من الإسلام، واستحلوا دماء المسلمين بالذنوب والمعاصي. وأجاب أيضاً: والذي يشرب التنباك، إن كان شربه له بعدما عرف أنه حرام، فيضرب ثمانين جلدة ضرباً خفيفاً ما يضره. فإن كان شربه وهو جاهل فلا حد عليه، ويؤمر بالتوبة والاستغفار. والذي يقول لكم - من علماء تهامة - إن التتن ليس حراماً ولا حلالاً، فهذا جاهل، ما يعرف ما يقول، ولا يلتفت لقوله؛ وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: " كل مسكر حرام " 1، " وما أسكر كثيره حرم قليله " 2. وأجاب أيضاً: وأما الذي يشرب التتن ويزرعه، فيجلد ثمانين جلدة. وأجاب أيضاً: وأما شارب التتن، إذا شهد عليه شاهدان أنهم رأوه يشربه، فيجلد أربعين جلدة. وأجاب أيضاً: وأما شارب التتن فيؤدب بأربعين جلدة، فإن لم ينته بذلك أدب ثمانين جلدة.   1 البخاري: المغازي (4343) , ومسلم: الأشربة (1733) , والنسائي: الأشربة (5595, 5597 ,5602, 5604) , وأبو داود: الأشربة (3684) , وابن ماجة: الأشربة (3391) , وأحمد (4/410, 4/415, 4/417) , والدارمي: الأشربة (2098) . 2 الترمذي: الأشربة (1865) , وأبو داود: الأشربة (3681) , وابن ماجة: الأشربة (3393) , وأحمد (3/343) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 442 وأجاب أيضاً: والذي زرع التنباك يؤدب، أو يوجد في بيته أو متاعه، أو يشربه يؤدب. وأجاب أيضاً: إذا وجد من فيه رائحة المسكر فإنه يحد، وأما إذا خرج من بيته فليس فيه إلا التعزير، إذا كان مظنة لذلك. وأجاب أيضاً: إذا شهد اثنان على ريح التتن من فم رجل، يحد، لأن الصحابة، رضي الله عنهم، حدوا على ريح الخمر؛ وهذا خمر، لأنه مسكر وكل مسكر خمر. سئل الشيخ حمد بن ناصر بن معمر: عن التتن؟ فأجاب: هو حرام، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "كل مسكر خمر " 1، وفي لفظ حرام وفي لفظ: " ما أسكر كثيره، فملء الكف منه حرام " 2، وهذا عام في كل مسكر، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد أوتي جوامع الكلم، وقد نص العلماء على ذلك. وسئل: عن شارب التنباك؟ فأجاب: وأما شارب التنباك، فيجلد قدر أربعين جلدة. وأجاب الشيخ عبد الله أبا بطين: وأما شرب التنباك، فالذي نعتقد تحريمه، وفيه التعزير، ولا يتبين لي أنه يبلغ به حد الخمر. وأجاب أيضاً: الذي نرى فيه التحريم لعلتين:   1 صحيح مسلم: كتاب الأشربة (2003) , وسنن الترمذي: كتاب الأشربة (1861) , وسنن النسائي: كتاب الأشربة (5585, 5699) , وسنن أبي داود: كتاب الأشربة (3679) , وسنن ابن ماجة: كتاب الأشربة (3390) , ومسند أحمد (2/16, 2/29, 2/31, 2/98, 2/104) . 2 الترمذي: الأشربة (1866) , وأبو داود: الأشربة (3687) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 443 إحداهما: حصول الإسكار فيما إذا فقده شاربه مدة، ثم شربه وأكثر، وإن لم يحصل إسكار، حصل تخدير وتفتير; وروى الإمام أحمد حديثاً مرفوعاً: أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن كل مخدر ومفتر. والعلة الثانية: أنه منتن مستخبث عند من لم يعتده، واحتج العلماء بقوله: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [سورة الأعراف آية: 157] ، وأما من ألفه واعتاده فلا يرى خبثه، كالجعل لا يستخبث العذرة. حد المسكر وسئل: عن الإكراه على فعل المحرم؟ فأجاب: فيه تفصيل يعذر فيه ببعض دون بعض، فلو أكره على شرب الخمر لم يحد. وسئل الشيخ سعيد بن حجي: إذا وجد من فيه رائحة التتن وأنفه، هل يحد؟ وهل يثبت الحد بشهادة رجل واحد؟ وهل يعزر إذا خرج من بيته وهو مظنة لذلك؟ وإذا وجد في كمه مصروراً؟ أو سقطت منشقته منه وهو مظنة لذلك، هل يحد أو يعزر؟ فأجاب: لا يجب الحد بوجود رائحة الخمرة في قول أكثر أهل العلم، ولا يثبت الحد فيه إلا بإقراره مرة، أو شهادة رجلين عدلين، يشهدان أنه شرب مسكراً. وإذا خرج من بيته التتن، أو وجدت معه الرائحة ولم يدع شبهة، لما روى ابن عمر مرفوعاً، قال: " لعن الله الخمرة، وشاربها، وساقيها، وبائعها، ومبتاعها، وعاصرها، وحاملها، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 444 والمحمولة إليه " 1. وكذا حاضر شربها يعزر; إذا ثبت هذا، فاعلم: أن التعزير راجع إلى رأي الإمام أو نائبه. سئل الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين: عن الحميض وما يتعلق به من التحريم؟ فأجاب: وما سألتم عنه من أمر الحميض، فهو إذا أتى عليه ثلاثة أيام حرم، وإن تعدى إلى أكثر من ثلاثة أيام، صار خمراً يجلد آكله ثمانين جلدة؛ ويكون لديكم معلوماً: أنه حرام لا شك فيه، ولو زيد ونقص كل يوم مائة مرة، وإذا لم يتم ثلاثة أيام فلا تحريم فيه، إلا إذا أتى عليه اليوم الثالث فهو حرام، لأنه أصل الخمر. واعلموا: أن الخمر الذي يجعله الناس في أطعمتهم، يجعلونه حميضاً، أنه حرام لا شك فيه. ما يشرع فيه التعزير سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ: عن قوله: إذا ظلم صبي صبياً أو بهيمة اقتص للمظلوم ... إلخ؟ فأجاب: يعمل بذلك، لأن ذلك في الغالب لا يخلو عن ردع للظالم، وإن لم يكن مكلفاً؛ قال الشيخ تقي الدين: لا نزاع بين العلماء أن غير المكلف، كالصبي المميز، يعاقب على الفاحشة تعزيراً بليغاً، وكذلك المجنون، يضرب على ما فعل لينزجر، لكن لا عقوبة بقتل أو قطع. قال في الفروع: قال في الواضح: من شرع في عشر، صلح تأديبه في تعزير على طهارة، وصلاة، وكذا   1 الترمذي: البيوع (1295) , وابن ماجة: الأشربة (3381) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 445 في زنى، وهو معنى كلام القاضي، وذكر ما نقله الشالنجي في الغلمان يتمردون، لا بأس في ضربهم. وظاهر ما ذكره الشيخ عن القاضي: يجب ضربه على الصلاة، قال الشيخ لمن أوجبها محتجاً به، أنه تأديب وتعويد لفعل الخير، كالتأديب على تعليم خط، وقراءة وصناعة وشبهها؛ وكذا قال صاحب المحرر: كتأديبه اليتيم والمجنون والدواب، فإنه شرع، لا لترك واجب؛ وظاهر كلامهم في تأديبه في الإجارة والديات: أنه جائز. فأما القصاص، مثل أن يظلم صبي صبياً، أو مجنون مجنوناً، أو بهيمة بهيمة، فيقتص للمظلوم من الظالم، وإن لم يكن في ذلك زجر عن المستقبل، لكن لاشتفاء المظلوم، وأخذ حقه، يتوجه أن يقال بفعل ذلك، ولا يخلو عن ردع وزجر في المستقبل، ففعله لأجل الزجر، وإلا لم يشرع لعدم الأثرية والفائدة في الدنيا. وأما في الآخرة، فالله تعالى يتولى ذلك، للعدل بين خلقه، فلا يلزم منه فعلنا نحن، كما قال ابن حامد: القصاص بين البهائم والشجر والعيدان، جائز شرعاً، بإيقاع مثل ما كان في الدنيا، وكما قال أبو محمد البربهاري في القصاص في الحجر، لمن نالت أصبع الرجل، وهذا ظاهر كلامهم السابق في التعزير، أو صريحه فيمن لم يميز. وقال شيخنا: القصاص موافق للشريعة، واحتج بثبوته الجزء: 7 ¦ الصفحة: 446 في الأموال، وبوجوب دية الخطإ، وبقتال البغاة المغفور لهم، قال فتبين بذلك: أن الظلم والعدوان يؤدى في حق المظلوم، مع عدم التكليف، فإنه من العدل، وحرم الله الظلم على نفسه، وجعله محرماً بين عباده، كذا قال؛ وبتقديره: فإنما يدل على الآدميين. انتهى كلام صاحب الفروع. وقد عرفت: أنه قول كثير من العلماء. فأما الصبيان، فمعلوم أن ذلك زجر لهم في المستقبل، إذا اقتص لبعضهم من بعض. والذي نرى: أن الذي يقتص لهم الأمير، أو القاضي، إلا إذا لم يخف من تعدي الصبي في اقتصاصه لنفسه، لأنه أشفى لنفسه. وأما البهيمة، فيقتص لها من مالكها؛ ومعلوم: أن بعض البهائم يتأدب إذا أُدب. وأما إذا وجد مع امرأته رجلاً من غير زنى بها، فإنه يضرب مائة سوط، كما في رواية يعقوب، واحتج بفعل علي رضي الله عنه، فذكر هذه المسألة في الإنصاف، وذكر أنه يعزر بذلك. انتهى. والتعزير يرجع إلى اجتهاد الإمام، لكن الذي نختار: أنه يعزر بذلك، اتباعاً للخليفة الراشد علي رضي الله عنه. [التعزير أصل عظيم من أصول الشريعة] وسئل أيضاً: عن قول صاحب الإقناع في باب التعزير: وإن ظلم صبياً أو بهيمة اقتص من الظالم. فأجاب: اعلم قبل ذلك أن العلماء ذكروا أن التعزير أصل عظيم من أصول الشريعة المحمدية الآتية بالْحِكَم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 447 والمصالح، والغايات المحمودة في المعاش والمعاد؛ قال ابن عقيل، رحمه الله، في الفنون: للسلطان سلوك السياسة، وهو الحزم عندنا، ولا ننفي السياسة على ما نطق به الشرع، إذ الخلفاء الراشدون قتلوا ومثلوا، وحرقوا المصاحف، ونفى عمر نصر بن الحجاج; ولينل من عرضه، مثل أن يقول له: يا ظالم، يا معتد، وبإقامته من المجلس; والذين قدروا التعزير من أصحابنا، إنما هو فيما إذا كان تعزيراً عاماً من فعل أو ترك، فإن كان تعزيراً لأجل ترك ما هو فاعل له، فهو بمنزلة قتل المرتد، والحربي والباغي، وهنا تعزير ليس يقدر، بل ينتهي إلى القتل، كما في الصائل الآخذ للمال، يجوز أن يمنع من الأخذ ولو بالقتل. وعلى هذا، فإن كان المقصود دفع الفساد، ولم يندفع إلا بالقتل قُتل، وحينئذ فمن تكرر منه فعل الفساد، ولم يرتدع بالحدود المقدرة، بل استمر على الفساد، فهو كالصائل الذي لا يندفع إلا بالقتل، فيُقتل. ويمكن تخريج قتل شارب الخمر في الرابعة على هذا، وقتل الجاسوس الذي تكرر منه التجسس. وقد ذكر شيئا من هذا، الحنفية والمالكية، وإليه يرجع قول ابن عقيل: وهو أصل عظيم في صلاح الناس، وكذلك طلب الفعل، فلا يزال يعاقب حتى يفعل. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 448 والتعزير بالمال سائغ إتلافاً وأخذاً، وهو جار على أصل أحمد، لأنه لم يختلف أصحابهأن العقوبات في المال غير منسوخة. وقول الشيخ أبي محمد المقدسي: ولا يجوز أخذ ماله وهو المعزر، فإشارة منه إلى ما يفعله الولاة الظلمة. والتعزير يكون على فعل المحرمات، وترك الواجبات; فمن جنس ترك الواجبات: من كتم ما يجب بيانه، كالبائع المدلس، والمؤجر، والناكح، وغيرهم من المعاملين، وكذا الشاهد، والمخبر، والمفتي، والحاكم، ونحوهم، فإن كتمان الحق شبيه بالكذب، وينبغي أن يكون سبباً للضمان، كما أن الكذب سبب للضمان، فإن ترك الواجبات عندنا في الضمان، كفعل المحرمات؛ حتى قلنا فيمن قدر على إنجاء شخص، بإطعام أو سقي، فلم يفعل فمات ضمنه. وعلى هذا، فلو كتم شهادة أبطل بها حق مسلم، ضمنه. ومن هذا الباب: لو كان في القرية أو المحل أو البلدة، رجل ظالم، فسأل الوالي الغريم عن مكانه، ليأخذ منه الحق، فإنه يجب دلالته، بخلاف ما لو كان قصده أكثر من الحق. فعلى هذا، إذا كتموا ذلك حتى تلف الحق، ضمنوه، ويملك السلطان تعزير من ثبت عنده أنه كتم الخبر الواجب، كما يملك تعزير المقر إقراراً مجهولاً حتى الجزء: 7 ¦ الصفحة: 449 يفسره، ومن كتم الإقرار. وقد يكون التعزير ترك المستحب، كما يعزر العاطس الذي لم يجهر، بترك تشميته. وسئل أيضاً: الشيخ عبد الله: عن قولهم: إن رأى الإمام العفو عنه جاز، وقال في المبدع ومعناه من الشرح: ما كان من التعزير منصوص عليه، كوطء جارية امرأته، أو الجارية المشتركة، فيجب امتثال الأمر فيه، وما لم يكن رأى الإمام المصلحة فيه، وجب كالحد. وإن رأى العفو جاز، للأخبار ... إلى آخر الكلام. فأجاب: اعلم أن في وجوب التعزير وعدمه، روايتين في مذهب أحمد: إحداهما: الوجوب مطلقاً، وهي المذهب، وعليه الأصحاب، وهي من مفردات المذهب. ومال إلى وجوبه الشيخ تقي الدين، وعنه: مندوب، نص عليه في تعزير رقيقه على معصيته، وشاهد الزور؛ قال في المغني والشرح: إن كان التعزير منصوصاً عليه، كوطء جارية امرأته، أو المشتركة، وجب، وإن كان غير منصوص عليه، وجب إذا رأى المصلحة فيه، أو علم أنه لا ينزجر إلا به. وإن رأى العفو عنه، جاز. انتهى. قلت: ومراده إذا كان في العفو عنه مصلحة، قال في الكافي: يجب التعزير في الموضعين اللذين ورد فيهما الخبر، إلا إن جاء تائباً فله تركه. انتهى. قلت: ومراده الجزء: 7 ¦ الصفحة: 450 بالموضعين: إذا وطئ أمة امرأته مع تحليلها له، والأمة المشتركة، وهو معنى كلام صاحب المبدع الذي ذكرته في السؤال؛ وليس في ذلك معارضة لما تقدم من كلامهم، لأنه إذا جاء تائباً نادماً جاز ترك تعزيره، كما روي في تفسير قوله تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [سورة هود آية: 114] أن رجلاً أصاب من امرأة قبلة، وفعل بها كل شيء إلا الجماع، ثم جاء تائباً، وذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} الآية [سورة هود آية: 114] ، فقال الرجل: ألي ذلك يا رسول الله، أم لجميع الناس؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " بل لجميع أمتي " 1، رواه الأئمة من طرق مختلفة. قال المجد: فإن جاء من استوجب التعزير تائباً، لم يعزر عندي. انتهى. قال في الرعاية: إن تشاتم اثنان عزرا، ويحتمل عدمه؛ قال في الفروع: فدل على أن ما رآه تعين فلا يبطله غيره، وأنه يتعين قدر تعزيره خلافاً لمالك. انتهى. قلت: يعني إذا عين الإمام التعزير للمصلحة، فلا يجوز لغيره إبطاله، وأنه يتعين قدر تعزير عينه الإمام؛ قال في الإنصاف: ويجب إذا طالب الآدمي بحقه، قال في الفروع وفي المغني: في قذف صغيرة لا يحتاج في التعزير إلى مطالبة، لأنه مشروع لتأديبه، فللإمام تعزيره إذا رآه، يؤيده نصه: فيمن سب صحابياً، يجب على السلطان تأديبه، ولم يقيده بطلب وارث، مع أن   1 البخاري: مواقيت الصلاة (526) , والترمذي: تفسير القرآن (3112, 3114) , وأبو داود: الحدود (4468) , وابن ماجة: الزهد (4254) , وأحمد (1/385, 1/430, 1/445, 1/449) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 451 أكثرهم أو كثيرًا منهم له وارث. وقد نص في مواضع على التعزير ولم يقيده، وهو ظاهر كلام الأصحاب، ويأتي في أول آداب القاضي: إذا افتات خصم على الحاكم له تعزيره، مع أنه لا يحكم لنفسه إجماعاً، فدل على أنه ليس كحق الآدمي المفتقر جواز إقامته إلى طلب؛ ولهذا أجاب في المغني عن قول الأنصاري للنبي صلى الله عليه وسلم عن الزبير: أن كان ابن عمتك، وأنه لم يعزره; وعن قول الرجل: إن هذه القسمة ما أريد بها وجه الله، بأن للإمام العفو عنه. وفي البخاري: "أن عيينة بن حصن لما أغضب عمر، هم به، فتلا عليه الحرّ بن قيس {خُذِ الْعَفْوَ} الآية [الأعراف: 199] ". قال في شرح مسلم في قول عائشة: " ما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يُنتهَك شيء من محارم الله فينتقم لله " 1: إنه يستحب لولاة الأمور التخلق بهذا، فلا ينتقم لنفسه ولا يهمل حقاً، انتهى كلام صاحب الفروع. فعلم مما تقدم: أن الأمير والحاكم إذا رأى التعزير في المعصية جاز له ذلك، وإن كان لحق آدمي ولا يفتقر جوازه إلى طلب صاحب الحق، لأن ذلك من باب إنكار المنكر، وإزالة الظلم الذي يتعلق بالأئمة والأمراء. وأما نائب الإمام، فالمعروف عندنا: أن نائبه الأمير والقاضي جميعاً.   1 البخاري: المناقب (3560) والأدب (6126) والحدود (6786, 6853) , ومسلم: الفضائل (2328) , وأبو داود: الأدب (4785) , وأحمد (6/31, 6/114, 6/115, 6/181) , ومالك: الجامع (1671) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 452 وسئل: عن الأمير يؤدب الرعية بأخذ شيء من مالهم، هل يحل؟ أو يصرف في بيت المال؟ فأجاب: أما ما أدب به الرعية بأخذ شيء من المال، فهذا جائز في قول كثير من العلماء، وأما حل أكله أو صرفه في بيت المال فلا أدري. سئل بعضهم: إذا قدم رجل معه امرأة غير محرم له، كبنت عمه وليس معهما غيرهما، كم نجلدهما؟ فأجاب: لا يجوز للرجل أن يخلو بأجنبية، وهي كل امرأة يجوز له أن يتزوجها، لحديث ابن عباس: " لا يخلون رجل بامرأة إلا مع ذي محرم " 1، متفق عليه. وأما حد الجلد فليس عليهما حد، بل يعزران بما يردعهما. والتعزير على الإمام أو نائبه، فإن رأى العفو عنه عفا، لكن العفو للمصلحة؛ ويكون التعزير بالنيل من عرضه، كقوله: يا ظالم، يا معتد، وبإقامته من المجلس، وبأخذ المال أو إتلافه، وبالجلد وليس فيه عدد معلوم إلا ما نص عليه الشارع؛ والتعزير أصل عظيم فيه صلاح الدين والدنيا. سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عن شتم العيال وخصامهم؟ فأجاب: أما شتم العيال وخصامهم، إذا كان من باب التأديب والتمرين والتعليم، فهو مندوب إليه، بشرط أن لا   1 البخاري: النكاح (5233) , ومسلم: الحج (1341) , وأحمد (1/222) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 453 يخرج بالشتم والخصام إلى كلام منهي عنه، وأن لا يتجاوز بالضرب عشر جلدات، في حق من يجوز له ضربه، ممن له الولاية عليه. قال الشيخ عبد الله بن حمد الحجازي: وأما الفتوى التي أفتى بها الشيخ عبد العزيز بن حسن، رحمه الله، فيمن ظهرت عليه الريبة في عرضه، فهذا نصها، قال: وأما من ظهرت منه الريبة وقويت، ولم تؤثر فيه النصيحة، فيؤدب بحسب قوة الريبة وضعفها؛ وإن لم يندفع فساده إلا بالنفي نفي، إلا أن يترتب على نفيه مفسدة أكبر فلا ينفى، لأن الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها، ودفع المضار وتقليلها. انتهى كلامه. فتأمله تجده وافياً بالمقصود مع اختصاره. سئل بعضهم: ما قولكم، علماء المسلمين، إذا نبّه إمام المسلمين وولي أمرهم، على رعيته أن لا يسابلوا بلدة حربية، وأناس من أهل الذمة عند العهد، أن لا يسابلوا تلك البلدان الكفار، وأيضاً، اشترط على أناس من أهل الذمة، وسابلوهم بعد أن نبّه الإمام عليهم بعدم المسابلة، وأن من سابل هذه البلد الكافرة، تراني أُؤَدِّبه وأنكّله، أيجوز لولي الأمر، ومن ظفر بهم يأخذهم، والحالة كما ذكرنا؟ فبينوا لنا مأجورين، إن شاء الله تعالى. الجواب: فنقول: الكلام على هذه المسألة في الجزء: 7 ¦ الصفحة: 454 مقامين: الأول: أن المسلم العاصي بمسابلة هذه البلدة المذكورة، مستحق الأدب والنكال بالحبس والضرب، وأخذ ماله وإتلافه، وإن حسّس على المسلمين علماً يضرهم أبيح دمه وماله، بإجماع العلماء من الأمة المحمدية، ويصير أدباً لأمثاله. وأنسب ما يعاقب به العاصي بنقيض قصده: فإن كان الذي حمله على هذا حب المال، والاستكثار منه، فيؤدب بأخذه منه وإتلافه، كما هو مستفاد من شريعته صلى الله عليه وسلم: لما غل الغال حرق متاعه، وأخذ مصحفه وبيع وأخذ ثمنه، وضرب؛ وفعله الخلفاء الراشدون. ولما حمل القاتل لمورثه الاستعجال على المال، عوقب بنقيض قصده، وحرم الإرث. ولما استعجل الناكح في العدة، عوقب بتحريمها عليه. ولما استشغل المتخلفون عن الصلاة في بيوتهم أراد أن يحرقها عليهم لولا الذرية. ولما أساء الشافع في السلب على أمير السرية، عاقب المشفوع له بمنعه منه. ولما أخذ السارق من التمر، عاقبه بضعف الثمن مرتين. ولما كتم صاحب المال الزكاة، أخذ شطر ماله. وهذا كله يدل على جواز العقوبات المالية، وأخذها، عزمة من عزمات ربنا. وعلى أن الأنسب معاقبة العاصي بنقيض قصده، لأن العقوبات الشرعية مقدرة، وغير الجزء: 7 ¦ الصفحة: 455 مقدرة: أما المقدرة فلا يزاد فيها ولا ينقص، وأما التي غير مقدرة فهي ترجع إلى اجتهاد ولاة الأمر بما يرونه؛ وهذا مما لا خلاف فيه. قال الإمام ابن القيم، رحمه الله تعالى: هذا من باب التعزير، والعقوبات الراجعة إلى اجتهاد الأئمة بحسب المصلحة. انتهى كلامه. المقام الثاني: في الذمي إذا نقض بعض ما شرط عليه، أجمع العلماء من كل مذهب على إباحة دمه وماله؛ والدليل على ذلك: أنه صلى الله عليه وسلم لما صالح أهل خيبر، اشترط عليهم الصفراء والبيضاء، والحلقة - أي السلاح - وأن لا يكتموا ولا يغيبوا شيئاً، فإن كتموا أو غيبوا شيئاً فلا ذمة لهم. فغيبوا مسكاً لحيي بن أخطب فيه مال وحلي، فسألهم عنه، فقالوا: أذهبته النفقات والحروب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "العهد قريب والمال أكثر من ذلك، فدفع من كان عنده ذلك إلى الزبير يستقره، فمسه بعذاب، فقال: لقد رأيت حيياً يطوف في خربة هناك، فذهبوا به فوجدوا المسك في الخربة، فقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم بني أبي الحقيق، وسبى نساءهم وذراريهم، وقسم أموالهم بالنكث "، "وغزا أهل مكة لما أعانوا بني بكر على خزاعة خفية"؛ قال الإمام ابن القيم، رحمه الله: إن ذلك من السياسة الشرعية، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 456 فإن الله سبحانه قادر على أن يدل رسوله على الكنز بطريق الوحي، لكن أراد أن يسن للأئمة عقوبة المتهمين. قال الإمام ابن القيم، رحمه الله، في الهدي النبوي: فواجب على الإمام إزالة المنكرات، وتحريق أمكنة المعصية التي يعصى الله فيها ورسوله، وهدمها، كما "حرق رسول الله صلى الله عليه وسلم مسجد الضرار، وأمر بهدمه"، وهو مسجد يصلى فيه ويذكر الله فيه، لما كان بناؤه ضراراً، وتفريقاً بين المؤمنين، وكذلك محالّ المعاصي والفسوق، كالخانات، وبيوت الخمارين، وأرباب المنكرات، وقد "حرق عمر قرية بكمالها يباع فيها الخمر، وحرق حانوت رويشد الثقفي، وسماه فويسقاً، وأحرق قصر سعد عليه، لما احتجب فيه عن الرعية". قال الإمام موفق الدين بن قدامة المقدسي الحنبلي، في كتاب العمدة: مسألة: ومن نقض العهد بامتناعه من التزام الجزية والملة، أو قاتل المسلمين، أو هرب إلى دار الحرب، حل دمه وماله، لأن في كتاب عبد الرحمن بن غنم، الذي فيه شرائط أهل الذمة على أنفسهم: وإن نحن غيرنا أو خالفنا عما شرطنا على أنفسنا، فلا ذمة لنا، وقد حل لكم ما يحل من أهل المعاندة والشقاق، فزاد عليهم عمر: "ومن ضرب مسلماً فقد خلع عهده"، فظاهره: أنه متى نقض شيئاً من ذلك حل دمه وماله، ولأنه عقد بشرط، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 457 فمتى لم يوجد الشرط زال حكم العقد. انظر أيها المسترشد: ما حكم به صلى الله عليه وسلم من القتل، وأخذ الأموال على من لم يف بالشرط، وما صرح به علماء المذهب، رحمهم الله. وقال في كتاب الرحمة للشافعي: فصل: وإذا فعل أحد من أهل الذمة ما يجب تركه والكف عنه، أو ما فيه ضرر على المسلمين، أو خافهم في نفس أو مال، وكذلك في ثمانية أشياء: بأن أجمع على قتال المسلمين، أو يزني بمسلمة، أو يسبها باسم نكاح، أو يفتن مسلماً عن دينه، أو يقطع عليه الطريق، أو يأوي جاسوساً للمشركين، أو يعين على المسلمين بدلالة، أو يكاتب المشركين بأخبار المسلمين، أو يقتل مسلماً أو مسلمة عمداً، فهذه الثمانية توجب نقض الذمة، وإحلال المال والدم بوجود واحد منها، شرط أو لم يشرط، وهو إحدى الروايتين عن الإمام أحمد، رحمه الله تعالى. ولو ذهبنا نذكر عبارات الكتب لطال الجواب، ولكن هذا على سبيل الإرشاد والتنبيه لمريد الاسترشاد، ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور. والمقصود: أن الذمي إذا أخل بما شرط عليه، فلا ذمة له، وحل دمه وماله إجماعاً; والمسلم إذا عصى ولي الأمر، وسار إلى بلد الكفار، وقد نهي عن ذلك، فلولي الجزء: 7 ¦ الصفحة: 458 الأمر تعزيره، وردع أمثاله بما يراه أبلغ له في العقوبة، وفي الحديث: " إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن ". وأبلغ من هذا، قوله تعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ} [سورة البقرة آية: 251] ، وفي الآية الأخرى: {لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [سورة الحج آية: 40-41] . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 459 باب القطع في السرقة سئل الشيخ سعيد بن حجي: عن المختلس، والمنتهب ... إلخ؟ فأجاب: السرقة أخذ مال محترم على وجه الاختفاء، فلا قطع على منتهب، وهو الذي يأخذ المال على وجه الغنيمة، لما روى جابر مرفوعاً: " ليس على منتهب قطع " 1، رواه أبو داود، ولا على مختلس، والاختلاس: نوع من الخطف والنهب؛ وإنما استخفى في ابتداء اختلاسه. انتهى من الإقناع وشرحه. سئل الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن: عن الحكم في قطع يد السارق؟ فأجاب: وأما السارق، فلا تقطع يده إلا بإذن الإمام أو نائبه في الحكم. سئل الشيخ عبد الله بن محمد، رحمه الله: هل يجتمع القطع والضمان ... إلخ؟ فأجاب: وأما الرجل الذي فعل ما وصفت من حاله، فعليه القطع إذا رفع أمره للأمير، ولا يجتمع القطع والضمان، ولا أكره الغفلة عن القطع، لأجل أن   1 الترمذي: الحدود (1448) , والنسائي: قطع السارق (4971, 4972, 4975) , وأبو داود: الحدود (4391) , وابن ماجة: الحدود (2591) , وأحمد (3/380) , والدارمي: الحدود (2310) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 460 وقت المجاعة فيها شبهة. وسئل: عن حد السارق؟ فأجاب: وأما السارق فتقطع يده اليمنى، بشرط أن يأخذ المال من حرزه، وأن يكون قيمة المأخوذ قدر ثلاثة دراهم، وأن يكون مالاً محترماً، وأن يكون الآخذ للمال على وجه الاختفاء، وأن لا يكون له فيه شبهة، كالأخذ من مال ولده، والمرأة من مال زوجها. والذي يسرق دون النصاب فلا قطع عليه، بل يؤدب؛ وكذلك الذي يأخذ الثمر من البساتين والزرع، يؤدب، ويغرم قيمته مرتين. وأجاب أيضاً: وأما السارق، فإذا سرق وثبتت سرقته من حرز المال، المعروف عند أهل البلد أنه حرز له، قطعت يده اليمنى من مفصل الكوع، بشرط أن تكون سرقته نصاباً، وهو: ربع دينار، قيمته عندكم: ثلاثة أخماس ريال. وأما الذي يأخذ العنب من البستان، والقضب من الحديقة، والخشب من الحائط، فهذا يؤدبه الأمير، ويغرم مثل ما أخذ من ذلك. وأجاب الشيخ حسين بن محمد، رحمهما الله: نصاب السرقة: ربع دينار، والدينار: اثنا عشر درهماً؛ فإذا سرق من الحرز ما يبلغ ثلاثة دراهم قطع، كما جاءت به السنة. فإذا حصل الشك: هل المسروق مما يساوي ثلاثة دراهم من الجزء: 7 ¦ الصفحة: 461 الفضة الخالصة أم لا، لم يقطع بمجرد الشك؛ وفي الحديث: "ادرؤوا الحدود بالشبهات" 1. وأما الحرز، فهو ما جرت العادة به في حفظ الأموال، والأموال تختلف: فالدراهم لها حرز، والقماش له حرز، والدواب لها حرز، والثمار لها حرز، والمسافر بماله له حرز، والنائم على متاعه في المسجد والسوق كذلك؛ والمسألة لها ضابط، وهو: أن الحرز ما جرت به العادة، ويختلف ذلك باختلاف الزمان والمكان، وعدل السلطان وجوره. وأما إذا سرق الإنسان شيئاً محرماً، مثل التنباك، هل يجب فيه القطع؟ فاعلم: أن للقطع شروطاً، منها: أن يكون المال محترماً، فلا يقطع بسرقة الخمر والتتن، وآلة اللهو، وكتب البدع، ونحو ذلك. وأما قولك: وهل حد السرقة حق لله، يقام على السارق وإن لم يطلبه المسروق؟ فالأمر كذلك، يقام على السارق وإن لم يطلبه المسروق منه، بل لو وهب السارق المال بعد رفعه إلى الإمام، لم يسقط الحد عنه، لقصة صفوان؛ والخلاف بين الفقهاء إنما هو في المطالبة بالمال، هل هي شرط في القطع أم لا؟ وفي ذلك عن أحمد روايتان: إحداهما: يشترط مطالبة المسروق منه بماله، وهي المشهورة في المذهب. والرواية الأخرى: ليس ذلك   1 الترمذي: الحدود (1424) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 462 بشرط، اختارها الشيخ تقي الدين، وابن القيم، رحمهما الله، عملاً بإطلاق الآية والأحاديث. وأما قولك: وهل يجتمع القطع ورد المال؟ فالأمر كذلك، فترد العين المسروقة إلى مالكها؛ فإن كانت تالفة غرم قيمتها، وقطعت يده. وإذا سرق إنسان تمراً أو حبوباً، هل يغرم قيمته مرتين؟ فأكثر العلماء يقولون: عليه غرامة مثله، من غير زيادة؛ وأحمد يقول: علية غرامة مثليه; وحديث عمرو بن شعيب صريح الدلالة لمذهب أحمد، قال أحمد: لا أعلم شيئاً يدفعه، وهذا إذا أخذ الثمر من الحوائط، كما إذا أخذ ذلك من النخل. وأما إذا أخذه من الجرين، فهذا عليه القطع بشرطه، لقوله عليه السلام في حديث عمرو بن شعيب: " ومن خرج بشيء منه، فعليه غرامة مثليه والعقوبة. ومن سرق منه شيئاً بعد أن يأويه الجرين، فبلغ ثمن المجن، فعليه القطع " 1، رواه أحمد، والنسائي، وأبو داود. وأجاب الشيخ حمد بن ناصر بن معمر: الحرز: ما جرت العادة بحفظ المال فيه، ويختلف باختلاف الأموال: فحرز الغنم الحظيرة، وحرزها في المرعى بالراعي ونظره إليها، إذا كان يراها في الغالب، وأما إذا نام عنها فقد خرجت من الحرز؛ والضابط ما ذكرناه، وهو أن الحرز ما   1 النسائي: قطع السارق (4958) , وأبو داود: اللقطة (1710) والحدود (4390) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 463 جرت العادة بحفظ المال فيه؛ والأموال تختلف. وتفصيل المسألة مذكور في باب القطع في السرقة، فراجعه. وأما السرقة من الثمر قبل إيوائه الحرز، فهذا لا قطع فيه، ولو كان عليه حائط أو حافظن إذا كان في رؤوس النخل، لحديث رافع بن خديج: "لا قطع في ثمر ولا كثر " 1. وكذلك الماشية تسرق من المرعى، إذا لم تكن محرزة لا قطع فيها، وتضمن بمثلي قيمتها، والثمر يضمن بمثلي قيمته، لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. وروى الأثرم: "أن عمر غرم حاطب بن أبي بلتعة، حين نحر غلمانه ناقة رجل من مزينةن مثلي قيمتها"، وهذا مذهب أحمد. وأما الجمهور فقالوا: لا يجب عليه إلا غرامة مثله، قال ابن عبد البر: لا أعلم أحداً قال بغرامة مثليه. وحجة أهل القول الأول: حديث عمرو بن شعيب، قال أحمد: لا أعلم شيئاً يدفعه. وأما: المختلس، والمنتهب، والخائن، وغيرهم، فلا يغرم إلا مثله من غير زيادة على المثل والقيمة، لأن الأصل: وجوب غرامة المثل بمثله، والمتقوم بقيمته، وخولف في هذين الموضعين للأثر، ويبقى ما عداهما على الأصل. والدابة إذا سرقت من حرز مثلها، كالبعير المعقول الذي عنده حافظ، أو لم يكن معقولاً وكان الحافظ ناظراً إليه، أو مستيقظاً بحيث يراه، ونحو ذلك مما ذكر الفقهاء،   1 الترمذي: الحدود (1449) , والنسائي: قطع السارق (4960, 4961, 4962, 4963, 4964, 4965, 4966, 4967, 4968, 4969, 4970) , وأبو داود: الحدود (4388) , وابن ماجة: الحدود (2593) , وأحمد (3/463, 3/464, 4/140, 4/142) , ومالك: الحدود (1583) , والدارمي: الحدود (2304, 2305, 2306, 2308) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 464 في معرفة حرز المواشي، فهذه إذا سرقت من الحرز، فعلى السارق القطع بشروطه. فإن لم تكن في حرز، فلا قطع على السارق، وعليه غرامة مثلي قيمتها؛ وهو مذهب الإمام أحمد، واحتج بأن "عمر غرم حاطب بن أبي بلتعة، حين نحر غلمانه ناقة رجل من مزينة، مثلي قيمتها". وأجاب أيضاً: وأما من سرق من الثمرة، فإن كان بعدما آواها الجرين، فعليه القطع، فإن كان قبل ذلك، بأن سرق من الثمر المعلق فلا قطع، وعليه غرامة مثليه في مذهب الإمام أحمد. وقال أكثر الفقهاء: لا يجب فيه أكثر من مثله؛ وبالغ أبو عمر بن عبد البر، وقال: لا أعلم أحداً من الفقهاء قال بغرامة مثليه; والصحيح: ما ذهب إليه الإمام أحمد، لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " سئل عن الثمر المعلق؟ فقال: من أصاب منه من ذي حاجة غير متخذ خبنة فلا شيء عليه، ومن خرج بشيء منه فعليه غرامة مثليه والعقوبة، ومن سرق منه شيئاً بعد أن يأويه الجرين، فبلغ ثمن المجن، فعليه القطع " 1، حديث حسن، قال الإمام أحمد: لا أعلم شيئاً يدفعه. وأما ما عدا الثمرة، والماشية، فالمشهور من مذهب الإمام أحمد: أنه لا يغرم أكثر من القيمة إن كان متقوماً، أو مثله إن كان مِثْلِيًّا؛ فالأصل: وجوب غرامة المثل فقط،   1 الترمذي: البيوع (1289) , والنسائي: قطع السارق (4958) , وأبو داود: اللقطة (1710) والحدود (4390) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 465 المتلَف والمغصوب، والمنتهَب والمختلَس، وسائر ما تجب غرامته، وخولف الأصل في هذين الموضعين للأثر، ويبقى ما عداهما على الأصل. واختار الشيخ تقي الدين: وجوب غرامة المثلين في كل سرقة لا قطع فيها. وأما إذا اختلفا في القيمة ولا بينة لهما، فالظاهر من كلامهم: أن القول قول الغارم. وأما قوله: إذا سرقها وباعها على من لا يعرف، فما الحكم؟ فنقول: الحكم فيها كما تقدم، وهو: غرامة المثلين على ما ذكرنا من تغريم عمر حاطباً، وعلى ما دل عليه حديث عمرو بن شعيب، فإن فيه أن السائل قال: " الشاة الجرسية يا رسول الله؟ قال: ثمنها ومثله معه " 1، ولا فرق بين بيع الشاة وبين ذبحها، ونحر الناقة وبيعها. سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ: عن العبد إذا سرق؟ فأجاب: وأما العبد إذا سرق، فالظاهر من كلامهم أنه كالحر، وصرح به بعض العلماء من الشافعية. وأجاب الشيخ حمد بن ناصر: العبد المملوك إذا سرق من حرز، من غير مال سيده، هل يجب عليه القطع؟ فالأمر كذلك، وأما سيده فلا يقطع بسرقة ماله. سئل الشيخ سعيد بن حجي: هل يحد السارق بإقراره مرة؟ أو لا بد من مرتين؟   1 النسائي: قطع السارق (4959) , وابن ماجة: الحدود (2596) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 466 فأجاب: قال في المغني: ولا يقطع إلا بشهادة عدلين، أو اعتراف مرتين؛ قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم، على أن قطع السارق يجب إذا شهد بالسرقة شاهدان حران مسلمان، ووصفا ما يوجب القطع. انتهى. أو يعترف مرتين، روي ذلك عن علي، وبه قال ابن أبي ليلى، وأبو يوسف; وقال أبو حنيفة والشافعي: يقطع بإقراره مرة; ولنا: ما روى أبو داود: "أنه عليه السلام أتي بلص قد اعترف، فقال: ما إخالك سرقت. قال: بلى. فأعاد عليه مرتين، فأمر به فقطع " 1. انتهى. ولحديث علي، وهذا مذهب الحنابلة.   1 النسائي: قطع السارق (4877) , وأبو داود: الحدود (4380) , وابن ماجة: الحدود (2597) , وأحمد (5/293) , والدارمي: الحدود (2303) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 467 باب حد قطاع الطريق سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عن تأمين قطاع الطريق؟ فأجاب: قطاع الطريق إذا أمنهم إنسان، فالذي نتحقق أن تأمينهم لا يصح، ولا يسقط عنهم الحد الذي أوجبه الله عليهم، كتأمين الزاني والسارق والشارب، فلا يقول أحد بسقوط الحد عنهم بذلك، ولا يستريب في هذا من له معرفة 1.   1 وتقدم في صفحة 388 حكم الردء. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 467 كتاب الأطعمة سئل الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين: عن تعليل أحمد بمسخ القنفذ؟ فأجاب: وأما تعليل الإمام أحمد كراهة القنفذ، بأنه مسخ، فقال الشيخ تقي الدين: مراد أحمد أنه لما مسخ على صورته، دل على خبثه، يعني: ليس مراد أحمد أنه بقية ممن مسخ، فارتفع الإشكال. سئل الشيخ حمد بن عبد العزيز: عن النيص؟ فأجاب: حرم صلى الله عليه وسلم كل ذي ناب من السباع، وليس منها، وليس من الخبائث، بل هو مما سكت عنه؛ وما سكت عنه فهو عفو، كما في الحديث، والله أعلم. سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد، رحمهما الله، عن قولهم: من مرّ بثمرة لا حائط لها، ولا ناظر؟ فأجاب: قولهم من مرّ بثمرة لا حائط لها ولا ناظر، ففي هذه المسألة ثلاث روايات: إحداهن: له الأكل ولا يحمل، قال ابن رجب: هذا الصحيح المشهور في المذهب، قال في الهداية: اختاره عامة الأصحاب، قال في الشرح الكبير: وهو المشهور في المذهب، لما روي الجزء: 7 ¦ الصفحة: 468 عن أبي زينب التميمي، قال: "سافرت مع أنس بن مالك، وعبد الرحمن بن سمرة، وأبي برزة، رضي الله عنهم، فكانوا يمرون بالثمار، فيأكلون في أفواههم"، وهو قول عمر وابن عباس وأبي برزة، رضي الله عنهم. ثم ذكر القولين الآخرين. ثم قال: ولنا حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده: " أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الثمر المعلق؟ فقال: ما أصاب منه من ذي الحاجة، غير متخذ خبنة، فلا شيء عليه، ومن حمل منه شيئاً، فعليه غرامة مِثْلَيْه والعقوبة " 1، قال الترمذي: حديث حسن. وروى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: " إذا أتيت إلى بستان، فناد صاحب البستان ثلاثاً، فإن أجابك وإلا فكل من غير أن تفسد " 2. وروى سعيد عن الحسن، عن سمرة عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله، ولأنه قول من سمينا من الصحابة من غير مخالف، فكان إجماعاً. فأما أحاديثهم فهي منسوخة بما روينا من الحديث والإجماع. وأما الزرع، ولبن الماشية، ففيها روايتان: قال أحمد: لا يأكل، إنما رخص في الثمار ليس الزرع. والثانية: قال: يأكل من الفرك، لأن العادة جارية به، يؤكل رطباً، أشبه التمر والزبيب - إلى أن قال - والأولى في الثمار وغيرها، أن لا يأكل منها إلا بإذن، لما فيها من   1 الترمذي: البيوع (1289) , والنسائي: قطع السارق (4958) , وأبو داود: اللقطة (1710) والحدود (4390) , وابن ماجة: الحدود (2596) , وأحمد (2/180) . 2 ابن ماجة: التجارات (2300) , وأحمد (3/85) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 469 الخلاف. ولبن الماشية كذلك، روي عن أحمد فيه روايتان: إحداهما: يجوز أن يشرب ويحلب، ولا يحمل، لما روى الحسن عن سمرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا أتى أحدكم ماشية، فإن كان فيها صاحبها فليستأذنه، وإن لم يكن فيها أحد، فليحتلب، وليشرب ولا يحمل " 1، رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح؛ والعمل عليه عند بعض أهل العلم، وهو قول إسحاق. والثانية: لا، لما روى ابن عمر مرفوعاً: " لا يحلبن أحد ماشية أحد إلا بإذنه " 2، متفق عليه. سئل الشيخ سعيد بن حجي: عن صيد البحر، هل هو حلال كله؟ أم هو كصيد البر؟ فأجاب: قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ} [سورة المائدة آية: 96] ، المراد بالصيد: ما صيد من البحر، والمراد بالبحر جميع المياه، العذبة والمالحة. فأما طعامه، فاختلفوا فيه، فقيل: هو ما قذفه البحر ورمى به إلى الساحل، يروى ذلك عن أبي بكر، وعمر، وابن عمر، وأبي أيوب، وقتادة; وقيل: صيد البحر طريه، وطعامه مالحه، يروى ذلك عن سعيد بن جبير، وسعيد بن المسيب، والسدي. ويروى عن ابن عباس ومجاهد كالقولين. وجملة حيوان الماء على قسمين: سمك، وغير   1 الترمذي: البيوع (1296) , وأبو داود: الجهاد (2619) . 2 البخاري: في اللقطة (2435) , ومسلم: اللقطة (1726) , وأبو داود: الجهاد (2623) , وابن ماجة: التجارات (2302) , وأحمد (2/6) , ومالك: الجامع (1812) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 470 سمك. فأما السمك: فجميعه حلال على اختلاف أجناسه وأنواعه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في البحر: " هو الطهور ماؤه، الحل ميتته " 1، أخرجه أبو داود، والترمذي والنسائي، ولا فرق بين أن يموت بسبب، أو بغير سبب، فيحل كله; وقال أبو حنيفة: لا يحل إلا أن يموت بسبب. وما عدا السمك، فقسمان: قسم: يعيش في البر والبحر، كالضفدع والسرطان، فلا يحل أكلهما، وقال سفيان: أرجو أن لا يكون بالسرطان بأس. واختلفوا في الجراد، فقيل: هو من صيد البحر، فيحل أكله للمحرم; وذهب جمهور العلماء إلى أنه من صيد البر، وأنه لا يحل للمحرم أكله في حال الإحرام، فإن أصاب جرادة فعليه صدقة، قال عمر: "في الجرادة تمرة". وعنه، وعن ابن عباس: "قبضة من طعام". وكذلك طير الماء، فهو من صيد البر أيضاً. وقال أحمد: يؤكل كل ما في البحر، إلا الضفدع والتمساح، قال: لأن التمساح يفترس، ويأكل الناس; وقال ابن أبي ليلى ومالك: يباح كل ما في البحر. وذهب جماعة: إلى أن ما له نظير في البر يؤكل، فيؤكل نظيره من حيوان البحر، مثل بقر الماء ونحوه، ولا يؤكل ما لا يؤكل نظيره في البر، مثل كلب الماء، وخنزير الماء، فلا يحل أكله. انتهى من تفسير الخازن. فقد علم   1 الترمذي: الطهارة (69) , والنسائي: المياه (332) والصيد والذبائح (4350) , وأبو داود: الطهارة (83) , وابن ماجة: الطهارة وسننها (386) والصيد (3246) , وأحمد (2/237, 2/361) , ومالك: الطهارة (43) , والدارمي: الطهارة (728, 729) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 471 السائل - ألهمه الله فهم المسائل -: أن جميع السمك حلال على اختلاف أنواعه وأجناسه مطلقاً بالاتفاق، وأما غير السمك فهذا تفصيل الفقهاء، كما ترى، والله أعلم. سئل الشيخ حسين والشيخ عبد الله: ابنا الشيخ: عن الضيافة؟ هل هي واجبة أم لا؟ فأجابا: الذي عليه العمل أنها واجبة على أهل القرى، وعلى البوادي دون الأمصار الكبار، التي توجد الأطعمة تباع فيها بلا كلفة. وأجاب الشيخ حمد بن ناصر بن معمر: وأما الضيافة والقول بوجوبها، فالضيف على من نزل به; وأما الغائب ومن لم ينزل به الضيف، فلا يجب عليه معونة المنزول به، إلا أن يختار المعين. سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عمن ضاف من أكثر مالهم حرام؟ فأجاب: أما إذا ضاف شخص ناساً أكثر مالهم حرام، فإنه يجوز له أن يأكل من طعامهم، ما لم يتحقق أنه من مالهم الحرام. وعلى كل حال، الأولى: التورع عن طعامهم، ومبايعتهم، ومشاراتهم. سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ: عن قوله صلى الله عليه وسلم: " أنهاكم عن الدباء، والحنتم " 1 ... إلخ؟ فأجاب: ذكر أهل العلم في شرحه: أنه نهاهم عن الانتباذ في هذه الأوعية، لأنها أوعية حارة، فيشربون منها   1 البخاري: العلم (87) , ومسلم: الإيمان (17) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (5031) , وأبو داود: الأشربة (3692) , وأحمد (1/276, 1/291) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 472 المسكر ولا يشعرون بذلك. وورد في حديث صحيح أنه أرخص فيه بعد ذلك، وقال: " لا تشربوا مسكراً ". وسئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن: عن الزعفران واستعماله في المأكول والمشروب؟ فأجاب: لا أعلم فيه حديثاً يصح في النهي عنه، ورأيته منصوصاً على كراهة استعماله، في كلام بعض متأخري الحنفية؛ فهم ألحقوه بالبنج، وذكروا أنه يخدر منه، وربما أضر أو قتل. ثم إنا راجعنا كلام الحنابلة فيه، وهذا نص عبارة شارح المنتهى: والزعفران يحرم استعماله على وجه يضر، ويجوز على وجه لا يضر، كقلته وإضافة ما يصلحه. سئل الشيخ حسين بن الشيخ عن لبن الجلالة ... إلخ؟ فأجاب: وما ذكرت من جهة الدواب، فإن كان أربابها أضاعوها، وأكلها ما تذكر بسبب الجوع، فأربابها يجبرون على إطعامها، فإن كان فيها لبن، فألبانها لا تشرب إلى أن تحبس قدر ما تخلو من بطنها العذرة. وأجاب بعضهم: تحرم الجلالة، وهي: التي أكثر علفها النجاسة، ولبنها وبيضها، حتى تحبس ثلاثاً، وتعلف من الطاهرات، وتمنع من النجاسة. فإن كان أكثر علفها الطاهر، لم يحرم أكلها، وكره أبو حنيفة لحومها، والعمل عليها. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 473 باب الذكاة سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عن ذبح الأعراب؟ فأجاب: لا تهجروا ذبح الأعراب في هذه الأزمنة، فمنهم أناس كقحطان، نرى أنهم أحسن من بعض الحضر، وباقي بادية نجد عليهم اسم الإسلام، ويؤذنون ويصلون جماعة في الغالب، ولا يبين لنا ما يوجب الحكم بتحريم ذبائحهم. أحضر الإمام عبد العزيز بن عبد الرحمن آل فيصل، جهابذة علماء نجد سنة 1338، الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف، وحسن بن حسين، وسعد بن عتيق، وعمر بن سليم، وعبد الله العنقري، وسليمان بن سحمان، ومحمد بن عبد اللطيف، وغيرهم، لما جرى التنازع والاختلاف من بعض الإخوان، بسبب من يدعي طلب العلم، في مسائل، منها: هل بين الحضر الأولين والمهاجرين الآخرين فرق؟ وهل في ذبيحة البدوي الذي في ولاية المسلمين ومعتقده معتقدهم وفي ذبيحة الحضر الأولين فرق؟ حلال أو حرام، أم لا؟ فأجابوا: كل هذه الأمور مخالفة للشرع، ولا أمرت الجزء: 7 ¦ الصفحة: 474 بها الشريعة، والذي يفعلها ينهى عنها ويزجر، فإن تاب وأقر بخطئه عفي عنه، وإن استمر على أمره وعاند، وجب عليه أدب ظاهر بين المسلمين، وأن جميع ما يأمر به أو ينهى عنه، أو يعادي أو يصادق، على غير ما حكم به الحاكم الشرعي، فالذي يفعله مخالف للشريعة، وطريقه غير طريق المسلمي؛، وهذا الذي ندين الله به، ونشهد الله عليه. وأجاب الشيخ عبد الله العنقري: ذبائح الأعراب، من حكمنا بكفره منهم، فذبيحته حرام، ومن حكمنا بإسلامه، فذبيحته مباحة. وسئل: عن الذي يرمي صيداً بسهم، ويذكر اسم الله عليه فيخطئه، ثم يرميه بآخر في الحال، وينسى الاسم، هل يحل إذا أصابه؟ فأجاب: لا بد من ذكر الله عليه عند الإرسال. سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد، رحمهما الله: عن حل ذبيحة المرأة؟ فأجاب: وأما ذبيحة المرأة، فلا بأس بها إذا كانت مسلمة، وذكرت اسم الله تعالى. سئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى: هل الذبح للجن منهي عنه؟ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 475 فأجاب: اعرف قاعدة أهملها أهل زمانك، وهي: أن لفظ التحريم والكراهة، وقوله: لا ينبغي، ألفاظ عامة، تستعمل في المكفرات، والمحرمات التي دون الكفر، وفي كراهة التنزيه دون الحرام، مثل استعمالها في المحرمات، وقوله: الإله الذي لا تنبغي العبادة إلا له، وقوله: {وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً} [سورة مريم آية: 92] . ولفظ التحريم مثل قوله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} [سورة الأنعام آية: 151] . وكلام العلماء لا ينحصر في قولهم: يحرم كذا، لما صرحوا في مواضع أخر أنه كفر. وقوله: يكره، كقوله: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} إلى قوله: {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً} [سورة الإسراء آية: 23-38] . وأما قول الإمام أحمد: أكره كذا، فهو عند أصحابه على التحريم. إذا فهمت هذا، فهم صرحوا: أن الذبح للجن ردة تخرج عن الإسلام، وقالوا: الذبيحة حرام ولو سمى عليها، قالوا: لأنها يجتمع فيها مانعان: الأول: أنها مما أهلّ به لغير الله. والثانية: أنها ذبيحة مرتد، والمرتد لا تحل ذبيحته، وإن ذبحها للأكل وسمى عليها. وما أشكل عليك في هذا فراجعني، أذكر لك لفظهم بعينه. وقال في قوله تعالى: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} الجزء: 7 ¦ الصفحة: 476 [سورة المائدة آية: 5] ، وقوله: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [سورة الأنعام آية: 118] : الآيتان لا اختلاف في حكمهما بين أحد، آيتان من كتاب الله؛ ولكن الكلام في حكم الذابح، هل هو مسلم؟ فيدخل حكمه في حكم الآية، إذا ذبح وسمى الله عليها. فلو ترك التسمية نسياناً حلت ذبيحته، وكانت من الطيبات، بخلاف من ترك التسمية عمداً، فلا تحل ذبيحته. وكذلك أهل الكتاب – أعني: اليهود والنصارى -، ذبيحتهم ومناكحتهم حلال، لقوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} الآية [سورة المائدة آية: 5] . وأما المرتد فلا تحل ذبيحته، وإن قال فيها: بسم الله، لأن المانع من ذلك ارتداده عن دين الإسلام، لا ترك التسمية، لأن المرتد شر عند الله من اليهود والنصارى من وجوه: أحدها: أن ذبيحته من الخبائث. الثانية: أنها لا تحل مناكحته، بخلاف أهل الكتاب. الثالثة: أنه لا يقر في بلد المسلمين، لا بجزية ولا بغيرها. الرابعة: أن حكمه ضرب عنقه بالسيف، لقوله صلى الله عليه وسلم: " من بدل دينه فاقتلوه " 1، بخلاف أهل الكتاب. وسئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ: عن ذبيحة الكافر والمرتد، إذا ذبحت للحم وذكرا اسم الله عليه، فهل هناك نص بتحريمها غير الإجماع، ومفهوم قوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} الآية   1 البخاري: الجهاد والسير (3017) , والترمذي: الحدود (1458) , والنسائي: تحريم الدم (4059, 4060, 4061, 4062, 4064, 4065) , وأبو داود: الحدود (4351) , وابن ماجة: الحدود (2535) , وأحمد (1/217, 1/282, 1/322) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 477 [سورة المائدة آية: 5] ؟ فأجاب: الإجماع دليل شرعي بالاتفاق، ولا بد أن يستند الإجماع إلى دليل من الكتاب والسنة؛ وقد يخفى ذلك الدليل على بعض العلماء. فإن كان قد وقع الإجماع على تحريم ذبيحة الكافر والمشرك غير الكتابي، فحسبك به، ودلت الآية الكريمة على التحريم بمفهومها، كما قد عرفتم. والجواب عن قوله: وذكرا اسم الله عليها، أن يقال: التسمية من الكافر الأصلي ومن المرتد، غير معتبرة، لبطلان أعمالهما، فوجودها كعدمها، كما أن التهليل إذا صدر منه حال استمراره على شركه غير معتبر، فيكون وجوده كعدمه؛ وإنما ينفع إذا قاله عالماً بمعناه، ملتزماً لمقتضاه، كما قال تعالى: {إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [سورة الزخرف آية: 86] ؛ قال ابن جرير - كغيره -: وهم يعلمون حقيقة ما شهدوا به. وأجاب الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين: قد دل الكتاب والسنة والإجماع، على تحريم ذبائح من عدا أهل الكتابين من الكفار، قال الله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} ، قال ابن عباس: "طعامهم: ذبائحهم"، وكذا قال جميع علماء التفسير. فتخصيص الإباحة بذبح أهل الكتاب، يدل على تحريم ذبائح غيرهم من الكفار؛ وما زال العلماء في جميع الأمصار يستدلون بمفهوم الآية، على تحريم ذبائح الكفار سوى أهل الجزء: 7 ¦ الصفحة: 478 الكتاب. وفي مسند الإمام أحمد، حديث مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال فيه: " فإذا اشتريتم لحماً، فإن كان من يهودي أو نصراني فكلوا، وإن كان من ذبيحة مجوسي فلا تأكلوا "، وروى سعيد بن منصور في سننه، بإسناد جيد عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "لا تأكلوا من الذبائح إلا ما ذبح المسلمون وأهل الكتاب"، وقال الوزير ابن هبيرة: وأجمعوا على أن ذبائح الكفار غير أهل الكتاب، غير مباحة. انتهى. ولما قال أبو ثور، رحمه الله، بإباحة ذبائح المجوس، مستدلاً بالحديث المروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " سنوا بهم سنة أهل الكتاب " 1، أنكر عليه الأئمة، وبالغوا في الإنكار عليه; قال الإمام أحمد: هاهنا قوم لا يرون بذبائح المجوس بأساً، ما أعجب هذا؟ يُعَرِّض بأبي ثور، وقال إبراهيم الحربي: خرق أبو ثور الإجماع، وما رأينا أحداً من العلماء تكلم في هذه المسألة، إلا ويذكر تحريم ذبائح ما عدا أهل الكتاب، ولا يذكر في ذلك مخالفاً، إلا مخالفة أبي ثور في المجوس، ومخالفة إسحاق في المرتد إلى دين أهل الكتاب خاصة. قال الشيخ شمس الدين بن أبي عمر، في الشرح الكبير: فأما ذكاة المجوس، فلا تحل في قول أهل العلم،   1 مالك: الزكاة (617) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 479 وشذ أبو ثور، فأباح صيده وذبيحته، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: " سنوا بهم سنة أهل الكتاب " 1، ولأنهم يُقَرُّون بالجزية، فتباح ذبيحتهم وصيدهم، كاليهود والنصارى؛ وهذا قول يخالف الإجماع، فلا عبرة به. قال إبراهيم الحربي: خرق أبو ثور الإجماع، قال أحمد: هاهنا قوم لا يرون بذبائح المجوس بأساً، ما أعجب هذا؟ يعرض بأبي ثور. وممن منع أكل ذبائحهم: ابن مسعود، وابن عباس، وعلي، وجابر، وأبو بردة، وسعيد بن المسيب، وعكرمة، والحسن بن محمد، وعطاء، ومجاهد، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، وسعيد بن جبير، ومالك، والثوري والشافعي، وأصحاب الرأي، وأحمد؛ ولا أعلم خلافه إلا أن يكون صاحب بدعة، ولأن الله تعالى قال: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} [سورة المائدة آية: 5] ، فمفهومها: تحريم طعام غيرهم من الكفار، ولأنهم لا كتاب لهم، فلا تحل ذبائحهم كأهل الأوثان، ثم ذكر الحديث الذي أخرجه الإمام، وقد تقدم. قال: ولأن كفرهم مع أنهم غير أهل كتاب، يقتضي تحريم ذبائحهم ونسائهم، بدليل سائر الكفار من غير أهل الكتاب، وإنما أخذت منهم الجزية، لأن شبهة الكتاب تقتضي التحريم لدمائهم، فلما غلبت في التحريم لدمائهم، وجب أن يغلب عدم الكتاب في تحريم الذبائح والنساء   1 مالك: الزكاة (617) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 480 احتياطاً، للتحريم في الموضعين، ولأنه إجماع؛ فإنه قول من سمينا من الصحابة، ولا مخالف لهم في عصرهم، ولا في من بعدهم، إلا في رواية عن سعيد بن المسيب، روي عنه خلافها. ثم قال: فصل: سائر الكفار من عبدة الأوثان والزنادقة وغيرهم، حكمهم حكم المجوس في تحريم ذبائحهم، قياساً عليهم، بل هم شر من المجوس، لأن المجوس لهم شبهة كتاب، بخلاف هؤلاء - إلى أن قال - ولا تباح ذبيحة المرتد، وإن كانت ردته إلى دين أهل الكتاب؛ وهذا قول مالك والشافعي، وأصحاب الرأي. وقال إسحاق: إن تدين بدين أهل الكتاب حلت ذبيحته; ولنا: أنه كافر لا يُقَرّ على دينه، فلم تحل ذبيحته كالوثني، ولأنه لا يثبت له أحكام أهل الكتاب إذا تدين بدينهم، فإنه لا يقر بالجزية، ولا يُسترق، ولا يحل نكاح المرتدة. انتهى ملخصاً. فدل كلامه على أنه لا خلاف في تحريم ذبائح من عبد الأوثان، والمرتد إلى دين أهل الكتاب; قال الزركشي في شرح الخرقي - لما ذكر قول الخرقي -: ولا يأكل من صيد المجوس إلا ما كان من حوت، فإنه لا ذكاة له. وحكم عبدة الأوثان ونحوهم، حكم المجوس بطريق الأولى، وإنما نص الخرقي على المجوس، لوقوع الخلاف الجزء: 7 ¦ الصفحة: 481 فيه، وإن كان الخلاف شاذاً. انتهى. فدل كلامه: أنه لا خلاف في تحريم ذبائح من عدا المجوس من الكفار، مع أن مخالفة أبي ثور في المجوس شذوذ، وخرق للإجماع، كما قال إبراهيم الحربي، فلا عبرة به. وكذلك مخالفة إسحاق في المرتد إلى دين أهل الكتاب، ولعله يحتج بأنه يدخل في عموم أهل الكتاب إذا تدين بدينهم، وقول الجمهور هو الصواب، لأنه لا يسترق، ولا يقر بالجزية، فدل ذلك على مخالفة حكمه لحكم أهل الكتاب؛ ومن حكمنا بكفره من أهل العصر فهو مرتد، حكمه حكم المرتدين، لقول العلماء، رحمهم الله: من فعل كذا، أو قال كذا فهو مرتد، فلم يجعلوا حكمه حكم الكافر الأصلي، ولا حكم أهل الكتاب بكونه يقر بالجزية، ويسترق، وتنكح المرتدة، بل قالوا: حكمه القتل، وتحريم نكاح المرتدة، فلم يجعلوا حكم المرتد من هذه الأمة كحكم أهل الكتاب، بل حكمه عند الجميع مخالف لحكم أهل الكتاب. وقد حكي لنا عن بعض من ينتسب إلى العلم من المعاصرين، أنه قال: إذا كان الله قد أباح ذبائح اليهود والنصارى لكونهم أهل كتاب، فكفار هذه الأمة أولى، لأنهم أهل كتاب، بل كتابهم أشرف من الكتابين، وهذا قياس فاسد، لمخالفته الكتاب والإجماع، قال الله تعالى: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 482 {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} [سورة المائدة آية: 5] ، فدل مفهوم ذلك، على تحريم ذبائح من عدا أهل الكتاب. وقد أجمع العلماء: على أن المرتد من هذه الأمة، حكمه مخالف لحكم أهل الكتاب، فلا يقر بالجزية، ولا يسترق، ولا تنكح المرتدة، ولا تباح ذبيحته، إلا ما ذكروا من مخالفة إسحاق، في إباحة ذبيحة المرتد إلى دين أهل الكتاب خاصة; وحكم الصحابة ومن بعدهم من جميع العلماء، مخالف لحكمهم في أهل الكتاب، فمن قاس المرتد من هذه الأمة على أهل الكتاب، فقد خالف ما دل عليه الكتاب والسنة وإجماع الأمة. وصرح غير واحد: بتحريم ذبائح الزنادقة، والدروز، والتيامنة، ونحوهم، لأن هؤلاء كفار بلا خلاف؛ والزنديق هو المنافق ونحوه. فقد وضح الحق لمن أراد الله هدايته، ومن لم يرد الله هدايته، لم تزده كثرة الأدلة إلا حيرة وضلالاً، فنسأل الله أن يهدينا وإخواننا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم عليهم، غير المغضوب عليهم ولا الضالين. [ذبيحة الوثني والمرتد] وأجاب الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن: ومن استدل على ذبيحة الوثني والمرتد، بقوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [سورة الأنعام آية: 118] ، فهو من أجهل الناس بكتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وإجماع الأمة، وهو الجزء: 7 ¦ الصفحة: 483 كمن يستدل على لبس الحرير، بقوله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ} [سورة الأعراف آية: 32] ؛ والجهل بالتأويل وأسباب النزول، ضرره وصل كبار العمائم، فكيف الحال بالجفاة والعوام؟ واعلم: أن قوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [سورة المائدة آية: 5] فسر بحل الذبائح، وأنها هي الطعام، ومفهوم الآية تحريم ذبائح غير أهل الكتاب، من الكفار والمشركين، واحتج بهذا أهل العلم؛ ومفاهيم كلام الله وكلام رسوله حجج شرعية. وفسروا المراد من قوله: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [سورة الأنعام آية: 118] بأن المراد به: ذبيحة المسلم والكتابي، إذا ذكر اسم الله عليه، أخذاً من مفهوم آية المائدة؛ وهذا هو المشهور المقرر، وفي ذلك كلام وأبحاث لا يحتاج إليها في مثل هذا المقام، لكن من أهمها، أن بعض المحققين ذكروا أن الحكمة في تخصيص ذبائح أهل الكتاب، بأنهم يذكرون اسم الله، ولا يذكرون اسم من عبدوه عند الذبح للأكل واللحم. وأما ما ذبحوه تقرباً إلى غير الله فهو حرام، وإن ذكرت التسمية عليه، والمقصود ما ذبح للحم. وذكروا تحريم ذبيحة المشرك غير الكتابي، لأنه لا يأتي بالتسمية، ويستحل الميتة؛ وهذا نظر منهم لأصل من علق الحكم بالمظنَّة، كمن علق الحدث بوجود النوم، لأنه مظنة. فقول الجزء: 7 ¦ الصفحة: 484 القائل: إن ذبيحة المشرك تباح إذا ذكر اسم الله، جهل بهذا، وخروج عن سبيل المؤمنين. وقول السائل: هل التسمية "كلا إله إلا الله"؟ فليس مثلها من كل الوجوه، ولا ينظر في ذلك إلى هذا البحث. وأجاب الشيخ إسحاق بن الشيخ عبد الرحمن: وأما الجلاء، وهو صيد الصَّلَب، فينبني على معرفة أحوالهم ودياناتهم؛ ومن عرف حكم المرتد تبين له حالهم، وأنهم في غاية من الضلال والكفر. وتحريم ذبيحة المرتد مسألة إجماع، حتى إن من الفقهاء من جعل التسمية من المسلم شرطاً؛ قال البغوي في شرح السنة: وهو الأشبه بظاهر الكتاب والسنة، يروى ذلك عن ابن سيرين والشعبي، وبه قال أبو ثور، وداود. واحتج من لم يرها شرطاً، بما في الصحيح عن عائشة، رضي الله عنها: " أن أناساً قالوا: يا رسول الله، إن قوما يأتوننا باللحم، لا ندري أذكر اسم الله عليه أم لا، فقال: سموا عليه أنتم وكلوا. قالت عائشة: وكانوا حديثي عهد بكفر " 1، وساقه البخاري في اجتناب المتشابهات، وترجم له، فقال: باب ذبيحة الأعراب ونحوهم; قال الحافظ: وهو أصل في تحسين الظن بالمسلم. وعن أحمد: أن المسلم إذا نسي الاسم على السهم أبيح دون غيره، أي غير السهم، كالذبيحة، فكيف - والعياذ بالله - بهؤلاء الصلب   1 البخاري: البيوع (2057) والذبائح والصيد (5507) والتوحيد (7398) , والنسائي: الضحايا (4436) , وأبو داود: الضحايا (2829) , وابن ماجة: الذبائح (3174) , ومالك: الذبائح (1054) , والدارمي: الأضاحي (1976) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 485 المرتدين، الذين لا يصلون ولا يزكون، ولا يدينون بالشرع، ولا يؤمنون بالبعث، ولا يرون التسمية على الصيد، كما هو مشهور عندهم؟ وفي حديث عدي بن حاتم المتفق عليه، ما يبين أن الأصل المنع، إذا اشتبه صيد المرتد بصيد المسلم، ولفظه: " إذا خالط كلاباً لم يذكر اسم الله عليها، فأمسكن وقتلن، فلا تأكل، وإذا رميت الصيد فوجدته بعد يوم أو يومين، ليس فيه إلا أثر سهمك فكل " 1، قال البغوي في شرح السنة: وفيه دليل على أنه إذا اشترك في الذبح من يحل ذبحه ومن لا يحل، كمسلم ومجوسي، أو مسلم ومرتد، أو أرسل مسلم ومجوسي، أو مرتد كلباً أو سهماً على صيد فأصابه وقتله، فإنه يكون حراماً، وإن أرسل كل واحد سهماً أو كلباً، فأصاباه معاً فحرام أيضاً. انتهى. وأما ما جلب في أسواق المسلمين من الجلاء، إذا كان فيه من يصيد من المسلمين وغيرهم، يحتمل أن يكون الصائد له مسلماً، فمن قال: إن الأصل فيما دخل إلى أسواق المسلمين الإباحة، أجازه، ومن جعل الأصل استصحاب الوصف المثبت للحكم حتى يثبت خلافه، أبقى الصيد على أصله في التحريم، حتى ينقله ناقل. قال ابن القيم في الإعلام: وقد دلنا الشارع على تعليق الحكم به - يعني بالوصف - في قوله في الصيد: " وإن   1 البخاري: الذبائح والصيد (5485) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 486 وجدته غرقاً فلا تأكله، فإنك لا تدري، الماء قتله أو سهمك " 1. وقال في الكلاب: " فإنك إنما سميت على كلبك، ولم تسم على غيره " 2، لما كان الأصل في الذبائح التحريم، ونشك هل وجد الشرط المبيح أم لا، بقي الصيد على أصله. انتهى; إذا تبين هذا، فالأحوط: اجتناب ما يتطرق إليه الاحتمال الذي صورنا، حتى يتحقق أن الصائد مسلم، على ما قرره ابن القيم. وأما مسألة ما ذبح في بلاد المشركين، فهي تبنى على استصحاب الأصل الذي قررناه في المسألة الأولى، فمتى كانت البلاد بلاد كفر، وأحكام الكفر جارية عليها، أو المسلم فيها قليل، فإن الأصل المنع من ذبائحها، إلا في دار كان الأغلب فيها أهل الإسلام، والولاية لهم. أما إذا عرف أن الذابح بعينه مسلم فلا كلام، أو أن الذابح يهودي كما في مصر وأشباهها، فكذلك حلال. ومن تأمل ما قررناه من القاعدة الكلية في المسألة الأولى، زال عنه الإشكال. [شرط الذبيحة] وأجاب الشيخ محمد بن إبراهيم بن محمود: شرط الذبيحة: أن يكون الذابح عاقلاً مسلماً، أو كتابياً، وأن يذكر اسم الله تعالى عند الذبح، وعند إرسال الجارح والسهم في الصيد؛ وكل من حكم بكفره غير الكتابي، فلا تحل ذبيحته ولو ذكر اسم الله عليها، لأن التسمية عبادة،   1 مسلم: الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان (1929) , والترمذي: الصيد (1469) . 2 البخاري: البيوع (2054) , ومسلم: الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان (1929) , والترمذي: الصيد (1470) , والنسائي: الصيد والذبائح (4264) , وأحمد (4/380) , والدارمي: الصيد (2002) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 487 وعبادة الكافر حابطة، فوجود التسمية كعدمها، سواء كان كفره بقول، أو فعل أو اعتقاد؛ وأكثر الأعراب في هذه الأزمنة، معهم من المكفرات ما يوجب كفرهم، ومن أوضح ذلك: إنكار البعث، أو الشك فيه. وأما حديث: " إن الأعراب كانوا يأتوننا باللحم، لا ندري أذكروا اسم الله عليه أم لا؟ "، فأولئك الأعراب قد دخلوا في الإسلام، والتزموا أحكامه على عهده صلى الله عليه وسلم، ولم ينقل ما يوجب ردتهم كما نقل عن هؤلاء، فلا حجة فيه. وأما أعراب هذا الزمان، فقد خرج كثير منهم من الإسلام، ونبذوا أحكامه كما يعرف ذلك من عرفه من أحوالهم. انتهى. وأجاب الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين: وأما أكل ذبائح البدو اليوم، فالذي ينبغي نصيحة من يفعل ذلك، وأما التعزير فلا أدري. وأجاب الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف: وأما ذبائح الأعراب، فالأعراب في هذه الأزمان، بعضهم شامله اسم الإسلام، ومن عرف منهم بتحكيم الطاغوت، وإنكار البعث، أو الاستهزاء بالدين، أو عمل الكهانة أو السحر، فلا تحل ذبائحهم، ولا يجوز الأكل منها، لأنها في حكم ذبيحة المرتد. سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عما إذا انتهب بعض الجزء: 7 ¦ الصفحة: 488 الأعراب من بعض، مثل غنم مذكاة، هل يصرح بتحريمها، وإذا خلص شاة غيره من عدوه، وهي مذكاة، هل يجوز أكلها؟ فأجاب: أما من خلص شاة مذكاة فهي لقطة، يجوز أكلها وتعريفها، فإذا كان الذابح هو الغاصب، جاز أكلها بإذن صاحبها؛ لكن الواقع اليوم، كالذين ينهبون غنم غيرهم ويذبحونها، ويدركها غيرهم مذبوحة، فالأولى اجتنابها وتركها. سئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن، رحمه الله: عن قوله في شرح الإقناع: إذا ذبح السارق المسلم، أو الكتابي المسروق مسمياً، حل لربه ونحوه أكله، ولم يكن ميتة كالمغصوب، وعن قوله صلى الله عليه وسلم في شأن ذبيحة المرأة " أطعميه الأسارى " 1؟ فأجاب: الحديث لا يعارض النقل عن الإقناع كغيره، لكونه مقيداً بقوله: حل لربه ونحوه أكله; فمفاده: أنه لا يحل لغير ربه، وغير من أذن له ربه في الأكل منه، وإن كان حلالاً بالتذكية; وقوله: كالمغصوب; راجع لقوله: حل لربه ونحوه، وليس راجعاً لقوله: ولم يكن ميتة; فتنبه لتشبيهه بالمغصوب في الحل لا في الحرمة، ويقال أيضاً: " أطعميه الأسارى " 2 دليل على حله، إذ لو كان حراماً، لما جاز أن يأمرها أن تطعمه الأسرى.   1 أبو داود: البيوع (3332) . 2 أبو داود: البيوع (3332) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 489 وأجاب أيضاً: لا معارضة، إذ ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الأكل منها لا يدل على أنها ميتة من وجوه; منها: أنها ليست ملكاً لهم، ولا لمن ذبحها، فهي وإن حرمت عليهم فلا تحرم على مالكها، ولا من أذن له مالكها في الأكل منها. ويحتمل أنه ترك الأكل منها تنزهاً. ويدل على حلها بهذه الذكاة، قوله: " أطعميه الأسارى " 1، وهو لا يطعمهم ميتة. وقوله: كالمغصوب، راجع لقوله: حل، لا لقوله ميتة، شبهه بذبح الحيوان المغصوب في الحل، لا في الحرمة. وسئل ابنه: الشيخ إسحاق، رحمهما الله: عمن غصب شاة فذبحها، ثم تراضى هو ومالكها؟ فأجاب: قال الشيخ تقي الدين، رحمه الله تعالى: الجواب: إذا تراضى هو وصاحبها، جاز أكلها على هذه الفتوى من هذا الإمام، ومن له في الحديث أعظم إلمام، ولا دليل لمن منع من ذبيحة مغير على غنم بلد، ذبح منها شيئاً وعلقه ثم سقط، فجاء ربه فأذن فيه لأحد، على كلام الشيخ تقي الدين؛ وبرهانه: ما في حديث المرأة التي دعت النبي صلى الله عليه وسلم وقوله: " أجد لحم شاة أخذت بغير إذن أهلها " 2، فمفهوم النص: أن الإذن ابتداء مبيح، دون تحقق وجوده، فهو واضح في أن عدم الإذن، هو الذي حرمها، ومفاهيم النصوص نصوص، إذا لم تعارض.   1 أبو داود: البيوع (3332) . 2 أبو داود: البيوع (3332) , وأحمد (5/293) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 490 ووجه آخر، وهو: أن المحرمات على قسمين: قسم محرم لحق الله، كالدم والميتة، ومحرم لحق آدمي وهو الظلم؛ فإذا زالت العلة زال الحكم، فلا يصير ممنوعاً لنفسه، بل لما قام به من حق الغير، فمتى أذن له أبيح، فاستفدنا من نفس هذا الحديث رجحان ما أفتى به تقي الدين، فيكون معنى الحديث مطابقاً للحديث الثاني: وهو قوله صلى الله عليه وسلم: " لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه " 1. ويدل على أنها لم تستأذنه: قولها في رواية الدارقطني: وأنا من أعز الناس عليه، وعلي أن أرضيه بأفضل منها، فصار عدم استئذانها له ظاهر من نفس الحديث، بحيث أنها لم ترضه وسترضيه، وأنها لم تعطه ثمناً، فكيف يسوغ أكل مثل هذه، لمن امتنع من أكل الضب، وترك أشياء عديدة مباحة، كان اقتضاها منصبه الأسنى، والصحابة يفعلونها; ويدل على ذلك أيضاً: إذنه في أكلها لغيره، فإنه لو كان المانع أمر يرجع إلى نفس الشاة، لم يأذن فيه لأحد، ففي هذا ما يدل على وضوح الفرق بين المأذون وغيره، والله أعلم. وسئل الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف: عمن ذبح شاة أو سرقها، فذبحها بغير إذن أهلها، أو أغار قوم على غنم أهل بلد فذبحوا منها شيئاً وذهبوا به، ثم لحقهم الطلب،   1 أحمد (5/72) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 491 فاستنقذوه من أيديهم، هل يحل أكل ذلك المذبوح، أو لا؟ فأجاب: الحمد لله، ينبغي أولاً: أن يعلم أن العلة في المذبوح، تفويت المالية على المالك، لا إزهاق الروح; إذا ثبت هذا، فقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية، قدس الله روحه، عمن غصب شاة فذبحها، ثم تراضى هو ومالكها، هل يجوز أكلها؟ فأجاب، رحمه الله: إذا تراضى هو وصاحبها، جاز أكلها. انتهى. قلت: ويشهد لهذا: ما رواه ابن حبان والحاكم في صحيحيهما: أنه صلى الله عليه وسلم قال: " لا يحل لامرئ أن يأخذ عصا أخيه بغير طيب نفس منه " 1، وفي لفظ: " لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه " 2، رواه أحمد والبيهقي والدارقطني، لمفهوم هذا الحديث: أنه إذا طابت نفسه حل ذلك له، وجاز له أكل ما أباحه، وأذن له في أكله، وأخذه، وإذا لم تطب نفسه به فهو حرام، لا يحل له أخذه، ولا أكله. قال ابن القيم، رحمه الله تعالى - بعد كلام له -: ويمكن أن يقال في جواب هذا: أن قتل الآدمي حرام لحق الله وحق الآدمي، وهذا لا يستباح بالإباحة، بخلاف ذبح المغصوب، فإنه حرام لمحض حق الآدمي، وهذا لو أباحه حل؛ فالمحرم هناك: إنما هو تفويت المالية على المالك، لا إزهاق الروح; فتأمل ما ذكره ابن القيم، رحمه الله: أن ما كان لحق الله ولحق آدمي، أنه لا يستباح بالإباحة، بخلاف ذبح   1 أحمد (5/425) . 2 أحمد (5/72) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 492 المغصوب، فإنه حرام لمحض حق الآدمي، فإذا أباحه له حل ولم يحرم عليه؛ وأن العلة في ذلك هي تفويت المالية على المالك. ثم قال: وقد اختلف العلماء في ذبح المغصوب، وقد نص أحمد على أنه ذكي، وفيه حديث رافع بن خديج، في ذبح الغنم المنهوبة، والحديث الآخر في المرأة التي أضافت النبي صلى الله عليه وسلم فذبحت له شاة أختها بدون إذن أهلها، فقال: " أطعموها الأسارى " 1، وفي هذا دليل على أن المذبوح بدون إذن أهله يمنع من أكله المذبوح له، دون غيره، كالصيد إذا ذبحه الحلال لحرام، حرم على الحرام دون الحلال. وقد نقل صالح عن أبيه، فيمن سرق شاة فذبحها، لا يحل أكلها يعني له، قلت لأبي: فإن ردها على صاحبها فلا تؤكل، فهذه الرواية قد يؤخذ منها: أنها حرام على الذابح مطلقاً، لأن أحمد لو قصد التحريم من جهة أن المالك لم يأذن في الأكل، لم يخص الذابح بالتحريم. ثم قال ابن القيم، رحمه الله: هذا كلام شيخنا، يعني شيخ الإسلام ابن تيمية. قلت: فتبين من هذه الرواية، أن استدلال أحمد بحديث المرأة ظاهر في حلها لغير من ذبحت له، وشبهها بالصيد إذا ذبحه الحلال لحرام، حرم على الحرام دون الحلال; وتبين من الرواية الثانية في ذبيحة السارق: أنها لا   1 أحمد (5/293) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 493 تحرم إلا على الذابح السارق لا غيره. وأما ما يستدل به المخالف، من أن البخاري، رحمه الله، استدل على أن من ذبح غنماً، أو إبلاً بغير أمر أصحابها لا تؤكل، بما رواه في صحيحه عن رافع بن خديج، قال: " كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم بذي الحليفة، فأصبنا إبلاً وغنماً، وكان النبي صلى الله عليه وسلم في أخريات الناس، فعجلوا فنصبوا القدور، فدفع النبي صلى الله عليه وسلم إليهم، فأمر بالقدور فأكفئت " 1 الحديث. ويستدلون بما رواه أبو داود، من طريق عاصم بن كليب، عن أبيه عن رجل من الأنصار قال: "أصاب الناس مجاعة شديدة، فأصابوا غنماً فانتهبوها، فإن قدورنا لتغلي بها، إذ جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم على فرسه، فأكفأ قدورنا بقوسه، ثم جعل يرمل اللحم بالتراب، ثم قال: إن النهبة ليست بأحل من الميتة " 2. انتهى. فيقال: إن العصمة والحجة فيما رواه البخاري، لا فيما رآه واستنبطه، فإن الرأي والاستنباط يخطئ ويصيب، وليس ما رآه واستنبطه حجة على من لم يره؛ بل كل يؤخذ من قوله ويترك، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ والذي رواه البخاري، رحمه الله، إنما هو في الغنائم المشتركة بين الناس، وهي إذ ذاك لم تقسم، وهم لم يستأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا بقية الغانمين في ذبحها وأكلها، فأمر بإكفاء القدور زجراً لهم عن معاودة مثله، والإمام له تأديب رعيته.   1 البخاري: الجهاد والسير (3075) , والنسائي: الصيد والذبائح (4297) , وأبو داود: الضحايا (2821) , وابن ماجة: الأضاحي (3137) . 2 أبو داود: الجهاد (2705) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 494 وأيضاً، فإنه لم يجئ في الحديث إتلاف اللحم، قال النووي، رحمه الله: والمأمور به من إراقة القدور، إنما هو إتلاف المرق عقوبة لهم، وأما اللحم فلم يلقوه، بل يحمل على أنه جمع ورد إلى المغنم، ولا يظن أنه أمر بإتلافه، مع أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن إضاعة المال، وهذا من مال الغانمين. وأيضاً، فالجناية بطبخه لم تقع من جميع مستحقي الغنيمة، فإن منهم من لم يطبخ، ومنهم المستحقون للخمس; فإن قيل: لم ينقل أنهم حملوا اللحم إلى المغنم، قلنا: ولم ينقل أنهم أحرقوه، أو أتلفوه; فيجب تأويله على وفق القواعد. انتهى. وللعلماء في هذا المقام كلام، لكن المقصود: أن مالك الشاة المذبوحة بغير إذنه إذا أذن في أكلها جاز، ولا يرد عليه حديث رافع بن خديج، ولا الحديث الذي رواه أبو داود عن عاصم بن كليب، لأن ذلك في الغنائم المشتركة غير المقسومة؛ والشاة لا مشارك لمالكها ولا مقاسم، بل هي ملكه، وقد أباحها بطيبة من نفسه. وقد روى البخاري في صحيحه: " أن جارية لكعب بن مالك، كانت ترعى غنماً بسلع، فأصيبت شاة منها، فأدركتها فذبحتها بحجر، فسئل النبي صلى الله عليه وسلم. فقال: كلوها " 1، قال ابن حجر: وفيه جواز أكل ما ذبح بغير إذن مالكه، ولو ضمن الذابح، وخالف في ذلك طاووس وعكرمة، وإليه جنح البخاري. انتهى.   1 البخاري: الذبائح والصيد (5505) , وابن ماجة: الذبائح (3182) , وأحمد (3/454) , ومالك: الذبائح (1057) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 495 فهذه شاة ذبحت بغير إذن مالكها، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كلوها". ومن هنا قلنا: إن الحجة فيما رواه البخاري، لا فيما رآه. وقد تقدم خلاف العلماء، مع أن هذا الحديث الأخير، الذي رواه البخاري في صحيحه، فيه جواز أكلها بغير إذن مالكها، فكيف إذا أذن وأباح أكلها. إذا تحققت هذا، فما أخذه من أغار على غنم أهل بلد، ثم لحقوه فاستنقذوه من أيديهم، إنما هو قياس مع فارق، فإن الغنائم مشتركة بين من ذبح ومن لم يذبح، وصاحب الغنم المأخوذة لا مشارك له فيها، ورسول الله صلى الله عليه وسلم أخذها بحق، وهؤلاء بعدوان وظلم، والغنائم فيها خمس، والغنم المأخوذة ليس فيها خمس. إذا علمت ذلك، فهي: حلال لمالكيها، لا لآخذها، فإن أذن المالكون لمن استنقذها في أكلها، جاز ذلك، وإلا فلا، وكذلك الشاة المذبوحة بغير إذن أهلها، إلا أن أحمد قال في ذبيحة السارق: أنها لا تحل له، يعني للسارق دون غيره. هذا ما ظهر لي، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل. تنبيه: اعلم وفقني الله وإياك، أن البخاري، رحمه الله، استدل على أن ما ذبح بغير إذن المالك، أو كان المال المشاع مشتركاً، لا يؤكل، بحديث رافع بن خديج المتقدم، واستدل أحمد بن حنبل على جواز أكله، بحديث رافع بن خديج، وبحديث المرأة؛ فكل من الإمامين استدل الجزء: 7 ¦ الصفحة: 496 على الجواز والمنع، بحسب ما فهمه من الحديث، ومجرد مفهوم أحد الإمامين، لا يكون حجة يجب المصير إليه، ولا يقول بهذا إلا مقلد متعصب. والواجب على من له معرفة ونظر: أن يطلب دليلاً من خارج، وقد اجتهدنا حسب الإمكان والطاقة، فوجدنا ما رواه البخاري في صحيحه، الحديث المتقدم ذكره في قصة جارية كعب بن مالك، والحديث الذي رواه ابن حبان والحاكم في صحيحيهما؛ فالأخذ بظاهر ما ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم أولى من الأخذ بمفهوم عالم فاضل، يجوز عليه الخطأ. بقي أن يقال في هذه المسألة: ما حال الذابح مع الظلم والعدوان؟ فالجواب أن الحكم على الظاهر: فإذا وقع في بلاد الإسلام، كان الظاهر أنه مسلم، إلا أن يعلم كفر الذابح بعينه، فلا تحل ذبيحته. وأجاب الشيخ محمد بن عبد اللطيف: وقولك: رجل دخل بيت رجل ... إلخ، ومشكل عليك حل ذبيحته، فالذابح غاصب، وإذا أباحها صاحب المال فلا بأس بأكلها، لأن الذابح مسلم، وأدبه وتعزيره على الآمر. وأجاب الشيخ عبد الله بن عبد العزيز العنقري: المسألة ورد فيها حديث المرأة التي أضافت النبي صلى الله عليه وسلم لما ذبحت الشاة التي أخذتها بدون إذن أهلها، فقصت عليه القصة، فقال: " أطعموها الأسارى " 1، قال شيخ الإسلام، رحمه الله:   1 أحمد (5/293) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 497 فهذا دليل على أن المذبوح بدون إذن أهله، يمنع منه المذبوح له دون غيره، كما أن الصيد إذا ذبحه الحلال لمحرم، حرم على المحرم دون الحلال. وقد نقل صالح عن أبيه، قال: قيل له: إن رجلاً سرق شاة فذبحها، قال: لا يحل أكلها له، قلت: فإن ردها على صاحبها، قال: تؤكل إذًا. إذا فهمت هذا، فهي لا تحل للذابح، ولو أذن له المالك بعد الذبح، عقوبة له، ولا لمن ذبحت له، قياساً على صيد الحلال للمحرم، كما أشار إليه الشيخ تقي الدين. وأما من عدا ما ذكر، فهو باق في حقه على الإباحة للمالك، وغيره. سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ: عن الذي يرمي بالبندق أو الحربة ... إلخ؟ فأجاب: يسمي الله عند الرمي، وهو حلال، وكذلك الذي يتردى في بئر أو شبهه، فذكاته أن يلحق ما يقتله، مثل حربة أو خنجر ويسمي. وأجاب الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين: إذا رمى إنسان بعيراً، ولم يمكنه تذكيته، كما إذا شرد البعير أو سقط في بئر، ولم يمكنه نحره، فحكمه حكم الصيد إذا رماه إنسان: فإن أدركه حياً حياة مستقرة، فلا بد من ذبحه، فإن لم يكن فيه إلا مثل حياة المذبوح، فلا يحتاج إلى تذكية. وإن أصابه وغاب عنه، ثم وجده ميتاً، ولا أثر الجزء: 7 ¦ الصفحة: 498 به غير رميه، فإنه يباح. ويشترط التسمية عند رميه، قاصداً قتل المرمي. وهكذا حكم البعير الشارد، والمتردي في بئر ونحوهما. وأجاب الشيخ عبد الله بن الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ، رحمهم الله تعالى: بلغنا أن ناساً جزموا بتحريم فريسة السبع التي افترسها وبقيت حية، إلى أن أدركتها الذكاة؛ وهذا جهل بأحكام القرآن ونصوص السنة، قال تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} إلى قوله: {غَفُورٌ رَحِيمٌ} [سورة المائدة آية: 3] . فذكر سبحانه وبحمده المحرمات في هذه الآية، وذكر منها ما أكل السبع، يريد كل ما افترسه ذو ناب وأظفار من الحيوان، كالأسد والنمر والثعلب، والذئب، والضبع ونحوها، فذكره في جملة المحرمات، ثم استثنى سبحانه وتعالى، فقال: {إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} [سورة المائدة آية: 3] ، نصب على الاستثناء المتصل، عند الجمهور من العلماء والفقهاء، وهو راجع على كل ما أدرك ذكاته من المذكورات وفيه حياة؛ فإن الذكاة عاملة فيه، لأن حق الاستثناء أن يكون مصروفاً إلى ما تقدم من الكلام، ولا يجعل منقطعاً إلا بدليل يجب التسليم له. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 499 روى ابن عيينة وشريك وجرير، عن الركين بن الربيع عن أبي طلحة الأسدي قال: سألت ابن عباس عن ذئب عدا على شاة فشق بطنها، حتى انتشر قصبها، فأدركت ذكاتها فذكيتها، فقال:? "كل، وما انتشر من قصبها فلا تأكل"، قال إسحاق بن راهويه: السنة في الشاة على وصف ابن عباس، لأنه وإن خرجت مصارينها فإنها حية بعد، وموضع الذكاة منها سالم؛ وإنما ينظر عند الذبح أحية هي أم ميتة، ولا ينظر هل يعيش مثلها، وكذلك المريضة. قال إسحاق: ومن خالف في هذا فقد خالف السنة، وجمهور الصحابة وعامة العلماء. قال الإمام القرطبي، رحمه الله: وإليه ذهب ابن حبيب، وذكره عن أصحاب مالك، وهو قول ابن وهب، والأشهر من مذهب الشافعي. قال ابن العربي: اختلف قول مالك في هذه الأشياء، والذي في الموطإ: أنه إن كان ذبحها ونفسها يجري، وهي تضطرب، فليأكل، وهو الصحيح من قوله الذي كتبه بيده، وقرأه على الناس من كل بلد طول عمره. انتهى كلام القرطبي. وأما كلام الفقهاء من الحنابلة، رحمهم الله، فقال في المغني: فصل: والموقوذة والمتردية، والنطيحة وأكيلة السبع، وما أصابها مرض فماتت به، محرمة إلا أن تدرك ذكاتها، لقوله تعالى: {إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} [سورة المائدة آية: 3] . وفي حديث جارية الجزء: 7 ¦ الصفحة: 500 كعب، أنها أصيبت شاة من غنمها، فأدركتها فذبحتها بحجر، فسئل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "كلوها"، فإن كان لم يبق من حياتها إلا مثل حركة المذبوح، لم يبح بالذكاة، وإن أدركها وفيها حياة مستقرة، بحيث يمكنه ذبحها حلت، لعموم الآية والخبر، سواء قد انتهت إلى حال يعلم أنها لا تعيش معه أو تعيش، لعموم الآية والخبر، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم سئل ولم يستفصل؛ وقد قال ابن عباس، في ذئب عدا على شاة فعقرها، فوقع قصبها بالأرض، فأدركها فذبحها بحجر، قال: "يلقى ما أصاب الأرض، ويؤكل سائرها". وقال أحمد في بهيمة عقرت بهيمة، حتى تبين فيها آثار الموت، إلا أن فيها الروح يعني فذبحت، قال: إذا مصعت بذنبها وطرفت بعينها، وسال الدم، فأرجو - إن شاء الله - أن لا يكون بأكلها بأس، وروى ذلك بإسناده عن عبيد بن عمير، وطاووس، قال: وقالا: إذا تحركت، ولم يقولا: إذا سال الدم; قال إسماعيل بن سعيد: سألت أحمد عن شاة مريضة خافوا عليها الموت، فلم يعلم منها أكثر من أنها طرفت بعينها، أو حركت يدها أو رجلها أو ذنبها، ويضعف فيها الدم، قال: فلا بأس. ثم ذكر رواية ابن أبي موسى في مذهب أحمد، ثم قال: الأول أصح، لأن عمر رضي الله عنه انتهى به الجرح، إلى حد علم أنه لا يعيش معه، فوصى وقبلت الجزء: 7 ¦ الصفحة: 501 وصاياه، ووجبت العبادات عليه. وفيما ذكرنا من عموم الآيات والخبر، وكون النبي صلى الله عليه وسلم لم يستفصل في حديث جارية كعب، ما يدل لهذا، ويحمل ما نقل عن أحمد في شاة خرجت أمعاؤها، وبانت منها، ولم تتحرك إلا حركة المذبوح; فأما ما خرجت أمعاؤها ولم تبن منها، فهي في حكم الحياة تباح بالذبح؛ وقد تقدم: أن عموم الآية والخبر، وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستفصل، ما فيه كفاية. انتهى. وما ذكره في المنتهى وشرحه، من قوله: وما قطع حلقومه، أو أبينت حشوته ونحوها، مما لا يبقى معه حياة، فوجودها كعدمها، فلا يحل بذكاة؛ فهذا نص رواية ابن أبي موسى، وقد ردها في المغني كما تقدم، بعموم الآية والخبر; وأيضاً، معنى قوله: أبينت، ليس هو بمعنى ظهورها، بل معناه: أزيلت، كما تقرر عند أهل الأصول، كشارح المنهاج وغيره؛ ومن المعلوم: أنها إذا أزيلت حشوتها، أن حركتها كحركة المذبوح، مع أن عموم الآية والخبر، وعدم استفصال النبي صلى الله عليه وسلم فيه مقنع وكفاية. وقال في المغني أيضاً: والصحيح أنها إذا كانت تعيش زمناً، يكون الموت بالذبح أسرع منه، حلت بالذبح، وأنها إن كانت مما لا يتيقن موتها كالمريضة، أنها متى تحركت وسال دمها حلت; قال الشيخ تقي الدين، رحمه الله: وما أصابه الموت، كأكيلة السبع ونحوها، فيه نزاع بين الجزء: 7 ¦ الصفحة: 502 العلماء: هل يشترط أن لا تبقى يومها بذلك السبب، أو أن تبقى معظم اليوم، أو أن تبقى فيها حياة بقدر حياة المذبوح، أو أزيد من حياته؟ فيه خلاف؛ والأظهر أنه لا يشترط شيء من ذلك، بل متى ذبح فخرج منه الدم الأحمر، الذي يخرج من المذكى المذبوح في العادة، ليس هو من دم الميت، فإنه يحل أكله، وإن لم يتحرك في أظهر قولي العلماء. انتهى كلامه. فتبين بما ذكرناه: أن الرواية التي يستروح لها من يجزم بالتحريم، أنها مردودة في مذهب أحمد، عند كثير من الأصحاب؛ وبهذا كفاية إن شاء الله تعالى. سئل الشيخ محمد بن إبراهيم، عن الضب إذا كان في جحره، وبان منه بعضه، فجذبته فانقطع بعضه هل يحل الذي انقطع في يدي، إذا أخرجته في الحال وذبحته، أم لا؟ فأجاب: لا يحل ما انقطع منه، ولو أخرجه في الحال وذبحه، إلا أن يكون الذي انقطع متصل بالضب، وأما إذا انفصل عنه، فإنه لا يحل ولو كانت الحركة في حال ذبح الضب موجودة في الذي انقطع. سئل الشيخ عبد الله العنقري: عن شق بطن الشاة الميتة، وإخراج ولدها لإنتاجه؟ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 503 فأجاب: الظاهر أنه إذا أمكن ذلك فلا بأس به. سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: عن قطع حلقوم الذبيحة؟ فأجاب: الذبيحة إذا ذبحت، وذكر اسم الله عليها، وقطع الحلقوم والودجين، فهي حلال وإن لم يبق في الرأس من الحلقوم شيء. سئل الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن: عما ذبح إلى غير القبلة عمداً أو سهواً. فأجاب: استقبال القبلة عند الذبح ليس بشرط ولا واجب، وإنما استحبه بعضهم، ومن تركه فلا حرج عليه. وقال، رحمه الله تعالى: وأما قول السائل: ما معنى قوله صلى الله عليه وسلم: " وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار " 1، وأي شيء حقيقة البدعة؟ وهل يؤول الكلام أم لا؟ فإذا قلت: لا، فأكثر ما تستعملونه في شرب القهوة، ولبس المحارم وغيرها، بدعة لا تثبت من الرسول ولا ممن يعتبر بهم؟ فيقال: هذا السؤال دليل على جهل السائل بالرواية والدراية، وباللسان العربي؛ فكلام هذا الدرب من الناس يكفي من هداه الله، في بيان جهلهم وضلالهم. أما جهله بالدراية، فمن وجوه: أحدها: قوله هل يؤول الكلام أم لا؟ والتأويل في عرف هؤلاء: صرف   1 النسائي: صلاة العيدين (1578) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 504 الكلام عن ظاهره، وعن المعنى الراجح إلى معناه المرجوح; ومن سلك هذه الطريقة في أخبار الرسول، ونصوص القرآن، فقد فتح على نفسه باب الإلحاد والزندقة، وليس في كلام الله وكلام رسوله ما ظاهره ومعناه الراجح غير المراد، لأن الظاهر هو اللائق بحال الموصوف، وبلغة المتكلم وعرفه، لا ما ظنه الأغبياء الجهال، مما لا يصح نسبته إلى الله وإلى رسوله; وكذلك قوله: أكثر ما تستعملونه من شرب القهوة، ولبس المحارم، بدعة، وهذا من أدلة جهله، وعدم معرفته للأحكام الشرعية، والمقاصد النبوية، فإن الكلام في العبادات لا في العادات. والمباحث الدينية نوع، والعادات الطبيعية نوع آخر؛ فما اقتضته العادة من أكل وشرب، ولبس ومركب ونحو ذلك، ليس الكلام فيه. والبدعة ما ليس لها أصل في الكتاب والسنة، ولم يرد بها دليل شرعي، ولم تكن من هديه صلى الله عليه وسلم وهدي أصحابه؛ وأما ما له أصل كإرث ذوي الأرحام، وجمع المصحف، والزيادة في حد الشارب، وقتل الزنديق، ونحو ذلك، فهذا وإن لم يفعل في وقته صلى الله عليه وسلم فقد دل عليه الدليل الشرعي. وبهذا التعريف تنحل إشكالات طالما عرضت في المقام. [الكلام على حكم القهوة] وقال أيضاً، رحمه الله تعالى: والكلام على القهوة، قد الجزء: 7 ¦ الصفحة: 505 سُبقنا إليه، وأفاضل أهل العلم، كل منهم أبدى ما عنده وما لديه، وحسبنا السير على منهاجهم، واقتفاء آثارهم، وذكر المنقور في مجموعه طرفاً من ذلك. وما ذكرت من أن مدار الشريعة على رفع المفاسد، وجلب المنافع، فنعم هو ذاك، ولكن ينبغي أن يعلم: أن المفاسد ما عارضت الأمر والنهي الشرعيين، بالفعل أو بالوسيلة، والمنافع المطلوبة ما يحصل بها مقصود الشارع، من الأمر والنهي، بالفعل أو بالوسيلة؛ وبهذا تعلم فساد التعبير بقولك: رفع المفاسد، فإن هذا لا يرتفع، فالصواب: دفع المفاسد، لا رفع المفاسد. وقولك: منها ما صرح به الكتاب والسنة، ومنها ما هو في ضمنه، تقسيم فاسد، بل الكتاب والسنة صرحا بذلك وأوضحاه، قال تعالى: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [سورة هود آية: 118-119] ولم يخرج فرد من ذلك; ولو قلت: فقد صرح بذلك الكتاب والسنة، أو تضمناه لصلح التعبير. وقولك: ومن البلاوي على أهل الوقت عامة، وعلى أهل نجد خاصة في دنياهم: "القهوة" مع ضعف معايشهم، فلا أدري: ما يراد بالبلوى هنا، أهي الابتلاء في الدين؟ أو هي الابتلاء بالنفقة فقط؟ فإن كان الأول، فلا يسلم بمجرد الدعوى; وإن كان الثاني، فالناس درجات الجزء: 7 ¦ الصفحة: 506 وطبقات في اليسر والعسر والمعيشة؛ وتوسع الأغنياء إنما يذم لوجوه، لا تخص بالقهوة أيضاً، بل يجري في غير ذلك من سائر المباحات. وأما التعليل بأن فيها مضار للأبدان، فلا ينبغي أن يؤخذ على إطلاقه، فإن الأبدان الدموية والبلغمية تنتفع بها بلا نزاع، والسوداوي والصفراوي، يمكنه التعديل بالتمر، الذي هو غالب غذاء أهل نجد؛ وقد قال داود في تذكرته: يعدلها كل حلو. وأما قولك: وإذا كان الخمر يزيل العقل عند شربه، فهي شاهدناها تخامر العقل عند فقدها، فهذا الكلام لا ينبغي أن يقال، لأن الخمر يزيل العقل لمخامرته، أي: تغطيته، وهي لا تزيل العقل ولا تخامره، بل ربما كان شاربها قوي الذهن، حاد الإدراك، جيد الحفظ، والموجود عند فقدها لا يسمى مخامرة، وإنما هو كسل وفتور لها لا بها؛ فافهم أيها الأخ وأعط القوس باريها. وأما قولك: وإذا عرضت مضارها على العاقل منهم، شهد بها وعابها، فيقال: أي عاقل يراد بهذا؟ أما العامة، ومن لا عناية له بمعرفة الأحكام الشرعية والأصول الدينية، فأقوالهم لا تصلح أن تكون ميزاناً، وأن تستقل بحكم; وأما أهل العلم والدين، وأهل البصائر من ورثة سيد المرسلين، فعقولهم يرجع إليها مع اتفاقهم، وإن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 507 اختلفوا، فالميزان هو الكتاب والسنة. وقولك: وإذا وزنتها العقول السليمة، لا شك أنها لهو ولعب، فاللهو واللعب: ما لا يعود بمنفعة أصلاً، ويعود بمضرة راجحة على مصلحته; وإدخال القهوة في هذا التعريف، يحتاج إلى أصول ومقدمات، " لو يعطى الناس بدعواهم " 1 الحديث. وما ذكرت من التعاليل، قد يجري في كل مباح، كإضاعة المال، والاجتماع على القيل والقال، والحاجة إلى السؤال، وليس ذلك الوصف لازماً للقهوة; وكذلك كونها تلهي كثيراً من الناس عن الصلاة، وتضيع عليه الأوقات، فهذا قد يجري لأهل الشهوات، والمبايعات، والمزاورات، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [سورة المنافقون آية: 9] . وأما كونها لا تغني من جوع، ولا تروي، فهذا الوصف يأتي على كثير مما تتعاطونه من المباحات، ولم تأت الشريعة بتحريم ما لا يغني من جوع، ولا يروي، {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً} [سورة مريم آية: 64] . وأما كون مزرعها من بلاد الكفار، فمتى كان عندكم امتناع عما زرعه الكفار، ونسجه الكفار، وخرج من بلاد الكفار، وجمهور أموالكم، ومأكلكم من هذا الضرب؟ " ثكلتك أمك يا معاذ! " 2، " وويح عمار! ". قد كانت المدينة في عهد النبوة يجلب إليها من   1 البخاري: تفسير القرآن (4552) , ومسلم: الأقضية (1711) , والنسائي: آداب القضاة (5425) , وابن ماجة: الأحكام (2321) , وأحمد (1/363) . 2 الترمذي: الإيمان (2616) , وابن ماجة: الفتن (3973) , وأحمد (5/231, 5/237) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 508 بلاد الكفار، أنواع المآكل والأدهان، والملابس التي نسجت وصبغت ببلاد الكفار، كما لا يخفى على من له أدنى نظر في الأخبار. وأما ما زعمته من ضررها على أهل الجهاد، فمن الظرائف التي لا يستظرفها إلا فقيه النفس ذكي الطبع، وربما قيل بعكس القضية، لما فيها من تنشيف البلغم، وتجفيف المواد المكسلة الرديئة. وأما قولك: ويصرف فيها من بيت المال كيت وكيت، فمتى صار النظر - أصلحك الله - منصرفاً إلى توفير هذه الجهة، ووضعها في مواضعها الشرعية؟! والصرف في المباح أولى من الصرف في المحرم الصرف. وأما اختلاف أهل العلم عند خروجها - ولو قيل عند حدوثها لكان أليق باللغة الشرعية - فنعم هو ذاك، ولكن لا دليل فيه على المنع، وقد قيل. وأما صرف الأموال العظيمة من أهل نجد، فهذا القول من جنس ما قبله، فإن مجاوزة الحد في كل مباح داخل في حقيقة السرف، والمحرم نفس السرف، ولو في المآكل الضرورية. ولو صرف الأخ النجيب فكرته، ونظر إلى ما تعطل من أصول الدين ودعائم الملة، وما تلاعب به الجهال من الجزء: 7 ¦ الصفحة: 509 الأحكام الشرعية الدينية، وما دهم أهل نجد في هذه السنين، من قبض العلم وارتفاع الجهال، وترك الالتفات إلى تربية أهل الملة، بتعليم ما يحتاجونه من أصول دينهم، وما جاء به نبيهم صلى الله عليه وسلم، والتفطن لذلك والاهتمام به، وصرف الهمة إلى تحصيله، وأن لا يطلب على الفضلة إن طلب، لكان هذا أولى وأجدر أن تقع المذاكرة فيه، والسؤال عنه; وأما أمر القهوة، فقد كفانا شأنها من سلف من أهل العلم والدين. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 510 كتاب الأيمان والنذور سئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن، رحمه الله: عن قول الحالف وعهد الله؟ فأجاب: وأما قوله: إذا حلف وقال: وعهد الله، فهو كقوله: والله. سئل الشيخ سعيد بن حجي: عن الحلف بحق الله والأمانة؟ فأجاب: ذكر العلماء أن الحلف بحق الله، وأمانة الله، ونحوهما، يمين منعقدة إذا أضيفت إلى الله، ونوى بها الحالف صفة الله؛ قال في الشرح الكبير: إذا قال: وحق الله، فهي يمين مكفرة، وبها قال مالك والشافعي; وقال أبو حنيفة: لا وحق الله، طاعته، ولنا: أنه له حقوق يستحقها لنفسه، من البقاء والعظمة والجلال، وقد اقترن العرف بالحلف بها، فينصرف إلى صفة الله - إلى أن قال - وإن قال: وأمانة الله، فيمين، وبه قال أبو حنيفة. وقال الشافعي: لا ينعقد إلا أن ينوي به صفة الله، لأنها تطلق على الفرائض، والودائع، والحقوق. ولنا: أن أمانة الله، صفة من صفاته - إلى أن قال - الجزء: 7 ¦ الصفحة: 511 الثالث: ما لا ينصرف بإطلاقه إلى صفة الله، لكن ينصرف بإضافته إلى الله، من لفظ أو نية، كالعهد، والميثاق، والأمانة، فلا يكون يميناً إلا بإضافته، أو نيته. انتهى. وقد ذكر في الإقناع وشرحه، والكافي وغيرهما، نحو ذلك. وأما معنى الأمانة في الآية، فقال البغوي: أراد بالأمانة: الطاعة، والفرائض التي فرضها الله على عباده، قاله ابن عباس، وقال ابن مسعود: "الأمانة: الصلوات، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت، والعدل والودائع"، وقال مجاهد: الأمانة: الفرائض وحدود الدين، ثم ذكر الغسل من الجنابة، ثم ذكر جوارح الإنسان، الفرج والأذنين، واليد والرجل، والوفاء بالعهد، وكل هذا من الأمانة. انتهى ملخصاً. وقال أيضاً في الإقناع وشرحه: ويكره الحلف بالأمانة، لما روى أبو داود مرفوعاً: " ليس منا من حلف بالأمانة " 1، قال الزركشي: ظاهر الحديث التحريم، فلذا قال: تحريم كراهة، لكن ظاهر المنتهى، كالمغني والشرح وغيرها، أنها كراهة تنزيه. وأجاب الشيخ عبد الله أبا بطين: الحلف بحق الله، كثير من العلماء يجوزونه، وبعضهم يمنع منه، والمشهور في المذهب جوازه; وقول بعض الناس: لك الله ما فعلت   1 أبو داود: الأيمان والنذور (3253) , وأحمد (5/352) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 512 كذا، إذا لم يكن للقائل نية فهو لغو; وقول: بالرحمن نفعل كذا، إذا كان مراده الاستعانة بالرحمن، فلا بأس به. وسئل: عن إقسام بعض الناس، يقول: الله يعلم ما فعلت كذا؟ فأجاب: إن كان القائل صادقاً في قوله فلا بأس، وإن كان كاذباً في قوله: الله يعلم ما فعلت كذا، وهو قد فعله، والله يعلم ما صار كذا، وهو قد صار، فهذا حرام; ولو عرف القائل معنى قوله، لكان كفراً، لأن مقتضى كلامه: أن الله لا يعلم أن الأمر على ما هو عليه، فيكون وصفاً لله بالجهل، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً. وأجاب الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد، رحمهما الله: قول من قال: يعلم الله أنه يكفر، فالذي قال هذا: تائه وغالط، ولعلكم ما فهمتم معنى كلامه، وإلا إذا قال: يعلم الله كذا وكذا، وهو صادق، فلا بأس بذلك، وإنما الإثم والحرج على من قال: يعلم الله كذا وكذا، وهو كاذب، فهو كذب وافتراء، ولا يبلغ إلى الكفر. وسئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عمن كان عليه يمين، فإن استحلف بالله حلف ولم يبال، وإن استحلف بفلان أو فلان لم يحلف إلا صادقاً، هل يجوز استحلافه بغير الله، مع تحقق ما ذكرنا؟ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 513 فأجاب: وأما الاستحلاف، فلا يجوز أن يستحلف بغير الله سبحانه وتعالى. وأما من طلب منه الحلف بغير الله، إذا كان له حق ولا يمكن حصوله إلا بذلك، فإن أمكنه التأول تأول، وإن لم يمكنه ذلك، فلا أعلم أنه يرخص له في ذلك؛ ولا يقال إن هذا من نوع الإكراه. سئل الشيخ سعيد بن حجي: إذا قال الإنسان في كلامه: وأبي إني صادق، أو: وأبي إنك كاذب، ونحو ذلك، هل هذا شرك؟ فأجاب: هو شرك، وينكر عليه؛ قال في الإقناع وشرحه: ويحرم الحلف بغير الله، ولو كان الحلف بنبي، لأنه إشراك في تعظيم الله تعالى، ولحديث ابن عمر مرفوعاً: " من حلف بغير الله فقد أشرك " 1، رواه الترمذي وحسنه، وروى ابن عمر: " أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع عمر يحلف بأبيه، فقال: إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم؛ فمن كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت " 2، متفق عليه. فإن حلف بغير الله أو صفاته، استغفر الله وتاب بالندم والإقلاع، والعزم أن لا يعود. انتهى. وقال في الشرح: والحلف بغير الله يشبه تعظيم الرب تبارك وتعالى، ولهذا سمي شركاً. قال الشيخ عبد الله بن الشيخ: إذا حلف لا يفعل شيئاً، ففعله مرات كثيرة، فإنه يُكَفّر.   1 الترمذي: النذور والأيمان (1535) , وأبو داود: الأيمان والنذور (3251) , وأحمد (2/34, 2/69) . 2 البخاري: الأدب (6108) , ومسلم: الأيمان (1646) , والترمذي: النذور والأيمان (1533, 1534) , والنسائي: الأيمان والنذور (3766) , وأبو داود: الأيمان والنذور (3249) , وابن ماجة: الكفارات (2094) , وأحمد (2/7) , ومالك: النذور والأيمان (1037) , والدارمي: النذور والأيمان (2341) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 514 سئل الشيخ حمد بن ناصر: إذا قال لامرأة: علي عهد الله أن أتزوجك، فلم يفعل، فهل عليه كفارة يمين؟ فأجاب: هذه المسألة فيها خلاف، والمشهور في مذهب أحمد أن عليه كفارة يمين، وهو مذهب مالك، وذهب الشافعي إلى أنه لا كفارة عليه. سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: إذا حلف لا يدخل بيت فلان ... إلخ؟ فأجاب: أما من حلف أنه لا يدخل بيت فلان، أو ما يأكل من بيته، أو من طعامه، ثم فعل ذلك، فعليه كفارة يمين. وسئل الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن: إذا قال: طعامك أو شرابك علي حرام؟ فأجاب: تحريم ما أحل الله لا يحرم بنص القرآن، كما في سورة التحريم؛ واختلفوا هل عليه كفارة يمين، أو لا، وكثير من أهل العلم يرى أن عليه كفارة يمين. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 515 [فصل في حكم النذر] قال الشيخ عبد الله بن الشيخ - في أثناء العقيدة -: ونرى النذر جائزاً، ويجب الوفاء به في غير المعصية. وسئل أيضاً: هو والشيخ حسين: هل يجوز أن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 515 يقول: مالي نذر لوجه الله على فلان حياً؟ أم يكون شركاً؟ فأجابا: النذر الذي يقصد به وجه الله، في عمل طاعة لله ورسوله، كالنذر على فقير معين، أو غيره، فإنه يجب الوفاء به، كما قال تعالى: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ} [سورة البقرة آية: 270] ، وقال تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً} [سورة الإنسان آية: 7] . وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه " 1. ولا يكون هذا النذر شركاً، لأن النذر الذي يكون شركاً، النذر لغير الله، كالنذر لولي يعبد من دون الله، أو لقبة، أو لخدمتها وسدنتها، فهذا هو الذي يكون شركاً، وهو نذر معصية، لا يجوز نذره، ولا الوفاء به، كما تقدم في الحديث. سئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن، رحمه الله: عن الطعام المنذور لغير الله، هل هو حرام، أم حلال؟ وإن كان حراماً، فبأي سبب حرم؟ فأجاب: ما قصد به الميت تقرباً إليه، وتعظيماً له، من طعام أو غيره، فهو حرام، لأن ذلك شرك بالله، كما قال تعالى عن المشركين: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيباً فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى   1 البخاري: الأيمان والنذور (6696, 6700) , والترمذي: النذور والأيمان (1526) , والنسائي: الأيمان والنذور (3806, 3807, 3808) , وأبو داود: الأيمان والنذور (3289) , وابن ماجة: الكفارات (2126) , وأحمد (6/36, 6/41, 6/224) , ومالك: النذور والأيمان (1031) , والدارمي: النذور والأيمان (2338) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 516 شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [سورة الأنعام آية: 136] . فإذا خرج ذلك بالنذر فهو أعظم، فيكون نذر معصية، كما في الحديث الصحيح: " من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه " 1. ولأن النذر عبادة يجب الوفاء به، إذا نذر طاعة لله، كما قال تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} [سورة الإنسان آية: 7] ، وقال تعالى: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ} [سورة البقرة آية: 270] . ومن نذر للميت، فقد جعله شريكاً لله في عبادته، {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [سورة الحج آية: 31] . سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: هل يجب الوفاء بنذر الطاعة؟ فأجاب: ونذر الطاعة يلزم الوفاء به، ويجبر عليه الممتنع. ونذر الإنسان فيما لا يملك لا ينعقد مطلقاً، ولا كفارة فيه، لقوله صلى الله عليه وسلم: " لا نذر لابن آدم فيما لا يملك " 2؛ وهذا نحو: أن ينذر عتق عبد زيد، فلا ينعقد ولا يلزمه شيء، فلو قال: إن ملكت عبد زيد، فلله علي أن أعتقه، يقصد القربة، لزم عتقه إن ملكه؛ فإن كان نذره نذر لجاج أو غضب، فملكه، فهو يخير بين عتقه، وكفارة يمين. وسئل أيضاً: إذا نذر إنسان شيئاً معيناً لشخص معين، نذر تبرر، فرده أو مات قبل قبوله، أو قبله وقبضه ثم رده؟ فأجاب: إذا رده أو مات قبل القبول والرد، فالذي   1 البخاري: الأيمان والنذور (6696, 6700) , والترمذي: النذور والأيمان (1526) , والنسائي: الأيمان والنذور (3806, 3807, 3808) , وأبو داود: الأيمان والنذور (3289) , وابن ماجة: الكفارات (2126) , وأحمد (6/36, 6/41, 6/224) , ومالك: النذور والأيمان (1031) , والدارمي: النذور والأيمان (2338) . 2 الترمذي: الطلاق (1181) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 517 يظهر بطلان هذا النذر، كما تبطل الصدقة بذلك، لأن الصدقة نوع من الهبة؛ صرح به الأصحاب، كما في المغني وغيره، وهو ظاهر كلام أحمد، لقوله في رواية حنبل: إذا تصدق على رجل بصدقة داراً، وما أشبه ذلك، فإذا قبضها الموهوب له، صارت في ملكه. انتهى. وقد صرحوا باعتبار القبول للهبة، وأنها تبطل بالرد، وبموت الموهوب له قبل القبول؛ فإذا كان هذا حكم الهبة، فالصدقة نوع من الهبة. وقد جعل الأصحاب حكم الصدقة المعينة حكم النذر، كما نقله في القواعد عنهم، ولفظه - بعد كلام سبق -: فإذا قال: هذه صدقة، تعينت وصارت في حكم المنذورة، صرح به الأصحاب، لكن هل ذلك إنشاء للنذر، أو إقرار به؟ فيه خلاف بين الأصحاب. انتهى. فقوله: هل ذلك إنشاء للنذر، أو إقرار به؟ صريح في أنه إذا تصدق بشيء معين، فقال: هذا صدقة، أنه نذر حقيقة. فإذا علمت ما ذكره علماؤنا، رحمهم الله تعالى، من أحكام الهبة، وقد صرحوا: بأن الصدقة نوع من الهبة، لها حكم الهبة، بل صرحوا باعتبار القبول للصدقة، ولم يخصوا بذلك نوعاً منها، وجعلوا حكم الصدقة المعينة، حكم المنذورة، ظهر لك حكم مسألة السؤال، إن شاء الله تعالى. يوضحه: أن للأصحاب في اشتراط القبول للوقف الجزء: 7 ¦ الصفحة: 518 على معين وجهين: أحدهما: لا يشترط، لأنه أحد نوعي الوقف. والثاني: يشترط كالهبة والوصية. والأول أولى، والفرق بينه وبين الهبة والوصية: أن الوقف لا يختص المعين، بل يتعلق به حق من يأتي من البطون، فيكون الوقف على جميعهم، إلا أنه مرتب؛ قال الزركشي بعد حكاية الوجهين: قال ابن حمدان وابن المنجا: إنهما مبنيان على انتقال الملك إلى الموقوف عليه، إن قلنا: ينتقل، اشترط وإلا فلا، قال: والظاهر أنهما على القول بالانتقال. انتهى. فظهر بما ذكروه من التعليل: اعتبار القبول في مسألتنا، لا المنذور له، يملك النذر، ويتصرف فيه بالبيع وغيره، ولا يتعلق به حق لغيره، فإذا لم يقبل المنذور له، جاز للناذر التصرف فيه; يقوي ذلك أيضاً: ما ذكره جماعة من الأصحاب، وصرح به في الإقناع والمنتهى: أن الوقف يرجع إلى الواقف، إذا انقطعت الجهة الموقف عليها، والواقف حي، فمسألتنا أولى. وأما إذا قبض المنذور له ثم رده، فعلى ما قررناه، حكمه حكم الصدقة المردودة بعد القبض؛ قال في الفروع: ومن سأل فأعطي فقبضه، فسخطه، لم يعط لغيره في ظاهر كلام العلماء. انتهى. وذكر في الاختيارات ما معناه: أنهما إن تفاسخا عقد الهبة صح، والله أعلم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 519 وسئل الشيخ سليمان بن حمدان: هل يجوز للإنسان إذا نذر إن شفي من مرضه، أو قضيت مصلحته أو حاجته أو غيرها، أن يعطي إنساناً أو جماعة مقداراً من النقود، أو الطعام أو اللباس أو غيره، فبعد إتمام مقصده لم يعط النذر مطلقاً، فهل يأثم، ويعذب أم لا؟ فأجاب: هذا نذر مطلق على شرط هو الشفاء من المرض، أو قضاء الحاجة أو غيرها، فإن كان الناذر قصد بإعطائه وجه الله، أو ثواب الآخرة، فهذا نذر تبرر؛ إذا وجد الشرط الذي علق عليه، لزمه الوفاء بما نذر من النقد أو الطعام أو اللباس، لمن عينه واحداً أو أكثر. وإن قصد الإكرام أو التودد، أو لم يقصد شيئاً، فهو من قبيل نذر المباح، فيخير بين الوفاء، وكفارة يمين. وحيث إن النذر لم يقيد بوقت معين، فالوفاء به واجب على الفور، بعد حصول شرطه، ولا يكون الناذر حانثاً إلا إذا تحقق اليأس من فعل المنذور، فتجب الكفارة حينئذ لدفع الإثم; وبالتكفير يكون غير آثم في نذره، فلا يعذب عليه. والكفارة: إطعام عشرة مساكين، أو كسوتهم، أو تحرير رقبة مؤمنة، فإن لم يجد صام ثلاثة أيام متتابعة وجوباً، إن لم يكن عذر يمنع من ذلك. وسئل أيضاً: هل تجوز وتقبل من الإنسان التوبة إذا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 520 تاب من جميع الذنوب، الصغيرة والكبيرة، كالقتل، والزنى، واللواط، وشرب الخمر، والكذب، والغش، والظلمن والخيانة، وغيرها، ولا يعذب ولا يقاصص، ولا يعاقب في الدنيا، ولا في القبر، ولا في الآخرة، أم لا؟ فأجاب: إن التوبة من أهم قواعد الإسلام، وواجباته المتأكدة، وقد تظاهرت دلائل الكتاب والسنة، وإجماع الأمة على وجوبها، لكن لا يقدر العبد أن يتوب، حتى يتوب الله عليه. والتوبة واجبة على الفور من كل ذنب، ولو من صغيرة، وإن كانت تكفر باجتناب الكبائر، لعموم الأدلة، ولا تجب بدون تحقق إثم، وظاهر كلام بعضهم صحة التوبة، من كل ما حصلت فيه المخالفة، أو أدنى غفلة وإن لم يأثم، وتصح من بعض الذنوب في الأصح، لا من ذنب أصر على مثله. فإن كانت المعصية بين العبد وبين ربه، لا تتعلق بحق آدمي، فللتوبة منها ثلاثة شروط: أن يقلع من المعصية، وأن يندم على فعلها، وأن يعزم على أن لا يعود إلى مثلها أبداً؛ فإن فقد أحد الثلاثة، لم تصح توبته. وإن كانت المعصية تتعلق بحق آدمي، فلها شروط أربعة: هذه الثلاثة، وأن يبرأ من حق صاحبها. وحق الآدمي المحض لا يكاد يوجد في قول بعضهم، لأن كل حق الجزء: 7 ¦ الصفحة: 521 لآدمي يتعلق به حق الله تعالى، لأن تعاطي ما لا يشرع معصية، والإقدام على المعصية من حقوق الله، لأن الله حد حدوداً، يجب الوقوف عندها. فإن كان حق الآدمي مما يجبر بالمثل، كالدماء، والأموال، فالبراءة تحصل منه ببذل ما وجب عليه لمستحقه، أو استحلاله بعد إعلامه به. وإن كان لا يجبر بالمثل، بل جزاؤه من غير جنسه، كالقدح فيه بقذف أو غيبة أو شتم، ضم إلى التوبة من القذف تكذيب نفسه، والإحسان إلى المقذوف، ومن اغتابه أو شتمه، بالدعاء له والاستغفار والصدقة عنه ونحو ذلك مما يكون بإزاء إيذائه له، ولا يشترط إعلامه ولا استحلاله من ذلك؛ وقيل: إن علم به المظلوم استحله، وإلا دعا له واستغفر له ولم يعلمه. وأما قبول التوبة، فقال الحافظ زين الدين بن رجب، رحمه الله: ظاهر النصوص يدل على أن من تاب إلى الله تعالى توبة نصوحاً، واجتمعت شروط التوبة في حقه، فإنه يقطع بقبول الله تعالى توبته كما يقطع بقبول إسلام الكافر إذا أسلم إسلاماً صحيحاً؛ وهذا قول الجمهور، وكلام ابن عبد البر يدل على أنه إجماع. ومن الناس من قال: لا يقطع بقبول التوبة، بل يرجى، وصاحبها تحت المشيئة وإن تاب. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 522 ثم قال: والصحيح قول الأكثرين - يعني القطع بقبول التوبة -. انتهى. فتقبل التوبة من كل ذنب لتائب منه من غير استثناء شيء من الذنوب، كما دل على ذلك القرآن والحديث، وبهذا قال أكثر أهل العلم، ما لم يعاين التائب الملَك، وقيل: ما دام مكلفاً; وقيل ما لم يغرغر - أي تبلغ روحه حلقومه -. وقبول التوبة فضل من الله تعالى غير واجب عليه عند أهل السنة؛ فلو عذب العبدَ على ذنبه لم يكن ظالماً له ولو قدر أنه تاب منه، ولكنه أوجب على نفسه بمقتضى فضله ورحمته أنه لا يعذب من تاب، وقد كتب على نفسه الرحمة، فلا يسع العباد إلا رحمته وعفوه، ولا يبلغ عمل أحد منهم أن ينجو به من النار، أو يدخل به الجنة. وإذا قبلت توبة العبد، غفر ذنبه الذي تاب منه؛ والمغفرة وقاية شر الذنوب مع سترها، ومن غفرت ذنوبه بالتوبة أو غيرها من مقضيات المغفرة، فهو غير آثم، لأن التائب من الذنب كمن لا ذنب له، وكل من كان غير آثم فهو غير معاقب، لا في القبر، ولا في الآخرة. وأما في الدنيا، فالتوبة لا تكون مسقطة للعقوبات الواجبة لحق الله تعالى، من حد سرقة أو زنى وشرب، أو تعزير، بعد ثبوتها، وما وجب لحق آدمي، من قصاص أو مال، أو حد قذف أو تعزير، كما لا تسقط بها الكفارات، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 523 وسائر الواجبات التي أثم بسببها، من صلاة أو صيام، أو زكاة أو غيرها، بل لا بد من الإتيان بها، لأنها حقوق لا ذنوب، وإنما الذنب تأخيرها فيسقط بالتوبة إثم المخالفة بالتأخير، لا نفس الحق المؤخر. وإذا عوقب العبد على الذنب في الدنيا لم يعاقب عليه في الآخرة، لما روى الإمام أحمد وغيره واللفظ له، عن علي رضي الله عنه مرفوعاً: " من أذنب ذنباً في الدنيا فعوقب به، فإن الله أعدل من أن يثني عقوبته على عبده. ومن أذنب ذنباً في الدنيا، فستره الله عليه وعفا عنه، فإن الله أكرم من أن يعود في شيء قد عفا عنه " 1. وأما إذا لم يعاقب عليه في الدنيا، ولم يتب منه، ولم يكفر بشيء من المكفرات للذنوب، بل مات مصراً عليه، ولقي الله بالذنب الذي استوجب به العقوبة، ولم يكن شركاً، فأمره إلى الله تعالى، إن شاء غفر له وإن شاء عذبه، ثم كان عاقبته أن لا يخلد في النار، بل يخرج منها ثم يدخل الجنة. ولما كان العبد لا بد أن يفعل ما قُدِّر عليه من الذنوب، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: " كتب الله على ابن آدم حظه من الزنى، فهو مدرك ذلك لا محالة " 2، جعل الله له مخرجاً مما وقع فيه، يرفع أثر الذنب، ويزيل موجبه؛ وهذا من أعظم فوائد الشريعة ومقاصدها، فعقوبات الذنوب تزول بالتوبة النصوح، فهي أقوى الأسباب في إزالتها،   1 الترمذي: الإيمان (2626) , وابن ماجة: الحدود (2604) . 2 البخاري: الاستئذان (6243) , ومسلم: القدر (2657) , وأبو داود: النكاح (2152) , وأحمد (2/276) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 524 وبالحسنات الماحية، كالكفارات والعقوبات، وبالمصائب المكفرة، وهي كل ما يؤلم من هم أو حزن، أو أذى في مال أو عرض أو جسد، أو غير ذلك. وصرح العلامة ابن القيم، رحمه الله تعالى، بأن المصائب لا تستقل بمغفرة الذنوب جميعها، وقال: لا تغفر الذنوب جميعها إلا بالتوبة، أو بحسنات تتضاءل وتتلاشى فيها الذنوب. انتهى. ومما يزيل عقوبات الذنوب أيضاً: ما يحصل للعبد في البرزخ من الشدة، وما يحصل له في عرصات القيامة، ودعاء المؤمنين له، كالصلاة عليه، وشفاعة الشفيع المطاع لمن شفع فيه، وغير ذلك. وقد حصر بعض العلماء ما يسقط العقوبة على الذنب بنار جهنم، في نحو عشرة أسباب، ذكر أنها عرفت بالاستقراء من الكتاب والسنة. فالذنوب أسباب مقتضية للعقوبة، والأمور المكفرة لها موانع، ولهذا تقع الموازنة بين الحسنات والسيئات في الآخرة، إعمالاً لمقتضى العقاب ومانعه، ويكون الحكم للغالب؛ فمن كفرت سيئاته بنفس العمل، كان ذلك من باب الموازنة، وهذا تنقص درجته عمن سلم من تلك الذنوب. ومن كفرت سيئاتهم بالمصائب والحدود، وعقوبات الدنيا، سلمت لهم حسناتهم فلا تنقص درجاتهم؛ بل ترتفع الجزء: 7 ¦ الصفحة: 525 درجاتهم بالصبر على المصائب، فيكونون أرفع مما لو عوفوا، وأصحاب العافية يكونون أدنى. وبهذا يتضح أن التائب لا تقع في حقه موازنة ولا مقاصة، لأن توبته النصوح تمحو سيئاته حتى كأنها لم تكن، وتبقى له حسناته موفرة، وإنما تقع الموازنة والمقاصة في حق من له حسنات وسيئات، فيوازن بين حسناته وسيئاته، كبائرها وصغائرها، ويقتص بعضها من بعض؛ فمن رجحت سيئاته على حسناته ولو بواحدة دخل النار، ومن استوت حسناته وسيئاته كان من أصحاب الأعراف. وذكر الإمام أبو العباس أحمد بن تيمية، قدس الله روحه، أن الحسنة تعظم ويكثر ثوابها بزيادة الإيمان والإخلاص، حتى تقابل جميع الذنوب، واستدل لذلك بحديث البطاقة وغيره. وهكذا أيضاً، تقع الموازنة والمقاصة، بين حسنات العبد ومظالم العباد عنده، فمن كان له حسنات وعليه مظالم، فاستوفى المظلومون حقوقهم من حسناته وبقي له حسنة دخل بها الجنة، قال ابن مسعود رضي الله عنه: "إن كان ولياً لله ففضل له مثقال ذرة، ضاعفها الله حتى يدخل الجنة، وإن كان شقياً، قال الملك: رب فنيت حسناته، وبقي له طالبون كثير، قال: خذوا من سيئاتهم فأضيفوها الجزء: 7 ¦ الصفحة: 526 إلى سيئاته، ثم صكوا له صكاً إلى النار"، خرجه ابن أبي حاتم وغيره. وسئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: عمن نذر أن يذبح بدنة أو كبشاً أو غير ذلك، هل يلزمه ما عين أو يكفِّر ... إلخ؟ فأجاب: بل يلزمه أن يذبح، ولا تجزئه الكفارة، لقوله صلى الله عليه وسلم: " من نذر أن يطيع الله فليطعه " 1. وأما إذا نذر أن يذبح بعيراً أو كبشاً غير معين، فقال في المغني: إذا نذر هدياً مطلقاً، لم يجزئه إلا ما يجزئ في الأضحية: فإن نذر بدنة أجزأه ثنية من الإبل أو ثني، فإن لم يجد الإبل فبقرة، فإن لم يجد فسبعاً من الغنم. فإن نوى بنذره بدنة من الإبل لم يجزئه غيرها مع وجودها; فإن عين المنذور بلفظه أو نيته أجزأه ما عينه، صغيراً كان أو كبيرا، جليلاً كان أو حقيراً. وسئل: هل يأكل من نذره، مثل الطعام أو اللحم؟ وكذا الكفارة؟ وما النذر الذي لا يؤكل منه؟ فأجاب: الذي ذكروا: أنه لا يأكل من كل واجب ولو بالنذر، إلا في دم المتعة والقِران. وأما قولك: إذا لم يعين بنذره مصرفاً، فالنذر المطلق يصرف في المساكين; فإذا ذبحه، فإن شاء قسمه بينهم، وإن شاء تركه لهم يقسمونه لأنفسهم. وعقد النذر من حيث هو، مكروه، وأخبر صلى الله عليه وسلم أنه لا يأتي بخير، وإنما يستخرج به من البخيل; لكن إذا فعل   1 البخاري: الأيمان والنذور (6696, 6700) , والترمذي: النذور والأيمان (1526) , والنسائي: الأيمان والنذور (3806, 3807, 3808) , وأبو داود: الأيمان والنذور (3289) , وابن ماجة: الكفارات (2126) , وأحمد (6/36, 6/41, 6/224) , ومالك: النذور والأيمان (1031) , والدارمي: النذور والأيمان (2338) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 527 والتزم النذر لزمه الوفاء به، لأن الله مدح الموفين بالنذر، وفي الحديث: " من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه " 1. كفارة اليمين سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: عن كفارة اليمين؟ فأجاب: وأما كفارة اليمين، فهو إطعام عشرة مساكين، فإن كان ما يقدر على الإطعام، فيصوم ثلاثة أيام. وأجاب الشيخ عبد الرحمن بن حسن: وأما كفارة اليمين، فيطعم عشرة مساكين، قدرها العالي لكل مسكين مد من البر، والمد وزن ثلاثين ريالاً، فإن كان شعيراً فمُدَّان وكذلك التمر.   1 البخاري: الأيمان والنذور (6696, 6700) , والترمذي: النذور والأيمان (1526) , والنسائي: الأيمان والنذور (3806, 3807, 3808) , وأبو داود: الأيمان والنذور (3289) , وابن ماجة: الكفارات (2126) , وأحمد (6/36, 6/41, 6/224) , ومالك: النذور والأيمان (1031) , والدارمي: النذور والأيمان (2338) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 528 كتاب القضاء سئل الشيخ حسن بن حسين بن الشيخ: هل يقوم أمير البلد مقام الحاكم عند عدمه، فيما يتعلق بالحاكم، أم لا؟ فأجاب: أما مطلقاً فلا، وأما في الجملة أو في بعض المسائل فربما، قال في الإقناع: فإن عدم الولي مطلقاً أو عضل، زَوَّجَها ذو سلطان في ذلك المكان، كوالي البلد وكبيره، وأمير القافلة ونحوه؛ فإن تعذر، زَوَّجَها عدل بإذنها. قال أحمد في دهقان القرية - أي رئيسها -: يزوج من لا ولي لها، إذا احتاط في الكفء، والمهر، إذا لم يكن في الرستاق قاض. انتهى. قال الزركشي: لأن دهقان القرية هو كبيرها، فهو بمنزلة حاكمها والقائم بأمرها. انتهى. وقال ابن عقيل في الفصول، في الصلاة على الميت: إذا اجتمع السلطان وغيره، قدم السلطان، فإن لم يحضر أمير البلد، فالحاكم. انتهى. وصرح ابن عطوة بالإلزام بما يصدر من واحد، ككبار نجد الحاكمين على قراهم، هو ووجوه أهل قريته، من بيع تركة أو قضاء دين، على الوجه الجزء: 7 ¦ الصفحة: 529 الشرعي. سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد، رحمهما الله تعالى: إذا توقف المفتي، هل يكون داخلاً في الكتمان؟ فأجاب: اعلم أن الذي يتناوله الوعيد: الذي عنده علم عن الله ورسوله، فيسأل عنه فيكتمه، وأما من أشكل عليه الحكم، فتوقف حتى يتبين له حكم الله ورسوله، فهذا لا حرج عليه إذا توقف، ولو عرف اختلاف العلماء. والواجب على المفتي: أن يراقب الله ويخشاه، ويعلم أنه قد عرض نفسه للحكم بين الله وبين عباده، فيما أحل لهم وحرم عليهم، فلا يتكلم إلا بعلم، وما أشكل عليه أو جهله، فليكله إلى عالمه. قال الشيخ حمد بن ناصر بن معمر: واحذر القول على الله بلا علم، فإن الله تعالى لما ذكر المحرمات العظام، ختمها بقوله: {وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [سورة الأعراف آية: 33] ؛ فجعل القول بلا علم قريناً للشرك في الآية الكريمة؛ والله تعالى لا يكلف نفساً إلا وسعها، ولكن العبد هو الذي يكلفها، ويحملها ما لا تطيق، ويعرضها لسخط الله ومقته. ومن أعظم التكلف: أن يتكلم الإنسان بما لا يعلم، والواجب على الإنسان أن يتكلم في دين الله بما علم، وإن لم يكن عنده علم، فليقل: الله أعلم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 530 ولا تستح من قول: لا أدري، فقد قيل: إذا ترك العالم قول: لا أدري، أصيبت مقاتله. فإذا وقع عليك قضية من القضايا، فإن كان عندك علم فتكلم به، وإلا فإن أمكن فيها الإصلاح فأصلح فيها، فإن الصلح جائز بين المسلمين، إلا صلحاً أحل حراماً، أو حرم حلالاً، فإن لم يمكن الصلح، ولم يرض به الخصمان، فاصرفهما عنك ولا تَعاظَمْ ذلك، ولا تستح منه، فإن الأمر عظيم، ولا بد من يوم تعاد فيه الخصومات عند رب العالمين، قال تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} [سورة الزمر آية: 30-31] . [فصل في التسرع في الفتوى] وقال الشيخ سعيد بن حجي: قال ابن القيم: فصل: وكان السلف من الصحابة والتابعين يكرهون التسرع في الفتوى، ويود أحدهم أنه يكفيه إياها غيره؛ فإذا رأى أنها قد تعينت عليه، بذل اجتهاده في معرفة حكمها من الكتاب والسنة، وأقوال الخلفاء الراشدين، ثم أفتى. وقال عبد الله بن المبارك: عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: "أدركت عشرين ومائة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أراه قال: في المسجد، فما كان منهم محدث إلا ود أن أخاه كفاه الحديث، ولا مُفْت إلا ود أن أخاه كفاه الفتيا"، قال ابن عباس: "إن كل من أفتى الناس في كل ما يسألونه لمجنون"، وقال سحنون بن سعيد: "أجسر الناس على الفتيا أقلهم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 531 علماً". انتهى ملخصاً. وقال في آداب المفتي: اعلم أن الإفتاء عظيم الخطر، كبير الموقع، كثير الفضل، لكنه معرض للخطإ والخطر، ولهذا قالوا: المفتي مُوَقِّع عن الله تعالى، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من الناس، ولكن يقبضه بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالم، اتخذ الناس رؤوساً جهالاً، فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا " 1، رواه الشيخان. وعن ابن مسعود: "عسى رجل أن يقول: إن الله أمر بكذا، أو نهى عن كذا، فيقول الله له: كذبت"، رواه الطبراني. وعن الشافعي، وقد سئل عن مسألة فسكت ولم يجب، فقيل له: ألا تجيب؟ فقال: حتى أدري الفضل في سكوتي، أو في الجواب. وعن مالك، أنه ربما كان يسأل عن خمسين مسألة، فلا يجيب في واحدة منها؛ وكان يقول: من أجاب في مسألة، فينبغي قبل الجواب، أن يعرض نفسه على الجنة والنار، وكيف خلاصه، ثم يجيب. وعن أبي حنيفة، أنه سئل عن سبع مسائل، فقال فيها: لا أدري. وعن الأثرم: سمعت أحمد بن حنبل يكثر أن يقول: لا أدري، وذلك لما عرف من الأقاويل. انتهى. شعراً: من كان يهوى أن يُرَى مُتَصَدِّرا ... ويكره لا أدري أُصِيبَتْ مَقاتِلُه وقال الشيخ عبد الله أبا بطين: ولكن ينبغي للمفتي   1 البخاري: العلم (100) , ومسلم: العلم (2673) , والترمذي: العلم (2652) , وابن ماجة: المقدمة (52) , وأحمد (2/162, 2/190, 2/203) , والدارمي: المقدمة (239) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 532 والقاضي، إذا ابتلي بشيء من المسائل، أن يجتهد في تحري الصواب، أو يقلد إن لم يتبين له الراجح; والمسائل التي يقع فيها الخلاف بين العلماء، وليس مع أحد القولين حديث صحيح صريح، بل القول فيها بالاجتهاد والقياس ونحو ذلك، فالذي ينبغي للإنسان فيها التوقف، إلا القاضي الذي لا بد له من القول، فيجتهد في تحري الصواب، وإلا فلا ينبغي لأحد أن يحرم على الناس شيئاً إلا بدليل. بل ينبغي للمفتي أن يقول للسائل: ما أحب لك هذا، أو أكره هذا، أو يقول: بعض العلماء يمنعون من هذا، أو يحرمون، إن كان أحد قد قال بتحريمه; هذا الذي ينبغي للإنسان أن يستعمله في المسائل التي فيها الخلاف. وإن كان أحد فعل فعلاً، قال جمهور العلماء بالمنع منه، فينهى الفاعل عنه، ويمنع منه من غير أن يقال بتحريمه. سئل الشيخ محمد بن إبراهيم: عمن أمر أن يحكم بما شرع الله ورسوله، فوجد لبعض من سبق قضاء يخالف كتاباً أو سنة، أو تقرير أهل العلم من أهل مذهبه أو إجماعهم، هل يسوغ له السكوت على ذلك الخطأ؟ أم يجب عليه الحكم بالحق والقضاء به، مع رفض الخطإ إن قدر وجوده؟ فأجاب: يجب عليه الحكم بالحق، سواء أمر به أو لا، لكن إذا سبق لغيره حكم في مسألة، بما يخالف نصاً من الجزء: 7 ¦ الصفحة: 533 كتاب أو سنة أو إجماع، فإنه يجب نقض ذلك الحكم، لكن لا يتولى نقضه إلا من حكم به، فإن أبى نقضه، أجبر على ذلك، فإن امتنع، نقضه غيره؛ ولا يخفاك أن هذا يحتاج المتكلم فيه إلى سعة علم، وثقوب فهم وتمام اطلاع على كلام العلماء وإجماعهم وخلافهم، فكثيراً ما يظن بحكم أنه مخالف للكتاب أو السنة أو الإجماع وليس كذلك. وأما حكمه بما يخالف تقارير أهل مذهبه أو إجماعهم إن تصور ذلك، فهذا لا يكون واجب النقض مطلقاً، فإن كان يرى ويعتقد أن كلام أهل مذهبه هو الصواب والحق، وحكم بما يخالفه فإنه ينقض؛ فإن بعض فقهائنا ذكر وجوب نقض حكم الحاكم إذا حكم بخلاف ما يعتقده. وأما إن حكم بخلاف قول أهل مذهبه لرجحان القول المخالف، لقول أهل مذهبه في الدليل، وكان له معرفة بهذا الشأن، ومن فرسان هذا الميدان، فإنه لا يتعرض لحكمه، والله أعلم. [السؤال عن رشوة الحاكم] قال شيخ الإسلام: الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى: سألتم - رحمكم الله - عن رشوة الحاكم، الذي ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه " لعن الراشي والمرتشي " 1، وذكرتم أن بعض الناس حملها على ما إذا حكم الحاكم بغير الحق، وأما أخذ الرشوة من صاحب الحق، والحكم له به فهي حلال عنده، مستدلاً بقوله: " أحق ما أخذتم عليه أجراً: كتاب الله " 2، وإنكم استدللتم عليه بقوله: {وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي   1 الترمذي: الأحكام (1336) , وأحمد (2/387) . 2 البخاري: الطب (5737) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 534 ثَمَناً قَلِيلاً} [سورة البقرة آية: 41] ، وأجابكم بأنها نزلت في كعب بن الأشرف، وبأن الناس فرضوا لأبي بكر لما تولى الأمر درهمين كل يوم، وكذلك قول من قال: وإن قال: لا أحكم بينكما إلا بجعل؟ فأقول: أما صورة المسألة فهي أشهر من أن تذكر، بل هي تعلم بالفطرة، فإن حكام زماننا لما أخذوا الرشوة، أنكرت عليهم العقول ذلك والفطر بما جبلها الله عليه، من غير أن يعلموا أن الشارع نهى عنها، ولكن إذا جادل المنافق بالباطل، ربما يروج على المؤمن، فيحتاج إلى كشف الشبهة. ونقدم قبل الجواب مقدمة، وهي: أن الله سبحانه لما أظهر شيئاً من نور النبوة في هذا الزمان، وعرف العامة شيئاً من دين الإسلام، وافق أنه قبل ذلك ترأس على الناس رجال من أجهل العالمين، وأبعدهم عن معرفة ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم. وقد ضروا في الرياسة بالباطل، وفي أكل أموال الناس، ويدعون أنهم يعملون بالشرع، ولا يعرفون شيئاً من الدين، إلا الأشياء من كلام بعض الفقهاء في البيع، والإجارة، والوقف والمواريث، وكذلك في المياه والصلوات، ولا يميزون بين حقه من باطله، ولا يعرفون مستند قائله. وأما العلم الذي بعث الله به محمداً صلى الله عليه وسلم، فلم يعرفوا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 535 منه خبراً، ولم يقفوا منه على عين ولا أثر، قد تراجمت بهم الظنون، {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [سورة المؤمنون آية: 53] ؛ ومصداق هذا كله: أن الداعي لما أمرهم بتوحيد الله، ونهاهم عن عبادة المخلوقين، أنكروا ذلك عليه، وزعموا أنه جهالة وضلالة، مع كون هذه المسألة أبين في دين محمد صلى الله عليه وسلم من كون العصر أربعاً، والمغرب ثلاثاً؛ بل اليهود والنصارى والمشركون، يعلمون أن محمداً صلى الله عليه وسلم دعا إلى ذلك، وجادل عليه وقاتل عليه. ثم هؤلاء الذين يزعمون أنهم علماء، اشتد إنكارهم علينا لما تكلمنا بذلك، وزعموا أنه دين جديد، ومذهب خامس، وأنهم لم يسمعوه من مشايخهم ومن قبلهم، ولقد صدقوا في ذلك. وبالجملة: فهذا الحديث قد خالف أهواءهم، من وجوه متعددة: الأول: أنهم لا يعرفونه، مع كونهم يظنون أنهم من العلماء. الثاني: أنه خالف عادات نشؤوا عليها؛ ومخالفة العادات شديد. الثالث: أنه مخالف لعلمهم الذي بأيديهم، وقد أشربوا حبه كما أشرب بنو إسرائيل حب العجل. الرابع: أن هذا الدين يريد أن يحول بينهم وبين مآكلهم الباطلة المحرمة الملعونة، إلى غير ذلك من الأمور التي يبتلي الله بها العباد. فلما ظهر هذا الأمر، اجتهدوا في عداوته وإطفائه بما الجزء: 7 ¦ الصفحة: 536 أمكنهم، وجاهدوا في ذلك بأيديهم وألسنتهم. فلما غلظ الأمر وبهرهم نور النبوة، ولم يجيء على عاداتهم الفاسدة، تفرقوا فيه كما تفرق إخوانهم الأولون: فبعض قال: هذا مذهب ابن تيمية، كما لمزوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بابن أبي كبشة، وبعضهم قال: كتب باطلة، كقوله: {أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا} [سورة الفرقان آية: 5] ، وبعضهم قال: هؤلاء يريدون الرياسة، كما قال: {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ} [سورة يونس آية: 78] ، وتارة يرمون المؤمنين بالمعاصي، كما قالوا لنوح، فأجابهم: {وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [سورة الشعراء آية: 112] ، وتارة يرمون بالسفاهة ونقص العقل، كما قالوا: {أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ} [سورة البقرة آية: 13] ، فأجابهم تعالى بقوله: {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ} [سورة البقرة آية: 13] ، وتارة يضحكون من المؤمنين ويستهزئون بهم، وبأفعالهم التي خالفت العادات، كقوله: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ} [سورة المطففين آية: 29] ، وتارة يكذبون عليهم الأكاذيب العظيمة، كقوله: {فَقَدْ جَاءُوا ظُلْماً وَزُوراً} [سورة الفرقان آية: 4] ، وتارة يذمون دين الإسلام، بما يوجد من بعض المنتسبين إليه، من رثاثة الفهم والمسكنة، كما قالوا: {وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ} [سورة هود آية: 27] ، وتارة تقطع قلوبهم من الحسرة والغيظ، إذا رأوا الله قد خفض بهذا الدين الجزء: 7 ¦ الصفحة: 537 أقواماً، ورفع به آخرين، كقولهم: {أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا} [سورة الأنعام آية: 53] ، إلى غير ذلك من الأمور التي يطول شرحها. وبالجملة: فمن شرح الله صدره للإسلام، ورزقه نوراً يمشي به في الناس، بينت له هذه الأمور التي وقعت في وقتنا هذا، كثيراً من معاني القرآن، وتبين له شيء من حكمة الله في ترداد هذا في كتابه، لشدة الحاجة إليه; فيقال لهؤلاء المردة، آكلي أموال الناس بالباطل، ومذهبي أديانهم مع أموالهم، ما قال عمر بن عبد العزيز: "رويداً يا ابن بنانة! فلو التقت حلقتا البطان، ورد الفيء إلى أهله، لأتفرغن لك ولأهل بيتك، حتى أدعهم على المحجة البيضاء؛ فطالما تركتم الحق، وأوضعتم في الباطل". وأما المسألة، والجواب عنها، فنقول: قد علم بالكتاب والسنة، والإجماع، والفطر والعقول: تحريم الرشوة وقبحها، والرشوة: هو ما يأخذه الرجل على إبطال حق، أو إعطاء باطل، وهذه يسلمها لك منازعك، وهي أيضاً: ما يأخذ على إيصال الحق إلى مستحقه، بمعنى: أن الحاكم لا يوصل الحق إلى مستحقه، بل يسكت ولا يدخل فيه حتى يعطيه رشوة، فهذه حرام منهي عنها بالإجماع، ملعون من أخذها؛ فمن ادعى حلها فقد خالف الإجماع. وقوله: بأي شريعة حكمت بتحريم هذا؟ فنقول: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 538 حكمت بشريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأجمع على ذلك علماء أمته، وأحل ذلك المرتشون الملعونون. ومن أنواع الرشوة: الهدايا التي تدفع إلى الحاكم بسبب الحكم، ولو لم يكن لصاحبها غرض حاضر، لا أعلم أحداً من العلماء أرخص في مثل هذا. ومن العجب: إذا كان في كتابهم الذي يحكمون به، يجب أن يعدل بين الخصمين في لحظه ولفظه، ومجلسه وكلامه والدخول عليه، فأين هذا من أكل عشرة حمران على أحد الخصمين؟! فإن لم يعطه أخذ بدلها من صاحبه وحكم له. سبحان الله! أي شريعة أحلت هذا؟! وأي عقل أجازه؟! ما أجهل من يجادل في مثل هذا، وأقل حياءه، وأقوى وجهه!! وأما أدلته التي استدل بها، فلا تنس قوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} [سورة آل عمران آية: 7] ؛ ولما جادل النصارى رسول الله صلى الله عليه وسلم في ألوهية عيسى، احتجوا عليه بشيء من القرآن، وكذلك الخوارج يستدلون على باطلهم بمتشابه القرآن، وكذلك الذين ضربوا الإمام أحمد، يستدلون عليه بشيء من متشابه القرآن، وما أنزل الله: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} الآية [سورة آل عمران آية: 7] ، إلا لما يعلم من حاجة عباده إليها. فأما استدلال هذا الجاهل الظالم، بقوله: " أحق ما أخذتم عليه أجراً: كتاب الله" 1، فجوابه من وجوه: الأول: أن   1 البخاري: الطب (5737) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 539 المؤمنين إذا فسروا شيئاً من القرآن، بكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وكلام المفسرين ليس لهم فيه إلا النقل، اشتد إنكارك عليهم، وتقول: القرآن لا يحل لكم تفسيره، ولا يعرفه إلا المجتهدون، وتارة تفتري الكذب الظاهر، وتقول: إن ابن عباس إذا أراد أن يفسر، خرج إلى البرية خوفاً من العذاب، وأمثال هذه الأباطيل والخرافات، ومرادهم بذلك: سد الباب، لا يُفتح للناس طريق إلى هذا الخير، فكيف يكون نقلنا لكلام المفسرين منكراً، وتفسيرك كتاب الله وتحريفك الكلم عن مواضعه حسناً؟! هذا من أعجب العجب. الوجه الثاني: أن هذا لو كان على ما أولته عليه، فهو في الأخذ على كتاب الله، وأنت متبرئ من معرفة كتاب الله، والحكم به، شاهد على نفسك بذلك. الوجه الثالث: أن هذا لو كان فيما ذهبت إليه، لكان هذا مخصوصاً بتحريم الرشوة التي أجمع العلماء على تحريمها. الوجه الرابع: أن حمل الحديث على هذا، من أبين الفرية الظاهرة، والكذب البحت على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإن معنى ذلك: في الإنسان الذي يداوي المريض بالقرآن، فيأخذ على الطب والدواء، لا على الحكم وإيصال الحق إلى مستحقه، ويدل عليه اللفظ الآخر: "كُل. من أكل برقية باطل، وقد أكلت برقية حق"، والقضية شاهد بذلك. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 540 يوضحه الوجه الخامس الوجه الخامس: وهو أن يقال: هذا الجاهل المركب، من استدل قبلك بهذا الحديث، على أن الحاكم إذا أراد أن يوصل الحق إلى مستحقه، يجوز له أن يشترط لنفسه شرطاً، فإن حصل له وإلا لم يفعل، فإن كان وجده في كتاب، فليبين لنا مأخذه، وما أظنه بأهل العلم من الأولين والآخرين، الذين أجمعوا على أن ذلك لا يجوز، أيظن أن إجماعهم باطل؟ وأنهم لم يفهموا كلام نبيهم حتى فهمه هو؟! وأما استدلاله: بأن الناس فرضوا لأبي بكر لما ولي عليهم كل يوم درهمين، فهذا من أعجب جهله، ومثل هذا مثل من يدعي حل الزنى الذي لا شبهة فيه، ويستدل على ذلك بأن الصحابة يطؤون زوجاتهم، وهذا الاستدلال مثله سواء بسواء، وذلك، أن استدلاله بقصة أبي بكر يدل على شدة جهله بحال السلف الصالح؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعطي العمال من بيت المال، وكان الخلفاء الراشدون يأكلون من بيت المال، ويفرضون لعمالهم، ولا أعلم عاملاً في زمن الخلفاء الراشدين إلا يأكل من ذلك، بل الزكاة التي هي للفقراء، جعل الله فيها نصيباً للعمال الأغنياء. ولكن أبا بكر رضي الله عنه لما ولي واشتغل بالخلافة عن الحرفة، وضع رأس ماله في بيت المال، واحترف للمسلمين فيه، فأكل بسبب الخلافة، وبسبب وضع ماله في الجزء: 7 ¦ الصفحة: 541 بيت المال، وبسبب الحرفة؛ فأين هذا من أكل الرشوة التي حرمها الله ورسوله؟ وأين هذا من الحاكم الذي إذا وقعت الخصومة، فأكثرهم برطيلا هو الذي يغلب صاحبه؟ سبحانك هذا بهتان عظيم! فإن قالوا: لما عدم بيت المال أكلنا من هذا، قلنا: هذا مثل من يقول: أنا أزني لأني عزب لا زوجة لي، فهو هذا من غير مجازفة. وقولهم: نفعل كذا لأجل مصلحة الناس، فنقول: ما على الناس أضر من إبليس ومنكم، أذهبتم دنياهم وآخرتهم، والناس يشهدون عليكم بذلك. هؤلاء أهل شقراء، شرطوا لابن إسماعيل كل سنة ثلاثة وثلاثين أحمر، ويسكت عن الناس ويريحهم من أذاه، ولا يحكم بين اثنين ولا يفتي، فلم يفعل واختار حرفته الأولى. وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى: نهى تبارك وتعالى عن أمور: الأول: افتراء الكذب على الله. الثاني: القول عليه بلا علم. الثالث: المحاجة والمجادلة بغير علم، بقوله: {هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ} [سورة آل عمران آية: 66] ، وقوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ} الآية [سورة الحج آية: 3] . الرابع: قولك ما ليس لك به علم مطلقاً، وقال تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [سورة الإسراء آية: 36] . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 542 ومن النوع الرابع: نهيه عن تزكية الرجل وتبرئته بلا علم، أو رمي البريء، كما في قوله تعالى: {وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً} الآيات [سورة النساء آية: 105] . وأما ما يتعلق بخبر غيرك فأمور: الأول: أنك مأمور بتصديق الصدق؛ وهذا أصل الإيمان، وأدلته كثيرة. الثاني: أنك مأمور بتكذيب الكذب، كما في الكفر بالطاغوت وفي قوله: {لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ} الآية [سورة النور آية: 12] . ومن ذلك إذا اشتمل الخبر على صدق وكذب، فصَدِّق الصدق وكَذَّب الكذب، كما في قول أهل الكتاب في المسيح، وغير ذلك. الثالث: أنك مأمور بالتثبت في خبر الفاسق، لا تصدقه ولا تكذبه حتى يتبين لك أمره، وكذلك خبر من ألقى السلام وهو في أرض الحرب، وما يحتاج إلى التثبت فيه، فلا تصدقه ولا تكذبه، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: "ما حدثكم به أهل الكتاب، فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم " 1؛ وهذا هو الرابع. ومن ذلك أنك منهي عن تصديق المنكر المتهم، كما في قصة بني أبيرق. أما الكذب فهو أنواع: الأول: الكذب المتعارف. الثاني: كلام من يظن أنه صادق لكنه ليس بمعذور، كما في قوله: "كذب"، وفي قتل عامر: "كذب من قال ذلك". الثالث: في المعاريض إذا أتت على غير الرخصة. الرابع: إذا كان الخبر مأموراً بكتمانه، كقوله: {فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ   1 أبو داود: العلم (3644) , وأحمد (4/136) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 543 الْكَاذِبُونَ} [سورة النور آية: 13] . وأما قاعدة الحكم، فذكر فيها أربع قواعد: الأولى: من قوي جانبه بالأصل واليد، قوي باليمين. الثانية: إذا قوي جانب صاحبه بشاهد واحد، قوي باليمين. الثالثة: في مسألة النكول: إذا قوي جانب المدعَى بالنكول، أوردت عليه اليمين، إذا ساغ ردها فلم يحلف، قوي جانب المدعَى عليه. الرابعة: إذا قوي جانب المدعي باللوث والأيمان، أو جانب القاذف بالأيمان واللعنة، أو قوي جانبها بالأيمان واللعنة، فلم يحكم عليه بأنه قاذف، ولا يحكم عليها بأنها زانية. سئل الشيخ حسن بن حسين بن الشيخ، رحمهم الله: إذا تحاكم اثنان إلى رجل حكماه ورضيا به، هل يلزم أحدهما الآخر بما قاله؟ وهل هو محسن؟ فأجاب: إذا تحاكم رجلان إلى رجل يصلح للقضاء، وحكماه بينهما جاز ذلك، ونفذ حكمه عليهما؛ وبهذا قال أبو حنيفة. وللشافعي قولان: أحدهما: لا يلزم حكمه إلا بتراضيهما; ولنا ما روى أبو شريح: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله هو الحكم وإليه الحكم، فلم تكنى أبا الحكم؟ قال: إن قومي إذا اختلفوا في شيء أتوني، فحكمت بينهم، فرضي كلا الفريقين، قال: ما أحسن هذا! من أكبر ولدك؟ قلت: شريح، قال: فأنت أبو شريح " 1، أخرجه النسائي.   1 النسائي: آداب القضاة (5387) , وأبو داود: الأدب (4955) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 544 وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم: " من حكم بين اثنين تراضيا عليه، فلم يعدل بينهما، فهو ملعون "، ولولا أن حكمه يلزمهما لم يلحقه هذا الذم، ولأن "عمر وعلياً تحاكما إلى زيد بن ثابت"، "وتحاكم عمر وأعرابي إلى شريح، قبل أن يولى القضاء"، "وتحاكم عثمان وطلحة إلى جبير بن مطعم". انتهى من شرح المقنع. وقال في الإنصاف: نفذ حكمه في المال، وينفذ في القصاص والحدود، والنكاح واللعان، في ظاهر كلامه، وهو المذهب. وقال القاضي: لا ينفذ إلا في الأموال خاصة، وقال في المحرر والفروع: وعنه لا ينفذ في قَوَد وحَدّ، وقَذْف ولعان ونكاح; وقال في الرعاية: وليس له حبس في عقوبة، ولا ضرب دية خطإ على عاقلة من رضي بحكمه؛ وما قاله في الإنصاف أولى، وهو المعتمد، قطع به في التنقيح، وتبعه من بعده. قال في التنقيح: فهو كحاكم الإمام مطلقاً; قال في حاشيته: أي: سواء وجد حاكم أم لا. انتهى. فلهذا قال المحشي في إقناعه: حتى مع وجود قاض. وقال في الاختيارات: إذا حكم أحد الخصمين خصمه جاز، لقصة ابن مسعود، وكذا إن حكما مفتياً في مسألة اجتهادية؛ وهل يفتقر ذلك إلى تعيين الخصمين، أو حضورهما؟ أو يكفي وصف القضية له؟ الأشبه: أنه لا يفتقر، بل إذا تراضيا بقوله في قضية موصوفة، مطابقة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 545 لقضيتهما فقد لزم؛ فإن أراد أحدهما الامتناع، فإن كان قبل الشروع فينبغي جوازه، وإن كان بعد الشروع لم يملك الامتناع، لأنه إذا استشعر بالغلبة امتنع، فلا يحصل المقصود. انتهى. فقد ظهر مما قلناه لزوم ما حكم به. وأما اشتراط الأهلية، فكتب الأصحاب طافحة بها، لصحة حكمه ولزومه. وحكى شارح التنبيه من أئمة الشافعية عليها الاتفاق؛ وأما النص فيه بالإحسان، فذلك إلى الرحمن. سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عن قوله في الإنصاف، بعد مسألة التحكيم: وكذا يجوز أن يتولى متقدمو الأسواق والمساجد، الوساطات والصلح عند الفورة والمخاصمة؟ فأجاب: الذي يظهر أن المراد بقوله: متقدمو الأسواق والمساجد: الذين يفوض إليهم ولي الأمر النظر على أهل الأسواق، بإلزامهم بالشرع، وإنصاف بعضهم من بعض، ونحو ذلك، وكذلك الذين يجعل لهم النظر على المساجد، بصيانتها وإصلاحها، والاحتساب على المصلين بها، والمؤذنين ونحو ذلك. فمن فوض إليه شيء من ذلك، جاز له - على ما ذكره ابن عقيل - تولي الوساطات; والذي يظهر أن المراد بالوساطات: التوسط بين المتنازعين; والصلح عند الفورة، لعل المراد بالفورة: أنه إذا حصل تنازع بين أهل السوق أو الجزء: 7 ¦ الصفحة: 546 المسجد، يجوز لهم التوسيط، والصلح بين المتنازعين فوراً حال التنازع، لأجل كف الشر في الحال. وقال الشيخ سليمان بن سحمان: قال ابن القيم، رحمه الله: وقوله: " البينة على المدعي، واليمين على من أنكر " 1، البينة في كلام الله، وكلام رسوله، وكلام الصحابة: اسم لكل ما يبين الحق، فهي أعم من البينة في اصطلاح الفقهاء، حيث خصوها بالشاهدين، أو الشاهد واليمين، ولا حجة في الاصطلاح، ما لم يتضمن حمل كلام الله ورسوله عليه، فيقع بذلك الغلط في فهم النصوص، وحملها على غير مراد المتكلم منها، وقد حصل بذلك للمتأخرين أغلاط شديدة في فهم النصوص. وقال أيضاً: لما ذكر أنه يقضي بالبينة التي تبين الحق، وهي الدليل الذي يدل عليه، والشاهد الذي يشهد به، بحسب الإمكان، قال، رحمه الله: بل الحق أن الشاهد الواحد إذا ظهر صدقه، حكم بشهادته وحده؛ و"قد أجاز النبي صلى الله عليه وسلم شهادة الشاهد الواحد، لأبي قتادة بقتل المشرك، ودفع إليه سلبه بشهادته وحده، ولم يُحَلِّف أبا قتادة، فجعله بينة تامة" - إلى أن قال - ولهذا كان من تراجم بعض الأئمة على حديثه: الحكم بشهادة الشاهد الواحد إذا عرف صدقه. انتهى قوله على حديثه، يعني حديث شهادة خزيمة بن ثابت وحده. فتبين مما ذكره ابن القيم، رحمه الله: أن البينة: ما أبان   1 الترمذي: الأحكام (1341) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 547 الحق، والدليل ما دل عليه، سواء كان بشهادة رجلين، أو رجل واحد مع معرفة صدقه، والله أعلم. [صفة يمين الوارث] سئل الشيخ حمد بن ناصر بن معمر، رحمه الله: عما إذا ادعى رجل على وارث بدين، ولا بينة، فما صفة يمين الوارث؟ فأجاب: إذا لم يكن مع المدعي بينة، وأراد أن يستحلفه الوارث، فإنه يحلف على نفي العلم; قال في المغني: والأيمان كلها على البت والقطع، إلا على نفي فعل الغير، فإنها على نفي العلم لا غير. وصفة يمين المنكر: يحلف على البت والقطع، لأن الأيمان كلها على البت والقطع، إلا على نفي فعل الغير. وإذا تداعى اثنان ولا بينة معهما، وصارت اليمين على المنكِر، فإن حلف قضى له، وإن أبى أن يحلف فهل يقضي عليه بنكوله؟ أم ترد اليمين على المدعي؟ فيه قولان للعلماء، هما روايتان عن أحمد: إحداهما: لا ترد، بل إذا نكل من توجهت عليه اليمين، قضى عليه بالنكول، وهو قول أبي حنيفة. والرواية الأخرى: أن اليمين ترد على المدعي، فيقال له رد اليمين على المدعي، فإن ردها حلف المدعي، وحكم له بما ادعاه؛ اختاره أبو الخطاب، وقال: قد صوبه أحمد، وما هو ببعيد، يحلف ويستحق. واختار هذا القول ابن القيم في الطرق الحكمية، والموفق، وهو قول أهل الجزء: 7 ¦ الصفحة: 548 المدينة. وروي ذلك عن علي رضي الله عنه، وبه قال شريح والشعبي، والنخعي وابن سيرين، ومالك في المال خاصة; وقال الشافعي: بل في جميع الدعاوى. وقال الشيخ تقي الدين: مع علم مدع وحده بالمدعى به، لهم ردها، وإذا لم يحلف لم يأخذ، كالدعوى على ورثة ميت حقاً عليه بتركته، وإن كان المدعى عليه هو العالم بالمدعى به، دون المدعي، مثل أن يدعي الورثة والوصي على غريم الميت، فينكر، فلا يحلف المدعي. وأما إن كان المدعي يدعي العلم، والمنكر يدعي العلم، فهنا يتوجه القولان، يعني: المتقدمين: هل يقضي بالنكول، أم ترد؟ [رد اليمين على المدعي] سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: هل ترد اليمين على المدعي؟ فأجاب: وأما رد اليمين على المدعي إذا نكل المدعى عليه، فبعض الفقهاء يرى ذلك، وبعضهم لا يراه، ولا يتبين لي الراجح من القولين. وأجاب الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن، رحمهم الله: هل يؤخذ بقول من قال: ترد اليمين على المدعي، فنعم، إذا طلب ذلك المدعى عليه، كما رجحه ابن القيم في الإعلام. سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمدن رحمهما الله: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 549 ادعت امرأة على رجل أنه زوجها فأنكر، هل تلزمه يمين؟ فأجاب: نعم إذا ادعت أنه زوجها فأنكر، لزمته اليمين. وأجاب الشيخ حسن بن حسين بن الشيخ: نعم يستحلف، ولا تنكح رجلاً غيره إلا بطلاقه، ولا يحسب من الطلقات الثلاث؛ فإذا طلقها فلها نكاح غيره. [شروط الشاهد] سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: هل ظاهر المسلم العدالة؟ فأجاب: الذي يترجح عندنا من أقوال العلماء: ظاهر المسلم العدالة، كما في حديث عمر: "والمسلمون عدول بعضهم على بعض، إلا مجرباً عليه شهادة زور، أو مجلود في حد"، فمن ادعى الجرح كلف البينة. وسئل الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين، رحمه الله: ما صفة العدالة باطناً؟ وهل يعتبر اليوم في الشاهد ما ذكروه في صفة العدل من الشروط؟ فأجاب: ليس مرادهم باطناً معرفة ما في القلوب، فهذا الأمر لا يعلمه إلا الله، لكن متى طالت صحبة الإنسان، أو كثرت معاملته، عرف من أحواله ما يستدل به على حسن باطنه، فهذا معنى العدالة في الباطن; ولهذا قالوا في التزكية: خبرة المزكي للشاهد خبرة باطنة، بصحبة ومعاملة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 550 ونحوهما. قال في الشرح: ويحتمل أن يريد الأصحاب بما ذكروه: أن الحاكم إذا علم أن المعدِّل لا خبرة له، لم يقبل شهادته بالتعديل، كما فعل عمر رضي الله عنه، ويحتمل أنهم أرادوا: أنه لا يجوز للمعدل الشهادة بالعدالة، إلا أن تكون له خبرة باطنة. فأما الحاكم إذا شهد عنده العدل بالتعديل، فله أن يقبل الشهادة من غير كشف، وإن استكشف الحال كما فعل عمر فحسن. انتهى. قال الزركشي: لا يقبل التعديل إلا ممن له خبرة باطنة، ومعرفة بالجرح والتعديل، غير متهم بعصبية ولا غيرها; وقال: معنى الخبرة الباطنة، كما جاء عن عمر رضي الله عنه: "جيئا بمن يعرفكما. فأتيا برجل، فقال له عمر: تعرفهما؟ قال: نعم; فقال عمر: صحبتهما في السفر الذي تبين فيه جواهر الناس؟ قال: لا. قال: عاملتهما في الدنانير والدراهم التي تقطع فيها الرحم؟ قال: لا. قال: كنت جاراً لهما، تعرف صباحهما ومساءهما؟ قال: لا. قال: يا ابن أخي، لست تعرفهما، جيئا بمن يعرفكما". وأما اعتبار الصفات المذكورة في كتب الفقهاء في الشاهد، فلا يمكن اعتبارها في هذه الأزمنة، إذ لو اعتبرت لم يمكن الحكم بين الناس. قال أبو العباس، رحمه الله: العدل في كل زمان ومكان الجزء: 7 ¦ الصفحة: 551 وطائفة بحسبها، فيكون الشاهد في كل قوم من كان ذا عدل فيهم، وإن كان لو كان في غيرهم لكان عدلاً على وجه آخر؛ وبهذا يمكن الحكم بين الناس، وإلا فلو اعتبر في كل طائفة ألا يشهد عليهم إلا من يكون قائماً بأداء الواجبات، وترك المحرمات كما كان الصحابة، لتعطلت الشهادات كلها، أو غالبها. وقال أبو العباس في موضع آخر: إذا فسر الفاسق في الشهادة بالفاجر، أو بالمتهم، فينبغي أن يفرق بين حال الضرورة وعدمها، كما قلنا في الكافر. وقال في موضع آخر: ويتوجه أن تقبل شهادة المعروفين، وإن لم يكونوا ملتزمين للحدود عند الضرورة، مثل الجيش وحوادث البدو، وأهل القرية الذين لا يوجد فيهم عدل; وله أصول، منها: شهادة أهل الذمة في الوصي في السفر إذا لم يوجد غيرهم، وشهادة بعضهم على بعض في قول، وشهادة النساء فيما لا يطلع عليه الرجال. انتهى. ويشهد لكلام شيخ الإسلام: ما ذكروه في القاضي إذا تعذرت عدالته؛ وقد قال الشيخ: الولاية لها ركنان: القوة، والأمانة. فالقوة في الحكم ترجع إلى العلم بالعدل، وتنفيذ الحكم; والأمانة ترجع إلى خشية الله; قال: وهذه الشروط تعتبر حسب الإمكان. ويجب تولية الأمثل فالأمثل; وقال: على هذا يدل كلام أحمد وغيره: فيولى لعدمٍ أنفع الجزء: 7 ¦ الصفحة: 552 الفاسقين، وأقلهما شراً، وأعدل المقلدين، وأعرفهما بالتقليد; قال في الفروع: وهو كما قال، وإلا تعطلت الأحكام، واختل النظام. انتهى. قال القرافي: ونص ابن أبي زيد: على أنا إذا لم نجد في جهة العدل، أقمنا أمثلهم وأقلهم فجوراً للشهادة عليهم، ويلزم مثل ذلك في القضاء وغيره، لئلا تضيع المصالح; قال القرافي: وما أظن أحداً يخالفه في هذا، فإن التكليف مشروط بالإمكان. [متى ترد شهادة الشاهد] سئل الشيخ حسن بن حسين بن الشيخ محمد: متى ترد شهادة الشاهد؟ هل ترد بجرحه قبل تحمل الشهادة وقبل أدائها؟ أو ترد شهادته بعد التحمل وقبل الأداء؟ فأجاب: إنه متى وجد الجرح، سواء كان قبل التحمل أو بعده، إذا كان قبل الأداء ردت به شهادة الشاهد، إلا أن يجرح بجرح سابق قد تاب منه قبل تحمل الشهادة، فإنه لا يضره والحالة هذه، لأن التوبة ماحية لما قبلها. وسئل: هل تقدم شهادة الجرح على شهود التعديل؟ أو بالعكس؟ فأجاب: قال في المقنع: وإن عدله اثنان، وجرحه اثنان، فالجرح أولى; قال في الإنصاف: هذا بلا نزاع. انتهى. ومراده في المذهب، وهو مذهب الشافعي، وأبي حنيفة، لأن الجارح معه زيادة علم خفيت على المعدل، فوجب تقديمه، لأن التعديل يتضمن ترك الذنوب الجزء: 7 ¦ الصفحة: 553 والمحارم، والجارح مثبت لوجود ذلك، والإثبات مقدم على النفي؛ قاله في المغني، لكن قال في حاشية الإقناع: وإن قال الذي عدله: ما جرحاه به قد تاب منه، قدم التعديل، لأن بينته ناقلة، وكذا إذا عصى في بلد وانتقل عنه، فجرحه اثنان في بلده، وزكاه اثنان في البلد الذي انتقل إليه، قدم التزكية. انتهى. فاعلم ذلك. سئل الشيخ سعيد بن حجي: هل يحل عرض أحد من المسلمين؟ فأجاب: الغيبة محرمة بالإجماع، وهي: ذكرك أخاك بما يكرهه إذا كان حاضراً، ويباح منها ستة أسباب: الأول: الظلم، فيجوز للمظلوم أن يقول لمن قدر على إنصافه: فلان ظلمني، وفعل بي كذا وكذا، ونحو ذلك. الثاني: الاستعانة على تغيير المنكر، ورد العاصي إلى الصواب، فيقول لمن يرجو قدرته على إزالة المنكر: فلان يفعل كذا، فازجره عما يعمل. الثالث: الاستفتاء، بأن يقول للمفتي: ظلمني أبي أو أخي، أو فلان، بكذا ونحو ذلك؛ فهذا جائز للحاجة. الرابع: تحذير المسلمين من الشر ونصيحتهم، فمنها: جرح المجروحين من الرواة والشهود; ومنها: إذا استشارك إنسان في مصاهرة أو معاملة ونحو ذلك، فيجب عليك أن تذكر له ما تعلم منه، على وجه النصيحة; ومنها: إذا رأيت من يشتري سلعة معيبة، فعليك الجزء: 7 ¦ الصفحة: 554 أن تبين للمشتري، وهذا على كل من علم بالعيب وجب عليه بيانه. الخامس: أن يكون مجاهراً بالفسق أو ببدعة، كالمجاهر بشرب الخمر، وخيانة الأموال ظلماً، وتولي الأمور الباطلة، فيجوز ذكره بما يجاهر به، ويحرم ذكره بغيره من العيوب، إلا أن يكون بسبب آخر. السادس: التعريف، فإذا كان إنسان معروفاً بلقب، كالأعرج والأعمى ونحوهما، جائز تعريفه بذلك بنية التعريف لا النقص. فهذه الستة ذكرها العلماء مما يباح بها الغيبة، ودلائلها مشهورة في الأحاديث. وسئل بعضهم: هل يجوز اغتياب الرجل إذا كان ظاهر عليه أنواع الفسق، كلبس الحرير والتلفظ بما لا يحل، أم لا؟ فأجاب: أجمع العلماء على تحريم الغيبة، لقول الله تعالى: {وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ} [سورة الحجرات آية: 12] ، وفي الصحيحين في خطبة النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر، في حجة الوداع: " إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا " 1، وفي سنن أبي داود، والترمذي، عن عائشة رضي الله عنها قالت: " قلت للنبي صلى الله عليه وسلم: حسبك من صفية كذا وكذا; قال بعض الرواة:   1 البخاري: الحج (1741) , ومسلم: القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1679) , وأحمد (5/37, 5/49) , والدارمي: المناسك (1916) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 555 تعني قصيرة. قال: لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته " 1، أي: غيرته ريحاً أو طعماً، لشدة نتنها. وفي صحيح مسلم والسنن لأبي داود، والترمذي والنسائي، عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " تدرون ما الغيبة؟ قالوا: الله ورسوله أعلم; قال: ذكرك أخاك بما يكره. قال: أرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته " 2؛ وهذا هو حد الغيبة، وهو عام. قال النووي: ولا يستثنى من ذلك، إلا ما دعا إليه غرض صحيح شرعي، لا يتوصل إليه إلا بذلك، وذلك ستة أسباب: الأول: التظلم عند الحاكم أو السلطان، بأن يقول: فلان ظلمني، أو أخذ مالي ونحوه. الثاني: الاستعانة بقادر على تغيير منكر، كقوله: فلان يفعل كذا فانهه، ونحوه. قلت: الأولى إبدال لفظ الاستعانة، بالإخبار أو نحوه تأدباً. الثالث: الاستفتاء، كقول: فعل بي أبي، أو ابني، أو أخي، فهل ذلك له؟ الرابع: أن يكون مجاهراً بفسقه أو بدعته، كالمجاهر بشرب الخمر، أو أخذ الأموال ظلماً; قلت: أو بالركون إلى الكفار، أو لبس الحرير، ونحو ذلك، فيجوز ذكر ما فيه، كأن تقول: يشرب الخمر، يلبس الحرير، يوالي الكفار; وإنما يجوز مثل ذلك حميّة لله.   1 الترمذي: صفة القيامة والرقائق والورع (2502) , وأبو داود: الأدب (4875) , وأحمد (6/189) . 2 مسلم: البر والصلة والآداب (2589) , والترمذي: البر والصلة (1934) , وأبو داود: الأدب (4874) , وأحمد (2/230, 2/384, 2/386, 2/458) , والدارمي: الرقاق (2714) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 556 قال ابن القيم، رحمه الله، في فوائد غزوة تبوك: ومنها: جواز الطعن على الرجل، بما يغلب على اجتهاد الطاعن، حميّة أو ذباً عن الله ورسوله؛ ومن هذا: طعن ورثة الأنبياء وأهل السنة، في أهل الأهواء والبدع، لله لا لحظوظهم وأغراضهم. انتهى. فظهر الجواب عن الإيراد، فإن ظهور أنواع الفسق على الرجل أمر دون ما تقدم ذكره، فإذا جاز الطعن على هؤلاء فذاك أولى. السبب الخامس: التعريف، إذا كان لإنسان لقب لا يعرف إلا به، كالأعمى والأعرج، فيجوز ذكره تعريفاً، وأما تنقصه فحرام اتفاقاً. السادس: تحذير المسلمين ونصيحتهم، كالذي في كتب الجرح والتعديل، فذلك واجب، وكما إذا استشارك مسلم في مصاهرة إنسان، أو مشاركته، أو إيداعه، فإنه يجب أن تذكر ما يحصل به المقصود؛ فإن كفى التعريض لم يجز التصريح، وإلا جاز منه ما يحصل به الغرض؛ وكذا إذا رأيت متعلماً يتردد إلى مبتدع، وخفت عليه الضرر، فعليك نصيحته؛ وكذلك إذا كان لإنسان ولاية، لا يقوم بها على وجهها، إما بأن لا يكون صالحاً، أو يكون فاسقاً، أو مغفلاً، فيجب ذكر ذلك لمن له ولاية عامة، ليزيله. انتهى كلام النووي، بتلخيص وتصرف. سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عن حديث رواه الجزء: 7 ¦ الصفحة: 557 البيهقي: "ليس في أهل البدع غيبة"، هل يؤخذ منه جواز غيبة أهل البدع على الإطلاق؟ وما جنس البدع التي تبيح العرض؟ وحديث: "من ألقى جلباب الحياء" ... إلخ؟ فأجاب: وأما الأثر المروي عن الحسن، رحمه الله، قوله: "ليس لأهل البدع غيبة"، فمعناه صحيح؛ نص العلماء على جواز غيبة أهل البدع، وأطلقوا، فيتناول كل مبتدع; وبعضهم: خص ذلك بالداعي إلى البدعة. قال الشيخ تقي الدين، بعدما انجر كلامه في الغيبة، قال: لكن يباح من ذلك ما أباحه الله ورسوله، وهو ما يكون على وجه القصاص والعدل، وما يحتاج إليه لمصلحة الدين ونصيحة المسلمين؛ فالأول: كقول المشتكي المظلوم: فلان ضربني، وأخذ مالي، ومنعني حقي - إلى أن قال - وكذلك بيان أهل العلم من غلط في أمر رآه في أمر الدين، من المسائل العلمية والعملية؛ فهذا إذا تكلم فيه الإنسان بعلم وعدل، وقصد النصيحة فالله يثيبه على ذلك، لا سيما إذا كان المتكلم فيه داعياً إلى بدعته، فهذا يجب بيان أمره للناس، فإن دفع شره عنهم أعظم من دفع شر قاطع الطريق. انتهى. فدل كلامه على جواز ذلك في جميع أهل البدع، بل استحبابه بالشرط الذي ذكره، وأن ذلك واجب في حق الداعية إلى بدعته. وذكر النووي في رياض الصالحين، ستة أبواب تباح الجزء: 7 ¦ الصفحة: 558 فيها الغيبة، ذكرها عن العلماء، قال: ومنها إذا رأى متفقهاً يتردد إلى مبتدع أو فاسق يأخذ عنه العلم، وخاف أن يتضرر المتفقه بذلك، فعليه نصيحته ببيان حاله، بشرط أن يقصد النصيحة - إلى أن قال - الخامس: أن يكون مجاهراً بفسقه وبدعته ... إلى آخر كلامه. واستدل لذلك بأحاديث، منها: حديث عائشة، رضي الله عنها: " أن رجلاً استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ائذنوا له، بئس أخو العشيرة " 1، قال: واحتج به البخاري في جواز غيبة أهل الريب والفساد، وقال الحافظ ابن حجر في شرح هذا الحديث، بعد كلام سبق: كل من اطلع من حال شخص على شيء وخشي أن غيره يغتر بجميل ظاهره، فيقع في محذور ما، فعليه أن يطلعه على ما يحذر من ذلك، قاصداً نصيحته. والإمام أحمد، رحمه الله - مع ورعه - قد تكلم في أناس بأعيانهم، وحذر منهم، ومنهم من ليس معروفاً بالبدعة، مثل كلامه في الحارث المحاسبي، وقال: لا يغرنك لينه وخشوعه، فإنه رجل سوء، لا يعرفه إلا من خبره; وكلامه، رحمه الله، في أهل البدع والتحذير منهم كثير. وأما ما روي: "من ألقى جلباب الحياء، فلا غيبة له"، فالمراد به: المجاهر بالمعصية، فإنه يجوز ذكره بما يجاهر به، كما تقدم من كلام النووي، ونقله ذلك عن العلماء.   1 البخاري: الأدب (6054) , ومسلم: البر والصلة والآداب (2591) , والترمذي: البر والصلة (1996) , وأبو داود: الأدب (4791, 4792) , وأحمد (6/38, 6/79, 6/158, 6/173) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 559 قال الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد، رحمهما الله: وأما اليمين مع بينة كاملة ... إلخ؟ فنقول: عن ابن عباس، رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لو يعطى الناس بدعواهم، لادعى رجال أموال قوم ودماءهم؛ ولكن البينة على المدعي، واليمين على من أنكر " 1، قال النووي: حديث حسن، رواه البيهقي وغيره هكذا، وبعضه في الصحيحين. وأصله في الصحيحين: عن ابن عباس، رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لو يعطى الناس بدعواهم، لادعى أناس دماء قوم وأموالهم؛ ولكن اليمين على المدعى عليه " 2، وفيهما: عن ابن عمر، رضي الله عنهما: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى أن اليمين على المدعى عليه " 3. وقد استدل العلماء بقوله: " اليمين على المدعى عليه " 4 على أن المدعي لا يمين عليه، وإنما عليه البينة، وهو قول الأكثرين; قال ابن رجب في شرح هذا الحديث: روي عن علي رضي الله عنه "أنه حلّف المدعي مع بينته: إن شهوده شهدوا بحق"، وفعله أيضاً شريح، وعبد الله بن عتبة بن مسعود، وابن أبي ليلى، وسوار العنبري، وعبد الله بن الحسن، ومحمد بن عبد الله الأنصاري، وروي عن النخعي أيضاً. وقال إسحاق: إذا استراب وجب هذا، وسأل مهنا الإمام أحمد عن هذه المسألة، فقال أحمد: قد فعله علي،   1 البخاري: تفسير القرآن (4552) , ومسلم: الأقضية (1711) , والنسائي: آداب القضاة (5425) , وابن ماجة: الأحكام (2321) , وأحمد (1/363) . 2 البخاري: تفسير القرآن (4552) , ومسلم: الأقضية (1711) , والنسائي: آداب القضاة (5425) , وابن ماجة: الأحكام (2321) , وأحمد (1/363) . 3 البخاري: الرهن (2514) , ومسلم: الأقضية (1711) , والترمذي: الأحكام (1342) , وأبو داود: الأقضية (3619) . 4 البخاري: الرهن (2514) , ومسلم: الأقضية (1711) , والترمذي: الأحكام (1342) , وأبو داود: الأقضية (3619) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 560 فقال: أيستقيم هذا؟! فقال: بل فعله علي; فأثبت القاضي هذا رواية عن أحمد، لكنه حملها على الدعوى على الغائب والصبي، وهذا لا يصح، لأن علياً إنما حلف المدعي مع بينته على الحاضر معه، وهؤلاء يقولون: اليمين لتقوية الدعوى، إذا ضعفت باسترابة الشهود، وكاليمين مع الشاهد الواحد. وكان بعض المتقدمين: يحلف الشهود إذا استرابهم أيضاً، ومنهم سوار العنبري قاضي البصرة، وجوز ذلك القاضي أبو يعلى من أصحابنا لوالي المظالم دون القضاء. وقد قال ابن عباس في المرأة الشاهدة على الرضاع: "إنها تستحلف"، وأخذ به الإمام. وقد دل القرآن على استحلاف الشهود، عند الارتياب بشهادتهم بالوصية في السفر، في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ} الآية [سورة المائدة آية: 106] . انتهى. إذا عرفت ذلك، فالذي يتوجه: أن البينة الكاملة العادلة، التي لا يستريب الحاكم في شهادتها، لا يحلف المدعي معها، لقوله صلى الله عليه وسلم: " شاهداك أو يمينه " 1، فدل على الاكتفاء بالشاهدين. وأما إذا استراب الحاكم الشهود وخصوصاً في هذه الأزمان، فهنا يتوجه القول بتحليف المدعي، كما فعله علي رضي الله عنه وغيره، ويتوجه أيضاً: تحليف الشهود مع الريبة.   1 البخاري: الرهن (2516) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 561 وسئل أيضاً: الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: عن امرأة ادعت أن زوجها طلقها ثلاثاً، وشهد معها أبوها، والزوج مُنكِر؟ فأجاب: قال ابن القيم في إعلام الموقعين: وفي حديث عمرو بن شعيب، إذا شهد الشاهد الواحد، وحلف الزوج أنه لم يطلقن لم يحكم عليه، وإن لم يحلف حلفت المرأة ويقضى عليه؛ وقد احتج الأئمة الأربعة، والفقهاء قاطبة، بصحيفة عمرو بن شعيب، ففي هذا الحديث: أنه يقضى بشاهد وما يقوم مقام الشاهد من النكول، ويمين المرأة، بخلاف ما إذا أقامت شاهداً واحداً، وحلف الزوج أنه لم يطلق، فيمين الزوج عارضت شهادة الشاهد، وترجح جانبه بكون الأصل معه. وأما إذا نكل الزوج، فإنه يجعل نكوله مع يمين المرأة كشاهد آخر، ولكن هنا لم يقض بالشاهد ويمين المرأة ابتداء، لأن الرجل أعلم بنفسه هل طلق أم لا؟ فإذا نكل كان ذلك دليلاً ظاهراً جداً على صدق المرأة، فلم يقض بالنكول وحده ولا يمين المرأة، وإنما قضى بالشاهد المقوى بالنكول ويمين المرأة. انتهى ملخصاً. فأنت احكم بينهم بهذا الحكم. ويذكر لي محمد بن سلطان: أن والدي الشيخ، رحمه الله، يقول: هذا الذي نفتي به إذا وقعت المسألة. وسئل الشيخ عبد الله أبا بطين، رحمه الله: إذا أقامت الجزء: 7 ¦ الصفحة: 562 المرأة أن زوجها الغائب طلقها ثلاثاً، أو أن فلاناً الغائب زوج لها ... إلخ؟ فأجاب: فهمنا من كلامهم فيما إذا شهدت بينة شرعية، بأن فلاناً طلق زوجته فلانة ثلاثاً، أو شهدت به، بسبب يفسخ به النكاح لتحريمها عليه، أن الحاكم يسمع تلك الشهادة، ويحكم بها مطلقاً، ولا يشترط لسماع البينة والحكم بها تقدم دعوى من الزوجة أو وليها، لأن شهادة الشهود به دعوى؛ وكذا حكم حقوق الله تعالى، تسمع الشهادة بها من غير تقدم دعوى، وكذا العتق؛ قال القاضي في التعليق: في حقوق الله شهادة الشهود بها دعوى، قيل لأحمد في بينة الزنى تحتاج إلى مدع؟ فذكر خبر أبي بكرة، وقال: لم يكن مدع. ونص أحمد أيضاً: على قبول بينة العتق ولو أنكر العبد، وذكره في الوجيز والتبصرة، واقتصر عليه في الفروع; وقال في الإقناع: وتقبل بينة عتق، ولو أنكره - أي: العتق - عبد، قال في شرحه: لأنه حق لله، وكذا بينة بطلاق، قال: وتصح الشهادة به وبحق الله، كالعبادات والحدود والصدقة والكفارة، من غير تقدم دعوى بذلك، فشهادة الشهود به دعوى؛ وقال: وتقبل شهادة المدعي فيه، أي: في حق الله تعالى، لأنه لا يجر إلى نفسه نفعاً ولا يدفع عنها ضرراً، وهكذا عبارة من اطلعنا على كلامه الجزء: 7 ¦ الصفحة: 563 من الأصحاب. وصرحوا: بأنه إذا شهدت البينة شهادة صحيحة بحق الله تعالى، أو حق لآدمي غير معين، واتضح الحكم، حكم بها، وإن لم يسأله أحد الحكم؛ والطلاق متضمن الحقين، فَلِتَضَمُّنه حق الله، جاز سماع البينة به من غير تقدم دعوى، بل ومع إنكار الزوجة وقوع الطلاق، كما صرح به شارح الإقناع، ولتضمنه حق الآدمي، جاز الحكم به على الغائب، بعد ثبوت البينة الشرعية. وذكر الأصحاب في القضاء سماع الحاكم البينة، والحكم بها في حقوق الآدميين، ولم يستثنوا منها شيئاً، كما استثنوا في اليمين في الدعاوى; وقال في باب طريق الحكم وصفته: تصح الشهادة، ويحكم بها في حق الله تعالى من غير تقدم دعوى، وذكروا من ذلك الطلاق. وأما إذا ادعت المرأة على رجل نكاحاً، لطلب نفقة أو مهر، وأقامت بينة بذلك، سُمِعت بينتها، وحُكم بها، وثبت لها ما تضمنه النكاح من حقوقها، كالمهر والنفقة وغيرها؛ قاله الأصحاب وأطلقوا، فيكون ذلك من حقوق الآدميين التي يحكم بها على الغائب، فدل كلامهم على جواز الحكم بذلك، وإن كان المحكوم عليه غائباً، لأن هذا من حقوق الآدميين. وأما رجوع الشاهد بعد الحكم، فالأمر فيه ظاهر، وهو: أن الحكم لا ينقض برجوعه عند جميع الجزء: 7 ¦ الصفحة: 564 العلماء. وفيه من التفصيل: وإن بان فسق الشهود نقض الحكم على المشهور في المذهب، وعن أحمد رواية أخرى: لا ينقض. وأما الحاكم، فإنه يرفع الخلاف حكمه، ولا ينقض من حكمه إلا ما خالف نص كتاب أو سنة أو إجماع، وكذلك لو بانت البينة من فروع المشهود له وأصوله، والحاكم لا يرى الحكم بشهادتهم، فإنه ينقض حكمه بنفسه; وذكر بعض متأخري الأصحاب: أنه ينقض حكم المقلد بما يخالف مذهب إمامه. وقال بعضهم: ينقض إذا حكم بمرجوح في مذهبه. وقال بعضهم: لا ينقض ما لم يخالف نصاً أو إجماعاً، أو قياساً جلياً. ومن أثناء جواب لأبي العباس، قال بعد كلام سبق: لأن المأموم يعتقد أن ما فعله الإمام سائغ له، وأنه لا إثم عليه فيما فعل، فإنه مجتهد أو مقلد ومجتهد، فهو يعتقد صحة صلاته، بل لو حكم بمثل هذا لم يجز له نقض حكمه، بل كان ينفذه. انتهى. وسئل عن قولهم: فعل الحاكم حكم، كتزويجه يتيمة؟ فأجاب: الحاكم إذا فعل ذلك صار حكماً منه يرفع الخلاف، ولأن حكم الحاكم في المسائل المختلف فيها يرفع الخلاف، فكذا فعله، نحو ما إذا زوج صغيرة بنت الجزء: 7 ¦ الصفحة: 565 تسع بإذنها، صار حكماً منه بصحة هذا النكاح، فلا يجوز لمن لا يرى جواز تزويج الصغيرة فسخ هذا النكاح، ونحو ذلك من المسائل المختلف فيها؛ فلا ينقض من حكم الحاكم إلا ما خالف نص الكتاب أو نص سنة، أو إجماعاً قطعياً، أو إذا حكم خلاف ما يعتقده. وسئل الشيخ أيضاً: إذا ادعى شخص عند الحاكم بأنه حكم له بكذا ولم يذكره الحاكم، فشهد به شاهدان؟ فأجاب: المذهب أنه يقبل شهادتهما، ما لم يتيقن صواب نفسه، وهذا مذهب مالك; ومذهب أبي حنيفة والشافعي: لا يقبل شهادتهما، ولا يرجع إلى قولهما، حتى يذكر أنه حكم به; وظاهر كلام الأصحاب: أنه لا بد من شاهدين، فلا يكفي الشاهد ويمين المدعي للحكم، وقد احتجوا لما ذكروه، بقصة ذي اليدين؛ واقتصارهم على الشاهدين دليل على أنه لا يكتفى بغيرهما، ولم يذكر في الفروع، ولا في الإنصاف خلافاً، فدل على اعتبار الشاهدين، لا سيما والخلاف في عدم قبول الشاهدين مشهور، والفقهاء يحكون الخلاف في قبول الشاهدين وعدمه، ولم يذكروا الشاهد واليمين، فدل على أنه لا خلاف في عدم قبول الشاهد مع اليمين. سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ: عن رجل ادعى على رجل دعاوى ولم يعترف الغريم بشيء، وخرج المدعي الجزء: 7 ¦ الصفحة: 566 على أن يقيم بينة، واعتقل المدعى عليه ولم يقم بينة بعد أربعة أيام أو خمسة، فهل يجوز تطاول المدة في البينة؟ أم تكون هذه البينة إلى مدة؟ فأجاب: لا يجوز مثل هذا الحبس كما ذكر، بل قد نص أئمة المذاهب الأربعة: أنه لا يجوز مثل هذا الحبس; وإنما تنازعوا: هل يطلب من المدعى عليه كفيل إلى ثلاثة أيام ونحوها، إذا قال المدعي: لي بينة حاضرة؟ وتنازعوا فيما إذا أقام حجة شرعية ولها شروط، مثل أن يقيم بينة ولم يزكها، فيطلب حبس الخصم حتى يأتي بشرطها، على قولين في مذهب أحمد والشافعي وغيرهما; فأما هذا الحبس، فلا يجوز باتفاق العلماء فيما أعلم، والله أعلم. سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عن العمل بالخط في إثبات الوقف؟ وهل ينزع العقار ونحوه ممن هو في يده بخط قاض معروف، ويحكم به بمجرد الخط؟ فأجاب: الذي يظهر أن هذا مبني على جواز العمل بمجرد الخط في الحكم والشهادة. ومن المعلوم: أن الذي عليه أكثر متقدمي الأصحاب، أنه لا يجوز العمل بمجرد الخط، وقد علمتم ما شرطوه في كتاب القاضي إلى القاضي، وغير ذلك. والذي عليه عمل المتأخرين: جواز العمل بالخط، والكلام الذي نقلتموه مضمونه عدم جواز العمل بالخط، لأنه أخرجه عن كونه بينة، ولا شك أن هذا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 567 هو مقتضى قول أكثر المتقدمين. وأما ما اعتمده كثير من المتأخرين، من العمل بالخط، فمقتضى قولهم: جواز العمل بذلك والاعتماد عليه، بشرط تحقق الحاكم أنه خط القاضي المعروف خطه وثقته، فلا يجوز الاعتماد على خط لا يتيقنه، ولا يعرف ثقة كاتبه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 568 باب القسمة سئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله: عن الضرر المانع من القسمة؟ فأجاب: وأما الضرر المانع من القسمة، فهو إذا نقص قيمته مفرداً فهو يمنع; والنخل الذي بين الشركاء، أحد يشتهي القسمة، وأحد ما يشتهي: فإذا كان على بعضهم مضرة لم يقسم، وأما قسم المال جزافاً، فأرجو أنه لا بأس به، كما في ثمرة النخل. وأجاب ابنه: الشيخ عبد الله: قال العلماء: القسمة نوعان: قسمة تراض، وهي: ما فيها ضرر، أو رد عوض من أحدهما، كالدور الصغار والحمام، والبيوت المتلاصقة التي لا يمكن قسمة كل عين مفردة، والأرض التي في بعضها بئر وبناء ونحوه لا يمكن قسمته بالأجزاء، والتعديل إذا رضوا بقسمتها أعياناً بالقيمة، جاز لأن الحق لهم لا يخرج عنهم، وقد رضوا بقسمته؛ وهذه جارية مجرى البيع الجزء: 7 ¦ الصفحة: 568 لا يجبر عليها الممتنع، ولا يجوز فيها إلا ما يجوز في البيع، لما روى مالك في الموطإ عن عمرو بن يحيى المازني عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا ضرر ولا ضرار " 1. قال المجد: الذي تحرر عندي فيما فيه رد، أنه بيع فيما يقابل الرد، أي: العوض الذي رد من أحدهما على الآخر، وإفراز في الباقي. انتهى. ويؤيده قول القاضي في التعليق، وصاحب المبهج، والموفق في الكافي: البيع ما فيه رد عوض; وإن لم يكن فيها رد عوض، فهي إفراز النصيبين، وتمييز الحقين، وليست بيعاً. فعلى القول أنها إفراز، يصح قسم وقف بلا رد، وقسمة ما بعضه وقف بلا رد، من رب الطلق، ولحم، ورطب بمثله، وقسمة ثمر يخرص خرصاً، وما يكال وزناً، وما يوزن كيلاً؛ قال في الترغيب: في الأصح، وتفرقهما قبل القرض فيها، ولا يحنث من حلف: لا يبيع. وعلى القول بأنها بيع، تنعكس الأحكام المتقدمة كلها. قالوا: ولا شفعة مطلقاً، أي على كلا القولين، لجهالة ثمن، ويفسخ بعيب. وأما المواريث التي تقاسموها في الجاهلية على خلاف الشرع، ثم بعد هذا أسلموا، فلا يطالبون برد القسمة بعد الإسلام إلا برضى.   1 ابن ماجة: الأحكام (2340) , وأحمد (5/326) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 569 وأجاب الشيخ حمد بن ناصر: قسمة الإجبار، هي التي لا ضرر على أحد من الشركاء، ويمكن تعديل السهام من غير رد عوض؛ فإذا كان فيها ضرر لم يجبر الممتنع، لقوله صلى الله عليه وسلم: " لا ضرر ولا ضرار" 1. فإن كان فيها رد عوض، فهي بمعنى البيع، فلا يجبر الممتنع عليها، بل برضاه. وأجاب الشيخ علي بن حسين بن الشيخ، رحمهم الله: وتسأل عن قسمة الإجبار، ومحل الإشكال عليك: أن أهل المذهب أطلقوها على أشياء، من غير شرط ضرر، قال في المحرر: فأما ما لا ضرر فيه، ولا رد عوض في قسمته، كالقرية والبستان، والدار الكبيرة والأرض، والدكاكين الواسعة - إلى أن قال - فإذا طلب الشريك قسمته، أجبر الآخر عليها. انتهى. فأطلق على البستان، ولم يشترط ضرر البستان، والنخل قد يكثر ويقل، وتكثر سهامه وتقل، فأشكل عليك إطلاقهم نفي الضرر عن البستان قليله وكثيره، فالمسألة كما ذكروا؛ لكن الغالب أن الضرر ورد العوض يقل فيما ذكروا، لسعة المكان، فتمكن قسمته بلا ضرر ولا رد عوض، والصغير بالعكس؛ فمتى وجدنا الضرر أو رد العوض، كَبُر المكان أو صَغُر، كثر الشجر أو قل، كثرت السهام أو قلت، فهي قسمة تراض؛ وهذا هو المفتى به عند مشايخنا، وهو صريح عبارات الأصحاب في القسمة.   1 ابن ماجة: الأحكام (2340) , وأحمد (5/326) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 570 [أنواع القسمة] قال في الشرح الكبير: والقسمة نوعان: قسمة تراض، وقسمة إجبار; فأما قسمة التراضي، فهي: ما فيها ضرر على أحد الشركاء، أو رد عوض من أحدهم، كالدور الصغار التي لا يمكن قسمها، فلا يجوز فيها إلا ما يجوز في البيع؛ وهل تلزم بالقرعة إذا قسمها حاكم، أو رضوا فيه بقاسم؟ وجهان: أحدهما: يلزم القسم، والثاني: لا يلزم إلا بالتراضي. واختلفوا في الضرر، فقال بعضهم: الضرر المانع: نقص القيمة، وهو رواية عن الإمام أحمد، وعنه: الضرر ما لا يمكن أحدهما الانتفاع بنصيبه مفرداً، فيما كان ينتفع به مع الشركة. والأول: ظاهر كلام الشافعي، لأن النقص ضرر وهو منفي شرعاً. الثاني: قسمة الإجبار، وهي: ما لا ضرر فيه ولا رد عوض، وهذه القسمة إفراز حق لا بيع. انتهى كلام الشارح. والذي أوصى لإنسان في بيته بدار، وتضرر أهل البيت بسكنى الموصَى له، فالوصية صحيحة، وليس لأهل البيت منع الموصَى له من السكنى في الموصَى به. وإن تضرروا فلهم طلب القسمة، فإن كانت قسمة إجبار أفرز له حقه، وإن كانت قسمة تراض لم يقسم إلا برضاهم؛ لكن إن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 571 تضرروا فللحاكم بيعه، وقسم الثمن على قدر الملك، إن لم يرضوا بالقسمة ولا بسكناه معهم. سئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن، رحمه الله: عن قسم مسيل مشترك، هل هو على قدر الحصص؟ أم على عدد النخل وسعة الأرض؟ فأجاب: إنه على حسب سهام الميراث. وسئل الشيخ إبراهيم بن عبد اللطيف: إذا طلب أحد الشركاء قسمة نصيبه من السيل؟ فأجاب: إن كان كل منهم قد علم نصيبه بالأجزاء، ويمكن قسمته من أعلى الوادي على أنصبائهم، فلهم القسمة إن لم يكن جعل العليا مقراة لجميع السيل، مشروطاً فيما تقدم. سئل الشيخ حمد بن ناصر بن معمر: هل تصح قسمة الثمار خرصاً؟ فأجاب: الذي عليه الجمهور: أن ذلك لا يصح، حكاه ابن عبد البر عن جمهور العلماء؛ والذي يقوي عندي صحة ذلك، لقصة خيبر، ولا محذور في ذلك، لأن القسمة ليست بيعاً، كما نبه على ذلك ابن القيم في فوائد قصة خيبر. وأما قولك: فإن جعل أحدهما أكثر من الآخر، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 572 لجودة الثمر، هل يصح؟ فالذي يظهر لي: أنه لا يصح، وذلك لأنه لا بد في القسمة من تعديل السهام، فإذا جعل طيب الثمرة سهماً، ورديئها سهماً، صار ذلك متفاضلاً يقيناً؛ والذي في الحديث إنما هو جواز القسمة خرصاً، ولا علمت أحداً أجاز المفاضلة في قسمة الثمار. وسئل أيضاً: إذا كان شريكان في نخل أو زرع، وبدا صلاح الثمرة، واشترى أحدهما نصيب الآخر، بكيل يشترطه من الثمرة بعينها، والبائع عليه مؤنة الكد حتى يتم العمل؟ فأجاب: هذه مسألة مشكلة، من حيث إن كلام الفقهاء فيها يخالف ظاهر السنة؛ قال ابن عبد البر: الخرص في المساقاة لا يجوز عند جميع العلماء، وعلله، وجعل أخذ الثمرة بكيل معلوم من المزابنة المنهي عنها؛ ولكن ظاهر السنة جوازها، فإنه قد ثبت: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يبعث عبد الله بن رواحة، يخرص على أهل خيبر، فإذا خرصها خيرهم، وقال: إن شئتم فخذوها بخرصها، وإن شئتم فهي لنا " 1. وقد روي: أنه خرص عليهم أربعين ألف وسق، فأخذوا الثمر وضمنوا للمسلمين عشرين. قال ابن القيم، في فوائد قصة خيبر: ومنها جواز قسمة الثمار خرصاً، وإن القسمة ليست بيعاً. انتهى بمعناه. وأجاب الشيخ عبد الرحمن بن حسن: أما خرص   1 أبو داود: البيوع (3413) , وأحمد (6/163) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 573 النخل وإعطاؤه للشريك، ليأخذ مثله وقت الجذاذ، فالظاهر: أن هذا لا يجوز، لأنه من صور بيع الجنس بجنسه، وشرط الجواز التماثل والتقابض؛ والذي يجوز في ذلك أن يقسما على رؤوس النخل خرصاً، فيأخذ كل واحد منها مثل ما أخذه شريكه، فيختص كل واحد بما أخذ بالقسمة، فلا يكون في ذمة أحدهما للآخر شيء. وسئل الشيخ سعد بن عتيق: ما يجري بين الفلاح والمالك عند حلول الثمرة، من خرص نخلة أو نخلات بوزان معلومة يأخذه الآخر بعد الجذاذ؟ فأجاب: الظاهر: عدم الصحة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 574 باب الدعاوى والبينات قال الإمام سعود بن عبد العزيز بن محمد، رحمهما الله: جرى بين رجلين خصومة، في عقد بيع نخل متقدم، ودخل عليه عقد ثان، وقام بعض الناس على بعض، يتنازعون في عقود ماضية في أموال قد استولى عليها أهلها، وحضروا عند آل الشيخ، واتفق رأيهم: أن ما أفتى به الشيخ، رحمه الله، وغيره من قضاة المسلمين، واستغله الذي هو في يده مدة، والمدعي موجود ولا أنكر، وادعى، فلا له طريق إلا أن تبين مقالة فيها نص صحيح، أو إجماع أهل العلم، أو اتفق عليه قضاة المسلمين الموجودين، وإلا ما يثبت له دعوى بفتيا الواحد في مثل هذه المقالة التي يقضي فيها قاض من قضاة المسلمين، فلا يتعرضها الآخر إلا بإجماع القضاة أن هذه الفتيا مخالفة الشرع، فإن نقضها واحد ما صح نقضه، فإن تَقَوّى أمير أو مأمور على مسلم، وأكل ماله بظلم أو بيع فاسد، فيأتي وأقوم له إن شاء الله تعالى. ويذكر لنا بعض الناس، الذين حضروا الشيخ، رحمه الله: أنه إذا عرض عليه حفيظة، بخط مطوع من مطاوعة الجاهلية 1   1 أي: ما قبل الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله, سموا بذلك لما كانوا عليه من أعمال الجاهلية. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 575 أمضاها، ولا ينكثها، فإذا استدام ملك واحد في يد الآخر، واستغله ثلاث سنين أو أربع سنين، وصاحب الدعوى حاضر، ولا ادعى في هذه المدة، سد عليه الباب. سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: عن أخوين بينهما شركة في أرض، تصرف أحدهما في الأرض بزرع وبناء وادعى أنه اشتراها من أخيه ولكن الشهود ماتوا. فأجاب: الذي نفهم أن هذا على الأصل، يلزم مدعي الشراء بينة، فإن لم يجد بينة حلف المنكِرُ أنه لم يبعها عليه، وأنها في ملكه إلى الآن، فإذا حلف فهو على نصيبه من الأرض; وأما كونها في يد أحدهما، ويتصرف فيها من قدر ثمان سنين، فمثل هذا ما يصير بينة، ولا يحكم باليد في مثل هذه الصورة، لكونه يدعى أنه اشتراها، والآخر منكر ولم يدع أنها ملكه، لا حق للآخر فيها، بل هو مقر بملك أخيه فيها، لكنه يدعي بالشراء؛ وهذا الذي تقرر عندنا وعند الأخ حمد بن ناصر. سئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن: عن مواريث كانت في الأصل فصارت اليوم في يد غير أهلها يتصرفون فيها تصرف الملاك؟ فأجاب: الذي استقر عليه فتوى شيخنا، شيخ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 576 الإسلام، إمام الدعوة الإسلامية: أن العقار ونحوه، إذا كان في يد إنسان يتصرف فيه تصرف الملاك، من نحو ثلاث سنين فأكثر، ليس فيه منازع في تلك المدة، أن القول قوله أنه ملكه، إلا أن تقوم بينة عادلة، تشهد بسبب وضع اليد، أنه مستعير أو مستأجر ونحو ذلك، وأما الأصل: فلا يلتفت إليه مع هذا الظاهر؛ فقدَّم شيخنا، رحمه الله، الظاهر هنا على الأصل، لقوته وعدم المعارض. وسئل أيضاً: الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ، رحمهم الله: عن بستان ادعاه اثنان، أصله لجدهما من قبل الأم، وليس مع أحدهما بينة بانتقال ملك مورثه عنهما؟ فأجاب: قد أفاد ابن القيم، رحمه الله تعالى، في الطرق، ما يؤخذ منه حكم هذه القضية، فقال: وأما المرتبة الثالثة: فمثالها أن يكون رجل حائزاً لدار يتصرف فيها السنين الطويلة، بالبناء والهدم والإجارة والعمارة، وينسبها إلى نفسه، وإنسان حاضر يراه ويشاهد أفعاله فيها هذه المدة، وهو مع ذلك لا يعارضه فيها، ولا يذكر أن له فيها حقاً، ولا مانع من مطالبته من خوف سلطان، أو ما أشبه ذلك، وليس بينه وبين المتصرف في الدار قرابة، أو شركة في ميراث ونحوه، ثم جاء بعد طول هذه المدة يدعيها لنفسه، ويزعم أنها له، ويريد أن يقيم بينة بذلك، فدعواه غير مسموعة أصلاً. انتهى. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 577 فمفاد هذا الكلام: أنه إذا كان بين المتنازعين قرابة، أو شركة في ميراث ونحو ذلك، أن الدعوى تسمع، ولا يثبت حكم اليد لمن هي في يده، لأجل القرابة وغيبة الشريك، فتقسم على الميراث الذي هو الأصل، والله أعلم. سئل الشيخ حسن بن حسين بن الشيخ: إذا ادعى رجل أن أباه اشترى هذا الملك، وأحضر وثيقة، وكان بيد آخر ورثه عن أبيه، والوثيقة من مدة خمس سنين؟ فأجاب: اعلم أن العلماء قرروا أنه إذا تعارض الأصل والظاهر، قُدِّم الظاهر ولم يعمل بالأصل، وهذا فيما إذا كان العقار بيد إنسان، قدر خمس سنين يتصرف فيه تصرف المالك، ولم يدَّعه صاحب الأصل في هذه المدة، ولم يكن بينهما شركة ولا قرابة بينهما؛ فالذي أرى في هذه المسألة: إذا كان الملك بيد أب من هو في يده، أو ولده مع وجود أبي المدعي، يتصرف فيه، ولم يدعه الأب، فدعوى ابنه اليوم ساقطة; وإن كان أبو المدعي مات من حين الشراء المذكور في الوثيقة، وأحضر ابنه بينة أنه لم يعلم بالوثيقة، ولم يجدها إلا في هذا الزمان عمل بها، وإلا لم تقبل دعواه عدم وجودها إلا ببينة مرضية. سئل الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين: إذا ادعى إنسان عقاراً فقال المدعَى عليه: ورِثْته من أبي، ولم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 578 أعلم لك فيه حقاً، هل تقبل يمينه؟ وإذا ادعى إنسان شيئاً أنه يملكه الآن، وشهدت البينة أنه كان له أمس أو لأبيه قبل موته إلى أن مات، هل تسمع أو لا؟ فأجاب: لا يخلو إما أن يدعي على من هو بيده أنه غصبه إياه ونحو ذلك، فإذا لم يكن للمدعي بينة، فعلى المدعى عليه اليمين على حسب جوابه، فإن قال المدعي: غصبتني، حلف أني ما غصبتك هذا، وإن قال المدعي: أودعتك هذا، حلف أنك ما أودعتني إياه، ونحو ذلك. فإذا حلف بأنك ما تستحق علي شيئاً، أو أنك لا تستحق شيئاً فيما ادعيته، صار جواباً صحيحاً، ولا يكلف سواه. والحال الثاني: أن يدعي على من هو في يده، بأن أباك غصبني هذا، أو أنه وديعة عنده، ونحو ذلك، فيمين المدعَى عليه على نفي العلم، فيحلف في دعوى الغصب: بأني ما علمت أن أبي غصب هذا منك، وفي دعوى الوديعة: ما علمت أنك أودعته إياه، ونحو ذلك. وفي سنن أبي داود: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للحضرمي: " ألك بينة؟ قال: لا، ولكن أحلفه، والله يعلم أنها أرضي اغتصبها أبوه. فتهيأ الكندي لليمين، ولم ينكر ذلك النبي صلى الله عليه وسلم " 1، ولأنه لا تمكنه الإحاطة بفعل غيره، بخلاف فعل نفسه، فوجب أن لا يكلف اليمين على البَتّ. وأما إذا ادعى أن هذه العين له الآن، وشهدت البينة بأنها كانت له أمس، أو   1 أبو داود: الأيمان والنذور (3244) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 579 أنها كانت في يده أمس، لم تسمع بينته لعدم تطابق البينة والدعوى؛ قال في الإنصاف: في أصح الوجهين، حتى يتبين سبب يد الثاني نحو غصبه، بخلاف ما لو شهدت أنها ملكه اشتراه من رب اليد، فإنها تقبل. اهـ. وأما إذا شهدت البينة: أن هذه العين لهذا المدعي بهذه الصيغة، كفى ذلك، وسلمت إلى المدعي، ولو لم تقل وهي في ملكه الآن. وأما إذا ادعى: أن هذه العين كانت ملكاً لأبيه أو أمه أو أخيه، ومات وهي في ملكه، فصارت لي بالميراث، فإن شهدت البينة بأن هذه العين كانت ملكاً لأبيه، ومات وهي في ملكه، سمعت البينة بذلك، وإن قالت البينة كانت ملكاً لأبيه ونحوه، ولم تشهد بأنه خلفها تركة، لم تسمع هذه البينة. وفي الفروع والإنصاف عن الشيخ تقي الدين أنه قال فيمن بيده عقار، فادعى آخر بثبوت عند الحاكم أنه كان لجده إلى موته، ثم لورثته، ولم يثبت أنه مخلف عن موروثه: لا ينتزع منه بذلك، لأن أصلين تعارضاً، وأسباب انتقاله أكثر من الإرث، ولم تجر العادة بسكوتهم المدة الطويلة؛ ولو فتح هذا الباب لانتزع كثير من عقار الناس بهذا الطريق. وسئل: إذا دخل على رجل مدينان، ودفعا إليه دراهم، فأخرج أحدهما عشرة، وقال: هذه التي لك الجزء: 7 ¦ الصفحة: 580 قبلي، خذها لتحسبها، فقال: ضعها، وقال الآخر كذلك، وأمره أن يضعها على دراهمه الأولى، أو إلى جانبها، فأخذهما صاحب الحق جميعاً، وحسبهما، فوجد نقصاناً لا يدري من أيهما؟ فأجاب: له على كل منهما اليمين: أنه دفع إليه حقه تاماً، وليس له إلا ذلك، لأنه فرط في خلطهما، فلم تكن الدعوى على إنسان بعينه، بل عليهما جميعاً، وهي لا تسمع إلا على معين. سئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب: إذا تداعيا عيناً، والكل معه بينة؟ فأجاب: إذا تداعيا عيناً، والكل معه بينة، قدمت بينة الداخل، لقول أهل المدينة. سئل ابنه الشيخ عبد الله: إذا ادعى خصمان عيناً، أحدهما يدعي أنها سرقت من ثلاث سنين، والآخر أنه اشتراها منذ سبع سنين، وأقام كل منهما بينة؟ فأجاب: الذي ذكر كثير من العلماء: أنه يعمل ببينة الذي يدعي أنها له منذ سبع، لا سيما إذا كانت في يده؛ قال في الإنصاف: وإن كان لكل واحد منهما بينة، قدم أسبقهما تاريخاً، مثل أن تشهد إحداهما أنها له منذ سنة، وتشهد الأخرى أنها للآخر منذ سنتين، فيقدم أسبقهما الجزء: 7 ¦ الصفحة: 581 تاريخاً؛ وهذه رواية عن أحمد، نصرها القاضي وأصحابه، وقال: هذا قياس المذهب. [معنى تعارض البينتين] سئل الشيخ حمد بن ناصر: ما معنى تعارض البينتين؟ فأجاب: معنى تعارض البينتين: تساويهما من كل وجه، فإذا أقام المدعي بينة، وأقام المدعى عليه بينة، وتساوتا، فقد تعارضتا، فإذا تعارضتا سقطتا، وكانا كمن لا بينة لهما. وسئل: ما معنى قولهم: بينة الداخل والخارج؟ فأجاب: بينة الخارج بينة المدعي، وبينة الداخل بينة المدعى عليه. وسئل: هل يعتبر في البينات كثرة العدالة، أم لا؟ فأجاب: قال في المغني: ولا ترجح أحد البينتين بكثرة العدد، ولا اشتهار العدالة؛ وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي، ويتخرج أن ترجح، وهو قول مالك، لأن الشهادة إنما اعتبرت لغلبة الظن بالمشهود به. وإذا كثر العدد، أو قويت العدالة، كان الظن أقوى; ولنا: أن الشهادة مقدرة في الشرع، فلا تختلف بالزيادة كالدية، فصار الحكم معلقاً بها دون اعتبار الظن، ألا ترى أنه لو شذ النساء منفردات لا تقبل شهادتهن، وإن كثرن حتى صار الجزء: 7 ¦ الصفحة: 582 الظن بشهادتهن أغلب من شهادة الذكرين؛ وعلى هذا، لا يرجح شهادة الرجلين على شهادة الرجل والمرأتين في المال، لأن كل واحدة من البينتين حجة في المال، فإذا اجتمعتا تعارضتا. فأما إن كان لأحدهما شاهدان، وللآخر شاهد، فبذل يمينه معه، ففيه وجهان: أحدهما: يتعارضان. والثاني: يقدم الشاهدان، لأنهما حجة متفق عليها، والشاهد واليمين مختلف فيها؛ وهذا الوجه أصح إن شاء الله تعالى. انتهى كلامه، رحمه الله. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 583 كتاب الشهادات سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ: هل يجوز تحمل الشهادة على التخصيص، وأداؤها بعد التحمل إن لم يعلم الشاهد إلا بعد التحمل؟ فأجاب: لا يجوز، لقوله عليه السلام: " إني لا أشهد على جور " 1، والجور لا يجوز الشهادة عليه. وأما قوله عليه السلام: " أشهد على هذا غيري " 2، فأجاب عنه بعض العلماء: بأن هذا على سبيل الزجر والردع، كقوله: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} [فصلت: 4] ، وقوله: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [سورة الكهف آية: 29] . [شهادة الأخ لأخيه] سئل بعضهم: عن شهادة الأخ لأخيه؟ فأجاب: هي جائزة، قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن شهادة الأخ لأخيه جائزة، وروي ذلك عن ابن الزبير، وبه قال شريح، وعمر بن عبد العزيز والشعبي والنخعي، ومالك والشافعي، وأبو عبيد وإسحاق وأبو ثور، وأصحاب الرأي، لأنه عدل غير متهم، فصحت شهادته لأخيه كالأجنبي، ولعموم الآيات؛ ولا يصح قياس الأخ على الوالد والولد، لأنهما بينهما بعضية وقرابة،   1 مسلم: الهبات (1623) , والنسائي: النحل (3681) , وأحمد (4/273) . 2 مسلم: الهبات (1623) , وأبو داود: البيوع (3542) , وابن ماجة: الأحكام (2375) , وأحمد (4/270) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 584 بخلاف الأخ. وقد روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "أن شهادة كل من الوالد والولد مقبولة"، وروي ذلك عن شريح، وبه قال عمر بن عبد العزيز، وأبو ثور والمزني، وداود وإسحاق وابن المنذر، لعموم الآيات، ولأنه عدل تقبل شهادته في غير هذا الموضع، فتقبل فيه. [شهادة الوالد على ابنه] وسئل: عن شهادة الوالد على ابنه وابن ابنه؟ فأجاب: هي مقبولة، نص على ذلك الإمام أحمد، وهو قول عامة أهل العلم، وذلك لقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} [سورة النساء آية: 135] ، فأمر بالشهادة ولو لم تقبل لما أمر بها، ولأنها إنما ردت شهادته له في التهمة في إيصال النفع، ولا تهمة في شهادته عليه، فوجب أن تقبل كشهادة الأجنب؛، بل أولى أن يتهم له ولا يتهم عليه، فشهادته عليه أبلغ في الصدق، كشهادته على نفسه. [شهادة المجلود في حد القذف] سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ: هل تقبل شهادة المجلود في حد القذف إذا أكذب نفسه وأظهر التوبة؟ فأجاب: تقبل شهادته، على الصحيح من أقوال العلماء. [شهادة المملوك في الحدود والقصاص] وسئل: هل تقبل شهادة المملوك في الحدود الجزء: 7 ¦ الصفحة: 585 والقصاص والأموال؟ فأجاب: الذي عليه جمهور العلماء: أنها تقبل في الأموال؛ قال في الإنصاف: شهادة العبد لا يخلو، إما أن تكون في الحدود والقصاص، أو في غيرها؛ فإن كانت في غيرها قبلت على الصحيح من المذهب، نص عليه. انتهى. قلت: واختار هذا القول جمع من الحنابلة وغيرهم، منهم الشيخ تقي الدين، قال في الاختيارات: ولا تشترط الحرية في الشهادة، وهذا مذهب أحمد، وظاهر كلام أبي العباس، ولو في الحدود والقصاص، وهو رواية عن أحمد. انتهى. قال بعضهم: لا أعلم أحداً رد شهادة العبد، وهذا - إن شاء الله - هو الصواب، لا سيما إذا كانت شهادته في الأموال؛ والمراد بذلك إذا كان عدلاً، قد تمت فيه شروط قبول الشهادة. وأجاب الشيخ محمد بن عبد اللطيف: وأما قبول شهادة المملوك، فلا مانع من قبولها، بل هو كسائر المسلمين، إذا كان مسلماً، عدلاً ظاهراً وباطناً. [شهادة من يأخذ الرشوة] سئل الشيخ حمد بن ناصر: عن شهادة من يأخذ الرشوة؟ فأجاب: وأما الذي يأكل الرشوة على الشهادة، فترد شهادته ويؤدب. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 586 [شهادة النساء] سئل الشيخ حسن بن حسين بن علي: عن شهادة النساء منفردات عن الرجال ... إلخ؟ فأجاب: قال في المغني، في باب القضاء: ولا تقبل شهادتها، ولو كان معها ألف امرأة، إن لم يكن معهن رجل. انتهى. ومراده: فيما يطلع عليه غيرهن. وقال في كتاب الشهادة: وفي شهادة النساء شبهة، بدليل قول الله تعالى: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} [سورة البقرة آية: 282] ، وأنه لا تقبل شهادتهن ولو كثرن، ما لم يكن معهن رجل. وقال فيه: ولا نعلم خلافاً في قبول شهادة النساء في الجملة، يعني في بعض المسائل كما ذكره الشراح، وذلك فيما لا يطلع عليه الرجال غالباً، كعيوب النساء تحت الثياب، والبكارة والثيوبة، والحيض والولادة، والرضاع والاستهلال، ونحو ذلك، لحديث عقبة بن الحارث، رواه أحمد وسعيد، قال أبو محمد: إلا أنه من رواية جابر الجعفي، قال: وكل موضع تقبل فيه شهادة النساء منفردات، فإنه يقبل فيه شهادة المرأة الواحدة، واستدل بحديث عقبة، وبما روي عن حذيفة: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أجاز شهادة القابلة"، رواه الفقهاء في كتبهم. وذكر أبو محمد في المقنع، في باب اليمين في الدعاوى، احتمال قبول امرأتين، ويمين في المال، وما يقصد به المال. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 587 وقال الشيخ تقي الدين: لو قيل: يقبل امرأتان ويمين توجه، لأنهما أقيما مقام رجل في التحمل؛ ونصره ابن القيم في الإعلام، والطرق وغيرهما، وذكره مذهب مالك. وذكر أبو محمد وغيره: أن أبا طالب نقل عن أحمد في مسألة الأسير: يقبل رجل ويمين. واختاره أبو بكر، وعنه في الوصية: إن لم يحضره إلا النساء، فامرأة واحدة; وسأله ابن صدقة: الرجل يوصي ويعتق، ولا يحضره إلا النساء، تجوز شهادتهن؟ قال: نعم، في الحقوق; وذكره في الإنصاف ولم يقيده. والمجزوم به عند المتأخرين هو الأول، وعليه المعوَّل. وأما قول السائل: وهل القدور، والحلي من عورات النساء، الذي لا يطلع عليه الرجال غالباً؟ فهل هذه إلا المال نفسه، فتنبه لذلك. تتمة: لا مدخل للنساء - ولو مع الرجال - في العقوبات والحدود، ذكروه اتفاقاً عن الأئمة الأربعة; ولا يقبل الجرح والتعديل من النساء، قاله في المغني، وجزم به المتأخرون، وذكره في الإفصاح قول مالك والشافعي وأحمد. ومما تساوي فيه المرأة العدل الرجل: الرواية، والإخبار بهلال رمضان، والوقت، والقبلة، ونجاسة الماء، وتنبيه الإمام للسهو، إذ في مغني ذوي الأفهام: دعوا النشوز والنسب، لأنه مما لا يطلع عليه الرجال غالباً. انتهى. والله أعلم بالصواب. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 588 سئل الشيخ علي بن حسين بن الشيخ محمد، رحمهم الله، عن كتاب عمر لأبي موسى، رضي الله عنهما: "المسلمون عدول بعضهم على بعض، إلا مجلود في حد، أو مجرب عليه شهادة زور، أو ظنين في ولاء أو نسب"؟ فالجواب: أن الظنين هو: المتهم، قاله صاحب النهاية; ومنه: حديث عائشة، رضي الله عنها، قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة، ولا مجلود في حد، ولا ذي غمر على أخيه، ولا ظنين في ولاء ولا قرابة، ولا القانع من أهل البيت " 1، رواه الترمذي، وقال: هذا حديث غريب، وفي إسناده يزيد بن دريك الدمشقي الراوي، منكر الحديث. سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد، رحمهما الله: عن شهادة واحد في حد؟ فأجاب: إذا شهد شاهد واحد أن فلاناً أصاب حداً، فلا يقام عليه بشهادة واحد، بل لا بد من شهادة رجلين عدلين إلا في الزنى، فلا بد من شهادة أربعة عدول، كما هو معلوم. وسئل: إذا شهد عدل في الطلاق هل يقبل ... إلخ؟ فأجاب: لا يقبل وحده، لأن النكاح والطلاق لا يثبت   1 أبو داود: الأقضية (3600) , وابن ماجة: الأحكام (2366) , وأحمد (2/204) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 589 إلا بشاهدين; والذي نفهم ونعمل به: أن شهود الطلاق من غير الولي. وأما تحمل الشهادة فيه، فالذي فهمناه من كلام أهل العلم: أن تحمل الشهادة يجوز في المال، وما يقصد به المال، وهو الذي نعمل الآن عليه، ولا تجوز شهادة الفرع على الأصل في هذا النوع. وأجاب الشيخ حمد بن معمر: من طلق امرأته بحضرة شاهد واحد عدل، وأنكر الزوج، فالذي عليه أكثر العلماء، وعليه الفتوى: أنه لا يقبل فيه إلا شاهدان عدلان. وأما من طلق امرأته، وأحضر شاهداً عدلاً، وقال العاقد: لا بد من شاهدين عدلين، هل يزوج العاقدين أو يمنعهما؟ فإن كان مراد السائل: أن المرأة المطلقة من زوجها أو وكيلها، أحضرت شاهداً عدلاً على طلاقها من زوجها، وطلبت من العاقد أن يعقد على نكاحها من زوجها الثاني، بشهادة شاهد واحد على طلاقها من زوجها الأول، فجواب هذه المسألة يؤخذ من جواب التي قبلها، لأن الذي عليه عامة العلماء المالكية، والشافعية والحنابلة، أن الطلاق لا يثبت إلا بشاهدين عدلين. وإن كان له مراد غير ذلك، فلم نفهمه. وأما شهادة النساء في الطلاق، فالذي عليه أكثر العلماء وعليه الفتوى: أن شهادة النساء لا تقبل منفردات، إلا فيما لا يطلع عليه الرجال غالباً، كالرضاع، وكعيوب الجزء: 7 ¦ الصفحة: 590 المرأة التي تحت الثياب، والثيوبة والبكارة، والاستهلال، وما جرى هذا المجرى. سئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب: عن الشهادة بالوقف؟ فأجاب: والنخلة لا تصير وقفاً إلا بشهادة رجلين عدلين. وسئل أيضاً: العدل والمرأة، هل يقبل في الوصية والوقف؟ فأجاب: لا يقبل في الوصية والوقف إلا شاهد وامرأتان، ولو كان بعضهم من الورثة. وأجاب الشيخ محمد بن عبد الله بن سليم: الذي أرى أن الشاهد الواحد على الوصية لا يكفي، بل لا بد من شاهدين عدلين. سئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله: عن شهادة النساء فيما يتعاملن فيه؟ فأجاب: أما معاملة النساء بينهن بشهادة النساء، فيما يمكن حضور الرجال فيه، فلا تصح شهادتهن، إلا فيما لا يطلع عليه الرجال غالباً، ومعاملتهن مما يطلع عليه الرجال، فافهم ذلك. وأجاب الشيخ حسن بن حسين بن الشيخ: الأموال لا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 591 يقبل فيها إلا رجلان، أو رجل وامرأتان، أو رجل ويمين المدعي، سواء كان في أيدي النساء، أو أيدي الرجال؛ هذا قول جمهور العلماء. وليس هذا من عورات النساء، التي لا يطلع عليها الرجال، كما ظنه من لا علم عنده. سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ: عن رجل أراد أن يتزوج امرأة، فادعت زوجته أنها أرضعت التي يريد أن يتزوجها؟ فأجاب: هذه لا تقبل شهادتها في مثل هذه الصورة، لأجل التهمة؛ ومذهب الحنابلة: أن شهادة المرأة الواحدة، تقبل في الرضاع، بشرط عدم التهمة. سئل الشيخ حمد بن ناصر بن معمر: عن شهادة المرأة الواحدة في الرضاع، عند من يقول به، هل تصدق، ولو ادعت أم الطفل كذبها؟ فأجاب: الأمر كذلك، تصدق. وأما قولك: وهل تعتبر العدالة في المرضعة، إذا ادعت الرضاع؟ فالأمر كذلك، بل لا بد من العدالة في الشهادة في الرضاع وغيره، والمراد: العدالة ظاهراً; وأما الرضاع فنصوا على العدالة في المرأة إذا ادعت ذلك. قال ابن عباس: "يقبل قولها إذا كانت مرضعة وتستحلف، فإذا حلفت فارق الزوج المرأة". وقال الشيخ تقي الدين: يقبل قول المرأة في الرضاع، إذا كانت معروفة بالصدق، لحديث عقبة المخرج الجزء: 7 ¦ الصفحة: 592 في الصحيحين. وأما قولك: إذا ماتت المرأة، وشهد على إقرارها بالرضاع امرأة، أو امرأتان، فالظاهر أن ذلك لا يعمل به، لأن الشهادة على الشهادة لها تسعة شروط: أن تكون في غير حق الله، ومنها أن يسترعي شاهد الأصل شاهد الفرع، فيقول: اشهد على شهادتي; وأيضاً فإن الشهادة على الرضاع لا تقبل إلا مفسرة، لاحتمال أن يكون الشاهد يرى في الرضاع خلاف الصواب، فلا بد من تقصير الرضاع بخمس رضعات في الحولين. انتهى. [الشهادة على الشهادة] وسئل الشيخ عبد الله بن الشيخ: عن شروط تحمل الشهادة عند أهل العلم؟ فأجاب: الذي ذكر في الإنصاف: أنها تقبل الشهادة على الشهادة، فيما يقبل فيه كتاب القاضي إلى القاضي، وتُرَدّ فيما يُردّ فيه، ولا تقبل إلا أن يتعذر شهود الأصل، بموت أو مرض، أو غيبة إلى مسافة القصر. وذكر أيضاً: أنه لا يجوز لشاهد الفرع أن يشهد، إلا أن يسترعيه شاهد الأصل، فيقول: اشهد على شهادتي، أني أشهد على فلان بن فلان، وقد عرفته باسمه وعينه ونسبه، أقر عندي، وأشهدني على نفسه طوعاً بكذا، أو شهدت عليه، أو أقر عندي بكذا. وذكر ابن عقيل رواية: يجوز أن يشهد، سواء استرعاه أو لا، وقدمه في التبصرة، وهذه الرواية هي الجزء: 7 ¦ الصفحة: 593 الصواب، إن شاء الله تعالى. [الشهادة بالاستفاضة والشهرة] سئل بعضهم: عن الشهادة بالاستفاضة والشهرة؟ فأجاب: هي صحيحة فيما يتعذر علمه في الغالب إلا بذلك، كالنسب والموت والملك، والنكاح والخلع، والوقف ومصرفه، والعتق والولاية والعزل، وما أشبه ذلك; قال الخرقي: وما تظاهرت به الأخبار، واستقرت معرفته في قلبه شهد به، كالشهادة على النسب والولادة; وقد أجمع أهل العلم على صحة الشهادة بالنسب بالاستفاضة، وكذلك الشهادة بالاستفاضة في الجرح والتعديل، فما يجرح به الشاهد وغيره مما يقدح في عدالته ودينه، فإنه يشهد به إذا علمه الشاهد بالاستفاضة، ويكون ذلك قدحاً شرعياً، قاله الشيخ تقي الدين. قال: وقد صرح بذلك طوائف الفقهاء من الشافعية والمالكية والحنابلة وغيرهم في كتبهم الكبار، وصرحوا فيما إذا جرح الرجل جرحاً مفيداً أنه يجرح الجارح بما سمعه منه، أو رآه أو استفاض؛ وما أعلم في هذا نزاعاً بين المسلمين، فإن المسلمين كلهم يشهدون في مثل وقتنا، في مثل عمر بن عبد العزيز والحسن البصري، وأمثالهما، من العدل والدين بما لم يعلموه إلا بالاستفاضة، ويشهدون في مثل الحجاج بن يوسف والمختار، وعمرو بن عبيد ونحوهم من الظلم والبدعة، بما لم يعلموه إلا بالاستفاضة; الجزء: 7 ¦ الصفحة: 594 قال: وهذا إذا كان المقصود تفسيقه لرد شهادته وولايته، وأما إذا كاد المقصود التحذير منه واتقاء شره، فيكتفى بما دون ذلك. انتهى. وقد اختلف أهل العلم فيما تجور الشهادة عليه بالاستفاضة، غير النسب والولادة: فقال بعضهم: هو تسعة أشياء: النكاح، والوقف، ومصرفه، والعتق، والولاء، والولاية، والعزل; وقال أبو حنيفة: لا تقبل إلا في النكاح والموت، ولا تقبل في الملك المطلق. ونص الإمام أحمد على ثبوت الشهادة بالاستفاضة في الخلع والطلاق. والصحيح من مذهب الشافعي: جواز الشهادة بالاستفاضة في النكاح والنسب، وولاية القضاء والملك والعتق، والوقف والولاء. واقتصر جماعة من أصحاب أحمد، منهم القاضي في الجامع، والشريف وأبو الخطاب في خلافيهما، وابن عقيل في التذكرة، والشيرازي، وابن البناء على النسب والموت، والملك المطلق، والنكاح، والوقف والعتق والولاء، قال في الفروع: ولعله الأشهر; قال في العمدة: لا يجوز ذلك في حد ولا قصاص، قال في الفروع: فظاهره الاقتصار عليهما، وهو أظهر. انتهى. قال في عمدة الأدلة: تعليل أصحابنا بأن جهات الملك تختلف، تعليل يوجد في الدين؛ فقياس قولهم يقتضي أن يثبت الدين بالاستفاضة، قال في الإنصاف: قلت وليس ببعيد. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 595 [ضمان شهود التزكية إذا رجعوا] قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن، رحمه الله تعالى: مسألة: قال في حاشية المحرر: ويضمن شهود التزكية إذا رجعوا ما يضمنه من زكوهم لو رجعوا؛ وكذلك ذكره الشيخ موفق الدين بن قدامة محل وفاق، قال الشيخ تقي الدين: وإذا تبين خطأ الشهود أو كذبهم، أو خطأ المزكين أو كذبهم، فهنا الحكم باطل، لكن ينبغي أن تكون الشهادة أو التزكية سبباً للضمان، والقرار على المتلف بخلاف الرجوع، فإنه لا ضمان إلا على الراجع. انتهى. وقال القاضي: لو شهدا عليه بالقرض، فحكم عليه بالمال، وسلمه إلى المقرض، ثم أقام المشهود عليه بعد ذلك البينة أنه كان قضاه، لم يضمن شهود القرض، لأنه لم يكن في شهادتهم إثبات المال في الحال; ولو كانوا شهدوا بأن لفلان عليه ألف درهم، فحكم الحاكم بشهادتهم، ثم أقام المقضي عليه البينة: إنه كان قضاه قبل ذلك، ضمن الشهود الذين شهدوا بالمال. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 596 باب الإقرار سئل الشيخ علي بن حسين بن الشيخ: عمن قال: صدقوا فلاناً فيما ادعى به؟ فأجاب: إذا كان المقَرُّ له غير وارث، فظاهر كلام أهل المذهب: أنه يُصَدَّق فيما ادعى به، إذا كان يمكن يتصور منه التزامه، بخلاف ما لو ادعى بما لا يتصور، كدعواه عليه من عشرين سنة، وعمره عشرون سنة أو أقل، فهذا لا يصح إقراره بذلك; قلت: ومثل ذلك لو كان هذا المصدق فقيراً، كالذي يعرفه أهل بلده بالفقر، فيدعي أن له عند هذا المقِِرّ ما لا يعرف أنه قد ملكه، كمن رأس ماله الذي يعامل فيه عشرون درهماً، أو قريباً، فيدعي على هذا المقر - لما سمع قوله: صدقوه -: لي عنده مائة دينار أو مئتان، فالظاهر أنه لا يُصَدَّق، وما أمكن صِدْقُه فيه صُدِّق. انتهى. وأجاب الشيخ حمد بن ناصر بن معمر: إذا مات الرجل وقالك صدقوا فلاناً بما ادعى علي، يعني صاحب الدين، ثم مات، هل يصدق المدعي؟ فالأمر كذلك يصدق بدعواه، عملاً بقول الميت. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 597 سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: عمن أقر في صحته بدين لوارث؟ فأجاب: إذا أقر في صحته لوارث بدين في حال الصحة، وهو يتهم بالمحاباة، فالظاهر أنه يقبل إقراره، ولا يعمل بالتهمة. وسئل: عن امرأة في صحتها قالت: إن عندها لبعض ورثتها شيئاً؟ فأجاب: إن ماتت، فهو المصدق فيما ادعى به، فإن ادعى عليها بدعوى كثيرة، فالظاهر أن هذا يدخل في الإقرار للوارث، ولا يصح خصوصاً في مثل هذا الزمان مع التهمة. سئل الشيخ سعيد بن حجي: إذا أقر المريض في المرض المخوف لوارث أو غيره. فأجاب: قال في الشرح: ويصح إقرار المريض في المرض المخوف بغير المال، وإن أقر بمال لمن لا يرثه صح؛ حكاه ابن المنذر إجماعاً. وإن أقر للوارث لا يقبل إلا ببينة. وقال عطاء والحسن وإسحاق: يقبل. وقال مالك: يصح إلا أن يتهم، إلا أن يقر لزوجته بمهر مثلها فأقل، فيصح في قول الجميع، إلا الشعبي. سئل الشيخ حسن بن حسين بن الشيخ: إذا قال إنسان لآخر: عندك لي عشرة دراهم، قال: نعم، لكن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 598 قضيتك؟ فأجاب: يكون غير مقر فيقبل قوله بيمينه طبق جوابه، ويخلى سبيله إن لم يقم بينة على الأصح، لأنه رفع ما أثبته بدعوى القضاء متصلاً، فكان القول قوله. وعنه: أن هذا ليس بجواب صحيح، فيطالب برد الجواب. انتهى من شرح المنتهى ملخصاً. وقد عرفت المقدم وهو المعتمد. سئل الشيخ إبراهيم بن الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن، رحمهم الله: عن رجل أقر لآخر بدين مات المقر له، ولم يعلم عدده؟ فأجاب: القول في ذلك قول المقر بيمينه، لأن اليمين إنما شرعت في جانب أقوى المتداعيين، والمقر له قد قوي جانبه، فقبل قوله في العدد مع يمينه. آخر ما أردنا جمعه مما وجدناه من الفتاوى الفقهية، فتاوى أهل هذه الدعوة، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. آخر الجزء السابع، ويليه الجزء الثامن، وأوله: كتاب الجهاد الجزء: 7 ¦ الصفحة: 599 المجلد الثامن: (القسم الأول من: كتاب الجهاد) كتاب الجهاد (حكمه، وفضله، والحث عليه) * ... كتاب الجهاد: الجهاد حكمه، وفضله، والحث عليه قال شيخ الإسلام: الشيخ محمد بن عبد الوهاب، أجزل الله له الأجر والثواب: بسم الله الرحمن الرحيم من محمد بن عبد الوهاب، إلى الأخ عبد الله بن عبد الرحمن، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد، ذكر لي ابن زيدان، أنك يا عبد الله غضبت على أحمد لما تكلم في بعض المنافقين، ولا يخفاك أن بعض الأمور كما قال تعالى: {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} [سورة النور آية:15] ، وذلك أني: لا أعرف شيئاً يتقرب به إلى الله أعظم من لزوم طريقة رسول الله صلى الله عليه وسلم في حال الغربة، فإن انضاف إلى ذلك الجهاد عليها للكفار والمنافقين، كان ذلك تمام الإيمان. فإذا أراد أحد من المؤمنين أن يجاهد، فأتاه بعض إخوانه، فذكر له أن أمرك للدنيا، أخاف أن يكون هذا من جنس الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات؛ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5 فأنتم تأملوا تفسير الآية، ثم نزلوه على هذه الواقعة. وأيضا، في صحيح مسلم أن أبا سفيان مر على بلال وسلمان وأجناسهما، فقالوا: "ما أخذت سيوف الله من عنق عدو الله مأخذها"، فقال أبو بكر: تقولون هذا لشيخ قريش وسيدها؟ ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر له ذلك، فقال: " يا أبا بكر لئن كنت أغضبتهم، لقد أغضبت ربك " 1. ومن أفضل الجهاد: جهاد المنافقين في زمن الغربة، فإذا خاف أحد منكم من بعض إخوانه قصداً سيئاً، فلينصحه برفق وإخلاص الدين لله، وترك الرياء والقصد الفاسد، ولا يفل عزمه عن الجهاد، ولا يتكلم فيه بالظن السيئ وينسبه إلى ما لا يليق، ولا يدخل خاطرك شيء من النصيحة، فلو أدري أنه يدخل خاطرك ما ذكرته، وأنا أجد في نفسي أني أود أن أنصح كلما غلطت، والسلام. وقال الشيخ إبراهيم وعبد الله وعلي: أبناء الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمهم الله تعالى: والجهاد بالمال مقدم على الجهاد بالنفس، فمن كان له مال وهو يقدر على الجهاد بنفسه، وجب عليه الجميع، فإن كان ما يقدر بنفسه وجب عليه بالمال، فإن كان لا يقدر بالمال ولا بالنفس، فالحرج مرفوع عنه، قال الله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ   1 مسلم: فضائل الصحابة (2504) , وأحمد (5/64) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 6 رَحِيمٌ} [سورة التوبة آية: 91] . والإمام ينهى الأمراء عن تحميل الناس ما لا يستطيعون ويعصونه في ذلك، وتحميل الفقير ما لم يحمله الله ذنب، ومعصية الإمام إذا نهى عن ذلك ذنب آخر. وقالوا أيضاً: وقد توعد الله من تثاقل عن الجهاد، ورضي بالإخلاد إلى الأرض، بالوعيد الشديد، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ إِلاّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً} الآية [سورة التوبة آية: 38-39] ، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [سورة الأنفال آية: 24] لما يصلحكم؛ وقد فرضه الله على الناس فرض الصلاة والزكاة، قال الله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} إلى قوله: {وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [سورة البقرة آية: 216] . فإذا قام المسلمون بما أمرهم الله به من جهاد عدوهم، بحسب استطاعتهم، فليتوكلوا على الله، ولا ينظروا إلى قوتهم وأسبابهم، ولا يركنوا إليها، فإن ذلك من الشرك الخفي، ومن أسباب إدالة العدو على المسلمين ووهنهم عن لقاء العدو، لأن الله تبارك وتعالى أمر بفعل السبب، وأن لا يتوكل إلا على الله وحده، قال تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 7 كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [سورة المائدة آية: 23] . وقال تعالى: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ} الآية [سورة آل عمران آية: 160] ، وقال تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى} الآية [سورة الأنفال آية: 9-10] . فإذا فعل المسلمون ما أمرهم الله به، وتوكلوا على الله، وحققوا توكله، نصرهم الله وأمدهم بالملائكة، كما هي عادته مع عباده المؤمنين في كل زمان ومكان، قال الله تبارك وتعالى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [سورة الصفات آية: 171-173] ، وقال تعالى: {وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} [سورة الفتح آية: 22-23] . وأجاب بعضهم، رحمهم الله: وأما الجهاد، فهو واجب على القادر عليه بنفسه وماله، كما أمر الله به عز وجل في كتابه بقوله: {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [سورة التوبة آية:41] ، وأما من لا يقدر على الجهاد بنفسه ولا بماله، فلا يجوز إلزامه بذلك، كما عذره الله تعالى بقوله: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 8 الْمَرِيضِ حَرَجٌ} [سورة النور آية: 61] . وقال الشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمه الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الرحمن بن حسن، إلى كافة الإخوان، سلمهم الله من شرور الدنيا والآخرة، ووفقنا وإياهم للتجارة الفاخرة؛ سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد، فاعلموا، وفقنا الله وإياكم لشكر ما أنعم به عليكم من نعمة الإسلام، والاجتماع على ذلك، وجهاد من خرج عنه من أهل الجهل والفساد، الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون، وقد أوجب الله تعالى جهادهم دفعاً لعنادهم وخروجهم عن جماعة المسلمين، والسمع والطاعة لمن ولاه الله أمرهم، كما قال تعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [سورة البقرة آية: 251] . ومن فضله عليكم: اجتماعكم، وجهادكم لأهل الفساد، ولولا الجهاد لأفسدوا عليكم دينكم ودنياكم، وأنتم - ولله الحمد - على ملة الإسلام، تعبدون ربكم وتوحدونه، وتعملون بفرائضه، وتأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر؛ ومن أعظم الشكر: الجهاد الذي أوجبه الله في كتابه العزيز، قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 9 لَكُمْ} الآية [سورة البقرة آية: 216] . وقال تعالى: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ} الآية [سورة النساء آية: 84] ، وقال تعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ} الآية [سورة الحج آية: 40] . والإيمان بالله ورسوله، والجهاد في سبيله بالمال والنفس، هو التجارة المنجية من شرور الدنيا والآخرة، الموجبة لخير الدنيا والآخرة، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [سورة الصف آية: 10] إلى قوله: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [سورة الصف آية: 13] ، فبشركم ربكم، فاقبلوا هذه البشارة، وامتثلوا أمره، وجاهدوا أهل الفساد، وارغبوا في ثواب الجهاد في سبيل الله؛ وفي الحديث: " غدوة في سبيل الله أو روحة، خير من الدنيا وما فيها " 1، ولا تفرطوا في الغدوات والروحات، فتضيع عليكم، وفي الحديث: "الجهاد باب من أبواب الخير، ينجي الله به من الهم والغم " 2، وخير المال ما أنفق فيه، وخير الأيام أيام المجاهدين. إن المجاهد في حسنات، تكتب له في يقظته ونومه، وفي سيره ومقامه؛ فارغبوا في هذا الخير الذي رغبكم فيه ربكم، وابذلوا فيه المال والنفس. وأفضل المجاهدين من جاهد بنفسه وماله، وما عذر ربنا عن الجهاد إلا الأعمى والأعرج والمريض، كذلك الذين لا يجدون ما ينفقون،   1 البخاري: الجهاد والسير (2792) , ومسلم: الإمارة (1880) , والترمذي: فضائل الجهاد (1651) , وابن ماجة: الجهاد (2757) , وأحمد (3/132) . 2 أحمد (5/314) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 10 إذا نصحوا لله ورسوله; والنصيحة لله ولدينه واجبة على المعذور وغيره، وصلى الله على محمد. وقال الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف، رحمهما الله تعالى: الحمد لله الذي أرسل رسله مبشرين ومنذرين، وختمهم بمحمد صلى الله عليه وسلم سيد الأولين والآخرين، وعمم برسالته جميع الثقلين من الإنس والجن، وأمرهم باتباعه وطاعته، وقد كانوا قبله في ضلال مبين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إله الأولين والآخرين، وقيوم السماوات والأرضين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وخليله الصادق الأمين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين، ومن تبعهم واستقام على طريقتهم إلى يوم الدين. من عبد الله بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن: إلى من بلغه هذا الكتاب من أهل الجزيرة وعمان، والمنتسبين إلى الإسلام في جميع الأقطار، وفقهم الله لقبول النصائح، وجنبهم أسباب الندم والفضائح، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أما بعد، فإن الله سبحانه وبحمده، خلقنا لمعرفته وعبادته، وأمرنا بتوحيده وطاعته، ولم يتركنا هملاً، بل أرسل إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وضمن لنا النجاة والفلاح باتباعه وطاعته، وحرم علينا معصيته ومخالفته، ولم يكن لنا وصول الجزء: 8 ¦ الصفحة: 11 إليه إلا من جهته، قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [سورة آل عمران آية: 31] ، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً} [سورة النساء آية: 174] ، وقال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [سورة الأعراف آية: 158] . وأكمل الله له الدين، وبلغ البلاغ المبين، وأشهد أمته على البلاغ، وأشهد ربه على أمته له بالبلاغ، وقال صلى الله عليه وسلم: " تركتكم على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك " 1، وقال أبو ذر رضي الله عنه: "لقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما من طائر يقلب جناحيه إلا ذكر لنا منه علماً". وقال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: " قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقاماً، ذكر فيه بدء الخلق حتى دخل أهل الجنة منازلهم، وأهل النار منازلهم، علم ذلك من علمه وجهله من جهله " 2. والمقصود بهذا: ما قد شاع وذاع من إعراض المنتسبين إلى الإسلام - وأنهم من أمة الإجابة - عن دينهم وما خلقوا له - وقامت عليه الأدلة القرآنية والأحاديث النبوية - من لزوم الإسلام ومعرفته، والبراءة من ضده،?   1 ابن ماجة: المقدمة (44) , وأحمد (4/126) . 2 البخاري: بدء الخلق (3192) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 12 والقيام بحقوقه، حتى آل الأمر بأكثر الخلق، إلى عدم النفرة من أهل ملل الكفر، وعدم جهادهم، وانتقل الحال حتى دخلوا في طاعتهم، واطمأنوا إليهم، وطلبوا صلاح دنياهم بذهاب دينهم، وتركوا أوامر القرآن ونواهيه، وهم يدرسونه آناء الليل والنهار. وهذا لا شك أنه من أعظم أنواع الردة، والانحياز إلى ملة غير ملة الإسلام ودخول في ملة النصرانية، عياذاً بالله من ذلك، كأنكم في أزمان الفترات، أو أناس نشؤوا في محلة لم يبلغ شيء من نور الرسالة، أنسيتم قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [سورة المائدة آية:51] ، وقوله تعالى: {تَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [سورة المائدة آية: 80-81] . وقال تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} [سورة البقرة آية: 120] ؛ والدخول في طاعتهم، اتباع لملتهم، وانحياز عن ملة الإسلام، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 13 الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُواً وَلَعِباً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ} [سورة المائدة آية: 57-58] . وقال تعالى: {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً} [سورة النساء آية: 138-140] ، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} [سورة آل عمران آية: 118] . والآيات القرآنية في تحريم موالاة الكفار، والدخول في طاعتهم، أكثر من أن تحصر؛ ومن تدبر القرآن، واعتقد أنه كلام الله منزل غير مخلوق، واقتبس الهدى والنور منه، وتمسك به في أمر دينه، عرف ذلك إجمالاً وتفصيلاً، قال جندب بن عبد الله رضي الله عنه: "عليكم بالقرآن! فإنه نور بالليل وهدى بالنهار؛ فاعملوا به على ما كان من فقر وفاقة. فإن عرض بلاء، فقدم مالك دون نفسك، فإن تجاوز البلاء، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 14 فقدم نفسك دون دينك؛ فإن المحروب من حرب دينه، والمسلوب من سلب دينه، وإنه لا فاقة بعد الجنة ولا غناء بعد النار؛ إن النار لا يستغني فقيرها، ولا يفك أسيرها". وهذه الطائفة الملعونة: الطائفة النصرانية، التي حلت بفنائكم، وزحمتكم عند دينكم، وطلبت منكم الدخول إلى طاعتها، هم الذين نوه الله بذكرهم في القرآن، فقال تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ} [سورة المائدة آية: 73] ، وقال: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} [سورة المائدة آية: 17] ، وقال تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاًأَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداًأَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً} [سورة مريم آية: 88- 93] . وقال تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً} [سورة النساء آية: 171] . فهل بعد هذا غلظة وبيان وزجر الجزء: 8 ¦ الصفحة: 15 وإنذار وهل يشك بعد هذا ممن له فطرة وسمع وبصر؟ اللهم إلا من ركن إلى الدنيا وطلب إصلاحها ونسي الآخرة، فهذا لا عبرة به، لأنه أعمى القلب مطموس البصر. وقد أمرنا الله تعالى: أن نقول لهم: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [سورة آل عمران آية: 64] ؛ ففي قوله: {اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} إظهار للبراءة من دينهم، وزجر عن الدخول في طاعتهم. لقد والله لعب الشيطان بأكثر الخلق، وغير فطرهم، وشككهم في ربهم وخالقهم، حتى ركنوا إلى أهل الكفر، ورضوا بطرائقهم عن طرائق أهل الإسلام؛ وكنا نظن قبل وقوع هذه الفتن، وترادف هذه المحن: أن في الزوايا خبايا، وفي الرجال بقايا، يغارون على دينهم، ويبذلون نفوسهم وأموالهم في الحمية لدينهم؛ فتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون، وراجعوا دينكم بمجاهدة أعدائكم من الكفار والمشركين، وقد امتحنكم الله بهم، وابتلاكم بقربهم من أوطانكم، قال تعالى: {الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ?وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [سورة العنكبوت آية: 1-3] . وقد تعبدكم وأمركم بجهادهم، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 16 وفرضه عليكم: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [سورة البقرة آية: 216] ، وقال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [سورة محمد آية: 31] ، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ} [سورة الصف آية: 10-11] إلى قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ} [سورة الصف آية: 14] . وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ} [سورة التوبة آية: 111] ، فأرشد من اشترى منهم نفوسهم إلى الوفاء بالتسليم، وحضهم على بيان ما لهم فيه من الربح الجزيل، والفضل العظيم. وخاطب المقرين بالبيع، المماطلين بالتسليم خطاباً، بل عتاباً وتوبيخاً، يقرأ أبداً في محكم التنزيل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 17 أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ} [سورة التوبة آية: 38] . ثم حذرهم عن الإصرار على المماطلة، وتوعدهم على التسويف بعد وجوب النفير، فقال سبحانه: {إِلاّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [سورة التوبة آية: 39] . فالواجب عليكم: معشر الرؤساء والقادة من أهل السواحل والبلدان، اتفاق الكلمة بلزوم دينكم، ومجاهدة عدوكم، والتشمير للجهاد عن ساق الاجتهاد، والنفير إلى ذوي العناد، وتجهيز الجيوش والسرايا، وبذل الصلات والعطايا، وإقراض الأموال لمن يضاعفها وينميها، ودفع سلع النفوس من غير مماطلة لمشتريها، وأن تنفروا في سبيل الله خفافاً وثقالاً، وتقوموا بالدعوة لجهاد أعداء الله ركباناً ورجالاً، وأن تتطهروا بدماء المشركين والكفار، من أدناس الذنوب، وأنجاس الأوزار، {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [سورة التوبة آية: 29] ، {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [سورة التوبة آية: 36] . واحذروا من قوله: {فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 18 وَقَالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [سورة التوبة آية: 81-82] . ثم شدد عليهم العقوبة وقطع عنهم قبول المعذرة بقوله: {فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوّاً إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ} [سورة التوبة آية: 83] ، وقال: {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ} [سورة التوبة آية: 46] . فاحذروا غاية الحذر من سطوة الله، فحقيقة الدين هي المعاملة، وسبيل اليقين هي الطريقة الفاضلة، ومن حرم التوفيق فقد عظمت مصيبته، واشتدت هلكته. وأنتم تعلمون، معاشر المسلمين: أن الأجل محتوم، وأن الرزق مقسوم، وأن ما أخطأ لا يصيب، وأن سهم المنية لكل أحد مصيب، وأن كل نفس ذائقة الموت، وأن الجنة تحت ظلال السيوف، وأن الري الأعظم في شرب كؤوس الحتوف، وأن من اغبرت قدماه في سبيل الله حرمه الله على النار، ومن أنفق ديناراً كتب بسبعمائة، وفي رواية: بسبع مائة ألف دينار، وأن الشهداء حقاً عند الله من الأحياء، وأن أرواحهم في جوف طير خضر تتبوأ من الجنة حيث تشاء، وأن الشهيد يغفر له جميع ذنوبه وخطاياه، وأنه يشفع في سبعين من أهل بيته ومن والاه، وأنه آمن يوم القيامة من الفزع الأكبر، وأنه لا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 19 يجد كرب الموت، ولا هول المحشر، وأنه لايحس ألم القتل إلا كمس القرصة، وكم للموت على الفراش من سكرة وغصة، وأن الطاعم النائم في الجهاد، أفضل من الصائم القائم في سواه، ومن حرس في سبيل الله لا تبصر النار عيناه، وأن المرابط يجرى له أجر عمله الصالح إلى يوم القيامة، وأن ألف يوم لا تساوي يوماً من أيامه، وأن رزقه يجري عليه كالشهيد أبداً لا يقطع، وأن رباط يوم خير من الدنيا وما فيها، إلى غير ذلك من فضائل الجهاد، التي ثبتت في نصوص السنة والكتاب. فيتعين على كل عاقل التعرض لهذه الرتب، ومساعدة القائم بها، والانضمام إليه، والانتظام في سلكه، فتربحوا بذلك تجارة الآخرة، وتسلموا على دينكم. وعن ابن عمر، رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا تبايعتم بالعينة، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد في سبيل الله، سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه، حتى ترجعوا إلى دينكم " 1، وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: " من غزا غزوة في سبيل الله، فقد أدى إلى الله جميع طاعته، فمن شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر. قلنا: يا رسول الله، وبعد هذا الحديث الذي سمعنا منك، من يدع الجهاد ويقعد، قال: من لعنه الله وغضب عليه وأعد له   1 أبو داود: البيوع (3462) , وأحمد (2/28, 2/42, 2/84) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 20 عذاباً عظيماً: قوم يكونون في آخر الزمان، لا يرون الجهاد، وقد اتخذ ربي عنده عهداً لا يخلفه، أيما عبد لقيه وهو يرى ذلك، أن يعذبه عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين ". وعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال في خطبته، بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعام: أيها الناس: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم عام أول، في هذا الشهر على هذا المنبر، وهو يقول: "ما ترك قوم الجهاد في سبيل الله، إلا أذلهم الله، وما ترك قوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إلا عمهم الله بعقابه"، وفي الحديث: " من لم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو، مات على شعبة من النفاق " 1. فهذه نصيحة بذلناها لكم تذكرة، كما قال تعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [سورة الذاريات آية: 55] ، وقال: {سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى} [سورة الأعلى آية: 10] . ومعذرة بين يدي الله عن السكوت، لأن السكوت ليس بعذر لأهل العلم، {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ} [سورة آل عمران آية: 187] . فلا تغتروا بأهل الكفر وما أعطوه من القوة والعدة، فإنكم لا تقاتلون إلا بأعمالكم، فإن أصلحتموها وصلحت، وعلم الله منكم الصدق في معاملته، وإخلاص النية له، أعانكم عليهم، وأذلهم، فإنهم عبيده ونواصيهم بيده، وهو الفعال لما يريد. {لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ   1 مسلم: الإمارة (1910) , والنسائي: الجهاد (3097) , وأبو داود: الجهاد (2502) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 21 مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} [سورة آل عمران آية: 196-197] . فعليكم بما أوجبه الله وافترضه من جهادهم ومباينتهم، وكونوا عباد الله على ذلك إخواناً وأعواناً؛ وكل من استطاع لهم، ودخل في طاعتهم، وأظهر موالاتهم، فقد حارب الله ورسوله، وارتد عن دين الإسلام، ووجب جهاده ومعاداته، ولا تنتصروا إلا بربكم، واتركوا الانتصار بأهل الكفر جملة وتفصيلاً، فقد قال صلى الله عليه وسلم: "إنالا نستعين بمشرك " 1. وهذه الدولة التي تنتسب إلى الإسلام، هم الذين أفسدوا على الناس دينهم ودنياهم، استسلموا للنصرانية، واتحدت كلمتهم معهم، وصار ضررهم وشرهم على أهل الإسلام والأمة المستجيبة لنبيها والمخلصة لربها، فحسبنا الله ونعم الوكيل؛ وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. وقال الشيخ محمد بن الشيخ عبد اللطيف، وفقه الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي فرض الجهاد بالقلب واليد واللسان، وجعله أحد أركان الإسلام والإيمان، ووهب لمن قام به الغرف العالية في الجنان، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا   1 مسلم: الجهاد والسير (1817) , والترمذي: السير (1558) , وأبو داود: الجهاد (2732) , وابن ماجة: الجهاد (2832) , وأحمد (6/67, 6/148) , والدارمي: السير (2496) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 22 شريك له، ذو الفضل والإحسان، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أفضل من جاهد أهل الكفر والطغيان؛ اللهم صل على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه الذين جاهدوا في سبيل الله في السر والإعلان، وسلم تسليماً كثيراً. من محمد بن عبد اللطيف: إلى كافة من يراه من إخواننا المسلمين، وفقهم الله لنصر الملة والدين، وأعانهم على جهاد من خالف ما جاء به سيد المرسلين. أما بعد، فموجب الكتاب: هو النصيحة لكم، والوصية بتقوى الله وطاعته، وامتثال ما أوجبه عليكم في كتابه، وأوجبه رسوله صلى الله عليه وسلم؛ وأعظم الواجبات التي أوجبها الله ورسوله، وفرضها: عبادته بالإخلاص، وترك عبادة ما سواه، والتزام شرائعه، والجهاد في سبيل الله، ومراغمة أعدائه مع من ولاه الله أمركم وجعله إماماً لكم. والجهاد ركن من أركان الإسلام، الذي لا استقامة للإسلام ولا قوام لشرائعه إلا به؛ وقد أمر الله في كتابه بالجهاد في سبيله، ومدح من قام به، وأثنى عليهم، وجعلهم أهل العروة الوثقى، لأن الجهاد هو ذروة سنام الإسلام. قال الله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [سورة البقرة آية: 216] ، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 23 وقال تعالى: {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} الآية [سورة التوبة آية: 41] . وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [سورة التوبة آية: 111] ، وقال تعالى: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} [سورة النساء آية: 95-96] . وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [سورة الصف آية: 10-13] . وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 24 رَحِيمٌ} [سورة البقرة آية: 218] . والآيات في فضل الجهاد والترغيب فيه، أكثر من أن تحصر. وأما الأحاديث الدالة على فضله، وما رتب عليه من الثواب العظيم والأجر الجسيم، فكثيرة جداً، فمنها: ما روى البخاري ومسلم، عن أبي هريرة رضي الله عنه: " سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الأعمال أفضل؟ قال: إيمان بالله ورسوله. قيل: ثم ماذا؟ قال: الجهاد في سبيل الله. قيل: ثم ماذا؟ قال: حج مبرور " 1، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم الجهاد أفضل من الحج. ولهما عن أبي ذر رضي الله عنه قال: " قلت: يا رسول الله، أي الأعمال أفضل؟ قال: الإيمان بالله ورسوله. قيل: ثم ماذا؟ قال: الجهاد في سبيله " 2. وعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لغدوة أو روحة في سبيل الله، خير من الدنيا وما فيها " 3، رواه البخاري ومسلم، ولهما أيضاً: عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: " أتى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أي الناس أفضل؟ قال: مؤمن يجاهد بنفسه وماله في سبيل الله " 4. وعن سهل بن سعد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " رباط يوم في سبيل الله، خير من الدنيا وما عليها، وموضع سوط أحدكم من الجنة، خير من الدنيا وما عليها، والروحة يروحها العبد في سبيل الله، أو الغدوة، خير من الدنيا وما عليها".   1 البخاري: الإيمان (26) , ومسلم: الإيمان (83) , والترمذي: فضائل الجهاد (1658) , والنسائي: مناسك الحج (2624) والجهاد (3130) , وأحمد (2/264) , والدارمي: الجهاد (2393) . 2 البخاري: الإيمان (26) , ومسلم: الإيمان (83) , والترمذي: فضائل الجهاد (1658) , والنسائي: مناسك الحج (2624) والجهاد (3130) , وأحمد (2/264) , والدارمي: الجهاد (2393) . 3 البخاري: الجهاد والسير (2794) , ومسلم: الإمارة (1882) , والترمذي: فضائل الجهاد (1649) , والنسائي: الجهاد (3118) , وابن ماجة: الجهاد (2756) , وأحمد (3/433, 5/335) , والدارمي: الجهاد (2398) . 4 البخاري: الجهاد والسير (2786) , ومسلم: الإمارة (1888) , والترمذي: فضائل الجهاد (1660) , والنسائي: الجهاد (3105) , وأبو داود: الجهاد (2485) , وابن ماجة: الفتن (3978) , وأحمد (3/37) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 25 وعن سلمان رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " رباط يوم وليلة في سبيل الله، خير من صيامها وقيامها، وإن مات فيه - يعني في الجهاد - أجري عليه عمله الذي كان يعمل، وأجرى عليه رزقه، وأمن الفتانين " 1، رواه مسلم. وعن فضالة بن عبيد رضي الله عنه قال: " كل ميت يختم على عمله، إلا المرابط في سبيل الله، فإنه ينسأ له عمله إلى يوم القيامة، ويأمن من فتنة القبر " 2، رواه أبو داود. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " تضمن الله لمن خرج في سبيله، لا يخرجه إلا إيمان بي وجهاد في سبيلي وتصديق برسلي، فهو علي ضامن أن أدخله الجنة، أو أرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه نائلاً ما نال من أجر أو غنيمة. والذي نفس محمد بيده، ما من كلم يكلم في سبيل الله، إلا جاء يوم القيامة كهيئته يوم كلم، لونه لون دم، وريحه ريح مسك. والذي نفس محمد بيده، لولا أن أشق على المسلمين، ما قعدت خلف سرية تغزو في سبيل الله أبداً، ولكن لا أجد سعة فأحملهم، ولا يجدون سعة ويشق عليهم أن يتخلفوا عني. والذي نفس محمد بيده، لوددت أن أغزو في سبيل الله فأُقتل، ثم أغزو فأُقتل، ثم أغزو فأُقتل "، رواه مسلم. وعن معاذ رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من قاتل في سبيل الله فواق ناقة، وجبت له الجنة. ومن جرح   1 مسلم: الإمارة (1913) , والترمذي: فضائل الجهاد (1665) , والنسائي: الجهاد (3167، 3168) , وأحمد (5/441) . 2 الترمذي: فضائل الجهاد (1621) , وأبو داود: الجهاد (2500) , وأحمد (6/20) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 26 جرحاً في سبيل الله، أو نكب نكبة، فإنها تجيء يوم القيامة كأغزر ما كانت، لونها الزعفران وريحها المسك " 1، رواه أبو داود والترمذي. والفواق: ما بين الحلبتين. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: " مر رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بشعب فيه عيينة من ماء عذبة فأعجبته، فقال: لو اعتزلت الناس، وأقمت في هذا الشعب، ولن أفعل حتى أستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: لا تفعل، فإن مقام أحدكم في سبيل الله، أفضل من مقامه في بيته سبعين عاماً. ألا تحبون أن يغفر الله لكم ويدخلكم الجنة؟ اغزوا في سبيل الله. من قاتل في سبيل الله فواق ناقة، وجبت له الجنة " 2، رواه الترمذي. وعن معاذ رضي الله عنه قال: " قيل: يا رسول الله، ما يعدل الجهاد في سبيل الله؟ قال: لا تستطيعونه. قأعادوا عليه مرتين أو ثلاثاً، كل ذلك وهو يقول: لا تستطيعونه. ثم قال: مثل المجاهد في سبيل الله، كمثل القائم القانت بآيات الله، لا يفتر من صلاة ولا صيام، حتى يرجع المجاهد في سبيل الله "، وعنه صلى الله عليه وسلم: " إن في الجنة مائة درجة، أعدها الله للمجاهدين في سبيله، ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض " 3، رواه البخاري. وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن أبواب الجنة تحت ظلال السيوف " 4، وعن   1 الترمذي: فضائل الجهاد (1657) , والنسائي: الجهاد (3141) , وأبو داود: الجهاد (2541) , وابن ماجة: الجهاد (2792) , وأحمد (5/244) . 2 الترمذي: فضائل الجهاد (1650) , وأحمد (2/524) . 3 البخاري: التوحيد (7423) , وأحمد (2/335, 2/339) . 4 مسلم: الإمارة (1902) , والترمذي: فضائل الجهاد (1659) , وأحمد (4/396, 4/410) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 27 عبد الرحمن بن جبير رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما اغبرت قدما عبد في سبيل الله فتمسه النار أبداً " 1، وعن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة، الأجر والمغنم " 2، وقال صلى الله عليه وسلم: " من لم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو، مات على شعبة من النفاق " 3. والأحاديث في فضل الجهاد، والترغيب فيه، كثيرة شهيرة؛ فسارعوا عباد الله إلى ما ندبكم الله إليه، ورغبكم فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، واغتنموا حضور المشاهد، التي يترتب عليها إعلاء كلمة الله، وإعزاز دينه؛ وإياكم والتخلف، والتكاسل والالتفات إلى من يثبط عن طرق الخير، ويعوق عن موجبات السعادة الدنيوية والأخروية! وقد ذم الله المتخلفين عن الجهاد في سبيله، وعابهم، فقال تعالى: {سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا} [سورة الفتح آية: 11] ، فاعتذروا بالاشتغال بالأهل والأموال عن حضور الجهاد، {يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} [سورة الفتح آية: 11] . وقال تعالى حاكياً عن المنافقين، بتخذيلهم وتثبيطهم للمؤمنين عن الجهاد في سبيل الله: {وَقَالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ} [سورة التوبة آية: 81] . فلا يتخلف عن الجهاد إذا دعي إليه إلا منافق معلوم النفاق، فالحذر كل الحذر، من الإصغاء والالتفات إلى   1 البخاري: الجهاد والسير (2811) , والترمذي: فضائل الجهاد (1632) , والنسائي: الجهاد (3116) , وأحمد (3/479) . 2 البخاري: الجهاد والسير (2850) , ومسلم: الإمارة (1873) , والترمذي: الجهاد (1694) , والنسائي: الخيل (3575, 3576) , وابن ماجة: التجارات (2305) والجهاد (2786) , وأحمد (4/375, 4/376) , والدارمي: الجهاد (2426) . 3 مسلم: الإمارة (1910) , والنسائي: الجهاد (3097) , وأبو داود: الجهاد (2502) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 28 المخذلين والمثبطين، وما يلقونه من الشكوك والريب، وإساءة الظن بأهل هذه الدعوة الإسلامية، الذين أقامهم الله في آخر هذا الزمان، أنصاراً لدين الله، وأعواناً لمن قام به؛ فالقيام معهم ونصرتهم من الواجبات الدينية، لأنهم أنصار الإسلام أولاً وآخراً، أطال الله للمسلمين بقاءهم، وخذل جميع من ناوأهم، لا سيما بترك الإسلام وركنه، وكهفه المنيع وحصنه، أعني به البطل الهمام، والشجاع المقدام، قائد جموع أهل الإسلام، الإمام عبد العزيز بن الإمام عبد الرحمن آل فيصل، حفظه الله وأطال بقاءه. فإذا دعاكم أيها المسلمون إلى الجهاد والنفير، فاسمعوا وأطيعوا، واحذروا أن تكونوا كالذين قالوا: سمعنا وعصينا؛ فإن القيام معه ونصرته من الواجبات الدينية، لأنا لا نعلم أحداً على وجه الأرض اليوم، شرقاً وغرباً، جنوباً وشمالاً تجب طاعته، ويجب الجهاد معه، أولى منه. وقد قال تعالى معاتباً لعباده المؤمنين، ومحذراً لهم عن التثاقل والتثبيط: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ إِلاّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [سورة التوبة آية: 38-39] ، وقال تعالى آمراً لهم بالنفير: {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي الجزء: 8 ¦ الصفحة: 29 سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [سورة التوبة آية: 41] . وترك الجهاد من الإلقاء باليد إلى التهلكة، ومن الأسباب التي توجب تسليط العدو، قال تعالى: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [سورة البقرة آية: 195] ، قال طائفة من السلف: الإلقاء باليد إلى المهلكة، هو ترك الجهاد، وقال صلى الله عليه وسلم: " إذا تبايعتم بالعينة، واتبعتم أذناب البقر، وتركتم الجهاد في سبيل الله، سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه منكم حتى تراجعوا دينكم ". فالله الله، في المبادرة والمسارعة! فإن الله يحب من عباده أن يسارعوا إلى ما أمرهم به؛ وإذا استنفر الإمام الرعية، كان الجهاد فرض عين على كل من أقدره الله عليه، إلا من عذره الله في كتابه. فالإخلاد إلى الأرض، وإيثار الحياة الدنيا على الآخرة، والشح بالنفس والمال، وترك الجهاد، هو الخسران المبين. فاسمعوا وأطيعوا لمن ولاه الله أمركم، وأجيبوه إلى ما دعاكم إليه من الجهاد، وأخلصوا لله القصد والنية، وأصلحوا السريرة والطوية، تفلحوا وتفوزوا. وعليكم بالجد والاجتهاد، ومساعدة إمام المسلمين على قتال أعداء الملة والدين، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 30 وقال الشيخ سعد بن حمد بن عتيق، أعتقه الله من النار: بسم الله الرحمن الرحيم من سعد بن حمد بن عتيق: إلى الأمير المكرم سلطان بن بجاد، وجميع إخواننا المجاهدين والمرابطين، وفقهم الله تعالى للعمل بما يرضيه، وجعلهم ممن قرأ القرآن وعمل بما فيه؛ سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أما بعد، فالموجب للكتاب، هو: إبلاغكم السلام، وتذكيركم ما منّ الله به عليكم من النعم العظيمة، والمواهب الجسيمة، التي أجلها وأعظمها: أن هداكم لمعرفة أصل دين الإسلام، والعمل بما يقتضيه، من الوظائف الدينية، والأعمال الشرعية، والأحكام، وبصركم بما هداكم به من نور الإيمان، والقرآن العظيم، والسنة الثابتة عن نبيكم الكريم، فعرفكم جهل الجاهلين، وضلال الضالين، وشك الشاكين. وقد تعلمون ما كنتم عليه في السنين الخالية، من مشابهة أهل الجاهلية الأولين، في كثير من الأخلاق الجزء: 8 ¦ الصفحة: 31 والأعمال، والأخذ بكثير مما كانوا عليه من شعب الغي والضلال، فهداكم الله لسلوك الصراط المستقيم، وجنبكم طريق أصحاب الجحيم. فحقيق بكم أن تشكروا هذه النعمة، وتوفوها حقها، قال الله تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [سورة يونس آية: 58] . قال ابن عباس، رضي الله عنهما: "فضل الله الإسلام، ورحمته القرآن"، وقال أبو سعيد الخدري: "فضل الله القرآن، ورحمته أن جعلنا من أهله"، وقال ابن عمر: "فضل الله الإسلام، ورحمته تزيينه في القلوب". وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [سورة آل عمران آية: 102-105] ، وقال تعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 32 شَيْءٍ عَلِيمٌ} [سورة البقرة آية: 231] . وقال تعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [سورة المائدة آية: 7] . ومن أعظم ما من الله به عليكم وأسداه من فضله وإحسانه إليكم: الجهاد في سبيل الله، والحراسة والرباط فيه، وإغاظة أعداء الله، وإنزال الضرر والضيق بهم؛ فيا لها من مرتبة ما أعلاها! ومواهب ما أشرفها وأسناها! وقد تضمن كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم من الترغيب في ذلك والحث عليه، وبيان ما يترتب عليه من الأجر والثواب، ما يحرك القلوب الواعية، وينهض من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [سورة الصف آية: 10-13] ، وقال تعالى: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 33 أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [سورة التوبة آية: 19-22] . وقال تعالى: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} [سورة النساء آية: 95-96] . وقال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَأُونَ مَوْطِئاً يُغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وَادِياً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [سورة التوبة آية: 120-121] . وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "مثل المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم القائم القانت بآيات الله، لا يفتر من صيام ولا صلاة، حتى يرجع المجاهد في سبيل الله"، وقال: "تكفل الله للمجاهد في سبيله إن توفاه أن يدخله الجنة،?أو يرجعه سالماً مع ما نال من أجر وغنيمة " 1، وقال: " غدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها " 2، وقال: " جاهدوا في سبيل الله؛ فإن الجهاد في سبيل الله باب من أبواب الجنة،   1 البخاري: فرض الخمس (3123) والتوحيد (7457, 7463) , ومسلم: الإمارة (1876) , والنسائي: الجهاد (3123) , وابن ماجة: الجهاد (2753) , وأحمد (2/231, 2/424, 2/494) , ومالك: الجهاد (974) , والدارمي: الجهاد (2391) . 2 البخاري: الجهاد والسير (2792) , ومسلم: الإمارة (1880) , والترمذي: فضائل الجهاد (1651) , وابن ماجة: الجهاد (2757) , وأحمد (3/132) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 34 ينجي الله به من الهم والغم " 1، وقال: " انتدب الله لمن خرج في سبيله، لا يخرجه إلا إيمان بي وتصديق برسلي، أن أرجعه بما نال من أجر أو غنيمة، أو أدخله الجنة. ولولا أن أشق على أمتي ما قعدت خلف سرية، ولوددت أني أُقتل في سبيل الله ثم أحيا، ثم أُقتل ثم أحيا، ثم أقتل " 2. وقال صلى الله عليه وسلم: "رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها "، وقال: " رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه. وإن مات أجري عليه عمله الذي كان يعمله، وأجري عليه رزقه، وأمن من الفتانين " 3، وقال: " ما من ميت يموت إلا ختم على عمله، إلا من مات مرابطاً في سبيل الله، فإنه ينمو له عمله إلى يوم القيامة، وأمن من فتنة القبر " 4، وقال: " رباط يوم خير من ألف يوم فيما سواه من المنازل " 5، وذكر الترمذي عنه: " من رابط ليلة في سبيل الله كانت له كألف ليلة، صيامها وقيامها " 6، وذكر أحمد عنه: " من حرس من وراء المسلمين في سبيل الله تطوعاً لا يأخذه سلطان، لم ير النار بعينه إلا تحلة القسم، فإن الله تعالى يقول: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [سورة مريم آية: 71] ?" 7. وهذا قليل من كثير، تركنا ذكره لقصد الاختصار وعدم التطويل، فانظروا رحمكم الله هذه الآيات والأحاديث، وما فيها من الثناء الجميل والثواب الجزيل، الذي وعد الله به أهل الجهاد في سبيله، والرباط والحراسة فيه، هل تدركه أعمال   1 أحمد (5/314) . 2 البخاري: الإيمان (36) , ومسلم: الإمارة (1876) , وابن ماجة: الجهاد (2753) , وأحمد (2/231) , ومالك: الجهاد (1012) . 3 مسلم: الإمارة (1913) , والترمذي: فضائل الجهاد (1665) , والنسائي: الجهاد (3167 3168) , وأحمد (5/440, 5/441) . 4 الترمذي: فضائل الجهاد (1621) , وأبو داود: الجهاد (2500) , وأحمد (6/20) . 5 الترمذي: فضائل الجهاد (1667) , والنسائي: الجهاد (3169) , وأحمد (1/65, 1/75) , والدارمي: الجهاد (2424) . 6 ابن ماجة: الجهاد (2766) . 7 أحمد (3/437) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 35 العابدين واجتهاد المجتهدين، وإن استغرقوا بالعبادة أيامهم، وأتعبوا بقيام الليل أجسادهم، ولله در القائل: يا عابد الحرمين لو أبصرتنا ... لعلمت أنك في العبادة تلعبُ من كان يخضب خده بدموعه ... فنحورنا بدمائنا تتخضبُ أو كان يتعب خيله في باطل ... فخيولنا يوم الصبيحة تتعبُ ريح العبير لكم ونحن عبيرنا ... رهج السنابك والغبار الأطيبُ ولقد أتانا من مقال نبينا ... قول صحيح صادق لا يكذبُ لايستوي غبار خيل الله في ... أنف امرئ ودخان نار تلهبُ هذا كتاب الله ينطق بيننا ... ليس الشهيد بميت لا يكذبُ فعليكم عباد الله بالصبر والثبات، ولزوم المراكز والمعسكرات، وإياكم والضجر والسآمة والملل، وغير ذلك مما يؤول بصاحبه إلى الوهن والفشل؛ واحذروا التفرق والتنازع والتخالف، والانسحاب عن شيء من تلك المقامات والمواقف، فإن النصر مع الصبر، وإن الله ناصر حزبه ومظهر دينه على الدين كله. {وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ} [سورة محمد آية: 4] . وقال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [سورة آل عمران آية: 142] ، وقال تعالى: {وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [سورة الأنفال آية: 46] ، وقال تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 36 يُحِبُّ الصَّابِرِينَ وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [سورة آل عمران آية: 146-148] . وعليكم بلزوم الطاعة وملازمة الجماعة، وامتثال أمر من ولاه الله أمركم، وعدم الاختلاف عليه والتخلف عن طاعته، فعلى الله فاعتمدوا، وبه فثقوا، وعليه فتوكلوا، {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً} [سورة الطلاق آية: 3] . فنسأل الله تعالى أن يهدينا وإياكم وجميع المسلمين صراطه المستقيم، وأن يثبتنا جميعاً على دينه، وأن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، وأن يهب لنا من لدنه رحمة إنه هو الوهاب، وصلى الله على محمد، وآله وصحبه وسلم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 37 وقال الشيخ عبد الله بن عبد العزيز العنقري، وفقه الله تعالى. بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي شرع الجهاد لعباده المؤمنين، ونصرهم على أعدائهم من الكفار والمشركين، وأنزل إليهم في كتابه المبين: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِين َوَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [سورة الأنفال آية: 9-10] . أمرنا بالجهاد، وجعل ثواب أهله أعلى أبواب الجنة، وأعظم للمجاهدين الأجور، وأجزل لهم المنة؛ جردوا سيوفهم لقتال الكفار، وبذلوا النفوس والأموال لينالوا منازل الأبرار، ففازوا بجنة {عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [سورة آل عمران آية: 133] ، {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [سورة العنكبوت آية: 69] . أعلامهم في أقطار الأرض في نصرة التوحيد خافقة، وخيول عزمهم في ميدان رهان الفضائل سابقة، أخلصوا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 38 أعمالهم لرب العالمين، ولازموا طاعته حتى أتاهم اليقين، وتحملوا مشقة الجهاد رجاء لما يوعدون. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [سورة آل عمران آية: 200] . أحمده سبحانه، إذ كشف عنا بالجهاد في سبيله كل فتنة مدلهمة; وأشكره إذ هدانا للإسلام وجعلنا من خير أمة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، كلمة قامت بها الأرض والسماوات، ونصر من قام بها على جميع البريات؛ فإنها كلمة الإسلام، ومفتاح دار السلام، ومن أجلها شرع الجهاد، وقام بأعبائه من أراد الله سعادته من صالح العباد. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، الذي أقام الله به علم الجهاد، وقمع به أهل الغي والفساد، وأنزل عليه في كتابه المبين: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ} [سورة التوبة آية: 73] ، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين أيد الله بهم الإسلام، ومزق بهم من الشرك كل غيهب وقتام، وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد، فإن الجهاد من أفضل ما تقرب به المتقربون، وتنافس في حوز قصب سبقه المتنافسون، وقد ورد في فضله من الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، ما يثير ساكن الغرام، ويوجب بذل المهج في طلب الزلفى من الملك العلام، فقد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 39 تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [سورة الصف آية: 10-12] . وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [سورة التوبة آية: 111] ، وقال تعالى: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [سورة التوبة آية: 36] . وقال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [سورة البقرة آية: 216] وقال تعالى: {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [سورة التوبة آية: 41] ، وقال تعالى: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً الجزء: 8 ¦ الصفحة: 40 عَظِيماً دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} [سورة النساء آية: 95-96] . والآيات في ذلك كثيرة جداً. لقد حرك الداعي إلى الله وإلى دار السلام النفوس الأبية والهمم العالية، وأسمع منادي الإيمان من كانت له أذن واعية، وأسمع الله من كان حياً، فهزه السماع إلى منازل الأبرار، وحدا به في طريق سيره، فما حطت به رحله إلا بدار القرار. وأما الأحاديث: فقد قال صلى الله عليه وسلم: " انتدب الله عز وجل لمن خرج في سبيله، لا يخرجه إلا إيمان بي وتصديق برسلي، أن أرجعه بما نال من أجر أو غنيمة، أو أدخله الجنة. ولولا أن أشق على أمتي ما قعدت خلف سرية، ولوددت أني أُقتل في سبيل الله، ثم أحيا ثم أُقتل، ثم أحيا ثم أُقتل " 1، وقال: " مثل المجاهد في سبيل الله، كمثل الصائم القائم، القانت بآيات الله، لا يفتر من صيامه ولا صلاته، حتى يرجع المجاهد في سبيل الله. وتكفل الله للمجاهد في سبيله إن توفاه، أن يدخله الجنة أو يرجعه سالماً، مع ما نال من أجر أو غنيمة " 2. وقال صلى الله عليه وسلم: " غدوة في سبيل الله أو روحة، خير من الدنيا وما فيها "3، وقال فيما يروي عن ربه تبارك وتعالى: " أيما عبد من عبادي خرج مجاهداً في سبيلي ابتغاء مرضاتي، ضمنت له أن أرجعه بما أصاب من أجر أو غنيمة،   1 البخاري: الإيمان (36) , ومسلم: الإمارة (1876) , وابن ماجة: الجهاد (2753, وأحمد (2/231) , ومالك: الجهاد (1012) . 2 البخاري: الجهاد والسير (2785) , ومسلم: الإمارة (1878) , والترمذي: فضائل الجهاد (1619) , وأحمد (2/438) , ومالك: الجهاد (973) . 3 البخاري: الجهاد والسير (2792) , ومسلم: الإمارة (1880) , والترمذي: فضائل الجهاد (1651) , وابن ماجة: الجهاد (2757) , وأحمد (3/132) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 41 وإن قبضته أن أغفر له وأرحمه، وأدخله الجنة " 1، وقال صلى الله عليه وسلم: "جاهدوا في سبيل الله، فإن الجهاد في سبيل الله باب من أبواب الجنة، ينجي الله به من الهم والغم " 2، وقال: " أنا زعيم – والزعيم: الحميل - لمن آمن بي وأسلم، وجاهد في سبيل الله، ببيت في ربض الجنة، وببيت في وسط الجنة، وببيت في أعلى غرف الجنة. من فعل ذلك فلم يدع للخير مطلباً، ولا من الشر مهرباً، يموت حيث شاء الله أن يموت " 3. وقال صلى الله عليه وسلم: " من قاتل في سبيل الله من رجل مسلم، فواق ناقة، وجبت له الجنة " 4، وقال صلى الله عليه وسلم: " إن في الجنة مائة درجة، أعدها الله للمجاهدين في سبيله، ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس، فإنه أوسط الجنة، وأعلى الجنة، وفوقه عرش الرحمن، ومنه تفجر أنهار الجنة " 5، وقال صلى الله عليه وسلم لأبي سعيد: " من رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد رسولاً، وجبت له الجنة. فتعجب لها أبو سعيد، فقال: أعدها علي يا رسول الله، ففعل ثم قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: وأخرى يرفع الله بها العبد مائة درجة فى الجنة، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض. قال: وما هي يا رسول الله؟ قال: الجهاد في سبيل الله " 6، وقال صلى الله عليه وسلم: " من أنفق زوجين في سبيل الله، دعاه خزنة   1 النسائي: الجهاد (3126) , وأحمد (2/117) . 2 أحمد (5/314) . 3 النسائي: الجهاد (3133) . 4 الترمذي: فضائل الجهاد (1657) , والنسائي: الجهاد (3141) , وأبو داود: الجهاد (2541) , وابن ماجة: الجهاد (2792) , وأحمد (5/243, 5/244) . 5 البخاري: التوحيد (7423) , وأحمد (2/335, 2/339) . 6 مسلم: الإمارة (1884) , والنسائي: الجهاد (3131) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 42 الجنة، كل خزنة باب: يا فلان هلم! فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان. فقال أبو بكر: بأبي يا رسول الله، أنت وأمي، ما على من دعي من تلك الأبواب من ضرورة، فهل يدعى أحد من تلك الأبواب كلها؟ قال: نعم، وأرجو أن تكون منهم " 1. وقال صلى الله عليه وسلم: " من أنفق نفقة فاضلة في سبيل الله، فبسبعمائة، ومن أنفق على نفسه وأهله وعاد مريضاً، أو أماط الأذى عن طريق، فالحسنة بعشر أمثالها. والصوم جُنة ما لم يخرقها. ومن ابتلاه الله في جسده، فهو له حطة " 2. وذكر ابن ماجة عن النبي صلى الله عليه وسلم: " من أرسل بنفقة في سبيل الله، وأقام في بيته، فله بكل درهم سبعمائة درهم. ومن غزا بنفسه في سبيل الله، وأنفق في وجهه ذلك، فله بكل درهم سبعمائة ألف درهم. ثم تلا هذه الآية: {وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ} " 3. وقال صلى الله عليه وسلم: " من أعان مجاهداً في سبيل الله، أو غارماً في غرامه، أو مكاتباً في رقبته، أظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله " 4، وقال صلى الله عليه وسلم: " من اغبرت قدماه في سبيل الله، حرمهما الله على النار " 5، وقال: " لا يجتمع شح وإيمان في قلب رجل واحد، ولا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم   1 البخاري: الصوم (1897) , ومسلم: الزكاة (1027) , والترمذي: المناقب (3674) , والنسائي: الصيام (2238) والزكاة (2439) والجهاد (3135, 3183) , وأحمد (2/268) , ومالك: الجهاد (1021) . 2 أحمد (1/195) . 3 ابن ماجة: الجهاد (2761) . 4 أحمد (3/487) . 5 البخاري: الجمعة (907) , والترمذي: فضائل الجهاد (1632) , والنسائي: الجهاد (3116) , وأحمد (3/479) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 43 في وجه عبد "، وفي لفظ: " في قلب عبد "، وفي لفظ: " في جوف امرئ "، وفي لفظ: " في منخري مسلم ". وذكر أحمد عنه صلى الله عليه وسلم: " من اغبرت قدماه في سبيل الله ساعة من نهار، فهما حرام على النار " 1، وذكر عنه أيضاً صلى الله عليه وسلم قال: " لا يجمع الله في جوف رجل غباراً في سبيل الله ودخان جهنم. ومن اغبرت قدماه في سبيل الله، حرم الله سائر جسده على النار. ومن صام يوماً في سبيل الله، باعد الله عنه النار مسيرة ألف سنة للراكب المستعجل. ومن جرح جراحة في سبيل الله، ختم له بخاتم الشهداء، له نور يوم القيامة، لونها لون الزعفران، وريحها ريح المسك؛ يعرفه بها الأولون والآخرون، ويقولون: فلان عليه طابع الشهداء. ومن قاتل في سبيل الله فواق ناقةن وجبت له الجنة ". وذكر ابن ماجة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "م ن راح روحة في سبيل الله، كان له بمثل ما أصابه الغبار، مسكاً يوم القيامة " 2. وذكر أحمد عنه صلى الله عليه وسلم: " ما خالط قلب امرئ رهج في سبيل الله، إلا حرم الله عليه النار " 3، وقال: " رباط يوم في سبيل الله، خير من الدنيا وما عليها "، وقال: " رباط يوم وليلة، خير من صيام شهر وقيامه؛ وإن مات أجري عليه عمله الذي كان يعمله، وأجري عليه رزقه، وأمن من الفتان " 4، وقال: " ما من ميت يموت إلا ختم على عمله، إلا من مات مرابطاً في سبيل الله، فإنه ينمو له عمله إلى يوم القيامة، وأمن من فتنة   1 الترمذي: فضائل الجهاد (1632) , وأحمد (3/479) . 2 ابن ماجة: الجهاد (2775) . 3 أحمد (6/85) . 4 مسلم: الإمارة (1913) , والترمذي: فضائل الجهاد (1665) , والنسائي: الجهاد (3167، 3168) , وأحمد (5/440, 5/441) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 44 القبر " 1. وقال صلى الله عليه وسلم: " رباط يوم في سبيله، خير من ألف يوم فيما سواه من المنازل " 2. وذكر الترمذي عنه صلى الله عليه وسلم: " من رابط ليلة في سبيل الله، كانت له كألف ليلة، صيامها وقيامها " 3، وقال: " مقام أحدكم في سبيل الله، خير من عبادة أحدكم في أهله ستين سنة. أما تحبون أن يغفر الله لكم وتدخلون الجنة، جاهدوا في سبيل الله. من قاتل في سبيل الله فواق ناقة، وجبت له الجنة " 4. وذكر أحمد عنه صلى الله عليه وسلم: " من رابط في سواحل المسلمين ثلاثة أيام، أجزأت عنه رباط سنة ". وذكر أحمد عنه صلى الله عليه وسلم: " حرس ليلة في سبيل الله خير له من ألف ليلة يقام ليلها، ويصام نهارها " 5، وقال: " حرمت النار على عين دمعت أو بكت من خشية الله، وحرمت على عين سهرت في سبيل الله " 6. وذكر أحمد عنه صلى الله عليه وسلم: " من حرس من وراء المسلمين متطوعاً لا يأخذه سلطان، لم ير النار بعينه إلا تحلة القسم، فإن الله يقول: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [سورة مريم آية: 71] ?" 7. وقال صلى الله عليه وسلم: "ل رجل حرس المسلمين ليلة في سفرهم، من أولها إلى الصباح على ظهر فرسه، لم ينزل إلا لصلاة أو قضاء حاجة، أوجبت؛ فلا عليك ألا تعمل بعدها"، وقال: "من بلغ بسهم في سبيل الله، فله درجة في الجنة " 8، وقال: " من رمى بسهم في سبيل الله، فهو عدل محرر. ومن شاب   1 الترمذي: فضائل الجهاد (1621) , وأبو داود: الجهاد (2500) , وأحمد (6/20) . 2 الترمذي: فضائل الجهاد (1667) , والنسائي: الجهاد (3169, 3170) , وأحمد (1/62, 1/65, 1/66, 1/75) , والدارمي: الجهاد (2424) . 3 ابن ماجة: الجهاد (2766) . 4 الترمذي: فضائل الجهاد (1650) , وأحمد (2/446) . 5 أحمد (1/61) . 6 النسائي: الجهاد (3117) , وأحمد (4/134) , والدارمي: الجهاد (2400) . 7 أحمد (3/437) . 8 النسائي: الجهاد (3143) , وأبو داود: العتق (3965) , وأحمد (4/384) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 45 شيبة في الإسلام، كانت له نوراً يوم القيامة " 1. وعند الترمذي تفسير الدرجة بمائة عام، وعند النسائي تفسيرها بخمسمائة عام. وقال: " إن الله يدخل بالسهم الواحد الجنة: صانعه يحتسب في صنعته الخير، والممد به، والرامي به؛ وارموا واركبوا، وأن ترموا أحب إلي من أن تركبوا. وكل شيء يلهو به الرجل فباطل، إلا رميه بقوسه، أو تأديبه فرسه، أو ملاعبته امرأته. ومن علمه الله الرمي، فتركه رغبة عنه، فنعمة كفرها "، رواه أحمد وأهل السنن، وعند ابن ماجة: "من تعلم الرمي فتركه فقد عصاني " 2. وذكر أحمد عنه: " أن رجلاً قال له: أوصني، فقال: أوصيك بتقوى الله، فإنه رأس كل شيء. وعليك بالجهاد، فإنه رهبانية الإسلام. وعليك بذكر الله وتلاوة القرآن، فإنه نور لك في السماء وذكر لك في الأرض "، وقال صلى الله عليه وسلم: " ذروة سنام الإسلام الجهاد " 3، وقال صلى الله عليه وسلم: " ثلاثة حق على الله عونهم: المجاهد في سبيل الله، والمكاتب الذي يريد الأداء، والناكح الذي يريد العفاف " 4، وقال صلى الله عليه وسلم " من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بغزو، مات على شعبة من نفاق " 5. وذكر أبو داود عنه صلى الله عليه وسلم: " من لم يغز، أو يجهز غازياً، أو يخلف غازياً في أهله، أصابه الله بقارعة قبل يوم القيامة " 6. وقال صلى الله عليه وسلم: " إذا ضن الناس بالدينار والدرهم، وتبايعوا   1 أحمد (4/113) . 2 مسلم: الإمارة (1919) , والنسائي: الخيل (3578) , وأبو داود: الجهاد (2513) , وابن ماجة: الجهاد (2814) , وأحمد (4/144, 4/146, 4/148) , والدارمي: الجهاد (2405) . 3 الترمذي: الإيمان (2616) , وابن ماجة: الفتن (3973) , وأحمد (5/235) . 4 الترمذي: فضائل الجهاد (1655) , والنسائي: الجهاد (3120) والنكاح (3218) , وابن ماجة: الأحكام (2518) , وأحمد (2/437) . 5 مسلم: الإمارة (1910) , والنسائي: الجهاد (3097) , وأبو داود: الجهاد (2502) . 6 أبو داود: الجهاد (2503) , وابن ماجة: الجهاد (2762) , والدارمي: الجهاد (2418) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 46 بالعينة، واتبعوا أذناب البقر، وتركوا الجهاد في سبيل الله، أنزل الله بهم بلاء فلم يرفعه حتى يراجعوا دينهم " 1. وذكر ابن ماجة عنه صلى الله عليه وسلم: " من لقي الله عز وجل وليس له أثر في سبيل الله، لقي الله وفيه ثلمة " 2. وقال تعالى: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [سورة البقرة آية: 195] ، وفسر أبو أيوب الإلقاء باليد إلى التهلكة بترك الجهاد. وصح عنه صلى الله عليه وسلم: " أن أبواب الجنه تحت ظلال السيوف، " 3، وصح عنه صلى الله عليه وسلم: " من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، فهو في سبيل الله " 4، وصح عنه: " أن النار أول ما تسعر بالعالم، والمنفق، والمقتول في الجهاد، إذا فعلوا ذلك ليقال "، وصح عنه صلى الله عليه وسلم: " أن من جاهد يبتغي عرض الدنيا فلا أجر له " 5، وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال لعبد الله بن عمرو: " إن قاتلت صابراً محتسباً بعثك الله صابراً محتسباً، وإن قاتلت مرائياً مكاثراً بعثك الله مرائياً مكاثراً. يا عبد الله بن عمرو، على أي وجه قاتلت أو قتلت، بعثك الله على تلك الحال " 6. إذا علم ذلك، فقد من الله على المسلمين بولاية عادلة دينية، وهي ولاية إمام المسلمين عبد العزيز بن عبد الرحمن آل فيصل، لا زالت رايته منصورة، وجنود الباطل بصولته مكسورة مقهورة، أقام الله به أود الشريعة، وأزال به الأفعال المنكرة الشنيعة. وبالجملة: ففضائله كثيرة لا تحصى، وعد ما من الله به   1 أبو داود: البيوع (3462) , وأحمد (2/28) . 2 الترمذي: فضائل الجهاد (1666) , وابن ماجة: الجهاد (2763) . 3 مسلم: الإمارة (1902) , والترمذي: فضائل الجهاد (1659) , وأحمد (4/396, 4/410) . 4 البخاري: العلم (123) , ومسلم: الإمارة (1904) , والترمذي: فضائل الجهاد (1646) , والنسائي: الجهاد (3136) , وأبو داود: الجهاد (2517) , وابن ماجة: الجهاد (2783) , وأحمد (4/392, 4/397, 4/401, 4/405, 4/417) . 5 أبو داود: الجهاد (2516) , وأحمد (2/290) . 6 أبو داود: الجهاد (2519) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 47 على يده على أهل نجد غزير لا يستقصى؛ وقد تعين على المسلمين وجوب الجهاد معه، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إذا استُنفرتم فانفروا " 1، يعني: استنفر الإمام رعيته، وجب عليهم النفير إلى الجهاد معه بأموالهم وأنفسهم، لأنه يجاهد عن حوزة الدين، وعورات المسلمين، ويحوطهم من كل من رامهم بسوء من الكفار والمعتدين. وكونه على هذه الحالة نعمة من الله، ينبغي أن تقيد بالشكر، هذا والله المسؤول أن يوفقنا وإياكم لفعل الخيرات، وترك المنكرات، وأن ينصر إمام المسلمين، وأن يرزقه التوفيق للزوم سلوك الصراط المستقيم، والله أعلم.   1 البخاري: الحج (1834) , ومسلم: الحج (1353) , والترمذي: السير (1590) , والنسائي: البيعة (4170) , وأبو داود: الجهاد (2480) , وابن ماجة: الجهاد (2773) , وأحمد (1/226, 1/315, 1/355) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 48 فصل: [في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر] قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى: بسم الله الرحمن الر حيم من محمد بن عبد الوهاب: إلى من يصل إليه هذا الكتاب من الإخوان، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد يجري عندكم أمور تجري عندنا من سابق، لكن نصحنا إخواننا إذا جرى منها شيء حتى فهموها، وسببها: أن بعض أهل الدين ينكر منكراً، وهو مصيب، لكن يخطئ في تغليظ الأمر إلى شيء يوقع الفرقة بين الإخوان، وقد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} [سورة آل عمران آية: 102-103] ، وقال صلى الله عليه وسلم: " إن الله يرضى لكم ثلاثاً: أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، وأن تعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم " 1. وأهل العلم يقولون: الذي يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، يحتاج إلى ثلاث: أن يعرف ما يأمر به وينهى عنه، ويكون رفيقاً فيما يأمر به وينهى عنه، ويكون صابراً على ما جاءه من الأذى في ذلك. وأنتم محتاجون للحرص على فهم هذا والعمل به، فإن الخلل ما يدخل على صاحب الدين إلا   1 أحمد (2/367) , ومالك: الجامع (1863) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 49 من قلة العمل بهذا، أو قلة فهمه. وأيضا، يذكر العلماء أن إنكار المنكر إذا صار يحصل بسببه افتراق لم يجز إنكاره، فالله الله! العمل بما ذكرت لكم والتفقه فيه، فإنكم إن ما فعلتم صار إنكاركم مضرة على الدين، والمسلم ما يسعى إلا في صلاح دينه ودنياه. وسبب هذه القالة التي وقعت بين أهل الحوطة - لو صار أهل الدين واجب عليهم إنكار المنكر - فلما غلظوا الكلام صار فيه اختلاف بين أهل الدين، فصار ذلك مضرة على الدين والدنيا. وهذا الكلام، وإن كان قصيراً فمعناه طويل، فلازم لازم تأملوه وتفقهوا فيه، واعملوا به، فإن عملتم به صار نصراً للدين، واستقام الأمر إن شاء الله. والجامع لهذا كله: أنه إذا صدر المنكر من أمير أو غيره، أن ينصح برفق خفية ما يشرف عليه أحد، فإن وافق وإلا استلحق عليه رجال يقبل منهم بخفية، فإن ما فعل، فيمكن الإنكار ظاهراً إلا إن كان على أمير ونصحه ولا وافق، واستلحق عليه ولا وافق، فيرفع الأمر إلينا خفية. وهذا الكتاب، كل أهل بلد ينسخون منه نسخة، ويجعلونها عندهم، ثم يرسلونه لحرمه، والمجمعة، ثم للغاط، ثم للزلفى، والله أعلم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 50 [معرفة المنكر والتثبت منه قبل إنكاره] وله أيضاً، عفا الله عنه: بسم الله الرحمن الرحيم من محمد بن عبد الوهاب: إلى الأخوين: أحمد بن محمد، وثنيان، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد، ذكر لي عنكم أن بعض الإخوان تكلم في عبد المحسن الشريف، يقول: إن أهل الأحساء يحبون على يدك، وأنك لابس عمامة خضراء، والإنسان لا يجوز له الإنكار إلا بعد المعرفة؛ فأول درجات الإنكار: معرفتك أن هذا مخالف لأمر الله. وأما تقبيل اليد، فلا يجوز إنكار مثله، وهي مسألة فيها اختلاف بين أهل العلم، وقد "قبل زيد بن ثابت يد ابن عباس، رضي الله عنهم، وقال: هكذا أمرنا أن نفعل بأهل بيت نبينا صلى الله عليه وسلم". وعلى كل حال، فلا يجوز لهم إنكار كل مسألة لا يعرفون حكم الله فيها. وأما لبس الأخضر، فإنها أحدثت قديماً تمييزاً لأهل البيت، لئلا يظلمهم أحد، أو يقصر في حقهم من لا يعرفهم؛ وقد أوجب الله لأهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على الناس حقوقاً، فلا يجوز لمسلم أن يسقط حقهم، ويظن أنه من التوحيد، بل هو من الغلو، ونحن ما أنكرنا إكرامهم إلا لأجل الألوهية، أو إكرام المدعي لذلك. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 51 وقيل: إنه ذكر عنه أنه معتذر عن بعض الطواغيت، وهذه مسألة جليلة ينبغي التفطن لها، وهي قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} [سورة الحجرات آية: 6] ، فالواجب عليهم إذا ذكر لهم عن أحد منكر: عدم العجلة؛ فإذا تحققوه، أتوا صاحبه ونصحوه، فإن تاب ورجع، وإلا أنكر عليه وتكلم فيه. فعلى كل حال، نبهوهم على مسألتين: الأولى: عدم العجلة، ولا يتكلمون إلا مع التحقيق، فإن التزوير كثير. الثانية: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعرف منافقين بأعيانهم، ويقبل علانيتهم ويكل سرائرهم إلى الله، فإذا ظهر منهم وتحقق ما يوجب جهادهم جاهدهم، والسلام. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 52 [عدم مراعاة غضب المنكر عليه] وله أيضاً، أسكنه الله الفردوس الأعلى: بسم الله الرحمن الرحيم من محمد بن عبد الوهاب: إلى عبد الله بن عيسى، وعبد الوهاب، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد، ذكر لي أنكم زاعلون علي في هذه الأيام بعض الزعل، ولا يخفاكم أني زعل زعلاً كبيراً، وناقد عليكم منقوداً أكبر من الزعل، ولكن وابطناه! واظهراه! ومعي في هذه الأيام بعض تنغص المعيشة والكدر مما يبلغني عنكم، والله سبحانه وتعالى إذا أراد أمراً فلا راد له، وإلا ما خطر على البال أنكم ترضون لأنفسكم بهذا. ثم من العجب، تكفيكم عن نفع المسلمين في المسائل الصحيحة، وتقولون: لا يتعين علينا الفتيا، ثم تبالغون في مثل هذه الأمور، مثل التذكير الذي صرحت الأدلة والإجماع، وكلام الأقناع بإنكاره، ولا أود أنكم بعد ما أنزلكم الله هذه المنزلة، وأنعم عليكم بما تعلمون وما لا تعلمون، وجعلكم من أكبر أسباب قبول الناس لدين ربكم، وسنة نبيكم، وجهادكم في ذلك، وصبركم على مخالفة دين الآباء، أنكم ترتدون على أعقابكم. وسبب هذا: أنه ذكر لي عنكم أنكم ظننتم أني أعنيكم ببعض الكلام الذي أجبت به من اعتقد حل الرشوة، وأنه الجزء: 8 ¦ الصفحة: 53 مزعلكم. فيا سبحان الله! كيف أعنيكم به وأنا كاتب لكم تسجلون عليه، وتكونون معي أنصاراً لدين الله. وقيل لي: إنكم ناقدون علي بعض الغلظة فيه، والأمر أغلظ مما ذكرنا، ولولا أن الناس إلى الآن ما عرفوا دين الرسول، وأنهم يستنكرون الأمر الذي لم يألفوه، لكان شأن آخر؛ بل والله الذي لا إله إلا هو، لو يعرف الناس الأمر على وجهه، لأفتيت بحل دم ابن سحيم وأمثاله، ووجوب قتلهم كما أجمع على ذلك أهل العلم كلهم، لا أجد في نفسي حرجاً. ولكن إن أراد الله أن يتم هذا الأمر، تبين أشياء لم تخطر لكم على بال، وإن كانت من المسائل التي إذا طلبتم الدليل، بينا أنها إجماع أهل العلم. وبالحاضر، فلا يخفاكم أن معي غيظاً عظيماً ومضايقة من زعلكم، وأنتم تعلمون أن الله ألزم، والدين لا محاباة فيه، وأنتم من قديم لا تشكون في، والآن غايتكم قاربة، وداخلتكم الريبة، وأخاف أطول الكلام، فيجري فيه شيء يزعلكم، وأنا في بعض الحدة، فأنا أشير عليكم وألزم أن عبد الوهاب يزورنا يومين أو ثلاثة أو أكثر، يصير قطعاً لهذه الفتنة، ويخاطبني وأخاطبه من الرأس. وإن كان كبر عليه الأمر، فيوصي لي وأعنى له، فإن الأمر الذي يزيل زعلكم، ويؤلف الكلمة، ويهديكم الله بسببه الجزء: 8 ¦ الصفحة: 54 نحرص عليه، ولو كان أشق من هذه، اللهم إلا أن تكونوا رأيتم شيئاً من أمر الله، فالواجب عليكم اتباعه، والواجب علينا طاعتكم والانقياد لكم، وإن أبينا كان الله معكم وخلقه. ولا يخفاكم، أنه وصلني أمس رسالة في صفة مذاكرتكم في التذكير، ويطلبون مني جواباً عن أدلتكم، وأنتم ضحكتم على ابن فيروز، وتسافهتموه، وتساخفتم عقله في جوابه، وانحرفتم تعدلون عداله، لكن ما أنا بكاتب لهم جواباً، لأن الأمر معروف أنه منكم، وأخاف أن أكتب لهم جواباً فينشرونه، فيزعلكم، وأشوف غايتكم قاربة، وتحملون الأمر على غير محمله، والسلام. [تألف الناس بالقول اللين] وله أيضا: بسم الله الرحمن الرحيم من محمد بن عبد الوهاب: إلى عبد الله بن عيسى; وما ذكرت أن الحمولة زعلين من تلك الكلمة، فلا يخفى، هو لأجل كتاب قرأه سليمان، ورحت أنا وإياه لابن عقيل لنسأله عن هذا، وتقدمت إلى بيته، ولحقني هو وابن ناصر قبل أواجه أحمد، وقال ابن ناصر: إني كاتب هذه الكلمة من عندي ما درى بها، فلا تشرفوه ولا شرفناه بها، أنا ما دريت بها، لا أنا ولا ابن عقيل. والعجب: أنهم يزعلون علي وينقدون، ويقولون إنه الجزء: 8 ¦ الصفحة: 55 يصدق الأكاذيب، وتغيره علينا، وهم نقدوا على أنفسهم، أنهم يزعلون ويتغيرون، بلا خبر صدق ولا كذب، إلا ظن سوء ظنوه؛ فإن كان كلمة قيلت عندنا يحملونها، فتراهم يلقون كلاماً كباراً فيهم وفي غيرهم في الدين والدنيا، خصوصاً في هذه القضية، يحكى عندنا كلاماً، ما يتجاسر العاقل ينطق به. فإن كان مذكور لكم إني قائل شيئاً، أو قائل أحد بحضرتي كلام سوء ولا رددت عليه، فاذكروا لي، فالتنبيه حسن، ولا يدخل خاطري، إلا ربما أني أعرف أنه محبة وصفو والذي يكدر الخاطر: زعلكم، وإظهاركم للناس الزعل والتغير، بسبب ظن السوء، وإلا ما من قبلكم كذب ولا صدق. وأما من باب السؤالات، وأنكم بلغكم أني ظان أنها من عبد الله، فهو أعجب، كيف تظنون أني ما أعرف خط ابن صالح؟ وأيضا، أفهم أن عبد الله لا يسأل عن مثل هذا. وأيضاً، أنا ما أنقد عليه ولا عليكم إلا قلة الحرص والسؤال عن هذا الأمر، لما فتح الله عليكم منه بعض الشيء، وأود ما يجيء جماميل إلا ومعهم من عندكم سؤالات عن هذا وأمثاله، فكيف أزعل منه؟ بل هذا هو الذي يرضيني؛ لكن هذه أنتم معذورون فيها، إذا كانت عن ابن عمر، وهو متوهم، ما كلمني في هذا الأمر لما وقع، ولا يدري عن الذي في خاطري، لكنه يسمع من أهل الجنوب الجزء: 8 ¦ الصفحة: 56 وغيرهم، وتعرف حال الكلام من بعيد، فهذا صفة الأمر. فإن كان أنتم المخالفون المتغيرون، فالحق عليكم، فإن كان جرى مني شيء تنقده، فأحب أن تنبهني عليه، لا تترك شيئاً في خاطرك من قبلي، وإن كنتم متجرفين على التغير، وجاءتكم الفتنة، وودكم ببرد الأرض، فهذا شيء آخر. وأما قولك: إن الأمور ليست على الذي أعهد، وتشيرون علي بترك الكلام، فلا أدري إيش مرادكم، مرادك أني متكلم في أحد لا ينبغي الكلام فيه، ممن لا يظهر إلا الإيمان، ولو ظنينا فيه النفاق، فهذا الكلام مقبول؛ وإن كان بلغك عني شيء، فنبهني جزاك الله خيراً. وإن كان مرادك أني أسكت عمن أظهر الكفر والنفاق، وسل سيف البغي على دين الله وكتابه ورسوله، مثل ولد ابن سحيم، ومن أظهر العداوة لله ورسوله، من أهل العيينة أو الدرعية أو غيرهم، فهذا لا ينبغي منك ولا يطاع أحد في معصية الله. فإن وافقتمونا على الجهاد في سبيل الله، وإعلاء كلمة الله، فلكم الحظ الأوفر، وإلا لن تضروا الله شيئاً. وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن الطائفة المنصورة، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم، {وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ} [سورة الرعد آية: 42] . وقد ذم الله الذي لا يثبت على دينه إلا عندما يهواه، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 57 فقال: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} الآية [سورة الحج آية: 11] . وينبغي لكم إذا عجزتم أو جبنتم، أنكم ما تلوموننا؛ ونحمد الله الذي يسر لنا هذا، وجعلنا من أهله، وقد أخبر أنه عند وجود المرتدين، فلا بد من وجود المحبين المحبوبين، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} الآية [سورة المائدة آية: 54] . جعلنا الله وإياكم من الذين لا تأخذهم في الله لومة لائم. [القيام بوظيفة الأمر والنهي] وله أيضاً، رحمه الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم من محمد بن عبد الوهاب: إلى عبد الوهاب بن عبد الله، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد، وصل كتابك، وما ذكرت فيه الظن والتجسس، وقبول خبر الفاسق، فكل هذا حق أريد به باطل. والعجب منك، إذا كنت من خمس سنين تجاهد جهاداً كبيراً في رد دين الإسلام، فإذا جاءك ابن مساعد، أو ابن راجح، أو صالح بن سليم، وأشباه هؤلاء الذين نلقنهم شهادة أن لا إله إلا الله، وأن عبادة المخلوقات كفر، وأن الكفر بالطاغوت فرض، قمت تجاهد وتبالغ في نقض ذلك، والاستهزاء به، وليس الذي يذكر هذا عنك عشرة، ولا عشرون ولا ثلاثون، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 58 ولا أنت بمختف في ذلك. ثم تظن في خاطرك أن هذا يخفى علي، وأني أصدقك إذا قلت ما قلت، ولو أن الذي جرى عشر، أو عشرون أو ثلاثون مرة، أمكن تعداد ذلك وأحسن ما ذكرت، أنك تقول: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا} [سورة الأعراف آية: 23] ، وتقر بالذنب، وتجاهد في إطفاء الشرك وإظهار الإسلام كما جاهدت في ضده، ويصير ما تقر به كأن لم يكن. فإن كنت تريد الرفعة في الدنيا والجاه، حصل لك بذلك ما لا يحصل بغيره من الأمور بأضعاف مضاعفة، وإن أردت به الله والدار الآخرة، فهي التجارة الرابحة، وأتتك الدنيا تبعاً. وإن كنت تظن في خاطرك أنا نبغي نداهنك في دين الله، فلو كنت أجل عندنا مما كنت فأنت مخالف، فإن كنت تتهمني بشيء من أمور الدنيا فلك الشرهة، فإن كان أني أدعو لك في سجودي، وأنت وأبوك أجل الناس عندي، وأحبهم إلي، وأمرك هذا أشق علي من أمر أهل الأحساء، خصوصاً بعد ما استركبت أباك وخربته. فعسى الله أن يهدينا وإياك لدينه القيم، ويطرد عنا الشيطان، ويعيذنا من طريق المغضوب عليهم والضالين. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 59 سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد، رحمهما الله: عن رجل دخل بيتاً بعد المغرب، وفيه امرأتان، وأتاه رجل من قرابات المرأتين، وجرحه جراحات، وهو في المنزل الذي في البيت، وليس معه في المنزل، بل في البيت ... إلخ. فأجاب: فعل هذا الرجل الذي سطا في الرجل المتهم الذي وجده في البيت، فعل محرم، وتعد وظلم، يجب تأديبه وتعزيره على فعله ذلك، بقدر ما يزجره وأمثاله عن مثل هذا الفعل. ويجب عليه القصاص أو الدية: القصاص فيما يمكن فيه القصاص، والدية فيما لا يمكن فيه قصاص، إلا أن يرضى بالدية في الجميع. وأما الرجل المتهم، فأكثر ما يفعل معه الأمير، يعزره بالضرب والنفي بالاجتهاد، والزيادة على ذلك ظلم وتعد لحدود الله. وإن أنكر الساطي بعض الجروح وأقر ببعضها، فعليه إقامة البينة على دعواه، أن أحداً شاركه في ذلك، وإن لم يجد بينة، فالقول قول المجني عليه بيمينه أنها من هذا الرجل المعين، لأجل قرينة الحال أن الجميع من هذا الجاني. ويجب على كل مؤمن: الرضى بحكم الله ورسوله، ولا يجد في نفسه حرجاً بما قضى الله ورسوله، سواء وافق عادته وهواه أو خالفهما؛ ومن كان في قلبه مرض أو نفاق انقاد الجزء: 8 ¦ الصفحة: 60 للشرع فيما وافق هواه، وخالفه فيما يخالف هواه وعادته، وذلك من خصال المنافقين، الذين قال الله فيهم: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً} [سورة النساء آية: 60] . ومن أراد غير حكم الله ورسوله، فقد أراد حكم الطاغوت. والعجب ممن يسمع كلام الكفر والنفاق في مجلسه، ولا ينكر على من قاله، بل يسكت عنه، فيكون شريكاً له في الإثم. [فرضية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وكيفيته] سئل الشيخ حمد بن ناصر: عن المنكر الذي يجب إنكاره، هل يسقط الإنكار إذا بلغ الأمير؟ فأجاب: اعلم أن إنكار المنكر يجب بحسب الاستطاعة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: " من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه؛ وذلك أضعف الإيمان " 1؛ وحينئذ، إذا وقع المنكر وبلغ الأمير فلم يغيره، لم يسقط إنكاره، بل ينكره بحسب الاستطاعة؛ لكن إن خاف حصول منكر أعظم، سقط الإنكار وأنكر بقلبه. وقد نص العلماء: على أن المنكر إذا لم يحصل إنكاره إلا بحصول منكر أعظم منه، أنه لا ينبغي؛ وذلك لأن مبنى الشريعة على تحصيل المصالح، وتقليل المفاسد.   1 مسلم: الإيمان (49) , والترمذي: الفتن (2172) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (5008) , وأبو داود: الصلاة (1140) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1275) والفتن (4013) , وأحمد (3/20, 3/49, 3/54, 3/92) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 61 وقال الشيخ عبد الرحمن بن حسن، رحمه الله: وأما الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، فهو فرض باليد واللسان والقلب مع القدرة. فأما فرضه باليد واللسان، فإنه من فروض الكفايات، إذا قام به طائفة سقط عن الباقين؛ وإن تركوه كلهم أثموا. وأما القلب، فلا يسقط عنه بحال، قال الله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [سورة آل عمران آية: 104] . وقال في حق من تركه: {كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [سورة المائدة آية: 79] . وفي الحديث الصحيح: " من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه؛ وذلك أضعف الإيمان " 1، وفي رواية: " وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل ".   1 مسلم: الإيمان (49) , والترمذي: الفتن (2172) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (5008) , وأبو داود: الصلاة (1140) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1275) والفتن (4013) , وأحمد (3/20, 3/49, 3/54, 3/92) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 62 قال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن، عفا الله عنه: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الشيخ المكرم: حمد بن عتيق، سلك الله بي وبه أهدى نهج وطريق، ومنحنا بمنه حسن الدعوة إليه بالتحقيق؛ سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد، فإني أحمد إليك الله سبحانه على نعمه. والخط وصل وصلك الله بما يقربك إليه، وما أشرت إليه صار معلوماً، لا سيما الإشارة الخفية، والنكت الأدبية، التي منها: تشبيه أخيك بالطير المبرقع، وإيراد الوعظ وأنت بمكان علو أرفع، وكنت حال وصوله قد قرأته، بمرأى من أهل الأدب ومسمع. فمن قائل - عند سماعه -: هذا الرجل طبعه الغلظة والجمود، وآخر يقول: كأنه لا يحسن الدعوة إلى ربنا المعبود. فقلت: كلا، إنه ابن جلا، وله السبق في مضمار الديانة والعلى، لكن من عادته أنه يتجاسر على أحبابه، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 63 ويزدري رتب أخدانه وأترابه، والمحب له الدلال، والمرء يشرق بالزلال. فاعلم هديت الطريق، وفزت بحظ من النظر والتحقيق: أن الله لما ابتعث نبيه صلى الله عليه وسلم بهذا الدين الحنيفي، ولم يكن أحد من أهل الأرض عربيهم وعجميهم، قرويهم وبدويهم، يعرف الحق ويعمل به، إلا بقايا من أهل الكتاب، وأما الأكثرون فقد اجتالتهم الضلالات والعادات، عن فطرة الله التي فطر الناس عليها؛ فأيد الله دينه مع غربة هذا الدين، ومخالفته لما عليه الأكثرون، بأعظم حجة وآية، كانت لأكثر من أسلم سبب وقاية، وتلك هو الخلق العظيم، والرأي الراشد الحليم، فمكث على ذلك يدعو ويذكر، ويعظ وينذر، مع غاية اللطف واللين. فتارة يكني المخاطبين، وطورا يأتي نادي المتقدمين والمترئسين، وحيناً يقول: "اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون" 1، وناهيك بخلق مدحه القرآن، وأثنى على حلمه في الدعوة والبيان. ولا يرد على المعنى قوله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} الآية [سورة التوبة آية: 73] ، كما ظنه بعض المتطوعة ديدناً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن هذا يصار إليه إذا تعينت الغلظة ولم يجد اللين، كما هو ظاهر مستبين، كما قيل: آخر الطب الكي.   1 البخاري: أحاديث الأنبياء (3477) , ومسلم: الجهاد والسير (1792) , وابن ماجة: الفتن (4025) , وأحمد (1/380, 1/427, 1/432, 1/441, 1/453, 1/456) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 64 وهو أيضاً مع القدرة، ويشترط أن لا يترتب عليه مفسدة، كما قال: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ} [سورة الأنعام آية: 108] . وقد أخذ بعض الناس من هذا: أن درء المفاسد يقدم على جلب المصالح، كما هو مقرر في علم الأصول. ثم إن الآية: آية الغلظة، مدنية، بعد تمكن الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه من الجهاد باليد، وظهور الاستمرار على الكفر من أعدائهم، فوقعت الغلظة في مركزها حيث لم ينفع اللين؛ وأسعد الناس بوراثة الرسول صلى الله عليه وسلم في دعوة الخلق، أكملهم في متابعته له في هذا. وكان الصديق أكمل الناس، ولذلك أسلم على يده وانتفع به أمم كثيرة، بخلاف غيره، فقد قيل لبعضهم: "إن منكم منفرين". والقصد من التشريع والأوامر: تحصيل المصالح ودرء المفاسد حسب الإمكان، وقد لا يمكن إلا مع ارتكاب أخف الضررين، أو تفويت أدنى المصلحتين؛ واعتبار الأشخاص والأزمان والأحوال أصل كبير، فمن أهمله وضيعه، فجنايته على الشرع وعلى الناس أعظم جناية. وقد قرر العلماء هذه الكليات والجزئيات، وفصلوا الآداب الشرعيات، فمن أراد أن ينصب نفسه في مقام الدعوة، فليتعلم أولاً، وليزاحم ركب العلماء، قبل أن يرأس، فيدعو بحجة ودليل، ويدري كيف السير في ذلك السبيل. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 65 فإن الصناعة لا يعرفها إلا من يعانيها، والعلوم لا يدريها إلا من أخذها عن أهلها، وصحب راويها. ما كل من طلب المعالي نافذاً ... فيها ولا كل الرجال فحولُ هذا وقد كنت أظن أنكم تحبون من هاجر إليكم، وتراعون حق أسلافه في المشيخة عليكم، وكأن العلم وتعليمه، وحق الشيخ وتكريمه، غير معتبر لدى الجمهور، بل قصدهم: المناصب والظهور، قال الشيخ وحدثنا، وجلس الأستاذ وأنبأنا، هو غاية قصد الأكثرين، إلا عباد الله المخلصين. والسلام عليكم وعلى من حضر من المسلمين لديكم، وما بسطت لك الكلام، إلا محبة وإعلام، وصلى الله على محمد. [الآثار الدالة على فرضية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر] وله أيضاً، رحمه الله تعالى. بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأخ المكرم: عبد الرحمن بن جربوع، وفقه الله للعمل بدينه المشروع؛ سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد، فنحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، على سوابغ نعمه، وجزيل عطائه وكرمه، وعلى ما ألبسنا من ملابس فضله، وما اختصنا به من عظيم العطاء الذي صرفه عمن شاء بعدله؛ والخط وصل. وصلك الله إلى ما يرضيه، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 66 ونظمك في سلك من يخشاه ويتقيه. وأوصيك بتقوى الله، والحرص على معرفة تفاصيلها على القلوب والجوارح، فإنك في وقت كثر قراؤه، وقل فقهاؤه. وما ذكرت: من طلب الفائدة، بما ورد من النصوص الشرعية الدالة على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهذا مما لا يخفى آحاد العامة من المسلمين، فضلاً عن الطلبة والمتعلمين؛ وهذا الأصل من آكد الأصول الإسلامية، وأوجبها وألزمها، وقد ألحقه بعضهم بالأركان التي لا يقوم بناء الإسلام إلا عليها. وهو من فروض الكفاية، لا يسقط عن المكلفين، إلا إن قام به طائفة يحصل بها المقصود الشرعي. وفرض الكفاية آكد من فرض العين من جهة متعلقه، لأن الخطاب به لجميع الأمة، وإنما أرسلت الرسل وأنزلت الكتب، للأمر بالمعروف الذي رأسه وأصله: التوحيد، والنهي عن المنكر الذي رأسه وأصله: الشرك، والعمل لغير الله؛ وشرع الجهاد لذلك، وهو قدر زائد على مجرد الأمر والنهي، ولولا ذلك ما قام الإسلام، ولا ظهر دين الله، ولا علت كلمته. ولا يرى تركه والمداهنة فيه، إلا من أضاع حظه ونصيبه من العلم والإيمان، قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [سورة آل عمران آية: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 67 110] . وقال تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [سورة آل عمران آية: 104] . فهذه الآيات تدل على وجوبه، وأن القائم به خير الناس وأفضلهم، وأن الخيرية لا تحصل إلا بذلك. وفيها: أن الفلاح محصور في أهل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو الفوز بالسعادة الأبدية. وأما الوعيد على تركه، فمثل قوله تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} الآية [سورة المائدة آية: 78-79] . ففي هذه الآية: لعنهم على ألسن أنبيائهم، بترك النهي عن المنكر والأمر بالمعروف، واللعن هو: الطرد والإبعاد عن الله وعن رحمته. وذكر بعض المفسرين هنا حديثاً: " إن من كان قبلكم كانوا إذا عمل العامل فيهم بالخطيئة، جاءه الناهي تعذيراً، فإذا كان الغد جالسه وواكله وشاربه، كأن لم يره على خطيئة بالأمس. فلما رأى الله ذلك منهم، ضرب بقلوب بعضهم على بعض، ثم لعنهم على لسان نبيهم داود وعيسى ابن مريم، ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون. والذي نفس محمد بيده، لتأمرنّ بالمعروف، ولتنهونّ عن المنكر، ولتأخذنّ على يد السفيه، ولتأطرنه على الحق أطراً، أو ليضربنّ الله الجزء: 8 ¦ الصفحة: 68 بقلوب بعضكم على بعض، ثم يلعنكم كما لعنهم ". وذكر ابن أبي الدنيا عن إبراهيم بن عمرو الصنعاني قال: "أوحى الله عز وجل إلى يوشع بن نون: إني مهلك من قومك أربعين ألفاً من خيارهم، وستين ألفاً من شرارهم، قال: يا رب، هؤلاء الأشرار، فما بال الأخيار؟ قال: إنهم لم يغضبوا لغضبي، وكانوا يواكلونهم ويشاربونهم". وذكر أيضاً، من حديث ابن عمر: " لينقضنّ الإسلام عروة عروة، حتى لا يقال: الله الله. لتأمرنّ بالمعروف ولتنهونّ عن المنكر، أو ليسلطنّ الله عليكم شراركم، فيسومونكم سوء العذاب، ثم يدعو خياركم فلا يستجاب لهم. ولتأمرنّ بالمعروف، ولتنهونّ عن المنكر، أو ليبعثنّ الله عليكم من لا يرحم صغيركم، ولا يوقر كبيركم". وفي المسند مرفوعاً: "يا أيها الناس، إن الله يقول: مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر، قبل أن تدعوني فلا أجيبكم، وتستنصروني فلا أنصركم، وتسألوني فلا أعطيكم " 1. وفي حديث ابن عباس: " وما ترك قوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إلا لم ترفع أعمالهم، ولم يسمع دعاؤهم "، رواه الطبراني. وذكر الإمام أحمد، رحمه الله، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "يوشك القرى أن تخرب وهي عامرة، قالوا: كيف تخرب وهي عامرة؟ قال: إذا علا فجارها   1 أحمد (6/158) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 69 أبرارها، وساد القبيلة منافقوها". والأحاديث في هذا كثيرة، تطلب من مظانها. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 70 فصل: [ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على سبيل المداهنة] وترك ذلك على سبيل المداهنة، والمعاشرة، وحسن السلوك، ونحو ذلك مما يفعله بعض الجاهلين، أعظم ضرراً، وأكبر إثماً من تركه لمجرد الجهالة. فإن هذا الصنف، رأوا أن السلوك وحسن الخلق، ونيل المعيشة لا يحصل إلا بذلك، فخالفوا الرسل وأتباعهم، وخرجوا عن سبيلهم ومنهاجهم، لأنهم يرون العقل إرضاء الناس على طبقاتهم، ويسالمونهم، ويستجلبون مودتهم ومحبتهم؛ وهذا مع أنه لا سبيل إليه، فهو إيثار للحظوظ النفسانية والدعة، ومسالمة الناس وترك المعاداة في الله وتحمل الأذى في ذاته. وهذا في الحقيقة هو الهلكة في الآجلة، فما ذاق طعم الإيمان، من لم يوال في الله ويعاد فيه، فالعقل كل العقل، ما أوصل إلى رضى الله ورسوله، وهذا إنما يحصل بمراغمة أعداء الله، وإيثار مرضاته، والغضب إذا انتهكت محارمه. والغضب ينشأ من حياة القلب، وغيرته وتعظيمه، وإذا عدم الحياة والغيرة والتعظيم، وعدم الغضب والاشمئزاز، وسوى بين الخبيث والطيب في معاملته وموالاته ومعاداته، فأي خير يبقى في قلب هذا؟ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 70 وفي بعض الآثار: "أن الله أوحى إلى جبرائيل، أن اخسف بقرية كذا وكذا، فقال: يا رب إن فيهم فلان العابد، قال: به فابدأ، إنه لم يتمعر وجهه فيّ قط". وذكر ابن عبد البر: "أن الله بعث ملكين إلى قرية ليدمراها، فوجدا فيها رجلاً قائماً يصلي في مسجد، فقالا: يا رب، إن فيها عبدك فلاناً يصلي، فقال الله عز وجل: دمراها، ودمراه معهم، فإنه ما تمعر وجهه فيّ قط". انتهى. ومن له علم بأحوال القلوب، وما يوجبه الإيمان ويقتضيه، من الغضب لله، والغيرة لحرماته وتعظيم أمره ونهيه، يعرف من تفاصيل ذلك فوق ما ذكرنا، ولو لم يكن إلا مشابهة المغضوب عليهم والضالين، في الأنس بأهل المعاصي، ومواكلتهم، ومشاربتهم، لكفى بذلك عيباً، والله الموفق والهادي، لا إله غيره، والسلام. وقال أيضا الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن: وأما الفرق بين المداراة والمداهنة: فالمداهنة: ترك ما يجب لله من الغيرة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتغافل عن ذلك، لغرض دنيوي، وهوى نفساني، كما في حديث: " إن من كان قبلكم كانوا إذا فعلت فيهم الخطيئة، أنكروها ظاهراً، ثم أصبحوا من الغد يجالسون أهلها، ويواكلونهم ويشاربونهم كأن لم يفعلوا شيئا بالأمس " 1. فالاستئناس والمعاشرة، مع القدرة على الإنكار، هي المداهنة.   1 صحيح البخاري: كتاب الفتن (7108) , وصحيح مسلم: كتاب المساجد ومواضع الصلاة (532) وكتاب الفضائل (1337) وكتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها (2879) , وسنن ابن ماجة: كتاب الفرائض (2746) , ومسند أحمد (1/30, 2/40, 2/110, 5/348) , وسنن الدارمي: كتاب السير (2518) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 71 وثمود لو لم يدهنوا في ربهم ... لم تدْم ناقتهم بسيف قدارِ وأما المداراة، فهي: درء الشر المفسد بالقول اللين، وترك الغلظة، أو الإعراض عنه إذا خيف شره، أو حصل منه أكبر مما هو ملابس؛ وفي الحديث: " شركم من اتقاه الناس خشية فحشه "، وعن عائشة، رضي الله عنها: " أنه استأذن على النبي رجل، فقال: بئس أخو العشيرة هو. فلما دخل على النبي صلى الله عليه وسلم، ألان له الكلام، فقالت عائشة: قلت فيه يا رسول الله ما قلت؟ فقال: إن الله يبغض الفحش والتفحش " 1. وقال أيضاً، رحمه الله تعالى: من حكمة الرب تعالى، أنه ابتلى عباده المؤمنين، الذين يدعون الناس إلى ما دعا إليه النبي صلى الله عليه وسلم من الدين، بثلاثة أصناف من الناس، وكل صنف له أتباع: الصنف الأول: من عرف الحق فعاداه حسداً وبغياً، كاليهود، فإنهم أعداء الرسول والمؤمنين، كما قال تعالى: {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ} [سورة البقرة آية: 90] ، {وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [سورة البقرة آية: 146] . الصنف الثاني: الرؤساء أهل الأموال، الذين فتنتهم   1 البخاري: الأدب (6054) , ومسلم: البر والصلة والآداب (2591) , والترمذي: البر والصلة (1996) , وأبو داود: الأدب (4791, 4792) , وأحمد (6/38) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 72 دنياهم وشهواتهم، لما يعلمون أن الحق يمنعهم من كثير مما أحبوه وألفوه من شهوات الغي، فلم يعبؤوا بداعي الحق، ولم يقبلوا منه. الصنف الثالث: الذين نشؤوا في باطل وجدوا عليه أسلافهم، فهم يظنون أنهم على حق وهم على الباطل، فهؤلاء لم يعرفوا إلا ما نشؤوا عليه، {وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} [سورة الكهف آية: 104] . وكل هذه الأصناف الثلاثة وأتباعهم أعداء الحق، من لدن زمن نوح إلى أن تقوم الساعة. فأما الصنف الأول: فقد عرفت ما قال الله فيهم، وأما الصنف الثاني: فقد قال الله فيهم: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [سورة القصص آية: 50] . وقال عن الصنف الثالث: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} [سورة الزخرف آية: 22] ، وقال: {إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ} [سورة الصافات آية: 69-70] . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 73 [ترك الأمر بالمعروف إرضاء للناس] وقال الشيخ حمد بن عتيق، رحمه الله تعالى. بسم الله الرحمن الرحيم من حمد بن عتيق: إلى من بلغه من المسلمين، ألزمهم الله شرائع الدين، وجنبهم طريق الكفار والمنافقين آمين؛ سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد، فالموجب للخط هو النصيحة لكم، والمعذرة من الله في إبلاغكم، فإن الله تعالى يقول: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} [سورة البقرة آية: 159] ، وقال تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [سورة المائدة آية: 78-79] . وقد سمعتم فيما يتلى عليكم من حلول العقوبات، عند ظهور المنكرات، ولكن قد فتح الشيطان لكثير من الناس أبواباً من الشر، في إسقاط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وألقاها على أناس فيهم شبهة دين، حتى اعتقدوها أعذاراً لهم، وإنما هي من زخارف الشياطين ولكن إذا تبين أن الزاني والسارق وشارب الخمر، أحسن حالاً عند الله من هؤلاء الجنس، فهذا كاف في شناعة مذهبهم الجزء: 8 ¦ الصفحة: 74 وسوء منقلبهم، فنسأل الله العفو والعافية. ومما ينبغي أن يعلم: أن العقل على ثلاثة أنواع: عقل غريزي، وعقل إيماني مستفاد من مشكاة النبوة، وعقل نفاقي شيطاني، يظن أربابه أنهم على شيء؛ وهذا العقل هو حظ كثير من الناس بل أكثرهم، وهو عين الهلاك، وثمرة النفاق. فإن أربابه يرون أن العقل إرضاء الناس جميعهم، وعدم مخالفتهم في أغراضهم وشهواتهم، واستجلاب مودتهم، ويقولون: صلح نفسك بالدخول مع الناس، ولا تبغض نفسك عندهم؛ وهذا هو إفساد النفس، وهلاكها من أربعة أمور: أحدها: أن فاعل ذلك قد التمس رضى الناس بسخط الله، وصار الخل في نفسه أجل من الله؛ ومن التمس رضى الناس بسخط الله، سخط الله عليه وأسخط عليه الناس؛ فقد جاء أن الله تعالى يقول: "إذا غضبت لعنت، ولعنتي تبلغ السابع من الولد". فإذا ترك القادر المعروف فلم يأمر به، والمنكر فلم ينه عنه، فقد تسبب أن الله يلعنه لعنة تبلغ السابع من ولده، ومصداق ذلك قوله تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} [سورة المائدة آية: 78] . فقد ظهر أن هذا المداهن قد أفسد نفسه من حيث يظن أنه يصلحها. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 75 الثاني: أن المداهن لا بد أن يفتح الله له باباً من الذل والهوان من حيث طلب العز; وقد قال بعض السلف: من ترك الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، مخافة المخلوقين، نزعت منه الطاعة؛ فلو أمر ولده أو بعض مواليه لاستخف بحقه، فكما هان عليه أمر الله، أهانه الله وأذله، {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} [سورة التوبة آية: 67] . الثالث: أنها إذا نزلت العقوبات، فالمداهن داخل فيها، كما في قوله تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [سورة الأنفال آية: 25] ، وفي المسند والسنن عن أبي عبيدة، عن عبد الله بن مسعود قال: قال صلى الله عليه وسلم: " إن من كان قبلكم إذا عمل العامل بالخطيئة، جاءه الناهي تعذيراً إليه، فإذا كان الغد جالسه، وواكله وشاربه، كأنه لم يره على خطيئة بالأمس. فلما رأى الله ذلك منهم، ضرب بقلوب بعضهم على بعض، ثم لعنهم {عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} . والذي نفس محمد بيده، لتأمرنّ بالمعروف، ولتنهونّ عن المنكر، ولتأخذنّ على يد السفيه، ولتأطرنّه على الحق أطراً، أو ليضربنّ الله بقلوب بعضكم على بعض، ثم ليلعنكم كما لعنهم ". وذكر ابن أبي الدنيا عن وهب بن منبه قال: "لما أصاب داود الخطيئة، قال: يا رب اغفر لي، قال: قد غفرتها لك، وألزمت عارها بني إسرائيل، قال: لِم يا رب؟ كيف - الجزء: 8 ¦ الصفحة: 76 وأنت الحكم العدل لا تظلم أحداً - أنا أعمل الخطيئة، وتلزم عارها غيري؟! فأوحى الله إليه: أنك لما عملت لم يعيبوا عليك بالإنكار". وذكر ابن أبي الدنيا: "أن الله أوحى إلى يوشع بن نون، إني مهلك من قومك أربعين ألفاً من خيارهم، وستين ألفاً من شرارهم، قال: يا رب، هؤلاء الأشرار، فما بال الأخيار؟ قال: إنهم لم يغضبوا لغضبي، وكانوا يواكلونهم ويشاربونهم". وذكر ابن عبد البر وغيره: "أن الله تعالى أمر ملكاً من الملائكة أن يخسف بقرية، فقال: يا رب، إن فيهم فلاناً الزاهد العابد، قال: به فابدأ، وأسمعني صوته، إنه لم يتمعر وجهه فيّ يوماً قط". فالنجاة عند نزول العقوبات، هي لأهل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما قال تعالى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ} الآية [سورة الأعراف آية: 165] . الرابع: أن المداهن، الطالب رضى الخلق، أخبث حالاً من الزاني والسارق والشارب؛ قال ابن القيم، رحمه الله تعالى: وليس الدين بمجرد ترك المحرمات الظاهرة، بل بالقيام مع ذلك بالأمور المحبوبة لله، وأكثر الدينين لا يعبؤون منها، إلا بما شاركهم فيه عموم الناس، وأما الجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والنصيحة لله ورسوله وعباده، ونصرة الله ورسوله وكتابه ودينه، فهذه الواجبات، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 77 لا يخطرن ببالهم، فضلاً عن أن يريدوا فعلها، فضلاً عن أن يفعلوها. وأقل الناس ديناً، وأمقتهم إلى الله، من ترك هذه الواجبات، وإن زهد في الدنيا جميعها. وقل أن يرى منهم من يحمر وجهه، ويتمعر في الله، ويغضب لحرماته، ويبذل عرضه في نصرة دينه؛ وأصحاب الكبائر أحسن حالاً عند الله من هؤلاء. انتهى. فلو قدر أن رجلاً يصوم النهار، ويقوم الليل، ويزهد في الدنيا كلها، وهو مع ذلك لا يغضب، ولا يتمعر وجهه ويحمر لله، فلا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر، فهذا الرجل من أبغض الناس عند الله، وأقلهم ديناً؛ وأصحاب الكبائر أحسن حالا عند الله منه. وقد حدثني من لا أتهم، عن شيخ الإسلام، إمام الدعوة النجدية، أنه قال مرة: أرى ناساً يجلسون في المسجد على مصاحفهم، يقرؤون ويبكون، فإذا رأوا المعروف لم يأمروا به، وإذا رأوا المنكر لم ينهوا عنه، وأرى أناساً يعكفون عندهم، يقولون: هؤلاء لحى غوانم، وأنا أقول: إنهم لحى فوائن، فقال السامع: أنا لا أقدر أقول إنهم لحى فوائن، فقال الشيخ: أنا أقول: إنهم من العمي البكم. ويشهد لهذا: ما جاء عن بعض السلف، أن الساكت عن الحق شيطان أخرس، والمتكلم بالباطل شيطان ناطق؛ فلو علم المداهن الساكت، أنه من أبغض الخلق عند الله، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 78 وإن كان يرى أنه طيب، لتكلم وصدع. ولو علم طالب رضى الخلق، بترك الإنكار عليهم، أن أصحاب الكبائر أحسن حالاً عند الله منه، وإن كان عند نفسه صاحب دين، لتاب من مداهنته ونزع. ولو تحقق من يبخل بلسانه عن الصدع بأمر الله أنه شيطان أخرس، وإن كان صائما قائماً زاهداً، لما ابتاع مشابهة الشيطان بأدنى الطمع. اللهم إنا نعوذ بك من كل عمل يغضب الرحمن، ومن كل سجية تقربنا من التشبه بالشيطان، أو نداهن في ديننا أهل الشبهات والنفاق والكفران. وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 79 [الخروج من الهجرة] وقال الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن، رحمهم الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله بن عبد اللطيف: إلى جناب كافة الإخوان، من أهل الأرطاوية وغيرهم، سلمهم الله تعالى من الأسواء، ووفقهم للتمسك بالعروة الوثقى، وحماهم من الآراء المضلة والأهواء؛ سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وموجب الخط: زيادة تنبيهكم وتفهيمكم، وتحذيركم عن الشحناء والتفرق والاختلاف، لما من الله عليكم بمعرفة دينه، وهداكم له، وأنقذكم من ظلمات الجهل والهوى، والشرك والردى، ومن الجاهلية الذين من عاش منهم عاش شقياً، ومن مات منهم رمي به في النار. وإن الله سبحانه وبحمده ما قطع الأخوة الإسلامية بين القاتل ظلماً، وبين المقتول، مع شدة الوعيد بقتل الظلم، قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} [سورة البقرة آية: 178] فسماه أخاً له، ولم يقطع هذا الذنب العظيم الأخوة بينهم، قال تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 80 إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِين َإِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [سورة الحجرات آية: 9-10] ؛ ولم يقطع سبحانه الأخوة بين المسلمين، وإن وقع بينهما القتال، وبغى إحدى الطائفتين على الأخرى. وأنتم تهاجرتم، وتشاحنتم على ما هو دون ذلك، مما لا يوجب الهجر؛ وهذه من أعظم دسائس الشيطان على أهل الإسلام، أعاذنا الله وإياكم من ذلك. وأيضاً، منّ الله سبحانه وبحمده، على من منّ عليه منكم، بالهجرة والاستيطان؛ وهذه نعمة عظيمة، ندب إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم من أسلم من الأعراب وغيرهم، قال في حديث بريدة: " ادعهم إلى الهجرة والجهاد، فإن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين، وعليهم ما على المهاجرين، فإن أبوا فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين، ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء، إلا أن يجاهدوا مع المسلمين " 1، "وأخبر صلى الله عليه وسلم عن رجل هاجر، ثم خرج من هجرته إلى البادية، فقال: ردة صغرى، ملعون من فعل ذلك، والذي يبقى على باديته ويحسن إسلامه، أحسن عند الله ممن هاجر ثم خرج من هجرته"، وبلغني: أن من أهل الأرطاوية أناساً هاجروا وبنوا، يريدون الخروج عن الهجرة إلى البادية؛ وهذه مصيبة عظيمة، لا يأمن من فعلها أن يقع في الردة الكبرى، ويكون   1 مسلم: الجهاد والسير (1731) , والترمذي: السير (1617) , وأبو داود: الجهاد (2612) , وابن ماجة: الجهاد (2858) , وأحمد (5/352, 5/358) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 81 ممن ارتد على عقبيه من بعد ما تبين له الهدى، فاحذروا ذلك، واصبروا وصابروا ورابطوا، واستقيموا على أمر ربكم، ولا تكونوا ممن بدل نعمة الله كفرً. اوأسأل الله لي ولكم التوفيق والهداية، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. [هجران أهل المعاصي] وقال الشيخ محمد بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن، وفقه الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم من محمد بن عبد اللطيف: إلى جناب الإخوان الكرام من أهل الأرطاوية، سلمهم الله تعالى وتولاهم، وأصلح أحوالهم وعافاهم؛ سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أما بعد، فأوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى، ولزوم طاعته، وتقديم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم على ما عداهما، فإن من ظفر بهما فقد نجا، ومن تركهما فقد ضل وغوى. وأوصيكم أيضاً، بالبصيرة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإذا أمر الإنسان بأمر من أمور الخير، نظر: فإن كان يترتب على ذلك الأمر خير في العاجل والآجل، وسلامة في الدين، وكان الأصلح الأمر به، مضى فيه بعلم وحلم ونية صالحة، وإن كان يترتب على ذلك الأمر شر وفتن، وتفريق كلمة، في العاجل والآجل، ومضرة في الدين والدنيا، وكان الصلاح في تركه، وجب تركه ولم يأمر به، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 82 لأن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح. وأيضاً، ينبغي لمن قصده الخير والدعوة إلى الله، التوقع في الأمور والتثبت، وعدم الطيش والعجلة، والحرص على الرفق والملاطفة في الدعوة، فإن في ذلك خيراً كثيراً، وينبغي له أن يعرف من له قدم صدق ومعرفة راسخة، فيسأله ويستفتيه، ولا ينظر إلى الأشخاص، ولا من ليس له بصيرة. وهجران أهل المعاصي يختلف باختلاف الأشخاص والأزمان، وإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يستقيم إلا بالبصيرة، والمعرفة التامة؛ وأقل الأحوال - إذا لم يحصل للعبد ذلك - أن يقتصر على نفسه، كما قال صلى الله عليه وسلم: " إذا رأيت شحاً مطاعاً، وهوى متبعاً، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك بخاصة نفسك ". فإذا رأى الإنسان من يعمل شيئاً من المعاصي، أبغضه على ما فيه من الشر، وأحبه على ما فيه من الخير، ولا يجعل بغضه على ما معه من الشر قاطعاً، وقاضياً على ما معه من الخير فلا يحبه؛ بل إن كان بغضه له يزجره، ويزجر أمثاله عن هذه المعصية مثلاً، هجره وأبغضه، وإن كان لا يزجره ذلك، ولا يرتدع هو وأمثاله، راعى ما فيه الأصلح، لأن النبي صلى الله عليه وسلم هجر من علم أن الهجر يزجره ويردعه، وقبل معذرة من علم أن الهجر لا ينجع فيه شيئاً، ووكل سرائرهم إلى الله. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 83 وبلزوم هذه الطريقة مع النية الصالحة، تندفع المضار، وتأتلف القلوب، ويكون على الآمر والناهي الوقار والمحبة؛ والله الموفق الهادي للصواب. فاجتهدوا فيما يعود نفعه عليكم في الدنيا والآخرة، واعلموا: أنه لا ينجي عند اختلاف الناس، وكثرة الفتن، إلا البصيرة، وليس كل من انتسب إلى العلم، وتزيا بزيه، يسأل ويستفتى وتأمنونه على دينكم. قال بعض السلف: "إن هذا العلم دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم"، ولا تأخذوا عمن هب ودب، وحرم الفقه والبصيرة، فإنكم مسؤولون عن ذلك يوم القيامة. نسأل الله لنا ولكم العافية، في الدنيا والآخرة، والتوفيق لما يحبه ويرضى، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وهو يقول الحق ويهدي السبيل، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 84 [إلزام العامة والخاصة بالدين] وقال الشيخ عبد الرحمن بن حسن، رحمه الله تعالى. بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إله الأولين والآخرين، وقيوم السماوات والأرضين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله النبي الأمين، وخاتم المرسلين، صلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. من عبد الرحمن بن حسن، إلى من يصل إليه هذا الكتاب، من المجاهدين والقرى، والبادين، الذين هم إلى الإسلام منتسبين، وعلى التوحيد معتصمين؛ سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أما بعد، فاعلموا، وفقنا الله وإياكم، أن الله تعالى - وله الحمد والمنة - منّ علينا، وعلى كافة أهل نجد، بالبيعة للإمام عبد الله بن الإمام فيصل، لما توفى الله أباه، رحمه الله؛ وقد صار له همة عالية، هي أعلى الهمم، وأوجبها على الإطلاق. وذلك للسعي في تجديد هذا الدين، الذي من الله تعالى بقبوله من الداعي إليه، الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى، فجعل آل سعود: محمد وأبناؤه، هم الجزء: 8 ¦ الصفحة: 85 أنصاره، وخالفوا أهل نجد وغيرهم، لأن أكثرهم أجلبوا على رد ما دعاهم إليه هذا الشيخ من التوحيد، وكراهته، وعداوته. وجعل الله هذه الحمولة، على قلتهم إذ ذاك، هم أنصاره، فما زال الأمر يزداد بالجهاد، حتى أكمله الله في نجد، وأكثر الحجاز، والشرق. فيا لها نعمة على من عرفها وقبلها، وأدى شكرها. وحصل التفاضل في العلم بالتوحيد، لكن معرفته على الحقيقة تحتاج إلى تجديد، لا سيما في هذه الأوقات التي عمت فيها الغفلة، والإعراض عن هذا الأصل العظيم، وهو دين الله الذي رضيه لعباده، وخلقهم له، وأرسل به رسله، وأنزل به كتبه، وهو إخلاص العبادة لله وحده، دون ما سواه. والعبادة: كل ما يحب الله تعالى من عبده أن يقصده به، فهو عبادة لا يجوز أن يصرف منها شيء لغيره، كالدعاء، والاستعانة؛ وقد ذكر الله تعالى أنواع العبادة في كتابه، من ذلك: الدعاء الذي هو مخ العبادة، كما قال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} [سورة الجن آية: 18] ، وقال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً} [سورة الجن آية: 20] ، وقال تعالى: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ} الآية [سورة الرعد آية: 14] . والمقصود: أن هذا الأصل العظيم، الذي هو الإسلام: أن لا يعبد إلا الله، وأن لا يعبد إلا بما شرع، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 86 يجب تجديده دائماً، تعلماً وتعليماً، ومعرفة أدلته، وما اشتملت عليه من البيان؛ فصار من هدي 1 - وفقه الله لما يحبه ويرضاه - أن ينظر لكم في رجلين من العلماء، يذكرانكم نعمة الله عليكم بهذا الدين، ويبيناه لكم، وينشرانه فيكم، ويسألان الخاصة والعامة عن الأصول والقواعد، التي لشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى، حتى يحصل بها بصيرة في معرفة التوحيد من ضده، وفيها معرفة حقوق التوحيد، من فرائض الإسلام. فالواصل إليكم: علي بن عبد العزيز بن سليم، وعبد الله بن علي بن جريس، لما منّ الله به عليهما من معرفة هذا الدين، وإلزامهم العامة والخاصة ما منّ الله عليهم به من دينه الذي أعزهم الله به، وجملهم به. فالواجب عليكم ردة الراس إلى ما ينفعكم، ويصير منكم إقبال بقلوبكم على هذا العلم الذي ما تستغنون عنه، وحاجتكم إليه أعظم من حاجتكم إلى الطعام والشراب. كذلك يقع أمور فيها إفراط وتفريط في آمر دينكم، فلا بد من الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ولا بد للناس من آمر يأمرهم، وناه ينهاهم، كما قال تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ   1 بياض بالأصل. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 87 وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [سورة آل عمران آية: 104] . ومن الناس من يتوسع في المحرمات، كلبس الحرير، يزينه الشيطان، والنفس الأمارة بالسوء، كذلك مواقع التهم التي يحصل بها فساد، فالغفلة عنها فساد، وغير ذلك مما تقدمت الإشارة إليه. فالإمام - وفقه الله وهداه لما يحبه ويرضاه - قادهم إليكم، خوفاً من أن تفعلوا ما يوقع في المحرمات، ويجلب العقوبات العاجلة والآجلة، فيجب على الأمير تركي، وكل رئيس في قبيلة: القيام بما فيه صلاح البلاد والعباد، ويدفع الله به كل شر ومكروه، فإن الله تعالى لا يرضيه من العباد إلا طاعته في الأمور التي نهى عنها وحذر. والنعمة عليكم عظيمة لمن رزقه الله النية إذا عرفتم هذا الدين، حصل فيه أجر عظيم وغدوة في سبيل الله، وروحة خير من الدنيا وما عليها. والمجاهد كل أحواله عمل صالح، حتى نومه ونفسه. حماني الله وإياكم عما يوجب سخطه وغضبه. وخط الإمام عبد الله تشرفون عليه إن شاء الله تعالى. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 88 [جعل في كل محلة من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر] وقال الإمام عبد الله بن فيصل بن تركي، رحمهم الله: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله بن فيصل، إلى الأمير: مجاهد بن عبد الله، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد، يكون عندك معلوماً: أن الله أوجب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، كما قال تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [سورة آل عمران آية: 104] ، وأوجبه صلى الله عليه وسلم كما في الحديث: " من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه " 1. وأنت - ولله الحمد - لك القدرة باليد واللسان، ويذكر لنا: أنه يحدث في بلدتكم بعض المنكرات، من موالاة المشركين ومحبة أعداء الدين، وعدم تنظيم أحكام الشرع، وشرب المسكرات، والتماهن عن الصلوات بالحاضر، أنا ملزمك، ومن ذمتي في ذمتك: أنك تأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر، وتنظم أحكام الشرع، وتأخذ على يد السفيه، ولا تأخذك في الله لومة لائم.   1 مسلم: الإيمان (49) , والترمذي: الفتن (2172) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (5008) , وأبو داود: الصلاة (1140) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1275) والفتن (4013) , وأحمد (3/20, 3/49, 3/54, 3/92) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 89 وعبد المحسن وابنه، ملزمينهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وما بينوا لك فيلزمك القيام به، وتجعل معهم من يعاضدهم، وتجعل في كل طرف إنساناً من أهله، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويكون ناظرة عليهم. ويكون عندك معلوماً: أنه ما يتعرض الأمر بالمعروف والناهي عن المنكر خاص أو عام، فلا يكفينا نكاله بماله دون حاله، ويلزمكم ترفعون خبره إلينا. وكذلك، يذكر لنا أنه ينزل في القيظ عندكم، في أطراف البلد "صلبة" يحصل منهم فساد، فأنت نبه عليهم، لا ينزلها أحد، ومن نزلها فالأدب في رأسك، والسلام. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 90 سئل الشيخ حسن بن حسين بن الشيخ: عن قوله صلى الله عليه وسلم: " للعامل منهم أجر خمسين " 1 ... إلخ؟ فأجاب: اعلم أولاً: أن هذا الحديث المشار إليه، خرجه أبو داود والترمذي وابن ماجة، من طريق عتبة بن حكيم، عن عمرو بن حارثة، عن أبي أمية الشعباني، عن أبي ثعلبة الخشني، في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [سورة المائدة آية: 105] : أما والله: لقد سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " بل ائتمروا بالمعروف، وتناهوا عن المنكر، حتى إذا رأيت شحاً مطاعاً، وهوى متبعاً، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، ورأيت أمراً لا بد لك منه – وفي لفظ - لا يدان لك به، فعليك بخاصة نفسك، ودع عنك أمر العوام؛ فإن وراءكم أيام الصبر، فمن صبر فيهن كان كمن قبض على الجمر؛ للعامل فيهن أجر خمسين رجلاً يعملون مثل عمله. قالوا: يا رسول الله، أجر خمسين منهم؟ قال: أجر خمسين منكم " 2، وعتبة هذا، قال الحافظ المنذري، في مختصر السنن لأبي داود: هو: العباس بن أبي حكيم الهمداني الشامي، وثقه غير واحد، وتكلم فيه غير واحد؛ قلت: وقد حكم الترمذي على هذا الحديث، أنه حسن غريب. إذا عرفت ذلك، فالمعنى الذي لأجله استحق الأجر العظيم والثواب، وساوى فضل خمسين من الصحابة، إنما هو لعدم المعاون والمساعد، على ما ذكره الحافظ أبو   1 الترمذي: تفسير القرآن (3058) , وابن ماجة: الفتن (4014) . 2 الترمذي: تفسير القرآن (3058) , وأبو داود: الملاحم (4341) , وابن ماجة: الفتن (4014) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 91 سليمان الخطابي، وأبو الفرج عبد الرحمن بن رجب وغيرهما. فالمستقيم على المنهج السوي، والطريق النبوي، عند فساد الزمان ومروج الأديان، غريب ولو عند الحبيب، إذ قد توفرت الموانع، وكثرت الآفات، وتظاهرت القبائح والمنكرات، وظهر التغيير في الدين والتبديل، واتباع الهوى والتضليل، وفقد المعين، وعز من تلوذ به من الموحدين، وصار الناس كالشيء المشوب، ودارت بين الكل رحى الفتن والحروب، وانتشر شر المنافقين، وعيل صبر المتقين، وتقطعت سبل المسالك، وترادفت الضلالات والمهالك، ومنع الخلاص ولات حين مناص؛ فالموحد بينهم أعز من الكبريت الأحمر، ومع ذلك فليس له مجيب ولا راع، ولا قابل لما يقول ولا داع. وقد نصبت له رايات الخلاف، ورمي بقوس العداوة والاعتساف، ونظرت إليه شزر العيون، وأتاه الأذى من كل منافق مفتون، واستحكمت له الغربة، وأفلاذ كبده تقطعت مما جرى في دين الإسلام وعراه من الانثلام والانفصام، والباطل قد اضطرمت ناره، وتطاير في الآفاق شراره؛ ومع هذا كله، فهو على الدين الحنيفي مستقيم، وبحجج الله وبراهينه مقيم، فبالله، قل لي: هل يصدر هذا إلا عن يقين صدق راسخ في الجنان، وكمال توحيد وصبر وإيمان، ورضى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 92 وتسليم لما قدره الرحمن؟ وقد وعد الله الصابرين جزيل الثواب: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [سورة الزمر آية: 10] . وقد قال بعض العلماء، رحمهم الله: من اتبع القرآن والسنة، وهاجر إلى الله بقلبه، واتبع آثار الصحابة، لم يسبقه الصحابة، إلا بكونهم رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم. انتهى. وفي ذلك الزمان، فالكل له أعوان وإخوان، ومساعدون ومعاضدون، ولهذا قال علي بن المديني، كما ذكره عنه ابن الجوزي، في كتاب صفوة الصفوة: ما قام أحد بالإسلام بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قام أحمد بن حنبل، قيل: يا أبا الحسن، ولا أبا بكر الصديق؟ قال: إن أبا بكر الصديق رضي الله عنه كان له أصحاب وأعوان، وأحمد بن حنبل لم يكن له أصحاب. انتهى. وقد روى الإمام أحمد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " بدأ الإسلام غريباً، وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء. قيل: يا رسول الله، ومن الغرباء؟ قال: النزاع من القبائل " 1، ورواه أبو بكر الآجري الحنبلي، وعنده: " قيل: من هم يا رسول الله؟ قال: الذين يصلحون إذا فسد الناس " 2، ورواه غيره، وعنده: " قال: الذين يفرون بدينهم من الفتن ". ورواه الترمذي عن كثير بن عبد الله المزني، عن أبيه عن جده، عن النبي صلى الله عليه وسلم بلفظ: " الذين يصلحون ما أفسد الناس   1 الترمذي: الإيمان (2629) , وابن ماجة: الفتن (3988) , وأحمد (1/398) , والدارمي: الرقاق (2755) . 2 أحمد (4/73) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 93 من سنتي "، ورواه الإمام أحمد أيضاً من حديث سعد بن أبي وقاص، ورواه الطبراني من حديث عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " طوبى للغرباء، قيل: ومن الغرباء؟ قال: قوم صالحون قليل، في قوم سوء كثير، من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم " 1، قال الأوزاعي في تفسيره: أما إنه ما يذهب الإسلام، ولكن يذهب أهل السنة، حتى ما يبقى في البلد منهم إلا رجل واحد، أو رجلان. ورواه البخاري عن مرداس السلمي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يذهب الصالحون الأول فالأول، ويبقى حثالة كحثالة الشعير، أو التمر، لا يباليهم الله باله" 2. وكان الحسن البصري يقول لأصحابه: "يا أهل السنة ترفقوا رحمكم الله، فإنكم من أول الناس". وقال يوسف بن عبيد: "ليس شيء أغرب من السنة، وأغرب منها من يعرفها". وروى أبو القاسم الطبراني وغيره، بإسناد فيه نظر، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " المتمسك بسنتي عند اختلاف أمتي، له أجر شهيد ". وروى مسلم في صحيحه عن معقل بن يسار: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "العبادة في الهرج كهجرة إلي " 3. وعن الحسن البصري: "لو أن رجلاً من الصدر الأول بُعث، ما عرف من الإسلام شيئاً إلا هذه الصلاة. ثم قال: أما والله، لئن عاش على هذه المنكرات، فرأى صاحب بدعة يدعو إلى بدعته، وصاحب دنيا يدعو إلى   1 أحمد (2/177) . 2 البخاري: الرقاق (6434) , وأحمد (4/193) , والدارمي: الرقاق (2719) . 3 مسلم: الفتن وأشراط الساعة (2948) , والترمذي: الفتن (2201) , وابن ماجة: الفتن (3985) , وأحمد (5/27) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 94 دنياه، فعصمه الله، وقلبه يحن إلى ذلك السلف، ويتبع آثارهم ويستن بسنتهم، ويتبع سبيلهم، كان له أجر عظيم". وروى المبارك بن فضالة، أحد علماء الحديث بالبصرة، عن الحسن البصري، أنه ذكر الغني المترف الذي له سلطان، يأخذ المال ويدعي أنه لا عقاب فيه، وذكر المبتدع الضال، الذي خرج على المسلمين، وتأول ما أنزل الله في الكفار على المسلمين، ثم قال: "سنتكم، والله الذي لا إله إلا هو، بينها وبين الغالي والجافي، والمترف والجاهل؛ فاصبروا عليها، فإن أهل السنة كانوا أقل الناس، الذين لم يأخذوا مع أهل الإتراف في إترافهم، ولا مع أهل البدع أهواءهم، وصبروا على سنتهم حتى أتوا ربهم. فكذلك فكونوا إن شاء الله". ثم قال: "والله لو أن رجلاً أدرك هذه المنكرات، يقول هذا: هلم إلي! ويقول هذا هلم إلي! فيقول: لا أريد إلا سنة محمد صلى الله عليه وسلم، يطلبها ويسأل عنها، إن هذا له أجر عظيم. فكذلك فكونوا إن شاء الله". وعن مورق، رحمه الله، قال: المتمسك بطاعة الله إذا جنب الناس عنها، كالكار بعد الفار. قال أبو السعادات ابن الأثير في النهاية: أي: إذا ترك الناس الطاعات ورغبوا عنها، كان المتمسك بها له ثواب كثواب الكار في الغزو، بعد أن فر الناس عنه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 95 فصل: [ما جاء في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر] ولنذكر طرفاً مما في الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، إذ له تعلق بما تقدم، قال الله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [سورة آل عمران آية: 104] ، وقال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [سورة آل عمران آية: 110] . وقال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [سورة التوبة آية: 71] ، وقال تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [سورة المائدة آية: 78-79] ، وقال تعالى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [سورة الأعراف آية: 165] . والآيات في هذا الباب كثيرة. وروى مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه؛ وذلك أضعف الإيمان " 1. وروى مسلم أيضاً عن ابن مسعود قال: قال   1 مسلم: الإيمان (49) , والترمذي: الفتن (2172) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (5008) , وأبو داود: الصلاة (1140) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1275) والفتن (4013) , وأحمد (3/20, 3/49, 3/54, 3/92) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 96 رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي، إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته، ويقتدون بأمره. ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف، يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون. فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن. وليس وراء ذلك من الإيمان وزن حبة خردل من إيمان " 1. وقد روى الإمام أحمد عن أم سلمة قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إذا ظهرت المعاصي في أمتي، عمهم الله بعذاب من عنده. فقلت: يا رسول الله، أما فيهم يومئذ صالحون؟ قال: بلى. قلت: فكيف يصنع بأولئك؟ قال: يصيبهم ما أصاب الناس، ثم يصيرون إلى مغفرة من الله ورضوان " 2، وروى البخاري عن زينب بنت جحش، قالت: " قلت: يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم، إذا كثر الخبث " 3. وروى الترمذي عن حذيفة بن اليمان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " والذي نفسي بيده، لتأمرنّ بالمعروف، ولتنهونّّّ عن المنكر، أو ليوشكنّ الله أن يبعث عليكم عذاباً منه، ثم تدعونه فلا يستجاب لكم " 4. وروى الإمام أحمد، وأبو داود والترمذي والنسائي، من حديث عمرو بن مرة عن سالم عن أبي الجعد، عن أبي   1 مسلم: الإيمان (50) , وأحمد (1/458) . 2 أحمد (6/304) . 3 البخاري: أحاديث الأنبياء (3346) , ومسلم: الفتن وأشراط الساعة (2880) , والترمذي: الفتن (2187) , وابن ماجة: الفتن (3953) , وأحمد (6/428, 6/429) . 4 الترمذي: الفتن (2169) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 97 عبيدة بن عبد الله بن مسعود، عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن من كان قبلكم كانوا إذا عمل العامل فيهم بالخطيئة، جاءه الناهي تعذيراً، فإذا كان الغد جالسه وواكله وشاربه، كأنه لم يره على خطيئة بالأمس. فلما رأى الله عز وجل ذلك منهم، ضرب بقلوب بعضهم على بعض، ثم لعنهم على لسان نبيهم داود وعيسى ابن مريم، ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون. والذي نفس محمد بيده، لتأمرنّ بالمعروف، ولتنهونّ عن المنكر، ولتأخذنّ على يد السفيه، ولتأطرنّه على الحق أطراً، أو ليضربنّ الله بقلوب بعضكم بعضاً، ثم يلعنكم كما لعنهم ". وروى ابن ماجة عن عبد الله بن عمر، قال: " كنت عاشر عشرة رهط من المهاجرين عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل علينا بوجهه، وقال: يا معاشر المهاجرين، خمس خصال، وأعوذ بالله أن تدركوهن: ما ظهرت الفاحشة في قوم حتى أعلنوها، إلا ابتلاهم الله بالطواعين والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا. ولا نقص قوم المكيال والميزان، إلا ابتلوا بالسنين وشدة المؤونة وجور السلطان. وما منع قوم زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا. ولا خفر قوم العهد، إلا سلط الله عليهم عدواً من غيرهم، فأخذوا بعض ما في أيديهم. وما لم تعمل أئمتهم بما أنزل الله عز وجل في كتابه، إلا جعل بأسهم بينهم ". الجزء: 8 ¦ الصفحة: 98 وروى البخاري عن النعمان بن بشير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " مثل القائم في حدود الله والواقع فيها، كمثل قوم استهموا في سفينة، فصار لبعضهم أعلاها، ولبعضهم أسفلها. فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً، ولم نؤذ من فوقنا؛ فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجوْا، ونجوْا جميعاً "، قال النووي: القائم في حدود الله، معناه: المنكر لها، القائم في دفعها وإزالتها، والمراد بالحدود: ما نهى الله عنه. والأحاديث في هذا كثيرة، قد أفردنا لها رسالة، وجمعنا فيها جميع ما ورد، وتقنصنا سائر ما شرد، ولله الحمد، فلتراجع. فضل التمسك بالدين عند وقوع الفتن وقال الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين، رحمه الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين، إلى الإخوان: عبد الله آل علي، وحمود وعلي آل عبد الله، وفقهم الله لطاعته وحفظهم بكلايته؛ سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد، موجب الخط: إبلاغكم السلام، والسؤال عن حالكم؛ أصلح الله لنا ولكم الدين والدنيا والآخرة، نسأل الله الجزء: 8 ¦ الصفحة: 99 أن يحيينا وإياكم حياة طيبة، وهي الحياة في الطاعة. وأوصيكم بتقوى الله، والاستكثار من أعمال الخير، والتمسك بما تعرفون من التوحيد، الذي دعا إليه الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله. فأكثر الناس اليوم، صار المعروف عندهم منكراً والمنكر معروفاً؛ وهذا زمان، الصابر فيه كالقابض على الجمر، وكل زمان شر مما قبله. وتصدر للفتوى جهال أضلوا الناس، اجتمع فيهم الجهل والفجور، وبعض من عنده معرفة، صار يناظر وجوه أهل الدنيا. والمنصف اليوم، أعز من الكبريت الأحمر، والحق - ولله الحمد - عليه نور، قال صلى الله عليه وسلم: " تركتكم على البيضاء، ليلها كنهارها " 1. والحق مع ظهوره في غاية الغربة، ويرى المؤمن ما يذوب منه قلبه. ونرجو أن المتمسك بدينه اليوم، يحصل له أجر خمسين من أصحاب رسول الله، لأجل ظهور الشرك في الأمصار، وظهور المنكرات، وإضاعة الصلوات؛ فلم يبق، والله، من الإسلام إلا اسمه؛ وهذا مصداق ما أخبر به الصادق المصدوق، صلوات الله وسلامه عليه، وعلى سائر الأنبياء والمرسلين. نسأل الله أن يهدينا وإياكم صراطه المستقيم، ويتوفانا مسلمين، ويجعلنا وإياكم مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.   1 ابن ماجة: المقدمة (44) , وأحمد (4/126) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 100 وقال أيضاً: والحديث المروي: " يأتي على الناس زمان، يذوب فيه قلب المؤمن " الحديث; فهذه الأزمنة، والله، كذلك، ولكن لضعف الإيمان، ما نحس بذلك على حقيقته. وقد اشتدت، والله، غربة الإسلام، وأي غربة أعظم من غربة من وفقه الله لمعرفة التوحيد، الذي اتفقت عليه جميع الرسل، الذي هو حق الله على عباده، مع جهل أكثر الناس اليوم، وإنكارهم له، والأمر كما قال الله: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [سورة يونس آية: 58] . نسأل الله لنا ولكم الوفاة على التوحيد، الذي هو إخلاص العبادة لله وحده؛ وقول الحسن، رحمه الله، فما أحسن ذلك وأحلاه! وتوجعه وتأوهه، مما رأى في زمانه المثنى على أهله. ولا يأتي زمان إلا وما بعده شر منه، كما قال الصادق المصدوق؛ ولكن لغلبة الجهل، وقلة العلم، وإلف العادة، ضعف استنكار المنكر وعدم، فالله المستعان. مسألة: من سن في الإسلام سنة حسنة وقال أيضاً، رحمه الله تعالى: مسألة: " من سن في الإسلام سنة حسنة، فله أجرها وأجر من عمل بها " 1 الحديث. الجواب: أما حديث: " من سن في الإسلام سنة حسنة " 2، الحديث صحيح، لكن ليس فيه حجة لأهل البدع.   1 مسلم: الزكاة (1017) , والنسائي: الزكاة (2554) , وابن ماجة: المقدمة (203) , وأحمد (4/357, 4/358) , والدارمي: المقدمة (514) . 2 مسلم: الزكاة (1017) , والنسائي: الزكاة (2554) , وابن ماجة: المقدمة (203) , وأحمد (4/357, 4/358) , والدارمي: المقدمة (514) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 101 وسبب قول النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما حثهم على الصدقة ورغبهم فيها، جاء رجل من الأنصار بدراهم كادت كفه أن تعجز عنها، بل قد عجزت، ثم تتابع الناس خلفه في الصدقة، كل أحد بحسبه، فسر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك وقال: " من سن في الإسلام سنة حسنة، فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، من غير أن ينقص من أجورهم شيء " 1. فالمراد بالحسنة: إذا كان باب من الخير متروكاً، فعمل به إنسان وفتحه، واقتدى به غيره، كان كمن سن سنة حسنة، كحال الأنصاري الذي بادر بصرة الدراهم، فتتابع الناس بعده بالصدقات، وكمن كان في بلد وعنده ناس لا يصومون يوم عاشوراء، ونحو ذلك، فصامه وتتابعوا على ذلك. والمستدل بالحديث لمن ابتدأ قولاً أو عملاً استحسنه، وقال: هذه بدعة حسنة، ولفظ الحديث: "من سن في الإسلام " 2، لم يقل: من ابتدع في الإسلام بدعة حسنة، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: " كل بدعة ضلالة " 3 كلمة جامعة، وقوله: " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه، فهو رد " 4. وهذا أحد الأحاديث التي يدور عليها الإسلام، كما قال الإمام أحمد: الإسلام يدور على ثلاثة أحاديث: حديث عمر رضي الله عنه: " إنما الأعمال بالنيات " 5، وحديث عائشة، رضي الله عنها: " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه، فهو رد " 6،   1 مسلم: الزكاة (1017) , والنسائي: الزكاة (2554) , وابن ماجة: المقدمة (203) , وأحمد (4/357, 4/358) , والدارمي: المقدمة (514) . 2 مسلم: الزكاة (1017) , والنسائي: الزكاة (2554) , وابن ماجة: المقدمة (203) , وأحمد (4/357, 4/358) , والدارمي: المقدمة (514) . 3 مسلم: الجمعة (867) , والنسائي: صلاة العيدين (1578) , وابن ماجة: المقدمة (45) , وأحمد (3/310) , والدارمي: المقدمة (206) . 4 البخاري: الصلح (2697) , ومسلم: الأقضية (1718) , وأبو داود: السنة (4606) , وابن ماجة: المقدمة (14) , وأحمد (6/240) . 5 البخاري: بدء الوحي (1) , ومسلم: الإمارة (1907) , والترمذي: فضائل الجهاد (1647) , والنسائي: الطهارة (75) والطلاق (3437) والأيمان والنذور (3794) , وأبو داود: الطلاق (2201) , وابن ماجة: الزهد (4227) , وأحمد (1/25) . 6 البخاري: الصلح (2697) , ومسلم: الأقضية (1718) , وأبو داود: السنة (4606) , وابن ماجة: المقدمة (14) , وأحمد (6/240) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 102 وحديث: "الحلال بيّن والحرام بيّن " 1 ... إلخ. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في خطبه: " إياكم ومحدثات الأمور! فإن كل بدعة ضلالة " 2، وهذا من جوامع الكلم التي أعطيها نبينا صلى الله عليه وسلم. فمن ابتدع شيئاً استحسنه، وقال: هذه بدعة حسنة، فهو مشاق قوله صلى الله عليه وسلم: " كل بدعة ضلالة " 3، وما يطلق عليه اسم البدعة مما فعله الصحابة، والأئمة والتابعون، فهو بدعة لغوية، كقول عمر: "نعمت البدعة هذه"، يعني التراويح، وكزيادة عثمان والصحابة، الأذان الأول يوم الجمعة، فهو لا يدخل في قوله صلى الله عليه وسلم: " كل بدعة ضلالة " 4، لأن له أصلاً في الشرع. وأيضاً، فهو مما سنه الخلفاء الراشدون، ولهم سنة يجب اتباعها، لقوله صلى الله عليه وسلم: " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي " 5. ومن ابتدع شيئاً استحسنه، وقال: هذه بدعة حسنة، فمقتضى دعواه أنه يقول: ليس كل بدعة ضلالة، فهذا مشاق لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ومراغم له؛ وإنما الذي ينبغي أن يقال: إنما ثبت حسنه من الأعمال التي قد قيل إنها بدعة، إن هذا العمل المعين مثلاً، ليس ببدعة، فلا يندرج في الحديث. قال ابن رجب: وما وقع في علماء السلف، من استحسان بعض البدع، إنما ذلك في البدع اللغوية لا الشرعية، وذكر من ذلك: جمع عمر على التراويح، وأذان   1 البخاري: الإيمان (52) , ومسلم: المساقاة (1599) , والترمذي: البيوع (1205) , والنسائي: البيوع (4453) والأشربة (5710) , وأبو داود: البيوع (3329) , وابن ماجة: الفتن (3984) , وأحمد (4/269, 4/270) , والدارمي: البيوع (2531) . 2 الترمذي: العلم (2676) , وأبو داود: السنة (4607) , وابن ماجة: المقدمة (42) , والدارمي: المقدمة (95) . 3 مسلم: الجمعة (867) , والنسائي: صلاة العيدين (1578) , وابن ماجة: المقدمة (45) , وأحمد (3/310) , والدارمي: المقدمة (206) . 4 مسلم: الجمعة (867) , والنسائي: صلاة العيدين (1578) , وابن ماجة: المقدمة (45) , وأحمد (3/310) , والدارمي: المقدمة (206) . 5 الترمذي: العلم (2676) , وابن ماجة: المقدمة (42, 44) , وأحمد (4/126) , والدارمي: المقدمة (95) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 103 الجمعة الأول، وجمع عثمان الناس على مصحف واحد، وقتال أبي بكر مانعي الزكاة، وغير ذلك. ومما يبين أن البدعة مذمومة، وهي ما لم يشرع الله ورسوله فعله: إنكار الصحابة على من أذن بصلاة العيدين، لأنه لم يفعله صلى الله عليه وسلم، وإن كان فاعله قد يحتج بقوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ} [سورة فصلت آية: 33] ، ونحو ذلك، كإنكارهم على من قدم خطبة العيد على الصلاة، وإنكارهم على من رفع يديه في الخطبة، وإن كان رفع اليدين في الدعاء وردت به الأحاديث، لكن إنما أنكر الرفع في هذا المحل، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعله في هذا الموضع; والآثار عنهم وعن التابعين والأئمة في ذلك كثيرة. وروى ابن وضاح: أن عبد الله بن مسعود حُدث: أن أناساً يسبحون بالحصى في المسجد، "وأتاهم وقد كوّم كل رجل منهم كومة من حصى بين يديه، فلم يزل يحصبهم، حتى أخرجهم من المسجد، ويقول: لقد أحدثتم بدعة ظلماء، أو قد فضلتم على أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم علماً". وبلغه: أن ناساً يجتمعون في المسجد، ويقول أحدهم: هللوا كذا، وسبحوا كذا، وكبروا كذا، فيفعلون; وقال ابن مسعود: "إنكم لأهدى من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أضل؟ بل هذه"، يعني: أضل. فانظر لإنكارهم لهذا الصنيع، مع الجزء: 8 ¦ الصفحة: 104 أن فاعل ذلك ربما ظن دخوله تحت قوله تعالى: {اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً} الآية [سورة الأحزاب آية: 41] . وإنما أنكر ابن مسعود رضي الله عنه الذكر على هذه الهيئة التي لم يكن الصحابة، رضي الله عنهم، يفعلونها. وقال ابن مسعود: "اتبعوا ولا تبتدعوا، فقد كُفيتم. وكل بدعة ضلالة"، وقال حذيفة: "اتبعوا سبيلنا، فلئن اتبعتمونا لقد سبقتم سبقاً بعيداً، ولئن خالفتمونا لقد ضللتم ضلالاً بعيداً". والآثار عن الصحابة في ذلك كثيرة، وكذلك الآثار عمن من بعدهم، في النهي عن البدع والتحذير منها، ومن ذلك كراهة الإمام أحمد للقارئ، إذا أتى على سورة {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ} ، أن يكررها ثلاثاً، لعدم وروده، مع ما ورد فيها من الفضل. وكذلك ما روي عن مالك وسفيان وغيرهما. وكره أحمد قراءة سورة الجمعة في عشاء ليلة الجمعة، لعدم وروده، وإن كانت المناسبة فيها ظاهرة؛ وكلامهم في ذلك كثير. وكذا: كراهتهم الدعاء إذا جلسوا بين التراويح، وكذا قول المؤذن قبل الأذان: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً} الآية [سورة الإسراء آية: 111] ، وكقوله قبل الإقامة: اللهم صل على محمد، ونحو ذلك من المحدثات. ومثل ذلك: ما أحدثوه من أزمنة، من رفع الأصوات في المنابر ليلة الجمعة، بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم الذي الجزء: 8 ¦ الصفحة: 105 يسمونه التذكير؛ فلو كان خيراً يحبه الله، لسبقنا إليه أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فإنهم كفوا من بعدهم، كما قالوا: اتبعوا ولا تبتدعوا، فقد كفيتم; فإنهم، رضي الله عنهم، بالخير أعلم، وعليه أحرص. فمن ابتدع شيئاً يتقرب به إلى الله، ولم يجعله الله ورسوله قربة، فقد شرع في الدين ما لم يأذن به الله. {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [سورة الشورى آية: 21] ، واستدرك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنهم لم يعلموا ما علمه، أو أنهم لم يعملوا بما علموا، فلزمه استجهال السابقين الأولين، من المهاجرين والأنصار، أو تقصيرهم في العمل. فهم، رضي الله عنهم، قد كفوا من بعدهم، والخير في الاتباع، والشر في الابتداع; أرأيت لو أن رجلاً أذن، فكبر أول الأذان خمس مرات، أو ست مرات، أو كرر "لا إله إلا الله" في آخر الأذان ثلاث مرات، أو أربع، أليس ينكر عليه؟ فإن احتج بفضل الذكر، وبقوله: {اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً} [سورة الأحزاب آية: 41] ، ونحو ذلك، وكذا لو زاد في الصلاة ركعة، وقال: هذا زيادة خير، فيدخل تحت قوله تعالى: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [سورة الحج آية: 77] ، ونحو ذلك. والحمد لله الذي أكمل لنا الدين، وأتم نعمه، ورضي الجزء: 8 ¦ الصفحة: 106 لنا الإسلام ديناً، نسأله برحمته، الوفاة على الإسلام والسنة، آمين. ذكر ما في قصة الهجرة من الفوائد قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى: ذكر ما في قصة الهجرة من الفوائد، فنبدأ بما يتعلق بها من التوحيد: الأولى: قوله: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ} [سورة الحج آية: 40] . ففي الآية: أن جميع ما ادعوا من الأسباب ليس بصحيح إلا هذه خاصة. الثانية: تسليطهم عليه بما لا يقدر على دفعه، حتى ألجؤوه في الغار. الثالثة: حاجته إلى هداية كافر. الرابعة: مصانعته في الطريق، كيف رحلا أولاً إلى جهة اليمن. الخامسة: قول سراقة - مع حاله -: أصابني بدعائكما، فادعوا الله لي؛ وأنت ترى ما في زماننا من ظنهم أن الطاغوت يضر أو ينفع لنفسه. السادسة: حاجته إلى موادعة اليهود. السابعة: حاجته إلى الصبر على ابن أبي وأمثاله. الثامنة: عمله في بناء المسجد بنفسه. التاسعة: قوله وقولهم: لا والله، لا نطلب ثمنه إلا من الله. العاشرة: كون مسجد قباء أسس على التقوى، يوضحه مسجد الضرار. وأما ما يتعلق بآيات النبوة: الأولى: بحفظ الله في تلك الأشهر، وفي الغار، وفي سفره إلى الهجرة، مع سراقة وغيره، وفيها نزل قوله تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا} الآية [سورة الأنفال آية: 30] . الثانية: إخبار الله له بمكرهم تلك الجزء: 8 ¦ الصفحة: 107 الليلة. الثالثة: إجابة دعائه على سراقة. الرابعة: إجابة دعائه في زوال حمى المدينة. الخامسة: إجابة دعائه في صيرورتها في الجحفة. السادسة: في لبن شاة أم معبد. السابعة: ما ذكر من حسن صورته. الثامنة: ما ذكره من حسن خلقه. التاسعة: مروءته في كونه يعطي ولا يأخذ، لقوله لأبي بكر بالثمن. العاشرة: تخصيصه أبا بكر بصحبته في ذلك السفر، ثم بان منه ما بان. الحادية عشر: أو ما فعلت. وأما ما فيها من فضائل الصحابة: فالأولى: فضل أبي بكر الذي لا يجارى. الثانية: فضل عمر وقوته. الثالثة: فضل عثمان وتقدمه، لكن يستفاد من الهجرة الأولى. الرابعة: فضل علي لكونه أقام بأمره. الخامسة: فضل مصعب بن عمير. السادسة: فضل ابن أبي سلمة. السابعة: فضل أسعد بن زرارة. الثامنة: فضل جابر بن عبد الله. التاسعة: فضل سعد بن عبادة. العاشرة: فضل أبي أيوب. الحادية عشرة: فضل أهل العقبة. الثانية عشرة: فضائل الأنصار. الثالثة عشرة: ذكر نسبهم. الرابعة عشرة: ذكر تأليف الله بينهم بنبيه. الخامسة عشرة: فضل سعد بن معاذ وأسيد بن حضير. السادسة عشرة: من في المدينة من القبائل. وأما ما فيها من مسائل الفقه: فالأولى: تفرد الله الجزء: 8 ¦ الصفحة: 108 بالهداية والإضلال، وهو الأمر العظيم المذكور في قوله: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ} الآية [سورة البقرة آية: 89] . الثانية: سبب الهداية. الثالثة: سبب الإضلال. الرابعة: مبدأ النفاق وأسبابه. الخامسة: معنى قوله: {وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً} [سورة الكهف آية: 10] ، يوضحه: " اللهم أمض لأصحابي هجرتهم، ولا تردهم على أعقابهم ". السادسة: ما كانوا فيه من الضيق، ففيه أن الرسل تبتلى، ثم تكون لها العاقبة. السابعة: أن الأذان لم يشرع. الثامنة: أن القتال لم يشرع. التاسعة: وهو من أجلّها، من ترك المبادرة إلى الهجرة افتتن. العاشرة: دعاء الله أن يسلم الأعمال الصالحة، مما يفسدها أو ينقصها. الحادية عشرة: الاستعانة بالله على الأمور المهمة. الثانية عشرة: الأمور العندية. الثالثة عشرة: الاستعانة بالكفار على الكفار. الرابعة عشرة: أن الإنسان ولو كمل في الفضل، لا يستغني عن المشاورة. الخامسة عشرة: الوثوق بخبر الصغير إذا عرف منه الصدق، لخبر عبد الله بن أبي بكر. السادسة عشرة: إخباره بالسر إذا وثق به. السابعة عشرة: أن مقامات الأنبياء لا يشرع قصدها إلا ما شرعه الله، وأنه صلى الله عليه وسلم لم يشرع قصد الغار، ولا غار حراء الذي نزل فيه الوحي. الثامنة عشرة: التكبير عند الفرح. التاسعة عشرة: ملاقاة القادم. العشرون: فضيلة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 109 المسجد القديم. والحادية والعشرون: البداءة ببيت الله قبل بيتك. والثانية والعشرون: كونه لم ينقل التراب ولم يطينه. الثالثة والعشرون: أن الاستحالة تطهر. الرابعة والعشرون: أن السنة عدم زخرفة المساجد. الخامسة والعشرون: التعاون في بناء المساجد. السادسة والعشرون: مخالفة هدي المشركين في البناء للمساجد. السابعة والعشرون: مواساة الصحابة بعضهم بعضاً. الثامنة والعشرون: أن الضيافة لا نقص فيها. التاسعة والعشرون: صلة الرحم بمثلها. الثلاثون: أخوال الجد من جملة القرابة. الحادية والثلاثون: بيع عقار اليتيم للمصلحة. الثانية والثلاثون: أن المقبرة إذا أزيلت وزال اسمها زال النهي. الثالثة والثلاثون: نبش قبور المشركين للمصلحة. الرابعة والثلاثون: جواز قطع النخيل للمصلحة. الخامسة والثلاثون: 1. السادسة والثلاثون: الصبر على أذى المنافقين والكفار، وقد نسخ منه ما نسخ. السابعة والثلاثون: وجوب الهجرة من أفضل البقاع. الثامنة والثلاثون: وجوبها إلى المدينة. التاسعة والثلاثون: خروج الإنسان من وطنه، قد يكون من أكبر الفضائل. الأربعون: فضيلة من أعان في   1 بياض بالأصل. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 110 الهجرة، لقصة أسماء. الحادية والأربعون: جواز لعن المعين من الكفار. الثانية والأربعون: التغني بالشعر. الثالثة والأربعون: الارتجاز به في الشغل. الرابعة والأربعون: جواز رفع الصوت به في بعض الأحيان. الخامسة والأربعون: جواز بعض التمني. السادسة والأربعون: أن كمال الإيمان 1 بل حب الأوطان. السابعة والأربعون: سؤال الله أن يعوضه عن المحبوب الفائت بمحبة غيره. الثامنة والأربعون: أن ترنم بلال وغيره نقص، لقوله يهذون من الحمى، ولم ينكر. التاسعة والأربعون: أن أعظم المكروهات قد يكون سبباً لأعظم المحبوبات. الخمسون: أن السبب الذي أراد به العدو إخماد الدين، صار هو السبب في ظهوره. الحادية والخمسون: أن السبب الذي أراد به ذل عدوه، صار سبب العز. الثانية والخمسون: عظم شأن الهجرة، لكون الصحابة جعلوا التاريخ منها. ستة مواضع من السيرة وقال أيضاً: الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى: تأمل رحمك الله ستة مواضع من السيرة، وافهمها فهماً جيداً حسناً، لعل الله أن يفهمك دين الأنبياء لتتبعه، ودين المشركين لتتركه؛ فإن أكثر من يدعي الدين، ويعد من   1 بياض بالأصل. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 111 الموحدين، لا يفهم معنى هذه السنة كما ينبغي. الموضع الأول: قصة نزول الوحي، وفيها: أن أول آية أرسله الله بها: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ} [سورة المدثر آية: 1-2] إلى قوله: {وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} [سورة المدثر آية: 7] . فإذا فهمت أنهم يفعلون أشياء كثيرة، يعرفون أنها من الظلم والعدوان، مثل الزنى وغيره، وعرفت أيضاً أنهم يفعلون أشياء كثيرة من العبادات، يتقربون بها إلى الله، مثل الحج والعمرة، والصدقة على المساكين، والإحسان إليهم، وغير ذلك؛ وأجلها عندهم: الشرك، فهو أجل ما يتقربون به إلى الله عندهم، كما ذكر الله عنهم أنهم قالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [سورة الزمر آية: 3] ، {وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [سورة يونس آية: 18] ، وقال: {إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} [سورة الأعراف آية: 30] ؛ فأول ما أمره به: الإنذار عنه، قبل الإنذار عن الزنى والسرقة وغيرهما. وعرفت: أن منهم من تعلق على الأصنام، ومنهم من تعلق على الملائكة، وعلى الأولياء من بني آدم، ويقولون: ما نريد منهم إلا شفاعتهم، ومع هذا بدأ بالإنذار عنه في أول آية أرسله الله بها، فإن أحكمت هذه المسألة، فيا بشراك! الجزء: 8 ¦ الصفحة: 112 خصوصاً إذا عرفت أن ما بعدها أعظم من صلاة الخمس، ولم تفرض إلا في ليلة الإسراء، سنة عشر، بعد حصار الشعب وموت أبي طالب، وبعد هجرة الحبشة بسنتين. فإذا عرفت أن تلك الأمور الكثيرة، والعداوة البالغة، كل ذلك عند هذه المسألة، قبل فرض الصلاة، رجوت أن تعرف المسألة. الموضع الثاني: أنه صلى الله عليه وسلم لما قام ينذرهم عن الشرك، ويأمرهم بضده، وهو التوحيد، لم يكرهوا ذلك واستحسنوه، وحدثوا أنفسهم بالدخول فيه، إلى أن صرح بسب دينهم، وتجهيل علمائهم، فحينئذ شمروا له ولأصحابه عن ساق العداوة، وقالوا: سفه أحلامنا، وعاب ديننا، وشتم آلهتنا; ومعلوم أنه صلى الله عليه وسلم لم يشتم عيسى وأمه، ولا الملائكة، ولا الصالحين; لكن لما ذكر أنهم لا يُدعون، ولا ينفعون ولا يضرون، جعلوا ذلك شتماً. فإذا عرفت هذه المسألة، عرفت أن الإنسان لا يستقيم له دين ولا إسلام، ولو وحد الله وترك الشرك، إلا بعداوة المشركين، والتصريح لهم بالعداوة والبغضاء، كما قال تعالى: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} الآية [سورة المجادلة آية: 22] ؛ فإذا فهمت هذا فهماً حسناً جيداً، عرفت أن كثيرًا من الذين يدّعون الدين لا يعرفونها، وإلا فما الذي حمل المسلمين على الصبر على الجزء: 8 ¦ الصفحة: 113 ذلك العذاب، والأسر والضرب، والهجرة إلى الحبشة، مع أنه صلى الله عليه وسلم أرحم الناس، ولم يجد لهم رخصة، ولو وجد لهم رخصة لأرخص لهم، كيف وقد أنزل الله عليه {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} الآية [سورة العنكبوت آية: 10] ؛ فإذا كانت هذه الآية فيمن وافقهم بلسانه، فكيف بغير ذلك؟ الموضع الثالث: قصة قراءته صلى الله عليه وسلم سورة النجم بحضرتهم، فلما بلغ {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى} [سورة النجم آية: 19] ، ألقى الشيطان في تلاوته: "تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتها لترتجى"، فظنوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قالها، ففرحوا بذلك فرحاً شديداً، وقالوا كلاماً معناه: هذا الذي نريد، ونحن نعرف أن الله هو النافع الضار وحده لا شريك له، ولكن هؤلاء يشفعون لنا عنده، فلما بلغ السجدة سجد وسجدوا معه، فشاع الخبر أنهم صافوه، وسمع بذلك من بالحبشة فرجعوا، فلما أنكر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، عادوا إلى شر ما كانوا عليه. ولما قالوا له: إنك قلت ذلك، خاف من الله خوفاً عظيماً، حتى أنزل الله عليه: { (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} الآية [سورة الحج آية: 52] . فمن فهم هذه القصة ثم شك بعدها في دين النبي صلى الله عليه وسلم ولم يفرق بينه وبين دين المشركين، فأبعده الله، خصوصاً إن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 114 عرف أن قولهم: تلك الغرانيق الملائكة. الموضع الرابع: قصة أبي طالب، فمن فهمها فهماً حسناً، وتأمل إقراره بالتوحيد، وحث الناس عليه، وتسفيه عقول المشركين، ومحبته لمن أسلم وخلع الشرك، ثم بذل عمره وماله وأولاده وعشيرته، في نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن مات، ثم صبر على المشقة العظيمة، والعداوة البالغة، لكن لم يدخل فيه، ولم يتبرأ من دينه الأول، لم يصر مسلماً، مع أنه يعتذر عن ذلك بأن فيه مسبة لأبيه عبد المطلب، ولهاشم وغيرهما من مشائخهم; ثم مع قرابته ونصرته، استغفر له رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله عليه: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى} الآية [سورة التوبة آية: 113] . والذي يبين هذا: أنه إذا عرف رجل من أهل البصرة أو الأحساء، يحب الدين ويحب المسلمين، ظن أكثر الناس أنه مع المسلمين، مع أنه لم ينصر الدين بيد ولا مال، ولا له من الأعذار مثل ما لأبي طالب; فمن فهم قصة أبي طالب، وفهم الواقع من أكثر من يدعي الدين، تبين له الهدى من الضلال، وعرف سوء الأفهام، والله المستعان. الموضع الخامس: قصة الهجرة، وفيها من الفوائد والعبر ما لا يعرفه أكثر من قرأها، ولكن مرادنا الآن مسألة من مسائلها، وهي: أن من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من لم يهاجر الجزء: 8 ¦ الصفحة: 115 من غير شك في الدين، وفي تزيين دين المشركين، ولكن محبة الأهل والمال والوطن، فلما خرجوا إلى بدر، خرجوا مع المشركين كارهين، فقتل بعضهم بالرمي، والرامي لا يعرفه; فلما سمع الصحابة من القتلى فلان وفلان شق عليهم، وقالوا: قتلنا إخواننا، فأنزل الله: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} إلى قوله: {وَكَانَ اللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً} [سورة النساء آية:97-99] . فمن تأمل قصتهم، وتأمل قول الصحابة: قتلنا إخواننا، لأنه لم يبلغهم عنهم كلام في الدين، أو كلام في تزيين دين المشركين، ولو بلغهم شيء من ذلك لم يقولوا: قتلنا إخواننا; فإن الله قد بين لهم وهم بمكة قبل الهجرة، أن ذلك كفر بعد الإيمان، بقوله تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ} [سورة النحل آية: 106] . وأبلغ من هذا: ما تقدم من كلام الله فيهم، فإن الملائكة تقول: {فِيمَ كُنْتُمْ} ، ولم يقولوا: كيف تصديقكم؟ {قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ} [سورة النساء آية: 97] ، ولم يقولوا: كذبتم، مثل ما يقول الله والملائكة للمجاهد الذي يقول: جاهدت في سبيلك حتى قتلت، فيقول الله: كذبت، وتقول الملائكة: كذبت، بل قاتلتَ ليقال جريء; وكذلك يقولون للعالم والمتصدق: كذبت، بل تعلمت ليقال عالم، وتصدقت ليقال جواد. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 116 وأما هؤلاء، فلم يكذبوهم، بل أجابوهم بقولهم: {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} [سورة النساء آية: 97] . ويزيد ذلك إيضاحاً للعارف والجاهل: الآية التي بعدها، وهي قوله تعالى: {إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً} [سورة النساء آية: 98] ، فهذا أوضح واضح جداً، أن هؤلاء خرجوا من الوعيد، فلم يبق شبهة، لكن لمن طلب العلم، بخلاف من لم يطلبه، بل قال الله فيهم: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ} [سورة البقرة آية: 18] . ومن فهم هذا الموضع والذي قبله، فهم كلام الحسن البصري، قال: "ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني، ولكن ما وقر في القلوب، وصدقته الأعمال، وذلك أن الله يقول: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [سورة فاطر آية: 10] ". الموضع السادس: قصة الردة بعد موته صلى الله عليه وسلم، فمن سمعها ثم بقي في قلبه مثقال ذرة من شبهة الشياطين - الذين يسمون العلماء - وهي قولهم: هذا هو الشرك، لكن يقولون: لا إله إلا الله، ومن قالها لا يكفر بشيء. وأعظم من ذلك وأكبر: تصريحهم بأن البوادي ليس معهم من الإسلام شعرة، ولكن يقولون: لا إله إلا الله، وهم بهذه اللفظة إسلام، وحرم الإسلام مالهم ودمهم، مع إقرارهم أنهم تركوا الإسلام كله، ومع علمهم بإنكارهم الجزء: 8 ¦ الصفحة: 117 البعث، واستهزائهم بمن أقر به، واستهزائهم بالشرائع، وتفضيلهم دين آبائهم مخالفاً لدين النبي صلى الله عليه وسلم. ومع هذا كله، يصرح هؤلاء الشياطين، المردة الجهلة، أن البدو إسلام، ولو جرى منهم ذلك كله، لأنهم يقولون: لا إله إلا الله أيضاً؛ ولازم قولهم: أن اليهود إسلام، لأنهم يقولونها. وأيضاً، كفر هؤلاء أغلظ من كفر اليهود بأضعاف مضاعفة، أعني البوادي المتصفين بما ذكرنا. والذي يبين ذلك من قصة الردة، أن المرتدين افترقوا في ردتهم: فمنهم من كذب النبي صلى الله عليه وسلم ورجعوا إلى عبادة الأوثان، وقالوا: لو كان نبياً ما مات; ومنهم من ثبت على الشهادتين، ولكن أقر بنبوة مسيلمة، ظناً أن النبي صلى الله عليه وسلم أشركه في النبوة، لأن مسيلمة أقام شهود زور شهدوا له بذلك، فصدقهم كثير من الناس; ومع هذا، أجمع العلماء أنهم مرتدون ولو جهلوا ذلك، ومن شك في ردتهم فهو كافر. فإذا عرفت أن العلماء أجمعوا: أن الذين كذبوا النبي صلى الله عليه وسلم ورجعوا إلى عبادة الأوثان، وشتموا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنهم من أقر بنبوة مسيلمة في حال واحد، ولو ثبت على الإسلام كله. ومنهم من أقر بالشهادتين، وصدق طليحة في دعواه النبوة. ومنهم من صدق العنسي صاحب صنعاء؛ وكل هؤلاء أجمع العلماء أنهم مرتدون. ومنهم أنواع أخر، منهم الفجاءة السلمي لما وفد على الجزء: 8 ¦ الصفحة: 118 أبي بكر، وذكر له أنه يريد قتال المرتدين، ويطلب من أبي بكر أن يمده، فأعطاه سلاحاً ورواحل، فاستعرض السلمي المسلم والكافر يأخذ أموالهم، فجهز أبو بكر جيشاً لقتاله. فلما أحس بالجيش، قال لأميرهم: أنت أمير أبي بكر، وأنا أميره، ولم أكفر، فقال: إن كنت صادقاً فألق السلاح، فألقاه، فبعث به إلى أبي بكر، فأمر بتحريقه بالنار وهو حي. فإذا كان هذا حكم الصحابة في هذا الرجل، مع إقراره بأركان الإسلام الخمسة، فما ظنك بمن لم يقر من الإسلام بكلمة واحدة، إلا أنه يقول: "لا إله إلا الله" بلسانه، مع تصريحه بتكذيب معناها، وتصريحه بالبراءة من دين محمد صلى الله عليه وسلم ومن كتاب الله؟ ويقولون: هذا دين الحضر، وديننا دين آبائنا. ثم يفتي هؤلاء المردة الجهال أن هؤلاء مسلمون، ولو صرحوا بذلك كله، إذا قالوا: لا إله إلا الله. سبحانك هذا بهتان عظيم! وما أحسن ما قاله واحد من البوادي، لما قدم علينا وسمع شيئاً من الإسلام، قال: أشهد أننا كفار - يعني هو وجميع البوادي -، وأشهد أن المطوع الذي يسمينا إسلاماً أنه كافر. وصلى الله على سيدنا محمد. الهجرة على من عجز عن إظهار دينه وقال أيضاً: الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى: الذين أقروا بالتوحيد، والبراءة من الشرك، هل ترك هذه المسألة يوجب العداوة والمقاطعة، كالزنى والسرقة، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 119 ونهب أموال المسلمين، أم لا؟ فحكم الكتاب بينهم بقوله تعالى: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} الآية [سورة المجادلة آية: 22] . وقال أبناء الشيخ محمد، وحمد بن ناصر، رحمهم الله تعالى: وقولكم: من أجاب الدعوة، وحقق التوحيد، وتبرأ من الشرك، هل تلزمه الهجرة وإن لم يكن له قدرة؟ فنقول: الهجرة تجب على كل مسلم، لا يقدر على إظهار دينه ببلده، إن كان قادراً على الهجرة، كما دل على ذلك قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً} [سورة النساء آية: 97] . وأما من لم يقدر على الهجرة، فقد استثناهم الله سبحانه وتعالى بقوله: {إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ} الآيتين [سورة النساء آية: 98-99] . ولهم أيضاً، رحمهم الله تعالى: وقولك: إنا نقول: إن الإنسان إذا لم يحصل له الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، أنه يهاجر، فنقول في هذه المسألة، كما قال العلماء، رحمهم الله تعالى: تجب الهجرة على من عجز عن إظهار دينه بدار الحرب، فإن قدر على إظهار دينه، فهجرته مستحبة لا واجبة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 120 وقال بعضهم بوجوبها، لما في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " أنا بريء من مسلم بين ظهراني المشركين " 1؛ فإن تكن البلد بلد حرب، ولم يظهر الكفر فيها لم نوجب الهجرة، إذا لم يكن فيها إلا المعاصي، وعلى هذا نحمل الحديث الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من رأى منكم منكراً فليغيره بيده " الحديث. [أدلة تحريم موالاة المشركين] وقال الشيخ سليمان بن الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد، رحمهم الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم اعلم، رحمك الله: أن الإنسان إذا أظهر للمشركين الموافقة على دينهم، خوفاً منهم ومداراة لهم، ومداهنة لدفع شرهم، فإنه كافر مثلهم، وإن كان يكره دينهم ويبغضهم، ويحب الإسلام والمسلمين؛ هذا إذا لم يقع منه إلا ذلك، فكيف إذا كان في دار منعة واستدعى بهم، ودخل في طاعتهم وأظهر الموافقة على دينهم الباطل، وأعانهم عليه بالنصرة والمال ووالاهم، وقطع الموالاة بينه وبين المسلمين، وصار من جنود القباب والشرك وأهلها، بعد ما كان من جنود الإخلاص والتوحيد وأهله؟ فإن هذا لا يشك مسلم أنه كافر، من أشد الناس عداوة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم. ولا يستثنى من ذلك إلا المكره،   1 الترمذي: السير (1604) , والنسائي: القسامة (4780) , وأبو داود: الجهاد (2645) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 121 وهو الذي يستولي عليه المشركون، فيقولون له: اكفر، أو افعل كذا وإلا فعلنا بك وقتلناك، أو يأخذونه فيعذبونه حتى يوافقهم، فيجوز له الموافقة باللسان مع طمأنينة القلب بالإيمان. وقد أجمع العلماء على أن من تكلم بالكفر هازلاً: أنه يكفر، فكيف بمن أظهر الكفر خوفاً وطمعاً في الدنيا. وأنا أذكر بعض الأدلة على ذلك بعون الله وتأييده: الدليل الأول: قوله تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [سورة البقرة آية: 120] ، فأخبر تعالى أن اليهود والنصارى، وكذلك المشركون، لا يرضون عن النبي صلى الله عليه وسلم حتى يتبع ملتهم ويشهد أنهم على حق. ثم قال تعالى: {قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} [سورة البقرة آية: 120] ، وفي الآية الأخرى: {إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ} [سورة البقرة آية: 145] . فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم لو يوافقهم على دينهم ظاهراً من غير عقيدة القلب، لكن خوفاً من شرهم ومداهنة، كان من الظالمين، فكيف بمن أظهر لعباد القبور والقباب، أنهم على حق وهدى مستقيم؟ فإنهم لا يرضون إلا بذلك. الدليل الثاني: قوله تعالى: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 122 وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [سورة البقرة آية: 217] . فأخبر تعالى أن الكفار لا يزالون يقاتلون المسلمين حتى يردوهم عن دينهم إن استطاعوا، ولم يرخص في موافقتهم خوفاً على النفس والمال والحرمة؛ بل أخبر عمن وافقهم بعد أن قاتلوه ليدفع شرهم، أنه مرتد، فإن مات على ردته بعد أن قاتله المشركون، فإنه من أهل النار الخالدين فيها. فكيف بمن وافقهم من غير قتال؟ فإذا كان من وافقهم بعد أن قاتلوه لا عذر له، عرفت أن الذين يأتون إليهم ويسارعون في الموافقة لهم من غير خوف ولا قتال، أنهم أولى بعدم العذر، وأنهم كفار مرتدون. الدليل الثالث: قوله تعالى: {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} [سورة آل عمران آية: 28] ، فنهى سبحانه المؤمنين عن اتخاذ الكافرين أولياء وأصدقاء وأصحاباً من دون المؤمنين، وإن كانوا خائفين منهم، وأخبر أن من فعل ذلك فليس من الله في شيء، أي: لا يكون من أولياء الله الموعودين بالنجاة في الآخرة، {إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} [سورة آل عمران آية: 28] ، وهو: أن يكون الإنسان مقهوراً معهم، لا يقدر على عداوتهم، فيظهر لهم المعاشرة وقلبه مطمئن بالبغضاء والعداوة، وانتظار زوال المانع، فإذا زال رجع إلى العداوة والبغضاء. فكيف بمن اتخذهم أولياء من دون المؤمنين من الجزء: 8 ¦ الصفحة: 123 غير عذر، إلا استحباب الدنيا على الآخرة، والخوف من المشركين، وعدم الخوف من الله؟ فما جعل الله الخوف منهم عذراً، بل قال تعالى: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [سورة آل عمران آية: 175] . الدليل الرابع: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ} [سورة آل عمران آية: 149] ، فأخبر تعالى أن المؤمنين إن أطاعوا الكفار فلا بد أن يردوهم على أعقابهم عن الإسلام، فإنهم لا يقنعون منهم بدون الكفر، وأخبر أنهم إن فعلوا ذلك صاروا من الخاسرين في الدنيا والآخرة؛ ولم يرخص في موافقتهم وطاعتهم خوفاً منهم. وهذا هو الواقع، فإنهم لا يقنعون ممن وافقهم إلا بالشهادة أنهم على حق، وإظهار العداوة والبغضاء للمسلمين، وقطع اليد منهم. ثم قال تعالى: {بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ} [سورة آل عمران آية: 150] ، فأخبر تعالى أنه ولي المؤمنين وناصرهم، وهو خير الناصرين؛ ففي ولايته وطاعته كفاية، وغنية عن طاعة الكفار. فيا حسرة على العباد الذين عرفوا التوحيد ونشؤوا فيه، ودانوا به زماناً، كيف خرجوا عن ولاية رب العالمين وخير الناصرين، إلى ولاية القباب وأهلها، ورضوا بها بدلاً من ولاية من بيده ملكوت كل شيء؟! {بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً} . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 124 الدليل الخامس: قوله تعالى: {أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [سورة آل عمران آية: 162] ، فأخبر تعالى أنه لا يستوي من اتبع رضوان الله، ومن اتبع ما يسخطه ومأواه جهنم يوم القيامة؛ ولا ريب أن عبادة الرحمن وحده ونصرها، وكون الإنسان من أهلها من رضوان الله، وأن عبادة القباب والأموات، ونصرها والكون من أهلها، مما يسخط الله؛ فلا يستوي عند الله من نصر توحيده ودعوته بالإخلاص، وكان مع المؤمنين، ومن نصر الشرك ودعوة الأموات، وكان مع المشركين. فإن قالوا: خفنا، قيل لهم: كذبتم. وأيضاً، فما جعل الله الخوف عذراً في اتباع ما يسخطه، واجتناب ما يرضيه، وكثير من أهل الباطل إنما يتركون الحق خوفاً من زوال دنياهم، وإلا فيعرفون الحق ويعتقدونه، ولم يكونوا بذلك مسلمين. الدليل السادس: قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرا} [سورة النساء آية: 97] ، أي: في أي فريق كنتم؟ أفي فريق المسلمين، أم في فريق المشركين؟ فاعتذروا عن كونهم لم يكونوا في فريق المسلمين بالاستضعاف، فلم تعذرهم الملائكة: {قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً} الجزء: 8 ¦ الصفحة: 125 [سورة النساء آية: 97] . ولا يشك عاقل أن أهل البلدان الذين خرجوا عن المسلمين، وصاروا مع المشركين، وفي فريقهم وجماعتهم، أعظم ممن ترك الهجرة مشحة بوطنه وأهله وماله؛ هذا مع أن الآية نزلت في أناس من أهل مكة، أسلموا واحتبسوا عن الهجرة، فلما خرج المشركون إلى بدر، أكرهوهم على الخروج معهم، فخرجوا خائفين، فقتلهم المسلمون يوم بدر، فلما علموا بقتلهم تأسفوا، وقالوا: قتلنا إخواننا، فأنزل الله فيهم هذه الآية. فكيف بأهل البلدان، الذين كانوا على الإسلام، فخلعوا ربقته من أعناقهم، وأظهروا لأهل الشرك الموافقة على دينهم، ودخلوا في طاعتهم وآووهم ونصروهم، وخذلوا أهل التوحيد، وابتغوا غير سبيلهم وخطؤوهم، وظهر فيهم سبهم وشتمهم وعيبهم والاستهزاء بهم، وتسفيه رأيهم في ثباتهم على التوحيد، والصبر عليه وعلى الجهاد فيه، وعاونوهم على أهل التوحيد طوعاً لا كرهاً، واختياراً لا اضطراراً؟! فهؤلاء أولى بالكفر والنار، من الذين تركوا الهجرة شحاً بالوطن، وخوفاً من الكفار، وخرجوا في جيشهم مكرهين خائفين. فإن قال قائل: هلا كان الإكراه على الخروج عذراً للذين قتلوا يوم بدر؟ قيل: لا يكون عذراً، لأنهم في أول الأمر لم يكونوا معذورين، إذ أقاموا مع الكفار، فلا يعذرون الجزء: 8 ¦ الصفحة: 126 بعد ذلك الإكراه، لأنهم السبب في ذلك، حيث أقاموا معهم وتركوا الهجرة. الدليل السابع: قوله تعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ} [سورة النساء آية: 140] ، فذكر تعالى أنه نزل على المؤمنين في الكتاب، أنهم إذا سمعوا آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها، فلا يقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره، وأن من جلس مع الكافرين بآيات الله، المستهزئين بها في حال كفرهم واستهزائهم، فهو مثلهم؛ ولم يفرق بين الخائف وغيره إلا المكره؛ وهذا وهم في بلد واحد في أول الإسلام، فكيف بمن كان في سعة الإسلام وعزه وبلاده، فدعا الكافرين بآيات الله المستهزئين بها إلى بلاده، واتخذهم أولياء وأصحاباً وجلساء، وسمع كفرهم واستهزاءهم وأقرهم، وطرد أهل التوحيد وأبعدهم؟! الدليل الثامن: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [سورة المائدة آية: 51] ، فنهى سبحانه المؤمنين عن اتخاذ اليهود والنصارى أولياء، وأخبر أن من تولاهم من المؤمنين فهو منهم؛ وهكذا حكم من تولى الكفار من المجوس وعباد الجزء: 8 ¦ الصفحة: 127 الأوثان، فهو منهم. فإن جادل مجادل في أن عبادة القباب، ودعاء الأموات مع الله، ليس بشرك، وأن أهلها ليسوا بمشركين، بان أمره، واتضح عناده وكفره. ولم يفرق تعالى بين الخائف وغيره، بل أخبر الله تعالى: أن الذين في قلوبهم مرض يفعلون ذلك خوفاً من الدوائر؛ وهكذا حال هؤلاء المرتدين، خافوا من الدوائر، فزال ما في قلوبهم من الإيمان بوعد الله الصادق، بالنصر لأهل التوحيد، فبادروا وسارعوا إلى الشرك، خوفاً أن تصيبهم دائرة، قال الله تعالى: {فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا} [سورة المائدة آية: 52] . الدليل التاسع: قوله تعالى: {تَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ} [سورة المائدة آية: 80] ، فذكر تعالى أن موالاة الكفار موجبة لسخط الله، والخلود في النار، بمجردها، وإن كان الإنسان خائفاً، إلا المكره بشرطه؛ فكيف إذا اجتمع ذلك مع الكفر الصريح، وهو معاداة التوحيد وأهله، والمعاونة على زوال دعوة الله بالإخلاص، وعلى تثبيت دعوة غيره؟! الدليل العاشر: قوله تعالى: {وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 128 فَاسِقُونَ} [سورة المائدة آية: 81] ، فذكر تعالى أن موالاة الكفار منافية للإيمان بالله والنبي، وما أنزل إليه، ثم أخبر: أن سبب ذلك كون كثير منهم فاسقين، ولم يفرق بين من خاف الدائرة ومن لم يخف؛ وهكذا حال كثير من هؤلاء المرتدين قبل ردتهم، كثير منهم فاسقون، فجر ذلك إلى موالاة الكفار، والردة عن الإسلام، نعوذ بالله من ذلك. الدليل الحادي عشر: قوله تعالى: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [سورة الأنعام آية: 121] ، وهذه الآية نزلت لما قال المشركون: تأكلون ما قتلتم، ولا تأكلون ما قتل الله، فأنزل الله هذه الآية. فإذا كان من أطاع المشركين في تحليل الميتة مشركاً، من غير فرق بين الخائف وغيره، إلا المكره، فكيف بمن أطاعهم في تحليل موالاتهم، والكون معهم، ونصرهم، والشهادة أنهم على حق، واستحلال دماء المسلمين وأموالهم، والخروج عن جماعة المسلمين إلى جماعة المشركين؟! فهؤلاء أولى بالكفر والشرك، ممن وافقهم على أن الميتة حلال. الدليل الثاني عشر: قوله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ} [سورة الأعراف آية: 175] ، وهذه الآية نزلت في رجل عالم عابد، في زمان بني إسرائيل، يقال له: "بلعام" وكان يعلم الاسم الجزء: 8 ¦ الصفحة: 129 الأعظم; قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس: "لما نزل بهم موسى عليه السلام - يعني بالجبارين - أتوه بنو عمه وقومه، فقالوا: إن موسى رجل حديد، ومعه جنود كثيرة، وإنه إن يظهر علينا يهلكنا، فادع الله أن يرد موسى ومن معه. قال: إني إن دعوت الله، ذهبت دنياي وآخرتي. فلم يزالوا به حتى دعا عليهم، فسلخه الله مما كان عليه، فذلك قوله تعالى: {فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ} [سورة الأعراف آية: 175] ". وقال ابن زيد: كان هواه مع القوم، يعني الذين حاربوا موسى وقومه. فذكر تعالى أمر هذا المنسلخ من آيات الله، بعد أن أعطاه الله إياها، وعرفها وصار من أهلها، ثم انسلخ منها، أي: ترك العمل بها، وذكر في انسلاخه منها، ما معناه، أنه مظاهرة المشركين ومعاونتهم برأيه، والدعاء على موسى، عليه السلام، ومن معه، أن يردهم الله عن قومه، خوفاً على قومه، وشفقة عليهم، مع كونه يعرف الحق ويقطع به، ويتكلم به ويشهد به، ويتعبد، ولكن صده عن العمل به متابعة قومه، وعشيرته، وهواه، وإخلاده إلى الأرض؛ فكان هذا انسلاخاً من آيات الله. وهذا هو الواقع من هؤلاء المرتدين، وأعظم؛ فإن الله تعالى أعطاهم آياته التي فيها الأمر بتوحيده ودعوته وحده لا شريك له، والنهي عن الشرك به، ودعوة غيره، والأمر بموالاة المؤمنين، ومحبتهم ونصرتهم، والاعتصام بحبل الله الجزء: 8 ¦ الصفحة: 130 جميعاً، والكون مع المؤمنين، والأمر بمعاداة المشركين وبغضهم، وجهادهم وفراقهم، والأمر بهدم الأوثان، وإزالة القحاب واللواط، والمنكرات، وعرفوها وأقروا بها، ثم انسلخوا من ذلك كله، فهم أولى بالانسلاخ من آيات الله، والكفر والردة، من بلعام، أو هم مثله. الدليل الثالث عشر: قوله تعالى: {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ} [سورة هود آية: 113] ، فذكر تعالى أن الركون إلى الظلمة والكفار والظالمين، موجب لمسيس النار، ولم يفرق بين من خاف منهم وغيره، إلا المكره؛ فكيف بمن اتخذ الركون إليهم ديناً ورأياً حسناً، وأعانهم بما قدر عليه من مال ورأي، وأحب زوال التوحيد وأهله، واستيلاء أهل الشرك عليهم؟! فإن هذا من أعظم الكفر والركون. الدليل الرابع عشر: قوله تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [سورة النحل آية: 106-107] ، فحكم تعالى حكماً لا يبدل: أن من رجع عن دينه إلى الكفر فهو كافر، سواء كان له عذر خوفاً على نفس أو مال أو أهل أم لا، وسواء كفر بباطنه وظاهره أم بباطنه دون ظاهره، وسواء كفر بفعاله أو الجزء: 8 ¦ الصفحة: 131 مقاله، أو بأحدهما دون الآخر، وسواء كان طامعاً في دنيا ينالها من المشركين أم لا، فهو كافر على كل حال، إلا المكره، وهو في لغتنا: المغصوب. فإذا أكره إنسان على الكفر، أو قيل له: اكفر وإلا قتلناك، أو ضربناك، أو أخذه المشركون فضربوه، ولم يمكنه التخلص إلا بموافقتهم، جاز له موافقتهم في الظاهر، بشرط أن يكون قلبه مطمئناً بالإيمان، أي: ثابتاً عليه معتقداً له، فأما إن وافقهم بقلبه، فهو كافر ولو كان مكرهاً. وظاهر كلام أحمد: أنه في الصورة الأولى، لا يكون مكرهاً حتى يعذبه المشركون، فإنه لما دخل عليه يحيى بن معين وهو مريض، فسلم عليه فلم يرد عليه السلام، فما زال يعتذر ويقول حديث عمار، وقال الله: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ} [سورة النحل آية: 106] ، فقلب أحمد وجهه إلى الجانب الآخر، فقال يحيى: لا يقبل عذراً. فلما خرج يحيى، قال أحمد: يحتج بحديث عمار، وحديث عمار: "مررت بهم وهم يسبونك، فنهيتهم فضربوني"، وأنتم، قيل لكم: نريد أن نضربكم. فقال يحيى: والله ما رأيت تحت أديم السماء أفقه في دين الله منك. ثم أخبر تعالى: أن هؤلاء المرتدين الشارحين صدورهم بالكفر، وإن كانوا يقطعون على الحق، ويقولون: ما فعلنا هذا إلا خوفاً، فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 132 ثم أخبر تعالى: أن سبب هذا الكفر والعذاب، ليس بسبب الاعتقاد للشرك، أو الجهل بالتوحيد، أو البغض للدين، أو محبة الكفر، وإنما سببه أن له في ذلك حظاً من حظوظ الدنيا فآثره على الآخرة، وعلى رضى رب العالمين فقال: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [سورة النحل آية: 107] ، فكفّرهم تعالى، وأخبر أنه لا يهديهم مع كونهم يعتذرون بمحبة الدنيا. ثم أخبر تعالى: أن هؤلاء المرتدين لأجل استحباب الدنيا على الآخرة، هم الذين طبع الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم، وأنهم الغافلون. ثم أخبر خبراً مؤكداً محققاً: أنهم في الآخرة هم الخاسرون. الدليل الخامس عشر: قوله تعالى عن أهل الكهف: {إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً} [سورة الكهف آية: 20] ، فذكر تعالى عن أهل الكهف أنهم ذكروا عن المشركين أنهم إن قهروكم وغلبوكم، فهم بين أمرين: إما أن يرجموكم أي: يقتلوكم شر قتلة برجم، وإما أن يعيدوكم في ملتهم ودينهم، {وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً} أي: وإن وافقتموهم على دينهم، بعد أن غلبوكم وقهروكم، فلن تفلحوا إذا أبداً؛ فهذا حال من وافقهم بعد أن غلبوه، فكيف بمن وافقهم وراسلهم من بعيد، وأجابهم إلى ما طلبوا من غير غلبة ولا إكراه، ومع ذلك يحسبون أنهم الجزء: 8 ¦ الصفحة: 133 مهتدون؟! الدليل السادس عشر: قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [سورة الحج آية: 11] ، فأخبر تعالى: أن من الناس من يعبد الله على حرف، أي: على طرف، فإن أصابه خير أي: نصر وعز وصحة، وسعة وأمن وعافية ونحو ذلك، اطمأن به، أي: ثبت، وقال: هذا دين حسن، ما رأينا فيه إلا خيراً، وإن أصابته فتنة، أي: خوف ومرض وفقر ونحو ذلك، انقلب على وجهه، أي: ارتد عن دينه، ورجع إلى أهل الشرك. فهذه الآية مطابقة لحال المنقلبين عن دينهم في هذه الفتنة، سواء بسواء؛ فإنهم قبل هذه الفتنة، يعبدون الله على حرف، أي: على طرف، ليسوا ممن يعبد الله على يقين وثبات، فلما أصابتهم هذه الفتنة انقلبوا عن دينهم، وأظهروا الموافقة للمشركين، وأعطوهم الطاعة، وخرجوا عن جماعة المسلمين إلى جماعة المشركين، فهم معهم في الآخرة كما هم معهم في الدنيا، فـ {خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [سورة الحج آية: 11] ، هذا مع أن كثيراً منهم في عافية، ما أتاهم من عدو، وإنما ساء ظنهم بالله، فظنوا أنه يديل الباطل وأهله على الحق وأهله، فأرداهم سوء ظنهم بالله، كما قال تعالى: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 134 {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [سورة فصلت آية: 23] . وأنت، يا من منّ الله عليه بالثبات على الإسلام، احذر أن يدخل في قلبك شيء من الريب، أو تحسين هؤلاء المرتدين، وأن موافقتهم للمشركين وإظهار طاعتهم رأياً حسناً، حذراً على الأنفس والأموال والمحارم! فإن هذه الشبهة، هي التي أوقعت كثيراً من الأولين والآخرين في الشرك بالله، ولم يعذرهم الله بذلك، وإلا فكثير منهم يعرفون الحق، ويعتقدونه بقلوبهم، وإنما يدينون لله بالشرك، للأعذار الثمانية التي ذكرها الله في كتابه، أو لبعضها؛ فلم يعذر بها أحداً ولا ببعضها، فقال: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [سورة التوبة آية: 24] . الدليل السابع عشر: قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} الجزء: 8 ¦ الصفحة: 135 [سورة محمد آية: 25-28] . فذكر تعالى عن المرتدين على أدبارهم، أنهم من بعدما تبين لهم الهدى ارتدوا على علم، فلم ينفعهم علمهم بالحق مع الردة، وغرهم الشيطان بتسويله وتزيين ما ارتكبوه من الردة. وهكذا حال هؤلاء المرتدين في هذه الفتنة، غرهم الشيطان فأوهمهم أن الخوف عذر لهم في الردة، وأنهم بمعرفة الحق ومحبته والشهادة به لا يضرهم ما فعلوه، ونسوا أن من المشركين من يعرفون الحق ويحبونه ويشهدون به، ولكن يتركون متابعته والعمل به محبة للدنيا، وخوفاً على الأنفس والأموال، والمآكل والرياسات. ثم قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ} [سورة محمد آية: 26] ، فأخبر تعالى أن سبب ما جرى عليهم من الردة، وتسويل الشيطان والإملاء لهم، هو قولهم للذين كرهوا ما نزل الله: سنطيعكم في بعض الأمر، فإذا كان من وعد المشركين، الكارهين لما أنزل الله، طاعتهم في بعض الأمر، كافراً، وإن لم يفعل ما وعدهم به، فكيف بمن وافق المشركين الكارهين لما أنزل الله من الأمر بعبادته وحده لا شريك له، وترك عبادة ما سواه من الأنداد والطواغيت والأموات، وأظهر أنهم على هدى، وأن أهل التوحيد مخطئون في قتالهم، وأن الصواب في مسالمتهم والدخول في دينهم الباطل؟! فهؤلاء أولى بالردة من أولئك الجزء: 8 ¦ الصفحة: 136 الذين وعدوا المشركين بطاعتهم في بعض الأمر. ثم أخبر تعالى عن حالهم الفظيع عند الموت، ثم قال: {ذَلِكَ} أي: الأمر الفظيع عند الوفاة، {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [سورة محمد آية: 28] . ولا يستريب المسلم أن اتباع المشركين، والدخول في جملتهم، والشهادة أنهم على حق، ومعاونتهم على زوال التوحيد وأهله، ونصرة القباب والقحاب واللواط، من اتباع ما يسخط الله، وكراهة رضوانه، وإن ادعوا أن ذلك لأجل الخوف؛ فإن الله ما عذر أهل الردة بالخوف من المشركين، بل نهى عن خوفهم. فأين هذا ممن يقول: ما جرى منا شيء ونحن على ديننا؟! الدليل الثامن عشر: قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [سورة الحشر آية: 11] ، فعقد الله تعالى الأخوة بين المنافقين والكفار، وأخبر أنهم يقولون لهم في السر: لئن أخرجتم لنخرجن معكم، أي: لئن غلبكم محمد صلى الله عليه وسلم وأخرجكم من بلادكم {لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً} أي: لا نسمع من أحد فيكم قولاً، ولا نعطى فيكم طاعة، {وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ} أي: إن قاتلكم محمد صلى الله عليه وسلم لننصرنكم، ونكون معكم. ثم شهد الله: إنهم الجزء: 8 ¦ الصفحة: 137 لكاذبون في هذا القول. فإذا كان وعد المشركين في السر بالدخول معهم، ونصرهم والخروج معهم إن جلوا، نفاقاً وكفراً، وإن كان كذباً، فكيف بمن أظهر ذلك صادقاً، وقدم عليهم ودخل في طاعتهم، ودعا إليها ونصرهم، وانقاد لهم وصار من جملتهم، وأعانهم بالمال والرأي؟! هذا مع أن المنافقين لم يفعلوا ذلك إلا خوفاً من الدوائر، كما قال تعالى: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ} [سورة المائدة آية: 52] . هكذا حال كثير من هؤلاء المرتدين في هذه الفتنة، فإن عذر كثير منهم هذا هو العذر الذي ذكره الله عن الذين في قلوبهم مرض، ولم يعذرهم الله به، قال تعالى: {فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ} [سورة المائدة آية: 52-53] . ثم قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [سورة المائدة آية: 54] ، فأخبر تعالى أنه لا بد عند وجود المرتدين، من وجود المحبين المجاهدين; ووصفهم بالذلة والتواضع للمؤمنين، والعزة والغلظة والقسوة على الكافرين، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 138 بضد من كان تواضعه وذله ولينه، لعباد القباب، وأهل القحاب واللواط، وعزته وغلظته على أهل التوحيد والإخلاص؛ فكفى بهذا دليلاً على كفر من وافقهم، وإن ادعى أنه خائف، فقد قال تعالى: {وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} [سورة المائدة آية: 54] ؛ وهذا بضد من يترك الصدق والجهاد خوفاً من المشركين. ثم قال تعالى: {يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [سورة المائدة آية: 54] أي: في توحيده، صابرين على ذلك ابتغاء وجه ربهم، لتكون كلمة الله هي العليا، {وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} [سورة المائدة آية:54] أي: لا يبالون بمن لامهم وآذاهم في دينهم، بل يمضون على دينهم مجاهدين فيه، غير ملتفتين للوم أحد من الخلق، ولا لسخطه ولا لرضاه، وإنما همتهم وغاية مطلوبهم رضى سيدهم ومعبودهم، والهرب من سخطه؛ وهذا بخلاف من كانت همته وغاية مطلوبه: رضى عباد القباب، وأهل القحاب واللواط، ورجاءهم والهرب مما يسخطهم، فإن هذا غاية الضلال والخذلان. ثم قال تعالى: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [سورة المائدة آية: 54] ، فأخبر الله تعالى: أن هذا الخير العظيم، والصفات الحميدة، لأهل الإيمان الثابتين على دينهم عند وقوع الفتن، ليس بحولهم ولا بقوتهم، وإنما هو فضل الله يؤتيه من يشاء، كما قال تعالى: {يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [سورة البقرة آية: 105] . ثم قال تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 139 الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} [سورة المائدة آية: 55] . فأخبر الله تعالى خبراً بمعنى الأمر، بولاية الله ورسوله والمؤمنين، وفي ضمنه النهي عن موالاة أعداء الله ورسوله والمؤمنين، ولا يخفى أي الحزبين أقرب إلى الله ورسوله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، أهل الأوثان والقباب، والقحاب واللواط، والخمور والمنكرات، أم أهل الإخلاص، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة؟ فالمتولي لضدهم واضع للولاية في غير محلها، مستبدل بولاية الله ورسوله والمؤمنين، المقيمين للصلاة المؤتين للزكاة، على ولاية أهل الشرك والأوثان والقباب. ثم أخبر تعالى: أن الغلبة لحزبه ومن تولاهم، فقال: {وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [سورة المائدة آية: 56] . الدليل التاسع عشر: قوله تعالى: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [سورة الحديد آية: 22] ، فأخبر تعالى: أنك لا تجد من كان يؤمن بالله واليوم الآخر يواد من حاد الله ورسوله، ولو كان أقرب قريب، وأن هذا مناف للإيمان مضاد له، لا يجتمع هو والإيمان إلا كما يجتمع الماء والنار؛ وقد قال تعالى في موضع آخر: {ياأيها الذين آمنوا لا تتخذوا آبائكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الجزء: 8 ¦ الصفحة: 140 الإيمان ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون} [سورة التوبة آية: 23] . ففي هاتين الآيتين: البيان الواضح أنه لا عذر لأحد في الموافقة على الكفر خوفاً على الأموال والآباء، والأبناء والإخوان، والأزواج والعشائر، ونحو ذلك مما يعتذر به كثير من الناس. إذا كان لم يرخص لأحد في موالاتهم، واتخاذهم أولياء بأنفسهم، خوفًا منهم وإيثاراً لمرضاتهم، فكيف بمن اتخذ الكفار الأباعد أولياء وأصحاباً، وأظهر لهم الموافقة على دينهم، خوفاً على بعض هذه الأمور، ومحبة لها؟! ومن العجب، استحسانهم لذلك، واستحلالهم له، فجمعوا مع الردة استحلال الحرام. الدليل العشرون: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} إلى قوله: {وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} [سورة الممتحنة آية: 1] أي: أخطأ الصراط المستقيم، فأخبر تعالى: أن من تولى أعداء الله، وإن كانوا أقرباء وأصدقاء، فقد ضل سواء السبيل، أي: أخطأ الصراط المستقيم، وخرج عنه إلى الضلال؛ فأين هذا ممن يدعي أنه على الصراط المستقيم، لم يخرج عنه؟ فإن هذا تكذيب لله، ومن كذب الله فهو كافر، واستحلال لما حرم الله من ولاية الكفار، ومن استحل محرماً فهو كافر. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 141 ثم ذكر تعالى شبهة من اعتذر بالأرحام والأولاد، فقال: {لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [سورة الممتحنة آية: 3] ، فلم يعذر الله تعالى من اعتذر بالأرحام والأولاد، والخوف عليهما، ومشقة مفارقتهما، بل أخبر أنها لا تنفع يوم القيامة، ولا تغني من عذاب الله شيئاً، كما قال تعالى في الآية الأخرى: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ} [سورة المؤمنون آية: 101] . الدليل الحادي والعشرون: من السنة ما رواه أبو داود وغيره، عن سمرة ابن جندب رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من جامع المشرك وسكن معه فهو مثله " 1، فجعل صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث من جامع المشركين، أي: اجتمع معهم وخالطهم وسكن معهم، فهو مثلهم؛ فكيف بمن أظهر لهم الموافقة على دينهم، وآواهم وأعانهم؟ فإن قالوا: خفنا، قيل لهم: كذبتم. وأيضاً، فليس الخوف بعذر كما قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} [سورة العنكبوت آية: 10] ؛ فلم يعذر الله تبارك وتعالى من يرجع عن دينه عند الأذى والخوف، فكيف بمن لم يصبه أذى ولا خوف، وإنما جاء إلى الباطل محبة له وخوفاً من الدوائر؟ والأدلة على هذا كثير، وفي هذا كفاية لمن   1 أبو داود: الجهاد (2787) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 142 أراد الله هدايته. وأما من أراد الله فتنته وضلالته، فكما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} [سورة يونس آية: 96-97] . فنسأل الله الكريم المنان: أن يحيينا مسلمين، وأن يتوفانا مسلمين، وأن يلحقنا بالصالحين، غير خزايا ولا مفتونين، برحمته وهو أرحم الراحمين، وصلى الله على محمد. وسئل، قدس الله روحه ونور ضريحه: ما قولكم، أدام الله النفع بعلومكم، في أهل بلد مرتدين، أو بادية، وهم بنو عم، ويجيء لهم ذكر عند الأمراء، فيتسبب بالدفع عنهم بعض أقاربهم - مما هو عند المسلمين حمية دنيوية - إما بطرح نكال، أو دفن نقائص المسلمين، أو يشير بكف المسلمين عنهم، هل يكون موالاة نفاق، أو يصير كفراً؟ فإن كان ما يقدر من نفسه أن يتلفظ بكفرهم، وسبهم، ما حكمه؟ وكذلك إذا عرفت هذا من إنسان، ماذا يجب عليك؟ أفتنا مأجوراً. فأجاب: اعلم أولاً - أيدك الله بتوفيقه - أن أوثق عرى الإيمان: الحب في الله والبغض في الله، وأن الله افترض على المؤمنين عداوة المشركين، من الكفار والمنافقين، وجفاة الأعراب، الذين يعرفون بالنفاق، ولا يؤمنون بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم وأن الله أمرهم بجهادهم، والإغلاظ عليهم بالقول الجزء: 8 ¦ الصفحة: 143 والفعل، وتوعدهم الله باللعن والقتل بقوله: {مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً} [سورة الأحزاب آية: 61] ، وقطع الموالاة بين المؤمنين وبينهم، وأخبر أن من تولاهم فهو منهم. وكيف يدعي رجل محبة الله، وهو يحب أعداءه الذين ظاهروا الشياطين على عدوانهم، واتخذوهم أولياء من دون الله؟ كما قيل: تحب عدوّي ثم تزعم أنني ... صديقك إن الود عنك لعازبُ وبالجملة: فالحب في الله، والبغض في الله، أصل عظيم من أصول الإيمان، يجب على العبد مراعاته; ولهذا جاء في الحديث: " أوثق عرى الإيمان: الحب في الله والبغض في الله " 1، ولذلك أكثر الله من ذكره في القرآن، قال تعالى: {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} [سورة آل عمران آية: 28] . قال بعض المفسرين: فهو: أن يوالوا الكافرين، لقرابة بينهم، أو صداقة قبل الإسلام، أو غير ذلك من الأسباب التي يتصادق بها ويتعاشر، وقوله: {مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} يعني: أن لكم في موالاة المؤمنين مندوحة عن موالاة الكفار، فلا تؤثروهم عليهم. {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ} [سورة آل عمران آية: 28] أي: ومن يتول الكفرة، فليس من ولاية الله في شيء يقع عليه اسم الولاية، يعني: أنه منسلخ من ولاية الله   1 أبو داود: السنة (4599) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 144 رأساً. وهذا أمر معقول، فإن موالاة الولي، وموالاة عدوه متنافيان. {إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} [سورة آل عمران آية: 28] ، فرخص في موالاتهم إذا خافوهم، فلم يحسنوا معاشرتهم إلا بذلك، وكانوا مقهورين لا يستطيعون إظهار العداوة لهم، فحينئذ تجوز المعاشرة ظاهرة، والقلب مطمئن بالعداوة والبغضاء، ينتظر زوال المانع، كما قال تعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ} [سورة النحل آية: 106] ، قال ابن عباس: "ليس التقية بالعمل، إنما التقية باللسان". وقال أيضاً: نهى الله المؤمنين أن يلاطفوا الكفار، ويتخذوهم وليجة من دون المؤمنين، إلا أن يكون الكفار ظاهرين، فيظهرون لهم اللطف، ويخالفونهم في الدين، وذلك قوله: {إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} [سورة آل عمران آية: 28] ، ذكره ابن جرير، وابن أبي حاتم. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ} الآية [سورة آل عمران آية: 118] ، قال القرطبي: لا تجعلوا خاصتكم وبطانتكم منهم، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [سورة المائدة آية: 51] إلى قوله: {فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [سورة المائدة آية: 56] ، قال حذيفة: "ليتق أحدكم أن يكون يهودياً أو نصرانياً وهو لا يشعر، لهذه الآية: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 145 مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [سورة المائدة آية: 51] ". قال مجاهد في قوله تعالى: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ} [سورة المائدة آية: 52] ، قال: المنافقون في مصانعة اليهود، ومداخلتهم واسترضاعهم أولادهم إياهم، وقال علي رضي الله عنه في قوله تعالى: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [سورة المائدة آية: 54] ، قال: "أهل رقة على أهل دينهم"، {أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [سورة المائدة آية: 54] ، قال: "أهل غلظة على من خالفهم في دينهم"; وكذا نقل معناه عن غير واحد من السلف. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ} [سورة المائدة آية: 57] ، وقال تعالى: {تَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ} [سورة المائدة آية: 80] ، والآية بعدها. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [سورة التوبة آية: 73] . فقد أمر الله بجهاد الكفار والمنافقين مع دعواهم الإسلام، وأمر بالإغلاظ عليهم قولاً وفعلاً. وقال ابن عباس، رضي الله عنهما، في الآية: {جَاهِدِ الْكُفَّارَ} : "بالسيف"، {وَالْمُنَافِقِينَ} : "باللسان"، {وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [سورة التوبة آية: 73] قال: "أذهب الرفق عنهم". وقال ابن مسعود رضي الله عنه: {جَاهِدِ الْكُفَّارَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 146 وَالْمُنَافِقِينَ} [سورة التوبة آية: 73] . قال: "بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه؛ وليلقه بوجه مكفهر"، أي: عابس متغير من الغيظ والبغض، ذكره ابن أبي حاتم، وجاء معناه في حديث مرفوعاً رواه البيهقي في الشعب. وقال تعالى: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ} الآية [سورة المجادلة آية: 22] ، نفى سبحانه وتعالى الإيمان عمن هذا شأنه، ولو كانت مودته ومحبته ومناصحته لأبيه وأخيه وابنه ونحوهم، فضلاً عن غيرهم. وقال تعالى: {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} [سورة هود آية: 113] ، قال ابن عباس: {وَلا تَرْكَنُوا} قال: "لا تميلوا"; وقال عكرمة: "أن تطيعوهم، أو تودوهم، أو تصطنعوهم"، ومعنى تصطنعوهم أي: تولوهم الأعمال، كمن يولي الفساق والفجار. وقال الثوري: ومن لاق لهم دواة، أو برى لهم قلماً، أو ناولهم قرطاساً، دخل في هذا. قال بعض المفسرين في الآية: فالنهي متناول للانحطاط في هواهم، والانقطاع إليهم، ومصاحبتهم، ومجالستهم، وزيارتهم، ومداهنتهم، والرضاء بأعمالهم، والتشبه بهم، والتزيي بزيهم، ومد العين إلى زهرتهم، وذكره بما فيه تعظيم لهم، وتأمل قوله: {وَلا تَرْكَنُوا} ، والركون هو الميل اليسير. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} إلى قوله: {فأولئك هم الجزء: 8 ¦ الصفحة: 147 الظالمون} [سورة الممتحنة آية: 1] . وصح: أن صدر هذه السورة نزلت في حاطب بن أبي بلتعة، لما كتب إلى المشركين يخبرهم بمسير رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم، وجاء في تفسير قوله تعالى: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} الآية [سورة المجادلة آية: 22] ، أنها "في أبي عبيدة بن الجراح، لما قتل أباه يوم بدر"، كما رواه الطبراني وابن أبي حاتم، والحاكم وغيرهم. وعن ابن جريج قال حدثت: "أن أبا قحافة سب النبي صلى الله عليه وسلم، فصكه أبو بكر صكة سقط منها، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: أفعلت يا أبا بكر؟ فقال: والله لو كان السيف قريباً مني لضربته"، فنزلت: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [سورة المجادلة آية: 22] ، رواه ابن المنذر، وهذا - والله أعلم - في أول الإسلام، فإن أبا قحافة أسلم عام الفتح، فلم يكن ليسب النبي صلى الله عليه وسلم بعد الإسلام، وأبو بكر خرج مهاجراً من مكة، ولم يعد إليها إلا بعد الإسلام، في عمرة مع النبي صلى الله عليه وسلم. وقال ابن عباس، رضي الله عنهما: "من أحب في الله، وأبغض في الله، وعادى في الله، ووالى في الله، فإنما تنال ولاية الله بذلك"، رواه ابن أبي شيبة، وابن أبي حاتم. وفي حديث رواه أبو نعيم وغيره، عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أوحى الله إلى نبي من الأنبياء أن قل لفلان العابد: أما زهدك في الدنيا فتعجلت راحة نفسك، وأما الجزء: 8 ¦ الصفحة: 148 انقطاعك إلي فتعززت به، فما عملت فيما لي عليك. قال: يا رب، وما لك علي؟ قال: هل واليت لي ولياً، أو عاديت لي عدواً ". وقال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} [سورة الأنفال آية: 73] ، فعقد تعالى الموالاة بين المؤمنين، وقطعهم من ولاية الكافرين، وأخبر أن الكفار بعضهم أولياء بعض، وإن لم يفعلوا ذلك وقع من الفتنة والفساد الكبير شيء عظيم، وكذلك يقع؛ فهل يتم الدين أو يقام علم الجهاد، وعلم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إلا بالحب في الله والبغض في الله، والمعاداة في الله والموالاة في الله؟ ولو كان الناس متفقين على طريقة واحدة، ومحبة من غير عداوة ولا بغضاء، لم يكن فرق بين الحق والباطل، ولا بين المؤمنين والكفار، ولا بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان؛ والآيات في هذا كثيرة. وأما الأحاديث: فروى أحمد عن البراء بن عازب: " أوثق عرى الإيمان: الحب في الله، والبغض في الله " 1، وفي حديث مرفوع: "اللهم لا تجعل للفاجر عندي يداً ولا نعمة، فيوده قلبي؛ فإني وجدت فيما أوحي إلي: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [سورة المجادلة آية: 22] ?"، رواه ابن مردويه وغيره. وعن أبي ذر مرفوعاً: " أفضل الأعمال:   1 أبو داود: السنة (4599) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 149 الحب في الله والبغض في الله " 1، رواه أبو داود، ورواه أحمد مطولاً. وفي الصحيحين عن ابن مسعود مرفوعاً: " المرء مع من أحب " 2، وعن ابن مسعود مرفوعاً: " لا تصاحب إلا مؤمناً، ولا يأكل طعامك إلا تقي " 3، رواه ابن حبان في صحيحه. وعن علي مرفوعاً: " لا يحب رجل قوماً إلا حشر معهم " 4، رواه الطبراني بإسناد جيد، قاله ابن المنذر; وقد روى أحمد معناه عن عائشة بإسناد جيد أيضاً، عنها مرفوعاً: "الشرك أخفى من دبيب الذر على الصفا في الليلة الظلماء، وأدناه أن تحب على شيء من الجور، أو تبغض على شيء من العدل. وهل الدين إلا الحب في الله والبغض في الله، قال الله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [سورة آل عمران آية: 31] الآية"، رواه الحاكم، وقال: صحيح الإسناد. فقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم، في هذا الحديث، الحب على شيء من الجور وإن قل، والبغض على شيء من العدل وإن قل، من الشرك؛ فليحذر أشد الحذر من موادة أعداء الله من الكفار والمنافقين. وعن بريدة مرفوعاً: " لا تقولوا للمنافق سيداً، فإنه إن يكن سيداً فقد أسخطتم ربكم عز وجل " 5، رواه أبو داود والنسائي بإسناد صحيح، ورواه الحاكم ولفظه: " إذا قال الرجل للمنافق: يا سيدي، فقد أغضب ربه عز وجل " 6، وقال: صحيح الإسناد.   1 أبو داود: السنة (4599) . 2 البخاري: الأدب (6168) , ومسلم: البر والصلة والآداب (2641) , وأحمد (1/392, 4/405) . 3 الترمذي: الزهد (2395) , وأبو داود: الأدب (4832) , وأحمد (3/38) . 4 أحمد (6/145) . 5 أبو داود: الأدب (4977) , وأحمد (5/346) . 6 أبو داود: الأدب (4977) , وأحمد (5/346) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 150 وعن ابن مسعود مرفوعاً: " مثل الذي يعين قومه على غير الحق، كمثل بعير تردى في بئر، فهو ينزع بذنبه " 1، ورواه أبو داود وابن حبان؛ قال ابن المنذر: ومعنى الحديث: أنه وقع في الإثم، وهلك البعير إذا تردى في بئر، فصار ينزع بذنبه، فلا يقدر على الخلاص. والأحاديث في ذلك كثيرة.   1 أحمد (1/401) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 151 فصل: في ذكر الآثار عن السلف [في تحريم موالاة المشركين] وهي كثيرة، فنذكر منها بعضها: قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ} [سورة آل عمران آية: 118] إلى قوله: {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [سورة آل عمران آية: 119] والآية بعدها. قال ابن عباس: "في الآية رجال من المسلمين يواصلون رجالاً من اليهود، لما كان بينهم من الجوار والحلف في الجاهلية، فأنزل الله فيهم ينهاهم عن بطانتهم لخوف الفتنة عليهم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً} [سورة آل عمران آية: 118] "، قال: "هم المنافقون"، رواه ابن أبي حاتم. وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قيل له: إن هنا غلاماً من أهل الحيرة، حافظاً كاتباً، فلو اتخذته كاتباً، قال: "قد اتخذتُ إذاً بطانة من دون المؤمنين"، رواه ابن أبي شيبة. وعن الربيع، {لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ} ، قال: لا تستدخلوا المنافقين تتولونهم دون المؤمنين. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 151 وفي تفسير القرطبي في الكلام على هذه الآية: نهى الله سبحانه وتعالى المؤمنين بهذه الآية أن يتخذوا من الكافرين واليهود وأهل الأهواء دخلاء وولائج، يفاوضونهم في الآراء، ويسندون إليهم أمورهم، ويقال: كل من كان على خلاف دينك ومذهبك لا ينبغي أن تخادنه، قال القائل شعراً: عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه ... فكل قرين بالمقارن يقتدي وفي سنن أبي داود: عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل ". وروي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: "اعتبروا الناس بأخدانهم". ثم بين المعنى الذي لأجله ورد النهي عن المواصلة، قال: {لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً} [سورة آل عمران آية: 118] يعني: فساداً يعني: لا يتركون فسادكم. قال: "وقد مر أبو موسى الأشعري على عمر رضي الله عنه بحساب، فدفعه إلى عمر فأعجبه، فقال لأبي موسى: أين كاتبك يقرأ هذا الكتاب على الناس؟ فقال: إنه لا يدخل المسجد; فقال: لِم، أجنب هو؟ قال: إنه نصراني; قال: فانتهره، وقال: لا تُدنهم وقد أقصاهم الله، ولا تكرمهم وقد أهانهم الله، لا تأمنهم وقد خونهم الله". ومن كتاب الإمام محمد بن وضاح، قال: جاء في الأثر: "من جالس صاحب بدعة، فقد مشى في هدم الجزء: 8 ¦ الصفحة: 152 الإسلام"، وقال الأوزاعي: "كانت أسلافكم تشهد عليهم - أي: على أهل البدع - ألسنتهم، وتشمئز منهم قلوبهم، ويحذرون الناس بدعتهم"، وقال الحسن: "لا تجالس صاحب بدعة، فإنه يمرض قلبك"، وقال إبراهيم: "لا تجالسوا أهل البدع، ولا تكلموهم، فإني أخاف أن ترتد قلوبكم"، وروى هذه الآثار ابن وضاح. قال شيخ الإسلام: محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله: اعلم، رحمك الله: أن كلام السلف في معاداة أهل البدع والضلالة 1، فإذا كان هذا كلام السلف، وتشديدهم في معاداة أهل الضلالات، ونهيهم عن مجالستهم، فما ظنك بمجالسة الكفار والمنافقين، وجفاة الأعراب، الذين لا يؤمنون بالله ورسوله، والسعي في مصالحهم، والذب عنهم، وتحسين حالهم؟ مع كونهم بين اثنتين، إما كافر أو منافق، ومن يهتم بمعرفة الإسلام منهم قليل، فهذا من رؤوسهم وأصحابهم، وهو معهم، يحشر يوم القيامة، قال تعالى: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ} الآية [سورة الصافات آية: 22] ، وقال تعالى: {وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ} [سورة التكوير آية: 7] ، وقد تقدم الحديث: " لا يحب رجل قوماً إلا حشر معهم " 2.   1 في ضلالة لا تخرج عن الملة, لكنهم شددوا في ذلك, وحذروا منه لأمرين ... إلخ. انظر صفحة: 314, 315, من القسم الأول من مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب, رحمه الله. 2 أحمد (6/145) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 153 فصل: في التنبيه على حاصل ما تقدم [في حكم موالاة المشركين] قد نهى الله سبحانه عن موالاة الكفار، وشدد في ذلك، وأخبر أن من تولاهم فهو منهم، وكذلك جاءت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن من أحب قوماً حُشر معهم؛ ويُفهم مما ذكرنا من الكتاب والسنة، والآثار عن السلف، أمور، مَن فعلها دخل في تلك الآيات، وتعرض للوعيد بمسيس النار، نعوذ بالله من موجبات غضبه، وأليم عقابه. أحدها: التولي العام. الثاني: المودة والمحبة الخاصة. الثالث: الركون القليل، قال تعالى: {وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً إِذاً لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً} [سورة الإسراء آية: 74-75] . فإذا كان هذا الخطاب لأشرف مخلوق صلوات الله وسلامه عليه، فكيف بغيره؟ الرابع: مداهنتهم ومداراتهم، قال الله تعالى: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} [سورة القلم آية: 9] . الخامس: طاعتهم فيما يقولون وفيما يشيرون، كما قال تعالى: {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} [سورة الكهف آية: 28] ، وقال تعالى: {وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ} الآيات [سورة القلم آية: 10] . السادس: تقريبهم في الجلوس، والدخول على أمراء الإسلام. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 154 السابع: مشاورتهم في الأمور. الثامن: استعمالهم في أمر من أمور المسلمين، أي أمر كان، إمارة أو عمالة، أو كتابة، أو غير ذلك. التاسع: اتخاذهم بطانة من دون المؤمنين. العاشر: مجالستهم ومزاورتهم، والدخول عليهم. الحادي عشر: البشاشة لهم والطلاقة. الثاني عشر: الإكرام العام. الثالث عشر: استئمانهم وقد خوّنهم الله. الرابع عشر: معاونتهم في أمورهم ولو بشيء قليل، كبرْي القلم، وتقريب الدواة ليكتبوا ظلمهم. الخامس عشر: مناصحتهم. السادس عشر: اتباع أهوائهم. السابع عشر: مصاحبتهم ومعاشرتهم. الثامن عشر: الرضاء بأعمالهم، والتشبه بهم والتزيي بزيهم. التاسع عشر: ذكر ما فيه تعظيم لهم، كتسميتهم سادات وحكماء، كما يقال للطواغيت: السيد فلان، أو يقال لمن يدعي علم الطب: الحكيم، ونحو ذلك. العشرون: السكنى معهم في ديارهم، كما قال صلى الله عليه وسلم: "من جامع المشركين وسكن معهم، فإنه مثلهم"، رواه أبو داود. إذا تبين هذا، فلا فرق في هذه الأمور، بين أن يفعلها مع أقربائه منهم، أو مع غيرهم، كما في آية المجادلة؛ وحينئذ، فالذي يتسبب بالدفع عنهم حمية، إما بطرح نكال، أو دفن نقائص المسلمين، أو يشير بكف المسلمين عنهم، من أعظم الموالين المحبين للكفار، من المرتدين والمنافقين وغيرهم، خصوصاً المرتدين، ينبغي أن تكون الغلظة عليهم الجزء: 8 ¦ الصفحة: 155 أشد من الكافر الأصلي، لأن هذا عادى الله على بصيرة، وعادى رسوله صلى الله عليه وسلم بعد ما عرف الحق، ثم أنكره وعاداه والعياذ بالله. فإذا كان من أعان ظالماً فقد شاركه في ظلمه، فكيف بمن يعين الكفار، والمنافقين على كفرهم ونفاقهم؟ وإذا كان من أعان ظالماً مسلماً في خصومة ظلم عند حاكم، شريكاً للظالم، فكيف بمن يعين الكفار، ويذب عنهم عند الأمراء؟ وإذا كان الحرامية الذين يأخذون أموال الناس، إذا بذلوا للأمير مالاً على أن يكف عنهم، فهو رئيسهم، فما ظنك بمن يسرّ إلى الكفار بالمودة، ويعلمهم أنه يحبهم، ليواصلوه ويكرموه؟ كما نص على ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية، قدس الله روحه، وغيره ... ولكن طرح النكال، إن كان عن مسلم مظلوم، فالشفاعة فيه، والسعي في إسقاطه بالرأي ونحوه، حسن، وإن كان عن مرتد، فلا نعما لعثرته ولا كرامة؛ ويكفي في ذلك ما رواه أحمد، والترمذي وحسنه، وابن أبي حاتم والطبراني، والحاكم وصححه، عن ابن مسعود قال: " لما كان يوم بدر جيء بالأسرى، وفيهم العباس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما تأمرون في هؤلاء الأسرى؟ فقال أبو بكر: قومك يا رسول الله وأهلك، فاستبقهم لعل الله يتوب عليهم "، وفي حديث أنس، عن أحمد: " نرى أن تعفو عنهم، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 156 وتقبل منهم الفداء"; وفي حديث ابن مسعود: فقال عمر: "يا رسول الله، كذبوك وأخرجوك وقاتلوك، قدمهم فاضرب أعناقهم" فدخل النبي صلى الله عليه وسلم ولم يرد عليهم شيئاً. فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: "يا أبا بكر: مثلك مثل إبراهيم عليه السلام، قال: {فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [سورة إبراهيم آية: 36] . ومثلك يا عمر كمثل نوح، قال: {رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً} [سورة نوح آية: 26] . أنتم عالة؛ فلا ينفلتن أحد منهم إلا بفداء، أو ضرب عنق"; فأنزل الله: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} الآيتين [سورة الأنفال آية: 67] . مختصراً. وفي حديث أنس: فأنزل الله: {لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ} الآية [سورة الأنفال آية: 68] ; وفي حديث ابن عمر، عند أبي نعيم: فلقي رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر، فقال: " كاد أن يصيبنا في خلافك شر "، وفي رواية عنه - عند ابن المنذر وابن مردويه - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن كاد ليمسنا في خلاف ابن الخطاب عذاب عظيم، ولو نزل عذاب ما أفلت إلا عمر ". فإذا كان هذا في رأي الصديق رضي الله عنه الذي اجتهد فيه، ونصح لله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فما ظنك بمن يفعل ذلك، مع حمية دنيوية، لا لغرض دين، ولا يقصد وجه الله بذلك، بل لا يقصد إلا الدنيا؟ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 157 فإن قيل: فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يذم أبا بكر على التشبيه، بل شبهه بإبراهيم وعيسى وميكائيل، عليهم السلام، وشبه عمر بجبريل ونوح وموسى عليهم السلام. قيل: المراد في الموافقة في أهل اللين والرحمة، لا في خصوص هذه المسألة، فإن الصواب فيها مع عمر قطعاً بكتاب الله، ومع ذلك توعد الله في أخذ الفداء بالعذاب، لولا ما سبق من كتاب الله أنه رأي للصديق رضي الله عنه الذي اجتهد فيه، فكيف بمن ينصح لهم، ويرفق بهم، ويرى الكف عن القتال، ويشير بإسقاط النكال عنهم من غير مسوغ شرعي، بل لمجرد المحبة الدنيوية؟ وأما من يشير بكف المسلمين عنهم، فإن كان مراده بذلك تأليفهم، على الدخول في الإسلام، أو دخلوا فيه، أو واعدوه بالدخول فيه عن قريب، وكانت المصلحة في تركهم قليلة ونحوه، يجوز ذلك; وإن كان المراد به: أن لا يتعرض المسلمون لهم بشيء، لا بقتال ولا نكال، وإغلاظ ونحو ذلك، فهو من أعظم أعوانهم، وقد حصلت له موالاتهم مع بعد الديار، وتباعد الأقطار، كما قيل: سهم أصاب وراميه بذي سلم ... من بالعراق لقد أبعدت مرماك وأما من يشير بترك نقائص المسلمين لهم إن كانوا مرتدين، فهذا عند الفقهاء مخطئ آثم، لأنه يجب على الجزء: 8 ¦ الصفحة: 158 المرتد ضمان ما أتلفه للمسلمين في حال الردة، خصوصاً من تكررت منه الردة مراراً، فإنه لا يقصد بذلك في هذا الزمان، إلا الإغارة والنهب لا غير، فترك ذلك له من أعظم المعاونة على الإثم والعدوان؛ ولهذا لما صار هذا أمراً سائغاً عند بعض الناس، انفتحت للبدوان أبواب الردة، وأتوها مهطعين من كل وجه؛ ولو كان هذا مصلحة في بعض الأوقات رآها بعض الأمراء، فلا يجب طرد ذلك لكل أحد في كل زمان، فاعلم ذلك. وأما قول السائل: هل يكون هذا موالاة نفاق؟ أم يكون كفراً؟ فالجواب: إن كانت الموالاة مع مساكنتهم في ديارهم، والخروج معهم في قتالهم، ونحو ذلك، فإنه يحكم على صاحبها بالكفر، كما قال تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [سورة المائدة آية: 51] ، قال تعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ} [سورة النساء آية: 140] ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "من جامع المشركين وسكن معهم، فإنه مثلهم"، وقال: " أنا بريء من مسلم بين أظهر المشركين " 1، رواهما أبو داود. وإن كانت الموالاة لهم في ديار الإسلام إذا قدموا إليهم، ونحو ذلك، فهذا عاص آثم متعرض للوعيد. وإن كان   1 الترمذي: السير (1604) , وأبو داود: الجهاد (2645) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 159 موالاتهم لأجل دنياهم، يجب عليه من التعزير بالهجر والأدب ونحوه ما يزجر أمثاله. وإن كانت الموالاة لأجل دينهم، فهو مثلهم، ومن أحب قوماً حشر معهم. ولكن ليتفكر السائل في قوله: حمية دنيوية، يمكن هذا لإبلاغ المحبة في قلوبهم، وإلا فلو كان يبغضهم في الله ويعاديهم، لكان أقر شيء لعينه ما يسخطهم، ولكن كما قال ابن القيم: أتحب أعداء الحبيب وتدعي ... حباً له ما ذاك في إمكانِ وأما قول السائل: فإن كان ما يقدر من نفسه أن يتلفظ بكفرهم وسبهم، ما حكمه؟ فالجواب: لا يخلو ذلك عن أن يكون شاكاً في كفرهم أو جاهلاً به، أو يقر بأنهم كفرة هم وأشباههم، ولكن لا يقدر على مواجهتهم وتكفيرهم، أو يقول: غيرهم كفار، لا أقول إنهم كفار; فإن كان شاكاً في كفرهم أو جاهلاً بكفرهم، بينت له الأدلة من كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم على كفرهم، فإن شك بعد ذلك أو تردد، فإنه كافر بإجماع العلماء: على أن من شك في كفر الكافر، فهو كافر. وإن كان يقرّ بكفرهم، ولا يقدر على مواجهتهم بتكفيرهم، فهو مداهن لهم، ويدخل في قوله تعالى: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} [سورة القلم آية: 9] ، وله حكم أمثاله من أهل الجزء: 8 ¦ الصفحة: 160 الذنوب. وإن كان يقول: أقول غيرهم كفار، ولا أقول هم كفار، فهذا حكم منه بإسلامهم، إذ لا واسطة بين الكفر والإسلام، فإن لم يكونوا كفاراً فهم مسلمون; وحينئذ فمن سمى الكفر إسلاماً، أو سمى الكفار مسلمين، فهو كافر، فيكون هذا كافراً. وأما قوله: إذا عرفت هذا من إنسان ماذا يجب عليك؟ فالجواب: يجب عليك أن تنصحه، وتدعوه إلى الله سبحانه وتعالى، وتعرفه قبيح ما ارتكبه؛ فإن تاب فهذا هو المطلوب، وإن أصر وعاند فله حكم ما ارتكبه: إن كان كفراً فكافر، وإن كان معصية أو إثماً فعاص آثم، يجب الإنكار عليه وتأديبه، وهجره وإبعاده حتى يتوب. وقد هجر النبي صلى الله عليه وسلم من تخلف عن غزوة واحدة، ونهى عن كلامهم والسلام عليهم، فكيف بمن يوالي الكفار ويظهر لهم المودة؟ وسئل: هل يجوز للمسلم أن يسافر إلى بلد الكفار الحربية، لأجل التجارة، أم لا؟ الجواب: الحمد لله، إن كان يقدر على إظهار دينه، ولا يوالي المشركين، جاز له ذلك؛ فقد سافر بعض الصحابة، رضي الله عنهم، كأبي بكر رضي الله عنه وغيره من الصحابة، إلى بلدان المشركين، لأجل التجارة، ولم ينكر ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، كما رواه أحمد في مسنده وغيره. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 161 وإن كان لا يقدر على إظهار دينه، ولا على عدم موالاتهم، لم يجز له السفر إلى ديارهم، كما نص على ذلك العلماء، وعليه تحمل الأحاديث، التي تدل على النهي عن ذلك، ولأن الله تعالى أوجب على الإنسان العمل بالتوحيد، وفرض عليه عداوة المشركين، فما كان ذريعة وسبباً إلى إسقاط ذلك لم يجز. وأيضاً، فقد يجره ذلك إلى موافقتهم، وإرضائهم كما هو الواقع كثيراً ممن يسافر إلى بلدان المشركين، من فساق المسلمين، نعوذ بالله من ذلك. المسألة الثانية: هل يجوز للإنسان أن يجلس في بلد الكفار، وشعائر الكفر ظاهرة لأجل التجارة؟ الجواب عن هذه المسألة هو الجواب عن التي قبلها سواء، ولا فرق في ذلك بين دار الحرب أو دار الصلح، فكل بلد لا يقدر المسلم على إظهار دينه فيها، لا يجوز له السفر إليها. المسألة الثالثة: هل يفرق بين المدة القريبة مثل شهر أو شهرين، والمدة البعيدة؟ الجواب: أنه لا فرق بين المدة القريبة والبعيدة، فكل بلد لا يقدر على إظهار دينه فيها، ولا على عدم موالاة المشركين، لا يجوز له المقام فيها ولا يوماً واحداً، إذا كان الجزء: 8 ¦ الصفحة: 162 يقدر على الخروج منها. المسألة الرابعة: في معنى قوله تبارك وتعالى: {إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ} [سورة النساء آية: 140] ، وقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث: " من جامع المشرك وسكن معه، فإنه مثله" 1. الجواب: أن معنى الآية على ظاهرها، وهو أن الرجل إذا سمع آيات الله يكفر بها، ويستهزأ بها، فجلس عند الكافرين المستهزئين، من غير إكراه ولا إنكار، ولا قيام عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره، فهو كافر مثلهم، وإن لم يفعل فعلهم، لأن ذلك يتضمن الرضاء بالكفر، والرضاء بالكفر كفر. وبهذه الآية ونحوها، استدل العلماء على أن الراضي بالذنب كفاعله، فإن ادعى أنه يكره ذلك بقلبه لم يقبل منه لأن الحكم على الظاهر، وهو قد أظهر الكفر، فيكون كافراً. ولهذا لما وقعت الردة بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم وادعى أناس أنهم كرهوا ذلك، لم يقبل منهم الصحابة ذلك، بل جعلوهم كلهم مرتدين، إلا من أنكر بلسانه وقلبه. وكذلك قوله في الحديث: " من جامع المشرك وسكن معه، فإنه مثله " 2 على ظاهره، وهو أن الذي يدعي الإسلام، ويكون مع المشركين في الاجتماع، والنصرة، والمنزل معهم، بحيث يعده المشركون منهم، فهو كافر مثلهم، وإن ادعى الإسلام، إلا إن كان يظهر دينه، ولا يوالي المشركين.   1 أبو داود: الجهاد (2787) . 2 أبو داود: الجهاد (2787) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 163 ولهذا لما ادعى بعض الناس الذين أقاموا بمكة بعد ما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم، فادعوا الإسلام إلا أنهم أقاموا في مكة، يعدهم المشركون منهم، وخرجوا معهم يوم بدر كارهين للخروج، فقُتلوا، وظن بعض الصحابة أنهم مسلمون، وقالوا: قتلنا إخواننا، فأنزل الله تعالى فيهم: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} الآية [سورة النساء آية: 97] ، قال السدي وغيره من المفسرين: إنهم كانوا كفاراً، ولم يعذر الله منهم إلا المستضعفين. المسألة الخامسة: هل يقال لمن أظهر علامات النفاق ممن يدعي الإسلام أنه منافق، أم لا؟ الجواب: أنه من ظهرت منه علامات النفاق الدالة عليه، كارتداده عند التحزيب على المؤمنين، وخذلانهم عند اجتماع العدو، كالذين قالوا: لو نعلم قتالاً لاتبعناكم، وكونه إذا غلب المشركون التجأ معهم، وإن غلب المسلمون التجأ إليهم، ومدحه للمشركين بعض الأحيان، وموالاتهم من دون المؤمنين، وأشباه هذه العلامات التي ذكر الله أنها علامات للنفاق، وصفات للمنافقين، فإنه يجوز إطلاق النفاق عليه، وتسميته منافقاً. وقد كان الصحابة، رضي الله عنهم، يفعلون ذلك كثيراً، كما قال حذيفة، رضي الله تعالى عنه: "إن الرجل ليتكلم بالكلمة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيكون بها منافقاً"، وكما قال عوف بن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 164 مالك لذلك المتكلم بذلك الكلام القبيح: "كذبت، ولكنك منافق"; وكذلك قال عمر في قصة حاطب: "يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق"; وفي رواية: "دعني أضرب عنقه فإنه منافق"، وأشباه ذلك كثير. وكذلك قال أسيد بن حضير لسعد بن عبادة، لما قال ذلك الكلام: "كذبت ولكنك منافق، تجادل عن المنافقين". ولكن ينبغي أن يعرف: أنه لا تلازم بين إطلاق النفاق عليه ظاهراً، وبين كونه منافقاً باطناً; فإذا فعل علامات النفاق، جاز تسميته منافقاً لمن أراد أن يسميه بذلك، وإن لم يكن منافقاً في نفس الأمر، لأن بعض هذه الأمور قد يفعلها الإنسان مخطئاً لا علم عنده، أو لقصد يخرج به عن كونه منافقاً، فمن أطلق عليه النفاق لم ينكر عليه، كما لم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم على أسيد بن حضير تسميته سعداً منافقاً، مع أنه ليس بمنافق، ومن سكت لم ينكر عليه، بخلاف المذبذب الذي ليس مع المسلمين، ولا مع المشركين، فإنه لا يكون إلا منافقاً. واعلم: أنه لا يجوز إطلاق النفاق على المسلم بالهوى والعصبية، أو لكونه يشاحن رجلاً في أمر دنيا، أو يبغضه لذلك، أو لكونه يخالف في بعض الأمور، التي لا يزال الناس فيها مختلفين؛ فليحذر الإنسان أشد الحذر، فإنه قد صح في ذلك الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فيمن رمى مؤمناً بكفر فهو الجزء: 8 ¦ الصفحة: 165 كقتله؛ وإنما يجوز من ذلك ما كانت العلامات مطردة في النفاق، كالعلامات التي ذكرنا وأشباهها، بخلاف مثل الكذبة والفجرة ونحو ذلك، وكان قصد الإنسان ونيته إعلاء كلمة الله، ونصر دينه. المسألة السادسة: في الموالاة والمعاداة، هل هي من معنى لا إله إلا الله، أو من لوازمها؟ الجواب: أن يقال: الله أعلم، لكن بحسب المسلم أن يعلم: أن الله افترض عليه عداوة المشركين، وعدم موالاتهم، وأوجب عليه محبة المؤمنين وموالاتهم، وأخبر أن ذلك من شروط الإيمان، ونفى الإيمان عمن يواد من حاد الله ورسوله، ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم، أو إخوانهم أو عشيرتهم. وأما كون ذلك من معنى لا إله إلا الله أو لوازمها، فلم يكلفنا الله بالبحث عن ذلك، إنما كلفنا بمعرفة أن الله فرض ذلك وأوجبه، وأوجب العمل به، فهذا هو الفرض والحتم الذي لا شك فيه، ومن عرف أن ذلك من معناها، أو من لازمها فهو حسن، وزيادة خير، ومن لم يعرفه فلم يكلف بمعرفته، لا سيما إذا كان الجدال والمنازعة فيه، مما يفضي إلى شر واختلاف، ووقوع فرقة بين المؤمنين، الذين قاموا بواجبات الإيمان، وجاهدوا في الله، وعادوا المشركين، ووالوا المسلمين، فالسكوت عن ذلك متعين، وهذا ما ظهر الجزء: 8 ¦ الصفحة: 166 لي، على أن الاختلاف قريب من جهة المعنى، والله أعلم. [رد قول ابن نبهان أنه لا جهاد إلا مع إمام، وبيان حكم الجهاد والهجرة وموالاة المشركين] قال الشيخ عبد الرحمن، رحمة الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الرحمن بن حسن: إلى الابن صالح، سلمه الله تعالى آمين؛ سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد، بلغنا: أن الباز أرسلوا لابن نبهان رسالة، كتبها حمد بن عتيق، متضمنة للاستدلال بالآيات المحكمات، في تحريم طاعتهم والركون إليهم، والإشارة إلى بعض معاني الآيات الواردة في ذلك، وهو أصل من أصول الدين لا بد من معرفته والبحث عنه، وبيانه للجاهل، لا سيما الواقع فيه، تذكيراً وتحذيراً، وهذا شرع محكم، لو اجتمع على دفعه من بأقطارها من عالم وجاهل، لما قدروا على رده بحجة أصلاً. وبلغنا: أن ابن نبهان، لما أشرف على النسخة، كتب اعتراضات وأصل فيها أصولاً، لا يدري هل سبقه إليها مبتدع أم لا؟ فلو قيل لهم: من هذا مذهبه؟ ومن قال به؟ لم يجب عن ذلك بما يصلح أن يعد جواباً. فمن ذلك فيما بلغنا عنه: أنه لا جهاد إلا مع إمام، فإذا لم يوجد إمام فلا جهاد، فيلزم على هذا أن ما يلزم بترك الجهاد من مخالفة دين الله وطاعته جائز، بجواز ترك الجهاد، فتكون الموالاة للمشركين، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 167 والموافقة والطاعة جائزة، واللازم باطل، فبطل الملزوم؛ فعكس الحكم الذي دل عليه القرآن العزيز، من أنها لا تصلح إمامة إلا بالجهاد. والأصل الثاني فيما بلغنا عنه: أنه قال: لا حجة فيما قاله الصحابة، رضي الله عنهم، في معنى القرآن العزيز؛ فإذا لم يكن قول الصحابة حجة، وهم الذين أخذوه عن نبيهم، وحضروا نزوله، وعرفوا أسبابه، وهم أعلم الأمة وأعدلها، الحجة في التفسير، فليت شعري هل عرف من هذا مذهبه من المبتدعة، إلى غير ذلك مما لا حاجة إلى أن نطيل بذكره. والحاصل: أن المطلوب منك: أخذ ما كتبه وإرساله إلي لأنظر فيه، ليطالب في كل لفظة ببرهانها، وليظهر تناقضه؛ فإن المقام مقام لا يسع تركه، فلو كان قد صدر ممن لا يدعي المعرفة، لكان حقيقاً بالإعراض عنه، وأما من هو مثل هذا الذي يدعي أنه يدري، ولا يدري أنه لا يدري، فلا بد من بيان ما فيه، لئلا يغتر به جاهل؛ فإذا تبين ما فيه من الغلط والتناقض، دفع الشبهة عن ضعيف البصيرة، إن شاء الله تعالى. وهنا سؤال أسأله عنه، وأطلب جوابه منه، سله عن كلمة الإسلام التي هي أصل دين الله، عن معناها، وعن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 168 مضمونها، وعن مدلولها، ومقتضاها، وحقها وحقيقتها، ولوازمها؛ فإن عرف ذلك تبين أنه قد عرف وأنكر؛ فإن لم يعرف ذلك وهو يدعي المعرفة، بطلت دعواه أصلاً؛ فإن خبط فالتخبيط لا ينفع أحداً ولا يفيد، فألزمه الجواب فهو حجة عليه. والله الموفق لبيان الهدى، والاستقامة عليه، والسلام. فلما وصل إليه اعتراضات ابن نبهان، أوضح الحق من البهتان، فقال: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وصلى الله على أشرف المرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وسلم تسليماً. أما بعد، فإنه ورد علينا رسالة من صاحبنا حمد بن عتيق، نور الله قلوبنا وقلبه بنور الإيمان، وثبتنا بالقول الثابت، عند تلاطم أمواج الامتحان، والله ناصر دينه وكتابه ورسوله في سائر الأزمان، لكن بمحنة حزبه من حربه، ذا حكمه مذ كانت الفئتان، فوجدت تلك الرسالة وافية بالمقصد الأعلى، والمنهج الأسنى، منهج أهل الحنيفية، والدعوة الإسلامية، من تحذير المغرورين والجاهلين، عن مداهنة الظالمين، وموالاة الكافرين ومظاهرة المسرفين، مستنداً في الجزء: 8 ¦ الصفحة: 169 ذلك إلى أوضح البراهين، من أدلة الكتاب والسنة، وإبراز معناهما المأثور عن الأئمة المحققين. هذا، وقد وقع من بعض من لا إلف له بهذا الشأن، ولا جواد تحته تصلح للجري في هذا الميدان، بعض معارضات، إنما هي ضلالات وجهالات، ما اقتضى حين وقفت عليها بيان سلوك منهج العلماء، أهل الاتباع، والتحذير من موارد أهل الابتداع، كي تحصل السلامة إن شاء الله من موجب وعيد أهل الكتمان، والقيام بالنصيحة بالقلم واللسان; والله المستعان، وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وهذه مقدمة نافعة قبل الشروع في المقصود: قال الله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [سورة فصلت آية: 33] ، أخرج ابن جرير بسنده عن معمر، قال: تلا الحسن: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ} الآية [سورة فصلت آية: 33] ، قال: "هذا ولي الله، هذا صفوة الله، هذا خيرة الله، هذا أحب الخلق إلى الله. أجاب الله في دعوته، ودعا الناس إلى ما أجاب الله فيه من دعوته، وعمل صالحاً في إجابته، وقال: إنني من المسلمين؛ فهذا خليفة الله". وخرج بإسناده عن قتادة، قال: "هذا عبد صدق قوله عمله، ومولجه مخرجه، وسره علانيته، وشاهده مغيبه. وأن المنافق خالف قوله عمله، ومولجه مخرجه، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 170 وسره علانيته، وشاهده مغيبه". وأخرج في معنى قوله: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [سورة فصلت آية: 30] ، بسنده عن أنس بن مالك، رضي الله تعالى عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنه قرأ: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} قال: قد قالها الناس ثم كفر أكثرهم، فمن مات عليها فهو ممن استقام". وأخرج بسنده عن الزهري، قال: تلا عمر رضي الله عنه على المنبر {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} ، قال: "استقاموا والله على طاعته، ولم يروغوا روغان الثعالب". وذكر في معنى قوله: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [سورة الشورى آية: 13] أي: "اعملوا به على ما شرع لكم ورضي به، ولا تتفرقوا فيه". وأخرج بسنده عن قتادة: "تعلموا: أن الفرقة هلكة، وأن الجماعة ثقة"; وذكر في معنى قول الله: {فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [سورة الشورى آية: 15] يقول: فلذلك الدين الذي شرع لكم، ووصى به نوحاً، وأوحاه إليك يا محمد، فادع عباد الله واستقم على العمل به، ولا تزغ فيه واثبت عليه، كما أمرك ربك بالاستقامة. قوله: {وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [سورة المائدة آية: 48] ، يقول تعالى: ولا تتبع أهواء الذين شكوا في الحق الذي شرعه الله لكم من الدين، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 171 وقوله: {وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ} [سورة الشورى آية: 15] : مواثيق أخذها منهم، والكتاب كائناً ما كان ذلك الكتاب، توراة، أو إنجيلاً، أو زبوراً، أو صحف إبراهيم، لا أكذب بشيء من ذلك تكذيبكم ببعضه معشر الأحزاب، وتصديقكم ببعضه. وقوله: {وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ} [سورة الشورى آية: 15] ، يقول تعالى: وقل لهم يا محمد: وأمرني ربي لأعدل بينكم معشر الأحزاب، فأسير فيكم جميعاً بالحق الذي أمرني به، وبعثني بالدعاء إليه. وساق بسنده عن قتادة، قال: "أمره الله أن يعدل حتى مات، والعدل ميزان الله في الأرض، به يأخذ للمظلوم من الظالم، والضعيف من الشديد. وبالعدل يصدق الله الصادق ويكذب الكاذب، وبالعدل يرد المعتدي ويوبخه". وقال البغوي في قوله: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} [سورة هود آية: 112] : أي: على دين ربك والعمل به، والدعاء إليه. {وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا} [سورة هود آية: 112] أي: لا تجاوزوا الأوامر، ولا تعصوني. {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} [سورة هود آية: 113] ، قال ابن عباس: "لا تميلوا"; والركون هو: الميل بالقلب والمحبة. وقال أبو العالية: "لا ترضوا بأعمالهم". وقال السدي: لا تداهنوا الظلمة; وعن عكرمة: لا تطيعوهم; وقيل: لا تسكنوا إلى الذين ظلموا، {فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} أي: فتصيبكم، {وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ} [سورة هود آية: 113] . فمن هذه الآيات، وما ذكرناه قبلها، من ثواب أهل الجزء: 8 ¦ الصفحة: 172 الاستقامة، وعقاب أهل الركون إلى الذين ظلموا، عرف ما بين أهل الاستقامة وأهل الركون من التفاوت العظيم، كما قال بعض العلماء: وإنما تفاوت الواجبات والمحرمات، بتفاوت المثوبات والعقوبات؛ فحال الفريقين متفاوتة أبعد تفاوت، لتفاوت ما بين ثواب هؤلاء وعقاب هؤلاء. ويزداد هذا المقام إيضاحاً، بالتفكر في اثنتين عظيمتين: قال الله: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [سورة الأحقاف آية: 13-14] ، نفى عنهم الخوف والحزن، وأخبر أنهم أصحاب الجنة خالدين فيها جزاء بما كانوا يعملون، أي من توحيد الله وطاعته، وامتثال أمره وترك نهيه. وقال تعالى فيمن سلك غير سبيلهم، بارتكاب ما نهى الله عنه: {تَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ} الآية [سورة المائدة آية: 80] ، فسجل تعالى على من تولى الكافرين، بالمذمة وحلول السخط عليهم، والخلود في العذاب، وأكد ذلك بنوعي التوكيد. ثم ذكر أن هذا الذي وصفهم به، ينافي الإيمان بالله والنبي صلى الله عليه وسلم وما أنزل إليه; ولها نظائر كقوله: {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} الآيات [سورة النساء آية: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 173 138-139 ] . فما أعظم ثواب أهل الاستقامة! وما أفظع عقاب متولي الكافرين! فكان الجزاء من جنس العمل، وكما تدين تدان؛ فلا إله إلا الله، ما أبين هذا القرآن العظيم، لمن استضاء بنور العلم والإيمان! أفيظن من له أدنى مسكة من عقل، أن هذا التفاوت بهذه الأعمال، وتفاوت ثوابها وعقابها، إنما هو في حق من سلف دون من تأخر وخلف؟ وقد قال تعالى في جنس من خلف: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً} الآية [سورة مريم آية: 59] ، وقال: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} الآيتين [سورة القلم آية: 35-36] . أفيظن مسلم أن وقوع ذلك من بعض من تقدم من هذه الأمة، جائز عليهم بكل حال، وأما من تأخر فمن الممتنع المحال؟ هيهات، لقد أحصيت الحسنات والسيئات على الآخر، كما أحصيت على الأول، {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} الآية [سورة الجاثية آية: 21] . وقد ذكر شيخ الإسلام أحمد بن تيمية، رحمه الله، في رسالة وقعة التتار، قال: فإن نصوص الكتاب والسنة، اللذين هما دعوة محمد صلى الله عليه وسلم، يتناولان عموم الخلق، بالعموم اللفظي والمعنوي، أو بالعموم المعنوي، وعهود الله تعالى في كتابه الجزء: 8 ¦ الصفحة: 174 وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم تناول آخر هذه الأمة، كما تناولت أولها. وإنما قص الله علينا قصص الأمم قبلنا، لتكون عبرة لنا، فنشبه حالنا بحالهم، ونقيس أواخر هذه الأمة بأولها، فيكون للمؤمن من المستأخرين، شبه بما كان للمؤمنين من المستقدمين، ويكون للكافرين والمنافقين من المستأخرين، شبه بما كان للكافرين والمنافقين من المستقدمين، كما قال: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى} [سورة يوسف آية: 111] . وقال لما ذكر قصة فرعون: {فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى} [سورة النازعات آية: 25-26] ، وقال: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ} إلى قوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ} [سورة آل عمران آية: 13] ، وقال في قصة محاجة بني النضير: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} [سورة الحشر آية: 2] ، فأمرنا أن نعتبر بأحوال المستقدمين من هذه الأمة، وما قبلها. انتهى. وقد بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم إلى جميع الثقلين الجن والإنس، كما قال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} [سورة الفرقان آية: 1] ، وقال تعالى: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [سورة الأنعام آية: 19] ، وأنزل الله عليه الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما الجزء: 8 ¦ الصفحة: 175 اختلفوا فيه من حين البعثة إلى أن تقوم الساعة؛ فهو خاتم النبيين، وعلى ملته وشريعته تقوم الساعة، كما ثبت في الحديث الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم، حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك ". وبهذا يعلم: أن خطاب الله، وأحكام الكتاب والسنة، تتعلق بجميع المكلفين من هذه الأمة، لا يختص به أول عن آخر، وهذا مع ظهور ما في الكتاب والسنة، فهو إجماع في الأمة سلفاً وخلفاً، ولا يرتاب في هذا أحد ممن ينتسب إلى الإسلام. ولهذا صنف العلماء، رحمهم الله، في كل عصر ومصر، في التفسير، والحديث، والفقه، والأصول وغيرها، حفظاً للدين والشريعة، ليكون آخر الأمة كأولها في العلم والعمل، والتزام أحكام الشريعة، وإلزام الناس بها، لأن ضرورتهم إلى ذلك فوق كل ضرورة. ولما عظمت الفتنة، وظهر الجهل والظلم، عاد الإسلام غريباً، وصار الأمر كما ترى، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وذكر أبو سليمان الخطابي، في معالم السنن: أن خطاب الله على ثلاثة أوجه: خطاب عام، كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ} الآية [سورة المائدة آية: 6] ، وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 176 كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [سورة البقرة آية: 183] ، ونحو ذلك من أوامر الشريعة. وخطاب خاص للنبي صلى الله عليه وسلم، لا يشركه فيه غيره، وهو ما أبين عن غيره بسمة التخصيص، وقطع الشريك، كقوله: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ} [سورة الإسراء آية: 79] ، وكقوله: {خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [سورة الأحزاب آية: 50] ، وخطاب مواجهة للنبي صلى الله عليه وسلم، وهو وجميع الأمة في المراد سواء، كقوله: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} [سورة الإسراء آية: 78] ، وقوله: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [سورة النحل آية: 98] ، وقوله: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ} [سورة النساء آية: 102] ، ونحو ذلك من خطاب المواجهة؛ فكلما دلكت الشمس، كان عليه إقامة الصلاة واجبة، وكل من أراد قراءة القرآن، كانت الاستعاذة معتصماً له، وكل من حضره العدو وخاف فوات الصلاة، أقامها على الوجه الذي فعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنها لأمته. ومن هذا النوع، قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [سورة التوبة آية: 103] ، فعلى القائم بعده بأمر الأمة أن يحتذي حذوه في أخذها منهم. وإنما الفائدة في مواجهة النبي صلى الله عليه وسلم بالخطاب، لأنه هو الداعي إلى الله، المبين عنه مراده، فقدم اسمه في الخطاب، ليكون سلوك الأمة في شرائع الدين على حسب ما ينهجه، ويبينه لهم. انتهى. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 177 قلت: ومن هذا النوع: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [سورة التوبة آية: 73] ، وقوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً} الآية [سورة الأحزاب آية: 1] . ومن الأول قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ} الآيات [سورة المائدة آية: 51] ، وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ} الآية [سورة المائدة آية: 57] ، وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} الآيات [سورة الممتحنة آية: 1] ، وهذه وإن كان سبب نزولها في حاطب بن أبي بلتعة، حين كتب إلى قريش يخبرهم بمسير رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه خاطب المؤمنين بهذا الحكم عموماً، وقال: {وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ} [سورة الممتحنة آية: 1] معشر المخاطبين، كائناً من كان، {فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} [سورة البقرة آية: 108] . وهذا شامل لكل فرد من أفراد الأمة، من المستقدمين والمستأخرين، لا يرتاب في هذا مسلم قط. وفي ذكر سبب النزول بيان جنس التولي الذي نهى الله عنه؛ وهذا ظاهر جداً لمن استنار قلبه بنور العلم والإيمان. وأما من طفى نوره بظلمات الفتنتين، فتنة الشبهات والشهوات، فلا يدرك الحقائق على ما هي عليه، لفساد تصوره، كما قال تعالى: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 178 تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [سورة الحج آية: 46] ، وقال تعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} الآية [سورة الزخرف آية: 36] ، وقال تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ} الآية [سورة الأنعام آية: 125] ، وقال تعالى: {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً} الآية [سورة الأنعام آية: 25] ، وقال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [سورة النور آية: 40] . فاقتضت حكمة الرب تعالى: أن ابتلى أهل البلاد النجدية، بصولة هذه الدولة المصرية، كما قد ابتلى من قبلهم من هذه الأمة وغيرها، بما ابتلاهم به تمييزاً واختباراً، كما قال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً} الآية [سورة التوبة آية: 16] ، وقال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} الآيات [سورة الحج آية: 11] . وقال تعالى: {الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} الآيات [سورة العنكبوت آية: 1-2] ، فجرى بسبب هذه المحنة من نفاق الناس، واضطراب القلوب، واختلاف الدين، ما لا متسع لذكره في هذه الأوراق؛ ولكن لما كان يشبه لما ذكره شيخ الإسلام، في واقعة التتر، اقتضى أن نذكر كلامه هنا، لقوة المشابهة بين الحادثتين وما جرى فيهما، لما فيها من الفوائد والعبر: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 179 قال، رحمه الله: فينبغي للعقلاء، أن يعتبروا بسنة الله وآياته في عباده، ودأب الأمم وعادتهم، لا سيما في مثل هذه الحادثة العظيمة، التي طبق الخافقين خبرها، واستطار في جميع ديار المسلمين شررها، وأطلع النفاق ناصية رأسه، وكشف الكفر فيها عن أنيابه وأضراسه، وكاد منها عمود الكتاب أن يجتث ويخترم، وحبل الإيمان أن يقطع ويصطلم، وعقر دار المسلمين أن يحل بها البوار، ويزول هذا الدين باستيلاء الفجرة التتار، وظن المنافقون والذين في قلوبهم مرض، أن ما وعدهم الله ورسوله إلا غروراً، وأن لن ينقلب الرسول والمؤمنين إلى أهليهم أبداً، وظنوا ظن السوء وكانوا قوما بوراً. وقد نزلت فتنة، تركت الحليم فيها كالحيران، وأنزلت الصاحي منزلة السكران، وتركت الرجل اللبيب لكثرة الوسواس ليس بالنائم ولا اليقظان، وتناكرت فيها قلوب المعارف والإخوان، حتى بقي للرجل بنفسه شغل عن أن يغيث اللهفان، وميز الله فيها أهل البصائر والإيقان، من الذين في قلوبهم مرض أو نفاق أو ضعف إيمان، ورفع بها أقواماً إلى الدرجات العالية، كما وضع بها أقواماً إلى المنازل الهاوية، وكفر عن آخرين أعمالهم الخاطئة. وحدث فيها من أنواع البلوى ما جعلها مختصرة من القيامة الكبرى، فإن الناس تفرقوا فيها ما بين شقي وسعيد، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 180 كما يتفرقون في ذلك اليوم الموعود، وفر الرجل فيها عن أمه وأخيه، وكان لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه. وكان من الناس من كان أقصى همته النجاة بنفسه، لا يلوي على ماله، ولا ولده ولا عرسه، وكان منهم من فيه قوة على تخليص الأهل والمال، والآخر فيه زيادة معونة لمن هو منه ببال، وآخر منزلته منزلة الشفيع المطاع؛ وهم درجات عند الله في المنفعة والدفاع، ولم ينفع المنفعة الخالصة من الشكوى، إلا الإيمان والعمل الصالح، والبر والتقوى. وبليت فيها السرائر، وظهرت فيها الخبايا التي كانت تكنها الضمائر، وتبين أن البهرج من الأقوال يخون صاحبه أحوج ما كان إليه في المآل، وذم سادته وكبراءه من أطاعهم، فأضلوه السبيل، كما حمد ربه من صدق في إيمانه، واتخذ مع الرسول سبيلاً. وبان صدق ما جاءت به الآثار النبوية، من الأخبار بما يكون، وواطأها قلوب الذين هم في هذه الأمة محدثون، كما تواطأت عليه المبشرات التي أريها المؤمنون، وتبين فيها الطائفة المنصورة الظاهرة على الدين، الذين لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم إلى يوم القيامة، حتى تحزب الناس ثلاثة أحزاب: مجتهد في نصرة هذا الدين، وآخر خاذل له، وآخر خارج عن شريعة الإسلام. وانقسم الناس بين مأجور ومعذور، وآخر غره بالله الجزء: 8 ¦ الصفحة: 181 الغرور؛ وكان هذا الامتحان تمييزاً من الله وتقسيماً، {لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً} [سورة الأحزاب آية: 24] ، أي: يتوب عليهم إذا تابوا. انتهى. وهذا حين الشروع في الجواب عما اعترض به، قال: وبعد، جاءنا من عندكم أوراق، فلما أشرفت عليها، إلى أنها آيات من كتاب الله، وكتاب الله هو الحجة القاطعة. فأقول: هذا كلام ينبئ عن حال قائله، بأنه لا خبرة له بشيء من أنواع البحث والمناظرة أصلاً؛ فإنه أسس فيه ما ينقض عليه، وهو قوله: كتاب الله هو الحجة القاطعة. وهذا الكلام يوجب أن يقابل بالقبول والتسليم، ويقتضي من قائله الإقبال على فهم المراد منه والعمل به، وأن لا ينصب نفسه خصماً له. واعلم: أن أصول أدلة الشريعة: الكتاب والسنة والإجماع، والقياس والاستصحاب، وفيهما تفصيل ومسالك لأهل العلم؛ وأما الثلاثة الأول، فلا اختلاف فيها عند جميع الطوائف المنتسبين إلى الإسلام. فكل قول يقوله هذا المعترض وغيره، فهو مطالب بالدليل، إما من الكتاب أو السنة أو الإجماع، فإن قام الدليل وإلا فقوله رد عليه. فتنبه لهذا الأصل واستصحبه، يرحمك الله به من هذه الأغاليط. ثم قال: وأتبعتها بنقول عن الشيخين، يعني شيخ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 182 الإسلام أحمد بن تيمية، وشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، وعلى كلامهم المعمول ... إلخ. أقول: هذا قول من يجهله حال نفسه، مع ما هو مشتمل عليه من اللحن؛ وهكذا حال من لا يعرف عربية ولا إعراباً. ثم إنه لا يخفى حال الشيخين المذكورين، فإنهما قاما لله بالدين القويم، والدعوة إلى صراط الله المستقيم، فيلزم من عرف أنهما القدوة، أن لا يعدل عن طريقتهما علماً وعملاً، وهذا تأسيس لنقض اعتراضك، وتحقيق ذلك يعلم بمطالعة ما تقدم من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في واقعة التتر، ومطالعة عشر الدرجات، لشيخنا إمام الدعوة الإسلامية، في معنى قول الله تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} [سورة الجن آية: 18] ، وفي ثمان الحالات في معنى قوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي} الآيات [سورة يونس آية: 104] . فإذا كان هما القدوة، وكلامهما المعمول، فيلزمك أن تعول على ما سترى من كلامهما، حتى يكون لقولك حقيقة، ولا أخالك تفعل. شعراً: إذا لم توافق قولة منك فعلة ... ففي كل جزء من حديثك تُفضحُ وقولك: لكنك أخليت حين استدللت بالآيات، عن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 183 بيان سبب نزولها، عن حكمها، وفيمن نزلت ... إلخ. فأقول، وبالله التوفيق: قد أمكنت الرامي من سواء الثغرة، هذا كلام في غاية الركاكة لفظاً ومعنى، ويشعر بأن قائله لا معرفة له في شيء أصل؛ ً، ولو ذهبنا نذكر ما فيه من سوء التعبير، لطال الجواب عن بيان خصال لا تخفى على من له معرفة بالكلام، صحيحه وسقيمه. ثم لا يخفى: أن هذا الكلام على ما فيه، شروع منك في نقض ما أسسته من قولك: أن كلام الله هو الحجة القاطعة، فحاولت في هذه العبارة، أن لا يحتج به على أهل وقت أنت فيهم. فإذا كان أحكام القرآن مقصورة عندك، على من نزل بسببهم، فكيف يكون حجة قاطعة على غيرهم؟ هذا تناقض منك بيِّن؛ أسست ثم هدمت. ثم يقال لك: فمن أخذت عنه هذا؟ ومن قال من الأمة: إن خطاب الله في كتابه، وخطاب رسوله في سنته، إنما يتعلق بمن نزل بسببهم دون غيرهم؟ هذا لا يقوله أبلد الناس، وأجهلهم بالشريعة وأحكامها، بل ولا يتجاسر أن يقوله أحد، ممن يجادل بالباطل، صوناً لنفسه عن التجهيل والتضليل، لأن هذه على الجهالة والضلالة من أبين دليل، ولما يلزم قائله من تعطيل الشريعة، والطعن على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أي: قتال من ارتد عن الإسلام، بعد وفاة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 184 نبيهم صلى الله عليه وسلم لكونهم يشهدون أن لا إله إلا الله، كما في قصة الصديق مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه حتى قال: "فما هو إلا أن رأيت الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال، فعلمت أنه الحق". فيلزمك على هذا القول أنه ليس بحق، واللازم باطل، فبطل الملزوم. ويلزم أيضاً على هذا القول المختلق: أن الصحابة، رضي الله عنهم، أخطؤوا في قتال الخوارج، لأنهم يشهدون أن لا إله إلا الله، ولهم عبادات وقراءة وعلم، وأن قول النبي صلى الله عليه وسلم: " أينما لقيتموهم فاقتلوهم. لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد " 1 خطأ. ومن المعلوم: أن أولئك الخوارج، قتلهم علي رضي الله عنه بالنهروان، لم يكن خروجهم حين نزول القرآن، ولا وجود لهم في خلافة أبي بكر، وإنما خرجوا في الفتنة، بعد قتال علي ومعاوية، رضي الله عنهما، بصفين. والنبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر أنهم سيخرجون، وقال فيهم: " يحقر أحدكم صلاته عند صلاتهم، وقراءته عند قراءتهم. يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية؛ أينما لقيتموهم فاقتلوهم " 2 الحديث. ولازم هذا القول الفاسد أيضا: أنه لا يستدل أحد بآية من كتاب الله، ولا بحديث من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا رد عليه كلامه، أو صاحب هوى، فالحكم مقصور على من نزل بسببهم، وتعطلت الشرائع والأحكام والحدود؛ واللازم   1 البخاري: التوحيد (7432) , ومسلم: الزكاة (1064) , والنسائي: الزكاة (2578) , وأبو داود: السنة (4764) , وأحمد (3/68) . 2 البخاري: المناقب (3611) , ومسلم: الزكاة (1066) , والنسائي: تحريم الدم (4102) , وأبو داود: السنة (4767) , وأحمد (1/131) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 185 باطل، فبطل الملزوم. ولو أرخيت عنان القلم، لذكرت من لوازمه أموراً عظيمة، لا يقولها من يؤمن بالله ورسوله؛ وإنما غرضنا التنبيه على طريق الحق، وإبطال الباطل، وبيان أن الحق مع من يرد عند التنازع إلى كتاب الله وسنة نبيه، كما قال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} الآية [سورة النساء آية: 59] ، وقال تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} الآية [سورة الشورى آية: 10] . وهذا الخطاب من الله يتعلق بجميع من بعث إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الثقلين، من لدن بعثته إلى قيام الساعة {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [سورة الأنعام آية: 19] . وتأمل قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} إلى قوله: {وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} [سورة الممتحنة آية: 1] ، فواجه سبحانه المؤمنين بهذا الخطاب، إنذاراً وتعذيراً؛ ولا ريب أنه يتعلق بكل مؤمن بالله وكتابه ورسوله، من الذين نزل فيهم القرآن، ومن حضر نزوله، ومن بعدهم إلى قيام الساعة. وليس من الجائز في عقل من له أدنى مسكة من عقل، أن يقول: هذه الآيات نزلت في شأن حاطب، لما كتب إلى قريش يخبرهم بمسير رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقصر حكم هذا الخطاب العام، على من نزل هذا الحكم بسببه. فإذا كان لا يمكن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 186 أحد أن يقول ذلك، فهذا أيضاً لا يختص بأوائل هذه الأمة دون أواخرها، لأن خطاب القرآن والسنة يتعلق بكل فرد من الأولين والآخرين، بلا نزاع بين الأمة؛ إلا أن الرافضة نازعوا في قوله: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [سورة التوبة آية: 103] ، أن هذا الحكم خاص به، وهو باطل عند أهل السنة والجماعة؛ وهذا وإن خرج مخرج الخصوص، فهو عام، وأدلته أكثر من أن يحتملها هذا المحل. وكل خطاب في القرآن والسنة، بأمر أو نهي، فهو كذلك، لأن الله ختم الأنبياء بمحمد صلى الله عليه وسلم، وأنزل عليه الكتاب تبياناً لكل شيء، وعلى شريعته وأمته تقوم الساعة، كما في الحديث الصحيح: " لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك ". وهذه الطائفة، وكل طائفة من الثنتين والسبعين، تنتسب إلى أنها من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ولا ترى في نفسها إلا أنها هي التي على الحق دون غيرها. وقد تقدم كلام شيخ الإسلام ابن تيمة، رحمه الله تعالى، فإن نصوص الكتاب والسنة، اللذين هما دعوة محمد صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة، تناول عموم الخلق، بالعموم اللفظي والمعنوي، أو بالعموم المعنوي، وعهود الله في كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم تناول آخر هذه الأمة، كما تناولت أولها ... إلى آخر كلامه; فأعد النظر فيه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 187 ومثل هذه الآية، التي تقدم ذكرها، قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً} الآية [سورة المائدة آية: 57] ، وقال تعالى في الآيات قبلها: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} الآية [سورة المائدة آية: 51] . وهذه الآية وأمثالها، تعرف بعظم هذا الذنب: في هذه الآية، قد جعلها تعالى من موانع الهداية، ووصف الفاعل بالظلم، فسماهم الظالمين، وفي هذه السورة وغيرها قبلها وبعدها في السور، ما يدل على أن هذا ردة عن الإسلام، يظهر فيها لمن تدبر. وصرح شيخنا، رحمه الله، في رده على ابن سحيم وغيره، وسبقه إلى ذلك العلماء، كأبي جعفر ابن جرير في تفسيره، وبرهانه ظاهر في القرآن - ولله الحمد والمنة - والناس إنما يعرفون بأعمالهم، كما قال تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} الآية [سورة التوبة آية: 105] . فإذا عمل العبد بأعمال أهل الإيمان، ولم يأت بما ينافي ذلك، صار مؤمناً مع المؤمنين للآية، وإن عمل بأعمال أهل النفاق، من الكفرة والمرتدين، صار منهم ولا بد، وإن كان من أرفع الناس نسباً وأكثرهم مالاً وحسباً، شاء أم أبى. فلا يرجونّ عبد إلا ربه، ولا يخافنّ إلا ذنبه، وما أحسن ما قال الحسن البصري، رحمه الله: "ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني، ولكن ما وقر في القلوب، وصدقته الأعمال". الجزء: 8 ¦ الصفحة: 188 فإذا كنت إنما تعرف الناس بالأشخاص لا بالأعمال، فكيف تدعي معرفة التوحيد، وأنت لا تميز أهله من ضدهم، ولا تعرف ما يناقضه؟ وقد عد العلماء، رحمهم الله، - كصاحب الإقناع - من نواقض الإسلام أكثر من أربعمائة ناقض، وقد وقع أكثر الناس فيها اليوم، بسبب هذه الفتنة؛ وهذا لا يخفى على من له بصيرة ومعرفة بالتوحيد. ولو ذهبنا نعد ما وقع من ذلك لطال الكتاب، وذو البصيرة يرى ويبصر. وقد ذكر شيخنا: الإمام محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله، أن الناس في زمانه تنوعت أحوالهم في الدعوة الإسلامية، أربعة عشر نوعاً، ليس منهم يهودي ولا نصراني، ولا رافضي ولا جهمي، ولا معتزلي، وكل هذه الأنواع قد خالفوا ما جاءت به الرسل من دين الله تعالى؛ فرحمه الله وأحسن له المآب. ولعلك أن تكون من أولئك الأنواع وأنت لا تشعر. وأما قولك: وكلام الشيخين، تعني شيخ الإسلام ابن تيمية، وشيخنا محمد بن عبد الوهاب، استدللت به، وأطلقته على أناس متصفين بالإسلام ... إلخ. فالجواب أن يقال: لا ريب أن هذا الكلام لا يقوله من يعرف الإسلام ; فإن قلت: أنا أعرفه، فعرّفه لنا. وقد كنت سألتك عن تعريفه، وحقيقته ومقتضاه، ومدلوله، ولازمه وحقه، فلم تجب إلا بأن سردت هذه الجمل سرداً، كما الجزء: 8 ¦ الصفحة: 189 سردتها لك في السؤال، فما أجبت عن واحدة منها. فإذا كنت لا تعرف من الإسلام إلا ما يعرفه جهلة العوام، فدع عنك التعرض لأهل الإسلام، بالسفسطة في الكلام تصنعاً، عند من لم يعرف الشحم من الأورام. فليتك أمي تدري أنك لا تدري، ولم تكن من قبيل من لا يدري أنه لا يدري. أما سمعت الله يقول: {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ} [سورة هود آية: 113] ؟ أما علمت أن النار خلقها الله للأولين والآخرين، ممن عصى الله وترك الدين الذي بعث الله به المرسلين؟ وما يدريك أن هذه الآية قد أصيب بها أهل القصيم، في حادثتهم القريبة، نسأل الله العافية في الدنيا والآخرة؟ فإنهم فعلوا كفعل أناس فيكم، {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} [سورة الشعراء آية: 227] . وقد فرض الله تعالى البراءة من الشرك والمشركين، والكفر بهم وعداوتهم، وبغضهم وجهادهم، {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ} [سورة البقرة آية: 59] ، فوالوهم وأعانوهم، وظاهروهم واستنصروا بهم على المؤمنين، وأبغضوهم وسبوهم من أجل ذلك. وكل هذه الأمور تناقض الإسلام، كما دل عليه الكتاب والسنة في مواضع، وذكره العلماء، رحمهم الله، في الجزء: 8 ¦ الصفحة: 190 كتب التفسير والفقه وغيرها. وعند هؤلاء وأمثالهم أنهم على الدين الذي كانوا عليه لم يفارقوه، وهذا ليس بعجب، فقد بين القرآن العزيز، أن هذه الحال هي طريقة أمثالهم، كما في قوله تعالى: {فَرِيقاً هَدَى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} الآية [سورة الأعراف آية: 30] ، وقوله: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً} الآيات [سورة الزخرف آية: 36] . فإذا أردت معرفة ما فرضه الله على عباده مما تقدم ذكره، فاذكر قول الله تعالى عن أهل الكهف: {وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهاً لَقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً} الآية [سورة الكهف آية: 14] ، علموا أنه لا يصلح لهم دين إلا باعتزالهم، واعتزال معبوداتهم، ولو لم يجدوا إلا غاراً في الجبل في البرية، وهل قالوا: وأين نهاجر؟ ولا ثمَّ بلد إسلام، ولا إمام لنا ولا أعوان، كما قال هؤلاء الجهلة، الذين آثروا الدنيا على الدين. وتأمل ما قال الله في السورة بعدها عن خليله إبراهيم، إمام الحنفاء: {يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيّاً} [سورة مريم آية: 43-44] ؛ فمن كان عصياً للرحمن، فطاعته معصية لله. ثم قال: {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} الآيتين [سورة مريم آية: 48] ، وقال: {قَدْ كَانَتْ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 191 لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً} الآية [سورة الممتحنة آية: 4] . فمن تدبر هذه الآيات، عرف التوحيد الذي بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه، وعرف حال المخالفين لما عليه الرسل وأتباعهم، من الجهلة المغرورين الأخسرين. قال شيخنا الإمام، رحمه الله، في سياق دعوة النبي صلى الله عليه وسلم قريشاً إلى التوحيد، وما جرى منهم عند ذكر آلهتهم، بأنهم لا ينفعون ولا يضرون، أنهم جعلوا ذلك شتماً. فإذا عرفت هذا، عرفت أن الإنسان لا يستقيم له إسلام، ولو وحد الله وترك الشرك، إلا بعداوة المشركين، والتصريح لهم بالعداوة والبغضاء، كما قال تعالى: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} الآية [سورة المجادلة آية: 22] . فإذا فهمت هذا فهماً جيداً، عرفت أن كثيراً ممن يدعي الدين لا يعرفها. وإلا فما الذي حمل المسلمين على الصبر على ذلك العذاب، والضرب والأسر، والهجرة إلى الحبشة؟ مع أنه صلى الله عليه وسلم أرحم الناس، ولو وجد لهم رخصة أرخص لهم، كيف وقد أنزل الله عليه: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} [سورة العنكبوت آية: 10] . فإذا كانت هذه الآية فيمن وافق بلسانه إذا أوذي، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 192 فكيف بغير ذلك؟ يعني من وافقهم بالقول والفعل بلا أذى، فظاهرهم، وأعانهم، وذب عنهم وعمن وافقهم، وأنكر على من خالفهم، كما هو الواقع. وتأمل قول شيخنا، رحمه الله: إذا عرفت هذا، عرفت أن الإنسان لا يستقيم له إسلام ... إلى آخر كلامه; وقد تقدم ما يدل على هذا، وبالله التوفيق. لقد أحسن من قال من السلف: "ليس العجب ممن هلك كيف هلك، إنما العجب ممن نجا كيف نجا". فإذا كان الأمر هكذا، فلا تأمن على نفسك الارتداد عن الدين، في مثل هذه الفتنة العظيمة، خصوصاً إذا عرفت أن العلماء، رحمهم الله، ذكروا الردة من نواقض الوضوء؛ وذلك أن الرجل قد يتوضأ مريداً الصلاة، فيتكلم، أو يعمل عملاً، أو يعتقد اعتقاداً يفسد إسلامه، فينتقض وضوؤه، عياذاً بالله من مفسدات الدين، ومحبطات الأعمال. وأما اعتراضكم على من أنكر هذه الأمور التي حدثت في الدين، حين استدللت بآية النساء، فهو اعتراض من لا يعرف معناها، ولا ألم بقلبه، ولا أصغى إلى ما ينفعه. وقد ذكر شيخنا الإمام، رحمه الله، حاصل ما ذكره المفسرون في معنى هذه الآية، فإنه قال في قصة الهجرة: وفيها من الفوائد والعبر ما لا يعرفه أكثر من قرأها، ولكن مرادنا الآن مسألة من مسائلها، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 193 وهي: أن من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من لم يهاجر من غير شك في الدين، ولكن محبة الأهل والمال والوطن، فلما خرجوا إلى بدر، خرجوا معهم كارهين، فقُتل بعضهم بالرمي، والرامي لا يعرفه، فلما سمع الصحابة، رضي الله عنهم أن من القتلى فلاناً وفلاناً، شق عليهم، وقالوا: قتلنا إخواننا، فأنزل الله: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} الآيات [سورة النساء آية: 97] ؛ فمن تأمل قصتهم، وتأمل قول الصحابة: قتلنا إخواننا، فإن الله قد بين لهم وهم بمكة قبل الهجرة، أن ذلك كفر بعد الإيمان، بقوله: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ} الآيات [سورة النحل آية: 106] . وأبلغ من هذا: كلام الله فيهم، فإن الملائكة تقول لهم: فيم كنتم؟ ولم يقولوا: كيف تصديقكم؟ ولما قالوا: كنا مستضعفين في الأرض، لم يقولوا: كذبتم، مثل ما يقول الله والملائكة للمجاهد الذي يقول: قاتلت فيك حتى قتلت، فيقول الله: كذبت، بل قاتلت ليقال جريء; وأما هؤلاء فلم يكذبوهم، بل أجابوهم: {قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} [سورة النساء آية: 97] . ويزيد ذلك إيضاحاً للعارف والجاهل: الآية التي بعدها، وهي قوله: {إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ} الآية [سورة النساء آية: 98] ، وهذا واضح جداً: أن هؤلاء هم الذين الجزء: 8 ¦ الصفحة: 194 خرجوا من الوعيد، فلم يبق شبهة، لكن لمن طلب العلم، بخلاف من لم يطلبه؛ بل قال الله فيهم {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ} [سورة البقرة آية: 18] . ومن فهم هذه المواضع، فهم كلام الحسن، يعني: الذي قدمت ذكره. فتأمل كلام شيخنا، رحمه الله، وانظر ما وقع في هذه الفتنة من الاستهزاء بالدين والمسلمين، وغير ذلك مما لا يخفى على كل عاقل، أنه عداوة لله ودينه، وعداوة لمن ثبت على الدين وعادى المشركين، وانظر ما الذي أوجب تلك المسبة والبغضاء لأهل الإسلام المتمسكين بالتوحيد، وقد كانوا قبل ذلك مجتمعين على الإسلام، متناصرين بالانتساب. وأما قول المعترض: واستدللت أيضاً بقوله: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ} الآيات [سورة التوبة آية: 24] ، هذه نزلت في أناس تخلفوا عن الجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ... إلخ. فيقال: من أين لك هذه الدعوى؟ وفي أي كتاب وجدتها؟ وحقيقة قولك هذا: الكذب، والقول على الله بلا علم، وهو من أعظم المحرمات، وهو أصل كل باطل. أما تدبر أول الآيات وسياقها، ولو كنت تعرف التدبر لعقلت عن الله خطابه، وهديت إلى فهم مراده، لكنك أخذت الأمر بتعسف من لا يبالي، ولا عنده معرفة شيء سوى تغطية الحق بالجحود والتكذيب. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 195 أما علمت أن الكفر بآيات الله، إنما هو جحودها، والإلحاد في معناها، وقد كفّر الله من آمن ببعض الكتاب وكفر ببعض. فإذا أردت الاطلاع على ما قد جحدت من معنى هذه الآيات، فخذ كلام أئمة التفسير المشهور، عند كل من هو به خبير، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْأِيمَانِ} الآية [سورة التوبة آية: 23] ، قال مجاهد بن جبر - صاحب ابن عباس رضي الله عنه -: نزلت في قصة العباس وطلحة، وامتناعهما من الهجرة. قال الكلبي عن ابن عباس، قال: "لما أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بالهجرة إلى المدينة، فمنهم من يتعلق به أهله وولده ويقولون: ننشدك بالله أن لا تضيعنا؛ فيرق عليهم ويدع الهجرة. فأنزل الله عز وجل هذه الآية". وقوله: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ} [سورة التوبة آية: 23] ، فيطلعهم على غرة المسلمين، ويؤثر المقام معهم على الهجرة والجهاد، كما هو حال الكثير في هذه الفتنة، {فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [سورة التوبة آية: 23] . ثم قال: {قُلْ} يا محمد لهؤلاء المتخلفين عن الهجرة: {إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ} الآيات [سورة التوبة آية: 24] ، وذلك أنه لما نزلت الآية الأولى، قال الذين أسلموا ولم يهاجروا: إن نحن هاجرنا ضاعت أموالنا، وذهبت تجارتنا، وخربت دارنا، وقطعنا أرحامنا، فأنزل الله: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ} الآية. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 196 فإذا كانت هذه الآيات، نزلت فيمن لم يهاجر ويجاهد، فقد أصابكم حكمهم، بترككم الهجرة والجهاد، وقد قال صلى الله عليه وسلم فيمن توقف عن مبايعته على الهجرة والجهاد: " فإذا كان لا هجرة ولا جهاد، فبم ندخل الجنة "؛ فحصل لكم بترك الفرضين ما حصل من المتابعة والموافقة، حتى عكستم الحكم، فعاديتم من عادى المشركين، ورمتم هدم الإسلام وحقوقه وواجباته، فلم يبق بأيديكم إلا استحسان هذه الحالة، ورد الحق، وغمط الناس ممن أقام على الدين، وعادى المشركين، {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} [سورة الشعراء آية: 227] . وما ذكرت من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر " 1، فهو حديث صحيح، وهو حجة عليك لا لك. فانظر من الذي يسب المسلمين، ويتولى المشركين، ويعادي من سبهم؛ فإن كنا قد سببنا مسلماً يؤمن بالله واليوم الآخر، ويوالي أولياءه، ويعادي أعداءه، وأنتم تذبون عن كل مسلم هذا وصفه، وتسبون من سبه، فأنتم أسعد منا بالدليل; وإن كان هذا وصفكم، فما احتججتم به فهو حجة خصمكم، وهذا لا يشك فيه عاقل أصلاً، أنا لا نسب من ثبت على الإسلام، وأما أنتم فأكثرتم سبابه وتضليله، والله المستعان.   1 البخاري: الإيمان (48) , ومسلم: الإيمان (64) , والترمذي: البر والصلة (1983) والإيمان (2635, والنسائي: تحريم الدم (4108, 4111, 4112) , وابن ماجة: المقدمة (69) والفتن (3939) , وأحمد (1/385, 1/411, 1/433, 1/454) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 197 وأما ما ذكرت من سياقة قول ابن كثير: أن الهجرة لا تجب إلا على من لا يقدر على إظهار دينه ... إلخ، فهذا معنى ما ذكره العلماء في كتبهم، وهذا لا نزاع فيه عند أكثر العلماء؛ ولكن عرفنا من لم تجب عليه الهجرة بإظهار دينه وهو آمن بذلك، معروف فيكم لم يستهزئ بأهل الإسلام، أو لم يركن إلى من استهزأ بهم، ويعين أهل الباطل بلسانه; فيا ليت شعري من هو الذي فيكم يظهر دينه؟ وقد كنت أسأل عمن كنت أرى لهم معرفة، فما أخبرني أحد عنهم بما يسرني في ذلك، وهذه فتنة عمت فأعمت وأصمت؛ فإنا لله وإنا إليه راجعون. فإن كنت ترى أن اعتراضك على من استدل بالآيات والأحاديث على تحريم موالاة المشركين، إظهار للدين، فالمصيبة أعظم، ولا أخالك تسلم من ذلك لقوله: {وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} [سورة الأنعام آية: 9] ؛ وأنى لك بالسلامة وقد زلت بك القدم. ثم، إن ما ذكرته عن ابن كثير، يناقض ما كنت تدعيه من أنكم على الإسلام والتوحيد؛ فإذا كنتم على الإسلام والتوحيد حقيقة، فلأي شيء يقال: تجب الهجرة أو لا تجب؟ فلا محل لقول ابن كثير وغيره، هذا إنما يذكر في حال أهل بلد ليسوا على الإسلام، وفيهم من يظهر دينه باعتزالهم في مجالسهم وأسواقهم ومجامعهم، ويظهر البراءة منهم ومن أعمالهم، ويصبر على أذاهم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 198 وأما قولك: ولا وجه لاستدلالك علينا بهذه الآية، فإن هذه الآية جهادية مع إمام متبع، وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإذا كان هناك إمام متبع، فعرّفنا لعلنا نتبع. فأقول: قد بينا خطابك في قولك: أن الآية جهادية، وأنه قول على الله وفي كتابه بلا علم، وقد قال الله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [سورة الأعراف آية: 33] . ويقال: بأي كتاب، أم بآية حجة أن الجهاد لا يجب إلا مع إمام متبع؟! هذا من الفرية في الدين، والعدول عن سبيل المؤمنين؛ والأدلة على إبطال هذا القول أشهر من أن تذكر، من ذلك عموم الأمر بالجهاد، والترغيب فيه، والوعيد في تركه، قال تعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ} [سورة البقرة آية: 251] ، وقال في سورة الحج: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ} الآية [سورة الحج آية: 40] . وكل من قام بالجهاد في سبيل الله، فقد أطاع الله وأدى ما فرضه الله، ولا يكون الإمام إماماً إلا بالجهاد، لأنه لا يكون جهاد إلا بإمام، والحق عكس ما قلته يا رجل، وقد قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى} الآية [سورة سبأ آية: 46] ، وقال: {وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 199 لِنَفْسِهِ} [سورة العنكبوت آية: 6] . وفي الحديث: "لا تزال طائفة" الحديث، والطائفة، بحمد الله، موجودة مجتمعة على الحق، يجاهدون في سبيل الله، لا يخافون لومة لائم، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} إلى قوله: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} الآيات [سورة المائدة آية: 54] ، أي: واسع الفضل والعطاء، عليم بمن يصلح للجهاد. والعبر والأدلة على بطلان ما ألفته، كثير في الكتاب، والسنة، والسير، والأخبار، وأقوال أهل العلم بالأدلة والآثار، لا تكاد تخفى على البليد إذا علم بقصة أبي بصير: " لما جاء مهاجراً فطلبت قريش من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرده إليهم، بالشرط الذي كان بينهم في صلح الحديبية، فانفلت منهم حين قتل المشركيْن، اللذين أتيا في طلبه. فرجع إلى الساحل لما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ويل أمه مسعر حرب، لو كان معه غيره " 1، فتعرض لعير قريش - إذا أقبلت من الشام - يأخذ ويقتل، فاستقل بحربهم دون رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنهم كانوا معه في صلح - القصة بطولها -. فهل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أخطأتم في قتال قريش،   1 البخاري: الشروط (2734) , وأبو داود: الجهاد (2765) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 200 لأنكم لستم مع إمام؟ سبحان الله ما أعظم مضرة الجهل على أهله؟ عياذاً بالله من معارضة الحق بالجهل والباطل، قال الله تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} الآية [سورة الشورى آية: 13] . ومعلوم: أن الدين لا يقوم إلا بالجهاد، ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالجهاد مع كل بر وفاجر، تفويتاً لأدنى المصلحتين لتحصيل أعلاهما، وارتكاباً لأخف الضررين لدفع أعلاهما؛ فإن ما يدفع بالجهاد من فساد الدين، أعظم من فجور الفاجر، لأن بالجهاد يظهر الدين ويقوى العمل به وبأحكامه، ويندفع الشرك وأهله حتى تكون الغلبة للمسلمين، والظهور لهم على الكافرين، وتندفع لسورة أهل الباطل، فإنهم لو ظهروا لأفسدوا في الأرض بالشرك والظلم والفساد، وتعطيل الشرائع والبغي في الأرض. ويحصل بالجهاد مع الفاجر، من مصالح الدين ما لا يحصى، كما قال صلى الله عليه وسلم: " إن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر، وبأقوام لا خلاق لهم "؛ ولو ترك الجهاد معه لفجوره لضعف الجهاد، وحصلت الفرقة والتخاذل، فيقوى بذلك أهل الشرك والباطل، الذين غرضهم الفساد وذهاب الدين. فإذا ابتلي الناس بمن لا بصيرة له ولا علم ولا حلم، ونزل المشركين وأهل الفساد من قلبه منزلة أهل الإسلام، لطمع يرجوه منهم أو من أعوانهم، وأعانهم على ظلمهم، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 201 وصدقهم في كذبهم، فإنه لا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً. ويقال أيضا: كل من أقام بإزاء العدو وعاداه، واجتهد في دفعه، فقد جاهد ولا بد، وكل طائفة تصادم عدو الله، فلا بد أن يكون لها أئمة ترجع إلى أقوالهم وتدبيرهم؛ وأحق الناس بالإمامة من أقام الدين الأمثل فالأمثل، كما هو الواقع، فإن تابعه الناس أدوا الواجب، وحصل التعاون على البر والتقوى، وقوي أمر الجهاد، وإن لم يتابعوه أثموا إثماً كبيراً بخذلانهم الإسلام. وأما القائم به، فكلما قلت أعوانه وأنصاره، صار أعظم لأجره، كما دل على ذلك الكتاب والسنة والإجماع، كما قال تعالى: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} [سورة الحج آية: 78] ، وقال: {لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} الآية [ٍ سورة العنكبوت آية: 69] ، وقال: {أُذِنَ لِلَّذِينَ} الآية [سورة الحج آية: 39] ، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ} الآية [سورة المائدة آية: 54] ، وقال: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} الآية [سورة التوبة آية: 5] ، وقال: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ} الآية [سورة البقرة آية: 249] ، وقال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ} الآية [سورة الأنفال آية: 65] ، وقال: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ} الآية [سورة البقرة آية: 216] . ولا ريب أن فرض الجهاد باق إلى يوم القيامة، والمخاطب به المؤمنون; فإذا كان هناك طائفة مجتمعة لها الجزء: 8 ¦ الصفحة: 202 منعة، وجب عليها أن تجاهد في سبيل الله بما تقدر عليه، لا يسقط عنها فرضه بحال، ولا عن جميع الطوائف، لما ذكرت من الآيات. وقد تقدم الحديث: " لا تزال طائفة " الحديث. فليس في الكتاب والسنة ما يدل على أن الجهاد يسقط في حال دون حال، ولا يجب على أحد دون أحد، إلا ما استثنى في سورة براءة. وتأمل قوله: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إ} [سورة الحج آية: 40] ، وقوله: {وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا} الآية [سورة المائدة آية: 56] ؛ وكل يفيد العموم بلا تخصيص. فأين تذهب عقولكم عن هذا القرآن؟ وقد عرفت مما تقدم: أن خطاب الله تعالى يتعلق بكل مكلف، من الأولين والآخرين، وأن في القرآن خطاباً ببعض الشرائع، خرج مخرج الخصوص وأريد به العموم، كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ} الآية [سورة التوبة آية: 73] ، وقد تقدم ما يشير إلى هذا بحمد الله، وذلك معلوم عند العلماء، بل عند كل من له ممارسة في العلم والأحكام، فلهذا اقتصرنا على هذا القول، وبالله التوفيق. ثم بعد الفراغ، أظهر الله إماماً يجاهد في سبيل الله، ويدعوهم إلى الإسلام والاجتماع عليه، فتمت النعمة علينا، وعلى أهل نواحينا، بما أعطانا من النصر، وذهاب الشرك والمشركين، والفساد والمفسدين. نسأل الله أن يوزعنا شكر ما أنعم به علينا، من نعمة الإسلام، والله ولي حميد، وهو الجزء: 8 ¦ الصفحة: 203 حسبنا ونعم الوكيل، وصلى الله على أشرف المرسلين، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً. [الرد على بعض الناكبين المعرضين عن توحيد رب العالمين] وله أيضاً، قدس الله روحه ونور ضريحه: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وبه العون على إبطال زخرف الملحدين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا ند ولا معين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، الصادق الأمين، وصلى الله عليه وعلى آله وصحبه، الذين يحبهم ويحبونه، أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين، وعلى أتباعهم الذين شهدوا لله بالوحدانية، ولرسوله بالبلاغ المبين، وسلم تسليماً. أما بعد، فاعلم أيها الطالب للهدى، المتباعد عن أسباب الضلال والردى، أني رأيت ورقة لبعض الناكبين عن الحق المبين، المعرضين عن توحيد رب العالمين، فإذا هي مفصحة عن ضلال مفتريها، معلنة بفساد طوية منشيها ومتلقيها، مع تناقضها وبشاعة ما فيها؛ فتارة تراه سائلاً مسترشداً، وتارة مفتياً مضللاً مفنداً، لا يدري ولا يدري أنه لا يدري. فعزمت على أن أعرض ورقته على بعض أصحابنا الذين لهم ملكة في معرفة العلوم، ولهم بصر ناقد، وفهم الجزء: 8 ¦ الصفحة: 204 مستقيم، في تمييز الصحيح من السقيم، لأكتفى بهم في رد ذلك الزيغ والضلال، والكذب المحال، على طريق التفصيل تارة والإجمال. وهذا الرجل وإن كان من أجهل العوام، فإنه يحاول بسجعه نقض عرى الإسلام. ثم إني عزمت على نقض ما بناه من ذلك الباطل، على استفراغ وسع واستمهال، وذلك أولى من الترك والإهمال، و {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [سورة الأعراف آية: 43] . فأخذت في رد قوله مستعيناً بربنا العظيم، مستعيذاً بالله من شر متبعي خطوات الشيطان الرجيم، وحسبنا الله ونعم الوكيل على من صد الناس عن سواء السبيل. قال محمد بن نصر: حدثنا إسحاق، أنبأنا عبد الرحمن بن مهدي، عن حماد بن زيد، عن عاصم بن بهدلة، عن أبي وائل، عن عبد الله قال: " خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطاً، ثم قال: هذا سبيل الله. ثم خط خطوطاً عن يمينه وشماله، وقال: هذه سبل، وعلى كل سبيل منها شيطان يدعو إليه. وقرأ {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ} 1") الآية. قلت: وهنا بلية ينبغي التنبيه عليها، قبل الشروع في المقصود، وهي: أن الكثير من أهل هذه الأزمنة وقبلها، قد غرهم من أنفسهم أمران:   1 أحمد (1/435) , والدارمي: المقدمة (202) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 205 أحدهما: أنهم إن أحسنوا القول رأوه كافياً، ولو ضيعوا العمل وارتكبوا النقيض، وما عرفوا أقوال الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم في الخوارج: " يقولون من قول خير البرية، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية " 1، وهذا كثير في الكتاب والسنة، يذم ويمقت من يقول ولا يفعل، ومن يخالف قوله فعله، كقوله تعالى: {كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [سورة الصف آية: 3] ، وكقوله تعالى: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [سورة البقرة آية: 14] . وقد ورد: "ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني، ولكن ما وقر في القلوب، وصدقته الأعمال". الأمر الثاني: أن الأكثر ظنوا أن انتسابهم إلى الإسلام، ونطقهم بالشهادتين، عاصم للدم والمال، وإن لم يعملوا بمدلول لا إله إلا الله، من نفي الشرك، وتركه، وإخلاص العبادة بجميع أنواعها لله تعالى، كالدعاء، والرجاء، والتوكل، وغير ذلك; ولم يعرفوا معنى قول الله تعالى: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [سورة الزمر آية: 3-4] ، وقوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [سورة البينة آية: 5] ، وقوله: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [سورة التوبة آية: 5] .   1 البخاري: المناقب (3610) , ومسلم: الزكاة (1064) , والنسائي: الزكاة (2578) وتحريم الدم (4101) , وأبو داود: السنة (4764) , وأحمد (3/4, 3/33, 3/56, 3/60, 3/65, 3/68, 3/73) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 206 فإن قوله: {مُخْلِصاً} : حال من ضمير الفاعل المستتر، في قوله: {فَاعْبُدِ اللَّهَ} ، أي: حالة كونك مخلصاً له الأعمال الباطنة والظاهرة، وكذلك في قوله: {مُخْلِصِينَ} : حالة من الضمير البارز في قوله: {إِلَّا لِيَعْبُدُوا} ، أي: حالة كونهم مخلصين له إرادتهم وأعمالهم، دون كل ما سواه؛ ولهذا قال: {حُنَفَاءَ} ، والحنيف هو: الموحد المقبل على الله، المعرض عن كل ما سواه؛ وهذا هو التوحيد الذي خلقوا له، وبعث الله به رسله وأنزل به كتبه. يقرر ذلك: ما أخبر به عن قوم هود، لما قال لهم: {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ} [سورة الأعراف آية: 65] ، فأجابوا ذلك بقولهم: {أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} [سورة الأعراف آية: 70] . وفي قصة صالح، لما قال لقومه: {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [سورة الأعراف آية: 59] ، {قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوّاً قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ} [سورة هود آية: 62] ، وكما قال قوم شعيب: {يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} الآية [سورة هود آية: 87] . فلا إله إلا الله، ما أشبه حال الأكثرين من هذه الأمة بحال تلك الأمم، لما دعوا إلى هذا التوحيد، الذي هو أصل دين الإسلام، وهو دين الله الذي لا يقبل من أحد ديناً سواه، وبه أرسل جميع الرسل، وأنزل به جميع الكتب، قال الجزء: 8 ¦ الصفحة: 207 تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [سورة الأنبياء آية: 25] ، وقال تعالى: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} الآية [سورة هود آية: 1-2] ، إلى أمثال هذه الآيات. وقد صح: أن رسول الله لما قال لقومه: " قولوا: لا إله إلا الله، تفلحوا " 1، قالوا: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [سورة ص آية: 5] ، كما هو مذكور في القرآن العزيز. فأي دليل أصرح وأوضح وأبين من هذه الأدلة؟ على أن الرسل من أولهم إلى آخرهم، إنما بعثوا بإخلاص العبادة لله تعالى، والنهي عن عبادة كل ما سواه؛ وهذا هو التوحيد الذي جحدته الأمم، وهو الذي خلق الله له الخليقة من الثقلين، كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [سورة الذاريات آية: 56] ، قال علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، في معنى هذه الآية: "إلا لآمرهم أن يوحدون". وقد عرفت: أن هذا هو أصل الدين، الذي هو أساس الملة، قال تعالى: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ} الآية [سورة الروم آية: 42-43] ، وقال تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [سورة الزخرف آية: 26-28] ، أي: لا إله إلا الله. والخليل عليه   1 أحمد (3/492) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 208 السلام أتى بمضمون هذه الكلمة، بقوله: {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي} [سورة الزخرف آية: 26-27] . وأبدى سبحانه وأعاد في هذا الكتاب المجيد، في النهي عن الشرك المنافي لهذا التوحيد، وأفصح عن كفر فاعله، وأسجل عليه بالوعيد الشديد، فقال: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} [سورة الأحقاف آية: 5] إلى قوله: {وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [سورة الأحقاف آية: 6] ، وقال تعالى: {إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [سورة فاطر آية: 14] ، وقال تعالى: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ} [سورة يونس آية: 106] ، وقال تعالى: {فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [سورة الشعراء آية: 213-214] . وقال تعالى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [سورة المؤمنون آية: 117] ، وقال تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ} [سورة الأعراف آية: 37] ، وقوله: {ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً} [سورة غافر آية: 73-74] ، وغير ذلك الجزء: 8 ¦ الصفحة: 209 من الآيات. فأي بيان أوضح من هذا، في تعريف الشرك الذي حرمه الله، وأخبر أنه لا يغفره؟ وهذا لا يختص بالدعاء، بل كل نوع من أنواع العبادة، صرفه لغير الله شرك عظيم. والتحقيق: أن الدعاء نوعان: دعاء مسألة، ودعاء عبادة، وكلا النوعين لا يجوز صرفه إلا لله؛ وصرفه لغير الله شرك، كما سبق بيانه في الآيات المحكمات، كما قال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [سورة الأنعام آية: 162-163] ، والصلاة هنا تشمل الصلاة الشرعية، واللغوية التي هي الدعاء، كما هو مذكور في كتب التفسير، وفي حديث ابن عباس: " وإذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله " 1، وفيه معنى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [سورة الفاتحة آية: 5] ، وقال تعالى: {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ} [سورة العنكبوت آية: 17] ، وهذا من عطف العام على الخاص، وقال: {فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} [سورة النحل آية: 51] ، {فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} [سورة العنكبوت آية: 56] ، {وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ} [سورة البقرة آية: 41] ، كما قال تعالى: {وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [سورة الشرح آية: 8] ، وقال: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [سورة الكوثر آية: 2] ، وتقديم المعمول في هذه الآيات، يفيد الحصر، أي: لا غيري. وقال: {فَلا تَخْشَوُا   1 الترمذي: صفة القيامة والرقائق والورع (2516) , وأحمد (1/303, 1/307) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 210 النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} [سورة المائدة آية: 44] ، وقال: {فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ} [سورة آل عمران آية: 175] . وهذه الآيات وما في معناها تدل على أن الله تعالى إنما أراد من عباده أن يوحدوه بأعمالهم، وأن لا يجعلوا له شريكاً في العبادة، كما قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} [سورة الكهف آية: 110] ، وقال: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [سورة طه آية: 14] ، وقال موسى عليه السلام لبني إسرائيل، لما عبدوا العجل: {إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً} [سورة طه آية: 98] ، وقال تعالى: {إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ} [سورة الصافات آية: 4-5] . وقال: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ} الآية [سورة فاطر آية: 40] ، وقال: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} [سورة الجن آية: 18] ، وقال تعالى: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [سورة الأنعام آية: 121] ، وهذا هو الشرك في الطاعة، كما قال تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} [سورة التوبة آية: 31] ، فذكر في هذه الآية الشرك الجزء: 8 ¦ الصفحة: 211 في الطاعة، والشرك في الألوهية، وهذا بين من حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه. وأما الربوبية، فقد أقر بها أكثر المشركين من الأمم، أعداء الرسل؛ وهذا مبين في قصص الأنبياء، كما في سورة الأعراف، وهود، والشعراء، وغير ذلك. والخصومة بينهم وبين الأمم، إنما هي فيما بعثوا به إليهم من النهي عن الشرك في العبادة، كالمحبة والدعاء، والتوكل والرجاء، وغير ذلك، وعن الشرك في الطاعة، وهو: إيثار ما عليه الأسلاف، والاعتماد على ما قالوه، مما يخالف شرع الله وأحكامه. وعن ابن مسعود رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من مات وهو يدعو لله نداً، دخل النار " 1، رواه البخاري. ولمسلم عن أبي مالك الأشجعي، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من قال: لا إله إلا الله، وكفر بما يعبد من دون الله، حرم ماله ودمه؛ وحسابه على الله " 2. قال شيخنا، رحمه الله تعالى: وهذا من أعظم ما يبين معنى: لا إله إلا الله، فإنه لم يجعل التلفظ بها عاصماً للمال والدم، بل ولا معرفة معناها مع لفظها، بل ولا الإقرار بذلك، بل ولا كونه لا يدعو إلا الله وحده، حتى يضيف إلى ذلك: الكفر بما يعبد من دون الله؛ فإن شك أو تردد، لم يحرم ماله ودمه، فيالها من مسألة ما أجلها! وياله من بيان ما   1 البخاري: تفسير القرآن (4497) , وأحمد (1/374, 1/464) . 2 مسلم: الإيمان (23) , وأحمد (3/472, 6/394) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 212 أوضحه! وحجة ما أقطعها للمنازع! وكلام العلماء في بيان هذا التوحيد وتقريره، وبيان ما وقع فيه الأكثر من الشرك وعبادة الأوثان، أكثر من أن يحصى. ونذكر طرفاً منه: قال شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله تعالى، في الرسالة السنية، لما ذكر الخوارج ومروقهم من الدين: فإذا كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه من انتسب إلى الإسلام ومرق منه، مع عبادته العظيمة، فليعلم: أن المنتسب إلى الإسلام في هذه الأزمان، قد يمرق أيضاً، وذلك بأسباب، منها: الغلو الذي ذمه الله في كتابه، حيث قال: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} الآية [سورة النساء آية: 171] ، و"علي رضي الله عنه حرق الغالية، فأمر بأخاديد خدت لهم عند باب كندة، فقذفهم فيها"، واتفق الصحابة على قتلهم، وكذلك الغلو في بعض المشايخ، بل الغلو في علي بن أبي طالب، بل الغلو في المسيح ونحوه. فكل من غلا في نبي، أو رجل صالح، وجعل فيه نوعاً من الإلهية، مثل أن يقول: يا سيدي فلان انصرني، أو أغثني، أو ارزقني، أو اجبرني، أو أنا في حسبك، ونحو هذه الأقوال، فكل هذا شرك وضلال، يستتاب صاحبه، فإن تاب وإلا قُتل، فإن الله تعال: إنما أرسل الرسل ليعبدوه وحده، لا يجعلوا معه إلهاً آخر. والذين يدعون مع الله آلهة أخرى، مثل المسيح، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 213 والملائكة، والأصنام، لم يكونوا يعتقدون أنها تخلق الخلائق، أو تنزل المطر وتنبت النبات، وإنما كانوا يعبدونهم، أو يعبدون قبورهم، أو صورهم، ويقولون: ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى، ويقولون: هؤلاء شفعاؤنا عند الله؛ فبعث الله رسوله ينهى أن يدعى أحد من دونه، لا دعاء عبادة، ولا دعاء استعانة، فقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} [سورة الإسراء آية: 56-57] . وقال طائفة من السلف: كان أقوام يدعون المسيح، وعزيراً، والملائكة - إلى أن قال - وعبادة الله وحده لا شريك له هي أصل الدين، وهي التوحيد الذي بعث الله به الرسل، وأنزل به الكتب، قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [سورة النحل آية: 36] ، وقال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [سورة الأنبياء آية: 25] . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحقق التوحيد، ويعلّمه أمته، حتى قال له رجل: ما شاء الله وشئت، قال: " أجعلتني لله نداً، بل ما شاء الله وحده" 1 وقال: " لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " 2، يحذر ما فعلوا وقال: " اللهم لا تجعل قبري وثناً يُعبد " 3، وقال: " لا تتخذوا قبري   1 أحمد (1/214) . 2 البخاري: الجنائز (1390) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (531) , والنسائي: المساجد (703) , وأحمد (1/218, 6/34, 6/80, 6/121, 6/255) , والدارمي: الصلاة (1403) . 3 مالك: النداء للصلاة (416) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 214 عيداً، ولا بيوتكم قبوراً، وصلوا عليّ؛ فإن صلاتكم تبلغني حيث ما كنتم " 1، ولهذا اتفق أئمة الإسلام، على أنه لا يشرع بناء المساجد على القبور، ولا الصلاة عندها، وذلك لأن من أكبر أسباب عبادة الأوثان، كان تعظيم القبور. واتفق العلماء- من السلف أهل السنة والجماعة - أنه من سلم على النبي صلى الله عليه وسلم عند قبره، أنه لا يتمسح بحجرته ولا يقبّلها، لأنه إنما يكون لأركان بيت الله، فلا يشبه بيت المخلوق ببيت الخالق؛ كل هذا لتحقيق التوحيد، الذي هو أصل الدين ورأسه، الذي لا يقبل الله عملاً إلا به، ولا يغفر لمن تركه، كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً} [سورة النساء آية: 48] . ولهذا كانت كلمة التوحيد أفضل الكلام وأعظمه، فأعظم آية في القرآن: آية الكرسي: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [سورة البقرة آية: 255] ، وقال صلى الله عليه وسلم: "من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله، دخل الجنة "، والإله هو: الذي يألهه القلب، عبادة له، واستعانة به، ورجاء له، ومحبة، وخشية، وإجلالاً. انتهى. وقال العلامة ابن القيم: وأما الشرك فهو نوعان: أكبر وأصغر؛ فالأكبر لا يغفره الله إلا بالتوبه منه، وهو أن يتخذ من دون الله نداً، يحبه كما يحب الله، بل أكثرهم يحبون   1 أبو داود: المناسك (2042) , وأحمد (2/367) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 215 آلهتهم أعظم من محبة الله، ويغضبون لمنتقصي معبوديهم من المشائخ، أعظم مما يغضبون إذا انتقص أحد رب العالمين؛ وقد شاهدنا هذا نحن وغيرنا منهم جهرة، ويزعمون أنه باب حاجته إلى الله، وشفيعه عنده، وهكذا كان عباد الأصنام سواء، وهذا القدر هو الذي قام بقلوبهم، وتوارثه المشركون بحسب اختلاف آلهتهم من الحجر والبشر. قال الله تعالى حاكياً عن أسلاف هؤلاء: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} إلى قوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} [سورة الزمر آية: 3] . وما أعز من يتخلص من هذا! بل ما أعز من لا يعادي من أنكره! والذي قام بقلوب هؤلاء المشركين، وسلفهم: أن آلهتهم تشفع لهم عند الله، وهذا عين الشرك؛ وقد أنكر الله عليهم ذلك في كتابه، وأبطله، وأخبر أن الشفاعة كلها له، وذكر قول الله تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} الآية [سورة سبأ آية: 22-23] . ثم قال: والقرآن مملوء من أمثالها، ولكن أكثر الناس لا يشعرون بدخول الواقع تحته، ويظنه في قوم قد خلوا ولم يعقبوا وارثاً؛ وهذا هو الذي يحول بين القلب وفهم القرآن، كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "إنما تنقض عرى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 216 الإسلام عروة عروة، إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية" وهذا لأنه لم يعرف الشرك، وما عابه القرآن وذمه، فوقع فيه وأقره، وهو لا يعرف أنه الذي كان عليه أهل الجاهلية، فتنقض بذلك عرى الإسلام، ويعود المعروف منكراً، والمنكر معروفاً، والبدعة سنة، والسنة بدعة، ويكفر الرجل بمحض الإيمان وتجريد التوحيد، ويبدع بمتابعة الرسول صلى الله عليه وسلم ومفارقة الأهواء والبدع. ومن له بصيرة وقلب حي، يرى ذلك عياناً، والله المستعان. ثم قال: وأما الأصغر: فكيسير الرياء، والحلف بغير الله، وقوله: هذا من الله ومنك، وأنا بالله وبك، وما لي إلا الله وأنت، وأنا متوكل على الله وعليك، ولولا أنت لم يكن كذا وكذا. وقد يكون شركاً أكبر بحسب حال قائله ومقصده. قلت: فلما قال: وقد يكون أكبر، أخذ يبين أنواع الأكبر، فقال: ومن أنواع النذر لغير الله، والتوكل على غير الله، والعمل لغير الله، والإنابة لغير الله، والخضوع والذل لغير الله، وابتغاء الرزق من غيره، وإضافة نعمه إلى غيره. ومن أنواعه: طلب الحوائج من الموتى، والاستغاثة بهم، والتوجه إليهم؛ وهذا أصل شرك العالم، فإن الميت قد انقطع عمله، وهو لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً، فضلاً لمن استغاث به، وسأله أن يشفع له عند الله؛ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 217 وهذا من جهله بالشافع والمشفوع عنده، فإن الله تعالى لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، والله لم يجعل سؤال غيره سبباً لإذنه، وإنما السبب لإذنه كمال التوحيد، فجاء هذا المشرك بسبب يمنع الإذن. والميت محتاج إلى من يدعو له، كما أوصانا النبي صلى الله عليه وسلم إذا زرنا قبور المسلمين، أن نترحم عليهم ونسأل لهم العافية والمغفرة، فعكس المشركون هذا، وزاروهم زيارة العبادة، وجعلوا قبورهم أوثاناً تُعبد؛ فجمعوا بين الشرك بالمعبود، وتغيير دينه، ومعاداة أهل التوحيد، ونسبتهم إلى التنقص بالأموات. وهم قد تنقصوا الخالق بالشرك، وأولياءه الموحدين بذمهم، ومعاداتهم، وتنقصوا من أشركوا به غاية التنقص، إذ ظنوا أنهم راضون منهم بهذا، وأنهم أمروهم؛ وهؤلاء أعداء الرسل في كل زمان ومكان، وما أكثر المستجيبين لهم. ولله در خليله إبراهيم، حيث يقول: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَام َرَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ} [سورة إبراهيم آية: 35-36] . وما نجا من شرك هذا الشرك الأكبر، إلا من جود توحيده لله، وعادى المشركين في الله، وتقرب بمقتهم إلى الله. انتهى. فرحمة الله ومغفرته ومرضاته على هذا الشيخ، ما أحسن بيانه وأوضحه! فقد صرح بأن هذا هو الشرك الأكبر، فبطل ما افتراه عليه المشركون. وهذا الذي ذكره، هو الذي عمت الجزء: 8 ¦ الصفحة: 218 به البلوى في كثير من الأمصار، في هذه الأعصار، وهو الشرك الأكبر، والذنب الذي لا يُغفر، إلا أن يتاب منه قبل الوفاة. وقال، رحمه الله، في الكافية الشافية شعراً: والشرك فهو توسل مقصوده الز ... لفى من الرب العظيم الشانِ بعبادة المخلوق من حجر ومن ... بشر ومن قبر ومن أوثانِ والشرك فاحذره فشرك ظاهر ... ذا القسم ليس بقابل الغفرانِ وهو اتخاذ الند للرحمن أيـ ... ـاً كان من حجر ومن إنسانِ يدعوه أو يرجوه ثم يخافه ... ويحبه كمحبة الديان قال في الإقناع: قال شيخ الإسلام: من دعا علي بن أبي طالب فهو كافر، ومن شك في كفره فهو كافر. وقال أيضاً: من جعل بينه وبين الله وسائط، يدعوهم ويسألهم، ويتوكل عليهم، كفر إجماعاً. وقال العلامة في الكافية أيضاً: فتوسّط الشفعاء والشركاء والظـ ... ـهراء أمر بيّن البطلان ما فيه إلا محض تشبيه لهم ... بالله وهو فأقبح البهتان وقال بعض شيوخنا، رحمهم الله تعالى: نفوس الورى إلا القليل ركونها ... إلى الغي لا يلفى لدين حنينها فسل ربك التثبيت أي موحد ... فأنت على السمحاء باد يقينها وغيرك في بيدا الضلالة سائرٌ ... وليس له إلا القبور يدينها الجزء: 8 ¦ الصفحة: 219 وقال محمد بن إسماعيل، الأمير الصنعاني، رحمه الله: الأصل الرابع: أن المشركين الذين بعث الله الرسل إليهم، مقرون أن الله خلقهم: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} [سورة الزخرف آية: 9] ، وبأنه الرازق الذي يخرج الحي من الميت، ويخرج الميت من الحي، وأنه الذي يدبر الأمر من السماء إلى الأرض، وأنه الذي يملك السمع والأبصار والأفئدة، {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} [سورة يونس آية: 31] ، {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ?قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِسَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ?قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} [سورة المؤمنون آية: 84-89] . وهذا فرعون مع علوه في كفره، ودعواه أقبح دعوى، ونطقه بالكلمة الشنعاء، يقول الله في حقه، حاكياً عن موسى عليه السلام: {قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ} [سورة الإسراء آية: 102] ، وقال إبليس: {إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} [سورة المائدة آية: 28] ، وقال: {رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي} [سورة الحجر آية: 39] ، وقال: {رَبِّ فَأَنْظِرْنِي} . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 220 وكل مشرك مقر بأن الله خالقه، وخالق السماوات والأرض، وربهن ورب ما فيهما، ورازقهم، ولهذا تحتج الرسل بقولهم: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ} [سورة النحل آية: 17] ، وبقولهم: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ} [سورة الحج آية: 73] ؛ والمشركون مقرّون بذلك، لا ينكرونه. الأصل الخامس: أن العبادة أقصى باب الخضوع والتذلل، ولم تستعمل إلا في الخضوع لله، لأنه مولي أعظم النعم، حقيق بأقصى غاية الخضوع، كما في الكشاف. ثم إن رأس العبادة وأساسها: التوحيد لله، الذي تفيده كلمته التي إليها دعت جميع الرسل، وهي: لا إله إلا الله. والمراد اعتقاد معناها، لا مجرد قولها باللسان؛ ومعناها: إفراد الله بالعبادة والإلهية، والنفي والبراءة من كل معبود دونه. وقد علم الكفار هذا المعنى، لأنهم أهل اللسان العربي، فقالوا: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [سورة ص آية: 5] . انتهى. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله: تواترت الأحاديث، بأنه يحرم على النار من قال: لا إله إلا الله، ومن شهد: أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، لكن جاءت مقيدة بالإخلاص واليقين، والموت عليها، وكلها مقيدة بالقيود الثقال؛ وأكثر من يقولها، لا يعرف الإخلاص، ولا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 221 اليقين; وغالب أعمال هؤلاء إنما هو تقليد واقتداء بأمثالهم، وهم أقرب الناس من قول الله تعالى، حاكياً عن المشركين: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [سورة الزخرف آية: 23] ، وحينئذ، فلا منافاة بين الأحاديث؛ فإنه إذا قالها بإخلاص ويقين، ومات على ذلك، امتنع أن تكون سيئاته راجحة على حسناته، بل كانت حسناته راجحة، فيحرم على النار، لأنه إذا قالها بإخلاص ويقين تام، لم يكن في هذه الحال مصراً على ذنب، فإن كمال الإخلاص ويقينه، موجب أن يكون الله أحب إليه من كل شيء سواه، وأخوف عنده من كل شيء، فلا يبقى في قلبه يومئذ إرادة لما حرم الله، ولا كراهة لما أمر الله. فهذا هو الذي يحرم على النار، وإن كان له ذنوب قبل ذلك؛ فهذا الإيمان، وهذه التوبة، وهذا الإخلاص، وهذه المحبة، وهذا اليقين والكراهة، لا يتركن له ذنباً إلا محي عنه، كما يمحو النهار الليل. فمن قالها على وجه الكمال، المانع من الشرك الأكبر والأصغر، فهذا غير مصر على ذنب أصلاً، فيغفر له، ويحرم على النار. وإن قالها على وجه خلص به من الشرك الأكبر دون الأصغر، ولم يأت بعدها بما يناقض ذلك، فهذه الحسنات لا يقاومها شيء من السيئات، فيرجح بها ميزان الحسنات، كما في حديث البطاقة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 222 وقال، رحمه الله: وأصل الدين: أن يكون الحب لله، والبغض لله، والموالاة لله، والمعاداة لله، والعبادة لله، والاستعانة بالله، والخوف من الله، والرجاء لله، والإعطاء لله، والمنع لله؛ وهذا إنما يكون بمتابعة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أمره أمر الله، ونهيه نهي الله، ومعاداته معاداة لله، وطاعته طاعة لله، ومعصيته معصية لله. وصاحب الهوى يعميه الهوى ويصمه، فلا يستحضر ما لله ورسوله في ذلك ولا يطلبه، ولا يرضى لرضى الله ورسوله، ولا يغضب لغضب الله ورسوله، بل يرضى إذا حصل ما يرضاه بهواه، ويغضب إذا حصل ما يغضبه لهواه، ويكون مع ذلك معه شبهة دين، أن الذي يرضى له ويغضب له، هو السنة. فإن قدر أن الذي معه دين الإسلام، ولم يكن قصده أن يكون الدين كله لله، بل قصد الحمية لنفسه وطائفته، أو الرياء ليعظم أو يثنى عليه، أو فعل ذلك شجاعة وطبعاً، أو لغرض من الدنيا، لم يكن لله، ولم يكن مجاهداً في سبيله، قال الله تعالى: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} الآية [سورة البينة آية: 4-5] . وقال، رحمه الله تعالى، في منهاج السنة، لما ذكر كلام صاحب المنازل، وأن التوحيد عنده على ثلاثة أوجه: الأول: توحيد العامة، وهو: شهادة أن لا إله إلا الله، الأحد الجزء: 8 ¦ الصفحة: 223 الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد. هذا هو التوحيد الظاهر الجلي، الذي نفى الشرك الأعظم، وعليه نصبت القبلة، وبه وجبت الذمة، وبه حقنت الدماء والأموال، وانفصلت دار الإسلام من دار الكفر. هذا كلام صاحب المنازل. وذكر بعد الوجهين، وذكر شيخ الإسلام ما فيها من الشطح والبدعة. ثم قال شيخ الإسلام: أما التوحيد الأول الذي ذكره، فهو التوحيد الذي جاءت به الرسل، ونزلت به الكتب، وبه بعث الله الأولين والآخرين من الرسل، قال تعالى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} [سورة الزخرف آية: 45] ، وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ} [سورة النحل آية: 36] ، وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [سورة الأنبياء آية: 25] . وقد أخبر الله تعالى عن كل من الرسل، مثل نوح وهود، وصالح وشعيب، وغيرهم، أنهم قالوا لقومهم: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [سورة الأعراف آية: 59] : وهذا أول دعوة الرسل وآخرها؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح المشهور: " أُمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم، إلا بحقها؛ وحسابهم على الله الجزء: 8 ¦ الصفحة: 224 عز وجل ". وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح أيضاً: " من مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله، دخل الجنة " 1، وقال: " من كان آخر كلامه لا إله إلا الله، دخل الجن ة" 2. والقرآن كله مملوء من تحقيق هذا التوحيد، والدعوة إليه، وتعليق النجاة والفلاح وأقصى السعادة في الآخرة به. ومعلوم: أن الناس متفاضلون في تحقيقه. وحقيقته: إخلاص الدين كله، والفناء في هذا التوحيد مقرون بالبقاء، وهو: أن تثبت إلهية الحق في قلبك، وتنفي إلهية ما سواه، فتجمع بين النفي والإثبات، فتقول: لا إله إلا الله، فالنفي هو الفناء، والإثبات هو البقاء. وحقيقته: أن تفنى بعبادته عن عبادة ما سواه، وبمحبته عن محبة ما سواه، وبخشيته عن خشية ما سواه، وبطاعته عن طاعة ما سواه، وبموالاته عن موالاة ما سواه، وبسؤاله عن سؤال ما سواه، وبالاستعاذة به عن الاستعاذة بما سواه، وبالتوكل عليه عن التوكل على ما سواه، وبالتفويض إليه عن التفويض إلى ما سواه، وبالإنابة إليه عن الإنابة إلى ما سواه، وبالتحاكم إليه عن التحاكم إلى ما سواه، وبالتخاصم إليه عن التخاصم إلى ما سواه. وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول إذا قام يصلي من الليل، بعد التكبير: " اللهم لك الحمد، أنت قيّم السماوات والأرض ومن فيهن. ولك الحمد أنت نور   1 أحمد (1/65) . 2 أبو داود: الجنائز (3116) , وأحمد (5/233, 5/247) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 225 السماوات والأرض ومن فيهن. ولك الحمد أنت الحق، وقولك الحق، ووعدك الحق، ولقاؤك حق، والجنة حق، والنار حق، والنبيون حق، ومحمد حق. اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت؛ فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت ". قال تعالى: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ} [سورة الأنعام آية: 14] ، وقال تعالى: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً} [سورة الأنعام آية: 114] ، وقال: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [سورة الزمر آية: 64-66] ، وقال تعالى: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ?قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَلا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبّاً وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا} [سورة الأنعام آية: 161-165] . وهذا التوحيد كثير في القرآن، وهو أول الدين وآخره، وباطن الدين وظاهره، وذروة سنام هذا الدين، لأولي العزم من الرسل، ثم للخليلين: محمد وإبراهيم، صلوات الله الجزء: 8 ¦ الصفحة: 226 وسلامه عليهم. فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه، أنه قال: " إن الله اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً " 1. وأفضل الرسل بعد محمد صلى الله عليه وسلم: إبراهيم، كما ثبت في الصحيح عنه، أنه قال عن خير البرية: "إنه إبراهيم"، وهو الإمام الذي جعله الله إماماً، وجعله أمة، والأمة: القدوة الذي يقتدى به، فإنه حقق هذا التوحيد، وهو الحنيفية ملته، قال تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ} [سورة الممتحنة آية: 4-6] . وقال تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ?إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِين ِوَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [سورة الزخرف آية: 26-28] . وقال عن إبراهيم أنه: {قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً} [سورة الأنعام آية:   1 مسلم: المساجد ومواضع الصلاة (532) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 227 79-81 ] . وقال، رحمه الله تعالى: ومحبة الله وتوحيده هو الغاية التي فيها صلاح النفس، وهو عبادة الله وحده لا شريك له، فلا صلاح للنفس إلا في ذلك، وبدونه تكون فاسدة؛ وهذا هو دين الإسلام الذي اتفقت عليه الرسل، قال تعالى: { (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [سورة النحل آية: 36] ، وقال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [سورة الروم آية: 30-31] . فالغاية الحميدة، التي بها كمال بني آدم، وسعادتهم ونجاتهم: عبادة الله وحده، وهي حقيقة لا إله إلا الله، وكل من لم يحصل له هذا الإخلاص، لم يكن من أهل النجاة والسعادة، كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [سورة النساء آية: 48] . فمن آمن بأن الله رب كل شيء وخالقه، ولم يعبد الله وحده، بحيث يكون الله أحب إليه من كل ما سواه، وأخشى عنده من كل ما سواه، وأرجى عنده من كل ما سواه، بل من سوى بين الله وبين بعض المخلوقات في الحب، بحيث يحبه كما يحب الله، ويخشاه كما يخشى الله، ويرجوه كما يرجو الله، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 228 ويدعوه كما يدعو الله، فهو مشرك الشرك الذي لا يغفره الله، ولو كان مع ذلك عفيفاً في طعامه ونكاحه، وكان حليماً شجاعاً. انتهى. وقال العلامة ابن القيم، رحمه الله تعالى- بعد ذكره الشرك في الربوبية -: النوع الثاني: أهل الإشراك بالله في إلهيته، المقرون بأنه وحده رب كل شيء، ومليكه وخالقه، وأنه ربهم ورب آبائهم الأولين، ورب السماوات السبع، ورب العرش العظيم، وهم مع هذا يعبدون غيره، ويعدلون به سواه في المحبة والطاعة والتعظيم، وهم الذين اتخذوا من دونه أنداداً، فهؤلاء لم يعرفوا: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [سورة الفاتحة آية: 5] حقه، وإن كان لهم نصيب من "نعبدك"، لكن ليس لهم نصيب من {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} المتضمن معنى: لا نعبد إلا إياك، حباً وخوفاً ورجاء، وطاعة وتعظيماً. فـ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} تحقيق لهذا التوحيد، وإبطال للشرك في الإلهية، كما أن {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [سورة الفاتحة آية: 5] تحقيق لتوحيد الربوبية، وإبطال للشرك به. وكذلك قوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [سورة الفاتحة آية: 6-7] ، فإنهم أهل التوحيد، وهم أهل تحقيق {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [سورة الفاتحة آية: 5] . وأما أهل الإشراك، فهم أهل الغضب والضلال. فإن هذا الانقسام ضروري، بحسب انقسامهم في معرفة الحق والعمل به، إلى عالم به عامل بموجبه وهم أهل النعمة، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 229 وعالم به معاند له وهم أهل الغضب، وجاهل به وهم الضالون. وهذا الانقسام إنما نشأ بعد إرسال الرسل، فلولا الرسل لكانوا أمة واحدة، فانقسامهم إلى هذه الأقسام مستحيل بدون هذه الرسالة. انتهى. والمقصود من هذه المقدمة: العلم بأن التوحيد الذي بعث الله به رسله، غريب في الناس جداً، وأكثرهم لا يعرف حقيقته، ولا يعرف الشرك الأكبر المنافي له؛ وغاية ما عندهم هو أن يعرف أن الله تعالى ربه وخالقه، وخالق جميع المخلوقات ورازقها، والمتصرف فيهم. وقد عرفت مما سلف: أن أكثر الأمم من أعداء الرسل، يعرفون ذلك، ويقرون به، كما أقر به كفار قريش لما بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم؛ وهذا مقرر في القرآن أتم تقرير. وأما توحيد الإلهية، الذي هو مضمون لا إله إلا الله، الذي دل عليه القرآن، من أوله إلى آخره، فالأكثر لا يعرفونه، مع أن سور القرآن الكريم مشحونة ببيانه، كقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} [سورة البقرة آية: 165] ، وقوله: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ} الآية [سورة الرعد آية: 14] ، {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [سورة الإسراء آية: 23] ، وقوله: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [سورة الزمر آية: 2-3] ، وقوله: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 230 مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} الآية [سورة البينة آية: 5] . وقوله: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} [سورة الجن آية: 18] ، وقوله: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} الآية [سورة الأحقاف آية: 5] ، وقوله: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} الآية [سورة فاطر آية: 13] ، وقوله: {إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ} [سورة الصافات آية: 4-5] ، وقوله: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ} الآية [سورة المؤمنون آية: 117] ، وقوله: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} الآية [سورة الزخرف آية: 26-27] ، وقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [سورة الأنبياء آية: 25] ، إلى أمثال ذلك مما لا يحصى في القرآن كثرة، في بيان هذا التوحيد، وما ينافيه من الشرك بالله، الذي هو أعظم ذنب عصي الله به، كما قال تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} [سورة المائدة آية: 72] . فإذا تأملت القرآن، وجدته قد احتج على المشركين فيما جحدوه من توحيد الإلهية، بما أقروا به من توحيد الربوبية، كما قال تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} إلى قوله: {فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} [سورة يونس آية: 31] ، وقوله: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 231 تَعْلَمُونَ} الآيات [سورة المؤمنون آية: 84] . فإذا أقروا أن الله رب كل شيء ومليكه، وأنه المتصرف في جميع خلقه، لزمهم أن يعبدوه وحده؛ فإن الإقرار بهذا التوحيد، يستلزم الإقرار بالنوع الآخر، ولا بد منهما جميعاً. وأما الثالث من أنواع التوحيد، فهو: أن نصف الله تعالى بما وصف به نفسه، ووصفه رسوله، على ما يليق بجلال الله، إثباتاً بلا تمثيل، وتنزيهاً بلا تعطيل؛ فإن صفات الرب تعالى وأسماءه، تدل على كمال الرب تعالى، وتنفي عن الله ما نفى عن نفسه، ونفى عنه رسوله صلى الله عليه وسلم، من كل ما ينافي كمال حياته وقيوميته، وكمال غناه، كما نزه الله عنه نفسه، ونزهه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم، كما قال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [سورة الشورى آية: 11] ، وقوله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [سورة الإخلاص آية: 1-4] ، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "إن الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام " 1 الحديث. ونحو هذا مما نزه الله عنه نفسه، ونزهه عنه رسوله كثير في الكتاب والسنة؛ فالمهديون المؤمنون يثبتون ما أثبته الله ورسوله، من معاني أسمائه وصفاته، على ما يليق بجلاله، وينفون عنه مشابهة المخلوقين، وسمات المحدثين، وينفون عنه ما نفى عن نفسه، ونفاه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم من كل ما لا يليق به، والله   1 مسلم: الإيمان (179) , وأحمد (4/400, 4/405) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 232 أعلم. فما أعز من يعرف حقيقة التوحيد! بل ما أعز من لا يعادي من عرفه ودعا إليه! فلقد عم الجهل بالتوحيد، حتى نسب أهله إلى الابتداع ونسب من أنكره إلى الاتباع. وما أحسن ما قال العلامة ابن القيم، رحمه الله تعالى، لما ذكر حديث: " بدأ الإسلام غريباً، وسيعود غريباً كما بدأ " 1؛ بل الإسلام الحق، الذي كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه اليوم، أشد غربة منه في أول ظهوره، وإن كانت أعلامه ورسومه الظاهرة، مشهورة معروفة، فالإسلام الحقيقي فينا غريب جداً، وأهله غرباء بين الناس. وكيف تكون فرقة واحدة، بين فرق لهم أتباع ورياسات، ومناصب وولايات، لا يقوم لها سوق إلا في مخالفة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فإن نفس ما جاء به يضاد أهواءهم ولذاتهم، وما هم عليه من الشبهات، التي هي منتهى فضيلتهم وعلمهم، والشهوات التي هي غاية مقاصدهم وإرادتهم. فكيف لا يكون المؤمن السائر إلى الله على طريق المتابعة غريباً بين هؤلاء، الذين قد اتبعوا أهواءهم، وأعجب كل منهم برأيه؛ فإذا أردت معرفة الإعراض عن الدين، تعلماً وعملاً، فتأمل ما هم عليه، فالله المستعان. واعلم: يا من له عقل ونور، يمشي به في الناس، أني   1 مسلم: الإيمان (145) , وابن ماجة: الفتن (3986) , وأحمد (2/389) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 233 تأملت "الورقة" التي قدمت الإشارة إليها 1، وهي لحمد بن علي المرائي، فإذا هو قد حشاها بالرعونات، والحماقات، التي هي من نتائج الجهل الصميم، والعقل غير المستقيم؛ فإذا نظر فيها العاقل، علم أنها لا تصدر إلا من جاهل معجب بنفسه، لإقامته بين جهلة العوام، فإن أكثرهم لا يميز بين الصحيح من السقيم من الكلام. فلو كان ما أبداه من أساجيعه، من وراء كفاية وعن علم ودراية، لكان أحرى بمراجعة الصواب، والرجوع عما أخطأ فيه من الخطاب، وقد قال بعضهم شعراً: ولو كان هذا من وراء كفاية ... لهان ولكن من وراء تخلفِ فأعجب لقوله: أما بعد، فيقول العبد المسترشد للعلم والعمل، لا للمراء والجدل. فالجواب: تأمل أيها المنصف ما بعد هذا من كلامه، تجده مناقضاً لما قال، مشتملاً على المراء والجدال، كحال أمثاله من أهل الأهواء، ويخبط على أثرهم خبط عشواء، وقد تضمنت رسالته من الأحبولات للجهال، والتلبيس على من عقولهم كعقول الأطفال. فمن ذلك: أنه أكثر الحط على من يقول على الله بلا   1 أي: في صفحة 204. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 234 علم؛ ولا شك أن ذلك من أكبر الذنوب، وأعظم المثالب والعيوب، ولكنه اتزر بما عابه من ذلك، وارتدى في آخر مقاله والابتداء. وهكذا حال من لا علم لديه، ولا دراية له تنسب إليه، فتراه يعيب أمراً وهو يتقلب فيه، فتارة يظهره وتارة يخفيه، وكل إناء ينضح بالذي فيه؛ فتأمل ما سيأتيك من جوابه، ترى عجباً. ثم إنه قال: والمسألة المشار إليها، والمسؤول عنها، هي التي غصت بها الحناجر، وأسبلت على الخدود دموع المحاجر، وهي قول الجهال الطغام: من أقام ببلد قد استولى عليها العساكر، ولا عنها يهاجر، فهو كافر. فالجواب: أن هذا قول مختلق، ولا نعلم قائلاً به على الإطلاق، كما زعم صاحب الورقة. وهذا من بهرجه وزبرجه وتهويله، أسوة أمثاله ممن يفتري على المسلمين، ويقولهم ما لم يقولوا، ليدفع بهذا عن نفسه الشناعة، وليس بنافعه شيئاً؛ بل هو عين الضرر عليه، لأنه تشبث بما لا يجدي، وليس عند أهل الأهواء إلا التلبيس، والشكوى لما تلطخوا به من العيوب والأسواء، إذ ليس معهم حق يعتمد عليه، ولا برهان لهم تطمئن نفوسهم إليه. فترى أحدهم ضيق الصدر والبال، لأن بضاعته إنما حقيقتها الشكوك والخيال. بخلاف صاحب الحق، فإن معه من البصيرة والعلم واليقين، ما يدفع الشك والإلباس، ويهون عليه مؤنة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 235 المعارضين من الناس. وأكبر همّ المؤمن ما بينه وبين ربه، يرجو رحمته ويخاف عقوبة ذنبه، كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} الآية [سورة المؤمنون آية: 60] ؛ يسير إلى الله بين مشاهدة منّة من الله عليه، ومطالعة عيب نفسه: " أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء بذنبي " 1. وأما الفاجر، فقلبه خال من خشية الله، آمن من مكر الله، يمضي في الغفلة والمعاصي، قدماً قدماً، فيا عجبا من صاحب هذه الورقة ما الذي يؤمنه؟ قد تلطخ بما تلطخ به، والمعاصي بريد الكفر؛ وكان الواجب عليه أن يغص من العبرات، ويسيل الدموع في الخلوات والجلوات، على ما فرط فيه من الطاعات، ووقع منه من الفرطات. فاهتمامه من نفسه لنفسه، أولى من الاهتمام بما قيل أو يقال. فلو صح عن أحد لكان فيه إجمال، ويتطرق إليه الاحتمال، على أنه ليس من قبيل المحال، الذي لا ينسب إلا إلى الطغام والجهال، فأين الأسباب المؤمنة لهذا المسكين، من أن يقع في زيغ الزائغين، وطريق الأئمة المضلين؟ وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " أخوف ما أخاف على أمتي: الأئمة المضلين " 2. وأما شتمه لخواص من أهل الهجرة والدين، وتسميتهم بالجهال الطغام، فهو دليل على إعجابه بنفسه ورضاه بعمله؛   1 البخاري: الدعوات (6306) , والترمذي: الدعوات (3393) , والنسائي: الاستعاذة (5522) , وأحمد (4/122, 4/124) . 2 الترمذي: الفتن (2229) , وأبو داود: الفتن والملاحم (4252) , وابن ماجة: الفتن (3952) , وأحمد (5/278, 5/284) , والدارمي: المقدمة (209) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 236 وذلك من أكبر الذنوب، وأعظم العيوب. فإنه من تدبر القرآن، وتفكر فيما قصه الله تعالى عن أهل الكتاب، وأمثالهم من أهل الفهم والرأي، وأنهم تركوا الحق الذي بعث الله به رسوله بعد ظهوره، واختاروا لأنفسهم أسباب الردى والهلاك، ولم ينفعهم الله بعلمهم، ولا برأيهم وفهمهم، خاف على نفسه من أن يزيغ كما زاغوا، وأن يضل كما ضلوا؛ وهذا إنما يحصل بتوفيق الله ورحمته لعبده. وصاحب هذا الكلام، قد نسي ما وقع منه من المداهنة والموادة، لأرباب البغي والعدوان، على أهل الإسلام والإيمان، والصد عن سبيل الله؛ فأعظم بها من ذنوب، ومثالب وعيوب! وما ذكرناه من الواقع، من كثير من أعيان أهل نجد، لا يمتري فيه من في قلبه أدنى حياة. وظاهر حال المعترض: أنه لما جهل حقيقة هذا الذنب العظيم، عده من أنواع الواجب، والجائز، والمكروه، وكلامه في ورقته يدور على هذه الثلاثة، فلذلك استوحش مما أنس به المسلمون، وأنس بما استوحش منه العارفون؛ فلو تصور الواقع منه، لسالت على الخد منه دموع المحاجر، وغصت من مخافة الوعيد تلك الحناجر، كما دل على عظيم ذلك الذنب الكثير من الآيات والأحاديث والبينات. واعلم: أن هذا المغرور، لما كذبته ظنونه التي قعدت به عن واجب الهجرة والجهاد، وتبين أنه أخطأ سبيل الهدى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 237 والسداد، وعلم أن المسلمين قد ميزوه بحاله، وقبيح فعاله، بادر إلى التشكي والتهويل، والتباكي والعويل، وحاول قلب الحقائق، فاستهجن الصدق والمعروف، واستحسن الباطل لكونه عنده هو المألوف؛ فأعظم بها عقوبة أطفأت نور العقل، وأعمت البصيرة! فصاحبها في ظلمات الجهل والريب. ولما قال رجل لعبد الله بن مسعود رضي الله عنه: هلكت إن لم آمر بالمعروف، وأنه عن المنكر، فقال ابن مسعود: "هلكت إن لم يعرف قلبك المعروف، وينكر المنكر". قال بعض السلف: أنتم تخافون الذنوب، وأنا أخاف الكفر. يا ربنا نسألك الثبات على الإيمان. ومما يجب أن يعلم: أن الله تعالى فرض على عباده الهجرة عند ظهور الظلم والمعاصي، حفظاً للدين، وصيانة لنفوس المؤمنين عن شهود المنكرات، ومخالطة أهل المعاصي والسيئات، وليتميز أهل الطاعات والإيمان، عن طائفة الفساد والعدوان، وليقوم علم الجهاد، الذي به صلاح البلاد والعباد؛ ولولا الهجرة لما قام الدين، ولا عبد رب العالمين، ومن المحال أن تحصل البراءة من الشرك، والظلم والفساد، بدونها. ومن لوازم ترك الهجرة غالباً: مشاهدة المنكرات، ومداهنة أرباب المعاصي والسيئات، وموادتهم، وانشراح الجزء: 8 ¦ الصفحة: 238 الصدر لهم؛ فإن الشر يتداعى ويجر بعضه بعضاً، فلا يرضون عمن هو بين أظهرهم بدون هذه الأمور، ولا بد من رضاهم، والمبادرة في هواهم. ثم إنه قال قولا ينبئ من له أدنى معرفة، أن هذا لا يصدر إلا ممن هو غريق في الجهالة، قد عري من المعقول والمنقول، وذلك قوله: إن الله قدم حرمة ابن آدم على حرمته، وأباحه ما حرم عليه من أكل الميتة، إذا خاف على نفسه الضرر. ووجه خطئه وجهله: أنه جعل ذلك أصلاً، قاس عليه ترك الهجرة، وفي زعمه أنه اضطر إلى تركها، كما اضطر إلى الأكل من الميتة من خاف على نفسه التلف، فأقول: لا يخفى ما في هذا القياس من الفساد، وذلك من وجوه: منها: أنه في مصادمة نصوص الكتاب والسنة، التي دلت على وجوب الهجرة على من له قدرة عليها، وإن كان يتوقع بها القتل والموت، كما أنه لا يترك الجهاد خوفاً من القتل، كما قال تعالى: {فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَاباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ} [سورة آل عمران آية: 195] ، وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سورة الحج آية: 58] . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 239 فلم يجعل الله تعالى هذه الأمور التي قد تقع للمهاجر، عذراً عن الهجرة، لأن الهلاك في الهجرة والجهاد هو السلامة، فإنه شهادة، والشهداء {أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [سورة آل عمران آية: 169-170] . وقد يحصل للمهاجر ما يحبه، من حسن العاقبة في الدنيا، مع ما يرجوه في الآخرة، كما قال تعالى: {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً} الآية [سورة النساء آية: 100] . ونظير ترك الهجرة خوفا من الفقر أو القتل: مداهنة أهل المعاصي خوفاً من أذاهم، وقد قال تعالى في حقهم: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ} [سورة العنكبوت آية: 10] . وهذا الذي جعل فتنة الناس كعذاب الله، قد يدعي أن الضرورة دعته إلى ذلك لو كانت عذراً، وقد علمت: أن ترك الهجرة عرضة لذهاب الدين، وذهاب الدين، هو هلاك النفس السرمدي: {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [سورة الزمر آية: 15] ، هذا في تركهم الهجرة. وأما الهجرة، فإن الغالب على أهلها السلامة والعز والتمكين، كما جرى ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأتباعه سلفاً الجزء: 8 ¦ الصفحة: 240 وخلفاً، وبها يحصل الجهاد، وتعلو كلمة الله، ويعمل في الأرض بطاعة الله؛ ومصالح الهجرة في الدنيا أكثر من أن تحصر، كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [سورة النحل آية: 41] . فبطل هذا القياس من وجهين: الأول: أنه مصادمة النصوص الثابتة، والقياس في مصادمة النص فاسد الاعتبار عند العلماء قديماً وحديثاً؛ فإن القياس إنما يصار إليه عند الضرورة إليه إذا عدم النص، ولم يوجد للحكم دليل في الكتاب والسنة، لا نصاً ولا ظاهراً، فحينئذ يجوز عند بعض العلماء، لدعاء الضرورة إليه. وله شروط ومفسدات، وله أنواع أربعة لا يعرفها هذا المعترض؛ وأنى له بمعرفة الصحيح منها والسقيم، والجائز والممتنع، مع قصر الباع، وعدم المحصول والاطلاع. الوجه الثاني: عدم الجامع، ووجود الفارق، فإن الحكمة في إباحة تناول لقمة من الميتة إذا اضطر إليها، قد أبيحت له في تلك الحال، لأن الأكل واجب، صيانة للنفس عن الهلاك، طاعة لله، مطلوب لما يفضي إليه ذلك، من التقوي على أداء الفرائض والطاعات. قال شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله تعالى: ومن المحرمات ما يباح عند الضرورة، كالدم والميتة، فهذه في حال الإباحة ليست محرمة أصلاً، وليس له أن يعتقد تحريمها الجزء: 8 ¦ الصفحة: 241 حينئذ؛ وإنما تنازع العلماء، هل السبب الحاظر لها موجود وقت الضرورة، وأبيحت للعارض الراجح، أو السبب الحاظر زائل، وهذا مبني على مسألة تخصيص العلة; فمن قال: إن العلة تخصص، يقول: إن علة الحظر قائمة، ولكن تخلف حكمها لمانع، ومن قال: لا تخصص، قال: إن علة التحريم لا توجد مع عدم التحريم؛ والنزاع لفظي. قال، رحمه الله: فإن الأكل والشرب واجب، حتى لو اضطر إلى الميتة، وجب عليه الأكل عند عامة العلماء، لأن العبادة لا تؤدى إلا بهذا، وما لا يتم الواجب إلا به، فهو واجب. انتهى. قلت: وهذا موجود في الهجرة وأولى، لأن العبادة لا تؤدى إلا بها، ولا يقوم الدين والعمل به إلا بالهجرة؛ فبالهجرة يحفظ المرء دينه، ويتمكن من العمل به، ويعادي ويوالي فيه، وغير ذلك من المصالح الدينية، التي تفوت الحصر. فلو احتجنا إلى القياس، لكان هذا من قياس الأولى، عكس ما عند صاحب الورقة، فإن ضرورة العبد إلى الهجرة فوق كل ضرورة، ولو كان فيها تلف النفس والمال، فالعبد مضطر إليها عند الحاجة إليها، أعظم من ضرورته إلى الطعام والشراب. ثم اعلم: أنه من كبير جهله، أخذ يقيس ترك ما وجب فعله، على فعل ما يجب فعله، فقاس الترك على الفعل، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 242 وقاس المحرم على الواجب؛ وهذا أفسد شيء وأبعده عن القياس، فالعكس والحالة هذه، أشبه بالقياس صورة ومعنى؛ فتأمله، فإنه يطلعك على جهل هذا الرجل. فالعارف يلتمس له العذر من حيث إنه جاهل، ولولا جهله لكانت هذه فرية منه عظيمة على دين الله. ومن المعلوم عند من له أدنى مسكة من عقل ومعرفة: أن الهجرة من أعظم فرائض الدين، وهي أصل وقاعدة من قواعد الإسلام، التي ينبني عليها الكثير من الأحكام؛ ومن جهله أنه لم يميز بين الضرورة والضرر، كما قد عرفت من كلامه الذي أسلفته. ومن المعلوم عند من له بصيرة ودين: أن الهجرة لا ضرورة فيها ولا ضرر، فدعواه الضرورة ممنوعة من أصلها. فغاية ما في الهجرة: بأن فيها مشقة في المبادئ على النفس، من جهة مفارقة المألوفات، من الوطن أو المال، أو غيرها من الأصناف الثمانية المذكورة في أول سورة براءة؛ وهذا شأن الشرائع، كالجهاد فإن فيه مشقة، كما قال تعالى: {وَقَالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ} الآية [سورة التوبة آية: 81] ، وقال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ} الآية [سورة البقرة آية: 216] . ولم يعذر الله تعالى ناساً تخلفوا عن الجهاد في غزوة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 243 تبوك، بما فيها من المشقة، حتى قال الله فيهم شر ما قال لأحد، فقال: {سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [سورة التوبة آية: 95] . ومن المعلوم: أنه ليس في ترك الجهاد من المفاسد في الدين ما في ترك الهجرة، بل المفاسد التي في ترك الجهاد موجودة في ترك الهجرة، وأكثر منها، كما لا يخفى على ذوي البصائر والفهم، وكان الجهاد من ثمرتها ومصالحها. قال شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله تعالى: والشرائع جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، فهي تأمر بما يترجح مصلحته، وإن كان فيه مفسدة مرجوحة، كالجهاد، وتنهى عما ترجحت مفسدته، وإن كان فيه مصلحة، كتناول المحرمات من الخمر وغيره؛ ولهذا أمرنا الله أن نأخذ بأحسن ما أنزل إلينا من ربنا، والأحسن: إما واجب أو مستحب، قال تعالى: {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} [سورة الزمر آية: 55] ، فأمر باتباع الأحسن والأخذ به، قال تعالى: {فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ} [سورة الزمر آية: 17-18] ؛ فاقتضى أن غيرهم لم يهده. انتهى. وتأمل ما وقع فيه التاركون للهجرة، من سوء الحال في الدين والدنيا، فيالها من عبرة ما أبينها لمن اعتبر! الجزء: 8 ¦ الصفحة: 244 والحمد لله الذي أنقذ من شاء من عباده من المهالك برحمته، وأهلك من شاء بعدله: {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ} [سورة الأنفال آية: 42] . فإذا عرفت ذلك، فأقول: عجباً لهذا المفتري المغرور، كيف تجسر على الخوض في أحكام الله ودينه، بضرب الأمثال والأقيسة الفاسدة، وهو لا يعرف القياس وشروطه، والمقبول منه والمردود، بل ولا يعرف أنواعه، كقياس الأولى، والعلة، والدلالة، والشبه، والمخالفة، ولا يعرف مفسدات القياس عند العلماء، ولا من يجوز منه ذلك ممن لا يجوز منه، ومن يجوزه من العلماء عند الضرورة، ومن لا يجوزه منهم مطلقاً. ومن أنكره من علماء السلف، كجعفر بن محمد بن علي بن الحسين، رضي الله عنهما، فإنه أنكره على أبي حنيفة، رحمه الله، كما هو معروف عنه عند العلماء، يروونه عن ابن شبرمة، أنه قال لأبي حنيفة: اتق الله ولا تقس، فإنا نقف غداً نحن ومن خالفنا بين يدي الله تعالى، فنقول: قال الله، قال رسوله، وتقول أنت وأصحابك: رأينا وقسنا، فيفعل الله بنا وبك ما شاء. وعن ابن عباس: "لا تقيسوا الدين، فإن الدين لا يقاس؛ وأول من قاس: إبليس"، أخرجه الديلمي، وقال ابن سيرين: "القياس شر، وأول من قاس: إبليس، وإنما عبدت الجزء: 8 ¦ الصفحة: 245 الشمس والقمر بالمقاييس". وقال الإمام أحمد، رحمه الله تعالى: أكثر ما يخطئ الناس من جهة التأويل والقياس. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية، قدس الله روحه: إنما المتبع في إثبات أحكام الله: كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وسبيل السابقين الأولين؛ لا يجوز إثبات حكم شرعي بدون هذه الأصول الثلاثة، نصاً أو استنباطاً بحال. وأما الأقيسة الفاسدة، فإنها أكثر ما عند أهل الضلال، وأول من قاس: إبليس. وقال: إن اليهود والنصارى عندهم من الحكايات والقياسات من هذا النمط كثير. انتهى كلامه، رحمه الله. والمقصود: أن يعلم المسلم أن بذل النفوس في طاعة الله ومرضاته، أمر مطلوب للرب تعالى من عبده، ليكون الدين كله لله؛ فمن رغب بنفسه عن ذلك، وآثر مرادها وراحتها وشهوتها، على مراد ربه، وإقامة دينه، وطلب مرضاته، فقد عرض نفسه لمقت الله وعقابه، وحرم نفسه ما حصل للمؤمنين المتقين من جزيل ثوابه. فلا يرجون عبد إلا ربه، ولا يخافن إلا ذنبه، ومن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه. ثم إن هذا المغرور المسكين قال: ما وقع فيه التاركون للهجرة، وأباحه الكفر إذا أكره عليه، قال عز من قائل: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ} [سورة النحل آية: 106] ، نزلت في عمار بن ياسر، أخذه الجزء: 8 ¦ الصفحة: 246 المشركون، فلم يتركوه حتى سب النبي صلى الله عليه وسلم. فشكا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: " كيف تجد قلبك؟ "، قال: "مطمئن بالإيمان ". فالجواب- وبالله التوفيق - أن نقول: لا يخفى أن هذا الرجل ادعى لنفسه أمراً لا وجود له ولا حقيقة، واستدل بدليل هو في الحقيقة عليه لا له، وذكر أمراً مجملاً مبهماً، تشبيهاً على العامة، ليلبس عليهم أمر دينهم، وفي ضمنه أنه أقر على نفسه بما صدر منه، مما لا يحبه الله ويرضاه، غير أنه اعتذر عن نفسه بالإكراه. ومن له أدنى مسكة من عقل وتمييز، يعلم أنه لا عذر لهذا الرجل فيما قد صدر منه؛ فإن دعواه الإكراه ممنوعة، لأنه إن كان على الإقامة عندهم، فهذا باطل قطعاً، لأنهم لم يحبسوه ولم يجعلوه في وثاق، ولم يجعلوا على كل نقب من نقوب القرية حرساً يمنعه الخروج منها، ولا جعلوا على طرقاتها رصداً، والمناهل قريب، وفيها القبائل، والفرار بالدين واجب، فأين الإكراه؟ هذان وقد حصل منه من الإقبال والإدبار، والتصدر والافتخار، ما هو معلوم عند من يعرف هذا الشخص بالاضطرار. فأين حال هذا وأمثاله من حال عمار؟ رضي الله عن عمار، فإنه تبرأ من المشركين وسبهم، وسب دينهم ومعبوداتهم، فلذلك تصدروا له ولأهله بالعداوة الشديدة، وما ثم قرية ولا قبيلة على الإسلام، فجعلوا يضربونه أشد الجزء: 8 ¦ الصفحة: 247 الضرب، ويعذبونه أشد العذاب، وحبسوه في بئر ميمون، وقتلوا أباه وأمه. وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا مر بهم يقول: " اصبروا يا آل ياسر، فإن موعدكم الجنة "، ومع هذا وغيره، لم يقع منه إلا القول دون الفعل. وأنتم سارعتم بلا إكراه، وقلتم وفعلتم، تقرباً إليهم واختياراً، من غير أن يكون منهم طلب لما فعلتموه، فما طلبوا منكم ذلك، ولا امتنعتم، ولا أُكرهتم عليه، فأين أنتم وعمار؟! فهو وأنتم في طرفي نقيض; شعرا: سارت مشرقة وسرت مغربا ... شتان بين مشرِّقٍ ومغرِّبِ وفي الصحيحين عن خباب بن الأرت، قال: " شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة في ظل الكعبة، وقد لقينا من المشركين شدة، فقلنا: ألا تدعو لنا؟ ألا تستنصر لنا؟ قال: فجلس محمراً وجهه، ثم قال: والله إن من كان قبلكم، ليؤخذ الرجل فيمشط بأمشاط الحديد ما بين لحمه وعظمه، ما يصرفه ذلك عن دينه. ويقعد الرجل فتحفر له الحفرة، فيوضع المنشار على رأسه فيشق باثنين، ما يصرفه عن دينه " الحديث. وبعد ما وقع بعمار وأهله من المشركين ما وقع، أذن النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه في الهجرة إلى الحبشة، لما اشتد بهم أذى المشركين، فهاجروا وفيهم عمار رضي الله عنه. ثم إنه رجع الجزء: 8 ¦ الصفحة: 248 هو وبعض المهاجرين، فهاجروا إلى المدينة، وفي تلك الأحوال لم يطمئن أحد منهم إلى المشركين، ولا داهنهم بدينه، واستمروا على عداوتهم والبراءة منهم، حتى هاجروا إلى المدينة؛ وقصتهم في السير، وكتب الحديث، والمغازي، مشهورة. فأين القلب المطمئن بالإيمان، وهو يرغب إلى أولئك الأشرار، ويتعرض لما في أيديهم من حطام الدنيا، ويتودد إليهم بأساجيع المدح، كسجع الكهان، ويقول: اكتبوا لي كذا، اجعلوا لي كذا، ونحو ذلك من صيغ الطلب، كما في المكاتبات الموشحة بالمديح، والدعوات والتعظيمات، والمجازفات الموشحة بنظم الأبيات؟! فسبحان من لا يخفى عليه خافية، من أقوال خلقه وأعمالهم. وفي الحديث: " إن الله لا ينظر إلى صوَركم، ولا إلى أموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم " 1. ونذكر أيضاً طرفاً مما يتعلق بمعنى الآية: قال العماد ابن كثير، في تفسيره: أخبر تعالى عمن كفر به بعد الإيمان والتبصر، وشرح صدره بالكفر، واطمأن به، أنه قد غضب عليهم لعلمهم بالإيمان، ثم عدولهم عنه، وأن لهم عذاباً عظيماً في الدار الآخرة، لأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة، فأقدموا على ما أقدموا عليه من الردة، لأجل الدنيا، وطبع على قلوبهم، فهم لا يعقلون بها شيئاً ينفعهم،   1 مسلم: البر والصلة والآداب (2564) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 249 وختم على سمعهم وأبصارهم فلا ينتفعون بها، ولا أغنت عنهم شيئاً، فهم غافلون عما يراد بهم. وأما قوله: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ} [سورة النحل آية: 106] ، فهو استثناء ممن كفر بلسانه، ووافق المشركين بلفظه، مكرهاً على ما قاله، بضرب وأذى، وقلبه يأبى ما يقول، وهو مطمئن بالإيمان بالله ورسوله. وروى العوفي عن ابن عباس: "نزلت في عمار بن ياسر، حين عذبه المشركون، فوافقهم على ذلك مستكرهاً"، وروى ابن جرير بسنده، قال: " أخذ المشركون عمار بن ياسر فعذبوه، حتى قاربهم في بعض ما أرادوا. فشكا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: كيف تجد قلبك؟ قال: مطمئناً بالإيمان، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن عادوا فعد ". وقال ابن إسحاق: وكانت بنو مخزوم يخرجون بعمار بن ياسر، وبأبيه وأمه- وكانوا أهل بيت إسلام- إذا حميت الظهيرة، يعذبونهم برمضاء مكة، فيمر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول فيما بلغني: " صبراً يا آل ياسر، فإن موعدكم الجنة ". فأما أمه فقتلوها، وهي تأبى إلا الإسلام. قال: وحدثني حكيم بن جبير، عن سعيد بن جبير، قال: قلت لابن عباس:? "أكان المشركون يبلغون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من العذاب ما يعذرون به في ترك دينهم؟ قال: نعم، والله إن كانوا ليضربون أحدهم، ويجيعونه الجزء: 8 ¦ الصفحة: 250 ويعطشونه، حتى ما يقدر على أن يستوي جالساً من شدة الضرر الذي به، حتى يعطي مما سألوه من الفتنة، افتداءً منهم مما يبلغون من جهدهم". قال العماد ابن كثير: والأفضل والأولى أن يثبت المسلم على دينه ولو أفضى إلى قتله، كما ذكره الحافظ ابن عساكر في ترجمة عبد الله بن حذافة السهمي، أحد الصحابة: "أنه أسرته الروم فجاؤوا به إلى عند ملكهم، فقال له: تنصّر وأنا أشركك في ملكي، وأزوجك بنتي، فقال: لو أعطيتني جميع ما تملك، وجميع ما تملكه العرب، على أن أرجع عن دين محمد صلى الله عليه وسلم طرفة عين، ما فعلت، فقال: إذاً أقتلك، قال: أنت وذاك. قال: فأمر به فصُلب، وأمر الرماة فرموه قريباً من يديه ورجليه، وهو يعرض عليه دين النصرانية، فأبى. ثم أمر به فأُنزل، ثم أمر بقدر، وفي رواية ببقرة من نحاس، فأحميت، وجاء بأسير من المسلمين، فألقاه وهو ينظر، فإذا هو عظام تلوح. وعرض عليه فأبى. ثم أمر به أن يُلقى فيها، فرُفع في البكرة ليُلقى فيها، فبكى، فطمع فيه ودعاه، فقال: إنما بكيتُ لأن نفسي إنما هي نفس واحدة، تُلقى في هذا القدر الساعة في الله، فأحببتُ أن يكون بعدد كل شعرة في جسدي نفس تعذَّب هذا العذاب في الله". وفي بعض الروايات: "أنه سجنه ومنع منه الطعام الجزء: 8 ¦ الصفحة: 251 والشراب أياماً، ثم أرسل إليه بخمر ولحم خنزير، فلم يقربه. ثم استدعاه فقال: ما منعك أن تأكل؟ فقال: أما إنه قد حل لي، ولكن لم أكن لأشمتك بي، فقال الملك: فقبِّل رأسي، وأنا أطلقك، فقال: وتطلق معي جميع أسارى المسلمين، قال: نعم، قال: فقبَّل رأسه، فأطلق معه جميع أسارى المسلمين عنده. فلما رجع، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: حق على كل مسلم أن يقبِّل رأس عبد الله بن حذافة، وأنا أبدأ؛ فقام فقبَّل رأسه، رضي الله عنهما". قال العماد، رحمه الله تعالى: وكما كان بلال رضي الله عنه يأبى على المشركين ذلك، وهم يفعلون به الأفاعيل، حتى إنهم ليضعون الصخرة العظيمة على صدره في شدة الحر، ويأمرونه أن يشرك بالله، فيأبى عليهم، وهو يقول: "أحد أحد"، ويقول: "والله لو أعلم كلمة هي أغيظ لكم منها لقلتها"، رضي الله عنه وأرضاه. وكذلك حبيب بن زيد الأنصاري، لما قال له مسيلمة الكذاب: "أتشهد أن محمداً رسول الله؟ فيقول: نعم، فيقول: أتشهد أني رسول الله؟ فيقول: لا أسمع، فلم يزل يقطعه إرباً إرباً، وهو ثابت على ذلك". قلت: فهذه حال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وما لقوا من المشركين من شدة الأذى، فأين هذا من حال هؤلاء المفتونين الذين سارعوا إلى الباطل، وأوضعوا فيه، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 252 وأقبلوا وأدبروا، وتوددوا وداهنوا، وركنوا وعظموا، ومدحوا؟ فكانوا أشبه بما قال الله تعالى: {وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيراً} [سورة الأحزاب آية: 14] . نسأل الله تعالى الثبات على الإسلام، ونعوذ به من مضلات الفتن، ما ظهر منها وما بطن. ومن المعلوم: أن الذين أسلموا، وآمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم وبما جاء به، لولا أنهم تبرؤوا من الشرك وأهله، وبادروا المشركين بسب دينهم، وعيب آلهتهم، لما تصدوا لهم بأنواع الأذى، وذلك لأنهم أعلم الأمة بالحنيفية، وأعلم بالتوحيد، كما قال الله تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ} الآية [سورة الممتحنة آية: 4] . ثم إنه قال في رسالته: فمن شرح بالكفر صدراً، وارتد، وطابت نفسه بالكفر، فهو الكافر. فالجواب أن يقال: تعداده هذه الثلاث، تدل على جهله بنواقض الإسلام، لأن كل واحدة من هذه الثلاث يكفر صاحبها، وبين هذه الثلاث تلازم: فمن شرح بالكفر صدراً، فقد ارتد وطابت نفسه بالكفر، ومن طابت نفسه بالكفر، فقد ارتد وشرح بالكفر صدراً؛ فحظ هذا الرجل التنطع بالكلام، من غير تصور للمعنى. ثم إن آخر هذه الآية، يرشد إلى أن الذي أوقعهم في الجزء: 8 ¦ الصفحة: 253 انشراح الصدر بالكفر هو إيثار الدنيا على الآخرة، فقال: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [سورة النحل آية: 107] . فإذا استحب الوطن أو المال، أو الأزواج، أو العشيرة، أو المساكن، أو التجارة، أو غير ذلك من أمور الدنيا، وترك لأجل ذلك ما وجب عليه، من الهجرة والجهاد، فقد تناوله هذا الوعيد، كما قال تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا} إلى آخر الآية [سورة التوبة آية: 24] . قال المفسرون في قوله تعالى: {وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} [سورة الأعراف آية: 176] أي: مال إلى الدنيا وزهرتها، وآثرها على طاعة الله ورضاه. فإذا كان هذا هو الواقع من هؤلاء، فما هذا القلب الذي اطمأن بالإيمان، مع وجود ما ينافي ذلك، من إيثار الدنيا والطمأنينة إليها والرغبة فيها، وترك ما أوجب الله تعالى عليه لأجلها؟ ومن ادعى ما ليس فيه، كذبته شواهد الامتحان، قال الله تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [سورة التوبة آية: 105] . ثم إنه قال: وما أجلسه في بلده إلا حماية لنفسه وماله الجزء: 8 ¦ الصفحة: 254 وولده. فالجواب أن نقول: هذا هو المحذور الأكبر، والذنب الأعظم، الذي ثبت الوعيد عليه في آية براءة. فلو كان لهذا فقه أو معرفة، لما اعتذر عن نفسه بأشياء لم يعذر الله بها أحداً من خلقه؛ فلو أحب الله على ما سواه، لما آثر محبة النفس والمال والولد عليه، وقد ثبت في رواية أبي صالح، عن ابن عباس، رضي الله عنهما قال: "لما أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بالهجرة إلى المدينة، فمنهم من يتعلق به أهله وولده، يقولون: ننشدك بالله أن لا تضيعنا، فيرق عليهم ويدع الهجرة، فأنزل الله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ} إلى قوله: {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} " [سورة التوبة آية: 24] . إذا عرفت ذلك، فلا يخفى أن أهل نجد في هذه الحادثة، صاروا أصنافاً: فالصنف الأول: دخلوا تحت حكم هذه الآية، لما ابتلوا بالعدو، أخلدوا إلى الأرض، ورضوا بالمقام معهم وتحت أمرهم؛ فتركوا ما وجب عليهم من الفرار بدينهم، ومفارقة عدوهم، إيثاراً لدنياهم. وأحبوا المقام، وداهنوا أولئك الأقوام، وخدموهم، وأعانوهم، وتقربوا إليهم بما لم يحبه الله ولا يرضاه، بلا قسر ولا إكراه. الصنف الثاني - وهم أشد-: نقضوا عهد الإسلام، واستجلبوا العدو إلى الأوطان، وآووهم وظاهروهم، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 255 ونصروهم، ونابذوا المسلمين المهاجرين، بالشتم والسب، وألبوا العدو عليهم؛ وصارت مسبة من هاجر هي دينهم، وسفهوا المسلمين، واستصلحوا بزعمهم حالهم، ظناً منهم أنه لا طاقة لأحد بهذا العدو، وأن أمرهم سيستقر في جميع البلاد النجدية؛ فضل سعيهم وخابت آمالهم. والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون. الصنف الثالث: حصل منهم إقامة بين أظهرهم، ولم يتبين منهم ما يتبين من الصنفين. وهؤلاء قسمان: مستطيع للهجرة، وغير مستطيع. والله أعلم بحالهم، وهؤلاء لم يظهروا في العلانية ما يستدل به على السريرة، بل ربما ظهر منهم كراهة الباطل، والفساد والمعاصي، وهم على خطر. والله أسأل أن يمن على الجميع بالتوبة النصوح. الصنف الرابع: أناس نفروا في الابتداء، وجاهدوا وصبروا، لكنهم بعد ذلك لم يستقيموا على ذلك، وحصل لهم فتنة صاروا فيها فرقاً؛ فعسى الله أن يتداركهم برحمته، وأن يتوب عليهم، إنه هو التواب الرحيم. وأما الصنف الخامس: فمنهم الذين ثبتوا ولم يمكنوا منهم عدواً، وصبروا على ركوب الأهوال في جميع الأحوال؛ نسأل الله لنا ولهم الثبات على الإسلام، والاستقامة على الإيمان، والفضل لله تعالى على من ثبت واستقام، وصبر على أذى الخلق في طاعة الحق، وبالله التوفيق. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 256 ووجدت لعالم الحجاز، ومفتيهم الإمام: محمد بن أحمد الحفظي، فصلاً نافعاً فيما وقع من الفتنة بالحجاز، بعد وقعة "سبل" المعروفة، وما جرى في تلك المدة من الافتتان عن الدين. وذكر أن الله أطفأ نار المفسدين، وأطلع نور الموحدين، ولكنه قد حصل في تلك المدة الماضية، أمور عظام، هي أكبر الذنوب، وأعظم الآثام، قد بلغ الشيطان فيها مراده، ممن كان يدعي الإسلام. منها: أن منهم من كره ما أنزل الله في كتابه من شرائع الدين. ومنهم: من طعن في ذلك، وأبغض الإسلام والمسلمين. ومنهم: من ظاهر ووالى على طمس أعلام الموحدين، وأرادوا إحياء أضدادها، من أعمال الجاهلية، وأفعال المشركين. ومنهم: من استهزأ بالله وآياته ورسوله والمؤمنين. ومنهم: من رضي بذلك وعزم عليه، وأعان بنفسه أو ماله أو لسانه؛ وقد ورد الوعيد الشديد فيمن أعان، ولو بشطر كلمة في قتل مسلم، فكيف الإعانة على حرب الإسلام والمسلمين؟ ومنهم: من اتصف أو تخلق بأخلاق المنافقين، وأبرز ما كان يكنه من الداء الدفين. ومنهم: من أشاع الكذب والأراجيف بقوة العدو، وضعف أهل الإيمان فارحاً بذلك، شامتاً بالمسلمين. ومنهم: من ظن بالله ظن السوء، بأنه أدال العدو، واضمحل الجزء: 8 ¦ الصفحة: 257 ما كان من النصر والتمكين. ومنهم: من نقض بيعته ونكث صفقته، واستبدل الرخيص بالثمين. وهذه الأمور كلها جرت بغير إكراه ولا تعيين، وكل واحدة منها تخدش في وجه إيمان فاعلها، وتفت في عضد إسلام عاملها، وهي من المعاند ردة عن الإسلام، وإما نفاق في الدين. وذكر الأدلة من القرآن، قال: فالإنسان أعرف بنجاسته وطهارته، وأخبر بمعصيته وطاعته؛ وكفى بنفسك اليوم عليك حسيباً، وبربك عليك رقيباً. ولعلك أن تقول: هولت الأمر، فأقول: بل الأمر أكبر مما حسبت، وأكثر مما سمعت، تحسبونه هيناً وهو عند الله عظيم. وذكر الأدلة على ذلك. ثم قال: وفي السنن: "أن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه حكم بكفر أهل مسجد في الكوفة، قال واحد: إنما مسيلمة على حق فيما قال، وسكت الباقون. فأفتى بكفرهم جميعاً". فلا يأمن الإنسان أن يكون قد صدر منه كلمة كفر، أو سمعها وسكت عليها، ونحو ذلك. فالحذر الحذر، أيها العاقلون! والتوبة التوبة أيها الغافلون! فإن الفتنة حصلت في أصل الدين، لا في فروعه، ولا في الدنيا؛ فيجب أن تكون العشيرة، والأزواج، والأموال، والتجارة، والمساكن، وقاية للدين، وفداء عنه، ولا يجعل الدين فداء عنها، ووقاية لها، قال تعالى: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 258 {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [سورة التوبة آية: 24] . فتفطن لها وتأملها! فإن الله أوجب أن يكون الله ورسوله والجهاد، أحب من تلك الثمانية كلها، فضلاً عن واحدة منها، أو أكثر، أو شيء دونها مما هو أحق. فليكن الدين عندك أغلى الأشياء وأعلاها، والتوبة أهم الأمور وأولاها. انتهى المقصود من كلامه. رحم الله هذا الإمام ما أبصره! والحمد لله الذي جعل في كل زمان من يقول الحق، ويرشد إلى الهدى والصدق، وتندفع بعلمه حجج المبطلين، وتلبيس الجاهلين المفتونين. فيا لها من نعمة لا يستطيع من وفق لها أن يقوم بشكرها! فما ذاك إلا بتوفيق الله وفضله وإحسانه. وأما هذا المغرور المسكين وأمثاله، فإنهم خاضوا في غمرات الافتتان، واطمأنت قلوبهم إلى أهل الظلم والعدوان، وأكثروا التردد عليهم والمسير إليهم طوعاً واختياراً، وتعرضوا لما في أيديهم من حطام الدنيا سراً وجهاراً. فأين القلب المطمئن بالإيمان، إذا كان مدعيه يجري مع الهوى في كل ميدان؟ فما أشبه حال هذا وأمثاله، بالضرب الثاني، من الجزء: 8 ¦ الصفحة: 259 الضروب الأربعة، الذين ذكرهم العلامة ابن القيم، رحمه الله؛ وهم الذين لهم أوفر نصيب، من قوله: {لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [سورة آل عمران آية: 188] ، يفرحون بما أتوا من البدعة والضلالة، ويحبون أن يحمدوا باتباع السنة والإخلاص. وهذا يكثر فيمن انحرف من المنتسبين إلى العلم والعبادة عن الصراط المستقيم، فإنهم يرتكبون البدع والضلالات، والرياء والسمعة، ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا من الاتباع والإخلاص والعلم؛ فهم أهل الغضب والضلال. وأما قول المعترض المفتري في وصف نفسه في تلك الحالة: أنه هاجر للمناهي، عامل بالأوامر، فهذا في غاية التناقض والمكابرة؛ فقد أقر قبل ذلك بأنه كان في إقامته معهم، صابراً على ما ينوبه منهم، من المهاون والخسائر. فإذا كان في عدادهم، وفي سوادهم، وطاعتهم، ومعونتهم بالمال، فلا ريب أن هذا كله من المناهي، فهو في أوامر أولئك الخلق، لا في رضى الإله الحق. وكلامه يناقض بعضه بعضاً. فإن العامل بأوامر الله، الهاجر لمناهيه، لا تكون حاله كذلك، من موالاة الباطل والركون إليه، ومظاهرة أهله وتعظيمهم، والتذلل لهم والخضوع بين أيديهم؛ وكل هذه الجزء: 8 ¦ الصفحة: 260 الأمور قد أسجل الله في كتابه على فاعلها بالوعيد الشديد، وسلب الإيمان، وحبوط الأعمال، والله المستعان. فلو ترك هؤلاء المراء والجدال، وأحجموا عن هذه الترهات، وتابوا وأنابوا إلى عالم السر والخفيات، لكان خيراً لهم. وأما قوله: فذاك- والله- عندنا المسلم المهاجر، فأقول: ألا تعجبون يا إخواني من هذا المسكين؟! وأيم الله، لا يقول هذا من له مسكة من عقل. يدعي الهجرة، ويقصرها على من تركها رأساً، أين ذهب عقله عن قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً} الآية [سورة الحج آية: 58] ، وقوله: {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً} [سورة النساء آية: 100] ، وقوله: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [سورة العنكبوت آية: 56-57] ، إلى غير ذلك من الآيات، المعرفة بالهجرة وثوابها، وأنها الانتقال من الأوطان والمساكن، ومفارقة الأهلين والإخوان، في طاعة الله ومرضاته. فالمهاجر هجر أهل الكفر والمعاصي، بمفارقتهم والانتقال عنهم، إلى محل لا يرى فيه منكراً، ولا يسمع فيه باطلاً، تحيزاً بدينه، كما دل عليه الكتاب، والسنة، والعقل، والفطرة، وعليه المسلمون قاطبة. فما أشبه هذا الرجل، في صرف الهجرة عن حقيقتها الشرعية، بالباطنية الجزء: 8 ¦ الصفحة: 261 الملاحدة، في تأويلهم الشريعة على غير حقائقها التي أرادها الله من العباد. قال العماد ابن كثير، في الآية الأولى: يخبر عمن خرج مهاجراً في سبيل الله، ابتغاء مرضاته، وترك الأوطان، والأهلين والخلان، وفارق بلاده في الله ورسوله، ونصرة دين الله، ثم قُتلوا، أي: في الجهاد، أو ماتوا حتف أنوفهم من غير قتال، فقد حصلوا على الأجر الجزيل، والثناء الجميل، كما قال تعالى: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [سورة النساء آية: 100] . ومن المعلوم بالضرورة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه هاجروا عن مكة، وهي أفضل البلاد، وأحبها إلى الله، ولحقوا بالمدينة، امتثالاً لأمر الله، وطلباً لمرضاته، وعداوة لأعدائه. وقد قال تعالى فيمن لم يهاجر منهم: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} إلى قوله: {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} [سورة النساء آية: 97] ، ولم يستثن من هذا الوعيد، إلا من ترك الهجرة لعدم الاستطاعة، فقال: {إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ} [سورة النساء آية: 98-99] ، وما سموا مهاجرين، وإن كانوا معذورين: {يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 262 الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً} الآية [سورة النساء آية: 75] . فسبحان الله، ما أسرع هذا الرجل إلى الخطإ والخطل! وإن كان لا يعذر بالإقامة إلا من جمع هذين الوصفين، فما عذر امرئ صبر على المهاون والخسائر، ومشاهدة المعاصي والكبائر، وهو على مفارقة ذلك كله قادر؟! وما عذره في الصبر على ترك ما وجب عليه، وفعل ما حرمه الله تعالى؟ لكن هؤلاء فرحوا بما عندهم من المحال، وقنعوا بما ألفوه من الخيال؛ وتركب من هذا إيثار ما عندهم على ما سواه. وقد يحمل ذلك على أن يأمر بالباطل ويرتضيه، ومن لم يأمر به منهم لم ينه عنه، بل يقره ولا ينفيه. وقد يرجح أهل الشرك والمعاصي على الموحدين؛ وهذا مما يبتلى به أهل الأهواء. والمعافى من عافاه الله، من إيثار أمر دنياه على أخراه، وهذا هو الواقع من بعض هؤلاء. وقد ذكر أئمتنا من أهل السنة، رحمهم الله تعالى: أنه وقع من أناس في زمانهم وقبله، لا يبلغ هؤلاء معشار ما عندهم من الفهم والعلم، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وحسبنا الله ونعم الوكيل، ولقد أحسن من قال: يقضى على المرء في أيام محنتهِ ... حتى يرى حسناً ما ليس بالحسنِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 263 والبصير لا يغتر باستحسان هؤلاء وأمثالهم، ما ركبوه وزينوه من باطلهم، ولا بتركهم الحق واستهجانهم له ولأهله، فإن الله تعالى ميز الخلق، بإرادتهم وأعمالهم وأقوالهم، وبين الصادق من الكاذب، وتدبر كتاب الله، وتفكر في آياته وحججه وبيناته، ولقد أحسن من قال شعراً: فالحق شمس والعيون نواظر ... لكنها تخفى على العميانِ وأما قوله: ومن كفر مسلماً فهو الكافر. فالجواب: أنه ما من أحد إلا وهو يدعي الإسلام لنفسه، ولكل قول حقيقة. وقد ذكر شيخنا، رحمه الله تعالى، تعريفاً جامعاً لأصل الإسلام، قال: أصل دين الإسلام، وقاعدته أمران: الأمر بعبادة الله وحده لا شريك له، والتحريض على ذلك، والموالاة فيه، وتكفير من تركه. الثاني: الإنذار عن الشرك في عبادة الله، والتغليظ في ذلك، والمعاداة فيه، وتكفير من فعله. والمخالف في ذلك أنواع: فأشدهم مخالفة، من خالف في الجميع. ومنهم: من عبد الله وحده، ولم ينكر الشرك. ومنهم: من أشرك ولم ينكر التوحيد. ومنهم: من أنكر الشرك ولم يعاد أهله. ومنهم: من عاداهم ولم يكفّرهم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 264 ومنهم: من لم يحب التوحيد، ولم يبغضه. ومنهم: من أنكره ولم يعاد أهله. ومنهم: من عاداهم ولم يكفّرهم. ومنهم: من كفّرهم، وزعم أنه مسبة للصالحين. ومنهم: من لم يبغض الشرك، ولم يحبه. ومنهم: من لم يعرف الشرك ولم ينكره. ومنهم: وهو أشد الأنواع خطراً: من عمل بالتوحيد ولم يعرف قدره، فلم يبغض من تركه، ولم يكفّرهم. ومنهم: من ترك الشرك وكرهه، وأنكره، ولم يعرف قدره؛ فلم يعاد أهله، ولم يكفّرهم. وكل هؤلاء قد خالفوا ما جاء به الأنبياء من دين الله. انتهى كلامه رحمه الله تعالى. فيقال لهذا المسكين: تفطن في نفسك! هل أنت داخل في هذه الأنواع؟ فإن كنت فيها، فما أسلمت حتى يثبت لك الإسلام. ويقال أيضاً: من هذا الذي كفّرك، وواجهك بالتكفير؟ فإن ثبت من شخص معروف، فينظر: هل وافق الحكم المحل أو لا؟ فإن وافقه فلا اعتراض على من حكم بالدليل. وإن لم يوافق الحكم المحل، قلنا: جواب ثان عن قولك: من كفّر مسلماً فهو الكافر، فيقال لك: صحح نسبة هذا القول إلى قائل معروف يحتج بقوله، ويكفينا في قبوله إذا كان له وجود في دواوين الإسلام التي صنفها الحفاظ من أهل الحديث. فإن لم تجد له أصلاً بهذا اللفظ، فكيف تحكيه جازماً به؟ وما كان كذلك فلا ينهض الاحتجاج به، نعم، قد ثبت في الصحيح عن أبي ذر: "ومن دعا رجلاً بالكفر، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 265 أو قال: عدو الله، وليس كذلك، إلا حار عليه". فليتأمل قوله: "وليس كذلك"، ومعنى قوله: "حار عليه" أي: رجع، قال الله تعالى: {إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ} [سورة الانشقاق آية: 14] ، قال العلماء: وهذا وعيد شديد إذا لم يكن خصومهم كذلك. والكلام إنما هو على أفعال وأقوال تناقض الإسلام، فإن للإسلام نواقض مذكورة في كتب الفقه، لأرباب المذاهب الأربعة وغيرهم؛ فمن وقع في شيء منها حكموا بردته، إلا أن يتوب ويراجع الحق. فإن تاب توبة نصوحاً، وهي التي استكملت شروط التوبة، فإن الله تعالى يقبل توبة التائبين إذا صحت منهم، وظهر من صالح الأقوال والأعمال والأحوال، ما يدل على ذلك، كما قال تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ} [سورة النساء آية: 146] . فإذا حصلت هذه الأمور الأربعة ظاهراً وباطناً، {فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً} [سورة النساء آية: 146] . فدلت الآية على أنه لا يكون مقدماً على أحد من المسلمين، ولا يتولى شيئاً من أعمالهم، ولو صحت توبتة بشروطها المذكورة في الآية. وأما من لم يعرف له توبة صحيحة، فالواجب أن يعامل معاملة أمثاله من المنافقين، بالإعراض عنه، وجهاده على ما يقع منه، لأن الله تعالى ميز عباده بالفتن، كما قال تعالى: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 266 {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [سورة العنكبوت آية: 3] ، وقال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [سورة التوبة آية: 16] ، وقال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [سورة الحج آية: 11] . وهذا الضرب من الناس، ينبغي أن ينزلوا منازلهم التي أنزلهم الله، كما قال تعالى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ} الآية [سورة القلم آية: 35] . فإذا كانوا قد أتوا شيئاً من المكفرات قولاً أو عملاً، أو ارتكبوا بدعة ولم يتوبوا توبة نصوحاً، فيجب على كل مسلم أن يبغضهم على ذلك، كما ورد في الحديث: "أوثق عرى الإيمان: الحب في الله والبغض في الله " 1؛ فمن لم يحب أهل التوحيد والإيمان، ويبغض أهل البدع والضلال، فقد نقض أوثق عرى الإسلام. وقد جاءت الأحاديث والآثار بالتحذير من أهل البدع، والترغيب في هجرهم، والبعد عنهم؛ فمن ذلك: ما رواه اللالكائي في كتاب السنة، عن الفضيل بن عياض: من أتاه رجل فدله على مبتدع، فقد غش الإسلام. فاحذروا الدخول على أصحاب البدع، فإنهم يصدون عن الحق.   1 أبو داود: السنة (4599) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 267 وقال أيضاً: لا تجلس مع صاحب بدعة، فإني أخاف أن تنزل عليك اللعنة. ومن أحب صاحب بدعة أحبط الله عمله، وأخرج نور الإسلام من قلبه. وصاحب البدعة لا تأمنه على دينك، ولا تشاوره في أمرك، ولا تجلس إليه؛ فمن جلس إلى صاحب بدعة أورثه الله العمى. وأخرج اللالكائي عن عطاء الخراساني: ما يكاد الله أن يأذن لصاحب بدعة بتوبة. وأمثال هذا كثير عن السلف والأئمة، ولو تتبعناه لطال الجواب. إذا عرف ذلك، فلو قدر أن رجلاً من المسلمين قال في أناس: قد تلطخوا بأمور، قد نص العلماء على أنها كفر، مستندين في ذلك إلى الكتاب والسنة، غيرة لله وكراهة لما يكره الله من تلك الأعمال. فغير جائز لأحد أن يقول في حقهم. ومن كفّر مسلماً فهو الكافر. على أنا لا نعلم أن أحداً من المسلمين كفّر شخصاً بعينه، اللهم إلا أن يحكي أفعالهم، فيظن السامع لذلك أنه كفّرهم. وأما الحديث الذي ذكرناه، فقد تأوله العلماء بما هو معروف، كأمثاله من أحاديث هذا الباب، كحديث: " سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر " 1، وأيضاً، فهو مقيد بقوله: "وليس كذلك". ولا يخفى ما جرى من الصحابة، رضي الله تعالى عنهم، كقوله في مالك بن الدخشم: إنه منافق، لا يحب الله ورسوله، فلم يعنفهم النبي صلى الله عليه وسلم بل قال: " ألا تراه قال: لا إله   1 البخاري: الإيمان (48) , ومسلم: الإيمان (64) , والترمذي: البر والصلة (1983) والإيمان (2634, 2635) , والنسائي: تحريم الدم (4105, 4106, 4108, 4109, 4110, 4111, 4112, 4113) , وابن ماجة: المقدمة (69) والفتن (3939) , وأحمد (1/385, 1/411, 1/417, 1/433, 1/439, 1/446, 1/454, 1/460) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 268 إلا الله " 1، فقال: الله ورسوله أعلم، فإنا نرى وجهه ونصيحته للمنافقين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " فإن الله حرم على النار من قال: لا إله إلا الله، يبتغي بذلك وجه الله " 2. وقد قال بعض العلماء: إن ذلك الرجل كان من أهل بدر. ومن المعلوم: أن الخوارج طعنوا على ولاة الأمر، وكفروا علياً ومن قاتل معه من الصحابة وغيرهم، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم الأمر بقتالهم، والبشارة لمن قاتلهم، كما هو معروف ثابت في الصحيحين، والسنن، والمسانيد. ولما قيل لعلي: أكفارٌ هم؟ فقال: "من الكفر فروا". فلو ذكرنا الأحاديث الواردة في الخوارج، لطال الجواب. وكلام العلماء على الحديث المتقدم ذكره، قال النووي في شرح مسلم: " ومن دعا رجلاً بالكفر، أو قال: عدو الله، وليس كذلك، إلا حار عليه " 3: هذا مما عده بعض العلماء من المشكلات، فإن مذهب أهل الحق: لا يكفر المسلم بالمعاصي كالقتل والزنى. وفي تأويل الحديث أوجه: أحدها: أنه محمول على المستحل. والثاني: معناه رجعت عليه معصيته. والثالث: أنه محمول على الخوارج المكفرين للمؤمنين، وهذا ضعيف، لأن الصحيح المختار الذي قاله الأكثرون المحققون: أن الخوارج لا يكفرون. والرابع: أنه يؤول إلى الكفر، لأن المعاصي بريد الكفر. انتهى ملخصاً.   1 البخاري: الجمعة (1186) , ومسلم: الإيمان (33) . 2 البخاري: الصلاة (425) , ومسلم: الإيمان (33) . 3 مسلم: الإيمان (61) , وأحمد (5/166) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 269 فانظر إلى ما حكاه النووي، رحمه الله، من أن الصحيح الذي قاله الأكثرون المحققون: أن الخوارج لا يكفرون ببدعتهم، وحسبك بهذا الإمام. فمن تأمل أحوال الصحابة، رضي الله عنهم، عرف الخطأ من الصواب؛ لكن من أعظم الآفات عدم العلم وفساد القصد، وهما آفة الأكثرين، وفساد الدين، نسأل الله العافية في الدنيا والآخرة. فما الذي حمل هذا المسكين على التمويه على جهلة الناس، وتشكيكهم في أمر دينهم والإلباس؟ فمن ذلك قوله في آخر ورقته: فرحم الله امرأً قال الحق، وبه صدع، فالحق أحق أن يتبع. فالجواب أن يقال: تأمل ما تقدم من الجواب، فإن الحق بحمد الله فيه ظاهر؛ فإن كان طالب حق وجده، وإلا فقد قامت عليه الحجة، وانزاحت الشبهة، عمن أراد البيان ووفق لفهم العلم والإيمان، والله المستعان. فعسى الله أن يمنع عنه موانع الهداية، وأسباب الضلالة والغواية، فإن هذا الرجل قد قال بمقالة الخوارج وهو لا يدري، وذلك في قوله: ومن كفر مسلماً فهو الكافر، وبيانه فيما أسلفناه من كلام النووي، رحمه الله، من أن مذهب أهل السنة والجماعة عدم التكفير بالذنوب، وهذا قد حكم بالكفر على مرتكب هذا الذنب. فلو قدر أن أحداً قال في حق مسلم صحيح الإسلام أنه الجزء: 8 ¦ الصفحة: 270 كافر، فأهل السنة لا يكفّرونه بذلك، لأن هذا ذنب من الذنوب، وقد عرفت تأويلهم للحديث، وأن الأخذ بالظواهر المخالفة لأصول السنة، وما عليه الصحابة والتابعون وعلماء الأمة، هو رأي الخوارج، كما قال العلامة ابن القيم، رحمه الله شعراً: من لي بشبه خوارج قد كفّروا ... بالذنب تأويلاً بلا حسبانِ ولهم نصوص قصّروا في فهمها ... فاتوا من التقصير في العرفانِ هم خالفوا نصًّا لنصٍّ مثلهِ ... لم يفهموا التوفيق بالإحسانِ لكنكم خالفتمُ المنصوص با ... لشُّبهِ التي هي فكرة الإنسانِ والمقصود: بيان حال صاحب الورقة، وأنه قال بقول الخوارج، المخالف لما عليه أهل السنة والجماعة، فكفّر المسلمين بدعوى ادعاها، لعلة اختلقها، أو تلقاها ممن لا يعتمد عليه، ولا يعوّل في الأخبار عليه؛ وقد تقدم قوله في الهجرة: أن من لزم وطنه، مع ما يقع فيه من الظلم والفساد، أنه هو المهاجر الصابر، وقد عرفت: أنه عكس الحقيقة، وخالف الكتاب والسنة، والفطرة السليمة، والعقول الصحيحة، وأنكر ما هو معلوم من الدين بالضرورة. وقوله المشار إليه، يشبه قول الباطنية الإسماعيلية الملاحدة، الذين تأولوا شرائع الدين على غير حقائقها، وقولهم يتضمن تعطيل الشرائع، وهم من أضر المبتدعة على دين الإسلام. هذا، ونحن نعلم أنه قد وقع فيما وقع فيه عن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 271 جهالة، فلو عرف حقيقة حال المبتدعة، لعلم أن اقتفاء آثارهم من أعظم المطاعن عليه، لكنه يقال في حق مثله شعراً: إذا كنت لا تدري فتلك مصيبةٌ ... وإن كنت تدري فالمصيبة أعظمُ ومن عجيب أمر هذا الرجل وأمثاله، ممن انتصب للتدريس بلا علم، وأفتى من غير إجازة ولا فهم، أن منهم من يصرح بتكفير أهل لا إله إلا الله، علماً وعملاً ودعوة وجهاداً، بكونهم يكفّرون عباد الأوثان، وهم يقولون: لا إله إلا الله؛ وهذا منهم في غاية التناقض والفساد، ومخالفة الكتاب والسنة، وإجماع الأمة، وهذا شر من قول الخوارج، كما لا يخفى على أولي البصائر. وقد أشرت فيما تقدم إلى حاله، وأنه لا يدري ما يقول، ولا يدري أنه لا يدري؛ فلو سكت لكان يسعنا السكوت عنه، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 272 [مخالطة المشركين وأهل البدع] وله أيضاً، أسكنه الله الفردوس الأعلى: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الرحمن بن حسن، إلى الأخ: عيد، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد، الذي أوصيك به ونفسي: تقوى الله، والقيام له، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وحض إخوانك على هذا، والقيام معهم، ودحر الرديء وردعه؛ فإذا صلحت سريرة العبد، وصار مقصده الحق، والقيام لله وفي الله، أعانه الله وسدده، وإلا وكله إلى نفسه. وما ذكرت من الآية والحديث، وما وجه الجمع بينهما؟ فقال ابن كثير في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} [سورة النساء آية: 97] : فهذه الآية عامة، في كل من أقام بين ظهراني المشركين، وهو قادر على الهجرة، وليس متمكناً من إقامة الدين، فهو مرتكب حراماً بالإجماع، وبنص الآية، حيث يقول تعالى: {ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} [سورة النساء آية: 97] أي: بترك الهجرة. وقد عرفتم ما ذهب إليه المحققون من العلماء، من أن حكمها باق إلى يوم القيامة، إذا وجد المقتضي لها. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 273 وأما معنى الحديث، فلم يتبين لي فيه ما تطمئن إليه النفس، وسأبحث عن معناه، وأكتب لك الجواب مبسوطاً، إذا فتح الله تعالى، إن شاء الله، ونقول: {سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [سورة البقرة آية: 32] . وأجاب أيضاً: وأما ما ذكرت من الأسئلة، في مخالطة المشركين، وأهل البدع، فإن كان لك قدرة على الهجرة عنهم، وجبت عليك، لما فيها من حفظ الدين، ومفارقة المشركين، والبعد عنهم، وأما من كان من المستضعفين، الذين لا قدرة لهم على الهجرة، فعليه أن يعتزلهم ما استطاع، ويظهر دينه، ويصبر على أذاهم، فقد قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} الآية [سورة العنكبوت آية: 10] ، والله المستعان. وأما السؤال عن قوله تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ} [سورة النحل آية: 106] ، فالآية نزلت في شأن عمار بن ياسر، لما عذبه مشركو مكة، وحبسوه في بئر ميمون، وأكرهوه على كلمة الكفر، فقالها تخلصاً من عذابهم، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال: "فإن عادوا فعُدْ "، وهذا قبل وجوب الهجرة، فأنزل الله هذه الآية. وأما حديث: " أنا بريء من مسلم بين أظهر المشركين، لا تراءى ناراهما "، فهذا في حق من له قدرة على البعد عنهم، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 274 وأما من لا يمكنه البعد عنهم، بحيث لا يقدر على ذلك بوجه من الوجوه، فلا. وأما حديث: " من أنكر فقد برئ، ومن كره فقد سلم، ولكن من رضي وتابع، فأولئك هم الهالكون " 1، فقد تقدم بيان ذلك في معنى حديث: "من رأى منكم منكراً فليغيره بيده " 2. فالإنكار يجب مع الاستطاعة، والكراهة هي أضعف الإيمان. وأما الرضى بالمنكر، والمتابعة عليه، فهو الهلاك الذي لا يرجى معه فلاح. وسئل: عمن سافر إلى بلاد المشركين للتجارة؟ فأجاب: أما السفر إلى بلاد المشركين للتجارة، فقد عمت به البلوى، وهو نقص في دين فاعله، لكونه عرض نفسه للفتنة، بمخالطة المشركين؛ فينبغي هجره وكراهته، وهذا هو الذي يفعله المسلمون معه، من غير تعنيف ولا سب، ولا ضرب. ويكفي في حقه إظهار الإنكار عليه، وإنكار فعله، ولو لم يكن حاضراً؛ والمعصية إذا وجدت، أنكرت على من فعلها أو رضيها إذا اطلع عليها.   1 مسلم: الإمارة (1854) , والترمذي: الفتن (2265) , وأبو داود: السنة (4760) , وأحمد (6/295) . 2 مسلم: الإيمان (49) , والترمذي: الفتن (2172) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (5008, 5009) , وأبو داود: الصلاة (1140) والملاحم (4340) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1275) والفتن (4013) , وأحمد (3/10, 3/20, 3/49) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 275 وسئل أيضاً: الإنسان إذا لم يحصل له الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، أنه يهاجر؟ فأجاب: هذه المسألة، كما قال العلماء، رحمهم الله تعالى، تجب الهجرة على من عجز عن إظهار دينه بدار الحرب، فإن قدر على إظهار دينه، فهجرته مستحبة لا واجبة. وقال بعضهم بوجوبها، لما في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " أنا بريء من مسلم بين ظهراني المشركين " 1. فإن لم تكن البلد بلد حرب، ولم يظهر الكفر فيها، لم نوجب الهجرة منها، إذا لم يكن فيها إلا المعاصي؛ وعلى هذا يحمل الحديث الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من رأى منكم منكراً فليغيره بيده " 2 الحديث.   1 الترمذي: السير (1604) , والنسائي: القسامة (4780) , وأبو داود: الجهاد (2645) . 2 مسلم: الإيمان (49) , والترمذي: الفتن (2172) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (5008, 5009) , وأبو داود: الصلاة (1140) والملاحم (4340) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1275) والفتن (4013) , وأحمد (3/10, 3/20, 3/49, 3/52, 3/54, 3/92) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 276 [الهجرة عن بلاد المشركين] وقال أيضاً، رحمه الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله مفلج الحق وناصره، ومدحض الباطل وماحقه، تكفل سبحانه بنصر الدين، وأقام بمحكم آي القرآن، حجته على كافة العالمين، وصلى الله على محمد، وآله وصحبه، والتابعين. أما بعد، فإن الله سبحانه من حكمته ولطفه ورحمته، لم يترك مدعي الإسلام والإيمان، بلا محنة يختبر بها الصدق من الكذب، ويميز بها بين المرتاب والمستيقن، وله في ذلك حكمة بالغة، ومشيئة نافذة، وحجة دامغة؛ وقد تعددت سنته سبحانه وأيامه في خلقه بذلك، قرناً فقرناً، وجيلاً فجيلاً، حتى خبطتنا، معشر المتكلمين، محنة لنا، واختباره لنا منه، بقدوم العساكر العراقية، لبعض بلاد المسلمين، واستيلائهم عليها. فعند ذلك، ميز الله بين الصادق في إسلامه وإيمانه، وبين المرتاب في ذلك وضعيف اليقين أو الكاذب أصلاً، حتى آل الأمر إلى أن تكلم بعض الناس، في إسقاط الواجبات الدينية، والفرائض الإسلامية، وأقام المعاذير الباطلة، لمن آثر ملاذه الدنيوية، وشهواته العاجلة، على ما أمر الله به ورسوله، وافترضه على خلقه، من الهجرة عن بلاد الجزء: 8 ¦ الصفحة: 277 المشركين، والفرار بالدين، فروجوا بذلك على عوام المسلمين. فأحببت أن أنقل بعض كلام أئمة المفسرين، على محكم الآيات القرآنية، لينتفع بذلك طالب الحق، ويكون حجة على من نازع وماحل وجادل، فلا بد من وجود هذا الصنف، لا كثّرهم الله، قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} [سورة الشورى آية: 16] ، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا} [سورة فصلت آية: 40] ، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ} [سورة غافر آية: 56] . فاسمع يا طالب الحق: قال الإمام أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، رحمه الله تعالى: قوله تعالى: {الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [سورة العنكبوت آية: 1-2] ، قال: معناه: أظنَّ الذين جزعوا، يا محمد، من أصحابك، من أذى المشركين إياهم، أن نتركهم من غير اختبار، ولا ابتلاء وامتحان، بأن قالوا: آمنا بك يا محمد، وصدقنا بما جئتنا به من عند الله؟ كلا! لنختبرنهم، ليتبين الصادق من الكاذب. وقوله: {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} الجزء: 8 ¦ الصفحة: 278 [سورة العنكبوت آية: 3] . قال: نزلت من أجل قوم كانوا قد أظهروا الإسلام بمكة، وتخلفوا عن الهجرة. والفتنة التي فتن بها هؤلاء، هي الهجرة التي امتحنوا بها. ذكر من قال ذلك، ثم ذكر بسنده عن الشعبي قال: إنها نزلت {الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا} الآيتين [سورة العنكبوت آية: 1-2] في أناس بمكة، قد أقروا بالإسلام، فكتب إليهم أصحاب نبي الله صلى الله عليه وسلم أنه لا يقبل منكم إسلام حتى تهاجروا، فخرجوا عامدين إلى المدينة، فاتبعهم المشركون فردوهم. فنزلت فيهم هذه الآية، فكتبوا إليهم أنه قد نزلت فيكم هذه الآية، آية كذا وكذا. فقالوا: نخرج، فإن تبعنا أحد قاتلناه. قال: فخرجوا، فاتبعهم المشركون، فقاتلوهم، فمنهم من قتل، ومنهم من نجا، فأنزل الله فيهم: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [سورة النحل آية: 110] . وقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} إلى آخر الآية [سورة العنكبوت آية: 10] ، قال: نزلت في قوم من أهل الإيمان، كانوا بمكة فخرجوا مهاجرين، فأدركوا وأخذوا، فأعطوا المشركين لما نالهم أذاهم ما أرادوا منهم، ذكر الخبر بذلك. ثم ذكر بسنده عن عكرمة، عن ابن عباس قال: "كان الجزء: 8 ¦ الصفحة: 279 قوم من أهل مكة أسلموا، وكانوا يستفتحون بإسلامهم، فأخرجهم المشركون يوم بدر معهم، فأصيب بعضهم، فقال المسلمون: كان أصحاب هؤلاء مسلمين وأكرهوا، فاستغفروا لهم، فنزلت: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ} الآية [سورة النساء آية: 97] . قال: فكتبوا إلى من بقي من المسلمين بمكة بهذه الآية: أن لا عذر لهم. فخرجوا، فلحقهم المشركون فأعطوهم الفتنة، فنزلت هذه الآية: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ} إلى آخر الآية [سورة البقرة آية: 8] ، فكتب المسلمون إليهم بذلك، فخرجوا وأيسوا من كل خير. ثم نزلت فيهم: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [سورة النحل آية: 110] ، فكتبوا إليهم بذلك: أن الله قد جعل لكم مخرجاً. فخرجوا، فأدركهم المشركون، فقاتلوهم حتى نجا من نجا، وقتل من قتل". فانظر قول المسلمين: كان أصحاب هؤلاء مسلمين، وأكرهوا، فاستغفروا لهم، فنزلت: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ} الآية [سورة النساء آية: 97] ، وظاهرها أنهم نهوا عن الاستغفار والدعاء، لمن قد مات مع سواد المشركين، ولو كان مسلماً. فما أعز من يتفطن لهذه المسألة! بل ما أعز من يعتقدها ديناً! الجزء: 8 ¦ الصفحة: 280 {وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ} إلى آخر الآية [سورة العنكبوت آية: 8] ، قال: نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبب سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه. ثم ذكر بسنده عن قتادة قال: "نزلت في سعد بن أبي وقاص، لما هاجر قالت أمه: والله لا يظلني بيت حتى يرجع سعد، فأنزل الله عز وجل في ذلك: أن يحسن إليهما، ولا يطيعهما في الشرك". وقوله تعالى: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} [سورة العنكبوت آية: 56] ، يقول تعالى: يا عبادي الذين وحدوني، وآمنوا بي وبرسولي محمد صلى الله عليه وسلم، إن أرضي واسعة، لم تضق عليكم، فتقيموا بموضع منها لا يحل لكم المقام فيه؛ ولكن إذا عمل بمكان منها بمعاصي الله، فلم تقدروا على تغييره، فاهربوا منه. ثم ذكر بسنده عن سعيد بن جبير، في قوله: {إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ} [سورة العنكبوت آية: 56] ، قال: إذا عمل فيها بالمعاصي، فاخرج منها. وعن عطاء في قوله: {إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ} [سورة العنكبوت آية: 56] ، قال: إذا أمرتم بالمعاصي فاهربوا، فإن أرضي واسعة. وعن مجاهد: فهاجروا وجاهدوا. وقوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} إلى قوله: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [سورة العنكبوت آية: 57-60] ، قال: يقول تعالى ذكره للمؤمنين به: هاجروا من أرض الشرك إلى أرض الإسلام، فإن أرضي واسعة؛ فاصبروا على عبادتي، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 281 وأخلصوا طاعتي، فإنكم ميتون وصائرون إلي، لأن كل نفس حية ذائقة الموت، ثم إلينا بعد الموت تُردون. ثم أخبر جل ثناؤه عما أعد للصابرين منهم على طاعته من كرامته عنده فقال: {وَالَّذِينَ آمَنُوا} يعني: صدقوا الله ورسوله فيما جاء به من عند الله، {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [سورة العنكبوت آية: 58] ، يقول: وعملوا بما أمرهم الله به، فأطاعوه فيه، وانتهوا عما نهاهم عنه، {لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً} [سورة العنكبوت آية: 58] يقول: لننزلنّهم من الجنة علالي. وقوله: {تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ} [سورة العنكبوت آية: 58] ، يقول: تجري من تحت أشجارها الأنهار، {خَالِدِينَ فِيهَا} ، يقول: ماكثين فيها إلى غير نهاية. {نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [سورة العنكبوت آية: 58] ، يقول: نعم جزاء العاملين بطاعة الله هذه الغرف. {الَّذِينَ صَبَرُوا} [سورة العنكبوت آية: 59] على أذى المشركين في الدنيا وما كانوا يلقون منهم، وعلى العمل بطاعة الله وما يرضيه، وجهاد أعدائه، {وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [سورة العنكبوت آية: 59] في أرزاقهم، وجهاد أعدائه؛ فلا ينكلون عنهم، ثقة منهم بأن الله معلي كلمته، وموهن كيد الكافرين، وأن ما قسم لهم من الرزق، فلن يفوتهم. {وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا} [سورة العنكبوت آية: 60] ، يقول تعالى ذكره للمؤمنين به وبرسوله صلى الله عليه وسلم: هاجروا وجاهدوا في الله، أيها المؤمنون، أعداءه، ولا تخافوا عيلة ولا إقتاراً، فكم من دابة ذات حاجة إلى غذاء ومطعم ومشرب، {لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا} [سورة العنكبوت آية: 60] ، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 282 يعني: غذاءها فترفعه في يومها لغدها، لعجزها عن ذلك، {اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ} [سورة العنكبوت آية: 60] ، يوماً بيوم، {وَهُوَ السَّمِيعُ} لأقوالكم: نخشى، بفراقنا الأوطان، العيْلة، {الْعَلِيمُ} ما في نفوسكم، وما إليه صائر أمركم وأمر عدوكم، من إذلال الله إياهم ونصرتكم عليهم، وغير ذلك من أموركم، لا يخفى عليه شيء من أمور خلقه. وقوله: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} [سورة العنكبوت آية: 61] ، يقول تعالى ذكره: ولئن سألت يا محمد، هؤلاء المشركين بالله، مَن خلق السماوات والأرض فسواهن، وسخر الشمس والقمر لعباده يجريان دائبين لمصالح خلق الله؟ ليقولن: الذي خلق ذلك وفعله: الله. فأنى يؤفكون؟ يقول جل ثناؤه: فأنى يصرفون عمن صنع ذلك، فيعدلون عن إخلاص العبادة له؟ وذكر بسنده عن قتادة: {فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} : أي: يعدلون. وقوله: {اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [سورة العنكبوت آية: 62] ، يقول تعالى ذكره: الله يوسع من رزقه لمن يشاء من خلقه، ويضيق؛ فيقتر لمن يشاء منهم، يقول: فأرزاقكم وقسمتها بينكم أيها الناس بيدي، دون كل أحد سواي: أبسط لمن شئت منها، وأقتر على من شئت؛ فلا يخلفنكم عن الهجرة وجهاد عدوكم الجزء: 8 ¦ الصفحة: 283 خوف العيلة. {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} ، يقول: إن الله عليم بمصالحكم، ومن لا يصلح له إلا البسط في الرزق، ومن لا يصلح له إلا التقتير عليه، وهو عالم بذلك. انتهى. وقال ابن كثير، رحمه الله، في تفسير هذه الآية: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} إلى آخر الآية [سورة النساء آية: 97] : قال البخاري: حدثنا عبد الله بن زيد المقري قال: حدثنا حيوة وغيره قال: حدثنا محمد بن عبد الرحمن أبو الأسود قال: "قطع على أهل المدينة بعث، فاكتتبت فيه، فلقيت عكرمة مولى ابن عباس، فأخبرته، فنهاني عن ذلك أشد النهي. ثم قال: أخبرني ابن عباس: أن أناساً من المسلمين كانوا مع المشركين، يكثرون سوادهم، على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، يأتي السهم، يرمى به فيصيب أحدهم فيقتله، أو يضرب عنقه فيُقتل، فأنزل الله: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} [سورة النساء آية: 97] ". ثم ذكر كلام ابن جرير المتقدم. ثم قال: فهذه الآية الكريمة عامة في كل من أقام بين ظهراني المشركين وهو قادر على الهجرة، وليس متمكناً من إقامة الدين، فهو ظالم لنفسه، مرتكب حراماً بالإجماع، وبنص هذه الآية، حيث يقول تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} [سورة النساء آية: 97] أي: بترك الهجرة {قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ} [سورة النساء آية: 97] أي: لِم مكثتم هاهنا، وتركتم الهجرة؟ {قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الجزء: 8 ¦ الصفحة: 284 الْأَرْضِ} [سورة النساء آية: 97] أي: لا نقوى على الخروج من البلد، ولا الذهاب في الأرض. {قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً} [سورة النساء آية: 97] . ثم ذكر رواية السدي قال: "لما أسر العباس، وعقيل، ونوفل، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للعباس: افد نفسك وابن أخيك. قال: يا رسول الله، ألم نصل قبلتك؟ ونشهد شهادتك؟ قال: يا عباس، إنكم خاصمتم فخصمتم. ثم تلا عليه هذه الآية: {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً} [سورة النساء آية: 97] ". ثم رغب سبحانه في الهجرة، فقال: {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً} [سورة النساء آية: 100] ، وهذا تحريض على الهجرة، وترغيب في مفارقة المشركين؛ فإن المؤمن حيثما ذهب، وجد عنهم مندوحة، وملجأ يتحصن فيه. وقوله: {يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً} أي: من الضلالة إلى الهدى، ومن القلة إلى الغنى. ثم قال: وإن كان سبب نزول هذه الآية خاص فيمن كان مع المشركين، حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحكمها عام، باق إلى يوم القيامة؛ إذ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ولحديث عبد الله بن السعدي، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا تنقطع الهجرة ما قوتل العدو " 1، رواه أحمد والنسائي، ولحديث معاوية: " لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع   1 أحمد (5/270) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 285 التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها " 1. وقال ابن كثير أيضاً، في تفسير قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا} [سورة الأنفال آية: 72] : وهذا هو الصنف الثالث من المؤمنين، وهم الذين آمنوا ولم يهاجروا؛ نهى الله نبيه أن يجعلهم كالمهاجرين، في المغنم وغير ذلك، مما يقتضي الولاية. ثم قال: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} [سورة الأنفال آية: 73] . لما ذكر تعالى أن المؤمنين بعضهم أولياء بعض، قطع الموالاة بينهم وبين الكفار، وحذرهم من توليهم، والقيام بين أظهرهم. ثم ذكر بسنده عن أسامة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يتوارث أهل ملتين، ولا يرث مسلم كافراً، ولا كافر مسلماً، ثم قرأ قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} [سورة الأنفال آية: 73] ". ثم ذكر عن الزهري، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ على رجل دخل في الإسلام، فقال: "تقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتحج البيت، وتصوم رمضان، وإنك لا ترى نار مشرك إلا وأنت له حرب "، وهذا مرسل من هذا الوجه، وقد روي متصلاً من وجه آخر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أنا بريء من كل مسلم بين ظهراني المشركين، لا تتراءى ناراهما " 2.   1 أبو داود: الجهاد (2479) , وأحمد (4/99) , والدارمي: السير (2513) . 2 الترمذي: السير (1604) , والنسائي: القسامة (4780) , وأبو داود: الجهاد (2645) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 286 ثم ذكر عن سمرة بن جندب: أما بعد، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من جامع المشرك وسكن معه، فإنه مثله " 1. وقوله تعالى: {إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} [سورة الأنفال آية: 73] أي: إن لم تجانبوا المشركين، وتوالوا المؤمنين، وإلا وقعت الفتنة في الناس؛ وهو التباس الأمر، واختلاط المسلم بالكافر، وفي ذلك ضعف للدين، وقوة للكافرين. وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ} إلى قوله: {أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ} [سورة التوبة آية: 23-24] ، قال: يقول تعالى: لا تتخذوا بطانة وأصدقاء، تفشون إليهم أسراركم، وتؤثرون المقام معهم على الهجرة. قال ابن عباس رضي الله عنه: "لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالهجرة إلى المدينة، فمنهم من نفر وبادر، ومنهم من تعلق به أهله وأولاده، يقولون له: ننشدك بالله ألا تضيعنا، فيرق لهم فيقيم عليهم، ويدع الهجرة. فأنزل الله هذه الآية، فنهوا عن القيام مع المشركين، وتكثير سوادهم". وأخبر أن إيثار هذه الأصناف الثمانية، على ما أمر الله به من الهجرة، معصية لله ورسوله، فقال: {فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [سورة التوبة آية: 24] . قلت: ظاهر هذا الخطاب، لمن ثبت إسلامه، ولم   1 أبو داود: الجهاد (2787) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 287 يصدر منه ما يناقضه، من الموالاة والنصرة، والإعانة بالنفس والمال، والدلالة على عورات المسلمين، وتمجيد المشركين في المنابر والمحافل، والانحناء وخضع الرأس عند رؤيتهم، كل هذه الأشياء، أعظم مما نحن فيه، ويحكم على من فعلها بحكم الله فيه. قال تعالى: {تَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [سورة المائدة آية: 80-81] . وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} إلى قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} [سورة المائدة آية: 51-54] . وقال تعالى: {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً} [سورة النساء آية: 138-139] ، وقال تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 288 اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [سورة النحل آية: 106-107] . هذا حكم الله تعالى في هذا الصنف، حكم بردتهم في مواضع كثيرة من كتابه. ولكن الكلام في المسلم القادر على الهجرة، التارك لها، فإن انضم إلى ذلك عدم رؤية الذنب والإقرار به، والتمس العذر لنفسه واحتج لها، فهو أشد خطراً لجحود الفرض المأمور به، المخاطب به كل من ابتلي بمشرك. فيا ويح من تصدى لذلك! وفيما تقدم من كلام المفسرين كفاية لمن أراد الله هدايته ونجاته. ونزيد ذلك إيضاحاً بنقل كلام بعض العلماء وشراح الحديث، لئلا يبهرج على ضعفاء البصائر: قال الإمام ابن حجر العسقلاني - رحمه الله- في شرح البخاري: قوله: باب لا هجرة بعد الفتح، أي: فتح مكة، أو المراد ما هو أعم من ذلك، إشارة إلى أن حكم غير مكة في ذلك حكمها، فلا تجب الهجرة من بلد قد فتحها المسلمون. أما قبل فتح البلد، فمن به من المسلمين أحد ثلاثة: الأول: قادر على الهجرة منها، ولم يمكنه إظهار دينه بها، ولا أداء واجباته، فالهجرة منها واجبة. الثاني: قادر يمكنه إظهار دينه بها، وأداء واجباته، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 289 فالهجرة منها مستحبة، لتكثير المسلمين ومعونتهم، وجهاد الكفار، والأمن من غدرهم، والراحة من رؤية المنكر بينهم. الثالث: عاجز بعذر، من أسر، أو مرض، أو غيره، فيجوز له الإقامة، فإن حمل على نفسه وتكلف الخروج منها أجر. انتهى. وقال أبو الفوز 1 في نقله عن ابن حجر المكي، وهو من أئمة الشافعية - لما ذكر الأحاديث الدالة على وجوب الهجرة - ما ملخصه: والمسلم الكائن بدار الكفر، إن أمكنه إظهار دينه، وأمن فتنته في دينه، استُحب له الهجرة إلى دار الإسلام، لئلا يكثر سواد الكفار، وربما كادوه، وإن لم يمكن المسلم الكائن بدار الكفر إظهار دينه فيها، وخاف فتنته في دينه، وجبت عليه الهجرة إلى دار الإسلام، وأثم بالإقامة، ولو كان المسلم امرأة، وإن لم تجد محرماً يذهب معها إلى دار الإسلام، لكن إذا أمنت على نفسها من فاحشة وغيرها. فإن لم يطق الهجرة، فمعذور، لقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ} [سورة النساء آية: 97] أي: ملك الموت وأعوانه، أو أراد: ملك الموت وحده، كما قال تعالى: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} [سورة السجدة آية: 11] .   1 هو محمد أمين بن علي السويدي, وانظر صفحة: 199 من العقد الثمين في محاسن الدين, لأبيه علي. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 290 والعرب قد تخاطب الواحد بلفظ الجمع. {ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} أي: في المقام في دار الشرك، وترك الهجرة {قَالُوا} أي: الملائكة، توبيخاً لهم: {فِيمَ كُنْتُمْ} أي: في أي شيء كنتم من أمر دينكم؟ {قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ} [سورة النساء آية: 97] ، اعتذروا مما وبخوا به بضعفهم وعجزهم عن الهجرة وعن إظهار الدين وإعلاء كلمته. {قَالُوا} أي: الملائكة، تكذيباً لهم وتبكيتاً: {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} [سورة النساء آية: 97] إلى قطر آخر. {فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً} [سورة النساء آية: 97] . وذكر ابن حجر عن صاحب المعتمد: أن الهجرة كما تجب من بلاد الكفر تجب من بلاد الإسلام، إذا أظهر المسلم بها واجباً ولم يقبل منه، ولا قدر على إظهاره. قال: ويوافقه قول الإمام البغوي في تفسير سورة العنكبوت، في تفسير قوله تعالى: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} [سورة العنكبوت آية: 56] ، قال: قال سعيد بن جبير: "إذا عمل في أرض بالمعاصي فاخرجوا منها، فإن أرضي واسعة"، وقال عطاء: "إذا أُمرتم بالمعاصي فاهربوا، فإن أرضي واسعة". وكذلك يجب على كل من كان ببلد، يُعمل فيها بالمعاصي ولا يمكنه تغييرها، الهجرة إلى حيثما تتهيأ له العبادة، لقوله تعالى {فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [سورة الأنعام آية: 68] . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 291 وقال البيهقي في شعبه، ما نصه: اعلم أن الهجرة على ضربين: ظاهر، وباطن. ثم قال: فالظاهر منها- أي: من الهجرة-: الفرار بالجسد من الفتن، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: " أنا بريء من أهل ملتين؛ لا تتراءى ناراهما " 1، فتبرأ النبي صلى الله عليه وسلم منهم، لعدم هذه الشعبة فيهم، وهي: الهجرة؛ فهي إذاً من أعظم شعب الإيمان، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم - وقد ذكر الفتن -: " لا يسلم لذي دين دينه، إلا من فر من شاهق إلى شاهق "، قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ} الآية [سورة النساء آية: 97] . وفي البخاري: والفرار من الفتن، من الإيمان؛ فما كان من الإيمان فهو من شعبه بلا شك. فالفرار ظاهر من بين ظهراني المشركين، واجب على كل مسلم، وكذلك كل موضع يخاف فيه الفتنة في الدين، من ظهور بدعة، أو ما يجر إلى كفر، في أي بلد كان من بلدان المسلمين، فالهجرة منه واجبة إلى أرض الله الواسعة. انتهى ما ذكره البيهقي، رحمه الله تعالى. قال الغزالي- بعد ذكر كلام كثير من السلف -: فهذا يدل أن من بلي ببلدة قد استولى عليها حكم الكفار، وظهرت فيها أعلامهم وشعائرهم، فلا عذر له في المقام بها، بل يجب عليه أن يهاجر، كما قال الله تعالى: {أَلَمْ   1 الترمذي: السير (1604) , والنسائي: القسامة (4780) , وأبو داود: الجهاد (2645) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 292 تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} [سورة النساء آية: 97] ؛ فالبلاء والشر إذا ظهرا في قطر، ولم يحرز المسلم نفسه، شمل العقاب والذم الطائعين والعاصين. انتهى. قال الإمام أبو عبد الله الحليمي في شعب الإيمان: ومن الشح بالدين: أن يهاجر المسلم من موضع لا يمكنه أن يوفي الدين فيه حقوقه، إلى موضع يمكنه فيه ذلك. فإن أقام بدار الكفر والمعصية، ذليلاً مستضعفاً، مع إمكان انتقاله عنهما، فقد ترك فرضاً في قول كثير من العلماء، لقوله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} الآية [سورة النساء آية: 97] . لا يقال: ليس في الآية تصريح بذكر المؤمنين، فيجوز أن يكون المراد بها: الكافر الذي مال إلى الإيمان، وأيضاً، فإنها نزلت قبل فتح مكة، فلما فتحت قال صلى الله عليه وسلم: " لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية " 1، فنقول: ذكر العفو عمن استثنى منهم، حيث قال في آخرها: {إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً} [سورة النساء آية: 98-99] يرد ذلك، فإن الله تعالى لا يعفو عن الكافر، وإن عزم على الإيمان، ما لم يؤمن. وقوله صلى الله عليه وسلم: " لا هجرة بعد الفتح " 2 معناه: لا هجرة من مكة بعد أن صارت دار إسلام، فلا يدل على نفي وجوب   1 البخاري: الجهاد والسير (2783) , ومسلم: الحج (1353) , والترمذي: السير (1590) , والنسائي: البيعة (4170) , وأبو داود: الجهاد (2480) , وأحمد (1/226, 1/315, 1/355) , والدارمي: السير (2512) . 2 البخاري: الجهاد والسير (2783) , ومسلم: الحج (1353) , والترمذي: السير (1590) , والنسائي: البيعة (4170) , وأبو داود: الجهاد (2480) , وأحمد (1/226, 1/315, 1/355) , والدارمي: السير (2512) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 293 الهجرة من غيرها، إذا لم يمكن إقامة الدين فيها، فإنها حينئذ كمكة قبل الفتح، ولو صارت مكة - والعياذ بالله - بحيث لا يمكن المقيم بها إقامة دينه، وجبت الهجرة منها أيضاً، لأنها إنما وجبت منها أولاً لهذا المعنى؛ فحيث وجدت هذه العلة ثبت الحكم. وكل بلد ظهر فيه الفساد، وكانت أيدي المفسدين أعلى من أيدي أهل الإصلاح، أو غلب الجهل على أهله، وتشعبت الأهواء بهم، وضعفت العلماء وأهل الحق عن مقاومتهم، واضطروا إلى كتمان الحق خوفاً على أنفسهم من الإعلان به، فهو كمكة قبل الفتح في وجوب الهجرة منها عند القدرة عليها؛ ومن لم يهاجر - والحالة هذه - لم يكن من الأشحاء بدينه، بل من السمحاء المتساهلين فيه. انتهى ما ذكره الحليمي، رحمه الله تعالى. ولو نقلنا كلام الأئمة الأعلام من أهل كل مذهب في هذا الباب، لطال الجواب، وهو بحمد الله بين واضح في محاله. فإن قيل: ما ذكرتم خاص بالكفار، كيف تجعلوننا مثل الكفار؟ أم كيف تنزلون الآيات النازلة فيمن حارب الرسول صلى الله عليه وسلم وصار مع الكفار أعداء الرسول، علينا؟ قيل له: تقدم عن ابن كثير وفي آخر كلام الحليمي المذكور ما فيه كفاية؛ ومعلوم أن القرآن نزل بأسباب، فإن كان لا يستدل به إلا في تلك الأسباب، بطل الاستدلال الجزء: 8 ¦ الصفحة: 294 بالقرآن، وهذا خروج من الدين. وأيضاً، فما زال العلماء من عصر الصحابة ومن بعدهم، يستدلون بالآيات التي نزلت في اليهود، وفي غيرهم، على من يعمل بها. من قال منهم: إن الآية إذا نزلت في رجل كافر، أنها لا تعم من عمل بها من المسلمين؟! لكن هذا شأن الجاهلين الظالمين، أهل اللجاج والباطل، يدفعون في نحر النصوص عما دلت عليه، بنحو من هذه الأباطيل، التي يعرف المسلم بطلانها بمجرد فطرته، فالله المستعان. وأجاب الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين، رحمه الله: وما ذكرت من حال من يكون بين ظهراني المشركين، فإن كان يقدر على إظهار التوحيد، بحيث يظهر لهم القول بأن هذه الأمور الشركية، التي تفعل عند القبور وغيرها، باطل وضلالة، وأنا بريء منه وممن يفعله، فمثل هذا لا تجب عليه الهجرة. وإن كان لا يقدر على إظهار ذلك، مع اعتقاد بطلانه، وأنه الشرك العظيم، فهذا ترك واجباً عليه، ولا يكفر بذلك. وسئل: عن حديث: " إذا أقمت الصلاة " 1 ... إلخ؟ فأجاب: وأما الحديث الذي فيه " إذا أقمت الصلاة فأنت مهاجر، ولو كنت بأرض كذا " 2، فيحتمل أن المراد: إذا   1 أبو داود: الصلاة (499) . 2 أبو داود: الصلاة (499) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 295 هجرت الشرك، وأقمت الصلاة، فأنت مهاجر، لحديث: " المهاجر: من هجر ما نهى الله عنه " 1. ويحتمل: أنه إذا كان بين كفار، كاليهود والنصارى وعبدة الأوثان، الذين لا يعرفون صلاة المسلمين، وأن من أظهر إقامة الصلاة بين ظهرانيهم، كان ذلك إظهاراً لدينه، فلا تجب عليه الهجرة، والله أعلم. سئل أيضاً: الشيخ عبد الله أبا بطين: عن قول النبي صلى الله عليه وسلم: "الشيطان بين الرغوة والصريح"، وقوله: " هلاك أمتي في الكتاب واللبن " 2؟ فأجاب: وأما قولك: وقول النبي: " الشيطان بين الرغوة والصريح " 3، فإن هذا الحديث رواه الإمام أحمد، ولفظه عن عبد الله بن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا أخاف على أمتي إلا اللبن، فإن الشيطان بين الرغوة والصريح " 4، قال بعض العلماء، كأبي عبيد القاسم بن سلام وغيره، بعد كلامهم على أن الرغوة من اللبن، وأن الصريح الخالص منه، قالوا: فالمراد أن الشيطان يحبب إليهم اللبن، فيخرجون إلى البادية، فيتركون الجمعة والجماعة. وأما الحديث الثاني، فرواه البيهقي من رواية ابن لهيعة، عن أبي قبيل عقبة بن عامر، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " هلاك أمتي في الكتاب واللبن. قيل: يا رسول الله، ما الكتاب واللبن؟ قال: يتعلمون القرآن ويتأولونه على غير ما أنزل الله، ويحبون اللبن، ويتركون الجماعات والجمع " 5.   1 البخاري: الإيمان (10) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (4996) , وأبو داود: الجهاد (2481) , وأحمد (2/192, 2/205, 2/209, 2/212, 2/224) . 2 أحمد (4/155) . 3 أحمد (2/175) . 4 أحمد (2/175) . 5 أحمد (4/155) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 296 ولعل من تكلم على الحديث الأول، أخذ تفسيره من هذا الحديث. [وصية فيها الحث على عداوة من حاد الله ورسوله] وقال الشيخ إسحاق بن عبد الرحمن بن حسن، رحمهم الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم من إسحاق بن عبد الرحمن، إلى من يراه من الإخوان، وكافة الرؤساء في ساحل عمان، ومن يليهم، ومن على سليم من أهل فارس وجعلان، من المنتسبين إلى السنة والإيمان، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أما بعد، فإن الله تعالى أوجب علينا التعاون على البر والتقوى، والتناصر في ذاته على الأعداء؛ وكل إنسان عليه من العبودية بحسبه، فحيث لا عذر عن قبول الحق، فكذلك لا عذر عن تبليغه. وقد سبقت الإشارة من بعض الإخوان بطلب النصيحة، وما لا يدرك كله لا يترك كله. فمن أجل ذلك، أوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى، والتقوى: كلمة جامعة لخصال الخير، أمراً ونهياً؛ وأعظمها مشقة: عداوة من حاد الله ورسوله، وألحد في أسمائه وصفاته، وأشرك في توحيده. وتعلمون أن سر الخلق والأمر، هو: أن يُعرف الله بأسمائه وصفاته، ويُقصد وحده سبحانه بأنواع العبادة، وأن لا يشرك به أحد سواه، كائناً من الجزء: 8 ¦ الصفحة: 297 كان، وأن يقوم الناس بالقسط؛ فأنزل الحديد آلة يستعان بها على جهاد من خرج عن القسط. وقد لاح في أوائل هذا القرن علم التوحيد، وأغمدت سيوف الجهاد في هامات من حاد عنه، من شيع الكفر والتنديد، وأقيمت الحدود الشرعية في كافة بلدان المسلمين، وحصل القيام التام بواجبات الدين، وذلك أمر لا يخفى، وحصل لأسلافنا وأسلافكم، من التعاون على ذلك ما أرغم الله به أنوف الأعداء، حتى صارت دياركم معقل الإسلام، ومهاجر السادات الأعلام. ولم يزل في هاتيك الجهات - لا زال فيها للحق دعاة - من يلهج بتحقيق توحيد المرسلين، ويرشد به الحيارى الجاهلين، وينكر أوضاع الجهمية المبتدعين الملحدين في رب العالمين. فالتبس هذا الأصل على كثير من الخلق، حتى آن اندراسه، وانقلع - إلا ما شاء الله - أساسه، وكثر الطعن في الدعوة الإسلامية، والملة الحنيفية المحمدية، وفاه بين العوام: أن من تكلم بالشهادتين، فهو من أهل الإسلام، وخفي عليهم ما وضعت له من إخلاص العبادة لله، والكفر بما يعبد من دون الله، ونودي بالمسالمة لمن لاذ بالأوهام، وألحد في الدين وعادى المسلمين، عمياء صماء ظلماء، يحاول دعاتها، إطفاء ما استبان من هذا الدين المتين، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 298 ويأبى الله إلا أن يتم نوره ويعلي كلمته. وفي خلال تلك الفرقة، حصل الابتلاء بتداعي الأمم علينا، عقوبة إعراضنا عن هذا الأمر، وفي الحديث عن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يوشك أن تتداعى عليكم الأمم، كما تداعى الأكلة إلى قصعتها. قال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟ قال: بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل. لينزعنّ الله عن صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفنّ في قلوبكم الوهن. قال قائل: يا رسول الله، وما الوهن؟ قال: حب الدنيا وكراهة الموت "، فدل الحديث: على أن الرغبة في الدنيا والإعراض عن الأخرى، سبب الهلاك والدمار، وتسلط الأعداء، وفشل الأعمار. وعن ثوبان أيضاً مرفوعاً: "ولا تقوم الساعة حتى يلحق قبائل من أمتي بالمشركين، وحتى تعبد فئام من أمتي الأوثان " 1. وقد اتسعت الفتنة بهم، وعظم الخطب، ودب الشوم على عقائد أهل الإسلام وإيمانهم، والتحق بهم من ليس له بصيرة ولا قدم صدق، ولا معرفة بالحق، وظنوا أنهم بالتزامهم بعض أركان الإسلام، من دون هذا الركن الأعظم، على هدى مستقيم. وليس الأمر كذلك، بل هو كما قال أبو الوفاء ابن عقيل، رحمه الله: إذا أردت أن تعرف محل الإسلام من أهل   1 أحمد (5/278) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 299 الزمان، فلا تنظر إلى ازدحامهم في أبواب المساجد، ولا إلى ضجيجهم بـ"لبيك"، ولكن انظر إلى مواطأتهم لأعداء الشريعة. فاللجا اللجا إلى حصن الدين! والاعتصام بحبل الله المتين! والانحياز إلى أوليائه المؤمنين! والحذر الحذر من أعدائه المخالفين! فأفضل القرب إلى الله تعالى: مقت من حاد الله ورسوله، وجهاده باليد واللسان والجنان بقدر الإمكان، وما ينجي العبد من النيران؛ ومن كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، فلا بد أن ينقاد لأوامر القرآن والسنة، ويتبرأ من كل معتقد يخالف ما عليه السلف الصالح من سادات الأمة. وهل زال الإسلام، وغيرت الأحكام، وابتدع في الدين ما لم يأذن به الملك العلام، إلا بدعاة أبواب جهنم، يصدون الناس عن دينهم. فاتقوا الله عباد الله! ولا تذهب بكم الدنيا كل الذهاب، فإنها رأس كل خطيئة، وليست من أولها إلى آخرها عوضا – والله - عن ذرة من ذرات الآخرة. وكل ما صدر ممن يدعي الإسلام من الإعراض عن هذا الأمر، وتولى المشركين، والطعن على المسلمين، واستعجال الراحة، والرضى عن النفس، والتزيين، هو بعينه نفس العقوبة، وسبب الخذلان، ومركب الندم والهوان، قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 300 وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} [سورة الأنفال آية: 73] . فكيف يخلد إلى الدنيا، ويصادق الأعداء، وينسى عهود الحمى، من يؤمن بالله واليوم الآخر، ويخاف سوء الحساب، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [سورة المائدة آية: 51] . قال حذيفة رضي الله عنه: "ليتق أحدكم أن يكون يهودياً أو نصرانياً وهو لا يشعر"، وتلا هذه الآية. وعاتب عمر رضي الله عنه أبا موسى، في جعل النصراني كاتباً، وقال: "ما لك؟ قاتلك الله! أما اتخذت حنيفاً مسلماً؟ "، وتلا هذه الآية، وهذا مع استخدامه، فكيف بموالاته وإكرامه؟! وقد نفى الله تعالى الإيمان عمن وادّ المشركين، فقال تعالى: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} الآية [سورة المجادلة آية: 22] . ومن المعلوم: أن من وادَّ أحداً فهو عنه راض، فإذا رضي عنه رضي بدينه، فصار من أهل ملته وهو لا يشعر. وأكثر الناس يفطن للمعصية ووسائلها، ولا يفطن للشرك ووسائله، ولما نهى الله عن موالاة أعدائه من الكفار والمشركين، وأباح التقية مع الإكراه، قال: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} ، وهذا من أعظم الوعيد والتهديد لمن تدبر كتاب الله، وعقل عن الله أمره. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 301 نعم، خف أمر أهل الملل عندنا، لما سمعنا بمن جاسوا خلال الدين، وهموا باختلاس عقائد المسلمين، وأدخلوا الشبه ليصدوا بها الناس عن الحق الواضح المستبين، من أحسائي ذي غلّ، وفارسي مضل، فتقربوا إلى الله تعالى بالبعد عن داعي الشبهات، واطلبوا علم التوحيد بدليله من البينات. قال بعض السلف: إن الله يحب البصر الناقد عند ورود الشبهات، والعقل الكامل عند ورود الشهوات; فأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين، واقبلوا نصيحة مشفق بالمسلمين. وهنا مقام آخر، وهو مقام استجلاب النعم، واستدفاع حلول النقم، ولا يحصل إلا بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والأخذ على يد السفيه. وقد ذم الله من ليس فيهم بقية ينهون عن الفساد في الأرض، فقال جل من قائل: {فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ} [سورة هود آية: 116] ، وقال تعالى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ} الآية [سورة الأعراف آية: 165] ، وقال: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [سورة آل عمران آية: 104] . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 302 فدلت الآيات على وجوب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وأنه لا نجاة إلا لمن قام بذلك، وأن اتباع الشهوات، وإيثار اللذات، يوجب الكون في جملة المجرمين. والآيات في هذا المعنى والأحاديث، أكثر من أن تحصر، ومن كان الله وحده مراده، ومعبوده ومحبوبه، انقاد لأوامره ونواهيه، ولم يداهن أحداً فيه. وفقنا الله وإياكم لشكر نعم الله، والصبر على طاعته، والبعد عن موجبات غضبه وعقابه، وجهاد النفس على عداوة أعدائه، ومحبة أحبابه. وصلى الله على عبده ورسوله، وأمينه على وحيه، وخيرته من خلقه، محمد وآله وصحبه، وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين. وسئل: عن الهجر ... إلخ؟ فأجاب: الهجر المشروع قد قام الدليل عليه، وأشار جل من السلف إليه، وهو مراتب، وله أحوال وتفاصيل، على القلب واللسان والجوارح، قال الله تعالى عن الخليل عليه السلام: {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي} [سورة مريم آية: 48] ، وقال تعالى عن أصحاب الكهف: {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ} [سورة الكهف آية: 16] . وقد هجر النبي صلى الله عليه وسلم الثلاثة، وقصتهم مشهورة. وقد ذكر ابن القيم، رحمه الله في الهدي، في فقه القصة ما يكفي. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 303 وأصل الهجر: الترك والفراق والبغض، وشرعاً: ترك ما نهى الله عنه، ومجانبته والبعد عنه. وهو عام في الأفعال والأشخاص، وهو في المشركين، ومن لاذ بهم، واستحسن ما هم عليه، وخدمهم، وازدراء أهل الإسلام أعظم، لأن قبح الشيء من قبح متعلقه؛ وهذه الجملة فيها أقسام، ولها تفاصيل. منها: هجر الكفار والمشركين. والقرآن من أوله إلى آخره ينادي على ذلك؛ ومصلحته: تمييز أولياء الله من أعدائه. وقريب من هذا: هجر أهل البدع والأهواء. وقد نص الإمام أحمد وغيره من السلف، على البعد عنهم، ومجانبتهم، وترك الصلاة عليهم، وقال: أهل البدع إن مرضوا فلا تعودوهم، وإن ماتوا فلا تشهدوهم؛ فتجب مفارقتهم بالقلب، واللسان، والبدن، إلا من داع إلى الدين مجاهد عليه بالحجة، مع أمن الفتنة، قال تعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ} الآية [سورة النساء آية: 140] . والآيات والأحاديث، وكلام العلماء في هذا كثير. قال بعض المحققين: ويكفي العاقل قوله تعالى، بعد نهيه عن موالاة المشركين: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} الآية [سورة آل عمران آية: 30] . وقد حكى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 304 ابن كثير، رحمه الله تعال،: الإجماع على أن تارك الهجرة عاص، مرتكب محرماً على ترك الهجرة. ولا يكفي بغضهم بالقلب، بل لا بد من إظهار العداوة والبغضاء، قال تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [سورة الممتحنة آية: 4] . فانظر إلى هذا البيان الذي ليس بعده بيان، حيث قال: {وَبَدَا بَيْنَنَا} أي: ظهر؛ هذا هو إظهار الدين، فلا بد من التصريح بالعداوة، وتكفيرهم جهاراً، والمفارقة بالبدن. ومعنى العداوة: أن تكون في عدوة، والضد في عدوة أخرى. كان أصل البراءة: المقاطعة بالقلب واللسان والبدن. وقلب المؤمن لا يخلو من عداوة الكافر، وإنما النزاع في إظهار العداوة: فإنها قد تخفى لسبب شرعي، وهو الإكراه مع الاطمئنان. وقد تخفى العداوة من مستضعف معذور، عذره القرآن. وقد تخفى لغرض دنيوي، وهو الغالب على أكثر الخلق، هذا إن لم يظهر منه موافقة. ودعوى من أعمى الله بصيرته، وزعم: أن إظهار الدين، هو عدم منعهم ممن يتعبد، أو يدرس، دعوى باطلة؛ فزعمه مردود عقلاً وشرعاً. وليهن من كان في بلاد الجزء: 8 ¦ الصفحة: 305 النصارى، والمجوس والهند ذلك الحكم الباطل، لأن الصلاة والأذان والتدريس، موجود في بلدانهم، وهذا إبطال للهجرة والجهاد، وصد للناس عن سبيل الرشاد. والثاني: مسلم ترخص لنفسه، وآثر دنياه، واختار أوطانهم لعذر من الأعذار الثمانية؛ فهجر هذا الصنف من الناس، هو من باب هجر أهل المعاصي، الذي ترجم له البخاري وغيره. ولا يهجر هجر الكفار؛ بل له حقوق في الإسلام، منها مناصحته والدعاء له، إلا أنا لا نظهر له محبة وملاطفة، كالذين آمنوا وعملوا الصالحات، بحيث إنه لا يرى له ذنباً، ويغتر به غيره. وقد هجر النبي صلى الله عليه وسلم الثلاثة، مع إيمانهم، وأجلى عمر صبيغاً إلى وطنه، وأمر بهجره، ونهى الناس عن كلامه. ولم يزل الصحابة، رضي الله عنهم، يهجرون في أقل من هذا. وفي الحديث الصحيح الذي رواه أبو داود والترمذي، والدارقطني والطبراني، من حديث جرير بن عبد الله رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " أنا بريء من مسلم يقيم بين ظهراني المشركين " 1، وأخرجه أيضا ابن ماجة، ورجال إسناده ثقاة، وله شاهد من حديث معاوية بن حيدة مرفوعاً: "لا يقبل الله من مسلم عملاً، أو يفارق المشركين"، أخرجه النسائي، وحديث سمرة مرفوعاً: " من جامع المشرك ... إلخ"، رواه أبو داود.   1 الترمذي: السير (1604) , والنسائي: القسامة (4780) , وأبو داود: الجهاد (2645) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 306 ويشهد لصحة هذه الأحاديث، قوله تعالى: {فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ} [سورة النساء آية: 140] . فنحن نتبرأ مما تبرأ منه رسول الله صلى الله عليه وسلم ونجانبه، شاء العاصي أم أبى. وقد ذكر محيي السنة البغوي كلاما يحسن ذكره هاهنا، قال: فأما هجر أهل العصيان، وأهل الريب في الدين، فيشرع إلى أن تزول الريبة عن حالهم، وتظهر توبتهم; قال كعب بن مالك - حين تخلف عن غزوة تبوك -: "ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كلامنا"، وذكر خمسين ليلة. وجعل محمد بن إسماعيل، رحمه الله، حداً لتبين توبة العاصي; وقال عبد الله بن عمر: "لا تسلموا على شربة الخمر"، وقال أبو الدرداء:? "لن تفقه كل الفقه، حتى تمقت الناس في ذات الله، ثم تقبل على نفسك، فتكون لها أشد مقتاً". انتهى كلامه، رحمه الله. والأصل الجامع لهذا: أن معرفة استحقاقه سبحانه وتعالى، أن يعبد خوفاً ورجاء، وإجلالاً ومحبة وتعظيماً، لا تبقى في القلب السليم محبة لأعدائه وموادة، لأن المحبة أصل كل عمل من حق وباطل؛ فأصل الأعمال الدينية: حب الله ورسوله، كما أن أصل الأقوال الدينية: تصديق الله ورسوله، فلما غلب على الناس حب الدنيا، وإيثارها، أنكروا هذا، ونسوا ما كانوا عليه أولاً، {وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 307 الْحَقَّ} [سورة غافر آية: 5] جهلاً منهم بحقيقة الإسلام، ولوازمه وقواعده العظام. ولو لم يكن في هذا إلا سد الذرائع المفضية إلى عقد المصالحة بين المسلم والمشرك، لكان كافياً، ولكن لغلبة الجهل، وقلة العلم، وإيثار الدنيا، فتح بعض المنتسبين أبواباً على حصن الإسلام، إيثاراً لموافقة العوام؛ وليت هؤلاء احتاطوا لأديانهم، بعض ما احتاطوا لرياساتهم وأموالهم، وما أحسن ما قيل: قد كنت عدتي التي أسطو بها ... ويدي إذا عض العدو ساعدي فدُهيت منك بضد ما أمّلته ... والمرء يشرق بالزلال الباردِ وأما من يسافر إلى بلدان المشركين للتجارة، فهؤلاء إن لم يصدر منهم موالاة ومداهنة، وملاطفة للمشركين والمرتدين، فهم أخف حالاً ممن تقدم ذكرهم، وهم مشتركون معهم في التحريم، متفاوتون في العقوبة، لأن الإقامة تصدق على القليل والكثير؛ والحكم منوط بالإقامة والمجامعة في النصوص، لكن كلما خفت المفسدة خف الحكم. وقد يكون المسافر أخبث من المقيم. وشاهدنا من فسقة المسافرين من أهل القصيم وغيره، من المنكرات العظيمة ما لا يحصى، من ترك الصلاة، وشرب المسكرات، وتحسين طرائق المشركين، والطعن في أهل الدين، ما لا يحكم لأكثرهم معه بإسلام، حتى إن الترك وبعض أهالي مصر، يتحاشون من فعل فسقة نجد. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 308 ولا شك أن بغض هذا الصنف ومقته، والنفرة منه، هو عين المصلحة. وليس هجر هذا الجنس من الهجر المندوب، بل من الواجب، لأن المفسدة عظمت بهم؛ فهم ومن يترخص لهم من المنتسبين، أعظم بلية من العدو البعيد. والقاعدة الكلية في هذا: ترجيح ما يفضي إلى ضعف الشر وخفته، وإعزاز الحق وقمع الباطل، وارتداع المخالف، قال شيخ الإسلام - لما ذكر هذه القاعدة -: ولهذا كان صلى الله عليه وسلم يتألف أقواماً، ويهجر آخرين. ولبعضهم شعراً: صعبت تكاليف الشريعة فانثنى ... وسطا عليها كل خبٍّ لاهِ فاشدد يديك بحبل ملة أحمد ... لا تخدعن بمنصب أو جاهِ واسلك طريق اللطف في تبليغها ... متجرداً فيها لوجه الله الجزء: 8 ¦ الصفحة: 309 [الصبر على مقام الدعوة] وقال الشيخ عبد اللطيف بن الشيخ عبد الرحمن بن حسن، رحمهم الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الإخوان المكرمين: محمد بن علي، وإبراهيم بن مرشد، وإبراهيم بن راشد، وعثمان بن مرشد، سلمهم الله تعالى وعافاهم، وأصلح بالهم وتولاهم؛ سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد، فنحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، على نعمه، وعلى أقداره، وحكمه. والخط وصل، وصلكم الله ما يرضيه، وما ذكرتم صار معلوماً، والله المسؤول أن يمن علينا وعليكم عند الوحشة بذكره، والأنس بمجالسته، وعند ذهاب الإخوان بروح منه وسلطان. والذي أوصيكم به: تقوى الله تعالى، ومعرفة تفاصيل ذلك، على القلوب والجوارح، ومعرفة الأحكام الشرعية الدينية عند تغير الزمان، وكثرة الفتن وظهور الهرج، وقد ورد: "إن الله يحب البصر الناقد عند ورود الشبهات، والعقل الراجح عند منازعة الشهوات". وذكر أبو داود وغيره من أهل السنن ما ينبغي مراجعته واستحضاره، عند ذكر الفتن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 310 والملاحم. وذكر ابن رجب في رسالته كشف الكربة في فضل الغربة، ما يسلي المؤمن ويعزيه. وذكر ابن القيم، رحمه الله، في المدارج جملة صالحة. وفي الأثرك "العبادة في الهرج كهجرة إلي"، وفي حديث الغرباء: " للعامل منهم أجر خمسين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم " 1. والذي أرى لكم في هذه الخلطة: الصبر على مقام الدعوة، بالتلطف بالإبلاغ عن نبيكم؛ وهذا مع القدرة وأمن الفتنة أفضل من العزلة، والإقلال من مخالطة الناس لمن أمكنه أسلم. وإني لأود أن أكون مثل أحدكم في هذا الزمان، ولكني ابتليت بالناس، وحيل بيني وبين ذلك، والله المستعان، وإليه المشتكى وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.   1 الترمذي: تفسير القرآن (3058) , وابن ماجة: الفتن (4014) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 311 وكتب إليهم أيضاً: فقال - بعد السلام -: وجاءكم مني مكاتبات في هذه الحوادث العمي، ولم يبلغني عنكم ما يسر من القبول والقيام لله؛ والحق على طالب العلم، والمنتسب إلى الدين والفهم، أكبر منه على غيره، والواجب عليه آكد. والعاقل لا يرضى لنفسه سبيل المداهنة والبطالة، وقد دهم الإسلام من الحوادث ما تعجز عن حمله الجبال الراسيات، وتصغر في جنبه كل المحن والمصيبات؛ فما مضت فتنة إلا إلى ما هو أكبر من الشرك والكفريات. ومع ذلك فكثير من الناس قد التبس عليه الأمر، وخفي عليه المخرج والحكم، وكثر الخوض والاعتراض، من بعض من ينتسب إلى القراءة ويدعي الفهم والطلب. واتبع جمهور أولئك ما يهواه، من غير بينة ولا سلطان، ولا يتهم أحد رأيه، ولم يرجع إلى المحاقة والفكرة، حتى انهدم بنيان الإسلام، ولم يستوحش الأكثرون من ولاية عبّاد الأوثان والأصنام. وما أحسن ما قال سهل بن حنيف، فيما رواه البخاري، قال: حدثنا الحسن بن إسحاق، حدثنا محمد بن سابق، حدثنا مالك بن مغول، قال: سمعت أبا حصين قال: قال أبو وائل: "لما قدم سهل بن حنيف من صفين أتيناه نستخبره، فقال: اتهموا الرأي. فلقد رأيتني يوم أبي جندل، ولو أستطيع أن أرد على رسول الله صلى الله عليه وسلم لرددت، والله الجزء: 8 ¦ الصفحة: 312 ورسوله أعلم، وما وضعنا أسيافنا عن عواتقنا إلا أسهل بنا إلى أمر لا نعرفه قبل هذا الأمر، وما نسد منها خصماً إلا انفجر خصم، ما ندري كيف نأتي له، والسلام". [السفر إلى بلاد المشركين] وسئل: عمن يسافر إلى بلد المشركين ... إلخ. فأجاب، رحمه الله تعالى: وأما السؤال عمن يسافر إلى بلد المشركين، التي يعجز فيها عن إظهار ما وجب لله من التوحيد والدين، ويعلل بأنه لا يسلم عليهم ولا يجالسهم، ولا يبحثونه عن سره، وأنه يقصد التوصل إلى غير بلاد المشركين، ونحو ذلك من تعاليل الجاهلين، فاعلم: أن تحريم ذلك السفر قد اشتهر بين الأمة، وأفتى به جماهيرهم، وما ورد من الرخصة محمول على من يقدر على إظهار دينه، أو على من كان قبل الهجرة. ثم إن الحكم قد أنيط بالمجامعة والمساكنة، وإن لم يحصل سلام ولا مجالسة، ولا بحث عن سره، كما في حديث سمرة: " من جامع المشرك أو سكن معه، فإنه مثله " 1. فانظر ما علق به الحكم، من المساكنة والاجتماع، وتعليق الحكم بالمشتق يؤذن بالعلة، فإن وقع مع ذلك سلام ومجالسة، أو فتنة بالبحث عن عقيدته وسره، عظم الأمر، واشتد البلاء؛ وهذه محرمات مستقلة، يضاعف بها الإثم والعذاب، فكيف تروج عليكم هذه الشبهات؟ ولكم في طلب العلم سنوات، وخوف الفتنة أحد مقاصد الهجرة، وهو غير منتف مع هذه التعاليل.   1 أبو داود: الجهاد (2787) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 313 ومن مقاصد الهجرة: الانحياز إلى الله بعبادته، والإنابة إليه، والجهاد في سبيله، ومراغمة أعدائه، وإلى رسوله بطاعته، وتعزيره ونصره، ولزوم جماعة المسلمين؛ ولذلك يقرن الهجرة بالإيمان، في غير موضع من كتاب الله عز وجل. وكل هذا غير حاصل، وإن فرض صدق القائل فيما علل به - والغالب كذب هذا الجنس -، فإن الأعمال الظاهرة تنشأ عما في القلوب من الصدق والإخلاص، أو عدمهما. وقد عرفتم أن العامي الذي لا يعرف حدود ما أنزل الله على رسوله، ولم يلتفت إلى العلم، تسرع إليه الفتنة أسرع من السيل إلى منحدره. ولذلك غلب على كثير من الناس عدم النفرة، فرحل إليهم من رحل، وقبلوا رسائلهم، وأفشوها في الناس، وأعانهم بعض المفتونين عن دينهم، وجالسوهم، وراسلهم بعض من يقول: الدين في القلوب، ولم يلتفتوا إلى الأعمال الإسلامية، والشرائع الإيمانية؛ ولو صدق ما زعموه في قلوبهم، لأطاعوا الله ورسوله، واعتصموا به، أعاذنا الله وإياكم من مضلات الفتن. وحماية جناب التوحيد، وسد الذرائع الشركية: من أكبر المقاصد الإسلامية؛ وقد ترجم شيخنا، في كتاب التوحيد، لهذه القاعدة، فرحمه الله من إمام ما أفقهه في دين الله! وما أعظم غيرته لربه وتعظيمه لحرماته! وما أحسن أثره على الناس! الجزء: 8 ¦ الصفحة: 314 وله أيضاً، صب الله عليه من شآبيب بره ووالى: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الإخوان المكرمين: محمد بن علي آل موسى، وإبراهيم بن راشد، وإبراهيم بن مرشد، سلمهم الله تعالى وتولاهم؛ سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد، فأحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو على نعمه. وما ذكرتم مما وقع فيه الناس، من مداهنة المشركين والإعراض عن دين المرسلين، فالأمر كما ذكرتم، وفوق ما إليه أشرتم؛ وقد سبق مني لكم جواب، وأخبرتكم أن هذا من أكبر الوسائل وأعظم الذرائع إلى ظهور الشرك، ونسيان التوحيد، وأن من أعظم ذلك وأفحشه: ما يصدر من بعض من يظنه العامة، من أهل العلم وحملة الدين، وما يصدر منهم من التشبيه والعبارات التي لم يتصل سندها، ولم يعصم قائلها، وبهذا ونحوه اتسع الخرق. وفي حديث ثوبان: " وإنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين " 1، وهو يتناول من له إمامة، ممن ينتسب إلى العلم والدين، وكذلك الأمراء؛ وأبيات عبد الله بن المبارك، معلومة لديكم في هذين الصنفين، أعني قوله: وهل أفسد الدين إلا الملوك ... ................................. إلخ وفي مثل هؤلاء قال قتادة:   1 الترمذي: الفتن (2229) , وأبو داود: الفتن والملاحم (4252) , وابن ماجة: الفتن (3952) , وأحمد (5/278, 5/284) , والدارمي: المقدمة (209) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 315 "فوالله ما آسى عليهم، ولكن آسى على من أهلكوا". وكما نقلتم عن بعضهم: أنه زعم أن الشيخ الوالد، قدس الله روحه ونور ضريحه، أفتى فيمن يسافر إلى بلاد المشركين، بأن غاية ما يفعل معه: الهجر وترك السلام، بلا تعنيف ولا ضرب؛ وهذه غلطة من ناقلها، لم يفهم مراد الشيخ إن صح نقله، ولم يدر ما يراد بها. وهذا النقل يطالب بصحته أولاً، فإن ثبت بنقل عدل ضابط، فيحمل على قضية خاصة 1 يحصل بها المقصود بمجرد الهجر، وهي فيمن ليس له ولاية، ولا سلطان له على الأمراء والنواب، ويترتب على تعزيره بغير الهجر، مفسدة الافتيات على ولي الأمر والنواب، ونحو هذه المحامل. ويتعين هذا إن صحت، لأن هذا ذنب قد تقرر أنه من الكبائر، المتوعد صاحبها بالوعيد الشديد بنص القرآن، وإجماع أهل العلم، إلا لمن أظهر دينه، وهو العارف به، القادر على الاستدلال عليه وعلى إظهاره، فإنه مستثنى من العموم، وأما غيره فالآية تتناوله بنصها، لأن الإقامة تصدق على القليل والكثير؛ فالكبائر التي ليس فيها حد، يرجع فيها إلى ما تقتضيه المصلحة من التعزير، كالهجر والضرب.   1 كما تقدم عنه، رحمه الله، في صفحة: 275 , ولما يأتي من التفصيل أيضاً في صفحة: 341-346 إن شاء الله تعالى. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 316 وقد يقع التعزير بالقتل، كما في حديث شارب الخمر: " فإن شربها في الرابعة، فاقتلوه " 1. وقد أفتى شيخ الإسلام، رحمه الله، بقتل من شرب الخمر في نهار رمضان، إذا لم يندفع شره إلا بذلك، وأفتى بحل دم من جمز إلى معسكر التتار، وكثر سوادهم، وأخذ ماله؛ وكل هذا من التعازير، التي يرجع فيها إلى ما يحصل به درء المفسدة، وحصول المصلحة. وأفتى في التعزير بأخذ المال إذا كان فيه مصلحة. وقد عرفتم: أن من أكبر المصالح: منع هذا الضرب بأي طريق، وأنه لا يستقيم حال وإسلام لمن ينتسب إلى الإسلام، مع المخالطة والمقارفة الشركية، لوجوه منها: عدم معرفة أصول الدين وأحكام الله في هذا ونحوه. ومنها: العجز عن إظهاره لو عرفوه. ومنها: أن العدو محارب، قد سار إلى بلاد المسلمين، واستولى على بعضها، فليس حكمه كحكم غيره؛ بل هذا جهاده يجب على كل أحد فرض عين لا فرض كفاية، كما هو منصوص عليه. ومنها: أن تلك البلاد ملئت بالمشبهين، والصادين عن سبيل الله، ممن ينتسب إلى العلم، ويسمون أهل التوحيد الغلاة، كما سماهم إخوانهم خوارج. والهجرة لها مقصودان: الفرار من الفتنة، وخوف المفسدة الشركية. والثاني: مجاهدة أعداء الله، والتحيز إلى أهل الإسلام. وقد كانت غير مشروطة في أول الإسلام مع ضعف المسلمين، وخوف المشركين وشدة بأسهم، وكثرة   1 الدارمي: الحدود (2313) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 317 الأسباب الداعية إلى الفتنة، والسر فيها لا يهدر ولا يطرح في كل مقام، لا سيما والمقارف لهذا الفعل وغيره من الأفعال الموجبة للردة كثير جداً. فالنجا النجا! والوحا الوحا! قبل أن يعض الظالم على يديه، ويقول: يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلاً. ولعل الله أن يمن بخط مبسوط، يأتيكم بعد هذا، فيه التعريج على شيء من نصوص أهل العلم، وبيان كذب هذا المفتري على الشيخ. وأهل المذهب لا يختلفون في أن حكم السفر حكم الإقامة، يمنع منه من عجز عن إظهار دينه، وفي الحديث: " ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه، إلا أعطوا الجدل ومنعوا العمل " 1. وما وقع فيه الناس وابتلي به الأكثر، من ثلب بعض مشايخكم، فقد علمتم ما يؤثر عن السلف: أن علامة أهل البدع: الوقوع في أهل الأثر; وهؤلاء إذا قيل لهم: هاتوا، حققوا، واكتبوا لنا ما تنقمون، وقرروا الحجة بما تدّعون، أحجموا عن ذلك، وعجزوا عن مقاومة الخصوم. ومتى يدرك الضالع شوى الضليع؟ شعراً: أماني تلقاها لكل متبر ... حقيقتها نبذ الهدى والشعائرِ وحسابنا، وحسابهم على الله، الذي تنكشف عنده السرائر، وتظهر مخبآت الصدور والضمائر. وبلغوا سلامنا إخوانكم، الذين جردوا متابعة الرسول، {وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [سورة التوبة آية: 16] ، ولم   1 الترمذي: تفسير القرآن (3253) , وابن ماجة: المقدمة (48) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 318 ينتسبوا إلى قيس ويمن، كما قد وقع عندكم فيمن فرقوا دينهم وكانوا شيعاً، حمانا الله وإياكم، وثبتنا على دينه، وصلى الله على محمد. [ما يصنع عند حدوث الفتن] وله أيضاً، رحمه الله: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الإخوان: عثمان بن مرشد، ومحمد بن علي، وإبراهيم بن راشد، وإبراهيم بن مرشد؛ سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وما ذكرتم من طلب النصيحة، فقد تقدمت إليكم بحمد الله مراراً، وقامت الحجة، ويبلغني تصميم الأكثرين على رأيه الأول، وعدم الانتفاع. ومن أكبر أسباب شرح الصدر للنصائح والمواعظ وقبولها، ما يعلمه الله من حرص العبد على الخير والهدى، والتجرد من ثوبي التعصب والهوى، والبعد عن الإعجاب بالنفس، وإيثار الشهوات الدنيوية؛ فالقلب إذا سلم من هذا، وابتهل إلى الله بالأدعية المأثورة، كدعاء الاستفتاح: " اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل ... " 1 الحديث، لا سيما في أوقات الإجابة، فإن هذا لا تكاد تسقط له دعوة، والتوفيق له أقرب من حبل الوريد. قال الله تعالى: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأسْمَعَهُمْ} [سورة الأنفال آية: 23] .   1 مسلم: صلاة المسافرين وقصرها (770) , والترمذي: الدعوات (3420) , والنسائي: قيام الليل وتطوع النهار (1625) , وأبو داود: الصلاة (767) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1357) , وأحمد (6/156) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 319 والواجب عند ورود الشبهات، هو القيام لله مثنى وفرادى، والتفكر، لا سيما عند هذه الفتنة، التي عمت وطمت، وأعمت وأصمت، فإنها كما في حديث حذيفة، قال: قلت: "يا رسول الله، إنا كنا في شر، فذهب الله بذلك الشر، وجاء بالخير على يديك. فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: نعم. قال: ما هو؟ قال: فتن كقطع الليل المظلم، يتبع بعضها بعضاً، تأتيكم مشتبهة، كوجوه البقر؛ لا تدرون أياً من أي " 1. فهذه الفتن الواقعة في هذا الزمان، من جنس ما أشير إليه في الحديث الذي خرجه الإمام أحمد في مسنده. فتعين: الاهتمام بالمخرج منها، والنجاة فيها؛ ولا سبيل إلى ذلك إلا بالاعتصام بحبل الله، ومعرفة ما أوجبه وندب إليه في كتابه من شرائع الإيمان وحدوده، وما نهى عنه وحرمه من شعب الكفر والنفاق وحدوده، وقد نص على هذا صلى الله عليه وسلم لما سأله حذيفة عن الفتن: فعن حذيفة رضي الله عنه:? " كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وأسأله عن الشر، وعرفت أن الخير لن يسبقني. قلت: يا رسول الله، أبعد هذا الخير شر؟ قال: يا حذيفة، تعلّم كتاب الله، واتبع ما فيه - ثلاث مرار -. قال: قلت: يا رسول الله، أبعد هذا الخير شر؟ قال: فتنة وشر. قال: قلت: يا رسول الله، أبعد هذا الشر خير؟ قال: هدنة   1 أحمد (5/391) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 320 على دخن، وجماعة على إقذاء. قال: قلت: يا رسول الله، الهدنة على دخن، ما هي؟ قال: لا ترجع قلوب أقوام على الذي كانت عليه. قال: قلت: يا رسول الله، أبعد هذا الخير شر؟ قال: يا حذيفة، تعلم كتاب الله، واتبع ما فيه - ثلاث مرار-، قال: قلت: يا رسول الله، أبعد هذا الخير شر؟ قال: فتنة عمياء صماء، عليها دعاة على أبواب النار. وأن تموت يا حذيفة وأنت عاض على جذل، خير لك من أن تتبع أحداً منهم ". قلت: فتأمل ما أرشد إليه حذيفة، ووصاه عند حدوث الفتن العظام، التي لا يبصر أهلها الحق، ولا يسمعون من الداعي والناصح، وتكريره الوصية بقراءة كتاب الله، واتباع ما فيه، لأن المخرج من كل فتنة موجود فيه مقرر، لكن لا يفهمه ويفقهه إلا من تعلم كتاب الله، ألفاظه ومعانيه، ووفق للعمل بما فيه، فذلك جدير أن يهبه الله نوراً يمشي به في الناس، ولا يخفى عليه ما وقع فيه الأكثر، من الشك والريب والالتباس؛ وهذا الصنف عزيز الوجود في القراء، ومن ينتسب إلى العلم والطلب، فكيف بغيرهم؟! شعراً: أما الخيام فإنها كخيامهم ... وأرى نساء الحي غير نسائها فعليكم بلزوم الوصية النبوية لصاحب السر حذيفة بن اليمان، وتدبر القرآن والتفقه في معانيه، فبذلك يعرف العبد إن عقل عن الله: أن أوجب واجب فيه، وأهمه وآكده، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 321 وزبدته: معرفة الله تعالى بما تعرف به إلى عباده، من صفات كماله ونعوت جلاله، وبديع أفعاله، وإحاطة علمه وشمول قدرته، وكمال عزته وعميم رحمته. وبمعرفة ذلك، يهتدي العبد إلى محبته وتعظيمه، وإسلام الوجه له، وإنابة القلب إليه، وإفراده بالقصد والطلب، وسائر العبادات، كالخشية والرجاء، والاستعانة والاستغاثة، والتوكل والتقوى، ويرضى به رباً وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبياً رسولاً، ويذوق من طعم الإيمان، ما يوجب له كمال حب الله وحب رسوله، وكمال الحب بجلاله، ويعرف الوسائل إلى هذا المطلوب الأكبر، والمقصود الأعظم، ويهتم بها غاية الاهتمام، ويطلبها منتهى الطلب. ويعرف ما يضاد هذا الأصل ويناقضه، من تعطيل وكفر وشرك، ويعرف وسائلها وذرائعها الموصلة إليها، المفضية إلى اقتحامها وارتكابها؛ فيهتم بتحصيل وسائل التوحيد، ويهتم بالتباعد عن وسائل الكفر، والتعطيل والتنديد، كما يستفاد من قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [سورة الفاتحة آية: 5] . فمن عرف هذا الأصل الأصيل، عرف ضرر الفتن الواقعة في هذه الأزمان، بالعساكر التركية، وعرف أنها تعود على هذا الأصل الأصيل بالهدّ والهدم، والمحو بالكلية، وتقتضي ظهور الشرك والتعطيل، ورفع أعلامه الكفرية، وأن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 322 مرتبتها من الكفر، وفساد البلاد والعباد، فوق ما يتوهمه المتوهمون، ويظنه الظانون. وبه يعلم: أن أسباب ما وقع من الوسائل، إلى تهوين تلك الفتنة، وتسهيل أمرها، والسكوت عن التغليظ فيها، من أكبر أسباب وقوع الشر، ومحو أعلام التوحيد، والوسيلة لها حكم الغاية. فإن انضاف إلى تسهيلها، إكرام من أقام بديارهم، وتلطخ بأوضارهم، وشهد مهرجانهم، وتوقيره، والمشي إليه، وصنع الولائم له، فعند ذلك ينعى الإسلام، ويبكيه من {كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [سورة ق آية: 37] . وفي الحديث: "من وقر صاحب بدعة، فقد أعان على هدم الإسلام"، فكيف بما هو أعظم وأطم من البدع؟! فالله المستعان. وأعجب من هذا: أن بعض من يتولى خدمة من حاد الله ورسوله، يحسن أمرهم، ويرغب في ولايتهم، ويقدح في أهل الإسلام، وربما أشار بحربهم، فإذا قدم بعض بلاد أهل الإسلام، تلقاه منافقوها وجهالها، بما لا يليق إلا مع خواص الموحدين. فافهم أسباب الشرك ووسائله، ومن كان في قلبه حياة وله رغبة، وله غيرة وتوقير لرب الأرباب، يأنف ويشمئز مما هو دون ذلك، ولكن الأمر كما قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة، إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية". الجزء: 8 ¦ الصفحة: 323 وما جاء في القرآن من النهي، والتغليظ والتشديد في موالاتهم وتوليهم، دليل على أن أصل الأصول، لا استقامة له ولا ثبات له، إلا بمقاطعة أعداء الله، وحربهم وجهادهم، والبراءة منهم، والتقرب إلى الله بمقتهم وعيبهم؛ وقد قال تعالى لما عقد الموالاة بين المؤمنين، وأخبر أن الذين كفروا بعضهم أولياء بعض، قال: {إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} [سورة الأنفال آية: 73] . وهل الفتنة إلا الشرك؟ والفساد الكبير هو انتثار عقد التوحيد والإسلام، وقطع ما أحكمه القرآن من الأحكام والنظام؟ قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ} الآية [سورة المائدة آية: 51-52] ، قال بعض السلف: ليتق أحدكم أن يكون يهودياً أو نصرانياً، وهو لا يشعر. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُواً وَلَعِباً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ} [سورة المائدة آية: 57-58] . قلت: فليتأمل من نصح نفسه، ما يجري من هؤلاء الجزء: 8 ¦ الصفحة: 324 العساكر عند سماع الأذان، من المعارضة بالطبل والبوق والمزمار، واستبدالهم به، عما اشتمل عليه الأذان، من توحيد الله وتعظيمه، وتكبير الملك القهار، قال تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ تَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [سورة المائدة آية: 78-81] . وقال تعالى: {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} [سورة آل عمران آية: 28] . وقد جزم ابن جرير في تفسيره، بكفر من فعل ذلك، قال تعالى: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْأِيمَانَ} [سورة المجادلة آية: 22] . فليتأمل من نصح نفسه: هذه الآيات الكريمات، وليبحث عما قاله المفسرون وأهل العلم في تأويلها، وينظر ما وقع من أكثر الناس اليوم؛ فإنه يتبين له - إن وفق وسدد - أنها تتناول من ترك جهادهم، وسكت عن عيبهم، وألقى إليهم الجزء: 8 ¦ الصفحة: 325 السلم، فكيف بمن أعانهم أو جرهم على بلاد أهل الإسلام، أو أثنى عليهم أو فضلهم بالعدل على أهل الإسلام، واختار ديارهم ومساكنتهم وولايتهم، وأحب ظهورهم؟! فإن هذا ردة صريحة بالاتفاق، قال الله تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْأِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [سورة المائدة آية: 5] . وقد عرفتم ما كان عليه أسلافكم من أهل الإسلام، وما مَنَّ الله به عليكم، من دعوة شيخنا، رحمه الله، إلى توحيد الله والإيمان به، وإخلاص الدين له، والبراءة من أعدائه وجهادهم. وببركة دعوته وبيانه، حصل للإسلام من الظهور والنصر، وإعلاء كلمة الله، ما لم يحصل مثله في دياركم وأوطانكم منذ قرون متطاولة. فيجب شكر هذه النعمة، ورعايتها حق الرعاية، والعض عليها بالنواجذ، وأن لا يستبدل بموالاة أعداء الله ورسله، والانحياز إلى دولتهم، والرضى بطاعتهم، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ} الآية [سورة إبراهيم آية: 28] . فاتقوا الله عباد الله، واتقوا يوماً تُرجعون فيه إلى الله! ودعوا اللجاج والمراء، وتمسكوا بما جاء عن الله وعن رسوله، من البينات والهدى. ولا يسهل لديكم مبارزة رب السماوات العلى، بما عليه غالب الناس اليوم، من الكفر الجزء: 8 ¦ الصفحة: 326 والتعطيل والشرك والجدال والمراء. ولا تفتحوا أبواب الفتن للمشاقة والتفرق، والقدح في أهل الإسلام؛ فإن ذلك من الصد عن سبيل الله، ومن الفتنة عن دينه الذي ارتضاه. وقد جاء الحديث: " إن هذا الحي من مضر لا تدع لله في الأرض عبداً صالحاً إلا فتنته وأهلكته، حتى يدركها الله بجنود من عنده، فيذلها حتى لا تمنع ذنب تلعة " 1. وبعض من يدعي الدين إنما يتعبد بما يحسن في العادة ويثنى عليه به; وما فيه مقاطعة ومجاهدة وهجر في ذات الله، ومراغمة لأعدائه، فذاك ليس منه على شيء، بل ربما ثبط عنه وقدح في فاعله، وهذا كثير في المنتسبين إلى العبادة، والمنتسبين إلى العلم والدين. والشيطان أحرص شيء على ذلك منهم، لأنهم يرونه غالباً ديناً وحسن خلق، فلا يتاب منه ولا يستغفر، ولأن غيرهم يقتدي بهم، ويسلك سبيلهم، فيكونون فتنة لغيرهم. ولهذا حذر الشارع من فتنة من فسد من العلماء والعباد، وخافه على أمته. فأما المؤمن إذا حصل له ظفر بحقائق الإيمان، وصار على نصيب من عرضات الملك الرحمن، فقد حصل له الحظ الأوفى والسعادة، وإن قيل ما قيل، شعر: إذا رضي الحبيب فلا أبالي ... أقام الحي أم جد الرحيلُ وينبغي لك يا عثمان: أن تقرأ هذه النصيحة على جماعتك، وتبين لهم معانيها، وما في الفرقة والاختلاف من   1 أحمد (5/390) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 327 فتح أبواب الشر والفساد. فاحرص على ذلك واعتد به من صالح أعمالك، وقد قال صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه: " فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم " 1. والشيطان قاعد على الصراط المستقيم، فإن عارض أحد بشبهة، فيلزمكم تبليغها وطلب كشفها؛ ولا يحل السكوت على الشبه التي توقع في الريب والشك، وتفضي إلى ما تقدم من المفاسد. وإن رأيتم في كلامي مجازفة أو مخالفة لما قاله أهل العلم، فاذكروه لي؛ وإن جاءنا منكم نصيحة، أو تنبيه على شيء من الغلط، فنشهد الله على قبوله ممن كان. والسلام.   1 البخاري: الجهاد والسير (3009) , ومسلم: فضائل الصحابة (2406) , وأبو داود: العلم (3661) , وأحمد (5/333) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 328 [التغليظ على من يسافر إلى بلاد هجم عليها العدو] وله أيضاً، رحمه الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الابن المكرم: إبراهيم بن عبد الملك، سلمه الله تعالى؛ سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أما بعد، فأحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو على نعمائه، والخط الذي تسأل فيه عما نفتي به، في مسألة السفر إلى بلاد المشركين، قد وصل إلين. والذي كتبناه للإخوان به كفاية للطالب وبيان، ولم نخرج فيه عما عليه أهل الفتوى، عند جماهير المتأخرين؛ نعم، فيه التغليظ على من يسافر إلى بلاد، هجم عليها العدو الكافر الحربي المتصدي، لهدم قواعد الإسلام، وقلع أصوله وشعائره العظام، ورفع أعلام الكفر والتعطيل، وتجديد معاهد الشرك والتمثيل، وإطفاء أنوار الإسلام الظاهرة، وطمس منار أركانه الباهرة. وهو العدو الذي اشتدت به الفتنة على الإسلام والمسلمين، وعز بدولته جانب الرافضة والمرتدين، ومن على سبيلهم من المنحرفين والمنافقين. فمثل هذه البلدة تخص من عمومات الرخصة لوجوه، منها: أن إظهار الدين على الوجه الذي تبرأ به الذمة، متعذر غير حاصل، كما هو مشاهد معلوم عند من الجزء: 8 ¦ الصفحة: 329 خبر القوم، مع من يجالسهم ويقدم إليهم؛ وقل أن يتمكن ذو حاجة لديهم، إلا بإظهار عظيم من الركون، والموالاة والمداهنة. وهذا مشهور متواتر، لا ينكره إلا جاهل أو مكابر، لا غيرة له على دين الله وشرعه، ولا توقير لعظمته ومجده، قد اتخذ ظواهر عبارات لم يعرف حقيقتها، ولا يدري مراد الفقهاء منها، ترساً يدفع به في صدور الآيات والسنن، ويصدف به عن أهدى منهج وسنن؛ فهو كحجر في الطريق، بين السائرين إلى الله والدار الآخرة، يحول بينهم وبين مرادهم، ويثبطهم عن سيرهم وعزماتهم. وقد كثر هذا الضرب من الناس في المتصدين للفتوى في مثل هذه المسائل، وبهم حصل الإشكال، وضلت الأفهام، واستبيحت مساكنة عباد الأوثان والأصنام، وافتتن بهم جملة الرجال، وقصدتهم الركائب والأحمال، وسارت إليهم ربات الخدور والحجال، عملاً بقول رؤساء الفتنة والضلال؛ ولا يصل إلى الله ويحظى بقربه، ويرد نهر التحقيق وعذبه، من أصغى إليهم سمعه، واتخذهم أخداناً يرجع إليهم، في أمر دينه ومهمات أمره. وقد قال بعض السلف: إن هذا العلم دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم. ومن خاض في مثل هذه المباحث الدينية، من غير ملكة ولا روية، فما يفسد أكثر مما يصلح، وضلاله أقرب إليه من أن يفلح. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 330 وقد قيل: يفسد الأديان، نصف متفقه، ويفسد اللسان نصف نحوي، ويفسد الأبدان نصف متطبب. فعليك بمعرفة الأصول الدينية، والمدارك الحكمية، ولترتفع همتك إلى استنباط الأحكام من الآيات القرآنية، والسنن الصحيحة النبوية. ولا تقنع بالوقوف مع العادات، وما جرى به سنن الأكثرين في الديانات؛ فقد قال بعضهم: من أخذ العلم من أصله استقر، ومن أخذه من تياره اضطرب. وما أحسن ما قال في الكافية الشافية: ولقد نجا أهل الحديث المحض أتـ ... ـباع الرسول وتابعو القرآنِ عرفوا الذي قد قال مع علم بما ... قال الرسول فهم أولو العرفانِ وسواهمو في الجهل والدعوى مع الـ ... ـكبْر العظيم وكثرة الهذيانِ مدوا يداً نحو العلى بتكلفٍ ... وتخلف وتكبر وهوانِ أترى ينالوها وهذا شأنهم ... حاشا العلى من ذا الزبون الفاني قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله، في المواضع التي نقلها من السيرة: إنه لا يستقيم للإنسان إسلام، ولو وحد الله وترك الشرك، إلا بعداوة المشركين، والتصريح لهم بالعداوة والبغضاء. فانظر إلى تصريح الشيخ بأن الإسلام لا يستقيم إلا بالعداوة والبغضاء، فأين التصريح من هؤلاء المسافرين؟ والأدلة من الكتاب والسنة ظاهرة متواترة على ما ذكر الشيخ، وهو موافق لكلام المتأخرين من إباحة السفر لمن أظهر دينه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 331 ولكن الشأن كل الشأن في إظهار الدين، وهل اشتدت العداوة بينه صلى الله عليه وسلم وبين قريش، إلا لما كافحهم بمسبة دينهم، وتسفيه أحلامهم، وعيب آلهتهم. وأي رجل تراه يعمل المطي، جاداً في السفر إليهم، واللحاق بهم، حصل منه ونقل عنه ما هو دون هذا الواجب؟ والمعروف المشتهر عنهم: ترك ذلك كله بالكلية والإعراض عنه، واستعمال التقية والمداهنة؛ وشواهد هذا كثيرة شهيرة، والحسيات والبديهيات غنية عن البرهان. الوجه الثاني: أن قتال من هجم على بلاد المسلمين، من أمثال هؤلاء فرض عين، لا فرض كفاية، كما هو مقرر مشهور؛ فلا يحل ولا يسوغ - والحالة هذه - تركه والعدول عنه، لغرض دنيوي. وقواعد الإسلام ومدارك الأحكام ترد القول بإباحة ترك الفروض العينية، لأغراض دنيوية. ومن عرف هذا، عرف الفرق بين مسألتنا، وبين عبارة من قال: يجوز السفر لمن قدر على إظهار دينه، لو فرضناه حاصلاً، فكيف والأمر كما قدمت؟! الوجه الثالث: أن نص عبارات علمائنا، وظاهر كلامهم، وصريح إشاراتهم: أن من لم يعرف دينه بأدلته وبراهينه، لا يباح له السفر إليهم؛ فالرخصة مخصوصة بمن عرفه بأدلته المتواترة في الكتاب والسنة، ومثل هذا هو الذي يتأتى منه إظهار دينه، والإعلان به. وكيف يظهره من الجزء: 8 ¦ الصفحة: 332 لا يدريه، ولا إلمام له بأدلته القاطعة للخصم ومبانيه؟ شعراً: فقر الجهول بلا علم إلى أدبٍ ... فقر الحمار بلا رأس إلى رسنِ حتى ذكر جمع تحريم القدوم إلى بلد تظهر فيها عقائد المبتدعة، كالخوارج، والمعتزلة، والرافضة، إلا لمن عرف دينه في هذه المسائل، وعرف أدلته، وأظهره عند الخصم. وقد عرفت - أرشدك الله - أن الزمن زمن فترة من أهل العلم، غلبت فيه العادات الجاهلية، والأهواء العصبية، وقَلّ من يعرف الإسلام العتيق، وما حرمه الله من موالاة أعدائه المشركين، ومعرفة أقسامها، وأن منها ما يكفر به المسلم، ومنها ما هو دونه، وكذلك المداهنة والركون، وما حرم الله تعالى ورسوله، وما الذي يوجب فسق فاعله أو ردته. وأين القلوب التي ملئت من الغيرة لله وتعظيمه وتوقيره، عن كفر هؤلاء الملاحدة، وتعطيلهم؟ وصار على نصيب وحظ وافر، من مصادمة أعداء الله ومحاربتهم، ونصر دين الله ورسله، ومقاطعة من صد عنه، وأعرض عن نصرته، وإن كان الحبيب المواتيا.. فالحكم لله العلي الكبير. وأين من يباديهم بأن ما هم عليه كفر وضلال بعيد، ومسبة لله العزيز الحميد، يمانع أصل الإيمان والتوحيد، وأن ما هم عليه هو الكفر الجلي البواح، وهو في ذلك على نور من ربه، وبصيرة في دينه؟ فسل أهل الريب والشبهات: هل يغتفر الجهل بذلك، والإعراض عنه، علماً وعملاً، ويكتفى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 333 بمجرد الانتساب إلى الإسلام، عند قوم ينتسبون إليه أيضاً، وهم من أشد خلق الله كفراً به وجحوداً له، ورداً لأحكامه، واستهزاء بحقائقه؟ فإن قالوا: يكتفى بذلك الانتساب، وتبرأ به الذمة، فقد عادوا على ما نقلوه وأصلوه، من دليلهم بالرد والهدم. ومن حقق النظر، وعرف أحوال القوم وسبر، علم أن معولهم على اتباع أهوائهم، والميل مع شهواتهم. نسأل الله لنا ولهم العافية. هواي مع الركب اليمانين مصعد ... جنيب وجثماني بمكة موثقُ فمن هان عليه أمر الله تعالى فعصاه، ونهيه فارتكبه، وحقه فضيّعه، وذكره فأهمله، وأغفل قلبه عنه، وكان هواه آثر عنده من طلب رضاه، وطاعة المخلوق أهم عنده من طاعة ربه، فلله الفضلة من قلبه، وقوله وعمله، وسواه المقدم في ذلك، فما قدره حق قدره، وما عظمه حق عظمته؛ وهل قدره حق قدره من سالم أعداءه الجاحدين له المكذبين لرسله، وأعرض عن جهادهم وعيبهم، والطعن عليهم، ولاقاهم بوجه منبسط، ولسان عذب، وصدر منشرح، ولم يراع ما وجب عليه من إجلال الله وتعظيمه، وطاعته، جراءة على ربه، وتوثباً على محض حقه، واستهانة بأمره؟ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 334 خلافاً لأصحاب الرسول وبدعة ... وهم عن سبيل الحق أعمى وأجهلُ الوجه الرابع: أنه لا بد في إباحة السفر إلى بلاد المشركين، من أمن الفتنة؛ فإن خاف بإظهار دينه الفتنة، بقهرهم وسلطانهم، أو شبهات زخرفهم وأقوالهم، لم يبح له القدوم إليهم، والمخاطرة بدينه. وقد فرّ عن الفتنة من السابقين الأولين، إلى بلاد الحبشة من تعلم، من المهاجرين كجعفر بن أبي طالب، وأصحابه. وقد بلغكم ما حصل من الفتنة، على كثير ممن خالطهم، وقدم إليهم، حتى جعلوا مسبة من نهاهم عن ذلك، وأمرهم بمجانبة المشركين، ديناً يدينون به، ويفتخرون بذكره في مجالسهم ومجامعهم، وقد نقل ذلك عن غير واحد. {وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً} [سورة الفرقان آية: 31] . وبعض من رحل إليهم من جهتكم، حمل رسائلهم ومكاتباتهم، إلى أهل الإسلام، يدعونهم إلى الدخول تحت طاعتهم ومسالمتهم، وأن تضع الحرب أوزارها بينهم وبين من كاتبوه، واستحسن ذلك كثير من الملإ، والله المستعان. وقد شاع لديكم خبر من افتتن بمدحهم والثناء عليهم، ونسبتهم إلى العدل وحسن الرعاية، إلى ما هو أعظم من ذلك وأطم، من مشاقة الله ورسوله، واتباع غير سبيل المؤمنين؛ ومن لم يشاهد هذا منكم، ولم يسمع من قائله، قد بلغه وتحققه. فأجهل الخلق وأضلهم الجزء: 8 ¦ الصفحة: 335 عن سواء السبيل، من ينازع في تحريم السفر إليهم - والحالة هذه - ويرى حله وجوازه. الوجه الخامس: أن سد الذرائع، وقطع الوسائل، من أكبر أصول الدين وقواعده؛ وقد رتب العلماء على هذه القاعدة، من الأحكام الدينية تحليلاً وتحريماً، ما لا يحصى كثرة، ولا يخفى أهل العلم والخبرة. وقد ترجم شيخ الدعوة النجدية، قدس الله روحه، لهذه القاعدة في كتاب التوحيد، فقال: باب ما جاء في حماية المصطفى صلى الله عليه وسلم جناب التوحيد، وسده كل طريق يوصل إلى الشرك، وساق بعض أدلة هذه القاعدة. وقد قرأت علينا في الرسالة المدنية، لشيخ الإسلام ابن تيمية، أن اعتبار هذا من محاسن مذهب مالك، قال: ومذهب أحمد قريب منه في ذلك. ولو أفتينا بتحريم السفر، رعاية لهذا الأصل فقط، وسداً لذرائعه المفضية، لكنا قد أخذنا بأصل أصيل، ومذهب جليل. الوجه السادس: أنا لا نسلم دخول هذه البلدة، التي الكلام بصددها، في عبارات أهل العلم، ورخصتهم، لأن صورة الأمر وحقيقته: سفر إلى معسكر العدو الحربي الهاجم على أهل الإسلام، المستولي على بعض ديارهم، المجتهد في هدم قواعد دينهم، وطمس أصوله وفروعه، وفي نصرة الشرك والتعطيل، وإعزاز جيوشه وجموعه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 336 فالمسافر إليهم كالمسافر إلى معسكر هو بصدد ذلك، كمعسكر التتر، ومعسكر قريش يوم الخندق ويوم أحد، أفيقال هنا بجواز السفر، لأن السفر إلى بلاد المشركين يجوز لمن أظهر دينه؟ وهل لهذا القول حظ من النظر والدليل؟ أو هو سفسطة وضلال عن سواء السبيل؟ والعلم ليس بنافع أربابه ... ما لم يفد نظراً وحسن تبصرِ وفي سنن أبي داود، ومسند الإمام أحمد، الذي قال فيه: قد جعلته للناس إماماً، من حديث أبي بكرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ينزل ناس من أمتي بغائط يسمونه البصرة، عند نهر يقال له دجلة، يكون عليه جسر. يكثر أهلها، ويكون من أمصار المهاجرين - وفي رواية: والمسلمين -. فإذا كان آخر الزمان، جاء بنو قنطوراء، عراض الوجوه، صغار الأعين، حتى ينزلوا على شط النهر، فيفترق أهلها ثلاث فرق، فرقة يأخذون أذناب البقر والبرية وهلكوا، وفرقة يأخذون لأنفسهم وكفروا، وفرقة يأخذون ذراريهم خلف ظهورهم ويقاتلونهم؛ وأولئك هم الشهداء " 1. والحديث وإن كان في سنده سعيد بن جمهان، فقد وثقه أبو داود، الذي أُلين له الحديث، كما أُلين لداود الحديد، فقسمهم ثلاث فرق، وأخبر أن من أخذ لنفسه وألقى السلم، وترك الجهاد، فقد كفر. ومن أعرض عن   1 أبو داود: الملاحم (4306) , وأحمد (5/40, 5/44) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 337 جهادهم، وتباعد عنهم، مقبلاً على إصلاح دنياه وحرثه، فقد هلك، ولم ينج إلا من قام بجهادهم، وانتصب لحربهم، ونصر الله ورسوله. وأخبر أن أولئك هم الشهداء، وأنهم مخصوصون بالشهادة دون سائر الشهداء، كما يستفاد من الجملة الاسمية، المعرفة الطرفين، ومن ضمير الفصل المقحم بين المبتدإ والخبر؛ والحصر وإن كان ادعائياً، فهو يدل على شرف الصنف وفضيلته. والحديث وإن تأوله بعضهم، في حادثة التتر في القرن السابع، فقائله لا يمنع من دخول سواها في الخبر، وأن لها ذيولاً وبقية؛ ولا ريب أن الذي حصل في هذا الزمان، إن لم يكن منها، فهو يشبه بها من كل وجه. فإن لا يكنْها أو تكنْه فإنه ... أخوها غذته غذته أمه بلبانها وقد قال شيخ الإسلام، في اختياراته: من جمز إلى معسكر التتر، ولحق بهم، ارتد وحل ماله ودمه. فتأمل هذا! فإنه - إن شاء الله - يزيل عنك إشكالات كثيرة، طالما حالت بين قوم وبين مراد الله ورسوله، ومراد أهل العلم، من نصوصهم وصريح كلامهم. ثم اعلم: أن النصوص الواردة في وجوب الهجرة والمنع من الإقامة بدار الشرك، والقدوم إليها، وترك القعود مع أهلها، ووجوب التباعد عن مساكنتهم ومجامعتهم، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 338 نصوص عامة مطلقة، وأدلة قاطعة محققة; ومن قال بالتخصيص والتقييد لها، إنما يستدل بقضايا عينية خاصة، وأدلة جزئية، لا عموم لها عند جماهير الأصوليين والنظار، بل هي في نفسها محتملة للتقييد والتخصيص. ومن قال بالرخصة، لا ينازع في عموم الأدلة الموجبة للهجرة، المانعة من المجامعة والمساكنة، غاية ما عند الخصم: أن يقيس حكماً على حكم، وفرعاً على فرع، وقضية على قضية. والمنازع له يتوقف في صحة هذا القياس، لأنه معارض لدليل العموم والإطلاق. وقد رأيت محمد بن علي الشوكاني جزم فيما كتبه على المنتقى، برد قول الماوردي بجواز الإقامة بدار الشرك، وفضيلة ذلك لمن أظهر دينه، ورجا إسلام غيره، قال: وهذا القول معارض لعموم النص، فلا يسلم ولا يلتفت إليه. مع أن الذي كتبناه في هذه المسألة، موافق للمشهور عند المتأخرين، لم نخرج عنه كما تقدم ذكره. والقصد: أن المسألة من أصلها، فيها بحث قوي، ومجال للنظر، فإن بقي عليك إشكال فراجعني، وإياك والسكوت على ريبة. وقد رأيت بخط الوالد، قدس الله روحه ونور ضريحه: شمر إلى طلب العلوم ذيولا ... وانهض لذلك بكرة وأصيلاَ وصل السؤال وكن هديت مباحثا ... فالعيب عندي أن تكون جهولاَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 339 وأما مسألة المبايعة، فلم يسألني عنها أحد، ولم يتقدم لي فيها كلام. وقد بسط شيخ الإسلام الكلام على مبايعة أهل الذمة، ومنع من بيع ما يستعينون به على كفرهم وأعيادهم. وأما الكافر الحربي، فلا يمكن مما يعينه على حرب أهل الإسلام، ولو بالميرة والمال ونحوه، والدواب، والرواحل، حتى قال بعضهم بتحريق ما لا يتمكن المسلمون من نقله في دار الحرب، من أثاثهم وأمتعتهم، ومنعهم من الانتفاع به. فكيف بيعهم وإعانتهم على أهل الإسلام؟ فإن انضاف إلى ذلك ما هو الواقع من المسافرين، في هذا الزمان، مما تقدم ذكره، فالأمر أغلظ وأفحش، وذلك فرد من وراء الجمع. وأكثر الناس، يخفى عليه أن المرتد من أهل تلك الديار، التي استولى عليها الكافر الحربي، أغلظ كفراً وأعظم جرماً، بجميع ما تقدم من الأحكام؛ ولذلك تجد لهم عند القادمين إليهم، من المباسطة والمؤانسة والإكرام، ما هو أعظم مما مرت حكايته، من صنيعهم مع هذا الكافر الحربي. فافهم ذلك! والله المسؤول المرجو الإجابة، أن ينصر دينه وكتابه، ورسوله وعباده المؤمنين، وأن يظهر دينه على الدين كله ولو كره المشركون، وصلى الله على عبده ورسوله النبي الأمي، وعلى آله وصحبه، وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 340 [عموم البلوى بالسفر إلى المشركين] وله أيضاً، قدس الله روحه ونور ضريحه: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأخ محمد بن علي آل موسى، سلمه الله تعالى؛ سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وسبق إليك خط، مع البداة أشرت فيه إلى المسألة التي ذكرت لي من جهة فتوى الوالد الشيخ، قدس الله روحه ونور ضريحه، فيمن يسافر إلى بلاد المشركين. وفي هذه الأيام: ورد علينا خط من ولد العجيري، ذكر فيه أن لفظ الوالد في جوابه قوله: وأما السفر إلى بلاد المشركين، فقد عمت به البلوى، وهو نقص في دين من فعله، لكونه عرض نفسه للفتنة بمخالطة المشركين؛ فينبغي هجره وكراهته. هذا هو الذي يفعله المسلمون معه، من غير تعنيف ولا سب، ولا ضرب. ويكفي في حقه إظهار الإنكار عليه، وإنكار فعله، ولو لم يكن حاضراً؛ والمعصية إذا وجدت أنكرت على من فعلها، أو رضيها إذا اطلع عليها. انتهى ما نقله. وهذه العبارة - بحمد الله - ليس فيها ما يتعلق به كل مبطل، لوجوه، منها: أن الذي وقع في هذه الأعصار، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 341 وكلامنا بصدده، أمر يجل عن الوصف، وقد اشتمل مع السفر على منكرات عظيمة، منها: موالاة المشركين، وقد عرفتم ما فيها من النصوص القرآنية، والأحاديث النبوية، وعرفتم أن مسمى الموالاة يقع على شعب متفاوتة: منها ما يوجب الردة، وذهاب الإسلام بالكلية ; ومنها ما هو دون ذلك، من الكبائر والمحرمات. وعرفتم قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} [سورة الممتحنة آية: 1] ، وأنها نزلت فيمن كاتب المشركين بسر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد جعل ذلك من الموالاة المحرمة، وإن اطمأن قلبه بالإيمان; وكذلك من رأى أن في ولايتهم مصلحة للناس، أو للحضر، وهذا واقع مشاهد، تعرفونه من حال أكثر هؤلاء الذين يسافرون إلى تلك البلاد، وربما نقل بعضهم من المكاتبات إلى أهل الإسلام، ما يستفزونهم به، ويدعونهم إلى طاعتهم وصحبتهم، والانحياز إلى ولايتهم. فالذي يظهر هذه الفتوى، ويستدل بها على مثل هذه الحال، من أجهل الناس بمدارك الشرع، ومقاصد أهل العلم، وهو كمن يستدل بتقبيل الصائم، على أن الوطء لا يبطل صيامه، وهذا من جنس ما حصل من هؤلاء الجهلة في رسالة ابن عجلان، وما فيها من الاستدلال على جواز خيانة الله ورسوله، وتخلية بلاد المسلمين، وتسليط أهل الجزء: 8 ¦ الصفحة: 342 الشرك عليها، وأهل التعطيل، والكفر بآيات الله، وغير ذلك من ظهور سلطانهم، وإبطال الشرع بالكلية، بمسألة خلافية، في جواز الاستعانة بمشرك، ليس له دولة ولا صولة، ولا دخل في رأي، مع أنها من المسائل المردودة على قائليها، كما بسط في غير موضع 1. وبالجملة: فإظهار مثل هذه الفتوى في هذه الأعصار، من الوسائل المفضية إلى أكبر محذور، وأعظم المفاسد والشرور، مع أن عبارة الشيخ إذا تأملها المنصف، وجد فيها ما يرد على هؤلاء المبطلة. وقول الشيخ: قد عمت به البلوى، يبين أن الجواب في الجاري في وقته، مع ظهور الإسلام وعزته، وإظهار دين من سافر إلى جهاتهم، وليس في ذلك ما في السفر إليهم، في هذه الأوقات، إذ هو مسالمة وإعراض، عما وجب من فروض العين؛ وإذا هجم العدو، صار الجهاد فرض عين، يحرم تركه ولو للسفر المباح، فكيف بهذا السفر؟ وأيضاً، فكلام الشيخ يحمل على ما ذكره الفقهاء، في أن عامة الناس ليس لهم أن يفتاتوا على ولي الأمر في الحدود والتعزيرات، إلا بإذنه. وقد عرفتم حال أكثر الولاة، في عدم الاهتمام بهذا الأصل، فالافتيات عليهم بالحبس   1 ومن المواضع: ما سيأتي في الصفحات من 364 إلى 374. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 343 والضرب، ونحو ذلك، مفسدة، تمنعها الشريعة ولا تقرها، ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح; فهذا يوجب للشيخ وأمثاله مراعاة المصلحة الشرعية في الفتوى الجزئية، لا سيما في مخاطبة العامة. وقول الشيخ: لكونه عرض نفسه للفتنة بمخالطة المشركين، صريح في أن الكلام فيمن لم يفتتن، ولم يستخف بدينه. وقد عرفتم حال أكثر الناس في هذا الوقت، أقل الفتنة أن يستخفي بدينه، وجمهورهم يظهر الموافقة بلسان الحال أو لسان المقال، فهذا الضرب ليس داخلاً في كلام الشيخ رحمه الله. وقوله: ينبغي هجره وكراهته، فيه بيان ما يستطيعه كل أحد، وأما ولاة الأمور، ومن له سلطان أو قدرة، فعليهم تغيير المنكر باليد، ومن لم يستطع فباللسان، ومن لم يستطع فبالقلب؛ وهذا نص الحديث النبوي، فلا يجوز العدول عنه، وإساءة الظن بأهل العلم; بل يحمل كلامهم على ما وافقه. والمصر المكابر لا ينتهي، إلا إذا غير فعله بالأدب، أو الحبس، وهو داخل في عموم الحديث. وقد شاهدنا من الوالد، رحمه الله، تعنيف هذا الجنس، وذمهم، وذكر حكم الله ورسوله في تحريم مخالطة المشركين، مع عدم التمكن من إظهار الدين. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 344 وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله، أن التعزيرات تفعل بحسب المصلحة، وليس لها حد محدود، بل بحسب ما يزيل المفسدة، ويوجب المصلحة، وذكر قتل شارب الخمر في الرابعة، وأنه من هذا الباب. وأشار إلى ذلك في اختياراته، وكذلك غيره من المحققين، ذكروا أن التعزير على الكبائر والمحرمات غير مقدر، بل بحسب المصلحة؛ وهذه قواعد كلية، تدخل فيها تلك القضية الجزئية. وقول الشيخ: والمعصية إذا وجدت، أنكرت على من فعلها، أو رضيها، ليس فيه أن الإنكار بمجرد القول، بل هو بحسب المراتب الثلاث المذكورة في الحديث، وإلا لخالف نص الحديث؛ بل يتعين حمل كلام الشيخ عليه، لموافقة الحديث النبوي، لا على ما خالفه، وأسقط من الإنكار ركنه الأعظم. ومن شم رائحة العلم، لم يعرض هذه الفتوى لأهل هذه القبائح الشنيعة، ويجعلها وسيلة إلى مخالفة واجبات الشريعة، ومثل هذا الذي أظهر الفتوى، يجعله بعض المنتسبين منفاخاً، ينفخ به ما يستتر من إظهاره وإشاعته. والواجب على مثلك: النظر في أصول الشريعة، ومعرفة مقادير المصالح والمفاسد، وتأمل قوله تعالى: {وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً} الآية الجزء: 8 ¦ الصفحة: 345 [سورة الإسراء آية: 74] . فانظر ما ذكره المفسرون، حتى أدخل بعضهم لياقة الدواة، وبري القلم، في الركون؛ وذلك لأن ذنب الشرك أعظم ذنب عصي الله به، على اختلاف رتبه، فكيف إذا انضاف إليه ما هو أفحش، من الاستهزاء بآيات الله، وعزل أحكامه وأوامره، وتسمية ما ضاده وخالفه بالعدالة؟ والله يعلم ورسوله، والمؤمنون أنها الكفر، والجهل، والضلالة. ومن له أدنى أنفة، وفي قلبه نصيب من الحياة، يغار لله ورسوله، وكتابه ودينه، ويشتد إنكاره وبراءته، في كل محفل وكل مجلس؛ وهذا من الجهاد الذي لا يحصل جهاد العدو إلا به. فاغتنم إظهار دين الله والمذاكرة به، وذم ما خالفه والبراءة منه ومن أهله. وتأمل الوسائل المفضية إلى هذه المفسدة الكبرى، وتأمل نصوص الشارع، في قطع الوسائل والذرائع؛ وأكثر الناس ولو تبرأ من هذا ومن أهله، فهو جند لمن تولاهم، وأنس بهم، وأقام بحماهم، والله المستعان. وهذا الخط، اقرأه على من تحب من إخوانك، وبلغ سلامي والدك، وخواص الإخوان، والسلام. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 346 [رد شبهة من قال أن آية: {إن الذين توفاهم الملائكة} هي فيمن قاتل المسلمين] وله أيضاً، رحمه الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الابن الأخ: حسن بن عبد الله، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد، يذكر لي ما كتب إليك عبد الرحمن الوهيبي من الشبهة لما ذكرت له قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} [سورة النساء آية: 97] ، ونصحته عن الإقامة بين أظهر العساكر التركية، وأنه احتج عليك بأن الآية فيمن قاتل المسلمين، وقال: تجعلون إخوانكم، مثل من قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه؛ وهذا جهل منه بمعنى الآية وصريحها، ومخالفة لإجماع المسلمين وما يحتجون به، على تحريم الإقامة بين أظهر المشركين، مع العجز عن القدرة على الإنكار والتغيير. قال ابن كثير: هذه الآية عامة في كل من أقام بين ظهراني المشركين، وهو قادر على الهجرة، وليس متمكناً من إقامة الدين؛ فهو ظالم لنفسه، مرتكب حراماً بالإجماع، وبنص هذه الآية، حيث يقول تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} [سورة النساء آية: 97] ، أي بترك الهجرة. {قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ} أي: لِم كنتم هاهنا، وتركتم الهجرة؟ {قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ} [سورة النساء آية: 97] أي: لا نقدر على الخروج، ولا الذهاب في الجزء: 8 ¦ الصفحة: 347 الأرض، قالوا: {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً} [سورة النساء آية: 97] . وساق، رحمه الله، ما رواه أبو داود عن سمرة بن جندب: أما بعد، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من جامع المشرك وسكن معه، فإنه مثله " 1. فانظر حكاية الإجماع على تحريم ذلك، وانظر تقريره معنى الآية، وتعليقه ما فيها من الأحكام، والوعيد على مجرد الإقامة بين أظهر المشركين، وأن هذه الآية نص في ذلك. وانظر خطاب الملائكة لهذا الصنف، وأنه على المكث والإقامة بدار الكفر. وانظر ما أجابتهم الملائكة عن قولهم: لا نقدر على الخروج. كل ذلك ليس فيه ذكر للقتال؛ فتأمل هذا، يطلعك على بطلان هذه الشبهة، وجهل مبديها. وتأمل حديث سمرة، وما فيه من تعليق هذا الحكم، بنفس المجامعة والسكنى، واعرف معنى كونه مثله; وكذلك لما روى ابن جرير عن عكرمة، قال: كان أناس من أهل مكة أسلموا، فمن مات منهم بها هلك، قال الله تعالى: {فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ} [سورة النساء آية: 97-98] ، وروى ابن جرير من تفسير ابن أبي حاتم، فزاد فيه: فكتب المسلمون إليهم بذلك، وخرجوا ويئسوا من كل خير، ثم نزلت فيهم {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ   1 أبو داود: الجهاد (2787) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 348 هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا} [سورة النحل آية: 110] . فكتبوا إليهم بذلك: أن جعل الله لكم مخرجاً، فخرجوا، فآذاهم المشركون فقتلوهم، حتى نجا من نجا وقتل من قتل. وروي عن ابن عباس في الآية: "هم قوم تخلفوا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وتركوا أن يخرجوا معه. فمن مات منهم قبل أن يلحق بالنبي صلى الله عليه وسلم، ضربت الملائكة وجهه ودبره". وأظن هذا الجاهل رأى ما روي عن عكرمة، عن ابن عباس: "أن قوماً من أهل مكة أسلموا، فاستخفوا بالإسلام. وأخرجهم المشركون يوم بدر معهم، وأصيب بعضهم، وقتل بعض، فقال المسلمون: كان أصحابنا هؤلاء مسلمين، وأكرهوا، فاستغفروا لهم، فنزلت: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ} الآية [سورة النساء آية: 97] "، فهذا القول ونحوه، مما فيه ذكر من أخرج مع المشركين يوم بدر، ولا يدل على أن الآية خاصة بهم، بل يدل على أنها متناولة للعموم اللفظي، والعبرة بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب. وكذلك من قال من السفهاء: إن هذه الآية نزلت في أناس من المنافقين، تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرجوا مع المشركين، فمرادهم: أن هذه الآية تناولهم بعمومها، ولم يريدوا: أن هذا النفاق، والقتال مع المشركين، هو الذي أنيط به هذا الحكم، وترتب عليه الجزء: 8 ¦ الصفحة: 349 الوعيد، فإنهم أجلّ وأعلم من أن يفهموا ذلك، والسلف يعبرون بالنوع، ويريدون الجنس العام. ومن لم يمارس العلوم، ولم يتخرج على حملة العلم وأهل الفقه عن الله، وتخبط في العلوم برأيه، فلا عجب من خفاء هذه المباحث عليه، وعدم الاهتداء لتلك المسالك، التي لا يعرفها إلا من مارس الصناعة، وعرف ما في تلك البضاعة. وهذا الرجل من أجهل الناس بالضروريات، فكيف بغيرها من حقائق العلم، ودقائقه؟ وليتهم - أعني هذا وأمثاله - اقتصروا على مجرد الإقامة، ولم يصدر منهم ما اشتهر وذاع، من الموالاة الصريحة، وإيثار الحياة الدنيا، على محبة الله ورسوله، وما أمر به وأوجبه من توحيده، والبراءة ممن أعرض عنه، وعدل به غيره، وسوى به سواه. وتأمل كلام شيخ الإسلام، محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله، على هذه الآية، فإنه أفاد وأجاد، وتأمل ما ذكره الفقهاء في حكم الهجرة، واستدلالهم بهذه الآية، على تحريم الإقامة بين ظهراني المشركين، لمن عجز عن إظهار دينه. فكيف بمن أظهر لهم الموافقة على بعض أمرهم، وعلى أنهم مسلمون من أهل القبلة المحمدية؟! وصاحب هذا القول الذي شبه عليكم، ينزل درجة درجة: أول ذلك شراؤه المراتب الشرعية والأوقاف التي على أهل العلم، حتى صرفت له من غير استحقاق ولا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 350 أهلية. ثم لما جاءت هذه الفتنة، صار يتزين عند المسلمين بحمد الله، على عدم حضوره بتلك البلد. ثم جمز ولحق بأهلها، ونقض غزله وكذب نفسه. ثم ظهر لهم في مظهر الصديق الودود، وبالغ في الكرامة والوليمة، والتحف والهدايا، والمجالسة، والتردد، شغفاً بالجاه والرياسة، ولو في زمرة من حاد الله ورسوله. وأما ما نقل عنه، من التحريض على أهل الإسلام، فهو إن صح أقبح من هذا كله وأشنع؛ وحسابه على الله الذي تنكشف عنده السرائر، وتظهر مخبآت الصدور والضمائر. وروى السدي قال: " لما أسر العباس وعقيل ونوفل، قال النبي صلى الله عليه وسلم للعباس: افدِ نفسك وابني أخيك، قال: يا رسول الله، ألم نصل قبلتك، ونشهد شهادتك؟ قال: يا عباس، إنكم خاصمتم فخصمتم، ثم تلا عليه هذه الآية {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} [سورة النساء آية: 97] ". فتأمل هذه القصة، وما فيها من التصريح بأن الخصومة في الهجرة، وأن من ادعى الإسلام والتوحيد، وهو مقيم بين ظهراني أهل الشرك بالله، والكفر بآياته، فهو مخصوم محجوج؛ وهذا يعرفه طلبة العلم والممارسون. وتأمل قوله تعالى: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [سورة الأنعام آية: 121] ، كيف حكم على من أطاع أولياء الشيطان، في تحليل ما الجزء: 8 ¦ الصفحة: 351 حرم الله، أنه مشرك، وأكد ذلك بـ"إن" المؤكدة، وأن ذلك صادر عن وحي الشيطان. فاحذر هذا الضرب من الناس، وليكن لك نهمة في طلب العلم من أصوله ومظانه. والله تعالى أسأل أن يمن علينا وعليكم، بالهداية إلى سبيله، ومعرفة دينه بدليله، وصلى الله على محمد، وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً. [الحوادث العظام التي هدمت أركان الإسلام لله فيها سر وحكمة بالغة] وله أيضاً، قدس الله روحه: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأخ المكرم: حمد بن عبد العزيز، سلمه الله تعالى وهداه، وألهمه رشده، وتقواه، آمي.، سلام عليكم، ورحمة الله وبركاته. وبعد، فأحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، وإن أتى الدهر بمر القضاء. والخط وصل، وصلك الله بحبله المتين، ونظمك في سلك أنصار الملة والدين، وقد عرفت: أن الله سبحانه وتعالى، ليس كمثله شيء في أفعاله وقضائه، كما أنه ليس كمثله شيء في ذاته وصفاته. وهذه الحوادث العظام، التي هدمت أركان الإسلام، لله فيها سر وحكمة بالغة، يطلع من يشاء من عباده على عنوان وأنموذج من سر القدر والقضاء. وأكثر الناس في خفارة جهله، وكثافة طبعه، كالبعير الذي يعقله أهله ثم يطلقونه، لا يدري فيما عقل، ولا فيما أطلق. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 352 وتذكر أن الغربة اشتدت، والأمر كما وصفت، وأعظم مما إليه أشرت، ولكن ليكن لك على بال، ما ورد في فضل الغرباء، ووصفهم؛ فاغتنم نصرة الإسلام، والدعوة إليه ونشره، وتعريفه وتقريره، في كل مجلس ومجمع؛ فإن أكثر الناس قد ضل عنه وهو لا يدري عن حقيقته ومسماه، وقد وقع ذلك ممن ينتسب إلى الدين، ونسي ما كان عليه من تقرير التوحيد وأدلته. وقد بلغنا عن عبد الرحمن الوهيبي وأمثاله، بعد ذهابه إليهم، ما تصان عن ذكره الأسماع، وصار يعترض على من أنكر طريقته وذمها، ويزعم أنه قد خالف طريقة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وصرح بمسبة من أنكر عليه، ونسبه إلى موالاتهم؛ فالذي يجادل عنه داخل في عموم قوله تعالى: {وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ} [سورة غافر آية: 5] . وكذلك ما ذكرت عن الذي أنكر عليكم الفتوى بحل ما أخذ في درب العقير، مع العسكر والزوار، فلا يصدر هذا الإنكار، إلا عن جهل بحقيقة الإسلام، وقواعده الكبار؛ وسرية ابن الحضرمي في عهده صلى الله عليه وسلم مشهورة معروفة، وهي أول دم أهريق في الإسلام، وقصدت عير قريش، وقريش في ذلك الوقت مع كفرهم وضلالهم، أهدى من كثير من العسكر، والزوار من الرافضة بكثير، فكيف وقد بلغ شركهم إلى تعطيل الربوبية، والصفات العلية، وإخلاص الجزء: 8 ¦ الصفحة: 353 العبادات للمعبودات الوثنية ومعارضة الشريعة المحمدية، بأحكام الطواغيت، والقوانين الإفرنجية؟! فمن جادل عمن خالط هؤلاء، ودخل لهم في الشورى، وترك الهجرة إلى الله ورسوله، وافتتن به كثير من خفافيش البصائر، فالمجادل فيه، وفي حل ما أخذ من العسكر والزوار، لا يدري ما الناس فيه من أمر دينهم، فعليه أن يصحح عقيدته، ويراجع دين الإسلام من أصله، ويتفطن في النزاع الذي جرى بين الرسل وأممهم، في أي شيء؟ وبأي شيء؟ {وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً} [سورة الفرقان آية: 31] . والذي أوصيك به: الثبات، والغلظة على هؤلاء الجهلة، الذين يسعون في هدم أركان الإسلام، ومحو آثاره. وصلى الله على محمد. وسئل: عمن يجيء من الأحساء، بعد استيلاء هذه الطائفة الكافرة على أهله، ممن يقيم فيه للتكسب أو التجارة، ولا اتخذه وطناً، وأن بعضهم يكره هذه الطائفة ويبغضها، يعلم منه ذلك، وبعضهم يرى ذلك، ولكن يعتقد أنه حصل بهم راحة للناس، وعدم ظلم وتعد على الحضر ... إلخ؟ فأجاب: الإقامة ببلد يعلو فيها الشرك والكفر، ويظهر الرفض ودين الإفرنج، ونحوهم من المعطلة للربوبية الجزء: 8 ¦ الصفحة: 354 والإلهية، وترفع فيها شعائرهم، ويهدم الإسلام والتوحيد، ويعطل التسبيح والتكبير والتحميد، وتقلع قواعد الملة والإيمان، ويحكم بينهم بحكم الإفرنج واليونان، ويشتم السابقون من أهل بدر وبيعة الرضوان، فالإقامة بين ظهرانيهم - والحالة هذه - لا تصدر عن قلب باشره حقيقة الإسلام والإيمان والدين، وعرف ما يجب من حق الله في الإسلام على المسلمين، بل لا يصدر عن قلب رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً. فإن الرضى بهذه الأصول الثلاثة، قطب رحى الدين، وعليه تدور حقائق العلم واليقين، وذلك يتضمن من محبة الله، وإيثار مرضاته، والغيرة لدينه، والانحياز إلى أوليائه، ما يوجب البراءة كل البراءة، والتباعد كل التباعد، عمن تلك نحلته، وذلك دينه. بل نفس الإيمان المطلق، في الكتاب والسنة، لا يجامع هذه المنكرات، كما يعلم من تقرير شيخ الإسلام، ابن تيمية، رحمه الله، في كتاب الإيمان، وفي قصة إسلام جرير بن عبد الله، أنه قال: يا رسول الله، بايعني واشترط، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " تعبد الله ولا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وأن تفارق المشركين "، أخرجه أبو عبد الرحمن النسائي، وفيه إلحاق مفارقة المشركين بأركان الإسلام، ودعائمه العظام. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 355 وقد عرف من آية "سورة براءة" أن قصد أحد الأغراض الدنيوية، ليس بعذر شرعي، بل فاعله فاسق لا يهديه الله، كما هو نص الآية؛ والفسوق إذا أطلق، ولم يقترن بغيره، فأمره شديد، ووعيده أشد وعيد. وأي خير يبقى مع مشاهدة تلك المنكرات، والسكوت عليها، وإظهار الطاعة والانقياد، لأوامر من هذا دينه، وتلك نحلته، والتقرب إليهم بالبشاشة، والزيارة والهدايا، والتأنق في المآكل والمشارب، وإن زعم أن له غرضاً من الأغراض الدنيوية؟ فذلك لا يزيده إلا مقتاً، كما لا يخفى على من له أدنى ممارسة للعلوم الشرعية، واستئناس بالأصول الإسلامية. وقد جاء القرآن العظيم، بالوعيد الشديد، والتهديد الأكيد، على مجرد ترك الهجرة، كما في آية "النساء"، وقد ذكر المفسرون هناك، ما به الكفاية والشفاء، وتكلم عليها شيخنا محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى، وأفاد وأوفى; ودعوى التقية لا تجدي مع القدرة على الهجرة، ولذلك لم يستثن الله إلا المستضعفين من الأصناف الثلاثة. وقد ذكر علماؤنا تحريم الإقامة، والقدوم إلى بلد يعجز فيها عن إظهار دينه؛ والمقيم للتجارة والتكسب، والمستوطن، حكمهم وما يقال فيهم، حكم المستوطن، لا فرق. وأما دعوى البغض والكراهة، مع التلبس بتلك الفضائح، فذلك لا يكفي في النجاة، ولله حكم وشرع، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 356 وفرائض، وراء ذلك كله. إذا تبين هذا، فالأقسام مشتركون في التحريم، متفاوتون في العقوبة، قال الله تعالى: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا} [سورة الأنعام آية: 132] . وأخبث هؤلاء وأجهلهم، من قال: إنه حصل بهم راحة للناس، وعدم ظلم وتعد على الحضر; وهذا الصنف أضل القوم، وأعماهم عن الهدى، وأشدهم محادة لله ورسوله، ولأهل الإيمان والتقى، لأنه لم يعرف الراحة التي حصلت بالرسل، وبما جاؤوا به في الدنيا والآخرة، ولم يؤمنوا بها الإيمان النافع. والمسلم يعرف أن الراحة كل الراحة، والعدل كل العدل، واللذة كل اللذة، في الإيمان بالله ورسوله، والقيام بما أنزل الله من الكتاب والحكمة، وإخلاص الدين له، وجهاد أعدائه وأعداء رسوله، وأنه باب من أبواب الجنة، يحصل به النعيم والفرح واللذة، في الدور الثلاث، قال الله تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} الآية [سورة البقرة آية: 177] . ولو علم هذا المتكلم أن الشرك أظلم الظلم، وأكبر الكبائر، وأقبح الفساد وأفحشه، لكان له مندوحة عن مثل هذا الجهل الموبق؛ قال الله تعالى: {وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا} [سورة الأعراف آية: 56] ، وقال تعالى: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ الَّذِينَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 357 يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [سورة البقرة آية: 26-27] ، فجعل الخسار كله بحذافيره، في أهل هذه الخصال الثلاث، كما يفيده الضمير المقحم بين المبتدإ والخبر. وقال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} [سورة الأنفال آية: 73] . فهذا الفساد المشار إليه، في هذه الآيات الثلاث الكريمات، هو الفساد الحاصل بالكفر والشرك، وترك الجهاد في سبيل الله، واتخاذ أعداء الله أولياء من دون المؤمنين. وبالجملة: فمن عرف غور هذا الكلام - أعني قول بعضهم: إنه حصل بهم راحة للناس، وعدم ظلم وتعد على الحضر - تبين له ما فيه من المحادة والمشاقة لما جاءت به الرسل، وعرف أن قائله ليس من الكفر ببعيد. والواجب على مثلك: أن يجاهدهم بآيات الله، ويخوفهم من الله وانتقامه، ويدعو إلى دينه وكتابه. والهجر مشروع إذا كان فيه مصلحة راجحة، ونكاية لأرباب الجرائم، وهذا يختلف باختلاف الأحوال، والأزمان، والله المستعان. وسئل: عمن كان في سلطان المشركين، وعرف التوحيد وعمل به، ولكن ما عاداهم، ولا فارق أوطانهم؟ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 358 فأجاب: هذا السؤال صدر عن عدم التعقل لصورة الأمر، والمعنى المقصود من التوحيد والعمل به، لأنه لا يتصور أنه يعرف التوحيد ويعمل به، ولا يعادي المشركين؛ ومن لم يعادهم لا يقال له: عرف التوحيد وعمل به. والسؤال متناقض، وحسن السؤال مفتاح العلم. وأظن مقصودك: من لم يظهر العداوة، ولم يفارق؛ ومسألة إظهار العداوة غير مسألة وجود العداوة. فالأول: يعذر به مع العجز والخوف، لقوله تعالى: {إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} [سورة آل عمران آية: 28] . والثاني: لا بد منه، لأنه يدخل في الكفر بالطاغوت، وبينه وبين حب الله ورسوله تلازم كلي، لا ينفك عنه المؤمن؛ فمن عصى الله بترك إظهار العداوة، فهو عاص لله. فإذا كان أصل العداوة في قلبه، فله حكم أمثاله من العصاة، فإذا انضاف إلى ذلك ترك الهجرة، فله نصيب من قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} الآية [سورة النساء آية: 97] ، لكنه لا يكفر، لأن الآية فيها الوعيد لا التكفير. وأما الثاني، الذي لا يوجد في قلبه شيء من العداوة، فيصدق عليه قول السائل: لم يعاد المشركين; فهذا هو الأمر العظيم، والذنب الجسيم، وأي خير يبقى مع عدم عداوة المشركين؟ والخوف على النخل والمساكن ليس بعذر الجزء: 8 ¦ الصفحة: 359 يوجب ترك الهجرة، قال تعالى: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} [سورة العنكبوت آية: 56] . وأما ما كان في دار الإسلام، ولا تعلّم أصل الدين ولا قواعده، ولأجل الجهل بها، صار يعزر ويوقر، أعداء الدين؟ فالجواب أن يقال: إن أحوال الناس تتفاوت تفاوتاً عظيماً، وتفاوتهم بحسب درجاتهم في الإيمان، إذا كان أصل الإيمان موجوداً؛ والتفريق والترك، إنما هو فيما دون ذلك من الواجبات، والمستحبات. وأما اذا عدم الأصل الذي يدخل به في الإسلام، وأعرض عن هذا بالكلية، فهذا كفر إعراض، فيه قوله تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ} الآية [سورة الأعراف آية: 179] ، وقوله: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً} الآية [سورة طه آية: 124] . ولكن عليك أن تعلم: أن المدار على معرفة حقيقة الأصل وحقيقة القاعدة، وإن اختلف التعبير واللفظ؛ فإن كثيراً يعرف القصد والقاعدة، ويعبر بغير التعبير المشهور. وتعزيرهم وتوقيرهم كذلك، تحته أنواع أيضاً، أعظمها: رفع شأنهم، ونصرتهم على أهل الإسلام ومبانيه، وتصويب ما هم عليه؛ فهذا وجنسه من المكفرات، ودونه مراتب من الجزء: 8 ¦ الصفحة: 360 التوقير بالأمور الجزئية، كلياقة الدواة ونحوه. وأما قوله لأبي شريح، فليس فيه ما يدل على تحسين الباطل، والحكم به، بل ذكروا وجوهاً متعددة في معنى ذلك، كلها تفيد البعد والتحريم لمثل فعل البوادي. ومن أحسن ما قيل: أن هذا تحسين لفعل صدر في الجاهلية قبل ظهور الشرائع الإسلامية، فلما جاء الشرع أبطل ذلك؛ وإذا جاء نهر الله، بطل نهر معقل. وسئل: عمن يخالط أهل بلده، ويرجو بها أن يجيبوه إلى الإسلام ... إلخ؟ فأجاب: أما الرجل الذي يخالط أهل بلده ومحلته، ويرجو بمخالطتهم أن يجيبوه إلى الإسلام، وإلى السنة، ويتركوا ما هم عليه من شرك، أو بدعة، أو فواحش، فهذا يلزمه خلطتهم ودعوتهم، إن أمن الفتنة، لما في ذلك من المصلحة الراجحة، على مصلحة الهجر والاعتزال. ورؤية المنكر، إذا رجا بها إزالته وتغييره، وأمن الفتنة به، ولم يمكن تحصيل المصالح الدينية إلا بذلك، فلا حرج عليه، بل ربما تأكد، واستحب. وبلغني: أن شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله، كان يخرج إلى عسكر التتار، لما نزلوا الشام المرة الأولى حول دمشق، ويجتمع بأميرهم، ويأمره وينهاه، ويرى في خروجه عندهم أشياء من المنكرات، وقد أراد بعض الأفاضل، ممن صحبه في الجزء: 8 ¦ الصفحة: 361 إحدى تلك المرات، أن ينكر على جماعة منهم، ما رأوه يدور بينهم، من كاسات الخمر، فقال له الشيخ: لا تفعل، إنهم لو تركوا هذا، لزاد شرهم على المسلمين وجرمهم. وأما البداءة بالسلام، فلا ينبغي أن يبدأ الكافر بالسلام، بل هو تحية أهل الإسلام؛ لكن إن خاف مفسدة راجحة، أو فوات مصلحة كذلك، فلا بأس بالبداءة، لا سيما ممن ينتسب إلى الإسلام، ولكن يخفى عليه شيء من أصوله وحقوقه. وقد كان صلى الله عليه وسلم يأتي المشركين من العرب، في منازلهم، أيام الموسم، ويدعوهم إلى توحيد الله، وترك عبادة ما سواه، وأن يقولوا: لا إله إلا الله، ويتلو عليهم القرآن، ويبلغهم ما أمر بتبليغه، مع ما هم عليه من الشرك والكفر والرد القبيح، لما في ذلك من المصلحة الراجحة على مصلحة الهجر والتباعد. والهجر، إنما شرع لما فيه من المصلحة وردع المبطل، فإذا انتفى ذلك، وصار فيه مفسدة راجحة، فلا يشرع. ومن تأمل السيرة النبوية، والآثار السلفية، يعرف ذلك ويتحققه. وقد أمر الله بالدعوة إليه على بصيرة، قال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} الآية [سورة يوسف آية: 108] ، وقال تعالى: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [سورة الحج آية: 78] . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 362 والجهاد بالحجة والبيان، يقدم على الجهاد بالسيف والسنان؛ وقد مر صلى الله عليه وسلم على مجلس فيه أخلاط من المسلمين، والمنافقين، واليهود، وفيه عبد الله بن أبي رأس المنافقين، فسلم صلى الله عليه وسلم ونزل عن دابته، ودعاهم إلى الإسلام، وذلك حين ذهب إلى سعد بن عبادة يعوده في منزله، والقصة مشهورة. وكثير من العلماء يبتلى بخلطة هذا الضرب من الناس، لكنه يكون مباركاً أين ما كان، داعياً إلى الله مذكراً به، هادياً إليه، كما قال عن المسيح عليه السلام: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ} [سورة مريم آية: 31] أي: داعياً إلى الله مذكراً به، معلماً بحقوقه، فهذه هي البركة المشار إليها؛ ومن عدمها محقت بركة عمره، وساعاته وخلطته ومجالسته. ونسأل الله العظيم لنا ولكم، علماً نافعاً، يكون لنا لديه يوم القيامة شافعاً. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 363 [البراءة من الشرك وأهله، وحكم الاستعانة بالمشرك] وله أيضاً، رحمه الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى جناب الشيخ محمد بن إبراهيم بن عجلان، حفظه الله من طوائف الشيطان، ورزقه الفقه في السنة والقرآن؛ سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد، فأحمد الله إليه، وأثني بنعمه عليه. والخط وصل. وما ذكرت من التنبيه على ما تضمنته السورة الكريمة "سورة العصر" فقد سرني، وقد عرفت ما قال الشافعي، رحمه الله: لو فكر الناس فيها لكفتهم، قلت: لأنها تتضمن الأصول الدينية، والقواعد الإيمانية، والشرائع الإسلامية، والوصايا المرضية. فتفكر فيها، واعلم: أنك نبهتني بها على إعلامك ببعض ما تضمنته رسالتك لابن عبيكان. وقد كتبت حين رأيتها ما شاء الله أن أكتب، ونهيت عن إشاعتها خوفاً منك وعليك؛ ولكن رأيت ما الناس فيه من الخوض، ونسيان العلم، وعبادة الهوى، فخشيت من مفسدة كبيرة، برد السنة والقرآن، والدفع في صدر الحجة والسلطان، وقررت فيها: أن ما كتبته ونقلته، من آية أو سنة، أو أثر، فهو عليك لا لك، لأنه يدل بوضعه، أو الجزء: 8 ¦ الصفحة: 364 تضمنه، أو التزامه، على البراءة من الشرك وأهله، ومباينتهم في المعتقد والقول والعمل، وبغضهم وجهادهم، والبراءة من كل من اتخذهم أولياء من دون المؤمنين، ولم يجاهدهم حسب طاقته، ولم يتقرب إلى الله بالبعد عنهم، وبغضهم ومراغمتهم. وأكثر نصوصك التي ذكرت، دالة على ذلك، كقوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} [سورة آل عمران آية: 103] ، والآية التي قبلها، والآية التي بعدها، وما ذكره ابن كثير هنا، كل هذا نص فيما قلناه، وقد بسطت القول في ذلك. وكذلك كل أحاديث السمع والطاعة، والأمر بلزوم الجماعة، نص فيما قلنا، عند من فقه عن الله ورسوله. وما ذكرت من استعانته بابن أريقط، فهذا اللفظ ظاهر في مشاقة قوله في حديث عائشة: " إنا لا نستعين بمشرك " 1، وابن أريقط أجير مستخدم، لا معين مكرم. وكذلك قولك: إن شيخ الإسلام ابن تيمية استعان بأهل مصر والشام، وهم حينئذ كفار، وهلة عظيمة، وزلة ذميمة؛ كيف والإسلام إذ ذاك يعلو أمره، ويقدم أهله، ويهدم ما حدث من أماكن الضلال، وأوثان الجاهلية، ويظهر التوحيد ويقرر في المساجد والمدارس؟! وشيخ الإسلام نفسه يسميها بلاد إسلام، وسلاطينهم سلاطين إسلام، ويستنصر   1 مسلم: الجهاد والسير (1817) , والترمذي: السير (1558) , وأبو داود: الجهاد (2732) , وابن ماجة: الجهاد (2832) , وأحمد (6/67, 6/148) , والدارمي: السير (2496) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 365 بهم على التتر، والنصيرية ونحوهم؛ كل هذا مستفيض في كلامه، وكلام أمثاله. وما يحصل من بعض العامة والجهال، إذا صارت الغلبة لغيرهم، لا يحكم به على البلاد وأهاليها. وكذلك ما زعمته، من أن أكابر العسكر أهل تعبد، أو نحو هذا، فهذه دسيسة شيطانية، وقاك الله شرها وحماك حرها، لو سلم تسليماً جدلياً، فابن عربي، وابن سبعين، وابن الفارض، لهم عبادات وصدقات، ونوع تقشف وتزهد، وهم أكفر أهل الأرض، أو من أكفر أهل الأرض. وأين أنت من قوله تعالى {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [سورة الأنعام آية: 88] ، وقوله تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [سورة الزمر آية: 65] . وأما إجازتك الاستنصار بهم، فالنزاع في غير هذه المسألة، بل في توليتهم وجلبهم، وتمكينهم من دار إسلامية، هدموا بها شعار الإسلام وقواعد الملة، وأصول الدين وفروعه; وعند رؤسائهم قانون وطاغوت، وضعوه للحكم بين الناس، في الدماء والأموا، وغيرها، مضاد ومخالف للنصوص، إذا وردت قضية نظروا فيه وحكموا به، ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم. وأما مسألة: الاستنصار بهم، فمسألة خلافية، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 366 والصحيح الذي عليه المحققون: منع ذلك مطلقاً، وحجتهم حديث عائشة، وهو متفق عليه، وحديث عبد الرحمن بن حبيب، وهو حديث صحيح مرفوع، اطلبهما تجدهما فيما عندك من النصوص. والقائل بالجواز احتج بمرسل الزهري، وقد عرفت ما في المراسيل، إذا عارضت كتاباً أو سنة. ثم القائل به شرَط: أن يكون فيه نصح للمسلمين، ونفع لهم، وهذه القضية فيها هلاكهم ودمارهم. وشرَط أيضاً: أن لا يكون للمشركين صولة ودولة يخشى منها، وهذا مبطل لقولك في هذه القضية. واشترط مع ذلك: أن لا يكون له دخل في رأي ولا مشورة، بخلاف ما هنا؛ كل هذا ذكره الفقهاء وشراح الحديث، ونقله في شرح المنتقى، وضعف مرسل الزهري جداً. وكل هذا في قتال المشرك للمشرك مع أهل الإسلام. وأما استنصار المسلم بالمشرك على الباغي، فلم يقل بهذا إلا من شذ واعتمد القياس، ولم ينظر إلى مناط الحكم، والجامع بين الأصل وفرعه. ومن هجم على مثل هذه الأقوال الشاذة، واعتمدها في نقله وفتواه، فقد تتبع الرخص، ونبذ الأصل المقرر عند سلف الأمة وأئمتها، المستفاد من حديث الحسن، وحديث النعمان بن بشير ; وما أحسن ما قيل: والعلم ليس بنافع أربابه ... ما لم يفد نظراً وحسنَ تبصرِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 367 وفي رسالتك مواضع أعرضنا عنها، خشية الإطالة. هذا كله من التواصي بالحق والصبر عليه، وإن لام لائم، وشنأ شانئ. ولولا ما تقرر في الكتاب والسنة، وإجماع الأمة، من تفصيل الحكم في المخطئ والمتعمد، لكان الشأن غير الشأن، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل، وصلى الله على محمد. [رد على رسالة ابن عجلان في الاستعانة بالكفار] وله أيضاً، نور الله ضريحه: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأخ: زيد بن محمد آل سليمان، حفظه الله من طوائف الشيطان، وحماه من طوارق المحن والافتتان، وجعله من عسكر السنة والقرآن؛ سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وما كتب في هذه المحنة من الشبه، فقد عرفت: أن الفتنة بالمشركين فتنة عظيمة، وداهية عمياء ذميمة، لا تبقي من الإسلام ولا تذر، لا سيما في هذا الزمان الذي فشا فيه الجهل، وقبض فيه العلم، وتوافرت أسباب الفتن، وغلب الهوى، وانطمست أعلام السنن، و {ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً} [سورة الأحزاب آية: 11] ، وعند ذلك {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [سورة إبراهيم آية: 27] . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 368 وقد شاع ما الناس فيه، من الخوض والمراء، والاضطراب والإعراض، عن منهج السنة والكتاب; ومال الأكثرون إلى موالاة عباد الأصنام، والفرح بظهورهم، والانحياز إلى حماهم، وتفضيل من يتولاهم؛ وحبك الشيء يعمي ويصم. وقد صدر من الشيخ محمد بن عجلان، رسالة ما ظننتها تصدر من ذي عقل وفهم، فضلاً عن ذي الفقه والعلم؛ وقد نبهت على ما فيها من الخطإ الواضح، والجهل الفاضح، وكتمت عن الناس أول نسخة وردت علينا، حذراً من إفشائها وإشاعتها بين العامة والغوغاء، ولكنها فشت في الخرج والفرع، وجاء منها نسخة إلى بلدتنا، وافتتن بها من غلب الهوى، وضل عن سبيل الرشاد والهدى. {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [سورة يوسف آية: 21] . وأخبرت من يجالسني: أن جميع ما فيها من النقول الصحيحة والآثار، حجة على منشيها، تهدم ما بناه مبديها، وأنه وضع النصوص في غير موضعها، ولم يعط القوس باريها. وبلغني عن الشيخ حمد، أنه أنكر واشتد نكيره، ورأيت له خطاً أرسله إلى بعض الإخوان، بأن ما كتبه ابن عجلان ردة صريحة، وبلغني أن بعضهم دخل من هذا الباب، واعترض على ابن عتيق، وصرح بجهله ونال من عرضه، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 369 وتعاظم هذه العبارة، ورغم أنه غلا وتجاوز الحد، فحصل بذلك تنفيس لأهل الجفاء وعباد الهوى. والرجل وإن صدر منه بعض الخطإ في التعبير، فلا ينبغي معارضة من انتصر لله ولكتابه وذب عن دينه، وأغلظ في أمر الشرك والمشركين، على من تهاون أو رخص وأباح بعض شعبه، وفتح باب وسائله وذرائعه القريبة المفضية إلى ظهوره وعلوه، ورفض التوحيد ونكس أعلامه، ومحو آثاره وقلع أصوله وفروعه، ومسبة من جاء به، لقولة رآها وعبارة نقلها، وما دراها من إباحة الاستعانة بالمشركين، مع الغفلة والذهول عن صورة الأمر والحقيقة، وأنه أعظم وأطم من مسألة الاستعانة والانتصار؛ بل هو تولية وتخلية بينهم، وبين أهل الإسلام والتوحيد، وقلع قواعده وأصوله، وسفك دماء أهله، واستباحة حرماتهم وأموالهم. هذا هو حقيقة الجاري والواقع، وبذلك ظهر في تلك البلاد من الشرك الصريح، والكفر البواح، ما لا يبقي من الإسلام رسماً يرجع إليه، ويعول في النجاة عليه، كيف وقد هدمت قواعد التوحيد والإيمان، وعطلت أحكام السنة والقرآن، وصرح بمسبة السابقين الأولين، من أهل بدر وبيعة الرضوان، وظهر الشرك والرفض جهراً، في تلك الأماكن والبلدان؟ ومن قصر الواقع على الاستعانة بهم، فما فهم القضية، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 370 وما عرف المصيبة والرزية. فيجب حماية عرض من قام لله، وسعى في نصر دينه الذي شرعه وارتضاه، وترك الالتفات إلى زلاته، والاعتراض على عباراته; فمحبة الله والغيرة لدينه، ونصر كتابه ورسوله، مرتبة علية، محبوبة لله مرضية، يغتفر فيها العظيم من الذنوب، ولا ينظر معها إلى تلك الاعتراضات الواهية، والمناقشات التي تفت في عضد الداعي إلى الله، والملتمس لرضاه. وهبه كما قيل، فالأمر سهل في جنب تلك الحسنات، " وما يدريك؟ لعل الله اطلع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم، فقد غفرت لكم " 1. فليصنع الركب ما شاؤوا لأنفسهم ... هم أهل بدر فلا يخشون من حرجِ ولما قال المتوكل لابن الزيات: يا ابن الفاعلة، وقذف أمه، قال الإمام أحمد، رحمه الله: أرجو الله أن يغفر له، نظراً إلى حسن قصده في نصر السنة وقمع البدعة. ولما قال عمر لحاطب ما قال، ونسبه إلى النفاق، لم يعنفه النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما أخبره أن هناك مانعاً. والتساهل في رد الحق وقمع الداعي إليه، يترتب عليه قلع أصول الدين، وتمكين أعداء الله المشركين من الملة والدين. ثم إن القول قد يكون ردة وكفراً، ويطلق عليه ذلك، وإن كان ثم مانع من إطلاقه على القائل. وصريح عبارة الشيخ حمد التي رأينا، ليست في الاستعانة خاصة، بل في تسليم بلاد المسلمين إلى المشركين، وظهور عبادة الأصنام والأوثان.   1 البخاري: الجهاد والسير (3007) , ومسلم: فضائل الصحابة (2494) , والترمذي: تفسير القرآن (3305) , وأبو داود: الجهاد (2650) , وأحمد (1/79, 1/105) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 371 ومن المعلوم: أن من تصور هذا الواقع ورضي به، وصوب فاعله وذب عنه، وقال بحله، فهو من أبعد الناس عن الإسلام والإيمان، إذا قام الدليل عليه. وأما من أخطأ في عدم الفرق، ولم يدر الحقيقة، واغتر بمسألة خلافية، فحكمه حكم أمثاله من أهل الخطإ، إذا اتقى الله ما استطاع، ولم يغلب جانب الهوى. والمقصود: أن الاعتراض والمراء، من الأسباب في منع الحق والهدى، ومن عرف القواعد الشرعية، والمقاصد الدينية، والوسائل الكفرية، عرف ما قلناه. والمعترضون على الشيخ، ليس لهم في الحقيقة أهلية، لإقامة الحجج الشرعية، والبراهين المرضية، على ما يدعون من غلطه وخطئه، إنما هي اعتراضات مشوبة بأغراض فاسدة؛ وما أحسن ما قيل شعراً: أقلوا عليه لا أبا لأبيكمو ... من اللوم أو سدوا المكان الذي سدّا وأكثرهم يرى السكوت عن كشف اللبس في هذه المسألة، التي اغتر بها الجاهلون، وضل بها الأكثرون. وطريقة الكتاب والسنة، وعلماء الأمة، تخالف ما استحله هذا الصنف من السكوت، والإعراض في هذه الفتنة العظيمة، وإعمال ألسنتهم في الاعتراض على من غار لله ولكتابه ولدينه. فليكن لك يا أخي طريقة شرعية، وسيرة مرضية، في رد ما ورد من الشبه، وكشف اللبس، والتحذير من فتنة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 372 العساكر، والنصح لله ولكتابه ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم؛ وهذا لا يحصل مع السكوت، وتسليك الحال على أي حال. فاغتنم الفرصة، وأكثر من القول في ذلك، واغتنم أيام حياتك؛ فعسى الله أن يحشرنا وإياك في زمرة عساكر السنة والقرآن، والسابقين الأولين من أهل الصدق والإيمان. والشبهة التي تمسك بها من قال بجواز الاستعانة، هي ما ذكرها بعض الفقهاء، من جواز الاستعانة بالمشرك عند الضرورة؛ وهو قول ضعيف مردود، مبني على آثار مرسلة، تردها النصوص القرآنية، والأحاديث الصحيحة الصريحة النبوية. ثم القول بها على ضعفه، مشروط بشروط، نبّه عليها شراح الحديث، ونقل الشوكاني منها طرفاً في شرح المنتقى; منها: أمن الضرورة والمفسدة، وأن لا يكون لهم شوكة وصولة، وأن لا يدخلوا في الرأي والمشورة. وأيضاً، ففرضها في الانتصار بالمشرك على المشرك. وأما الانتصار بالمشرك على الباغي عند الضرورة، فهو قول فاسد لا أثر فيه، ولا دليل عليه، إلا أن يكون محض القياس، وبطلانه أظهر شيء، للفرق بين الأصل والفرع، وعدم الاجتماع في مناط الحكم. شعراً: وليس كل خلاف جاء معتبراً ... إلا خلاف له حظ من النظرِ والمقصود: المذاكرة في دين الله، والتواصي بما شرعه الجزء: 8 ¦ الصفحة: 373 من دينه وهداه، والسلام. تتمة: غلط صاحب الرسالة، في معرفة الضرورة، فظنها عائدة إلى مصلحة ولي الأمر، في رياسته، وسلطانه، وليس الأمر كما زعم ظنه؛ بل هي ضرورة الدين، وحاجته إلى ما يعين عليه، وتحصل به مصلحته، كما صرح به من قال بالجواز، وقد تقدم ما فيه، والله أعلم. [الحث على البراءة من المشركين] وله أيضاً: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأخ عبد الرحمن بن إبراهيم أبي الغنيم، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. والخط وصل، وصلك الله بالفقه والبصيرة، وأصلح لك العمل والسريرة. وما ذكرت من المحبة والمودة، فما كان لله يبقى وإن طال الزمان به، ويذهب ما سواه. والذي أوصيك به: التقوى لله سبحانه وتعالى، والنظر في سبب ما جرى عند هذه الفتنة الظلماء، من المهاجرة بيننا والمقاطعة، وشرحه لك فيه تذكرة وموعظة. لما وقعت الفتنة، نأيت بجانبك عن الاسترشاد والاستفادة، واستحسنت المراء في الدين واللجاجة، صدر ذلك منك في غير ما مجلس، حتى أسأت الأدب في السوق، وخاطبتني خطاب من لا يدري الحقائق، ولا يهتدي لأوضح المسالك الجزء: 8 ¦ الصفحة: 374 والطرائق، ونظرت بعين وغمضت الأخرى، ونكبت عما هو أولى بالإصابة والأحرى. وأقبلت في تلك الأيام على الملإ المفتونين بخطوط العساكر التي وصلت إلى بلدتنا، وأنت تدري ما فيها من الصد عن سبيل الله، وهدم دينه، ومطردات أوليائه، والتنويه بذكر أعداء الله ورسوله، والدعوة إلى طاعتهم، والدخول تحت أمرهم، وتخويف المسلمين منهم؛ وقد صرح كثير من الناس بالدخول تحت أمرهم، وظهر الفرح والسرور من كثير ممن يدعي الإسلام. وأنت أيها الرجل، ممن يتردد إلى هؤلاء المفتونين، ويأنس ببعضهم، ويصغي إلى شبهاتهم وجهالاتهم، ولم تلتفت إلى بحث ومحاقة، ولا استرشاد، كما هو الواجب لله عند تلك الفتنة والشبهات؛ لكنك غلبت جانب الهوى، وأكثرت تلك الأيام من مجالسة من يضر ولا ينفع، ولا يني من إغوائه ولا ينزع. وقد جاء الأثر: أن من جالس صاحب بدعة نزعت منه العصمة، فكيف بما هو أكبر من البدعة وأعظم؟ ولم يبلغني عنك تلك الأيام ما يسرني، من قيام لله ونصرة لدينه، اللهم إلا ما يجري على لسانك، من دعوى البراءة من الشرك وأهله، على سبيل الإجمال لا التفصيل؛ وقد علم الله أن العبرة بالحقائق، ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني، ولكن ما الجزء: 8 ¦ الصفحة: 375 وقر في القلوب وصدقته الأعمال. ولم تزل على ما وصفنا، تطير مع من طار، وتغير علينا بالتخطئة والمراء مع من أغار. ومثلك كان يظن به الخير، ويأسى عليه الصاحب; وأنت وإن لم تكن كل الفقيه والطالب، فقد حنكتك التجارب، وقعدتك الحوادث والمذاهب، لولا ما عارضها من صحبة جلساء السوء، الذين يدعونك إلى أهوائهم، وأغراضهم الفاسدة، لا سيما أخصهم لديك، وأحبهم إليك، فإنه كما قيل: المس مس الأرنب، والطبع طبع الثعلب. وقد اتهم بالسعي فيما يقوي عضد المشركين، ويوهن عزم الموحدين، وإلى الله المصير، وهو الحكم بيننا وبين من أعان على هدم الإسلام، من صغير وكبير، ومأمور وأمير. وأيضاً، فأهل الأحساء قد اشتهر حالهم، وأنهم ألقوا السلم إلى عساكر الدولة، واختاروا ولايتهم، وصرحوا بطاعتهم، ونصروهم بالقول، وعاملوهم معاملة الأخ مع أخيه؛ بل جاءت خطوط التجار المترفين أولي النعمة، بتزكيتهم والثناء عليهم، وانتصب ولدك لخدمتهم، وقضاء حوائجهم. ولم يظهر لي منك قيام بحق الله، عند هذه الدواهي العظام التي تمانع الإيمان والقرآن والإسلام، وتنثر منه عقد النظام، والله أعلم بسرك، وهو الرقيب عليك، لكني الجزء: 8 ¦ الصفحة: 376 أحكي ما ظهر لي منك ذلك الوقت. وقد ظهر أثر ما ذكرنا، وعقوبة ما إليه أشرنا، بإقبالك واشتغالك بحبالة الشيطان، رسالة ابن عجلان، فطرت بها طيران من لا يلوي على أهل ولا صاحب، كأنها العهد الرباني، والوصية النبوية، واشتغلت بقراءتها وسماعها، مع جماعة من العوام والصبيان. وتلك الرسالة دهليز يفضي إلى استباحة موالاة المشركين، والاستنصار بهم على المسلمين، والحكم على أهل عصر شيخ الإسلام ابن تيمية، من أهل مصر والشام، بالشرك والمكفرات، وما فيها من أن جلب عباد الأصنام إلى بلاد الإسلام، والاستعانة بهم على من خرج عن الطاعة، ليس بذنب؛ ولولا أن حجاب الجهل والهوى، أكثف الحجب وأغلظها، لتبين شناعة ما فيها للناظرين من أول وهلة، وبمجرد الفطرة، شعراً: أكل امرئ تحسبين امرءاً ... ونار توقد في الليل ناراً ثم هنا مسألة أخرى، وداهية كبرى، دها بها الشيطان كثيراً من الناس، فصاروا يسعون فيما يفرق جماعة المسلمين، ويوجب الاختلاف في الدين، وما ذمه الكتاب المبين، ويقضي بالإخلاد إلى الأرض وترك الجهاد، ونصرة رب العالمين، ويفضي إلى منع الزكاة، ويشب نار الفتنة والضلالات؛ فتلطف الشيطان في إدخال هذه المكيدة، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 377 ونصب لها حججاً ومقدمات، وأوهمهم أن طاعة بعض المتغلبين، فيما أمر الله به ورسوله، من واجبات الإيمان، وفيما فيه دفع عن الإسلام وحماية لحوزته، لا تجب والحالة هذه، ولا تشرع. ولم يدر هؤلاء المفتونون، أن أكثر ولاة أهل الإسلام، من عهد يزيد بن معاوية - حاشا عمر بن عبد العزيز، ومن شاء الله من بني أمية - قد وقع منهم ما وقع من الجراءة، والحوادث العظام، والخروج والفساد في ولاية أهل الإسلام؛ ومع ذلك فسيرة الأئمة الأعلام، والسادة العظام معهم، معروفة مشهورة، لا ينزعون يداً من طاعة، فيما أمر الله به ورسوله، من شرائع الإسلام وواجبات الدين. وأضرب لك مثلاً بالحجاج بن يوسف الثقفي، وقد اشتهر أمره في الأمة بالظلم والغشم، والإسراف في سفك الدماء، وانتهاك حرمات الله، وقتل من قتل من سادات الأمة، كسعيد بن جبير، وحاصر ابن الزبير وقد عاذ بالحرم الشريف، واستباح الحرمة، وقتل ابن الزبير، مع أن ابن الزبير قد أعطاه الطاعة، وبايعه عامة أهل مكة والمدينة واليمن، وأكثر سواد العراق. والحجاج نائب عن مروان، ثم عن ولده عبد الملك، ولم يعهد أحد من الخلفاء إلى مروان، ولم يبايعه أهل الحل والعقد، ومع ذلك لم يتوقف أحد من أهل العلم في طاعته، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 378 والانقياد له فيما تسوغ طاعته فيه، من أركان الإسلام وواجباته. وكان ابن عمر ومن أدرك الحجاج من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينازعونه، ولا يمتنعون من طاعته، فيما يقوم به الإسلام، ويكمل به الإيمان. وكذلك من في زمنه من التابعين، كابن المسيب، والحسن البصري، وابن سيرين، وإبراهيم التيمي، وأشباههم ونظرائهم من سادات الأمة. واستمر العمل على هذا بين علماء الأمة، من سادات الأمة وأئمتها، يأمرون بطاعة الله ورسوله، والجهاد في سبيله مع كل إمام بر أو فاجر، كما هو معروف في كتب أصول الدين والعقائد. وكذلك بنو العباس، استولوا على بلاد المسلمين قهراً بالسيف، لم يساعدهم أحد من أهل العلم والدين، وقتلوا خلقاً كثيراً، وجماً غفيراً من بني أمية وأمرائهم ونوابهم، وقتلوا ابن هبيرة أمير العراق، وقتلوا الخليفة مروان؛ حتى نقل أن السفاح قتل في يوم واحد نحو الثمانين من بني أمية، ووضع الفرش على جثثهم، وجلس عليها، ودعا بالمطاعم والمشارب؛ ومع ذلك فسيرة الأئمة، كالأوزاعي، ومالك، والزهري، والليث بن سعد، وعطاء بن أبي رباح، مع هؤلاء الملوك، لا تخفى على من له مشاركة في العلم واطلاع. والطبقة الثانية من أهل العلم، كأحمد بن حنبل، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 379 ومحمد بن إسماعيل، ومحمد بن إدريس، وأحمد بن نصر، وإسحاق بن راهويه، وإخوانهم، وقع في عصرهم من الملوك ما وقع، من البدع العظام، وإنكار الصفات، ودعوا إلى ذلك، وامتحنوا فيه، وقتل من قتل، كأحمد بن نصر؛ ومع ذلك فلا يعلم أن أحداً منهم نزع يداً من طاعة، ولا رأى الخروج عليهم. وإلى الآن يبلغني عنك أنك تميل إلى ذلك الضرب من الناس، الذين وصفنا حالهم، فرضيت بهم في أمر دينك، وضربت عن سيرة الأئمة صفحاً، وطويت عن هجرها كشحاً. فإن تبين لك هذا، ومن الله عليك بمعرفته، فأنت أخونا وصاحبنا القديم العهد، والجرح جبار ولا حرج ولا عار. وإن بقيت عندك شبهة أو جادل مجادل، فاكتب إلي واسأل كشفها ولا تكتمها، فإني أخشى عليك قطاع الطريق، لا سيما مع فقد الرفيق والعدة. فإن حاك في صدرك شيء، فأكثر من التضرع إلى الله، والتوسل بالأدعية المأثورة، ومنها ما في حديث ابن عباس، رضي الله عنهما، حديث الاستفتاح، وكرر النظر فيما اشتمل عليه تاريخ ابن غنام، من كلام شيخ الإسلام، فقد بسط القول في هذه المسألة، في رسائله واستنباطه. ورأيت له عبارة يحسن ذكرها. قال، رحمه الله: لما اختلف الناس بعد مقتل عثمان، وبإجماع أهل العلم كلهم، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 380 لا يقال فيهم إلا الحسنى، مع أنهم عثوا في دمائهم. ومعلوم أن كلاً من الطائفتين، معتقدة أنها على الحق، والأخرى ظالمة، ونبغ من أصحاب علي رضي الله عنه من أشرك بعلي، وأجمع الصحابة على كفرهم، وردتهم، وقتلهم؛ أترى أهل الشام لو حملتهم مخالفة علي على الاجتماع بهم، والاعتذار عنهم، والمقاتلة معهم، لو امتنعوا، أترى أن أحداً من الصحابة شك في كفر من التجأ إليهم، ولم يظهر البراءة من اعتقادهم، وإنما التجأ إليهم من التجأ، لأجل الاقتصاص من قتلة عثمان؟ قال، رحمه الله: فتفكر في هذه القصة، فإنها لا تبقي شبهة إلا على من أراد الله فتنته. انتهى كلامه، رحمه الله تعالى. والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 381 [تقوية العضد على الإنكار على من والى الكفار] وله أيضاً، قدس الله روحه، ونور ضريحه: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الشيخ المكرم: حمد بن عتيق، سلمه الله، وفرج له من كل هم وضيق؛ سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد، أوصيك بتقوى الله تعالى، والصدق في معاملته، ونصر دينه، والتوكل عليه في ذلك. وأكثر الناس استنكروا الإنكار على من والى العسكر المشركين، وركن إليهم، وراح إلى بلادهم، وشهد كفرياتهم، ومبارزتهم لرب العالمين بالقبائح، والكفريات المتعددة؛ هذا مع قرب العهد بدعوة شيخنا، والقراءة في تصانيفه، ورسائله وأصوله، وهذا مما يستبين به ميل النفوس إلى الباطل، ومسارعتهم إليه، ومحبتهم له، قال تعالى: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} [سورة المؤمنون آية: 71] . ويبلغنا عنك ما يسر، ولكننا نرجو لنا ولك فوق ذلك مظهراً، وبعض الإخوان ما كبر همه بهذه القضية، ولا اشتد إنكاره، ولا ظهر منه غضب لله، ولا حمية لدينه، وأنفة من ذهاب الإسلام، وهدم قواعده، وإن أنكر بعضهم، وذم ذلك وتبرأ منه، لكن مع الهوينا في ذلك، ولين الجزء: 8 ¦ الصفحة: 382 الجانب، ومحبته للإعراض، وعدم البحث. وأظن الشيطان قد بلغ مراده منهم في ذلك، واكتفى به لما فيه من الغرض، ولعلمه بغائلته وغايته، وأن الدين لا يستقيم معه، قال تعالى: {فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً} [سورة الفرقان آية: 52] أي: بالقرآن. وللشيطان وأعوانه غرض في المداهنة، لأنها وسيلة إلى السلم، ووضع الحرب بين الطائفتين، قال تعالى: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} [سورة القلم آية: 9] ، شعراً: وثمود لو لم يدهنوا في ربهم ... لم تدم ناقتهم بسيف قدار فعليك بالجد، والحذر من خدع الشيطان! جعلنا الله وإياك من أنصار السنة والقرآن. ثم قال، رحمه الله تعالى: ولا تذخر حض أهل الأفلاج، وحثهم على جهاد هذه الطائفة الكافرة. وأهل نجد كادهم الشيطان، وبلغ مبلغاً عظيماً، وصل بهم إلى عدم الوحشة من أكفر خلق الله، وأضلهم عن سواء السبيل، الذين جمعوا بين الشرك في الإلهية، والشرك في الربوبية، وتعطيل صفات الله، ومعهم جملة من عساكر الإنقليز، المعطلة لنفس وجود البارئ، القائلين بالطبائع والعلل، وقدم العالم، وأبديته. وبلغنا أنهم كتبوا خطوطاً لجهات نجد، مضمونها: إنا مسلمون، نشهد أن لا إله إلا الله، ونحو هذا الكلام، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 383 وبسطوا القول في أمر الدولة، والترهيب منهم، والترغيب فيهم. إذا عرفت هذا، فاعلم أن الله قد استخلفكم في الأرض، بعد ذلك القرن الصالح، لينظر كيف تعملون، فاحذر أن تلقاه مداهناً في دينه، أو مقصراً في جهاد أعدائه، أو في النصح له ولكتابه ولرسوله. واجعل أكثر درسك في هذا، ولو اقتصدت في التعليم؛ والقلوب أوعية، يعطى كل وعاء بحسبه. [الحث على جهاد الكفار] وله أيضاً، رحمه الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن، إلى الأخ المكرم: الشيخ حمد بن عتيق، سلمه الله تعالى، ووفقه للصبر واليقين، ورزقه الهداية بأمره، والإمامة في الدين؛ سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد، فأحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، وهو للحمد أهل، وأسأله الثبات على دينه، الذي رغب عنه الجاهلون، ونكب عنه المبطلون. والخط وصل، وسرني ما فيه من الإخبار عن عافيتكم، وسلامتكم، والحمد لله على ذلك. وما ذكرت كان معلوماً، لا سيما ما أشرت إليه من حال الجاهلين، وخوضهم في مسائل العلم والدين. وليس العجب الجزء: 8 ¦ الصفحة: 384 ممن هلك كيف هلك، إنما العجب ممن نجا كيف نجا. قال الله تعالى: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ} [سورة البينة آية: 4] . والواجب على من رزقه الله علماً وحكمة، أن يبثه في الناس وينشره، لعل الله أن ينفع به، ويهدي على يديه من أدركته السعادة، وسبقت له الحسنى. واعلم أن الإمام سعود، قد عزم على الغزو والجهاد، وكتبت لك خطاً، فيه الإلزام بوصول الوادي، وحث من فيه من المسلمين على الجهاد في سبيل الله، واستنقاذ بلاد المسلمين من أيدي أعداء الله المشركين. وقد بلغك ما صار من صاحب بريدة، وخروجه عن طاعة المسلمين، ودخوله تحت طاعة أعداء رب العالمين، ونبذ الإسلام وراء ظهره; كذلك حال البوادي والأعراب، استخفهم الشيطان وأطاعوه، وتركوا ما كانوا عليه من الانتساب إلى الإسلام. فتوكل على الله، واحتسب خطواتك وكلماتك، وحركاتك وسكناتك، وشمر عن ساعد جدك واجتهادك؛ فقد اشتد الكرب، وتفاقم الهول والخطب، والله المستعان. وقد عرفت القراء في زمانك، وأن أكثرهم قد راغ روغان الثعالب، فلا يؤمن على مثل هذه المقاصد والمطالب، والله سبحانه المسؤول، المرجو الإجابة، أن يمن علينا وعليك بالتوفيق والتسديد، وأن ينفع بك الإسلام الجزء: 8 ¦ الصفحة: 385 والتوحيد. {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [سورة العنكبوت آية: 69] . يا سعد إنا لنرجو أن تكون لنا ... سعدا ومرعاك للزوار سعدانا وأن يضر بك الرحمن طائفة ... ولّت وينصر من بالخير والانا والسلام. [إعلان الإنكارعلى المجاهرين من الفساق] وله أيضاً: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأخ المكرم: الشيخ حمد بن عتيق، أمده الله بالتسديد والتوفيق، وأذاقه حلاوة الإيمان والتحقيق؛ سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد، فأحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، على نعمه. والخط وصل، وما ذكرت صار معلوماً، وأرجو أن الله يسدد ولي أمر المسلمين، ويمن عليه بمعرفة هذا الدين، والرغبة فيه، واتباع ما من الله به من الهدى، الذي جاءت به رسله. وأكثر الناس ما رغبوا في هذا، ولا رفعوا به رأساً؛ ونشكو إلى الله ما نحن فيه، من غربة الدين، وقلة الأنصار. وما ذكرت من جهة ... وأنك ترى العفو والصفح، فاعلم: أن الحق في ذلك لله; والواجب على المسلم: تغيير المنكر بحسب الاستطاعة، وليس له العفو والصفح إلا في حق نفسه. وما ورد من النصوص في الصفح عن أعداء الله، إنما هو في الآيات المكية؛ وقد صرح القرآن بنسخه، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 386 وجاءت السنة ببيان ذلك. ولم يرد في الآيات المدنية، الأمر بالصفح عن المشركين، وأعداء الدين؛ بل جاء الأمر بجهادهم، والغلظة عليهم في غير موضع، وجاء الأمر بإعلان الإنكار على المجاهرين من الفساق، ولو كان مسلماً. ومن جاهر بالمعاصي، ونصرة أولياء المشركين، فلا حرمة لعرضه، ولا يشرع الستر عليه بترك الإنكار؛ وفي قصة حاطب، ما يدلك على هذا، وهو صحابي بدري، وقال تعالى: {وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [سورة النور آية: 2] . وقد ذكر ابن القيم طرفاً من الفروق في كتاب الروح، فينبغي مراجعته، ومعرفة حدود ما أنزل الله على رسوله. ومثلك يقتدى به، وقد نفع الله بإنكارك وشدتك على أهل الزيغ، فلا ينبغي العدول إلى خيال لا يعرج عليه. وقد عرفت حال أهل وقتك من طلبة العلم، وأنهم ما بين مجاهر بإنكار الحق، قد لبس عليه أمر دينه، أو مداهن مع هؤلاء ومع هؤلاء، غاية قصده السلوك مع الناس، وإرضاؤهم، أو ساكت معرض عن نصرة الحق، ونصرة الباطل، يرى الكفاف أسلم، وأن هذا الرأي أحكم؛ هذا حال فقهاء زمانك، فقل لي: من يقوم بنصر الحق وبيانه، وكشف الشبهة عنه ونصرته، إذا رأيت السكوت والصفح، كما في البيتين اللذين في الخط؟ فينبغي النظر في زيادة قيد في تلك الأبيات، لئلا يتوجه الإيراد، والسلام. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 387 [الحث على الجد فيما ينجي من الركون إلى أهل الكفر] وله أيضاً، رحمه الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأمير المكرم: سالم بن سلطان، سلمه الله تعالى؛ سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد، فأحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو على نعمه. وبلغنا خبر هذه الفتنة التي حصلت عندكم من عزان ومن تبعه، ممن استزلهم الشيطان. وبلغنا أنك لم تشهد هذا المشهد، ولم تحضر ما جرى في ذلك المعهد، وسرنا هذا، لأنا نحب لكم ما جرى عليه أسلافكم، من الانحياز إلى المسلمين، ولزوم الجماعة، وترك المفارقة ونبذ الطاعة، فالله سبحانه يبتلي العبد على حسب إيمانه، ليعلم الذين صدقوا، ويعلم الكاذبين. فعليكم بالجد والاجتهاد فيما يحفظ الله به عليكم الإيمان والتوحيد، وينجيكم من الركون إلى أهل الكفر والإشراك والتنديد، قال تعالى: {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ} [سورة هود آية: 113] ، وقال تعالى: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} الآية [سورة المجادلة آية: 22] ، وقال تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 388 لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ تَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [سورة المائدة آية: 78-81] ، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} [سورة الممتحنة آية: 1] ، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [سورة المائدة آية: 57] . فتأمل قوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [سورة المائدة آية: 57] ، فإن هذا الحرف وهو: "إن" الشرطية تقتضي نفي شرطها إذا انتفى جوابها؛ ومعناه: أن من اتخذهم أولياء فليس بمؤمن. فعليكم بتقوى الله، ولزوم طاعته، والعمل لوجهه، واحذروا أن يضيع الإسلام لديكم، أو يلتبس الحق عليكم، {فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [سورة النحل آية: 94] . نسأل الله لنا ولكم الثبات في الأمر، والعزيمة على الرشد، وأن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، وأن لا ينزع عنا ما منّ به من الإيمان والتوحيد، بعد ما تفضل علينا وأعطانا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 389 وقد وعد الله عباده المؤمنين، وحزبه المفلحين، بالنصر والظفر، وحسن العاقبة، قال الله تعالى: {وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [سورة الصافات آية: 173] ، وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [سورة النحل آية: 128] ، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [سورة التوبة آية: 123] . وقد كتبنا هذا تذكرة، ولم يبلغنا عنك في فتنة "عزان" ما يوجب اتهامك؛ ولكن أحببنا الموعظة والتذكرة. والواصل إليك ولدنا: علي بن سليم، بتدبير الإمام، بتذكير أهل الإسلام، وحثهم على الثبات، والتمسك بدين الله الذي ارتضاه لنفسه. واختار القدوم عليكم، لأنكم أخص، والله الموفق الهادي. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 390 وله أيضا عفا الله عنه: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الطيف بن عبد الرحمن، إلي الأخ المكرم: حمد بن عتيق، سلمه الله تعالي، ونصر به شرعه ودينه، وثبت إيمانه ويقينه، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فأحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، علي حلو نعمه ومر بلواه، وبديع حكمه، والخط وصل؛ وما ذكرت صار معلوما، وكتبت لك خطا أولا، علي نشر النصائع، وكتب الرسائل، لأني استعظت ما فعل " سعود " من خروجه علي الأمة وإمامها، يضرب برها وفاجرها، إلا من أطاعه، وانتظم في سلكه، و " عبد الله " له بيعة، وولاية شرعية في الجملة. ثم بعد ذلك بدا لي منه: أنه كاتب الدولة الكافرة الفاجرة، واستنصرها، واستجلبها علي ديار المسلمين، فصار كما قيل: والمستجير بعمرو عند كربته ... كالمستجير من الرمضاء بالنار فخاطبته شفاها بالإنكار والبراءة، واغلظت له بالقول: إن هذا هدم لأصول الإسلام، وقلع لقواعده، وفيه وفيه وفيه، مما لا يحضرني تفصيله الآن، فأظهر التوبة والندم، وأكثر الاستغفار؛ وكتبت علي لسانه لوالي بغداد؛ أن الله قد أغنى ويسر، وانقاد لنا من أهل نجد والبوادي، ما يحصل به المقصود، إن شاء الله تعالي، ولا حاجة لنا بعساكر الدولة، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 391 وكلام من هذا الجنس، وأرسل الخط فيما أرى، وتبرأ مما جرى. فاشتبه علي أمره، وتعارضا عندي موجبان، إمامته، ومبيح خلعه، حتى نزل " سعود " بمن معه من أشرار نجد، وفجارها، منافقيها، فعثى في الأرض بسفك الدماء، وقطع الثمار، وإخافة الأرامل والمحصنات، وانتهاك حرمة اليتامى والأيامى، هذا وأخوه منحصر في شعب " الحائر " وقد ظهر عجزه، واشتهر، وأهل البلد معهم من الخوف، ومحبة المسارعة إليه، ما قد عرف؛ فرأيت من المتعين علي مثلي: الأخذ علي يد أهل البلاد، والنزول إلى هذا الرجل، والتوثق منه، ودفع صولته، حقنا لدماء المسلمين؛ وصيانة لعوراتهم، ونسائهم، وحماية لأموالهم وأعراضهم؛ وكان لم يعهد لي شيئا، ولكن الأمر إذا لم يدرك، كان الرأي فيه: أصوبه، وأكمله، وأعمه نفعا. فلما واجهت " سعودا " وخاطبته فيما يصلح الحال، فيما بينه وبين أخيه، واشترط شروطا ثقالا علي أخيه، ولم يتفق الحال، فصارت الهمة فيما يدفع القتنة، ويجمع الكلمة، ويلم الشعث، ويستدرك لبقية، وخشيت من عنوة علي البلدة، يبقى عارها بعد سفك دمائهم، ونهب أموالها، والسفاح بنسائها، لما رأيت أسباب ذلك متوفرة، وقد رفع الإيمان بالله ورسله، والدار الآخرة؛ وخرج عرفاؤه، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 392 والمعروفون من رجالها، فبايعوا " سعودا " بعد ما أعطاهم على دمائهم وأموالهم، محسنهم ومسيئهم، عهد الله وأمانه، عهدا مغلظا، فعند ذلك كتبت إليك الخط الثاني، بما رأيت من ترك التفرق والاختلاف، ولزوم الجماعة. وبعد ذلك: أتانا النبأ الفادح الجليل، والخطب الموجع العظيم، الذي طمس أعلام الإسلام؛ ورفع الشرك بالله وعبادة الأصنام، في تلك البلاد، التي كانت بالإسلام ظاهرة، ولأعداء الملة قاهرة، وذلك بوصول عساكر الأتراك، واستيلائهم علي الأحساء والقطيف، يقدمهم طاغيتهم " داود بن جرجيس " داعيا إلى الشرك بالله، وعبادة إبليس. فانقادت لهم تلك البلاد، وأنزلوا العساكر بالحصون والقلاع، ودخلوها بغير قتال ولا نزاع، فطاف بهم إخوانهم من المنافقين، وظهر الشرك برب العالمين، شاعت مسبة أهل التوحيد والدين، وفشا اللواط والمسكر، والخبث المبين؛ ولم ينتطح في ذلك شاتان، لما أوحاه وزينه الشيطان، من أن القوم: أنصار لعبد الله بن فيصل؛ فقبل هذه الحيلة، من آثر الحياة الدنيا وزينتها، علي الإيمان بالله ورسله، وكف النفس عن هلاكها، وشقاوتها. وبعضهم: يظن أن هذه الحيلة لها تأثير في الحكم، لأنهم لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجؤوا إلى ركن وثيق، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 393 بل بلغني: أن بعض من يدعي طلب العلم، يحتج بقول شاذ مطرح، وهو: أن لولي الأمر أن يستعين بالمشرك عند الحاجة، ولم يدر هذا القائل، أن هذا القول يحتج قائله بمرسل ضعيف، مدفوع بالأحاديث المرفوعة الصحيحة، وأن قائله اشترط: أن لا يكون للمشركين رأي في أمر المسلمين، ولا سلطان، لقوله تعالى: (ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا) النساء 41 فكيف بما هو أعظم من ذلك وأطم، من الانسلاخ الكلي، والخدمة الظاهرة لأهل الشرك. إذا عرفت هذا، عرفت شيئا من جناية الفتن، وأن منها قلع قواعد الإسلام، ومحو أثره بالكلية، وعرفت حينئذ أن هذه الفتنة، من أعظم ما طرق أهل نجد في الإسلام، وأنها شبيهة بأول فتنة وقعت فيه، فالله الله في الجد والاجتهاد، وبذل الوسع والطاقة في جهاد أعداء الله، وأعداء رسله، قال تعالي: (وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه) آل عمران 187، إلى أمثال ذلك في القرآن، يعرفها الخبير بهذا الشأن. هذا ما عندي في هذه الحادثة، قد شرحته وبسطته، كما ذكرت لي: ما عندك؟ وأسأل الله أن يهديني، وإياك إلي صراط مستقيم، وأن يمن علينا وعليك بمخالفة أصحاب الجحيم، والسلام. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 394 [أكثر أصول الدين وشعبه معدومة في الخواص] وله أيضاً: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن، إلى الأخ: حمد بن عبد العزيز؛ سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وما ذكرت من غربة الدين، فالأمر أجل وأكبر من الغربة. أكثر أصوله وشعبه معدومة في الخواص، فكيف بالسوقة، ومن لا نهمة لهم في معرفة ما جاءت به الرسل، كالغيرة لله ولحرماته، وتعظيم أوامره، ومجاهدة أعداء دينه، والبراءة من موالاة المشركين، وأعداء رب العالمين، والتحيز إلى أهل الإيمان، وموالاتهم ونصرهم، ولزوم جماعة المسلمين، وغير ذلك من حقائق الدين، وشعب الإيمان؟ وهذه معدومة، نسأل الله لنا ولكم الثبات على دينه، والتمسك به عند فساد الزمان. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 395 [البراءة من أهل الشرك] وله أيضاً: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأخ المحب: حمد بن عبد العزيز، سلمه الله تعالى، وأسبغ عليه سحائب فضله، ووالى؛ سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد، فأحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو على نعمه، والذي أوصيك به: القيام لله في هذه الفتنة الشركية، التي أشربتها قلوب أكثر الناس، واذكر قول ابن القيم، رحمه الله، في إغاثته: ولا ينجو من شرك هذا الشرك، إلا من عادى المشركين في الله، وتقرب بمقتهم إلى الله ... إلخ. والمرء قد يكره الشرك، ويحب التوحيد، لكن يأتيه الخلل من جهة عدم البراءة من أهل الشرك، وترك موالاة أهل التوحيد ونصرتهم؛ فيكون متبعاً لهواه، داخلاً من الشرك في شعب تهدم دينه وما بناه، تاركاً من التوحيد أصولاً وشعباً، لا يستقيم معها إيمانه الذي ارتضاه، فلا يحب ولا يبغض لله، ولا يعادي ولا يوالي لجلال من أنشأه وسواه؛ وكل هذا يؤخذ من شهادة أن لا إله إلا الله. فلا تذخر المذاكرة بهذا في كل مجلس وكل مجمع، وإن اجتمعت بعبد العزيز بن حسن، فدارجه بالنصيحة، عسى أن ينتفع ويقوم لله، ويبلغ عن رسول الله، فيكون عوناً لك في ناحيتك، والسلام. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 396 [تفلتات يخاف على صاحبها من النفاق والردة] وله أيضاً: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن، إلى الأخ عبد الله بن ربيعة، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد، فأحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو على نعمه. وموجب الخط السلام، والسؤال عن الأحوال مع حدوث هذه الفتن العظام؛ ولعل الله حفظ عليكم الإسلام، وكره إليكم الكفر والفسوق والآثام. ولما أجرى الله - سبحانه وتعالى - هذه الحوادث بنجد، صار من بعض الجهال تفلتات وكلمات، يخاف على صاحبها من النفاق والردة عن الإسلام، وأنتم أهل فطرة، نشأتم في وقت الإسلام فيه قائم، والشرع فيه حاكم، وبين أظهركم من حملة الشرع وطلبة العلم، من يذكر وينصح ويبين. والآن قد عدم ذلك، وقل ما هنالك، ونَشْرهُ على مثلك من إخواننا، في القيام مع أهل الدين، وتذكير الجماعة بما كانوا عليه من الدين، والمباعدة من المشركين، وهذا فيما يرضي الله ويوجب سعادتك يوم لقائه. وهؤلاء الذين يحصل منهم كلام يضر بالإسلام، مثل ابن هويدي وأمثاله من السفهاء، نَشْرَهُ عليكم، إنكم تقومون عليهم، ولا يسكنون بلادكم. ومثلكم ما يعجز عن أمر يحصل به مرضاة الله، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 397 ونحن وغيرنا من المسلمين معكم على الحق. فأنت يا أخي لا تغفل عن هذه الأمور، واحرص على أن المقاود يصيرون هم أهل الخير لا أهل الشر. وفي حديث أبي بكر، لما سألته المرأة الخثعمية عن بقاء الإسلام، قال لها ما معناه: إنه يبقى ما استقامت الأئمة، يعني الرؤساء. فإذا صار الأخيار لهم القول، والكلمة النافذة، صلح أمر البلد، وقام الدين، نرجو أن الله يوفقنا وإياكم لما يحب ويرضى. [معاشرة أعداء الله ومداهنتهم والصلاة خلفهم] وله أيضاً، أسكنه الله الفردوس الأعلى: بسم الله الرحمن الر حيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأخ المحب: سهل بن عبد الله، سهل الله له الطريق الموصلة إليه، ووالى إفضاله وإنعامه عليه؛ سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد، فأحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو على إنعامه. وخطك لابن عجلان وجوابه لك وصلنا. والواجب على من عوفي في دينه، من هذه الورطات، أن يكثر من ذكر الله وشكره. وفي جوابه من الفهاهة والظلمة، ما لا يعرفه إلا أرباب البصائر، ولو سلم دينه وصح معتقده، لكانت له مندوحة عن معاشرة أعداء الله، ومداهنتهم، والصلاة خلفهم، ولو نوى الانفراد. وأما ما نقل عن داود، من قصد الزيارة، وأنه ما قصد الجزء: 8 ¦ الصفحة: 398 الحج، فنعم؛ وهكذا الحال عند الغلاة في الأنبياء والصالحين، حتى صنف بعضهم كتاباً سماه: حج المشاهد، وربما فضل هذه الزيارة على حج بيت الله الحرام. فأوصيك بتقوى الله، وطلب العلم والإيمان، عله أن يجعل لك نوراً تسير به إلى الإله الحق، الذي في وصولك إليه كل السعادة والهداية، والسيادة في دورك الثلاث. واعلم: أن من حقوق الأخوة في الله، إدامة الدعاء لإخوانك في أوقات الإجابة. وبلغ سلامي إخوانك إجازة عامة مطلقة. وقال، رحمه الله تعالى وعفا عنه: ورد من بعض الأدباء ما نصه: رسائل شوق دائم متواتر ... إلى فرع شمس الدين بدر المنابرِ سلالة مجد من كرام عشائر ... يعيد بديعا من كنوز المحابرِ ويبدي لك التوحيد شمسا منيرة ... ولكن أهل الزيغ عميُ البصائرِ مدارس وحي شرفت بأكابر ... على ملة بيضاء تبدو لسائر سقى عهدكم عهد الشريعة والتقى ... وتعظيم دين الله أزكى الشعائرِ فيا راكباً بلّغ سلامي وتحفة ... تعزيه فيما قد مضى في العشائرِ وأعظم من ذا يا خليلي كتائب ... تهدم من ربع الهدى كل عامرِ ويبدو بها التعطيل والكفر والزنى ... ويعلو من التأذين صوت المزامرِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 399 فقد سامنا الأعداء في كل خطة ... وأصل من الإسلام سوم المقامرِ أناخ لدينا للضلالة شيعة ... أباحوا حمى التوحيد من كل فاجرِ وقابلهم بالسهل والرحب عصبة ... على أمة التوحيد أخبث ثائرِ يقولون لكنا رضينا تقية ... تعود على أموالنا والذخائرِ فضحك ولهو واهتزاز وفرحة ... وألوان مأكول ونشوة ساكرِ مجالس كفر لا يعاد مريضها ... يراح إليها في المسا والبواكرِ ويرمون أهل الحق بالزيغ ويحهم ... أما رهبوا سيفاً لسطوة قاهرِ وأما رباع العلم فهي دوارس ... تحن إلى أربابها والمذاكرِ مصاب يكاد المستجن بطيبة ... ينادي بأعلى الصوت هل من مثابرِ فجد لي برد منك تبرد لوعتي ... ويحدى به في كل ركب وسامرِ وتنصر خلا في هواك مباعداً ... ولولاك لم تبعث به أم عامرِ فأكثر وأقلل ما لها الدهر صاحب ... سواك فقابل بالمنى والبشائرِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 400 فأجاب، رحمه الله، بما يثلج الصدور، ويبعث الانشراح والسرور، ويبل القلوب الصوادي، ويحدي به في كل ركب ونادي، وهذا نصه: رسائل إخوان الصفا والعشائر ... أتتك فقابل بالمنى والبشائرِ تذكرني أيام وصل تقادمت ... وعهداً مضى للطيبين الأكابرِ ليالي كانت للسعود مطالعاً ... وطائرها في الدهر أيمن طائرِ وكان بها ربع المسرة آهلاً ... نمتع في روض من العلم زاهرِ وفيها الهداة العارفون بربهم ... ذوو العلم والتحقيق أهل البصائرِ محابرهم تعلو بها كل سنة ... مطهرة أنعِمْ بها من محابرِ مناقبهم في كل مصر شهيرة ... رسائلهم يغدو بها كل ماهرِ وفيهم من الطلاب للعلم عصبة ... إذا قيل من للمشكلات البوادرِ وفيها الحماة الناصرون لربهم ... معاقلهم شهب القنا والخناجرِ وهندية قد أحسن القين صقلها ... مجربة يوم الوغى والتشاجرِ ورومية خضراء قد ضم جوفها ... من الجمر ما يفري صميم الضمائرِ وكانت بهم تلك الديار منيعة ... محصنة من كل خصم مقامرِ غدت بهمو تلك الفتون وشتتوا ... فلست ترى إلا رسوما لزائرِ وحل بهم ما حل بالناس قبلهم ... أكابر عرب أو ملوك الأكاسرِ وبدلت منهم أوجهاً لا تسرني ... قبائل يام أو شعوب الدواسرِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 401 يذكرنيهم كل وقت وساعة ... عصائب هلكى من وليد وكابرِ وأرملة تبكي بشجو جنينها ... لها رنة بين الربى والمحاجرِ وهذا زمان الصبر من لك بالتي ... تفوز بها يوم اختلاف المصادرِ فصل: فيما جرى من مفاسد العساكر والبوادي ودارت على الإسلام أكبر فتنة ... وسلت سيوف البغي من كل غادرِ وذلت رقاب من رجال أعزة ... وكانوا على الإسلام أهل تناصرِ وأضحى بنو الإسلام في كل مأزق ... تزورهمو غرثى السباع الضوامرِ وهتك ستر للحرائر جهرة ... بأيدي غواة من بواد وحاضرِ وجاؤوا من الفحشاء ما لا يعده ... لبيب ولا يحصيه نظم لشاعر وبات الأيامى في الشتاء سواغبا ... يبكين أزواجاً وخير العشائرِ وجاءت غواش يشهد النص أنها ... بما كسبت أيدي الغواة الغوادرِ وجر زعيم القوم للترك دولة ... على ملة الإسلام فعل المكابرِ ووازره في رأيه كل جاهل ... يروح ويغدو آثما غير شاكرِ وآخر يبتاع الضلالة بالهدى ... ويختال في ثوب من الكبر وافرِ وثالثهم لا يعبأ الدهر بالتي ... تبيد من الإسلام عزم المذاكرِ ولكنه يهوى ويعمل للهوى ... ويصبح في بحر من الريب غامرِ وقد جاءهم فيما مضى خير ناصحٍ ... إمام هدى يبني رفيع المفاخرِ وينقذهم من قعر ظلما مضلة ... لسالكها حر اللظى والمساعرِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 402 ويخبرهم أن السلامة في التي ... عليها خيار الصحب من كل شاكرِ فلما أتاهم نصر ذي العرش واحتوى ... أكابرهم كنز اللهى والذخائرِ سعوا جهدهم في هدم ما قد بنى لهم ... مشائخهم واستنصروا كل داغرِ وساروا لأهل الشرك واستسلموا لهم ... وجاؤوا بهم من كل إفك وساحرِ ومذ أرسلوها أرسلوها ذميمة ... تهدم من ربع الهدى كل عامرِ وباؤوا من الخسران بالصفقة التي ... يبوء بها من دهره كل خاسرِ وصار لأهل الرفض والشرك صولة ... وقام بهم سوق الردى والمناكرِ وعاد لديهم للواط وللخنى ... معاهد يغدو نحوها كل فاجرِ وشُتت شمل الدين وانبتّ حبلُه ... وصار مضاعاً بين شر العساكرِ وأذن بالناقوس والطبل أهلها ... ولم يرض بالتوحيد حزب المزامرِ وأصبح أهل الحق بين معاقب ... وبين طريدٍ في القبائل صائر فقل للغوي المستجير بظلمهم ... ستحشر يوم الدين بين الأصاغرِ ويكشف للمرتاب أي بضاعة ... أضاع وهل ينجو مجير امِّ عامرِ ويعلم يوم الجمع أي جناية ... جناها وما يلقاه من مكر ماكرِ فيا أمة ضلت سبيل نبيها ... وآثاره يوم اقتحام الكبائرِ يعز بكم دين الصليب وآله ... وأنتم بهم ما بين راض وآمرِ وتهجر آيات الهدى ومصاحف ... ويحكم بالقانون وسط الدساكرِ هوت بكمو نحو الجحيم هوادة ... ولذات عيش ناعم غير شاكرِ سيبدو لكم من مالك الملك غير ما ... تظنون أن لاقى مزير المقابرِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 403 يقول لكم ماذا فعلتم بأمة ... على ناهج مثل النجوم الزواهرِ سللتم سيوف البغي فيهم وعطلت ... مساجدهم من كل داع وذاكرِ وواليتمو أهل الجحيم سفاهة ... وكنتم بدين الله أول كافرِ نسيتم لنا عهدا أتاكم رسولنا ... به صارخا فوق الذرى والمنابرِ فسل ساكن الأحساء هل أنت مؤمن ... بهذا وما يحوى صحيح الدفاترِ وهل نافع للمجرمين اعتذارهم ... إذا دار يوم الجمع سوء الدوائرِ وقال الشقي المفتري كنت كارهاً ... ضعيفاً مضاعاً بين تلك العساكرِ أماني تلقاها لكل متبّر ... حقيقتها نبذ الهدى والشعائرِ تعود سرابا بعد ما كان لامعاً ... لكل جهول في المهامه حائرِ فإن شئت أن تحظى بكل فضيلة ... وتظهر في ثوب من المجد باهرِ وتدنو من الجبار جل جلاله ... إلى غاية فوق العلى والمظاهرِ فهاجر إلى رب البرية طالباً ... رضاه وراغم بالهدى كل جائرِ وجانب سبيل العادلين بربهم ... ذوي الشرك والتعطيل مع كل غادرِ وبادر إلى رفع الشكاية ضارعاً ... إلى كاشف البلوى عليم السرائرِ وكابد إلى أن تبلغ النفس عذرها ... وترفع في ثوب من العفو ساترِ ولا تيأسنْ من صنع ربك إنه ... مجيب وإن الله أقرب ناصرِ ألم تر أن الله يبدي بلطفه ... ويعقب بعد العسر يسراً لصابرِ وأن الديار الهامدات يمدها ... بوبل من الوسمي هام وماطرِ فتصبح في رغد من العيش ناعم ... وتهتز في ثوب من الحسن فاخرِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 404 وله أيضاً، رحمه الله وعفا عنه: دع عنك ذكر منازلٍ ومغانِ ... وبدور أنس قد بدت وغوانِ وجآذر في روضة يشدو بها ... صوت النديم وشادن فتانِ لا تصغ للعشاق سمعك إنما ... منادمهم بين البرية عانِ والعشق داء قاتل ودواؤه ... في السنة المثلى عن الأعيانِ قطع الوسائل والذرائع والتي ... بين الورى أحبولة الشيطانِ واقرأ كتاب الله إن رمت الهدى ... أو رمت ترقى ذروة الإحسانِ واعكف بقلبك في أراضي روضةٍ ... مملوءة بالعلم والإيمانِ وانظر إلى تركيبه واعمل به ... إن كنت ذا بصر بهذا الشانِ هذا ولا ينجيك طب في التي ... ترجو بغير مشيئة الرحمانِ فاسأله في غسق الليالي والدجى ... يا دائم المعروف والسلطانِ وانظر إلى ما قاله علم الهدى ... عند ازدحام عساكر الشيطانِ أشكو إليك حوادثا أنزلتها ... فتركْنني متواصل الأحزانِ من لي سواك يكون عند شدائدي ... إن أنت لم تكلأ فمن يكلاني لولا رجاؤك والذي عودتني ... من حسن صنعك لاستطير جناني واذكر مآثر أقوام قد انتدبوا ... يوما لنصر الدين بالإحسانِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 405 من صالحي الإخوان أعلام الهدى ... من أطدوا التوحيد ذا الأركانِ قامت بهم أركان شرعة أحمد ... وعلت سيوف الحق والإيمانِ وغدا الزمان بذكرهم متبسماً ... يبدو سنا للطالب الولهانِ سارت بهم أبناء مجد في الورى ... يعشي سناها عابدي الأوثانِ قد جددوا للدين أوضح منهج ... يبدو ضيا للسالك الحيرانِ حتى علا في عهدهم شأن الهدى ... وانقض ركن الشرك في الأديانِ أما العقائد إن ترد تحقيقها ... عنهم بلا شك ولا كتمانِ إن الإله مقدس سبحانه ... رب عظيم جل عن حدثانِ حقا على عرش السماء قد استوى ... يرى ويسمع فوق ست ثمان يعطي ويمنع من يشاء بحكمة ... في كل يوم ربنا ذو شانِ خضعت لعزة وجهه وجلاله ... حقا وجوه الخلق والأكوانِ بل كل معبود سواه فباطل ... من دون عرش للثرى التحتاني فاحذر توالي في حياتك غيره ... من كل معبود ومن شيطانِ واحذر طريقة أقوام قد افتتنوا ... في حب أدنى أو خسيس فانِ واقطع علائق حبها وطلابها ... إذ قطّعوا فيها عرى الإيمانِ لهفي عليهم لهفة من والهٍ ... متوجع من قلة الأعوانِ قد صاده المقدور بين معاشر ... في غفلة عن نصرة الرحمنِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 406 واستبدلوا بعد الهدى طرق الهوى ... لما عمو عن واضح البرهانِ واقطع علائق حبهم في ذاته ... لا في هواك ونخوة الشيطانِ واهجر مجالس غيهم إذ قطّعوا ... فيها عرى التوحيد والإيمانِ لا سيما لما ارتضاهم جاهل ... ذو قدرة في الناس مع سلطانِ لما بدا جيش الضلالة هادماً ... ربع الهدى وشرائع الإحسانِ قوم سكارى لا يفيق نديمهم ... أبد الزمان يبوء بالخسرانِ قوم تراهم مهطعين لمجلس ... فيه الشقاء وكل كفر دانِ بل فيه قانون النصارى حاكماً ... من دون نص جاء في القرآنِ بل كل أحكام له قد عُطلت ... حتى النِّدا بين الورى بأذانِ ويرون أحكام النبي وصحبه ... في شرعهم من جملة الهذيانِ ويرون قتل القائمين بدينه ... في زعمهم من أفضل القربانِ والفسق عندهمو فأمر سائغ ... يلهو به الأشياخ كالشبانِ والمنع في قانونهم وطريقهم ... غصب اللواط كذاك والنسوان فانظر إلى أنهار كفْر فجِّرت ... قد صادمت لشريعة الرحمنِ بل لا يزال لجريها بين الورى ... من هالك متجاهل خوّانِ والله لولا الله ناصر دينه ... لتفصمت منا عرى الإيمانِ فالله يجزي من سعى في سدها ... من أمة التوحيد والقرآنِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 407 والله يعطي من يشاء بفضله ... فوق الجنان عطية الرضوانِ وكذا يجازي من سعى في رفعها ... ما قد أعد لصاحب الكفرانِ يا رب واحكم بيننا في عصبة ... شدوا ركائبهم إلى الشيطانِ سلوا سيوف الغي من أغمادها ... وسعوا بها في ذلة وهوانِ واستبدلوا بعد الدراسة والهدى ... بالقدح في صحبٍ وفي إخوانِ صرفوا نصوص الوحي عن أوضاعها ... وسعوا بها في زمرة العميانِ فتحوا الذرائع والوسائل للّتي ... يهوى هواها عابدو الصلبانِ وسعوا بها في كل مجلس جاهل ... أو مشرك أو أقلف نصراني وقضوا بأن السير نحو ديارهم ... في كل وقت جائز بأمانِ لم يفقهوا معنى النصوص ولم يعوا ... ما قال أهل العلم والعرفانِ ما وافق الحكم المحل ولا هو اسـ ... ـتوفى الشروط فصار ذا بطلانِ فادرأ بها في نحرهم تلْقَ الهدى ... وارجمهمو بثواقب الشهبانِ واقعد لهم في كل مقعد فرصة ... واكشف نوابغ جهلهم ببيانِ حتى يعود الحق أبلج واضحاً ... يبدو سنىً للسالك الحيرانِ وقضوا بأن العهد باق للذي ... ولى الولاية شيعة الشيطانِ تباً لهم من معشر قد أُشربوا ... حب الخلاف ورشوة السلطانِ وقضوا له بالجزم أن متابه ... قد هد ما أعلى من البنيانِ وطلابه للأمر والحرب الوبي ... فعلى طريق العفو والغفرانِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 408 [الحث على نشر العلم أوقات الفتن] وله أيضاً: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى زيد بن محمد، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد، نحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو على نعمه، جعلنا الله وإياك من الشاكرين الصابرين. ومن مدة ما جاءنا منك مراسلة، وعادة الإخوان يتفقد بعضهم بعضاً، لا سيما أوقات الفتن التي تموج، وعند الحوادث التي هي على الأكثر تروج. وأوصيك بتقوى الله تعالى، والقوة في دينك، ونشر العلم، خصوصاً في كشف الشبهة التي راجت على من لا بصيرة له، ولم يفرق بين البغاة والمشركين، ولم يدر أن نصر من استنصر من أهل الملة على أهل الشرك، واجب على أهل الإيمان والدين، قال تعالى فيمن ترك الهجرة: {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} [سورة الأنفال آية: 72] . ومن عقيدة أهل السنة: أن الجهاد ماض مع كل إمام بر أو فاجر إلى يوم القيامة. واكتب لي جواباً يكون عوناً على البر والتقوى، وردعاً لأهل الجهل والهوى. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 409 [التساهل في الإنكار] وله أيضاً: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى زيد بن محمد، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وما ذكرت من حال أكثر الناس، وأنهم دخلوا في الفتنة، ولا أحسنوا الخروج منها، فالأمر كما وصفت؛ ولكن ذكر الحافظ الذهبي أن حسيناً الصائغ قال للإمام أحمد: سألت أبا ثور عن اللفظية، فقال: مبتدع، فغضب أحمد وقال: اللفظية جهمية من أهل الكلام، ولا يفلح أهل الكلام، أو كما قال. فأنكر على أبي ثور، التساهل في الإنكار، ورأى أن تعظيم الأمر والنهي، يقتضي غير ذلك، من ذكر أوصافهم الخاصة الشنيعة، والغلظة في كل مقام بحسبه. وفتنة البغي فتح باب الفتنة بالشرك والمكفرات، ووصل دخنها وشررها، جمهور من خاض فيها، من منتسب إلى العلم وغيره؛ والخلاص منها عزيز، إلا من تداركه الله ورده إلى الإسلام، ومنّ عليه بالتوبة النصوح، وعرف ذنبه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 410 [تحريم السفر إلى بلاد المشركين] وقال الشيخ حمد بن عتيق، رحمه الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إله الأولين والآخرين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، خاتم النبيين، صلوات الله وسلامه عليه، وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وأصحابه، ومن اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد، فالواجب على المؤمن: رد ما تنازع فيه الناس، إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وأن يكون هواه تبعاً لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فيكون الله إلهه ومعبوده، والرسول إمامه ومتبوعه، وأن يرغب في الحق ويلزمه، ويعض عليه بالنواجذ، وإن رغب عنه الأكثرون، ويحذر الباطل ويجتنبه، وإن رغب فيه الأكثرون؛ فمن عرف الحق وقبله وعمل به سعد، ومن اغتر بالكثير غوى وبعد. ومن أعظم الواجبات على المؤمن: محبة الله ومحبة ما يحبه من الأقوال والأعمال، الظاهرة والباطنة، وكذلك ما يحبه من الأشخاص، كالملائكة، وصالح بني آدم، وموالاتهم، وبغض ما يبغضه الله، من الأقوال والأعمال، الظاهرة والباطنة، وبغض من فعل ذلك. فإذا رسخ هذا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 411 الأصل في قلب المؤمن، لم يطمئن إلى عدو الله، ولم يجالسه ولم يساكنه، وساءه النظر إليه. فلما ضعف هذا الأصل، في قلوب كثير من الناس واضمحل، صار كثير منهم مع أولياء الله، كحاله مع أعداء الله، يلقى كلاً منهم بوجه طلق، وصار بلاد الحرب كبلاد الإسلام، ولم يخش غضب الله الذي لا تطيق غضبه السماوات والأرض، والجبال الراسيات. ولما عظمت فتنة الدنيا، وصارت أكبر همهم، ومبلغ علمهم، حملهم ذلك على التماسها وطلبها، ولو بما يسخط الله، فسافروا إلى أعداء الله في بلادهم، وخالطوهم في أوطانهم، ولبس عليهم الشيطان أمر دينهم، فنسوا عهد الله وميثاقه الذي أخذ عليهم، في مثل قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [سورة الحشر آية: 7] ، ونسوا ما أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم على أصحابه عند البيعة، فكان يأخذ على أحدهم: "أن لا ترى نارك نار المشركين، إلا أن تكون حرباً لهم"، ومثل قوله صلى الله عليه وسلم: " من جامع المشرك وسكن معه، فهو مثله " 1. وقد سئل أبناء شيخ الإسلام، رحمهم الله تعالى وعفا عنهم: عن السفر إلى بلاد المشركين للتجارة؟ فأجابوا بما حاصله: أنه يحرم السفر إلى بلاد المشركين، إلا إذا كان المسلم قوياً له منعة، يقدر على   1 أبو داود: الجهاد (2787) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 412 إظهار دينه، وإظهار الدين تكفيرهم وعيب دينهم، والطعن عليهم، والبراءة منهم، والتحفظ من موادتهم، والركون إليهم، واعتزالهم؛ وليس فعل الصلوات فقط إظهاراً للدين. وقول القائل: إنا نعتزلهم في الصلاة، ولا نأكل ذبيحتهم حسن، لكن لا يكفي في إظهار الدين وحده، بل لا بد مما ذكر. وقول القائل: إنهم لا ينكرون علينا، قول فاسد، وإنكارنا على من يظن به الخير، ومن يخالطهم يخاف عليه، إن سلم من الردة لا يسلم من الكبيرة الموبقة. وأما من يظن به موادة الكفار وموالاتهم، ويظن به أنه يرى أنهم أهدى سبيلاً من المؤمنين، فليس للكلام معه كبير نفع، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم. وقد ألزم الله المؤمنين أن يأخذوا ما آتاهم الرسول، وينتهوا عما نهاهم عنه، وكان الصحابة، رضي الله عنهم، شديداً حذرهم عما حذرهم نبيهم صلى الله عليه وسلم. فمن ذلك ما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه أقسم أن لا يظله سقف هو وقاطع رحم، حذراً من قوله صلى الله عليه وسلم: " ولا تنزل الرحمة على قوم فيهم قاطع رحم "، فكيف بمن جالس كافرا، أو واكله، وألان له الكلام؟! ويذكر عن عيسى عليه السلام، أنه قال: "تحببوا إلى الله ببغض أهل المعاصي، وتقربوا إلى الله بالبعد عنهم، واطلبوا رضى الله بسخطهم". الجزء: 8 ¦ الصفحة: 413 فإذا كان هذا مع أهل المعاصي، فكيف بالمشركين والكافرين والمنافقين؟ قال الله تعالى: {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ} [سورة هود آية: 113] . قال أبو العالية: "لا تميلوا إليهم كل الميل، في المحبة ولين الكلام؛ فتوعد سبحانه بمسيس النار، من ركن إلى أعدائه ولو بلين الكلام". وإن الله تعالى فرض على عباده جهادهم، والغلظة عليهم، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} الآية [سورة التوبة آية: 73] ، وقال تعالى لما ذكر حال المنافقين: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً} [سورة النساء آية: 63] ، قال بعض المفسرين: أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بالإعراض عن المنافقين، وإغلاظ القول عليهم، وأن لا يلقاهم بوجه طلق، بل يكون وجهه مكفهراً عابساً، متغيراً من الغيظ. فإذا كان هذا مع المنافقين الذين بين أظهر المسلمين، يصلّون معهم ويجاهدون معهم، ويحجون، فكيف بمن يسافر إلى المشركين، وأقام بين أظهرهم أياماً وليالي، واستأذن عليهم في بيوتهم، وبدأهم بالسلام، وأكثر لهم التحية، وألان لهم الكلام، وليس له عذر إلا طلب العاجلة، ولم يجعل الله الدنيا عذراً لمن اعتذر بها. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 414 قال الله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ} إلى قوله: {أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [سورة التوبة آية: 24] ، وقال تعالى: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [سورة الأعلى آية: 16-17] ، وقال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} [سورة الشورى آية: 20] ، وقال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَدْحُوراً} [سورة الإسراء آية: 18] ، وقال تعالى: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ} الآية [سورة المجادلة آية: 22] . وقال النبي صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه تبارك وتعالى، في الحديث الطويل الذي قال فيه: " ولا يحملكم الشيطان باستبطاء الرزق أن تطلبوه بمعاصي الله، فإن ما عند الله لا ينال إلا بطاعته ". ولما نهى الله سبحانه عن حمل المشركين إلى بيته، وعلم من خلقه الاعتذار بالحاجة، قال: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ} [سورة التوبة آية: 28] ، فلم يعذر الله بالفقر والحاجة إلى ما في أيديهم، وأخبر أنه الرزاق ذو القوة المتين. والموجب لهذه النصيحة: الشفقة عليكم، مخافة أن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 415 توادوهم فتكونوا مثلهم؛ والكلام في هذا مع مؤمن عاقل، يخاف مقام ربه وينهى نفسه عن هواها، وأما المنافق والمرتاب، ومن يرد الله فتنته، فالله له بالمرصاد، {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [سورة الشعراء آية: 88-89] . فالواجب على العاقل الناصح لنفسه: النظر في أمره، والفكرة في ذنوبه، ومجاهدة نفسه على التوبة النصوح، والندم على ما فات، والعزيمة على أن لا يعود، والتبديل بالعمل الصالح، وتقديم محبة الله على جميع المحاب، وإيثار مرضاته على حظوظ النفس؛ فإن كل شيء ضيعه ابن آدم، ربما يكون له منه عوض، فإن ضيع حظه من الله، لم يكن له عوض. وقد خاب من كان حظه من الله دنيا يحتلب درها، والخاسر من خسر دينه، وإن أفاد في دنياه. نسأل الله تعالى بأسمائه الحسنى أن يأخذ بنواصينا إليه، وأن يلزمنا كلمة التقوى، وأن يجعلنا من أهلها، وصلى الله على محمد. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 416 [الهجرة من بلاد المشركين] وله أيضاً، رحمه الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم من حمد بن عتيق، إلى الأخ: عبد الله بن صالح، أصلح الله له الشأن، وهداه للإسلام والإيمان؛ سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أما بعد، فنحمد الله الذي لا إله إلا هو، ولا رب سواه، ونسأله أن يصلي على محمد صلى الله عليه وسلم. ووصل إلينا كتابك، وفهمنا مضمون خطابك، وإن كان في صدره ما لا يليق، ولم يصدر عن عين تحقيق؛ وقد علمت ما في مدح الإنسان في وجهه من الذم، وإن كان بحق، فكيف إذا كان بغير ذلك؟ ثم إن في خطابك طلب المشورة مني، بالانتقال من بلادك، فأقول: اعلم: أن الله سبحانه وبحمده، بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بالحنيفية ملة إبراهيم، وأمره باتباعها بقوله: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [سورة النحل آية: 123] ، وأمره بالتصريح لمن تركها، بأنه لازم لها، وبريء ممن خالفها، بقوله: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [سورة يونس آية: 104-105] . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 417 بل أمره الله: أن يصرح بكفر الكافرين، وبراءتهم من الدين، بقوله: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} [سورة الكافرون آية: 1-3] . وأمثال هذا في القرآن كثير. وبالجملة: فأصل دين جميع الرسل، هو القيام بالتوحيد، ومحبته ومحبة أهله، وموالاتهم، وإنكار الشرك، وتكفير أهله، وبغضهم، وإظهار عداوتهم، كما قال تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [سورة الممتحنة آية: 4] ، ومعنى قوله: {وَبَدَا} أيك ظهر وبان؛ والمراد التصريح باستمرار العداوة والبغضاء لمن لم يوحد ربه. فمن حقق ذلك علماً وعملاً، وصرح به حتى يعلمه منه أهل بلده، لم تجب عليه الهجرة من أي بلد كان. وأما من لم يكن كذلك، بل ظن أنه إذا تُرك يصلي ويصوم ويحج، سقطت عنه الهجرة، فهذا جهل بالدين، وغفول عن زبدة رسالة المرسلين؛ فإن البلاد إذا كان الحكم فيها لأهل الباطل عباد القبور، وشربة الخمور، وأهل القمار، فهم لا يرضون إلا بشعائر الشرك، وأحكام الطواغيت، وكل موطن يكون كذلك، لا يشك من له أدنى ممارسة للكتاب والسنة، أن أهله على غير ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 418 فليتأمل العاقل، وليبحث الناصح لنفسه عن السبب الحامل لقريش على إخراج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من مكة، وهي أشرف البقاع؛ فإن من المعلوم: أنهم ما أخرجوهم إلا بعد ما صرحوا لهم بعيب دينهم، وضلال آبائهم، فأرادوا منه صلى الله عليه وسلم الكف عن ذلك، وتوعدوه وأصحابه بالإخراج. وشكا إليه أصحابه شدة أذى المشركين لهم، فأمرهم بالصبر والتأسي بمن كان قبلهم ممن أوذي، ولم يقل لهم: اتركوا عيب دين المشركين، وتسفيه أحلامهم. فاختار الخروج بأصحابه، ومفارقة الأوطان، مع أنها أشرف بقعة على وجه الأرض. {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرا} [سورة الأحزاب آية: 21] ، {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً} [سورة النساء آية: 100] . نعم، إن كانت ولاية أهل الإسلام عليكم ضافية، وأوامرهم فيكم نافذة، وأيدي أهل الشرك والضلال عنكم قاصرة، ولم يبق إلا جفاء في الفروع، وتقصير في بعض الواجبات، ونحو ذلك، ففي مثل هذه الحال، قد تكون الهجرة مستحبة في حق بعض الناس; فإن كان في إقامة الإنسان تخفيف للشر، وتكثير للخير، فربما يترجح في حقه الإقامة، إذا لم يخف على دينه من الفتن. وبما ذكرناه يظهر للمتأمل ما يصلح دينه، والسلام. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 419 وسئل، رحمه الله: إذا كان الرجل يتهم بالركون إلى الكفار، هل تجوز مجالسته، ومحادثته، أو لا؟ فأجاب: قد حرّم الله تعالى في كتابه الركون إلى الذين ظلموا، فإذا كان الركون ظاهراً معلوماً، فلا يجوز للمؤمن أن يتخذ الراكن جليساً; وأما محادثته، فإن كانت لنصيحته ودعوته إلى الله، ونهيه عن هذا المنكر، فهذه لا بأس بها، بل هي طاعة لله تعالى، وجهاد في سبيله. وأما محادثته صاحباً وخليلاً، فذلك لا يجوز، وهو من القوادح في الدين. وأما إذا لم يكن الركون ظاهراً، وليس إلا مجرد تهمة لا دليل عليها، فلا يجوز هجر المسلم لأجل ذلك، والله أعلم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 420 [حكم هجر ونفي من زل ثم تاب] وقال الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن، رحمهم الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله بن عبد اللطيف، إلى جناب الإخوان الكرام، وفقهم الله للبصيرة والإيمان؛ سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد، موجب كتابي لكم: ما يبلغني عنكم، من الشر الوخيم، والفعل الذميم، وهو: أنه إذا أخطأ أحد من المسلمين أو من الإخوان، أو زل زلة، وأظهر الندم والتوبة، ورجع إلى إخوانه، أنكم تنفونه، وتأمرون بهجره؛ هذه من سنن ابن بطي الخبيثة، والله سبحانه وبحمده يدعو عباده إلى التوبة، ويقبل منهم، قال تعالى: {أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [سورة المائدة آية: 74] ، وقال تعالى: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} [سورة الفرقان آية: 70] ، وقال تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} [سورة النساء آية: 17] ، وقال صلى الله عليه وسلم: " كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون " 1، وقال صلى الله عليه وسلم لما قيل له: قاتل الله فلاناً، لما رأوه يجلد في شرب الخمر: " لا تعينوا الشيطان على صاحبكم ".   1 الترمذي: صفة القيامة والرقائق والورع (2499) , وابن ماجة: الزهد (4251) , وأحمد (3/198) , والدارمي: الرقاق (2727) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 421 والموجب لهذا: فعلكم مع فلان لما تاب وأراد المنزل نفرتموه، ولا خفتم سوء الخاتمة، ولا سألتم الله الثبات، ومن أمن الله على دينه طرفة عين سلبه إياه. وأيضاً، البلدان، الأمر فيها لله ثم لولي الأمر، كيف تبدرون بأمر بدون مراجعته وأمره؟ والذي يأمركم بهذا، حقيقة أمره أنه يأمركم بخروجكم عن الطاعة، فأنتم اعرفوا ربكم، واعرفوا أنفسكم، الذي ما يقبل توبة أخيه المسلم، ولا يقبل اعتذاره، لا يقبل الله توبته، ولا يقيل عثرته، قال الله تعالى: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ} [سورة المؤمنون آية: 71] . لا تعرضوا عن القرآن وأحكامه، وتأخذوا بضلال ابن بطي وأتباعه. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وسئل: عن الفرق بين الموالاة، والتولي؟ فأجاب: التولي كفر يخرج من الملة، وهو كالذب عنهم، وإعانتهم بالمال والبدن والرأي، والموالاة كبيرة من كبائر الذنوب، كبل الدواة، أو بري القلم، أو التبشش لهم، أو رفع السوط لهم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 422 وسئل الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف، والشيخ سليمان بن سحمان: هل للهجر حد ... إلخ؟ فأجابا: أما الهجر لأجل الدين، فليس له حد محدود، بل هو بحسب المصلحة الراجحة؛ وقد اختلف العلماء في حده، كما هو مبسوط في فتح الباري، على قصة الثلاثة الذين خلفوا عام تبوك. والصحيح أنه لا حد له، والله أعلم. [عداوة وهجر من سافر إلى بلاد الكفار] وسئل الشيخ حمد بن عبد العزيز، رحمه الله تعالى: ما قولكم فيمن يسافر من المسلمين إلى بلاد الشرك، هل تجب عداوته وهجره، أم لا؟ فأجاب: الحمد لله. المسافر إلى بلاد الشرك قسمان: قسم يستوطنون بلاد المشركين، فهؤلاء إذا لم يظهروا دينهم بالبراءة من دين المشركين، وتكفيرهم، حكمهم حكمهم، وفيهم قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ} [سورة النساء آية: 97] أي: في صف المسلمين وفريقهم، أم في صف المشركين وفريقهم؟ {قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ} [سورة النساء آية: 97] ، فردت عليهم الملائكة: {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} [سورة النساء آية: 97] ، والأرض الواسعة إذ ذاك: المدينة، وفيها ثلاث محال من اليهود كفار لم يسلموا. قال تعالى: {فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ} [سورة النساء آية: 97-98] . صح أن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 423 الصحابة قالوا: قتلنا إخواننا. فأنزل الله هذه الآية. وفي هذا الضرب، قول النبي صلى الله عليه وسلم: "من جامع المشرك أو سكن معه، فهو مثله " 1، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " أنا بريء من مسلم بين ظهراني المشركين " 2. وفيهم قول النبي صلى الله عليه وسلم: "ولا تقوم الساعة حتى يلحق حي من أمتي بالمشركين" 3 الحديث؛ فهؤلاء تجب عداوتهم وهجرهم. الضرب الثاني: من يسافر إلى بلاد المشركين للتجارة، ويرجع إلى بلده في المسلمين، فهؤلاء قسمان أيضا: قسم ينزه دينه عن الصلاة وراء أئمتهم، ولا يأكل ذبحهم، ولا يركن إليهم بالمودة ولين الكلام، ويكفرهم، ولا يسلم عليهم، فهذا لا يعادى ولا يهجر، لأن بعض الصحابة سافر، ودخل بلاد الشرك للتجارة. والقسم الثاني: من يسافر إليهم، ويعتقد إسلامهم، وربما فضلهم على المسلمين، فهذا له حكم هذه الآية: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ} الآية [سورة النساء آية: 51-52] . وهذا يوجد من كثير، يفضل أهل الشرك، ويجادل عنهم، فهذا تجب عداوته وهجره.   1 أبو داود: الجهاد (2787) . 2 الترمذي: السير (1604) , والنسائي: القسامة (4780) , وأبو داود: الجهاد (2645) . 3 ابن ماجة: الفتن (3952) , وأحمد (5/278) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 424 وقد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [سورة المائدة آية: 51] ، وقال تعالى: {تَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ} [سورة المائدة آية: 80-81] ، وقال تعالى: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} الآية [سورة المجادلة آية: 22] . وما أكثر هذا الضرب في الناس! فإنه يعاقب بالطبع على قلبه، حتى لا يعرف معروفاً، ولا ينكر منكراً، بل تراه كالمنافقين الذين قال الله فيهم: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ} الآية [سورة التوبة آية: 67] . ومن تدبر الكتاب والسنة، عرف ذلك. وأكثر الناس يتعصب لأهل الباطل، إما لأجل دنيا أو رياسة أو قرابة؛ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما ذئبان جائعان أرسلا في غنيمة، بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه " 1. والفقيه الذي ينزل نصوص الكتاب والسنة على الواقع، فينفذ الحكم فيهم على وفق النص، ولا يقدم عادة الناس أو حظوظ نفسه، أو الخوف من أذاهم، فيداهن في دين الله فيهلك مع الهالكين; والله المستعان، وعليه التكلان، وهو   1 الترمذي: الزهد (2376) , وأحمد (3/456, 3/460) , والدارمي: الرقاق (2730) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 425 حسبنا ونعم الوكيل، وصلى الله على خاتم النبيين وإمام المرسلين محمد، وآله وصحبه وسلم. [الهجرة من بلاد المشركين] وسئل: عن الهجرة من بلاد المشركين؟ فأجاب: الهجرة من بلاد المشركين إلى بلاد الإسلام، فرض واجب بنص الكتاب والسنة، وإجماع الأمة؛ وقد فرضها الله على رسوله وأصحابه، قبل فرض الصوم والحج، كما هو مقرر في الأصول والفروع. ولما تثاقل أناس ممن أسلم، وأخرجتهم قريش معهم يوم بدر، فقُتل من قُتل منهم، حزن الصحابة، وقالوا: قتلنا إخواننا، فأنزل الله فيهم: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ} [سورة النساء آية: 97] يعني: في فريق المسلمين وصفّهم، أم في فريق المشركين وصفّهم؟ {قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ} [سورة النساء آية: 97] ، يعنون: أخرجنا كرهاً. قالت الملائكة رداً عليهم: {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} [سورة النساء آية: 97] ، ولم يكن إذ ذاك دار هجرة غير المدينة، وفيها ثلاث محال كبار من اليهود، قبل أن يجلَوْا منها، وهي إذ ذاك أضيق البلاد عيشاً، ورمتهم العرب عن قوس العدوان، ومع ذلك سماها الله سبحانه أرضاً واسعة. وقال تعالى في سورة "التوبة" وهي من آخر ما نزل فيمن شح بمحبوبات الدنيا، وترك لأجلها الهجرة: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 426 وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [سورة التوبة آية: 24] . ولا يفسق إلا بترك واجب، وقد قال صلى الله عليه وسلم: " أنا بريء من مسلم بين ظهراني المشركين " 1، وقال: " من جامع المشرك وسكن معه، فهو مثله " 2. فهذه مسألة هي من أصول الشريعة المحمدية، وليست من مسائل الخلاف، بل هي مجمع عليها، ولا ينازع فيها إلا ضال أضل من حمار أهله، ولكن من خالط المشركين، وأقام بين أظهرهم، عوقب بمثل هذا الزيغ، نعوذ بالله من زيغ القلوب، ومن مضلات الفتن.   1 الترمذي: السير (1604) , والنسائي: القسامة (4780) , وأبو داود: الجهاد (2645) . 2 أبو داود: الجهاد (2787) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 427 [رد زعم من قال أن الهجرة من بلاد الكفر ليست واجبة] وقال الشيخ محمد بن الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن، وفقه الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وآله وصحبه أجمعين. من محمد بن عبد اللطيف، إلى عبد الله بن علي الزحيفي، سلام على عباد الله الصالحين. أما بعد، فقد بلغنا عنك شبهة عظيمة، وزلة وخيمة، لا تكاد تصدر ممن يدعي أنه من المسلمين، وذلك أنك تزعم أن الهجرة ليست بواجبة، بل هي مستحبة، أو أنها منقطعة على الدوام، مستدلاً على ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: " لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد وني ة" 1. فليس الأمر كما زعمت، ولا ما إليه جنحت وقصدت، بل لم تفهم المراد من الحديث، والمقصود منه؛ ولكن لما غلب على قلبك من الهوى ومخالفة الحق، وما طبع عليه من الرين، بعدم الفرق بين القبيح والشين، واستحباب الحياة الدنيا وإيثارها على الآخرة، نعوذ بالله من الحور بعد الكور، ومن الضلال بعد الهدى. فإن معنى الحديث: أن مكة لما صارت بلد إسلام، ومعقل إيمان، لم تكن الهجرة منها واجبة; وأما إذا كانت البلاد مكة فما دونها، بلاد كفر ومحل شرك، فالهجرة منها   1 البخاري: الجهاد والسير (2783) , ومسلم: الحج (1353) , والترمذي: السير (1590) , والنسائي: البيعة (4170) , وأبو داود: الجهاد (2480) , وأحمد (1/226, 1/315, 1/355) , والدارمي: السير (2512) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 428 واجبة متعينة، على كل من له قدرة، بنص الكتاب والسنة، وإجماع أهل الحنيفية والملة، قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ} الآية [سورة النساء آية: 97] . قال ابن كثير في تفسير الآية: هذه الآية دالة على وجوب الهجرة، عامة في كل من أقام بين ظهراني المشركين، وهو قادر على الهجرة، وليس متمكناً من إقامة الدين؛ فهو ظالم لنفسه، مرتكب حراماً بالإجماع، وبنص هذه الآية، حيث يقول تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} [سورة النساء آية: 97] ، أي: بترك الهجرة، {قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ} [سورة النساء آية: 97] أي: لِم مكثتم ههنا وتركتم الهجرة؟ ولم يقولوا: كيف تصديقكم؟ {قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ} [سورة النساء آية: 97] ، أي: لا نقدر على الخروج ولا الذهاب في الأرض. {قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} إلى قوله: {غَفُوراً رَحِيماً} [سورة النساء آية: 97-99] . انتهى. وقال البيضاوي: الآية دالة على وجوب الهجرة، ففي الحديث: "من فر بدينه من أرض إلى أرض، استوجبت له الجنة، وكان رفيق أبيه إبراهيم عليه السلام، ونبيه محمد صلى الله عليه وسلم". انتهى. وقال ابن حجر في فتح الباري: قال البخاري، رحمه الله تعالى: باب لا هجرة بعد الفتح، أي: فتح مكة، أو المراد ما هو أعم من ذلك، إشارة إلى أن حكم غير مكة في ذلك الجزء: 8 ¦ الصفحة: 429 كحكمها، فلا تجب الهجرة من بلدة قد فتحها المسلمون. أما قبل فتح البلد، فمن بها أحد ثلاثة أقسام: الأول: قادر على الهجرة منها، ولم يمكنه إظهار دينه، ولا أداء واجباته، فالهجرة منها واجبة. الثاني: قادر على الهجرة، يمكنه إظهار دينه، وأداء واجباته، فالهجرة منها مستحبة، لتكثير سواد المسلمين، ومعونتهم، وجهاد الكفار والأمن من غدرهم، والراحة من رؤية المنكر بينهم. الثالث: عاجز بعذر من أسْر، أو مرض، أو غير ذلك من الأعذار، فهذا ممن عذر الله، فتجوز له الإقامة; فإن حمل على نفسه، وتكلف الخروج منها أجر. انتهى كلامه. فانظر إلى قوله: لكنه يمكنه إظهار دينه، فإنه إذا حصل منه ذلك، لم تكن الهجرة واجبة في حقه، بل مستحبة، لأجل ما ذكره، رحمه الله؛ ولكن هذا القسم الثاني عزيز الوجود، فالله المستعان. وقال الشيخ حسين بن غنام الأحسائي، رحمه الله، في العقد الثمين: وقد زعم قوم أن الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام والإيمان، ليست واجبة، ولا متعينة في هذه الأزمان، وأن محكم عقدها مفسوخ، ووجوبها المستمر منسوخ، متمسكين من الدليل بما لا يروي الغليل، ولا يشفي القلب العليل، وذلك ظاهر قول خير البرية: " لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية " 1، وظاهر حديث: " المهاجر من   1 البخاري: الجهاد والسير (2783) , ومسلم: الحج (1353) , والترمذي: السير (1590) , والنسائي: البيعة (4170) , وأبو داود: الجهاد (2480) , وأحمد (1/226, 1/315, 1/355) , والدارمي: السير (2512) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 430 هجر ما نهى الله عنه " 1؛ وليس الأمر كما زعموا، ولا المعنى كما فهموا، بل ليس الأمر كما جزموا به وحكموا، وإنما المراد المقصود، والمنهج المسدود: الهجرة من مكة إلى المدينة، بعد فتحها للمسلمين، وزوال أوثان المشركين، وإضاءة أرجائها بأنوار الدين، ورفع قواعد التوحيد، وقصم كل جبار عنيد، لأن الله تعالى قد بدل الحال، والمحذور فيها قد زال، والمهاجرة منها تؤدي إلى الإحلال بأم القرى والتعطيل؛ فسد بعد ماضي تلك الحكمة وذلك السبيل. وأما الهجرة من بلدان المشركين والكفار، وعدم السكن معهم والاستقرار، إلى ما للمسلمين من الديار، حيث لا يمكن إقامة دين للموحدين، ولا إظهار ولا تعزيز للإسلام ولا انتصار، فحكمها إلى الآن ثابت الوجوب، والإلزام، مستمر على مر السنين والأعوام، كما صرح بذلك الأئمة الأعلام؛ والآيات دالة على ذلك، دلالة صريحة، والأحاديث ثابتة صحيحة، قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ} الآية [سورة النساء آية: 97] . وذكر كلام ابن كثير المتقدم. وقال أبو داود في سننه، عن سمرة بن جندب: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من جامع المشرك أو سكن معه، فهو مثله " 2، قال الشيخ سليمان بن عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمهم الله تعالى: هذا الحديث على ظاهره،   1 البخاري: الإيمان (10) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (4996) , وأبو داود: الجهاد (2481) , وأحمد (2/192, 2/205, 2/209, 2/212, 2/224) . 2 أبو داود: الجهاد (2787) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 431 وهو: أن الذي يدعي الإسلام، ويكون مع المشركين في الاجتماع والنصرة والمنزل، بحيث يعده المشركون منهم، فهو كافر إن ادعى الإسلام، إلا إن كان يظهر دينه، ولا يتولى المشركين. ولهذا لما ادعى بعض الناس الذين أقاموا بمكة بعد ما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فادعوا الإسلام، إلا أنهم أقاموا في مكة، يعدهم المشركون منهم، وخرجوا معهم يوم بدر كارهين للخروج، فقُتلوا. فقال الصحابة: قتلنا إخواننا، فأنزل الله فيهم: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} الآية [سورة النساء آية: 97] ، فلم يعذر الله منهم إلا المستضعفين. انتهى 1. وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " أنا بريء من مسلم بين ظهراني المشركين، ما لم تتراءى ناراهما " 2، رواه أبو داود؛ ولو لم يكن إلا هذا الحديث في الاستدلال، لكان كافياً بالمقصود وافياً. وما أحسن ما قال ابن القيم، رحمه الله، في الكافية الشافية: من لم يكن يكفيه ذان فلا كفا ... هُ الله شرَّ حوادث الأزمانِ من لم يكن يشفيه ذان فلا شفا ... هُ الله في قلب ولا أبدانِ من لم يكن يغنيه ذان رماه رَبْـ ... ـبُ العرش بالإعدام والحرمانِ من لم يكن يهديه ذان فلا هدا ... هُ الله سبيلَ الحق والإيمانِ   1 وتقدم في صفحة: 164. 2 الترمذي: السير (1604) , والنسائي: القسامة (4780) , وأبو داود: الجهاد (2645) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 432 وكذلك تزعم أيضاً أنك تظهر دينك وتسب المشركين، فهذه طامة كبرى ومصيبة عظمى، قد دهى بها الشيطان كثيراً من الناس، من أشباهك وأمثالك؛ فغلطتم في إظهار الدين، وظننتم أنه مجرد الصلوات الخمس، والأذان والصوم وغير ذلك، وأنكم إذا جلستم في بعض المجالس الخاصة، قلتم: هؤلاء كفار، هؤلاء مشركون، وليس معهم من الدين شيء، وأنهم يعلمون أنا نبغضهم، وأنا على طريقة الوهابية، وتظنون أن هذا هو إظهار الدين، فأبطلتم به وجوب الهجرة. فليس الأمر كما زعمتم، فإن الله سبحانه ذكر في كتابه المرادَ من إظهار الدين، وأنه ليس ما توهمتم، فقال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} [سورة الكافرون آية: 1-2] إلى آخر السورة؛ فأمره أن يقول لهم: إنكم كافرون، وإنه بريء من معبوداتهم، وإنهم بريئون من عبادة الله، وهو قوله: {وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} [سورة الكافرون آية: 3] ، وقوله: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [سورة الكافرون آية: 6] : تصريح بالبراءة من دينهم الذي هو الشرك، وتمسك بدينه الذي هو الإسلام؛ فمن قال ذلك للمشركين ظاهراً، في مجالسهم ومحافلهم وغشاهم به، فقد أظهر دينه. وقال تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 433 دُونِ اللَّهِ} الآية [سورة الممتحنة آية: 4] . قال شيخنا حمد بن عتيق، رحمه الله: فأخبر الله تعالى عن جميع المرسلين، أنهم تبرؤوا من الشرك والمشركين، فإن معنى قوله: {وَالَّذِينَ مَعَهُ} أي: من المرسلين، وقوله: {وَبَدَا} أي: ظهر وبان؛ وهذا هو الواجب: أن تكون العداوة والبغضاء ظاهرة، يعلمها المشركون من المسلم، وتكون مستمرة. انتهى. وقال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} إلى قوله: {وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [سورة يونس آية: 104-105] ، فذكر له البراءة من معبوداتهم، وتصريحه بالتوحيد في قوله: {فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ} [سورة يونس آية: 104] ، فذكر أنه لا يعبد إلا الله، وأنه من المسلمين الذين هم أعداء لهم، وأن الله أمره أن يكون حنيفاً، وحذره أن يكون من المشركين; هذا معنى كلام الشيخ محمد بن عبد الوهاب على الآية، رحمه الله. فمن صرح لهم بذلك، فقد أظهر دينه وصرح بالعداوة؛ وهذا هو إظهار الدين، لا كما يظن الجهلة، من أنه إذا تركه الكفار، وخلوا بينه وبين أن يصلي، ويقرأ القرآن، ويشتغل بما شاء من النوافل، أنه يصير مظهراً لدينه. هذا غلط فاحش؛ فإن من يصرح بالعداوة للمشركين، والبراءة منهم، لا يتركونه بين أظهرهم، بل إما الجزء: 8 ¦ الصفحة: 434 قتلوه، وإما أخرجوه إن وجدوا إلى ذلك سبيلاً، كما ذكره الله عن الكفار. قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} الآية [سورة إبراهيم آية: 13] ، وقال، إخباراً عن قوم شعيب: {لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} الآية [سورة الأعراف آية: 88] . وذكر عن أهل الكهف، أنهم قالوا: {إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً} [سورة الكهف آية: 20] . وهل اشتدت العداوة بين الرسل وقومهم، إلا بعد التصريح بمسبة دينهم، وتسفيه أحلامهم، وعيب آلهتهم؟ وقال شيخ الإسلام والمسلمين، محيي ما اندرس من الملة والدين، محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله، في ستة المواضع التي من السيرة النبوية: أنه لا يستقيم للإنسان إسلام، ولو وحد الله وترك الشرك، إلا بعداوة المشركين، والتصريح لهم بالعداوة، كما قال تعالى: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [سورة المجادلة آية: 22] . انتهى. فصرح الشيخ، رحمه الله، بأن الإسلام لا يستقيم إلا بالتصريح للمشركين بالعداوة والبغضاء. وتأمل ما استدل به على ذلك، تجد الأمر واضحاً بحمد الله، ولكن كما قيل الجزء: 8 ¦ الصفحة: 435 شعراً: فيا لك من آيات حق لو اهتدى ... بهن مريد الحق كن هواديا ولكن على تلك القلوب أكنة ... فليست وإن أصغت تجيب المناديا وأنت لم تكتف بمجرد إقامتك بين أظهر المشركين، وانتقالك إليهم، بل آل بك الأمر إلى المجادلة والمخاصمة، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ} الآية [سورة غافر آية: 56] ، وقال تعالى: {وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ} الآية [سورة غافر آية: 5] . وأنت قد عهد منك في سابق الأمر: الشدة، والغلظة على من تولى المشركين، وركن إليهم، ولكن لا حول ولا قوة إلا بالله. {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [سورة آل عمران آية: 8] . فتب إلى ربك واستغفر من ذنبك، وهاجر إلى الله والدار الآخرة، بالأجر العظيم والفضل العميم. نسأل الله لنا ولإخواننا الثبات على الإسلام، ونعوذ به من مضلات الفتن، ما ظهر منها وما بطن. والله أسأل أن ينصر دينه، وكتابه ورسوله، وعباده المؤمنين، وأن يظهره على الدين كله، ولو كره المشركون، والله يقول الحق، وهو يهدي السبيل، وصلى الله على محمد. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 436 وسئل أيضاً: الشيخ محمد بن عبد اللطيف، أقامه الله مناضلاً عن الدين الحنيف: رجلان تنازعا في السلام على الرافضة والمبتدعين، ومن ضاهاهم من المشركين، وفي مواكلتهم ومجالستهم: فقال أحدهما: هو جائز، لقول عالم: إن أخذت فقد أخذ الصالحون، وإن رددت فقد رد الصالحون; ووفد على عمر بن عبد العزيز، كثير عزة، وهو متهم بالتشيع، ورسول عمر وفد على جبلة الغساني بعد ردته. وقال الآخر: لا يجوز، لدليل آيات الموالاة، ولقوله تعالى: {وَالسَّلامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى} [سورة طه آية: 47] ، والسلام على عباد الله الصالحين، وأن ترك السلام على الفاسق وأهل المعاصي سنة، وهؤلاء أشر حالاً وعقيدة منهم. فأجاب: الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، كالمبتدعة، والمشركين. والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وإمام المتقين، وقائد الغر المحجلين، محمد وآله وصحبة والتابعين. أما بعد، فقد سألني من لا تسعني مخالفته، عن هذا السؤال المذكور أعلاه، بما عليه أهل التحقيق من أئمة الاسلام والهداة الأعلام، وما نعتقده في ذلك وندين الله به؟ فنقول: اعلم، وفقنا الله وإياك، لما يحب ويرضى، أنه لا يستقيم للعبد إسلام ولا دين، إلا بمعاداة أعداء الله ورسوله، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 437 وموالاة أولياء الله ورسوله، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْأِيمَانِ} [سورة التوبة آية: 23] ، وقال تعالى: {الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً} [سورة النساء آية: 139] ، وقال تعالى: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} الآية [سورة المجادلة آية: 22] . وقال تعالى: {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} [سورة هود آية: 113] ، قال ابن عباس، رضي الله عنهما: "لا تميلوا إليهم في المودة ولين الكلام"، وقال أبو العالية: "لا ترضوا بأعمالهم"، وقال بعض العلماء: من مشى إليهم ولم ينكر عليهم، عد من الراكنين إليهم. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} [سورة الممتحنة آية: 1] ، وقال تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [سورة الممتحنة آية: 4] . فالواجب على من أحب نجاة نفسه وسلامة دينه، أن يعادي من أمره الله ورسوله بعداوته، ولو كان أقرب قريب، فإن الإيمان لا يستقيم إلا بذلك والقيام به، لأنه من أهم الجزء: 8 ¦ الصفحة: 438 المهمات، وآكد الواجبات. إذا عرفت هذا، فمواكلة الرافضي، والانبساط معه، وتقديمه في المجالس، والسلام عليه، لا يجوز، لأنه موالاة وموادة، والله تعالى قد قطع الموالاة، بين المسلمين والمشركين، بقوله: {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ} [سورة آل عمران آية: 28] ، وقال تعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ} [سورة النساء آية: 140] . والآيات في المعنى كثيرة كما تقدم. والسلام تحية أهل الإسلام بينهم، فإذا سلم على الرافضة، وأهل البدع، والمجاهرين بالمعاصي، وتلقاهم بالإكرام والبشاشة، وألان لهم الكلام، كان ذلك موالاة منه لهم. فإذا وادهم، وانبسط لهم، مع ما تقدم، جمع الشر كله، ويزول ما في قلبه من العداوة والبغضاء، لأن إفشاء السلام سبب لجلب المحبة، كما ورد في الحديث: " ألا أدلكم على ما تحابون به؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: أفشوا السلام بينكم ". فإذا سلم على الرافضة والمبتدعين، وفساق المسلمين، خلصت مودته ومحبته، في حق أعداء الله وأعداء رسوله. وعن قتادة عن الحسن: "ليس بينك وبين الفاسق حرمة". الجزء: 8 ¦ الصفحة: 439 وقال الحسن: "لا تجالس صاحب بدعة، فإنه يمرض قلبك"، وقال النخعي: "لا تجالسوا أهل البدع، ولا تكلموهم، فإني أخاف أن ترتد قلوبكم". فانظر، رحمك الله، إلى كلام السلف الصالح، وتحذيرهم عن مجالسة أهل البدع، والإصغاء إليهم، وتشديدهم في ذلك، ومنعهم من السلام عليهم. فكيف بالرافضة، الذين أخرجهم أهل السنة والجماعة، من الثنتين والسبعين فرقة؟ مع ما هم عليه من الشرك البواح، من دعوة غير الله في الشدة والرخاء، كما هو معلوم من حالهم؛ ومواكلتهم، والسلام عليهم - والحالة هذه - من أعظم المنكرات، وأقبح السيئات، فيجب هجرهم والبعد عنهم. والهجر مشروع لإقامة الدين، وقمع المبطلين، وإظهار شرائع المرسلين، وردع لمن خالف طريقتهم من المعتدين. قال البخاري، رحمه الله تعالى، في صحيحه: باب من لم يسلم على من ارتكب ذنباً، ولم يرد سلامه، حتى تبين توبته، وإلى متى تبين توبة العاصي، قال ابن حجر في الفتح: وابتداء الكفار بالسلام، أجازه طائفة من العلماء، ومنعه طائفة، قال: والحق مع المانعين، إلا أن يترتب عليه مصلحة دينية. وكذلك أهل البدع والمعاصي المجاهرين بها، يمنع من ابتدائهم بالسلام، والرد عليهم; قال المهلب: ترك السلام على أهل المعاصي والبدع، سنة ماضية، وبه قال كثير الجزء: 8 ¦ الصفحة: 440 من أهل العلم. وقال النووي: وأما المبتدع، ومن اقترف ذنباً عظيماً ولم يتب منه، لا يسلم عليهم، ولا يرد عليهم السلام، كما قاله جماعة من أهل العلم. واحتج البخاري بقصة كعب. انتهى. فانظر، يا طالب الحق، إلى ما قاله البخاري واستدل به، وإلى قول صاحب الفتح: والحق مع من منع، وإلى قول المهلب، والنووي، ووازن بين أقوالهم، وبين قول من أجازه وأباحه، وجادل عليه، تعرف أنه لا بصيرة له، ولا معرفة له بأصول الشرع، وأقوال العلماء. وأما قول صاحب الفتح: إلا أن يترتب عليه مصلحة دينية، فالمصلحة هي أن يرجى بها إسلام غيره، أو تأليفه أو غير ذلك، وأما المصالح الدنيوية، فلا تترتب عليها الأمور الشرعية، ولا تناط بها أحكامها، ولا تجعل سلماً وذريعة إلى الجمع بين ما فرق الله ورسوله بينهما. وقال البغوي رحمه الله في كتاب السنة: وأما هجر أهل المعاصي، وأهل الريب والبدع في الدين، فيشرع إلى أن تزول الريبة عن حالهم، وتظهر علامات توبتهم، وأماراتها. وقال ابن القيم، رحمه الله تعالى، في الهدي النبوي: وفي نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن السلام على هؤلاء الثلاثة، يعني: كعباً الجزء: 8 ¦ الصفحة: 441 وصاحبيه، من بين من تخلف عنه، دليل على صدقهم، وكذب المنافقين؛ فأراد هجر الصادقين، وتأديبهم، على هذا الذنب - إلى أن قال - وفيه دليل أيضاً: على هجران الإمام، والعالم، والمطاع، لمن فعل ما يستوجب العتب، ويكون هجرانه دواء له - إلى أن قال - وفي إشارة الناس للنبطي، الذي يقول: من يدل على كعب بن مالك؟ دون نطقهم له، تحقيق لمقصود الهجر، وإلا لو قالوا له صريحاً: كعب بن مالك، لم يكن ذلك سلاماً، ولا يكونون به مخالفين للنهي، لكن لفرط تحريهم، وتمسكهم بالأمر، إذ لم يذكروه بصريح اسمه. وقد يقال: إن في الحديث عنه بحضرته وهو يسمع، نوع مكالمة، لا سيما إذا جعل ذلك ذريعة إلى المقصود بالسلام، وهي ذريعة قريبة، فالمنع من ذلك من باب منع الحيل وسد الذرائع؛ وهذا أحسن وأفقه. انتهى كلامه، رحمه الله تعالى. فانظر إلى قوله: وقد يقال إن في الحديث عنه بحضرته، وهو يسمع، نوع مكالمة ... إلخ، فإذا كان في ذكره باسمه نوع مكالمة، فكيف بمن ابتدأ المشرك والعاصي والمبتدع بالسلام، وأظهر له الإكرام، وأكثر عنه الجدال والخصام. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله، وقد سئل عن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 442 الهجر المشروع، ومن يجب هجره أو يجوز هجره، قال في أثناء كلامه: ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يتألف أقواماً، ويهجر آخرين، وقد يكون المؤلفة قلوبهم أشر حالاً من المهجورين، كما أن الثلاثة الذين خلفوا كانوا خيراً من المؤلفة قلوبهم، لكن أولئك كانوا سادة مطاعين في عشائرهم، وكانت المصلحة الدينية في تأليفهم، وهؤلاء كانوا مؤمنين، وفي هجرهم عز للدين، وتطهير لهم من ذنوبهم. انتهى كلامه، رحمه الله. فانظر، أيها المنصف، بعين الإنصاف، واحذر التعصب والاعتساف، إلى ما قاله شيخ الإسلام من أن في هجرهم عزاً للدين، هذا إذا كانوا مسلمين، لكنهم أصحاب معاص واقتراف لبعض الأوزار، فيجب هجرهم واعتزالهم حتى يقلعوا; وأما المشرك والمبتدع، فلا نزاع في هجرهما، ولا خلاف فيه إلا عند من قل حظه ونصيبه من العلم الموروث عن صفوة الرسل، صلوات الله وسلامه عليه. وقال أيضاً، رحمه الله: ومن كان مبتدعاً ظاهر البدعة، وجب الإنكار عليه؛ ومن الإنكار المشروع: أن يهجر حتى يتوب; ومن الهجر: امتناع أهل الدين من الصلاة عليه، لينزجر من يتشبه بطريقته ويدعو إليها. وقد أمر بمثل هذا مالك بن أنس، وأحمد بن حنبل، وغيرهما من الأئمة. انتهى. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 443 وقال البخاري، رحمه الله، في الأدب المفرد: باب لا يسلَّم على الفاسق، وذكر بسنده عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه: "لا تسلِّموا على شرّاب الخمر"، وذكر بسنده أيضاً عن قتادة عن الحسن: "ليس بينك وبين الفاسق حرمة"، وذكر: "عن أبي رزيق أنه سمع علي بن عبد الله بن عباس ينهى عن الشطرنج، ويقول: لا تسلِّموا على من لعب بها، وهي من الميسر". ثم قال بعد ذلك: باب ترك السلام على المتخلق - يعني بالطيب - وأصحاب المعاصي، وذكر بسنده عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: "مر النبي صلى الله عليه وسلم على قوم فيهم رجل متخلّق بخلوق، فنظر إليهم وسلّم عليهم، وأعرض عن الرجل. فقال الرجل: أعرضت عني يا رسول الله؟ قال: بين عينيك جمرة من النار ". وذكر بسنده عن عبد الله بن وائل السهمي، عن أبيه عن جده: "أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم وفي يده خاتم من ذهب، فأعرض عنه. فلما رأى الرجل كراهيته للذهب ذهب فألقاه، وأخذ خاتماً من حديد فلبسه، وأتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: هذا شر، هذا حلية أهل النار. فرجع فطرحه، ولبس خاتماً من ورق، فسكت عنه النبي صلى الله عليه وسلم"، وذكر بسنده عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: "أقبل رجل من البحرين على النبي صلى الله عليه وسلم، فسلم عليه، فلم يرد عليه الجزء: 8 ¦ الصفحة: 444 السلام، وفي يده خاتم من ذهب، وعليه جبة من حرير. فانطلق الرجل محزوناً، فشكا إلى امرأته، فقالت: لعل برسول الله جبتك وخاتمك، فألقهما ثم اغد عليه. ففعل، فرد عليه السلام، وقال: جئتك وأعرضت عني. قال: كان في يدك جمر من النار ". ثم قال بعد ذلك: باب إذا سلم على نصراني ولم يعرفه، قال: "مر ابن عمر، رضي الله عنهما، بنصراني فسلم عليه، فرد عليه. فأخبر أنه نصراني، فرجع فقال: رد علي سلامي"، ثم قال: باب يضطر أهل الكتاب في الطريق إلى أضيقه، وذكر بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا لقيتم المشركين فلا تبدؤوهم بالسلام، واضطروهم في الطريق إلى أضيقه ا" 1. انتهى. فتأمل، رحمك الله، ما ذكره هذا الإمام، من الأحاديث والآثار الدالة على وجوب هجر أهل المعاصي، وأن ذلك هو هديه وسنته، فمن أعرض عنهما، ونبذهما وراء ظهره، فقد خاب سعيه وضل عمله؛ فلا نجاة للخلق ولا سعادة، ولا كفاية ولا هداية، إلا باتباع محمد صلى الله عليه وسلم واتباع ما جاء به، ورفض ما خالفه، وهجر من نكب عن سنته، وإن كان الحبيب المواتيا. {فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ} [سورة غافر آية: 12] . وفي كتاب محمد بن وضاح، قال: قال أسد بن موسى: جاء في الأثر: من جالس صاحب بدعة نُزعت منه   1 مسلم: السلام (2167) , والترمذي: السير (1602) والاستئذان والآداب (2700) , وأبو داود: الأدب (5205) , وأحمد (2/525) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 445 العصمة، ووُكل إلى نفسه. وفي أثر آخر: من جالس صاحب بدعة، فقد أعان على هدم الإسلام. وقال الأوزاعي: "كانت أسلافكم تشتد ألسنتهم على أهل البدع، وتشمئز منهم قلوبهم، ويحذرون الناس بدعتهم". وعن الحسن: "لا تجالس صاحب بدعة، فإنه يمرض قلبك"، وقال إبراهيم النخعي: "لا تجالسوا أهل البدع، ولا تكلموهم؛ فإني أخاف أن ترتد قلوبكم". روى هذه الآثار ابن وضاح. قال إمام الدعوة الإسلامية، وناصر الملة الحنيفية، شيخ الإسلام والمسلمين، شيخنا: الشيخ محمد بن عبد الوهاب، قدس الله روحه، ونور ضريحه، وطيب ثراه، وجعل الجنة منقلبه ومأواه: فإذا كان هذا كلام السلف في أهل البدع والضلال، والتحذير عن مجالستهم، مع كون بعضهم لم يخرج ببدعته عن الإسلام، فكيف الحال بمجالسة أهل الكفر، والشرك والنفاق، الذين باينوا أهل الإسلام، وخالفوهم؟ انتهى. فمن أكرم مَن تلك نحلته، وتلك طريقته، كان دليلاً على عدم فقهه وبصيرته في دين الإسلام، وعدم فرقه بين عابدي الرحمن وعابدي الأوثان، والضدان عنده يجتمعان; فلضعف بصيرته نهج هذا المنهج، وأعرض عن الحق بعد ما اتضح وابلولج، فيخشى عليه أن يحشر يوم القيامة معهم، ويكون من جملتهم، كما كان في الدنيا من أصدقائهم الجزء: 8 ¦ الصفحة: 446 ومعاشريهم؛ عياذاً بك اللهم من تلك الأحوال والأعمال، التي تؤول بصاحبها إلى الخزي والوبال، وسوء المنقلب في الحال والمآل. وأكثر الخلق إنما يحمله على الوقوع في تلك الورطات، الحرص على تحصيل الدنيا، والتقرب عند أهلها، وتسليك حاله معهم، ولو فسد عليه دينه، وانهدم إيمانه. نسأل الله العفو والعافية، في الدنيا والآخرة; اللهم يا مقلب القلوب، ثبت قلوبنا على دينك. وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "أوحى الله إلى نبي من الأنبياء، أن قل لفلان العابد: أما زهدك في الدنيا فتعجلت به راحة نفسك، وأما انقطاعك إلي فتعززت به، فماذا عملت في ما لي عليك؟ قال: يا رب، فما لك عليّ؟ قال: هل واليت لي ولياً، أو عاديت لي عدواً؟ ". وقد قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} [سورة الأنفال آية: 73] ، قال بعض العلماء الفضلاء: الفتنة في الأرض: الشرك، والفساد الكبير: اختلاط المسلم بالكافر، والمطيع بالعاصي؛ فعند ذلك يختل نظام الإسلام، وتضمحل حقيقية التوحيد، ويحصل من الشر ما الله به عليم. فلا يستقيم الإسلام، ويقوم قائم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويرتفع علم الجهاد، إلا بالحب في الله الجزء: 8 ¦ الصفحة: 447 والبغض فيه، وموالاة أوليائه، ومعاداة أعدائه؛ والآيات الدالة على ذلك، أكثر من أن تحصر. وأما الأحاديث، فأشهر من أن تذكر، فمنها: حديث البراء بن عازب رضي الله عنه مرفوعاً: "أوثق عرى الإيمان: الحب في الله، والبغض فيه"، وعن أبي ذر رضي الله عنه: "أفضل الإيمان: الحب في الله، والبغض فيه"، وفي حديث مرفوع: "اللهم لا تجعل لفاجر عندي يداً ولا نعمة فيودّه قلبي؛ فإني وجدت فيما أوحيته إلي: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [سورة المجادلة آية: 22] ". وفي الصحيحين، عن ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعاً: " المرء مع من أحب " 1، وقال صلى الله عليه وسلم: " المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل " 2. وعن أبي مسعود البدري رضي الله عنه مرفوعاً: " لا تصاحب إلا مؤمناً، ولا يأكل طعامك إلا تقي " 3. وعن علي رضي الله عنه مرفوعاً: " لا يحب رجل قوماً إلا حُشر معهم " 4، وقال صلى الله عليه وسلم: " تقربوا إلى الله ببغض أهل المعاصي، والقوهم بوجوه مكفهرة، والتمسوا رضى الله بسخطهم، وتقربوا إلى الله بالتباعد منهم "، وقال عيسى عليه السلام: "تحببوا إلى الله ببغض أهل المعاصي، وتقربوا إلى الله بالبعد عنهم، واطلبوا رضى الله بسخطهم". وعن ابن عباس، رضي الله عنهما، قال: "من أحب   1 البخاري: الأدب (6168) , ومسلم: البر والصلة والآداب (2641) , وأحمد (1/392, 4/405) . 2 الترمذي: الزهد (2378) , وأبو داود: الأدب (4833) , وأحمد (2/303, 2/334) . 3 الترمذي: الزهد (2395) , وأبو داود: الأدب (4832) , وأحمد (3/38) . 4 أحمد (6/160) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 448 في الله، وأبغض في الله، ووالى في الله، وعادى في الله، فإنما تنال ولاية الله بذلك. ولن يجد عبد طعم الإيمان، ولو كثرت صلاته وصومه، حتى يكون كذلك"؛ يعني: حتى تكون محبته وموالاته لله، وبغضه ومعاداته لله. قال رضي الله عنه: "وقد صارت عامة مواخاة الناس على أمر الدنيا؛ وذلك لا يجدي على أهله شيئاً". فإذا كان هذا كلام ابن عباس، وهو في خير القرون، فما زاد الأمر بعده إلا شدة، وبعداً عن الخير، كما قال صلى الله عليه وسلم: " لا يأتي على الناس زمان، إلا والذي بعده شر منه "؛ بل كانت موالاة الناس اليوم، ومحبتهم، ومعاشرتهم، على الكفر والشرك والمعاصي. فليحذر العبد كل الحذر من الانهماك مع أعداء الله، والانبساط معهم، وعدم الغلظة عليهم، أو أن يتخذهم بطناء وأصحاب ولايات، ويستنصح منهم؛ فإن ذلك موجب لسخط الله ومقته. قال القرطبي، رحمه الله، في تفسيره عند قوله تعالى: {لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ} [سورة آل عمران آية: 118] : نهى الله عباده المؤمنين، أن يتخذوا من الكفار واليهود، وأهل الأهواء والبدع، أصحاباً وأصدقاء، يفوضوا لهم في الرأي، ويسندون إليهم أمورهم. وعن الربيع: {لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً} : لا تستدخلوا المنافقين، ولا تتولوهم من دون المؤمنين; ويقال: كل من كان على خلاف مذهبك، لا ينبغي لك أن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 449 تخادنه وتعاشره وتركن إليه. [حكم الرافضة] وأما حكم الرافضة - فيما تقدم -، فقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله، في الصارم المسلول: ومن سب الصحابة أو أحداً منهم، واقترن بسبه أن جبرئيل غلط في الرسالة، فلا شك في كفره، بل لا شك في كفر من توقف في كفره. ومن قذف عائشة فيما برأها الله منه، كفر بلا خلاف - إلى أن قال - وأما من لعن أو قبح، يعني: الصحابة، رضي الله عنهم، ففيه الخلاف: هل يفسق أو يكفر؟ وتوقف أحمد في تكفيره، وقال: يعاقب ويجلد ويحبس، حتى يموت أو يتوب. قال، رحمه الله: وأما من زعم أن الصحابة ارتدوا بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم إلا نفراً قليلاً لا يبلغون بضعة عشر، وأنهم فسقوا، فلا ريب أيضاً في كفر قائل ذلك، بل لا ريب في كفر من لم يكفّره. انتهى كلامه، رحمه الله. فهذا حكم الرافضة في الأصل، وأما الآن، فحالهم أقبح وأشنع، لأنهم أضافوا إلى ذلك: الغلو في الأولياء، والصالحين من أهل البيت وغيرهم، واعتقدوا فيهم النفع والضر، في الشدة والرخاء، ويرون أن ذلك قربة تقربهم إلى الله، ودين يدينون به؛ فمن توقف في كفرهم والحالة هذه، وارتاب فيه، فهو جاهل بحقيقة ما جاءت به الرسل، ونزلت به الكتب، فليراجع دينه قبل حلول رمسه. ومن تأمل القرآن، والسنة، وكلام محققي سلف الجزء: 8 ¦ الصفحة: 450 الأمة، علم يقيناً أن أكثر الخلق إلا من شاء الله، قد أعرضوا عن واضح المحجة، وسلكوا طريق الباطل ونهجه، وجعلوا مصاحبة عباد القبور، وأهل البدع والفجور، ديناً يدينون به، وخلقاً حسناً يتخلقون به، ويقولون: فلان له عقل معيشي، يعيش به مع الناس، ومن كانت له غيرة، ولو قلّت، فهو عندهم مرفوض ومنبوذ، كالأحلاس؛ فما أعظمها من بلية! وما أصعبها من رزية! وأما حقيقة دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم، وما جاء به من الهدى والنور، فعزيز والله من يعرفها أو يدريها؛ والعارف لها من الناس اليوم، كالشعرة البيضاء في الجلد الأسود، وكالكبريت الأحمر. أين العنقاء لتطلب؟ وأين السمندل ليجلب؟ لم يبق إلا رسوم قد درست، وأعلام قد عفت، وسفت عليها عواصف الهوى، وطمستها محبة الدنيا، والحظوظ النفسانية. فمن فتح الله عين بصيرته، ورزقه معرفة للحق وتميزاً له، فلينج بنفسه، وليشح بدينه، ويتباعد عمن نكب عن الصراط المستقيم، وآثر عليه موالاة أهل الجحيم، نسأل الله السلامة والعافية. وأما مجرد السلام على الرافضة، ومصاحبتهم ومعاشرتهم، مع اعتقاد كفرهم وضلالهم، فخطر عظيم، وذنب وخيم، يخاف على مرتكبه من موت قلبه وانتكاسه; وفي الأثر: إن من الذنوب ذنوباً عقوبتها موت القلوب، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 451 وزوال الإيمان، فلا يجادل في جوازه إلا مغرور بنفسه، مستعبد لفلسه، فمثل هذا يقابل بالهجر، وعدم الخوض معه في هذه المباحث التي لا يدريها إلا من تربى بين يدي أهل هذه الدعوة الإسلامية، والطريقة المحمدية، وتلقى عنهم أصول دينه، لأن ضدهم لا يؤمن أن يلقي عليك شيئاً من الشُّبه الفاسدة، التي تشكك في الدين، وتوجب لك الحيرة. وما أحسن ما قيل: إن هذا العلم دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم. وأما قول المنازع: إن أخذت فقد أخذ الصالحون، وإن رددت فقد رد الصالحون، فهذا معاكسة وتصحيف؛ ليس الشأن في أخذ الهدية أو ردها، إنما الشأن والنزاع في ابتداء الكفار، والمبتدعين، والعصاة، بالسلام، وعدم النفرة منهم. ولا يستدل بهذا على جواز السلام والمواكلة، إلا من هو جاهل بالأحكام الشرعية، والسيرة النبوية. وسيرته صلى الله عليه وسلم وسيرة خلفائه، وأصحابه من بعده، ومن سلك منهاجهم من الصفوة، يخالف ما استدل به. وقبول الهدية نوع، والسلام نوع آخر: أما الهدية فقد قبلها صلى الله عليه وسلم وقبلها أصحابه، والسلف الصالح من بعدهم، ولا ينكر على من قبل، ولا على من رد، ولو كانت الهدية من مشرك. وأما ترك السلام والهجر، فالرسول صلى الله عليه وسلم هجر مرتكب الذنب ولم يرد عليه؛، وكذلك في مكاتباته للمشركين، لا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 452 يبدؤهم بالسلام، كما يعرف ذلك من له خبرة بسيرته وهديه، كما مر في الأحاديث الصحيحة الصريحة، التي لا تحتمل التأويل. وأما الوفود والرسل، فكانوا يفدون عليه صلى الله عليه وسلم ويعطيهم الجوائز، ويخاطبهم باللين، ويدعوهم بدعاية الإسلام، وهم على كفرهم؛ فلا يستدل بذلك على جواز السلام على المشركين والمبتدعين، ومن يتولاهم من فساق المسلمين، إلا من هو من أجهل الخلق بأصول الشريعة. وأما شيخه الذي يدعي أنه على طريقته، فالمعروف عندنا من أخلاقه وسيرته: الغيرة، والغلظة، والشدة على أعداء الله، وأعداء رسوله، والتحذير منهم، ومن موالاتهم. وأما أنت، أيها المنازع، فالواجب عليك: تقوى الله تعالى، وموالاة أوليائه، ومعاداة أعدائه، والاقتداء بالسلف الصالح، والاهتداء بهديهم، وعدم الانبساط مع من هب ودب، لأن الواجب على المنتسب للطلب، والمتزيي بزي أهل العلم، أعظم مما يجب على غيره؛ فليكن لك بصيرة ونهمة بمعرفة أصل الأصول، وزبدة دعوة الرسول، والبحث عما يضاد هذا الأصل وينقضه، أو ينقص كماله الواجب، والوقوف عند أوامر الرب ونواهيه، والبعد عن الرذائل والقبائح، فالحق مرحمة، والجدال والخصام ملحمة. فهذا آخر ما تيسر إيراده، وفيه الكفاية لمن أراد الله هدايته. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 453 وأسأل الله لنا ولإخواننا المسلمين، التوفيق للهداية، والبعد عن أسباب الجهالة والغواية، والثبات على الإسلام والسنة، وأن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا; ونعوذ به من مضلات الفتن، ما ظهر منها وما بطن؛ والله المسؤول المرجو الإجابة، أن ينصر دينه وكتابه ورسوله، وعباده المؤمنين، وأن يظهره على الدين كله ولو كره المشركون. والله يقول الحق وهو يهدي السبيل، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. [الخروج من دار الهجرة بعد النزول فيها لأجل إصلاح المال] وسئل أيضاً: عن الخارج من دار هجرته بعد ما نزل لأجل تصليح ماله، ونيته الرجوع إلى بلده، هل يكون عاصياً أم لا؟ فأجاب: هذا الخارج لا يطلق عليه أنه عاص لله، ولا يدخل في حكم الوعيد المرتب على من تعرب بعد الهجرة، بل يحب ويوالى، لأن خروجه ليس معصية؛ فيعامل بما يعامل به من لم يخرج من بلده، لأنه من جملة المهاجرين، وليس له نية إلا الرجوع إلى وطنه، والهجرة مع إخوانه، فلا يحكم عليه بردة، بل ولا بمعصية. الثانية: ما حكم من باع بيته وخرج إلى البادية، وليس من نيته الرجوع والسكنى، وهو ثابت على ما هو عليه من الإسلام، والتزام شرائعه، ومحبة المسلمين؟ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 454 فالجواب: أن هذا يكون مرتكباً معصية، ومتعرباً بعد هجرته، وهو داخل في حكم الحديث الذي رواه ابن أبي حاتم، عن علي رضي الله عنه لما عد الكبائر، قال: "التعرب بعد الهجرة، وفراق الجماعة" يعني: جماعة المسلمين، "ونكث الصفقة" يعني: نكث بيعة الإمام؛ فجعل التعرب بعد الهجرة من الكبائر، ولكن لا يكون خروجه وتعربه كفراً ولا ردة، بل هو مسلم عاص، يوالى ويحب، على ما معه من الإيمان، ويبغض على ما معه من المعصية، ولا يعامل بالتعنيف، لأنه بتعربه بعد هجرته لا يدخل في حكم المرتدين، ولا يعامل بما يعامل به المرتد. [الهجرة من بين ظهراني المشركين وفضلها] وسئل: عما يقال في الهجرة من بين ظهراني المشركين، من البادية والحاضرة، وفضلها؟ وما الواجب منها؟ وما المستحب؟ وهل بين بادية نجد وغيرهم، كعنزة والظفير ومن والاهم من بادية الشمال والجنوب، إلى ما لا يخفى على المسؤول؟ فأجاب: الهجرة من واجبات الدين، ومن أفضل الأعمال الصالحة، وهي سبب لسلامة دين العبد، وحفظ لإيمانه. وهي أقسام: هجر المحرمات، التي حرمها الله في كتابه، وحرمها رسول الله صلى الله عليه وسلم على جميع المكلفين، وأخبر أن من هجرها فقد هجر ما حرمه الله عليه؛ وقد أخبر صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه: " المهاجر: من هجر ما نهى الله عنه " 1.   1 البخاري: الإيمان (10) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (4996) , وأبو داود: الجهاد (2481) , وأحمد (2/192, 2/205, 2/209, 2/212, 2/224) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 455 وهذا أمر مجمل شامل لجميع المحرمات، القولية والفعلية. القسم الثاني: الهجرة من كل بلدة تظهر فيها شعائر الشرك وأعلام الكفر، ويعلن فيها بالمحرمات، والمقيم فيها لا يقدر على إظهار دينه، والتصريح بالبراءة من المشركين وعداوتهم، ومع هذا يعتقد كفرهم، وبطلان ما هم عليه، لكن إنما جلس بين ظهرانيهم، شحاً بالمال والوطن، فهذا عاص، ومرتكب محرماً، وداخل في حكم الوعيد. قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً} [سورة النساء آية: 97-99] ، فلم يعذر الله إلا المستضعف، الذي لا يقدر على التخلص من أيدي المشركين، ولو قدر ما عرف سلوك الطريق وهدايته، إلى غير ذلك من الأعذار. وقال صلى الله عليه وسلم: " من جامع المشرك أو سكن معه، فإنه مثله " 1. فلا يقال: إنه بمجرد المجامعة والمساكنة يكون كافراً، بل المراد أن من عجز عن الخروج من بين ظهراني المشركين، وأخرجوه معهم كرهاً، فحكمه حكمهم في القتل، وأخذ   1 أبو داود: الجهاد (2787) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 456 المال، لا في الكفر؛ وأما إن خرج معهم لقتال المسلمين طوعاً واختياراً، أو أعانهم ببدنه وماله، فلا شك أن حكمه حكمهم في الكفر. ومن الهجر الواجب أيضاً: الهجرة من بين ظهراني الأعراب المتظاهرين بالكفر والشرك، وارتكاب بعض المحرمات، وهو عاجز عن إظهار دينه، ولا قدرة له على الإنكار عليهم؛ فهذا هجرته فرض إذا قدر عليها، فإن تركها مع قدرته واستطاعته، فحكمه حكم من هو في بلدان المشركين المتقدم ذكرهم; فهؤلاء يعادَوْن ويبغَضون، على ما معهم من المعصية، ويحبون ويوالون على ما معهم من أصل الإسلام. وهجر هؤلاء ومن تقدم ذكرهم، إذا كان فيه مصلحة راجحة، وردع لهم وزجر لأمثالهم، ولم يترتب عليه مفسدة، فهو مشروع. والمسافر إليهم مرتكب أيضاً حراماً، فيهجر بقدر ذنبه. قال علماؤنا: المقيم بين ظهراني المشركين، والمسافر إليهم لأجل التجارة، مشتركون في التحريم، متفاوتون في العقوبة؛ فعقوبة المقيم أعظم من عقوبة المسافر، وهجر المقيم أغلظ من هجر المسافر، فيعامَلون بالهجر والمعاداة والموالاة، بحسب ما تقتضيه المصلحة الشرعية. وأما الهجرة المستحبة، وهي: الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام، إذا كان مظهراً لدينه، وقد أمن الفتنة على الجزء: 8 ¦ الصفحة: 457 نفسه ودينه، فهذا هجرته مستحبة; وكذلك من هو بين ظهراني بعض البوادي الملتزمين لشرائع الإسلام، المتجنبين لما حرمه الله عليهم، من سفك الدماء، ونهب الأموال، وغيرها، ولا يوجد عندهم من يجاهر بالمعاصي، فالهجرة حينئذ من بينهم مستحبة، وفيها فضل عظيم، وثواب جزيل، لتعلّم الخير وإقامة الجمعة، وغير ذلك من المصالح، التي يعرفها مَن نوّر الله وقلبه، ورزقه البصيرة. وليعلم: أن المؤمن تجب موالاته ومحبته على ما معه من الإيمان، ويبغض ويعادى على ما معه من المعاصي، وهجره مشروع إن كان فيه مصلحة، وزجر وردع، وإلا فيعامل بالتأليف وعدم التنفير، والترغيب في الخير، برفق ولطف ولين، لأن الشريعة مبنية على جلب المصالح، ودرء المفاسد. والله ولي الهداية. وقال الشيخ سعد بن حمد بن عتيق: وأما الانتقال من بلاد الإسلام، إلى بلاد القبوريين، والتحيز إلى جماعة المشركين، وعدم المبالاة في ذلك، فمن المصائب العظام، والدواهي الكبار، التي وقع فيها كثير من الناس، وتساهلوا فيها واستصغروها؛ وخف شأنها عند كثير من الناس، الذين ضعفت بصائرهم في دين الإسلام، وقل نصيبهم من معرفة ما بعث الله به نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم وما كان عليه الصحابة، ومن تبعهم من الأئمة الأعلام. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 458 وما زال الأمر بالناس، حتى صار النهي عن ذلك، والكلام في ذمه، وذم من فعله من المستنكر عند الأكثر، وصاروا لا يرون بذلك بأساً، وينسبون من ينهى عنه وينكره على من فعله، إلى الغلو في الدين، والتشديد على المسلمين. وفي القرآن الكري، والسنة النبوية، ما يدل من في قلبه حياة، على المنع من ذلك؛ وكلام العلماء مرشد إلى ذلك، فإنهم صرحوا بالنهي عن إقامة المسلم بين أظهر المشركين، من غير إظهار دينه، قال تعالى: {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} الآية [سورة هود آية: 113] ، وقال: {تَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} إلى قوله: {وَلَكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [سورة المائدة آية: 80-81] وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} إلى قوله: {وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} [سورة النساء آية: 97-99] . قال ابن كثير في الكلام على هذه الآية: وهذه الآية عامة في كل من أقام بين أظهر المشركين، وهو قادر على الهجرة، وليس متمكناً من إقامة الدين؛ فهو مرتكب حراماً بالإجماع، ونص هذه الآية. والآيات في هذا المعنى كثيرة، يعرفها من قرأ القرآن وتدبره. وفي الأحاديث المأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل على ما دل عليه القرآن، مثل قوله صلى الله عليه وسلم: " من جامع المشرك وسكن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 459 معه، فإنه مثله " 1، وقوله صلى الله عليه وسلم: " ولا تستضيئوا بنار المشركين " 2، وحديث بهز بن حكيم: " أن تفر من شاهق إلى شاهق بدينك " 3. قال ابن كثير معناه: لا تقاربوهم في المنازل، بحيث تكونوا معهم في بلادهم، بل تباعدوهم، وتهاجروا من بلادهم، ولهذا روى أبو داود فقال: " لا تراءى ناراهما " 4، وفي قصة إسلام جرير، لما قال: يا رسول الله، بايعني واشترط، فقال: " أن تعبد الله ولا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتفارق المشركين " 5. وعن عبد الله بن عمرو، أنه قال: "من بنى بأرض المشركين، وصنع نيروزهم ومهرجانهم، وتشبه بهم حتى يموت، حُشر معهم يوم القيامة". وكلام العلماء في المنع من الإقامة عند المشركين، وتحريم مجامعتهم، ووجوب مباينتهم، كثير معروف، خصوصاً أئمة هذه الدعوة الإسلامية، كالشيخ محمد بن عبد الوهاب، وأولاده، وأولادهم، وأتباعهم من أهل العلم والدين؛ ففي كتبهم من ذلك ما يكفي ويشفي من {كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [سورة ق آية: 37] . فمن ذلك ما قال الشيخ عبد اللطيف، في بعض رسائله: إن الإقامة ببلد يعلو فيها الشرك والكفر، ويظهر فيها دين الإفرنج والروافض، ونحوهم من المعطلة للربوبية والألوهية، وترفع فيها شعائرهم، ويهدم الإسلام   1 أبو داود: الجهاد (2787) . 2 النسائي: الزينة (5209) , وأحمد (3/99) . 3 صحيح البخاري: كتاب الصوم (2007) وكتاب أخبار الآحاد (7265) , وصحيح مسلم: كتاب المساجد ومواضع الصلاة (641) وكتاب الصيام (1116) وكتاب الحج (1244) وكتاب الجهاد والسير (1784) , وسنن الترمذي: كتاب الصلاة (199, 312) وكتاب الصوم (761) وكتاب السير (1579) , وسنن النسائي: كتاب القسامة (4801, 4853) وكتاب الأشربة (5747) , وسنن أبي داود: كتاب الجهاد (2629) وكتاب الديات (4541) , وسنن ابن ماجة: كتاب الطهارة وسننها (278) وكتاب الديات (2630) وكتاب الفرائض (2746) وكتاب الفتن (4030) , ومسند أحمد (1/41, 1/278, 1/342, 2/176, 2/178, 2/217, 3/268, 4/48, 5/38, 5/231, 5/326) , وسنن الدارمي: كتاب المقدمة (649) وكتاب الديات (2352) . 4 الترمذي: السير (1604) , والنسائي: القسامة (4780) , وأبو داود: الجهاد (2645) . 5 البخاري: الزكاة (1396) , ومسلم: الإيمان (13) , والنسائي: الصلاة (468) , وأحمد (5/417, 5/418) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 460 والتوحيد، ويعطل التسبيح والتكبير والتحميد، وتقلع قواعد الملة والإيمان، ويحكم بينهم بحكم الإفرنج واليونان، ويشتم السابقون من أهل بدر وبيعة الرضوان، فالإقامة بين ظهرانيهم - والحالة هذه - لا تصدر عن قلب باشره حقيقة الإسلام والإيمان والدين، وعرف ما يجب من حق الله في الإسلام على المسلمين، بل لا يصدر عن قلب رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبياً؛ فإن الرضى بهذه الأصول الثلاثة، قطب رحى الدين، وعليه تدور حقائق العلم واليقين. وذلك يتضمن من محبة الله وإيثار مرضاته، والغيرة لدينه والانحياز إلى أوليائه، ما يوجب البراءة كل البراءة، والتباعد كل التباعد، عمن تلك نحلته، وذلك دينه؛ بل نفس الإيمان المطلق في الكتاب والسنة، لا يجامع هذه المنكرات. انتهى كلامه، رحمه الله 1. [الإقامة في بلدان المشركين من المنتسبين للإسلام] وأما السؤال: عن حكم المقيم في بلدان المشركين، من المنتسبين إلى الإسلام، فهذا الجنس من الناس مشتركون في فعل ما نهى الله عنه ورسوله، إلا من عذره القرآن، في قوله: {إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ} ؛ ثم هم مختلفون في المراتب، متفاوتون في الدرجات، بحسب أحوالهم، وما يحصل منهم من موالاة المشركين والركون إليهم، فإن   1 وتقدم في صفحة: 355. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 461 ذلك قد يكون كفراً، وقد يكون دونه، قال تعالى: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} [سورة الأنعام آية: 132] . وما ذكرت من إعراض الناس عما كان عليه الشيخ محمد بن عبد الوهاب في هذه المسائل، فالأمر فوق ما وصفت؛ وهذا غير مستنكر في هذا الزمان، الذي قل فيه العلم، وفشا فيه الجهل، وتزاحمت فيه الفتن، وقل فيه العمل بالسنة والكتاب، واشتدت فيه غربة الدين، ووقع ما أخبر به الصادق الأمين، وصار كثير من الناس لا يعرفون من دين الإسلام إلا ما اعتادوه وألفوه، إنا لله وإنا إليه راجعون. وهذا زمان الصبر من لك بالتي ... كقبض على جمر فتنجو من البلا ولو أن عيناً ساعدت فتأكفت ... سحائبها بالدمع ديما وهطّلا ولكنها لقسوة القلب أقحطت ... فيا ضيعة الأعمار تمشي سبهللا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 462 [وجوب الهجرة والمعاداة] وقال الشيخ سليمان بن سحمان، رحمه المنان: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد، فاعلم، وفقني الله وإياك، لسلوك الطريق الأقوم، أن الله سبحانه أوجب على العبد الهجرة من ديار المشركين، والبعد عنهم، وعدم مساكنتهم ومجامعتهم، وأوجب عليه معاداتهم، ومباداتهم بالعداوة والبغضاء، والتصريح لهم بذلك، كما قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي} [سورة الزخرف آية: 26-27] وقال تعالى: {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [سورة مريم آية: 48] ، وقال تعالى: {فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [سورة مريم آية: 49] . وقال تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [سورة الممتحنة آية: 4] ، فهذه هي ملة إبراهيم، التي قال الله فيها {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} [سورة البقرة آية: 130] . فعلى المسلم أن يعادي الجزء: 8 ¦ الصفحة: 463 أعداء الله، ويظهر عداوتهم، ويتباعد عنهم كل التباعد، وأن لا يواليهم، ولا يعاشرهم، ولا يخالطهم؛ وكيف يسوغ عند من نصح نفسه، وكان لها عنده قدر وقيمة، جواز الإقامة والسفر إلى بلاد المشركين من هذه الأمصار، التي قد شاع وذاع، وتقطعت به الأسماع، أنهم يقصدون قبور الصالحين، وكذلك المجاذيب وغيرهم؟ ويجتمعون في الموالد المخترعة المبتدعة، كمولد أحمد البدوي، وإبراهيم الدسوقي، والرفاعي، والست زينب، والست نفيسة، وعبد القادر، والكاظم، وحمزة، وغيرهم، فيتضرعون عندها، ويخشعون ويخضعون، ويعبدون بقلوبهم عبادة لا يفعلونها في بيوت الله، ولا وقت الأسحار. ومنهم: من يسجد لها، فهم يعبدون أصحابها بدعائهم، ورجائهم، والاستغاثة بهم، وسؤالهم النصرة والرزق والعافية، وقضاء الديون، وتفريج الكربات، وإغاثة اللهفات، وبذل النذور لجلب ما أملوه، ودفع الشرور، مع اتخاذ قبورهم أعياداً، والصلاة إليها، والطواف بها، وتقبيلها واستلامها، وتعفير الخدود على ترباتها، وغير ذلك من أنواع العبادات والطلبات، التي كان عليها عباد الأوثان، يسألون أوثانهم ليشفعوا لهم عند مليكهم. وهؤلاء المشركون إذا رأوا قبته من مكان بعيد، نزلوا عن الدواب، واستقبلوا بدعائهم والنحيب، ووضعوا لها الجزء: 8 ¦ الصفحة: 464 الجباه، وقبلوا الأرض، وكشفوا الرؤوس، وارتفعت الأصوات بالضجيج، ورأوا أنهم قد أربوا في الربح على الحجيج، فاستغاثوا بمن لا يبدي ولا يعيد، ونادوه، ولكن من مكان بعيد، حتى إذا وصلوا إليه، صلوا عند القبر ركعتين، ورأوا أنهم قد حازوا من الأجر كمن صلى القبلتين. فهم حول القبر ركعاً وسجداً، يبتغون فضلاً من الميت ورضواناً، وقد ملؤوا أكفهم خيبة وخسراناً؛ فللشيطان ما يراق هناك من العبرات، ويرفع بالدعاء من الأصوات، ويطلب من الميت أنواع الحاجات، ويسأل منه تفريج الكربات، وإغناء ذوي الفاقات ومعافاة أولي العاهات والبليات. ثم انبثوا بعد ذلك حول القبر طائفين، تشبيهاً له بالبيت الحرام الذي جعله الله مباركاً وهدى للعالمين، ثم أخذوا في التقبيل والاستلام، كأنه الحجر الأسود، وما يفعل به وفد بيت الله الحرام، ثم عفروا عنده تلك الجباه والخدود، التي يعلم الله أنها لم تعفر كذلك بين يديه في السجود، واستمتعوا بخلاقهم من ذلك القبر، فلم يكن لهم عند الله من خلاق، وقربوا لذلك القرابين، فكانت صلاتهم ونسكهم، وقربانهم لغير رب العالمين. وقد آل الأمر إلى فعل أنواع المنكرات، من بذل الفروج ثلاثة أيام من كل سنة، في مولد أحمد البدوي، ومشهده الذي في طنطا؛ وقد حدثني بذلك شفاهاً، من شاهد الجزء: 8 ¦ الصفحة: 465 ذلك، يخرجن إليه الغواني، جاعلين ذلك في صحائفه، ولينالوا من بركته، وأنهم محسوبون عليه، زيادة على فعلهم عند قبر الست نفيسة، ومشهد الحسين؛ هذا والعلماء حاضرون، والعباد شاهدون، والمردان مع الفجار المدعين الولاية والمتزينين بها مجتمعون، وفي فراش واحد بلا حائل ليلاً ينامون، وفي النهار معهم مختلون، ويدعون أنهم لهم يربون. والعلماء والحالة هذه لا ينكرون، والعباد لله لا يغارون، مع أنهم متمكنون من العبادة، ولأجلها يعظمون، ويعزرون ويوقرون، وليس أحد من الكفار لهم عن فعل العباد مانعاً، ولا عن إظهارها جهاراً دافعاً، لكنهم لهذه الأفعال لا ينكرون، ولا الحق يقولون، بل كلا الفريقين يصنفون الكتب في ذلك، ويعتذرون عنه بأجوبة ليست صواباً، ولا سديدة، بل هي عن الحق بعيدة. منها قولهم: تنبيه: اعلم أنه قد يعترض بعض الناس على أحمد البدوي، وعلى هؤلاء المجتمعين عنده في حضرة ضريحه، ويقولون: إذا كان له هذا المولد العظيم، والتصرف التام النافذ بعد الممات، فكيف لا يتصرف في دفع أصحاب المعاصي عند حضور مولده؟! والجواب عن ذلك من أوجه: أحدها: أنه في عناية من ربه، فكل من حضر مولده من أهل العصيان، وافق نزول الرحمة والغفران، فغفر له بسببه، وتيب عليه ولو بعد حين الجزء: 8 ¦ الصفحة: 466 من الزمان. الثاني: أن الغالب على حاله البسط، وجاهه عريض يسع الخلق، ولو وافقه جميع فساق أهل الأرض كذلك، كان مغفوراً لهم بسببه. الثالث: أنه قد خرج إلى مقام لا تكليف فيه، وهؤلاء العاملون عملهم لهم وعليهم. انتهى ما ذكره هذا المجيب عن عباد القبور، وأهل الفواحش والفجور. فأي ملة - صان الله ملة الإسلام - لا تمانع هذه الكفريات ولا تدافعها؟ فإن كان الخير عند هؤلاء ومساكنتهم، ومجامعتهم والسفر إلى أوطانهم مباح، والحالة هذه، فما أرى من يرى ذلك شم رائحة الإيمان، والغيرة لله ورسوله ودينه، ولا عرف ما يجب لله في الإسلام على المسلمين، ولا ما هو الشرك المنافي لتوحيد رب العالمين. وقد نقل إلينا عن بعض من ينتسب إلى طلب العلم، أنه يبيح السفر مطلقاً إلى مَن هذا دينه، وهذه نحلته، وهذه حال بلده، مستدلاً بسفر أبي بكر رضي الله عنه إلى بصرى، في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر عليه سفره، وأن أبا بكر رضي الله عنه لم يكن يظهر دينه؛ وليس هذا الجهل بغريب ممن لم يعرف كفر هؤلاء، وأن أبا جهل وأشياعه ما وصل كفرهم إلى ساحل هذا الكفر العظيم، ولا عرف أن بلادهم بلاد كفر والحالة هذه. ولكن الذي يعلم به من نصح نفسه، وأراد نجاتها، أن الاستدلال لجواز سفر عوام الناس، الذين لا يعرفون ما الجزء: 8 ¦ الصفحة: 467 أوجب الله عليهم، من معاداة المشركين، ومباداتهم بالعداوة والبغضاء، والتصريح لهم بالبراءة منهم ومما يعبدون، بسفر أبي بكر رضي الله عنه، من دسائس الشيطان؛ فإن من المعلوم عند الخاص والعام، ولا ينكره إلا مكابر مبخوس الحظ، أن الصحابة يظهرون دينهم، وقد بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن لا تأخذهم في الله لومة لائم، وإنكارهم، رضي الله عنهم وأرضاهم، باللسان، على من أحدث حدثاً أو فعل منكراً معروف مشهور. ولم ينقل عن أحد من الصحابة أنه رأى منكراً وسكت عن إنكاره بلسانه، بل كانوا يكافحون الظلمة بالإنكار، ولا يخافون في الله لومة لائم. ومن ظن أن الصحابة، رضي الله عنهم، لا يظهرون دينهم، ولا ينكرون المنكر، فقد ظن بهم ظن السوء، ولم يعرف قدرهم وفضلهم ومحلهم من الإسلام، وغيرتهم لله وعلى دينه، ولم يقدرهم حق قدرهم؛ فهم القدوة وبهم الأسوة، قال ابن مسعود رضي الله عنه: "من كان منكم مستناً، فليستن بمن قد مات؛ فإن الحي لا تؤمَن عليه الفتنة. أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم. كانوا أبر هذه الأمة قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً. قوم اختارهم الله لصحبة نبيه، ولإظهار دينه؛ فخذوا بسننهم، واهتدوا بهديهم، واعرفوا لهم فضلهم، فإنهم كانوا على الصراط المستقيم". وإذا كانوا على ما ترى من العلم والفضل والمعرفة، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 468 والغيرة لله ولدينه، وإظهار الدين، وأنهم لا تأخذهم في الله لومة لائم، فإذا جاز لأحدهم السفر والحالة هذه، من كمال العلم والمعرفة، وإظهار الدين، وإنكار المنكر، ومباداة أعداء الله بالعداوة والبغضاء، أفيقول من له دين وعقل وورع إيماني: إن سفر غوغاء الناس وسفلتهم، والعوام - ممن لا يعرف ما أوجب الله عليه، من معاداة المشركين، ومقاطعتهم، وما حرم الله ورسوله من موالاتهم، والركون إليهم، والتلطف لهم في المعاملات، والمبايعات والمعاشرات، ومن لا يعلم أن من الموالاة ما يوجب الردة، ومنها ما هو دون ذلك – يجوز، قياساً على سفر أبي بكر وغيره من الصحابة، رضي الله عنهم؟ وهل لهذا القياس حظ من النظر والدليل؟ أو هو سفسطة وضلال عن سواء السبيل؟! فالصحابة، رضي الله عنهم، أعلم الناس بدينهم وكيفية إظهاره، ومعهم من العلم والدلائل ما يقطع المجادل والمخاصم؛ فهم النجوم للورى هداية ودراية، مع أن الاستدلال بسفر أبي بكر، من الدلائل الجزئية، وهي لا تعارض القواعد الكلية، أو أنها قضية عين خاصة؛ والقضايا العينية الخاصة مقصورة على مواردها، ولا عموم لها عند جماهير الأصوليين والنظار. فقياس سفر غوغاء الناس وعوامهم، وفساق المسلمين ممن لا يعرف ما أوجب الله عليه، على سفر أعلم الناس الجزء: 8 ¦ الصفحة: 469 وأصلحهم، وأعرفهم بدلائل دينه، وأقومهم بحق الله وإظهار دينه وإعلاء كلمته، من أبطل القياس وأفسده؛ ولا يقيس هذا القياس إلا فاسد المزاج، محتاج إلى علاج. أين الثريا مكانا في ترفعها ... من الثرى قال هذا كل منتبه من ذا يقيس نقا الجلد من درن الدْ ... دُنْيا وأمراضها يوماً بأجربه هذا لعمر الله من أمحل المحال، وأبين الضلال، وأفسد القياس. ثم إن سفر أبي بكر ومن سافر من الصحابة، إنما كان سفرهم إلى بلاد النصارى، وإلى بلاد المجوس؛ ومن المعلوم: أن النصارى والمجوس يعلمون أن العرب على غير دينهم، حتى في الجاهلية، والعرب يعلمون أن هؤلاء على غير دين؛ فالكل منهم متميز عن الآخر بدينه، خصوصاً بعد البعثة، فإنه من المعلوم: أن أهل الإسلام يكفرونهم، لا يشك في ذلك أهل الكتاب ولا غيرهم؛ بخلاف عباد القبور اليوم وأشياعهم، فإنهم ينتسبون إلى الإسلام، ويتلفظون بالشهادتين، وغالبهم يصلي ويصوم ويحج، ومن لا يفعل ذلك قد يعظم من يفعل ذلك ويرى فضله، ومع هذا كله، فحالهم كما تقدم قريباً، من صرفهم خالص حق الله لمعبوداتهم، ولو علموا ممن يسافر إلى ديارهم أنهم على غير دينهم، وأنهم يكفرونهم، لأوقعوا بهم الفتنة، ولآذوهم. فقياس هؤلاء الكفرة على أولئك، من القياس الباطل المردود، مع أن السفر إلى ديار هؤلاء وهؤلاء ممنوع؛ لكن أهل الكتاب الجزء: 8 ¦ الصفحة: 470 والمجوس، يعلمون أنهم على غير دينهم، بخلاف عباد القبور، فإنهم يظنون أن من سافر إلى بلادهم على دينهم. إذا تبين هذا، وعلمته، فسفر أبي بكر رضي الله عنه كان مع إظهار دينه؛ ومن أظهر دينه كما ينبغي، فلا مانع من سفره إن أمن على نفسه ودينه; وقد قال ابن كثير، رحمه الله تعالى، على آية النساء: هذه الآية عامة في كل من أقام بين ظهراني المشركين، وهو قادر على الهجرة، وليس متمكناً من إقامة الدين، فهو ظالم لنفسه، مرتكب حراماً بالإجماع، وبنص هذه الآية، فلا يجوز خرق الإجماع. فمن أظهر دينه، جاز له السفر والإقامة، ومن لا يقدر على إظهار دينه، لا يجوز له السفر ولا الإقامة، بإجماع العلماء؛ ولكن الشأن كل الشأن، في إظهار الدين ما هو؟ أهو: ملة إبراهيم، من مباداة أعداء الله بالعداوة والبغضاء، والبراءة منهم ومما يعبدون، وأن ما هم عليه من عبادة غير الله كفر وضلال بعيد، يمانع أصل الإيمان والتوحيد؟ أو هو: ما لفقه هؤلاء، من عبارات لبعض العلماء مجملة محتملة، لا صراحة فيها، ولا راحة فيها لمبطل ولا مشبه؟ ثم كيف يسوغ لذي عقل ودين، أن يجعل سفر أبي بكر رضي الله عنه الذي قد كان من المعلوم أنه من الدلائل الجزئية، والقضايا العينية، مع أنه بلا شك ولا مرية يظهر دينه، دفعًا في نحر النصوص الواردة في وجوب المنع من الإقامة بدار الشرك، والقدوم إليها، وترك القعود مع أهلها، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 471 ووجوب التباعد عن مساكنتهم ومجامعتهم. وهي نصوص عامة مطلقة، وأدلة قاطعة محققة، كقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو عبد الرحمن النسائي، في قصة إسلام جرير بن عبد الله: "أنه قال: يا رسول الله، بايعني واشترط. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تعبد الله ولا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وأن تفارق المشركين"، وقوله صلى الله عليه وسلم: " أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين. قيل: ولِم يا رسول الله؟ قال: لا تراءى ناراهما " 1، وقوله صلى الله عليه وسلم: " لا تستضيئوا بنار المشركين " 2، قال ابن كثير: معناه: لا تقاربوهم في المنازل، بحيث تكونوا معهم في بلادهم، بل تباعدوا عنهم، وهاجروا من بلادهم، وقوله صلى الله عليه وسلم: "من أقام مع المشركين، فقد برئت منه الذمة"، وقوله صلى الله عليه وسلم: " أنا بريء من أهل ملتين تتراءى ناراهما "، وقوله صلى الله عليه وسلم: " من جامع المشرك أو سكن معه، فهو مثله "، وقوله صلى الله عليه وسلم: " لا يقبل الله من مشرك عملاً بعد ما أسلم، أو يفارق المشركين " 3، وقوله صلى الله عليه وسلم: " لا يسلم لذي دين دينه، إلا من فر من شاهق إلى شاهق ". والأحاديث في هذا الباب كثيرة. ومنها: حديث لقيط بن صبرة، لما قال: يا رسول الله، على ما أبايعك؟ فبسط رسول الله صلى الله عليه وسلم يده، وقال: " على إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وزيال المشرك، وأن لا تشرك بالله شيئاً " 4، قال ابن القيم، رحمه الله - في الكلام عليه -: قوله في عقد البيعة: "وزيال المشرك" أي: مفارقته ومعاداته، فلا   1 الترمذي: السير (1604) , والنسائي: القسامة (4780) , وأبو داود: الجهاد (2645) . 2 النسائي: الزينة (5209) , وأحمد (3/99) . 3 النسائي: الزكاة (2568) . 4 أحمد (4/13) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 472 تجاوره، ولا تواكله، كما جاء في حديث السنن: "لا تراءى ناراهما " 1. انتهى. فحقيق بمن نصح نفسه وأراد نجاتها، أن تكون نصوص الشارع في صدره أعظم وأجل من مفهوم ما لفقه الملفقون من العبارات المجملة، وأن يكون له معرفة وغور في معاني النصوص ودلالتها، ومعرفة بالصحيح الصريح الذي لا يحتمل غير ما دل عليه، وأن يعرف ما ورد من الأحاديث الصحيحة التي لا صراحة فيها على ما يراد، بل إما أن تكون محمولة على من أظهر دينه، كحديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من آمن بالله ورسوله وأقام الصلاة ... " 2 الحديث، وكحديث الأعرابي المحمول على أنه خاص به، وكسفر أبي بكر المحمول على إظهار الدين، وغيرها من الأحاديث. وأما قول شيخ الإسلام في الاقتضاء: ولو أن رجلاً سافر إلى بلاد الحرب ليشتري منها لجاز عندنا، فنعم؛ قاله شيخ الإسلام، ولكن مع إظهار الدين كما قاله غيره من العلماء. وكيف يجوزه بدون إظهار الدين، وهو قد حكى اتفاق العلماء على وجوب العمل بأحاديث الوعيد فيما اقتضته من التحريم على وجه العموم والإطلاق؟! بل قال، رحمه الله تعالى: بل إذا كان في الحديث وعيد كان ذلك أبلغ في اقتضاء التحريم على ما تعرفه القلوب.   1 الترمذي: السير (1604) , والنسائي: القسامة (4780) , وأبو داود: الجهاد (2645) . 2 البخاري: التوحيد (7423) , وأحمد (2/335, 2/339) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 473 فسفر أبي بكر رضي الله عنه لا يستدل به على جواز سفر فسّاق المسلمين إلى بلاد المشركين، الذين لا يعرفون ما أوجب الله عليهم، من معاداة المشركين ومفارقتهم، وعدم مساكنتهم ومجامعتهم، إلا من قصده فاسد، وذهنه كاسد، وفي قلبه مرض، ولا غيرة فيه لله ورسوله ولا على دينه، ولا في قلبه نفرة من مشاهدة أعداء الله وأعداء رسوله، بل كل الناس عنده على حد سواء، مسلمهم وكافرهم وبرهم وفاجرهم. فالله المستعان وبه المستغاث وإليه المشتكى، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وصحبه وسلم. وسئل أيضاً: الشيخ سليمان بن سحمان، رحمه الله تعالى: ما قول علماء المسلمين - كشف الله بهم كل غمة، وجلا بهم كل ظلماء مدلهمة - في "قرية"، هل هي من أعمال نجد، أم من أعمال الساحل؟ وهل هي داخلة في ولاية إمام المسلمين: عبد العزيز بن عبد الرحمن آل فيصل، أم لا؟ وإذا كانت من أعمال نجد وولاية المسلمين، فهل تسمى دار هجرة لمن هاجر فيها؟ وهل يعاب من انتقل إليها ونزل بها من دار هجرته أول ما نزل، أم لا؟ وهل يستوي من ارتحل من منزله الأول بسبب، أو من ارتحل بغير سبب؟ وهل يطلق اسم دار الهجرة على الديار النجدية؟ أم يقيد على ديار النازلين من الإخوان في هذا الزمان، أم لا؟ أفتونا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 474 وبينوا لنا، فإن الأمر مهم، وليل الجهل مدلهم؛ فرحم الله من أبان الدليل، وهدى الضال إلى سواء السبيل. فأجاب: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده. أما قول السائل: ما قول علماء المسلمين، في "قرية"، هل هي من أعمال نجد، أم من أعمال الساحل؟ وهل هي داخلة في ولاية إمام المسلمين: عبد العزيز بن عبد الرحمن آل فيصل، أم لا؟ فاعلم يا أخي، وفقك الله: أن هذه الأرض المسماة بـ"قرية" من أعمال نجد الداخلة في حدوده، وليست هي من أعمال الساحل، بل كانت من قديم الزمان وحديثه من أعمال نجد، الكائنة في ولاية المسلمين؛ وهذا مما لا شك فيه عند كل أحد. وأما قوله: وإذا كانت من أعمال نجد وولاية المسلمين، فهل تسمى دار هجرة لمن هاجر فيها؟ فنقول: إذا نزل بها طائفة من المسلمين بإذن الإمام، واستقروا بها، فهي دار هجرة لمن هاجر إليها من المسلمين، من بلاد الكفر، أو من البادية التي قد غلب عليهم الجفاء، والغفلة عن تعلم ما ينفعهم في دينهم. والمهاجر إليهم يسمى مهاجراً، إذا قام بأعباء الهجرة وحقوقها، كما في الحديث الجزء: 8 ¦ الصفحة: 475 الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى. فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله. ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها، أو امرأة يتزوجها، فهجرته إلى ما هاجر إليه " 1، رواه البخاري في صحيحه. وأما قوله: وهل يعاب من انتقل إليها، ونزل بها من دار هجرته أول ما نزل، أم لا؟ فالجواب أن نقول: لا يعاب من انتقل إليها، ونزل بها من دار هجرته أول ما نزل، ومن عاب من نزل بها بهذا السبب، فهو جاهل مركب، لا يدري ولا يدري أنه لا يدري، لأن الصحابة، رضي الله عنهم، الذين هاجروا إلى المدينة من مكة وغيرها، قد انتقل كثير منهم منها إلى الأمصار والأقطار، بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم؛ ومن أجلهم: أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فإنه انتقل من دار هجرته إلى الكوفة، واستقر بها، إلى أن قتله عبد الرحمن بن ملجم الخارجي بها، ودفن بقصر الإمارة بالكوفة; وكذلك الزبير بن العوام رضي الله عنه، لما رجع عن قتال علي، قصد راجعاً إلى الكوفة، فقتل في أثناء الطريق، ثم حمل إلى موضع الزبير الآن فمات به. وكذلك ابن عباس رضي الله عنه، خرج من المدينة   1 البخاري: الأيمان والنذور (6689) , ومسلم: الإمارة (1907) , والترمذي: فضائل الجهاد (1647) , والنسائي: الطهارة (75) والطلاق (3437) والأيمان والنذور (3794) , وأبو داود: الطلاق (2201) , وابن ماجة: الزهد (4227) , وأحمد (1/25, 1/43) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 476 وصار إلى البصرة، ثم نزل بمكة ومات بالطائف. وكذلك سلمان الفارسي رضي الله عنه، كان أميراً على المدائن، في ولاية عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقد خرج من المدينة دار المهاجرين; وكذلك أبو موسى الأشعري رضي الله عنه، وغيرهم من الصحابة، ممن لا يحصى عددهم، ولا نعلم أن أحداً من العلماء عاب ذلك، أو أنكره. ومن عاب ذلك أو أنكره، فقد عاب على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، خصوصاً أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه؛ وقد قال صلى الله عليه وسلم: " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي! تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ. وإياكم ومحدثات الأمور! فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة " 1. وعلي رضي الله عنه رابع الخلفاء الراشدين المهديين، الذين أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتمسك بسنتهم وهديهم. فمن أنكر ما ذكرناه وعابه، فقد أخطأ وأضاع نصيبه من العلم، وتكلف ما لا علم له به. وأما قول السائل: وهل يستوي من ارتحل من منزله الأول بسبب، أو من ارتحل بغير سبب؟ فنقول: قد ذكرنا آنفاً، من انتقل من الصحابة من المدينة، بأسباب اقتضت ذلك، مذكورة في مظانها; ومنهم من انتقل منها، ولم نطلع على السبب الذي أوجب له ذلك; ولا شك أن من انتقل منها بسبب، كان أعذر ممن لم ينتقل   1 أبو داود: السنة (4607) , والدارمي: المقدمة (95) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 477 عنها بلا سبب. وقد خرج سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه إلى قصره بالبادية، أيام الفتنة التي وقعت بين علي ومعاوية، رضي الله عنهما، وقيل له في ذلك، فقال: عوى الذئب فاستأنست بالذئب إذ ... عوى وصوت إنسان فكدت أطير وكذلك سلمة بن الأكوع رضي الله عنه، خرج أيام الفتنة من المدينة. فمن خرج من دار هجرته إلى بلد من بلدان المسلمين من غير سبب، لا نعيب عليه ذلك، إلا بدليل شرعي، فمن كان عنده في ذلك دليل، فليرشدنا إليه. وأما قول السائل: وهل يطلق اسم دار الهجرة، على الديار النجدية؟ أم يقيد على ديار النازلين من الإخوان في هذا الزمان، أم لا؟ فنقول: نعم، يطلق اسم دار الهجرة على الديار النجدية، ولا يقيد ذلك بديار النازلين من الإخوان في هذا الزمان؛ بل من هاجر من ديار الكفر أو من البادية، إلى بلد من بلدان المسلمين، فهو مهاجر، فلا فرق في ذلك بين الديار التي نزلها الإخوان في هذا الزمان، وبين قرى المسلمين. ولا يفرق بين ذلك إلا من أعمى الله بصيرة قلبه، وكان على نصيب وافر من الجهل، والقول على الله بلا علم. ثم إن في تسمية هذه البلدان التي نزلها الإخوان من البادية، حيث سموها الهجر، نظراً؛ فإن هذا اسم حادث. فإن الصحابة، رضي الله عنهم، لما فتحوا الأمصار والبلدان، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 478 واختطوا لهم منازل، وسكنوا بها، لم يسموها بهذا الاسم. وعمر رضي الله عنه هو الذي بصر البصرة، وكوف الكوفة، فسموها بالبصرة والكوفة، وكذلك سائر القرى، التي نزل بها الصحابة، رضي الله عنهم، والتابعون، إنما سموها باسمها الذي سماها به أهلها. وكذلك ما أحدثوه من تسمية، من سكن من الأعراب والبلدان التي اختلطوا بها منازل، حيث سموهم "الإخوان" وجعلوا هذا الاسم خاصاً بهم، دون الإخوان من المسلمين الحاضرة، وقد قال الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} الآية [سورة الحجرات آية: 10] ، مع بغي بعضهم على بعض، ومقاتلة بعضهم لبعض. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [سورة آل عمران آية: 102-103] ، فسماهم الله جميعاً إخواناً ولم يفرق بينهم. وقد بلغنا: أن بعض الجهال المتعمقين من هؤلاء الدوارين، لما سأله بعض البادية: هل يجوز أن نهاجر؟ ونبني مساكن في "نفي" أو غيره من قرى السر؟ فقال: لا يجوز أن يبنى بها، أو تكون محل هجرة، لأنها مؤسسة على الجزء: 8 ¦ الصفحة: 479 الكفر; وما علم هذا المسكين الجاهل: أن المدينة التي هاجر إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، قد كانت مؤسسة على الكفر 1 قبل الإسلام، وكان الذي أسسها الأوس والخزرج، وحلفاؤهم من اليهود، وكانوا إذ ذاك كفاراً مشركين، فلما ظهر بها الإسلام، وهاجر إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، صارت دار الهجرة، ولم يضرها تأسيس من أسسها على الكفر. وبلغنا أيضاً، من مجازفة بعض هؤلاء الأعراب المهاجرين في هذه البلدان، ومجاوزتهم للحد بالغلو في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والحب في الله والبغض فيه، والموالاة والمعاداة فيه، أنه لما سافر بعضهم إلى بعض بلدان المسلمين من بلدان نجد، ومكث فيها نحواً من أربعة أشهر، هجروه من السلام، لزعمهم أنه متربص في هذه البلاد؛ ولازم قولهم: أن هذه البلدة إما بلاد كفر، أو بلاد فسق، يجب على من لم يقدر على إظهار دينه فيها الهجرة عنها، لأنها على زعمهم، لا يحل لأحد المقام بها. وهاهنا مسألة، قد أجبنا عليها في غير هذا الموضوع، ثم لما يسر الله كلام شمس الدين بن القيم، رحمه الله تعالى، على هذه المسألة بخصوصها، أحببنا أن نثبته في هذا   1 مراده: مبنية في حالة الكفر. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 480 الموضع. والمسألة التي أشرنا إليها، هي قول السائل: ما الرخصة المذمومة، المذموم المترخص بها، التي قيل فيها: من تتبع الرخص تزندق، أو كاد؟ فإن أكثر من لدينا إذا سمع ما لم يدر به، ولا هو على باله عد ذلك رخصاً؟ فنقول: قال شمس الدين بن القيم، رحمه الله: الرخصة نوعان: أحدهما: الرخصة المستقرة المعلومة من الشرع نصاً، كأكل الميتة والدم ولحم الخنزير عند الضرورة، وإن قيل لها عزيمة باعتبار الأمر والوجوب، فهي رخصة باعتبار الإذن والتوسعة، وكفطر المريض والمسافر، وقصر الصلاة في السفر، وصلاة المريض إذا شق عليه القيام قاعداً، وفطر الحامل والمرضع خوفاً على ولديهما، ونكاح الأمة خوفاً من العنت، ونحو ذلك. فليس في تعاطي هذه الرخص ما يوهن رغبته، ولا يرده إلى غثاثة، ولا ينقص طلبه وإرادته البتة؛ فإن منها: ما هو واجب، كأكل الميتة عند الضرورة. ومنها: ما هو راجح المصلحة، كفطر الصائم المريض، وقصر المسافر وفطره. ومنها: ما مصلحته للمترخص وغيره؛ ففيه مصلحتان: قاصرة ومتعدية، كفطر الحامل والمرضع. ففعل هذه الرخص أرجح، وأفضل من تركها. النوع الثاني: رخص التأويلات، واختلاف المذاهب، فهذه تتبعها حرام ينقص الرغبة، ويوهن الطلب، ويرجع الجزء: 8 ¦ الصفحة: 481 بالمترخص إلى غثاثة الرخص. فإن من ترخص بقول أهل مكة في الصرف، وأهل العراق في الأشربة، وأهل المدينة في الأطعمة، وأصحاب الحيل في المعاملات، وقول ابن عباس في المتعة وإباحة لحوم الحمر، وقول من جوز نكاح البغايا المعروفات بالبغاء، وجوز أن يكون زوج قحبة، وقول من أباح آلات اللهو والمعازف، من اليراع والطنبور والعود، والطبل والمزمار، وقول من أباح الغناء، وقول من جوز استعارة الجواري الحسان للوطء، وقول من جوز للصائم أكل البرد، وقال ليس بطعام ولا شراب، وقول من جوز الأكل ما بين طلوع الفجر وطلوع الشمس للصائم، وقول من صحح الصلاة بـ {مُدْهَامَّتَانِ} [سورة الرحمن آية: 64] بالفارسية وركع كلحظة الطرف، ثم فصل كحد السيف، ولم يتشهد ولم يصل على النبي صلى الله عليه وسلم، وخرج من الصلاة بحقبة، وقول من جوز وطء النساء في أعجازهن، ونكاح بنته المخلوقة من مائه الخارجة من صلبه حقيقة، إذا كان ذلك الحمل من زنى، وأمثال ذلك من رخص المذاهب وأقوال العلماء، فهذا الذي تنقص برخصته رغبته، ويوهن طلبه، ويلقيه في غثاثة الرخص؛ فهذا لون والأول لون. انتهى. وبهذا يتبين لك الفرق بين الرخص المحمودة، التي ورد بها الشرع ويحبها الله، كما في الحديث: " إن الله يحب أن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 482 تؤتى رخصه، كما يكره أن تؤتى معاصيه " 1، وبين الرخص المذمومة شرعاً، التي من تتبعها فقد تزندق، والذي يترخص بهذه الرخص المذمومة، متلاعب بدين الله وشرعه، ومستخف بهما. فإذا فهمت ذلك، فاعلم: أن الذي قصده المشائخ، إنما هي هذه الترخصات المذمومة؛ فظن هؤلاء المتدينون أن المشائخ إذا سئلوا عن شيء وردت فيه الرخصة من التيسير، وعدم التكلف، أن هذا هو الترخص الذي مَن تتبعه فقد تزندق، وليس الأمر كذلك، وإنما أُتوا من جهلهم واستغنائهم بآرائهم، وأهوائهم الخاسرة القاصرة؛ فالله المستعان. هذا ما تيسر لي من الجواب على سبيل الاختصار، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل، وحسبنا الله ونعم الوكيل، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.   1 أحمد (2/108) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 483 [حكم الإقامة في بلاد المشركين] وله أيضاً، رحمه الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى. أما بعد، فقد قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} الآيتين [سورة النساء آية: 97-98] ، وقال تعالى: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} [سورة العنكبوت آية: 56] ، وقال تعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ} [سورة النساء آية: 140] . قال الحسن البصري: لا يجوز له القعود معهم، خاضوا أو لم يخوضوا، لقوله تعالى: {وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [سورة الأنعام آية: 68] ، وقال تعالى: {إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ} [سورة التوبة آية: 66] ، قال شيخ الإسلام: فعلم: أن الطائفة المعفو عنها عاصية لا كافرة، إما بسماع الكفر دون إنكاره، والجلوس مع الذين يخوضون في آيات الله، أو كلام هو ذنب وليس هو كفراً، وغير ذلك من الذنوب. انتهى. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 484 وقال صلى الله عليه وسلم: " أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين، لا تراءى ناراهما " 1، وقال صلى الله عليه وسلم: " أنا بريء من أهل ملتين تتراءى ناراهما"، وقال صلى الله عليه وسلم: "لا تستضيئوا بنار المشركين " 2، وقال صلى الله عليه وسلم: " من أقام مع المشركين فقد برئت منه الذمة "، وقال صلى الله عليه وسلم: " لا يقبل الله من مشرك عملاً بعد ما أسلم، أو يفارق المشركين " 3، وقال صلى الله عليه وسلم: " لا يسلم لذي دين دينه إلا من فر من شاهق إلى شاهق ". والأحاديث في هذا المعنى كثيرة جداً. فمن أقام بين أظهر المشركين من غير إظهار للدين، إلا من استثنى الله من المستضعفين، فقد فعل أمراً محرماً بنص القرآن، وإجماع العلماء؛ قال الحافظ ابن كثير، رحمه الله: هذه الآية عامة في كل من أقام بين ظهراني المشركين، وهو قادر على الهجرة، وليس متمكناً من إقامة الدين، فهو ظالم لنفسه مرتكب حراماً بالإجماع، وبنص الآية. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله: الحادي عشر: أن العلماء متفقون على وجوب العمل بأحاديث الوعيد فيما اقتضته من التحريم، وإنما خالف بعضهم في العمل بآحادها، في الوعيد خاصة; فأما في التحريم فليس فيه خلاف معتمد محتسب، وما زال العلماء من الصحابة، ومن بعدهم من التابعين، والفقهاء بعدهم، في خطابهم وكتبهم يحتجون بها في موارد الخلاف وغيره، بل إذا كان في الحديث   1 الترمذي: السير (1604) , والنسائي: القسامة (4780) , وأبو داود: الجهاد (2645) . 2 النسائي: الزينة (5209) , وأحمد (3/99) . 3 النسائي: الزكاة (2568) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 485 وعيد، كان ذلك أبلغ في اقتضاء التحريم، على ما تعرفه القلوب. وتقدم أيضاً التنبيه على رجحان قول من يعمل بها في الحكم، واعتقاد الوعيد، وأنه قول الجمهور; وعلى هذا، فلا يقبل قول مخالف الجماعة. الثاني عشر: أن نصوص الوعيد من الكتاب والسنة كثيرة جداً، والقول بموجبها واجب على وجه العموم والإطلاق، من غير أن يعين شخص من الأشخاص، فيقال: هذا ملعون، أو مغضوب عليه، أو مستحق للنار. انتهى المقصود منه. وحكم السفر للتجارة والكسب حكم الإقامة، لا فرق، ومن ادعى الفرق فعليه الدليل؛ فهذا كتاب الله، وهذه سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا إجماع العلماء: على تحريم الإقامة بين أظهر المشركين، لمن عجز عن إظهار دينه، وكان قادراً على الهجرة. فإن قال بعض المتنطعين المتهوكين، الذي يتخلل بلسانه كما تخلل البقرة بلسانها: إذا كنتم تحرمون الإقامة بين أظهر المشركين، من غير إظهار للدين، وتحرمون السفر إلى ديارهم، فمن المعلوم أن من أحل محرماً فهو كافر، ونحن نبيح السفر إلى بلاد المشركين مطلقاً، أو مقيداً بإظهار الأركان الخمسة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 486 قيل له: من فعل أمراً محرماً، غير عالم بتحريمه، لا نؤثمه بذلك فضلاً عن تكفيره; ومن فعله عالماً بتحريمه متعمداً فعله، فهو عاص لله بارتكابه المحرم على عمد. فمن أباح السفر إلى بلاد المشركين، وهو يعلم أن ذلك حرام عليه، لكنه أصر وعاند، وكابر وعتا وتمرد، وشرد على الله شراد البعير على أهله، زاعماً أن الحق فيما خالف الكتاب والسنة، مما هو ينتحله من الأقوال والآراء المخالفة للكتاب والسنة، فكلام أهل العلم في ذلك واضح، لا خفاء به. وأما من قامت له شبهة، أو تأول، وزعم أن هذا السفر ليس بحرام، ولكن مباح، لأنه يظهر دينه، وأن البلد التي يسافر إليها ليست عنده ببلد كفر، إلى غير ذلك من الشبه والتأويل، فهذا لا يكفر بإباحة ما حرمه الله ورسوله، لقيام الشبهة معه، والتأويل المانع من تكفيره، ولكنه آثم عاص بفعله ذلك من غير اجتهاد في طلب الحق والدليل، إذ حسن الظن بمن يقلده ويسهل له في ذلك. هذا كله فيمن يقلد، وفي العامي الذي لا اطلاع له، ولا علم يميز به بين الحق والباطل، وأما من أباح شيئاً من المحرمات من العلماء، فاعلم: أنه لا يتجاسر على إباحة المحرمات عالم يخشى الله، وإنما يخشى الله من عباده العلماء؛ وإنما يقع ذلك من بعض العلماء، لأسباب ذكرها شيخ الإسلام في رفع الملام عن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 487 الأئمة الأعلام بأمثلتها; فمن أراد الوقوف عليها فليراجعها هناك، ونذكرها هاهنا على سبيل الاختصار والإشارة. فنقول: اعلم أن من أباح شيئاً من المحرمات من العلماء، فإنما ذلك لكونه لم يبلغه في ذلك نص، فاجتهد، أو استند إلى موجب ظاهر آية أو حديث، أو موجب قياس، أو موجب استصحاب، أو بلغه في ذلك نص لكنه لم يثبت عنده، لشيء مما قد يعرض للعالم من تضعيف الحديث، أو لعلة من جهالة أو انقطاع أو غير ذلك، وإن كان قد ثبت عند غيره، أو بلغه الحديث لكنه نسيه، أو لعدم معرفته بدلالة الحديث، أو اعتقد أن هذا النص لا دلالة فيه، أو اعتقد أن تلك الدلالة قد عارضها ما دل على أنها ليست مرادة، مثل معارضة العام بخاص، أو المطلق بمقيد، أو الأمر المطلق بما ينفي الوجوب، أو الحقيقة بما يدل على المجاز من أنواع المعارضات، أو غير ذلك من الأعذار، مما ذكره أهل العلم لأهل العلم. فإذا جاء حديث صحيح، فيه تحليل، أو تحريم، أو حكم، فلا يجوز أن يعتقد أن التارك له من العلماء، الذين وصفنا أسباب تركهم، يعاقَب لكونه حلل الحرام، أو حرم الحلال، أو حكم بغير ما أنزل الله; وكذلك إن كان في الحديث وعيد على فعل، مِن لعنة، أو غضب، أو عذاب، أو براءة، أو ليس منا، ونحو ذلك، فلا يجوز أن يقول الجزء: 8 ¦ الصفحة: 488 أحد: إن ذلك الذي أباح هذا من العلماء، أو فعله، داخل في هذا الوعيد; فهذه أسباب يعذر بها العلماء. فإذا علمت هذا، تبين لك جهل من تعنت من هؤلاء الجهلة، في قوله: فما يلزم ابن تيمية في إباحته السفر إلى بلاد المشركين، لأن شيخ الإسلام، قدس الله روحه، لا يبيحه إلا بشروطه من إظهار الدين، كغيره من العلماء؛ وكيف يبيحه مطلقاً، وهو قد حكى اتفاق العلماء على وجوب العمل بأحاديث الوعيد، فيما اقتضته من التحريم، على وجه العموم والإطلاق؟ إذا علمت هذا، فما حكم به الحاكم من هؤلاء على مستحل السفر، من غير تفصيل، فهو وذاك، ونبرأ إلى الله من حكمه القاسط المنتن المظلم. {وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً} [سورة الفرقان آية: 31] . وأما نحن، فالذي نقطع به عن غالبهم - أعني المسافرين في هذه الأزمان - أنهم لا يعلمون التحريم، ولا أن أهل العلم منعوا منه من لا يقدر على إظهار دينه؛ وأما من علم بالتحريم، ثم استحله استخفافاً بوعيد الله، واستهزاء بأحكامه، ومكابرة ومعاندة لله ورسوله، فكلام أهل العلم فيمن هذه حاله واضح. وهؤلاء الذين يجادلون في إباحة السفر، معهم من التأويل والشبهة، ما صدهم عن سواء السبيل; فإنهم يزعمون: أن ما نستدل به من الآيات والأحاديث، محمولة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 489 على من لا يظهر دينه، وأنه لا دلالة فيها على التحري، ومعارضون الأحاديث العامة المطلقة بالأحاديث الخاصة، المقيدة بإظهار الدين، ومعهم من الجهل والغباوة ما لا مزيد عليه. فإنهم يزعمون أنا نكفر من أباح السفر إلى بلاد المشركين، لأن السفر إلى بلاد المشركين محرم، ومن أباح محرماً فقد كفر؛ ونحن نبرأ إلى الله مما يقولون، وهذا الإلزام لازم لهم، فإن من حرم حلالاً فقد كفر كمن أحل حراماً، لا فرق، ولكنهم لا يعلمون. وصلى الله على محمد. وقال الشيخ سليمان بن سحمان، رحمه الله تعالى: وتذكر أني إن رأيت في كلامك عثرة، أو هفوة، فالمؤمن مرآة أخيه. فاعلم وفقك الله لما يحبه ويرضاه: أنه وقع في كلامك الذي كتبت به إلى الملاحي، بعض الهفوة والعثرة، غفلة منك؛ ولم يكن ذلك الخطأ منك على بال، ولم تقصد ذلك المعنى على عمد واعتقاد، ولكن لم تحسن التعبير عن الأمر الذي تقوم به الحجة على المخالف، ويندفع به وجه احتجاجه عليكم؛ وذلك أنك جعلت الأمر المسوغ للدخول في طاعتهم، هو: استجلاب مصالح المسلمين، وإعزاز أهل الدين، وليس هذا هو المسوغ للدخول في طاعتهم فقط، وإنما المسوغ لذلك هو: درء المفاسد، مع استجلاب الجزء: 8 ¦ الصفحة: 490 المصالح الدينية. وقد ذكر أهل العلم أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح؛ فدرء مفسدة قمع أهل الحق، وعدم إظهار دينهم واجتماعهم عليه، والدعوة إلى ذلك، وعدم تشتيتهم وتشريدهم في كل مكان، مقدم على جلب مصلحة الإنكار على ولاة الأمور، مع قوتهم وتغلبهم وقهرهم، وعجز أهل الحق عن منابذتهم، وإظهار عداوتهم والهجرة عن بلادهم، بمجرد الدخول في طاعتهم في غير معصية الله ورسوله. فإذا كان لأهل الدين حوزة، واجتماع على الحق، وليس لهم معارض فيما يظهرون به دينهم، ولا مانع يمنعهم من ذلك، وكون الولاة مرتدين عن الدين، بتوليهم الكفار، وهم مع ذلك لا يجرون أحكام الكفر في بلادهم، ولا يمنعون من إظهار شعائر الإسلام، فالبلد حينئذ بلد إسلام، لعدم إجراء أحكام الكفر، كما ذكر ذلك شيخنا الشيخ عبد اللطيف، رحمه الله، عن الحنابلة وغيرهم من العلماء. وإذا كان الحال على ما وصفنا، فمراعاة درء مفسدة قمع أهل الحق، وتشريدهم وتشتيتهم وإذلالهم، وإظهار أهل الباطل باطلهم، وإعلاء كلمتهم على أهل الحق، وكذلك مراعاة جلب المصالح، في إعزاز أهل الحق، واحترامهم وعدم معارضتهم، مقدم والحالة هذه على مصلحة الإنكار الجزء: 8 ¦ الصفحة: 491 على ولاة الأمور من غير قدرة على ذلك، لأجل تغلب أهل الباطل وقوتهم، وعجز أهل الحق عن منابذتهم، وعدم تنفيذ الأمور التي يحبها الله ويرضاها؛ فدرء المفسدة المترتبة على الإنكار على الولاة، أرجح من المصلحة المترتبة على منابذتهم بأضعاف مضاعفة. وإذا استلزم الأمر المحبوب إلى الله، أمراً مبغوضاً مكروهاً إلى الله، وتفويت أمر هو أحب إلى الله منه، لم يكن ذلك مما يحبه الله ويقرب إليه، لما ينبني على ذلك من المفاسد، وتفويت المصالح. وقد ذكر أهل العلم قاعدة تنبني عليها أحكام الشريعة، وهي: ارتكاب أدنى المفسدتين، لتفويت أعلاهما، وتفويت أدنى المصلحتين، لتحصيل أعلاهما. وقال الإمام الحافظ ابن عبد الهادي، في رده على السبكي، كلاماً يحسن أن نذكره في هذا الموضع. قال رحمه الله: الوجه الثالث: أنه لا يكفي مجرد كون الفعل محبوباً له، في كونه قربة، وإنما يكون قربة إذا لم يستلزم أمراً مبغوضاً مكروهاً، أو تفويت أمر هو أحب إليه من ذلك الفعل؛ وأما إذا استلزم ذلك، فلا يكون قربة، وهذا كما أن إعطاء غير المؤلفة من فقراء المسلمين وذوي الحاجات منهم، وإن كان محبوباً لله، فإنه لا يكون قربة إذا تضمن فوات ما هو أحب إليه، من إعطاء من يحصل بعطيته الجزء: 8 ¦ الصفحة: 492 قوة في الإسلام وأهله، وإن كان قوياً غنياً غير مستحق. وكذلك التخلي لنوافل العبادة، إنما يكون قربة إذا لم يستلزم تعطيل الجهاد، الذي هو أحب إلى الله سبحانه من تلك النوافل، وحينئذ فلا يكون قربة في تلك الحال، وإن كانت قربة في غيرها. وكذلك الصلاة في وقت النهي، إنما لم تكن قربة لاستلزامها ما يبغضه الله سبحانه ويكره، من التشبه ظاهراً بأعدائه، الذين يسجدون للشمس في ذلك الوقت. فهاهنا أمران يمنعان كون الفعل قربة: استلزامه لأمر مبغوض مكروه، أو تفويته لمحبوب هو أحب إلى الله من ذلك الفعل. ومن تأمل هذا الموضع حق التأمل، أطلعه الله على سر الشريعة، ومراتب الأعمال، وتفاوتها في الحب والبغض، والضر والنفع، بحسب قوة فهمه وإدراكه، ومراد توفيق الله، بل مبنى الشريعة على هذه القاعدة، وهي: تحصيل خير الخيرين، وتفويت أدناهما، وتفويت شر الشرين باحتمال أدناهما، بل مصالح الدنيا كلها قائمة على هذا الأصل. انتهى. وقال ابن القيم، رحمه الله - في الأقسام، بعد كلام سبق -: والمداهنة إنما تكون في باطل قوي لا يمكن إزالته، أو في حق ضعيف لا يمكن إقامته، فيحتاج المداهن إلى أن يترك بعض الحق، ويلتزم بعض الباطل. انتهى. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 493 فتأمل ما ذكرناه، من أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، وإذا اجتمع درء المفاسد واجتلاب المصالح، كان ذلك أقوى في الحجة على الخصم، من ذكر استجلاب المصالح فقط. وأما استدلالك بكلام ابن القيم، فقد أبعدت النجعة، وما أبعده من دليل، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن في ولايتهم، ولا صالحهم على الدخول فيها بما التزمه لهم، وأجابهم فيه بما يعظمون به حرمة من حرمات الله، فأين هذا مما أنتم فيه؟ فإن الولاة المذكورين لم يكن بينهم وبينهم مصالحة، ولا طلبوا منهم أمراً يعظمون به حرمة من حرمات الله، فتجيبوهم إلى ذلك وتعينوهم عليه، فما وجه الاستدلال بكلام ابن القيم لذلك، والحالة غير الحالة؟ وأما الولاة المذكورون، فإنهم قد حصل منهم موالاة وتول للكفار وموافقة، ومظاهرة على المسلمين، فلا شك في ردتهم؛ والمتأخرون منهم إما راضون بأفعالهم، أو معينون لهم، ولم يظهر منهم مخالفة لمن قبلهم، ولا عيب لهم على أفعالهم، فحكمهم حكمهم، إلا أن يكون قد تبين لكم منهم خلاف ما عليه أسلافهم. فإذا عرفت هذا، تبين لك وجه الحجة على خصمك لما ذكرناه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 494 وقال أيضاً: الشيخ سليمان بن سحمان: وأما قول السائل: ويقولون: ساكن البادية والنازل منها إلى الحاضرة، سواء، فنقول: هذا من الكذب على المشائخ، فإنه لم يقل أحد منهم أن من أسلم من البادية، ودخل في هذا الدين ولم يهاجر، كمن هاجر منهم وترك جميع ما كان عليه من أمور الجاهلية، وسكن مع الحاضرة سواء؛ بل هذا من أعظم الكذب والافتراء؛ وقد بينا فضل من هاجر على من لم يهاجر. وإنما قال المشائخ لمن سألهم عن الفرق بين حكم من أسلم وتبين له الدين، وكان متمكناً من إقامة دينه وإظهاره، وبين من لم يسلم من الأعراب، الساكنين في البادية، أن الهجرة لا تجب عليه، بل هي مستحبة في حقه، لأنه لا واجب إلا ما أوجبه الله ورسوله، ولا حرام إلا ما حرمه الله ورسوله، ولا حلال إلا ما أحله الله ورسوله، والله أعلم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 495 سئل الشيخ سعد بن عتيق: عن الهجرة، هل تطلق على الانتقال من بلد الشرك إلى بلد الإسلام؟ أم الهجرة البلد المهاجر إليها ... إلخ؟ فأجاب: الهجرة في اللغة: الانتقال من أرض إلى أرض، وفي الشرع: الانتقال من مواضع الشرك والمعاصي، إلى بلد الإسلام والطاعة. فكل موضع لا يقدر الإنسان فيه على إظهار دينه، يجب عليه أن يهاجر إلى موضع يقدر فيه على إظهار دينه؛ وانتقاله إلى ذلك الموضع الذي يتمكن فيه من إظهار دينه، يسمى هجرة، والبلد الذي يهاجر إليها يسمى مهاجَراً بفتح الجيم، ويسمى دار هجرة. وأما إطلاق الهجرة على الموضع الذي يهاجر إليه، فهو اصطلاح حادث، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: " أريت دار هجرتكم " 1، ولم يقل: هجرتكم، وقال: " اللهم أمض لأصحابي هجرتهم " 2، يريد ما فعلوا من الانتقال من بلد الكفر إلى بلد الإسلام، والله أعلم.   1 أحمد (6/198) . 2 البخاري: الجنائز (1296) , ومسلم: الوصية (1628) , والنسائي: الوصايا (3628) , وأبو داود: الوصايا (2864) , وأحمد (1/179) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 496 سئل الشيخ محمد بن إبراهيم بن محمود: عن رجلين بحثا في الهجرة ... إلخ؟ فأجاب: الصواب مع الثاني، وهو الحق المقطوع به الذي ندين الله به، وهو: أن الهجرة واجبة على من لم يقدر على إظهار دينه، وخاف الفتنة؛ وأدلة ذلك ظاهرة من الكتاب والسنة. وقد نص علماء السنة على ذلك وذكروه من أصولهم، وأن الجهاد قائم مع كل إمام بر وفاجر، حتى يقاتل آخر هذه الأمة الدجال، وأن الهجرة باقية لا تنقطع حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها. وأما الجواب عما احتج به الأول، من قوله: لا هجرة بعد الفتح، فالمراد بذلك لا هجرة من مكة، لأنها صارت دار إسلام، ولم يبق فيها من يفتن المسلم عن دينه; قال شيخ الإسلام، رحمه الله تعالى: أراد به: الهجرة المعهودة في زمنه، وهي الهجرة إلى المدينة من مكة، وغيرها من أرض العرب؛ فإن الهجرة مشروعة لما كانت مكة وغيرها دار كفر وحرب، وكان الإيمان بالمدينة، فكانت الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام واجبة لمن قدر عليها. فلما فتحت مكة، وصارت دار إسلام، ودخلت العرب في الإسلام، صارت هذه الأرض كلها دار إسلام، فقال: " لا هجرة بعد الفتح " 1؛ وعلى هذا يحمل حديث صاحب الخضرمة، لأن بلاد العرب إذ ذاك صارت كلها دار إسلام؛   1 البخاري: الجهاد والسير (2783) , ومسلم: الحج (1353) , والترمذي: السير (1590) , والنسائي: البيعة (4170) , وأبو داود: الجهاد (2480) , وأحمد (1/226, 1/315, 1/355) , والدارمي: السير (2512) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 497 وكون الأرض دار كفر أو دار إيمان، أو دار فسق، ليست صفة لازمة، بل هي صفة عارضة بحسب حال سكانها، والحكم يدور مع علته. وأما الحديث الثاني: فالمراد به غير ما فهم هذا في الأصل، وهو: أن التوحيد شرط لجميع الأعمال، الصلاة وغيرها، وهذا الشرط هو الذي تفهمه العرب من لسانها، ولذلك لما قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: " قولوا: لا إله إلا الله"، قالوا: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً} [سورة ص آية: 5] ، وقال عنهم: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} [سورة الصافات آية: 35-36] . وأما مشركو هذا الزمان، فإنهم وإن نطقوا بها، وصلّوا وزكّوا، لا يفهمون منها ما فهمته العرب، من أن معناها: خلع الأنداد، وإفراد الله سبحانه بالعبادة وحده لا شريك له; بل يخالفون معناها، فيصرفون التأله لغير الله تعالى، ويعتقدون ذلك قربة إلى الله، فيصرفون خالص حق الله الذي دلت عليه هذه الكلمة لغيره تعالى، بل أكبهم الجهل إلى الشرك في الربوبية، فلا تنفعهم "لا إله إلا الله" مع ذلك وإن قالوها، لأن الشرك محبط للعمل، كما قال تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [سورة الزمر آية: 65] ، وغير ذلك من الآيات الدالة على حبوط عمل المشرك. ومشركو العرب، إنما كان شركهم في الإلهية، فلا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 498 تنفع "لا إله إلا الله" قائلها، إلا إذا التزم ما دلت عليه من خلع الأنداد، وإفراد الله سبحانه بالعبادة; ولذلك لما قالها أهل النفاق واليهود، ولم يلتزموا ما دلت عليه، لم تنفعهم. فإن كان الإنسان مقيماً بين أظهر من هذا حاله، فهو دائر بين أحوال: إما الموافقة لهم على هذا المعتقد، وموالاتهم عليه، أو مدح معتقدهم وتفضيلهم على أهل التوحيد، فهذا مثلهم كما قال تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} الآية [سورة المائدة آية: 51] ، وقال تعالى في حق المادحين لدينهم: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً} [سورة النساء آية: 51-52] ؛ بل من كان كذلك فهو منهم، وإن كان بين أظهر المسلمين، فهذا غير مظهر لدينه، فتجب عليه الهجرة. وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. آخر الجزء الثامن، ويليه الجزء التاسع، وأوله: فصل: في الإمامة والبيعة والسمع والطاعة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 499 المجلد التاسع: (القسم الثاني من: كتاب الجهاد، وأول كتاب حكم المرتد) تابع كتاب الجهاد فصل: (في الإمامة، والبيعة، والسمع والطاعة) ... بسم الله الرحمن الرحيم فصل [في الإمامة، والبيعة، والسمع والطاعة] قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى: الأئمة مجمعون من كل مذهب، على أن من تغلب على بلد أو بلدان له حكم الإمام في جميع الأشياء، ولولا هذا ما استقامت الدنيا، لأن الناس من زمن طويل قبل الإمام أحمد إلى يومنا هذا، ما اجتمعوا على إمام واحد، ولا يعرفون أحدا من العلماء ذكر أن شيئا من الأحكام، لا يصح إلا بالإمام الأعظم. وقال أيضا: اختلفوا في الجماعة والافتراق، فذهب الصحابة ومن معهم إلى وجوبها، وأن الإسلام لا يتم إلا بها، وذهبت الخوارج ومن معهم إلى الأخرى وإنكار الجماعة، ففصل الكتاب بينهم، بقوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} [سورة آل عمران آية: 103] الآية. وقال أيضا: الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5 تعالى: الأصل الثالث: أن من تمام الاجتماع السمع والطاعة لمن تأمر علينا، ولو كان عبدا حبشيا، فبين - أي الكتاب - هذا بيانا شائعا ذائعا، بوجوه من أنواع البيان شرعا وقدرا، ثم صار هذا الأصل لا يعرف عند أكثر من يدعي العلم، فكيف بالعمل به؟ وقال أيضا: وبعد يجيئنا من العلوم، أنه يقع بين أهل الدين والأمير بعض الحرشة، وهذا شيء ما يستقيم عليه دين، والدين هو الحب في الله والبغض فيه، فإن كان الأمير ما يجعل بطانته أهل الدين، صار بطانته أهل الشر; وأهل الدين عليهم جمع الناس على أميرهم، والتغاضي عن زلته؛ وهذا أمر لا بد منه من أهل الدين، يتغاضون عن أميرهم، وكذلك الأمير يتغاضى عنهم، ويجعلهم مشورته وأهل مجلسه، ولا يسمع فيهم كلام العدوان، وترى الكل: من أهل الدين والأمير، ما يعبد الله أحد منهم إلا برفيقه، فأنتم توكلوا على الله، واستعينوا بالله على الائتلاف والمحبة واجتماع الكلمة، فإن العدو يفرح إذا رأى أن الكل ناقم على رفيقه، والسبب يرجو عود الباطل. [الإمامة في غير قريش] سئل الإمام عبد العزيز بن محمد بن سعود رحمه الله تعالى، هل تصح الإمامة في غير قريش؟ فأجاب: الذي عليه أكثر العلماء، أنها لا تصح في غير قريش إذا أمكن ذلك وأما إذا لم يمكن ذلك واتفقت الأمة على مبايعة الإمام، أو اتفق الجزء: 9 ¦ الصفحة: 6 أهل الحل والعقد عليه، صحت إمامته، ووجبت مبايعته، ولم يصح الخروج عليه، وهذا هو الصحيح الذي تدل عليه الأحاديث الصحيحة، كقوله صلى الله عليه وسلم: " عليكم بالسمع والطاعة، وإن تأمر عليكم عبد حبشي ... " الحديث. [فرضية نصب الإمام] وسئل: أبناء الشيخ محمد وحمد بن ناصر رحمهم الله؛ هل نصب الإمام فرض على الناس أم لا؟ فأجابوا: الذي عليه أهل السنة والجماعة، أن الإمام يجب نصبه على الناس، وذلك أن أمور الإسلام لا تتم إلا بذلك، كالجهاد في سبيل الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإقامة الحدود، وإنصاف الضعيف من القوي، وغير ذلك من أمور الدين، ولهذا أوجب الله طاعة أولي الأمر، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [سورة النساء آية: 59.] وقال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} [سورة آل عمران آية: 103] وفي الحديث: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " على المرء السمع والطاعة فيما أحب وكره، ما لم يؤمر بمعصية، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة "1، وفي حديث العرباض بن سارية، أنه قال عليه السلام: " أوصيكم بتقوى الله تعالى والسمع والطاعة، وإن تأمر عليكم عبد حبشي، وعليكم بسنتي وسنة   1 البخاري: الأحكام (7144) , ومسلم: الإمارة (1839) , والترمذي: الجهاد (1707) , وأبو داود: الجهاد (2626) , وابن ماجه: الجهاد (2864) , وأحمد (2/17 ,2/142) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 7 الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة "1. ولا يستقيم الدين إلا بإمام، ولهذا قال علي رضي الله عنه: " لا بد للناس من إمارة برة كانت أو فاجرة، قالوا: يا أمير المؤمنين: هذه البرة قد عرفناها، فما بال الفاجرة؟ قال يقام بها الحدود، ويؤمن بها السبل ". وأما العبد إذا اجتمعت فيه شروط الإمامة، فالذي عليه أهل العلم: أن العبد لا تجوز إمامته إذا أمكن، ولم يقهر الناس بسلطانه، وأما إذا قهر الناس واجتمع عليه أهل الحل والعقد، وجبت طاعته وحرمت مخالفته، كما في حديث العرباض المتقدم " وإن تأمر عليكم عبد حبشي "2؛ وإذا أمكن كون الإمام من قريش، فهو أولى، كما في الحديث الصحيح. وسئل الشيخ عبد الله أبا بطين: إذا قال بعض الجهال: إن من شروط الإمام أن يكون قرشيا، ولم يقل عارضيا، يشير إلى أنه قد ادعاها من ليس من أهلها، يعني محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى، ومن قام معه وبعده بما دعا إليه; وأيضا: إن البغاة تحل دماؤهم دون أموالهم، وقد استحل الأموال والدماء من العلماء وغيرهم ... إلى آخره؟ فأجاب: إذا قال بعض الجهال ذلك، فقل له: ولم   1 الترمذي: العلم (2676) , وأبو داود: السنة (4607) , وابن ماجه: المقدمة (42 ,44) , وأحمد (4/126) , والدارمي: المقدمة (95) . 2 البخاري: الأذان (693) , وابن ماجه: الجهاد (2860) , وأحمد (3/171) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 8 يقل تركيا، فإذا زال هذا الأمر عن قريش، فلو رجع إلى الاختيار لكان العرب أولى به من الترك، لأنهم أفضل من الترك، ولهذا ليس التركي كفوا للعربية، ولو تزوج تركي عربية كان لمن لم يرض من الأولياء فسخ هذا النكاح؛ وهذا الذي يعظمه الناس تركي لا قرشي، وهم أخذوها بغيا على قريش، ومحمد بن عبد الوهاب رحمه الله ما ادعى إمامة الأمة، وإنما هو عالم دعا إلى الهدى، وقاتل عليه ولم يلقب في حياته بالإمام، ولا عبد العزيز بن محمد بن سعود، ما كان أحد في حياته منهم يسمى إماما، وإنما حدث تسمية من تولى إماما بعد موتهما. وأيضا: فالألقاب أمرها سهل، وهذا كل من صار وليا في صنعا يسمى إماما، وصاحب مسكة، يلقب كذلك. والشيخ محمد بن عبد الوهاب قاتل من قاتله، ليس لكونهم بغاة، وإنما قاتلهم على ترك الشرك وإزالة المنكرات، وعلى إقام الصلاة وإيتاء الزكاة، والذين قاتلهم الصديق والصحابة لأجل منع الزكاة، ولم يفرقوا بينهم وبين المرتدين في القتل وأخذ المال. قال شيخ الإسلام أبو العباس رحمه الله تعالى: كل طائفة ممتنعة عن التزام شريعة من شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة، فإنه يجب قتالهم، حتى يلتزموا شرائعه، وإن كانوا مع ذلك ناطقين بالشهادتين، وملتزمين ببعض شرائعه، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 9 كما قاتل الصديق مانعي الزكاة؛ وعلى ذلك اتفق الفقهاء بعدهم، إلى أن قال: فأيما طائفة ممتنعة عن بعض الصلوات المفروضات، والصيام، والحج، وعن التزام تحريم الدماء والأموال، والخمر والزنى والميسر، وعن التزام جهاد الكفار، وغير ذلك من واجبات الدين ومحرماته، التي لا عذر لأحد في جحودها وتركها، التي يكفر الجاحد لوجوبها، فإن الطائفة الممتنعة تقاتل عليها، لوجوبها، وإن كانت مقرة بها؛ وهذا مما لا أعلم فيه خلافا بين العلماء، إلى أن قال: وهؤلاء عند المحققين من العلماء، ليسوا بمنْزلة البغاة الخارجين على الإمام، والخارجون عن طاعته، كأهل الشام مع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فإن أولئك خارجون عن طاعة إمام معين، أو خارجون عليه لإزالة ولايته، وأما المذكورون فهم خارجون عن الإسلام، بمنْزلة مانعي الزكاة، انتهى. وأيضا: فالمشار إليهم في السؤال، لا نقول إنهم معصومون، بل يقع منهم أشياء تخالف الشرع، ولولا ما يحدث من المخالفات، لم يسلط عليهم عدوهم، ولكن عوقبوا بأن سلط عليهم من ليس خيرا منهم وأحسن. "إذا عصاني من يعرفني سلطت عليه من لا يعرفني". والذي أدركنا من سيرة هذه الطائفة المشار إليها، ما بقي منها اليوم إلا الاسم، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 10 [قوله صلى الله عليه وسلم من مات وليس في عنقه بيعة] وسئل: عن قوله صلى الله عليه وسلم: " من مات وليس في عنقه بيعة، مات ميتة جاهلية " فأجاب: أرجو أنه لا يجب على كل إنسان المبايعة، وأنه إذا دخل تحت الطاعة وانقاد، ورأى أنه لا يجوز الخروج على الإمام، ولا معصيته في غير معصية الله، أن ذلك كاف، وإنما وصف صلى الله عليه وسلم ميتته بالميتة الجاهلية، لأن أهل الجاهلية كانوا يأنفون من الانقياد لواحد منهم، ولا يرضون بالدخول في طاعة واحد؛ فشبه حال من لم يدخل في جماعة المسلمين بحال أهل الجاهلية في هذا المعنى، والله أعلم. وقال الشيخ: عبد الرحمن بن حسن، رحمه الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الرحمن بن حسن: إلى من يصل إليه من الإخوان، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: بفهمون أن الجماعة فرض على أهل الإسلام، وعلى من دان بالإسلام، كما قال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} [سورة آل عمران آية: 103] ولا تحصل الجماعة إلا بالسمع والطاعة لمن ولاه الله أمر المسلمين، وفي الحديث الصحيح، عن العرباض بن سارية، قال: وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة وجلت منها القلوب، وذرفت منها الجزء: 9 ¦ الصفحة: 11 العيون، فقلنا يا رسول الله: كأنها موعظة مودع فأوصنا، قال: أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة، وإن تأمر عليكم عبد حبشي، وأنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ ". وقد جمع الله أوائل الأمة على نبيه صلى الله عليه وسلم وذلك بسبب الجهاد، وكذلك الخلفاء، رد الله بهم إلى الجماعة من خرج وفتح الله لهم الفتوح، وجمع الله الناس عليهم. وتفهمون: أن الله سبحانه وتعالى جمعكم على إمامكم: عبد الله بن فيصل بعد وفاة والده فيصل رحمه الله، فالذي بايع بايع وهم الأكثرون، والذين لم يبايعوا بايع لهم كبارهم، واجتمع عليه أهل نجد باديهم وحاضرهم، وسمعوا وأطاعوا، ولا اختلف عليه أحد منهم، حتى سعود بن فيصل، بايع أخاه وهو ما صار له مدخال في أمر المسلمين، لا في حياة والده ولا بعده، ولا التفت له أحد من المسلمين. ونقض البيعة، وتبين لكم أمره أنه ساع في شق العصا، واختلاف المسلمين على إمامهم، وساع في نقض بيعة الإمام، وقد قال تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثاً تَتَّخِذُونَ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 12 أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [سورة النحل آية: 91،92] . وسعى سعود في ثلاثة أمور كلها منكرة، نقض البيعة بنفسه، وفارق الجماعة، ودعا الناس إلى نقض بيعة الإمام؛ فعلى هذا: يجب قتاله، وقتال من أعانه، وفي الحديث " من فارق الجماعة قيد شبر فمات فميتته جاهلية " وفي الحديث الآخر "فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه" فإن كان أحد مشكل عليه وجوب قتاله، لما في الحديث " إذا التقى المسلمان بسيفيهما، فالقاتل والمقتول في النار " فظاهر الحديث: أن المراد ما يجري بين القبائل من العصبية، إما عند ضربة عصا من قبيلتين أو فخذين، أو طعنة، فكل قبيلة أو فخذ يكون منهم حمية لمن كان منهم، من غير خروج على الإمام، ونقض لبيعة الإسلام، ولا شق عصا المسلمين. وأهل العلم من الفقهاء وغيرهم، ذكروا قتال العصبية، وحكمه؛ وقتال البغي وحكمه؛ فذكروا أنه يجب على الإمام في قتال العصبية، أن يحملهم على الشريعة؛ وأما البغاة فحكمهم: أنهم يقاتلون حتى يفيئوا ويرجعوا، ويدخلوا في جماعة المسلمين، فالفرق ظاهر بين ولله الحمد، فاستعينوا بالله على قتال من بغى وطغى، وسعى في البلاد بالفساد، وهذا أمر فساده ظاهر لا يخفى على من له عقل، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 13 واحتسبوا جهادكم وأجركم على الله، والسلام. وقال ابنه الشيخ عبد اللطيف، رحمه الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الابن محمد بن علي، كشف الله عنه كل ريب وغمة، وسلك بنا وبه سبيل سلف الأمة، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فأحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، على ما اختصنا به من سوابغ إنعامه، وما ألبسناه من ملابس إكرامه؛ والخط وصل، وما ذكرت صار معلوما. فأما ما أجرى الله من الفتن والامتحان، فلله سبحانه فيه حكم يستحق عليها الحمد، منها تمييز الخبيث من الطيب، والصادق من الكاذب، وذي البصيرة من الأعمى، كما دل عليه صدر سورة العنكبوت، والآيات من سورة البقرة وآل عمران، وغير ذلك من آي القرآن. وتذكر أن أباك يوم يركب ما ظن أن لعبد الله ولاية، ولا أن عبد الله سيعود إليه عن قريب، والظن أكذب الحديث، وظن السوء أورد أهله الموارد المهلكة في الدنيا والآخرة؛ والعجب من فقيه يحكي هذا محتجا به، وقد تربى بحمد الله بين أيدي طلبة العلم وأهل الفتوى، أي حجة في هذا لو كانوا يعلمون؟ ولو دعوت أباك إلى لزوم السنة الجزء: 9 ¦ الصفحة: 14 والجماعة، والوفاء بالعهد الذي يسأل عنه يوم تنكشف السرائر، لكان هذا من أعظم البر، وأرجحه في ميزانك، لا سيما وقد جاءك من العلم ما لم يؤته. ثم لو فرض أن هذا الظن متحقق في نفس الأمر، فأي مسوغ للمسارعة إلى الذين تفرقوا، واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات، وسفكوا الدماء بغير بينة ولا سلطان، ينبغي أن يتنْزه عن هذا سوقة الناس وعامتهم؛ وإنما خاطبتكم بلسان العلم لحسن ظني، والأكثر قد تحققت هلاكهم، وأنهم في ظلمة الجهل، لم يستضيؤوا بنور العلم، ولم يلجؤوا إلى ركن وثيق; وبعض من ينتسب إلى الدين، قد عرف ما هناك، ولكنه آثر العاجلة، وأخلد إلى الأرض واتبع هواه، وأبدى من المعاذير ما لا ينجي يوم العرض على الله. وأما يمينك على أنك تحقق من أبيك أنه لا ينكث عهده ولو يقال له الدنيا ومثلها معها، فعجب لا ينقضي، والله يغفر لك، وهل النكث حقيقة إلا تباين ما وقع، اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون وقولك: والله غالب على أمره، حق نؤمن به، ولا نحتج به على شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا. وأما الخط مني له: فخطي لك يكفي، ومثلك لا يخفى عليه وجوب الجهاد، وأنه ركن من أركان الإسلام وذروة سنامه، كما هو مقرر في محله; والآيات القرآنية لا يتسع هذا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 15 الموضع لسياقها، بقي أن يقال: هل الجهاد في هذه القضية جهاد في سبيل الله؟ وهذه المسألة لا يختص بها طالب العلم؛ بل كل من كان له نصيب من نور الفطرة ونور الإسلام، يعرف هذه المسألة ولا تلتبس عليه. ومن المقرر في عقائد أهل السنة: أن الجهاد ماض مع كل إمام بر أو فاجر، وأبوك وغيره يعلمون أن المسلمين بايعوا عبد الله، وسعود من جملة من بايع، وأن البيعة صدرت عن مشورة من المسلمين، على يد شيخهم وإمامهم في الدين والدنيا، قدس الله روحه ونور ضريحه، فأي شيء نسخ هذا؟ وأنت وأبوك تعرفون حال عبد الله معنا فيما سلف، والمؤمن يعامل ربه ولا يتشفى بما يفسد دينه؛ نسأل الله لنا ولكم الثبات على دينه الذي ارتضاه لنفسه، ونعوذ بالله من اتباع خطوات الشيطان، والرغبة عن سبيل أهل السنة والقرآن. وذكّر أباك حديث ابن عباس، في استفتاحه صلى الله عليه وسلم صلاته إذا قام من الليل، وذاكره بما ظهر لك فيه من حقائق العلم والإيمان، واعرف جلالة هذا المطلوب وعظيم قدره، وقدر ما توسل به السائل إلى مطلوبه؛ والمقام يقتضي البسط لحاجة السائل وغيره، ولعل الله أن يمن بذلك؛ وصلى الله على محمد. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 16 وله أيضا: قدس الله روحه، ونور ضريحه: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأخ المكرم، السيخ: إبراهيم، ورشيد بن عوين، وعيسى بن إبراهيم، ومحمد بن علي، وإبراهيم بن راشد، وعثمان بن رقيب، وإخوانهم، سلك الله بنا وبهم سبل الاستقامة، وأعذنا وإياهم من أسباب الخزي والندامة، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: تفهمون أنه لا إسلام إلا بجماعة، ولا جماعة إلا بإمامة، وحصل من التفرق والاختلاف، والخوض في الأهواء المضلة، ما هدم من الدين أصله وفرعه، وطمس من الدين أعلامه الظاهرة وشرعه؛ وهذه الفتنة يحتاج الرجل فيها: إلى بصر ناقد عند ورود الشبهات، وعقل راجح عند حلول الشهوات؛ والقول على الله بغير علم، والخوض في دينه من غير دراية ولا فهم، فوق الشرك، واتخاذ الأنداد معه. وقد صار لديكم وشاع بينكم، ما يعز حصره واستقصاؤه، فينبغي للمؤمن الوقوف عند كل همة وكلام، فإن كان لله مضى فيه، وإلا فحسبه السكوت، وقد عرفتم حالنا في أول هذه الفتنة، وما صدر إليكم من المكاتبات والنصائح، وفيها الجزم بإمامة عبد الله، ولزوم بيعته، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 17 والتصريح بأن راية أخيه راية جاهلية عمية؛ وأوصيناكم بما ظهر لنا من حكم الله وحكم رسوله، ووجوب السمع والطاعة. فلما صدر من عبد الله ما صدر، من جلب الدولة إلى البلاد الإسلامية، والجزيرة العربية، وإعطائهم الأحساء والقطيف، والخط؛ تبرأنا مما تبرأ الله منه ورسوله، واشتد، النكير عليه شفاها، ومراسلة لمن يقبل مني ويأخذ عني، وذكرت لكم أن بعض الناس جعله ترسا، تدفع به النصوص والأحاديث والآثار، وما جاء من وجوب جهادهم، والبراءة منهم، وتحريم موادتهم ومواخاتهم، من النصوص القرآنية، والأحاديث الصحيحة الصريحة النبوية. والقول: بأنهم جاؤوا لنصر إمام أو دين، قول يدل على ضعف دين قائله، وعدم بصيرته وضعف عقله، وانقياده لداعي الهوى، وعدم معرفته بالدول والناس، وذلك لا يروج إلا على سوتسية الأعراب، ومن نكب عن طريق الحق والصواب؛ وأعجب من هذا: نسبة جوازه إلى أهل العلم، والجزم بإباحة ذلك؛ والصورة المختلف فيها مع ضعف القول بجوازها وإباحتها، والدفع في صدرها كما هو مبسوط في حديث " إنا لا نستعين بمشرك " هي صورة غير هذه، ومسألة أخرى. وهذه الصورة، حقيقتها: تولية وتخلية، وخيانة الجزء: 9 ¦ الصفحة: 18 ظاهرة، كما يعرفه من له أدنى ذوق ونهمة في العلم، لكن بعد أن قدم عبد الله من الأحساء، ادعى التوبة والندم، وأكثر من التأسف والتوجع فيما صدر منه، وبايعه البعض، وكتبت إلى ابن عتيق أن الإسلام يجب ما قبله، والتوبة تهدم ما قبلها، فالواجب السعى فيما يصلح الإسلام والمسلمين؛ ويأبى الله إلا ما أراد {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [سورة يوسف آية: 21] . والمقصود: كشف حقيقة الحال في أول الأمر وآخره، وقد تغلب سعود على جميع البلاد النجدية، وبايعه الجمهور، وسموه باسم الإمامة، وقد عرفتم: أن أمر المسلمين لايصلح إلا بإمام، وأنه لا إسلام إلا بذلك، ولا تتم المقاصد الدينية، ولا تحصل الأركان الإسلامية، وتظهر الأحكام القرآنية إلا مع الجماعة والإمامة، والفرقة عذاب وذهاب في الدين والدنيا، ولا تأتي شريعة بذلك قط. ومن عرف القواعد الشرعية، عرف ضرورة الناس وحاجتهم، في أمر دينهم ودنياهم إلى الإمامة والجماعة، وقد تغلب من تغلب في آخر عهد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعطوه حكم الإمامة، ولم ينازعوه كما فعل ابن عمر وغيره، مع أنها أخذت بالقهر والغلبة، وكذلك بعدهم في عصر الطبقة الثالثة، تغلب من تغلب، وجرت أحكام الإمامة والجماعة، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 19 ولم يختلف أحد في ذلك، وعالب الأئمة بعدهم على هذا القبيل وهذا النمط. ومع ذلك: فأهل العلم والدين: يأتمرون بما أمروا به من المعروف، وينتهون عما نهوا عنه من المنكر، ويجاهدون مع كل إمام، كما هو منصوص عليه في عقائد أهل السنة، ولم يقل أحد منهم بجواز قتال المتغلب والخروج عليه، وترك الأمة تموج في دمائها، وتستبيح الأموال والحرمات، ويجوس العدو الحربي خلال ديارهم، وينزل بحماهم، هذا لا يقول بجوازه وإباحته إلا مصاب في عقله، موتور في دينه وفهمه، وقد قيل: لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم ولاسراة إذا جهالهم سادوا بل هذا الحكم الديني، يؤخذ من قوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} [سورة آل عمران آية: 103] ، لأنه لا يحصل القيام بهذا الواجب إلا بما ذكرنا، وتركه مفسدة محضة ومخالفة صريحة، قال الله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [سورة المائدة آية: 2] ، وفي الحديث " إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شئ فاجتنبوه ". لاسيما وقد نزل العدو بأطرافكم، واستخف الشيطان أكثر الناس، وزين لهم الموالاة واللحاق بالمشركين، وإسناد أمر الرياسة إليهم، وأنهم ولاة أمر، يعزلون ويولون، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 20 وينصرون وينصبون, وأنهم جاؤوا لنصرة فلان، كما ألقاه الشيطان على ألسن المفتونين، وصاروا بعد الترسم بالدين من جملة أعوان المشركين، المبيحين لترك جهاد أعداء رب العالمين، فما أعظمها من مكيدة، وما أكبرها من خطيئة، وما أبعدها عن دين الله ورسوله، ولكن أكثر الناس لا يعلمون. وما صدر من بعض الإخوان من الرسائل، المشعرة بجواز الاستنصار بهم، وتهوين فتنتهم، والاعتذار عن بعض أكابرهم، زلة لا يرقى سليمها، وورطة قد هلك وضل زعيمها، وما أحسن قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا} [سورة سبأ آية: 46] فاقبلوا وامتثلوا موعظة ربكم، وجاهدوا في الله حق جهاده. وقد أجمع المسلمون: على جهاد عدوهم مع الإمام سعود وفقه الله؛ وقد قرر أهل السنة في عقائدهم: أن الجهاد ماض مع كل إمام، وهو فرض على المشهور، أو ركن من أركان الإسلام، لا يبطله جور جائر. وقد قال بعض السلف – لما لامه بعض الناس على الصلاة خلف المبتدعة – إن دعونا إلى الله أجبنا، وإن دعونا إلى الشيطان أبينا، وفي الحديث " جاهدوا المشركين بأنفسكم وأموالكم وألسنتكم " وفقنا الله وإياكم للجهاد في سبيله، والإيمان بوعده وقيله، واحذروا المراء والخوض في دين الله الجزء: 9 ¦ الصفحة: 21 بغير علم، فإنه من أسباب الهلاك، كما صح بذلك الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل، وصلى الله على محمد. وله أيضا رحمه الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الإخوان من بني تميم، سلمهم الله تعالى، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: نحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو على نعمه، وعلى أقداره وحكمه، ونسأل الله أن يحسن عزانا وعزاكم، في الأخ الشيخ: عبد الملك بن حسين، غفر الله ذنبه ورحمه، ورفع في المقربين درجته؟ وما ذكرتم من جهة حالكم، مع عبد الله، وصدقكم معه، صار معلوما، نسأل الله لنا ولكم التوفيق؛ وقد بذلنا الاستطاعة في نصرته، حتى نزل بالناس ما لا قبل لهم به، وخشينا على كافة المسلمين من أهل البلد، من السبي وهتك الأستار، وخراب الدين والدنيا والدمار، ونزلنا وسعينا بالصلح، بإذن من عبد الله في الصلح، وألجأتنا إليه الضرورة، ودفعنا عن الإسلام والمسلمين ما لا قبل لهم به، فإن يك صوابا فمن الله، وإن يك خطأ فمنا ومن الشيطان، وفي السير ما يؤيد ما فعلناه، وينصر ما انتحلناه، وقد صالح الجزء: 9 ¦ الصفحة: 22 أهل الدرعية وآل الشيخ، وعلماؤهم وفقهاؤهم على الدرعية، لما خيف السبي والاستئصال. وعبد الله ظهر بمرحلة عن البلد، ونزل الحائر ولم يحصل منه نصر ولا دفاع {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [سورة يوسف آية: 21] ثم بلغنا أن الدولة ومن والاهم من النصارى وأشباههم، نزلوا على القطيف، يزعمون نصرة عبد الله، وهم يريدون الإسلام وأهله، وحضينا سعودا على جهادهم وغبناه في قتالهم، وكتبنا لبلدان المسلمين بذلك، قال الله تعالى: {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} [سورة الأنفال آية: 72] والعاقل يدور مع الحق أينما دار، وقتال الدولة والأتراك، والإفرنج وسائر الكفار، من أعظم الذخائر المنجية من النار، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل، والسلام، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. [الحث على الإجتماع وجهاد أعداء الشريعة] وله أيضا إليهم ما نصه: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الإخوان المكرمين من أهل الحوطة، سلمهم الله تعالى وهداهم، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فأوصيكم بتقوى الله وطاعته، والاعتصام الجزء: 9 ¦ الصفحة: 23 بحبله، وترك التفرق والاختلاف، ولزوم جماعة المسلمين، فقد قامت الحجة بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وعرفتم أنه لا إسلام إلا بجماعة، ولا جماعة إلا بإمارة، ولا إمارة إلا بطاعة، وقد أناخ بساحتكم من الفتن والمحن، ما لا نشكوه إلا إلى الله. فمن ذلك الفتنة الكبرى، والمصيبة العظمى: الفتنة بعساكر المشركين أعداء الملة والدين، وقد اتسعت وأضرت، ولا ينجو المؤمن منها إلا بالاعتصام بحبل الله، وتجريد التوحيد، والتحيز إلى أولياء الله وعباده المؤمنين، والبراءة كل البراءة ممن أشرك بالله، وعدل به غيره، ولم ينْزهه عما انتحله المشركون، وافتراه المكذبون; وأفضل القرب إلى الله: مقت أعدائه المشركين، وبغضهم وعداوتهم وجهادهم، وبهذا ينجو العبد من توليهم من دون المؤمنين، وإن لم يفعل ذلك، فله من ولايتهم بحسب ما أخل به وتركه من ذلك. فالحذر الحذر، مما يهدم الإسلام ويقلع أساسه، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [سورة المائدة آية: 57] وانتفاء الشرط يدل على انتفاء الإيمان بحصول الموالاة؛ ونظائر هذه الآية في القرآن كثير. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 24 وكذلك الفتنة بالبغاة والمحاربين، توجب من الاختلاف والتفرق والبغضاء، وسفك الدماء ونهب الأموال، وترك أوامر الله ورسوله، والإفساد في الأرض، ما لا يحصيه إلا الله؛ وذلك مما لا يستقيم معه إسلام؛ ولا يحصل بملابسته من الإيمان ما ينجي العبد من غضب الله وسخطه، وهذه الحالة وتلك الطريقة، بها ذهاب الإسلام وأهله، وتسلط أعداء الله، وتمكنهم من بلاد الإسلام، وهدم بنيانه والأعلام; فكيف يسعى فيها من يؤمن بالله واليوم الآخر، ويؤمن بالجنة والنار، ويخاف سوء الحساب؟! فاتقوا الله عباد الله: ولا تذهب بكم الدنيا والأهواء، وشياطين الإنس والجن، إلى ما يوجب الهلاك الأبدي، والشقاء السرمدي، والطرد عن الله وعن بابه، والخروج عن جملة أوليائه وأحبابه، قال تعالى: {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ [سورة الزمر آية: 15-16] . فتدبروا هذه الآيات الكريمات، وسارعوا إلى ما يحبه الرب ويرضاه، من الجماعة والطاعات، وائتموا بالقرآن، وقفوا عند عجائبه، وما فيه من الحجة والبرهان، فإن الله تكفل لمن قرأ القرآن، وعمل بما فيه، أن لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة؛ وهو حبل الله المتين، ونوره المبين، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 25 فيه نبأ من كان قبلكم، وفصل ما بينكم؛ لا يضل متبعه، ولا يطفأ نوره؛ فما هذه المشاقة، وما هذا الاختلاف والتفرق؟ وقد جاءتكم النصائح وتكررت إليكم المواعظ، قال تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} [سورة النساء آية: 115] وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [سورة النساء آية: 59] . وقد خرج الإمام أحمد، من حديث الحارث الأشعري، بعد أن ذكر ما أمر به يحيى بن زكريا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " وآمركم بخمس، الله أمرني بهن: الجماعة، والسمع، والطاعة، والهجرة، والجهاد في سبيل الله; فإنه من خرج من الجماعة قيد شبر، فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه إلا أن يراجع، ومن دعا بدعوى الجاهلية فهو من جثى جهنم. قالوا: يا رسول الله، وإن صلى وصام؟ قال: وإن صلى وصام، وزعم أنه مسلم؛ فادعوا المسلمين بأسمائهم، على ما سماهم الله عز وجل به؛ المسلمين، المؤمنين، عباد الله " 1. وهذه الخمس المذكورة في الحديث، ألحقها بعضهم بالأركان الإسلامية، التي لا يستقيم بناؤه ولا يستقر إلا بها،   1 الترمذي: الأمثال (2863) , وأحمد (4/202) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 26 خلافا لما كانت عليه الجاهلية، من ترك الجماعة والسمع والطاعة; نسأل الله لنا ولكم الثبات على دينه، والاعتصام بحبله، والامتثال لأمره واتقاء غضبه، وسخطه; فاحذروا الاختلاف: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [سورة الأنفال آية: 1] {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [سورة النور آية: 31] {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} [سورة النحل آية: 91] وصلى الله على محمد. وله أيضا: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأخوين المكرمين: علي بن محمد، وابنه محمد بن علي، سلمهما الله تعالى من الأسواء، وحماهما من طوارق المحن والبلوى، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فأحمد إليكما الله الذي لا إله إلا هو، وهو للحمد أهل، وهو على كل شيء قدير؛ والخط وصل وصلكما الله ما يرضيه، وجعلكما ممن يحبه ويتقيه؛ وما ذكرتما صار معلوما، وهذه الحوادث والفتن أكبر مما وصفتم، وأعظم مما إليه أشرتم، كيف لا، وقد تلاعب الشيطان بأكثر المنتسبين، وصار سلما لولاية المشركين، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 27 وسببا لارتداد المرتدين، وموجبا لخفض أعلام الملة والدين، وذريعة إلى تعطيل توحيد رب العالمين، وإلى استباحة دماء المسلمين، وهتك أعراض عباده المؤمنين. فتنة لا يصل إليها حديث ولا قرآن، ولا يرعوي أبناؤها عما يهدم الإسلام والإيمان، يعرف ذلك من من الله عليه بالعلم والبصيرة، وصار على حظ من أنوار الشريعة المطهرة المنيرة، وعلى نصيب من مراقبة عالم السر والسريرة; وقد عرفتم مبدأ هذه الفتنة وأولها، والحكم في أهلها وجندها، ثم صار لهم دولة بالغلبة والسيف، واستولوا على أكثر بلاد المسلمين وديارهم، وصارت الإمامة لهم بهذا الوجه ومن هذا الطريق، كما عليه العمل عند كافة أهل العلم من أهل الأمصار في أعصار متطاولة. وأول ذلك: ولاية آل مروان، لم تصدر لا عن بيعة ولا عن رأي، ولا عن رضى من أهل العلم والدين، بل بالغلبة حتى صار على ابن الزبير ما صار، وانقاد لهم سائر أهل القرى والأمصار. وكذلك مبدأ الدولة العباسية، ومخرجها من خراسان، وزعيمها رجل فارسي، يدعى أبا مسلم، صال على من يليه، ودعا إلى الدولة العباسية، وشهر السيف وقتل من امتنع عن ذلك، وقاتل عليه، وقتل ابن هبيرة أمير العراق، وقتل خلقا كثيرا لا يحصيهم إلا الله. وظهرت الرايات السود العباسية، وجاسوا خلال الديار الجزء: 9 ¦ الصفحة: 28 قتلا ونهبا في أواخر القرن الأول؛ وشاهد ذلك أهل القرن الثاني، والثالث، من أهل العلم والدين، وأئمة الإسلام، كما لا يخفى على من شم رائحة العلم، وصار على نصيب من معرفة التاريخ وأيام الناس. وأهل العلم مع هذه الحوادث متفقون على طاعة من تغلب عليهم في المعروف، يرون نفوذ أحكامه وصحة إمامته، لا يختلف في ذلك اثنان، ويرون المنع من الخروج عليهم بالسيف، وتفريق الأمة، وإن كان الأئمة ظلمة فسقة، ما لم يروا كفرا بواحا؛ ونصوصهم في ذلك موجودة عن الأئمة الأربعة وغيرهم، وأمثالهم ونظرائهم. إذا عرفت هذا: فالحاصل في هذا العصر بين أهل نجد، له حكم أمثاله من الحوادث السابقة، في زمن أكابر الأئمة كما قدمنا، وصارت ولاية المتغلب ثابتة كما إليه أشرنا، ووقع اتفاق من ينتسب إلى العلم لديكم على هذا، كالشيخ إبراهيم، والشثري في الحوطة، وحسين وزيد في الحريق؛ وخطوطهم عندنا محفوظة معروفة، فيها تقرير إمامة سعود، ووجوب طاعته ودفع الزكاة إليه، والجهاد معه، وترك الاختلاف عليه، كل هذا موجود بخطوطهم؛ فلا جرم قد صار العمل على هذا والاتفاق. ثم توفى الله سعود واضطرب أمر الناس، وخشينا الفتنة واستباحة المحرمات من باد وحاضر، وتوقعنا حصول ذلك، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 29 وانسلاخ أمر المسلمين، فاستصحبنا ما ذكر، وبنينا عليه، واختار أهل الحل والعقد من حمولة آل سعود؛ ومن عندهم ومن يليهم، نصب عبد الرحمن بن فيصل، وذلك صريح في عدم الالتفات منهم إلى ولاية غير آل سعود، ولهذا كتبنا من الرسائل التي فيها الإخبار بالبيعة، والنهي عن سلوك طريق الفتن والاختلاف، وأن يكون المسلمون يدا واحدة، ذكرناهم قوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} [سورة آل عمران آية: 103] ، ونحو ذلك من الآيات، وبعضا مما ورد من الأحاديث الصحيحات. وترك بعض من لديكم هذا المنهج، وسلكوا طريقا وعرة، تفضي إلى سفك الدماء، واختلاف الكلمة، وتضليل من خالفهم، ودعا بعضهم إلى ذلك واستحسنه، من غير مشورة ولا بينة، ولم ينصحوا إخوانهم ويوضحوا لهم وجه الإصابة فيما اختاروه وما ارتضوه؛ وكان الواجب على من عنده علم، أن ينصح الأمة، بل وينصح أولا لله ولكتابه ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم، ويكرر الحجة، وينظر في الدليل، ويرشد الجاهل، ويهدي الضال، بحسن البيان وتقرير صواب المقال، لكنهم أحجموا عن ذلك كله، ولم يلتفتوا إلى المحاقة؛ والله هو ولي الهداية، الحافظ الواقي من موجبات الجهل والغواية. وقد أوجب الله البيان وترك الكتمان، وأخذ الميثاق على الجزء: 9 ¦ الصفحة: 30 ذلك على من عنده علم وبرهان. هذه صورة الأمر وحقيقة الحال، وقد عرفتموه أولا وآخرا في المكاتبات الواردة عليكم؛ فلا يلتبس عليك الحال، ولا يشتبه سبيل الهدى بالجهل والضلال، واذكر قوله: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً الاَّ اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً} [سورة الأحزاب آية: 39] . إذا رضي الحبيب فلا أبالي ... أقام الحي أم جد الرحيل وأما الصلح بين المسلمين، فهو من واجبات الإيمان والدين، ولكن يحتاج إلى قوة وبصيرة، يحصل بها نفوذ ذلك والإجبار عليه؛ فإن وجدت إلى ذلك سبيلا فاذكره لي أولا، ولا نألو جهدا إن شاء الله فيما يكف الله به الفتن، ويصلح به بين المسلمين؛ وأسأل الله أن يمن بذلك ويوفق لما هنالك، وصلى الله على محمد. وله أيضا: رفع الله منازله في عليين: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأخوين المكرمين، زيد بن محمد، وصالح، إلى الأخوين المكرمين، زيد بن محمد، وصالح بن محمد الشثري، سلمهم الله تعالى، سلام عليكم الله وبركاته وبعد: فأحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو على نعمه، والخط وصل، أوصلكم الله إلى ما يرضيه، وما ذكرتموه كان الجزء: 9 ¦ الصفحة: 31 معلوما، وموجب تحرير هذا ما بلغني بعد قدوم عبد الله وغزوه، من أهل الفرع، وما جرى لديكم من تفاصيل الخوض في أمرنا والمراء والغيبة، وإن كان قد بلغني أولا كثير من ذلك، لكن بلغني مع من ذكر تفاصيل ما ظننتها، فأما ما صدر في حقي من الغيبة والقدح والاعتراض، ونسبتي إلى الهوى والعصبية، فتلك أعراض انتهكت وهتكت في ذات الله، أعدها لديه جل وعلا ليوم فقري وفاقتي، وليس الكلام فيها. والقصد: بيان ما أشكل على الخواص، والمنتسبين من طريقتي في هذه الفتنة العمياء الصماء، فأول ذلك مفارقة سعود لجماعة المسلمين، وخروجه على أخيه؛ وقد صدر منا الرد عليه وبسفيه رأيه، ونصيحة ولد عائض وأمثاله من الرؤساء، عن متابعته والإصغاء إليه ونصرته، وذكرناه بما ورد من الآثار النبويه، والآيات القرآنية بتحريم ما فعل، والتغليظ على من نصره، ولم نزل على ذلك إلى أن وقعت وقعة "جودة" فثل عرش الولاية، وانتثر نظامها، وحبس محمد بن فيصل، وخرج الإمام عبد الله شاردا، وفارقه أقاربه وأنصاره، وعند وداعه: وصيته بالاعتصام بالله، وطلب النصر منه وحده، وعدم الركون إلى الدولة الخاسرة. ثم قدم علينا سعود بمن معه من العجمان والدواسر، وأهل الفرع، وأهل الحريق وأهل الأفلاج، وأهل الوادي، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 32 ونحن في قلة وضعف، وليس قي بلدنا من يبلغ الأربعين مقاتلا، فخرجت إليه، وبذلت جهدي، ودافعت عن المسلمين ما استطعت، خشية استباحة البلدة، ومعه من الأشرار وفجار القرى من يحثه على ذلك، ويتفوه بتكفير بعض رؤساء أهل بلدتنا، وبعض الأعراب يطلقه بانتسابهم إلى عبد الله بن فيصل، فوقى الله شر تلك الفتنة ولطف بنا، ودخلها بعد صلح وعقد. وما جرى من المظالم والنكث، دون ما كنا نتوقع، وليس الكلام بصدده، وإنما الكلام في بيان ما نراه ونعتقده، وصارت له ولاية بالغلبة والقهر، تنفذ بها أحكامه، وتجب طاعته في المعروف، كما عليه كافة أهل العلم على تقادم الأعصار ومر الدهور، وما قيل من تكفيره لم يثبت لدي، فسرت على آثار أهل العلم، واقتديت بهم قي الطاعة في المعروفب، وترك الفتنة، وما توجب من الفساد على الدين والدنيا، والله يعلم أني بار راشد في ذلك. ومن أشكل عليه شئ من ذلك، فليراجع كتب الإجماع، كمصنف ابن حزم، ومصنف ابن هبيرة، وما ذكره الحنابلة وغيرهم، وما ظننت أن هذا يخفى على من له أدنى تحصيل وممارسةِ، وقد قيل: سلطان ظلوم خير من فتنة تدوم. وأما الإمام عبد الله: فقد نصحت له كما تقدم أشد الجزء: 9 ¦ الصفحة: 33 النصح، وبعد مجيئه لما أخرج شيعة عبد الله سعودا، وقدم من الأحساء، ذاكرته في النصيحة، وتذكيره بآيات الله وحقه، وإيثار مرضاته، والتباعد عن أعدائه، وأعداء دينه أهل التعطيل والشرك، والكفر البواح؛ وأظهر التوبة والندم، واضمحل أمر سعود، وصار مع شرذمة من البادية حول المرة والعجمان، وصار لعبد الله غلبة ثبتت بها ولايته، على ما قرره الحنابلة وغيرهم، كما تقدم: أن عليه عمل الناس من أعصار متطاولة. ثم ابتلينا بسعود، وقدم إلينا مرة ثانية، وجرى ما بلغكم من الهزيمة على عبد الله وجنوده، ومر بالبلدة منهزما لايلوي على أحد، وخشيت من البادية؛ وعجلت إلى سعود كتابا في طلب الأمان لأهل البلدة، وكف البادية عنهم، وباشرت بنفسي مدافعة الأعراب، مع شرذمة قليلة من أهل البلدة، ابتغاء ثواب الله ومرضاته، فدخل البلدة، وتوجه عبد الله إلى الشمال، وصار الغلبة لسعود، والحكم يدور مع علته. وأما بعد وفاة سعود، فقدم الغزاة ومن معهم من الأعراب العتاة، والحضر الطغاة، فخشينا الاختلاف وسفك الدماء، وقطيعة الأرحام بين حمولة آل مقرن، مع غيبة عبد الله، وتعذر مبايعته، بل ومكاتبته، ومن ذكره يخشى على نفسه وماله، أفيحسن أن يترك المسلمون وضعفاؤهم، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 34 نهبا وسبيا للأعراب والفجار؟ وقد تحدثوا بنهب الرياض قبل البيعة، وقد رامها من هو أشر من عبد الرحمن وأطغى، ولا يمكن ممانعتهم ومراجعتهم. ومن توهم أني وأمثالي أستطيع دفع ذلك، مع ضعفي وعدم سلطاني وناصري، فهو من أسفه الناس وأضعفهم عقلا وتصورا، ومن عرف قواعد الدين وأصول الفقه، وما يطلب من تحصيل المصالح ودفع المفاسد، لم يشكل عليه شيء من هذا، وليس الخطاب مع الجهلة والغوغاء، إنما الخطاب معكم معاشر القضاة والمفاتي، والمتصدرين لإفادة الناس وحماية الشريعة المحمدية، وبهذا ثبتت بيعته، وانعقدت، وصار من ينتظر غائبا لا تحصل به المصالح، فيه شبه ممن يقول بوجوب طاعة المنتظر، وأنه لا إمامة إلا به. ثم إن حمولة آل سعود، صارت بينهم شحناء وعداوة، والكل يرى له الأولوية بالولاية، وصرنا نتوقع كل يوم فتنة وكل ساعة محنة، فلطف الله بنا، وخرج ابن جلوى من البلدة، وقتل ابن صنيتان، وصار لي إقدام على محاولة عبد الرحمن في الصلح، وترك الولاية لأخيه عبد الله، فلم آل جهدي في تحصيل ذلك والمشورة عليه، مع أني قد أكثرت في ذلك حين ولايته، ولكن رأيته ضعيف العزم لا يستبد برأيه. فيسر الله قبل قدوم عبد الله بنحو أربعة أيام، أنه وافق الجزء: 9 ¦ الصفحة: 35 على تقديم عبد الله وعزل نفسه، بشروط اشترطها، بعضها غير سائغ شرعا، فلما نزل الإمام عبد الله ساحتنا، اجتهدت إلى أن محمد بن فيصل يظهر إلى أخيه، ويأتي بأمان لعبد الرحمن وذويه، وأهل البلد، وسعيت في فتح الباب، واجتهدت في ذلك، ومع ذلك كله فلما خرجت للسلام عليه، وإذا أهل الفرع، وجهلة البوادي، ومن معهم من المنافقين، يستأذنونه في نهب نخيلنا وأموالنا، ورأيت معه بعض التغير والعبوس، ومن عامل الله ما فقد شيئا، ومن ضيع الله ما وجد شيئا. ولكنه بعد ذلك: أظهر الكرامة ولين الجانب، وزعم أن الناس قالوا ونقلوا، وبئس مطية الرجل زعموا، وتحقق عيدي دعواه التوبة، وأظهر لدي الاستغفار والتوبة والندم، وبايعته على كتاب الله وسنة رسوله، هذا مختصر القضية، ولولا أنكم من طلبة العلم، والممارسين الذين يكتفون بالإشارة وأصول المسائل، لكتبت رسالة مبسوطة، ونقلت من نصوص أهل العلم وإجماعهم، ما يكشف الغمة ويزيل اللبس. ومن بقي عليه إشكال فليرشدنا رحمه الله، ولو أنكم أرسلتم بما عندكم، مما يقرر هذا أو يخالفه، وصارت المذاكرة لا نكشف الأمر من أول وهلة، ولكنكم صممتم على رأيكم، وترك النصيحة من كان عنده علم، واغتر الجزء: 9 ¦ الصفحة: 36 الجاهل، ولم يعرف ما يدين الله به في هذه القضية، وتكلم بغير علم، ووقع اللبس والخلط والمراء، والاعتداء في دماء المسلمين وأعراضهم، وهذا بسبب سكوت الفقيه، وعدم البحث، واستغناء الجاهل بجهله، واستقلاله بنفسه. وبالجملة: فهذا الذي نعتقد وندين الله به، والمسترشد يذاكر ويبحث، والظالم المعتدي حسابنا وحسابه إلى الله، الذي تنكشف عنده السرائر، وتظهر مخبآت الصدور والضمائر، يوم يبعثر ما في القبور، ويحصل ما في الصدور. وأما ما ذكرتم من التنصل، والبراءة مما نسب في حقي إليكم، فالأمر سهل والجروح جبار، ولا حرج ولا عار؛ وأوصيكم بالصدق مع الله، واستدراك ما فرطتم فيه، من الغلظة على المنافقين، الذين فتحوا للشرك كل باب، وركن إليهم كل منافق كذاب؛ وتأمل قوله بعد نهيه عن موالاة الكافرين {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ} [سورة آل عمران آية: 30] والسلام. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 37 وله أيضا، صب الله عليه من شآبيب بره ووالى: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأخوين: سهل بن عبد الله، ومحمد بن عثمان، سلام الله عليكم ورحمة الله وبركاته، ما تعاقب غدوات الدهر وروحاته؛ والخط وصل، وسرني ما ذكرتما من الدعوة إلى الله، وما حصل بكما من الانتفاع؛ فالحمد لله على ذلك، وفي الحديث " نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها وحفظها، وبلغها، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه ". قلت: وهذا من عاجل ثواب الله لأهل العلم والحديث، المبلغين عن الله وعن رسوله، فإنهم يعطون نضرة في وجوههم، يمتازون بها عن سائر الخلق، وفي صحيح البخاري " خيركم من تعلم القرآن وعلمه " 1 وتعليمه يتناول: تعليم معانيه وما دل عليه من الأصول الإيمانية، والقواعد الشرعية، فإن المعنى هو المقصود، وفي الحديث: " من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه، من غير أن ينقص ذلك من أجورهم شيئا "2 والأحاديث في المعنى كثيرة. وللحديث الأول بقية، قد سألني سهل عنها، وهي   1 البخاري: فضائل القرآن (5027) , والترمذي: فضائل القرآن (2907 ,2908) , وأبو داود: الصلاة (1452) , وابن ماجه: المقدمة (211) , وأحمد (1/57 ,1/58 ,1/69) , والدارمي: فضائل القرآن (3338) . 2 مسلم: العلم (2674) , والترمذي: العلم (2674) , وأبو داود: السنة (4609) , وأحمد (2/397) , والدارمي: المقدمة (513) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 38 قوله صلى الله عليه وسلم: " ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم: إخلاص العمل لله، ومناصحة أئمة المسلمين، ولزوم جماعتهم؛ فإن دعوتهم تحيط من ورائهم " 1، ذكر العلامة ابن القيم وغيره، أن المعنى: لا يحمل الغل ويبقى فيه، مع وجود هذه الثلاث، فإنها تنفي الغل والغش، وهو فساد القلب وسخائمه، فالمخلص لله إخلاصه يمنع وجود الغل في قلبه، ويخرجه ويزيله، لأنه قد انصرفت دواعي قلبه وإرادته إلى مرضاة ربه، فلم يبق فيه موضع للغل. وقد أشار تعالى إلى هذا المعنى بقوله: {َذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [سورة يوسف آية: 24] ، فلما أخلص لربه صرف عنه دواعي السوء والفحشاء، ولما علم إبليس هذا المعنى استثناهم في قوله: {إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [سورة الحجر آية: 40] فالإخلاص هو سبيل الخلاص، والإسلام مركب السلامة، والإيمان خاتم الأمان. ومناصحة المسلمين تنافي الغل أيضا، فإن النصح لا يجامع الغل إذ هو ضده، وكذلك لزوم جماعة المسلمين مما يطهر القلب من الغل، فإن صاحبه للزومه الجماعة يحب لهم ما يحب لنفسه، ويكره لهم ما يكره لها، ويسوؤه ما يسوؤهم، ويسره ما يسرهم. وهذا بخلاف ما انحاز عنهم، واشتغل بالطعن عليهم   1 الترمذي: العلم (2658) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 39 والعيب والذم، كما يفعله الجهال والضلاّل مع شيخ الإسلام وأتباعه، على توحيد الله ودينه، وكما فعله إخوانهم: الرافضة والخوارج، والمعتزلة والجهمية، فإن قلوبهم ممتلئة غلا وغشا، ولهذا تجدهم من أبعد الناس عن الإخلاص، وأغشهم للأئمة والأمة، ولا يكونون قط إلا أعوانا على أهل الإسلام، مع أي عدو ناوأهم، وهذا أمر شاهدته الأمة، ومن لم يشاهده فقد سمع منه ما يصم الآذان، ويشجي القلوب. وقوله صلى الله عليه وسلم: " فإن دعوتهم تحيط من ورائهم "1، هو بكسر الميم وإسكان النون، وهذا من أحسن الكلام وأوجزه، شبه دعوة المسلمين بالسور والسياج المحيط بهم، المانع من دخول عدوهم عليهم، فكانت دعوة الإسلام سورا وحصنا، لمن لزمها تحيط به تلك الدعوة، فالدعوة تجمع شمل الأمة وتلم شعثها وتحيط بها، فمن دخل في جماعتها أحاطت به وشملته. هذا: وما ذكرتما من الأخبار، صار معلوما، والجواب من الرأس عن قريب إن شاء الله تعالى، والسلام.   1 ابن ماجه: المناسك (3056) , وأحمد (4/80 ,4/82) , والدارمي: المقدمة (227) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 40 وله أيضا: عفا الله عيه: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى زيد بن محمد، حفظه الله من طوائف الشيطان، وجعلنا وإياه من أوعية العلم والإيمان، وحرسنا وإياه من مضلات الفتن وتلاعب الشيطان، سلام عليكم ورحمة الله وبركانه. وبعد: فأحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، وهو للحمد أهل، وهو على كل شيء قدير، وأسأله اللطف بنا وبكم، وبكافة المسلمين, عند كل كرب عسير، وقد بلغكم خبر الوقعة التي جرت على إخوانكم، وتفاصيلها عن ألسن القادمين، وقد لطف الله بنا، ودفع ما هو أشد وأعظم، من استباحة البيوت والمحارم، حين صارت الهزيمة، وجنب عبد الله البلد، وكتبت لسعود كتابا، ونادى في قومه بالكف عن بلد الرياض، وأن البلد سلمت، فدفع الله بذلك شرا عظيما. وثاني يوم قدمت عليه، وأكثرت عليه في أمر المسلمين، وأظهر القبول، وكف عنا كثيرا من الناس، وأدخل له طارفة في القصر واستقر أمره، وهذه الفتن أصاب الإسلام منها بلاء عظيم، قلعت قواعده، وانهدمت أركانه، واجتثت بنيانه، وهل عند رسم دارس من معول. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 41 فالواجب مساعدة إخوانكم بصالح الدعاء، ونشر العلم، وبذل النصائح، وتقديم خوف الله على مخافة خلقه، وما منكم من أحد إلا وهو على ثغر من ثغور الإسلام، فلا يؤتى الإسلام من قبله، كذلك هذه الشبهة التي حصلت، والمكاتبات التي رسمت في شأن هذه الفتن، ممن ينتسب إلى العلم والدين، لا يسوغ لمثلك السكوت عليها، وعدم التنبيه على ما فيها {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً} [سورة الطلاق آية: 2] فاكتب لي بما يسر عن مثلك، وما هو الظن بك؛ ولقولك بحمد الله موقع في نفوس المسلمين، كذلك لاتذخر نصح سعود بالمكاتبة، والنصائح والتذكير وابسط القول. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 42 وله أيضا: أسكنه الله الفردوس الأعلى: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأخوين المكرمين: عبد الله بن إبراهيم بن علي، وسليمان بن إبراهيم آل سعود، سلمهما الله تعالى، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فأحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو على نعمه، وهذه الفتنة التي وقعت، ودارت رحاها لديكم، سببها الذنوب، ومعصية الله ورسوله، والتمادي والإهمال فيما سلف من أناس لديكم، هم مفاتيح للشر مغاليق للخير، دخلوا في تميم مدخلا عظيما بالقيل والقال، والكذب والضلال، نسأل الله أن يقينا وإياكم شر هذه الفتنة، وأن لا يشمت بنا الأعداء. ولا أرى لنا ولكم إلا تحكيم كتاب الله، وسنة رسوله في موارد النّزاع، فإن حذيفة قد سأل رسول الله عن الشر، فذكر له الفتن وحذره منها، فقال حذيفة: " ما المخرج يا رسول الله؟ قال: " إقرأ كتاب الله واعمل بما فيه؛ كرر ذلك ثلاثا "، فالنجاة تحكيمه في موارد النّزاع، والحق مستبين لولا الهوى ومجانبة الهدى، وعلى الحق منار كمنار الطريق، فاحذروا الفتنة والقطيعة، وخراب الديار، وحلول قوارع الجزء: 9 ¦ الصفحة: 43 البلاء والبوار: {وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [سورة الأنفال آية: 1] ولا تهاونوا بأمر الفتنة، فإن أمرها عظيم وعذاب أليم. وأما أمر ولاية عبد الرحمن بن فيصل، فسبق إليكم خطوط بعد وفاة سعود، وعرفتكم بعقد البيعة لعبد الرحمن، وحذرت من الفتنة والمشاقة، والرغبة عن جماعة المسلمين، وكتبت لغيركم هذا المضمون، ولا قصد لي إلا اجتماع المسلمين، ودفع الشر والفساد بحسب الطاقة، و {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} [سورة البقرة آية: 286] ولا جرى مني ما ينقض هذا. والخط الذي ورد عليكم وأرسلتموه إلينا، لا حقيقة له، ولم يصدر مني ما ذكر فيه، ولو طالبتموه بخطي، لم تجدوا عنده أثرا ولا خبرا، والله يقضي ما يريد بحكمته، وينفذ بقدرته وعزته، لا راد لأمره ولا معقب لحكمه، ولا تغتروا بالحكي وتسويد القرطاس {وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً} [سورة النساء آية: 79] . والله عند لسان كل قائل وقلبه، ولا يستنكر مثل هذا، وأعظم منه في هذه الفتنة، نسأل الله العظيم أن يلطف بأهل الإسلام، وأن يهديهم سبل السلام، وأن يخرجنا وإياهم من الظلمات إلى النور، وينصرهم على عدوهم، وصلى الله على محمد. سئل بعضهم: ما معنى قوله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الجزء: 9 ¦ الصفحة: 44 الأَمْرِ} [سورة آل عمران آية 159] وما يلزم الإمام في ذلك؟ أوضحوا لنا رحمكم الله؟. فأجاب: قال الله تعالى لصفوته من خلقه: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} ، وقرأ ابن عباس: في بعض الأمر; قال الإمام العلامة أثير الدين أبو حيان في تفسيره المسمى "البحر المحيط" على هذه الآية الكريمة: أمر الله تعالى بمشاورتهم. وفيها فوائد: تطييب نفوسهم، ورفع مقدارهم بصفاء قلبه لهم، حيث أهلهم للمشاورة، وتشريع المشاورة لمن بعده، والاستظهار برأيهم فيما لم ينْزل فيه وحي، فقد يكون عندهم من أمور الدنيا ما ينتفع به، واختبار عقولهم، فتنْزلهم منْزلة لهم، واجتهادهم فيما فيه وجه الصلاح، وجرى على منهج العرب وعادتها في الاستشارة في الأمور. وإذا لم يشاور أحدا منهم حصل في نفسه شيء، ولذلك عز على علي وأهل البيت كونهم لم يتشاوروا في خلافة أبي بكر رضي الله عنه إلى أن قال: إذ لا يستشير الإنسان إلا من كان معتقدا فيه المودة الصادقة والعقل والتجربة، قال رحمه الله: وفي هذه الآية دليل على المشاورة وتخمير الرأي وتنقيحه، والفكر فيه، وأن ذلك مطلوب شرعا، ولهذا كان كثير المشاورة صلى الله عليه وسلم لأصحابه انتهى. وفي الحديث: " ما خاب من استخار، ولا ندم من الجزء: 9 ¦ الصفحة: 45 استشار " ولولي الأمر كتمان بعض الأمر لمصلحة يراها، كفعله صلى الله عليه وسلم ذكره ابن القيم رحمه الله تعالى في الهدي، وينبغي أن يفهم: أن من استشار واحدا أو اثنين وأمره فقد استشارهم، كما صرحت به سنته وهديه، ففي بعض الأمر استشار أم سلمة، ولم يستشير غيرها، وفي مصالحة المشركين استشار السعدين فقط، ولما أراد أن يرجع من الطائف استشار نوفل بن معاوية الديلمي، وهذا باب واسع، وربما فعل أشياء ولم يستشر فيها أحدا، وقد أرسل بعض السرايا، وكتب لهم كتابا إذا بلغتم كذا وكذا، فانظروا كتابي واعملوا به، ولم يطلع عليه غيره، ولم يشاورهم فيه. والحاصل من الجواب: أن المشاورة مأمور بها، مندوب إليها، وعاقبتها خير، وفوائدها كثيرة، لكن من استشار البعض فقد استشارهم، ولا يشاور إلا أهل الصلاح، والمحبة الصادقة، والعقل، والتجربة، والنصح، ومن علم منه غير هذا فلا يستشار، آخره، والله الموفق والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 46 وقال الشيخ: حمد بن عتيق، رحمه الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم من حمد بن عتيق، إلى الإمام سعود، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: وصل إلي خطك وتأملته، وكثرت الظنون فيه، حتى إني ظننت أن الذي أملاه غيرك، لأن فيه أمورا ما تصدر من عاقل، وفيه أكاذيب ما تليق بمثلك، وتذكر أنك أشرفت على خط لمبارك بن محمد، وتحققته، فنقول: ذلك ما كنا نبغ، فإنك المقصود به، وتحققنا أن مباركا يوصله إليك، وأردت أنه يكون لي حجة عليك عند الله. وقد جاءنا خط من مبارك، يقول فيه، ويشهد: أن هذا الكلام الذي فيه، هو الحق الذي ليس بعده حق، وقد رآه كثير من الإخوان، فما أمكروا منه شيئا، فلا يضر الحق جحدك له والأحاديث، فأجب عنها، وإلا فاتق الله ولا تغتر بدعاية ليس لها أصل. وأما قولك: إنه غيرني طمع الدنيا، فأنا لا أزكي نفسي، وابن آدم على خطر ما دامت روحه في جسده؛ وأما في هذا الأمر، فأنا جازم أني على الحق – ولله الحمد – فإن رجعت إلى ما تعلمه مني، مما كنت أقول لك وأجاهرك به، عرفت أن طمع الدنيا ما يغرني، ولا قوة إلا بالله. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 47 وأما إنكارك موالاة أهل نجران، فهو مكابرة، لأنها أمر قد اشتهر، واحتجاجك: بأن عبد الله يوالي الشريف، نقول: نبرأ إلى الله من موالاة الشريف، وأهل نجران جميعا. ونقول لك أيضا: لا شك أن عبد الله، وقبله والده، وقبله جدك تركي، رحمهما الله، يكاتبون الشريف، وينهون، ويعتقدون بأنهم يفعلون ذلك مكافأة دون المسلمين، واستدفاعا لشر الدول، ولا نحملهم إلا على الصدق. وأنتم تكاتبون أهل نجران، وتستصرخون بهم على أهل الإسلام، لتفريق جماعتهم، والإفساد في الأرض، وأنتم تعلمون عداوتهم لهذا الدين وأهله، وما جرى بينهم وبين أهل الإسلام، أفلا يستحي العاقل؟. وأما قولك: إنكم ما أنكرتم على عبد الله، فنقول لك أولا: إنا لا نقول إن مجرد المكاتبة تستلزم الموالاة الموجبة للإنكار؛ وأيضا: نفيك لإنكارنا رجم بالغيب، فإنه ليس من شرط الإنكار إطلاعك عليه، وأيضا: من الذي قال إن تركنا للإنكار أو غيرنا، يكون حجة لك، في فعل ما هو أكبر وأنكر؟!. وأما قولك: إن جنودك آل عرجا والمرة، فنقول: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 48 كلهم أعداء، قاتلهم الله، واستعانتك بهم على أهل الإسلام، من أكبر الحجج عليك، ومما يوجب نفرة كل مؤمن عنك. وأما قولك: إن حكمك ماض عليهم، قبل أن يموت الوالد باثني عشر سنة، فنقول: ما علمنا أن لك حكما تختص به، إلا أنك أمير للإمام من جنس غيرك من الأمراء، ويدل عليه: أن والدك وحمه الله عزلك في حياته، ومات وأنت معزول. وأما قولك: إن معك ختمه، فنقول: حاشا الإمام فيصل رحمه الله، مع ما أعطاه الله من العقل، والتمييز بين المصالح والمفاسد، ومعرفة أسباب الفتن، والتحرز مما يقتضيها، حاشاه أن يكتب أن الرعية تكون فرقتين، إلا إن صح ما ذكرته في خطك، من أن عقله اختل في آخر عمره، فيكون هذا صدر في تلك الحال، فيكون وجوده كعدمه. ولو نقدر أن ما تدعيه صدر في صحة عقله، لكان هذا مردودا عليه، فإنه أمر مستحيل وجوده في مثل تجد وما يتبعها. وأما قولك: إني منكر عليك تحيزك إلى محمد بن عايض، أنكرنا عليك السعي في الفتنة وسفك الداء، وطلب ما ليس لك؛ ومحمد بن عايض ما نقول فيه إلا الخير؛ والظن فيه: أنه ما يساعدك على ما تحاول، ومعه من العقل الجزء: 9 ¦ الصفحة: 49 والديانة ما يحجزه عن الخروج عن مقتضى الشرع، ومقابلة إحسان آل الشيخ، وآل مقرن بالإساءة، حاشاه من ذلك. مع أنه قد علم وتحقق بالعادة الجارية، والأدلة القاطعة: أنه ما من طائفة قامت في عداوة أهل هذا الدين، ونصبت لهم الحرب، إلا أوقع الله بها بأسه، ونوع عليها العقوبات، هذا أمر ثابت يعرفه من نظر واعتبر، ويدل عليه قوله تعالى: {وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً} [سورة الإسراء آية: 76،77] . فكيف يظن بمحمد: أنه يعرض نفسه وإخوته، وما أعطاه الله من العز، إلى حلول هذه السنة به؟ أعاذه الله من ذلك؟ والحمد لله الذي أوصل خطى إليه حتى عرفه وتحققه، أن الله قد جعل له نصيبا من العلم، وعنده الكتب: التفسير، والحديث، والتواريخ التي فيها أيام الناس. وأما قولك: إنك بايعت عبد الله قهرية؛ فنقول: ثبتت إمامة عبد الله، بايعت أم أبيت، فلو أنك امتنعت من بيعة عبد الله، ولم يطلبها منك، هل يثبت لك ما ذكرت؟ أم هل يحل لك أن تفعل ما فعلت؟ سبحان الله وبحمده؟ مع أنك بايعت اختيارا، فإنك خضرت مع المشائخ ومن حضر معهم، وبايعت أخاك طوعا واختيارا، لا قهرا واضطرارا. وأما قولك: إن أهل نجد بايعوا عبد الله ذلا وقهرا، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 50 فهذا قول معلوم عدم صحته، فإن أهل نجد بايعوا عبد الله، ودخلوا في طاعته طوعا واختيارا، وثبتت الولاية باتفاق الرعية، ولا نعلم أحدا خالف في ذلك ولا نازع فيه، فكان أمرا معلوما عند الخاص والعام، وقد اختاره والده وقدمه في حياته، ورضيه المسلمون بعد وفاة أبيه، فصار من نازع في ذلك باغيا، يجب على المسلمين دفعه وجهاده باليد واللسان والمال، وهذا الذي ندين الله به ونلقى به ربنا، رضيت يا سعود أم غضبت. وأما جراءتك في حق أخيك، مثل قولك: إن عبد الله أفسد أديان الناس، فهذا كلام مستبشع، لايحل التلفظ بمثله، وحرص عبد الله على صلاح دين الناس ودنياهم أمر معلوم. وأما الذين هلكوا في المعتلى، فنرجو أن من صلحت نيته منهم شهيد، ولم يموتوا إلا بآجالهم، ونرجو لهم عند الله، لأنهم قتلوا تحت سيف ابن سريعة، ونحوه من الطواغيت. وأما دعواك على أخيك: فعل كذا وكذا، فلو كان صدقا لم يوجب خروجك عليه، وشق عصا المسلمين، لما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأحاديث، أنه يجب على المسلم السمع والطاعة، وإن ضرب ظهره وأخذ ماله؛ وأنت لم يضرب لك ظهر، ولا أخذ لك مال، فإن كان الذي حملك الجزء: 9 ¦ الصفحة: 51 على ما فعلت: الطمع في بيت مال المسلمين، واستقلالك ما تأخذ منه، فهذا من العدوان الظاهر. فإن بيت المال مشترك بين المسلمين، عامهم وخاصهم، مع أن أخاك ما قصر في عطائك، يعطيك أشياء لاتستحقها، فإن الواحد منكم كأنه واحد من المسلمين، وما يفعله كثير كم من الملوك، من تفضيل أقاربهم، قد أنكره السلف، وعمل أئمة العدل يخالفه؛ وقد بلغك: أن عمر بن الخطاب نقص ابنه عبد الله عن عطاء المهاجرين خمسمائة درهم. فلو أن أخاك عاملك بما تقبضيه السنة، وما ذكره مثل شيخ الإسلام في السياسة الشرعية، لم يكن لك عليه حجة، ولكان أحرى بإعانة الله له عليك وعلى من خرج، فكيف وهو يحثو عليك وعلى أشباهك ما لا تستحقونه، والظاهر أن هذا ما يخفى عليك. وأما قولك: إنك تطلب حكم الله ورسوله، فأخوك ما يمنع حكم الله ورسوله، فما الذي منعك من طلب ذلك، حين كنت بين المشائخ أهل العدل والإنصاف؟ فإن زعمت أنك خائف، فكيف لم تطلب ذلك بعد ما ألفيت على محمد بن عايض؟ ولو أنك كاتبت أخاك أو المشائخ تطلب المحاكمة لم تمنع، فلما لم تفعل فأخوك لم يمنعك إلى اليوم، وأنت الطالب، فإن طلبت من أخيك يعطيك الجزء: 9 ¦ الصفحة: 52 المواثيق، وتقدم عليه وتجالسه عند آل الشيخ، حصل لك ذلك. وأما قولك: إن عبد الله يوكلني أخاصمك، فأنا لا أطلب ذلك، وإذا أراد خصومتك فإن قربت منه خاصمك بنفسه، فإن بعدت عنه وجد لها غيري، فإن عين ذلك على وألزمني به، قلت سمعا وطاعة. وأما قولك: إن عبد الله حال بينك وبين ما تملك في الأحساء والقطيف، فلا نعلم أن عبد الله حال بينك وبين شيء تملكه، وأما خراج الأحساء والقطيف، فهو مشترك بين المسلمين، وحكمه وتدبيره عند من ولاه الله أمرهم. وأما ما ذكرت: من المزاعيل والتخويفات، فجوابه {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [سورة هود آية: 56] ونصدع بالحق إن شاء الله ولا قوة إلا به، ولا يمنعنا من ذلك تخويف أحد. وفي خطك أمور تحتاج إلى جواب طويل، واقتصرنا على القليل منه، ليتبين لك ولمن عندك خطؤك، لعل الله أن يردك للحق، وتترك ما هو شر في العاجل والآجل، وفي الكتاب والسنة ما يبين المحق من المبطل، والضلال من الصراط المستقيم؛ كقوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} [سورة آل عمران آية: 103] وقوله تعالى: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا} [سورة آل عمران آية: 105] الجزء: 9 ¦ الصفحة: 53 وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [سورة الأنعام آية: 159] . وفي الأحاديث مثل ذلك، كقوله صلى الله عليه وسلم: " من خرج على أمتي يضرب برها وفاجرها ولا يفي لذي عهد فليس مني ولست منه " وقوله: " من أتاكم وأمركم على رجل واحد، يريد أن يشق عصاكم، ويفرق جماعتكم، فاقتلوه كائنا من كان " وقوله صلى الله عليه وسلم: " إذا بويع لخليفتين، فاقتلوا الآخر منهما " وقوله: " اسمعوا وأطيعوا، وإن تأمر عليكم عبد حبشي، كأن رأسه زبيية " في أحاديث كثيرة في هذا المعنى، قد قرأتها، وقرئت عليك. فاتق الله، فإني أخاف عليك من قوله: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [سورة الصف آية: 5] ومن قوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [سورة النور آية: 63] قال الإمام أحمد: أتدري ما الفتنة؟ الفتنة الشرك، لعله إذا رد بعض قوله، أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك. ونحن لا نكره أن يهديك الله إلى صراطه المستقيم، وتكون على ما كان عليه آباؤك الصالحون، وسلفك المهتدون، وفيمن ذكرت ممن مات من إخوتك عبرة للمعتبر، رحمهم الله وعفا عنهم، اللهم اجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وصلى الله على محمد وآله وسلم. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 54 وقال الإمام: عبد الله بن فيصل، رحمه الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله بن فيصل، إلى من يراه من المسلمين، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فنحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو على نعمه وحكمه، والوصية الجامعة النافعة لمن عقلها وفهمها، هي وصية الله لعباده، قال تعالى: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّه} [سورة النساء آية: 131] وتفاصيل ذلك على القلوب والجوارح، مذكور في كتاب الله وسنة رسوله، يجده من طلبه. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ َوَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} [سورة آل عمران آية: 102-103] إلى قوله: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [سورة آل عمران آية: 103] والآيات بعدها إلى قوله: {مَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعَالَمِينَ} [سورة آل عمران آية: 108] . فأمر تعالى بتقواه حق التقوى، وأمر بالتزام الإسلام والتمسك به مدة العمر والمحيا، لأن من عاش على شيء مات عليه، كما جرت به عادة أكرم الأكرمين، وأرحم الراحمين، وأمر بالاعتصام بحبله، وهو كتابه، وقيل هو الجماعة، والمعنى متقارب، لأن الاعتصام بالكتاب لا يحصل على وجه الكمال الواجب، إلا مع الجماعة، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 55 ولهذا قال ابن مسعود رضي الله عنه: " يا أيها الناس عليكم بالطاعة والجماعة، فإنها حبل الله الذي أكرمكم به ". ويشهد له الحديث المرفوع: " من فارق الجماعة قيد شبر، فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه " 1، وعنه صلى الله عليه وسلم: " إن الله يرضى لكم ثلاثا: أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم، وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا " 2. وكذلك هذه الآية، فيها النهي عن التفرق، فإن الجماعة رحمة، والفرقة عذاب. وإذا وقعت الفرقة فسد الدين، ونبذ الكتاب، وغلبت الأهواء، وذهب سلطان العلم والهدى، فلا تكاد ترى إلا من هو معجب برأيه، منفرد بأمره، منتقص لغيره، معرض عن قبول الهدى، ودعوة المسلمين تحيط من ورائهم; وقد ورد مرسلا: " كل رجل من المسلمين على ثغر من ثغور الإسلام، فالله الله أن يؤتى الإسلام من قبله " وعن الحسن: " إنما المسلمون على الإسلام بمنْزلة الحصن، فإذا أحدث المسلم حدثا ثغر في الإسلام من قبله ". وإن أحدث المسلمون كلهم، فاثبت أنت على الأمر الذي لو اجتمعوا عليه، لقام دين الله بالأمر الذي أراد من خلقه; وبالجملة: فشأن الجماعة شأن عظيم، قد عدها كثير من أهل العلم من أركان الإسلام، التي لا يقوم إلا بها. وقد عرفتم: ما حدث من الاختلاف والتفرق في هذه   1 الترمذي: الأمثال (2863) , وأحمد (4/130 ,4/202 ,5/344) . 2 أحمد (2/367) , ومالك: الجامع (1863) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 56 الأوقات، وظهر من أمور الجاهلية ما يعرفه من عرف حال القوم، وما كانوا عليه قبل النبوة في أصل التوحيد وغيره، مما لا يقوم الإسلام إلا به، فالله الله، تداركوا أمره، وتوبوا إلى ربكم، قبل أن تبسل نفس بما كسبت. ثم ذكر سبحانه بنعمته بالجماعة، وما من به على أول هذه الأمة، من الاجتماع على دينه الذي ارتضاه، بعد ما كان بينهم من الفرقة والعداوة، فألف بين قلوبهم، وصاروا إخوانا متحابين متواصلين، متناصرين على دينه، متعاونين على جهاد عدوه وعدوهم، فأنقذهم بذلك من النار، بعد أن كانوا على طرف حفرة منها، وهذه هي النعمة العظيمة، والعطية الكريمة، قال تعالى: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} [سورة آل عمران آية: 185] . ثم بين سبحانه مراده وحكمته، بما تقدم من الأمر والبيان، وأن المقصود به هداية عباده المؤمنين، والعمل بما أمر به وشكر نعمه التي أسداها إلى خلقه. ثم قال تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [سورة آل عمران آية: 104] قال بعض المفسرين: المقصود بهذه الآية: أن تكون فرقة من هذه الأمة، متصدية للقيام بأمر الله، في الدعوة إلى الخير، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر. وقد ورد الوعيد، في الكتاب والسنة على ترك الأمر الجزء: 9 ¦ الصفحة: 57 بالمعروف والنهي عن المنكر، فعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " والذي نفسي بيده، لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابا من عنده، ثم لتدعنه فلا يستجيب لكم " " 1 والأحاديث في المعنى كثيرة. ثم نهى عن مشابهة الذين تفرقوا، واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات، وهم أهل الكتاب من قبلنا، وذكر الوعيد على ذلك وعظمه. ثم ذكر الوقت والأجل اللاحق، وما أعد لأهل التفرق والاختلاف، من العذاب والعقاب، فقال: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [سورة آل عمران آية: 106] ، قال ابن عباس: " تسود وجوه أهل البدعة والاختلاف، وتبيض وجوه أهل السنة والجماعة ". ومن هنا يعلم: أن من أعظم الفساد ترك الجماعة، والاختلاف في الدين، والإعراض عن كتاب الله، وكثرة المراء والجدال، وإظهار دعوى الجاهلية المفرقة للجماعة، فهذا وأمثاله يعود على أصل الإسلام - معرفة الله وتوحيده - بالهدم والقلع، ولذلك كرر النهي عن هذا الاختلاف في هذه الآيات الكريمات. وعلى العامة والخاصة أن يعظموا كتاب الله ودينه وشرعه، وأن يقبلوا على ما ينفعهم من تعلم دين الله ومعرفة شرعه، وأن لا يعرضوا عن ذكره الذي أنزله على رسوله،   1 أحمد (5/388) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 58 وهو كتابه العزيز، فإن الإعراض عن ذلك يؤدي إلى الكفر - والعياذ بالله - وإن لم يجحده وينكره. وقد عرفتم الجماعة، والمقصود بها، وأنه لا يحصل إلا بالإمامة والطاعة لولي الأمر، فاجتمعوا على ذلك ولا تختلفوا، وكونوا عباد الله إخوانا، على دين الله ومرضاته أعوانا. نسأل الله لنا ولكم الثبات على دينه، والبصيرة في أمره، وأن يجعل لنا ولكم فرقانا، نفرق به بين الحق والباطل، والصواب والخطأ، والغي والرشاد، والضلال والهدى، وأن يجعل لنا نورا نمشي به، وأن يعيذنا من خلط الحق بالباطل، واللبس والالتباس {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [سورة النور آية: 40] . والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 59 وقال الشيخ عبد الله بن عبد العزيز العنقري رحمه الله: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله بن عبد العزيز العنقري، إلى من يراه من كافة إخواننا المسلمين، لا زالوا بالعروة الوثقى متمسكين، وفي جهاد أعداء الله مشمرين، آمين; السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعده: قد علمتم - وفقكم الله - ما أوجب الله على المسلمين من حقوق الإمامة والبيعة، وأن المسلمين كالبنيان يشد بعضه بعضا. وقد من الله على المسلمين بإمامة الإمام عبد العزيز حفظه الله، من آخر هذا الزمان، جمع الله به الكلمة، وحمى به الحوزة، وآمن به السبل، وأنصف به بين الضعيف والقوي، وحصل به - ولله الحمد - انتظام المصالح الدينية والدنيوية. وقد علمتم حالكم قبل ولايته، من تعطيل سوق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وسفك الدماء، ونهب الأموال، وإخافة السبل، وكل هذا نفاه الله تعالى بولايته، قال بعضهم: لولا الولاية لم تأمن لنا سبل ... وكان أضعفنا نهبا لأقوانا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 60 وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: ويجب أن يعرف: أن ولاية أمور الناس، من أعظم واجبات الدين، بل لا قيام للدين والدنيا إلا بها، فإن بنى آدم لا تتم مصلحتهم إلا باجتماع، لحاجة بعضهم إلى بعض، ولا بد لهم عند الاجتماع من رأس، فإن الله تعالى: أوجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يتم ذلك إلا بقوة وإمارة، وكذلك سائر ما أوجب الله تعالى من الجهاد، والعدل وإقامة الحج والجمع والأعياد، ونصر المظلوم، وإقامة الحدود، ولا يتم إلا بقوة وإمارة. ولهذا روي: أن السلطان ظل الله في الأرض، ويقال: ستون سنة من إمام جائر أصلح من ليلة واحدة بلا سلطان، والتجربة تبين ذلك، ولهذا كان السلف الصالح، كأحمد بن حنبل، والفضيل بن عياض وغيرهما يقولون: لو كان لنا دعوة مستجابة، لدعونا بها للسلطان، فالواجب: اتخاذ الإمامة قربة ودينا يتقرب بها إلى الله تعالى، انتهى كلامه رحمه الله تعالى. ومن المعلوم بالضرورة من دين الإسلام: أنه لا دين إلا بجماعة، ولا جماعة إلا بإمامة، ولا إمامة إلا بسمع وطاعة. إذا عرفتم ذلك: فإن الإمام أيده الله تعالى، قد بذل جميع الأسباب مع هذا الرافضي المكار; طلب السلم معه والراحة للمسلمين فأبى وعاند، وبدأ المسلمين بالبغي الجزء: 9 ¦ الصفحة: 61 والعدوان، فحينئذ لم يسع الإمام إلا جهاده وكف شره عن المسلمين. فتعين على جميع المسلمين الجهاد مع إمامهم، ومساعدته بالنفس والمال، وقد من الله عليكم - ولله الحمد - بهذا الغيث العام الذي أحيا الله به البلاد، ونرجوه: أن يجعله قوة لهم على ما يرضيه سبحانه، ومن شكر هذه النعمة، وغيرها من النعم: مجاهدة هذا العدو; فإن شكر النعم قيد الموجود، وتحصيل المفقود، وقال تعالى: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سورة سبأ آية: 39] مع أنه ولله الحمد قد جاءت البشائر بالاستيلاء على كثير من حصونه وذخائره، واستئصال كثير من جنوده، وهتك كثير من قواته وجنوده. ولكن الاستعداد للعدو، قد أمرنا الله به كما قال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [سورة الأنفال آية: 60] إلى قوله: {وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ} [سورة البقرة آية: 272] . ومصلحة الجهاد، وتسكين الفتنة عن المسلمين مصلحة عظيمة، فلو خرج المسلمون من نصف أموالهم، وأتم الله مقصودهم، وكفاهم عدوهم لكان ذلك قليلا في تحصيل هذه المصلحة، فكيف وفي الجهاد سعادة الدارين لمن خلصت نيته، وكان قصده وجه الله والدار الآخرة؟ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 62 وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " تكفل الله لمن خرج في الجهاد في سبيله إن توفاه أن يدخلة الجنة، أو يرجعه بما نال من أجر أو غنيمة " 1 وورد أيضا: " الجنة تحت ظلال السيوف " 2. والذي مثلكم من أهل العقول والديانة والحمية للإسلام، والنصرة لله ورسوله وللمؤمنين، يجد في هذا الأمر غيرة لله ولدينه ولحوزة المسلمين، فالله الله يا إخواني: بالتشمير والجد والاجتهاد في مساعدة ولي الأمر، على إطفاء هذه الفتنة، والجهاد معه بالنفس والمال. والإمام - أيده الله تعالى - قد طلب من المسلمين أن يجاهدوا معه، ولو طلب منهم النفير لتعين عليهم ذلك حكما شرعيا، كما قال صلى الله عليه وسلم " وإذا استنفرتم فانفروا " 3. [أدلة فضل الجهاد] وقد ورد في فضل الجهاد آيات وآحاديث، منها قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [سورة الصف آية: 10-11] إلى قوله: {ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [سورة الصف آية: 12] . وهذه والله هي التجارة الرابحة، التي تحصل بها النجاة من النار، والفوز بدخول الجنة ونعيمها. ولم يرض سبحانه للجنة ثمنا لغلائها ونفاستها، إلا نفوس المؤمنين، فقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ   1 البخاري: الإيمان (36) وفرض الخمس (3123) والتوحيد (7457 ,7463) , ومسلم: الإمارة (1876) , والنسائي: الجهاد (3122 ,3123) والإيمان وشرائعه (5029 ,5030) , وابن ماجه: الجهاد (2753) , وأحمد (2/231 ,2/384 ,2/399 ,2/424 ,2/494) , ومالك: الجهاد (974) , والدارمي: الجهاد (2391) . 2 البخاري: الجهاد والسير (2819) , ومسلم: الجهاد والسير (1742) , وأبو داود: الجهاد (2631) . 3 البخاري: الحج (1834) , ومسلم: الحج (1353) , والترمذي: السير 1590) , والنسائي: البيعة (4170) , وأبو داود: الجهاد (2480) , وابن ماجه: الجهاد (2773) , وأحمد (1/226 ,1/315 ,1/355) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 63 أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالأِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [سورة التوبة آية: 111] . وقال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [سورة العنكبوت آية: 69] فنبهنا الله سبحانه على الإخلاص في الجهاد: {جَاهَدُوا فِينَا} [سورة العنكبوت آية 69] يعني: لله وفي الله، بخلاف من يجاهد لنفسه أو لغرض. وقال تعالى: {وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [سورة العنكبوت آية: 6] وقال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [سورة آل عمران آية: 142] يعني: أحسبتم أن دخول الجنة سهل وهو إنما يحصل لأهل الصدق في الجهاد والصبر. وقال تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} [سورة آل عمران آية: 146] يعني أن نفوسهم وهممهم لم تضعف، ولم يصبها مسكنة لما أصابهم في سبيل الله، بل قويت هممهم وعزائمهم، وبذلوا نفوسهم وأموالهم لما علموا ما عند الله من الثواب الجزيل للمجاهدين الصابرين، ولم تأخذهم في الله لومة لائم، ولم يبالوا بقريب الجزء: 9 ¦ الصفحة: 64 ولا بعيد في ذات الله تعالى، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [سورة آل عمران آية: 200] وفي الحديث: " غدوة في سبيل الله أو روحة خير من ألف يوم يقام ليلها، ويصام نهارها ". وأخبر صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح " أن للجنة ثمانية أبواب، أعلاها باب الجهاد، لا يدخل منه إلا المجاهدون في سبيل الله ". [وصية للغزاة والمجاهدين بالثبات] ولنختم هذه الرسالة بوصية للغزاة والمجاهدين، وهي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [سورة الأنفال آية: 45-46] . قال ابن القيم رحمه الله تعالى: ذكر الله سبحانه في هذه الآية خمسة أمور. الأول: الثبات عند لقاء العدو، وهو في قوله تعالى: {فَاثْبُتُوا} . الثاني: ذكر الله تعالى، وهو في قوله تعالى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [سورة الأنفال آية: 45] . الثالث: طاعة الله ورسوله، فإن طاعة الله ورسوله سبب كل خير في الدنيا والآخرة، وهو في قوله تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [سورة الأنفال آية: 1] . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 65 الرابع: عدم التنازع، فإن التنازع سلاح للعدو، وهو في قوله تعالى: {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [سورة الأنفال آية: 46] . الخامس: الصبر، وهو في قوله تعالى: {وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [سورة الأنفال آية: 46] والصابر منصور كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: " واعلم أن النصر مع الصبر " 1 لكن إن كان الصابر محقا كان له النصر في الدنيا والعاقبة في الآخرة، وإن كان مبطلا، كان له من النصر في الدنيا على حسب صبره، ولا عاقبة له. قال ابن القيم رحمه الله تعالى: فقبة النصر مضروبة على هذه الأمور الخمسة، ولهذا لما اجتمعت في الصحابة رضي الله عنهم، فتحوا البلاد ودان لهم العباد، ولما تفرقت في غيرهم، فاتهم من النصر بحسب ما فاتهم منها; انتهى بمعناه، والله الموفق لمن يشاء، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم.   1 أحمد (1/307) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 66 وقال الشيخ عبد الله بن الشيخ عبد اللطيف، رحمهما الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله بن عبد اللطيف، إلى جناب الفضلاء الأعلام، والمشائخ الكرام: إبراهيم بن عبد الله، وحمد بن حسين، وزيد بن محمد، وحمد بن عتيق، وصالح الشثري، ومحمد بن علي، وعلي بن إبراهيم الشثري، وإبراهيم بن عميقان، وسعود بن مفلح، وكافة الإخوان من طلبة العلم، حمانا الله وإياهم عن الاستكبار، عن قبول النصائح، ووفقنا وإياهم لاتباع السلف الصالح، وجنبنا وإياهم أسباب الندم والفضائح، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فإن موجب الكتاب، القيام بأوجب واجبات الدين، وأفضل شعائر الموحدين، وطريقة الرسول صلى الله عليه وسلم ومن تبعه من الصالحين، من أداء النصيحة لله، ولكتابه، وللأئمة، والعامة من المسلمين، فقد أرشدنا ربنا تعالى في ذلك، إلى طريق الفلاح المنجي من الخسران، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (بسم الله الرحمن الر حيم) ، {وَالْعَصْرِ إِنَّ الأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [سورة العصر آية: 1-3] وقال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 67 مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا} [سورة سبأ آية: 46ب] قال ابن القيم، رحمه الله تعالى: لما كان للإنسان الذي يطلب معرفة الحق، حالتان; إحداهما: أن يكون ناظرا مع نفسه; والثانية: أن يكون مناظرا لغيره; أمرهم بخصلة واحدة، وهي: أن يقوموا لله اثنين اثنين، فيتناظران، ويتساءلان بينهما، وواحدا وفردا، يقوم كل واحد مع نفسه، فيتفكر في أمر هذا الداعي وما يدعو إليه، ويستدعي أدلة الصدق والكذب، ويعرض ما جاء به عليهما، ليتبين له حقيقة الحال، فهذا هو الحجاج الجليل، والإنصاف المبين، والنصح العام، انتهى. وقد عرفتم: أنه لا بد في التوحيد من العلم به والعمل، والدعوة إليه، فهذه طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم وأتباعه، في كل زمان ومكان، وهذا الواجب يجب على كل إنسان بحسبه، وإن كثر جهله وقل علمه واطلاعه، فلو كان ذلك مقصورا على أحد لعلمه وفضله، لتعطلت أمور الدين; أو كان فيه غضاضة للفاضل، ورفع للمفضول لما قال عمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أتصلي على ابن أبي وهو كذا وكذا؟ ولما أنكر على أبي بكر رضي الله عنه قتال أهل الردة أولا; ولما أنكر بعض الصحابة على بعض، لما هموا بجمع المصحف، حتى اجتمعوا على ذلك; ولما قال عمر رضي الله عنه " الله أكبر! أصابت امرأة وأخطأ عمر ". وهكذا شأن العلماء الأخيار، في جميع الأعصار، ومع الجزء: 9 ¦ الصفحة: 68 ذلك فالأخوة الإسلامية باقية، لا يشوبها هوى ولا استكبار عن اتباع الحق مع من كان معه، فإن أشكل، فالرد بينهم إلى كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم عند موارد النّزاع. وقد علمتم أن الفتن كثيرا ما يلتبس فيها الحق بالباطل، ولكن يجب على المسلم معرفة الحق في ذلك بالبحث والمذاكرة، وإظهار ما يعتقده ويدين به، فإن كان حقا سأل ربه الثبات والاستقامة، وشكره على التوفيق والإصابة; وإلا رده إلى من هو أعلم منه بحجة يجب المصير إليها، ويقف المرشد عليها، والله عند لسان كل قائل وقصده ومجازيه بعمله، فلا بد من زلة قلم وعثرة قدم {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [سورة يوسف آية: 76] {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} [سورة طه آية: 110] . ولا يخفى عليكم: أن الله تعالى ما أنعم على خلقه نعمة أجل وأعظم من نعمته ببعثة عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم؛ فإن الله بعثه وأهل الأرض عربهم وعجمهم، كتابيهم وأميهم، قرويهم وبدويهم، جهال ضلال على غير هدى ولا دين يرتضى، إلا من شاء الله من غُبَّرِ أهل الكتاب، فصدع بما أوحى الله إليه، وأمر بتبليغه، وبلغ رسالة ربه، وأنكر ما الناس عليه من الديانات المتفرقة، والملل المتباينة المتنوعة; ودعاهم إلى صراط مستقيم، ومنهج واضح قويم، يصل سالكه إلى جنات النعيم. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 69 وجاءهم من الآيات والأدلة القاطعة، الدالة على صدقه وثبوت رسالته، ما أعجزهم به، فلم يبق لأحد على الله حجة، ومع ذلك كابر المكابر، وعاند المعاند: {وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ} [سورة غافر آية: 5ب] ورأوا أن الانقياد له وترك ما هم عليه من النحل والملل، يجر عليهم من مسبة آبائهم، وتسفيه أحلامهم، أو نقص رياساتهم، أو ذهاب مآكلهم، ما يحول بينهم وبين مقاصدهم؛ فلذلك عدلوا إلى ما اختاروه من الرد والمكابرة، والتعصب على باطلهم والمثابرة. وأكثرهم يعلمون أنه محق، وأنه جاء بالهدى ودعا إليه; ولكن في النفوس موانع، وهناك إرادات ورياسات، لا يقوم ناموسها، ولا يحصل مقصودها، إلا بمخالفته، وترك الاستجابة له، وهذا هو المانع في كل زمان ومكان، من متابعة الرسل، وتقديم ما جاؤوا به، ولولا ذلك ما اختلف من الناس اثنان، ولا اختصم في الإيمان بالله، وإسلام الوجه له خصمان. وما زال حاله صلى الله عليه وسلم مع الناس كذلك، حتى أيد الله دينه ونصر الله رسوله، بصفوة أهل الأرض وخيرهم، ممن سبقت له من الله السعادة، وتأهل بسلامة صدره مراتب الفضل والسيادة، وأسلم منهم الواحد بعد الواحد، وصار بهم على إبلاغ الرسالة معاون ومساعد، حتى من الله على ذلك الحي الجزء: 9 ¦ الصفحة: 70 من الأنصار، بما سبقت لهم به من الحسنى والسيادة الأقدار، فاستجاب لله ورسوله منهم عصابة، حصل بهم من العز والمنعة، ما هو عنوان التوفيق والإصابة، فصارت بلدهم بلد الهجرة الكبرى، والسيادة الباذخة العظمى، هاجر إليها المؤمنون، وقصدها المستجيبون، حتى إذا عز جانبهم، وقويت شوكتهم، أذن لهم في الجهاد بقوله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [سورة الحج آية: 39] ثم لما اشتد ساعدهم وكثر الله عددهم، أنزل آية السيف، وصار الجهاد من أفرض الفروض، وآكد الشعائر الإسلامية، فاستجابوا لله ورسوله، وقاموا بأعباء ذلك، وجردوا في حب الله ونصر دينه السيوف، وبذلوا الأموال والنفوس، ولم يقولوا كما قالت بنو إسرائيل لموسى: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [سورة المائدة آية: 24] . فلما علم الله منهم الصدق في معاملته، وإيثار مرضاته ومحبته، أيدهم بنصره وتوفيقه، وسلك بهم منهج دينه وطريقه; فأذل بهم أنوفا شامخة عاتية، ورد بهم إليه قلوبا شاردة لاهية، جاسوا خلال ديار الروم والأكاسرة، ومحوا ما عليه تلك الأمم العاتية الخاسرة، وظهر الإسلام في الأرض ظهورا ما حصل قبل ذلك، وعلت كلمة الله، وظهر دينه فيما الجزء: 9 ¦ الصفحة: 71 هنالك، واستبان لذوي الألباب والعلوم، في أعلام نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ما هو مقرر معلوم. ولم يزل ذلك في زيادة وظهور، وعلم الإسلام في كل جهة من الجهات مرفوع منصور، حتى حدث في الناس من فتنة الشهوات، والاتساع، والتمادي في فعل المحرمات، ما لا يمكن حصره ولا استقصاؤه، فضعفت القوة الإسلامية، وغلظت الحجب الشهوانية، حتى ضعف العلم بحقائق الإيمان، وما كان عليه الصدر الأول، من العلوم والشأن، ورفعت عند ذلك فتنة الشبهات، وتوالدت تلك المآثم والسيئات، وظهرت أسرار قوله تعالى: {كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [سورة التوبة آية: 69] وقوله صلى الله عليه وسلم " لتتبعن سنن من كان قبلكم " 1 ولكن لله في خلقه عناية وأسرار، لا يعلم كنهها إلا العليم الغفار، من ذلك أن الله يبعث لهذه الأمة في كل قرن من يجدد لها أمر دينها، ويدعو إلى واضح السبيل ومستبينها، كيلا تبطل حجج الله وبيناته، ويضمحل وجود ذلك وتعدم آياته; فكل عصر يمتاز فيه عالم بذلك، يدعو إلى تلك المناهج والمسالك، وليس من شرطه أن يقبل منه ويستجاب، ولا أن يكون معصوما في كل ما يقول، فإن هذا لم يثبت لأحد سوى الرسول. ولهذا المجدد: علامات يعرفها المؤمنون، وينكرها المبطلون، أوضحها وأصدقها وأولاها، محبة الرعيل الأول   1 البخاري: أحاديث الأنبياء (3456) , ومسلم: العلم (2669) , وأحمد (3/84 ,3/89) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 72 من هذه الأمة، والعلم بما كانوا عليه من أصول الدين وقواعده المهمة، التي أصلها الأصيل، واسمها الأكبر الجليل: معرفة الله بصفات كماله، ونعوت جلاله، وأن يوصف بما وصف به نفسه، ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم من غير زيادة ولا تحريف، ومن غير تمثيل ولا تكييف، وأن يعبد وحده لا شريك له، ويكفر بما سواه من الأنداد والآلهة، هذا أصل دين الرسل كافة، وأول دعوتهم وآخرها. وفي بسط هذه الجملة، من العلم به وبشرعه ودينه، وصرف الوجوه إليه، ما لا يتسع له هذا الموضع، وكل الدين يدور على هذا الأصل، ويتفرع عنه. ومن طاف البلاد، وخبر أحوال الناس من أزمان متطاولة، عرف انحرافهم عن هذا الأصل، وبعدهم عما جاءت به الرسل، فكل بلد وكل قطر وجهة - فيما يبلغنا - فيها الآلهة التي عبدت مع الله بخالص العبادات، وقصدت من دونه في الرغبات والرهبات، ما هو معروف مشهور، لا يمكن جحده ولا إنكاره، بل وصل بعضهم إلى أن ادعى لمعبوده مشاركة في الربوبية، بالعطاء والمنع والتدبير، ومن أنكر ذلك عندهم فهو خارجي، ينكر الكرامات. وكذلك هم في باب الإيمان بالأسماء والصفات، ورؤساؤهم وأحبارهم معطلة لذلك، يدينون بالإلحاد والتحريفات، ويظنون أنهم من أهل التنْزيه والمعرفة الجزء: 9 ¦ الصفحة: 73 باللغات، ثم إذا نظرت إليهم، وسبرتهم في باب فروع العبادات، رأيتهم قد شرعوا لأنفسهم شريعة لم تأت بها النبوات، هذا وصف من يدعي الإسلام منهم في سائر الجهات. وأما من كذب بأصل الرسالة، ولم يرفع بها رأسا، فهؤلاء نوع آخر، ليسوا مما جاءت به الرسل في شيء، بل هم كما قال تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالأِنْسِ} [سورة الأعراف آية: 179] الآية ومن عرف هذا حق المعرفة، وتبين له الأمر على وجهه، عرف حينئذ نعمة الله عليه، وما اختصه به، إن كان من أهل العلم والإيمان، لا من ذوي الغفلة عن هذا الشأن. وقد اختصكم الله من نعمة الإيمان والتوحيد بخالصة، ومن عليكم بمنة عظيمة صالحة من بين سائر الأمم، وأصناف الناس، في هذه الأزمان، فأتاح لكم من أحبار الأمة وعلمائها حبرا جليلا، وعلما نبيلا فقيها، عارفا بما كان عليه الصدر الأول، خبيرا بما انحل من عرى الإسلام وتحول. فتجرد للدعوة إلى الله، ورد هذا الناس إلى ما كان عليه سلفهم الصالح، في باب العلم والإيمان، وباب العمل الصالح والإحسان، وترك التعلق على غير الله، من الأنبياء والصالحين وعبادتهم، والاعتقاد في الأحجار والأشجار، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 74 وتجريد المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم في الأقوال والأفعال، وهجر ما أحدثه الخلوف والأغيار، وجادل في الله، وقرر حججه وبيناته، وبذل نفسه لله. وأنكر على أصناف بني آدم، الخارجين عما جاءت به الرسل المعرضين عنه، التاركين له; وصنف في الرد على من عاند أو جادل، وجرى من المخاصمات والمحاربات، ما يطول عده، وأكثركم يعرف ذلك. ووازره على ذلك: من سبقت له من الله سابقة السعادة، فأقبل على معرفة ما عنده من العلم وأراده، من أسلاف آل مقرن الماضين، وآبائهم المتقدمين، رحمهم الله رحمة واسعة، وجزاهم عن الإسلام خيرا، فما زالوا من ذلك على آثار حميدة، ونعم عديدة، يصنع لهم تعالى من عظيم صنعه، وخفي لطفه، ما هداهم به إلى دينه الذي ارتضاه لنفسه، واختص به من شاء كرامته وسعادته من خلقه. وأظهر لهم من الدولة والصولة، ما ظهروا به على كافة العرب، وغدت لهم الرياسة والإمامة، رتبة تدرس بمجرد السابقة والعادة، لا تزاحمهم فيها العرب العرباء، ولا يتطاول إليها بنو ماء السماء، وصالحهم يرجو فوق ذلك مظهرا، وجاهلهم يرتع في ثياب مجد، لا يعرف من حاكها ولا درى، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 75 فلم يزل الأمر في مزيد، حتى توفى الله شيخ هذه الدعوة، ووزيره العبد الصالح، رحمهما الله رحمة واسعة. ثم حدث من فتنة الشهوات ما أفسد على الناس الأعمال والإرادات، وجرى من الابتلاء والتطهير، ما يعرفه الفطن الخبير. ثم أدرك سبحانه من رحمته وألطافه أهل هذه الدعوة، ما رد لهم به الكرة، ونصرهم ببركته المرة بعد المرة؛ وبعضكم أدرك ذلك ورآه، ومن لم يدركه بلغه كيف كثر الابتلاء والامتحان لأهل هذه الدعوة، ثم تكون لهم العاقبة، وذلك سنة الله سبحانه السابقة في أنبيائه ورسله؛ " أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على قدر دينه " 1 وله في ذلك حكمة بالغة، دلنا على بعض أفرادها في محكم كتابه، قال تعالى: {الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [سورة العنكبوت آية: 1-2ب] الآية. وقال تعالى: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [سورة آل عمران آية: 179] وقال تعالى: {لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ} [سورة الأنفال آية: 37] . وقال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا} [سورة البقرة آية: 214] الآية وقال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا   1 الترمذي: الزهد (2398) , وابن ماجه: الفتن (4023) , وأحمد (1/172 ,1/173 ,1/180 ,1/185) , والدارمي: الرقاق (2783) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 76 وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ} [سورة التوبة آية: 16] الآية وقال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ} [سورة الحج آية: 11] الآية. ثم إن الله سبحانه وتعالى من فضله ورحمته، جمع المسلمين على إمام واحد، وحصل لهم من الأمن والراحة والعافية، وكف أيدي الظلمة، ما لا يخفى. ثم بعد ذلك وقعت المحنة، وخبطتنا فتنة، عم شرها، وطار شررها، وتفرق الناس فيها أحزابا وشيعا، ما بين ناكث لعهده، خالع لبيعة إمامه، بغير حجة ولا برهان، بغضا للجماعة، ومحبة للفرقة والشناعة، وبين مجتهد لما رأى إمامه صدر مكاتبة للدولة، وبين واقف عند حده، يلوح بين عينيه " إلا أن تروا كفرا بواحا، عندكم فيه من الله برهان " 1. والرابع: ضعيف العنان، خوار الجنان، مع هؤلاء تارة، ومع الآخرين تارة، يتبع طمعه. وكل فرقة من هذه الفرق تضلل الأخرى، أو تفسقها، أو تكفرها، بل وتنتسب إلى طالب علم، تأتم به وتقلده، وتحتج بقوله عياذا بالله من ذلك، والمعصوم من عصمه الله، وحساب الجميع على الله، وهو أعلم بسرائرهم، وسيحكم بينهم سبحانه بعلمه. ثم أذهب الله ذلك بالعود إلى الجماعة، وتجديد الأخوة   1 البخاري: الفتن (7056) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 77 الإسلامية، وذهاب الشحناء، وعاد الأمر إلى ما كان عليه، من ثبوت الإمامة، والدعوة إلى الجماعة، وتجديد العهود والمواثيق على ذلك، فحمدنا الله تعالى، وسألناه المزيد من فضله ورحمته، وكنا مغتبطين، وأذهب الله عنا هباء الشبهات، وأطفأ نار تلك الضلالات. ثم خرج من خرج بشق العصا ومفارقة الجماعة، طلبا للفساد في الأرض وفلا لجمع المسلمين عن مجاهدة أعداء الله المشركين، ومن انتظم في سلكهم، من الطغاة والبغاة المفسدين، ثم كان عاقبة ذلك، حدثان عظيم، وضلال مستبين، مضادة لأمر الله ورسوله، ورفضا لفرضية الجماعة، وإقامة لشعار أهل الجاهلية، لأن دينهم الفرقة، ويرون السمع والطاعة مهانة ورذالة. فأتاهم النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: {وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} [سورة آل عمران آية: 102-103] وقوله: {وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا} [سورة التغابن آية: 16] ومن شعارهم: أن مخالفة ولي الأمر، وعدم الانقياد له فضيلة، وبعضهم يجعله دينا، فخالفهم النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، وأمر بالصبر على جور الولاة، والسمع والطاعة، والنصيحة لهم، وغلظ في ذلك، وأبدى وأعاد. وهذه هي التي ورد فيها ما في الصحيحين، عن النبي صلى الله عليه وسلم: " إن الله يرضى لكم ثلاثا: أن تعبدوه ولا تشركوا به الجزء: 9 ¦ الصفحة: 78 شيئا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم " 1 قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: ولم يقع خلل في دين الناس أو دنياهم، إلا من الإخلال بهذه الوصية، وقوله صلى الله عليه وسلم " لا إسلام إلا بجماعة، ولا جماعة إلا بسمع وطاعة " 2. فليتأمل: من أراد نجاة نفسه هذا الشرط، الذي لا يوجد الإسلام إلا به؛ ومع ذلك استحسن الواقع من استحسنه، وأجاز نصب إمامين، وأثبت البيعة لاثنين، كأنه لم يسمع في ذلك نص: (إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما; أوفوا ببيعة الأول فالأول) ; وما قاله الفاروق رضي الله عنه في بيعة أبي بكر رضي الله عنهما، لما قال الأنصار - أهل السقيفة -: منا أمير ومنكم أمير; وما ذهب إليه الحكمان، في شأن علي ومعاوية رضي الله عنهما. فلو كان جائزا في دينهم نصب إمامين، لأقرا عليا على الحجاز والعراق، وأقرا معاوية على مصر والشام، ولكن لم يجدا مخرجا إلا بخلع أحدهما، مع أن عليا رضي الله عنه لم يقاتل معاوية وأهل الشام، إلا لأجل الجماعة، والدخول في الطاعة، وكان محقا في ذلك رضي الله عنه. وما ذهب إليه الحسن في خلع نفسه، فلو رأى ذلك جائزا له، لاقتصر على الحجاز والعراق، وترك معاوية وما بيده، لكن لما علم أن ذلك لا يستقيم إلا بخلع أحدهما، آثر   1 مسلم: الأقضية (1715) , وأحمد (2/367) , ومالك: الجامع (1863) . 2 الدارمي: المقدمة (251) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 79 الباقي وغض الطرف عن الفاني، وخلع نفسه. وكذلك ما قاله إمام هذه الدعوة النجدية، الشيخ محمد رحمه الله تعالى، لما أراد عبد العزيز أن يجعل أخاه عبد الله، أميرا في الرياض بعد فتحها، أنكر ذلك وأعظمه، وقال: هذا قدح وغيبة لإمام المسلمين، وعضده ونصيره; لأنه رأى ذلك وسيلة إلى الفرقة، مع أن عبد الله ما يظن به إلا خيرا، وحسبك به رحمه الله. فإن كنتم معشر العلماء، تعرفون أن هذا حق وتعتقدونه، وآثرتم المسالمة والسكوت، فهيهات هيهات، أنى لكم الخلاص، وقد كتمتم ما لا يجهل؟ فإن كنتم تعتقدون خلافه، وأن ما ذهبنا إليه واعتقدناه في هذه القضية خطأ، فرحم الله من أرشد جاهلا، وبصر حائرا، فإن أشكل الأمر فهلم، فالحكم والحق مقبول. فيا ساسة هاتوا لنا من جوابكم ... ففيكم لعمري ذو أفانين مقول أهل كتاب نحن فيه وأنتم؟ ... على ملة نقضي بها ثم نعدل أم الوحي منبوذ وراء ظهورنا ... ويحكم فينا المرزبان المرفل هذه النصوص من كتاب الله نرجع عند التنازع إليها، وهذه الآثار من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحكامه، مضبوطة محررة، مسطورة في دواوين الإسلام، قال عمر رضي الله عنه: " والله ما توفي محمد صلى الله عليه وسلم إلا وقد ترك الأمة على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك ". الجزء: 9 ¦ الصفحة: 80 وقال أبو ذر، رضي الله عنه " لقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما من طائر يطير يقلب جناحيه، إلا أبدى لنا فيه علما ". فاستأنف النهار يا ابن جبير، قبل أن تنفرج ذات البين، بينكم معشر العلماء، ويضلل بعضكم بعضا، أو يفسقه أو يكفره، فتكونوا بذلك فتنة لجاهل مغرور، أو ضحكة لذي دهاء وفجور، تستباح بذلك أعراضكم، ولا ينتفع بعلمكم. فاعقدوا لكم محضرا، ولو طال منا ومن بعضكم لأجله سفر، للنظر فيما يصلح الإسلام، وتقوم به الحجة، ولو لم يعمل به عامل، تسدوا بذلك عنكم باب الفرقة، نصحا لله ولكتابه ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم؛ فإني والله لا إخال الجرح يندمل، ولا الحية تموت، إلا أن يشاء ربي شيئا، وذلك لكثرة الطلاب لهذا الأمر، فقد وقع والله بكثرتهم، وأعضل البأس، واحتاج العاقل للنظر فيما هو الأصلح لدينه، والأرضى لربه، بالاجتماع على الأسد فالأسد، والأجد فالأجد، والأصلح فالأصلح. فإن الشيطان متكئ على شماله، متحيل بيمينه، فاتح حصنه لأهله، يدأب بين الأمة بالشحناء والعداوة، عنادا لله ولرسوله ولدينه، تأليبا وتأنيبا، يوسوس بالفجور، ويدلي بالغرور، يزين بالزور، ويمني أهل الفجور والشرور، ويوحي إلى أوليائه بالباطل، دأبا له منذ كان، وعادة له منذ أهانه الله في سالف الأزمان، لا ينجو منه إلا من أحب الجزء: 9 ¦ الصفحة: 81 الآجل، وغض الطرف عن العاجل، وقطع هامة عدو الله وعدو الدين، باتباع الحق والعمل به، رضي ذلك من رضيه، وسخطه من سخطه، فإن لهذه الأمور غاية وخيمة، وعاقبة ذميمة، آخرها الأجل المقدور، وإلى الله عاقبة الأمور، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وقال أيضا الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف رحمهما الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله بن عبد اللطيف، إلى جناب الإخوان: سعد بن مثيب، وعبد الله بن فايز، وكافة إخوانهم، سلمهم الله تعالى، ورزقنا وإياهم الثبات والاستقامة، وجنبنا وإياهم طريق الخزي والندامة، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: لا يخفي عليكم ما امتن الله به علينا وعليكم من معرفة دينه، وأنقذكم بذلك من أسباب الهلكة، وذلك من فضل الله، الذي يهدي من يشاء بفضله ورحمته، ويضل من يشاء بعدله وحكمته، قال تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [سورة يونس آية: 58] فضله الإسلام، ورحمته أن جعلكم من أهله، والفرح بذلك والغبطة به، ومحبته والتمسك به، خير من الدنيا بأسرها. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 82 وقد علمتم ما أوجب الله عليكم من معرفة دينه، وإخلاص العبادة له، والبراءة ممن أشرك به، وأن كلمة الإخلاص "لا إله إلا الله" دلت على إخلاص العبادة لله وحده لا شريك له، والبراءة ممن أشرك به، ولا يستقيم إسلام عبد إلا بذلك، فمن شك أو توقف، في كفر من لم يعتقد دين الإسلام، ولم يتكلم به، أو لم يعمل به، فهو لم يأت بالإسلام العاصم لدمه وماله، الذي دلت عليه شهادة أن لا إله إلا الله. وهؤلاء الذين قاموا في عداوة أهل التوحيد، واستنصروا بالكفار عليكم، وأدخلوهم إلى بلاد نجد، وعادوا التوحيد وأهله أشد العداوة، وهم "الرشيد" ومن انضم إليهم من أعوانهم، لا يشك في كفرهم، ووجوب قتالهم على المسلمين، إلا من لم يشم روائح الدين، أو صاحب نفاق، أو شك في هذه الدعوة الإسلامية. وجميع أهل الباطل، يحسنون باطلهم بزخرف القول، ولهم من يزخرف لهم، ويجعل باطلهم في صورة حق، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} [سورة الأنعام آية: 112] . وبلغني: أن عندكم من يتكلم في هذه الأمور بغير علم، بل بمجرد الجهل والهوى، ويجعل حكم هؤلاء حكم الجزء: 9 ¦ الصفحة: 83 البغاة من المسلمين، وأنتم في غنية عن هذا الكلام والتكلم به، فتفطنوا، لا يفسد عليكم دينكم ومعاشكم، وأنتم في بيعة الإسلام، والإمام لا تفتات عليه الرعية. ولا يجوز لآحاد الناس، أن يتكلم في الأمور العامة، التي هي متعلقة بالإمامة، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم جاء بفرضية السمع والطاعة، ولزوم البيعة وعدم الخروج على الأئمة، وأخبر صلى الله عليه وسلم أن من فارق الجماعة قيد شبر، فمات، فميتته جاهلية، وحض على السمع والطاعة، في قوله صلى الله عليه وسلم: " عليكم بالسمع والطاعة، وإن تأمر عليكم عبد حبشي " 1. وأصل فتنة الخوارج، ومروقهم من الدين - مع كثرة صلاتهم وصيامهم، فإنهم من أكثر الناس تهليلا وعبادة، حتى إن الصحابة يحتقرون أنفسهم عندهم - هو الخوض والشغب، والكلام في الفتنة، التي وقعت بين علي ومعاوية، حتى قدحوا في الصحابة، مع أن القتال وقع بين الطائفتين، والقاتل والمقتول في الجنة، فكيف بمن يفتات على الإمام، ويقدح في المسلمين في قتال هؤلاء الذين ما بين طواغيت البادية وهم رؤوسهم، وبين سفهاء وجند لم يعرفوا ما خلقوا له، ولم يدينوا بدين الحق، لا في الاعتقادات، ولا في الأعمال والإرادات؟ ومن مال إليهم، وجادل عنهم، فقد شك في الدين، واتبع غير سبيل المؤمنين; واحذروا خدع الشيطان، فإنه   1 الترمذي: العلم (2676) , وابن ماجه: المقدمة (42 ,44) , وأحمد (4/126) , والدارمي: المقدمة (95) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 84 يدعو إلى الفجور، ويمنى بالغرور، وأخلصوا الخوف والخشية لله، قال تعالى: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [سورة آل عمران آية: 175] . والله أسأل أن يوفقنا وإياكم للعمل بدينه، والثبات عليه، وأنتم بحمد الله في ظل دعوة إيمانية، وإمامة إسلامية، وتأملوا قوله: {سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ} [سورة النساء آية: 91] والله أخبرنا أن هذا حال المنافقين، يسعون في طلب الأمن من الكفار، والأمن من المسلمين، فاحذروا أن تقعوا في شيء من ذلك، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب، وصلى الله على محمد. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 85 [الحث على الاجتماع على قتال العدو] وله أيضا وغيره: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله بن عبد اللطيف، وعبد العزيز بن محمد، وحسن بن حسين، ومحمد بن محمود، وعبد الله بن محمد الخرجي، وسعد بن حمد بن عتيق، إلى من يراه من إخواننا أهل الفرع، سلمهم الله، ومن علينا وعليهم بالبصيرة في الدين; ونجانا وإياهم من شهوات الغي، وشبهات المبطلين، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فتفهمون ما من الله به على عموم المسلمين، وعلينا وعليكم خاصة، من ظهور الدعوة الإسلامية في هذه الأوطان، وإزالة الشرك وشعائره، وذلك بدعوة الشيخ وأنصاره، رحمهم الله تعالى، وعرفتم بالإسلام، وسميتم به من بين سائر أهل الأديان، وهذه من أكبر النعم، كما قال تعالى: {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ} [سورة الحج آية: 78] ودرج على هذه الدعوة، من اختصهم الله بنصرها، ووسمهم بحمايتها. ثم حصل الخلل والتفريط في حق الله، والإعراض عنه، وأعظم ذلك التفرق والاختلاف، الذي هو سبب الشر، وسبب تسلط الأعداء، وحصل من الفتن وانحلال عرى الإسلام، ما لا يمكن حصره ولا استقصاؤه، وذلك بما كسبت أيدينا ويعفو عن كثير، قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [سورة الرعد آية: 11] . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 86 والواجب علينا وعليكم، معرفة ذلك على التفصيل، ومعرفة أهله ومن قام به، والاجتماع على ذلك، والتواصي به مثنى وفرادى، ولا يصدكم عن ذلك شبهة ولا شهوة، ولا تغتروا بمن يتكلم بكلام الحق، ليتوصل به إلى الباطل، فإن هذا كثير، وبسببه تنقدح الشبهات في قلوب العوام، الذين لا بصيرة لهم. وقد عرفتم ما يتعين علينا وعليكم، من الحض على الجهاد، والقيام فيه، ودفع من سعى في هتك حرمتهم، ودينهم، وصيرهم أذلة بين الملأ، والذي لم يكشف له هذا الغطاء، فهو مبخوس الحظ، ومنكوس القلب، عياذا بالله من ذلك، وفي بعض الآثار " إن الله يحب البصر الناقد عند ورود الشبهات، والعقل الراجح عند حلول الشهوات ". والخلق بين رجل إما مدخول في اعتقاده، أو منقوص في عقله بطلب الدنيا، وإيثارها على الحق وأهله، والصنف الثالث من عصمه الله، قال تعالى: {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} [سورة الأنفال آية: 72] ونحن والمسلمون جميعا: ندعوكم بدعاية الإسلام، وحماية أهله، والذب عنهم، والقيام التام، مع أن المسلمين في أكمل نعمة وأتمها، من ثبات القلوب، وخذلان العدو، وضعفه، ولكن نحب لكم الخير، وأن تكونوا رؤساء فيه، وتعاونوا وتناصروا فيه، قال الله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 87 وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [سورة المائدة آية: 2] وأعظم التعاون على البر والتقوى، التعاون على نصر الإسلام والمسلمين، والذب عن حرمه، وجهاد من قصد تشتيتهم وانتدب لعداوتهم، وضد ذلك التعاون على الإثم والعدوان، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وله أيضا رحمة الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله بن عبد اللطيف، إلى من يراه من الإخوان، سلك الله بي وبهم صراطه المستقيم، وثبتنا على دينه القويم، وأعاذنا من الأهواء والطرق المفضية بسالكها إلى طريق الجحيم، آمين، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أما بعد: فالباعث لهذه النصيحة، إقامة الحجة على المعاند، والبيان للجاهل، الذي نيته وقصده طلب الحق، ولكنه ابتلى بالوساوس والغرور; تعلمون - وفقنا الله وإياكم - أن الله بعث نبيه صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق، وهو ما جاء به صلى الله عليه وسلم من البرهان والنور، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً} [سورة النساء آية: 174] وقال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [سورة الحشر آية: 7] وقال تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 88 يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [سورة النور آية: 63] الفتنة هي الشرك. وفرض الله علينا الإخلاص في عبادته، واتباع سنة نبيه، ولا يقبل لأحد شيئا من الأعمال، إلا بالقيام بهذين الركنين، الإخلاص، والمتابعة; فالإخلاص: أن يكون لله; والمتابعة: أن يكون متبعا لأمر رسوله، لأن كل عبادة حدها الشرع: ما أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم من غير إطراد عرفي، ولا اقتضاء عقلي، ليست العبادة ما درج عليه عرف الناس، وما اقتضته مقاييسهم وعقولهم: لها حد يقف المؤمن، والخائف من عقاب الله عنده، وهو ما أمر به الرسول، قال صلى الله عليه وسلم " من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد "1 وقال: " من أحدث شيئا ليس عليه أمرنا فهو رد " 2 وما خرج أحد عن طريقته، إلا سلك أحد طريقين، إما جفاء وإعراض، وإما غلو وإفراط، وهذه مصائد الشيطان، التي يصطاد بها بني آدم، ولهذا حذر سبحانه عن الغلو، قال تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ الاَّ الْحَقَّ} [سورة النساء آية: 171] وفي الآية الأخرى: {لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [سورة المائدة آية: 77] . فلما من الله سبحانه: على المسلمين في آخر هذه الأزمان، التي اشتدت فيها غربة الدين، باجتماع المسلمين   1 البخاري: الصلح (2697) , ومسلم: الأقضية (1718) , وأبو داود: السنة (4606) , وابن ماجه: المقدمة (14) , وأحمد (6/73 ,6/146 ,6/180 ,6/240 ,6/256 ,6/270) . 2 البخاري: الصلح (2697) , ومسلم: الأقضية (1718) , وأبو داود: السنة (4606) , وابن ماجه: المقدمة (14) , وأحمد (6/73 ,6/146 ,6/180 ,6/240 ,6/256 ,6/270) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 89 ورد لهم الكرة ولم شعثهم، بإمام يدعوهم إلى دين الله وإلى طاعته، بماله ونفسه ولسانه، وهدى الله بسبب ذلك من هدى من البادية، وعرفهم الإسلام ورغبهم فيه ودانوا به، وهي من أعظم النعم عليهم وعلى المسلمين عموما، أن هداهم الله لدينه وعرفهم به، وأخرجهم من ظلمات الكفر والجهل، إلى نور الإسلام وطاعة ربهم، وعرفهم دينهم الذي خلقوا له، وتعبدهم الله سبحانه وبحمده به. وقد كانوا قبل ذلك في جاهلية جهلاء، وضلالة عمياء، أشقى الناس في الدنيا، من عاش منهم عاش شقيا، ومن مات منهم ردى في النار، فالواجب علينا وعليكم: معرفة هذه النعمة، والقيام بحق الله. تعالى في ذلك، وشكر نعمه عليكم، ولا تكونوا كـ {الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ} [سورة إبراهيم آية: 28] قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ} [سورة آل عمران آية: 100] وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا} [سورة آل آية: 102-103] إلى قوله: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 90 وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [سورة آل عمران آية: 105-107] قال ابن عباس: تبيض وجوه أهل السنة والجماعة، وتسود وجوه أهل الفرقة والشناعة. وقال تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} [سورة الشورى آية: 13] وقال: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ} [سورة البينة آية: 4] والآيات في النهي عن التفرق في الدين كثيرة، لكن القصد التنبيه على ما يلقيه الشيطان ويزينه للناس، من التفرق والاختلاف; والذي قصده الله والدار الآخرة، يرد ما صدر وما سمع إلى كتاب الله وسنة رسوله، قال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [سورة النساء آية: 59] ولا عمل إلا بدليل وبرهان، يطلب به صاحب العمل. وقد بلغني عن بعض من غره الغرور، من الطعن في العلماء، ورميهم بالمداهنة، وأشباه هذه الأقاويل، التي صدت أكثر الخلق عن دين الله، وزين لهم الشيطان بسبب ذلك، الطعن في الولاية بأمور، حقيقتها البهتان، والطعن الجزء: 9 ¦ الصفحة: 91 بالباطل; وقد علمتم ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم وفرضه من السمع والطاعة. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [سورة النساء آية: 59] ولم يستثن سبحانه وتعالى برا من فاجر، ونهى صلى الله عليه وسلم عن إنكار المنكر، إذا أفضى إلى الخروج عن طاعة أولي الأمر، ونهى عن قتالهم، لما فيه من الفساد; عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه "قال: دعانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعنا، وكان فيما أخذ علينا: أن بايعنا على السمع والطاعة، في مكرهنا ومنشطنا، وعسرنا ويسرنا، وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله، قال: " إلا أن تروا كفرا بواحا، عندكم فيه من الله برهان " 1 أخرجاه في الصحيحين. وقوله: "أن لا ننازع الأمر أهله" دليل على المنع من قتال الأئمة، إلا أن يروا كفرا بواحا، وهو الظاهر الذي قد باح به صاحبه، فطاعة ولي الأمر، وترك منازعته، طريقة أهل السنة والجماعة، وهذا هو فصل النّزاع بين أهل السنة، وبين الخوارج والرافضة. وعن حذيفة بن اليمان: قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " اسمع وأطع للأمير، وإن أخذ مالك وضرب ظهرك " 2 وعن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر، فإنه ليس أحد خرج من السلطان شبرا   1 البخاري: الفتن (7056) , والنسائي: البيعة (4149 ,4151 ,4152 ,4153 ,4154) , وابن ماجه: الجهاد (2866) , وأحمد (3/441 ,5/316 ,5/318 ,5/319 ,5/325) , ومالك: الجهاد (977) . 2 مسلم: الإمارة (1847) , وأحمد (5/403) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 92 فمات، مات ميتة جاهلية " 1 وعن عبد الله بن عمر، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من خلع يدا من طاعة، لقي الله يوم القيامة لا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة، مات ميتة جاهلية " 2 فذكر في هذا الحديث: البيعة والطاعة; فالخروج عليهم نقض للعهد والبيعة، وترك طاعتهم ترك للطاعة، وبهذه الأحاديث وأمثالها، عمل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بها، وعرفوا أنها من الأصول التي لا يقوم الإسلام إلا بها، وشاهدوا من يزيد بن معاوية، والحجاج، ومن بعدهم خلا الخليفة الراشد، عمر بن عبد العزيز، أمورا ظاهرة ليست خفية، ونهوا عن الخروج عليهم، والطعن فيهم، ورأوا أن الخارج عليهم خارج عن دعوة المسلمين، إلى طريقة الخوارج. ولهذا لما حج ابن عمر رضي الله عنهما مع الحجاج، وطعن في رجله، قيل له أنبايعك على الخروج على الحجاج وعزله؟ وهو أمير من أمراء عبد الملك بن مروان، غلظ الإنكار عليهم، وقال: (لا أنزع يدا من طاعة) ، واحتج عليهم بالحديث الذي تقدم ذكره; فإذا فهمتم ذلك، فاشكروا نعمة الله عليكم بما من به من إمامة إسلامية، تدعوكم إليه ظاهرا وباطنا، مما سمعتم وصدقه الفعل، من بذل المال والسلاح والقوة، وإعانة المهاجرين لأجل دينه، لا لقصد   1 البخاري: الفتن (7053) , ومسلم: الإمارة (1849) , وأحمد (1/275 ,1/297 ,1/310) , والدارمي: السير (2519) . 2 مسلم: الإمارة (1851) , وأحمد (2/70 ,2/83 ,2/93 ,2/97 ,2/123 ,2/133 ,2/154) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 93 سوى ذلك، يعرف ذلك من عرفه، ولا يجحده إلا منافق فارق بقلبه ونيته، ما اعتقده المسلمون وقاموا به. وأما الطعن على العلماء، فالخطأ ما يعصم منه أحد، والحق ضالة المؤمن، فمن كان عنده علم يقتضي الطعن، فليبين لهم جهارا، ولا يخاف في الله لومة لائم، حتى يعرفوا حقيقة الطعن وموجبه، واحذروا التمادي في الضلالة، والخروج عن الجماعة، فالحق عيوف، والباطل شنوف، والشيطان متكئ على شماله، يدأب بين الأمة بالعداوة والشحناء، عياذا بالله من فتنة جاهل مغرور، أو خديعة فاجر ذي دهى وفجور، يميل به الهوى، ويزين له الشيطان طريق الغواية والردى. والله أسأل أن يثبتنا وإياكم على دينه، وأن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، وأن يهب لنا منه رحمة، إنه هو الوهاب; وصلى الله على محمد، وآله وصحبه وسلم. وله أيضا، رحمه الله تعالى. بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن، وحسن بن حسين، وسعد بن حمد بن عتيق، ومحمد بن عبد اللطيف، إلى جناب عالي الجناب، الإمام المفخم، والرئيس المكرم. عبد العزيز بن الإمام عبد الرحمن آل فيصل، سلمه الله الجزء: 9 ¦ الصفحة: 94 تعالى، وأكرمه بتقواه، ونظمه في سلك من خافه واتقاه، وبتر من شنأه وقلاه، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فالسبب الداعي لتحريره محض النصيحة، وتفهم حفظك الله: أن الله سبحانه وبحمده، ما أنعم على عباده نعمة أجل وأعظم من نعمة الإسلام، لمن تمسك به، وقام بحقوقه، ورعاه حق رعايته، ومن أعظم فرائض الإسلام، التي جاء بها الرسول صلى الله عليه وسلم: الجماعة، وأخبر صلى الله عليه وسلم أنه: " لا إسلام إلا بجماعة، ولا جماعة إلا بالسمع والطاعة " 1 وهذا أمر غير خفي عليك، ولا على أحد له معرفة بفرائض الإسلام، ومن الله سبحانه وبحمده في آخر هذا الزمان - الذي اشتدت فيه غربة الإسلام، وظهر فيه الفساد في البر والبحر ـ بفضله وكرمه بهداية غالب بادية أهل نجد خصوصا رؤساؤهم، وجعل الله سبحانه وبحمده لك حظا وافرا في إعانتهم، ببناء مساجدهم ومدنهم، وفشا الإسلام في نجد جنوبا وشمالا، والله سبحانه وبحمده له حكمة، وله عناية بعباده، لا يعلمها إلا هو. ورأينا أمرا يوجب الخلل على أهل الإسلام، ودخول التفرق في دولتهم، وهو الاستبداد من دون إمامهم، بزعمهم أنه بنية الجهاد، ولم يعلموا أن حقيقة الجهاد ومصالحة العدو، وبذل الذمة للعامة، وإقامة الحدود، أنها مختصة بالإمام، ومتعلقة به، ولا لأحد من الرعية دخل في ذلك،   1 الدارمي: المقدمة (251) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 95 إلا بولايته; وقد سئل صلى الله عليه وسلم عن الجهاد، فأخبر بشروطه بقوله صلى الله عليه وسلم: " من أنفق الكريمة، وأطاع الإمام، وياسر الشريك، فهو المجاهد في سبيل الله ". والذي يعقد له راية، ويمضي في أمر من دون إذن الإمام ونيابته، فلا هو من أهل الجهاد في سبيل الله. وقد علمت حفظك الله: أنه لما صدر من الدويش جهلا منه، واستفتيت عالما من علماء المسلمين، وأفتاكم بالحق والدين، الذي يدان الله به، لم يلتفت إليه، وهذا من أعظم الوهن في دين الله، أن العالم يفتى بالحق، ويعارض بالهوى والجهل، مع أن الذين وقع الأمر عليهم، لم ينبذ إليهم على سواء، واستباحوا غنائمهم من غير أمر شرعي. فالواجب عليك: حفظ ثغر الإسلام عن التلاعب به، وأنه لا يغزو أحد من أهل الهجر إلا بإذن منك، وأمير منك لو صاحب مطية، وتسد الباب عنهم جملة، لئلا يتمادوا في الأمر، ويقع بسبب تماديهم وتغافلكم خلل كبير، وذكرنا هذا قياما بالواجب من النصيحة لك، وخروجا من كتمان العلم، والله يمدك بمدد من عنده، ويعينك على ما حملك، وصلى الله على محمد، سنة 1338 هـ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 96 وقال بعضهم، رحمه الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي هدانا لتوحيد العبادة، الذي هو أساس الملة والدين، ومفتتح دعوة المرسلين، وقد غلط في مسمى التوحيد، الأذكياء من المتأخرين، والفقهاء، والصوفية، والمتكلمين، وهذا التوحيد هو توحيد القصد والإرادة، وهو أن لا يعبد إلا الله وحده، وأن لا يعبد إلا بما شرع، كما قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ} [سورة الرعد آية: 36] وقال: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ} [سورة الزمر آية: 11] . والآيات في هذا التوحيد، أكثر من أن تحصر; فوفقنا سبحانه وبحمده، لفهم ما اختلف فيه من الحق بإذنه، وكان بحمد الله عن علم وإخلاص، وصدق ويقين، وجعلنا على ذلك مجتمعين مؤتلفين، متناصرين غير مفترقين، ولا مختلفين، اللهم اجعلنا لنعمك شاكرين ذاكرين، وبالعمل بكتابك معتصمين مستمسكين. وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله سيد المرسلين، وإمام المتقين، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليما. وبعد: فإن الله تعالى أكمل لنا الدين، وأتم نعمته على الجزء: 9 ¦ الصفحة: 97 عباده المؤمنين، فيما أوحاه إلى عبده ورسوله الصادق الأمين، فقال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلامَ دِيناً} [سورة المائدة آية: 3] وأوجب على عباده أن يكونوا بحبله معتصمين، وبالعمل به مستمسكين، فقال جل ذكره: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} [سورة آل عمران آية: 102] وحبله هو القرآن، والتمسك به علما وعملا، يجمع الإسلام والإيمان وشرائع الدين. وذلك لا يحصل للمسلمين المؤمنين، إلا إذا كانوا على العمل بالحق مجتمعين مؤتلفين، متعاونين متناصرين، فبهذا يكون لهم الظهور، ويقوم به الدين، كما قال تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [سورة الشورى آية: 13] فأمر تعالى عباده بإقامة الدين، الذي أكمله لهم على لسان سيد المرسلين، ونهاهم عن التفرق فيه، لأن التفرق ينافي إقامة الحق الذي شرعه، وبعث به هذا النبي الذي ختم به المرسلين، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. ولما كان هذا الاجتماع العظيم، وما يحصل به من المصالح العظيمة، وعدم التفرق والاختلاف، يتوقف على الجزء: 9 ¦ الصفحة: 98 مشروعية نصب إمام، يبايعه المسلمون على السمع والطاعة، في المنشط والمكره، والأثرة عليهم، ولهذا بايع المهاجرون والأنصار، أبا بكر الصديق رضي الله عنه في اليوم الذي توفي فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم خشية التفرق والاختلاف، رضي الله عنهم أجمعين، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [سورة النساء آية: 59] . وفي الأحاديث أيضا ما يؤكد ذلك ويوجبه، لما فيه من المصالح، لأن عدمه يفضي إلى التفرق والاختلاف، وذهاب الدين، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن يطع الأمير فقد أطاعني، ومن يعص الأمير فقد عصاني، وإنما الإمام جنة يقاتل من ورائه ويتقى به " 1، وعن أنس مرفوعا: " اسمعوا وأطيعوا، وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة " 2، وعن عبادة بن الصامت، قال: " بايعنا سول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة، في العسر واليسر، والمنشط والمكره، وعلى الأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله، وأن نقول الحق حيث كان، لا نخاف في الله لومة لائم ". وعن أبي هريرة مرفوعا: " من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر، فإنه ليس أحد يفارق الجماعة شبرا إلا مات ميتة   1 البخاري: الجهاد والسير (2957) , ومسلم: الإمارة (1835 ,1841) , والنسائي: البيعة (4193 ,4196) والاستعاذة (5510) , وابن ماجه: المقدمة (3) والجهاد (2859) , وأحمد (2/244 ,2/252 ,2/270 ,2/313 ,2/342 ,2/386 ,2/416 ,2/467 ,2/471 ,2/511 ,2/523) . 2 البخاري: الأذان (693) , وابن ماجه: الجهاد (2860) , وأحمد (3/114 ,3/171) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 99 جاهلية، ومن قاتل تحت راية عمية، يغضب لعصبية، أو يدعو أو ينصر عصبية، فيقتل، فقتلته جاهلية، ومن خرج على أمتي بسيف، يضرب برها وفاجرها، لا يخشى لمؤمنها ولا يفي لذي عهد عهده، فليس مني ولست منه " 1. وسأل يزيد بن سلمة الجعفي رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أرأيت يا رسول الله، إن قام علينا أمراء يسألونا حقهم، ويمنعونا حقنا، فما تأمرنا؟ قال: اسمعوا وأطيعوا، فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم " وعن ابن عمر مرفوعا " من خلع يدا من طاعة أميره، لقي الله ولا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة، مات ميتة جاهلية " 2. وعن الحارث الأشعري مرفوعا " آمركم بخمس، بالجماعة، والسمع، والطاعة، والجهاد في سبيل الله، فإن من خرج عن الجماعة قيد شبر، فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه، إلا أن يراجع، ومن دعا بدعوة الجاهلية فهو من جثى جهنم، وإن صلى وصام، وزعم أنه مسلم " 3. وفي صحيح مسلم مرفوعا: " من أتاكم وأمركم على رجل واحد، يريد أن يشق عصاكم، ويفرق جماعتكم، فاقتلوه " 4. ولم نذكر من الأحاديث إلا بعضها، وفيما لم نذكر تشديد في حق من خرج عن الجماعة، وعصى الإمام، ولم يسمع ويطع للإمام. نسأل الله: أن يجعلنا على الحق أعوانا، وعلى طاعته إخوانا، مؤتلفين، آمين، وأن يوزعنا شكر ما أنعم به علينا   1 مسلم: الإمارة (1848) , والنسائي: تحريم الدم (4114) , وابن ماجه: الفتن (3948) , وأحمد (2/296 ,2/306 ,2/488) . 2 مسلم: الإمارة (1851) , وأحمد (2/111) . 3 الترمذي: الأمثال (2863) , وأحمد (4/130 ,4/202 ,5/344) . 4 مسلم: الإمارة (1852) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 100 من دين الإسلام، والاجتماع عليه، والدعوة إليه، والحث على لزومه بذكره، وعدم الغفلة عنه، والقيام بالنصيحة لمن وجبت له، وبالله التوفيق. وعلى الإمام وفقه الله تعالى: أن يعمل بثلاث آيات من كتاب الله، تجمع له الخير كله، وتدفع عنه الشر كله، ونظائرها في الكتاب والسنة كثيرة جدا، الآية الأولى، قوله: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} [سورة الجاثية آية: 18-19] فنهاه تعالى عن اتباع أهواء الذين لا يعلمون، لما فيه من مخالفة الشريعة والخروج عنها، إلى ما يسخط الله تعالى، ويحل نقمته وعقوبته، والشريعة: ما أمر الله به رسوله والمؤمنين، وأوجب عليهم أن يفعلوه، وأن يتركوا ما نهاهم عنه، خالصا لوجهه الكريم. ومن ذلك: الذي أمر الله به نبيه، وأوجبه عليه، وعلى من ولي أمر المسلمين إلى يوم القيامة، قوله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ [سورة آل عمران آية: 159] وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم معنى هذه الآية فيما صح عنه، ففي صحيح مسلم وغيره، أنه قال: " اللهم من ولي من أمور الجزء: 9 ¦ الصفحة: 101 أمتي شيئا فرفق بهم فارفق به، ومن شق عليهم فشق عليه " 1. وكان صلى الله عليه وسلم يأمر أمراءه وعماله، ويقول: " يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا " ويقول: " إنما بعثتم ميسرين، ولم تبعثوا معسرين " 2 والتيسير دعوة إلى الإسلام، وترغيب للناس في قبوله، والدخول فيه، لأن من صحت سريرته، وحسنت سيرته، أقبلت القلوب إليه، وصغت إليه، وصفت عليه، والضد بالضد، وبالله التوفيق، والعمل بهذه الآيات والأحاديث، من أعظم ما تشكر به النعم، وتستدفع به النقم. ومما أمر الله به نبيه، ورضيه له واختاره له ولأنبيائه ورسله، ولمن له عقل ودين، قوله تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} [سورة الكهف آية: 28] . فما أعظمها من آية، وما انفعها للقلوب لمن عمل بها؟! فذكر الخير وسببه وأمر به، وذكر الشر وسببه ونهى عنه أشد النهي، فتدبر. وعن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا أراد الله بالأمير خيرا، جعل له وزير صدق، إن نسي ذكره، وإن ذكر أعانه، وإذا أراد الله به غير ذلك، جعل له وزير سوء، إن نسي لم يذكره، وإن ذكر لم يعنه " 3.   1 مسلم: الإمارة (1828) , وأحمد (6/257) . 2 البخاري: الوضوء (220) , والترمذي: الطهارة (147) , والنسائي: الطهارة (56) والمياه (330) , وأبو داود: الطهارة (380) , وأحمد (2/239 ,2/282) . 3 النسائي: البيعة (4204) , وأبو داود: الخراج والإمارة والفيء (2932) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 102 وعن أبي سعيد مرفوعا: " ما بعث الله من نبي، ولا استخلف من خليفة، إلا كانت له بطانتان: بطانة تأمره بالمعروف وتحضه عليه، وبطانة تأمره بالشر وتحضه عليه، والمعصوم من عصمه الله ". وفي الحديث الصحيح: " كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته " 1 وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب، وصلى الله على محمد أشرف المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وسلم تسليما كثيرا. وقال الشيخ: محمد بن عبد اللطيف، وفقه الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم من محمد بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأخوين: فيصل الدويش، وسلطان بن بجاد بن حميد، ومن لديهما من الإخوان، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أما بعد: فالموجب لهذا الكتاب، والداعي إليه، هو النصح لكم والشفقة عليكم، لأن من حقكم علينا بذل ذلك لكم، وقد بلغنا اجتماعكم، وتزاوركم، فإن كان المراد بذلك التذكر بما من الله به عليكم، من نعمة الإسلام، واجتماع الكلمة، وذهاب العدو، والحرص على التزام هذه الإمامة والولاية، والقيام بحقها، فما أحسن ذلك. وإن كان الاجتماع إنما هو للتفرق والاختلاف، الذي   1 البخاري: النكاح (5188) , ومسلم: الإمارة (1829) , والترمذي: الجهاد (1705) , وأبو داود: الخراج والإمارة والفيء (2928) , وأحمد (2/5 ,2/54 ,2/108 ,2/111 ,2/121) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 103 هو من دين الجاهلية الأولى، والطعن على من ولاه الله عليكم، وعيبه، وثلبه، وتتبع عثراته للتشنيع عليه، ونسبة علمائه إلى المداهنة والسكوت، فهذه- والله- وصمة عظيمة، وزلة وخيمة، وقاكم الله شرها، وحال بينكم وبين أسبابها. فأذكركم إخواني أولا: نعمة الإسلام، وما من الله به عليكم من الانتقال، عن عوائد الآباء والأجداد، وسوالفهم، التي خالفوا في أكثرها ما جاء في الكتاب والسنة، واتباع هذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم الذي جعل الله بعثته رحمة للعالمين، ومحجة للسالكين، وحجة على أعداء الملة والدين، فاشكروا مولاكم على ذلك. واشكروه أيضا: على ما من به في هذا الزمان، من ولاية هذا الإمام، الذي أسبغ الله عليكم على يديه، من النعم العظيمة، ودفع به عنكم من النقم الكثيرة، وخولكم مما أعطاه الله، وتابع عليكم إحسانه، صغيركم وكبيركم، وقام بما أوجب الله عليه، حسب الطاقة والإمكان، ونظره في مصالح المسلمين، وما يعود نفعه عليهم، ودفع المضار عنهم، وحسم مواد الشر أولى من نظركم، والكمال لم يحصل لمن هو أفضل منه. فالذي يطلب الأمور على الكمال، وأن تكون على سيرة الخلفاء، فهو طالب محالا; فاسمعوا له وأطيعوا، وراعوا حقه وولايته عليكم، واحذروا غرور الشيطان، وتسويله الجزء: 9 ¦ الصفحة: 104 وخدعه ومكره، فإنه متكئ على شماله، يدأب بين الأمة بإلقاء الشحناء والعداوة، وتفريق الكلمة بين المسلمين عادة له مذ كان، ولا يسلم من مكره إلا من راقب الله في سره وعلانيته، ووقف عند أقواله وأعماله، وحركاته وسكناته، وتفكر في عاقبة ما يصير إليه في ماله، وراجع أهل البصائر والمعرفة من أهل العلم، الذين لهم قدم راسخ في المعرفة والفهم. فإن كان أحد ممن يدعي العلم زين لكم ذلك، وألقى عليكم التشكيكات والتشبيهات، وحسن لكم طريقة أهل البدع والضلالات، فاعلموا: أنه منفاخ سوء، يبدي لكم ما يخفيه كيره، ويلبس عليكم دينكم، فإن كان يدعي أن معه دليلا، من الكتاب والسنة، في الطعن على الأئمة والولاة وعلمائهم، فليبرز إلينا بما لديه، فنحن له مقابلون ومناظرون بالحجج القاطعة، والبراهين الساطعة، من كتاب الله وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وسيرة الخلفاء المهديين، التي تجلو عن القلب عماه، وترد المعارض عن انتكاسه. فوالله ثم والله: إنا لا نعلم على وجه الأرض شرقا وغربا، وشمالا وجنوبا، شخصا أحق وأولى بالإمامة منه، ونعتقد صحة إمامته وثبوتها، لأن إمامته إمامة إسلامية، وولايته ولاية دينية، فلو نعلم أن عليه من المثالب والمطاعن شيئا يوجب مخالفته ومنابذته، لكنا أولى منكم بالنصح له الجزء: 9 ¦ الصفحة: 105 وتحذيره ومراجعته، فإنه- ولله الحمد- يقبل الحق ممن جاء به، ولا يستنكف من الناصح، ومقاماته ونصحه، ومدافعته عن الإسلام وأهله، وبذل إحسانه، وعفوه وعدم انتقامه، شهيرة بين الورى، لا يجحدها إلا معاند مماحل. وأيضا: حرصه على اجتماع المسلمين، وعدم اختلافهم معلوم، لا يخفى على منصف، فأفيقوا عن سكرتكم، وانتبهوا من رقدتكم، قبل أن تزل قدم بعد ثبوتها، وأقول لكم مثل ما حكاه الله عن مؤمن آل فرعون {فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [سورة غافر آية: 44] . فلا تنسوا عباد الله إحسان إمامكم، ومعروفه عليكم، فإن نعمة الله تترى عليكم باطنا وظاهرا، والنعم إذا شكرت قرت، وإذا كفرت وجحدت فرت، فارجعوا إلى مولاكم بالتوبة والندم، والانطراح بين يدي الله أولا، لأنه مقلب القلوب والأبصار، وبين يدي إمامكم وعلمائه ترشدوا، فهذا الواجب لكم علينا، الذي تعبدنا الله به، وهو الذي نحبه ونرضاه لكم، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل، وصلى الله على محمد. [ما من الله به من هذا الدين والاجتماع عليه] وقال أيضا الشيخ: محمد بن عبد اللطيف، والشيخ سعد بن حمد بن عتيق، والشيخ عبد الله بن عبد العزيز العنقري، والشيخ عمر بن محمد بن سليم، والشيخ محمد بن الجزء: 9 ¦ الصفحة: 106 إبراهيم بن عبد اللطيف، وفقهم الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل، بقايا من أهل العلم، يدعون من ضل إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، يحيون بكتاب الله عز وجل الموتى، ويبصرون بنور الله أهل العمى، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه، وكم من ضال تائه قد هدوه، فما أحسن أثرهم على الناس! وما أقبح أثر الناس عليهم! ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين. ونشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، إله الأولين والآخرين، وقيوم السماوات والأرضين، ونشهد: أن محمدا عبده ورسوله، إمام المتقين، وقائد الغر المحجلين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبة، والتابعين، ومن سلك طريقهم إلى يوم الدين. أما بعد: فإنه لا يخفى على من نور الله قلبه، وألهمه رشده، ما من الله به على أهل نجد، من معرفة ما بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم من الهدى ودين الحق، والعمل بذلك، والدعوة إليه على بصيرة، والاجتماع على ذلك، والائتلاف عليه، وما حصل بذلك من العز والظهور، وإقامة دين الله، وقهر أعدائه. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 107 وقد كان أهل نجد، قبل هذه الدعوة الإسلامية، التي من الله بها على يد شيخ الإسلام، محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى، في شر عظيم من التفرق والاختلاف، والفتن العريضة، من الشرك بالله فما دونه، من سفك الدماء، وأخذ الأموال بغير حق، وإخافة السبل، وليس لهم إمامة يجتمعون عليها، ولا عقيدة صحيحة يعولون عليها، بل هم في أمر مريج، حتى أزال الله ذلك بدعوة هذا الشيخ، رحمه الله تعالى. فإنه قام بهذه الدعوة أتم القيام، ووازره على ذلك، ونصره الإمام محمد بن سعود، وأولاده وإخوانه، فجزاهم الله عن الإسلام والمسلمين خيرا، فبسببهم دخل الناس في دين الله أفواجا، ونفذت الدعوة الإسلامية، وشملت كافة أهل نجد، البادية والحاضرة، وقام علم الجهاد، وانقمع أهل الغي والفساد. ثم لما وقع الخلل من كثير من الناس، من عدم القيام بشكر هذه النعمة ورعايتها، ابتلوا بوقوع التفرق والاختلاف، وتسلط الأعداء، والرجوع إلى كثير من عوائدهم السالفة، حتى من الله في آخر هذا الزمان، بظهور الإمام عبد العزيز بن عبد الرحمن آل فيصل، أيده الله ووفقه، وما من الله به في ولايته، من انتشار هذه الدعوة الإسلامية، والملة الحنيفية، وقمع من خالفها، وإقبال كثير من البادية الجزء: 9 ¦ الصفحة: 108 والحاضرة على هذا الدين، وترك عوائدهم الباطلة. وكذلك ما حصل بسببه، من هدم القباب، ومحو معاهد الشرك والبدع، وردع أهل المعاصي والمخالفات، وإقامة دين الله في الحرمين الشريفين، زادهما الله تعالى تشريفا وتكريما، وكذلك ما من الله به على قبائل العرب، من الاجتماع بعد الفرقة، والائتلاف بعد العداوة التي كانت بينهم، والأمن والطمأنينة بعد الخوف، حتى صار الراكب يسير من الشام إلى اليمن، لا يخشى إلا الله. وهذه النعم يجب شكرها على جميع المسلمين، والحذر من الأسباب التي توجب زوالها، أعاذنا الله وإخواننا المسلمين من ذلك. إذا علم ذلك فإنه لما رأينا ما وقع من كثير من الناس من الاختلاف، والخوض في دين الله، والقول على الله بلا علم، والتجرؤ على ذلك، من غير مبالاة بالكلام على جهل، وعدم بصيرة فيما يتكلم به الإنسان، خشينا أن تكون هذه الأمور، سببا لزوال النعمة العظيمة، فتعين علينا أن نكتب هذه الكلمات، نصيحة لله ولعباده، أخذا بقوله صلى الله عليه وسلم: " الدين النصيحة "1، قالها ثلاثا. فنقول: الكلام في هذا المقام، على فصول: الفصل الأول: في القول على الله وعلى رسوله بلا علم، الفصل الثاني: في حقوق الإمامة والبيعة، وما يجب لولي الأمر من الحقوق على رعيته، وما يجب لهم عليه، الفصل الثالث:   1 مسلم: الإيمان (55) , والنسائي: البيعة (4197 ,4198) , وأبو داود: الأدب (4944) , وأحمد (4/102) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 109 في التحذير من التفرق والاختلاف، وبيان حرمة المسلم، وما يجب له من الحقوق. الفصل الأول: في القول على الله وعلى رسوله بلا علم ليعلم الناصح لنفسه: أن القول على الله بلا علم في أسمائه وصفاته، وشرعه وأحكامه ودينه، من أعظم المحرمات، كما قال الله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [سورة الأعراف آية: 33] وقال تعالى: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ} [سورة النحل آية: 116] .وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من يقل علي ما لم أقل، فليتبوأ مقعده من النار "1 رواه البخاري. قال ابن القيم: رحمه الله تعالى، في "أعلام الموقعين"- في الكلام على الآية الأولى-: إنه سبحانه وتعالى رتب المحرمات أربع مراتب، وبدأ بأسهلها وهو الفواحش، ثم ثنى بما هو أشد تحريما منه، وهو الإثم والظلم، ثم ثلث بما هو أعظم تحريما منها، وهو الشرك به سبحانه، ثم ربع بما هو أشد تحريما من ذلك كله، وهو القول عليه بلا علم، وهذا يعم القول عليه سبحانه بلا علم في   1 البخاري: العلم (109) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 110 أسمائه، وصفاته، وأفعاله، وفي دينه، وشرعه. وقال تعالى: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [سورة النحل آية: 116-117] فتقدم إليهم سبحانه بالوعيد على الكذب عليه في أحكامه، وقولهم - لما لم يحرمه- هذا حرام، ولما لم يحله: هذا حلال، وهذا بيان منه سبحانه: أنه لا يجوز للعبد أن يقول: هذا حلال، وهذا حرام، إلا لما علم أن الله سبحانه أحله وحرمه. وقال بعض السلف، ليتق أحدكم أن يقول: أحل الله كذا وحرم كذا، فيقول الله له: كذبت، لم أحل كذا ولم أحرم كذا، فلا ينبغي أن يقول لما لا يعلم ورود الوحي المبين بتحليله وتحريمه: أحله الله، وحرمه الله، بمجرد التقليد، أو التأويل، انتهى. فتبين مما تقدم: تحريم القول على الله بلا علم، وتحريم الإفتاء في دين الله وشرعه، بمجرد الرأي والهوى، وفاعل ذلك ومنتحله، يبوء بإثمه وإثم من استفتاه، قال تعالى: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} [سورة النحل آية: 25] . وقال ابن القيم أيضا، في كتابه "الأعلام": وقد روى الإمام أحمد، وابن ماجه، عن النبي صلى الله عليه وسلم: " من أفتى بغير علم الجزء: 9 ¦ الصفحة: 111 كان إثم ذلك على الذي أفتاه " 1 وفي الصحيحين من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم: " إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من صدور الرجال، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، فإذا لم يبق عالم، اتخذ الناس رؤساء جهالا، فسئلوا، فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا " 2 وفي أثر مرفوع، ذكره أبو الفرج وغيره: " مَن أفتى الناس بغير علم، لعنته ملائكة السماء، وملائكة الأرض ". وكان مالك رحمه الله تعالى يقول: من سئل عن مسألة، فينبغي له قبل أن يجيب فيها أن يعرض نفسه على الجنة والنار، وكيف يكون خلاصه في الآخرة، ثم يجيب فيها. وسئل عن مسألة، فقال: لا أدري، فقيل له: إنها مسألة خفيفة سهلة، فغضب وقال: ليس في العلم شيء خفيف، أما سمعت الله يقول: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً} [سورة المزمل آية: 5] فالعلم كله ثقيل وخاصة ما يسأل عنه يوم القيامة، وقال: ما أفتيت حتى شهد لي سبعون أني أهل لذلك، انتهى. ومن القول على الله بلا علم: تفسير القرآن بغير معناه، والاستدلال به على غير المراد به، استنادا إلى الآراء والأهواء والشهوات، وهذا يفعله كثير من الجهلة الغوغاء، وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من قال في القرآن برأيه، أو   1 أبو داود: العلم (3657) , وابن ماجه: المقدمة (53) , وأحمد (2/365) . 2 البخاري: العلم (100) , ومسلم: العلم (2673) , والترمذي: العلم (2652) , وابن ماجه: المقدمة (52) , وأحمد (2/162 ,2/190 ,2/203) , والدارمي: المقدمة (239) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 112 بما لا يعلم، فليتبوأ مقعده من النار، وأخطأ ولو أصاب " 1. وقال أبو بكر الصديق لما سئل عن قوله تعالى: {وَفَاكِهَةً وَأَبّاً} فقال: "أي سماء تظلني؟ وأي أرض تقلني؟ إذا أنا قلت في كتاب الله ما لا أعلم " وعن عمر رضي الله عنه قال: " ما أخاف على هذه الأمة، من مؤمن ينهاه إيمانه، ولا فاسق بين فسقه، ولكن أخاف عليها رجلا قرأ القرآن، حتى أذلقه بلسانه، ثم تأوله على غير تأويله " رواه ابن عبد البر. فالواجب على طالب الحق، إذا أشكل عليه شيء، سؤال العلماء، والرجوع إليهم في الأحكام الشرعية، قال الله تعالى: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [سورة النحل آية: 43] . وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتقدم: أن من اتخذ رؤساء جهالا، فسألهم فأفتوه بغير علم، فقد ضلوا وأضلوه، وفي حديث صاحب الشجة " ألا سألوا إذ لم يعلموا، فإنما شفاء العي السؤال "2. وقال بعض السلف: إن هذا العلم دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم. ومما ينبغي التنبيه عليه: ما وقع من كثير من الجهلة، من اتهام أهل العلم والدين، بالمداهنة والتقصير، وترك القيام بما وجب عليهم من أمر الله سبحانه، وكتمان ما يعلمون من الحق، والسكوت عن بيانه، ولم يدر هؤلاء الجهلة: أن اغتياب أهل العلم والدين، والتفكه بأعراض   1 الترمذي: تفسير القرآن (2951) , وأحمد (1/233 ,1/269) . 2 أبو داود: الطهارة (336) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 113 المؤمنين، سم قاتل، وداء دفين، وإثم واضح مبين، قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً} [سورة الأحزاب آية: 58] . أقلوا عليهم لا أبا لأبيكمو من ... اللوم أو سدوا المكان الذي سدوا فإذا سمع المنصف هذه الآيات، والأحاديث، والآثار، وكلام المحققين من أهل العلم والبصائر، وعلم أنه موقوف بين يدي الله، ومسئول عما يقول ويعمل، وقف عند حده، واكتفى به عن غيره، وأما من غلب عليه الجهل والهوى، وأعجب برأيه، فلا حيلة فيه، نسأل الله العافية لنا ولإخواننا المسلمين، إنه ولي ذلك والقادر عليه. الفصل الثاني: في حقوق الإمامة والبيعة، وما يجب لولي الأمر على رعيته، وما يجب لهم عليه. قد علم بالضرورة من دين الإسلام: أنه لا دين إلا بجماعة، ولا جماعة إلا بإمامة، ولا إمامة إلا بسمع وطاعة، وأن الخروج عن طاعة ولي الأمر، والافتيات عليه، من أعظم أسباب الفساد في البلاد والعباد، والعدول عن سبيل الهدى والرشاد. قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 114 يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [سورة النساء آية: 58-59] . قال شيخ الإسلام، رحمه الله تعالى في "السياسة الشرعية": قال العلماء: نزلت الآية الأولى في ولاة الأمور، عليهم أن يؤدوا الأمانات إلى أهلها، وإذا حكموا بين الناس أن يحكموا بالعدل, ونزلت الآية الثانية في الرعية، من الجيوش وغيرهم، عليهم أن يطيعوا ولاة الامر الفاعلين لذلك، في قسمهم وحكمهم، ومغازيهم وغير ذلك، إلا أن يأمروا بمعصية الله، فإذا أمروا بمعصية الله، فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. وإن تنازعوا في شيء ردوه إلى كتاب الله، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، إن لم يفعل ولاة الأمور ذلك، أطيعوا فيما يأمرون به من طاعة الله، لأن ذلك من طاعة الله وطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأديت حقوقهم إليهم، كما أمر الله ورسوله، قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [سورة المائدة آية: 2] . وإذا كانت الآية قد أوجبت أداء الأمانات إلى أهلها، والحكم بالعدل، فهذا يجمع السياسة العادلة، والولاية الجزء: 9 ¦ الصفحة: 115 الصالحة، وفي الصحيحين عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: " دعانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعنا، وكان فيما أخذ علينا أن بايعنا على السمع والطاعة، في مكرهنا ومنشطنا، وعسرنا ويسرنا، وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله، قال: إلا أن تروا كفرا بواحا، عندكم فيه من الله برهان "1. وروى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من خرج من الطاعة، وفارق الجماعة، فمات مات ميتة جاهلية. ومن قاتل تحت راية عمية، يغضب لعصبية، أو يدعو إلى عصبية، أو ينصر عصبية، فقتل، فقتلته جاهلية، ومن خرج على أمتي يضرب برها وفاجرها، ولا يتحاشى من مؤمنها، ولا يفي لذي عهد عهده، فليس مني ولست منه "2. وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " الغزو غزوان: فأما من ابتغى به وجه الله، وأطاع الإمام، وأنفق الكريمة، وياسر الشريك، فإن نومه ونبهته أجر كله، وأما من غزا فخرا ورياء، وعصى الإمام، وأفسد في الأرض، فإنه لم يرجع بالكفاف " 3 رواه مالك وأبو داود والنسائي، وعن ابن عمر مرفوعا: " الأمير يسمع له ويطاع فيما أحب وكره، إلا أن يأمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة " 4 أخرجاه. ولمسلم عن حذيفة مرفوعا: " تكون بعدي أئمة لا يهتدون   1 البخاري: الفتن (7056) , والنسائي: البيعة (4149 ,4151 ,4152 ,4153 ,4154) , وابن ماجه: الجهاد (2866) , وأحمد (3/441 ,5/316 ,5/318 ,5/319 ,5/325) , ومالك: الجهاد (977) . 2 مسلم: الإمارة (1848) , والنسائي: تحريم الدم (4114) , وأحمد (2/296, 2/306، 2/488) . 3 النسائي: الجهاد (3188) , وأبو داود: الجهاد (2515) , وأحمد (5/234) , والدارمي: الجهاد (2417) . 4 البخاري: الأحكام (7144) , ومسلم: الإمارة (1839) , والترمذي: الجهاد (1707) , وأبو داود: الجهاد (2626) , وابن ماجه: الجهاد (2864) , وأحمد (2/17 ,2/142) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 116 بهديي، ولا يستنون بسنتي، وسيكون فيكم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس. قال: قلت: كيف أصنع يا رسول الله، إن أدركت ذلك؟ قال: تسمع وتطيع للأمير، وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك، فاسمع وأطع "1. وفي حديث الحارث الأشعري، الذي رواه الإمام أحمد: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " وأنا آمركم بخمس الله أمرني بهن، السمع والطاعة، والجهاد، والهجرة، والجماعة، فإنه من خرج من الجماعة قيد شبر، فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه " 2. قال الشيخ عبد اللطيف بن الشيخ عبد الرحمن، رحمهما الله تعالى: وهذه الخمس المذكورة في الحديث، ألحقها بعضهم بالأركان الإسلامية التي لا يستقيم بناؤه ولا يستقر إلا بها، خلافا لما كانت عليه الجاهلية، من ترك الجماعة والسمع والطاعة، انتهى. قال شيخ الإسلام ابن تيمية في "السياسة الشرعية": يجب أن يعرف أن ولاية أمور الناس، من أعظم واجبات الدين، بل لا قيام للدين والدنيا إلا بها، فإن بني آدم لا تتم مصلحتهم، إلا بالاجتماع لحاجة بعضهم إلى بعض، ولا بد لهم عند الاجتماع من رأس، إلى أن قال: فإن الله تعالى أوجب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ولا يتم ذلك إلا بقوة وإمارة، وكذلك سائر ما أوجب الله تعالى من الجهاد والعدل، وإقامة الحج والجمع والأعياد، ونصر المظلوم،   1 مسلم: الإمارة (1847) . 2 الترمذي: الأمثال (2863) , وأحمد (4/130 ,4/202 ,5/344) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 117 وإقامة الحدود، لا يتم إلا بالقوة والإمارة. ولهذا روي: أن السلطان ظل الله في الأرض، ويقال: ستون سنة من إمام جائر، أصلح من ليلة واحدة بلا سلطان، والتجربة تبين ذلك، ولهذا كان السلف كالفضيل بن عياض، وأحمد بن حنبل وغيرهما، يقولون: لو كان لنا دعوة مستجابة، لدعونا بها للسلطان- إلى أن قال- فالواجب اتخاذ الإمارة دينا، وقربه يتقرب بها إلى الله، فإن التقرب إليه فيها بطاعته وطاعة رسوله، من أفضل القربات، وإنما يفسد فيها حال أكثر الناس لابتغاء الرياسة والمال، انتهى. وقال ابن رجب رحمه الله تعالى في "شرح الأربعين" وأما السمع والطاعة لولاة أمور المسلمين ففيها سعادة الدنيا، وبها تنتظم مصالح العباد، في معاشهم، وبها يستعينون على إظهار دينهم، وطاعة ربهم، كما قال علي ابن أبي طالب رضي الله عنه: " إن الناس لا يصلحهم إلا إمام بر أو فاجر، إن كان فاجرا عبد المؤمن فيها ربه، وحمل الفاجر فيها إلى أجله ". وقال الحسن في الأمراء: " هم يلون من أمورنا خمسا: الجمعة، والجماعة، والعيد، والثغور، والحدود؛ والله لا يستقيم الدين إلا بهم، وإن جاروا وظلموا؛ والله لما الجزء: 9 ¦ الصفحة: 118 يصلح الله بهم أكثر مما يفسدون، مع أن طاعتهم والله لغيظ، وإن فرقتهم لكفر " انتهى. إذا فهم ما تقدم من النصوص القرآنية، والأحاديث النبوية، وكلام العلماء المحققين، في وجوب السمع والطاعة لولي الأمر، وتحريم منازعته والخروج عليه، وأن المصالح الدينية والدنيوية لا انتظام لها إلا بالإمامة والجماعة، تبين أن الخروج عن طاعة ولي الأمر، والافتيات عليه، بغزو أو غيره، معصية ومشاقة لله ورسوله، ومخالفة لما عليه أهل السنة والجماعة. وأما ما قد يقع من ولاة الأمور، من المعاصي والمخالفات، التي لا توجب الكفر، والخروج من الإسلام، فالواجب فيها مناصحتهم على الوجه الشرعي برفق، واتباع ما كان عليه السلف الصالح، من عدم التشنيع عليهم في المجالس، ومجامع الناس، واعتقاد أن ذلك من إنكار المنكر، الواجب إنكاره على العباد، وهذا غلط فاحش، وجهل ظاهر، لا يعلم صاحبه ما يترتب عليه، من المفاسد العظام في الدين والدنيا، كما يعرف ذلك من نور الله قلبه، وعرف طريقة السلف الصالح، وأئمة الدين. قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى في رسالة له، ذكرناها ههنا لعظم فائدتها، قال رحمه الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد بن الجزء: 9 ¦ الصفحة: 119 عبد الوهاب، إلى من يصل إليه هذا الكتاب من الإخوان، سلام الله عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: يجري عندكم أمور تجري عندنا من سابق، وننصح إخواننا إذا جرى منها شيء، حتى فهموها، وسببها: أن بعض أهل الدين ينكر منكرا، وهو مصيب، لكن يخطئ في تغليظ الأمر، إلى شيء يوجب الفرقة بين الإخوان. وقد قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [سورة آل عمران آية: 102-103] . وقال صلى الله عليه وسلم: " إن الله يرضى لكم ثلاثا: أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم "1. وأهل العلم يقولون: الذي يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، يحتاج إلى ثلاث: أن يعرف ما يأمر به وينهى عنه، ويكون رفيقا فيما يأمر به وينهى عنه، صابرا على ما جاءه من الأذى، وأنتم محتاجون للحرص على فهم هذا والعمل به، فإن الخلل إنما يدخل على صاحب الدين من قلة العمل بهذا، أو قلة فهمه.   1 مسلم: الأقضية (1715) , وأحمد (2/367) , ومالك: الجامع (1863) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 120 وأيضا، يذكر العلماء: أن إنكار المنكر، إذا صار يحصل بسببه افتراق، لم يجز إنكاره، فالله الله في العمل بما ذكرت لكم، والتفقه فيه، فإنكم إن لم تفعلوا، صار إنكاركم مضرة على الدين، والمسلم لا يسعى إلا في صلاح دينه ودنياه. وسبب هذه القالة التي وقعت بين أهل الحوطة، لو صار أهل الدين واجب عليهم إنكار المنكر، فلما غلظوا الكلام، صار فيه اختلاف بين أهل الدين، فصار فيه مضرة على الدين والدنيا، وهذا الكلام وإن كان قصيرا، فمعناه طويل، فلازم لازم، تأملوه وتفقهوا فيه، واعملوا به، فإن عملتم به صار نصرا للدين، واستقام الأمر إن شاء الله. والجامع لهذا كله: أنه إذا صدر المنكر من أمير أو غيره، أن ينصح برفق خفية ما يشترف أحد؛ فإن وافق وإلا استلحق عليه رجلا يقبل منه بخفية، فإن لم يفعل فيمكن الإنكار ظاهرا، إلا إن كان على أمير، ونصحه ولا وافق، واستلحق عليه ولا وافق، فيرفع الأمر إلينا خفية. وهذا الكتاب، كل أهل بلد ينسخون منه نسخة، ويجعلونها عندهم ثم يرسلونها لحرمة والمجمعة، ثم للغاط والزلفى، والله أعلم. وقال ابن القيم، رحمه الله تعالى في "أعلام الموقعين": المثال الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم شرع لأمته إيجابا إنكار المنكر، ليحصل بإنكاره من المعروف ما يحبه الله ورسوله، فإذا كان الجزء: 9 ¦ الصفحة: 121 إنكار منكر يستلزم ما هو أنكر منه، وأبغض إلى الله ورسوله، فإنه لا يسوغ إنكاره، وإن كان الله يبغضه ويمقت أهله، وهذا كالإنكار على الملوك والولاة بالخروج عليهم، فإنه أساس كل شر وفتنة، إلى آخر الدهر. وقد استأذن الصحابة رضي الله عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتال الأمراء، الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها، وقالوا أفلا نقاتلهم؟ فقال: " لا، ما أقاموا الصلاة " 1، وقال: " من رأى من أميره ما يكرهه، فليصبر ولا ينْزعن يدا من طاعة " 2 ومن تأمل ما جرى على الإسلام، في الفتن الكبار والصغار، رآها من إضاعة هذا الأصل، وعدم الصبر على منكر طلب إزالته فتولد منه ما هو أكبر منه، انتهى. وقال ابن مفلح، في "الآداب": قال حنبل: اجتمع فقهاء بغداد في ولاية الواثق، إلى أبي عبد الله- يعني الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى- وقالوا له: إن الأمر قد تفاقم وفشا - يعنون إظهار القول بخلق القرآن، وغير ذلك - ولا نرضى بإمارته ولا سلطانه، فناظرهم في ذلك، وقال: عليكم بالإنكار في قلوبكم، ولاتخلعوا يدا من طاعة، ولا تشقوا عصا المسلمين، ولا تسفكوا دماءكم ودماء المسلمين معكم، وانظروا في عاقبة أمركم، واصبروا حتى يستريح بر، ويستراح من فاجر، وقال: ليس هذا- يعني نزع أيديهم من طاعته- صوابا هذا خلاف الآثار، اهـ.   1 مسلم: الإمارة (1855) , وأحمد (6/24) , والدارمي: الرقاق (2797) . 2 البخاري: الفتن (7054) , ومسلم: الإمارة (1849) , وأحمد (1/275 ,1/297 ,1/310) , والدارمي: السير (2519) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 122 إذا تقرر ذلك، فليعلم: أن الإمام عبد العزيز بن عبد الرحمن آل فيصل، قد ثبتت بيعته وإمامته، ووجبت طاعته على رعيته فيما أوجب الله من الحقوق، فمن ذلك أمر الجهاد، ومحاربة الكفار ومصالحتهم، وعقد الذمة معهم، فإن هذه الأمور من حقوق الولاية، وليس لآحاد الرعية الافتيات، أو الاعتراض عليه في ذلك، فإن مبنى هذه الأمور، على النظر في مصالح المسلمين العامة والخاصة، وهذا الاجتهاد والنظر، موكول إلى ولي الأمر، وعليه في ذلك تقوى الله، وبذل الجهد في النظر بما هو أصلح للإسلام والمسلمين، ومشاورة أهل الرأي والدين والنصح من المسلمين. ويجب عليه النصح لرعيته، والشفقه عليهم، والرفق بهم، والنظر في جميع ما تنتظم به مصالح دينهم ودنياهم، من حماية حوزة الإسلام، والذب عنها، وإقامة العدل بينهم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأداء الحقوق اللازمة إلى مستحقيها، فإن قصر عن القيام ببعض الواجب، فليس لأحد من الرعية أن ينازعه الأمر من أجل ذلك، كما ثبتت بذلك الأخبار عنه صلى الله عليه وسلم بوجوب السمع والطاعة، والوفاء بالبيعة، إلا أن تروا كفرا بواحا، عندكم فيه من الله برهان. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 123 الفصل الثالث: في التحذير من التفرق والاختلاف وبيان حرمة المسلم وما يجب له من الحقوق قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [سورة آل عمران آية: 102] {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [سورة آل عمران آية: 103] {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [سورة آل عمران آية: 104] {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [سورة آل عمران آية: 105] {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [سورة آل عمران آية: 106] قال بعض المفسرين تبيض وجوه أهل السنة والائتلاف، وتسود وجوه أهل الفرقة والاختلاف. قال شيخ الإسلام ابن تيمية، في "المنهاج" في الكلام على هذه الآيات-: فالله تعالى قد أمر المؤمنين كلهم أن يعتصموا بحبله جميعا ولا يتفرقوا، وقد فسر حبله بكتابه وبدينه، وبالإسلام، وبالإخلاص، وبأمره، وبعهده، وبطاعته، وبالجماعة، وهذه كلها منقولة عن الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وكلها صحيحة، فإن القرآن يأمر بدين الإسلام، وذلك هو عهده، وأمره وطاعته، والاعتصام الجزء: 9 ¦ الصفحة: 124 به جميعا، إنما يكون في الجماعة، ودين الإسلام حقيقته: الإخلاص لله. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن الله يرضى لكم ثلاثا: أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم " 1. والله تعالى قد حرم ظلم المسلمين، أحياءهم وأمواتهم، وحرم دماءهم وأموالهم، وأعراضهم، وقد ثبت في الصحيحين، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في حجة الوداع: " إن دماءكم، وأموالكم، وأعراضكم، عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا هل بلغت؟ ألا ليبلغ الشاهد الغائب، فرب مبلغ أوعى من سامع " 2. وقد قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً} [سورة الأحزاب آية: 58] فمن أذى مؤمنا حيا أو ميتا، بغير ذنب يوجب ذلك، فقد دخل في هذه الآيات، ومن كان مجتهدا لا إثم عليه، فإذا آذاه مؤذ، فقد آذاه بغير ما اكتسب، ومن كان مذنبا وقد تاب من ذنبه، أو غفر له بسبب آخر، لم يبق عليه عقوبة، فآذاه مؤذ، فقد آذاه بغير ما اكتسب. انتهى كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى. وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:   1 مسلم: الأقضية (1715) , وأحمد (2/367) , ومالك: الجامع (1863) . 2 البخاري: العلم (67) والحج (1741) والمغازي (4406) والأضاحي (5550) والفتن (7078) والتوحيد (7447) , ومسلم: القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1679) , وأحمد (5/37 ,5/39 ,5/40 ,5/49) , والدارمي: المناسك (1916) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 125 " لا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخوانا. المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يحقره، ولا يخذله، التقوى ها هنا وأشار إلى صدره ثلاث مرات بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه " 1 رواه مسلم. ولهما عن ابن عمر مرفوعا: " المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يسلمه. ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة من كرب الدنيا، فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلما، ستره الله يوم القيامة "2، ولهما عن أنس مرفوعا: " لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه " 3. وهذا الذي ذكرناه في هذه الرسالة، هو الذي نعتقده وندين الله به، وفيه كفاية لمن أراد الله هدايته، وكان قصده طلب الحق، نسأل الله لنا ولإخواننا المسلمين السلامة من موجبات سخطه، وأليم عقابه، ونعوذ بالله من زوال نعمته، وتحول عافيته، وفجأة نقمته، وجميع سخطه، اللهم إنا نعوذ بك من جهد البلاء، ودرك الشقاء، وسوء القضاء وشماتة الأعداء، وحسبنا الله ونعم الوكيل، وصلى الله على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وصحبه وسلم. [ما من الله به على بادية نجد وما أدخله الشيطان عليهم] وقال أيضا الشيخ محمد بن عبد اللطيف، والشيخ   1 مسلم: البر والصلة والآداب (2564) , وأحمد (2/277) . 2 البخاري: المظالم والغصب (2442) , ومسلم: البر والصلة والآداب (2580) , والترمذي: الحدود (1426) , وأبو داود: الأدب (4893) , وأحمد (2/67 ,2/91) . 3 البخاري: الإيمان (13) , ومسلم: الإيمان (45) , والترمذي: صفة القيامة والرقائق والورع (2515) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (5016 ,5017) , وابن ماجه: المقدمة (66) , وأحمد (3/176 ,3/206 ,3/251 ,3/272) , والدارمي: الرقاق (2740) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 126 عبد الله بن عبد العزيز العنقري، وفقهما الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي بعث محمدا بالهدى ودين الحق، على حين فترة من الرسل، فهدى به إلى أقوم المناهج، وأوضح السبل، فشرع الشرائع، وبين الأحكام، ولم يقبضه إليه حتى تم شرعه وكمل، فمن أراد الله سعادته اكتفى بهديه، عن سائر الشرائع والنحل، ومن قضي عليه بالشقاء، صدف عن ذلك وعدل. ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة تنجي قائلها يوم العرض من كل كرب ووجل، ونشهد أن محمدا عبده ورسوله، أفضل الخلق، وخاتم الرسل، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، الذين حازوا قصب سبق الفضائل، بالعلم والعمل. أما بعد: فإن الله سبحانه وتعالى، لما من على بادية نجد، في آخر هذا الزمان، بالإقبال على تعلم دين الإسلام، والعمل به، وكثر ذلك فيهم وانتشر، ورأى الشيطان منهم قوة في ذلك، وحرصا على الخير، يئس منهم أن يردهم على حالهم الأولى، التي انتقلوا منها، فأخذ في فتح أبواب من أبواب الشر، حسنها لهم وزينها، وجعلها في قالب القوة والصلابة في الدين، وأن من أخذ بها فهم المتمسكون بملة الجزء: 9 ¦ الصفحة: 127 إبراهيم، ومن تركها فقد ترك ملة إبراهيم. وهذا هو المعهود من كيد اللعين، كما أشار إلى ذلك العلامة ابن القيم رحمه الله، في "إغاثة اللهفان"، فإنه ذكر: أن الشيطان- لعنة الله- يشم قلب العبد، فإذا رأى فيه كسلا، سعى في رده عن الدين بالكلية، وإن رأى فيه قوة، سعى في حمله على مجاوزة الحق، والزيادة على ما شرعه الله ورسوله؛ وإذا أخبر بالأمر المشروع، قال له الشيطان: ما يكفيك هذا، الواجب عليك شيء غير هذا، هذا معنى كلامه رحمه الله تعالى. إذا علم هذا؛ فمن الأمور التي أدخلها على الإخوان- وفقهم الله تعالى- أنه غلظ أمر الأعراب عندهم، حتى صار منهم من يعتقد كفرهم مطلقا، ومنهم من يرى جهادهم، حتى يلتزموا سكنى القرى. والجواب عن هذا: أن تعلم أيها المنصف، الذي مراده الحق، أن الواجب علينا وعلى جميع المسلمين رد ما تنازعنا فيه، إلى كتاب الله وسنة رسوله، ولا يرد ذلك إلى محض الجهل والهوى، أو استحسان العقل، والأقيسة الفاسدة، ونحن نطالب من قال ذلك، بدليل من كتاب الله وسنة رسوله، أو نقل من الخلفاء الراشدين، والصحابة المهديين، ومن تبعهم من أئمة الدين. فإن كان اعتمادهم فيما توهموه، من إلزام البادية الجزء: 9 ¦ الصفحة: 128 بالسكنى في القرى، على مطلق وجوب الهجرة، فنعرفك عن حقيقة الهجرة الواجبة بالشرع المطهر. فنقول: الهجرة تجب من بلاد الشرك إلى بلاد الإسلام، على من لم يقدر على إظهار دينه، فإن كان المحل الذي فيه الأعراب، تظهر فيه شعائر الشرك، وتفعل فيه المحرمات، وتترك فيه الواجبات، فإن الهجرة تجب من ذلك المحل، إلى بلاد تظهر فيها شعائر الإسلام، سواء كان ذلك في بادية أو حاضرة، وأما البادية الذين هم في ولاية إمام المسلمين، وهم مع ذلك ملتزمون شرائع الإسلام، من الإتيان بأركان الإسلام الخمسة، وترك الشرك والكفر، ولا يظهر فيهم شيء من نواقض الإسلام، فلا تجب عليهم الهجرة إلى القرى، ولا يجوز إلزامهم بذلك. ومن ألزمهم بذلك، ورآه دينا، فقد شرع في الدين ما لم يأذن به الله، قال تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [سورة الشورى آية: 21] وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: " من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد " 1، وفي رواية " من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد " 2 أي: من أحدث في ديننا وشرعنا، زيادة لم نشرعها، فمن قال قولا، أو عمل عملا لم يشرعه الله ورسوله، فهو مردود عليه، كائنا من كان، وقال تعالى: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ   1 البخاري: الصلح (2697) , ومسلم: الأقضية (1718) , وأبو داود: السنة (4606) , وابن ماجه: المقدمة (14) , وأحمد (6/73 ,6/146 ,6/180 ,6/240 ,6/256 ,6/270) . 2 البخاري: الصلح (2697) , ومسلم: الأقضية (1718) , وأبو داود: السنة (4606) , وابن ماجه: المقدمة (14) , وأحمد (6/240) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 129 يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ} [سورة النحل آية: 116] . ومن نسب إلزام بادية المسلمين بسكنى القرى إلى دين الله ورسوله، فقد افترى وضل، نعم، تستحب الهجرة في حقهم والحالة هذه، لما يترتب على ذلك من حضور الجمع والأعياد، وغير ذلك، من غير إكراه على ذلك، فافهموا حكم الهجرة ومن تجب عليه، وقولوا بعلم، ودعوا الجهل والهوى، واستحسانات العقول، وإن أردتم الدليل على ما قلناه، فانظروا إلى سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه وأصحابه، وحالهم مع أعرابهم الموجودين في عصر النبوة وما بعده، فإنهم لم يلزموهم بسكنى القرى، فإن كان عند أحد دليل عن النبي صلى الله عليه وسلم فليوجدناه ونقبله على الرأس والعين. وقد قال صلى الله عليه وسلم في حديث بريدة الطويل، الذي رواه مسلم في صحيحه، في أعراب المسلمين، فإنه قال: " كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أمر أميرا على جيش أو سرية " 1 - إلى قوله- " ثم ادعهم إلى الإسلام، فإن أجابوك فاقبل منهم، وكف عنهم، ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين، فإن أبوا فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين، يجري عليهم حكم الله " 2 الحديث ; فدل الحديث على أنه كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم أعراب، ولم يلزمهم بالهجرة. وقال ابن القيم: رحمه الله تعالى، في الهدي النبوي، في أواخر الوفود: "فصل" في قدوم وفد بني عبس، ” وفد عليه   1 مسلم: الجهاد والسير (1731) , والترمذي: الديات (1408) والسير (1617) , وأبو داود: الجهاد (2612) , وابن ماجه: الجهاد (2858) , وأحمد (5/352 ,5/358) , والدارمي: السير (2439) . 2 مسلم: الجهاد والسير (1731) , والترمذي: السير (1617) , وأحمد (5/352 ,5/358) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 130 بنو عبس، فقالوا يا رسول الله: قدم علينا قراؤنا، فأخبرونا: أنه لا إسلام لمن لا هجرة له، ولنا أموال ومواش، وهي معائشنا، فإن كان لا إسلام لمن لا هجرة لة، فلا خير في أموالنا ومواشينا، بعناها وهاجرنا عن آخرنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اتقوا الله حيث كنتم، فلن يلتكم من أعمالكم شيئا " انتهى. نعم، يجب على ولي الأمر إلزام الأعراب شرائع الإسلام، وكفهم عن المحرمات من الشرك وغيره، كغيرهم من المسلمين، وأما إطلاق الكفر على الأعراب بالعموم، فالدليل على منعه قوله تعالى: {وَمِنَ الأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [سورة التوبة آية: 99] الآية. فإذا علمت أنها لا تجب الهجرة على من كان في بادية المسلمين، تبين لك أنه لا يجوز هجر من قدم على الحاضرة منهم، إلا من عرف منهم بالمجاهرة بالمعاصي، والإعلان بها، وهذا ليس خاصا بالأعراب، فإن المجاهر بالمعاصي يشرع هجره، سواء كان ذلك من أهل البادية أو الحاضرة، إذا كان فيه مصلحة راجحة، ولم يترتب عليه مفسدة، لأن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح. ومن الأمور التي أوقعها الشيطان: أن الإنسان إذا كان قد هاجر، وسكن في قرية من قرى المسلمين، واتخذ ماشية من إبل أو غنم، واعتاش بها هو وعائلته، وخرج لرعيها، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 131 ومن نيته الرجوع إلى ذلك المحل الذي خرج منه، هجر عن السلام في زعم هذا الجاهل: أن خروجه مع إبله وغنمه معصية، وهذا جهل وضلال، فإن فعله ذلك مباح، فلا يجوز هجره والإنكار عليه والحالة هذه، وقد كان للنبي صلى الله عليه وسلم نعم من إبل وغنم، يجعل فيها رعاة يرعونها، وقال الفضل بن العباس: " زارنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في بادية لنا " 1. وأما من هاجر ثم رجع إلى البادية، منتقلا عن دار هجرته، فإنه عاص ومرتكب كبيرة، إذا لم يكن من نيته الرجوع، فمن كان مقصوده اتباع الحق، وطلب الهدى، وسعه ما وسع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ومن كان مقصوده الهوى، والتعمق والتكلف، والتضييق على نفسه، وعلى غيره، من غير دليل شرعي، فهو شبيه بمن انحرف عن هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل البدع والضلال. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم " إن قوما شددوا على أنفسهم، فشدد الله عليهم، فتلك بقاياهم في الصوامع والديارات". وذلك حين سأل نفر من أصحابه، عن عبادته صلى الله عليه وسلم فكأنهم تقالوها، فقال أحدهم: أما أنا فلا آكل اللحم، وقال الآخر: أنا لا أتزوج النساء، وقال الآخر: أنا أصوم ولا أفطر، وأصلي ولا أنام، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أما أنا فأصوم وأفطر، وأصلي وأنام، وآكل اللحم، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني ".   1 سنن النسائي: كتاب القبلة (753) , وسنن أبي داود: كتاب الصلاة (718) , ومسند أحمد (1/211 ,1/212) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 132 ولما قام أبو إسرائيل في الشمس، أمره أن يستظل ; ومن المعلوم أن مقصود هؤلاء النفر، الحرص على الخير، وطلب الزيادة في العبادة، فبين لهم النبي صلى الله عليه وسلم أن الزيادة على المشروع ضرر على صاحبها، وسبب لخروجه عن الصراط المستقيم، ومضاهاته للمغضوب عليهم، والضالين. [إساءة الظن بولي الأمر وعدم الطاعة له] ومما أدخل الشيطان على بعض المتدينين: اتهام علماء المسلمين بالمداهنة، وسوء الظن بهم، وعدم الأخذ عنهم، وهذا سبب لحرمان العلم النافع، والعلماء هم ورثة الأنبياء في كل زمان ومكان، فلا يتلقى العلم إلا عنهم، فمن زهد في الأخذ عنهم، ولم يقبل ما نقلوه، فقد زهد في ميراث سيد المرسلين، واعتاض عنه بأقوال الجهلة الخابطين، الذين لا دراية لهم بأحكام الشريعة. والعلماء هم الأمناء على دين الله، فواجب على كل مكلف، أخذ الدين عن أهله، كما قال بعض السلف: إن هذا العلم دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم، فأما من تعلق بظواهر ألفاظ من كلام العلماء المحققين، ولم يعرضها على العلماء، بل يعتمد على فهمه، وربما قال: حجتنا مجموعة التوحيد، أو كلام العالم الفلاني، وهو لا يعرف مقصوده بذلك الكلام، فإن هذا جهل وضلال. ومن المعلوم: أن أعظم الكلام وأصحه، كلام الله العزيز؛ فلو قال إنسان: ما نقبل إلا القرآن، وتعلق بظاهر لفظ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 133 لا يعرف معناه، أو أوله على غير تأويله، فقد ضاهى الخوارج المارقين، فإذا كان هذا حال من اكتفى بالقرآن عن السنة، فكيف بمن تعلق بألفاظ الكتب، وهو لا يعرف معناها، ولا ما يراد بألفاظها؟! والكتب أيضا فيها من الأحاديث: الصحيح والضعيف، والمطلق والمقيد، والعام والخاص، والناسخ والمنسوخ، فإذا لم يأخذ العامي عن العلماء النقاد، الذين هم للحديث بمنْزلة الصيارفة للذهب والفضة، خبط خبط عشواء، وتاه في وادي جهالة عمياء. وقد قال الشيخ: محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى، في "كتاب أصول الإيمان" باب قبض العلم، ثم ذكر حديث زياد بن لبيد، قال: ذكر النبي صلى الله عليه وسلم شيئا، فقال: " ذلك حين أوان ذهاب العلم، قلت: يا رسول الله، وكيف يذهب العلم، ونحن نقرئ القرآن أبناءنا، ويقرئه أبناؤنا أبناءهم، إلى يوم القيامة؟ فقال: ثكلتك امك يا زياد، إن كنت لأراك من أفقه رجل في المدينة، أو ليس هذه اليهود والنصارى، يقرؤون التوارة والإنجيل، ولا يعملون بشيء مما فيهما " رواه أحمد وابن ماجه. وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: " عليكم بالعلم قبل أن يقبض، وقبضه ذهاب أهله، عليكم بالعلم فإن أحدكم ما يدري متى يفتقر إليه، أو يفتقر إلى ما عنده. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 134 وستجدون أقواما يزعمون أنهم يدعون إلى كتاب الله، وقد نبذوه وراء ظهورهم، عليكم بالعلم وإياكم والبدع والتنطع والتعمق؛ وعليكم بالعتيق " رواه الدارمي بنحوه، وفي الصحيح عن ابن عمر رضي الله عنه: " إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بموت العلماء، حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤساء جهالا، فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا " 1 انتهى. إذا عرف هذا تبين أن الذي يدعي أنه يستغنى بمجموعة التوحيد، عن الأخذ عن علماء المسلمين مخطئ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر أن سبب قبض العلم موت العلماء، فإذا ذهب العلماء واتخذ الناس رؤساء جهالا، وسألوهم وأخذوا بفتواهم، ضلوا وأضلوا، عياذا بالله. ومما أدخل الشيطان أيضا: إساءة الظن بولي الأمر وعدم الطاعة له، فإن هذا من أعظم المعاصي، وهو من دين الجاهلية، الذين لا يرون السمع والطاعة دينا، بل كل منهم يستبد برأيه، وقد تظاهرت الأدلة من الكتاب والسنة، في وجوب السمع والطاعة لولي الأمر في العسر واليسر، والمنشط والمكره، حتى قال: " اسمع وأطع وإن أخذ مالك وضرب ظهرك ". فتحرم معصيته والاعتراض عليه في ولايته، وفي معاملته وفي معاقدته ومعاهدته، لأنه نائب المسلمين والناظر   1 البخاري: العلم (100) , ومسلم: العلم (2673) , والترمذي: العلم (2652) , وابن ماجه: المقدمة (52) , وأحمد (2/162 ,2/190 ,2/203) , والدارمي: المقدمة (239) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 135 في مصالحهم، ونظره لهم خير من نظرهم لأنفسهم، لأن بولايته يستقيم نظام الدين، وتتفق كلمة المسلمين، لا سيما وقد من الله عليكم بإمام ولايته ولاية دينية، وقد بذل النصح لعامة رعيته من المسلمين، خصوصا المتدينين، بالإحسان إليهم ونفعهم، وبناء مساجدهم وبث الدعاة فيهم، والإغضاء عن زلاتهم وجهالاتهم. ووجود هذا في آخر هذا الزمان، من أعظم ما أنعم الله به على أهل هذه الجزيرة، فيجب عليهم شكر هذه النعمة ومراعاتها، والقيام بنصرته والنصح له باطنا وظاهرا. فلا يجوز لأحد الافتيات عليه، ولا المضي في شيء من الأمور إلا بإذنه؛ ومن افتات عليه فقد سعى في شق عصا المسلمين، وفارق جماعتهم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: " من عصى الأمير فقد عصاني، ومن عصاني فقد عصى الله " 1 والمراد بالأمير في هذا الحديث: من ولاه الله أمر المسلمين، وهو الإمام الأعظم. وقال ابن رجب في "شرح الأربعين" له: وأما السمع والطاعة لولاة أمور المسلمين، ففيها سعادة الدنيا، وبها تنتظم مصالح العباد في معاشهم، وبها يستعينون على إظهار دينهم وطاعة ربهم، كما قال علي ابن أبي طالب رضي الله عنه: (إن الناس لا يصلحهم إلا إمام بر أو فاجر، إن كان فاجرا عبد المؤمن فيها ربه، وحمل الفاجر فيها إلى أجله) .   1 البخاري: الأحكام (7137) , ومسلم: الإمارة (1835) , والنسائي: البيعة (4193) , وابن ماجه: الجهاد (2859) , وأحمد (2/270 ,2/313 ,2/467 ,2/471 ,2/511) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 136 وقال الحسن في الأمراء: (يلون من أمورنا خمسا، الجمعة والجماعة، والعيد والثغور والحدود، والله ما يستقيم الدين إلا بهم وإن جاروا وظلموا، والله لما يصلح الله بهم أكثر مما يفسدون، مع أن طاعتهم والله لغيظ، وإن فرقتهم لكفر) . وخرج الخلال في كتاب الإمارة، من حديث أبي أمامة، قال: " أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه حين صلوا العشاء: أن احشدوا، فإن لي إليكم حاجة فلما فرغوا من صلاة الصبح، قال: "هل حشدتم كما أمرتم؟ قالوا: نعم، قال: اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، هل عقلتم هذه؟ ثلاثا، قلنا: نعم، قال: أقيموا الصلاة، وآتوا الزكاة، هل عقلتم هذه" ثلاثا، قلنا: نعم، قال: اسمعوا وأطيعوا، هل عقلتم هذه؟ ثلاثا، قلنا: نعم. قال: فكنا نرى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سيتكلم كلاما طويلا، ثم نظرنا في كلامه، فإذا هو قد جمع الأمر كله ". [التهاجر على غير سبب يوجب ذلك] ومن الأمور التي أدخلها الشيطان في المسلمين، لينال بها مقصوده من إغوائهم، واختلاف كلمتهم وتفرقهم، ما حملهم عليه من التهاجر على غير سبب يوجب ذلك، بل بمجرد الرأي المخالف لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وهذا ينافي ما عقده الله بين المسلمين، من الأخوة الإسلامية، التي توجب التواصل والتواد، والتراحم والتعاطف، كما قال الجزء: 9 ¦ الصفحة: 137 النبي صلى الله عليه وسلم: " مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم، كمثل الجسد الواحد " 1 وقال النبي صلى الله عليه وسلم " المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا " 2. وقال الله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} [سورة آل عمران آية: 103] إلى قوله: {لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [سورة البقرة آية: 53] وقال تعالى: {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [سورة الأنفال آية: 46] الآية وقال صلى الله عليه وسلم " لا تباغضوا ولا تحاسدوا، ولا تدابروا، ولا تقاطعوا، وكونوا عباد الله إخوانا، المسلم أخو المسلم " 3 الحديث. وقد تقدم أن هجر أهل المعاصي يشرع، إذا كانت المصلحة بذلك راجحة على مفسدته، فإذا لم تكن فيه مصلحة راجحة لم يشرع، لما يترتب على ذلك من المفاسد، كما قرر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه، والهجر إنما شرع تأديبا وتعزيرا، بترك السلام عليه، وعدم تكليمه، حتى ينْزجر عن معصيته، وأما ضربه وتعنيفه، فلا أصل له في الشرع. ومن نسب إلى الشيخ الإمام عبد اللطيف، رحمه الله أنه يضرب كل من سافر إلى بلاد المشركين، فقد افترى؛ والناقل لذلك يطالب بصحة ما نقل عنه، وإن صح من ذلك شيء، فهو محمول على بعض المنتسبين، الذين يقتدى بهم، ويغتر بهم الجهال، والله المسؤول المرجو   1 البخاري: الأدب (6011) , ومسلم: البر والصلة والآداب (2586) , وأحمد (4/270) . 2 البخاري: الصلاة (481) والمظالم والغصب (2446) والأدب (6027) , ومسلم: البر والصلة والآداب (2585) , والترمذي: البر والصلة (1928) , والنسائي: الزكاة (2560) , وأحمد (4/405) . 3 البخاري: الأدب (6065) , ومسلم: البر والصلة والآداب (2559) , والترمذي: البر والصلة (1935) , وأبو داود: الأدب (4910) , وأحمد (3/110 ,3/165 ,3/199 ,3/209 ,3/225) , ومالك: الجامع (1683) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 138 الإجابة أن ينصر دينه، ويعلي كلمته، وأن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله على محمد وآلة وصحبه وسلم. [أمر الله بالاجتماع على الدين] وقال الشيخ سعد بن حمد بن عتيق، رحمه الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم من سعد بن حمد بن عتيق، إلى من يصل إليه هذا الكتاب، من إخواننا من أهل الأرطاوية، والغطغط وغيرهم، من عتيبة، ومطير، وقحطان، وغيرهم من إخواننا المسلمين، نور الله قلوبنا وقلوبهم بنور العلم والإيمان، وجعلنا وإياهم من أتباع السنة والقرآن، وأعاذنا وإياهم من زيغ القلوب ونزغات الشيطان، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فإن الله سبحانه وتعالى بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق، وأنزل عليه الكتاب المبين، وجعله هدى للمتقين، وشفاء ورحمة للمؤمنين، وحجة على المبطلين، وضمن الرحمة والسعادة، والفلاح والهدى، والفوز بالجنة والنجاة من النار، لمن اتبعه وعمل بما فيه. وتوعد من خالفه أو أعرض عنه، بأنواع من الوعيد قال تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 139 تُرْحَمُونَ} [سورة الأنعام آية: 155] . وقال تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ} [سورة ص آية: 29] وقال تعالى: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} [سورة طه آية: 123-126] قال بعض السلف: تكفل الله لمن قرأ القرآن، وعمل بما فيه، أن لا يضل في الدنيا، ولا يشقى في الآخرة. ومما أمر الله به في كتابه المبين، وأوحاه إلى رسوله الأمين، الحث على الاجتماع على الدين، والاعتصام بحبله المتين، واتباع سبيل المؤمنين، واجتناب ما ذمه الله سبحانه، من أخلاق من ذمهم في كتابه، من أهل التفرق والاختلاف، والمشاقة له ولرسوله، ومخالفة أهل الصراط المستقيم. قال الله تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} [سورة الشورى آية: 13] وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} [سورة آل عمران آية: 102-103] . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 140 وقال تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [سورة آل عمران آية: 104-106] قال بعض المفسرين: تبيض وجوه أهل السنة والائتلاف، وتسود وجوه أهل البدعة والاختلاف. وقد ورد في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن الله يرضى لكم ثلاثا: أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم " 1. ومن أعظم: أسباب التفرق والاختلاف، والعدول عن طريق الحق والإنصاف: ما وقع من كثير من الناس، من الإفتاء في دين الله بغير علم، والخوض في مسائل العلم بغير دراية ولا فهم، فإن الله تعالى قد حرم القول عليه بغير علم، في أسمائه وصفاته، وشرعه وأحكام. وجعل ذلك قرينا للشرك، الذي هو أعظم المحرمات، كما قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [سورة الأعراف آية: 33] وقال تعالى: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ   1 مسلم: الأقضية (1715) , وأحمد (2/367) , ومالك: الجامع (1863) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 141 هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ} [سورة النحل آية: 116] . وقال تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [سورة الأنعام آية: 144] . وهذا مصداق ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم مما يكون فى آخر الزمان، من قبض العلم بذهاب أهله، وظهور الجهل، واتخاذ الناس من الجهلة المفتين بالفتوى المضلة، وقال صلى الله عليه وسلم في حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: " إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من صدور الرجال، ولكن بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالم، اتخذ الناس رؤساء جهالا، فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا ". وقال تعالى في هذا الصنف من الناس: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} [سورة النحل آية: 25] وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من سن في الإسلام سنة حسنة، كان له أجرها وأجر من عمل بها من بعده، لاينقص ذلك من أجورهم شيئا، ومن سن في الإسلام سنة سيئة، كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة، لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئا "1. ومما انتحله بعض هؤلاء الجهلة المغرورين: الاستخفاف بولاية المسلمين، والتساهل بمخالفة إمام المسلمين، والخروج عن طاعته، والافتيات عليه بالغزو،   1 مسلم: العلم (1017) , والترمذي: العلم (2675) , والنسائي: الزكاة (2554) , وابن ماجه: المقدمة (203) , وأحمد (4/357) , والدارمي: المقدمة (512 ,514) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 142 وغيره، وهذا من الجهل والسعي في الأرض بالفساد بمكان، يعرف ذلك كل ذي عقل وإيمان. وقد علم بالضرورة من دين الإسلام: أنه لا دين إلا بجماعة، ولا جماعة إلا بإمامة، ولا إمامة إلا بسمع وطاعة، وأن الخروج عن طاعة ولي أمر المسلمين، من أعظم أسباب الفساد في البلاد والعباد، والعدول عن سبيل الهدى والرشاد، وقد قيل: تهدى الأمور بأهل الرشد إن رشدت ... وإن تولت فبالأشرار تنقاد لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم ... ولا صلاح إذا جهالهم سادوا وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " وأنا آمركم بخمس، السمع والطاعة، والجهاد والهجرة، والجماعة، فإن من فارق الجماعة قيد شبر، فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه " 1 وفي الحديث " ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم، إخلاص العمل لله، ومناصحة المسلمين، ولزوم جماعتهم، فإن دعوتهم تحيط من ورائهم " 2. ومن ذلك: ما وقع من غلاة هؤلاء، من اتهام أهل العلم والدين، ونسبتهم إلى التقصير، وترك القيام بما وجب عليهم من أمر الله سبحانه وتعالى، وكتمان ما يعلمون من الحق، ولم يدر هؤلاء: أن اغتياب أهل العلم والدين، والتفكه بأعراض المؤمنين، سم قاتل، وداء دفين، وإثم واضح مبين، قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ   1 الترمذي: الأمثال (2863) , وأحمد (4/130 ,4/202 ,5/344) . 2 الترمذي: العلم (2658) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 143 وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً} [سورة الأحزاب آية: 58] شعرا: أقلوا عليهم لا أبا لأبيكمو من ... اللوم أو سدوا المكان الذي سدوا ومن ذلك: ما التزموه وألزموا به غيرهم من أعراب المسلمين، من ترك سكنى البادية، والتزام الحضر، وإنشاء العمران والبنيان، والتشديد في أمر العمائم، والعدوان على كثير من أهل الإسلام والتوحيد، بالضرب الشديد، والهجر والتهديد، إلى غير ذلك من الأمور التي خرجوا بها عن حكم العقل والعدل والإنصاف، وانتظموا بها في سلك أهل الجهل والظلم والاعتساف، وهم مع ذلك يحسبون أنهم مهتدون، ويزعمون أنهم مصلحون {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ} [سورة البقرة آية: 12] . وهذه الأمور ونحوها، يكفي في ردها مجرد الإشارة والتنبيه، دون بسط القول فيها واستقصاء الأدلة على ردها، فاتقوا الله عباد الله {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} [سورة البقرة آية: 281] ولا تكونوا كالذين فرقوا دينهم، وكانوا شيعا {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [سورة آل عمران آية: 103] ونسأل الله أن يهدينا وإياكم صراطه الجزء: 9 ¦ الصفحة: 144 المستقيم، ويجنبنا موجبات غضبه، وعذابه الأليم، إنه على كل شيء قدير، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم. [يجب الإخلاص ولزوم الجماعة وأخذ العلم من حملته] وله أيضا، رحمه الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم من سعد بن حمد بن عتيق، إلى من نظر في هذا الكتاب من إخواننا، من أهل الأرطاوية، وغيرهم من أهل البلدان، وفقنا الله وإياهم لصالح العمل، وجنبنا سبل أهل الغواية والضلالة والزلل، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فأحمد إليكم الله الذي لا إله غيره، على ما أولاه من نعمه العظام، التي أعظمها وأجلها نعمة الإسلام وأوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى، في السر والعلانية، فإنها خير الوصايا، وأعظم الفضائل والمزايا، أوصى بها سبحانه عباده في كتابه، وكرر الأمر بها فيما أوحاه إلى رسوله صلى الله عليه وسلم من كلامه وخطابة، فقال تعالى: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [سورة النساء آية: 131] وقال تعالى {يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [سورة الأحزاب آية 71] . وهذه وصية نافعة، وللحث على اتباع أوامره واجتناب الجزء: 9 ¦ الصفحة: 145 نواهيه جامعة، وأصل ذلك ما يودعه الله- سبحانه وتعالى- في قلب العبد، من معرفته ومحبته، وخشيته والخوف منه، والإنابة إليه، والرضى به ربا، وبالإسلام دينا، ومحمد صلى الله عليه وسلم نبيا. ومن أعظم ما يجب علينا وعليكم، مما تضمنته هذه الوصية الإلهية: إخلاص العبادة لله، ومناصحة جميع المسلمين، ولزوم جماعتهم، والتزام السمع والطاعة لمن ولاه الله أمر المسلمين، وترك التفرق والاختلاف، كما جاءت بذلك الآيات المحكمات، وثبتت به الروايات عن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ الاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} [سورة آل عمران آية: 102-103] إلى قوله: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [سورة آل عمران آية: 104-106] الآية قال بعض المفسرين: تبيض وجوه أهل السنة والائتلاف، وتسود وجوه أهل البدعة والاختلاف. وقال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [سورة المائدة آية: 2] وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 146 الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [سورة الحشر آية: 18-19] . وقال النبي صلى الله عليه وسلم " إن الله يرضى لكم ثلاثا: أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم " 1 و " قال صلى الله عليه وسلم ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم، إخلاص العمل لله، ومناصحة المسلمين، ولزوم جماعتهم ". ولعلكم تعلمون أن أكبر أسباب السعادة والفلاح في المعاش والمعاد: الانتظام في سلك أهل الحق والرشاد، وأعظم أسباب السلامة الهرب من سبل أهل الغي والفساد، واقتباس نور الهدى من محله، والتماس العلم النافع من حملته وأهله، وهم أهل العلم والدين، الذين بذلوا أنفسهم في طلب الحق وهداية الخلق، حتى صاروا شهودا لهم بالهداية والعدالة، وصانوا أنفسهم عن صفات أهل الغي والضلالة. لا من سواهم من أهل الجهل والضلال، الذين ضلوا وأضلوا كثيرا من العباد، وتكلموا في دين الله بالظن والخرص، وصاروا فتنة للمفتونين، ورؤساء للجاهلين، فكانوا هم وأتباعهم، كالذين قال فيهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (أتباع كل ناعق، يميلون   1 مسلم: الأقضية (1715) , وأحمد (2/367) , ومالك: الجامع (1863) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 147 مع كل داع لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجؤوا إلى ركن وثيق) . وقد بلغني عن هذا الجنس، الوقوع في أهل العلم والدين، وإساءة الظن بهم، ونسبتهم إلى ترك ما أوجب الله عليهم من الدعوة إلى الله، والنصح لأئمة المسلمين وعامتهم، وهذا من جهلهم، وعدم مبالاتهم بما يقعون فيه من الغيبة لأهل العلم، وثلبهم إياهم، وذمهم وانتقاصهم، ومن وقع في أهل العلم بالعيب والثلب، ابتلاه الله بموت القلب. وقد ذكرنا لكم في هذه الصحيفة، وما قد سبق لكم منا، ومن غيرنا من إخوانكم، من أهل العلم، من النصائح في الرسائل والمكاتبات، المتضمنة للحث على لزوم جماعة المسلمين، وامتثال أمر من ولاه الله أمرهم، والاقتداء بأهل العلم والدين، وقبول النصيحة منهم، وترك التفرق والاختلاف، واجتناب داعي الهوى والشقاق والخلاف، وذكر أدلة ذلك، والترغيب فيه، وذم من خالفه وأعرض عنه، ما فيه كفاية لمن أراد الله به خيرا، وأما من غلب عليه الهوى، ولم يكن قصده التماس الحق والهدى، فلا حيلة فيه. تالله ما بعد البيان لمنصف ... إلا العناد ومركب الخذلان وحقيق من هذا شأنه أن ينتقل معه بعد الدعوة إلى الجزء: 9 ¦ الصفحة: 148 الحق والجدال، إلى مرتبة العقوبة والنكال، فإن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن، ثم إنه ذكر لي: أن بعض هؤلاء الجهلة المغرورين، إذا نصح من عندهم من أهل العلم، انتقل من بلده إلى بلد آخر، قاصدا تحيزه إلى من هو من جنسه، واجتماعه بمن هو على رأيه الفاسد. وهذا من أسباب الفساد، ووقوع الشر والاختلاف بين العباد؛ فينبغي عدم موافقة هؤلاء على ذلك، وإلزام كل إنسان منهم بسكنى البلد الذي هو فيه، فإن كان قصده طلب الحق والعلم، فعنده من يدله عليه. وعلى أهل البلدان أن ينتبهوا لذلك، وأن يمنعوا من جاءهم من هذا الجنس، من السكنى عندهم، إذا انتقل من بلده لهذا المقصد الرديء. أسأل الله تعالى أن يثبتنا وإياكم على دينه، وأن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، وأن يهب لنا من لدنه رحمة، إنه هو الوهاب، وصلى الله على محمد. [حث الإمام الإخوان على لزوم طريقة مجدد الدعوة] وقال الإمام عبد العزيز بن عبد الرحمن آل فيصل، وفقه الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده. أما بعد: فهذه عقيدة شيخ الإسلام: محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى، الذي أظهر الله به الدين في الجزء: 9 ¦ الصفحة: 149 نجد، بعد أن كانوا في ضلال مبين، وقوم شرائع الدين، بعدما وهت أركانه بين العالمين، في مراسلاته ومناصحاته، ودعوته الخلق إلى دين الله ورسوله. قال رحمه الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد بن عبد الوهاب، إلى من يصل إليه هذا الكتاب من الإخوان، سلام عليكم رحمة الله وبركاته. وبعد: يجري عندكم أمور تجري عندنا من سابق، وننصح إخواننا إذا جرى منها شيء حتى فهموها، وسببها: أن بعض أهل الدين، ينكر منكرا وهو مصيب، لكن يخطئ في تغليظ الأمر، إلى شيء يوجب الفرقة بين الإخوان، وقد قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ الاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} [سورة آل عمران آية: 102-103] الآية وقال صلى الله عليه وسلم " إن الله يرضى لكم ثلاثا: أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم ". وأهل العلم يقولون: الذي يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، يحتاج إلى ثلاث: أن يعرف ما يأمر به وينهى عنه، ويكون رفيقا فيما يأمر به وينهى عنه، صابرا على ما جاءه من الأذى ; وأنتم محتاجون إلى الحرص على فهم هذا والعمل الجزء: 9 ¦ الصفحة: 150 به، فإن الخلل إنما يدخل على صاحب الدين، من قلة العمل بهذا، أو قلة فهمه. وأيضا يذكر العلماء: أن إنكار المنكر إذا صار يحصل بسببه افتراق لم يجز إنكاره، فالله الله في العمل بما ذكرت لكم، والتفقه فيه، فإنكم إن لم تفعلوا صار إنكاركم مضرة على الدين، والمسلم لا يسعى إلا في صلاح دينه ودنياه، وسبب هذه القالة التي وقعت بين أهل الحوطة- لو صار أهل الدين واجبا عليهم إنكار المنكر- فلما غلظوا الكلام، صار فيه اختلاف بين أهل الدين، فصار فيه مضرة على الدين والدنيا. وهذا الكلام وإن كان قصيرا، فمعناه طويل، فلازم، لازم: تأملوه وتفقهوا فيه، واعملوا به، فإن عملتم به صار نصرا للدين، واستقام الأمر إن شاء الله. [كيفية أمر ولي الأمر بالمعروف ونهيه عن المنكر] والجامع لهذا كله: أنه إذا صدر المنكر من أمير أو غيره، أن ينصح برفق خفية، ما يشترف أحد، فإن وافق وإلا استلحق عليه رجل يقبل منه بخفية، فإن لم يفعل فيمكن الإنكار ظاهرا، إلا إن كان على أمير، ونصحه ولا وافق، واستلحق عليه ولا وافق، فيرفع الأمر إلينا خفية، وهذا الكتاب، كل أهل بلد ينسخون منه نسخة، ويجعلونها عندهم، ثم يرسلونها لحرمة، والمجمعة، والغاط، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 151 والزلفى، والله أعلم 1. إذا تحققتم ذلك، فاعلموا أيها الإخوان: هل أنتم على طريقة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، في عقيدته، ومراسلاته، ومناصحاته، ودعوته الخلق إلى دين الله ورسوله؟ أم أنتم مخالفون له في ذلك، غير متبعين له في أقواله ورسائله ومناصحاته؟ ومتبعون في ذلك أهواء قوم قد ضلوا من قبل، وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل. فتأملوا رحمكم الله، ما قاله شيخ الإسلام في هذه الرسالة، التي أجاد فيها وأفاد، حيث قال: وسببها أن بعض أهل الدين ينكر منكرا وهو مصيب، ولكن يخطئ في تغليظ الأمر إلى شيء يوجب الفرقة بين الإخوان، وقد قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} [سورة آل عمران آية: 102-103] الآية. إلى قوله: ويذكر العلماء أن إنكار المنكر، إذا صار يحصل بسببة افتراق، لم يجز إنكاره- إلى أن قال- والجامع لهذا كله: أنه إذا صدر المنكر من أمير أو غيره، أن ينصح برفق خفية ما يشترف أحد، فإن وافق وإلا استلحق عليه رجلا   1 وتقدمت في صفحة: 119 - 121. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 152 يقبل منه بخفية، فإن لم يفعل فيمكن الإنكار ظاهرا، إلا إن كان على أمير ونصحه ولا وافق، واستلحق عليه ولا وافق، فيرفع الأمر إلينا خفية. إذا فهمتم ذلك، وتحققتم أنه لا يجوز إنكار المنكر ظاهرا، فالواجب على المسلم: أن ينكر المنكر على من أتى به بخفية، خصوصا إن كان على أمير، فإن إنكار المنكر على الولاة ظاهرا، مما يوجب الفرقة والاختلاف بين الإمام ورعيته، فإن لم يقبل المناصحة خفية، فليرد الأمر إلى العلماء، وقد برئت ذمته. وإنكار المنكر على الولاة ظاهرا من إشاعة الفاحشة، وقد قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} [سورة النور آية: 19] وإطلاق الفاحشة لفظ عام، يدخل فيه كل ما كان منكرا، وإعمال المطي بين الإخوان، واجتماعاتهم لأجل إنكار المنكر ظاهرا، مخالف لما كان عليه أهل السنة والجماعة من العلماء، ولما كان عليه شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب في هذه الرسالة؛ وهذا منا إعذار وإنذار، لئلا يحتج أحد علينا أنا لم نناصحهم في ذلك، ولم نبين لهم ما عندنا. وقد سمعنا في الأيام الماضية، ما أجمع عليه الإخوان في هذا الأمر، ولم يمنع المشائخ مناصحتهم في ذلك، إلا ما ذكروه في مراسلاتهم للمشائخ: أنهم على عقيدتهم، وأنه الجزء: 9 ¦ الصفحة: 153 ليس لهم رأي يخالف رأيهم، وأنهم لا يبدرون في شيء إلا بمراجعتهم، فلما مضوا فيما مضوا فيه، ولم يرفعوا للمشائخ خبرا بذلك، تحققنا أنهم يقولون ما لا يفعلون، وقد قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [سورة الصف آية: 2-3] . وأيضا: فها هنا مسألة أخرى، يجب التنبيه عليها، لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، وهي ما ورد في الحديث الصحيح: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " عليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة " 1. ومن سنة الخلفاء الراشدين- أبي بكر، وعمر، وعثمان رضي الله عنهم- أنهم هم الذين بعثوا البعوث، وجندوا الأجناد، وفتحوا الفتوحات العظيمة، كمصر، والشام، والعراق، والفرس، وأنفقوا خزائنها في سبيل الله، كما هو مشهور من سيرتهم، ولم يقل أحد من الصحابه والتابعين رضي الله عنهم: إنا نحن الذين فتحنا هذه الأمصار، بل ذكر العلماء أن الذي فتحها هم الخلفاء الراشدون. وذكروا أيضا: أن عمر رضي الله عنه هو الذي بصر البصرة، وكوف الكوفة، والخلفاء الراشدون، لم يخرجوا   1 أبو داود: السنة (4607) , والدارمي: المقدمة (95) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 154 من المدينة، ولم يروا هذه الأمصار بأعينهم، إلا ما كان من مسير عمر للشام، لفتح بيت المقدس، وهم الذين تولوا خراجها، ولم يتول خراجها من أرسلهم الخلفاء، إلى هذه الأمصار والأقطار، فهذه سيرة الخلفاء الراشدين. وآخر من كان على هذه الطريقة المرضية، شيخ الإسلام: محمد بن عبد الوهاب، وآل سعود، رحمهم الله تعالى، فإنه لما سار عثمان المضايفي، وعبد الوهاب أبو نقطة أمير عسير، وربيع، ومبارك بن روية بالدواسر، وهادي بن قرملة بقحطان، وحصل بينهم الوقعة المشهورة، هم وراجح الشريف، ثم بعد ذلك حاصروا مكة المشرفة، حتى أذعنوا بالصلح، وطلب منهم غالب الشريف الصلح، فلم يقبلوا منه إلا بعد مراجعة الإمام سعود، فأمر بإتمام الصلح، وحج من العام المقبل بجميع المسلمين، ودخلوا مكة آمنين من غير قتال. ولم يقل أحد من العلماء في تاريخهم، أن الذي فتحها هؤلاء الذين تقدم ذكرهم، وإنما ذكروا أن الذي فتحها سعود، وهو الذي تولى خراجها، ولم يتول خراجها أحد ممن ذكرنا، ولم نسمع في قديم زمان أو حديثه، ممن سلف من الأئمة، ولا من خلف ممن بعدهم، أنهم قالوا بمثل قول هؤلاء. والله يقول الحق وهو يهدي السبيل، وحسبنا الله ونعم الوكيل، وصلى الله على محمد. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 155 [مجرد المصالحة لا يكون موالاة] وقال الشيخ عبد الله بن عبد العزيز العنقري، وفقه الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله بن عبد العزيز العنقري، إلى من تصل إليه هذه النصيحة، من إخواننا المسلمين، جعلهم الله على الحق متعاونين، ولطريق أهل الزيغ والبدع مجانبين، آمين، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. والموجب لهذه النصيحة، هو ما أخذ الله علينا من الميثاق، في بيان ما علمنا من الحق، وخفي على غيرنا، قال الله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ} [سورة آل عمران آية: 187] وقال النبي صلى الله عليه وسلم " الدين النصيحة، ثلاثا. قلنا: لمن هي يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم "1، وقال صلى الله عليه وسلم: " مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم، كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر "، وقال عليه الصلاة والسلام: " المؤمن مرآة أخيه " 2. وأيضا: ما بلغني عن بعض الإخوان، من خوض بعضهم في بعض، وكذا في ولي أمرهم، فعن لي أن أذكر كلمات، لعل الله أن ينفع بها، وأسأل الله التوفيق والإعانة،   1 مسلم: الإيمان (55) , والنسائي: البيعة (4197 ,4198) , وأبو داود: الأدب (4944) , وأحمد (4/102) . 2 الترمذي: البر والصلة (1929) , وأبو داود: الأدب (4918) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 156 وأعوذ به من اتباع الهوى والإهانة، وقد ينتفع بالنصائح من أراد الله هدايته، ومن قضى عليه بالشقاء فلا حيلة في الأقدار. فأقول مستمدا من الله الصواب، معتمدا عليه في دفع ما دهى من الحوادث وناب: اعلموا جعلني الله وإياكم ممن علم وعمل، أن القول على الله بغير علم، أعظم من الشرك، قال الله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [سورة الأعراف آية: 33] فجعل القول عليه بغير علم في مرتبة فوق الشرك. وقد بلغنا أن الذي أشكل عليكم، أن مجرد مخالطة الكفار ومعاملتهم، بمصالحة ونحوها، وقدومهم على ولي الأمر لأجل ذلك، أنها هي موالاة المشركين، المنهي عنها في الآيات والأحاديث، وربما فهمتم ذلك من "الدلائل" التي صنف الشيخ سليمان بن عبد الله بن الشيخ، ومن سبيل النجاة للشيخ حمد بن عتيق. فأولا: نبين لكم سبب تصنيف "الدلائل"، فإن الشيخ سليمان، صنفها لما هجمت العساكر التركية على نجد في وقته، وأرادوا اجتثاث الدين من أصله، وساعدهم جماعة من أهل نجد، من البادية والحاضرة، وأحبوا ظهورهم. وكذلك: سبب تصنيف الشيخ حمد بن عتيق "سبيل الجزء: 9 ¦ الصفحة: 157 النجاة" هو لما هجمت العساكر التركية على بلاد المسلمين، وساعدهم من ساعدهم، حتى استولوا على كثير من بلاد نجد. فمعرفة سبب التصنيف مما يعين على فهم كلام العلماء، فإنه بحمد الله ظاهر المعنى؛ فإن المراد به موافقة الكفار على كفرهم، وإظهار مودتهم، ومعاونتهم على المسلمين، وتحسين أفعالهم، وإظهار الطاعة والانقياد لهم على كفرهم. والإمام وفقه الله لم يقع في شيء مما ذكر، فإنه إمام المسلمين، والناظر في مصالحهم، ولا بد له من التحفظ على رعاياه وولايته، من الدول الأجانب، والمشايخ رحمهم الله، كالشيخ سليمان بن عبد الله، والشيخ عبد اللطيف. والشيخ حمد بن عتيق، إذا ذكروا موالاة المشركين، فسروها بالموافقة والنصرة، والمعاونة والرضى بأفعالهم؛ فأنتم وفقكم الله، راجعوا كلامهم، تجدوا ذلك كما ذكرنا. قال الشيخ حمد بن عتيق، فيما نقله عن الشيخ سليمان بن عبد الله آل الشيخ، رحمهم الله: وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث: " من جامع المشرك وسكن معه فإنه مثله " 1 على ظاهره، وهو: أن الذي يدعى الإسلام، ويكون مع المشركين في الاجتماع والنصرة والمنْزل، بحيث يعده المشركون منهم، فهو كافر مثلهم وإن ادعى الإسلام، إلا أن   1 أبو داود: الجهاد (2787) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 158 يكون يظهر دينه ولا يتولى المشركين، انتهى. فانظر وفقك الله إلى قوله في هذه العبارة: وكون المشركين يعدونه منهم، يتبين لك أن هذا هو الذي أوجب كفره، وأما مجرد الاجتماع معهم في المنزل، فإن ذلك بدون إظهار الدين معصية، وقال ابن كثير في تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [سورة النساء آية: 144] يعني: معهم في الحقيقة، يوالونهم ويسرون إليهم بالمودة، ويقولون لهم إذا خلوا بهم إنا معكم، فهذا هو الذي أوجب كفرهم لا مجرد المخالطة. فأنتم وفقكم الله، الواجب عليكم التبصر، وأخذ العلم عن أهله، وأما أخذكم العلم من مجرد أفهامكم، أو من الكتب، فهذا غير نافع، ولأن العلم لا يتلقى إلا من مظانه وأهله، قال تعالى: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [سورة النحل آية: 43] وقال تعالى: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [سورة النساء آية: 83] وقال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [سورة النساء آية: 59] . وقال شيخ الإسلام، تقي الدين أحمد بن تيمية، رحمه الله، في "المنهاج" بعد كلام سبق: ومن المعلوم أن الناس لا يصلحون إلا بالولاة، وأنه لو تولى من هو دون الجزء: 9 ¦ الصفحة: 159 هؤلاء، من الملوك الظلمة- يعني يزيد، والحجاج ونحوهما- لكان ذلك خيرا من عدمهم، كما يقال: ستون سنة مع إمام جائر، خير من ليلة واحدة بلا إمام. ويروى عن علي رضي الله عنه أنه قال: " لا بد للناس من إمارة، برة كانت أو فاجرة. قيل له: هذه البرة قد عرفناها، فما بال الفاجرة؟ قال: يؤمن بها السبل، وتقام بها الحدود، ويجاهد بها العدو، ويقسم بها الفيء " ذكره علي بن مهدي في "كتاب الطاعة والمعصية". وقال فيه أيضا: وأهل السنة يقولون، إنه- أي الإمام- يعاون على البر والتقوى، دون الإثم والعدوان، ويطاع إلى طاعة الله دون معصيته، ولا يخرج عليه بالسيف، وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم إنما تدل على هذا، كما في الصحيحين قال: " من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر عليه، فإنه ليس أحد من الناس يخرج عن السلطان شبرا فمات عليه، إلا مات ميتة جاهلية. ومن قاتل تحت راية عمية، يغضب لعصبية أو يدعو إلى عصبية أو ينصر عصبية فقتل، فقتلته جاهلية. ومن خرج على أمتي يضرب برها وفاجرها، ولا يتحاشى من مؤمنها، ولا يفي لذي عهد عهده، فليس مني ولست منه ". فذم الخروج عن الطاعة ومفارقة الجماعة، وجعل ذلك ميتة جاهلية، لأن أهل الجاهلية لم يكن لهم رأس يجمعهم، - إلى أن قال -: وهو صلى الله عليه وسلم قد أخبر أنه بعد ذلك يقوم أئمة، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 160 لا يهتدون بهديه، ولا يستنون بسنته، ويقوم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان الإنس، وأمر مع هذا بالسمع والطاعة للأمير، وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك; فبين: أن الإمام الذي يطاع هو من كان له سلطان، سواء كان عادلا أو كان ظالما. وكذلك في الصحيح من حديث ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم: " من خلع يدا من طاعة، لقي الله تعالى يوم القيامة لا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة، مات ميتة جاهلية " 1، وفي الصحيحين وغيرهما، عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: " دعانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعناه، فكان فيما أخذ علينا: أن بايعنا على السمع والطاعة، في منشطنا ومكرهنا، وعسرنا ويسرنا، وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله، إلا أن تروا كفرا بواحا، عندكم فيه من الله برهان " 2. وفي صحيح مسلم، عن عرفجة بن شريح، قال: " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إنه سيكون هنات وهنات، فمن أراد أن يفرق أمر هذه الأمة وهي جميع، فاضربوه بالسيف كائنا من كان " 3، وفي لفظ " من أتاكم وأمركم على رجل واحد، يريد أن يشق عصاكم، أو يفرق جماعتكم، فاقتلوه " 4، وفي صحيح مسلم عن أم سلمة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يكون أمراء تعرفون وتنكرون، فمن عرف فقد برئ، ومن أنكر فقد سلم، ولكن من رضي وتابع. قالوا: أفلا   1 مسلم: الإمارة (1851) , وأحمد (2/70 ,2/83 ,2/93 ,2/97 ,2/111 ,2/123 ,2/133 ,2/154) . 2 البخاري: الفتن (7056) , والنسائي: البيعة (4149 ,4151 ,4152 ,4153 ,4154) , وابن ماجه: الجهاد (2866) , وأحمد (3/441 ,5/316 ,5/318 ,5/319 ,5/325) , ومالك: الجهاد (977) . 3 مسلم: الإمارة (1852) , والنسائي: تحريم الدم (4020 ,4021 ,4022) , وأبو داود: السنة (4762) , وأحمد (4/261 ,4/341 ,5/23) . 4 مسلم: الإمارة (1852) , والنسائي: تحريم الدم (4020 ,4021 ,4022) , وأبو داود: السنة (4762) , وأحمد (4/261 ,4/341 ,5/23) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 161 ننابذهم؟ قال: لا، ما صلوا " 1. وفيه أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من ولي عليه وال، فرآه يأتي شيئا من معصية الله، فلينكر ما يأتي من معصية الله، ولا ينْزعن يدا من طاعة " 2 وهذا كله مما يبين أن ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم من الصبر على جور الأئمة، وترك قتالهم والخروج، هو أصلح الأمور للعباد، في المعاش والمعاد، وأن من خالف ذلك متعمدا أو مخطئا، لا يحصل بفعله صلاح، بل فساد، انتهى. وقال الشيخ: في "السياسة الشرعية": ويجب أن يعرف أن ولاية الناس من أعظم واجبات الدين، بل لا قيام للدين ولا للدنيا إلا بها، لأن بني آدم لا تتم مصلحتهم إلا بالاجتماع، لحاجة بعضهم إلى بعض، ولا بد لهم عند الاجتماع من أمير حق، قال النبي صلى الله عليه وسلم:" إذا خرج ثلاثة في سفر، فليؤمروا أحدهم " 3 رواه أبو داود من حديث أبي سعيد، وأبي هريرة رضي الله عنهما، وروى الإمام أحمد في المسند، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا يحل لثلاثة يكونون بفلاة من الأرض، إلا أمروا عليهم أحدهم " 4. فأوجب على تأمير الواحد في الجمع القليل العارض في السفر، تنبيها بذلك على سائر أنواع الاجتماع، ولأن الله تعالى أوجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يتم   1 مسلم: الإمارة (1854) , والترمذي: الفتن (2265) , وأبو داود: السنة (4760) , وأحمد (6/295 ,6/302 ,6/305 ,6/321) . 2 مسلم: الإمارة (1855) , وأحمد (6/24) , والدارمي: الرقاق (2797) . 3 أبو داود: الجهاد (2608) . 4 أحمد (2/176) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 162 ذلك إلا بقوة وإمارة، وكذلك سائر ما أوجب من الجهاد والعدل، وإقامة الحج والأعياد، ونصر المظلوم وإقامة الحدود، لا تتم إلا بالقوة والإمارة. ولهذا روي: أن السلطان ظل الله في الأرض، ويقال: ستون سنة من إمام جائر، أصلح من ليلة واحدة بلا سلطان، والتجربة تبين ذلك؛ ولهذا كان السلف، كالفضيل بن عياض، وأحمد بن حنبل وغيرهما، يقولون: لو كان لنا دعوة مستجابة، لدعونا بها للسلطان. وقال النبي صلى الله عليه وسلم " إن الله يرضى لكم ثلاثا: أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم " 1 رواه مسلم، وقال: " ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم: إخلاص العمل لله، ومناصحة ولاة الأمور، ولزوم جماعة المسلمين، فإن دعوتهم تحيط من ورائهم " 2 رواه أهل السنن. وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " الدين النصيحة، ثلاثا. قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم "3, فالواجب: اتخاذ الإمارة دينا وقربة، يتقرب بها إلى الله عز وجل، فإن التقرب إليه فيها بطاعته وطاعة رسوله، أفضل القربات، انتهى. وقال في "غذاء الألباب": لا ينبغي لأحد أن ينكر على السلطان، إلا وعظا وتخويفا له، وتحذيرا من العاقبة في   1 مسلم: الأقضية (1715) , وأحمد (2/367) , ومالك: الجامع (1863) . 2 الترمذي: العلم (2658) . 3 مسلم: الإيمان (55) , والنسائي: البيعة (4197 ,4198) , وأبو داود: الأدب (4944) , وأحمد (4/102) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 163 الدنيا والآخرة فيجب ; قال القاضي: ويحرم بغير ذلك ; قال ابن مفلح: والمراد ولم يخف منه، بالتخويف والتحذير، وإلا سقط وكان حكم ذلك كغيره. قال حنبل: اجتمع فقهاء بغداد في ولاية الواثق، إلى أبي عبد الله- يعني الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله- وقالوا له: إن الأمر قد تفاقم وفشا- يعنون إظهار القول بخلق القرآن وغير ذلك - وما نرضى بإمارته، ولا سلطانه، فناظرهم في ذلك، وقال: عليكم بالإنكار بقلوبكم، ولا تخلعوا يدا من طاعة، ولا تشقوا عصا المسلمين، ولا تسفكوا دماءكم ودماء المسلمين معكم، وانظروا في عاقبة أمركم، واصبروا حتى يستريح بر، ويستراح من فاجر، وقال: ليس هذا- يعني نزعهم أيديهم من طاعته- صوابا، هذا خلاف الآثار. وقال المروذي: سمعت أبا عبد الله يأمر بالكف عن الأمراء، وينكر الخروج إنكارا شديدا، وقال في رواية إسماعيل بن سعيد: الكف، أي: يجب الكف، لأنا نجد عن النبي صلى الله عليه وسلم (ما صلوا) فلا تنْزع يدا من طاعتهم، مدة ما داموا يصلون، خلافا للمتكلمين في جواز قتالهم، كالبغاة؛ وفرق القاضي بينهما من جهة الظاهر والمعنى، أما الظاهر فإن الله تعالى أمر بقتال البغاة، بقوله: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} [سورة الحجرات آية: 9] الآية، وفي مسألتنا أمره بالكف عن الجزء: 9 ¦ الصفحة: 164 الأئمة، بالأخبار المذكورة، وأما المعنى فإن الخوارج يقاتلون بإمام، وفي مسألتنا يحصل قتالهم يغير إمام، انتهى. قال الإمام: عبد الله بن المبارك، رحمه الله ورضي عنه: إن الجماعة حبل الله فاعتصموا ... منه بعروته الوثقى لمن دانا كم يدفع الله بالسلطان معضلة ... في ديننا رحمة منه ودنيانا لولا الخلافة لم تأمن لنا سبل ... وكان أضعفنا نهبا لأقوانا وفي وصية عمرو بن العاص رضي الله عنه: (يا بني احفظ علي ما أوصيك به، إمام عدل خير من مطر وبل، وإمام ظلوم غشوم خير من فتنة تدوم) انتهى. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، في "المنهاج": ومن عيوب أهل البدع تكفير بعضهم بعضا، ومن ممادح أهل العلم: أنهم يخطئون، ولا يكفرون، وسبب ذلك: أن أحدهم قد يظن أن ما ليس بكفر كفرا، انتهى. فانظروا وفقكم الله، في كلام هؤلاء الأئمة، في حق ولاة الأمر، وحثهم على عدم منازعتهم للأمراء، وتقرير وجوب السمع والطاعة لهم، وإن كان فيهم ما فيهم من الأمور التي ينكرها الشرع، ما لم يظهر منهم كفر بواح; وإمامكم حفظه الله، وأعاذه من مضلات الفتن، وإن كنا لا نعتقد عصمته، فإنه قد أصغى إلى قبول النصيحة من كل الجزء: 9 ¦ الصفحة: 165 ناصح، وجد في إزالة ما قدر عليه من المنكرات. ونرجو الله أن يعينه على إزالة كل ما أنكره الشرع المطهر، ولا يكله إلى نفسه طرفة عين؛ وقد انتظم به من المصالح الدينية والدنيوية ما لا يحصى. هذا، والله المسؤول أن يوفقنا وإياكم وإياه، لسلوك الصراط المستقيم، ويجنب الجميع طريقة أصحاب الجحيم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. [ما من الله به على بادية نجد من الإقبال، وما زين الشيطان لهم من التفرق] وقال الشيخ: عمر بن محمد بن سليم، وفقه الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم من عمر بن محمد بن سليم، إلى كافة الإخوان من أهل الأرطاوية، سلك الله بنا وبهم صراطه المستقيم، وثبتنا على دينه القويم، وأعاذنا من الأهواء المضلة، والسبل المفضية بسالكها إلى طرق الجحيم، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أما بعد: فالباعث لهذه النصيحة 1 إقامة الحجة على المعاند، والبيان للجاهل، الذي قصده الحق، فإن الله   1 وتتفق في بعض عباراتها مع رسالة الشيخين: محمد بن عبد اللطيف, وعبد الله العنقري, المتقدمة في الصفحات: 126 - 139. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 166 سبحانه لما من على بادية المسلمين من أهل نجد، في آخر هذه الأزمان، بالإقبال على تعلم دين الإسلام، ورأى الشيطان منهم قوة في ذلك، وحرصا على الخير، وأيس أن يردهم على حالهم الأولى، التي انتقلوا منها، أخذ في فتح أبواب الشر، وحسنها لهم، وزينها في قالب القوة والصلابة في الدين، وأن من أخذ بها فهو المتمسك بملة إبراهيم، ومن تركها فقد ترك ملة إبراهيم. وهذا من كيد اللعين، كما ذكر ابن القيم رحمه الله: أن الشيطان يشم قلب العبد، فإن رأى فيه كسلا، سعى في رده عن دينه بالكلية، وإن رأى فيه قوة، سعى في حمله على مجاوزة الحد، والزيادة على ما شرعه الله ورسوله، فإذا أخبر بالمشروع، قال له الشيطان: ما يكفيك هذا، إلى آخر كلامه رحمه الله تعالى. ومن الأمور التي زينها الشيطان: التفرق والاختلاف في الدين ; وسبب ذلك: كلام أهل الجهل بأحكام الشرع، فلو سكت الجاهل سقط الاختلاف؛ والكلام في دين الله بغير علم، وخوض الجاهل في مسائل العلم، قد حرمه الله تعالى في كتابه: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [سورة الأعراف آية: 33] . ومن كيد الشيطان أيضا، الذي صدهم عن تعلم العلم الجزء: 9 ¦ الصفحة: 167 وطلبه: إتهام علماء المسلمين بالمداهنة، وسوء الظن بهم، وعدم الأخذ عنهم، وهذا سبب لحرمان العلم النافع؛ فإن العلماء هم ورثة الأنبياء، ومن زهد في الأخذ عنهم، فقد زهد في ميراث سيد المرسلين؛ والعلماء هم الأمناء على دين الله، فواجب على كل مكلف أخذ الدين عن أهله، فإن الفرض الواجب، واللازم لعوام المسلمين، سؤال العلماء وأتباعهم، قال تعالى: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [سورة النحل آية: 43] . وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " فإنما شفاء العي السؤال " 1 أي: سؤال العلماء، وقال: " يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين ". وأما من رغب عن سؤال العلماء، أو قال: حجتنا الكتاب الفلاني، أو مجموعة التوحيد، أو كلام العالم الفلاني، وهو لا يعرف مقصوده بذلك، فإن هذا جهل وضلال. فإن أعظم الكلام كتاب الله، فلو قال إنسان: ما نقبل إلا القرآن، وتعلق بظاهر لفظ لم يفهم معناه، وأوله على غير تأويله، فقد ضاهى أهل البدع المخالفين للسنة؛ فإذا كان هذا حال من اكتفى بظاهر القرآن، عما بينته السنة، فكيف بمن تعلق بألفاظ الكتب، وهو لا يعرف معناها. والكتب أيضاً فيها الصحيح والضعيف، والمطلق،   1 أبو داود: الطهارة (336) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 168 والمقيد، والعام والخاص، والناسخ والمنسوخ؛ فإذا لم يؤخذ العلم عن العلماء النقاد، الذين من الله عليهم بفهم الكتاب والسنة، ومعرفة ما عليه السلف الصالح والأئمة، وقع في الجهل والضلال، وفي الصحيح عن عبد الله بن عمرو مرفوعا: " إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بموت العلماء، حتى إذا لم يبق عالم، اتخذ الناس رؤساء جهالا، فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا ". إذا عرف هذا، تبين: أن الذي يستغنى بمجموعة التوحيد، أو يقلد من يقرؤها عليه، وهو لا يعرف معناها، قد وقع في جهل وضلال، بل يجب عليه الأخذ عن علماء المسلمين. ومن كيد الشيطان أيضا: إساءة الظن بولي الأمر، وعدم الطاعة له، وهو من دين أهل الجاهلية، الذين لا يرون السمع والطاعة دينا، بل كل منهم يستبد برأيه وهواه، وقد تظاهرت الأدلة من الكتاب والسنة، على وجوب السمع والطاعة لولي الأمر، في العسر واليسر، والمنشط والمكره، حتى قال " اسمع وأطع، وإن أخذ مالك، وضرب ظهرك ". فتحرم معصية ولي الأمر، والاعتراض عليه في ولايته، وفي معاملته، وفي معاقدته ومعاهدته، ومصالحته الكفار. فإن النبي صلى الله عليه وسلم حارب وسالم، وصالح قريشا صلح الجزء: 9 ¦ الصفحة: 169 الحديبية، وهادن اليهود وعاملهم على خيبر، وصالح نصارى نجران، وكذلك الخلفاء الراشدون من بعده؛ ولا يجوز الاعتراض على ولي الأمر في شيء من ذلك، لأنه نائب المسلمين، والناظر في مصالحهم؛ ولا يجوز الافتيات عليه بالغزو، وغيره، وعقد الذمة، والمعاهدة، إلا بإذنه. فإنه لا دين إلا بجماعة، ولا جماعة إلا بإمامة ولا إمامة إلا بسمع وطاعة، فإن الخروج عن طاعة ولي الأمر، من أعظم أسباب الفساد، في البلاد والعباد. ومن كيد الشيطان أنه غلظ أمر الأعراب عند بعض الناس، حتى صار منهم من يتجاوز الحد الشرعي، وحكم عليهم بأحكام مخالفة للكتاب والسنة، فمن الناس من يرى جهادهم حتى يلتزموا سكنى القرى، أو أنهم لا يستقيم لهم دين حتى يهاجروا، فالواجب على كل مسلم رد ما تنازع فيه المتنازعون، إلى كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ولا يرد ذلك إلى محض الجهل والهوى. ومن علم سيرة النبي صلى الله عليه وسلم في الأعراب الذين في زمانه، وسيرة الخلفاء الراشدين، تبين له الحق؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعوهم إلى توحيد الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، قال تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [سورة التوبة آية: 5] ، وقال: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [سورة التوبة آية: 11] . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 170 وقال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث بريدة الطويل، الذي في صحيح مسلم، أنه كان إذا أمر أميرا على جيش أو سرية، إلى قوله: " ثم ادعهم إلي الإسلام، فإن أجابوك لذلك فاقبل منهم، وكف عنهم، ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين، فإن أبوا فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين، يجري عليهم حكم الله، ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء، إلا أن يجاهدوا مع المسلمين " 1. فدل الحديث على أنه كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم أعراب، ولم يلزمهم بالهجرة إلى القرى، ومن ألزمهم بذلك، ورآه دينا، فقد شرع في الدين ما لم يأذن به الله. وقال ابن القيم رحمه الله- في الهدي النبوي، في آخر الوفود- وقدم عليه وفد بني عبس، فقالوا: يا رسول الله، قدم علينا قراؤنا، فأخبرونا أنه لا إسلام لمن لا هجرة له، ولنا أموال ومواش، فإن كان لا إسلام لمن لا هجرة له، فلا خير في أموالنا ومواشينا، بعناها وهاجرنا عن آخرنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اتقوا الله حيث كنتم، فلن يلتكم من أعمالكم شيئا ". نعم: يجب على ولي الأمر إلزام الأعراب بشرائع الإسلام، وكفهم عن المحرمات من الشرك وغيره، كغيرهم من المسلمين، وبعث دعاة يعلمونهم شرائع الإسلام. إذا علمت أنه لا يجوز إلزامهم بغير ذلك، تبين لك أنه لا يجوز   1 مسلم: الجهاد والسير (1731) , وأبو داود: الجهاد (2612) , وابن ماجه: الجهاد (2858) , وأحمد (5/352 ,5/358) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 171 هجر من قدم على الحاضرة منهم، إلا من كان مجاهرا بالمعاصي، وهذا ليس خاصا بالأعراب. نعم حديث بريدة يدل على استحباب الهجرة لأعراب المسلمين والحالة هذه، وترغيبهم فيها، ولما يترب على الهجرة من تعلم شرائع الإسلام، وشهود الجمع والأعياد. ومن الأمور التي أوقعها الشيطان: أن الإنسان إذا هاجر، وسكن قرية من قرى المسلمين، واتخذ ماشية من إبل أو غنم، وخرج ليرعاها في وقت من الأوقات، ومن نيته الرجوع إلى ذلك المحل، هجر عن السلام، وفي زعم الذي هجره: أن خروجه مع ماشيته معصية؛ وهذا جهل وضلال، فإن فعله ذلك قد أباحه الرسول صلى الله عليه وسلم فلا يجوز هجره والإنكار عليه والحالة هذه. وقد كان للنبي صلى الله عليه وسلم نعم من إبل وغنم، يجعل فيها رعاه يرعونها، وقال الفضل بن عباس: زارنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في بادية لنا، فمن كان مقصوده اتباع الحق، وطلب الهدى، وسعه ما وسع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه. ومن الأمور التي أدخلها الشيطان على بعض الناس لينال بها مقصوده من إغوائهم، وتفريق كلمتهم، وإلقاء البغضاء بينهم، التي هي الحالقة- أي حالقة الدين- ما حملهم عليه من التهاجر على غير سبب يوجب ذلك، بل بمجرد الرأي المخالف للكتاب والسنة ; وهذا ينافي ما عقده الله بين الجزء: 9 ¦ الصفحة: 172 المسلمين، من الأخوة الإسلامية، التي توجب التواصل والتراحم، والتواد والتعاطف، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: " مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم، كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر " 1. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا " 2 وشبك بين أصابعه، وقال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً} [سورة آل عمران آية: 103] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " لا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا تقاطعوا، وكونوا عباد الله إخوانا. المسلم أخو المسلم، لا يظلمه " 3 الحديث. ومن كيد الشيطان: ما زينه لبعض الناس من الاستطالة على الناس بالضرب والتعنيف، والكلام السيء، والتوعد للناس، وتعيير الناس وعيبهم، والطعن عليهم، فحسن لهم الشيطان ذلك، وأدخل عليهم أن ذلك من باب الأمر بالمعروف، وإنكار المنكر، وهذه الأفعال من أعظم المنكرات، واستحلالها واعتقاد أنها من الدين أكبر من فعلها. وهؤلاء لم يفهموا إنكار المنكر، الذي جاءت به الشريعة، فإن إنكار المنكر، إزالة المنكر، لا ضرب فاعله،   1 البخاري: الأدب (6011) , ومسلم: البر والصلة والآداب (2586) , وأحمد (4/268 ,4/270 ,4/271 ,4/274 ,4/276 ,4/278 ,4/375) . 2 البخاري: الصلاة (481) , ومسلم: البر والصلة والآداب (2585) , والترمذي: البر والصلة (1928) , والنسائي: الزكاة (2560) . 3 البخاري: الأدب (6076) , ومسلم: البر والصلة والآداب (2559) , والترمذي: البر والصلة (1935) , وأحمد (3/165 ,3/199 ,3/277 ,3/283) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 173 وأما إقامة الحدود، والتعزير بالضرب والتهديد، والتوعد، فهذا لولي الأمر، دون آحاد الناس، والذي علينا بيان الحق، ونصيحتكم، وإرشادكم إلى ما جاءت به الشريعة. ونسأل الله أن يمن علينا وعليكم، بقبول الحق واتباعه، والثبات عليه، وأن يمن علينا وعليكم بالتوبة إليه، مما يخالف شرعه ودينه، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. بسم الله الرحمن الرحيم من سعد بن حمد بن عتيق، إلى من يصل إليه هذا الكتاب، من إخواننا المسلمين، وفقنا الله وإياهم لاتباع السنة والكتاب، وجنبنا طريق أهل الغي والشك والارتياب، آمين، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: نظرت في هذه الرسالة الفريدة، والكلمات الطيبة السديدة، التي كتبها أخونا الشيخ عمر بن محمد بن عبد الله آل سليم، سلمنا الله وإياهم من عذاب الجحيم، ووفقنا وإخواننا لسلوك الصراط المستقيم، فوجدتها مشتملة على بيان الحق، جارية على منوال سبيل أهل العلم والنصيحة والصدق، الداعين إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، وافية بمقصود الإفادة، مع ذكر الدليل. كافية في تقرير الحق وإيضاحه، والدعوة إلى سواء السبيل، لما تضمنته من الآيات الجزء: 9 ¦ الصفحة: 174 القرآنية، والأحاديث النبوية، والجمل الصالحة السنية المرضية، المشتملة على النصيحة لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم. فينبغي لمن بلغته هذه الرسالة المفيدة أن يعتبرها، ويعتمد عليها، ويدين الله تعالى بما تضمنته، ويحث من عنده من المسلمين، على الأخذ بها، واتباع ما فيها، وعدم مخالفة ما دلت عليه، من الحق الواضح المستبين: دعوا كل قول غير قول محمد ... فما آمن في دينه كمخاطر والله يقول الحق، وهو يهدي السبيل، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وسلم تسليما كثيرا. وقال الشيخ محمد بن الشيخ إبراهيم بن الشيخ عبد اللطيف، وفقه الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم من محمد بن إبراهيم: إلى الأمير المكرّم، سلطان بن بجاد بن حميد، وعلوش بن خالد، وعبد المحسن بن رجاء، وهندي، وشجاع، وشلويح بن فلاح، سلّمنا الله وإيّاهم من مضلاّت الفتن، السّلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وموجب الكتاب: إبلاغكم السلام، وبيان ما تبرأ به الذمة، وتحصل به النجاة، وتعلمون: أن لي حولا عنكم، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 175 ولم أكتب لكم في هذه المدة مناصحة، لأمرين: الأول: أني بينت لكم في ذلك مشافهة. والثاني: أني أخشى عليكم عدم القبول والانتفاع; والآن كتبت لكم نصحا لكم، ومحبة وشفقة عليكم، ولم يطلع على ذلك أحد، واسأل الله أن ينفع به، وأن يجعله خالصا لوجهه الكريم. فاعلموا وفقكم الله: أن عقيدتي التي أنا عليها، أني أدين الله بالنصح والمحبة لكم، ولجميع إخواننا المسلمين، إلى أن ألقى الله عز وجل. وأهم شيء أناصحكم فيه، وأعظمه: إجابة داعي الشرع، وأن لا تلتفتوا عنه يمنة ولا يسرة، ومن ذلك إجابة داعي إمام المسلمين، لأنه لم يدع إلى الاجتماع على معصية، وإنما دعا إلى الاجتماع على طاعة الله، وعدم التفرق والاختلاف، وجميع المشايخ يرون ذلك، ويفتون به. وعدم قدومكم على إمامكم وعلمائكم، من الأمور التي لا يرضى بها لكم، من في قلبه أدنى محبة لكم، أعني المحبة الدينية؛ وهو من أعظم الأمور التي يفرح بها عليكم، وعلى جميع المسلمين، أعداء الدين من الكفار والمنافقين، ومن أعظم أسباب شق العصا؛ وهذا كتاب الله، وتفاسير الأئمة له، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم مدونة بشروحها، المبينة للمقصود منها، وفي ذلك كله حل المشكل، وكشف الجزء: 9 ¦ الصفحة: 176 الاشتباه، والشفاء لكل داء، والكفالة بالفلاح والهدى، والنجاة من المهالك والردى. قال الله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [سورة الأنعام آية: 38] {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [سورة الإسراء آية: 82] {قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [سورة يونس آية: 57] وقال صلى الله عليه وسلم " ألا وإني أوتيت القرآن، ومثله معه " 1 وقال صلى الله عليه وسلم " تركتم على البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك " 2. وهؤلاء علماء المسلمين، الذين هم أعلم الناس بمعنى ذلك، ورثوه عن أئمتهم الذين تخرجوا عليهم، وأخذوه عنهم، وربوهم به، كما يربي الوالد الولد، وكتبوا لهم بذلك الشهادات والوثائق، وهم الذين عدلهم النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: " يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين ". وقد عدلهم الله سبحانه، حيث استشهدهم على وحدانيته، في قوله تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [سورة آل عمران آية: 18] وجعل لهم القول في الدنيا والآخرة، كما قال الله تعالى: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [سورة النحل آية: 43] وقال صلى الله عليه وسلم " ألا سألوا إذا لم   1 أبو داود: السنة (4604) , وأحمد (4/130) . 2 ابن ماجه: المقدمة (44) , وأحمد (4/126) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 177 يعلموا، فإنما شفاء العي السؤال ". وقال تعالى: {قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ} [سورة النحل آية: 27] وقال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْأِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [سورة الروم آية: 56] فهؤلاء هم الذين يؤخذ عنهم معاني نصوص الكتاب والسنة، ويرجع إليهم فيها، وأما الجهال فلا يلتفت إليهم، في معاني نصوص الكتاب والسنة، لعدم درايتهم وروايتهم، وتخرجهم على العلماء. والمقصود: بيان وجوب القدوم على إمام المسلمين، وفرضيته عليكم، وليس لكم عذر في التخلف، ولا حجة، فإن ذلك من السمع والطاعة، التي أوجبها الله ورسوله، لا سيما وهو يدعوكم إلى الشريعة، والرجوع فيما يشكل إلى حملتها، فإن كان عندكم إشكال في بعض المسائل، فالواجب عليكم أحد أمرين: إما القدوم وسؤال طلبة العلم مشافهة، أو مراسلتهم وذكر المسائل المشكلة بأعيانها، وطلب الجواب منهم؛ فإذا أجابوكم فعليكم القبول والإذعان، وحسبكم ذلك، ولا يسعكم سواه. اللهم اهدنا وإخواننا صراطك المستقيم، اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه. اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 178 وألف بين قلوبهم، وأصلح ذات بينهم، وانصرهم على عدوك وعدوهم، واهدهم سبل السلام، وأخرجهم من الظلمات إلى النور، وبارك لهم في أسماعهم وأبصارهم، وأزواجهم ما أبقيتهم، واجعلهم شاكرين لنعمك، مثنين بها عليك قابليها، وأتممها عليهم برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلى الله على محمد. سئل الشيخ محمد بن عبد اللطيف، والشيخ سعد بن عتيق، والشيخ سليمان بن سحمان، والشيخ عبد الله العنقري، والشيخ عمر بن سليم، والشيخ صالح بن عبد العزيز، والشيخ عبد الله بن حسن والشيخ عبد العزيز بن عبد اللطيف، والشيخ عمر بن عبد اللطيف، والشيخ محمد بن إبراهيم، ومحمد بن الشيخ عبد الله، والشيخ عبد الله بن زاحم، ومحمد بن عثمان الشاوي، والشيخ عبد العزيز الشثري عن مسجد حمزة، وأبا رشيد، والقوانين، ودخول الحاج المصري بالسلاح، إلى آخره؟ فأجابوا بما نصه: أما مسجد حمزة رضي الله عنه وأبا رشيد: فأفتينا الإمام وفقه الله أن يهدمهما على الفور، وأما القوانين: فإن كان شيء منها موجودا في الحجاز، فيزال فورا، ولا يحكم إلا بالشرع المطهر. وأما دخول الحاج المصري بالسلاح والقوة، في بلد الله الحرام: فأفتينا الإمام بمنعهم من الدخول بالسلاح الجزء: 9 ¦ الصفحة: 179 والقوة، ومن إظهار الشرك، وجميع المنكرات. وأما المحمل: فأفتينا بمنعه من دخول المسجد الحرام، ومن تمكين أحد أن يتمسح به أو يقبله، وما يفعله أهله من الملاهي والمنكرات، يمنعون منهاة وأما منعه بالكلية عن مكة، فإن أمكن بلا مفسدة تعين، وإلا فاحتمال أخف المفسدتين، لدفع أعلاها سائغ شرعا. وقال الشيخ محمد بن الشيخ عبد اللطيف، والشيخ سعد بن حمد بن عتيق، والشيخ عبد الله العنقري، والشيخ عمر بن سليم، والشيخ صالح بن عبد العزيز، والشيخ عبد العزيز بن عبد اللطيف، والشيخ عمر بن عبد اللطيف، والشيخ عبد الرحمن بن عبد اللطيف، والشيخ عبد الله بن حسن، والشيخ محمد بن إبراهيم، والشيخ محمد بن عبد الله بن الشيخ، والشيخ عبد الله بن بليهد، والشيخ إبراهيم بن عبد اللطيف، والشيخ عبد الرحمن بن سالم، والشيخ عبد العزيز بن عتيق، والشيخ عبد الله بن زاحم، والشيخ عبد الله بن فيصل، والشيخ عبد الله السياري، والشيخ حمد آل مزيد، والشيخ محمد آل عثمان الشاوي، والشيخ علي بن زيد، والشيخ مبارك بن باز، والشيخ فالح آل عثمان، والشيخ سعد بن سعود آل مفلح، والشيخ عبد الرحمن بن عدوان، والشيخ عبد العزيز الشثري، والشيخ عبد الله بن حسن بن إبراهيم، وعمر بن خليفة، وإبراهيم الجزء: 9 ¦ الصفحة: 180 السياري، وفيصل بن مبارك، وعلي بن داود، ومحمد بن علي البيز: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على خير خلقه أجمعين، محمد وآله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فهذا جواب عن ثلاث مسائل، أوردها بعض الإخوان.. الأولى: مسألة الجهاد، خصوصا جهاد من بنى هذه القصور، في جزيرة العرب، مما يلي العراق، فنقول: الجواب عن هذه المسألة. أما جهاد من بنى هذه القصور، وساعد على ذلك بحمايته، من بادية العراق أو غيرهم، فجهاده حق واجب على المسلمين، ولا يجوز تركهم، حتى تهدم هذه القصور. الثانية: مسألة الأتيال1: فالجواب عنها أن نقول: قد تقدم جوابنا فيها مرارا، وليس عندنا إلا ما سبق؛ فمن اعترض فيها ونازع ولي الأمر من جهتها، فهو عاص، ونبرأ إلى الله منه.   1 أي: المبرقات "التلي جراف". الجزء: 9 ¦ الصفحة: 181 الثالثة: أن من العشائر الذين دخلوا في ولاية المسلمين، طوائف لم يتعلموا دينهم، بل هم باقون على جهلهم، فالجواب: أن مما أوجب الله ورسوله على ولي الأمر: نشر العلم، وإقامة الدين، وإلزام الناس بتعلم ما يجب عليهم من أمر دينهم، وأداء ما أوجب الله عليهم، من توحيد الله، وترك ما يضاده من الشرك، وأمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر. والإمام وفقه الله وأعانه: مهتم لهذا الأمر، وقد بعث إلى أكثر القبائل دعاة، يعلمونهم أمر دينهم؛ وإنا نؤمل منه إن شاء الله الاجتهاد التام، وأنه يبعث إلى عموم القبائل، من يقوم بهذا الواجب. وأما الذي ندين الله به، في حقوق الراعي والرعية، فقد بينا ذلك في الرسالة السابقة، المشتملة على ثلاثة فصول، وهي منشورة عند المسلمين. ونسأل الله بأسمائه الحسنى، وأوصافه العلا أن يمن على الإمام بالقيام بما يجب عليه، وعلى الرعية بالسمع والطاعة. ومن توقف من الرعية، ولم يعمل بما قرره علماء المسلمين، فهو عاص، ونبرأ إلى الله من حاله، والله أعلم، وصلى الله على محمد، سنة 1347 هـ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 182 وقال أيضا: بعض من تقدم ذكرهم: بسم الله الرحمن الرحيم من سعد بن حمد بن عتيق، وسليمان سحمان، وصالح بن عبد العزيز، وعبد العزيز بن عبد اللطيف، وعمر بن عبد اللطيف، وعبد الرحمن بن عبد اللطيف، ومحمد بن إبراهيم: وبعد: فأشرفنا على كتابكم، الذي أرسلتم إلى الإمام عبد العزيز، سلمه الله تعالى، ذكرتم في آخره: أنا لا نجتمع وإياك إن خالفت شيئا مما ذكرنا، إلا كما يجتمع الماء والنار؛ وهذه كلمة ذميمة، وزلة وخيمة، تدل على أنكم أضمرتم شرا، وعزمتم على الخروج على ولي أمر المسلمين، والتخلف عن سبيل أهل الهدى، وسلوك مسلك أهل الغي والردى، ونحن نبرأ إلى الله من ذلك، وممن فعله أو تسبب فيه، أو أعان عليه، لأنا ما رأينا من الإمام عبد العزيز ما يوجب خروجكم عليه، ونزع اليد من طاعته; وإذا صدر منه شيء من المحرمات، التي لا تسوغها الشريعة، فحسب طالب الحق الدعاء له بالهداية، وبذل النصيحة على الوجه المشروع. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 183 وأما الخروج، ونزع اليد من طاعته، فهذا لا يجوز. وأنتم تزعمون أنكم على طريقة مشائخكم، وأنكم ما تخالفونهم في شيء يرونه لكم؛ ولا ندري من هؤلاء المشائخ، أهم مشائخ المسلمين؟ أم غيرهم، ممن سلك غير سبيلهم، ويريد فتح باب الفتن على الإسلام والمسلمين؟ أين الخط الذي قد شرفتمونا عليه؟ أين السؤال الذي سألتمونا عنه، وأفتيناكم فيه؟ أين الأمر الذي شاورتمونا عليه؟ حتى الخط الذي تدعون أنكم تنصحون الإمام عبد العزيز، عن أمور يفعلها، أنتم مشائخ أنفسكم، تحللون وتحرمون على أنفسكم، ولا ترفعون لنا خبرا في شيء؛ ودعواكم أنكم على طريقة المشائخ، يكذبه ما صدر منكم. وقد علمتم حقيقة ما عندنا، وما نعتقده من حينما حدث منكم الخوض، وكثرت منكم الخطوط، والمراسلات للإمام، وعرفناكم بما عندنا، وما نعتقد وندين الله به، وهو: وجوب السمع والطاعة، لمن ولاه الله أمر المسلمين، ومجانبة الوثوب عليه، ومحبة اجتماع المسلمين عليه، والبغض لمن رأى الخروج عليه، ومعاداته، اتباعا لقوله صلى الله عليه وسلم: " اعبدوا ربكم، وصلوا خمسكم، وصوموا شهركم، وأدوا زكاة أموالكم، وأطيعوا ذا أمركم، تدخلوا جنة ربكم " 1. والذي نرى لكم: التوبة إلى الله سبحانه، والاستغفار;   1 الترمذي: الجمعة (616) , وأحمد (5/251) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 184 وعدم التمادي، والاسترسال، مع دواعي الجهل، والغي والضلال، وأن تلتزموا ما أوجبه الله عليكم، من القيام بالواجبات، واجتناب المحرمات، وملازمة طاعة من ولاه الله أمركم؛ وانظروا وتفكروا في أحوالكم سابقا ولاحقا، واعرفوا نعمة ربكم، واشكروه عليها. فإنكم كنتم أولا في جاهلية عريضة، وحالة عن الحق بعيدة، رؤساؤكم أكثرهم طواغيت كبار، وعوامكم جفاة أشرار، لا تعرفون حقائق دين الإسلام، ولا تعملون من الحق إلا بما تهوى نفوسكم، مع ما كان بينكم، من سفك الدماء، ونهب الأموال، وقطيعة الأرحام، وتعدي حدود الله، وغير ذلك من المحرمات، وعظيم المنكرات. ثم هداكم الله لمعرفة دينه، والعمل بتوحيده، وسلوك مسلك أهل الإسلام والتوحيد، وانتشرت بينكم كتب السنن والآثار، ومصنفات علماء الإسلام، ثم أنتم الآن: انتقلت بكم الأحوال، إلى أنكم تحاولون الخروج على الإمام، ومنابذة أهل الإسلام، ومفارقة جماعتهم. فاتقوا الله عباد الله، واذكروا قوله تعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [سورة آل عمران آية: 103] . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 185 فما أشبه الليلة بالبارحة! وهذا الذي ذكرناه لكم، وأشرنا به عليكم، من السمع والطاعة للإمام، وعدم نزع اليد من طاعته، وعدم الشقاق والخلاف، وترك أسباب التفرق والاختلاف، ومجانبة سبل أهل الغي والضلال، والاعتساف، هو اعتقادنا الذي نحن عليه مقيمون، وله على مر الزمان معتقدون، وبه مستمسكون، وعليه موالون ومعادون، ظاهرا وباطنا، سرا وعلانية. ومن نسب إلينا غيره، فهو علينا من الكاذبين الظالمين، وسيجزيه الله بما يجزي به الظالمين والمفترين. فإن تبتم إلى ربكم، ورجعتم عما عنّ لكم واستحسنته نفوسكم، فالحمد لله رب العالمين، والمنة لله في ذلك عليكم، وإن أبيتم إلا الشقاق والعناد، وسلكتم مسالك أهل الغي والفساد، فاعلموا: أنا نبرأ إلى الله منكم، ونشهد الله وملائكته وعباده المؤمنين، على خطئكم وضلالكم، وأنكم قد خالفتم ما كان عليه سلف الأمة وأئمتها، وعلماء الملة والدين. وقد قال تعالى: {َمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} [سورة النساء آية: 115] وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: " من أحدث حدثا، أو آوى محدثا، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين " 1.   1 البخاري: الحج (1870) والجزية (3172 ,3180) والفرائض (6755) والاعتصام بالكتاب والسنة (7300) , ومسلم: الحج (1370) , والترمذي: الولاء والهبة (2127) , والنسائي: القسامة (4734) , وأبو داود: المناسك (2034) والديات (4530) , وأحمد (1/81 ,1/119 ,1/126 ,1/151) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 186 فنسأل الله: أو يوفقنا وإياكم لسلوك صراطه المستقيم، وأن يجنبنا جميعا مواقع سخطه وعذابه الأليم، وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين. [ما يجب من حقوق الإمامة، وأدلة ذلك] وقال الشيخ عبد الله بن عبد العزيز العنقري، وفقه الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله بن عبد العزيز العنقري، إلى من يراه من كافة المسلمين، وفقنا الله وإياهم لقبول النصائح، وجنبنا وإياهم طرق الردى والفضائح، آمين، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أما بعد: فإني قد أحببت أن أبين لكم، ما رأيت من أمور الإمام أيده الله، مع هذه الطائفة الباغية، نصيحة لله ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم، فإنه ليس الخبر كالعيان، وكنت قبل أظن فيهم بعض المقاصد الحسنة، لما يدعونه من دعوى الجهاد للكفار، فلما بعثني الإمام وفقه الله إليهم، رأيت منهم أمورا ردية، ومقاصد غير مرضية. ولم أزل أبذل لهم النصيحة، وأحذرهم من أسباب الخزي والفضيحة، وأشير عليهم بالحضور عند الإمام، لأنه نزل معهم إلى غاية، لا تليق بما له من المقام والاحترام، فأبوا الحضور، وتمادوا في العتو والنفور، فلما أعياه الجزء: 9 ¦ الصفحة: 187 دواهم، وأصروا على متابعة هواهم، أرخى العنان، وأمضى السنان، فعجل حينهم، وفرق ذات بينهم، فنعوذ بالله من الخذلان، ومتابعة الشيطان، فإنه يضل من اتبعه ويغويه، وفي مزلة الهلاك يرميه ويرديه. هذا، وإني أنصح من كان متابعا لهم اغترارا بدعواهم، أن يراجع الحق، وينظر بعين الإنصاف، ويتوب إلى الله مما جناه من الاقتراف. ويجب على جميع المسلمين نصحهم، والقيام عليهم، حتى يرجعوا إلى الهدى، ويجانبوا طريق الغي والردى، ومن أصر منهم وأبى، فإن على المسلمين زجره وتأديبه، وقمعه وتأنيبه، فإن مرامهم الذي راموا، شق عصا المسلمين، وتفريق جماعتهم، وهذا غاية الخراب لدين المسلمين ودنياهم. وأنا أذكر ما يجب اعتقاده على كل مسلم، من حقوق الإمامة على المسلمين، حتى يعلم المنصف ما يجب عليه شرعا، فيمتثل المأمور، وتقوم الحجة على كل معاند، وصاحب فجور. فأقول: اعلم وفقك الله، أنه قد علم بالضرورة من دين الإسلام: أنه لا دين إلا بجماعة، ولا جماعة إلا بإمام، ولا إمامة إلا بسمع وطاعة، وأن الخروج عن طاعة ولي الأمر، والافتيات عليه، من أعظم أسباب الفساد في البلاد والعباد، والعدول عن سبيل الهدى والرشاد. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 188 قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [سورة النساء آية: 58-59] . قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى في "السياسة الشرعية" قال العلماء: نزلت الآية الأولى في ولاة الأمور، عليهم أن يؤدوا الأمانات إلى أهلها، وإذا حكموا بين الناس أن يحكموا بالعدل، ونزلت الآية الثانية في الرعية، من الجيوش وغيرهم، عليهم أن يطيعوا ولاة الأمر الفاعلين لذلك، في قسمهم، وحكمهم، ومغازيهم، وغير ذلك، إلا أن يأمروا بمعصية الله، فإذا أمروا بمعصية الله، فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. وإن تنازعوا في شيء، ردوه إلى كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. وإن لم يفعل ولاة الأمور ذلك، أطيعوا فيما يأمرون به من طاعة الله، لأن ذلك من طاعة الله، وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأديت حقوقهم إليهم كما أمر الله ورسوله، قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [سورة المائدة آية: 2] وإذا كانت الآية قد أوجبت أداء الأمانات إلى أهلها، والحكم بالعدل، فهذا يجمع السياسة الجزء: 9 ¦ الصفحة: 189 العادلة، والولاية الصالحه، انتهى. وفي الصحيحين عن عبادة بن الصامت، رضي الله عنه قال: " دعانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعنا، وكان فيما أخذ علينا: أن بايعنا على السمع والطاعة، في مكرهنا ومنشطنا، وعسرنا ويسرنا، وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله، إلا أن تروا كفرا بواحا، عندكم فيه من الله برهان " 1. وروى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من خرج عن الطاعة، وفارق الجماعة، فمات، مات ميتة جاهلية؛ ومن قاتل تحت راية عمية، يغضب لعصبية، أو يدعو إلى عصبية، أو ينصر عمية، فقتل، فقتلته جاهلية ; ومن خرج على أمتي يضرب برها وفاجرها، ولا يتحاشى من مؤمنها، ولا يفي لذي عهد عهده، فليس مني ولست منه " 2. وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " الغزو غزوان: فأما من ابتغى به وجه الله، وأنفق الكريمة، وأطاع الإمام، وياسر الشريك، فإن نومه، ونبهته، أجر كله ; ومن غزا فخرا ورياء، وعصى الإمام، وأفسد في الأرض، فإنه لم يرجع بالكفاف " رواه مالك وأبو داود والنسائي، وعن ابن عمر مرفوعا: " الأمير يسمع له ويطاع فيما أحب وكره، إلا أن يأمر بمعصية، فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة " 3 أخرجاه.   1 البخاري: الفتن (7056) , والنسائي: البيعة (4149 ,4151 ,4152 ,4153 ,4154) , وابن ماجه: الجهاد (2866) , وأحمد (3/441 ,5/316 ,5/319 ,5/325) , ومالك: الجهاد (977) . 2 مسلم: الإمارة (1848) , وأحمد (2/296) . 3 مسلم: الإمارة (1839) , والترمذي: الجهاد (1707) , وأبو داود: الجهاد (2626) , وابن ماجه: الجهاد (2864) , وأحمد (2/17 ,2/142) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 190 ولمسلم عن حذيفة مرفوعا: " تكون بعدي أئمة لا يهتدون بهديي، ولا يستنون بسنتي، وسيكون فيكم رجال، قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان الإنس قال: قلت: كيف أصنع يا رسول الله، إن أدركت ذلك؟ قال: تسمع وتطيع للأمير، وإن ضرب ظهرك، وأخذ مالك، فاسمع وأطع " 1. وفي حديث الأشعري الذي رواه الإمام أحمد أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: " وأنا آمركم بخمس، الله أمرني بهن، السمع، والطاعة، والجهاد، والهجرة، والجماعة؛ فإن من خرج من الجماعة قيد شبر، فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه " 2. قال الشيخ عبد اللطيف بن الشيخ عبد الرحمن، رحمهما الله تعالى: وهذه الخمس المذكورة في الحديث، ألحقها بعضهم بالأركان الإسلامية، التي لا يستقيم بناؤه إلا بها، ولا يستقر إلا عليها، خلافا لما كان عليه أهل الجاهلية، من ترك الجماعة والسمع والطاعة، انتهى. قال شيخ الإسلام ابن تيمية في "السياسة الشرعية": يجب أن يعرف أن ولاية أمور الناس من أعظم واجبات الدين، بل لا قيام للدين والدنيا إلا بها؛ فإن بني آدم لا تتم مصلحتهم إلا بالاجتماع، لحاجة بعضهم إلى بعض، ولا بد لهم عند الاجتماع من رأس- إلى أن قال- فإن الله تعالى   1 مسلم: الإمارة (1847) . 2 الترمذي: الأمثال (2863) , وأحمد (4/130 ,4/202 ,5/344) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 191 أوجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يتم ذلك إلا بقوة وإمارة. وكذلك سائر ما أوجبه الله تعالى، من الجهاد، والعدل، وإقامة الحج، والجمع، والأعياد، ونصر المظلوم، وإقامة الحدود، ولا يتم ذلك إلا بقوة، وإمارة، ولهذا روي أن السلطان ظل الله في الأرض، ويقال: ستون سنة من إمام جائر، أصلح من ليلة واحدة بلا سلطان، والتجربة تبين ذلك. ولهذا كان السلف، كالفضيل بن عياض، وأحمد بن حنبل، وغيرهما، يقولون: لو كان لنا دعوة مستجابة، لدعونا بها للسلطان- إلى أن قال- فالواجب اتخاذ الإمارة دينا وقربة، يتقرب بها إلى الله، فإن التقرب إليه فيها بطاعته وطاعة رسوله، من أفضل القربات، وإنما يفسد فيها حال أكثر الناس، لابتغاء الرياسة والمال، انتهى. وقال ابن رجب رحمه الله تعالى: وأما السمع والطاعة لولاة المسلمين، ففيها سعادة الدنيا، وبها تنتظم مصالح العباد، في معاشهم، وبها يستعينون على إظهار دينهم، وطاعة ربهم، كما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (إن الناس لا يصلحهم إلا إمام بر أو فاجر، إن كان فاجرا عبد المؤمن فيها ربه، وحمل الفاجر فيها إلى أجله) . وقال الحسن في الأمراء: (يلون من أمورنا الجمعة الجزء: 9 ¦ الصفحة: 192 والجماعة، والعيد، والثغور، والحدود، والله لا يستقيم الدين إلا بهم، وإن جاروا أو ظلموا. والله لما يصلح الله بهم أكثر مما يفسدون، مع أن طاعتهم والله لغيظ، وأن فرقتهم لكفر) ، انتهى. إذا فهم ما تقدم من النصوص القرآنية، والأحاديث النبوية، وكلام المحققين في وجوب السمع والطاعة لولي الأمر، وتحريم منازعته والخروج عليه، وأن المصالح الدينية والدنيوية لا انتظام لها إلا بالإمامة والجماعة، تبين: أن الخروج عن طاعة ولي الأمر، والافتيات عليه بغزو أو غيره، معصية ومشاقة لله ولرسوله، ومخالفة لما عليه أهل السنة والجماعة. وأما ما قد يقع من ولاة الأمور، من المعاصي والمخالفات، التي لا توجب الكفر والخروج من الإسلام، فالواجب فيها: مناصحتهم على الوجه الشرعي، برفق، واتباع ما كان عليه السلف الصالح، من عدم التشنيع عليهم في المجالس ومجامع الناس، واعتقاد أن ذلك من إنكار المنكر الواجب إنكاره على العباد؛ وهذا غلط فاحش، وجهل ظاهر، لا يعلم صاحبه ما يترتب عليه، من المفاسد العظام في الدين والدنيا، كما يعرف ذلك من نور الله قلبه، وعرف طريقة السلف الصالح. هذا الذي نعتقده وندين الله به، ونبرأ إلى الله ممن خالفه، واتبع هواه. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 193 ونسأل الله بأسمائه الحسنى، وصفاته العلى: أن يهدينا وإخواننا المسلمين، صراطه المستقيم، ويعيذنا وإياهم من نزغات الشيطان الرجيم، وصلى الله على محمد، سنة 1347 هـ. وقال الشيخ محمد بن عبد اللطيف، والشيخ: سعد بن حمد بن عتيق، والشيخ: صالح بن عبد العزيز، والشيخ: محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف، وفقهم الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي أرسل رسوله بالحق، ليظهره على الدين كله، وكفى بالله شهيدا، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليما مزيدا. أما بعد: فهذه رسالة كتبناها، لقصد نصيحة إخواننا المسلمين، واقتداء بقوله صلى الله عليه وسلم " الدين النصيحة، الدين النصيحة، الدين النصيحة. قالوا: لِمَن يا رسول الله؟ قال لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم "1. فنوصي إخواننا، بتقوى الله تعالى، فإنها وصية الله لعباده، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [سورة النساء آية: 131] وقال   1 مسلم: الإيمان (55) , والنسائي: البيعة (4197 ,4198) , وأبو داود: الأدب (4944) , وأحمد (4/102) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 194 تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [سورة آل عمران آية: 102-103] . قال بعض السلف، التقوى: أن تعمل بطاعة الله، على نور من الله، ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله، على نور من الله، تخاف عقاب الله، وقال ابن جرير، رحمه الله {اتَّقُوا اللَّهَ} خافوا الله، وراقبوه بطاعته، واجتناب معاصيه; وقال ابن مسعود في الآية الثانية {حَقَّ تُقَاتِهِ} : (أن يطاع فلا يعصى، وأن يذكر فلا ينسى، وأن يشكر فلا يكفر) . وقال ابن جرير: وقوله: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً} يعني ذلك جل ثناؤه: تمسكوا بدين الله الذي أمركم به، وعهده الذي عهده إليكم، في كتابه إليكم، من الألفة والاجتماع على كلمة الحق، والتسليم لأمر الله؛ وقال ابن مسعود: (حبل الله: الجماعة) ; وقال قتادة: بعهد الله وأمره. وقوله: {وَلاَ تَفَرَّقُوا} ، قال قتادة: (إن الله قد كره لكم الفرقة، وقدم إليكم فيها وحذركموها، ونهاكم عنها، ورضي لكم السمع والطاعة، والألفة والجماعة، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 195 فارضوا لأنفسكم ما رضي الله لكم إن استطعتم، ولا قوة إلا بالله) . وقوله: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ} قال قتادة: " كنتم تذابحون فيها، يأكل شديدكم ضعيفكم، حتى جاء الله بالإسلام، فآخى به بينكم، وألف به بينكم، أما والله الذي لا إله إلا هو، إن الألفة لرحمة، وإن الفرقة لعذاب ". وقوله: {فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً} قال ابن جرير، يعني: بتأليف الله عز وجل بينكم بالإسلام، وكلمة الحق والتعاون على نصرة أهل الإيمان، والتآزر على من خالفكم من أهل الكفر، إخوانا صادقين، لا ضغائن بينكم ولا تحاسد. وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن الله يرضى لكم ثلاثا: أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم "1، وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم " ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم: إخلاص العمل لله، ومناصحة المسلمين، ولزوم جماعتهم؛ فإن دعوتهم تحيط من ورائهم " 2. والآيات والأحاديث في بيان وجوب الاجتماع على الإسلام، والتناصر فيه، والتعاون على إقامته ووجوب طاعة ولي أمر المسلمين، وعدم التخلف عن طاعته والافتيات   1 مسلم: الأقضية (1715) , وأحمد (2/367) , ومالك: الجامع (1863) . 2 الترمذي: العلم (2658) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 196 عليه، واجتناب التفرق والاختلاف، كثيرة لا نطيل بذكرها. وقد علم بالضرورة من دين الإسلام: أنه لا دين إلا بجماعة، ولا جماعة إلا بإمامة، ولا إمامة إلا بسمع وطاعة؛ وهذه الثلاثة متلازمة، لا يتم بعضها ولا يستقيم بدون بعض، وبها قوام الدين والإسلام، وبها صلاح العباد في معاشهم ومعادهم؛ وإذا وقع الإخلال والتقصير فيها، أو في بعضها، حصل من الشر والفساد بحسب ما وقع من ذلك ولا بد، وهكذا حتى يعظم الفساد، ويتتابع الشر، ويتفاقم الأمر، وينحل النظام، وتتخلف أمور الدين، ويتكلم في دين الله وشرعه وأحكامه بغير علم. وقد حصل بسبب الإخلال بما تضمنته هذه الآيات، وهذه الأحاديث، وعدم العمل بما دلت عليه، وما ذكره علماء الإسلام قديما وحديثا، وجوب الاجتماع على الإسلام، والتعاون والتناصر عليه، وطاعة ولي أمر المسلمين، وعدم الاختلاف عليه والتخلف عن طاعته، ما وقع من هذه الطائفة الباغية، من شق العصا، والخروج عن طاعة ولي الأمر، حتى فعلوا ما فعلوا من الفساد، من سفك الدماء، ونهب الأموال المحرمة. وقد اجتهد ـ الإمام وفقه الله- في ردهم إلى الحق، وأكثر من مناصحتهم، حتى بعث إليهم الشيخ عبد الله العنقري، يدعوهم إلى تحكيم الشريعة، والرجوع إلى سبيل الجزء: 9 ¦ الصفحة: 197 الحق، فأصروا على ما كانوا عليه، ولم يلتفتوا إلى نصح ناصح؛ بل ذكر الشيخ عبد الله: أنه اطلع منهم على أمور ردية، ومقاصد غير مرضية؛ وما زالوا على ذلك، حتى أوقع الله بهم ما أوقع، من الفشل والتشتيت، وذلك بما قدمت أيديهم، ونعوذ بالله من أسباب الخذلان. فالواجب على من نصح نفسه أن لا يغتر بطريقتهم، ولا يستحسن ما فعلوا. ويجب عليهم وعلى من اغتر بهم، واستحسن ما فعلوا: أن يتوب إلى الله، ويقلع مما اقترفه وجناه. ويجب على جميع المسلمين نصحهم، والقيام عليهم، حتى يرجعوا إلى الهدى، ويجانبوا طريق الغي والردى; ومن أصر منهم وأبى، فإن على الإمام والمسلمين زجره وتأديبه، وقمعه وتأنيبه؛ فإنهم شقوا عصا المسلمين، وفرقوا جماعتهم، وسعوا في الأرض بالفساد، ونسأل الله أن يهدينا، وإخواننا المسلمين، صراطه المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم، غير المغضوب عليهم ولا الضالين، وصلى الله على محمد. وقال أيضا الشيخ محمد بن عبد اللطيف، والشيخ سعد بن حمد بن عتيق، والشيخ سليمان بن سحمان، والشيخ صالح بن عبد العزيز، والشيخ: عبد الله بن حسن، والشيخ: عبد العزيز، والشيخ: عمر، والشيخ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 198 عبد الرحمن، بن الشيخ عبد اللطيف، والشيخ محمد بن إبراهيم، وفقهم الله آمين: بسم الله الرحمن الرحيم إلى من يراه من المسلمين، سلمهم الله تعالى وهداهم، ووفقهم لما يرضي مولاهم، آمين، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: موجب الكتاب إبلاع السلام، والنصيحة لجميع المسلمين بما ينفعهم، والتحريض على منعهم عما يضرهم، وهذا من التواصي بالحق الذي أمر الله به، من ذلك: أن كثيرا من الناس يتساهلون بأمور يفعلونها، ويتكلمون بها، فيظنون أنهم مصيبون في ذلك، والحال أنهم غير مصيبين في كثير مما يصدر منهم، فيما يتعلق بهذه الأمور، مثل كون كثير من الناس يطلقون السب على عموم الإخوان، من غير فرق بين من يستحق الذم وبين من لا يستحقه. ولا يفرقون بين من فعل ما لا يجوز له من الأمور الباطلة، مثل المشاقة لولاة المسلمين، والعدوان على أهل الإسلام، في سفك الدماء، ونهب الأموال، والسعي إلى الأرض بالفساد، والوقيعة في المسلمين بالذم والعيب، وبين غيرهم ممن كان مع المسلمين بالقول والفعل، وجاهد مع المسلمين، ولم يخالف ولي أمر المسلمين؛ فهؤلاء ينبغي الجزء: 9 ¦ الصفحة: 199 للمتكلم أن يبين في كلامه الثناء عليهم، وبيان عدم استحقاقهم للذم، وهذا الأمر يتعين على كل إنسان يتكلم في هذه الأمور، سواء كان من العلماء، أو من العوام. وهنا أمر ينبغي التنبيه عليه، وهو أنه يجب على العلماء، وولاة الأمور، التحذير من الخوض، والقيل والقال، والكلام الذي يكون سببا، يحصل به التفرق والاختلاف بين المسلمين، وعدم التمييز بين أهل الحق والباطل؛ فالواجب على طلبة العلم، وولاة الأمور نصح من صدر منه شيء مما يخالف الحق، وردعه عن ذلك، وزجره عنه، فإن أبى أن يرجع عما هو عليه، فيؤدب تأديبا يردع أمثاله، نسأل الله أن يهدينا وإياكم صراطه المستقيم؛ إنه على كل شيء قدير، وصلى الله على محمد. ولهم أيضا، وفقهم الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على عبده ورسوله محمد، وآله وصحبه، وسلم تسليما كثيرا. أما بعد: فقد سألنا الإمام المكرم، عبد العزيز بن عبد الرحمن آل فيصل، حفظه الله، عن حكم من جاء تائبا من هذه الطائفة الخارجة عن سبيل المؤمنين، هل تقبل توبته أم لا؟ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 200 فنقول: إذا جاء تائبا قبلت توبته، كما قال الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} [سورة الشورى آية: 25ب] وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر " 1 وفيه أيضا " من تاب قبل موته، تاب الله عليه "2، إذا علم هذا، فالتوبة لها شروط; وهي: الإقلاع من الذنب، والندم على ما فات، والعزيمة على أن لا يعود. فلا بد في توبته من إظهار الندم على ما صدر منه، من شق عصا المسلمين، ومفارقة جماعتهم، وسل سيف البغي عليهم، واستحلال دمائهم وأموالهم، والاعتراف بخطئه وضلاله، في المجالس والمحافل، والبراءة ممن خطأ علماء المسلمين، وضللهم. ولا بد أيضا في توبته، من البراءة ممن ارتد عن الإسلام، بانحيازه إلى المشركين، ودعوته إلى الدخول تحت ولايتهم، وإظهار عداوة المسلمين؛ بل لا بد من تكفيره، ومجاهدته باليد والمال واللسان؛ فإذا حصل منه ما ذكر، قبلت توبته، ووكلت سريرته إلى الله; وصلى الله على محمد.   1 الترمذي: الدعوات (3537) , وابن ماجه: الزهد (4253) . 2 أحمد (2/206) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 201 وقال الإمام عبد العزيز بن عبد الرحمن آل فيصل، حفظه الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل، إلى من يراه من كافة إخواننا المسلمين، سلمهم الله تعالى، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: بارك الله فيكم، العمل على نصيحة المشايخ، جزاهم الله خير الدنيا والآخرة، وتفهمون ما منّ الله به علينا، من نعمة الإسلام، وما منّ الله به على المسلمين، من الخير الكثير، في أمور دينهم ودنياهم، ومن أهمها ما حدث في آخر الزمان، من ظهور دين الله، وهو آية الله لهذه البادية، حتى جعل الله فيهم خيرا كثيرا، ونفعهم الله في أنفسهم بالإسلام، ومعرفة ما أوجب الله عليهم، ونفع الله بهم المسلمين في أمور كثيرة. ولكن من عوائد الله: امتحان الناس، وتبيين غايتهم، كما قال سبحانه في أول سورة العنكبوت (بسم الله الرحمن الر حيم) ، {الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [سورة العنكبوت آية: 1-3] ولا شك أن الفتنة هي الامتحان، ليميز الله الخبيث من الطيب. فلما منّ الله علينا وعليهم بذلك، صاروا ثلاثة أقسام: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 202 قسم: عرف الحق وادعاه، ولكن عميت بصيرته، وانقلب، بل عكس ما يقول، وجرى منه ما جرى من الأفعال والأقوال؛ ولكن الله سبحانه حكيم قادر، من حكمته أن يعرف الناس بأنفسهم، أنه لا حول لهم ولا قوة إلا به وبتوفيقه، وأنه لا معصوم إلا من عصمه الله، ولا توفيق إلا لمن وفقه الله; وقول الله سبحانه أبلغ: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [سورة الرعد آية: 11] فلما عكسوا الأمر، أوقع الله بهم ما أوقع، وجعلهم عبرة في مبدأهم ومنتهاهم; والحمد لله الذي نصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده. وأما القسم الثاني: فهم أتباع كل ناعق، منهم من يريد الحق ولا عرفه، وآخر تدين لقصد، نرجو أن الله يمن على من كان يعلم فيه خيرا، بالهداية والتوفيق، ويكفي المسلمين شر من كان فيه شره. أما القسم الثالث من الإخوان: فهم الذين من الله عليهم بالثبات، ومعرفة ما أوجب الله عليهم، والاقتداء بسنة سيد المرسلين، والوثوق بعلمائهم، والالتزام بولايتهم، وجرى منهم من الأفعال الأخيرة ما يحمدون به، ونسأل الله لهم الثبات والهداية، وجزاهم الله أحسن الجزاء. وحدث من الناس الغوغاء - الذين لا يميزون الحق من الباطل - كلام، كما ذكر المشايخ - جزاهم الله أحسن الجزاء - أجملوا الناس جملة، مثل ما إذا تكلم إنسان، إما الجزء: 9 ¦ الصفحة: 203 جاهل أحمق، أو صاحب غرض فاسد: "هالإخوان، هالبدو، فعل الله بهم كذا وكذا"، وهذا أمر مناف للدين والعقل، والحق: أن سب هذا العدو، ما يكون إلا على قدر فعله. والناس الذين مضى فيهم أمر الله قسمان: قسم: خرجوا على المسلمين، وجانبوا العلماء، وقسم: ارتدوا عن الدين، ووالوا أعداء الله، ولا شك أن بعضهم متميز عن بعض؛ ثم بعد ذلك الناس الذين امتازوا، وارتدوا عن الدين، وفعلوا الأفعال التي تخرجهم من الإسلام، كما ذكر المشايخ، فهؤلاء يستعان بالله عليهم، باللسان والسنان. وأما القسم الذين صار منهم ما صار، من مخالفة الولاية والعلماء: فمن تاب منهم وأقلع عن ذنبه، وأقر به، ووالى المسلمين الذين عادوه في ذلك، وجانب أهل الشبه، فهذا حاله حال إخوانه المسلمين، على شرط أن المسلمين يجعلون بالهم على هذا الصنف: فمن وافق عمله قوله، فنرجو أن الله يثبته على الحق، ومن كان عمله يخالف قوله، ويجانب أهل الخير، ويوالي الذين يعلم فيهم الشر، فهذا حق على كل مسلم ينصحه، فإن أبى فيرفع أمره للعلماء، وولاة الأمور. وأما إطلاق السب مجملا كما ذكرنا، فهذا مناف للدين والعقل، ولا يفعله إلا من لا معرفة له بالدين، أو صاحب الجزء: 9 ¦ الصفحة: 204 مقصد يحب شقاق المسلمين، فهذا أنهاكم عنه، وأحرض على جميع ولاة الأمور، لا من العلماء ولا من الأمراء، أن يمنعوا ذلك بالنصائح، والتعليم، ومن أبى فيؤدب بما يستحقه. فالمرجو من جميع المسلمين أن يعملوا بما قرره المشايخ، وما أمرناهم به، وأن العلماء، والأمراء، والوجوه من المسلمين، يجتهدون في ذلك، لأجل جلب المصلحة، باجتماع قلوب المسلمين، والتآلف بينهم، ودرء المفسدة من نفور بعضهم من بعض. ولا أبيح أحدا يسمع من ذلك شيئا إلا ويقوم بالواجب، على شرط أن لا يعنف، ولا يؤدب أحد لا بلسان ولا بيد، إلا بتعريف العلماء، واستفتائهم في ذلك، وتنفيذ أمر ما أمر به العلماء. نرجو الله أن يوفقنا وإياكم للخير، وصلى الله على محمد. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 205 وقال الشيخ: عبد الله بن فيصل بن سلطان، رحمه الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله بن فيصل، إلى كافة أهل المحمل والشعيب، سلمهم الله تعالى، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: هذه نصائح المشايخ والإمام حفظهم الله واصلتكم، فأنتم إن شاء الله تشرفون عليها، وتعملون بما فيها، وفيها لمن تأملها من حال دعوى الإخوان، ومنافرتهم، وإطلاق السب عليهم جملة، وعدم قبول توبتهم من غير تبصر في ذلك، ولا تفريق بين ما يجوز فعله، وما لا يجوز. وقد أمرني الإمام حفظه الله: أن أقرر عليها; وتعلمون - وفقنا الله وإياكم للعلم النافع، والعمل الصالح - أن هؤلاء الإخوان في مبدإ أمرهم، ودخولهم في الدين، نفع الله بهم أهل الإسلام، وإن كان قد حصل منهم ما حصل في هذا الزمان، من الأمور التي قد حصل بسببها ترويج على من لا بصيرة له ولا علم لديه، فوقع في أعراضهم وسبهم وتأنيبهم جملة، من غير تفصيل ولا نظر فيمن يستحق ذلك، ممن لا يستحقه. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 206 لأنهم قد كانوا طوائف: طائفة قبلت الحق وثبتها الله عليه، وصاروا أعوانا للمسلمين على المارقين المعتدين، فهؤلاء يحمدون على أفعالهم، ويدعى لهم بالقبول والثبات؛ وطائفة الغالب عليهم الجهل، فتبعوا من دعاهم بالقول والفعل، ولا فرق لديهم ولا تمييز، وكل ما مالت إليه أنفسهم عزيز، فاستوى عندهم الغي والرشاد، وعملوا على غير سداد، فيجب على المسلمين الرفق بهم، في التعليم والإرشاد، ويدعون لهم بالهداية والسداد; وطائفة تأولت فأخطأت في تأويلها، فينبغي تنبيهها، وكشف ما يشكل عليها. فكل هؤلاء يعاملون باللطف واللين، ويوضح لهم ما جهلوه من الدين، ويدعون إلى الحق، ويرغبون فيه، ويوضح لهم الباطل، وينهون عنه، ويحذرون من سوء عاقبة أهله، من غير غلظة ولا تأنيب، لأن ذلك يوجب التنفير وعدم القبول؛ والمطلوب النصح لهم، وتبيين ما يحصل به تأليفهم واستجلابهم، لأن ذلك من المصالح الدينية، التي يجب على أهل الإسلام بذلها، وعدم التعنيف الذي يحصل به الافتراق، ويورث العناد والشقاق؛ فلعل الرفق بهم يصير سببا لردهم إلى ما خرجوا منه، ويتوبون إلى ربهم، الذي يقبل التوبة عن عباده، ويعفو عن السيئات. وقد قال الله جل جلاله: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 207 يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [سورة التوبة آية: 104] . والله جل جلاله يقبل توبة عبده ما دامت روحه في جسده، ومن تاب إلى الله تاب الله عليه، ولا يهلك على الله إلا هالك {وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [سورة الحجرات آية: 11] . وأما الطائفة التي حاربت أهل الإسلام، وكابرت، وعاقدت، وصاروا من حزب الشيطان، فهؤلاء يجب بغضهم والبراءة منهم وما ذهبوا إليه، لأنهم اتبعوا غير سبيل المؤمنين، واستفزتهم الشياطين، واختاروا العمى على الهدى، بعد أن استبصروا، ووقعوا في هوة الردى. وقد قال الله سبحانه وتعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} [سورة النساء آية: 115] نسأل الله أن يثبتنا وإياكم على صراطه المستقيم، وصلى الله على محمد. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 208 [سؤال حول ما يفعله بعض الجهال من الهجرة من مكة إلى الحبشة] وسئل الشيخ محمد بن عبد اللطيف، والشيخ سليمان بن سحمان، والشيخ: صالح بن عبد العزيز، والشيخ محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف، وكافة علماء العارض، عن العجمان، والدويش، ومن تبعهم، حيث خرجوا من بلدان المسلمين، يدعون: أنهم مقتدون بجعفر بن أبي طالب وأصحابه، رضي الله عنهم، حيث خرجوا من مكة مهاجرين إلى الحبشة؟ فأجابوا: هؤلاء الذين ذكرهم السائل، وهم العجمان والدويش ومن تبعهم، لا شك في كفرهم وردتهم، لأنهم انحازوا إلى أعداء الله ورسوله، وطلبوا الدخول تحت ولايتهم، واستعانوا بهم، فجمعوا بين الخروج من ديار المسلمين، واللحوق بأعداء الملة والدين، وتكفيرهم لأهل الإسلام، واستحلال دمائهم وأموالهم. وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، في "الاختيارات": من جمز إلى معسكر التتر ولحق بهم، ارتد، وحل دمه وماله; فإذا كان هذا في مجرد اللحوق بالمشركين، فكيف بمن اعتقد مع ذلك أن جهادهم، وقتالهم لأهل الإسلام، دين يدان به، هذا أولى بالكفر والردة. وأما استدلالهم بقصة جعفر وأصحابه، لما هاجروا إلى الحبشة، فباطل؛ فإن جعفرا وأصحابه، لم يهاجروا من الجزء: 9 ¦ الصفحة: 209 مكة إلا وهي إذ ذلك بلاد كفر، وقد آذاهم المشركون، وامتحنوهم في ذات الله، وقد عذبوا من عذبوا من الصحابة، كصهيب، وبلال، وخباب، من أجل عبادتهم الله وحده لا شريك له، ومجانبتهم عبادة اللات والعزى، وغيرهما من الأوثان؛ فلما اشتدت عليهم الأذية، أذن لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة إلى الحبشة، ليأمنوا على دينهم. وأما هؤلاء: فقد خرجوا من بين ظهراني المسلمين، وانحازوا إلى الكفار والمشركين، وجعلوا بلاد المسلمين بلاد كفر، بمنْزلة مكة حين هاجر جعفر وأصحابه منها؛ ولا يستدل بقصة جعفر والحالة هذه، إلا من هو أضل الناس وأعماهم، وأبعدهم عن سواء السبيل. وأما قول السائل: إنهم يرون أن جميع المسلمين، وولي أمرهم، وعلماءهم، ليسوا على حق، فهذا من ضلالهم، ومن الأسباب الموجبة لكفرهم، وخروجهم من الإسلام، بعدما انتسبوا إليه، وادعوا أنهم من أنصاره، والمهاجرين إليه، فسبحان من طبع على قلوب أعدائه، فنعوذ بالله من الحور بعد الكور، ومن الضلال بعد الهدى. وأما قول السائل: إنهم يدعون أنهم رعية الأتراك، ومن الأتراك السابقين، وأنهم لم يدخلوا تحت أمر ابن سعود وطاعته، إلا مغصوبين، فهذا أيضا من أعظم الأدلة على ردتهم، وكفرهم. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 210 وأما قول السائل: إنهم فعلوا ما فعلوا مع المسلمين، من القتل والنهب، مستحلين لذلك.. إلى آخر السؤال؟. فجوابه: أن من استحل دماء المسلمين، وأموالهم: كما نص عليه العلماء، في "باب حكم المرتد". وأما من أجاب دعوتهم، وساعدهم من أهل نجد، فحكمه حكمهم، يجب على جميع المسلمين قتاله وجهاده، وأما من أبى عن جهادهم، يدعى أنهم إخوان له، وأنهم على حق، فهذا حكمه حكمهم، لأنه صوب رأيهم، واعتقد ما اعتقدوه، لا سيما بعد علمه بما صدر منهم. وأما الدهينة، والخضري، وولد فيصل بن حميد، وأتباعهم، الذين قدموا من عند ولد الشريف، يدعون إلى ولايته، فهؤلاء لا شك في ردتهم والحال ما ذكر، لأنهم دعاة إلى الدخول تحت ولاية المشركين، فيجب على جميع المسلمين جهادهم وقتالهم، وكذلك من آواهم ونصرهم، فحكمه حكمهم. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 211 وقال الشيخ: سليمان بن سحمان، رحمه الله تعالى: ورد علينا منك رسالة، تطلب فيها أن نكتب لك قصة الخوارج مستوفاة، من حين خروجهم على علي رضي الله عنه، إلى آخر ما كان من أمرهم؛ فقد ذكر ذلك شيخنا، الشيخ: عبد اللطيف، في رده على داود بن جرجيس، وهذا نص ما ذكر، وبه الكفاية. قال رحمه الله: إنه لما اشتد القتال يوم صفين، قال عمرو بن العاص، لمعاوية بن أبي سفيان، هل لك في أمر أعرضه عليك، لا يزيدهم إلا فرقة؟ قال: نعم؛ قال: نرفع المصاحف، ثم نقول لما فيها "هذا حكم بيننا وبينكم" فإن أبى بعضهم أن يقبلها، رأيت فيهم من يقول ينبغي لنا أن نقبلها، فتكون فرقة فيهم، فإن قبلوا، رفعنا القتال عنا إلى أجل. فرفعوا المصاحف بالرماح، وقالوا: هذا كتاب الله بيننا وبينكم؛ من لثغور الشام بعد أهله؟ من لثغور العراق بعد أهله؟ فلما رآها الناس، قالوا: نجيب إلى كتاب الله. فقال لهم علي: عباد الله، امضوا على حقكم وصدقكم، فإنهم ليسوا بأصحاب دين، ولا قرآن، أنا أعلم الجزء: 9 ¦ الصفحة: 212 بهم منكم، والله ما رفعوها إلا خديعة، ووهنا ومكيدة؛ قالوا: لا يسعنا أن ندعى إلى كتاب الله فنأبى أن نقبله؛ وقال لهم علي: إنما أقاتلهم ليدينوا بحكم الكتاب، فإنهم قد عصوا الله ونسوا عهده. قال له مسعر بن فدكي التميمي، وزيد بن حصين الطائي، في عصابة من القراء: يا علي: أجب إلى كتاب الله إذا دعيت إليه، وإلا دفعناك برمتك إلة القوم، أو نفعل بك كما فعلنا بابن عفان؛ فلم يزالوا به حتى نهى الناس عن القتال. ووقع السباب بينهم وبين الأشتر وغيره، ممن يرى عدم التحكيم، فقال الناس: قد قبلنا أن نجعل القرآن بيننا وبينهم حكما. فجاء الأشعث بن قيس إلى علي، فقال: إن الناس قد رضوا بما دعوهم إليه من حكم القرآن، إن شئت أتيت معاوية، قال علي: ائته. فأتاه فقال: لأي شيء رفعوا المصاحف؟ قال: لنرجع نحن وأنتم إلى ما أمر الله به في كتابه؛ تبعثون رجلا ترضون به، ونبعث رجلا نرضى به، فنأخذ عليهما أن يعملا بما في كتاب الله، لا يعدوانه، فعاد إلى علي فأخبره، قال الناس قد رضينا. قال أهل الشام: رضينا عمرو بن العاص، وقال الأشعث، وأولئك القوم الذين صاروا خوارج: رضينا بأبي الجزء: 9 ¦ الصفحة: 213 موسى الأشعري، فراودهم على غيره، وأراد ابن عباس، قالوا: والله لانبالي، أنت كنت حكمها، أم ابن عباس، ولا نرضى إلا رجلا منك، ومن معاوية سواء؛ وأبوا غير أبي موسى، فواقهم علي كرها، وكتب كتاب التحكيم. فلما قرئ على الناس، سمعه عروة بن أمية أخو أبي بلال، قال: تحكمون في أمر الله الرجال، لاحكم إلا لله، وشد بسيفه فضرب دابة من قرأ الكتاب، وكان ذلك أول ما ظهر الحرورية "الخوارج" وفشت العداوة بينهم وبين عسكر علي وقطعوا الطريق في إيابهم، بالتشاتم والتضارب بالسياط، تقول الخوارج: يا أعداء الله داهنتم في دين الله؛ ويقول الآخرون: فارقتم إمامنا، ومزقتم جماعتنا ولم يزالوا كذلك حتى قدموا العراق، فقال بعض الناس من المتخلفين: ما صنع علي شيئا، ثم انصرف بغير شيء؛ فسمعها علي، فقال: وجوه قوم ما رأوا الشام، ثم أنشد شعرا: أخوك الذي أن أجرضتك ملمة ... من الدهر لم يبرح بباك واجما وليس أخوك بالذي إن تشعبت ... عليك الأمور ظل يلحاك لائما فلما دخل الكوفة، ذهبت الخوارج إلى حروراء، فنزل بها اثنا عشر ألفا على ما ذكره ابن جرير، ونادى مناديهم: إن أمير القتال شبث بن ربعي التميمي، وأمير الصلاة عبد الله بن الجزء: 9 ¦ الصفحة: 214 الكواء، والأمر شورى بعد الفتح، والبيعة لله عز وجل، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فلما سمع علي ذلك وأصحابه، قامت إليه الشيعة، فقالوا له: في أعناقنا بيعة ثانية، نحن أولياء من واليت، وأعداء من عاديت؛ قالت لهم الخوارج؛ استبقتم أنتم وأهل الشام إلى الكفر، كفرسي رهان – أهل الشام بايعوا معاوية على ما أحب وأنتم بايعتم عليا على أنكم أولياء من والى وأعداء من عادى - يريدون: أن البيعة لا تكون إلا على كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، لأن الطاعة له تعالى. وقال لهم زياد بن النضر: والله ما بسط علي يده فبايعناه قط، إلا على كتاب الله وسنة نبيه، ولكنكم لما خالفتموه جاءت شيعته، فقالوا: نحن أولياء من واليت، وأعداء من عاديت، ونحن كذلك، وهو على الحق والهدى، ومن خالفه ضال مضل. وبعث علي رضي الله عنه: عبد الله بن عباس إلى الخوارج، فخرج إليهم فأقبلوا يكلمونه، فقال: نقمتم من الحكمين، وقد قال الله عز وجل: {فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا} [سورة النساء آية: 35] فكيف بأمة محمد صلى الله عليه وسلم؟! قالوا: ما جعل الله حكمه إلى الناس، وأمرهم بالنظر فيه، فهو إليهم، وما حكم فأمضى فليس للعباد أن ينظروا فيه، في الزنا مائة جلدة، وفي السرقة قطع، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 215 فليس للعباد أن ينظروا في هذا. قال ابن عباس: فإن الله تعالى يقول: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [سورة المائدة آية: 95] قالوا: تجعل الحكم في الصيد، والحرث، وبين المرأة وزوجها، كالحكم في دماء المسلمين؟ وقالوا له: أعدل عندك عمرو بن العاص، وهو بالأمس يقاتلنا؟ فإن كان عدلا فلسنا بعدول، وقد حكمتم في أمر الله الرجال؛ قد أمضى الله حكمه في معاوية وأصحابه، أن يقتلوا أو يرجعوا، وقد كتبتم بينكم وبينهم كتابا، وجعلتم بينكم وبينهم الموادعة، وقد قطع الله الموادعة بين المسلمين وأهل الحرب، منذ نزلت براءة، إلا من أقر بالجزية. فجاء علي وابن عباس يخاصمهم، فقال: إني نهيتك عن كلامهم حتى آتيك، ثم تكلم رضي الله عنه، فقال: اللهم هذا مقام من يفلج فيه، كان أولى بالفلج يوم القيامة؛ وقال لهم: من زعيمكم؟ قالوا: ابن الكواء فقال: فما أخرجكم علينا؟ قالوا حكومتكم يون ضفين؛ قال أنشدكم الله، أتعلمون أنهم حين رفعوا المصاحف، وملتم بجنبهم، قلت لكم إني أعلم بالقوم منكم، إنهم ليسوا بأصحاب دين؟ وذكرهم مقالته. ثم قال: وقد اشترطت على الحكمين: أن يحييا ما أحيا القرآن، ويميتا ما أمات القرآن، فإن حكما بحكم القرآن فليس لنا أن نخالفه، وإن أبيا فنحن من حكمهما برءاء، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 216 قالوا: فخبرنا، أتراه عدلا تحكيم الرجال في الدماء؟ قال: إنا لسنا حكمنا الرجال، إنما حكمنا القرآن، إنما هو خط مسطور بين دفتين، وإنما يتكلم به الرجال. قالوا: فخبرنا عن الأجل، لم جعلته بينكم؟ قال: ليعلم الجاهل، ويثبت العالم، ولعل الله يصلح في هذه الهدنة، هذه الأمة، فادخلوا مصركم رحمكم الله، فدخلوا من عند آخرهم. فلما جاء الأجل، وأراد علي أن يبعث أبا موسى للحكومة، أتاه رجلان من الخوارج، زرعة ابن البرج الطائي، وحرقوص بن زهير السعدي، فقالا له: لا حكم إلا لله؛ فقال علي: لا حكم إلا لله؛ وقالا تب من خطيئتك، واجع عن قضيتك، واخرج بنا إلى عدونا نقاتلهم، حتى نلقى الله ربنا، فقال علي: قد أردتكم على ذلك فعصيتموني: قد كتبنا بيننا وبين القوم كتابا، وشرطنا شروطا، وأعطينا عهودا، وقد قال تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ} [سورة النحل آية: 91] . فقال: "حرقوص" ذلك ذنب ينبغي أن تتوب منه؛ قال علي: ما هو ذنب، ولكنه عجز من الرأي، وقد نهيتكم عنه؛ قال زرعة: يا علي لئن حكمت الرجال، لأقاتلنك أطلب وجه الله؛ فقال له علي: بؤسا لك ما أشقاك، كأني بك قتيلا تسفي عليك الرياح؛ قال: وددت لو كان ذلك؛ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 217 وخرجا من عنده، يقولان: لا حكم إلا الله. وخطب علي ذات يوم، فقالوها في جوانب المسجد، فقال علي: الله أكبر، كلمة حق أريد بها باطل؛ فوثب يزيد بن عاصم المحاربي، فقال: الحمد لله غير مودع ربنا، ولا مستغني عنه، اللهم إنا نعوذ بك من إعطاء الدنية في ديننا، فإن إعطاء الدنية في الدين إدهان في أمر الله، وذل راجع بأهله إلى سخط الله؛ يا علي: أبالقتل تخوفنا؟ أما والله إني لأرجو أن نضربكم بها عما قليل غير مصفحات، ثم لتعلم أينا أولى بها صليا. وخطب علي يوما آخر، فقال رجال في المسجد: لا حكم إلا لله، يريدون بهذا إنكار المنكر على زعمهم؛ فقال علي: الله أكبر، كلمة حق أريد بها باطل، أما إن لكم علينا ثلاثا ما صحبتمونا، لا نمنعكم مساجد الله أن تذكروا فيها اسمه، ولا نمنعكم الفئ ما دامت أيديكم مع أيدينا، ولا نقاتلكم حتى تبدؤونا، وإنا نننتظر فيكم أمر الله؛ ثم عاد إلى مكانه من الخطبة. ثم إن الخوارج لقي بعضهم بعضا، واجتمعوا في منزل عبد الله بن وهب الراسبي، فخطبهم وزهدهم في الدنيا، وأمرهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ ثم قال: اخرجوا بنا من هذه القرية الظالم أهلها، إلى بعض كهوف الجزء: 9 ¦ الصفحة: 218 الجبال، أو إلى بعض هذه المدائن، منكرين لهذه البدع المضلة. فقال حرقوص بن زهير: إن المتاع في هذه الدنيا قليل، وإن الفراق لها وشيك، فلا تدعونكم بزينتها وبهجتها إلى المقام بها، ولا تكفنكم عن طلب الحق وإنكار الظلم، فإن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون، فقال حمزة بن سنان الأسدي، يا قوم: إن الرأي ما رأيتم، فولوا أمركم رجلا منكم، فإنه لا بد لكم من عماد وسناد، وراية تحفون بها وترجعون إليها. فعرضوا ولايتهم على زيد بن حصين الطائي، وعرضوها على حرقوص بن زهير، فأبياها، وعلى حمزة بن سنان، وشريح بن أوفى العبسي، فأبيا، ثم عرضوها على عبد الله بن وهب، فقال: هاتوها أما والله لا آخذها رغبة في الدنيا، ولا أدعها فرارا من الموت، فبايعوه لعشر خلون من شوال، وكان يقال له ذو الثفنات، فاجتمعوا في منزل شريح بن أوفى العبسي، فقال ابن وهب: اشخصوا بنا إلى بلدة نجتمع فيها، وننفذ حكم الله، فإنكم أهل الحق. قال شريح: نخرج إلى المدائن فننزلها، ونأخذ بأبوابها، ونخرج منها سكانها، ونبعث إلى إخواننا من أهل البصرة، فيقدمون علينا، فقال زيد بن حصين: إنكم إن خرجتم مجتمعين تبعوكم، ولكن اخرجوا وحدانا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 219 ومستخفين، فأما المدائن فإن بها من يمنعكم، ولا تسيروا حتى تنزلوا بجسر النهروان، وتكلموا إخوانكم من أهل البصرة، قالوا: هذا الرأي؛ فكتب عبد الله بن وهب، إلى من بالبصرة، ليعلمهم ما اجتمعوا عليه، ويحثهم على اللحاق بهم، فأجابوه. فلما خرجوا صار شريح بن أوفى العبسي يتلو قوله: {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ} إلى قوله: {سَوَاءَ السَّبِيلِ} [سورة القصص آية: 21،22] وخرج معهم طرفة بن عدي فاتبعه أبوه فلم يقدر عليه وأرسل عدي إلى عامل علي على المدائن يحذره، فحذر وضبط الأبواب، واستخلف عليها المختار بن أبي عبيد، وخرج بالخيل في طلبهم، فأخبر ابن وهب، فسار على بغداد، ولحقه ابن مسعود أمير المدائن بالكرخ، في خمسمائة فارس، فانصرف إليه ابن وهب الخارجي في ثلاثين فارسا، فاقتتلوا ساعة، وامتنع القوم منهم، فلما جن الليل على ابن وهب، عبر دجلة، وصار إلى النهروان، ووصل إلى أصحابه، وتفلت رجال من أهل الكوفة، يريدون الخوارج، فردهم أهلوهم. ولما خرجت الخوارج من الكوفة، عاد أصحاب علي وشيعته إليه، فقالوا نحن أولياء من واليت، وأعداء من عاديت، فشرط لهم سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء ربيعة بن شداد خثعمي، فقال: أبايع على سنة أبي بكر وعمر، قال علي الجزء: 9 ¦ الصفحة: 220 ويلك؛ لو أن أبا بكر وعمر، عملا بغير كتاب الله وسنة رسوله، لم يكونا على شيء من الحق، فبايعه ونظر إليه علي، فقال: أما والله لكأني بك وقد نفرت مع هذه الخوارج، فقلت، وكأني بك وقد وطأتك الخيل بحوافرها؛ فكان ذلك، وقتل يوم النهروان مع الخوارج. وأما خوارج البصرة، فإنهم اجتمعوا في خمسمائة رجل، جعلوا عليهم مسعر بن فدكى التميمي، وعلم بهم ابن عباس، فأتبعهم بالأسود الدؤلي، ولحقهم بالجسر الأكبر، فتواقفوا حتى حجز دونهم، وأدلج مسعر بأصحابه، وسار حتى لحق بابن وهب. فلما انقضى أمر التحكيم – وخان عمرو بن العاص أبا موسى الأشعري، وصرح عمرو بولاية معاوية، بعد أن عزل أبو موسى عليا، خدعه عمرو بذلك، فهرب أبو موسى إلى مكة – قام علي في الكوفة فخطبهم، وقال في خطبته: الحمد لله وإن أتى الدهر بالخطب الفادح، والحدثان الجليل؛ وأشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله. أما بعد: فإن المعصية تورث الحسرة، وتعقب الندم، وقد كنت أمرتكم في هذين الرجلين – يعني أبا موسى، وعمرو بن العاص – وفي هذه الحكومة أمري، ونحلتكم رأيي، ولو كان لقصر رأيي، ولكن أبيتم إلا ما أردتم، فكنت أنا وأنتم كما قال أخو هوزان: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 221 أمرتهمو أمري بمنعرج اللوى ... فلم يستبينوا الرشد إلا ضحى الغد ألا إن هذين الرجلين، اللذين أخرجتموهما حكمين، قد نبذا حكم القرآن وراء ظهورهما، وأحييا ما أمات القرآن، فاتبع كل واحد منهما هواه بغير هدى من الله، فحكما بغير حجة بينة، ولا سنة قاضية، واختلفا في حكمهما، وكلاهما لم يرشد، فبرئ الله منهما ورسوله، وصالح المؤمنين، فاستعدوا وتأهبوا للمسير إلى الشام. وكتب إلى الخوارج، من عبد الله: علي أمير المؤمنين، إلى زيد بن حصين، وعبد الله بن وهب، ومن معهما من الناس. أما بعد: فإن هذين الرجلين، اللذين ارتضيتما حكمين، قد خالفا كتاب الله، واتبعا أهواءهما بغير هدى من الله، فلم يعملا بالسنة، ولم ينفذا للقرآن حكما، فبرئ الله منهما ورسوله، والمؤمنون، فإذا بلغكم كتابي هذا، فأقبلوا إلينا، فإنا سائرون إلى عدونا وعدوكم، ونحن على الأمر الأول الذي كنا عليه. فكتبوا إليه، أما بعد: فإنك لم تغضب لربك، وإنما غضبت لنفسك، فإن شهدت على نفسك بالكفر، واستقبلت التوبة، نظرنا فيما بيننا وبينك، وإلا فقد نابذناك على سواء {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} [سورة الأنفال آية: 58] فلما قرأ كتابهم الجزء: 9 ¦ الصفحة: 222 أيس منهم، ورأى أن يدعهم، ويمضي بالناس إلى قتال أهل الشام، فقام في الكوفة فندبهم إلى الخوارج معه، وخرج معه أربعون ألف مقاتل، وسبعة عشر من الأبناء، وثماية آلاف من الموالي والعبيد، وأما أهل البصرة، فتثاقلوا، ولم يخرج إلا ثلاثة آلاف. وبلغ عليا: أن الناس يرون قتال الخوارج أهم وأولى، قال لهم علي: دعوا هؤلاء، وسيروا إلى إلى يقاتلونكم، كيفما يكونون جبارين ملوكا، ويتخذوا عباد الله خولا؛ فناداه الناس: أن سر بنا يا أمير المؤمنين حيث أحببت. ثم إن الخوارج استقر أمرهم، وبدؤوا بسفك الدماء، وأخذوا الأموال، وقتلوا عبد الله بن خباب صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجدوه سائرا بامرأته على حمار، فانتهروه، وأفزعوه، ثم قالوا له: ما أنت؟ فأخبرهم، قالوا: حدثنا عن أبيك الخباب، حديثا سمعه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، تنفعنا به؟. فقال: حدثني أبي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ستكون فتنة يموت فيها قلب الرجل كما يموت فيها بدنه، يمسي مؤمنا ويصبح كافرا، ويصبح كافرا ويمسي مؤمنا " قالوا: لهذا سألناك، فما تقول في أبي بكر وعمر؟ فأثنى عليهما خيرا، فقالوا: ما تقول في عثمان في أول خلافته، وفي الجزء: 9 ¦ الصفحة: 223 آخرها؟ قال: إنه كان محقا في أولها، وآخرها. قالوا: فما تقول في علي قبل التحكيم، وبعده؟ قال: أقول إنه أعلم بالله منكم، وأشد توقيا على دينه، وأنفذ بصيرة، فقالوا: إنك تتبع الهوى، وتوالي الرجال على أسمائها، لا على أفعالها، والله لنقتلنك قتلة ما قتلناها أحدا، فأخذوه فكتفوه، ثم أقبلوا به وبامرأته وهي حبلى، فنزلوا تحت نخل مثمر، فسقط منه رطبة، فأخذها أحدهم فلاكها في فيه، فقال له آخر: أخذتها بغير حلها وبغير ثمن، فألقاها؛ ثم مر بهم خنزير فضربه أحدهم بسيفه، فقالوا: هذا فساد في الأرض، فلقي صاحب الخنزير – وهو من أهل الذمة – فأرضاه. فلما رأى ذلك ابن الخباب، قال: لئن كنتم صادقين فيما أرى، فما علي بأس، ما أحدثت في الإسلام حدثا، ولقد أمنتموني؛ فأضجعوه وذبحوه، وأقبلوا إلى امرأته، فقالت: أنا امرأة، ألا تتقون الله، فبقروا بطنها؛ وقتلوا أم سنان الصيداوية، وثلاثا من النساء، فلما بلغ ذلك عليا، بعث الحارث بن مرة العبدي يأتيه بالخبر، فلما دنا منهم قتلوه. فألح الناس على علي في قتالهم، وقالو نخشى أن يخلفونا في عيالنا وأموالنا، فسر بنا إليهم، وكلمه الأشعث بمثل ذلك، واجتمع الرأي على حربهم، وسار علي يريد الجزء: 9 ¦ الصفحة: 224 قتالهم، فلقيه منجم في مسيره، فأشار عليه أن يشير في وقت مخصوص، وقال إن سرت في غيره، لقيت وأصحابك ضررا شديدا؛ فخالفه علي في الوقت الذي نهاه عنه. فلما وصل إليهم، قالوا: ادفعوا إلينا قتلة إخواننا نقتلهم، ونترككم، فلعل الله أن يقبل بقلوبكم، ويردكم إلى خير ما أنتم عليه؛ فقالوا: كلنا قتلهم، وكلنا مستحل لدمائهم ودمائكم. وخرج إليهم قيس بن سعد بن عبادة، فقال: عباد الله، أخرجوا إلينا طلبتنا منكم، وادخلوا في هذا الأمر الذي خرجتم منه، وعودوا بنا إلى قتال عدونا، فإنكم ركبتم عظيما من الأمر، تشهدون علينا بالشرك، وتسفكون دماء المسلمين. فقال له عبد الله بن شجرة السلمى: إن الحق قد أضاء لنا، فلسنا متابعيكم، أو تأتونا بمثل عمر؟ فقال: ما نعلمه غير صاحبنا، فهل تعلمونه فيكم؟ قالوا: لا، قال: نشدتكم الله في أنفسكم أن تهلكوها، فإني لا أرى الفتنة إلا وقد غلبت عليكم. وخطبهم: أبو أيوب الأنصاري، فقال: عباد الله، إنا وإياكم على الحال الأولى التي كنا عليها، ليست بيننا وبينكم فرقة، فعلام تقاتلوننا عليه؟ فقالوا: إن تابعناكم اليوم حكمتم الرجال غدا؛ فقال: فإني أنشدكم الله، أن تعجلوا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 225 فتنة العام، مخافة ما يأتي في القابل. وأتاهم علي رضي الله عنه، فقال: أيتها العصابة، التي أخرجها عداوة المراء واللجاجة، وصدها عن الحق الهوى، وطمع بها النزق، وأصبحت في الخطب العظيم، إنني نذير لكم: أن تصبحوا بلعنكم الأمة غدا صرعى، بأثناء هذا النهر، وبأهضاب هذا الغائط، بغير بينة من ربكم، ولا برهان. ألم تعلموا أني نهيتكم عن الحكومة، ونبأتكم أنها مكيدة، وأن القوم ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن، فعصيتموني، فلما فعلتم: أخذت على الحكمين، واستوثقت أن يحييا ما أحيا القرآن، ويميتا ما أمات القرآن، فاختلفا، وخالفا حكم الكتاب، فنبذنا أمرهما، فنحن على الأمر الأول، فمن أين أتيتم؟. قالوا: إنا حكمنا فلما حكمنا أثمنا، وكنا بذلك كافرين، وقد تبنا، فإن تبت فنحن معك ومنك، فإن أبيت فإنا منابذوك على سواء. قال علي: أصابكم حاصب، ولا بقي منكم دابر؛ بعد إيماني برسول الله صلى الله عليه وسلم، وهجرتي معه، وجهادي في سبيل الله، أشهد على نفسي بالكفر؟ لقد ضللت إذا وما أنا من المهتدين. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 226 وقيل: كان من كلامه – يا هؤلاء، إن أنفسكم قد سولت لكم فراقي بهذه الحكومة، التي أنتم ابتدأتموها وسألتموها، وأنا لها كاره، وأنبأتكم أن القوم إنما طلبوها مكيدة، ووهنا، فأبيتم علي إباء المخالفين، وعندتم علي عنود النكداء العاصين، حتى صرفت رأيي إلى رأيكم، رأي معاشر، والله أخفاء الهام، سفهاء الأحلام، فما آتى لا أبالكم هجرا؟!. والله ما حلت عن أموركم، ولا أخفيت شيئا من هذا الأمر عنكم، ولا أوطأتكم عشوى، ولا أدنيت لكم ضرا، وإن كان أمرنا لأمر المسلمين ظاهرا فأجمع رأي ملئكم: أن اختاروا رجلين، فأخذنا عليهما أن يحكما بالحق، ولا يعدوانه، فتركا الحق وهما يبصرانه، وكان الجور هواهما، والتقية دينهما، حتى خالفا سبيل الحق، وأتيا بما لا يعرف. فبينوا لنا بم تستحون قتالنا؟ والخروج عن جماعتنا، وتصفون سيوفكم على عواتكم، ثم تستعرضون الناس تضربون رقابهم؟ إن هذا هو الخسران المبين؛ والله لئن قتلتم على هذا دجاجة، لعظم عند الله قتلها، فكيف بالنفس التي قتلها عند الله حرام؟! فتنادوا: أن لا تخاطبوهم ولا تكلموهم، وتهيئوا للقاء الله الرواح، الرواح، إلى الجنة، فرجع علي عنهم. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 227 ثم إنهم قصدوا جسرا النهر، فظن الناس أنهم عبروه، فقال علي: لم يعبروه، وإن مصارعهم لدون النهر، والله لا يقتلون منكم عشرة، ولايسلم منهم، فتعبأ الفريقان للقتال، فنادهم أبو أيوب فقال: من جاء هذه الراية فهو آمن، ومن انصرف إلى الكوفة أو إلى المدائن، وخرج من هذه الجماعة، فهو آمن، فانصرف فروة بن نوفل الأشجعي، في خمسمائة فارس، وخرجت طائفة أخرى متفرقين. فبقي مع عبد الله بن وهب ألف وثمان مائة، فزحفوا إلى علي، وبدؤوه بالقتال، وتنادوا: الرواح الرواح إلى الجنة، فاستقبلت الرماة من جيش علي، بالنبل والرماح والسيوف، ثم عطفت عليهم الخيل، من الميمنة والميسرة، وعليها أبو أيوب الأنصاري، وعلى الرجالة أبو قتادة الأنصاري، فلما عطفت عليهم الخيل والرجال، وتداعى عليهم الناس، ما لبثوا أن أناموهم فماتوا في ساعة واحدة، فكأنما قيل لهم موتوا فماتوا. وقتل ابن وهب، وحرقوص، وسائر سراتهم، وفتش علي في القتلى، والتمس المخدج، الذي وصفه البني صلى الله عليه وسلم في حديث الخوارج، فوجده في حفرة على شاطئ النهر، فنظر إلى عضده، فإذا لحم مجتمع كثدي الممرأة، وحلته عليها شعرات سود، فإذا مدت امتدت حتى تحاذى يده الطولى، فلما رآها، قال: الله أكبر، والله ما كذبت، ولا كذبت، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 228 والله لولا أن تنكلوا عن العمل، لأخبرتكم بما قضى الله على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، لمن قاتلهم متبصرا في قتالهم، عارفا للحق الذي نحن عليه. وقال حين مر بهم صرعى: بؤسا لكم، لقد ضركم من غركم، قالوا: يا أمير المؤمنين، من غرهم؟ قال: الشيطان، ونفس أمارة بالسوء، غرتهم بالأماني، وزينت لهم المعاصي، ونبأتهم أنهم ظاهرون. هذا ملخص أمرهم، وقد عرفت شبهتهم، التي جزموا لأجلها بكفر علي، وشيعته، ومعاوية وأصحابه، وبقي معتقدهم في أناس متفرقين، بعد هذه الوقعة، وصار غلاتهم يكفرون بالذنوب، ثم اجتمعت لهم شوكة ودولة، فقاتلهم المهلب بن أبي صفرة، وقاتلهم الحجاج بن يوسف، وقاتلهم قبله ابن الزبير زمن أخيه عبد الله، وشاع عنهم التكفير بالذنوب، يعني ما دون الشرك، انتهى ما ذكره شيخنا. فتأمل رحمك الله: ما في هذه القصة من الأمور، التي خاطبوا بها أمير المؤمنين، علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وما أجابهم به، فمن نصح نفسه وأراد نجاتها، فليتأمل ما في كلامهم من إرادة الخير، وطلبه والعمل به، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأنهم ما فعلوا ذلك إلا ابتغاء رضوان الله. ولكن: لما كان هذا منهم غلوا في الدين، ومجاوزة الجزء: 9 ¦ الصفحة: 229 للحد الذي أمروا به، حتى كفروا معاوية رضي الله عنه، ومن معه من الصحابة، والتابعين، وكفروا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ومن معه من أفاضل الصحابة والتابعين، لما وافقهم في تحكيم الحكمين. ثم زعموا: أن تحكيم الرجال في دين الله كفر يخرج من الملة، وأنهم قد أثموا بذلك وكفروا، فتابوا من هذا الأمر، وقالوا لعلي إن تبت فنحن معك ومنك، وإن أبيت، فإنأ منابذوك على سواء. فإذا تبين لك: أن ما فعلوه إنما هو إحسان ظن بقرائهم، الذين غلوا في الدين، وتجاوزوا الحد في الأوامر والنواهي، وأساؤوا الظن بعلماء الصحابة، الذين هم أبر هذه الأمة قلوبا، وأعمقها علما، وأقلها تكلفا، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه، ولإظهار دينه. فلما لم يعرفوا لهم فضلهم، ولم يهتدوا بهديهم، ضلوا عن الصراط المستقيم، الذي كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وزعموا أنهم داهنوا في الدين، والذي حملهم على ذلك أخذهم بظواهر النصوص في الوعيد، ولم يهتدوا لمعانيها وما دلت عليه، فوضعوها في غير مواضعها، وسلكوا طريقة التشديد، والتعسير والضيق، وتركوا ما وسع الله لهم، من التيسير الذي أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: " إنما بعثتم ميسرين، ولم تبعثوا معسرين ". الجزء: 9 ¦ الصفحة: 230 ولهذا كان أمير المؤمنين: علي رضي الله عنه، يسيير فيهم بهذه الطريقة، ويناصحهم لله وفي الله، ويتلطف لهم في القول، لعل الله أن يقبل بقلوبهم، وأن يرجعوا إلى ما كانوا عليه أولا؛ ويراجعهم المرة بعد المرة، كما قاله في خطبته إياهم لما خطبهم، فقالوا: لا حكم إلا لله، يريدون بهذا إنكار المنكر، على زعمهم. فقال علي: الله أكبر، كلمة حق أريد بها باطل، أما إن لكم علينا ثلاثا، ما صحبتمونا: لا نمنعكم مساجد الله أن يذكر فيها اسمه، ولا نمنعكم الفيء ما دامت أيديكم مع أيدينا، ولا نقاتلكم حتى تبدؤونا، وإنا ننتظر فيكم أمر الله. ولما قيل له: يا أمير المؤمنين، أكفار هم؟ قال: من الكفر فروا؛ فقالوا: أفمنافقون هم؟ قال: إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلا، وهؤلاء يذكرون الله كثيرا؛ قالوا: فما هم؟ قال: إخواننا بغوا علينا. فهذه سيرته رضي الله عنه، مع هؤلاء المبتدعة الضلال، مع قوله لأصحابه: والله لولا أن تنكلوا عن العمل، لأخبرتكم بما قضى الله على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم لمن قاتلهم متبصرا في قتالهم، عارفا للحق الذي نحن عليه، ومع علمه بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم "ي مرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، ثم لا يرجعون إليه حتى يرجع السهم إلى فوقه " ومع قوله صلى الله عليه وسلم فيهم: " أينما لقيتموهم فاقتلوهم، لئن الجزء: 9 ¦ الصفحة: 231 أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد " مع كونهم من أكثر الناس عبادة وتهليلا، حتى إن الصحابة يحقرون أنفسهم عندهم، وهم إنما تعلموا العلم من الصحابة. فعلى من نصح نفسه، وأراد نجاتها: أن يعرف طريقة هؤلاء القوم، وأن يجتنبها، ولا يغتر بكثرة صلاتهم، وصيامهم وقراءتهم، وزهدهم في الدنيا، وأن يعرف سيرة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وما كانوا عليه من الهدى ودين الحق، الذي فضلوا به على من بعدهم، وعدم تكلفهم في الأقوال والأفعال، لعله أن يسلم من ورطات هؤلاء الضلال، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل، وصلى الله على محمد. [اقتتال طائفتين من المسلمين] سئل الشيخ: حمد بن ناصر بن معمر: إذ التقى فئتان من المسلمين، وقتل رجل من إحداهما، وعلم قاتله بعينه، ورضوا بالدية، فهل تكون على القاتل؟ أم تكون على جميع الطائفة؟ فأجاب: إذا اقتتلت طائفتان لعصبية أو رياسة، ونحو ذلك، فهما ظالمتان، وتضمن كل واحدة ما أتلفت على الأخرى، صرح بذلك في "الشرح الكبير"، و"الإنصاف"، و"الإقناع"، والشيخ تقي الدين في السياسة الشرعية. قال في "الإنصاف" - بعد قوله: وتضمن كل واحدة ما أتلفته على الأخرى -: وهذا بلا خلاف أعلمه، لكن قال الشيخ تقي الدين: إن جهل قدر ما نهبه كل طائفة تساقطا، كمن الجزء: 9 ¦ الصفحة: 232 جهل الحرام من ماله، أخرج نصفه، والباقي له. وقال أيضا: أوجب الأصحاب الضمان على مجموع الطائفة، إن لم يعلم عين المتلف; قال في الإقناع وشرحه: فلو دخل بينهم بصلح، وجهل قاتله، ضمناه; وإن علم قاتله من طائفة، وجهل عينه، ضمنته وحدها; قال ابن عقيل: ويفارق المقتول في زحام الجامع، والطواف، أن الزحام والطواف ليس فيه تعد، بخلاف الأول، انتهى. قال مالك في الموطأ في جماعة اقتتلوا، فانكشفوا وبينهم قتيل أو جريح، لا يدرى من فعل ذلك به، إن أحسن ما سمعه في ذلك العقل، وإن عقله على القوم الذين نازعوه؛ وإن كان القتيل والجريح من غير الفريقين، فعقله على الفريقين جميعا، انتهى. وقال في "الشرح الكبير": إذا اقتتلت الفئتان، فتفرقوا عن قتيل من إحداهما، فللوارث على الطائفة الأخرى الدية، ذكره القاضي، فإن كانوا بحيث لا يقتله سهام بعضهم بعضا، فللوارث على عاقلة القتيل، وهذا قول الشافعي. وروي عن أحمد: أن عقل القتيل على الذين نازعوهم، فيما إذا اقتتلت الفئتان، إلا أن يدعوا على واحد بعينه، وهذا قول مالك; وقال ابن أبي ليلى: عقله على الفريقين جميعا، لأنه يحتمل أنه مات من فعل أصحابه، فاستوى الجميع فيه; وعن أحمد في قوم اقتتلوا، فقتل الجزء: 9 ¦ الصفحة: 233 بعضهم وجرح بعض، فدية المقتولين على المجروحين، تقسط منها دية الجراح، انتهى. وقال في "الإنصاف" - بعد ما ذكر نص أحمد هذا - قال الإمام أحمد: قضى به علي، وحمله على من ليس به جرح، وهل عليهم من دية القتل شيء؟ فيه وجهان; قال ابن حامد: قلت الصواب على أنهم يشاركونهم في الدية، انتهى; فهذا كلام الفقهاء فيما إذا جهل عين القاتل. وأما إذا علم القاتل، ففيه تعلق الحكم به؛ فإن كان القتل عمدا، فأولياؤه يخيرون، إن شاءوا اقتصوا، وإن شاؤوا أخذوا الدية، فإن قبلوا الدية، فهو من مال القاتل دون العاقلة، ولا شيء على الطائفة التي هو منها، إلا أن يكونوا قطاع الطريق، لأنهم ردؤهم، وردؤهم ومباشرهم سواء. وكذا: إن تواطئوا على قتله، فقتله بعضهم وأعانه الآخرون، كالمسك مع القاتل عند مالك، وهو إحدى الروايتين عن أحمد، فتكون الدية على المباشر والمعين، لأنهم سواء عند الجمهور، ذكره الشيخ تقي الدين. وسئل أيضا، الشيخ حمد بن ناصر بن معمر، إذا اقتتلت طائفتان، وادعت إحداهما بالتعدي من الأخرى، وجاؤوا بالشهود، وادعى المشهود عليهم: بأن الشهود من الطائفة المقاتلة لهم، فهل ترد شهادتهم بذلك؟ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 234 فأجاب: ينظر في حال الشهود، فإن كانوا عدولا، وادعوا أنهم لم يحضروا القتال، ولم يدخلوا معهم، وعلم صدقهم بقرائن الحال، لم ترد شهادتهم بمجرد دعوى الخصوم، لأن الخصم إذا جرح الشاهد العدل، لا يقبل قوله فيه إلا ببينة; وأما إذا كان الشهود لا يعرفون بالعدالة، أو كانت القرائن تدل على أنهم حاضرون معهم، وأنهم من جملتهم، لم يقبلوا، ولم تسمع شهادتهم. ومن صور المسألة: ما جرى بين الوداعين، وأهل مرات، فإن الوداعين زعموا أن معهم البينة، على أنهم لم يبدؤوا بقتال، وإنما قتلوا دفعا عن أنفسهم، فلما سألنا عن شهودهم، إذا هم من جملتهم الذين غزوا، فقلنا لهم: هؤلاء من جملتكم، وعليهم من الدية بقدر نصيبهم منها، ولا تقبل شهادتهم، لأنهم يدفعون بها عن أنفسهم، والمسألة واضحة في كلام العلماء، لا تحتاج إلى نقل عبارات الفقهاء، والله أعلم. سئل بعضهم: ما معنى قوله تعالى: {فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [سورة التوبة آية: 7] ؟ فأجاب: إن هذه الآية نزلت في عهد المشركين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وغدرهم، ونقضهم لما عاهدوا عليه، وأعانوا عدوه، قال تعالى: {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ الاَّ الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 235 اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ} [سورة التوبة آية: 7] الآية. قال البغوي رحمه الله في تفسيره: هذا على وجه التعجب، ومعناه جحد، أي: لا يكون لهم عهد عند الله وعند رسوله، وهم يغدرون وينقضون العهد، ثم استثنى فقال جل وعلا: {الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [سورة التوبة آية: 7] . قال ابن عباس: هم قريش; وقال قتادة: هم أهل مكة الذين عاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية، قال الله تعالى: {فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ} [سورة التوبة آية: 7] أي على العهد {فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ} انتهى. ولا يجوز لأحد يقول: هذه الآية نزلت في حق الراعي والرعية، فإنه لم يقل بهذا أحد من أهل العلم وأئمة التفسير، بل هذا تفسير عبد برأيه وهواه، ومن قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار; فإن المسلم مأمور بالسمع والطاعة لولاة الأمور، ولو كانوا غير مستقيمين، إلا في معصية الله تعالى فلا سمع ولا طاعة لأحد. والأحاديث والآثار الدالة على ذلك أكثر من أن تحصر، وأشهر من أن تذكر، لكن تركنا ذكرها خشية الإطالة، ونحن في غاية الاستعجال مع تغير الحال وتشوش البال. والحاصل: فإن الأمراء إن استقاموا على الحق والعدل، فهو الواجب عليهم، وإن تركوا الاستقامة، فأدوا إليهم حقهم واسألوا الله حقكم، وفي الصبر على ما الجزء: 9 ¦ الصفحة: 236 تكره خيرا كثيرا؛ والكلام على هذا الباب يستدعي طولا وأبوابا وفصولا، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 237 فصل: [فصل في قتال من ترك التوحيد] ... [فصل في قتال من ترك التوحيد] فصل قال الشيخ: محمد بن عبد الوهاب، قدس الله روحه: اعلم وفقنا الله وإياك للإيمان بالله ورسوله: أن الله سبحانه قال في كتابه: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [سورة التوبة آية: 5] . فتأمل هذا الكلام: أن الله أمر بقتلهم وحصرهم، والقعود لهم كل مرصد، إلى أن يتوبوا من الشرك، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة; وأيضا: فقد قال صلى الله عليه وسلم " أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم، إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله تعالى " 1. فهذا كلام رسوله صلى الله عليه وسلم وقد أجمع العلماء عليه من كل مذهب، وخالف ذلك من هؤلاء الجهال، الذين يسمون العلماء، فقالوا: من قال لا إله إلا الله، فهو المسلم حرام الدم والمال، وقد بيّن النبي صلى الله عليه وسلم الإسلام في حديث جبريل - لما سأله عن الإسلام - فقال: " الإسلام أن تشهد أن لا إله   1 البخاري: الإيمان (25) , ومسلم: الإيمان (22) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 237 إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا " 1 فهذا تفسير رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهؤلاء يقولون: إن البدو إسلام، لأنهم يقولون: لا إله إلا الله. فمن سمع كلامهم، وسمع كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا بد له من أحد أمرين، إما أن يصدق الله ورسوله، ويتبرأ منهم ويكذبهم; وإما أن يصدقهم، ويكذب الله ورسوله، فنعوذ بالله من ذلك، والله أعلم. فتأمل أول أصول الدين: الأولى: أن الله أرسل الرسل، وأنزل الكتب، لبيان الحق من الباطل. الثانية: بيان ما اختلف فيه الناس. الثالثة: أن الواجب عليهم اتباع ما أنزل إليهم من ربهم. الرابعة: أن من لم يرفع به رأسا، فهو منافق جاهل. الخامسة: رد ما تنازعوا فيه إلى الكتاب والسنّة. السادسة: أن من اتبع الهدى الذي جاءت به الرسل، لا يضل ولا يشقى. السابعة: أن من أعرض عن ذلك، حشر أعمى، ضالا شقيا مبعدا. الثامنة: أن الذين في قلوبهم مرض، يتبعون ما تشابه منه. وقال أيضا الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى، الذين أقروا أن التوحيد أكبر كل كبير، واختلفوا هل نقاتل من لم يتركه، وإذا قال لا إله إلا الله وانتسب إلى الملة، فحكم الكتاب بينهم بقوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى   1 مسلم: الإيمان (8) , والترمذي: الإيمان (2610) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (4990) , وأبو داود: السنة (4695) , وابن ماجه: المقدمة (63) , وأحمد (1/27 ,1/51) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 238 لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [سورة الأنفال آية: 39] . وقال الله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [سورة التوبة آية: 5] الآية. سئل أبناء الشيخ، وحمد بن ناصر، عن المشرك إذا قال لا إله إلا الله حال الحرب؟ فأجابوا: هذا يحتاج إلى تفصيل، فإن كان المشرك لا يتلفظ بها في حال شركه وكفره، كحال المشركين الذين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا إذا قال: لا إله إلا الله، وجب الكف عنه، لأنها دليل على إسلامه وإقراره، لأن المشركين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم لا يقولونها، وإذا قالها أحدهم كانت دالة على إسلامه، وهذا معنى الأحاديث التي جاءت في الكف عمن قال: لا إله إلا الله، كحديث أبي هريرة المتفق عليه: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله عز وجل "1، وكذلك حديث أسامة، لما قتل الرجل في الحرب بعدما قال: لا إله إلا الله، فلما ذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنكر ذلك عليه، وقال: " أقتلته بعدما قال لا إله إلا الله؟ فقال يا رسول الله إنما قالها تعوذا "2، وفي رواية " إنما قالها خوفا من السلاح، فقال: أفلا شققت عن قلبه؟ " 3. قال العلماء: وفي ذلك أنزل الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا   1 الترمذي: تفسير القرآن (3341) , وأحمد (3/295 ,3/300 ,3/332 ,3/394) . 2 البخاري: المغازي (4269) , ومسلم: الإيمان (96) , وأحمد (5/200) . 3 مسلم: الإيمان (96) , وأبو داود: الجهاد (2643) , وأحمد (5/207) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 239 إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً} [سورة النساء آية: 94] الآية؛ فدلت الآية على أنه يجب الكف عن المشرك إذا أظهر الإسلام، ولو ظن أنه إنما قال ذلك خوفا من السيف؛ فإن تبين بعد ذلك أنه إنما أظهر الإسلام تعوذا، قتل، ولهذا قال تعالى: {فَتَبَيَّنُوا} والتبين هو: التثبت، والتأني، حتى يتبين حقيقة الأمر. وأما إذا كان المشرك يتلفظ بلا إله إلا الله، في حال كفره وردته، ويفعل من الأفعال ما يوجب كفره وأخذ ماله، فهذا يقتل ويباح دمه وماله، كما قال الصديق رضي الله عنه لعمر رضي الله عنه لما ارتدت العرب بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان فيهم طائفة يشهدون أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، ويصلون، ولكنهم منعوا الزكاة. فقال عمر لأبي بكر: "كيف تقاتل الناس؟ وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله ". فقال أبو بكر رضي الله عنه: "فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عناقا كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها، قال عمر: فما هو إلا أن رأيت الله شرح صدر أبي بكر للقتال، فعرفت أنه الحق ". فقاتلهم أبو بكر وسائر الجزء: 9 ¦ الصفحة: 240 الصحابة، مع كونهم يشهدون أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، ويصلون. وأجمع العلماء من أهل المذاهب على كفر من جحد ما هو معلوم من الدين بالضرورة، كالصلاة والصيام والحج وغير ذلك، وإن كان يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وذلك لأن الدين لا يجوز التفريق فيه، بأن يؤمن الإنسان ببعض ويكفر ببعض، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً} [سورة النساء آية: 150-151] . وقال تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [سورة الأنفال آية: 39] قال العلماء: كل طائفة امتنعت عن شريعة من شرائع الإسلام، تقاتل حتى يكون الدين كله لله؛ وهذا مجمع عليه بين العلماء من أهل المذاهب، والله أعلم. ولهم أيضا، رحمهم الله تعالى: وأما قولك: إن المسلمين إذا أمسكوا أحدا يشهد أن لا إله إلا الله، أنهم يقتلونه ويأسرونه، فجواب هذه المسألة، نظير الجواب في التي قبلها، ونحن نقول: لا إله إلا الله قول وعمل؛ فمن قال: لا إله إلا الله، ولم يعلم معناها، ولم الجزء: 9 ¦ الصفحة: 241 يعمل بمقتضاها، لم ينفعه ذلك؛ فإن المنافقين الذين في الدرك الأسفل من النار، يقولون: لا إله إلا الله، ولم ينفعهم ذلك. وكذلك بنو حنيفة، الذين قاتلهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقولون: لا إله إلا الله، ويؤذنون، ويصلون، وهم كفار بالإجماع. وقد أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يغزو بني المصطلق لما قيل له إنهم منعوا الزكاة، وهم يقولون: لا إله إلا الله، ويؤذنون ويصلون. وكذلك الصديق رضي الله عنه قاتل مانعي الزكاة، وهم يشهدون أن لا إله إلا الله، ويؤذنون، ويصلون. وكذلك عَلِيٌّ حرق الغالية، وهم يقولون: لا إله إلا الله، وكذلك الخوارج الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: " يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، وقراءته مع قراءتهم "، وأخبر أنهم شر قتيل تحت أديم السماء، وقاتلهم علي رضي الله عنه وهم يقولون: لا إله إلا الله، ويعملون أعمالا شاقة. وجماع الأمر: أنا نقول: لا إله إلا الله، قول، وعلم، وعمل; وقد ذكر الله ذلك في كتابه بالمعنى، كما قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ الاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 242 لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [سورة الزخرف آية: 26-28] . أي: إليها، والكلمة: لا إله إلا الله. وقال تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [سورة آل عمران آية: 64] وقال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ} [سورة محمد آية: 19] فمن أتى بها علما وعملا، لم نكفره ولم نقتله، والمسألة لها بسط طويل، ليس هذا موضعه. وقال أيضا الشيخ عبد الله بن الشيخ: وأما قولكم: إنه يحكى لنا أنكم تقتلون، ذا الشيبة، والمرأة، والصغير، ورسول الله صلى الله عليه وسلم أمر: أن لا يقتل من المشركين لا شيبة عاجز، ولا امرأة، ولا قاصر لم ينبت، فنقول: هذا كذب وزور، وبهتان علينا، فلا نأمر بقتل الشيخ الكبير من المشركين، ولا المرأة، ولا الصغير الذي لم ينبت؛ فإن كان أحد من جهال المسلمين، البعيد عنا، فعل شيئا من ذلك، فهو مخطئ مخالف لشرع الله ورسوله، ونحن نبرأ إلى الله من ذلك. وأجاب الشيخ حمد بن ناصر بن معمر بمثل ما تقدم 1.   1 أي في صفحة 240 - 242. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 243 وقال الإمام عبد العزيز بن محمد بن سعود; رحمهما الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد العزيز بن محمد، إلى الأخ في الله: محمد بن أحمد الحفظي، سلمه الله تعالى من الآفات، واستعمله بالباقيات الصالحات، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أما بعد: فإنا نحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، وهو للحمد أهل، وهو على كل شيء قدير، وأسأله أن يصلي على حبيبه من خلقه، وخيرته من بريته، محمد عليه أفضل الصلاة، وأزكى السلام والتحيات، ووصل الخط، أوصلك الله إلى رضوانه; وما أشرت إليه من النصيحة، صار عندنا معلوما جزاك الله عنا خيرا، ونسأله المعونة، والتوفيق والتسديد، في جميع الأحوال الظاهرة، والخفية. وما أشرت إليه في كتابك، من أن بعض القادمين علينا، يأخذون منا أوراقا، يريدون بها الجاه، والترفع على من بينه وبينهم ضغائن جاهلية، فأنت تفهم أن المملوك ليس له اطلاع على السرائر، وإنما عليه الأخذ بالظواهر، والله يتولى السرائر، ومن خدعنا بالله انخدعنا له. فإذا جاءنا من يقول: أنا أريد أن أبايعكم على دين الله ورسوله، وافقناه وبايعناه، وبينا له الدين الذي بعث الله به الجزء: 9 ¦ الصفحة: 244 رسوله صلى الله عليه وسلم، ونأمره بذلك، ونحضه على القيام به في بلده، ودعوة الناس إليه، وجهاد من خالفه، فإذا خالف ذلك وغدر، فالله حسيبه. وأما الطائفة الثانية: وهم الجنود المنتشرة للجهاد، فكثير منهم لا نشعر بهم، ولا نعرفهم، بل إذا دخل أهل بلد في الإسلام، وعاهدوا، ساروا إلى من حولهم، من غير تحقيق ومعرفة بما يقاتل الكفار عليه. وأما الجيوش والأجناد، الذين نجهزهم من الوادي، وأتباعهم، فنأمرهم بقتال كل من بلغته الدعوة، وأبى عن الدخول في الإسلام، والانقياد لتوحيد الله، وأوامره وفرائضه، واستمسك بما هو عليه من الشرك بالله، وترك الفرائض، والأحكام الجاهلية المخالفة لحكم الله ورسوله؛ ومثل هؤلاء لا يحتاجون إلى الدعوة، إذا كانت الدعوة قد بلغتهم قبل ذلك بسنين، وأبوا وأعرضوا عن دين الإسلام، وإخلاص العبادة لله. وقد أغار رسول الله صلى الله عليه وسلم على بني المصطلق وهم غارون، وأنعامهم ترعى، فسبى رسول الله صلى الله عليه وسلم النساء والذرية، والنعم والشاء، مع أن الدعوة قبل القتال مستحبة، ولو كانت الدعوة قد بلغتهم، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعلي ابن أبي طالب، حين بعثه لقتال أهل خيبر: " فادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى فيه، فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم "1.   1 البخاري: الجهاد والسير (2942) والمغازي (4210) , ومسلم: فضائل الصحابة (2406) , وأحمد (5/333) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 245 والسلام. وأجاب بعضهم: شرع الله الجهاد، وأمر بالقتال، وبين لنا الحكمة في ذلك، وموجبه، وما يحصل به الكف، قال سبحانه: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [سورة الأنفال آية: 39] ، قال المفسرون: الفتنة الشرك، والدين: اسم عام لكل ما بعث الله به محمدا صلى الله عليه وسلم وقال صلى الله عليه وسلم: " بعثت بالسيف بين يدي الساعة، حتى يعبد الله لا يشرك به شيء " 1، وقال: " أمرت أن أقاتل الناس، حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم، وأموالهم إلا بحقها " 2 وقد عمل بهذا أبو بكر، ووافقه الصحابة رضي الله عنهم، في قتال مانعي الزكاة؛ فدل الحديث، وعمل الصحابة، على أن من ترك شيئا من شرائع الدين الظاهرة، وكانوا طائفة مجتمعة على ذلك، أنهم يقاتلون. [موجب شرع الجهاد] قال شيخ الإسلام رحمه الله: كل طائفة ممتنعة عن شريعة من شرائع الإسلام، الظاهرة المعلومة، فإنه يجب قتالها; فلو قالوا: نشهد ولا نصلي، قوتلوا حتى يصلوا; ولو قالوا: نصلي ولا نزكي، قوتلوا حتى يزكوا; ولو قالوا: نزكي ولا نصوم، ولا نحج البيت، قوتلوا حتى يصوموا، ويحجوا البيت. فلو قالوا: نفعل هذا كله، لكن لا ندع الربا،   1 أحمد (2/50) . 2 البخاري: الإيمان (25) , ومسلم: الإيمان (22) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 246 ولا شرب الخمر، ولا الفواحش، ولا نجاهد في سبيل الله، ولا نضرب الجزية على اليهود والنصارى، ونحو ذلك، قوتلوا حتى يفعلوا ذلك، كما قال تعالى {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [سورة الأنفال آية: 39] . انتهى. فعلم: أن المقاتلين أنواع، منهم من يقاتل على الدخول في الإسلام، وهو الإقرار لله بالوحدانية، والاعتراف له بذلك، والعمل به، والشهادة لمحمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة، فهذا إذا التزم بذلك التزاما ظاهرا، كف عن قتاله على ذلك، ووكلت سريرته إلى الله، إلا إن قام به ناقض ينقض ما التزمه، وأظهر الناقض، وترك شريعة من شرائعه، كالصلاة، والزكاة، وغيرهما من الشرائع؛ فيجب على ولي الأمر، أن يقاتل هذا، وأن يبعث عماله على هذا المنوال، وما كان من نقص، فهو نقص في الراعي والرعية. نعم: النبي صلى الله عليه وسلم أمر معاذا أن يدعو إلى ثلاثة أركان: الشهادتين، والصلاة، والزكاة; وأخذ بهذا خلفاؤه رضي الله عنهم، لأن غالب عامة الناس، إنما خوطبوا بذلك؛ فالحاضرة المظهرة للإسلام في الظاهر، وكذا البادية، وإن صدر من آحادهم ما هو ناقض، كحال آحاد المنافقين زمن النبي صلى الله عليه وسلم. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 247 فقد يصدر من الحاضرة نوع استهزاء وغير ذلك، وقد يصدر من آحاد البادية نوع استهزاء، ونوع تحاكم إلى غير ما أنزل الله، لا سيما بادية الجنوب، وهؤلاء الآحاد، إذا أقروا بصدور ما هو ناقض، أمروا بالتوبة منه، وخوطبوا بالشرائع الظاهرة، فإن امتنعوا التزام ذلك، قوتلوا عليه حتى يلتزموه، ويؤدوه، وحسابهم على الله. وأما البلد التي يحكم عليها بأنها بلد كفر، فقال ابن مفلح: وكل دار غلب عليها أحكام المسلمين، فدار إسلام; وإن غلب عليها أحكام الكفر، فدار كفر؛ ولا دار غيرهما. وقال الشيخ تقي الدين، وسئل عن " ماردين"، هل هي دار حرب أو دار إسلام؟. قال: هي مركبة، فيها المعنيان، ليست بمنْزلة دار الإسلام التي تجري فيها أحكام الإسلام، لكون جنودها مسلمين، ولا بمنْزلة دار الحرب التي أهلها كفار؛ بل هي قسم ثالث، يعامل المسلم فيها بما يستحقه، ويعامل الخارج عن شريعة الإسلام بما يستحقه؛ والأولى هو الذي ذكره القاضي والأصحاب. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 248 سئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن، رحمه الله، عمن يقول: لا إله إلا الله، ويدعو غير الله، هل يحرم ماله ودمه، بمجرد قولها، أم لا؟ فأجاب: لا إله إلا الله كلمة الإخلاص، وكلمة التقوى، والعروة الوثقى، وهي الحنيفية ملة إبراهيم عليه السلام، جعلها كلمة باقية في عقبه; وقد تضمنت ثبوت الإلهية لله تعالى، ونفيها عما سواه، والإله هو الذي تألهه القلوب، محبة وإنابة وتوكلا، واستعانة ودعاء، وخوفا، ورجاء، ونحو ذلك. ومعنى لا إله إلا الله، أي: لا معبود حق إلا الله، قال الله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سورة الحج آية: 62] وقال جل ذكره: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ} [سورة الرعد آية: 14] . فدلت هذه الكلمة العظيمة مطابقة، على إخلاص العبادة بجميع أفرادها لله تعالى، ونفي كل معبود سواه، قال الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} [سورة الزخرف آية: 26-28] أي: لا إله إلا الله، فأرجع ضمير هذه الكلمة، إلى ما سبق من مدلولها، وهو قوله: {إِنَّنِي الجزء: 9 ¦ الصفحة: 249 بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي} [سورة الزخرف آية: 26-27] . وهذا هو الذي خلق الله الخلق لأجله، وافترضه على عباده، وأرسل الرسل، وأنزل الكتب لبيانه وتقريره، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [سورة الذاريات آية: 56] وقال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ} [سورة الإسراء آية: 23] الآية وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} [سورة الأنبياء آية: 25] وقال تعالى: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ} [سورة هود آية: 1-2] . وقال تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [سورة البقرة آية: 256] والطاغوت: كل ما تجاوز به العبد حده، من معبود أو متبوع أو مطاع، فمن تحقق بمدلول هذه الكلمة العظيمة، من إخلاص العبادة لله تعالى، والبراءة من عبادة ما سواه، بالجنان والأركان، وعمل بما اقتضته من فرائض الإسلام والإيمان، كان معصوم الدم والمال، ومن لا، فلا. قال الله تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [سورة التوبة آية: 5] فدلت هذه الآية الكريمة، على أن عصمة الدم والمال، لا تحصل بدون هذه الثلاث، لترتبها الجزء: 9 ¦ الصفحة: 250 عليها ترتب الجزاء على الشرط; وفي الصحيح عن أبي مالك الأشجعي، عن أبيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من قال لا إله إلا الله، وكفر بما يعبد من دون الله، حرم ماله ودمه، وحسابه على الله تعالى " 1. فلا بد لتصحيحها من الإخلاص لله تعالى، ونفي الشرك، كما قال تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} [سورة النساء آية: 36] وقال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا الاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [سورة البينة آية: 5] . وقال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ الاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [سورة الزمر آية: 2-3] . ثم شهد عليهم بالكذب والكفر، وأخبر أنه لا يهديهم، فقال: {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} [سورة الزمر آية: 3] وفي المتفق عليه، من حديث معاذ " فإن حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا " 2 فمن تأله قلبه غير الله، ودعاه من دون الله، فقد أشرك بالله، والله لا يغفر أن يشرك به، قال الله تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [سورة الأحقاف آية: 5] الآية وقال تعالى: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ ِإنْ تَدْعُوهُمْ   1 مسلم: الإيمان (23) , وأحمد (3/472 ,6/394) . 2 البخاري: الجهاد والسير (2856) , ومسلم: الإيمان (30) , والترمذي: الإيمان (2643) , وابن ماجه: الزهد (4296) , وأحمد (3/260 ,5/228 ,5/229 ,5/230 ,5/234 ,5/236 ,5/238 ,5/242) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 251 لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [سورة فاطر آية: 13-14] . وقال تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [سورة العنكبوت آية: 65-66] وفي المتفق عليه من حديث ابن مسعود، أنه " قيل: يا رسول الله: أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله ندا، وهو خلقك "1، وفي رواية لمسلم " أن تدعو لله ندا "2 الحديث. والله المستعان. سئل أبناء الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمهم الله تعالى: من لم تشمله دائرة إمامتكم، ويتسم بسمة دولتكم، هل داره دار كفر وحرب على العموم؟ فأجابوا: الذي نعتقده وندين الله به، أن من دان بالإسلام، وأطاع ربه فيما أمر، وانتهى عما نهى عنه وزجر، فهو المسلم حرام المال والدم، كما دل على ذلك الكتاب والسنة وإجماع الأمة، ولم نكفر أحدا دان بدين الإسلام، لكونه لم يدخل في دائرتنا، ولم يتسم بسمة دولتنا، بل لا نكفر إلا من كفر الله ورسوله، ومن زعم أنا نكفر الناس بالعموم، أو نوجب الهجرة إلينا على من قدر على إظهار دينه ببلده، فقد كذب وافترى.   1 البخاري: تفسير القرآن (4477 ,4761) والأدب (6001) والحدود (6811) والديات (6861) والتوحيد (7520 ,7532) , ومسلم: الإيمان (86) , والترمذي: تفسير القرآن (3182 ,3183) , والنسائي: تحريم الدم (4013 ,4014 ,4015) , وأبو داود: الطلاق (2310) , وأحمد (1/380 ,1/431 ,1/434 ,1/462 ,1/464) . 2 البخاري: تفسير القرآن (4477 ,4761) والأدب (6001) والحدود (6811) والديات (6861) والتوحيد (7520 ,7532) , ومسلم: الإيمان (86) , والترمذي: تفسير القرآن (3182 ,3183) , والنسائي: تحريم الدم (4013 ,4014 ,4015) , وأبو داود: الطلاق (2310) , وأحمد (1/380 ,1/431 ,1/434 ,1/462 ,1/464) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 252 وأما من بلغته دعوتنا إلى توحيد الله، والعمل بفرائض الله، وأبى أن يدخل في ذلك، وأقام على الشرك بالله، وترك فرائض الإسلام، فهذا نكفره ونقاتله، ونشن عليه الغارة، بل بداره; وكل من قاتلناه فقد بلغته دعوتنا، بل الذي نتحقق ونعتقده: أن أهل اليمن وتهامة، والحرمين والشام والعراق، قد بلغتهم دعوتنا، وتحققوا أنا نأمر بإخلاص العبادة لله، وننكر ما عليه أكثر الناس، من الإشراك بالله من دعاء غير الله، والاستغاثة بهم عند الشدائد، وسؤالهم قضاء الحاجات، وإغاثة اللهفات; وأنا نأمر بإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وسائر أمور الإسلام; وننهى عن الفحشاء والمنكرات، وسائر الأمور المبتدعات; ومثل هؤلاء لا تجب دعوتهم قبل القتال، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أغار على بني المصطلق وهم غارون، وغزا أهل مكة بلا إنذار ولا دعوة. وأما قوله صلى الله عليه وسلم لعلي يوم خيبر، لما أعطاه الراية، وقال: " انفذ على رسلك حتى تنْزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام "1، فهو عند أهل العلم على الاستحباب، وأما إذا قدرنا: أن أناسا لم تبلغهم دعوتنا، ولم يعلموا حقيقة أمرنا، فإن الواجب دعوتهم أولا قبل القتال، فيدعون إلى الإسلام، وتكشف شبهتهم إن كان لهم شبهة، فإن أجابوا فإنه يقبل منهم، ثم يكف عنهم، فإن أبوا حلت دماؤهم وأموالهم.   1 البخاري: الجهاد والسير (2942) والمغازي (4210) , ومسلم: فضائل الصحابة (2406) , وأحمد (5/333) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 253 سئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن: إذا كان في البلدة وثن يدعى من دون الله، ولم ينكر، هل يقال هذه بلدة كفر؟ أو بلدة إسلام؟ فأجاب: لا ينبغي الجزم بأحد الأمرين، لاحتمال أن يكون في البلد جماعة على الإسلام مظهرين ذلك، فإن هذه الدعوة التي ظهرت بنجد، ومكنها الله بالجزيرة، قد قبلها أناس، كما بلغنا عن الأفغان، والصومال، أن في كل منهما طائفة تدين بالتوحيد، وتظهره، وقد يكون غيرهم كذلك، لأن هذه الدعوة قد شاعت في كل بلاد، وقرؤوا مصنفات شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى، فيما أجاب من عارضه، وقد بلغنا من ذلك عن بعض أهل الأقاليم، ما يوجب التوقف. وأجاب الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين، رحمه الله: البلدة التي فيها شيء من مشاهد الشرك، والشرك فيها ظاهر، مع كونهم يشهدون أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، مع عدم القيام بحقيقتها، ويؤذنون، ويصلون الجمعة والجماعة، مع التقصير في ذلك، هل تسمى دار كفر، أو دار إسلام؟ فهذه المسألة: يؤخذ جوابها مما ذكره الفقهاء، في بلدة كل أهلها يهود، أو نصارى، أنهم إذا بذلوا الجزية، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 254 صارت بلادهم بلاد إسلام; وتسمى دار إسلام، فإذا كان أهل بلدة نصارى، يقولون في المسيح أنه الله، أو ابن الله، أو ثالث ثلاثة، أنهم إذا بذلوا الجزية سميت بلادهم بلاد إسلام، فبالأولى فيما أرى: أن البلاد التي سألتم عنها، وذكرتم حال أهلها، أولى بهذا الاسم، ومع هذا يقاتلون لإزالة مشاهد الشرك، والإقرار بالتوحيد والعمل به. بل لو أن طائفة امتنعت من شريعة من شرائع الإسلام، قوتلوا وإن لم يكونوا كفارا ولا مشركين، ودارهم دار إسلام; قال الشيخ تقي الدين: أجمع العلماء على أن كل طائفة امتنعت من شريعة من شرائع الإسلام الظاهرة، تقاتل حتى يكون الدين كله لله، كالمحاربين، وأولى; انتهى. وما ذكرناه عن العلماء من أنهم يسمون البلدة التي أهلها يهود، أو نصارى، دار إسلام، يذكرون ذلك في باب اللقيط وغيره. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 255 [قتل المشرك الحربي] سئل الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن، عن قتل المشرك الحربي.. إلخ. فأجاب: لا يمنع المسلم من قتل المشرك الحربي، ولو كان جارا للمسلم، أو معه في الطريق، إلا إذا أعطاه ذمة، أو أمنه أحد من المسلمين، ففي الحديث: " ذمة المسلمين واحدة، يسعى بها أدناهم ". وقال الشيخ: حمد بن عتيق، رحمه الله تعالى، لبعض إخوانه: وما ذكرت من فقد الإخوان، فهو وصمة على الدين والإيمان، ويدل على أن ما أخبر به الصادق المصدوق قد آن، وقد قال صلى الله عليه وسلم: " إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من الناس، وإنما يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالم، اتخذ الناس رؤساء جهالا، فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا " 1. وقال صلى الله عليه وسلم: " لا تقوم الساعة حتى يرفع العلم، ويوضع الجهل " 2 في أحاديث كثيرة في هذا المعنى؛ وقد وقع كما أخبر به الصادق المصدوق. وبعد ذلك: بلغني ما ساءني، وعسى أن يكون كذبا، وهو: أنك تنكر على من اشترى من أموال أهل الأحساء، التي تؤخذ منهم قهرا؛ فإن كان صدقا فلا أدري ما عرض لك؛ والذي عندنا أنه لا ينكر مثل هذا، إلا من يعتقد معتقد   1 البخاري: العلم (100) , ومسلم: العلم (2673) , والترمذي: العلم (2652) , وابن ماجه: المقدمة (52) , وأحمد (2/162 ,2/190 ,2/203) , والدارمي: المقدمة (239) . 2 البخاري: العلم (80) والحدود (6808) , ومسلم: العلم (2671) , والترمذي: الفتن (2205) , وابن ماجه: الفتن (4045) , وأحمد (3/98) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 256 أهل الضلال، القائلين أن من قال: لا إله إلا الله لا يكفر، وأن ما عليه أكثر الخلق من فعل الشرك وتوابعه، والرضى بذلك، وعدم إنكاره، لا يخرج من الإسلام. وبذلك عارضوا الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، في أصل هذه الدعوة، ومن له مشاركة فيما قرره المحققون، قد اطلع على أن البلد، إذا ظهر فيها الشرك، وأعلنت فيها المحرمات، وعطلت فيها معالم الدين، أنها تكون بلاد كفر، تغنم أموال أهلها، وتستباح دماؤهم، وقد زاد أهل هذه البلد، بإظهار المسبة لله ولدينه، ووضعوا قوانين ينفذونها في الرعية، مخالفة لكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وقد علمت أن هذه كافية وحدها، في إخراج من أتى بها من الإسلام. هذا ونحن نقول: قد يوجد فيها من لا يحكم بكفره في الباطن، من مستضعف ونحوه; وأما في الظاهر فالأمر - ولله الحمد - واضح، ويكفيك ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم في أهل مكة، مع أن فيهم مستضعفين، وكذلك ما فعله أصحابه بكثير ممن ارتد عن الإسلام، من استباحة الدم والمال والعرض، وكل عاقل وعالم يعلم أن ما أتى به هؤلاء من الكفر والردة، أقبح وأفحش وأكثر مما فعله أولئك. فارجع النظر في نصوص الكتاب والسنّة، وفي سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، تجدها بيضاء نقية، لا يزيغ عنها إلا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 257 هالك، ثم فيما ذكر العلماء، وارغب إلى الله في هداية القلب، وإزالة الشبهة، وما كنت أظن أن هذا يصدر من مثلك، ولا يغتر بما عليه الجهال، وما يقوله أهل الشبهات. فإنه قد بلغني: أن بعض الناس، يقول: في الأحساء من هو مظهر دينه، لا يرد عن المساجد والصلاة، وأن هذا عندهم هو إظهار الدين; وهذه زلة فاحشة، غايتها: أن أهل بغداد، وأهل مَنْبَجْ، وأهل مصر، قد أظهر من هو عندهم دينه، فإنهم لا يمنعون من صلى، ولا يردون عن المساجد. فيا عباد الله: أين عقولكم؟ فإن النِّزاع بيننا وبين هؤلاء، ليس هو في الصلاة; وإنما هو في تقرير التوحيد، والأمر به، وتقبيح الشرك، والنهي عنه، والتصريح بذلك، كما قال إمام الدعوة النجدية: أصل دين الإسلام وقاعدته أمران: الأول: الأمر بعبادة الله وحده لا شريك له، والتحريض على ذلك، والموالاة فيه، وتكفير من تركه. الأمر الثاني: الإنذار عن الشرك في عبادة الله وحده لا شريك له، والتغليظ في ذلك، والمعاداة فيه، وتكفير من فعله; هذا هو إظهار الدين، يا عبد الله بن حسين. فتأمل أرشدك الله: مثل قوله تعالى، في السور المكية {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} [سورة الكافرون آية: 1-2] إلى آخر السورة، فهل وصل إلى قلبك: أن الله أمره أن يخاطبهم، بأنهم كافرون، وأخبر بأنه لا يعبد ما يعبدون، أي أنه بريء الجزء: 9 ¦ الصفحة: 258 من دينهم، ويخبرهم أنهم لا يعبدون ما يعبد، أي أنهم بريئون من التوحيد، ولهذا ختمها بقوله: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [سورة الكافرون آية: 6] فهنا يتضمن براءته من دينهم، وبراءتهم من دينه. وتأمل قوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [سورة يونس آية: 104-105] فهل سمعت الله يأمر نبيه أن يقول لهم: إني بريء من دينهم؟ وأنه أمره أن يكون من المؤمنين الذين هم أعداؤهم؟ ونهاه أن يكون من المشركين، الذين هم أولياؤهم وحزبهم؟. وفي القرآن آيات كثيرة، مثل ما ذكر الله عن خليله، والذين معه {إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [سورة الممتحنة آية: 4] الآية فأمرنا الله بالتأسي بهم قولا وفعلا، وقصدي أنبهك خوفا من المواخاة على غير طائل في الدين، أعاذنا الله وإياك من مضلات الفتن. [بلاد الكفر وبلاد الإسلام] وقال أيضا: رحمه الله، لمن ناظره في أهل مكة {سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا الاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [سورة البقرة آية: 32] جرت المذاكرة في كون مكة بلد كفر، أم بلد إسلام; فنقول وبالله التوفيق: قد بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم بالتوحيد الذي هو دين جميع الرسل، وحقيقته هو مضمون الجزء: 9 ¦ الصفحة: 259 شهادة أن لا إله إلا الله، وهو أن يكون الله معبود الخلائق فلا يتعبدون لغيره بنوع من أنواع العبادة; ومخ العبادة هو الدعاء، ومنها الخوف والرجاء، والتوكل والإنابة، والفزع، والصلاة، وأنواع العبادة كثير، وهذا الأصل العظيم، الذي هو شرط في صحة كل عمل. والأصل الثاني: هو طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم في أمره، وتحكيمه في دقيق الأمور وجليلها، وتعظيم شرعه ودينه، والإذعان لأحكامه في أصول الدين وفروعه. فالأول: ينافي الشرك، ولا يصح مع وجوده. والثاني: ينافي البدع، ولا يستقيم مع حدوثها; فإذا تحقق وجود هذين الأصلين، علما وعملا ودعوة، وكان هذا دين أهل البلد، أي بلد كان، بأن عملوا به، ودعوا إليه، وكانوا أولياء لمن دان به، ومُعادين لمن خالفه، فهم موحدون. وأما إذا كان الشرك فاشيا، مثل دعاء الكعبة والمقام والحطيم، ودعاء الأنبياء والصالحين، وإفشاء توابع الشرك، مثل الزنى والربا، وأنواع الظلم، ونبذت السنة وراء الظهر، وفشت البدع والضلالات، وصار التحاكم إلى الأئمة الظلمة، ونواب المشركين، وصارت الدعوة إلى غير القرآن والسنة، وصار هذا معلوما في أي بلد كان، فلا يشك من له أدنى علم: أن هذه البلاد، محكوم عليها بأنها بلاد كفر، وشرك; لا سيما إذا كانوا معادين لأهل التوحيد، وساعين في الجزء: 9 ¦ الصفحة: 260 إزالة دينهم، ومعينين في تخريب بلاد الإسلام; وإذا أردت إقامة الدليل على ذلك، وجدت القرآن كله فيه، وقد أجمع عليه العلماء، فهو معلوم بالضرورة عند كل عالم. وأما قول القائل: ما ذكرتم من الشرك، إنما هو من أفقية لا من أهل البلد; فيقال: أوّلاً: هذه إما مكابرة، أو عدم علم بالواقع، فمن المقرر: أن أهل الآفاق تبع لأهل تلك البلاد، في دعاء الكعبة والمقام والحطيم، كما يسمعه كل سامع، ويعرفه كل موحد. ويقال ثانيا: إذا تقرر، وصار هذا معلوما، فذلك كاف في المسألة، ومن الذي فرق في ذلك؟! فيالله العجب، إذا كنتم تخفون توحيدكم في بلادهم، ولا تقدرون أن تصرحوا بدينكم، وتخافتون بصلاتكم، لأنكم علمتم عداوتهم لهذا الدين، وبغضهم لمن دان به، فكيف يقع لعاقل إشكال؟ أرأيتم لو قال رجل منكم لمن يدعو الكعبة، أو المقام، أو الحطيم، أو يدعو الرسول، أو الصحابة: يا هذا لا تدع غير الله! أو أنت مشرك، هل تراهم يسامحونه؟ أم يكيدونه؟ فليعلم المجادل أنهم ليسوا على توحيد الله; فوالله ما عرف التوحيد، ولا تحقق بدين الرسول صلى الله عليه وسلم. أرأيت لو أن رجلا عندهم، وقال: يا هؤلاء راجعوا دينكم، واهدموا البنايات التي على القبور، ولا يحل دعاء الجزء: 9 ¦ الصفحة: 261 غير الله، هل يكفيهم فيه فعل قريش بمحمد صلى الله عليه وسلم؟ لا والله لا والله; وإذا كانت الدار دار إسلام، لأي شيء لم تدعوهم إلى الإسلام؟ وتأمروهم بهدم القباب، واجتناب الشرك وتوابعه؟ فإن يكن قد غركم أنهم يصلون، أو يحجون، فتأملوا الأمر من أوله; وهو: أن التوحيد قد تقرر في مكة، بدعوة إسماعيل بن إبراهيم الخليل، عليهما السلام، ومكث أهل مكة عليه مدة من الزمان، ثم إنه فشا فيهم الشرك، بسبب عمرو بن لحي، فصاروا مشركين، وصارت البلاد بلاد شرك، مع أنه قد بقي معهم أشياء من الدين، كما كانوا يحجون، ويتصدقون على الحاج. وقد بلغكم شعر عبد المطلب، الذي أخلص فيه في قصة الفيل، وغير ذلك من البقايا، ولم يمنع ذلك الزمان من تكفيرهم وعداوتهم، بل الظاهر عندنا وعند غيرنا: أن شركهم اليوم أعظم من ذلك الزمان، بل قبل هذا كله، أنه مكث أهل الأرض عشرة قرون على التوحيد، حتى حدث فيهم الغلو في الصالحين، فدعوهم مع الله فكفروا، فبعث الله إليهم نوحا عليه السلام، يدعوهم إلى التوحيد; فتأمل ما قص الله عنهم; وكذلك ما ذكر الله عن هود: أنه دعاهم إلى إخلاص العبادة لله، لأنهم لم ينازعوه في أصل العبادة، وكذلك إبراهيم، دعا قومه إلى إخلاص التوحيد; وإلا فقد أقروا لله بالإلهية. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 262 وجماع الأمر: أنه إذا ظهر في بلد دعاء غير الله وتوابع ذلك، واستمر أهلها عليه، وقاتلوا عليه، وتقررت عندهم عداوة أهل التوحيد، وأبوا عن الانقياد للدين، فكيف لا يحكم عليها بأنها بلد كفر؟ ولو كانوا لا ينتسبون لأهل الكفر، وأنهم منهم بريئون; من أهل مكة أو غيرهم، مع مسبتهم لأهل التوحيد، وتخطيئتهم لمن دان به، والحكم عليهم بأنهم خوارج أو كفار، فكيف إذا كانت هذه الأشياء كلها موجودة؟ فهذه مسألة عامة. وأما القضايا الجزئية، فنقول: قد دل القرآن والسنّة، على أن المسلم إذا حصلت منه موالاة أهل الشرك، والانقياد لهم، ارتد بذلك عن دينه، تأمل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ} [سورة محمد آية: 25] مع قوله: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [سورة المائدة آية: 51] وأمعن النظر في قوله تعالى: {فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ} [سورة النساء آية: 140] وأدلته كثيرة. ولا تنس ما ذكر الله، في سورة التوبة {لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [سورة التوبة آية: 66] وقوله: {وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ} [سورة التوبة آية: 74] واذكر قوله: {وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 263 مُسْلِمُونَ} [سورة آل عمران آية: 80] . وتأمل قوله تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا} [سورة الحج آية: 72] وقد علمت حالهم، إذا دعوا إلى التوحيد، انقهروا، والله أعلم. [الآيات الدالة على عبادة الله وحده] وقال الإمام: سعود بن عبد العزيز بن محمد بن سعود، رحمهم الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم وعليه أتوكل ولا قوة إلا بالله. {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمّىً عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ الاَّ كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَاراً وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا الاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ} [سورة الأنعام آية: 1-7] . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 264 وقال تعالى: (بسم الله الرحمن الرحيم) ، {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَيَاةً وَلا نُشُوراً} [سورة الفرقان آية: 1-3] . وقال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً فَهُمْ عَلَى بَيِّنَتٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً الاَّ غُرُوراً} [سورة فاطر آية: 40] وقال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [سورة الأحقاف آية: 4-6] . وقال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [سورة العنكبوت آية: 41-42] وقال تعالى الجزء: 9 ¦ الصفحة: 265 حكاية عن يوسف عليه السلام: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ الاَّ أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ الاَّ لِلَّهِ أَمَرَ الاَّ تَعْبُدُوا الاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [سورة يوسف آية: 39-40] . وقال تعالى مثلا لمن دعا غيره: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ الاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ الاَّ فِي ضَلال} [سورة الرعد آية: 14] وقال تعالى: {ٍقُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ الاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سورة سبأ آية: 22-23] . وقال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [سورة سبأ آية: 40-41] . وقال تعالى: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 266 يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ} [سورة المائدة آية: 116] . وقال تعالى: {يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُ وَمَا لا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ} [سورة الحج آية: 12-13] . وقال تعالى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [سورة المؤمنون آية: 117] وقال تعالى: {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الاَّ إِنَاثاً وَإِنْ يَدْعُونَ الاَّ شَيْطَاناً مَرِيداً لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً} [سورة النساء آية: 117-118] وقال تعالى: {ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين، وأن عبدوني هذا صراط مستقيم، ولقد أضل منكم جبلا كثيرا أفلم تكونوا تعقلون} [سورة يس آية: 60-62] . وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [سورة النساء آية: 48] وقال تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [سورة المائدة آية: 72] وقال تعالى: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [سورة الحج آية: 31] وقال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 267 لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [سورة النور آية: 39-40] . وقال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ} [سورة إبراهيم آية: 18] وقال تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} [سورة الفرقان آية: 23] وأمثال هذا في القرآن كثير، كل ذلك في النهي عن الشرك وتقبيحه، وبيان بطلانه; والتبرؤ منه واجب قبل التوحيد. وهو معنى قوله تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [سورة البقرة آية: 256] وهو معنى قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [سورة الذاريات آية: 56] وقال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} [سورة الجن آية: 18] وقال تعالى: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ} [سورة الرعد آية: 14] وقال تعالى: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 268 خَبِيرٍ} [سورة فاطر آية: 35-36] . وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [سورة النحل آية: 36] . وقال تعالى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} [سورة الزخرف آية: 45] وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} [سورة الأنبياء آية: 25] وقال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} [سورة الإسراء آية: 23] وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [سورة البقرة آية: 21] وقال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [سورة البينة آية: 5] . وقال تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [سورة التوبة آية: 31] وقال تعالى: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [سورة غافر آية: 14] وقال تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [سورة محمد آية: 19] وأكثر القرآن يدل على هذا، ويقرر عبادة الله وحده لا شريك له، ويحذر من عبادة ما سواه. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 269 والعبادة: هي أفعال العباد، وهي اعتقاد بالقلب، ونطق باللسان، وعمل بالأركان، فمن صرف من ذلك شيئا لغير الله فهو مشرك، سواء كان عابدا أو فاسقا، وسواء كان مقصوده صالحا أو فاسدا، ولا يعمي عن هذا إلا طاعة الشيطان، واتباع الهوى، والتكبر عن اتباع الحق، والمجادلة بالباطل، كما قال تعالى: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} [سورة النجم آية: 23] وقال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [سورة القصص آية: 50] . وقال تعالى لعبده داود عليه السلام: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} [سورة ص آية: 26ب] وقال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [سورة الأنعام آية: 153] . وقال تعالى حكاية عن المشركين: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [سورة الزخرف آية: 23] وفي الآية الأخرى: {قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} [سورة الشعراء آية: 74] وقال تعالى: {مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُوا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 270 فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ} [سورة غافر آية: 4] . إلى قوله: {وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ} [سورة غافر آية: 5-6] . وقال تعالى: {وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} [سورة الشورى آية: 16] وقال تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [سورة لقمان آية: 7] وقال تعالى: {وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئاً اتَّخَذَهَا هُزُواً أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئاً وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ هَذَا هُدىً وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ} [سورة الجاثية آية: 9-11] . وقال تعالى في حق القرآن: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمىً أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} [سورة فصلت آية: 44] وقال تعالى: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ} [سورة البقرة آية: 26] وقال تعالى: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [سورة الزمر آية: 45] وقال تعالى {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 271 عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً} : [سورة الجن آية: 19-21] . وقال تعالى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [سورة طه آية: 123-124] . والهدى الذي وعد الله به خلقه: محمد صلى الله عليه وسلم والقرآن. والآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، ما تحصى ولا تعد. فمن ذلك: أنه صلى الله عليه وسلم أخذ عشر سنين، وبعض الحادية، قبل أن تفرض الفرائض: يدعو الناس إلى توحيد الله وعبادته، وترك عبادة ما سواه، يوافي الناس بالمواسم صلى الله عليه وسلم بعكاظ، وذي المجاز، ومجنة، يقول: " يا أيها الناس، قولوا: لا إله إلا الله، كلمة تملكون بها العرب، وتدين لكم بها العجم، وتكونون بها ملوكا في الجنة " فلما قال لعمه أبي طالب، حين حضرته الوفاة " يا عم قل لا إله إلا الله "، قال أبو جهل، وعبد الله ابن أبي أمية: أترغب عن ملة عبد المطلب؟ ولما قال لقومه: " قولوا لا إله إلا الله " 1 قالوا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [سورة ص آية: 5] فعرف كفار قريش: أن قول لا إله إلا الله، ليس مجرد اللفظ، وإنما   1 الترمذي: تفسير القرآن (3232) , وأحمد (1/227) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 272 معناها نفي الإلهية عما سوى الله، وإثباتها لله تعالى وحده لا شريك له; فلا خير فيمن كفار قريش، أعلم منه بمعنى لا إله إلا الله. وفي الحديث: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة " 1 وفي الحديث الثاني: " أمرت أن أقاتل الناس، حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله عز وجل " 2 قال أبو بكر رضي الله عنه: "فإن الزكاة من حقها، والله لو منعوني عقالا، وفي رواية عناقا، كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, لقاتلتهم على منعها ". وفي الحديث الثالث: " أُمرت أن أقاتل الناس، حتى يقولوا: لا إله إلا الله، ويؤمنوا بي وبما جئت به "3، وفي الحديث أنه قال صلى الله عليه وسلم " بعثت بالسيف بين يدي الساعة، حتى يعبد الله وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذل والصغار على من خالف أمري، ومن تشبه بقوم فهو منهم " 4. وفي الحديث أيضا: " حين سأله جبرائيل عليه السلام، بحضرة الصحابة رضوان الله عليهم، قال: يا محمد: أخبرني عن الإسلام؟ قال: أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان،   1 البخاري: الزكاة (1400) واستتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم (6924) والاعتصام بالكتاب والسنة (7285) , ومسلم: الإيمان (20 ,21) , والترمذي: الإيمان (2607) , والنسائي: الجهاد (3094) , وأبو داود: الزكاة (1556) , وابن ماجه: المقدمة (71) والفتن (3927) , وأحمد (1/11 ,1/19 ,2/377 ,2/423 ,2/502 ,2/528) . 2 الترمذي: تفسير القرآن (3341) , وأحمد (3/295 ,3/300 ,3/332 ,3/394) . 3 مسلم: الإيمان (21) . 4 أحمد (2/92) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 273 وتحج البيت. قال: صدقت; قال: فأخبرني عن الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، وباليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره قال: صدقت، قال: فأخبرني عن الإحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك " إلى آخر الحديث: " فلما ولَّى، قال لعمر: أتدري من السائل؟ قال: الله ورسوله أعلم، قال: هذا جبرائيل أتاكم يعلمكم أمر دينكم ". ومن ذلك: مما يرد قولكم، ويبطل أعمالكم، قوله صلى الله عليه وسلم: " كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد "1، وفي الحديث الآخر: " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد " 2 وفي الحديث أنه قال صلى الله عليه وسلم: " افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على ثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة. قالوا" وما هي يا رسول الله؟ قال: من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي ". وقال صلى الله عليه وسلم: " إذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم "3 قال الله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [سورة آل عمران آية: 31] وقال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [سورة النساء آية: 80] وقال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [سورة الحشر آية: 7] .   1 البخاري: الصلح (2697) , ومسلم: الأقضية (1718) , وأبو داود: السنة (4606) , وابن ماجه: المقدمة (14) , وأحمد (6/73 ,6/146 ,6/180 ,6/240 ,6/256 ,6/270) . 2 البخاري: الصلح (2697) , ومسلم: الأقضية (1718) , وأبو داود: السنة (4606) , وابن ماجه: المقدمة (14) , وأحمد (6/240 ,6/270) . 3 البخاري: الاعتصام بالكتاب والسنة (7288) , ومسلم: الحج (1337) , وابن ماجه: المقدمة (1 ,2) , وأحمد (2/258 ,2/313 ,2/428) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 274 وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة " 1. فالناصح لنفسه، الطالب نجاتها، المتبع للحق، يأخذ دينه من أصله، من كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الأِسْلامُ} [سورة آل عمران آية: 19ب] {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [سورة آل عمران آية: 85] وهذا كتاب الله بين أيديكم، وتفاسيره موجودة، وأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك، وشروح العلماء الربانيين، وما فسروا به القرآن، والأحاديث. والقول الذي لا حقيقة له، لا يجدي على قائله شيئا، فدعواك أنك على حق، فمعاذ الله، ووعودك باطلة، ومن أكذب الكذب، وكل من له عقل صحيح، يشهد ببطلان قولك، وافترائك، وكذبك; فإن قلت: إن الله أمر بعبادة غيره، أو أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بها، فهذا عين الباطل، وأكذب الكذب، الذي ترده الفطرة، وكتاب الله وسنة رسوله. وإن قلت: إنكم لم تعبدوا غير الله، ولم ترضوا بذلك، ولم تأمروا به الناس، فأفعالكم تبطل أقوالكم ظاهرا وباطنا، فإذا كان هذه الحضرات الباطلة، والمشاهد الملعونة، والبنايات على القبور، وصرف حق الله تعالى   1 أبو داود: السنة (4607) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 275 لها، من دعاء وذبح ونذر، وخوف ورجاء، وسؤال ما لا يسأل إلا من الله تعالى، والصلاة عندها، والتمسح بها، والهدايا إليها، وما أشبه ذلك من الأمور الشنيعة القبيحة، كل ذلك موجود عندكم ظاهرا، والذي لم يفعل ذلك فهو راض بفعله، وذاب عن أهله بالمال واللسان واليد. وكذلك الصلوات الخمس متروكة، وكثير من الناس عندكم لم يصلوا جمعة ولا جماعة، ولا منفردين، والذي يصلي منكم، الكثير منهم يصلي في بيته منفردا، والذي يصلي جماعة قليل الناس، فإذا صلى خرج على الناس وهم في الأسواق، تاركين الصلاة، مقيمين على الفسوق، واللهو، والفجور، والبغي، ولا ينكر عليهم. وكذلك الزكاة متروكة، لا تخرج من الأموال، ولا تخرص الثمار، ولا يعمل فيها عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تجبي زكاتها، ولا تصرف في مصارفها التي صرفها الله من فوق سبع سماوات، كما قال صلى الله عليه وسلم " إن الله لم يرض في الزكاة بقسم نبي ولا غيره، بل جزأها بنفسه، وتولى قسمها، بقوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [سورة التوبة آية: 60] ". وجميع أعمال البر غير الفرائض، لم تكن لكم شعارا، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 276 ولم تأمروا بها، وجميع القبائح عندكم ظاهرة، وهي سجية كثيركم، الشرك بالله، والزنا، واللواط فعل قوم لوط، أهل المؤتفكات، الذين قال الله فيهم: {وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى} [سورة النجم آية: 53-54] نعوذ بالله العظيم وبوجهه الكريم، من سخطه وعقابه. وكذلك الربا والسحر، والادعاء يعني ادعاء علم المغيبات، وجميع الآثام، كالخمر وأنواعه من المسكر، كالتنباك وأشباهه، والبغي والظلم والعدوان، وأخذ أموال الضعفاء والفقراء، وأرباب الأموال، وأهل الحرث، تأخذون أموالهم قهرا وظلما وعدوانا، وأشباه ذلك مما يطول عده، ويكثر ذكره، كل ذلك وأمثاله عندكم لم تنكروه. والذي يدعي أنه لم يفعل من ذلك شيئا، فهو كما قدمنا لم ينكر، ولم يفارق أهله، بل هو قائم بنصرتهم بماله ولسانه، فهو وإن لم يفعل ذلك، فهو وهم سواء، كما قال تعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ} [سورة النساء آية: 140] . وقال تعالى: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الأِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} [سورة المجادلة آية: 22] الآية وقال تعالى: {وَلا تَرْكَنُوا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 277 إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ} [سورة هود آية: 113] . وفي الحديث: " أنا بريء من مسلم بين ظهراني المشركين " 1 وفي الحديث الثاني: " لا تراءى ناراهما " 2 وها أنتم تعوفون فعلكم، وتعرفون ما عندكم من الشرك والقبائح، وتعرفون أنفسكم، كما قال تعالى: {بَلِ الأِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ} [سورة القيامة آية: 14-15] . وإن قلت أيها المبطل: إن الذي أنتم عليه، هو الذي أمر الله به ورسوله، فقد كذبت وافتريت على الله ورسوله، وكابرت بالكفر والضلال، ونسبت إلى الله ما لا يليق به، ونسبت إلى رسوله صلى الله عليه وسلم ما لا يليق بحقه، ويكذبك في ذلك كتاب الله، وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم وإجماع سلف الأمة وخلفها، كما قال تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكَافِرِينَ} [سورة الزمر آية: 32] . واعتمدت في ذلك على قول إخوانك الكفرة، الذين من قبلك، بما ذكر الله عنهم في كتابه، بقوله تعالى: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ   1 الترمذي: السير (1604) , والنسائي: القسامة (4780) , وأبو داود: الجهاد (2645) . 2 الترمذي: السير (1604) , وأبو داود: الجهاد (2645) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 278 الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} [سورة الأعراف آية: 28-29] . وقوله: {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} [سورة الأعراف آية: 30] . وذهبت إلى ما ذهب إليه أخوك فرعون، حيث قال لما دعاه موسى عليه السلام، قال لقومه: {مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ} [سورة غافر آية: 29] فزعم عدو الله أنه وأعظ مذكر، قبحه الله من واعظ ومذكر. وذهبت إلى ما ذهب إليه أخوك أبو جهل، حين قنت على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " اللهم أقطعنا للرحم، وآتانا بما لا نعرفه، فأحنه الغداة " 1 قال الله تعالى: {إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ} [سورة الأنفال آية: 19] فأحانه الله الغداة، ولله الحمد والمنة، وطأ على رقبته عبد الله بن مسعود رضي الله عنه في المعركة، وقال عدو الله: لمن الدائرة اليوم؟ فقال: " لله ورسوله، يا عدو الله، جعلك الله كذلك"; ونقول: جعلك الله كذلك، إن شاء الله تعالى. وأما إنكارك: علينا تحليق الرؤوس، وتقول: إنا نحرم إسبال الشعر، ولم تلق علينا غير ذلك; فنقول: إنك كاذب علينا، ولا نقول إنه حرام إسبال الشعر، ونعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضوان الله عليهم، يسبلون الشعر؛ وها أنتم تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بحلق الشوارب، وإرخاء اللحى، وخالفتموه، حلقتم اللحى، وعقدتم الشوارب، وشابهتم النصارى في ذلك.   1 أحمد (5/431) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 279 فإن كنت تزعم أن كل من حلق رأسه خارجي، فانظر في رعاياك، وتراك ما تلقى في بغداد إلا محلوقا رأسه، وربما أنك محلوق رأسك. فالذي نفعل ولا ننكر: أنه لما رزقنا الله الإسلام، وقام القتال بيننا وبين أعدائنا، وقع مقاتلة عظيمة ومعركة، واختلط المسلمون والكفار، فحاذر المسلمون على بعضهم من بعض، وكثير منهم اختار التحليق، وبعض منهم ما يحبون الشعر، والشعر إما يحسَّن أو يحلق، ومن شاء التحليق حلق; ومن شاء الإسبال أسبل، ولم نمنع أحدا من ذلك; وأما الذي يسبل الشعر، ويجعله وسيلة إلى الكفر والردة، فنحلق رأسه غما له، وإخلافا لعقيدته الفاسدة، إذا ظننا به الشر. وأما ما ذكرت: إنا نقتل الكفار، فهذا أمر ما نتعذر عنه، ولم نستخف فيه، ونزيد في ذلك إن شاء الله، ونوصي به أبناءنا من بعدنا، وأبناؤنا يوصون به أبناءهم من بعدهم، كما قال الصحابي: على الجهاد ما بقينا أبدا. ونرغم أنوف الكفار، ونسفك دماءهم، ونغنم أموالهم بحول الله وقوته، ونفعل ذلك اتباعا لا ابتداعا، طاعة لله ولرسوله، وقربة نتقرب بها إلى الله تعالى، ونرجو بها جزيل الثواب، بقوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 280 الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [سورة التوبة آية: 5] . وقوله: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [سورة الأنفال آية: 40] وقوله تعالى: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ} [سورة محمد آية: 4] الآية وقوله: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ} [سورة التوبة آية: 14] الآية. ونرغب فيما عند الله من جزيل الثواب، حيث قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [سورة التوبة آية: 111] وقال تعالى: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [سورة الصف آية: 10-11] والآيات والأحاديث ما تحصى في الجهاد، والترغيب فيه. ولا لنا دأب إلا الجهاد، ولا لنا مأكل إلا من أموال الجزء: 9 ¦ الصفحة: 281 الكفار، فيكون عندكم معلوما: أن الدين مبناه وقواعده، على أصل العبادة لله وحده لا شريك له، ومتابعة رسوله صلى الله عليه وسلم باطنا وظاهرا، كما قال تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} [سورة الكهف آية: 110] . وأما ما ذكرت من مسكننا في أوطان مسيلمة الكذاب، فالأماكن لا تقدس أحدا، ولا تكفره، وأحب البقاع إلى الله وأشرفها عنده مكة، خرج منها رسول الله صلى الله عليه وسلم وبقي فيها إخوانك أبو جهل، وأبو لهب، ولم يكونوا مسلمين. والله جل ثناؤه جرت عادته بالمداولة، ولو في الأرض، بدّل دين مسيلمة بدين محمد صلى الله عليه وسلم وبدّل تصديق مسيلمة بتكذيبه، وتصديق محمد صلى الله عليه وسلم، ونحن نرجو أن الله يبدّل ذلك في أوطانكم سريعا، ونحن نزيل منها الباطل، ونثبت فيها الحق، إن شاء الله بحول الله وقوته. وأما ما ذكرتم أنكم مشيتم على الأحساء، فنقول: الحمد لله على ذلك الممشى، فإنه ولله الحمد والمنة، هتك أستاركم به، ونزع به مهابتكم من قلوب المسلمين، وأخزاكم الله به الخزي العظيم الظاهر والباطن، الذي ما عليه مزيد، وقبله الممشى الذي أخذت به مدافعكم، وقتلت فيه عساكركم، يهلكون في كل منهل، ولكن كما قال تعالى: {وَمَا تُغْنِي الآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ} [سورة يونس آية: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 282 101] . وقال تعالى: {وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} [سورة الرعد آية: 31] . فلما أتيتم الأحساء، وارتد معكم أهلها، ولم يبق إلا قصران من المسلمين، في كل واحد منهما خمسون رجلا، فيهم أطراف الناس، ما يعرفون من المسلمين، وأعجزكم الله تبارك وتعالى عنهم، وكدتموهم بكل كيد تقدرون عليه، مع وجه الأرض وباطنها، ونحن في ذلك نجمع لكم الجموع، ولا لنا همة غير ذلك، فلما تهيأنا للهجوم عليكم، ولم يبق بيننا وبينكم إلا مسيرة خمس مراحل، قذف الله الرعب في قلوبكم، ووليتم هاربين منهزمين، لا يلوي أحد على أحد، وأشعلتم النار في علف حصنكم، وثقل حملكم وخيامكم، كما قال تعالى: {يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ} [سورة الحشر آية: 2] . فلما علمنا بانهزامكم مدبرين، أخذنا لوجهكم طالبين، ورجع من المسلمين قريب ثلثي العسكر، لما عرفوا أن الله أوقع بكم بأسه، ولحقناكم، وأتيناكم من عند وجوهكم، ونوخنا مناخ سوء لكم، ورجونا أن الله قد أمكننا منكم، وأن يمنحنا أكتافكم، ويورثنا أرضكم ودياركم. فلما حل بكم العطب، وضاقت عليكم الأرض بما رحبت، واستسلمتم لزهوق نفوسكم، توسلتم بابن ثامر، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 283 وأمرته يبدي لنا الرقة والوجاهة، جاءنا، ثم جاءنا ركبك، وكتابك، وتوجهك، وجنحنا لقوله تعالى: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [سورة الأنفال آية: 61] وأنت في تلك الساعة متحير برهانك، ضائع رأيك، تتأكى في وسط الناس على المراغة، وتقول: أحطكم في جحر عيني، ولح علينا حمود بن ثامر، ومحمد بيك، بالوجاهة ; وفي حال الحرب وأنت متق عنا بالعربان، جاعلهم بيننا وبينك، ولا خير فيمن جعل الأعراب ذراه. وقولك: إنا أخذنا كربلاء، وذبحنا أهلها، وأخذنا أموالها، فالحمد لله رب العالمين، ولا نتعذر من ذلك، ونقول: {وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا} [سورة محمد آية: 10] . وقولك: إنك طلبتنا أنت وباشتك، فالكذب عيب في أمر الدين والدنيا، قال تعالى: {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [سورة النحل آية: 105] . وجميع الناس يفهمون: أنا لما نزلنا الأخيضر فوق القصر، على ثغبان، أقمنا بها سوق الحراج، على أموال الكفرة عبدة الأوثان، وأقمنا إحدى عشرة ليلة على منْزل واحد، وركابنا كلها عزيب ليست عندنا، وربما عندك من العربان من هو معنا في ذلك المنْزل، اسألهم يخبرونك إن كنت لا تدري. ونحن ننتظركم في تلك المدة أنكم تظهرون علينا، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 284 ونكر عليكم، ونستأصل عساكركم، ونتغلب على بلدانكم، فلما أيسنا منكم، وفرغ المسلمون من بيع ما أفاء الله عليهم، رحلنا بالعز والسلامة، والمغنم والأجر إن شاء الله تعالى. ثم بعد ذلك مشينا ونزلنا على بلدك البصرة، وأقمنا بها عشرة أيام، وذبحنا ودمرنا ما بلغك علمه. والممشى الثالث: نحرناك في رأس الهندية، فلم نجدك، وقدمنا إلى المشهد، قواسة يقوسون حفره، فلما قصر الخشب، رجعنا ونزلنا الهندية، وقعدت جموع المسلمين حتى وصلت قريبا من خان ذبلة، وكل من لقوه وضعوا عليه السيف، ومن خان ذبلة إلى البصرة، أقمنا بها قريبا من عشرين ليلة، نأخذ ونقتل من رعاياك الحاضر والبادي، والأثر يدل على المؤثر; انظر ديارك الفلاحين والبوادي، من بغداد إلى البصرة، كم دمرت من الديار، ولم يبق فيها أثر - ولله الحمد والمنة - كل جميع هذه الجهة. وما ذكرت من جهة الحرمين الشريفين، الحمد لله على فضله وكرمه، حمدا كثيرا كما ينبغي أن يحمد، وعز جلاله، لما كان أهل الحرمين آبين عن الإسلام، وممتنعين عن الانقياد لأمر الله ورسوله، ومقيمين على مثل ما أنت عليه اليوم من الشرك والضلال والفساد، وجب علينا الجهاد بحمد الله فيما يزيل ذلك عن حرم الله وحرم رسوله صلى الله عليه وسلم من غير استحلال لحرمتهما. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 285 ونحن - ولله الحمد - أهل احترام لحرمه وتعظيمه، لا أنتم، كما قال الله تعالى: {وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [سورة الأنفال آية: 34] . فلما ضاق بهم الحال، وقطعنا عليهم السبل، ثم بعد ذلك فاؤوا ورجعوا، وانقادوا إلى أمر الله ورسوله، وأذعنوا للإسلام وأقروا به، وهدمنا الأوثان، وأثبتنا فيها عبادة الرحمن، وأقمنا فيها الفرائض، ونفينا عنها كل قبيح مما حرم الله ورسوله، ولم نكن - ولله الحمد - نسفك فيها دما، ولا نأخذ مالا، ولا ننفر منها صيدا، ولا نعضد شجرا. فإذا كنت تزعم أنها من ولايتك، فما منعك أن تفك ولايتك، أو تنفع أهلها بِميْرة حين ضاق بهم الحال، بل كنت إلى الآن لم تؤد فريضة حجك، وأرجو أن تموت على ملتك النصرانية، وتكون من خنازير النار، إن شاء الله. وما ذكرت من افتخارك أنك وزير بغداد، فنعوذ بالله من هذه الوزارة، بل تحملت وزرك، وأوزار من اتبعك، كما قال تعالى {وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [سورة النحل آية: 25] . وإنما افتخر بمثل ذلك أخوك فرعون، بقوله: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ} [سورة الزخرف آية: 51] إلى قوله: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 286 فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِلآخِرِينَ} [سورة هود آية: 99] . فلما ولاك الله رعيتك، فما بالك لم تتولها بخير؟ بل توليتها بشر; فعلت بهم من الظلم، وسفك الدماء والعدوان، ما لا يوصف، ولا يفعله من يؤمن بالله واليوم الآخر، وخنت في أمانتك التي استأمنك عليها سيدك سليمان باشا، الذي اشتراك من حر ماله، وجمعك أنت رابع أربعة، حين حضرته الوفاة، يوصيكم على عياله، وأخذ عليكم العهد والميثاق، وخنت بالعهد، وذبحت الثلاثة، ونفيت عيال سيدك من مملكتهم، وتوليت أموالهم. والعجب كل العجب من رعيتك، الذين يزعمون أنهم أهل ذكاء وفطنة، يرضون أنهم يولون عليهم رجلا، أصله نصراني على غير ملتهم، وفرعه مملوك، وهذا أعظم ما دلنا على ذهابهم إن شاء الله، وتدمير أمرهم بحول الله وقوته. فإن أردت النجاة وسلام الملك، فأنا أدعوك إلى الإسلام، كما قال صلى الله عليه وسلم لهرقل ملك الروم " أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين " و {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً الجزء: 9 ¦ الصفحة: 287 مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [سورة آل عمران آية: 64] وقوله: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [سورة غافر آية: 14] وقوله: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [سورة التوبة آية: 33] . [المهادنة والمسابلة على غير الإسلام أمر محال] وأما المهادنة: والمسابلة على غير الإسلام، فهذا أمر محال بحول الله وقوته، وأنت تفهم أن هذا أمر طلبتموه منا مرة بعد مرة، وأرسلتم لنا عبد العزيز القديمي، ثم أرسلتم لنا عبد العزيز بيك وطلبتم المهادنة والمسابلة، وبذلتم الجزية، وفرضتم على أنفسكم كل سنة، ثلاثين ألف مثقال ذهبا، فلم نقبل ذلك منكم، ولم نجبكم للمهادنة. فإن قبلتم الإسلام فخيرتها لكم وهو مطلوبنا، وإن أبيتم فنقول لكم، كما قال الله تعالى: {وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [سورة البقرة آية: 137] ونقول: {حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [سورة آل عمران آية: 173] ونقول: يا {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [سورة الفاتحة آية: 3] ونقول: {جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} [سورة الإسراء آية: 81] ونقول: {قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ} [سورة سبأ آية: 49] ونقول كما قال الله الجزء: 9 ¦ الصفحة: 288 لنبيه صلى الله عليه وسلم {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [سورة التوبة آية: 129] . وما ذكرته من المواعدة، فالزمط ليس للرجال، ونشيم أنفسنا عن الزمط والكذب، ومتى وصلنا الله وصلناكم عن قريب إن شاء الله تعالى، فإذا سمعت ضرب المدافع والبارود، ورأيت الحريق في بلدانك إن شاء الله، فلا تذخر، وصلى الله على محمد، وآله وصحبه وسلم. [ما يوجب الجهاد] وقال بعضهم، رحمهم الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق، ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، صلى الله عليه، وعلى آله وأصحابه، الذين هم بهديه متمسكون. أما بعد: فإنه قد بلغني أن بعض الناس قد أشكل عليه جهاد المسلمين لأهل حايل، هل هو شرعي أم لا؟ فأقول وبالله التوفيق: الجهاد مشروع لأحد أمور: منها: الخروج عن طاعة ولي أمر المسلمين، فمن خرج عن الجزء: 9 ¦ الصفحة: 289 طاعته، وجب جهاده على جميع الأمة، ولو كان الخارج مسلما، كما " جاهد علي بن أبي طالب رضي الله عنه الخوارج، وهو يعتقد إسلامهم; فإنه سئل عن كفرهم، فقال: من الكفر فروا; " وقال مرة أخرى لما سئل عنهم: "إخواننا بغوا علينا". والدليل على هذا قوله صلى الله عليه وسلم " من أتاكم وأمركم جميع على رجل، يريد أن يشق عصاكم، ويفرق جماعتكم، فاضربوا عنقه كائنا من كان " 1. وما زال الأئمة في كل زمان ومكان، يجاهدون من خرج عن طاعة إمام المسلمين، والعلماء يجاهدون معهم ويحضونهم على ذلك، ويصنفون التصانيف في فضل ذلك، وفي فضل من قام فيه، لا يشك أحد منهم في ذلك، إلا أن يأمر الإمام بمعصية الله، فلا تحل طاعته لأحد، بل تحرم طاعة مخلوق في معصية الخالق. وأهل حائل أمرهم الإمام بالدخول في الطاعة، ولزوم السنّة والجماعة، ومنابذة أهل الشرك، وعداوتهم وتكفيرهم، فأبوا ذلك وتبرؤوا منه; والإمام يقول - من أول الأمر إلى يومنا هذا - لهم الشريعة، مقدمة بيني وبينكم، نمشي على ما حكمت به، على العين والرأس، فلم يقبلوا ولم ينقادوا، فوجب قتالهم على جميع المسلمين، لخروجهم عن الطاعة، حتى يلتزموا ما أمرهم به الإمام من طاعة الله تعالى.   1 مسلم: الإمارة (1852) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 290 الأمر الثاني: مما يوجب الجهاد لمن اتصف به: عدم تكفير المشركين، أو الشك في كفرهم، فإن ذلك من نواقض الإسلام ومبطلاته، فمن اتصف به فقد كفر، وحل دمه وماله، ووجب قتاله حتى يكفر المشركين، والدليل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:" من قال لا إله إلا الله، وكفر بما يعبد من دون الله، حرم ماله ودمه "1،علق عصمة المال والدم بأمرين: الأمر الأول: قول: لا إله إلا الله;. الثاني: الكفر بما يعبد من دون الله. فلا يعصم دم العبد وماله، حتى يأتي بهذين الأمرين: الأول: قوله: لا إله إلا الله، والمراد معناها لا مجرد لفظها، ومعناها هو توحيد الله بجميع أنواع العبادة. الأمر الثاني: الكفر بما يعبد من دون الله، والمراد بذلك تكفير المشركين، والبراءة منهم، ومما يعبدون مع الله. فمن لم يكفر المشركين من الدولة التركية، وعباد القبور، كأهل مكة وغيرهم، ممن عبد الصالحين، وعدل عن توحيد الله إلى الشرك، وبدّل سنّة رسوله صلى الله عليه وسلم بالبدع، فهو كافر مثلهم، وإن كان يكره دينهم، ويبغضهم، ويحب الإسلام والمسلمين ; فإن الذي لا يكفر المشركين، غير مصدق بالقرآن، فإن القرآن قد كفر المشركين، وأمر بتكفيرهم، وعداوتهم وقتالهم. قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله في   1 مسلم: الإيمان (23) , وأحمد (3/472 ,6/394) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 291 نواقض الإسلام: الثالث: من لم يكفر المشركين، أو شك في كفرهم، أو صحح مذهبهم، كفر; وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: من دعا علي بن أبي طالب، فقد كفر، ومن شك في كفره، فقد كفر. الأمر الثالث: مما يوجب الجهاد لمن اتصف به: ظاهرة المشركين، وإعانتهم على المسلمين، بيد أو بلسان أو بقلب أو بمال، فهذا كفر مخرج من الإسلام، فمن أعان المشركين على المسلمين، وأمد المشركين من ماله، بما يستعينون به على حرب المسلمين اختيارا منه، فقد كفر. قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب، في نواقض الإسلام: لثامن: مظاهرة المشركين، ومعاونتهم على المسلمين، والدليل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [سورة المائدة آية: 51] فمن اتصف بشيء من هذه الصفات، مما ينقض الإسلام، أو منع شيئا من شعائر الإسلام الظاهرة، أو امتنع عن أداء شريعة من شرائع الإسلام الظاهرة، فإنه يجاهد حتى يقر بذلك ويلتزمه. وبهذا يتبين لك: أن جهاد أهل حائل، من أفضل الجهاد، ولكن لا يرى ذلك إلا أهل البصائر، وأما من لا بصيرة عنده، فهو لا يرى الجهاد إلا لأهل الأوثان خاصة، وأما من أقر بالشهادتين، فلا يرى جهاده، بل ذلك قد أشكل الجزء: 9 ¦ الصفحة: 292 على من هو أجل من أهل زماننا، كما قال عمر رضي الله عنه لأبي بكر الصديق رضي الله عنه: " كيف تقاتل الناس؟ وقد قال صلى الله عليه وسلم أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم، إلا بحقها فقال أبو بكر رضي الله عنه إن الزكاة من حقها، والله لو منعوني عناقا كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، لقاتلتهم على منعها " 1. فدل هذا على أن من منع حقا من حقوق الإسلام، أنه يجب جهاده، وأنه من أفضل الأعمال، وأن الذي يرى ذلك حقا هو من أبصر الناس، فيحمد الله على ذلك، والدليل على أنه من أبصر الناس، قصة أبي بكر مع عمر رضي الله عنهما، فإنه فهم أن قتالهم حق، وقد أقروا بالشهادتين، وتركوا الشرك ; وعمر رضي الله عنه لم يفهم ذلك، حتى بين له أبو بكر رضي الله عنه. وكان العلماء رحمهم الله يعدون فهم أبي بكر لهذا من فضائله، وهذا كاف لمن قصده الحق، وأما من أعمى قلبه الهوى عن الهدى، فلا حيلة فيه، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وهو حسبنا ونعم الوكيل، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم. [الاستعانة بالمشرك] وتقدم قول الشيخ عبد اللطيف رحمه الله في شبهة من   1 الترمذي: تفسير القرآن (3341) , وأحمد (3/295 ,3/300 ,3/332 ,3/394) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 293 قال بالاستعانة بالمشرك عند الضرورة، والتتمة في ذلك 1. وقال في موضع آخر: وما ذكرت من استعانته بابن أريقط، فهذا اللفظ ظاهر في مشاقة قوله في حديث عائشة: " إنا لا نستعين بمشرك " 2 وابن أريقط أجير مستخدم، لا معين مكرم; وكذلك قولك: إن شيخ الإسلام استعان بأهل مصر والشام، وهم حينئذ كفار، وهلة عظيمة وزلة ذميمة، كيف والإسلام إذ ذاك يعلو أمره، ويقدم أهله؟ ويهدّ ما حدث من أماكن الضلال، وأوثان الجاهلية، ويظهر التوحيد، ويقرر في المساجد والمدارس؟ وشيخ الإسلام نفسه يسميها بلاد إسلام، وسلاطينهم سلاطين إسلام، ويستنصر بهم على التتر والنصيرية ونحوهم، كل هذا مستفيض في كلامه، وكلام أمثاله; وما يحصل من بعض العامة والجهال، إذا صار الغلبة لغيرهم، لا يحكم به على البلاد وأهلها. وأما مسألة: الاستنصار، فمسألة خلافية، والصحيح الذي عليه المحققون، منع ذلك مطلقا، وحجتهم حديث عائشة، وهو متفق عليه، وحديث عبد الرحمن بن عوف، وهو حديث صحيح مرفوع، اطلبهما تجدهما فيما عندك من النصوص، والقائل بالجواز احتج بمرسل الزهري، وقد   1 أي: في صفحة: 373 و374/ج/8. 2 مسلم: الجهاد والسير (1817) , والترمذي: السير (1558) , وأبو داود: الجهاد (2732) , وابن ماجه: الجهاد (2832) , وأحمد (6/67 ,6/148) , والدارمي: السير (2496) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 294 عرفت ما في المراسيل، إذا عارضت كتابا أو سنّة. ثم القائل به قد شرط أن يكون فيه نصح للمسلمين، ونفع لهم، وأن لا يكون للمشركين صولة ودولة يخشى منها، وأن لا يكون له دخل في رأي ولا مشورة، كل هذا ذكره الفقهاء، وشراح الحديث، ونقله في شرح المنتقى، وضعف مرسل الزهري جدا، وكل هذا في قتال المشرك للمشرك مع أهل الإسلام. وأما استنصار المسلم بالمشرك على الباغي، فلم يقل بهذا إلا من شذ، واعتمد القياس، ولم ينظر إلى مناط الحكم، والجامع بين الأصل وفرعه، ومن هجم على مثل هذه الأقوال الشاذة، واعتمدها في نقله وفتواه، فقد تتبع الرخص، ونبذ الأصل المقرر عند سلف الأمة وأئمتها، المستفاد من حديث الحسن، وحديث النعمان، وما أحسن ما قيل: والعلم ليس بنافع أربابه ما ... لم يفد نظرا وحسن تبصر قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن، رحمهما الله في أثناء كلام له: فلو وفق الإمام للاهتمام بالدين، واختار من كل جنس أتقاهم، وأحبهم، وأقربهم إلى الخير، لقام بهم الدين والعدل; فإذا أشكل عليه كلام الناس، رجع إلى قوله صلى الله عليه وسلم: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 295 " دع ما يريبك إلى ما لا يريبك "1. فإذا ارتاب من رجل، هل كان يحب ما يحبه الله، نظر في أولئك القوم، وسأل أهل الدين: من تعلمونه أمثل القبيلة، أو الجماعة في الدين، وأولاهم بولاية الدين والدنيا؟ فإذا أرشدوه إلى من كان يصلح في ذلك، قدمه فيهم، ويستعين عليه بأن يسأل عنهم من لا يخفاه أحوالهم، من أهل المحلة وغيرها، فلو حصل ذلك لثبت الدين، وبثباته يثبت الملك. وباستعمال أهل النفاق والخيانة والظلم، يزول الملك، ويضعف الدين، ويسود القبيلة شرارها، ويصير على ولاة الأمر كفعل من فعل ذلك; فالسعيد من وعظ بغيره، وبما جرى له وعليه، وأهل الدين هم أوتاد البلاد ورواسيها، فإذا قلعت وكسرت، مادت وتقلبت، كما قال العلامة ابن القيم: ولكن رواسيها وأوتادها هم. قال الشيخ: عبد الله بن الشيخ محمد، رحمهما الله، ومما نحن عليه: أنا لا نرى سبي العرب، ولم نفعله، ولم نقاتل غيرهم، ولا نرى قتل النساء والصبيان. وسئل أيضا: هو، والشيخ حسين، وإبراهيم وعلي، عن السبي؟ فأجابوا: أما سبي مشركي العرب، فاختلف العلماء في ذلك: فبعضهم لا يرى سبي مشركي العرب جائزا، وبعضهم   1 الترمذي: صفة القيامة والرقائق والورع (2518) , والنسائي: الأشربة (5711) , وأحمد (1/200) , والدارمي: البيوع (2532) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 296 يرى جواز ذلك، وهو الصواب الذي تدل عليه الأحاديث الصحيحة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكما ثبت ذلك، من فعله صلى الله عليه وسلم في سبي هوازن، وغيرهم. [الغل من الغنيمة] وقال أيضا: ابنا الشيخ محمد، وحمد بن ناصر بن معمر، رحمهم الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله، وعلي، وحمد، إلى من يراه من المسلمين، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: قال الله تعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [سورة الذاريات آية: 55] ، فالمؤمن إذا ذكر تذكر، وإذا وُعظ انتفع بالموعظة، وعمل بمقتضاها، وأميركم جزاه الله خيرا: نصحكم، ووعظكم، وأبدى وأعاد، ومع ذلك لم ينتفع بالموعظة إلا القليل، والله تعالى قد ذكر عن الكفار، أنهم لا ينتفعون بالذكر، قال تعالى: {وَإِذَا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ} [سورة الصافات آية: 13] ومن سمع المواعظ ولم ينتفع بها، فقد شابه الكفار في بعض أحوالهم، وذلك دليل على عدم معرفة الله وخشيته، لأن المؤمن إذا ذكر انتفع، كما قال تعالى: {سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى} [سورة الأعلى آية: 10] . والغلول: قد عظم الله أمره، وأخبر في كتابه: أن صاحب الغلول، يأتي به يوم القيامة، قال تعالى: {وَمَنْ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 297 يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [سورة آل عمران آية: 161] . وجاءت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتغليظ الشديد، والوعيد الأكيد، على من غل شيئا من المغنم، قليلا كان أو كثيرا. ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، فذكر الغلول وعظمه، وعظم أمره، ثم قال: لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة، وعلى رقبته بعير له رغاء، يقول: يا رسول الله أغثني، فأقول لا أملك لك من الله شيئا، قد بلغتك; لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة، على رقبته فرس له حمحمة، فيقول: يا رسول الله أغثني، فأقول: لا أملك لك من الله شيئا، قد بلغتك ; لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة، على رقبته شاة لها ثغاء، فيقول يا رسول الله أغثني، فأقول: لا أملك لك من الله شيئا قد بلغتك، لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة، على رقبته نفس لها صياح، فيقول: يا رسول الله أغثني، فأقول: لا أملك لك من الله شيئا قد بلغتك; لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة، على رقبته رقاع تخفق، يقول، يا رسول الله أغثني، فأقول: لا أملك لك من الله شيئا قد بلغتك; لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة، على رقبته صامت، فيقول: يا رسول الله أغثني، فأقول: لا أملك لك من الله شيئا قد بلغتك " وعن عبد الله بن بريدة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن الجزء: 9 ¦ الصفحة: 298 الحجر يرمى به في جهنم فيهوي سبعين خريفا ما يبلغ قعرها، ويؤتى بالغلول فيقذف معه، ثم يقال لمن غل ائت به، فذلك قوله: {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} ". وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين صدر من حنين: " أدوا الخيط والمخيط، فإن الغلول عار وشنار على أهله يوم القيامة " 1. وعن أبي هريرة، قال: " خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خيبر، ففتح الله عليه، ثم انطلقنا إلى الوادي- يعني وادي القرى - ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد له، فلما نزلنا قام يحل من رحله، فرمي بسهم كان فيه حتفه، فقلنا هنيئا له الشهادة، يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كلا والذي نفس محمد بيده، إن الشملة لتلتهب عليه نارا، التي أخذها من المغانم يوم خيبر، لم تصبها المقاسم. قال: ففزع الناس، فجاء رجل بشراك أو شراكين، فقال: أصبته يوم خيبر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: شراك أو شراكان من نار " 2. وعن أبي حازم، قال: " أتي النبي صلى الله عليه وسلم بنطع من الغنيمة، فقيل: يا رسول الله، هذا لك تستظل به من الشمس، فقال: أتحبون أن يستظل نبيكم بظل من نار "، وعن عبد الله بن عمرو، قال: "كان على ثقل النبي صلى الله عليه وسلم رجل يقال له: "كركرة" فمات، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هو في النار. فذهبوا ينظرون إليه، فوجدوا عباءة قد غلها "3. فالأحاديث في النهي عن   1 ابن ماجه: الجهاد (2850) . 2 البخاري: المغازي (4234) , ومسلم: الإيمان (115) , والنسائي: الأيمان والنذور (3827) , وأبو داود: الجهاد (2711) , ومالك: الجهاد (997) . 3 البخاري: الجهاد والسير (3074) , وابن ماجه: الجهاد (2849) , وأحمد (2/160) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 299 الغلول، والتشديد على من فعله، كثيرة جدا. فاتقوا الله عباد الله، وتعاونوا على البر والتقوى، وتناصحوا فيما بينكم، واذكروا زوال الدنيا وسرعة انقضائها; وليحذر الناصح لنفسه، أن يلقى الله وقد غذي جسمه بالحرام; ففي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم " أيما لحم نبت على السحت، كانت النار أولى به " 1 والله سبحانه فرض على عباده الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وذم من لا يفعل ذلك، فقال تعالى: {كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [سورة المائدة آية: 79] . فمن علم عند أحد شيئا من المغنم، فلينصحه وليأمره بأدائه، فإن لم يفعل فليرفع حاله إلى الأمير، فإذا سكت عن الغال، كان شريكا له في الإثم، ففي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من كتم غالًّا فإنه مثله "2. ولا عذر لأحد - ولله الحمد - في ترك الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر; والغلول قد فشا في الناس واشتهر؛ والمعصية إذا خفيت صار وبالها على من فعلها، فإذا ظهرت ولم تنكر ضرت العامة؛ نعوذ بالله وإياكم من زوال نعمه، وحلول نقمه. والله تعالى - وله الحمد - قد أعطاكم ما تحبون، وصرف عنكم ما تكرهون، فكونوا ممن يحدث عند النعم شكرا، فإن الله وعد الشاكرين المزيد من فضله، فقال تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ   1 الترمذي: الجمعة (614) . 2 أبو داود: الجهاد (2716) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 300 عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [سورة إبراهيم آية: 7] . والمعاصي سبب لتغيير النعم، كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [سورة الرعد آية: 11] وكثير من الناس، يتأول في الغنيمة تأويلات فاسدة، منها استرخاص الإمام، أو طلبه منها، ويظن أن الإمام إذا رخص له، أو طلبه فأعطاه، أن الغنيمة تحل له بذلك والأمير لا يحلل الحرام وربما يجوز للإمام أن يعطي، ولا تحل العطية لمن أخذها، فقد جاء في الحديث الصحيح، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إني لأعطي الرجل العطية، فيخرج بها يتأبط بها نارا " أو كما قال. والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، فرض على من قدر عليه من جميع الرعية؛ وهو في حق الإمام أعظم، فلا يجوز للإمام ترك الإنكار على أحد من المسلمين، بل يجب عليه القيام في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، على القريب والبعيد، ويؤدب الغال بما يردعه وأمثاله، عن الغلول من أموال المسلمين. وقد روى أبو داود، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إذا وجدتم الرجل قد غل، فاحرقوا متاعه واضربوه "1، وعن عمرو بن شعيب، قال: " إذا وجد عند الرجل الغلول، أخذ وجلد مائة جلدة، وحلق رأسه ولحيته، وأخذ ما كان في رحله من شيء، إلا الحيوان،   1 أبو داود: الجهاد (2713) , والدارمي: السير (2490) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 301 وأحرق رحله، ولم يأخذ سهما في المسلمين أبدا. قال: وبلغنا أن أبا بكر وعمر كانا يفعلانه". فالواجب على الإمام: القيام على الناس بالآداب البليغة التي تزجر عن المعاصي، فإن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن. ومن سمع المواعظ والزواجر، من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فلم يرتدع، ولم ينْزجر، استحق العقوبة البليغة التي تزجره، على فعل المنكرات، وتعاطي المحرمات والغلول قد فشا وظهر، واشتهر، وكثير من الناس لا يعده ذنبا، ولا ينقص الغال عند من لا يغل، ولا يسقط من أعين الناس، مثل سقوط السارق ونحوه، ممن يفعل الكبائر. والغلول من الكبائر المحرمة، التي حرمها الله ورسوله. وقال أيضا الشيخ إبراهيم، وعبد الله، وعلي، أبناء الشيخ بعد كلام سبق: ومنها: ما يجري من بعض الأمراء والعامة من الغلول؛ منهم من يتحيل على الغلول بالشراء، ولا ينقد الثمن، وذلك حرام، قال تعالى: {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [سورة آل عمران آية: 161] وفي الحديث " إن الغلول عار، ونار وشنار " 1. وقال الشيخ عبد الرحمن بن حسن: وكل من أخذ ما لا يستحقه، من الولاة والأمراء والعمال، فهو غال، كما في الصحيحين، عن أبي هريرة، قال: "قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر الغلول فعظمه، وعظم أمره، حتى قال: " لا ألفين أحدكم   1 مالك: الجهاد (994) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 302 يجيء يوم القيامة على رقبته.."1 الحديث، وأخبرنا أن هدايا العمال غلول، فينبغي التفطن لهذه الأمور، لئلا يقع فيها وهو لا يدري. وكذلك ما يتبع الزكاة، من النائبة، قد أغنى الله عنها، وجعل فيما أحل غنى عما منع وحرم. ومن الواجب على ولي الأمر: ترك ذلك لله، وفي بيت المال ما يكفي الضيف ونحوه، إن حصل تسديد من الله، ومن بتوفيق من عنده وكذلك ما يؤخذ من المسلمين في ثغر القطيف، من الأعشار، لا يلي، ولا يجوز التعشير في أموال المسلمين، ويلزم ولي الأمر أيده الله أن يلزم التجار الزكاة الشرعيه قهرا، ويدع ما لا يحل. [مصرف خمس المغنم] سئل الإمام: عبد العزيز بن محمد بن سعود رحمه الله، عن خمس المغنم، هل مصرفه من تضمنته آية الأنفال، ومن المراد بذوي القربى؟ وهل اليتامى والمساكين في الآية منهم؟ أم لا؟ وهل ورد لها ناسخ فللإمام صرفه في نفسه وفيمن شاء؟ فأجاب: أجمع العلماء على أن الآية محكمة غير منسوخة، وإنما اختلفوا في المراد بذوي القربى، فقال كثير فهم: هم قرابة الرسول صلى الله عليه وسلم وقال بعضهم: هم قرابة الرسول صلى الله عليه وسلم مع قرابة الإمام معهم. وأما اليتامى والمساكين المذكورون في الآية فقال كثير   1 البخاري: الجهاد والسير (3073) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 303 من أهل العلم. إن المراد بهم: فقراء المسلمين ومساكينهم. وأجاب الشيخ حمد بن ناصر بن معمر، وأما ما ذكرت من جهة " الزر " الذي يأخذه ابن سعود على من ظهر من عندكم، فإن ابن سعود لم يأخذ على أهل نجد وبواديهم شيئا، وأخذه على أهل الأحساء، لأنه لم يثبت عنده إسلامهم على عادته، حال كونهم محاربين، فإذا نفوا الشرك، وهدموا الأوثان، وكفوا عن عداوة الإسلام وأهله، وعملوا بالإسلام لم يأخذ عليهم شيئا. [المكوس الموضوعة على الناس] وقال الشيخ محمد بن عبد اللطيف، وفقه الله: وقد ذكرنا لك فيما مضى، من جهة هذه المكوس التي وضعت على الناس، وأنها من أعظم المحرمات، لأن الله حرم الظلم على نفسه، فقال صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه عز وجل: " إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرما، فلا تظالموا "1، وقال صلى الله عليه وسلم في خطبته يوم الحج الأكبر، وهو واقف بعرفة " إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، ألا ليبلغ الشاهد الغائب " واذكر قوله تعالى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} [سورة الحج آية: 41] ومن المعروف الذي أوجبه الله على عباده: اجتناب أسباب الظلم وتحرى العدل في الأقوال والأعمال.   1 مسلم: البر والصلة والآداب (2577) , وأحمد (5/160) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 304 ومن المنكر الذي حذر الله عنه: تعاطي ما حرمه الله، من الظلم وغيره واذكر قوله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [سورة النحل آية: 90] قال شيخ الإسلام: هذه الآية جمعت فعل ما أوجبه الله، واجتناب جميع ما حرمه الله، فإنه لا يستقيم للولاة أمر إلا بالعمل بما دلت عليه هذه الآية، ونظيرها قوله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [سورة النساء آية: 58] فالعدل مطلوب شرعا، في الأقوال والأعمال والأخلاق. والإحسان شامل للإحسان للناس في معاملتهم، وفي الولاية عليهم، وترك الظلم والتعدي عليهم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل، لما أمره بأخذ الصدقة، قال له: " واتق دعوة المظلوم " 1. وقال في "الاقتضاء": وعامة الأمراء، إنما أحدثوا أنواعا من السياسات الجائرة، من أخذ أموال لا يجوز أخذها، وعقوبات على الجرائم لا تجوز، لأنهم فرطوا في المشروع، من الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر وإلا فلو قبضوا ما يسوغ قبضه، ووضعوه حيث يسوغ وضعه، طالبين بذلك إقامة دين الله، لا رياسة لأنفسهم، وأقاموا الحدود المشروعة، على الشريف والوضيع، والقريب والبعيد، متحرين في ترغيبهم وترهيبهم، للعدل الذي شرعه الله، لما   1 البخاري: الزكاة (1496) , ومسلم: الإيمان (19) , والترمذي: الزكاة (625) والبر والصلة (2014) , والنسائي: الزكاة (2435) , وأبو داود: الزكاة (1584) , وابن ماجه: الزكاة (1783) , وأحمد (1/233) , والدارمي: الزكاة (1614) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 305 احتاجوا إلى المكوس الموضوعة، ولا إلى العقوبات الجائرة، ولا إلى من يحفظهم من العبيد والمستعبدين، كما كان الخلفاء الراشدون، وعمر بن عبد العزيز، وغيرهم من أمراء بعض الأقاليم، انتهى. واذكر أيضا: الديوان الثالث، الذي لا يترك الله منه شيئا، فالحذر الحذر، من أسباب الشر وموجباته! ومن أعظم الأسباب الجالبة للنصر، وخذلان العدو قريبا أو بعيدا: تقوى الله، ورفض هذه المكوس المحرمة، التي لم تعهد في أسلافكم، لأن المعهود عنهم رحمهم الله، رفع المظالم، والمكوس، في كل بلد يتولون عليها، فشكرهم على ذلك أهل الإسلام، وجعلوا ذلك من مآثرهم الحميدة. وفي الحديث: " من سن في الإسلام سنة حسنة، فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سن سنة سيئة، فعليه وزرها ووزر من عملها " 1. وهذه المكوس هي والله من السيئات المذمومة، فإن من أعظم ما أساء المسلمين: وضع هذه المحرمات. وقد رأيت لبعض العلماء " فائدة " يحسن ذكرها، لعظم نفعها، ومطابقتها للواقع. قال رحمه الله: العدل إذا كان شاملا، فهو أحد قواعد الدنيا والدين، الذي لا انتظام لهما إلا به، ولا صلاح فيهما إلا معه، وهو الداعي إلى الألفة، والباعث على الطاعة، وبه   1 مسلم: الزكاة (1017) , والنسائي: الزكاة (2554) , وابن ماجه: المقدمة (203) , وأحمد (4/357 ,4/358) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 306 تعمر البلاد، وبه تنمو الأموال، ومعه يكثر النسل، وبه يأمن السلطان، وليس شيء أسرع في خراب الأرض، ولا أفسد لضمائر الخلق، من الظلم والجور، لأنه ليس يقف على حد، ولا ينتهي إلى غاية، ولكل جزء منه قسط من الفساد، حتى يستكمل. والعرب لما استناروا بنور الدين المبين، وجمعت متبدد شملهم كلمة الحق، ودان لهم من دان من الأمم، شملوا الناس بالعدل في أحكامهم، وأعمالهم وأقوالهم، إذ كان من أهم مقاصد الشريعة الغراء، وأعظم مطالبها وأجل قضاياها، وبذلك تعلقت آيات التنْزيل، فمنها قوله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ} [سورة النساء آية: 58] وفي الحديث " بئس الزاد إلى المعاد، العدوان على العباد " إلى غير ذلك من النصوص، التي يضيق عنها الحصر. ومن وقف على سيرة الخلفاء الراشدين وغيرهم، من أمراء العدل من العرب تبين له: أن ما كان من استقامة ملكهم، واتساع مملكتهم، إنما هو بالعدل التام، ووضع الأمور في مواضعها والعدل باب واسع، يجري في أمور كثيرة، ومرجعه إلى عدل الإنسان في نفسه، ثم عدله في غيره. فأما عدله في نفسه، فيكون بحملها على المصالح، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 307 وكفها عن القبائح، ثم بالوقوف على أحوالها على أعدل الأمرين من تجاوز أو تقصير، فإن التجاوز فيها جور، والتقصير فيها ظلم، ومن ظلم نفسه فهو لغيره أظلم، ومن جار عليها، فهو على غيره أجور. وأما عدله في غيره، فهو على أقسام منها: عدل الإنسان فيمن دونه، كالسلطان في رعيته، والرئيس مع صحابته، ويدخل فيه الرجل مع أهل بيته، والأستاذ مع تلامذته، والسيد مع خدمه وأرقائه، ففي الحديث " كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته " والعدل هاهنا يكون باتباع الميسور، وخوف المعسور، وترك التسلط بالقوة، وابتغاء الحق في الميسور، فإن اتباع الميسور أدوم، وترك المعسور أسلم، وعدم التسلط عطف على المحبة، وابتغاء الحق أبعث على النصرة، وهذه أمور إن لم تسلم للزعيم المدبر، كان الفساد بنظره أكثر، والاختلاف بتدبيره أظهر. وفي الحديث: " أشد الناس عذابا يوم القيامة، من أشركه الله في سلطانه، فجار في حكمه " وعن بعضهم: ليس للجائر جار، ولا تعمر له دار وقال: أقرب الأشياء صرعة الظلوم، وأنفذ السهام دعوة المظلوم. ومنها: عدل الإنسان مع من فوقه، كالرعية مع سلطانها، والصحابة مع رئيسها، وعائلة الرجل معه وغير ذلك، فقد يكون بإخلاص الطاعة، وبذل النصرة، وصدق الجزء: 9 ¦ الصفحة: 308 الولاء فإن إخلاص الطاعة أجمع للشمل، وبذل النصرة أدفع للوهن، وصدق الولاء أنفى لسوء الظن، وهذه أمور إن لم تجتمع في المرء، تسلط عليه من كان يدفع عنه، واضطر إلى اتقاء من يتقي به، قال البحتري: متى أحوجت ذا كرم تخطى ... إليك ببعض أخلاق اللئام وفي استمرار هذا حل نظام جامع، وفساد صلاح شامل؛ قال بعض الأكابر: أطع من فوقك، يطعك من دونك. ومنها: عدل الإنسان مع أكفائه، وذلك بترك الاستطالة، ومجانبة الإدلال، وكف الأذى لأن ترك الاستطالة آلف، ومجانبة الإدلال أعطف، وكف الأذى أنصف، وهذه أمور إن لم تخلص الأكفاء، أسرع فيهم تقاطع الأعداء، ففسدوا وأفسدوا، انتهى مخلصا. وقال الشيخ سعد بن حمد بن عتيق، والشيخ سليمان بن سحمان، والشيخ عبد الله بن عبد العزيز العنقري، والشيخ عمر بن سليم، والشيخ صالح بن عبد العزيز، والشيخ عبد الله بن حسن، وعبد العزيز، وعمر ابنا الشيخ عبد اللطيف، والشيخ محمد بن إبراهيم، والشيخ عبد الله بن زاحم، والشيخ محمد بن عثمان، والشيخ عبد العزيز الشثري. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 309 وأما المكوس: فأفتينا الإمام بأنها من المحرمات الظاهرة، فإن تركها فهو الواجب عليه، فإن امتنع فلا يجوز شق عصا المسلمين، والخروج عن طاعته من أجلها وأما الجهاد: فهو موكول إلى نظر الإمام، وعليه أن ينظر ما هو الأصلح للإسلام والمسلمين، على حسب ما تقتضيه الشريعة. [نصيحة إلى عبد العزيز بن عبد الرحمن آل فيصل] وقال بعضهم أيضا: بسم الله الرحمن الرحيم من محمد بن عبد اللطيف، وصالح بن عبد العزيز، وعبد العزيز بن عبد اللطيف، وعمر بن عبد اللطيف، وعبد الرحمن بن عبد اللطيف، ومحمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف، ومحمد بن عبد الله بن عبد اللطيف، إلى الإمام المكرم: عبد العزيز بن عبد الرحمن آل فيصل، سلمه الله تعالى وهداه، وأعاذه من شر نفسه وهواه، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وموجب الكتاب: السلام، والنصيحة، والمعذرة إلى الله تبارك وتعالى، والإعذار إليك وإلى عباد الله المؤمنين، وأداء ما استؤمنا عليه، والخشية أن نكب على وجوهنا في نار جهنم، ونكون من الغاشين للإسلام والمسلمين. إذا عرفت هذا، فاعلم: أن حقك علينا كبير الجزء: 9 ¦ الصفحة: 310 وحق رب العالمين علينا أعظم وأكبر، وإذا تعارضا، فالمتعين هو تقديم حق الرب على ما سواه، فنرجوه تعالى أن يعيننا على ذلك، ويحسن لنا الختام وقد ولاك الله على المسلمين، واسترعاك عليهم، فإن قمت بحق تلك الرعاية فهي من أعظم نعم الله عليك، وإن ضيعت وأهملت - أعاذك الله من ذلك - صارت عليك نقمة ووبالا. واعلم: أن مقصود الولاية، هو إصلاح دين الناس ودنياهم، التي يتوصلون بها إلى إقامة دينهم. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: فالمقصود الواجب بالولايات: إصلاح دين الخلق، الذي متى فاتهم خسروا خسرانا مبينا، ولم ينفعهم ما نعموا به في الدنيا، وإصلاح ما لا يقوم الدين إلا به من أمر دنياهم، انتهى. وأنت عارف بما كان عليه أهل نجد، قبل هذه الدعوة المباركة، من الشر، في دينهم ودنياهم، ثم إن الله تعالى أنقذهم من ذلك بهذه الدعوة الدينية، قدس الله أرواح من قام بنصرها، وجزاهم عن أهل نجد خصوصا، وعن المسلمين عموما، خير ما جزى به من قام بنصرة دينه، وجاهد في الله حق جهاده. ولم تقم دعوتهم، ولا استقامت ولايتهم، إلا على أمرين: القيام بحق الله تعالى، والقيام بحقوق عباده، ورعاية مصالحهم؛ يعرف ذلك من سيرتهم، كل من له أدنى إلمام بشيء، من العلم بأحوالهم. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 311 ثم لما وقع التقصير منهم، في أشياء دون ما نحن فيه اليوم، حل بهم ما حل، مما نرجو أنه كفارة لهم، وتمحيص، ومحق لأعدائهم، فعاد نجد إلى قريب من حالته الأولى، بسبب ارتكاب بعض المحرمات. ثم إن الله تعالى من بتجديد الدعوة، وقام بنصرها جدك تركي، وجدك فيصل، جزاهما الله عن الإسلام والمسلمين خيرا؛ ولهما من السيرة المحمودة، وتقديم الشرع، وترك الظلم والتعدي، وإقامة العدل ما لا يحتاج إلى شرح. ثم لما توفي جدك فيصل رحمه الله تعالى، وحصل ما حصل، انحلت عرى هذه الولاية، ووقع بأهل نجد ما لا يخفى عليك. ثم إن الله تعالى من بولايتك، وحصل بها من الإقبال والنصر للمسلمين، وقمع عدوهم، ما هو من أعظم نعم الله عليهم وعليك ولم يزل الله بفضله يرقيك من حالة إلى حالة، وإمامك في هذا كله: الكتاب والسنة، والعدل في الرعية؛ فاستتب لك الأمر، وأعلاك الله، ونصرك على من ناوأك. ثم آلت بك الحال - هداك الله، وأخذ بناصيتك - إلى الوقوع في أمور كثيرة، هي من أسباب زوال تلك النعمة، ومن موجبات التغيير وحلول النقمة {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 312 حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [سورة الرعد آية: 11] . منها: إلزام الناس أن يظلم بعضهم بعضا، وأن ترفض الطريقة النبوية، الجارية في أسواق المسلمين، وبياعاتهم، وأن يقام فيها القانون المضارع لقوانين الكفار، الجارية في أسواقهم، فإنا لله وإنا إليه راجعون. وذلك هو إلزامكم بحجر الناس، على مقدار من السعر في الصرف، لا يزيد ولا ينقص، وهذا من أعظم الفساد في الأرض، والتعاون على الإثم والعدوان، وأكل الناس بعضهم أموال بعض بالباطل، والحجة في ذلك: ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أنس، وحديث أبي هريرة، وغيرهما من الأحاديث. قال مجد الدين ابن تيمية في كتابه "منتقى الأخبار"، باب النهي عن التسعير: عن أنس قال: " غلا السعر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم: فقالوا: يا رسول الله، لو سعرت لنا، فقال: إن الله هو القابض الباسط الرازق المسعر، وإني لأرجو أن ألقى الله عز وجل ولا يطلبني أحد بمظلمة ظلمتها إياه في دم ولا مال " رواه الخمسة إلا النسائي، وصححه الترمذي، انتهى. قال شارحه: وفي الباب عن أبي هريرة عند أحمد، وأبي داود، قال: " جاء رجل، فقال: يا رسول الله سعر، فقال: بل أدعو الله ثم جاء آخر، فقال: يا رسول الله الجزء: 9 ¦ الصفحة: 313 سعر، فقال: " بل الله يخفض ويرفع "1، قال الحافظ: وإسناده حسن، وعن أبي سعيد، عند ابن ماجه، والبزار، والطبراني نحو حديث أنس، ورجاله رجال الصحيح، وحسنه الحافظ، وعن علي رضي الله عنه عند البزار نحوه وعن ابن عباس عند الطبراني في الصغير، وعن أبي جحيفة عنده في الكبير، انتهى. وهذا هو قول أهل العلم، كالإمام أبي حنيفة، والإمام مالك، والإمام الشافعي، والإمام أحمد، وغيرهم رحمهم الله تعالى؛ قال الوزير أبو المظفر ابن هبيرة، في كتابه "الإفصاح": باب التسعير والاحتكار اتفقوا على كراهة التسعير، وأنه لا يجوز، انتهى. فيا عبد العزيز اتق الله، تتم لك النعمة، وحكم كتاب الله، وسنة نبيه، واتق الظلم فإنه سبب لحلول النقم وزوال النعم، وحقوق الخلق أمرها عظيم وفي الحديث " الدواوين ثلاثة، ديوان لا يغفر الله منه شيئا، وهو الشرك بالله، وديوان لا يترك الله منه شيئا، وهو حقوق الخلق، وديوان لا يعبأ الله به شيئا، وهو ظلم العبد نفسه فيما بينه وبين ربه " 2. وقد حرم الله الظلم على نفسه، وجعله محرما بين عباده، قال تعالى: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [سورة فصلت آية: 46] وقال تعالى: {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [سورة الكهف آية: 49] .   1 أبو داود: البيوع (3450) , وأحمد (2/337) . 2 أحمد (6/240) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 314 وقال تعالى: {ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ} [سورة الشعراء آية: 209] وقال تعالى: {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [سورة الشورى آية: 42] وعن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه تبارك وتعالى، أنه قال: " يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرما، فلا تظالموا " 1 وقال النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته، في حجة الوداع: " إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا " 2، وروي عنه: أنه خطب بذلك في يوم النحر، وفي يوم عرفة، وفي اليوم الثاني من أيام التشريق، وفي رواية: ثم قال: " اسمعوا مني تعيشوا: ألا لا تظالموا! إنه لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه " 3 وفي الصحيحين عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن الظلم ظلمات يوم القيامة " والأحاديث في ذلك كثيرة. ومنها: أمر الطويل في الأحساء وتوابعها، هو وأعوانه الذين استجلبهم من الخارج، وسومهم الناس سوء العذاب، مع ما اشتهر من أنواع الفواحش. وقد مضى أزمان والناس يرفعون أكفهم بالدعاء لكم، في السر والعلانية، ولا نأمن الآن أنهم يرفعونها بالدعاء عليكم وفي الحديث " واتق دعوة المظلوم، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب " 4.   1 مسلم: البر والصلة والآداب (2577) , وأحمد (5/160) . 2 البخاري: العلم (67) والحج (1741) والمغازي (4406) والأضاحي (5550) والفتن (7078) والتوحيد (7447) , ومسلم: القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1679) , وأحمد (5/37 ,5/39 ,5/40 ,5/49) , والدارمي: المناسك (1916) . 3 أحمد (5/72) . 4 البخاري: الزكاة (1496) , ومسلم: الإيمان (19) , والترمذي: الزكاة (625) والبر والصلة (2014) , والنسائي: الزكاة (2435) , وأبو داود: الزكاة (1584) , وابن ماجه: الزكاة (1783) , وأحمد (1/233) , والدارمي: الزكاة (1614) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 315 ولا يملك الناس إلا أمران: العمل فيهم بالشرع، والتحبب إليهم بالإحسان، أو بترك الظلم ولا تظهر ضغائن الناس، إلا عند سؤالهم أموالهم، قال تعالى: {وَلا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ} [سورة محمد آية: 37] ونسأل الله أن يأخذ بناصيتك، ويهديك صراطه المستقيم، وصلى الله على محمد، وعلى آله وصحبه وسلم. [الرافضة] وقال أيضا الشيخ محمد بن عبد اللطيف، والشيخ سعد بن حمد بن عتيق والشيخ سليمان بن سحمان، والشيخ عبد الله بن عبد العزيز العنقري، والشيخ عمر بن سليم، والشيخ صالح بن عبد العزيز، والشيخ عبد الله بن حسن، والشيخ عبد العزيز، والشيخ عمر، ابنا الشيخ عبد اللطيف، والشيخ محمد بن إبراهيم، ومحمد بن عبد الله، وعبد الله بن حسن بن إبراهيم، ومحمد بن عثمان، وعبد العزيز الشثري، وفقهم الله تعالى: أما الرافضة: فأفتينا الإمام، أن يلزموا بالبيعة على الإسلام، ويمنعهم من إظهار شعائر دينهم الباطل. وعلى الإمام أيده الله أن يأمر نائبه على الأحساء، يحضرهم عند الشيخ ابن بشر، ويبايعونه على دين الله ورسوله، وترك الشرك، من دعاء الصالحين من أهل البيت، وغيرهم، وعلى ترك سائر البدع، من اجتماعهم على مآتمهم وغيرها، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 316 مما يقيمون به شعائر مذهبهم الباطل، ويمنعون من زيارة المشاهد. وكذلك يلزمون بالاجتماع للصلوات الخمس، هم وغيرهم في المساجد ويرتب فيهم أئمة ومؤذنين، ونوابا من أهل السنة، ويلزمون تعلم ثلاثة الأصول؛ وكذلك إن كان لهم محال بنيت لإقامة البدع فيها، فتهدم، ويمنعون من إقامة البدع في المساجد وغيرها؛ ومن أبى قبول ما ذكر فينفى عن بلاد المسلمين. وأما الرافضة من أهل القطيف، فيأمر الإمام أيده الله الشيخ يسافر إليهم، ويلزمهم ما ذكرنا. وأما البوادي والقرى التي دخلت في ولاية المسلمين، فأفتينا الإمام يبعث لهم دعاة ومعلمين، ويلزم نوابه من الأمراء في كل ناحية، بمساعدة الدعاة المذكورين، على إلزامهم شرائع الإسلام، ومنعهم من المحرمات. وأما رافضة العراق، الذين انتشروا، وخالطوا بادية المسلمين، فأفتينا الإمام بكفهم عن مراتع المسلمين، وأرضهم. [المنذور لخدام النبي صلى الله عليه وسلم] سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد، رحمهما الله، عن المنذور لخدام النبي صلى الله عليه وسلم وغيره، إلى آخره. فأجاب: المنذور لخدام النبي صلى الله عليه وسلم وغيره، يصرف الجزء: 9 ¦ الصفحة: 317 لمصالح المسلمين: يصرفها الإمام، إما في الجهاد، أو في تأليف بعض الناس على الإسلام، أو الفقراء، أو المساكين. وأجاب في موضع آخر: إن كان ذلك في البلد التي تحت ولاية إمام المسلمين، فلا يجوز أخذه إلا بإذن الإمام، لأنه يصير مصرفه في مصالح المسلمين بإذن الإمام، كما صرف النبي صلى الله عليه وسلم المال الذي على بيت اللات حيث هدمها في مصالح المسلمين. وأما إن كان المنذور في موضع ليس حكمه تحت حكم إمام المسلمين، فإنه يجوز أخذه لمن وجده، لأنه مال ضائع لا يجوز إبقاؤه. [مصارف خمس الغنيمة] سئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله عن الخمس.. إلخ. فأجاب: وما ذكرت من مسألة الخمس، فاعلم: أن الأمر أمران: أمر نأمر به، وأمر: يفعله الغير، ومحتاج إلى الإنكار فيه والثاني فتوسع فيه، إلى أن ترى منكرا صريحا، إذا ثبت هذا، فمسألة الخمس لا أكره إذا أخذ من الخمس، وأما سهم النبي صلى الله عليه وسلم وذوي القربى، ففيه كلام طويل؛ وقد ذكر: أن أبا بكر وعمر، لم يعطيا بني هاشم، ثم فالذي أرى أنه يجرى في المصالح، حتى يتبين فيه حكم. وأما مصرف المصالح عندكم، فهذا الذي تذكر أنهم يفعلونه، ما علمت فيه خلافا لكن لا يقتصر عليه، بل من الجزء: 9 ¦ الصفحة: 318 المصالح ما هو أعم منه وأما الغنيمة إذا أخذت قبل الخمس، فإذا لم يفوض فخمسها فيها معها. سئل ابنه الشيخ عبد الله: إذا قتل مسلم كافرا، وأخذ سلبه، فأصاب فيه دراهم.. إلخ؟. فأجاب: الذي نفهم أن حكمه حكم سلبه يصير له؛ والذي نفهم أنه ما فيه خمس. [مال المسلم الذي استرده المسلمون مع الغنيمة] سئل الشيخ حسين بن الشيخ محمد: إذا أخذ الكفار مال مسلم، ثم استولى عليه المسلمون قهرا، ولم تقع فيه قسمة، كما لو قتل مسلم كافرا وأخذ سلاحه، وعرفه مسلم، أو أخذه بعض المسلمين من الكفار، واختص به من غير قسمة. فأجاب: في هذه الصورتين، يأخذه المسلم ممن غنمه بغير شيء، لعدم وقوع القسمة المانعة، وذلك: لما روى مسلم عن عمران بن حصين، " أن قوما أغاروا على سرح النبي صلى الله عليه وسلم فأصيبت العضباء، وأسرت امرأة من الأنصار، فكانت المرأة في وثاق، وأقامت عندهم أياما. ثم انفلتت من الوثاق، فأتت الإبل فركبت العضباء، ونذرت إن نجاها الله لتنحرنها، فلما قدمت المدينة، أخبرت أنها نذرت لتنحرنها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا وفاء لنذر في معصية الله، ولا فيما لا يملك العبد ". الجزء: 9 ¦ الصفحة: 319 [ما يؤخذ منه أجرة الأجراء في الجيش] سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد، عن سبور الغزو، والأجراء، هل أجرتهم من رأس الغنيمة؟ أو في أربعة الأخماس؟ فأجاب الظاهر أنها من رأس الغنيمة، من الخمس وغيره. قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ محمد، رحمهم الله: ومن الواجب تمييز الأموال الداخلة على ولي الأمر؛ فإن الله ميزها وقسمها، فلا يحل تعدي ذلك وخلطها، بحيث لا يمكن تمييز الزكاة من الفيء والغنائم، فإن لهذا مصرفا، ولهذا مصرفا, ويجب على ولي الأمر صرف كل شيء في محله، وإعطاء كل ذي حق حقه: أهل الزكاة من الزكاة، وأهل الفيء من الفيء؛ ويعين ذلك في الأوامر التي تصدر من الإمام لوكيل بيت المال. ويجب تفقد من في بلاد المسلمين من ذوي القربى، ويعطون ما فرض الله ورسوله من الحق من الفيء والغنيمة، فإن هذا من آكد الحقوق وألزمها، لمكانهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ والمراد بهم: من عرف التوحيد، والتزمه. وأهل الإسلام ما صالوا على من عاداهم، إلا بسيف النبوة وسلطانها، خصوصا دولتكم، فإنها ما قامت إلا بهذا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 320 الدين، وهذا الأمر يعرفه كل عالم وفي الحديث: " إن هذا المال حلوة خضرة، فمن أخذه بحقه بورك له فيه، ورب متخوض في مال الله بغير حق ليس له يوم القيامة إلا النار ". عافانا الله وإياكم من النار، ومن عمل أهل النار. وقال ابنه الشيخ عبد اللطيف، رحمهما الله بعد كلام له: إذا عرف هذا: فلو سلم تسليما صناعيا، أن قصدكم الأموال المغصوبة، فوجودها في بيت المال، لا يقتضي التحريم على من لم يعلم عين ذلك ولم يميز لديه، والمسؤول عن التخليط ولي الأمر، لا من أخذ منه إذا لم يعلم عين المغصوب، وقد ذكر ذلك الشافعية وغيرهم من أهل العلم؛ بل ذكر ابن عبد البر إمام المالكية في وقته: أنه لا يعرف تحريم أموال السلاطين، عن أحد ممن يقتدى به من أهل العلم. وقال في رسالته لمن أنكر عليه ذلك: قل لمن ينكر أكلي لطعام الأمراء ... أنت من جهلك بمحل السفهاء فإن الاقتداء بالسلف الماضي هو ملاك الدين. ثم قال بعد ذلك: ومن حكى عنه تركها، كأحمد وابن المبارك، وسفيان وأمثالهم، فذاك من باب الزهد في المباحات، وهجر التوسعات، لا لاعتقاد التحريم - إلى أن قال - وقد قال عثمان رضي الله عنه " جوائز السلطان لحم ضبى ذكي ". الجزء: 9 ¦ الصفحة: 321 وقال ابن مسعود - لما سئل عن طعام، من لا يجتنب الربا في مكسبه –: "لك المهنا وعليه المأثم، ما لم تعلم الشيء بعينه حراما " وحكي عن أحمد رحمه الله: جوائز السلطان، أحب إلينا من صلة الإخوان، لأن الإخوان يمنون والسلطان لا يمن؟ قال: وكان ابن عمر يقبل جوائز صهره المختار، وكان المختار غير المختار، حكى هذا عنه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وناهيك به حفظا وأمانة، عند الكلام على حديث: " إذا دخل أحدكم بيت أخيه، فأطعمه من طعامه، وسقاه من شرابه، فليأكل من طعامه، وليشرب من شرابه، ولا يسأل عنه " 1، والحديث معروف في السنن. قال الحافظ الذهبي: قيل لعبد الله بن عثمان بن خثيم: ما كان معاش عطاء؟ قال صلة الإخوان ونيل السلطان؛ وهذا مشهور بين أهل العلم، وقد قال صالح بن أحمد لأبيه - لما ترك الأكل مما بيد ولده، من أموال الخلفاء -: أحرام هي يا أبت؟ قال: متى بلغك أن أباك حرمها؟! وأما إذا علم الإنسان عين المال المحرم، لغصب أو غيره، فلا يحل له الأكل بالاتفاق، والمشتبه الذي ندب إلى تركه، هو ما لا يعلم حله ولا تحريمه؛ وأما إذا امتاز الحلال وعرف الحكم، فهو لاحق بالبين لا الاشتباه. وفي دخول أموال السلاطين في المشتبه، بحث جيد، لا يخاطب به إلا من سلمت في السلف الصالح سريرته،   1 أحمد (2/399) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 322 وحسنت في المسلمين عقيدته؛ والمرتاب يصان عنه العلم، ولا يخاطب إلا بما يزجره ويردعه. وقد قبل صلى الله عليه وسلم الهدايا من المقوقس، وصاحب دومة الجندل، وغيرهما، وهو صلى الله عليه وسلم لا يقبل إلا طيبا، ولا يأكل إلا طيبا؛ وأموال الكفار لا يبيحها الغصب، لمثل المقوقس، وإنما تباح وتملك بالقهر والغلبة، والاستيلاء للمسلمين. [رد من الشيخ عبد الرحمن على أحد خصومه] وقال والده الشيخ عبد الرحمن، أعلى الله منازله في فسيح الجنان: بسم الله الرحمن الرحيم اللهم لك الحمد، وإليك المشتكى، وبك المستغاث، وأنت المستعان، وعليك التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بك. وبعد: فأقول وبالله التوفيق، والهداية إلى أقوم طريق: إنه ورد علي رسالة من الأخ.. بعيد عن منهج الصدق والتحقيق، فنحوت نحو الجواب، متحريا الصواب، عسى أن يتنبه أو يفيق، قال الله تعالى: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} [سورة النحل آية: 116] الآية، وحديث: " إن كان في أخيك ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته " 1. ورسالته مشعرة باشتغاله هو، ويصغي جليس إليه بما   1 مسلم: البر والصلة والآداب (2589) , والترمذي: البر والصلة (1934) , وأبو داود: الأدب (4874) , وأحمد (2/384) , والدارمي: الرقاق (2714) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 323 هو منه قبيل البهتان، والله المستعان. وهذا زمان تناكرت فيه القلوب، وعظمت الذنوب، وطفيت فيه أنوار البصائر، وقل العلم والإيمان، وكثر الجهل والطغيان، فإلى الله أشكو ما ألقاه من أهل هذا الزمان، من البغي والعدوان، وأعوذ بالله من شر اليد والقلم واللسان ; فحق لأهل الإنصاف أن يتأملوا كلامه وملامه، والجواب عنه، فإن كان الجواب حقا فعليهم أن ينصروه، وما فيه من خلل فليصلحوه ويستروه. قال في رسالته: ويذكر عنك غفلة عظيمة عن الله، وما يقرب إليه من العلم النافع، والدعوة إليه؛ فأقول: عياذا بك اللهم مما قال، أيجوز لأحد من المسلمين أن يقول هذا القول في رجل من عوام المسلمين، يصلي الجمعة والجماعة؟ وما أظن أحدا يقول هذا في أحد، إلا أن يثبت أنه يصر على الكبائر، ويضيع الفرائض؛ اللهم لا تجعلنا من الغافلين. ثم كيف يتسجيز سني أو بدعي أن يسمع هذا يقال، فيمن يعلمه الخير سابقا ولاحقا؛ فلو قاله ظالم، أما كان يلزمه الذب عن عرض أخيه، بتكذيب الظالم، والإنكار عليه. ثم إنه ترك ما وجب، وارتكب ما حرم، فصدق وحق، وجلل ودقق، وورق وعمق، فأشهد من يراه أو قرأه: إني خصمه فيما ادعاه. اللهم إنك تعلم أني الجزء: 9 ¦ الصفحة: 324 لا أستجيز، بأن أقول مثل هذا القول فيه، ولا فيمن لا يقاربه ولا يوازنه، من عاقل وسفيه؛ وما قلت فيه قط إلا ما يسره ويرضيه، فاغفر لي وكن لي ظهيرا وهاديا ونصيرا، فيا رب هل إلا بك النصر يرتجى عليهم، وهل إلا عليك المعول. اللهم إنك تعلم أني لو شئت لعرضت بعيوبه، ولوحت بذنوبه، وإنما أعرضت عن ذلك ابتغاء وجهك، فاغفر لي ما لا يعلمون، وارحم عبيدك، فإن الأكثر لا يرحمون، وإنك قلت في كتابك العزيز {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ} [سورة الفرقان آية: 20] اللهم اجعلنا ممن إذا أُعطوا شكروا، وإذا ابتلوا صبروا، وإذا أذنبوا تابوا واستغفروا، ونسألك العفو والعافية في الدنيا والآخرة. ثم قال معللا لما تقدم: لأنك استبدلت بهذا الاشتغال بالدنيا وجمعها، وهذا بحمد الله دعوى بلا برهان، ولا يمكنه الخروج مما قال، والله عند لسان كل قائل وقلبه؛ وأنى له إقامة الدليل، والخروج مما قال من التعليل. ما صادف الحكم المحل ولا هو ... استوفى الشروط فصار ذا بطلان وفي الحديث "ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قلنا: بلى، يا رسول الله، قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين وكان متكئا فجلس فقال: ألا وقول الزور، ألا وشهادة الزور فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت "1.   1 البخاري: الأدب (5976) , ومسلم: الإيمان (87) , والترمذي: البر والصلة (1901) والشهادات (2301) وتفسير القرآن (3019) , وأحمد (5/36) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 325 ولا أجد لي ولهم مثلا، إلا قول يعقوب عليه السلام {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [سورة يوسف آية: 18] وما قلت ذلك شكوى إلى الخلق، ولكن الشكوى إلى الله، ولكني أطالبهم بإقامة البرهان على هذا العدوان، وما كنت مشتغلا بالدنيا ولا جمعها وما هذا المال الذي جمعته؟ وأين وضعته؟! وأما جمع المال: فلا يعاب مطلقا بل قد يكون قربة إلى الله تعالى، إما واجبا أو مستحبا، وقد يكون مباحا؛ إنما يعاب التلهف على الدنيا، والحسد على النعمة، والحرص عليها؛ وقد جمعها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن الكثير منهم أهل ثروة. " وقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم مال البحرين "، " وقسم أبو بكر رضي الله عنه أموال بيت المال بالسوية " " ودون عمر الديوان، وفاضل بينهم بالقرابة والسابقة "، فما كره أحد منهم نصيبه من بيت المال، إلا ما كان من حكيم بن حزام، لأمر خصه، سببه معروف. " وأوصى عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه لمن بقي من شهداء بدر، بأربعمائة دينار، لكل رجل، وكانوا مائة، فأخذوها وأخذ عثمان رضي الله عنه فيمن أخذ، وهو خليفة " وأوصى بألف فرس في سبيل الله عز وجل؛ فهذا من الجزء: 9 ¦ الصفحة: 326 ثلث ماله، وما نقص من فضله شيئا، وقد بشره رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة. فأين ذهب جمعكم للكتب؟ وحرصكم على جمعها؟ إنا لله وإنا إليه راجعون. أما علمتم أن العلامة ابن القيم رحمه الله عقد المناظرة بين الفقراء والأغنياء، في كتابه " عدة الصابرين " وذكر أدلة كل فريق على أنه أفضل من الآخر، فما عاب الفقراء أهل الغنى بغناهم، ولا الأغنياء أهل الفقر بفقرهم. وفصل الخطاب: أن أفضلهم أتقاهم لله، وأنفعهم لعباده، ومن سلم المسلمون من لسانه ويده، وأكثر الناس سعيا في وجوه الخير. وأما قوله: واشتغلت بالحراثات، أقول: ما صدقت ولا صدقت، لم أشغل بها قلبا ولا قالبا، قد جعلت فيها من يكفي. أخبرني: ما الذي أثار هذا الضغن؟ وأنت تعلم أني أحرث من حين عرفتني إلى يومي هذا، فما أنكرت حراثتي قبل اليوم؟ وقد كنت أطعمك منها، وأمشي بك فيها، وقد كنت أحتسبها قربة إلى الله تعالى، أستغني بها عن أموال الناس التي بيد السلطان تعففا. وقد ورد في فضلها أحاديث، منها الحديث المرفوع: " ما من مسلم يغرس غرسا، أو يزرع زرعا، فما أكل منه طير أو بهيمة أو إنسان، إلا كان له صدقة " 1 فإذا كنت لا بد محتاجا   1 البخاري: المزارعة (2320) , ومسلم: المساقاة (1553) , والترمذي: الأحكام (1382) , وأحمد (3/147 ,3/192 ,3/228 ,3/243) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 327 إلى التكسب لنفسي، ولمن أعول، فالحراثة أحسن شيء من أسباب الرزق، لما فيها من الفضل، وكثرة ما يخرج منها؛ فهي أفضل من التجارة وأسلم، فكيف يذم فاعل شيء يصلح، أن يكون قربة إلى الله من وجوه؟ هذا لا يصدر من عاقل. وخذ مني " فائدة " في هذا لا تعرفها، أنت ولا قومك: أورد في كتاب "الجليس والأنيس" حديثا، أبو القاسم البجلي، قال: سألت أحمد بن حنبل، ما تقول في رجل جلس في بيته، أو في مسجده، وقال لا أعمل شيئا، يأتيني رزقي؟ فقال أحمد رحمه الله: هذا رجل جهل العلم، أما سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " وجعل رزقي تحت ظل رمحي " 1 يعني الغنائم، وحديثه الآخر، حين ذكر الطير، فقال: " تغدو خماصا وتروح بطانا " فذكر أنها تغدو في طلب الرزق، قال الله تعالى: {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [سورة المزمل آية: 20] وقال: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ} [سورة البقرة آية: 198] وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يتجرون في البر والبحر، ويعملون في نخيلهم، والقدوة بهم، انتهى. وأقول: ويحك! قلبت لي ظهر المجن! وأما قوله: وأخذت من الزكاة، ولست من الأصناف الثمانية، أقول: من أخبرك أني لست منهم، فلو تثبت وسألت من يخبر حالي   1 أحمد (2/50) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 328 كان خيرا لك، وقد غرك مني تعففي وشيمتي، والحمد لله على ذلك، وأظنك لا تجهل حالي، ولكن هاجت الفتنة، وعظمت المحنة، نسأل الله العافية في الدنيا والآخرة. وأقول: ما بالك أعرضت عن معاتبة نفسك، أما علم أنك من أجلد الرجال، وأقواهم، قليل العائلة، وقد قال صلى الله عليه وسلم للرجلين الذين سألاه من الصدقة " إن شئتما أعطيتكما ولا حظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب "1 شعرا: أقلوا عليهم لا أبا لأبيكم من ... اللوم أوسدوا المكان الذي سدوا وأما قوله: وتأخذ مالا فيه ظلم، ولا تسأل، أقول: عجبا لك، كيف تنصب نفسك للإفتاء، وهذا مبلغ علمك وفهمك؟ فإذا لم تفهم هذه المسألة، ولا علمت حكمها، فكيف تفتي الناس؟ لا تدري، ولا تدري بأنك لا تدري. وأقول أيضا: من أين لك، أني أخذت من مال فيه ظلم؟ ومن هذا الثقة العدل الذي وقف على حقيقته؟ وأوجب لك القطع بما زعمت؟ ولا بد في مثل هذه الدعوى، من شهادة عدلين فأكثر، وقفوا على أن هذا الذي أخذت بعينه، دخل فيه ظلم لو كان، ويلزمهم أيضا أن يخبروني من غير تحدث منهم به، فإن ثبت ما قالوا، فقد أدوا ما عليهم من النصيحة؛ وأما طعنهم، وأكلهم   1 النسائي: الزكاة (2598) , وأبو داود: الزكاة (1633) , وأحمد (4/224 ,5/362) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 329 لحوم الغافلين، فلا يحل لهم بحال، وهذه كلها مغالطة في الحقائق، وتصور الأشياء على خلاف ما هي عليه؛ والخطاب بيننا في موقف الحساب. وكنت سألت قبل هذا، من تولى إخراج بيت المال، فأخبرني بأن الذي أوصل إلى وكيل منه لم يشب بشيء من الظلم، وأنه تحرى لنا ما يحل، فحمدت الله على ذلك، ولم يتبين لي خلاف ما قال. وأما حكم ما بأيدي الملوك من الأموال، فلا يخفى أن أكثر ملوك بني أمية، فشا فيهم الظلم للرعية في الدماء والأموال، وكذا ملوك بني العباس، مع سعة ملكهم وكثرة عمالهم وأمرائهم، فما قال أحد من العلماء، إن ما يجبى إليهم من ذلك المال الذي أخذوه، لا يجوز لأحد أن يأخذ منه شيئا، بل النص المنصور جوازه، والحكم عليه بأنه حلال لآخذه. قال في الفروع: وما جاء من مال بلا مسألة، ولا إشراف نفس، وجب أخذه ; ونقل الأثرم: عليه أخذه، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم (خذ) وينبغي أخذه ; ونقل عن ابن حزم: وجوب الأخذ، قال في الشرح، الصحيح: إن غلب الحرام فيما بيد السلطان حرم، وإلا أبيح، إن لم يكن في الأخذ مانع من الاستحقاق؛ وأوجب طائفة الأخذ من السلطان وغيره، واستحبه آخرون، انتهى. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 330 قلت: وحاصل هذا، أن الأخذ إما واجب، وهو المنصوص عن الإمام وابن حزم وغيرهما، أو مستحب، أو جائز إن لم يكن الحرام غالبا؛ وعن أحمد أنه قال: دعنا نكون أعزة، نقله في الفروع، وقال: جائزة السلطان أحب إلينا من صلة الإخوان؛ فيكون رد الإمام أحمد رحمه الله من باب الزهد والورع، حتى لا يناقض قوله. وأما إذا كان الأكثر الحرام، فنقل ابن رجب رحمه الله، عن الإمام أحمد: ينبغي أن يجتنبه، إلا أن يكون شيئا يسيرا، أو شيئا لا يعرف، قال: واختلف أصحابنا، هل هو مكروه، أو محرم؟ على وجهين. وإن كان أكثر ماله الحلال، جازت معاملته، والأكل من ماله؛ وإن اشتبه الأمر فهو شبهة، الورع تركه. وقال الزهري ومكحول: لا بأس أن يأكل منه، ما لم يعرف الحرام بعينه؛ فإن لم يعرف مالا حراما بعينه، ولكن علم أن فيه شبهة، فلا بأس أن يأكل منه، نص عليه أحمد في رواية حنبل. وروى الحارث عن علي رضي الله عنه أنه قال في جوائز السلطان: "لا بأس بها، ما يعطيكم من الحلال، أكثر مما يعطيكم من الحرام" وكان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يعاملون المشركين، وأهل الكتاب، مع علمهم أنهم لا يجتنبون الحرام كله، كما تقدم عن الزهري ومكحول؛ ويروى في ذلك آثار كثيرة عن السلف. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 331 قال ابن مسعود، في إجابة دعوة من يعامل في الربا: "أجيبوه، فإنما الهنا لكم، والوزر عليهم " وعن سلمان مثل قول ابن مسعود، وعن سعيد بن جبير، والحسن، ومسروق، وإبراهيم التيمي، وابن سيرين، وغيرهم، والآثار بذلك في " كتاب الأدب " لحميد بن زنجويه و " كتاب الجامع " للخلال و " مصنف " عبد الرزاق، وابن أبى شيبة وغيرهم، انتهى من شرح الأربعين. والأدلة على جواز الأخذ من هذه الأموال، لا يتسع لها هذا الجواب. فلا يحل لمسلم: أن يطعن على مسلم، بأخذ ما هو حلال، إما واجب الأخذ، أو مستحب، وهكذا حال من يتكلم في أعراض المسلمين بلا علم، وما فطن لنفسه أنه يحكم بالشيء على غيره، ولا يحكم به على نفسه، وغايته أنه أطلعنا على مقدار ما معه من العلم والمعرفة؛ والله المستعان على أهل الزمان، اللهم إنا نعوذ بك من جهد البلاء، ودرك الشقاء، وسوء القضاء، وشماتة الأعداء. وأما ما ذكره في أثناء مسألته من الإزراء، فلا أرى الاشتغال بالجواب عنه، احتسابا للصبر عليه عند الله تعالى، يغفر الله لنا وله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وحسبنا الله ونعم الوكيل، وصلى الله على محمد وآله، وصحبه وسلم. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 332 [إدخال النصارى إلى بلاد المسلمين] وفي حدود سنة سبع وأربعين، أرسل علماء نجد إلى الإمام، لما بلغهم أنه يحصل شركة للأجانب، في معادن بنجد، بما نصه: بسم الله الرحمن الرحيم من محمد بن عبد اللطيف، وسعد بن حمد بن عتيق، وسليمان بن سحمان، وعبد الله بن عبد العزيز العنقري، وصالح بن عبد العزيز، وعمر بن عبد اللطيف، وعبد الرحمن بن عبد اللطيف، وعبد الله بن حسن، ومحمد بن إبراهيم، إلى الإمام المبجل: عبد العزيز بن عبد الرحمن آل فيصل، سلمه الله تعالى، وألهمه رشده وتقواه، وأعاذه من شر نفسه وهواه، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: سلمك الله، بلغنا أنه يصير شركة في المعادن، ولا تحققنا خبرها إلا في هذه الأيام، وتفهم أن مشاركة الأجانب الذين تحت ولاية النصارى وإدخالهم في الديار العربية، والولاية الإسلامية، أمر محرم، لا تبيحه الشريعة، مع ما يترتب عليه من المفاسد، الدينية والدنيوية، في العاجل والآجل، وإن كان في بادئ الرأي، أنه يحصل منه مصلحة، فدرء المفاسد مقدم على جلب المصالح. وولايتكم ولاية إسلامية دينية، لا تستقيم إلا بالسياسة الجزء: 9 ¦ الصفحة: 333 الدينية، والوقوف مع الشريعة المحمدية، وفي الحديث: " ما منكم من أحد إلا وهو على ثغر من ثغور الإسلام، فالله الله أن يؤتى الإسلام من قبله " ونحن: وإن كانت عقولنا قاصرة، عن الأفكار الدنيوية، فهي إن شاء الله ما تقصر عن الأمور الدينية، وما فيه صلاح للراعي والرعية، وسعادة الدارين وفي المثل المشهور: وأكيس الناس من لم يرتكب عملا ... حتى يميز ما تجني عواقبه هذا الذي أوجب الله لك علينا، من النصيحة والبيان، خروجا من معرة السكوت والكتمان؛ ونرجو أن الله يأخذ بناصيتك، ويسلك بك الصراط المستقيم، ويعيذك من أسباب الغواية والتأثيم، والسلام. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 334 [الحلف على التعاون] سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد، عن قوم اجتمعوا وعقدوا بينهم العهود، في الموازرة والمناصرة والمدافعة، وأنهم يعقلون في الدماء عمدها وخطأها، فهل يجب الوفاء بها، إذا كان في ذلك صلاح؟ فإذا كان قد صدر منهم في الجاهلية، فهل يلزم؟ لقوله: " كل حلف في الجاهلية.." الحديث، وهل يجوز إحداثه في الإسلام.. إلخ؟. فأجاب: الحلف إذا وقع على خلاف أحكام الشرع، لم يجز التزامه، ولا الوفاء به؛ فإن قضاء الله أحق، وشرط الله أوثق، كما ثبت في الصحيحين، في حديث بريرة: " ما بال أقوام يشترطون شروطا ليست في كتاب الله، ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط " 1. وهذا الحلف المذكور على هذا الوجه، يخالف حكم الله؛ فإن الحكم الشرعي: أن دية العمد على القاتل خاصة، ودية الخطأ على العاقلة؛ وهذا الأمر لا خلاف فيه بين العلماء، فكيف يبطل هذا الحكم الشرعي، بحلف الجاهلية وعقودهم وعهودهم؟ وأما قوله عليه السلام: " كل حلف في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة " 2 فهذا فيما وافق الشرع، ولم يخالفه، كالتحالف على فعل البر والتقوى، وكالتحالف على دفع الظلم ونحو ذلك. وأما إحداث التحالف بعد الإسلام، فلا يجوز، لقوله   1 البخاري: الشروط (2729) , ومسلم: العتق (1504) , وأبو داود: العتق (3929) , ومالك: العتق والولاء (1519) . 2 مسلم: فضائل الصحابة (2530) , وأبو داود: الفرائض (2925) , وأحمد (4/83) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 335 عليه السلام: " لا حلف في الإسلام " 1 وذلك لأن الإسلام، يوجب على المسلمين التعاون والتناصر بلا حلف، والمسلمون يد واحدة على من سواهم، وقال صلى الله عليه وسلم " المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يشتمه، ولا يخذله " 2 وقال: " المؤمنون كالبنيان، يشد بعضه بعضا " 3 هذا إذا كان الناس مجتمعين، على إمام واحد. وأما إذا حصل التفرق والاختلاف - والعياذ بالله - ولا يمكن التعاون والتناصر إلا بالحلف، فهذا لا بأس به إذا لم يخالف أحكام الشرع وقال الإمام: عبد العزيز بن محمد بن سعود، رحمهم الله، وما أشرت إليه من أن بعض القادمين علينا، يأخذون منا أوراقا، يريدون بها الجاه، والترفع على من بينه وبينهم ضغائن جاهلية، فأنت تفهم أن المملوك ليس له اطلاع على السرائر، وإنما عليه الأخذ بالظواهر، والله يتولى السرائر، ومن خدعنا بالله انخدعنا له، فإذا جاءنا من يقول أنا أبايعكم على دين الله ورسوله، وافقناه وبايعناه، وبينا له الدين الذي بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم ونأمره بذلك، ونحضه على القيام في بلده، ودعوة الناس إليه، وجهاد من حالفه، فإذا خالف ذلك وغدر، فالله حسيبه 4.   1 البخاري: الحوالات (2294) , ومسلم: فضائل الصحابة (2529) , وأبو داود: الفرائض (2926) , وأحمد (3/281) . 2 مسلم: البر والصلة والآداب (2564) , وأحمد (2/277) . 3 البخاري: الصلاة (481) , ومسلم: البر والصلة والآداب (2585) , والترمذي: البر والصلة (1928) , والنسائي: الزكاة (2560) , وأحمد (4/404) . 4 وتقدم في صفحة: 244 , و 245. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 336 وأجاب الشيخ عبد الله العنقري: اعلم: أنه لا حلف في الإسلام، كما وردت بذلك السنة، ولأن الدخول فيه يتضمن التزام أمور تخالف الشرع؛ لكن من أراد أن يعامل بإخاوة ونحوها، كما يفعله بعض أهل البلدان مع البدو، دفعا لشرهم، فلا بأس بذلك، انتهى. وأجاب الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين: وأما ما روي عن ابن عباس، أنه قال في الآية: "لا عهد لظالم عليك، وإن عاهدته فانقضه"، فيحتمل أن مراده نحو ما إذا طلب ظالم قادر، مال إنسان ظالم، وعاهده أنه يأتيه به، أو عاهد لصا أنه لا يخبر به، ونحو ذلك، انتهى. وقال الشيخ إبراهيم، وعبد الله، وعلي، أبناء الشيخ محمد، رحمهم الله ومنها: التجاسر على إخفار ذمة المسلم، فإذا صح إعطاء أحد من المسلمين أمير أو غيره، أحدا من الكفار ذمة، لم يجز لأحد من المسلمين أن يخفره، لا في ذمته ولا ماله، كما في الحديث: " ذمة المسلمين واحدة، يسعى بها أدناهم، فمن أخفر مسلما، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين؛ لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا " 1. ومن العجب: أن بعض الجهال يفعل هذا ديانة، ويظن أن معاداة الكفار، واستحلال المحرم، أعظم من ارتكابه، مع معرفته وتحريمه.   1 أحمد (2/398) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 337 [أمان الأعراب بعضهم لبعض] وقال بعضهم، رحمهم الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا؛ من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل الله فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم تسليما. اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم. وبعد: فقد وقع مذاكرة في حال الأعراب، الذين يوجد فيهم شيء من المكفرات، هل يصلح أمانهم لبعضهم عن بعض؟ فنقول - وبالله التوفيق -: يصح أمان الكفار بعضهم لبعض ولغيرهم، بالكتاب والسنة والاعتبار. أما الكتاب: فيقول الله تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} [سورة النحل آية: 91] الآيات، قال مجاهد وقتادة: نزلت في حلف أهل الجاهلية، وآخر السياق يدل على عموم الآية، وهو قوله: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} [سورة المائدة آية: 48] قال المفسرون: على ملة الجزء: 9 ¦ الصفحة: 338 واحدة وهي الإسلام {وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [سورة النحل آية: 93] فدل على أن هذا الخطاب، شامل للمهديين وغيرهم. وقال تعالى في شأن اليهود: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ} [سورة البقرة آية: 84] إلى قوله: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} [سورة البقرة آية: 85] قال أهل التفسير: يقول تعالى منكرا على اليهود، ما كانوا يعانون مع الأوس والخزرج، فكان يهود المدينة ثلاث قبائل، بنو قينقاع، وبنو النضير حلفاء الخزرج، وبنو قريظة حلفاء الأوس، فكانت الحرب إذا نشبت بينهم، قتل كل فريق منهم مع حلفائه، فيقتل اليهودي أعداءه. وقد يقتل الآخر من الفريق الآخر، وذلك حرام عليهم بنص الكتاب، ويخرجونهم من بيوتهم، وينهبون ما فيها من الأثاث والأموال، ثم إذا وضعت الحرب أوزارها، استفكوا الأسارى من الفريق المغلوب، عملا بحكم التوراة، ولهذا قال: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} [سورة البقرة آية: 85] فهذه الآية تدل: على أن الله تعالى حرم قتال بعضهم بعضا وإن كان لكل كتاب وقت النّزول، لأن هذا القتل ليس على حق، وإنما هو في سبيل الشيطان. وأما الأحاديث: فما رواه أبو داود والنسائي، والترمذي، عن عمرو بن عبسة، قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم الجزء: 9 ¦ الصفحة: 339 يقول: " من كان بينه وبين قوم عهد، فلا يحلن عهدا ولا يشدنه، حتى يمضي أمره، أو ينبذ إليهم على سواء "1، وهذا الحديث عام ورواه الإمام أحمد والترمذي، عن حسين المعلم، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في خطبته: " أوفوا بحلف الجاهلية، فإنه لا يزيده الإسلام إلا شدة، ولا تحدثوا حلفا في الإسلام "2 قال العلماء في معنى الحديث: إن الإسلام لا يحتاج معه إلى الحلف، الذي كانوا يفعلونه أهل الجاهلية، فإن التمسك بالإسلام كفاية عما كانوا فيه ; وما كانوا منه على نصرة الإسلام، وصلة الأرحام، كحلف " المطيبين " وما جرى مجراهم، فذاك الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أيما حلف كان في الجاهلية، لم يزده الإسلام إلا شدة " 3. وفي صحيح مسلم عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم القيامة، يرفع لكل غادر لواء، فيقال: هذه غدرة فلان بن فلان "4، وهذا العقاب لا يختص بالمسلم، بل هو عام المسلم وغيره. وروى البخاري وغيره، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من قتل معاهدا لم يرح رائحة الجنة؛ وإن ريحها يوجد من مسيرة أربعين خريفا "5، قال ابن الأثير: يجوز أن يقرأ بفتح الهاء وكسرها، على الفاعل   1 الترمذي: السير (1580) , وأبو داود: الجهاد (2759) , وأحمد (4/111 ,4/113) . 2 الترمذي: السير (1585) , وأحمد (2/207) . 3 مسلم: فضائل الصحابة (2530) , وأبو داود: الفرائض (2925) , وأحمد (4/83) . 4 مسلم: الجهاد والسير (1735) , وأحمد (2/29 ,2/142) . 5 البخاري: الجزية (3166) , والنسائي: القسامة (4750) , وابن ماجه: الديات (2686) , وأحمد (2/186) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 340 والمفعول ; والمعاهد من كان بينك وبينه عهد، وأكثر ما يطلق في الحديث على أهل الذمة، وقد يطلق على غيرهم من الكفار، إذا صولحوا على ترك الحرب مدة؛ وقال صلى الله عليه وسلم يوم الفتح: " قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ " 1، وهي من مسلمة الفتح. وسئل بعضهم: عن أخذ بعض المسلمين، ممن لم يكن له أمان؟ فأجاب: إذا لم يكن بين الإمام وبينهم عقد أمان، أو كان بينه وبينهم ذلك، والأخذ غير داخل في العقد، جاز الأخذ والحالة هذه. قال في "الإقناع وشرحه": وله، أي: لمن جاءنا منهم مسلما، ولمن أسلم معه، أن يتحيزوا ناحية، ويقتلوا من قدروا عليه من الكفار، ويأخذوا أموالهم، ولا يدخلون في الصلح؛ فإن ضمهم الإمام إليه بإذن الكفار، دخلوا في الصلح، وحرم عليهم قتال الكفار وأخذ أموالهم؛ لأن أبا بصير، لما رجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: يا رسول الله: قد أوفى الله ذمتك، فقد رددتني إليهم، وأنجاني الله منهم، فلم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم ولم يلمه، بل قال: " ويل أمه مسعر حرب، لو كان معه رجال "2، فلما سمع ذلك أبو بصير لحق بساحل البحر، وانحاز إليه أبو جندل   1 البخاري: الصلاة (357) , ومسلم: صلاة المسافرين وقصرها (336) , ومالك: النداء للصلاة (359) , والدارمي: الصلاة (1453) . 2 البخاري: الشروط (2734) , وأبو داود: الجهاد (2765) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 341 ابن سهيل، ومن معه من المستضعفين بمكة، فجعلوا لا يمر عليهم عير لقريش، إلا عرضوا لها، وأخذوها، وقتلوا من معها، فأرسلت قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم تناشده الله والرحم، أن يضمهم إليه ولا يرد إليهم أحدا جاءه، ففعل، رواه البخاري مختصرا، انتهى. قال في "المنتهى وشرحه": فإن تحيز من أسلم منهم، وقتلوا من قدروا عليه منهم، وأخذوا أموالهم جاز، ولا يدخلون في الصلح، حتى يضمهم إليه بإذن الكفار، للخبر، انتهى. وقال في "مختصر الشرح"، وقولهم: إنهم في أمان منا، قلنا إنما أمناهم ممن هو في دار الإسلام، الذين هم في قبضة الإمام، بدليل ما لو خرج العبد، قُبل إسلامه ; ولهذا لما قتل أبو بصير الرجل، لم ينكر عليه ولم يضمنه، ولما انفرد هو وأصحابه، فقطعوا الطريق عليهم، لم ينكر ذلك، ولم يأمرهم برد ما أخذوه، انتهى. فعلم بهذا جواز أخذ أموال من لم يكن له عهد ولا أمان؛ وكلامهم هذا في الكافر الأصلي، وأما المرتد فقتله وأخذ ماله، إذا لم يكن له أمان أو عهد، من باب الأولى، والله أعلم. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 342 [قتل الحربي ومن له ذمة] وسئل الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن، عن قتل المشرك الحربي؟. فأجاب: لا يمنع المسلم عن قتل المشرك الحربي، ولو كان جارا للمسلم، أو معه في الطريق، إلا إذا أعطاه ذمة أو أمنه أحد من المسلمين، ففي الحديث " ذمة المسلمين واحدة، يسعى بها أدناهم ". [الاعتداء على الحجاج المسلمين من اليمن] وقال المشايخ، وفقهم الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم من محمد بن عبد اللطيف، وسعد بن حمد بن عتيق، وسليمان بن سحمان، وصالح بن عبد العزيز، وعبد العزيز بن عبد اللطيف، وعمر بن عبد اللطيف، وعبد الله بن حسن، ومحمد بن إبراهيم، إلى الإمام المكرم: عبد العزيز بن عبد الرحمن آل فيصل، سلمه الله تعالى ; سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. والكتاب المكرم وصل، تسأل فيه عما جرى من بعض السرية، على حاج اليمن، من أخذ أموالهم، وسفك دمائهم؟ فاعلم - أطال الله بقاءك - أن الذي فعل هذا الأمر، أناس من جهال العوام، الذين ليس لهم عناية بمدارك الأحكام، ولا معرفة لهم بالحلال والحرام، وهذا لا يحل في الجزء: 9 ¦ الصفحة: 343 دين الله وشرعه فالواجب عليك: أداء ما أخذوا من أموالهم، وتأديبهم على ما فعلوه من الأمور التي يعود ضررها على الإسلام والمسلمين. ومعلوم: أنك قد أعدت وأبديت، وبالغت في نصيحتهم، وتحذيرهم من الأمور التي تخالف الشرع، ولكن المقدر كائن لا محالة، ويلزمك المبادرة بالقيام في ذلك، لأن هذا من أهم الأمور، وفيها صيانة لعرضك وأعراض المسلمين، وبراءة لذمتك؛ نرجو أن الله يوفقك، ويسددك ويعينك، والسلام. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 344 [الحث على الوفاء بذمة ولي الأمر] وقال الشيخ: محمد بن عبد اللطيف، والشيخ عبد الله العنقري، وفقهما الله: بسم الله الرحمن الرحيم من محمد بن عبد اللطيف، وعبد الله بن عبد العزيز العنقري، إلى كافة إخواننا أهل الأرطاوية، أصلح الله لنا ولهم الطوية، وحمانا وإياهم من كل محنة وبلية، وجعل أعمالنا وأعمالهم مقبولة مرضية؛ سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أما بعد: فالباعث لهذا الكتاب، محض النصيحة لكم، والشفقة عليكم، ومعذرة إلى الله من معرة الكتمان، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: " الدين النصيحة.." 1 الحديث. ومما يلزم بيانه لكم: تذكيركم ما من الله به علينا وعليكم، من معرفة دين الإسلام الذي خفي على أكثر الناس، وهو الذي أظهره الله في آخر هذا الزمان، على يد شيخ الإسلام، محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، وقام بنصره أئمة المسلمين من آل سعود، فحصل بهم من اجتماع الكلمة، وظهور الحق، واضمحلال الباطل، ما تنشرح به صدور أهل الإيمان، وتكمد به صدور أهل النفاق والطغيان. فالواجب علينا وعليكم: مراعاة هذه النعمة، والقيام بشكرها ; واذكروا ما أنتم عليه سابقا، من الظلم والعدوان،   1 مسلم: الإيمان (55) , والنسائي: البيعة (4197 ,4198) , وأبو داود: الأدب (4944) , وأحمد (4/102) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 345 وسفك الدماء، ونهب الأموال، والتحاكم إلى الطاغوت، واختلاف الكلمة، ثم من الله عليكم بترك ذلك، والإقبال على تعلم أصول الإسلام. فلما رأى الشيطان منكم ذلك، وأحزنه: أعمل الحيلة في صدكم عما عرفتم من الخير، ودنتم به في فتح أبواب اختلاف الكلمة، وإساءة الظن من بعضكم لبعض، وحملكم على التهاجر والتقاطع، في أمور ما توجب ذلك في أمر الشرع المطهر ; فالواجب عليكم: رد ما تنازعتم فيه إلى كتاب الله، وسنة رسوله، ولا يعرف ذلك وتفاصيله إلا العلماء، الذين تلقوا العلم عمن لهم قدم راسخ في معرفة أصول الشريعة ; واحذروا أن يقتدي جاهل بجاهل! فإن اقتداء الجاهل بالجاهل، كاقتداء الأعمى بالأعمى. ومما نبين لكم، وننصحكم به أيضا: بذل الجهد في الوفاء بذمة إمامكم، من جهة نقيصة ابن صباح، التي وقع أخذها باجتهاد منكم، وطلب للخير لكن حملكم على ذلك: ظنكم أنه ليس له ذمة مع الإمام، ولا عماله، والآن بان لكم - وفقكم الله - أن ذمة الأمان لم تزل معقودة له؛ فعلى هذا يكون عندكم معلوما، أن المال المأخوذ على هذا الوجه حرام، وقد قال صلى الله عليه وسلم: " أيما جسد نبت من مال حرام، فالنار أولى به ". ومن أراد الدليل على أن العهد يجب الوفاء به، ولو الجزء: 9 ¦ الصفحة: 346 مع كافر، فلينظر إلى سيرة النبي صلى الله عليه وسلم مع كفار قريش، حين عاقدهم بعقد الصلح، فإنه وقع الشرط بينهم على أنه من جاء من الكفار إلى النبي صلى الله عليه وسلم مسلما يرده عليهم، ومن جاءهم من المسلمين مرتدا، لا يرد إلى المسلمين، حتى أشكل ذلك على بعض الصحابة رضي الله عنهم، فقالوا: كيف نرد عليهم من جاءنا منهم مسلما، ولا يردون علينا من جاءهم منا مرتدا؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " من جاءنا منهم مسلما، فسيجعل الله له فرجا، وأما من ذهب إليهم مرتدا فأبعده الله "، فجاء نفر مسلمون، منهم أبو جندل ابن سهيل بن عمرو، فقيدهم النبي صلى الله عليه وسلم وردهم عليهم، محافظة على الوفاء بالذمة، هذا معنى ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقد قال تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ} [سورة النحل آية: 91] إلى قوله: {وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثاً} [سورة النحل آية: 92] وهذا حكم عام مع المسلمين والكفار. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [سورة المائدة آية: 1] يعني بالعهود، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " ما نقض قوم العهد، إلا سلط الله عليهم عدوهم " 1 أعاذنا الله وإياكم من عقوبات الذنوب. وأما الأدلة الواردة في الأمر بقتال الكفار، فالمراد بها من لا ذمة له منهم ولا عهد، وهم المحاربون، وأما من له   1 مالك: الجهاد (998) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 347 ذمة أو عهد من الكفار، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: " من قتل معاهدا لم يرح رائحة الجنة " 1 ومقصودنا ببيان هذا: أنه ربما استدل بالأدلة الواردة، في قتال الكفار، من يضعها في غير موضعها الذي وضعت فيه، وهذا الذي نعتقده وندين الله به، ونبرأ إلى الله ممن خالفه كائنا من كان ; نرجو أن الله يمن علينا وعليكم، بقبول الحق والعمل به، والبصيرة فيه، والثبات عليه، وصلى الله على محمد. [نصيحة إلى الإمام عبد العزيز] وقال أيضا الشيخ محمد بن عبد اللطيف، والشيخ عبد العزيز بن عبد اللطيف، والشيخ صالح بن عبد العزيز، والشيخ عمر بن عبد اللطيف، والشيخ عبد الرحمن بن عبد اللطيف، والشيخ محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف، والشيخ عبد الله العنقري، والشيخ عمر بن سليم، وفقهم الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم إلى الجناب العالي، الإمام عبد العزيز، حفظه الله تعالى، وتولاه آمين، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أما بعد: فالذي نوصيك به وأنفسنا: تقوى الله تعالى، ومراقبته في السر والعلانية، وتدبر كتاب الله العزيز، وما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إذ به تداوى أمراض القلوب، ويستعين به من   1 البخاري: الجزية (3166) , والنسائي: القسامة (4750) , وابن ماجه: الديات (2686) , وأحمد (2/186) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 348 عمل به على كبت عدوه، والاستعانة على حوائجه، وعندك من ذلك ما فيه الكفاية. ثم إنك تعلم: أن تعرضنا لمثل ما سنبديه لك يشكل علينا، لكن اتباعا لقوله صلى الله عليه وسلم " الدين النصيحة " 1، كتبنا هذه الأحرف، فإنك تعلم: أنه لا قوام للدين إلا بالله، ثم بالجهاد في سبيل الله، ولا حفظ لوطن ورعية إلا بالله ثم بذلك، ولا نكاية لعدو إلا به واذكر قول الشاعر: بسفك الدما يا جارتي تحقن الدما ... وبالقتل ينجو الناس من آفة القتل والدليل قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الأَلْبَابِ} [سورة البقرة آية: 179] وقوله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [سورة النحل آية: 126] ولا شك أن الصبر كله خير، إذا كان وراءه مصلحة، وأما إذا كان آخره شرا فلا يجوز. وأنت اليوم ولاك الله أمر المسلمين، وأعطاك الله قوة ما أعطاها غيرك؛ ومن أعظمها وأهمها: أن الله أعطاك رعية متمسكة بهذا الدين، باذلة نفسها في الجهاد في سبيل الله، ومفدية نفسها دونك، ودون ما ولاك الله إياه، سامعة مطيعة. فما عذرك يا عبد العزيز عند الله؟ إذا كان المسلمون في كل زمان، تظهر عليهم نابغة شر، ثم تثبط المسلمين عن   1 مسلم: الإيمان (55) , والنسائي: البيعة (4197 ,4198) , وأبو داود: الأدب (4944) , وأحمد (4/102) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 349 دفعها، وتقول: هذه مصلحة وسياسة، أما المصلحة والسياسة فلا شك أنك مقدم فيها، ومسؤول عنها، ونحن ساعدناك فيها. ذكرت لنا حين مجلس الإخوان في الرياض: أن في دخول المحمل مصلحة وسياسة، وقنعنا الناس أن الرأي رأيك في السياسة، ثم حصل ما حصل من الأمر الذي كاد يذهب بحجاج بيت الله الحرام، ورأيت ما قتل من النفوس، وهلك من الأموال، وسدد الله بك، وكفى الله بفضله ثم بك المسألة الحاضرة، وكفيتنا شر المقبل. ثم صارت مسألة أهل العراق مع الإخوان، وقلت: وجهي وأمانتي ولزمي، وساعدناك فيما هو لازم علينا شرعا وعقلا. ولما تعصب المتعصبون من أهل نجد، الذين يدعون الدين، وأبوا إلا تتميم أمرهم، جاهدناهم، وأمرنا بقتالهم، حتى استراح الناس، ومضى الأمر الذي أنت قمت فيه. أما الآن، فقد أخذوا يدخلون الدسائس، على أهل النفاق والأوباش، من أطراف نجد، بعمل القلاقل إليه، وفي الحجاز الذي حرم الإلحاد فيه، وهذا كان له دوي من زمن، وقد سار أطما لتشويق الناس للفتن، وتجهيزهم عليها، ومن توليتك الحجاز، وأعداء الله مثخنين أطراف المسلمين، بالغارات، والأخذ والدسائس الخبيثة؛ وأنت تراوز الأمور، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 350 والصبر، وهذا لا يسوغ لك دينا ولا عقلا. والذي نشير به عليك: أنه لما وقع الغدر منهم، وبان الأمر للبار والفاجر، واضطراب أهل نجد، فتوكل على الله، ومر المسلمين كل من قبله بالسير، وما هي إلا إحدى الحسنيين، فهذا أمر تؤجر به؛ وبحول الله وقوته أن النصر مقرون برايتك، وأن ضدكم مخذول ; ولا يجل في عينيك إلا أمر الله، وأصلح نيتك، وخل عملك طبقا لأمر الله، وأبشر بالخير؛ هذا الذي نشير به عليك، ولا لك عذر فيه عند الله، ولا يمكننا السكوت عليه. وتعرف أن الذي بذمتنا إذا سئلنا عنه سنؤديه، والذي ندين الله به، ونعاهد الله عليه، أنك عندنا أغلى من أنفسنا وعيالنا وأموالنا، لكن ربنا وديننا أغلى من كل شيء؛ ويأبى الله أن نتكلم في أمر يخالف أمرك، لكن نطيعك فيما أطعت الله فيه. قد تقول: إن الأمر فيه سياسة ومصلحة، فهذا الأمر عرفناك به سابقا، وعرفناك فيه أول الكتاب؛ ولكن السياسة الغبية ما تسوغ لك، وافطن لقول الصحابي: (فإن عرض بلاء فافد بمالك دون نفسك، فإن تجاوز البلاء فافد بنفسك دون دينك) . فإن كان الأمر سياسي، وظاهر يبين للمسلمين عاجلا غير آجل، يكف المنافق الذي فيه شر، ويكف الأذى عن الجزء: 9 ¦ الصفحة: 351 المسلمين، فبرهن به، وقم بالواجب، وهذا أمر لك حق فيه، وأنت أعلم بالمصالح؛ فإن كان الأمر خدعة ورجاء فرصة، فهذا لا يجوز شرعا، ونحن لا نوافق عليه، فهذا الذي ندين الله به، وننصحك به، تبرئة لذمتنا، والله يوفقك للصواب، وصلى الله على محمد. وقال الشيخ: عبد الله بن بليهد، والشيخ عبد الله بن حسن، نوافق على ذلك، وهذا الذي ندين الله به، وصلى الله على محمد. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 352 كتاب حكم المرتد [معرفة الدين وما قص الله من قصص الأنبياء] قال شيخ الإسلام: محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم اعلم رحمك الله: أن أفرض ما فرض الله عليك، معرفة دينك: الذي معرفته والعمل به، سبب لدخول الجنة ; والجهل به وإضاعته، سبب لدخول النار. ومن أوضح ما يكون لرديء الفهم: قصص الأولين والآخرين، قصص من أطاعه، وما فعل بهم، وقصص من عصاه، وما فعل بهم ; ومن لم يفهم ذلك، ولم ينتفع به، فلا حيلة فيه، كما قال تعالى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [سورة ق آية: 36] . وقال بعض السلف: القصص جنود الله، يعني أن المعاند لا يقدر يردها: فأول ذلك ما قص الله عن آدم وإبليس، إلى أن قال: اهبطوا في الأرض؛ ففيها من إيضاح المشكلات، ما هو واضح لمن تأمله، كما قال تعالى: {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 353 هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [سورة البقرة آية: 38] . وفي الآية الأخرى: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً} [سورة طه آية: 123-124] إلى قوله: {وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} [سورة طه آية: 127] . وهداه الذي وعدنا به: إرسال الرسل، وإنزال الكتب، وقد وفى بما وعد سبحانه؛ فأرسل الرسل مبشرين ومنذرين، لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل؛ فأولهم نوح عليه السلام، وآخرهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. فاحرص يا عبد الله، على معرفة هذا الحبل الذي بين الله وبين عباده، الذي من استمسك به سلم، ومن ضيعه عطب. فاحرص على معرفة ما جرى لأبيك آدم، وعدوه إبليس، وما جرى لنوح وقومه، وهود وقومه، وصالح وقومه، وإبراهيم وقومه، ولوط وقومه، وعيسى وقومه، وموسى وقومه، ومحمد صلى الله عليه وسلم وقومه. واعرف ما قصه أهل العلم من أخبار النبي صلى الله عليه وسلم وقومه، وما جرى له معهم في مكة، وما جرى له في المدينة ; واعرف ما قص العلماء عن أصحابه، وأحوالهم وأعمالهم، لعلك أن تعرف الإسلام والكفر؛ فإن الإسلام الجزء: 9 ¦ الصفحة: 354 اليوم غريب، وأكثر الناس لا يميز بينه وبين الكفر وذلك هو الهلاك الذي لا يرجى معه فلاح. [قصة آدم وإبليس وسبب الكفر] فأما قصة آدم وإبليس، فلا زيادة على ما ذكر الله عز وجل في كتابه، ولكن قصة ذريته، فأول ذلك: أن الله أخرجهم من صلبه أمثال الذر، وأخذ عليهم العهود أن لا يشركوا به شيئا، كما قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} [سورة الأعراف آية: 172] ورأى فيهم الأنبياء مثل السرج. ورأى رجلا من أنورهم، فسأله عنه، فأعلمه الله أنه داود، فقال: كم عمره؟ قيل ستون ; قال: وهبت له من عمري أربعين سنة، وكان عمر آدم ألف سنة ; ورأى فيهم الأعمى، والأبرص، والمبتلى، فقال يا رب: لم لا سويت بينهم؟ قال: إني أحب أن أشكر; فلما مضى من عمر آدم ألف سنة إلا أربعين، أتاه ملك الموت، فقال: إنه بقي من عمري أربعين سنة، فقال: التي وهبتها لابنك داود، فنسي فنسيت ذريته، وجحد فجحدت ذريته. فلما مات آدم، بقيت ذريته من بعده عشرة قرون، على دين أبيهم، دين الإسلام، ثم كفروا بعد ذلك. وسبب كفرهم هو الغلو في حب الصالحين، كما ذكر الله تعالى في قوله: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 355 وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً} [سورة نوح آية: 23] . وذلك: أن هؤلاء الخمسة، قوم صالحون، يأمرونهم وينهونهم، فماتوا في شهر، فخاف أصحابهم من نقص الدين بعدهم، فصوروا صورهم، فصوروا صورة لكل رجل في مجلسه، لأجل التذكرة بأقوالهم، وأعمالهم إذا رأوا صورهم، ولم يعبدوهم. ثم حدث قرن آخر، فعظموهم أشد تعظيما من الذين قبلهم ولم يعبدوهم. ثم طال الزمان ومات أهل العلم؛ فلما خلت الأرض من العلماء، ألقى الشيطان في قلوب الجهال: أن أولئك الصالحين ما صوروا صور مشايخهم، إلا ليشفعوا لهم إلى الله عز وجل، فعبدوهم. فلما فعلوا ذلك؛ أرسل الله إليهم نوحا عليه السلام، ليردهم على دين أبيهم آدم عليه السلام، وذريته الذين مضوا قبل التبديل، فكان من أمرهم ما قص الله في كتابه. ثم عمر نوح وأهل السفينة الأرض، وبارك الله فيهم، وانتشروا في الأرض أمما، وبقوا على الإسلام مدة لا ندري ما قدرها. ثم حدث الشرك، فأرسل الله الرسل، وما من أمة إلا ويبعث الله فيهم رسولا، يأمرهم بالتوحيد، وينهاهم عن الشرك، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [سورة النحل آية: 36] وقال تعالى: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً الجزء: 9 ¦ الصفحة: 356 رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ} [سورة المؤمنون آية: 44] . وقال: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ} [سورة غافر آية: 78] . ولما ذكر الله القصص في سورة الشعراء، ختم كل قصة بقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ} [سورة الشعراء آية: 8] فقص الله ما قص في القرآن من القصص لأجلنا، كما قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُولِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [سورة يوسف آية: 111] . ولما أنكر الله على أناس من هذه الأمة، في زمن النبي صلى الله عليه وسلم أشياء فعلوها، قال: {أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ} [سورة التوبة آية: 70] الآية وكذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقص على أصحابه قصص من قبلهم، ليعتبروا بذلك. وكذلك أهل العلم، في نقلهم سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وما جرى له مع قومه، وما قال لهم، وما قيل له ; وكذلك نقلهم سيرة أصحابه، وما جرى لهم مع الكفار والمنافقين، وذكرهم أحوالهم وأقوالهم، وأحوال العلماء بعدهم، كل ذلك لأجل معرفة الخير والشر. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 357 إذا فهمت هذا، فاعلم: أن كثيرا من الرسل وأممهم، لا نعرفهم، لأن الله لم يخبرنا عنهم، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} [سورة غافر آية: 78] لكن أخبرنا عن عاد التي لم يخلق مثلها في البلاد، فبعث الله إليهم هودا عليه السلام، فكان من أمرهم ما قص الله في كتابه، ثم بعدهم ثمود الذين جابوا الصخر بالواد، فبعث الله إليهم صالحا عليه السلام، فكان من أمرهم ما قص الله علينا في كتابه، وبقي التوحيد في أصحاب هود إلى أن عدم بعد مدة لا ندري ما هي، وبقي في أصحاب صالح، ثم عدم بعد مدة لا ندري كم هي. ثم بعث الله إبراهيم عليه السلام، وليس على وجه الأرض يومئذ مسلم إلا هو، فجرى عليه من قومه ما جرى، وآمنت به امرأته سارة، ثم آمن له لوط عليه السلام، ومع هذا نصره الله ورفع قدره، وجعله إماما للناس. ومنذ ظهر إبراهيم عليه السلام، لم يعدم التوحيد في ذريته كما قال تعالى: {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [سورة الزخرف آية: 28] فإذا كان هو الإمام، فنذكر شيئا من أحواله، لا يستغنى مسلم عن معرفتها، فنقول: في الصحيحين، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لم يكذب إبراهيم عليه السلام قط، إلا ثلاث كذبات، اثنتين في ذات الله، قوله: {إِنِّي سَقِيمٌ} وقوله: {قَالَ بَلْ فَعَلَهُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 358 كَبِيرُهُمْ هَذَا} وواحدة في شأن سارة، فإنه قدم أرض جبار ومعه سارة، وكانت أحسن النساء، فقال لها: إن هذا الجبار، إن يعلم إنك امراتي يغلبني عليك، فإن سألك فأخبريه أنك أختي في الإسلام، فإني لا أعلم في الأرض مسلما غيري وغيرك. فلما دخل أرضه، رآها بعض أهل الجبار، فأتاه فقال: لقد قدم أرضك امرأة لا ينبغي أن تكون إلا لك، فأرسل إليها الجبار، فأتى بها فقام إبراهيم يصلي، فلما دخلت عليه، لم يتمالك أن بسط يده إليها، فقبضت يده قبضة شديدة، قال لها: ادعي الله أن يطلق يدي، فلك الله لا أضرك، ففعلت، فعاد فقبضت قبضة أشد من القبضة الأولى، فقال لها مثل ذلك، فعاد فقبضت أشد من القبضتين الأوليين، فقال لها: ادعي الله أن يطلق يدي، فلك الله لا أضرك، ففعلت فأطلقت يده. ودعا الذي جاء بها، فقال له إنما جئتني بشيطان، ولم تأتني بإنسان، فأخرجها من أرضي، وأعطاها هاجر، فأقبلت، فلما رآها إبراهيم انصرف، وقال لها: مهيم؟ قالت: خيرا، كفى الله كيد الفاجر، وأخدم خادما " قال أبو هريرة: "تلك أمكم يا بني ماء السماء". وللبخاري: " أن إبراهيم لما سئل عنها، قال: هي أختي، ثم رجع إليها، فقال: لا تكذبين حديثي، فإني الجزء: 9 ¦ الصفحة: 359 أخبرتهم أنك أختي، فوالله ما على الأرض مؤمن غيري وغيرك. فأرسل بها إليه، فقام إليها، فقامت تتوضأ وتصلي، فقالت: اللهم إن كنت آمنت بك وبرسولك، وأحصنت فرجي إلا على زوجي، فلا تسلط علي يد هذا الكافر، فغط حتى ركض برجله الأرض، فقالت: اللهم إن يمت يقال هي قتلته، فأرسل في الثانية، والثالثة، وكلما غط قامت إلى الصلاة والدعاء. ثم بعد ذلك، قال: والله ما أرسلتم إلي إلا شيطانه، أرجعوها إلى إبراهيم، وأعطوها هاجر، فرجعت إلى إبراهيم، فقالت: أشعرت أن الله كبت يد الفاجر، وأخدم وليدة ". وكان إبراهيم عليه السلام بأرض العراق، وبعد ما جرى عليه من قومه ما جرى، هاجر إلى الشام واستوطنها إلى أن مات فيها. وأعطته سارة الجارية التي أعطاها الجبار، فواقعها، فولدت له إسماعيل عليه السلام، فغارت سارة من الجارية التي أعطتها إبراهيم، فأمره الله بإبعادها عنها، فذهب بها وابنها فأسكنهما مكة ; ثم بعد ذلك وهب الله له، ولسارة إسحاق عليه السلام، كما ذكر الله سبحانه بشارة الملائكة له ولها {بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} [سورة هود آية: 71] . وفي الصحيح: عن ابن عباس، قال: " لما كان بين إبراهيم وأهله ما كان، خرج بإسماعيل وأم إسماعيل، ومعه الجزء: 9 ¦ الصفحة: 360 شنة فيها ماء، فجعلت أم إسماعيل تشرب من الشنة، فيدر لبنها على صبيها، حتى قدم مكة فوضعها تحت دوحة، فوق زمزم، في أعلى المسجد، وليس بمكة يومئذ أحد، وليس بها ماء، ووضع عندهما جرابا فيه تمر، وسقاء فيه ماء. ثم قفى إبراهيم منطلقا، فتبعته أم إسماعيل، فلما بلغ كداء، نادته من ورائه: يا إبراهيم، أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي، الذي ليس به أنيس ولا شيء؟ فقالت ذلك مرارا، وهو لا يلتفت إليها، فقالت: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم ; قالت: إذاً لا يضيعنا، وفي لفظ: إلى من تكلنا؟ قال: إلى الله ; قالت: رضيت بالله، ثم رجعت. فانطلق إبراهيم، حتى إذا كان عند الثنية حيث لا يرونه، استقبل بوجهه البيت، ثم دعا بهؤلاء الدعوات ورفع يديه، فقال: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} . وجعلت أم إسماعيل ترضعه، وتشرب من الشنة، فيدر لبنها على صبيها، حتى إذا نفد ما في السقاء، عطشت وعطش ابنها، وجعلت تنظر إليه يتلوى. فانطلقت كراهية أن تنظر إليه، فوجدت الصفا أقرب جبل إليها، فقامت عليه واستقبلت الوادي، تنظر هل ترى أحدا، فهبطت من الصفا حتى إذا بلغت الوادي، رفعت الجزء: 9 ¦ الصفحة: 361 طرف درعها، ثم سعت سعي الإنسان المجهود، حتى جاوزت الوادي. ثم أتت المروة، فقامت عليها ونظرت هل ترى أحدا، فلم تر أحدا، ففعلت ذلك سبع مرات. قال ابن عباس: قال النبي صلى الله عليه وسلم فلذلك سعى الناس بينهما. ثم قالت: لو ذهبت فنظرت بعيني ما فعل الصبي، فذهبت فنظرت، فإذا هو على حاله، كأنه ينشغ للموت، فلم تقر نفسها، فقالت: لو ذهبت فنظرت، لعلي أحس أحدا، حتى تمت سبعا. ثم قالت: لو ذهبت فنظرت ما فعل الصبي، فإذا هي بصوت، فقالت: أغث إن كان عندك خير، فإذا جبرائيل عليه السلام، قال: فقال بعقبه على الأرض، فانبث الماء، فدهشت أم إسماعيل. فقال أبو القاسم: فجعلت تحفر، فقال صلى الله عليه وسلم: يرحم الله أم إسماعيل لو تركت زمزم، أو قال لو لم تغرف من الماء، لكانت زمزم عينا معينا. وفي حديثه: فجعلت تغرف من الماء في سقائها، قال: فشربت وأرضعت ولدها. فقال لها الملك: لا تخافي الضيعة، فإن هاهنا بيت الله يبنيه هذا الغلام، وأبوه، إن الله لا يضيع أهله. وكان البيت مرتفعا من الأرض كالرابية، تأتيه السيول وتأخذ عن يمينه وشماله. فكانت كذلك حتى مرت بهم رفقة من جرهم، مقبلين من كداء، فرأوا طيرا عائفا، فقالوا: إن هذا الطائر يدور على ماء، لعهدنا بهذا الوادي وما فيه ماء. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 362 فأرسلوا جريا أو جريين، فإذا هم بالماء، فرجعوا فأخبروهم. فأقبلوا، فقالوا لأم إسماعيل: أتأذنين لنا أن ننْزل عندك؟ قالت: نعم، ولكن لا حق لكم في الماء ; قال: نعم ; قال ابن عباس: قال النبي صلى الله عليه وسلم: فألفى ذلك أم إسماعيل، وهي تحب الأنيس. فنزلوا وأرسلوا إلى أهليهم، فنْزلوا معهم، حتى إذا كانوا بها أهل أبيات منهم، وشب الغلام، وتعلم العربية منهم، وأنفسهم وأعجبهم حيث شب؛ فلما أدرك زوجوه امرأة منهم، وماتت أم إسماعيل. فجاء إبراهيم: بعدما تزوج إسماعيل، يطلع تركته، فلم يجد إسماعيل، فسأل امرأته عنه، فقالت: خرج يبتغي لنا. ثم سألها عن حالهم وعيشهم وهيئتهم؟ فقالت: نحن بشر، ونحن بضيق وشدة، وشكت إليه، قال: فإذا جاء زوجك، فاقرئي عليه السلام، وقولي له يغير عتبة بابه. فلما جاء إسماعيل، كأنه أنس شيئا، فقال: هل جاءكم من أحد؟ قالت: نعم، جاءنا شيخ كذا وكذا، فسألنا عنك فأخبرته، وسألنا كيف عيشنا فأخبرته أنا في ضيق وشدة، قال: فهل أوصاك بشيء؟ قالت: نعم، أمرني أن أقرأ عليك السلام، ويقول: غير عتبة بابك ; قال: ذلك أبي، وأمرني أن أفارقك، الحقي بأهلك فطلقها. وتزوج منهم أخرى، فلبث عنهم ما شاء الله، فقال الجزء: 9 ¦ الصفحة: 363 لأهله: إني مطلع تركتي، فجاء فقال لامرأته: أين إسماعيل؟ قالت: ذهب يصيد لنا ; فقالت: ألا تنْزل وتطعم وتشرب ; قال: وما طعامكم وشرابكم؟ قالت: طعامنا اللحم، وشرابنا الماء; قال: اللهم بارك لهم في طعامهم، وشرابهم. قال: فقال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: بركة دعوة إبراهيم، فهما لا يخلو عليهما أحد بغير مكة إلا لم يوافقاه. قال النبي صلى الله عليه وسلم: ولم يكن لهم يومئذ حب، ولو كان لهم دعا لهم فيه. وسألها عن عيشهم وهيئتهم؟ فقالت: نحن بخير وسعة، وأثنت على الله ; قال: إذا جاء زوجك، فاقرئي عليه السلام، ومريه يثبت عتبة بابه. فلما جاء إسماعيل، قال: هل أتاكم من أحد؟ قالت: نعم، شيخ حسن الهيئة، وأثنت عليه، فسألني عن عيشنا، فأخبرته أنا بخير ; قال: هل أوصاك بشيء؟ قالت: نعم، هو يقرأ عليك السلام، ويأمرك أن تثبت عتبة بابك، قال: ذلك أبي، وأنت العتبة، وأمرني أمسكك. ثم لبث ما شاء الله، فقال لأهله: إني مطلع تركتي، فجاء فوافق إسماعيل، وهو يبري نبلا له، تحت دوحة قريبا من زمزم، فلما رآه قام إليه، فصنعا كما يصنع الوالد بولده، والولد بالوالد ; ثم قال: يا إسماعيل إن الله أمرني بأمر، قال: فاصنع أمر ربك ; قال: وتعينني؟ قال: وأعينك. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 364 قال: إن الله أمرني أن أبني هاهنا بيتا، وأشار إلى أكمة مرتفعة على ما حولها. قال: فعند ذلك رفع إبراهيم القواعد من البيت فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة، وإبراهيم يبني، حتى إذا ارتفع، جاء بهذا الحجر فوضعه له، فقام عليه وهو يبني، وإسماعيل يناوله الحجارة، وهما يقولان: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} " هذا آخر حديث ابن عباس. فصارت ولاية البيت ومكة لإسماعيل، ثم لذريته من بعده، وانتشرت ذريته في الحجاز، وكثروا. وكانوا على الإسلام دين إبراهيم وإسماعيل قرونا كثيرة، ولم يزالوا على ذلك، حتى نشأ فيهم عمرو بن لحي، فابتدع الشرك، وغير دين إبراهيم عليه السلام، وتأتي قصته إن شاء الله تعالى. وأما إسحاق عليه السلام، فإنه نشأ في الشام وذريته، وهم بنو إسرائيل والروم؛ فأما بنو إسرائيل فأبوهم يعقوب عليه السلام ابن إسحاق، ويعقوب هو إسرائيل ; وأما الروم فأبوهم عيص بن إسحاق. ومما أكرم الله به نبيه إبراهيم عليه السلام: أن الله ما بعث بعده نبيا إلا من ذريته، كما قال تعالى: {وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ} [سورة العنكبوت آية: 27] وكل الأنبياء والرسل، من ذرية إسحاق. وأما إسماعيل: فلم يبعث من ذريته إلا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، بعثه الله إلى العالمين كافة، فكان من قبله من الأنبياء الجزء: 9 ¦ الصفحة: 365 كل نبي يبعث إلى قومه خاصة، وفضله على جميع الأنبياء. وأما قصة عمرو بن لحي، وتغييره دين إبراهيم: فإنه نشأ على أمر عظيم من المعروف والصدقة، والحرص على أمور الدين، فأحبه الناس حبا عظيما، ودانوا له لأجل ذلك، وملكوه عليهم حتى صار ملك مكة له، وولاية البيت بيده، وظنوا أنه من أكابر العلماء وأفاضل الأولياء. ثم إنه سافر إلى الشام، فرآهم يعبدون الأوثان، فاستحسن ذلك وظنه حقا، لأن الشام محل الرسل والكتب، فلهم الفضيلة بذلك على أهل الحجاز وغيرهم، فرجع إلى مكة وقدم معه بهبل، وجعله في جوف الكعبة. ودعا أهل مكة إلى الشرك بالله، فأجابوه. وأهل الحجاز في دينهم تبع لأهل مكة لأنهم ولاة البيت وأهل الحرم؛ فتبعهم أهل الحجاز على ذلك ظنا أنه الحق. فلم يزالوا على ذلك حتى بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم بدين إبراهيم، وإبطال ما أحدثه عمرو بن لحي؛ وكانت الجاهلية على ذلك، فيهم بقايا من دين إبراهيم لم يتركوه كله. وأيضا يظنون أنهم على دين إبراهيم، وأن ما أحدثه عمرو بدعة حسنة، لا تغير دين إبراهيم، وكانت تلبية نزار: لبيك اللهم لبيك، لبيك، لا شريك لك، إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك، فأنزل الله عز وجل {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 366 رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [سورة الروم آية: 28] . ومن أقدم أصنامهم " مناة " وكان منصوبا على ساحل البحر بقديد، تعظمه العرب كلها، لكن الأوس والخزرج، أشد تعظيما له من غيرهم، وبسبب ذلك أنزل الله: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [سورة البقرة آية: 158] ثم اتخذوا اللات بالطائف، قيل إن أصله رجل صالح، يلت السويق للحجاج، فمات فعكفوا على قبره، ثم اتخذوا " العزى " بوادي نخلة، بين مكة والطائف، فهذه الثلاثة أكبر أوثانهم. ثم كثر الشرك، وكثرت الأوثان في كل بقعة من الحجاز ; وكان لهم أيضا بيوت يعظمونها كتعظيم الكعبة، وكانوا كما قال الله عز وجل {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [سورة آل عمران آية: 164] . ولما دعا إلى الله، كان أشد الناس إنكارا له: علماؤهم، وعبادهم، وملوكهم، وعامتهم، حتى إنه لما دعا رجلا إلى الإسلام، قال له: من معك على هذا؟ قال: (حر وعبد) ، ومعه يومئذ أبو بكر وبلال. وأعظم فائدة لك أيها الطالب، وأكبر العلم، وأجل المحصول: إن فهمت ما صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " بدأ الإسلام الجزء: 9 ¦ الصفحة: 367 غريبا، وسيعود غريبا كما بدأ " 1 وقوله: " ل تتبعن سنن من كان قبلكم، حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه. قالوا: يا رسول الله: اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟ " 2. وقوله: " ستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة ". فهذه المسألة هي أجل المسائل، ومن فهمها فهو الفقيه، ومن عمل بها فهو المسلم. نسأل الله الكريم المنان، أن يتفضل علينا بفهمها، والعمل بها. [قصة البيت وجرهم وبني بكر وغبشان] وأما قصة البيت: فإن إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، لما بنياه صارت ولايته في إسماعيل وذريته، ثم غلبهم عليه أخوالهم من جرهم، ولم ينازعهم بنو إسماعيل لقرابتهم، وإعظاما لحرمتها أن يكون بها قتال. ثم إن جرهما بغوا بمكة، وظلموا من دخلها، فرق أمرهم، فلما رأت بنو بكر بن عبد مناة بن كنانة، وغبشان من خزاعة ذلك، أجمعوا على حربهم؛ فاقتتلوا، فغلبتهم بنو بكر وغبشان، ونفوهم من مكة. وكانت مكة في الجاهلية لا يقر فيها ظلم، ولا يبغي فيها أحد إلا أخرج، ولا يريدها ملك يستحل حرمتها إلا هلك ثم إن غبشان من خزاعة، وليت البيت دون بني بكر، وقريش إذ ذاك حلول، وصرم، وبيوتات، متفرقون في بني كنانة، فوليت خزاعة البيت يتوارثونه؛ وكان آخرهم خليل بن حبيشة، فتزوج ابنة   1 مسلم: الإيمان (145) , وابن ماجه: الفتن (3986) , وأحمد (2/389) . 2 البخاري: أحاديث الأنبياء (3456) , ومسلم: العلم (2669) , وأحمد (3/84 ,3/89) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 368 قصي بن كلاب. فلما عظم شرف قصي وكثر بنوه وماله، وهلك خليل، ورأى قصي أنه أولى بالكعبة وأمر مكة، من خزاعة وبني بكر، وأن قريشا رأس آل إسماعيل وصريحهم، فكلم رجالا من قريش وكنانة، في إخراج خزاعة وبني بكر من مكة، فأجابوه. وكان الغوث بن مرة بن إد بن طابخة بن إلياس بن مضر، يلي الإجازة للناس بالحج من عرفة، وولده من بعده، لأن أمه جرهمية لا تلد، فنذرت لله نذرا إن ولدت رجلا أن تصدق به على الكعبة يخدمها، فولدت الغوث، فكان يقوم على الكعبة مع أخواله من جرهم، فولي الإجازة بالناس لمكانه من الكعبة، وكان إذا دفع يقول: اللهم إني تابع تباعة ... إن كان إثم فعلى قضاعة وكانت صوفة تدفع بالناس من عرفات، وتجيز بهم إذا نفروا من منى، فإذا كان يوم النفر أتوا لرمي الجمار، ورجل من صوفة يرمي لهم، لا يرمون حتى يرمي، فكان المعجلون يأتونه يقولون: ارم حتى نرم، فيقول: لا والله حتى تميل الشمس، فإذا زالت رمى ورمى الناس معه، فإذا فرغوا من الرمي، وأرادوا النفر من منى، أخذت صوفة بالجانبين، فلم يجز أحد حتى يمروا، ثم يخلوا سبيل الناس. فلما انقرضوا، ورثهم بنو سعد بن زيد مناة من تميم، وكانت الإفاضة من مزدلفة، في "عدوان" يتوارثونها، حتى الجزء: 9 ¦ الصفحة: 369 كان آخرهم الذي قام عليه الإسلام أبو سيارة 1 فلما كان ذلك العام، فعلت صوفة ما كانت تفعل، وقد عرفت العرب ذلك لها وهو دين لهم، من عهد جرهم وولاية خزاعة، فأتاهم قصي ومن معه من قريش، وكنانة وقضاعة عند العقبة، فقال: نحن أولى بهذا منكم، فقاتلوه؛ فاقتتل الناس قتالا شديدا، فانهزمت صوفة، وغلبهم قصي على ما بأيديهم. وانحازت عند ذلك خزاعة وبنو بكر عن قصي، وعرفوا أنه سيمنعهم كما منع صوفة، ويحول بينهم وبين الكعبة وأمر مكة، فلما انحازوا، أجمع لحربهم، فالتقوا واقتتلوا قتالا شديدا. ثم تداعوا إلى الصلح، فحكموا عمرو بن عوف، أحد بني بكر، فقضى بينهم: بأن قصيا أولى بالكعبة ومكة من خزاعة، وكل دم أصابه قصي منهم موضوع، يشدخه تحت قدميه، وما أصابت خزاعة وبنو بكر، ففيه الدية، وأن يخلي بين قصي وبين الكعبة ومكة؛ فسمي يومئذ الشداخ. فوليها قصي وجمع قومه من منازلهم إلى مكة، وتملك عليهم فملكوه، إلا أنه أقر العرب على ما كانوا عليه، لأنه يراه دينا لهم، فأقر النسأة وآل صفوان، وعدوان ومرة بن عوف، على ما كانوا عليه، حتى جاء الإسلام فهدم ذلك كله، وفيه يقول الشاعر: قصي لعمري كان يدعى مجمعا ... به جمع الله القبائل من فهر   1 هو عميلة بن الأعزل, كما في السيرة لابن هشام. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 370 فكان أولى بني لؤي، أصاب ملكا أطاع له به قومه، فكانت إليه الحجابة، والسقاية، والرفادة، والندوة، واللواء، وقطع مكة أرباعا بين قومه، فأنزل لكل قوم منهم منازلهم؛ وقيل إنهم هابوا قطع الشجر عن منازلهم، فقطعها بيده وأعوانه، فسمته قريش مجمعا لما جمع أمرهم، وتيمنت بأمره، فلا تنكح امرأة منهم، ولا يتزوج رجل إلا بأمره، ولا يتشاورون فيما نزل بهم، ولا يعقدون لواء حرب إلا في داره، يعقده لهم بعض ولده، فكان أمره في حياته وبعد موته، عندهم، كالدين المتبع، واتخذ لنفسه دار الندوة. فلما كبر قصي ورق عظمه - وكان عبد الدار بكره، وكان عبد مناف قد شرف في زمان أبيه، وعبد العزى، وعبد - قال لعبد الدار: لألحقنك بالقوم وإن شرفوا عليك، لا يدخل منهم أحد الكعبة حتى تفتحها له، ولا يعقد لقريش لواء إلا أنت، ولا يشرب رجل بمكة إلا من سقايتك، ولا يأكل أحد من أهل الموسم طعاما إلا من طعامك، ولا تقطع قريش أمرا من أمورها إلا في دارك. فأعطاه دار الندوة، والحجابة، واللواء، والسقاية، والرفادة وهي خراج تخرجه قريش في الموسم من أموالها إلى قصي، فيصنع به طعاما للحاج، يأكله من لم يكن له سعة، لأنه فرضه عليهم، أي على قريش، فقال: أنتم جيران الله وأهل بيته، وإن الحاج ضيف الله، وهم أحق الضيف الجزء: 9 ¦ الصفحة: 371 بالكرامة، فاجعلوا له طعاما وشرابا أيام الحج حتى يصدروا عنكم، ففعلوا، وكان قصي لا يخالف ولا يرد عليه شيء صنعه، فلما هلك أقام بنوه أمره، لا نزاع بينهم. ثم إن بني عبد مناف أرادوا أخذ ما بيد عبد الدار، ورأوا أنهم أولى بذلك، فتفرقت قريش، بعضهم معهم، وبعضهم مع بني عبد الدار، فكان صاحب أمر بني عبد مناف عبد شمس، لأنه أسنهم، وصاحب بني عبد الدار عامر بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار. فعقد كل قوم حلفا مؤكدا؛ فأخرج بنو عبد مناف جفنة مملوءة طيبا، فغمسوا أيديهم فيها، فمسحوا بها الكعبة، فسموا المطيبين، وتعاقد بنو عبد الدار، وحلفاؤهم، فسموا الأحلاف. ثم تداعوا إلى الصلح، على أن لبني عبد مناف السقاية والرفادة، وأن الحجابة واللواء والندوة لبني عبد الدار؛ فرضوا، وثبت كل قوم مع من حالفوا، حتى جاء الله بالإسلام، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " كل حلف في الجاهلية، لم يزده الإسلام إلا شدة " 1. [قصة حلف الفضول وأمر الحمس] وأما حلف الفضول، فاجتمعوا له في دار ابن جدعان لشرفه وسنه، وهم بنو هاشم، وبنو عبد المطلب، وأسد بن عبد العزى، وزهرة بن كلاب، وتيم بن مرة، تعاهدوا أن لا يجدوا بمكة مظلوما من أهلها، أو ممن دخلها إلا قاموا   1 مسلم: فضائل الصحابة (2530) , وأبو داود: الفرائض (2925) , وأحمد (4/83) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 372 معه، حتى يردوا إليه مظلمته، فقال الزبير بن عبد المطلب عند ذلك شعرا: إن الفضول تحالفوا وتعاقدوا ... أن لا يقيم ببطن مكة ظال أمر عليه تحالفوا وتعاقدوا ... فالجار والمعتر فيهم سالم فولي السقاية والرفادة هاشم بن عبد مناف، لأن عبد شمس كان سفارا، قل ما يقيم بمكة، وكان مقلا ذا ولد، وكان هاشم موسرا، وكان هو أول من سن الرحلتين، وأول من أطعم الثريد بمكة، فقال بعضهم فيه كلاما منه: عمرو الذي هشم الثريد لقومه ... ورجال مكة مسنتون عجاف ولما مات، ولي ذلك عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، وكان ذا شرف فيهم، يسمونه الفياض لسماحته؛ وكان هاشم قدم المدينة، فتزوج سلمى بنت عمرو، من بني النجار، فولدت له عبد المطلب، فلما ترعرع، خرج إليه المطلب ليأتي به، فأبت أمه، فقال: إنه يلي ملك أبيه، فأذنت له. فرحل به وسلم إليه ملك أبيه، فولي عبد المطلب ما كان من آبائه، وأحبوه وعظم خطره فيهم. ثم ذكر قصة حفر زمزم، وما فيها من العجائب، ثم ذكر نذره ذبح ولده، وما جرى فيها من العجائب، ثم ذكر الآيات التي لرسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ولادته وبعدها، وما جرى له وقت رضاعه، وبعد ذلك ذكر كفالة أمه له، ثم ذكر كفالة جده، ثم ذكر كفالة أبي طالب، ثم ذكر قصة بحيرى الراهب، وغيرها من الآيات، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 373 ثم ذكر تزوجه خديجة، وما ذكر لها غلامها، وما ذكرته لورقة بن نوفل، وقوله: لججت وكنت في الذكرى لجوجا .... إلى آخرها. ثم ذكر حكمه صلى الله عليه وسلم بين قريش عند بناء الكعبة من الحجر، وذكر قصة بنائها، وذكر أمر الحمس، قال: إن قريشا ابتدعته رأيا رأوه، فقالوا: نحن بنو إبراهيم، وأهل الحرم وولاة البيت، فليس لأحد من العرب مثال حقنا، فلا تعظموا شيئا من الحل كما تعظمون الحرم، لئلا تستخف العرب بحرمتكم؛ فتركوا الوقوف بعرفة، والإفاضة منها، مع معرفتهم أنها من المشاعر، ومن دين إبراهيم، ويرون لسائر العرب أن يقفوا بها ويفيضوا منها، لأنهم قالوا: نحن أهل الحرم، فلا ينبغي لنا أن نخرج منه، ونحن الحمس والحمس، أهل الحرم. ثم جعلوا لمن ولدوا من العرب أهل الحل، مثل ما لهم بولايتهم إياهم، يحل لهم ما يحل لهم، ويحرم عليهم ما يحرم عليهم؛ فكانت كنانة وخزاعة دخلت معهم في ذلك. ثم ابتدعوا أمورا، فقالوا لا ينبغي للحمس أن يقطوا الأقط، ولا يسلوا السمن وهم حرم، ولا يدخلون بيتا من شعر، ولا يستظلون في بيوت الأدم ما داموا حرما. [بدء الوحي] ثم قالوا: لا ينبغي لأهل الحرم أن يأكلوا من طعام، جاؤوا به من الحل إلى الحرم، إذا جاؤوا به حجاجا أو الجزء: 9 ¦ الصفحة: 374 عمارا، ولا يطوفون بالبيت إذا قدموا أول طوافهم، إلا في ثياب الحمس، فإن لم يجدوا منها شيئا ما، طافوا بالبيت عراة، فإن لم يجد ثياب أحمس وطاف في ثيابه ألقاها إذا فرغ، ولم ينتفع بها ولا غيره، فكانت العرب تسميها "اللقى". فحملوا على ذلك العرب، فدانت به؛ أما الرجال فيطوفون عراة، وأما النساء فتضع المرأة ثيابها كلها، إلا درعها مفرجا، ثم تطوف فيه، فقالت امرأة وهي تطوف: اليوم يبدو بعضه أو كله ... وما بدا منه فلا أحله فلم يزالوا على ذلك حتى جاء الإسلام، فأنزل الله عز وجل: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} [سورة البقرة آية: 199] وأنزل الله فيما حرموا: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [سورة الأعراف آية: 31] إلى قوله: {تعلمون} وذكر حدوث الرجوم، وإنذار الكهان به صلى الله عليه وسلم، ونزول سورة الجن، وقصتهم. ثم ذكر إنذار اليهود به، وأنه سبب إسلام الأنصار، وما نزل في ذلك من القرآن، وقصة ابن الهيبان، وقوله: ما ترونه أخرجني من أرض الخمر والخمير، إلى أرض البؤس، والجوع، ثم ذكر قصة إسلام سلمان الفارسي، ثم ذكر الأربعة المتفرقين عن الشرك في طلب الدين، وهم: ورقة بن نوفل، وعبيد الله بن جحش، وعثمان بن الحويرث، وزيد بن عمرو. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 375 ثم ذكر وصية عيسى عليه السلام، باتباع محمد صلى الله عليه وسلم، وما أخذ الله على الأنبياء من الإيمان به، والنصر له، وأن يؤدوه إلى قومهم، فأدوا ذلك، وهو قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ} [سورة آل عمران آية: 81] الآية. ثم ذكر بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ والقصة في الصحيحين، وفيها: أن أول ما أنزل عليه: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الأِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ} [سورة العلق آية: 2] إلى قوله: {عَلَّمَ الْأِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [سورة العلق آية: 5] ثم أنزل عليه: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} [سورة المدثر آية: 5] فمن فهم: أن هذه أول آية أرسله الله بها، أمره سبحانه أن ينذر عن الشرك، الذي يعتقدون أنه عبادة تقرب إلى الله عز وجل قبل إنذاره عن نكاح الأمهات والبنات، وعرف أن قوله: {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} [سورة المدثر آية: 3] أمر بالتوحيد قبل الأمر بالصلاة وغيرها، عرف قدر الشرك عند الله، وقدر التوحيد. فلما أنذر استجاب له قليل، وأما الأكثر فلم يتبعوا ولم ينكروا، حتى بادأهم بسب دينهم وعيب آلهتهم، فاشتدت عداوتهم له ولمن تبعه، وعذبوهم عذابا شديدا، وأرادوا أن يفتنوهم عن دينهم. فمن فهم هذا، عرف أن الإسلام لا يستقيم الجزء: 9 ¦ الصفحة: 376 إلا بالعداوة لمن تركه وسب دينه، وإلا لو كان لأولئك المعذبين رخصة لفعلوا. وجرى بينه وبينهم ما يطول وصفه، وقص الله سبحانه بعضه في كتابه. [قصة أبي طالب وقراءة سورة النجم] ومن أشهر ذلك: قصة عمه أبي طالب لما حماه بنفسه وماله وعياله وعشيرته، وقاسى في ذلك الشدائد العظيمة وصبر عليها، ومع ذلك أنه مصدق له داع إلى دينه، محب لمن اتبعه معاديا لمن عاداه، لكن لم يدخل فيه، ولم يتبرأ من دين آبائه، ويتعذر عن ذلك بأنه لا يرضى بمسبة آبائه، وإلا لولا ذلك لاتبعه. ولما مات، وأراد النبي صلى الله عليه وسلم الاستغفار له، أنزل الله سبحانه: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [سورة التوبة آية: 113] فيا لها من عبرة ما أبينها! وما أبلغها من موعظة، وبيان ما أوضحه، لما يظن كثير من يدعي اتباع الحق، فيمن أحب الحق وأهله، من غير اتباع، لأجل غرض من أغراض الدنيا. ومما وقع أيضا: قصته معهم لما قرأ سورة النجم بحضرتهم، فلما وصل إلى قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى} [سورة النجم آية: 19] ألقى الشيطان في تلاوته: تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتها لترتجى، وظنوا أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله، ففرحوا بذلك فرحا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 377 شديدا، وتلقاه الصغير والكبير منهم، وقالوا كلاما معناه: هذا الذي نريد، نحن نقر أن الله هو الخالق الرازق المدبر للأمور، ولكن نريد شفاعتهم عنده، فإذا أقر بذلك فلا بيننا وبينه اختلاف. واستمر رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها، فلما بلغ السجدة سجد وسجدوا معه. وشاع الخبر أنهم صافوه، حتى إن الخبر وصل إلى الصحابة الذين بالحبشة، فركبوا في البحر راجعين، ظانين أن ذلك صدق، فلما ذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاف أن يكون قاله، فخاف من الله خوفا شديدا عظيما، حتى أنزل الله عز وجل عليه: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} [سورة الحج آية: 52] إلى قوله: {عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ} [سورة الحج آية: 55] فمن عرف هذه القصة، وعرف ما عليه المشركون اليوم، وما قاله علماؤهم، ولم يميز بين الإسلام الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم وبين دين قريش، الذي أرسله الله ينذرهم عنه، وهو الشرك الأكبر، فأبعده الله. فإن هذه القصة في غاية الوضوح، إلا من طبع الله على قلبه، فذلك لا حيلة فيه، ولو كان من أفهم الناس، كما قال الله تعالى في أهل الفهم، الذين لم يوفقوا {وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 378 يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [سورة الأحقاف آية: 26] . ثم لما أراد الله إظهار دينه وإعزاز المسلمين، أسلم الأنصار أهل المدينة، بسبب العلماء الذين عندهم من اليهود، وذكرهم لهم النبي صلى الله عليه وسلم وصفته، وأن هذا زمانه، وقدر الله سبحانه أن أولئك العلماء، الذين يتمنون ظهوره، ويتوعدونهم به، لمعرفتهم أن العز لمن اتبعه، يكفرون به، ويعادونه؛ فهو قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [سورة البقرة آية: 89] . فلما أسلم الأنصار، أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من كان بمكة بالهجرة إلى المدينة، فهاجروا إليها، وأعزهم الله تعالى بعد تلك الذلة؛ فهو قوله تعالى: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [سورة الأنفال آية: 26] . [الهجرة ووقوع بدر الكبرى] وفوائد الهجرة، والمسائل التي فيها كثيرة، لكن نذكر منها مسألة واحدة، وهي: أن أناسا من المسلمين لم يهاجروا، كراهة مفارقة الوطن، والأهل والأقارب؛ فهو قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 379 وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [سورة التوبة آية: 24] . فلما خرجت قريش إلى بدر، خرجوا معهم كرها، فقتل بعضهم بالرمي، فلما علموا أن فلانا قتل، وفلانا قتل، وفلانا قتل، تأسفوا على ذلك، وقالوا: قتلنا إخواننا، فأنزل الله عز وجل فيهم: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً} [سورة النساء آية: 97] . فليتأمل الناصح لنفسه هذه القصة، وما أنزل الله فيها من الآيات، فإن أولئك لو تكلموا بكلام الكفر، أو فعلوا كفرا يرضون به قومهم، لم يتأسف الصحابة رضي الله عنهم على قتلهم، لأن الله بين لهم وهم بمكة، لما عذبوا بقوله تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالأِيمَانِ} [سورة النحل آية: 106] . فلو سمعوا عنهم كلاما، أو فعلا يرضون به المشركين من غير إكراه، لم يقولوا: قتلنا إخواننا، ويوضحه قوله الجزء: 9 ¦ الصفحة: 380 تعالى: {فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا} [سورة النساء آية: 97] ولم يقولوا: كيف عقيدتكم؟ أو كيف فعلكم؟ بل قالوا: في أي الفريقين أنتم؟ فاعتذروا لهم: كنا مستضعفين في الأرض، فلم تكذبهم الملائكة في قولهم هذا، بل {قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} [سورة النساء آية: 97] يوضحه إيضاحا تاما قوله: {إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً} [سورة النساء آية: 98-99] . فهذا في غاية الوضوح; فإذا كان هذا في السابقين الأولين من الصحابة، فكيف بغيرهم؟ ولا يفهم هذا إلا من فهم أن أهل الدين اليوم لا يعدونه ذنبا. فإن فهمت ما أنزل الله فهما جيدا، وفهمت ما عند من يدعي الدين، تبين لك أمور: منها: أن الإنسان لا يستغني عن طلب العلم، فإن هذه وأمثالها لا تعرف إلا بالتنبيه، فإذا أشكلت على الصحابة قبل نزول الآية، فكيف بغيرهم؟ ومنها: أن تعرف أن الإيمان ليس كما ظنه غالب الناس اليوم، بل كما قال الحسن البصري: " ليس الإيمان بالتحلي، ولا بالتمني، ولكن ما وقر في القلوب، وصدقته الأعمال". نسأل الله أن يرزقنا علما نافعا، وأن يعيذنا من علم لا ينفع. قال عمر بن عبد العزيز، رضي الله عنه: "يا بني، ليس الجزء: 9 ¦ الصفحة: 381 الخير أن يكثر مالك وولدك، ولكن الخير: أن تعقل عن الله، ثم تطيعه ". ولما هاجر المسلمون إلى المدينة، واجتمع المهاجرون والأنصار، شرع الله لهم الجهاد، وقبل ذلك نهوا عنه و {قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ} [سورة النساء آية: 77] فأنزل الله عز وجل {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [سورة البقرة آية: 216] فبذلوا أنفسهم وأموالهم لله تعالى، رضي الله عنهم، فشكر الله لهم ذلك، ونصرهم على من عاداهم، مع قلتهم وضعفهم، وكثرة عدوهم وقوتهم. فمن الوقائع المشهورة، التي أنزل الله فيها القرآن: وقعة بدر، أنزل الله فيها سورة الأنفال، وبعدها وقعة بني قينقاع، ثم وقعة أحد بعد سنة، وفيها الآيات التي في آل عمران، وبعدها وقعة بني النضير، وفيها الآيات التي في سورة الحشر، ثم وقعة الخندق وبني قريظة، وفيها الآيات التي في سورة الأحزاب، ثم وقعة الحديبية، وفتح خيبر وأنزل الله فيها سورة الفتح، ثم فتح مكة ووقعة حنين، وأنزل الله فيها سورة النصر، وذكر حنين في براءة، ثم غزوة تبوك، وذكرها الله في سورة براءة. ولما دانت له العرب، ودخلوا في دين الله أفواجا، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 382 وابتدأ في قتال العجم، اختار الله له ما عنده، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدما أقام بالمدينة عشر سنين. فوقعت الردة المشهورة، وذلك أنه لما مات صلى الله عليه وسلم ارتد غالب من أسلم، وحصلت فتنة عظيمة، ثبت الله فيها من ثبت، وأنعم الله عليه بالثبات بسبب أبي بكر الصديق رضي الله عنه. فإنه قام فيها قياما لم يدانه أحد من الصحابة، ذكرهم ما نسوا، وعلمهم ما جهلوا، وشجعهم لما جبنوا، فثبت الله به دين الإسلام، جعلنا الله من أتباعه، وأتباع أصحابه، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [سورة المائدة آية: 54] قال الحسن: هو والله أبو بكر وأصحابه. [وقوع الردة] وصورة الردة: أن العرب افترقت في ردتها ; فطائفة رجعت إلى عبادة الأصنام، وقالوا: لو كان نبيا ما مات ; وفرقة قالوا: نؤمن بالله ولا نصلي ; وطائفة أقروا بالإسلام، وصلوا، ولكن منعوا الزكاة ; وطائفة شهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، لكن صدقوا لمسيلمة أن النبي أشركه في النبوة ; وذلك أنه أقام شهودا شهدوا معه بذلك، وفيهم رجل من الصحابة معروف بالعلم والعبادة، يقال له "الرجّال" فصدقوه لما عرفوا فيه من العلم الجزء: 9 ¦ الصفحة: 383 والعبادة، وفيه يقول بعضهم، أي بعض من ثبت منهم على دينه، وهو ابن عمرو اليشكري، كلاما، منه: يا سعاد الفؤاد بنت أثا ... طال ليلي بفتنة الرجال إنها يا سعاد من أحدث الدهـ ... ـر عليكم كفتنة الدجال فتن القوم بالشهادة والله ... عزيز ذو قوة ومحال وقوم من أهل اليمن صدقوا الأسود العنسي في دعوى النبوة وقوم صدقوا طليحة الأسدي. ولم يشك أحد من الصحابة، في كفر من ذكرنا، ووجوب قتالهم، إلا مانع الزكاة، لما عزم أبو بكر على قتالهم، قيل له: كيف تقاتلهم، وقد قال صلى الله عليه وسلم " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوا لا إله إلا الله، عصموا مني دماءهم وأموالهم، إلا بحقها " 1. قال أبو بكر: "الزكاة من حق لا إله إلا الله، والله لو منعوني عقالا، كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعه"، ثم زالت الشبهة عن الصحابة، وعرفوا أن الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال، وعرفوا وجوب قتالهم، فقاتلوهم ونصرهم الله عليهم، فقتلوا من قتلوا، وسبوا نساءهم وعيالهم. فمن أهم ما على المسلم اليوم: تأمل هذه القصة، التي جعلها الله من حججه على خلقه إلى يوم القيامة; فمن تأمل هذه تأملا جيدا، خصوصا إذا عرف أن الله شهرها على   1 البخاري: الجهاد والسير (2946) , ومسلم: الإيمان (21) , والترمذي: الإيمان (2606) , والنسائي: الجهاد (3090 ,3095) وتحريم الدم (3971 ,3972 ,3974 ,3976 ,3977 ,3978) , وأبو داود: الجهاد (2640) , وابن ماجه: المقدمة (71) والفتن (3927 ,3928) , وأحمد (1/11 ,2/377 ,2/423 ,2/502 ,2/528 ,3/300 ,3/332 ,3/339 ,3/394) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 384 ألسنة العامة؛ وأجمع العلماء على تصويب أبي بكر في ذلك، وجعلوا من أكبر فضائله وعلمه: أنه لم يتوقف عن قتالهم أول وهلة; وعرفوا غزارة فهمه في استدلاله عليهم، بالدليل الذي أشكل عليهم فرد عليهم بدليلهم بعينه، مع أن المسألة موضحة في القرآن والسنة. أما القرآن، فقوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [سورة التوبة آية: 5] . وفي الصحيحين: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " أمرت أن أقاتل الناس، حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم، إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله تعالى " 1. فهذا كتاب الله الصريح للعامي البليد، وهذا كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا إجماع العلماء الذي ذكرت لك، فمن بعدهم تريد؟ فما بعد هذا إلا الضلال البعيد، أو تسويل كل شيطان مريد. والذي يعرفك هذا: معرفة ضده، وهو أن العلماء في زماننا، يقولون: من قال: لا إله إلا الله فهو المسلم، حرام المال والدم، لا يكفر، ولا يقاتل، حتى إنهم يصرحون بذلك في البدو، الذين يكذبون بالبعث، وينكرون الشرائع كلها، ويزعمون أن شرعهم الباطل هو   1 البخاري: الإيمان (25) , ومسلم: الإيمان (22) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 385 حق الله ; ولو يطلب أحد منهم خصمه أن يخاصمه عند شرع الله، لعدوه من أكبر المنكرات. ومن حيث الجملة: إنهم يكفرون بالقرآن من أوله إلى آخره، ويكفرون بدين الرسول كله، مع إقرارهم بذلك، وإقرارهم أن شرعهم أحدثه آباؤهم لهم، كفر بشرع الله؛ وعلماء الوقت يعترفون بهذا كله، ويقولون: ما فيهم من الإسلام شعرة، لكن من قال: لا إله إلا الله، فهو المسلم، حرام المال والدم، ولو كان ما معه من الإسلام شعرة. وهذا القول، تلقته العامة عن علمائهم، وأنكروا ما بينه الله ورسوله، بل كفروا من صدق الله ورسوله في هذه المسألة، وقالوا: من كفر مسلما فقد كفر; والمسلم عندهم: الذي ليس معه من الإسلام شعرة، إلا أنه يقول لا إله إلا الله. فاعلم رحمك الله: أن هذه المسألة أهم الأشياء عليك، لأنها هي الكفر والإسلام؛ فإن صدقتهم فقد كفرت بما أنزل الله على رسوله، كما ذكرنا لك من القرآن والسنة والإجماع، وإن صدقت الله ورسوله، عادوك وكفروك؛ وهذا الكفر الصريح بالقرآن والرسول. فهذه المسألة، قد انتشرت في الأرض، مشرقها ومغربها، ولم يسلم منهم إلا القليل؛ فإن رجوت الجنة، وخفت النار، فاطلب هذه المسألة وحررها، ولا تقصر في الجزء: 9 ¦ الصفحة: 386 طلبها، لأجل شدة الحاجة إليها، لأنها الإسلام والكفر، وقل: اللهم ألهمني رشدي، وأعذني شر نفسي، وفهمني عنك، وعلمني منك، وأعذني من مضلات الفتن ما أحييتني. وأكثر الدعاء بالذي صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يدعو به في الصلاة، وهو " اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم ". ونزيد هذه المسألة إيضاحا ودلائل، لشدة الحاجة إليها، فنقول: يتفطن العاقل لقصة واحدة، وهي أن بني حنيفة أشهر أهل الردة؛ وهم الذين يعرفهم العامة من أهل الردة، وهم عند الناس من أقبح أهل الردة، وأعظمهم كفرا، وهم مع هذا يشهدون أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، ويؤذنون ويصلون. ومع هذا، فإن أكثرهم، يظنون أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم بذلك، لأجل الشهود الذين معهم "الرجّال". والذي يعرف هذا ولا يشك فيه، يقول: من قال: لا إله إلا الله فهو المسلم، ولو لم يكن معه من الإسلام شعرة، بل تركه واستهزأ به متعمدا. فسبحان مقلب القلوب والأبصار كيف يشاء! كيف الجزء: 9 ¦ الصفحة: 387 يجتمع في قلب من له عقل - ولو كان أجهل الناس - أنه يعرف أن بني حنيفة كفروا، مع أن حالهم ما ذكرنا، وأن البدو إسلام ولو تركوا الإسلام كله، وأنكروه واستهزؤوا به على عمد، لأنهم يقولون: لا إله إلا الله، لكن أشهد أن الله على كل شيء قدير. نسأل الله أن يثبت قلوبنا على دينه، ولا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، وأن يهب لنا من لدنه رحمة إنه هو الوهاب. الدليل الثاني: قصة أخرى وقعت في زمن الخلفاء الراشدين، وهي: أن بقايا من بنى حنيفة، لما رجعوا إلى الإسلام، وتبرؤوا من مسيلمة، وأقروا بكذبه، كبر ذنبهم في أنفسهم، وتحملوا بأهليهم إلى الثغر، لأجل الجهاد في سبيل الله، لعل ذلك يمحو عنهم تلك الردة، لأن الله تعالى يقول: {إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [سورة الفرقان آية: 70] وقوله: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى} [سورة طه آية: 82] . فنَزلوا الكوفة، وصار لهم بها محلة معروفة، فيها مسجد يسمى مسجد بني حنيفة، فمر بعض المسلمين على مسجدهم، ما بين المغرب والعشاء، فسمع منهم كلاما، معناه: أن مسيلمة على حق، وهم جماعة كثيرون؛ لكن الذي لم يقل لم ينكر على من قال، فرفعوا أمرهم إلى الجزء: 9 ¦ الصفحة: 388 ابن مسعود، فجمع من عنده من الصحابة رضي الله عنهم، واستشارهم: هل يقتلهم وإن تابوا؟ أو يستتيب؟ فأشار بعض بقتلهم من غير استتابة، وأشار بعضهم باستتابتهم. فاستتاب بعضهم، وقتل بعضهم ولم يستتبه، وقتل عالمهم ابن النواحة. فتأمل رحمك الله: إذا كانوا قد أظهروا من الأعمال الصالحة الشاقة ما أظهروا، لما تبرؤوا من الكفر، وعادوا إلى الإسلام، ولم يظهر منهم إلا كلمة أخفوها في مدح مسيلمة، لكن سمعها بعض المسلمين، ومع هذا لم يتوقف أحد في كفرهم كلهم، المتكلم والحاضر الذي لم ينكر، لكن اختلفوا: هل تقبل توبتهم أم لا؟ والقصة في صحيح البخاري. فأين هذا من كلام من يزعم أنه من العلماء، ويقول: البدو ما معهم من الإسلام شعرة، إلا أنهم يقولون: لا إله إلا الله، وحكم بإسلامهم بذلك؟ أين هذا مما أجمع عليه الصحابة فيمن قال تلك الكلمة، أو حضرها ولم ينكر؟ هيهات ما بين الفريقين، وبعد مسافة ما بين الطريقين: سارت مشرقة وسرت مغربا ... شتان بين مشرق ومغرب صم وبكم عن حقيقة دينهم ... ع عن القول المصيب الطيب قد أغرقوا في بحر شرك لجة ... في ظلمة فيها صواعق صيب الجزء: 9 ¦ الصفحة: 389 ربنا إننا نعوذ بك أن نكون ممن قلت فيهم: {فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ} [سورة البقرة آية: 17] ولا ممن قلت فيهم: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ} [سورة الأنفال آية: 22] . الدليل الثالث: ما وقع في زمان الخلفاء الراشدين، من قصة أصحاب علي رضي الله عنه لما اعتقدوا فيه الإلهية - التي تعتقد اليوم في أناس من أكفر بني آدم، وأفسقهم - فدعاهم إلى التوبة فأبوا، فخد لهم الأخاديد، وملأها حطبا، وأضرم فيها النار، وقذفهم فيها وهم أحياء. ومعلوم: أن الكافر، مثل اليهودي والنصراني، إذا أمر الله بقتله، لا يجوز إحراقه بالنار. فاعلم: أنهم أغلظ كفرا من اليهود والنصارى، هذا وهم يقومون الليل ويصومون النهار، ويقرؤون القرآن، آخذين له من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فلما غلوا في علي أنكر الغلو، وحرقهم بالنار وهم أحياء، وأجمع الصحابة والعلماء كلهم على كفرهم. فأين هذا ممن يقول في البدو تلك المقالة مع اعترافه بهذه القصة وأمثالها، واعترافه أن البدو كفروا بالإسلام كله، إلا أنهم يقولون: لا إله إلا الله؟ واعلم أن جناية هؤلاء على الإلهية، ولا علمنا فيهم جناية على النبوة، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 390 والذين قبلهم جنايتهم على النبوة، ولا علمنا لهم جناية على الإلهية ; وهذا مما يبين لك شيئا من معنى الشهادتين اللتين هما أصل الإسلام. الدليل الرابع: ما وقع في زمن الصحابة، وهي قصة المختار بن أبي عبيد، وهو رجل من التابعين، مصاهر لعبد الله بن عمر، ومظهر للصلاح؛ فظهر في العراق، يطلب بدم الحسين وأهل بيته، فقتل ابن زياد ومال إليه من مال لطلبه دم أهل البيت ممن ظلمهم. فاستولى على العراق، وأظهر شرائع الإسلام، ونصب القضاة، والأئمة من أصحاب ابن مسعود، وكان هو الذي يصلي بالناس الجماعة والجمعة؛ لكن في آخر أمره، زعم أنه يوحى إليه. فسير عليه عبد الله بن الزبير جيشا، فهزم جيشه وقتلوه، وأمير الجيش مصعب بن الزبير، وتحته امرأة أبوها أحد الصحابة، فدعاها مصعب إلى تكفيره فأبت، فكتب إلى أخيه عبد الله يستفتيه فيها، فكتب إليه إن لم تبرأ منه فاقتلها، فامتنعت فقتلها مصعب. وأجمع العلماء كلهم على كفر المختار، مع إقامته شعائر الإسلام، لما جنى على النبوة ; فإذا كان الصحابة قتلوا المرأة، التي هي من بنات الصحابة، لما امتنعت من تكفيره، فكيف بمن لم يكفر البدو، مع إقراره بحالهم؟ فكيف بمن زعم أنهم هم أهل الإسلام؟ من دعاهم إلى الجزء: 9 ¦ الصفحة: 391 الإسلام أنه هو الكافر؟! يا ربنا نسألك العفو والعافية. الدليل الخامس: ما وقع في زمن التابعين، وذلك قصة الجعد بن درهم، وكان من أشهر الناس بالعلم والعبادة، فلما جحد شيئا من صفات الله عز وجل مع كونها مقالة خفية عند الأكثر، ضحى به خالد القسري يوم عيد الأضحى، فقال: أيها الناس ضحوا، تقبل الله منكم ضحاياكم، فإني مضح بالجعد بن درهم، فإنه يزعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا، ولم يكلم موسى تكليما. ثم نزل فذبحه، ولم نعلم أحدا من العلماء أنكر ذلك عليه، بل ذكر ابن القيم إجماعهم على استحسانه، فقال: شكر الضحية كل صاحب سنة ... لله درك من أخي قربان فإذا كان رجل من أشهر الناس بالعلم والعبادة، وأخذ العلم عن الصحابة، أجمعوا على استحسان قتله، فأين هذا من اعتقاد أعداء الله في البدو؟. الدليل السادس: قصة بني عبيد القداح، فإنهم ظهروا على رأس المائة الثالثة، فادعى عبيد الله أنه من آل علي، من ذرية فاطمة، وتزيا بزي الطاعة والجهاد في سبيل الله، فتبعه أقوام من أهل المغرب؛ وصار له دولة كبيرة في المغرب، ولأولاده من بعده، ثم ملكوا مصر والشام، وأظهروا شرائع الإسلام، وإقامة الجمعة والجماعة، ونصبوا القضاة والمفتين. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 392 لكن أظهروا أشياء من الشرك، ومخالفة الشرع، وظهر منهم ما يدل على نفاقهم ; فأجمع أهل العلم على أنهم كفار، وأن دارهم دار حرب، مع إظهارهم شعائر الإسلام وشرائعه. وفي مصر من العلماء والعباد ناس كثير، وأكثر أهل مصر لم يدخل معهم فيما أحدثوه، ومع ذلك أجمع العلماء على ما ذكرنا، حتى إن بعض أكابر العلماء المعروفين بالصلاح، قال: لو أن معي عشرة أسهم، لرميت بواحد النصارى المحاربين، ورميت بالتسعة في بني عبيد. ولما كان في زمن السلطان محمود بن زنكي، أرسل إليهم جيشا عظيما، فأخذوا مصر من أيديهم، ولم يتركوا جهادهم لأجل من فيها من الصالحين. فلما فتحها السلطان، فرح المسلمون بذلك فرحا شديدا، وصنف ابن الجوزي كتابا في ذلك سماه "النصر على مصر"، وأكثر العلماء التصنيف والكلام في كفرهم، مع ما ذكرنا من إظهار شرائع الإسلام الظاهرة. فانظر ما بين هذا، وبين ديننا الأول: البدو إسلام، مع معرفتنا بما هم عليه من البراءة من الإسلام كله، إلا قول لا إله إلا الله، ولا نظن أن أحدا منهم يكفر، إلا إذا انتقل يهوديا أو نصرانيا. فإذا آمنت بما ذكر الله ورسوله، وأجمع عليه العلماء، وبرئت من دين آبائك في هذه المسألة، وقلت: آمنت بالله، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 393 وبما أنزل الله، وتبرأت مما خالفه باطنا وظاهرا، مخلصا لله الدين في ذلك، وعرف الله ذلك من قلبك، فأبشر، ولكن سل الله سبحانه التثبيت، واعرف أنه مقلب القلوب: إن القلوب يد الباري تقلبها ... فسل من الله توفيقا وتثبيتا سل الهداية منه أن يمن بها ... فإن هداك فللخيرات أوتيتا فهذه غربة الإسلام أنت بها ... فكن صبورا ولو في الله أوذيتا الدليل السابع: قصة التتار، وذلك أنهم لما فعلوا بالمسلمين ما فعلوا، وسكنوا بلدان المسلمين، وعرفوا دين الإسلام، واستحسنوه، وأسلموا، لكن لم يعملوا بما يجب عليهم، وأظهروا أشياء من الخروج عن الشريعة، لكن يتكلمون بالشهادتين، ويصلون ليسوا كالبدو، ومع هذا كفرهم العلماء، وقاتلوهم وغزوهم، حتى أزالهم الله عن بلدان المسلمين. وفيما ذكرنا كفاية لمن هداه الله سبحانه، وأما من أراد الله فتنته، فلو تناطحت الجبال بين يديه لم ينفعه ذلك، ولو ذكرنا ما جرى من السلاطين والقضاة، من قتل من يظهر شعائر الإسلام، إذا تكلم بكلام الكفر، وقامت عليه البينة، أنه يقتل، مع أن في هؤلاء المقتولين، من هو من أعلم الناس وأزهدهم وأعبدهم، مثل الحلاج وأمثاله، ومن هو من الفقهاء المصنفين، كالفقيه عمارة، فلو ذكرنا قصص هؤلاء، لاحتمل مجلدات، ولا نعرف الجزء: 9 ¦ الصفحة: 394 فيهم رجلا واحدا بلغ كفره كفر البدو، أو الذي يقول من يزعم إسلامهم: إنه ليس معهم من الإسلام شعرة، إلا قول لا إله إلا الله، ولكن (من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له) وقوله: {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُرْشِداً} [سورة الكهف آية: 17] . والعجب: أن الكتب التي بأيديهم، ويزعمون أنهم يعرفونها، ويعملون بها، فيها مسائل الردة ; وتمام العجب أنهم يعرفون بعض ذلك، ويقرون به، ويقولون: من أنكر البعث كفر، ومن شك فيه كفر، ومن سب الشرع كفر، ومن أنكر فرعا مجمعا عليه كفر، كل هذا يقولونه بألسنتهم. فإذا كان من أنكر الأكل باليمين، أو أنكر النهي عن إسبال الثياب، أو أنكر سنة الفجر، أو أنكر الوتر، فهو كافر، ويصرحون: أن من أنكر الإسلام كله وكذب به، واستهزأ به، أو استهزأ بمن صدق به، فهو أخوك المسلم، حرام المال والدم، مع أنه ما معه من الإسلام إلا أنه يقول: لا إله إلا الله، ثم يكفروننا ويستحلون دماءنا وأموالنا، مع أنا نقول: لا إله إلا الله. إذا سئلوا عن ذلك، قالوا: من كفر مسلما فقد كفر، ثم لم يكفهم ذلك، حتى أفتوا لمن عاهدنا بعهد الله ورسوله، أن ينقض العهد، وله في ذلك ثواب عظيم ; ويفتون أن الذي عنده لنا أمانة أو مال يتيم، أنه يجوز له أكل أمانته، ولو كان الجزء: 9 ¦ الصفحة: 395 مال يتيم بضاعة عنده، أو وديعة. بل يرسلون الرسائل لمن حارب التوحيد، ونصر عبادة الاوثان، مثل دهام بن دواس وغيره، يقولون: أنت يا فلان، قمت مقام الأنبياء، مع إقرارهم أن التوحيد الذي قلنا، وكفروا به، وصدوا الناس عنه، هو دين الأنبياء، وأن الشرك الذي نهينا عنه الناس، ورغبوهم فيه، وأمروهم بالصبر على آلهتهم، أنه الشرك الذي نهى عنه الأنبياء، ولكن هذه من أكبر آيات الله. فمن لم يفهمها فليبك على نفسه، فإنها قد ماتت، ولينتبه قبل حلول رمسه؛ فإن دنياه وأخراه قد فاتت، وليتدارك ما بقي من يومه بعد أمسه، فإن ركائب الموت بفنائه قد باتت، والله سبحانه وتعالى أعلم. اللهم يا مقلب القلوب والأبصار، ويا مزيل العقول والأفكار، ثبت قلوبنا على دينك، واجعلنا من القانتين لك في الأسحار، وأن تتوفانا مسلمين لك، برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلى على سيدنا محمد وآل محمد وأصحابه، بالعشي والإبكار، آمين والحمد لله رب العالمين وسلم تسليما. [بداية كتاب "مفيد المستفيد" في أحكام الردة] وسئل أيضا: شيخ الإسلام، وعلم الهداة الأعلام، الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى، لما ارتد الجزء: 9 ¦ الصفحة: 396 طائفة من أهل العيينة، ولما ارتد أهل حريملاء أن يكتب كلاما ينفع الله به. فأجاب، رحمه الله تعالى: روى مسلم في صحيحة، عن عمرو بن عبسة السلمي رضي الله عنه قال: " كنت في الجاهلية، أظن أن الناس على ضلالة، وأنهم ليسوا على شيء، وهم يعبدون الأوثان، فسمعت رجلا بمكة يخبر أخبارا، فقعدت على راحلتي حتى قدمت عليه، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم مستخفيا جرآء عليه قومه، فتلطفت حتى دخلت عليه بمكة. فقلت له: وما أنت؟ قال: نبي قلت: وما نبي؟ قال: أرسلني الله فقلت: بأي شيء أرسلك؟ قال: بصلة الأرحام، وكسر الأوثان، وأن يوحد الله لا يشرك به شيء فقلت له: ومن معك على هذا؟ قال: حر وعبد قال: ومعه يومئذ أبو بكر وبلال، فقلت: إني متبعك، قال: "إنك لا تستطيع ذلك يومك هذا، ألا ترى حالي وحال الناس؟ ولكن ارجع إلى أهلك، فإذا سمعت بي قد ظهرت فأتني". قال: فذهبت إلى أهلي، وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وكنت في أهلي، فجعلت أتخبر الأخبار، وأسال الناس حين قدم المدينة، حتى قدم نفر من أهل يثرب، فقلت: ما فعل هذا الرجل، الذي قدم المدينة؟ فقالوا: الناس إليه سراع، وقد الجزء: 9 ¦ الصفحة: 397 أراد قومه قتله فلم يستطيعوا ذلك، فقدمت المدينة، فدخلت عليه، فقلت: يا رسول الله، أتعرفني؟ قال: أنت الذي لقيتني بمكة قال: فقلت: يا نبي الله، علمني مما علمك الله وأجهله، أخبرني عن الصلاة؟ قال: " صل صلاة الصبح، ثم اقصر عن الصلاة حتى تطلع الشمس، وحتى ترتفع، فإنها تطلع حين تطلع بين قرني شيطان، وحينئذ يسجد الكفار. ثم صل فإن الصلاة مشهودة محضورة، حتى يستقل الظل بالرمح، ثم اقصر عن الصلاة، فإنها حينئذ تسجر جهنم. فإذا أقبل الفيء فصل، فإن الصلاة محضورة مشهودة، حتى تصلي العصر، ثم اقصر عن الصلاة حتى تغرب الشمس، فإنها تغرب بين قرني شيطان، وحينئذ يسجد لها الكفار " وذكر الحديث. قال أبو العباس، رحمه الله تعالى: فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة وقت طلوع الشمس، ووقت غروبها، معللا بأنها تطلع وتغرب بين قرني شيطان، وأنه حينئذ يسجد لها الكفار، ومعلوم أن المؤمن لا يقصد السجود إلا لله، وأكثر الناس قد لا يعلمون أن طلوعها، وغروبها بين قرني شيطان، ولا أن الكفار تسجد لها، ثم إنه صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة في هذا الوقت، حسما لمادة المشابهة. ومن هذا الباب: أنه إذا صلى إلى عود، أو عمود، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 398 جعله على حاجبه الأيمن، ولم يصمد له صمدا، ولهذا نهى عن الصلاة إلى ما عبد من دون الله في الجملة، ولهذا نهى عن السجود بين يدي الرجل، لما فيه من مشابهة السجود لغير الله، انتهى كلامه. فليتأمل المؤمن الناصح لنفسه، ما في هذا الحديث من العبر، فإن الله سبحانه يقص علينا أخبار الأنبياء وأتباعهم، ليكون للمؤمن من المتأخرين عبرة، فيقيس حاله بحالهم; وقص قصص الكفار والمنافقين، لتجتنب، ويجتنب من تلبس بها أيضا. فمما فيه من الاعتبار: أن هذا الأعرابي الجاهلي، لما ذكر له أن رجلا بمكة يتكلم في الدين بما يخالف الناس، لم يصبر حتى ركب راحلته فقدم عليه، وعلم ما عنده لما في قلبه من محبة الدين والخير، وهذا فسر به قوله تعالى: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً} [سورة الأنفال آية: 23] أي حرصا على تعلم الدين {لأسمعهم} أي: لأفهمهم؛ فهذا يدل على أن عدم الفهم في أكثر الناس اليوم، عدل منه سبحانه، لما يعلم في قلوبهم من عدم الحرص على تعلم الدين. فتبين: أن من أعظم الأسباب الموجبة لكون الإنسان من شر الدواب، هو عدم الحرص على التعلم، فإذا كان هذا الجاهل يطلب هذا الطلب، فما عذر من ادعى اتباع الأنبياء، وبلغه عنهم ما بلغه، وعنده من يعرض عليه التعليم، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 399 ولا يرفع بذلك رأسا، فإن حضر أو سمع فكما قال تعالى: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ} [سورة الأنبياء آية: 2] . وفيه من العبر أيضا: أنه لما قال: بأي شيء أرسلك؟ قال: بكذا وكذا، فتبين: أن زبدة الرسالة الإلهية، والدعوة النبوية، هو توحيد الله بعبادته وحده لا شريك له، وكسر الأوثان، ومعلوم أن كسرها لا يستقيم إلا بشدة العداوة، وتجريد السيف، فتأمل زبدة الرسالة. وفيه أيضا: أنه فهم المراد من التوحيد، وفهم أنه أمر كبير غريب، ولأجل هذا قال: من معك؟ قال: (حر وعبد) فأجابه: أنه جميع العلماء والعباد والملوك والعامة، مخالفون له، ولم يتبعه على ذلك إلا من ذكر، فهذا أوضح دليل على أن الحق قد يكون مع أقل القليل، وأن الباطل قد يملأ الأرض، ولله در الفضيل بن عياض، حيث يقول: لا تستوحش من الحق لقلة السالكين، ولا تغتر بالباطل لكثرة الهالكين. وأحسن منه قوله تعالى: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [سورة سبأ آية: 20] وفي الصحيحين " أن بعث النار من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون " 1 ولما بكوا من هذا لما سمعوه، قال صلى الله عليه وسلم " إنها لم تكن نبوة قط إلا كان بين يديها جاهلية، فيؤخذ العدد من   1 البخاري: أحاديث الأنبياء (3348) , ومسلم: الإيمان (222) , وأحمد (3/32) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 400 الجاهلية، فإن تمت وإلا تم من المنافقين " 1. قال الترمذي: حسن صحيح. فإذا تأمل الإنسان ما في هذا الحديث، من صفة بدو الإسلام، ومن اتبع الرسول صلى الله عليه وسلم إذ ذاك، ثم ضم إليه الحديث الآخر الذي في صحيح مسلم، أنه صلى الله عليه وسلم قال: " بدأ الإسلام غريبا، وسيعود غريبا كما بدأ " 2، تبين له الأمر إن هداه الله، وانزاحت عنه الحجة الفرعونية: {قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى} [سورة طه آية: 51] والحجة القرشية {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ} [سورة ص آية: 7] الآية. وقال أبو العباس، في كتاب "اقتضاء الصراط المستقيم"، في الكلام على قوله تعالى: {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} : ظاهره: أن ما ذبح لغير الله، سواء لفظ به أو لم يلفظ حرام، وتحريم هذا أظهر من تحريم ما ذبح للحم، وقال فيه باسم المسيح ونحوه، كما أن ما ذبحناه متقربين به إلى الله، أزكى مما ذبحناه للحم، وقلنا عليه بسم الله، فإن عبادة الله بالصلاة له والنسك له، أعظم من الاستعانة باسمه في فواتح الأمور. والعبادة لغير الله أعظم كفرا من الاستعانة بغير الله، فلو ذبح لغير الله متقربا إليه لحرم، وإن قال فيه: بسم الله، كما قد يفعله طائفة من منافقي هذه الأمة، وإن كان هؤلاء مرتدين لا تباح ذبائحهم بحال، لكن يجتمع في الذبيحة مانعان، ومن   1 الترمذي: تفسير القرآن (3168) . 2 مسلم: الإيمان (145) , وابن ماجه: الفتن (3986) , وأحمد (2/389) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 401 هذا ما يفعل بمكة وغيرها، من الذبح للجن، انتهى كلام الشيخ، وهو الذي ينسب إليه بعض أعداء الدين، أنه لا يكفر المعين. فانظر أرشدك الله إلى تكفيره، من ذبح لغير الله من هذه الأمة، وتصريحه أن المنافق يصير مرتدا لذلك، وهذا في المعين، إذ لا يتصور أن تحرم إلا ذبيحة معين. وقال أيضا في الكتاب المذكور: وكانت الطواغيت الكبار، التي تشد إليها الرحال ثلاثة، اللات والعزى ومناة، وكل واحد منها لمصر من أمصار العرب. فكانت اللات لأهل الطائف، ذكروا أنه كان في الأصل رجلا صالحا يلت السويق للحاج، فلما مات عكفوا على قبره. وأما العزى فكانت لأهل مكة، قريبا من عرفات؛ وكانت هناك شجرة يذبحون عندها ويدعون. وأما مناة فكانت لأهل المدينة، وكانت حذو قديد من ناحية الساحل. ومن أراد أن يعلم كيف كانت أحوال المشركين في عبادة أوثانهم، ويعرف حقيقة الشرك الذي ذمه الله وأنواعه، حتى يتبين له تأويل القرآن، فلينظر إلى سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وأحوال العرب في زمانه، وما ذكره الأزرقي في أخبار مكة وغيره من العلماء. ولما كان للمشركين شجرة يعلقون عليها أسلحتهم، ويسمونها ذات أنواط، فقال بعض الناس يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط، كما لهم ذات أنواط، فقال: " الله أكبر إنها الجزء: 9 ¦ الصفحة: 402 السنن، لتركبن سنن من كان قبلكم " 1. فأنكر صلى الله عليه وسلم مجرد مشابهتهم للكفار، في اتخاذ شجرة يعكفون عليها، معلقين عليها أسلحتهم. فكيف بما هو أطم من ذلك من الشرك بعينه؟ إلى أن قال: فمن ذلك عدة أمكنة بدمشق، مثل مسجد يقال له: "مسجد الكف"، فيه تمثال كف علي بن أبي طالب، حتى هدم الله ذلك الوثن; وهذه الأمكنة كثيرة، موجودة في أكثر البلاد، وفي الحجاز منها مواضع. [تكفير المعين] ثم ذكر كلاما طويلا في نهيه صلى الله عليه وسلم عن الصلاة عند القبور، فقال: العلة لما يفضي إليه ذلك من الشرك، ذكر ذلك الشافعي وغيره، وكذلك الأئمة من أصحاب مالك وأحمد، كأبي بكر الأثرم، عللوا بهذه العلة، وقد قال تعالى: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً} [سورة نوح آية: 23] الآية ذكر ابن عباس وغيره من السلف: أن هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوروا تماثيلهم، ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم; ذكر هذا البخاري في صحيحه، وأهل التفسير، كابن جرير وغيره. ومما يبين صحة هذه العلة: أنه لعن من يتخذ قبور الأنبياء مساجد، ومعلوم أن قبور الأنبياء لا يكون ترابها نجسا، وقال عن نفسه: " اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد " 2.   1 الترمذي: الفتن (2180) , وأحمد (5/218) . 2 أحمد (2/246) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 403 فعلم: أن نهيه عن ذلك، كنهيه عن الصلاة عند طلوع الشمس، وعند غروبها، فسد الذريعة لئلا يصلى في هذه الساعة، وإن كان المصلي لا يصلي إلا لله، ولا يدعو إلا الله، لئلا يفضي ذلك إلى دعائها، والصلاة لها، وكلا الأمرين قد وقع: فإن من الناس من يسجد للشمس، وغيرها من الكواكب، ويدعوها بأنواع الأدعية، وهذا من أعظم أسباب الشرك، الذي ضل به كثير من الأولين والآخرين، حتى شاع ذلك في كثير ممن ينتسب إلى الإسلام؛ وصنف بعض المشهورين فيه كتابا، على مذهب المشركين، مثل: أبي معشر البلخي، وثابت بن قرة، وأمثالهما ممن دخل في الشرك، وآمن بالطاغوت والجبت، وهم ينتسبون إلى الكتاب، كما قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} [سورة النساء آية: 51] . انتهى كلام الشيخ رحمه الله. فانظر رحمك الله إلى هذا الإمام، الذي ينسب عنه - من أزاغ الله قلبه - عدم تكفير المعين، كيف ذكر مثل الفخر الرازي، وهو من أكابر أئمة الشافعية، ومثل أبي معشر، وهو من أكابر المشهورين من المصنفين وغيرهم، أنهم كفروا وارتدوا عن الإسلام، والفخر هو الذي ذكره الشيخ، في الرد على المتكلمين، لما ذكر تصنيفه الذي ذكر هنا، قال: وهذه الجزء: 9 ¦ الصفحة: 404 ردة صريحة باتفاق المسلمين، وسيأتي كلامه إن شاء الله تعالى. وتأمل أيضا: ما ذكره في اللات والعزى ومناة، وجعله فعل المشركين معها، هو بعينه الذي يفعل بدمشق وغيرها، وتأمل قوله على حديث ذات أنواط؛ هذا قوله في مجرد مشابهتهم في اتخاذ شجرة، فكيف بما هو أطم من ذلك من الشرك بعينه؟ فهل للزائغ بعد هذا متعلق بشيء من كلام هذا الإمام؟ وأنا أذكر لك لفظه، الذي احتجوا به على زيغهم. قال رحمه الله: أنا من أعظم الناس نهيا، عن أن ينسب معين إلى تكفير، أو تبديع، أو تفسيق، أو معصية، إلا إذا علم أنه قد قامت عليه الحجة الرسالية، التي من خالفها كان كافرا تارة، وفاسقا أخرى، وعاصيا أخرى، انتهى كلامه. وهذا صفة كلامه في المسألة، في كل موضع وقفنا عليه من كلامه، لا يذكر عدم تكفير المعين إلا ويصله بما يزيل الإشكال، أن المراد بالتوقف عن تكفيره قبل أن تبلغه الحجة، وأما إذا بلغته الحجة حكم عليه بما تقتضيه تلك المسألة، من تكفير أو تفسيق أو معصية. وصرح رضي الله عنه أيضا: أن كلامه في غير المسائل الظاهرة، فقال في الرد على المتكلمين، لما ذكر أن بعض أئمتهم توجد منه الردة عن الإسلام كثيرا، قال: وهذا إن كان في المقالات الخفية، فقد يقال إنه فيها مخطئ ضال، لم الجزء: 9 ¦ الصفحة: 405 تقم عليه الحجة التي يكفر تاركها، لكن هذا يصدر عنهم في أمور يعلم الخاصة والعامة من المسلمين، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث بها، وكفر من خالفها، مثل عبادة الله وحده لا شريك له، ونهيه عن عبادة أحد سواه، من الملائكة والنبيين وغيرهم، فإن هذا أظهر شعائر الإسلامـ ومثل إيجابه للصلوات الخمس، وتعظيم شأنها; ومثل تحريم الفواحش، والزنى والخمر والميسر; ثم تجد كثيرا من رؤوسهم وقعوا فيها، فكانوا مرتدين; وأبلغ من ذلك: أن منهم من صنف في دين المشركين، كما فعل أبو عبد الله الرازي، قال: وهذه ردة صريحة باتفاق المسلمين، انتهى كلامه. فتأمل هذا، وتأمل ما فيه من تفصيل الشبهة، التي يذكر أعداء الله، لكن {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً} [سورة المائدة آية: 41] ، على أن الذي نعتقده وندين الله به، ونرجو أن يثبتا عليه: أنه لو غلط هو، أو أجل منه في هذه المسألة، وهي مسألة: المسلم إذا أشرك بعد بلوغ الحجة، أو المسلم الذي يفضل هذا على الموحدين، أو يزعم أنه على حق، وغير ذلك من الكفر الصريح الظاهر، الذي بينه الله ورسوله، وبينه علماء الأمة، أنا نؤمن بما جاءنا عن الله وعن رسوله من تكفيره، ولو غلط من غلط، فكيف والحمد لله، ونحن لا نعلم عن واحد من العلماء خلافا في هذه المسألة، وإنما يلجأ من شاق فيها إلى حجة فرعون {قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 406 الأُولَى} أو حجة قريش {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ} [سورة ص آية: 7] الآية. [المنتسب إلى الإسلام قد يمرق] وقال الشيخ رحمه الله، في "الرسالة السنية"، لما ذكر حديث الخوارج، ومروقهم من الدين، وأمره صلى الله عليه وسلم بقتالهم، قال: فإذا كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه ممن انتسب إلى الإسلام، من مرق منه مع عبادته العظيمة، حتى أمر صلى الله عليه وسلم بقتالهم. فليعلم: أن المنتسب إلى الإسلام والسنة، قد يمرق أيضا من الإسلام في هذه الأزمان، وذلك بأسباب; منها: الغلو الذي ذمه الله في كتابه، حيث يقول: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ} [سورة المائدة آية: 77] وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه حرق الغالية من الرافضة، فأمر بأخاديد خدت لهم عند باب كندة، فقذفهم فيها، واتفق الصحابة على قتلهم، لكن ابن عباس، كان مذهبه: أن يقتلوا بالسيف بلا تحريف، وهو قول أكثر العلماء، وقصتهم معروفة عند العلماء. وكذلك الغلو في بعض المشائخ، بل الغلو في علي بن أبي طالب، بل الغلو في المسيح ونحوه، فكل من غلا في نبي أو رجل صالح، وجعل فيه نوعا من الإلهية، مثل أن يقول يا سيدي فلان انصرني، أو أغثني، أو ارزقني، أو أجرني، أو أنا في حسبك، ونحو هذه الأقوال، فكل هذا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 407 شرك وضلال، يستتاب صاحبه، فإن تاب وإلا قتل. فإن الله سبحانه إنما أرسل الرسل، وأنزل الكتب، ليعبد وحده لا شريك له، لا يجعل معه إله آخر; والذين يجعلون مع الله آلهة أخرى، مثل المسيح، والملائكة، والأصنام، لم يكونوا معتقدين أنها تخلق الخلائق، أو تنْزل المطر، أو تنبت النبات، وإنما كانوا يعبدونهم، أو يعبدون قبورهم، أو صورهم، ويقولون: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [سورة الزمر آية: 3] ، ويقولون: {هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} فبعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم ينهى أن يدعى أحد من دونة، لا دعاء عبادة، ولا دعاء استغاثة، قال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً} [سورة الإسراء آية: 56] الآية. قال طائفة من السلف: كان أقوام يدعون المسيح، وعزيرا، والملائكة. [عبادة الله وحده لا شريك له هي أصل الدين] ثم ذكر رحمه الله تعالى آيات، ثم قال: وعبادة الله وحده لا شريك له، هي أصل الدين، وهو التوحيد الذي بعث الله به الرسل، وأنزل به الكتب، قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [سورة النحل آية: 36] ، وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} [سورة الأنبياء آية: 25] ، وكان صلى الله عليه وسلم يحقق التوحيد، ويعلمه أمته، حتى قال له الجزء: 9 ¦ الصفحة: 408 رجل: ما شاء الله وشئت، قال: " أجعلتني لله ندا؟ بل ما شاء الله وحده "، ونهى عن الحلف بغير الله، فقال: " من حلف بغير الله فقد كفر أو أشر ك " 1 وقال في مرض موته: " لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " 2 يحذر ما صنعوا; وقال: " اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد "، وقال: " لا تتخذوا قبري عيدا، ولا بيوتكم قبورا، وصلوا علي حيثما كنتم، فإن صلاتكم تبلغني " 3. ولهذا اتفق أئمة الإسلام على أنه لا يشرع بناء المساجد على القبور، ولا الصلاة عندها، وذلك لأنه من أكبر أسباب عبادة الأوثان، وتعظيم القبور؛ ولهذا اتفق العلماء، على أنه من سلم على النبي صلى الله عليه وسلم عند قبره، أنه لا يتمسح بحجرته، ولا يقبلها، لأنه إنما يكون ذلك لأركان بيت الله، فلا يشبه بيت المخلوق ببيت الخالق؛ كل هذا لتحقيق التوحيد، الذي هو أصل الدين، ورأسه، الذي لا يقبل الله عملا إلا به، ويغفر لصاحبه، ولا يغفر لمن تركه، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [سورة النساء آية: 48] الآية. ولهذا كانت كلمة التوحيد، أفضل الكلام، وأعظمه، فأعظم آية في القرآن آية الكرسي {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [سورة البقرة آية: 255] . وقال صلى الله عليه وسلم: " من كان آخر كلامه لا إله إلا الله، دخل الجنة " 4 والإله هو الذي تألهه القلوب، عبادة   1 الترمذي: النذور والأيمان (1535) , وأبو داود: الأيمان والنذور (3251) , وأحمد (2/34 ,2/69 ,2/86 ,2/125) . 2 البخاري: الجنائز (1330) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (531) , والنسائي: المساجد (703) , وأحمد (1/218 ,6/34 ,6/80 ,6/121 ,6/252 ,6/255 ,6/274) , والدارمي: الصلاة (1403) . 3 أبو داود: المناسك (2042) , وأحمد (2/367) . 4 أبو داود: الجنائز (3116) , وأحمد (5/233 ,5/247) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 409 له، واستعانة به، ورجاء له، وخشية، وإجلالا، انتهى كلامه رحمه الله. فتأمل أول الكلام وآخره، وتأمل كلامه فيمن دعا نبيا أو وليا، مثل أن يقول: يا سيدي فلان اغثني، ونحوه، أنه يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، هل يكون هذا إلا في المعين؟ والله المستعان; وتأمل كلامه في اللات والعزّى ومناة، وما ذكر بعده، يتبين لك الأمر، إن شاء الله تعالى. [أنواع الشرك] وقال ابن القيم رحمه الله في "شرح المنازل"، في باب التوبة: وأما الشرك: فهو نوعان، أكبر وأصغر; فالأكبر لا يغفره الله إلا بالتوبة منه، وهو أن يتخذ من دون الله ندا، يحبه كما يحب الله؛ بل أكثرهم يحبون آلهتهم أعظم من محبة الله، ويغضبون إذا انتقص معبودهم من المشائخ، أعظم مما يغضبون إذا انتقص أحد رب العالمين. وقد شاهدنا هذا نحن وغيرنا منهم جهرة، وترى أحدهم قد اتخذ ذكر معبوده على لسانه، إن قام وإن قعد، وأن عثر وإن استوحش، وهو لا ينكر ذلك، ويزعم أنه باب حاجته إلى الله، وشفيعه عنده، وهكذا كان عباد الأصنام سواء، وهذا القدر هو الذي قام بقلوبهم، وتوارثه المشركون، بحسب اختلاف آلهتهم، فأولئك كانت آلهتهم من الحجر، وغيرهم اتخذها من البشر. قال تعالى حاكيا عن أسلاف هؤلاء {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 410 دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [سورة الزمر آية: 3] . الآية. فهذه حال من اتخذ من دون الله وليا، يزعم أنه يقربه إلى الله تعالى، وما أعز من يتخلص من هذا! بل ما أعز من لا يعادي من أنكره! والذي قام بقلوب هؤلاء المشركين وسلفهم، أن آلهتهم تشفع لهم عند الله، وهذا عين الشرك؛ وقد أنكر الله عليهم ذلك في كتابه وأبطله، وأخبر أن الشفاعة كلها له. ثم ذكر الشيخ رحمه الله، فصلا طويلا، في تقرير هذا الشرك الأكبر، ولكن تأمل قوله: وما أعز من يتخلص من هذا! بل ما أعز من لا يعادي من أنكره; يتبين لك بطلان الشبهة، التي أدلى بها الملحد، وزعم أن كلام الشيخ في الفصل الثاني يدل عليها، وسيأتي تقريره إن شاء الله تعالى. وذكر في آخر هذا الفصل، أعني الفصل الأول، في الشرك الأكبر، الآية التي في سورة سبأ: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [سورة سبأ آية: 22] إلى قوله: {إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} ، وتكلم عليها ثم قال: والقرآن مملوء من أمثالها، ولكن أكثر الناس لا يشعر بدخول الواقع تحته، ويظنه في قوم قد خلوا ولم يعقبوا وارثا؛ وهذا هو الذي يحول بين القلب وبين فهم القرآن، كما قال عمر بن الخطاب، رضي الله عنه: "إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة، إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية ". الجزء: 9 ¦ الصفحة: 411 وهذا لأنه إذا لم يعرف الشرك، وما عابه القرآن وذمه، وقع فيه وأقره، وهو لا يعرف أنه الذي كان عليه أهل الجاهلية، فتنتقض بذلك عرى الإسلام، ويعود المعروف منكرا، والمنكر معروفا، والبدعة سنة، والسنة بدعة، ويكفر الرجل بمحض الإيمان، وتجريد التوحيد، ويبدع بتجريد متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم ومفارقة الأهواء والبدع، ومن له بصيرة وقلب حي، يرى ذلك عيانا، فالله المستعان. فصل: وأما الشرك الأصغر، فكيسير الرياء، والحلف بغير الله، وقوله: هذا من الله ومنك، وأنا بالله وبك، وما لي إلا الله وأنت، وأنا متوكل على الله وعليك، ولولا أنت لم يكن كذا وكذا؛ وقد يكون هذا شركا أكبر، بحسب حال قائله ومقصده. ثم قال الشيخ رحمه الله - بعد ذكر الشرك الأكبر والأصغر -: ومن أنواع هذا الشرك: السجود للشيخ، ومن أنواعه: التوبة للشيخ، فإنها شرك عظيم، ومن أنواعه: النذر لغير الله والتوكل على غير الله، والعمل لغير الله، والإنابة والخضوع والذل لغير الله، وابتغاء الرزق من عند غيره، وإضافة نعمه إلى غيره. ومن أنواعه: طلب الحوائج من الموتى، والاستغاثة بهم، والتوجه إليهم، وهذا أصل شرك العالم; فإن الميت قد انقطع عمله، وهو لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا، فضلا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 412 لمن استغاث به، أو سأله أن يشفع له إلى الله، وهذا من جهله بالشافع والمشفوع عنده، فإن الله تعالى لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، والله لم يجعل سؤال غيره سببا لإذنه، وإنما السبب لإذنه كمال التوحيد فجاء هذا المشرك بسبب يمنع الإذن. والميت محتاج إلى من يدعو له، كما أوصانا النبي صلى الله عليه وسلم إذا زرنا قبور المسلمين، أن نترحم عليهم، ونسأل الله لهم العافية والمغفرة، فعكس المشركون هذا، وزاروهم زيارة العبادة، وجعلوا قبورهم أوثانا تعبد، فجمعوا بين الشرك بالمعبود، وتغيير دينه، ومعاداة أهل التوحيد، ونسبتهم إلى تنقص الأموات؛ وهم قد تنقصوا الخالق بالشرك، وأولياءه المؤمنين بذمهم ومعاداتهم، وتنقصوا من أشركوا به غاية التنقص، إذ ظنوا أنهم راضون منهم بهذا، وأنهم أمروهم به، وهؤلاء أعداء الرسل في كل زمان ومكان، وما أكثر المستجيبين لهم. ولله در خليله إبراهيم، حيث يقول: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ} [سورة إبراهيم آية: 35] ، وما نجا من شرك هذا الشرك الأكبر، إلا من جرد التوحيد لله، وعادى المشركين في الله، وتقرب بمقتهم إلى الله، انتهى كلامه. والمراد بهذا: أن بعض الملحدين نسب إلى الشيخ أن الجزء: 9 ¦ الصفحة: 413 هذا شرك أصغر، وشبهته أنه ذكره في الفصل الثاني، الذي ذكر في أوله الأصغر، وأنت رحمك الله تجد الكلام من أوله إلى آخره، في الفصل الأول، والثاني، صريحا لا يحتمل التأويل من وجوه كثيرة: منها: أن دعاء الموتى، والنذر لهم، ليشفعوا له عند الله، هو الشرك الأكبر، الذي بعث النبي صلى الله عليه وسلم بالنهي عنه، فكفر من لم يتب منه، وقاتله وعاداه. وآخر ما صرح به، قوله آنفا: وما نجا من شرك هذا الشرك الأكبر إلى آخره، فهل بعد هذا البيان بيان، إلا العناد، بل الإلحاد؟ ولكن تأمل قوله أرشدك الله: وما نجا من شرك هذا الشرك الأكبر، إلا من عادى المشركين إلى آخره، وتأمل أن الإسلام لا يصح إلا بمعاداة أهل الشرك الأكبر، وإن لم يعادهم فهو منهم، وإن لم يفعله. وقد ذكر في "الإقناع"، عن الشيخ تقي الدين: أن من دعا علي بن أبي طالب فهو كافر، وأن من شك في كفره فهو كافر، فإذا كان هذا حال من شك في كفره، مع عداوته له ومقته، فكيف بمن يعتقد أنه مسلم، ولم يعاده؟ فكيف بمن أحبه؟ فكيف بمن جادل عنه وعن طريقته؟ وتعذر أنا لا نقدر على التجارة وطلب الرزق إلا بذلك، وقد قال تعالى: {وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا} [سورة القصص آية: 57] . فإذا كان هذا قول الله تعالى، فيمن تعذر عن التبين بالعمل بالتوحيد، ومعاداة المشركين بالخوف على أهله الجزء: 9 ¦ الصفحة: 414 وعياله، فكيف بمن اعتذر في ذلك بتحصيل التجارة، ولكن الأمر كما تقدم عن عمر: " إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية " فلهذا لم يفهم معنى القرآن، وأنه أشر وأفسد من الذين قالوا: {إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا} [سورة القصص آية: 57] الآية. ومع هذا فالكلام الذي يظهرونه نفاق، وإلا فهم يعتقدون أن أهل التوحيد ضالون مضلون، وأن عبدة الأوثان أهل الحق، والصواب كما صرح به إمامهم في الرسالة التي أتتكم قبل هذه، خطه بيده، يقول: بيني وبينكم أهل الأقطار، وهم خير أمة أخرجت للناس، وهم كذا وكذا؛ فإذا كان يريد التحاكم إليهم، ويصفهم بأنهم خير أمة أخرجت للناس، فكيف أيضا يصفهم بالشرك، ومخالطتهم للحاجة! وما أحسن قول أصدق القائلين: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ} [سورة الذاريات آية: 7] {بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ} [سورة ق آية: 5] . فرحم الله امرأ نظر في نفسه، وتفكر فيما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من عند الله، من معاداة من أشرك بالله، من قريب أو بعيد، وتكفيرهم، وقتالهم، حتى يكون الدين كله لله، وعلم ما حكم به محمد صلى الله عليه وسلم فيمن أشرك بالله، مع ادعائه الإسلام، وما حكم في ذلك الخلفاء الراشدون، كعلي بن أبي طالب رضي الله عنه وغيره، لما حرقهم بالنار، مع أن الجزء: 9 ¦ الصفحة: 415 غيرهم من أهل الأوثان، الذين لم يدخلوا في الإسلام، لا يقتلون بالتحريف، والله الموفق. وقال أبو العباس ابن تيمية، في الرد على المتكلمين، لما ذكر بعض أحوال أئمتهم، قال: وكل شرك في العالم، إنما حدث برأي جنسهم؛ فهم الآمرون بالشرك، والفاعلون له، ومن لم يأمر منهم بالشرك، فلم ينه عنه، بل يقر هؤلاء وهؤلاء، وإن رجح الموحدين ترجيحا ما، فقد يرجح غيره المشركين، وقد يعرض عن الأمرين جميعا، فتدبر هذا، فإنه نافع جدا. ولهذا كان رؤساؤهم المتقدمون والمتأخرون، يأمرون بالشرك، وكذلك الذين كانوا في ملة الإسلام، لا ينهون عن الشرك، ويوجبون التوحيد، بل يسوغون الشرك، أو يأمرون به، أو لا يوجبون التوحيد، وقد رأيت من مصنفاتهم، في عبادة الملائكة، وعبادة الأنفس المفارقة، وأنفس الأنبياء، وغيرهم، ما هو أصل الشرك، وهم إذا ادعوا التوحيد، إنما توحيدهم بالقول، لا بالعبادة والعمل. والتوحيد الذي جاءت به الرسل، لا بد فيه من التوحيد بإخلاص الدين لله، وعبادته وحده لا شريك له، وهذا شيء لا يعرفونه، فلو كانوا موحدين بالقول والكلام، لكان معهم التوحيد دون العمل، وذلك لا يكفي في السعادة والنجاة، بل لا بد من أن يعبدوا الله وحده، ويتخذوه إلها دون ما سواه، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 416 وهذا معنى قول لا إله إلا الله; انتهى كلام الشيخ. فتأمل رحمك الله هذا الكلام، فإنه مثل ما قال الشيخ فيه، نافع جدا، ومن أكبر ما فيه من الفوائد: أنه يبين لك حال من أقر بهذا الدين، وشهد أنه الحق، وأن الشرك هو الباطل، وقال بلسانه ما أريد منه، ولكن لا يدين بذلك، إما بغضا له أو عدم محبته، كما هي حال المنافقين الذين بين أظهرنا. وأما إيثار الدنيا، مثل تجارة أو غيرها، فيدخلون في الإسلام، ثم يخرجون منه، كما قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا} الآية وقال تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ} إلى قوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ} [سورة النحل آية: 107] . فإذا قال هؤلاء بألسنتهم: نشهد أن هذا دين الله ورسوله، وأن المخالف له باطل، وأنه الشرك بالله، غر هذا الكلام ضعيف البصيرة. وأعظم من هذا وأطم: أن أهل حريملا ومن والاهم، يصرحون بمسبة الدين، وأن الحق ما عليه أكثر الناس، ويستدلون بالكثرة على حسن ما هم عليه من الدين، ويفعلون ويقولون ما هو من أكبر الردة وأفحشها. فإذا قالوا: التوحيد حق، والشرك باطل، وأيضا لم يحدثوا في بلدهم أوثانا، جادل الملحد عنهم، وقال: إنهم يقرون أن هذا شرك، وأن التوحيد هو الحق، ولا يضرهم، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 417 عنده ما هم عليه، من السب لدين الله، وبغي العوج له، ومدح الشرك، وذبهم دونه بالمال واليد واللسان، فالله المستعان. [كفر مانعي الزكاة] وقال أبو العباس أيضا - في الكلام على كفر مانعي الزكاة -: والصحابة لم يقولوا: أنت مقر بوجوبها، أو جاحد لها، هذا لم يعهد عن الخلفاء والصحابة، بل قد قال الصديق لعمر رضي الله عنهما: "والله لو منعوني عقالا أو عناقا كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها " فجعل المبيح للقتال مجرد المنع، لا جحد الوجوب. وقد روى: أن طوائف منهم كانوا يقرون بالوجوب، لكن بخلوا بها، ومع هذا فسيرة الخلفاء فيهم جميعهم سيرة واحدة، وهي قتل مقاتلتهم، وسبي ذراريهم، وغنيمة أموالهم، والشهادة على قتلاهم بالنار، وسموهم جميعهم أهل الردة; وكان من أعظم فضائل الصديق رضي الله عنه عندهم: أن ثبته الله عند قتالهم، ولم يتوقف كما توقف غيره، فناظرهم حتى رجعوا إلى قوله، وأما قتال المقرين بنبوة مسيلمة، فهؤلاء لم يقع بينهم نزاع في قتالهم، انتهى. فتأمل كلامه في تكفير المعين، والشهادة عليه إذا قتل بالنار، وسبي حريمه وأولاده عند منع الزكاة، فهذا الذي ينسب عنه أعداء الدين، عدم تكفير المعين. قال رحمه الله بعد ذلك: وكفر هؤلاء، وإدخالهم في الجزء: 9 ¦ الصفحة: 418 أهل الردة، قد ثبت باتفاق الصحابة، المستند إلى نصوص الكتاب والسنة; انتهى كلامه. ومن أعظم ما يحل الإشكال في مسألة التكفير والقتال، عمن قصده اتباع الحق: إجماع الصحابة على قتال مانعي الزكاة، وإدخالهم في أهل الردة، وسبي ذراريهم، وفعلهم فيهم ما صح عنهم، وهو أول قتال وقع في الإسلام، على من ادعى أنه من المسلمين، فهذه أول وقعة وقعت في الإسلام، على هذا النوع، أعني المدعين للإسلام، وهي أوضح الواقعات، التي وقعت من العلماء عليهم من عصر الصحابة إلى وقتنا هذا. وقال الإمام أبو الوفاء ابن عقيل: لما صعبت التكاليف على الجهال الطغام، عدلوا عن أوضاع الشرع إلى تعظيم أوضاع وضعوها لأنفسهم، فسهلت عليهم، إذ لم يدخلوا بها تحت أمر غيرهم، وهم عندي كفار بهذه الأوضاع، مثل تعظيم القبور، وخطاب الموتى بالحوائج، وكتب الرقاع، فيها: يا مولاي افعل بي كذا وكذا، فإلقاء الخرق على الشجر، اقتداء بمن عبد اللات والعزى، انتهى كلامه، والمراد منه قوله: وهم عندي كفار بهذه الأوضاع. وقال أيضا في كتاب "الفنون": لقد عظم الله الحيوان، لا سيما ابن آدم، حيث أباحه الشرك عند الإكراه، فمن قدم حرمة نفسك على حرمته، حتى أباحك أن تتوقى عن نفسك، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 419 بذكره بما لا ينبغي له سبحانه، لحقيق أن تعظم شعائره، وتوقر أوامره وزواجره، وعصم عرضك بإيجاب الحد بقذفك، وعصم مالك بقطع يد مسلم في سرقته. وأسقط شطر الصلاة في السفر لأجل مشقتك، وأقام مسح الخف مقام غسل الرجل، إشفاقا عليك من مشقة الخلع واللبس، وأباحك الميتة سدا لرمقك، وحفظا لصحتك، وزجرك عن مضارك بحد عاجل، ووعيد آجل، وخرق العوائد لأجلك، وأنزل الكتب إليك. أيحسن لك مع هذا الإكرام، أن يراك على ما نهاك عنه منهمكا، ولما أمرك تاركا، وعلى ما زجرك مرتكبا، وعن داعيه معرضا، ولداعي عدوه فيك مطيعا؟ يعظ وهو هو; وتهمل أمره، وأنت أنت; حط رتبة عباده لأجلك، وأهبط إلى الأرض من امتنع من سجدة يسجدها لأبيك. هل عاديت خادما طالت خدمته لك، لترك صلاة؟ هل نفيته من دارك للإخلال بفرض، أو لارتكاب نهي؟ فإن لم تعترف اعتراف العبد للموالي، فلا أقل من أن تقتضي نفسك للخالق سبحانه، اقتضاء المكافي المساوي; ما أفحش تلاعب الشيطان بالإنسان! بينا هو بحضرة الحق، وملائكة السماء سجود له، تترامى به الأحوال والجهالات، إلى أن يوجد ساجدا لصورة في حجر، أو لشجرة من الشجر، أو لشمس أو لقمر، أو لصورة ثور خار، أو لطائر صفر، ما الجزء: 9 ¦ الصفحة: 420 أوحش زوال النعم، وتغير الأحوال، والحور بعد الكور! لا يليق بهذا الحي الكريم، الفاضل على جميع الحيوانات، أن يرى إلا عابدا لله في دار التكليف، أو مجاورا لله في دار الجزاء والتشريف؛ وما بين ذلك فهو واضع نفسه في غير موضعها، انتهى كلامه. والمراد منه: أنه جعل أقبح حال وأفحشها من أحوال الإنسان، أن يشرك بالله، ومثله بأنواع، منها: السجود للشمس أو للقمر، ومنها: السجود لصورة، كما يسجد للصور التي في القباب على القبور، والسجود قد يكون بالجبهة على الأرض، وقد يكون بالانحناء من غير وصول إلى الأرض، كما فسر به قوله تعالى: {ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا} قال ابن عباس: (أي: ركعا) . [إنكار تعظيم القبور] وقال ابن القيم في "إغاثة اللهفان"، في إنكار تعظيم القبور: وقد آل الأمر بهؤلاء المشركين، إلى أن صنف بعض غلاتهم في ذلك كتابا، سماه: "مناسك المشاهد"، ولا يخفى أن هذا مفارقة لدين الإسلام، ودخول في دين عبادة الأصنام; انتهى، وهذا الذي ذكره ابن القيم، رجل من المصنفين، يقال له ابن المفيد، فقد رأيت ما قال فيه بعينه، فكيف ينكر تكفير المعين؟! وأما كلام سائر أتباع الأئمة في التكفير، فنذكر منه قليلا من كثير، أما كلام الحنفية، فكلامهم في هذا من أغلظ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 421 الكلام، حتى إنهم يكفرون المعين، إذا قال: مصيحف، أو مسيجد، أو صلى صلاة بلا وضوء، ونحو ذلك. وقال في "النهر الفائق": واعلم: أن الشيخ قاسما، قال في "شرح درر البحار": إن النذر الذي يقع من أكثر العوام، بأن يأتي إلى قبر بعض الصلحاء، قائلا: يا سيدي فلان، إن رد غائبي، أو عوفي مريضي، فلك من الذهب والفضة، أو الشمع أو الزيت، كذا، باطل إجماعا، لوجوه، إلى أن قال: ومنها ظن أن الميت يتصرف في الأمر، واعتقاد هذا كفر، إلى أن قال - وقد ابتلي الناس بذلك، ولا سيما في مولد أحمد البدوي، انتهى كلامه; فانظر إلى تصريحه أن هذا كفر، مع قوله أنه يقع من أكثر العوام، وأن أهل العلم ابتلوا بما لا قدرة لهم على إزالته. وقال القرطبي رحمه الله، لما ذكر سماع الفقراء وصورته، قال: هذا حرام بالإجماع، وقد رأيت فتوى شيخ الإسلام، جمال الملة: أن مستحل هذا كافر; ولما علم أن حرمته بالإجماع، لزم أن يكفر مستحله، فقد رأيت كلام القرطبي، وكلام الشيخ الذي نقل عنه، في كفر من استحل السماع والرقص، مع كونه دون ما نحن فيه بالإجماع بكثير كثير. وقال أبو العباس، رحمه الله تعالى: حدثني ابن الخضيري عن والده الشيخ الخضيري، إمام الحنفية في الجزء: 9 ¦ الصفحة: 422 زمنه، قال: كان فقهاء بخارى يقولون في ابن سينا: كان كافرا ذكيا، فهذا إمام الحنفية في زمنه، حكى عن فقهاء بخارى جملة كفر ابن سينا، وهو رجل معين مصنف، يتظاهر بالإسلام. وأما كلام المالكية في هذا: فهو أكثر من أن يحصر، وقد اشتهر عن فقهائهم سرعة الفتوى، والقضاء بقتل الرجل عند الكلمة التي لا يفطن لها أكثر الناس; وقد ذكر القاضي عياض - في آخر كتاب الشفاء - من ذلك طرفا، ومما ذكر: أن من حلف بغير الله على وجه التعظيم كفر، وكل هذا دون ما نحن فيه، بما لا نسبة بينه وبينه. وأما كلام الشافعية: فقال "صاحب الروض"، رحمه الله: إذا ذبح للنبي صلى الله عليه وسلم كفر، وقال أيضا: من شك في كفر طائفة ابن عربي، فهو كافر، وكان هذا دون ما نحن فيه. [دعاء غير الله] وقال ابن حجر: في "شرح الأربعين"، على حديث ابن عباس: (إذا سألت فاسأل الله) ، ما معناه: أن من دعا غير الله فهو كافر، وصنف في هذا النوع كتابا مستقلا سماه "الإعلام بقواطع الإسلام" ذكر فيه أنواعا كثيرة، من الأقوال والأفعال، كل واحد منها ذكر أنه يخرج من الإسلام، ويكفر به المعين، وغالبه لا يساوي عشر معشار ما نحن فيه. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 423 وتمام الكلام في هذا، أن يقال: الكلام هنا في مسألتين: الأولى: أن يقال: هذا الذي يفعله كثير من العوام عند قبور الصالحين، ومع كثير من الأحياء والأموات والجن، من التوجه إليهم، ودعائهم لكشف الضر، والنذر لهم لأجل ذلك، هل هو الشرك الأكبر، الذي فعله قوم نوح ومن بعدهم، إلى أن انتهى الأمر إلى قوم خاتم الرسل قريش وغيرهم، فبعث الله الرسل، وأنزل الكتب ينكر عليهم ذلك، ويكفرهم، ويأمر بقتالهم حتى يكون الدين كله لله؟ أم هذا شرك أصغر؟ وشرك المتقدمين نوع غير هذا؟ فاعلم: أن الكلام في هذه المسألة سهل على من يسره الله عليه، بسبب أن علماء المشركين اليوم، يقرون أنه الشرك الأكبر، ولا ينكرونه، إلا ما كان من مسيلمة الكذاب وأصحابه، كابن إسماعيل، وابن خالد، مع تناقضهم في ذلك، واضطرابهم، فأكثر أحوالهم يقرون أنه الشرك الأكبر، ولكن يعتذرون بأن أهله لم تبلغهم الدعوة. وتارة يقولون: لا يكفر إلا من كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وتارة يقولون: إنه شرك أصغر، وينسبونه لابن القيم في "المدارج"، كما تقدم، وتارة لا يذكرون شيئا من ذلك، بل يعظمون أهله وطريقتهم في الجملة، وأنهم خير أمة أخرجت للناس، وأنهم العلماء الذين يجب رد الأمر عند الجزء: 9 ¦ الصفحة: 424 التنازع إليهم، وغير ذلك من الأقاويل المضطربة. وجواب هؤلاء كثير، في الكتاب والسنة، والإجماع; ومن أصرح ما يجابون به: إقرارهم في غالب الأوقات أن هذا هو الشرك الأكبر; وأيضا: إقرار غيرهم من علماء الأقطار، من أن أكثرهم قد دخل في الشرك، وجاهد أهل التوحيد، لكن لم يجدوا بدا من الإقرار به لوضوحه. المسألة الثانية: الإقرار بأن هذا هو الشرك الأكبر، ولكن لا يكفر به إلا من أنكر الإسلام جملة، وكذب الرسول، والقرآن، واتبع يهودية، أو نصرانية، أو غيرهما، وهذا هو الذي يجادل به أهل الشرك والعناد في هذه الأوقات، وإلا المسألة الأولى قل الجدال فيها - ولله الحمد - لما وقع من إقرار علماء المشركين بها. فاعلم: أن تصور هذه المسألة تصورا حسنا، يكفي في إبطالها من غير دليل خاص، لوجهين: الأول: أن مقتضى قولهم أن الشرك بالله وعبادة الأصنام، لا تأثير لها في التكفير، لأن الإنسان إن انتقل عن الملة إلى غيرها، وكذب الرسول والقرآن، فهو كافر، وإن لم يعبد الأوثان، كاليهود. فإذا كان من انتسب إلى الإسلام، لا يكفر إذا أشرك الشرك الأكبر، لأنه مسلم بقول: لا إله إلا الله، ويصلي، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 425 ويفعل كذا وكذا، لم يكن للشرك وعبادة الأوثان تأثير، بل يكون ذلك كالسواد في الخلقة، والعمى والعرج، فإن كان صاحبها يدعي الإسلام فهو مسلم، وإن ادعى ملة غيرها فهو كافر؛ وهذه فضيحة عظيمة، كافية في رد هذا القول الفظيع. الوجه الثاني: أن معصية الرسول صلى الله عليه وسلم في الشرك وعبادة الأوثان، بعد بلوغ العلم، كفر صريح بالفطر والعقول، والعلوم الضرورية؛ فلا يتصور أنك تقول لرجل، ولو من أجهل الناس، وأبلدهم: ما تقول فيمن عصى الرسول صلى الله عليه وسلم ولم ينقد له في ترك عبادة الأوثان والشرك، ممن يدعي أنه مسلم متبع؟ إلا ويبادر بالفطرة الضرورية، إلى القول: بأن هذا كافر، من غير نظر في الأدلة، أو سؤال أحد من العلماء. ولكن لغلبة الجهل، وغرابة العلم، وكثرة من يتكلم في هذه المسألة، من الملحدين، اشتبه الأمر فيها على بعض العوام من المسلمين، الذين يحبون الحق، فلا تحقرها، وأمعن النظر في الأدلة التفصيلية، لعل الله أن يمن عليك بالإيمان الثابت، ويجعلك أيضا من الأئمة الذين يهدون بأمره. فمن أحسن ما يزيل الإشكال فيها، ويزيد المؤمن يقينا، ما جرى من النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه والعلماء بعدهم، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 426 فيمن انتسب إلى الإسلام، كما ذكر أنه صلى الله عليه وسلم بعث البراء معه الراية، إلى رجل تزوج امرأة أبيه ليقتله، ويأخذ ماله; ومثل، همه بغزو بني المصطلق، لما قيل له إنهم منعوا الزكاة، ومثل: قتال الصديق والصحابة، لمانعي الزكاة، وسبي ذراريهم، وغنيمة أموالهم، وتسميتهم مرتدين، ومثل: إجماع الصحابة في زمن عمر، على تكفير قدامة بن مظعون وأصحابه إن لم يتوبوا، لما فهموا من قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [سورة المائدة آية: 93] حل الخمر لبعض الخواص. ومثل: إجماع الصحابة رضي الله عنهم في زمن عثمان على تكفير أهل المسجد، الذين ذكروا كلمة في نبوة مسيلمة الكذاب، مع أنهم لم يتبعوه، وإنما اختلف الصحابة في قبول توبتهم، ومثل: تحريق علي رضي الله عنه أصحابه، لما غلوا فيه، ومثل إجماع التابعين، مع بقية الصحابة، على كفر المختار بن أبي عبيد ومن اتبعه، مع أنه يدعي أنه يطلب دم الحسين وأهل البيت. ومثل: إجماع التابعين ومن بعدهم، على قتل الجعد بن درهم، وهو مشتهر بالعلم والدين؛ وهلم جرا من وقائع لا تعد ولا تحصى، ولم يقل أحد من الأولين والآخرين، لأبي بكر الصديق أو غيره، كيف تقاتل بني الجزء: 9 ¦ الصفحة: 427 حنيفة، وهم يقولون: لا إله إلا الله، ويصلون ويزكون؟ وكذلك: لم يستشكل أحد تكفير قدامة وأصحابه، لو لم يتوبوا، وهلم جرا، إلى زمن بني عبيد، الذين ملكوا المغرب، ومصر، والشام وغيرها، مع تظاهرهم بالإسلام، وصلاة الجمعة والجماعة، ونصب القضاة والمفتين، لما أظهروا من الأقوال والأفعال ما أظهروا، لم يستشكل أحد من أهل العلم والدين قتالهم، ولم يتوقف فيه، وهم في زمن ابن الجوزي والموفق، وصنف ابن الجوزي كتابا لما أخذت مصر منهم، سماه "النصر على مصر"، ولم يسمع أحد من الأولين والآخرين، أن أحدا أنكر شيئا من ذلك أو استشكله، لأجل ادعائهم الملة، ولأجل قول لا إله إلا الله، أو لأجل إظهار شيء من أركان الإسلام، إلا ما سمعنا من هؤلاء الملاعين في هذه الأزمان، مع إقرارهم أن هذا هو الشرك، ولكن من فعله أو حسنه، أو كان مع أهله، أو ذم التوحيد، أو حارب أهله لأجله، أو أبغضهم لأجله، أنه لا يكفر، لأنه يقول: لا إله إلا الله، أو لأنه يؤدي أركان الإسلام الخمسة، ويستدلون بأن النبي صلى الله عليه وسلم سماها الإسلام. هذا لم يسمع قط، إلا من هؤلاء الملحدين الجاهلين الظالمين، فإن ظفروا بحرف واحد عن أهل العلم، أو أحد منهم يستدلون به على قولهم الفاحش الأحمق، فليذكروه؛ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 428 ولكن الأمر، كما قال اليمني في قصيدته: أقاويل لا تعزى إلى عالم فلا ... تساوى فليسا إن رجعت إلى النقد ولنختم الكلام في هذا النوع، بما ذكره البخاري في صحيحه، حيث قال: باب يتغير الزمان حتى تعبد الأوثان ثم ذكر بإسناده: قوله صلى الله عليه وسلم " لا تقوم الساعة حتى تضطرب أليات نساء دوس حول ذي الخلصة " 1 وذو الخلصة: صنم لدوس يعبدونه، فقال صلى الله عليه وسلم لجرير بن عبد الله: " ألا تريحني من ذي الخلصة "2، فركب إليه بمن معه، فأحرقه وهدمه، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، قال فبَرّك على خيل أحمس، ورجالها خمسا. وعادة البخاري رحمه الله، إذا لم يكن الحديث على شرطه، ذكره في الترجمة، ثم أتى بما يدل على معناه، مما هو على شرطه، ولفظ الترجمة، وهو قوله: " يتغير الزمان حتى تعبد الأوثان " لفظ حديث أخرجه غيره من الأئمة; والله سبحانه وتعالى أعلم. ولنذكر من كلام الله تعالى، وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم وكلام أئمة العلم، جملا في جهاد القلب واللسان، ومعاداة أعداء الله، وموالاة أوليائه، وأن الدين لا يصح ولا يدخل الإنسان فيه إلا بذلك، فنقول: باب وجوب عداوة أعداء الله، من الكفار والمرتدين والمنافقين، وقول الله   1 البخاري: الفتن (7116) , ومسلم: الفتن وأشراط الساعة (2906) , وأحمد (2/271) . 2 البخاري: الجهاد والسير (3020) والدعوات (6333) , ومسلم: فضائل الصحابة (2476) , وأبو داود: الجهاد (2772) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 429 تعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ} [سورة النساء آية: 140] وقوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [سورة المائدة آية: 51] وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} [سورة الممتحنة آية: 1] إلى قوله: {كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [سورة الممتحنة آية: 4] وقوله تعالى: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [سورة المجادلة آية: 22] الآية. وقال الإمام الحافظ محمد بن وضاح: أخبرني غير واحد، أن أسد بن موسى كتب إلى أسد بن الفرات: اعلم يا أخي، أن ما حملني على الكتاب إليك، إلا ما ذكر أهل بلدك، من صالح ما أعطاك الله، من إنصافك الناس، وحسن حالك مما أظهرت من السنة، وعيبك لأهل البدع، وكثرة ذكرك لهم، وطعنك عليهم، فقمعهم الله بك، وشد بك ظهر أهل السنة، وقواك عليهم بإظهار عيبهم، والطعن عليهم، فأذلهم الله بيدك، وصاروا ببدعتهم مستترين. فأبشر يا أخي بثواب ذلك، واعتد به من أفضل حسناتك، من الصلاة والصيام، والحج والجهاد، وأين تقع هذه الأعمال، من إقامة كتاب الله، وإحياء سنة رسوله صلى الله عليه وسلم الجزء: 9 ¦ الصفحة: 430 وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من أحيا شيئا من سنتي، كنت أنا وهو في الجنة كهاتين "، وضم بين أصبعيه، وقال: " أيما داع دعا إلى هدى فاتبع عليه، كان له مثل أجر من تبعه إلى يوم القيامة "1. فمن يدرك أجر هذا بشيء من عمله؟ واذكر أيضا: أن لله عند كل بدعة كيد بها الإسلام، وليا لله يذب عنها، وينطق بعلامتها؛ فاغتنم يا أخي هذا الفضل، وكن من أهله، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ حين بعثه إلى اليمن، وأوصاه، وقال: " لأن يهدي الله بك رجلا واحدا، خير لك من كذا وكذا "، وأعظم القول فيه. فاغتنم ذلك، وادع إلى السنة، حتى يكون لك في ذلك إلفة وجماعة، يقومون مقامك إن حدث بك حدث، فيكونون أئمة بعدك، فيكون لك ثواب ذلك إلى يوم القيامة، كما جاء في الأثر. فاعمل على بصيرة ونية وحسبة، فيرد الله بك المبتدع، المفتون الزائغ الحائر، فتكون خلفا من نبيك صلى الله عليه وسلم، فإنك لن تلقى الله بعمل شبهه؛ وإياك أن يكون لك من أهل البدع أخ، أو جليس، أو صاحب، فإنه جاء في الأثر " من جالس صاحب بدعة نزعت منه العصمة، ووكل إلى نفسه، ومن مشى إلى صاحب بدعة، مشى في هدم الإسلام"، وجاء: " ما من إله يعبد من دون الله، أبغض إلى الله، من صاحب هوى ".   1 مسلم: العلم (2674) , والترمذي: العلم (2674) , وأبو داود: السنة (4609) , وأحمد (2/397) , والدارمي: المقدمة (513) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 431 [البدع وما تجر إليه] وقد وقعت اللعنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل البدع، وأن الله لا يقبل منهم صرفا ولا عدلا، ولا فريضة ولا تطوعا، وكلما زادوا اجتهادا وصوما وصلاة، ازدادوا من الله بعدا، فارفض مجالسهم، وأذلهم وأبعدهم كما أبعدهم الله، وأذلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأئمة الهدى بعده، انتهى كلام أسد رحمه الله. واعلم رحمك الله: أن كلامه، وما يأتي من كلام أمثاله من السلف، في معاداة أهل البدع والضلالة، ضلالة لا تخرج عن الملة، لكنهم شددوا في ذلك، وحذروا منه لأمرين. الأمر الأول: غلظ البدعة في الدين، في نفسها، فهي عندهم أجل من الكبائر، ويعاملون أهلها بأغلظ مما يعاملون به أهل الكبائر، كما تجد قلوب الناس اليوم أن الرافضي عندهم، ولو كان عالما عابدا، أبغض وأشد ذنبا من السني المجاهر بالكبائر. الأمر الثاني: أن البدع تجر إلى الردة الصريحة، كما وجد من كثير من أهل البدع؛ فمثال البدعة التي شدودا فيها، مثل تشديد النبي صلى الله عليه وسلم فيمن عبد الله عند قبر رجل صالح، خوفا مما وقع من الشرك الصريح، الذي يصير به المسلم مرتدا، فمن فهم هذا، فهم الفرق بين البدع، وبين ما نحن فيه من الكلام في الردة، ومجاهدة أهلها، أو النفاق الأكبر ومجاهدة أهله. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 432 وهذا هو الذي نزلت فيه الآيات المحكمات، مثل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [سورة المائدة آية: 54] الآية وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ} [سورة التوبة آية: 73-74] . قال ابن وضاح في كتاب "البدع والنهي عنها" بعد حديث ذكره، أنه سيقع في هذه الأمة فتنة الكفر وفتنة الضلالة، قال رحمه الله: إن فتنة الكفر هي الردة، يحل فيها السبي والأموال، وفتنة الضلالة لا يحل فيها السبي ولا الأموال؛ وهذا الذي نحن فيه فتنة ضلالة، لا يحل فيها السبي ولا الأموال. قال رحمه الله أيضا: أخبرنا أسد، أخبرنا رجل، عن ابن المبارك، قال: قال ابن مسعود، رضي الله عنه " إن لله عند كل بدعة كيد بها الإسلام، وليا من أوليائه، يذب عنها، وينطق بعلامتها، فاغتنموا حضور تلك المواطن، وتوكلوا على الله، وكفى بالله وكيلا "، ثم ذكر بإسناده عن بعض السلف، قال: " لأن أرد رجلا عن رأي سيئ، أحب إلي من اعتكافي شهرا ". أخبرنا أسد، عن أبي إسحاق الحذاء، عن الأوزاعي، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 433 قال: " كان بعض أهل العلم يقولون، لا يقبل الله من ذي بدعة صلاة، ولا صياما ولا صدقة، ولا جهادا، ولا حجا ولا عمرة، ولا صرفا ولا عدلا، وكانت أسلافكم تشتد عليهم ألسنتهم، وتشمئز منهم قلوبهم، ويحذرون الناس بدعتهم ". قال: ولو كانوا مستترين ببدعتهم دون الناس، ما كان لأحد أن يهتك سترا عليهم، ولا يظهر منهم عورة، الله أولى بالأخذ بها، وبالتوبة عليها، فأما إذا جاهروا، فنشر العلم حياة، والبلاغ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم رحمة، يعتصم بها على مصر ملحد. ثم روى بإسناده، قال: " جاء رجل إلى حذيفة، وأبو موسى الأشعري قاعد، فقال: أرأيت رجلا ضرب بسيفه غضبا لله حتى قتل، أفي الجنه أم في النار؟ فقال: أبو موسى في الجنة; فقال حذيفة: استفهم الرجل، وأفهمه ما تقول، حتى فعل ذلك ثلاث مرات. فلما كان في الثالثة، قال والله لا أستفهمه، فدعا به حذيفة، فقال: رويدك، إن صاحبك لو ضرب بسيفه حتى ينقطع، فأصاب الحق حتى يقتل عليه فهو في الجنة، وإن لم يصب الحق ولم يوفقه الله للحق، فهو في النار; ثم قال: والذي نفسي بيده، ليدخلن النار في مثل هذا الذي سألت عنه، أكثر من كذا وكذا ". ثم ذكر بإسناده عن الحسن، قال: " لا تجالس صاحب بدعة، فإنه يمرض قلبك"، ثم ذكر بإسناده عن سفيان الجزء: 9 ¦ الصفحة: 434 الثوري، قال: " من جالس صاحب بدعة، لم يسلم من إحدى ثلاث: إما أن يكون فتنة لغيره، وإما أن يقع في قلبه شيء فيزل به فيدخله الله النار، وإما أن يقول: والله ما أبالي ما تكلموا، وإني واثق بنفسي، فمن أمن الله على دينه طرفة عين سلبه إياه ". ثم ذكر بإسناده عن بعض السلف، قال: " من أتى صاحب بدعة ليوقره، فقد أعان على هدم الإسلام ". أخبرنا أسد، قال حدثنا كثير أبو سعيد، قال: " من جلس إلى صاحب بدعة، نزعت منه العصمة، ووكل إلى نفسه ". أخبرنا أسد بن موسى، قال: أخبرنا حماد بن زيد، عن أيوب، قال: قال أبو قلابة: " لا تجالسوا أهل الأهواء، ولا تجادلوهم، فإنى لا آمن أن يغمسوكم في ضلالتهم، ويلبسوا عليكم ما تعرفون"، قال أيوب: وكان والله من الفقهاء ذوي الألباب. أخبرنا أسد بن موسى، أخبرنا زيد، عن محمد بن طلحة، قال: قال إبراهيم: " لا تجالسوا أصحاب البدع، ولا تكلموهم، فإني أخاف أن ترتد قلوبكم". أخبرنا أسد، بالإسناد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " الرجل على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل " 1. أخبرنا أسد، أخبرنا مؤمل بن إسماعيل، عن حماد بن   1 الترمذي: الزهد (2378) , وأبو داود: الأدب (4833) , وأحمد (2/303 ,2/334) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 435 زيد، عن أيوب، قال: " دخل على محمد بن سيرين يوما رجل، فقال: يا أبا بكر، أقرأ عليك آية من كتاب الله، لا أزيد على أن أقراها، ثم أخرج. فوضع إصبعيه في أذنيه، ثم قال: أحرج عليك إن كنت مسلما، لما خرجت من بيتي; قال: فقال: يا أبا بكر، لا أزيد على أن أقرأ ثم أخرج; قال: فقال بإزاره يشده عليه، وتهيأ للقيام. قال: فأقبلنا على الرجل، فقلنا: قد حرج عليك إلا خرجت، أفيحل لك أن تخرج رجلا من بيته؟ قال: فخرج. فقلنا: يا أبا بكر، ما عليك لو قرأ آية ثم خرج; قال: إني والله لو ظننت أن قلبي يثبت على ما هو عليه، ما باليت أن يقرأ، ولكني خفت أن يلقي في قلبي شيئا، أجهد أن أخرجه من قلبي، فلا أستطيع". أخبرنا أسد، أخبرنا ضمرة عن سودة، قال: سمعت عبد الله بن القاسم، وهو يقول: "ما كان عبد على هوى فتركه، إلا إلى ما هو أشر منه"، قال: فذكرت هذا لبعض أصحابنا، فقال: تصديقه في حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم " يمرقون من الإسلام مروق السهم من الرمية، ثم لايرجعون حتى يرجع السهم إلى فوقه " 1. أخبرنا أسد، قال أخبرنا موسى بن إسماعيل، عن حماد بن زيد، عن أيوب، قال: كان عندنا رجل يرى رأيا   1 البخاري: استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم (6932) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 436 فرجع عنه، فأتيت محمدا فرحا بذلك أخبره، فقلت: أشعرت أن فلانا ترك رأيه الذي كان يرى؟ فقال: "انظروا إلى ماذا تحول، إن آخر الحديث أشد عليهم من أوله يمرقون من الإسلام، ثم لا يعودون إليه ". ثم روى بإسناده عن حذيفة: أنه " أخذ حصاة بيضاء، فوضعها في كفه، ثم قال: إن هذا الدين قد استضاء استضاءة هذه الحصاة. ثم أخذ كفا من تراب، فجعل يذره على الحصاة حتى واراها، ثم قال: والذي نفسي بيده، ليجيئين أقوام يدفنون هذا الدين، كما دفنت هذه الحصاة ". أخبرنا: محمد بن سعيد، بإسناده عن أبي الدرداء قال: " لو خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم اليوم إليكم، ما عرف شيئا مما كان عليه هو وأصحابه، إلا الصلاة" قال الأوزاعي، فكيف لو كان اليوم؟ قال: عيسى - يعني: الراوي عن الأوزاعي: فكيف لو أدرك الأوزاعي هذا الزمان؟ وأخبرنا: محمد بن سليمان، بإسناده عن علي رضي الله عنه قال: " تعلموا العلم تعرفوا به، واعملوا به تكونوا من أهله، فإنه سيأتي بعدكم زمان، ينكر الحق فيه تسعة أعشارهم". أخبرنا يحيى بن يحيى، بإسناده عن أبي سهيل ابن مالك، عن أبيه، أنه قال: " ما أعرف شيئا مما أدركت عليه الناس، إلا النداء بالصلاة ". حدثني إبراهيم بن محمد، بإسناده عن أنس رضي الله الجزء: 9 ¦ الصفحة: 437 عنه، قال: " ما أعرف منكم شيئا كنت أعهده على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس قولكم لا إله إلا الله " أخبر أسد، بإسناده عن الحسن، قال: " لو أن رجلا أدرك السلف الأول، ثم بعث اليوم، ما عرف من الإسلام شيئا. قال: ووضع يده على خده، ثم قال: إلا هذه الصلاة. ثم قال: أما والله لمن عاش في هذه النكرى، ولم يدرك هذا السلف الصالح، فرأى مبتدعا يدعو إلى بدعته، ورأى صاحب دنيا يدعو إلى دنياه، فعصمه الله عن ذلك، وجعل قلبه يحن إلى ذكر هذا السلف الصالح، ويقتص آثارهم، ويتبع سبيلهم، ليعوض أجرا عظيما؛ فكذلك كونوا إن شاء الله ". وحدثني: عبد الله بن محمد، بإسناده عن ميمون بن مهران، قال: " لو أن رجلا نشر فيكم من السلف، ما عرف فيكم غير هذه القبلة " أخبرنا: محمد بن قدامة، بإسناده عن أم الدرداء، قالت: " دخل علي أبو الدرداء مغضبا، فقلت له ما أغضبك؟ فقال: والله ما أعرف فيهم من أمر محمد صلى الله عليه وسلم شيئا، إلا أنهم يصلون جميعا " وفي لفظ: " لو أن رجلا تعلم الإسلام وأهمله، ثم تفقده ما عرف منه شيئا ". حدثني إبراهيم، باسناده عن عبد الله بن عمرو، قال: " لو أن رجلين من أوائل هذه الأمة، خليا بمصحفيهما في بعض هذه الأودية، لأتيا الناس اليوم، ولا يعرفان شيئا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 438 مما كانا عليه " قال مالك: وبلغني أن أبا هريرة رضي الله عنه تلا: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} فقال: " والذي نفس بيده: إن الناس ليخرجون اليوم من دينهم أفواجا، كما دخلوا فيه أفواجا". قف تأمل! رحمك الله: إذا كان هذا في زمن التابعين، بحضرة أواخر الصحابة، فكيف يغتر المسلم بالكثرة، أو يشكل عليه، ولا يستدل بها على الباطل. ثم روى ابن وضاح، بإسناده عن أبي أمية، قال: "أتيت أبا ثعلبة الخشني، فقلت: يا أبا ثعلبة كيف تصنع في هذه الآية؟ قال: أية آية؟ قلت: قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} 1 قال: أما والله لقد سألت عنها خبيرا. سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: بل ائتمروا بالمعروف، وتناهوا عن المنكر، حتى إذا رأيت شحا مطاعا، وهوى متبعا، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك بنفسك، ودع أمر العوام; فإن من ورائكم أياما، الصبر فيهن مثل قبض على الجمر، للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلا، يعملون مثل عمله. قيل: يا رسول الله، أجر خمسين منهم؟ قال: أجر خمسين منكم ". ثم روى بإسناده، عن عبد الله بن عمرو، رضي الله   1 الترمذي: تفسير القرآن (3058) , وابن ماجه: الفتن (4014) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 439 عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " طوبى للغرباء، ثلاثا. قالوا: يا رسول الله، وما الغرباء؟ قال: ناس صالحون قليل، في أناس كثير؛ من يبغضهم أكثر ممن يحبهم "1. أخبرنا محمد بن سعيد بإسناده، عن المعافري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " طوبى للغرباء، الذين يتمسكون بكتاب الله حين ينكر، ويعملون بالسنة حين تطفأ ". أخبرنا أسد، بإسناده عن سالم بن عبد الله، عن أبيه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " بدأ الإسلام غريبا، ولا تقوم الساعة حتى يكون غريبا؛ فطوبى للغرباء حين يفسد الناس، ثم طوبى للغرباء حين يفسد الناس "2. أخبرنا أسد بإسناده، عن عبد الله: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن الإسلام بدأ غريبا، وسيعود غريبا كما بدأ، فطوباء للغرباء. قيل: ومَن الغرباء يا رسول الله؟ قال: الذين يصلحون إذا فسد الناس "3. هذا آخر ما نقلته من كتاب "البدع والنهي عنها" للإمام الحافظ محمد بن وضاح رحمه الله. فتأمل رحمك الله أحاديث الغربة، وبعضها في الصحيح، مع كثرتها وشهرتها; وتأمل إجماع العلماء كلهم، أن هذا قد وقع في زمن طويل، حتى قال ابن القيم: الإسلام في زماننا أغرب منه في ظهوره؛ فتأمل هذا تأملا جيدا، لعلك أن تسلم من الهوة الكبيرة، التي هلك فيها أكثر الناس، وهي الاقتداء بالكثرة والسواد الأكبر، والنفرة من   1 أحمد (2/177) . 2 مسلم: الإيمان (145) , وابن ماجه: الفتن (3986) , وأحمد (2/389) . 3 مسلم: الإيمان (146) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 440 الأقل، فما أقل من سلم منها، ما أقله! ما أقله! ما أقله! ولنختم ذلك بالحديث الصحيح، الذي أخرجه مسلم في صحيحه، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون، وأصحاب يأخذون بسنته، ويقتدون بأمره "1، وفي رواية: " يهتدون بهديه، ويستنون بسنته. ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف، يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون؛ فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل ". انتهى ما نقلته، والحمد لله رب العالمين. [رسالة الشيخ تقي الدين وهو في السجن] وقد رأيت للشيخ تقي الدين، رسالة كتبها وهو في السجن، إلى بعض إخوانه، لما أرسلوا إليه، يشيرون عليه بالرفق بخصومه، ليتخلص من السجن؛ أحببت أن أنقل أولها، لعظم منفعته. قال رحمه الله تعالى: الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا؛ من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن محمدا عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق، ليظهره على الدين كله، وكفى بالله شهيدا; وصلى الله على   1 مسلم: الإيمان (50) , وأحمد (1/458 ,1/461) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 441 محمد، وعلى آله وصحيه، وسلم تسليما كثيرا. أما بعد: فقد وصلت الورقة، التي فيها رسالة الشيخين، الناسكين، القدوتين، أيدهما الله، وسائر الإخوان، بروح منه، وكتب في قلوبهم الإيمان، وأدخلهم مدخل صدق، وأخرجهم مخرج صدق، وجعل لهم من لدنه ما ينصر به من السلطان، سلطان العلم والحجة، بالبيان والبرهان، وسلطان القدوة والنصرة، باللسان والأعوان، وجعلهم من أوليائه المتقين، وحزبه الغالبين لمن ناوأهما من الأقران، ومن الأئمة الذين جمعوا بين الصبر والإيقان، والله محقق ذلك، ومنجز وعده في السر والإعلان، ومنتقم من حزب الشيطان لعباد الرحمن. لكن بما اقتضته حكمته، ومضت به سنته، من الابتلاء والامتحان، الذي يميز الله به أهل الصدق والإيمان، من أهل النفاق والبهتان، إذ قد دل الكتاب على أنه لا بد من الفتنة، لكل من ادعى الإيمان، والعقوبة لذوي الإساءة والطغيان، فقال تعالى: {الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [سورة العنكبوت آية: 13] . فأنكر سبحانه على من ظن أن أهل السيئات يفوتون الطالب الجزء: 9 ¦ الصفحة: 442 الغالب، أو أن مدعي الإيمان، يتركون بلا فتنة تميز بين الصادق والكاذب. وأخبر في كتابه أن الصدق في الإيمان لا يكون إلا بالجهاد في سبيله، فقال تعالى: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا} إلى قوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} [سورة الحجرات آية: 15] الآية. وأخبر سبحانه: بخسران المنقلب على وجهه عند الفتنة، الذي يعبد الله على حرف، وهو الجانب والطرف، الذي لا يستقر من هو عليه، بل لا يثبت على الإيمان، إلا عند وجود ما يهواه من خير الدنيا، فقال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} [سورة الحج آية: 11] إلى قوله: {ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} وقال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [سورة آل عمران آية: 142] وقال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [سورة محمد آية: 31] . وأخبر سبحانه: أنه عند وجود المرتدين، فلا بد من وجود المحبين، المحبوبين المجاهدين، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} [سورة المائدة آية: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 443 54] . وهؤلاء هم الشاكرون لنعمة الإيمان، الصابرون على الامتحان، كما قال تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [سورة آل عمران آية: 144] إلى قوله: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} فإذا أنعم الله على إنسان بالصبر والشكر، كان جميع ما يقضي له من القضاء خيرا له، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: " لا يقضى للمؤمن قضاء إلا كان خيرا له، إن أصابته سراء فشكر كان خيرا له، وإن أصابته ضراء فصبر كان خيرا له "1. والصابر الشكور، هو المؤمن الذي ذكر الله في غير موضع من كتابه، ومن لم ينعم الله عليه بالصبر والشكر، فهو بشر حال، وكل واحد من السراء والضراء في حقه، يفضي به إلى قبيح المآل. فكيف إذا كان ذلك في الأمور العظيمة، التي هي من محن الأنبياء والصديقين، وبها تثبت أصول الدين، وحفظ الإيمان، والقرآن، من كيد أهل النفاق، والإلحاد والبهتان؛ فالحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، كما يحب ربنا ويرضى، وكما ينبغي لكرم وجهه وعز جلاله. والله المسؤول أن يثبتكم وسائر المؤمنين، بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، ويتم عليكم نعمه   1 مسلم: الزهد والرقائق (2999) , وأحمد (6/15) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 444 الظاهرة والباطنة، وينصر دينه وكتابه ورسوله، وعباده المؤمنين، على الكافرين، والمنافقين، الذين أمرنا بجهادهم، والإغلاظ عليهم في كتابه المبين، انتهى ما نقلته من كلام أبي العباس، رحمه الله. [حكم أكل الحشيشة] ومن جواب له رحمه الله، لما سئل عن الحشيشة ما يجب على من يدعي أن أكلها جائز؟ فقال: أكل هذه الحشيشة حرام، وهي من أخبث الخبائث المحرمة، سواء أكل منها كثيرا أو قليلا، لكن الكثير المسكر منها، حرام باتفاق المسلمين، ومن استحل ذلك فهو كافر، يستتاب فإن تاب وإلا قتل كافرا مرتدا، لا يغسل ولا يصلى عليه، ولا يدفن بين المسلمين; وحكم المرتد أشر من اليهود والنصارى، سواء اعتقد أن ذلك يحل للعامة، أو للخاصة الذين يزعمون أنها لقمة الذكر والفكر، وأنها تحرك العزم الساكن، وتنفع في الطريق. وقد كان بعض السلف ظن أن الخمر يباح للخاصة، متأولا قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} [سورة المائدة آية: 93] الآية، فاتفق عمر وعلي وغيرهما من علماء الصحابة، رضي الله عنهم، على أنهم إن أقروا بالتحريم جلدوا، وإن أصروا على الاستحلال قتلوا، انتهى ما نقلته من كلام الشيخ. فتأمل: كلام هذا الذي ينسب عنه عدم تكفير المعين، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 445 إذا جاهر بسب دين الأنبياء، وصار مع أهل الشرك ويزعم أنهم على الحق، ويأمر بالمصير معهم، وينكر على من لا يسب التوحيد، ويدخل مع المشركين، لأجل انتسابه إلى الإسلام؟ انظر كيف كفر المعين، ولو كان عابدا باستحلال الحشيشة، ولو زعم حلها للخاصة، الذين تعينهم على الفكرة. واستدل بإجماع الصحابة، على تكفير قدامة وأصحابه إن لم يتوبوا، وكلامه في المعين، وكلام الصحابة في المعين؛ فكيف بما نحن فيه، مما لا يساوي استحلال الحشيشة، جزءاً من ألف جزء منه، والحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين، وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين. آخر الجزء التاسع ويلبه الجزء العاشر، وهو بقية كتاب حكم المرتد. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 446 المجلد العاشر: (القسم الأخير من كتاب حكم المرتد) تابع كتاب حكم المرتد ... القسم الأخير من كتاب حكم المرتد وله أيضا، قدس الله روحه ونور ضريحه: بسم الله الرحمن الرحيم من محمد بن عبد الوهاب، إلى من يصل إليه من الإخوان المؤمنين بآيات الله، المصدقين لرسول الله، التابعين للسواد الأعظم من أصحاب رسول الله، والتابعين لهم بإحسان، وأهل العلم والإيمان، المتمسكين بالدين القيم عند فساد الزمان، الصابرين على الغربة والامتحان; سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أما بعد: فإن الله سبحانه بعث نبيكم صلى الله عليه وسلم على حين فترة من الرسل، وأهل الأرض من المشرق إلى المغرب، قد خرجوا عن ملة إبراهيم، وأقبلوا على الشرك بالله، إلا بقايا من أهل الكتاب؛ فلما دعا إلى الله، ارتاع أهل الأرض من دعوته، وعادَوْه كلهم، جهالهم وأهل الكتاب، عبادهم وفساقهم، ولم يتبعه على دينه إلا أبو بكر الصديق، وبلال وأهل بيته صلى الله عليه وسلم خديجة وأولادها، ومولاه زيد بن حارثة، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5 وعلي رضي الله عنه. " قال عمرو بن عبسة: لما أتيت النبي صلى الله عليه وسلم بمكة قلت: ما أنت؟ قال: نبي. قلت: وما نبي؟ قال: أرسلني الله قلت: بأي شيء أرسلك؟ قال: بصلة الأرحام، وكسر الأوثان، وأن يعبد الله لا يشرك به شيئ. قلت: من معك على هذا؟ قال: حر وعبد "، ومعه يومئذ أبو بكر، وبلال. فهذا صيغة بدو الإسلام وعداوة الخاص والعام له، وكونه في غاية الغربة; ثم قد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " بدأ الإسلام غريبا، وسيعود غريبا كما بدأ " 1. فمن تأمل هذا وفهمه، زالت عنه شبهات شياطين الإنس، الذين يجلبون على من آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم بخيل الشيطان ورجله. فاصبروا يا إخواني، واحمدوا الله على ما أعطاكم، من معرفة الله سبحانه، ومعرفة حقه على عباده، ومعرفة ملة أبيكم إبراهيم - في هذا الزمان - التي أكثرُ الناس منكر لها; واضرعوا إلى الله أن يزيدكم إيمانا ويقينا وعلما، وأن يثبت قلوبكم على دينه، وقولوا كما قال الصالحون، الذين أثنى الله عليهم في كتابه: {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [سورة آل عمران آية: 8]   1 مسلم: الإيمان (145) , وابن ماجه: الفتن (3986) , وأحمد (2/389) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6 واعلموا أن الله سبحانه، قد جعل للهداية والثبات أسبابا، كما جعل للضلال والزيغ أسبابا؛ فمن ذلك: أن الله سبحانه أنزل الكتاب، وأرسل الرسول، ليبين للناس ما اختلفوا فيه، كما قال تعالى: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [سورة النحل آية: 64] فبإنزال الكتب، وإرسال الرسول، قطع العذر، وأقام الحجة، كما قال تعالى: {ئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [سورة النساء آية: 165] فلا تغفلوا عن طلب التوحيد وتعلمه، واستعمال كتاب الله وإجالة الفكر فيه; وقد سمعتم من كتاب الله ما فيه عبرة، مثل قولهم: نحن موحدون، نعلم أن الله هو النافع الضار، وأن الأنبياء وغيرهم لا يملكون نفعا ولا ضرا، لكن نريد الشفاعة، وسمعتم ما بين الله في كتابه، في جواب هذا، وما ذكر أهل التفسير وأهل العلم، وسمعتم قول المشركين: الشرك عبادة الأصنام، وأما الصالحون فلا، وسمعتم قولهم: لا نريد إلا من الله، لكن نريد بجاههم; وسمعتم ما ذكر الله في جواب هذا كله. وقد منّ الله عليكم بإقرار علماء المشركين بهذا كله، سمعتم إقرارهم أن هذا الذي يفعل في الحرمين، والبصرة، والعراق، واليمن، أن هذا شرك بالله، فأقروا لكم أن هذا الدين الذي ينصرون أهله، ويزعمون أنهم الجزء: 10 ¦ الصفحة: 7 السواد الأعظم، أقروا لكم أن دينهم هو الشرك. وأقروا لكم أيضا أن التوحيد الذي يسعون في إطفائه، وفي قتل أهله وحبسهم، أنه دين الله ورسوله؛ وهذا الإقرار منهم على أنفسهم، من أعظم آيات الله، ومن أعظم نعم الله عليكم، ولا يبقى شبهة مع هذا إلا للقلب الميت، الذي طبع الله عليه، وذلك لا حيلة فيه. ولكنهم يجادلونكم اليوم بشبهة واحدة، فأصغوا لجوابها، وذلك أنهم يقولون: كل هذا حق، نشهد أنه دين الله ورسوله، إلا التكفير، والقتال; والعجب ممن يخفى عليه جواب هذا! إذا أقروا أن هذا دين الله ورسوله، كيف لا يكفر من أنكره، وقتل من أمر به وحبسهم، كيف لا يكفر من أمر بحبسهم؟! كيف لا يكفر من جاء إلى أهل الشرك، يحثهم على لزوم دينهم وتزيينه لهم؟! ويحثهم على قتل الموحدين، وأخذ مالهم، كيف لا يكفر، وهو يشهد أن هذا الذي يحث عليه، أن الرسول صلى الله عليه وسلم أنكره ونهى عنه؟! وسماه الشرك بالله، ويشهد أن هذا الذي يبغضه، ويبغض أهله، ويأمر المشركين بقتلهم، هو دين الله ورسوله!. واعلموا: أن الأدلة على تكفير المسلم الصالح إذا أشرك بالله، أو صار مع المشركين على الموحدين ولو لم يشرك، أكثر من أن تحصر، من كلام الله، وكلام رسوله، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 8 وكلام أهل العلم كلهم. وأنا أذكر لكم آية من كتاب الله، أجمع أهل العلم على تفسيرها، وأنها في المسلمين، وأن من فعل ذلك فهو كافر في أي زمان كان، قال تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ} [سورة النحل آية: 106] إلى آخر الآية وفيها {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ} [سورة الأنفال آية: 23] ؛ فإذا كان العلماء، ذكروا أنها نزلت في الصحابة لما فتنهم أهل مكة; وذكروا: أن الصحابي إذا تكلم بكلام الشرك بلسانه، مع بغضه لذلك وعداوة أهله، لكن خوفا منهم، أنه كافر بعد إيمانه; فكيف بالموحد في زماننا، إذا تكلم في البصرة، أو الإحساء، أو مكة، أو غير ذلك خوفا منهم، لكن قبل الإكراه; وإذا كان هذا يكفر، فكيف بمن صار معهم، وسكن معهم، وصار من جملتهم؟! فكيف بمن أعانهم على شركهم، وزينه لهم؟ فكيف بمن أمر بقتل الموحدين، وحثهم على لزوم دينهم؟ فأنتم وفقكم الله تأملوا هذه الآية، وتأملوا من نزلت فيه، وتأملوا إجماع العلماء على تفسيرها، وتأملوا ما جرى بيننا وبين أعداء الله، نطلبهم دائما الرجوع إلى كتبهم التي بأيديهم، في مسألة التكفير والقتال، فلا يجيبوننا إلا بالشكوى عند الشيوخ، وأمثالهم; والله أسأل أن يوفقكم الجزء: 10 ¦ الصفحة: 9 لدينه القيم، ويرزقكم الثبات عليه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. [ذكر ما في قصة عمرو بن عبسة من الفوائد] وقال أيضا رحمه الله تعالى: ذكر ما في قصة عمرو بن عبسة من الفوائد: الأولى: كون الشرك يعرف قبحه بالفطرة، لقوله: كنت أظن الناس ليسوا على شيء، وهم يعبدون الأوثان. الثانية: الحرص على طلب العلم، لأنه سبب للخير، وفسر به قوله: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأسْمَعَهُمْ} [سورة الأنفال آية: 23] ، لقوله: فسمعت أن رجلا بمكة يخبر أخبارا فقعدت على راحلتي، فوجدته مختفيا، فتلطفت حتى دخلت عليه. الثالثة: قوله فقلت له: ما أنت؟ قال: " نبي. قلت: وما نبي؟ قال: أرسلني الله عز وجل " 1. فهذه المسألة هي أصل العلوم كلها، وهي فهم القلب فهما جيدا أن الله أرسل إليك رسولا، فإذا عرفتها هان عليك ما بعدها. الرابعة: قوله: بأي شيء أرسلك؟ قال: "بكذا وكذا" وهذه توضح ما قبلها بالفعل. الخامسة: قوله: " بصلة الأرحام، وكسر الأوثان، وأن يعبد الله لا يشرك به شيء " 2. الأول: حق الخلق، والثاني حق الخالق، وذكر هذه مع هذه، تفسير سياسة المدعو والرفق به، والتلطف في إدخال الخير إلى قلبه;   1 مسلم: صلاة المسافرين وقصرها (832) , وأحمد (4/112) . 2 مسلم: صلاة المسافرين وقصرها (832) , وأحمد (4/112) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 10 والثاني فيها تعريف الأمر قبل الدخول فيه، لأن الداخل لا يستقيم له الدخول إلا بمعرفته ولو صعب. السادسة: حسن فهم عمرو، لقوله: من معك على هذا؟ السابعة: قوله حر وعبد، والله أعلم. [أربعة وعشرون مسألة شنع بها الأعداء] وله أيضا أسكنه الله الفردوس الأعلى: بسم الله الرحمن الرحيم من محمد بن عبد الوهاب، إلى عبد الله بن سحيم، وبعد: أتانا مكتوبك، وما ذكرت فيه من ذكرك، وما بلغك؛ ولا يخفاك أن المسائل التي ذكرت أنها بلغتكم، في كتاب من العارض، جملتها أربع وعشرون مسألة، بعضها حق، وبعضها بهتان وكذب. وقبل الكلام فيها، لا بد من تقديم أصل; وذلك: أن أهل العلم إذا اختلفوا، والجهال إذا تنازعوا، ومثلي ومثلكم إذا اختلفنا في مسألة، هل الواجب اتباع أمر الله ورسوله، وأهل العلم؟ أو الواجب اتباع عادة الزمان، الذي أدركنا الناس عليها، ولو خالفت ما ذكره العلماء في جميع كتبهم؟ وإنما ذكرت هذا - ولو كان واضحا - لأن بعض المسائل التي ذكرت أنا قلتها، لكن هي موافقة لما ذكره الجزء: 10 ¦ الصفحة: 11 العلماء في كتبهم، الحنابلة وغيرهم، ولكن هي مخالفة لعادة الناس التي نشؤوا عليها، فأنكرها علي من أنكرها، لأجل مخالفة العادة، وإلا فقد رأوا تلك في كتبهم عيانا، وأقروا بها وشهدوا أن كلامي هو الحق، لكن أصابهم ما أصاب الذين قال الله فيهم: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [سورة البقرة آية: 89] وهذا هو ما نحن فيه بعينه؛ فإن الذي راسلكم، هو عدو الله ابن سحيم وقد بينت ذلك له فأقر به؛ وعندنا كتبه بيده في رسائل متعددة، أن هذا هو الحق وأقام على ذلك سنين، لكن أنكر آخر الأمر، لأسباب أعظمها: البغي أن ينْزل الله من فضله على من يشاء من عباده، وذلك أن العامة قالوا له ولأمثاله: إذا كان هذا هو الحق، فلأي شيء لم تنهونا عن عبادة شمسان وأمثاله؟ فتعذروا: إنكم ما سألتمونا، قالوا: وإن لم نسألكم، كيف نشرك بالله عندكم، ولا تنصحونا؟ وظنوا أنه يأتيهم في هذا غضاضة، وأن فيه شرفا لغيره. وأيضا: لما أنكرنا عليهم أكل السحت والرشا، إلى غير ذلك من الأمور، فقام يدخل عندكم وعند غيركم بالبهتان، والله ناصر دينه ولو كره المشركون، وأنت لا تستهون مخالفة العادة على العلماء فضلا عن العوام; وأنا أضرب لك مثلا بمسألة واحدة، وهي: مسألة الجزء: 10 ¦ الصفحة: 12 الاستجمار ثلاثا فصاعدا، من غير عظم ولا روث، وهو كاف مع وجود الماء، عند الأئمة الأربعة وغيرهم، وهو إجماع الأمة، لا خلاف في ذلك، ومع هذا لو يفعله أحد، لصار هذا عند الناس أمرا عظيما، ولنهوا عن الصلاة خلفه، وبدعوه، مع إقرارهم بذلك، ولكن لأجل العادة. إذا تبين هذا، فالمسائل التي شنع بها، منها ما هو من البهتان الظاهر، وهي قوله: إني مبطل كتب المذاهب، وقوله: إني أقول إن الناس من ستمائة سنة ليسوا على شيء، وقوله: إني أدعي الاجتهاد، وقوله: إني خارج عن التقليد، وقوله: إني أقول إن اختلاف العلماء نقمة، وقوله: إني أكفّر من توسل بالصالحين، وقوله: إني أكفّر البوصيري، لقوله يا أكرم الخلق، وقوله: إني أقول: لو أقدر على هدم حجرة الرسول لهدمتها، ولو أقدر على الكعبة، لأخذت ميزابها وجعلت لها ميزابا من خشب، وقوله: إني أنكر زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وقوله: إني أنكر زيارة قبر الوالدين وغيرهم، وإني أكفر من حلف بغير الله؛ فهذه اثنتا عشرة مسألة، جوابي فيها أن أقول: سبحانك هذا بهتان عظيم. ولكن قبله من بهت النبى محمدا صلى الله عليه وسلم أنه يسب عيسى بن مريم، ويسب الصالحين، تشابهت قلوبهم، وبهتوه بأنه يزعم أن الملائكة وعيسى وعزيرا في النار، فأنزل الله في الجزء: 10 ¦ الصفحة: 13 ذلك: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} الآية [سورة الأنبياء آية: 101] وأما المسائل الأخر، وهي: أني أقول لا يتم إسلام الإنسان، حتى يعرف معنى لا إله إلا الله، ومنها أني أعرف من يأتيني بمعناها; ومنها: أني أقول الإله هو الذي فيه السر، ومنها: تكفير الناذر، إذا أراد به التقرب لغير الله، وأخذ النذر كذلك، ومنها: أن الذبح للجن كفر، والذبيحة حرام، ولو سمى الله عليها إذا ذبحها للجن. فهذه خمس مسائل كلها حق، وأنا قلتها، ونبدأ بالكلام عليها، لأنها أم المسائل وقبل ذلك ذكر معنى لا إله إلا الله. فنقول: التوحيد نوعان: توحيد الربوبية وهو: أن الله سبحانه متفرد بالخلق والتدبير، عن الملائكة والأنبياء وغيرهم؛ وهذا حق لا بد منه، لكن لا يُدخل الرجل في الإسلام، لأن أكثر الناس مقرون به، قال الله تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ} [سورة يونس آية: 31] إلى قوله: {أَفَلَا تَتَّقُونَ} . وإنما الذي يُدخل الرجل في الإسلام هو توحيد الألوهية، وهو أن لا يعبد إلا الله، لا ملك مقرب ولا نبي مرسل، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم بُعث وأهل الجاهلية يعبدون أشياء مع الله، فمنهم من يدعو الأصنام، ومنهم من يدعو عيسى، ومنهم من يدعو الملائكة، فنهاهم عن هذا، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 14 وأخبرهم: أن الله أرسله ليوحَّد، ولا يدعى أحد من دونه، لا الملائكة ولا الأنبياء. فمن تبعه ووحد الله فهو الذي شهد أن لا إله إلا الله، ومن عصاه ودعا عيسى والملائكة، واستنصرهم، والتجأ إليهم، فهو الذي جحد لا إله إلا الله، مع إقراره أنه لا يخلق، ولا يرزق إلا الله؛ وهذه جملة لها بسط طويل، لكن الحاصل: أن هذا مجمع عليه بين العلماء. ولما جرى في هذه الأمة، ما أخبر نبيها صلى الله عليه وسلم حيث قال: " لتتبعن سنن من كان قبلكم، حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه " 1، وكان من قبلهم كما ذكر الله عنهم {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} 2. فصار ناس من الضالين، يدعون أناسا من الصالحين، في الشدة والرخاء، مثل عبد القادر الجيلاني، وأحمد البدوي، وعدي بن مسافر، وأمثالهم من أهل العبادة والصلاح، فأنكر عليهم أهل العلم غاية الإنكار وزجروهم عن ذلك، وحذروهم غاية التحذير والإنذار، من جميع المذاهب الأربعة، في سائر الأقطار والأمصار، فلم يحصل منهم انزجار، بل استمروا على ذلك غاية الاستمرار. أما الصالحون الذين يكرهون ذلك، فحاشاهم من   1 البخاري: أحاديث الأنبياء (3456) , ومسلم: العلم (2669) , وأحمد (3/84 ,3/89) . 2 سورة التوبة آية: 31. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 15 ذلك; وبين أهل العلم أن مثل هذا هو الشرك الأكبر، وأنت ذكرت في كتابك: ما تقول يا أخي؟ ما لنا والله دليل إلا من كلام أهل العلم; وأنا أقول: كلام أهل العلم رضى، وأنا أنقله لك، وأنبهك عليه، فتفكر فيه، وقم لله ساعة ناظرا ومناظرا مع نفسك، ومع غيرك. فإن عرفت أن الصواب معي، وأن دين الإسلام اليوم من أغرب الأشياء - أعني دين الإسلام الصرف، الذي لا يمزج بالشرك والبدع، وأما الإسلام الذي ضده الكفر، فلا شك أن أمة محمد صلى الله عليه وسلم آخر الأمم، وعليها تقوم الساعة - فإن فهمت أن كلامي هو الحق فاعمل لنفسك؛ واعلم أن الأمر عظيم، والخطب جسيم، فإن أشكل عليك شيء، فسفرك إلى المغرب في طلبه غير كثير، واعتبر لنفسك حيث كتبت لي فيما مضى، أن هذا هو الحق الذي لا شك فيه، لكن لا نقدر على التغيير، وتكلمت بكلام حسن. فلما غربلك الله بولد المويس، ولبس عليك، وكتب لأهل الوشم يستهزئ بالتوحيد، ويزعم أنه بدعة، وأنه خرج من خراسان، ويسب دين الله ورسوله، لم تفطن لجهله وعظم ذنبه، وظننت أن كلامي فيه من باب الانتصار للنفس؛ وكلامي هذا لا يغيرك، فإن مرادي أن تفهم أن الخطب جسيم، وأن أكابر أهل العلم يتعلمون هذا، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 16 ويغلطون فيه فضلا عنا وعن أمثالنا، فلعله إن أشكل عليك تواجهني، هذا إن عرفت أنه حق. وإن كنت إذا نقلت لك عبارات العلماء، عرفت أني لم أفهم معناها، وأن الذي نقلت لك كلامهم أخطؤوا، وأنهم خالفهم أحد من أهل العلم، فنبهني على الحق، وأرجع إليه إن شاء الله تعالى. فنقول: قال الشيخ تقي الدين: وقد غلط في مسمى التوحيد طوائف من أهل النظر، ومن أهل العبادة، حتى قلبوا حقيقته: فطائفة ظنت أن التوحيد هو نفي الصفات، وطائفة ظنوا أنه الإقرار بتوحيد الربوبية. ومنهم من أطال في تقرير هذا الموضع، وظن أنه بذلك قرر الوحدانية، وأن الألوهية هي القدرة على الاختراع ونحو ذلك، ولم يعلم أن مشركي العرب كانوا مقرين بهذا التوحيد، قال الله تعالى: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} 1 الآيات؛ وهذا حق لكن لا يخلص به عن الإشراك بالله الذي لا يغفره الله، بل لا بد أن يخلص الدين لله، فلا يعبد إلا الله، فيكون دينه لله; والإله هو المألوه الذي تألهه القلوب; وأطال رحمه الله الكلام. وقال أيضا في "الرسالة السنية" التي أرسلها إلى   1 سورة المؤمنون آية: 84. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 17 طائفة من أهل العبادة، ينتسبون إلى بعض الصالحين، ويغلون فيه، فذكر حديث الخوارج، ثم قال: فإذا كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين، ممن ينتسب إلى الإسلام، من مرق منه مع عبادته العظيمة، فليعلم: أن المنتسب إلى الإسلام قد يمرق من الدين وذلك بأمور منها: الغلو الذي ذمه الله، مثل الغلو في عدي بن مسافر أو غيره، بل الغلو في علي بن أبي طالب، بل الغلو في المسيح ونحوه، فكل من غلا في نبي، أو صحابي، أو رجل صالح وجعل فيه نوعا من الإلهية، مثل أن يقول: يا سيدي فلان أغثني، أو أنا في حسبك، ونحو هذا، فهو كافر، يستتاب، فإن تاب وإلا قتل. فإن الله سبحانه إنما أرسل الرسل، وأنزل الكتب، ليعبد وحده ولا يُدعى معه إله آخر؛ والذين يدعون مع الله آلهة أخرى، مثل الشمس والقمر، والصالحين، والتماثيل المصورة على صورهم، لم يكونوا يعتقدون أنها تنْزل المطر، أو تنبت النبات، وإنما كانوا يعبدون الملائكة والصالحين، ويقولون: هؤلاء شفعاؤنا عند الله؛ فبعث الله الرسل، وأنزل الكتب تنهى أن يُدعى أحد من دونه، لا دعاء عبادة، ولا دعاء استغاثة; وأطال الكلام رحمه الله. فتأمل كلامه في أهل عصره من أهل النظر، الذين يدّعون العلم، ومن أهل العبادة الذين يدّعون الصلاح. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 18 وقال في "الاقناع" - في باب حكم المرتد، في أوله -: فمن أشرك بالله أو جحد ربوبيته، أو وحدانيته، إلى أن قال: أو استهزأ بالله أو رسله، قال الشيخ: أو كان مبغضا لرسوله، أو لما جاء به اتفاقا، وقال: أو جعل بينه وبين الله وسائط، يدعوهم ويتوكل عليهم، ويسألهم، كفر إجماعا، إلى أن قال: أو أنكر الشهادتين أو إحداهما ... فتأمل هذا الكلام بشراشر قلبك، وتأمل: هل قالوا هذا في أشياء وجدت في زمانهم واشتد نكيرهم على أهلها، أو قالوها ولم تقع؟ وتأمل الفرق بين جحد الربوبية والوحدانية، والبغض لما جاء به الرسول. وقال أيضا في أثناء الباب: ومن اعتقد أن لأحد طريقا إلى الله، غير متابعة محمد صلى الله عليه وسلم، أو لا يجب عليه اتباعه، أو أن لغيره خروجا عن اتباعه، أو قال: أنا محتاج إليه في علم الظاهر دون علم الباطن، أو في علم الشريعة دون علم الحقيقة، أو قال: إن من العلماء من يسعه الخروج عن شريعته، كما وسع الخضر الخروج عن شريعة موسى، كفر في هذا كله. ولو تعرف من قال هذا الكلام فيه، وجزم بكفرهم، وعلمت ما هم عليه من الزهد والعبادة، وأنهم عند أكثر أهل زماننا من أعظم الأولياء، لقضيت العجب. وقال أيضا في الباب: ومن سب الصحابة، واقترن بسبه دعوى أن عليا إله أو نبي، أو أن جبرائيل غلط، فلا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 19 شك في كفر هذا، بل لا شك في كفر من توقف في تكفيره؛ فتأمل هذا؛ إذا كان كلامه هذا في علي، فكيف بمن ادعى أن ابن عربي، أو عبد القادر إلها؟! وتأمل كلام الشيخ في معنى الإله الذي تألهه القلوب. واعلم: أن المشركين في زماننا، قد زادوا على الكفار في زمن النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم يدعون الأولياء والصالحين، في الرخاء والشدة، ويطلبون منهم تفريج الكربات، وقضاء الحاجات، مع كونهم يدعون الملائكة والصالحين، ويريدون شفاعتهم والتقرب بهم، وإلا فهم مقرّون بأن الأمر لله؛ فهم لا يدعونهم إلا في الرخاء، فإذا جاءتهم الشدائد أخلصوا لله، قال الله تعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ} 1 الآية. وقال أيضا في الإقناع، في الباب: ويحرم تعلم السحر وتعليمه وفعله، وهو عقد ورقى، وكلام يتكلم به، أو يكتبه، أو يعمل شيئا يؤثر في بدن المسحور، أو قلبه أو عقله، ومنه ما يقتل، ومنه ما يمرض، ومنه ما يأخذ الرجل عن امرأته، فيمنعه وطأها، ومنه ما يبغّض أحدهما للآخر، ويحبب بين اثنين. ويكفر بتعلمه وفعله، سواء اعتقد تحريمه، أو إباحته; فتأمل هذا الكلام، ثم تأمل ما جرى في الناس،   1 سورة الإسراء آية: 67. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 20 خصوصا الصرف، والعطف، تعرف أن الكفر ليس ببعيد. وعليك بتأمل هذا الباب في الإقناع وشرحه، تأملا جيدا، وقف عند المواضع المشكلة، وذاكر فيها كما تفعل في باب الوقف والإجارة، يتبين لك إن شاء الله أمر عظيم. وأما الحنفية، فقال الشيخ قاسم، في "شرح درر البحار": النذر الذي يقع من أكثر العوام، وهو أن يأتي إلى قبر بعض الصلحاء، قائلا: يا سيدي فلان، إن رد غائبي، أو عوفي مريضي، أو قضيت حاجتي، فلك كذا، وكذا، باطل إجماعا لوجوه; منها: أن النذر للمخلوق لا يجوز. ومنها: ظن أن الميت يتصرف في الأمر، واعتقاد هذا كفر، إلى أن قال: إذا عرف هذا، فما يؤخذ من الدراهم والشمع، والزيت ونحوها، وينقل إلى ضرائح الأولياء، فحرام بإجماع المسلمين; وقد ابتلي الناس، لا سيما في مولد أحمد البدوي; فتأمل قول صاحب النهر، مع أنه بمصر، ومقر العلماء، كيف شاع بين أهل مصر ما لا قدرة للعلماء على دفعه فتأمل قوله من أكثر العوام، أتظن أن الزمان صلح بعده؟ وأما المالكية، فقال الطرطوشي، في كتاب "الحوادث والبدع": روى البخاري عن أبي واقد الليثي، قال: " خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين، ونحن حدثاء عهد بكفر، وللمشركين سدرة يعكفون حولها، وينوطون بها الجزء: 10 ¦ الصفحة: 21 أسلحتهم، يقال لها ذات أنواط، فمررنا بسدرة، فقلنا: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط، كما لهم ذات أنواط، فقال: الله أكبر! هذا كما قال بنو إسرائيل لموسى: اجعل لنا إلها كما لهم آلهة، لتركبن سنن من قبلكم ". فانظروا رحمكم الله أينما وجدتم سدرة يقصدها الناس، وينوطون بها الخرق، فهي ذات أنواط، فاقطعوها. وقال صلى الله عليه وسلم:" بدأ الإسلام غريبا، وسيعود غريبا كما بدأ، فطوبى للغرباء، الذين يصلحون إذا فسد الناس " 1، ومعنى هذا: أن الله لما جاء بالإسلام، فكان الرجل إذا أسلم في قبيلته، غريبا مستخفيا بإسلامه، قد جفاه العشيرة، فهو بينهم ذليل خائف، ثم يعود غريبا، لكثرة الأهواء المضلة، والمذاهب المختلفة، حتى يبقى أهل الحق غرباء في الناس، لقلتهم وخوفهم على أنفسهم. وروى البخاري، عن أم الدرداء، عن أبي الدرداء، قال: (والله ما أعرف فيهم من أمر محمد، إلا أنهم يصلون جميعا) ; وذلك: أنه أنكر أكثر أفعال أهل عصره وقال الزهري: "دخلت على أنس بن مالك بدمشق، وهو يبكي، فقلت: ما يبكيك؟ فقال: ما أعرف فيهم شيئا مما أدركت، إلا هذه الصلاة، وهذه الصلاة قد ضيعت". انتهى كلام الطرطوشي. فليتأمل اللبيب هذه الأحاديث، وفي أي زمان قيلت،   1 مسلم: الإيمان (145) , وابن ماجه: الفتن (3986) , وأحمد (2/389) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 22 وفي أي مكان، وهل أنكرها أحد من أهل العلم؟ والفوائد فيها كثيرة، ولكن مرادي منها ما وقع من الصحابة، وقول الصادق المصدوق، إنه مثل كلام الذين اختارهم الله على العالمين لنبيهم: اجعل لنا إلها. يا عجبا إذا جرى هذا من أولئك السادة، كيف ينكر علينا أن رجلا من المتأخرين غلط في قوله: يا أكرم الخلق; كيف تعجبون من كلامي فيه، وتظنونه خيرا وأعلم منهم؟ ولكن هذه الأمور لا علم لكم بها، وتظنون أن من وصف شركا أو كفرا، أنه الكفر الأكبر المخرج عن الملة. ولكن أين كلامك هذا من كتابك، الذي أرسلت إلي قبل أن يغربلك الله بصاحب الشام؟ وتذكر وتشهد أن هذا هو الحق، وتعتذر أنك لا تقدر على الإنكار؛ ومرادي أبين لك كلام "الطرطوشي" ما وقع في زمانه من الشرك بالشجر، مع كونه في زمن القاضي أبي يعلى، أتظن الزمان صلح بعده؟! وأما كلام الشافعية، فقال الإمام محدث الشام أبو شامة، في كتاب "الباعث على إنكار البدع والحوادث" وهو في زمن الشارح، وابن حمدان: وقد وقع من جماعة من النابذين لشريعة الإسلام، المنتمين إلى الفقر، الذي حقيقته الافتقار من الإيمان، من اعتقادهم في مشايخ لهم ضالين مضلين، فهم داخلون تحت قوله: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء الجزء: 10 ¦ الصفحة: 23 شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} 1؛وبهذا الطريق وأمثالها، كان مبادي ظهور الكفر، من عبادة الأصنام وغيرها. ومن هذا القسم، ما قد عم الابتلاء به، من تزيين الشيطان للعامة تخليق الحيطان، والعمد، وسرج مواضع في كل بلد، يحكي لهم حاك: أنه رأى في منامه أحدا ممن شهر بالصلاح؛ فيفعلون ذلك، ويظنون أنهم يتقربون إلى الله، ثم يجاوزون ذلك، إلى أن يعظم وقع تلك الأماكن في قلوبهم، ويرجون الشفاء لمرضاهم، وقضاء حوائجهم بالنذر لهم، وهي ما بين عيون، وشجر، وحائط وحجر. وفي دمشق - صانها الله من ذلك - مواضع متعددة، كعوينة الحمى، والشجرة الملعونة خارج باب النصر، سهل الله قطعها، فما أشبهها بذات أنواط; ثم ذكر كلاما طويلا - إلى أن قال: أسأل الله الكريم معافاته من كل ما يخالف رضاه، ولا يجعلنا ممن أضله فاتخذ إلهه هواه. فتأمل ذكره في هذا النوع، أنه نبذ لشريعة الإسلام، وأنه خروج عن الإيمان، ثم ذكر أنه عم الابتلاء به في الشام. فأنت قل لصاحبكم: هؤلاء العلماء من الأئمة الأربعة، ذكروا أن الشرك عم الابتلاء به وغيره، وصاحوا   1 سورة الشورى آية: 21. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 24 بأهله من أقطار الأرض، وذكروا أن الدين عاد غريبا؛ فهو بين اثنين: إما أن يقول كل هؤلاء العلماء جاهلون، ضالون مضلون، خارجون; وإما أن يدعي أن زمانه، وزمان مشايخه صلح بعد ذلك. ولا يخفاك: أني عثرت على أوراق، عند ابن عزاز، فيها إجازات له من عند مشايخه، وشيخ مشايخه، رجل يقال له: عبد الغني، ويثنون عليه في أوراقهم، ويسمونه العارف بالله؛ وهذا اشتهر عنه أنه على دين ابن عربي، الذي ذكر العلماء أنه أكفر من فرعون، حتى قال ابن المقري الشافعي: من شك في كفر طائفة ابن عربي فهو كافر. فإذا كان إمام دين ابن عربي والداعي إليه، هو شيخهم، ويثنون عليه أنه العارف بالله، فكيف يكون الأمر؟! ولكن أعظم من هذا كله، ما تقدم عن أبي الدرداء وأنس، وهما بالشام، ذلك الكلام فيه العظيم، واحتج به أهل العلم، على أن زمانهم أعظم؛ فكيف بزماننا؟ وقال ابن القيم رحمه الله، في الهدي النبوي، في الكلام على حديث وفد الطائف لما أسلموا، وسألوا النبي صلى الله عليه وسلم أن يترك لهم اللات لا يهدمها سنة، ولما تكلم ابن القيم على المسائل المأخوذة من القصة، قال: ومنها: أنه لا يجوز إبقاء مواضع الشرك والطواغيت، بعد القدرة على هدمها وإبطالها، يوما واحدا؛ فإنها شعائر الشرك الجزء: 10 ¦ الصفحة: 25 والكفر، وهي أعظم المنكرات؛ فلا يجوز الإقرار عليها مع القدرة البتة. وهذا حكم المشاهد التي بنيت على القبور التي اتخذت أوثانا تعبد من دون الله، والأحجار التي تقصد للتبرك والنذر والتقبيل؛ لا يجوز إبقاء شيء منها على وجه الأرض، مع القدرة على إزالته؛ وكثير منها بمنْزلة اللات والعزى، ومناة الثالثة الأخرى، بل أعظم شركا عندها وبها. والله المستعان. ولم يكن أحد من أرباب هذه الطواغيت، يعتقد أنها تخلق وترزق، وإنما كانوا يفعلون عندها وبها ما يفعله إخوانهم من المشركين اليوم عند طواغيتهم؛ فاتبع هؤلاء سنن من قبلهم، وسلكوا سبيلهم، شبرا بشبر وذراعا بذراع، وسلكوا سبيلهم حذو القذة بالقذة. وغلب الشرك على أكثر النفوس، لغلبة الجهل، وخفاء العلم، وصار المعروف منكرا، والمنكر معروفا، والسنة بدعة والبدعة سنة، ونشأ في ذلك الصغير، وهرم عليه الكبير، وطمست الأعلام، واشتدت غربة الإسلام، وقل العلماء، وغلب السفهاء، وتفاقم الأمر، واشتد البأس، وظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس، انتهى كلامه. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 26 وقال أيضا في الكلام على هذه القصة، لما ذكر "أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ مال اللات وصرفه في المصالح": ومنها: جواز صرف الإمام الأموال التي تصير إلى هذه الطواغيت في الجهاد، ومصالح المسلمين؛ فيجب عليه أن يأخذ أموال هذه الطواغيت التي تصرف إليها، ويصرفها على الجند والمقاتلة، ومصالح المسلمين، كما أخذ النبي صلى الله عليه وسلم أموال اللات. وكذا الحكم في وقفها، والوقف عليها باطل، وهو مال ضائع، فيصرف في مصالح المسلمين؛ فإن الوقف لا يصح إلا في قربة وطاعة لله ولرسوله، فلا يصح على مشهد ولا قبر يسرج عليه، ويعظم وينذر له، ويعبد من دون الله؛ وهذا مما لا يخالف فيه أحد من أئمة الدين، ومن اتبع سبيلهم، انتهى كلامه. فتأمل كلام هذا الرجل الذي هو من أهل العلم، وهو أيضا من أهل الشام، كيف صرح أنه ظهر في زمانه فيمن يدعي الإسلام في الشام وغيره، عبادة القبور، والمشاهد، والأشجار، والأحجار، التي هي أعظم من عبادة اللات، والعزى، أو مثلها، وأن ذلك ظهر ظهورا عظيما، حتى غلب الشرك على أكثر النفوس، وحتى صار الإسلام غريبا، بل اشتدت غربته. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 27 أين هذا من قول صاحبكم لأهل الوشم في كتابه - لما ذكروا له: إن في بلدانكم شيئا من الشرك -: يأبى الله أن يكون ذلك في المسلمين؟ وكلام هؤلاء الأئمة من أهل المذاهب الأربعة، أعظم وأعظم وأطم، مما قال ابن عبدان وصاحبه، في أهل زمانهما، أفترى هؤلاء العلماء أتوا فرية عظيمة، ومقالة جسيمة؟ فهذا ما يسر الله نقله، من كلام أهل العلم، على سبيل العجلة. فأنت تأمله تأملا جيدا، واجعل تأملك لله، مستعيذا بالله من اتباع الهوى، ولا تفعل فعلك أولا، ولما ذكرت لك: أنك تأمل كلامي وكلامه، فإن كان كلامي صحيحا لا مجازفة فيه، وأن شاميكم لا يعرف معنى لا إله إلا الله، ولا يعرف عقيدة الإمام أحمد، وعقيدة الذين ضربوه، فاعرف قدره، فهو بغيره أجهل; واعرف أن الأمر أمر جليل، فإن كان كلامي باطلا، ونسبت رجلا من أهل العلم إلى هذه الأمور العظيمة، بالكذب والبهتان، فالأمر أيضا عظيم، فأعرضت عن ذلك كله، وكتبت لي كتابا في شيء آخر. فإن كان مرادك اتباع الهوى - أعاذنا الله منه -، وأنك مع ولد المويس كيف كان، فاترك الجواب، فإن بعض الناس يذكرون عنك، أنك صرت معه، لأجل شيء من أمور الدنيا؛ وإن كنت مع الحق، فلا أعذرك من تأمل الجزء: 10 ¦ الصفحة: 28 كلامي هذا، وكلامي الأول، وتعرضهما على كلام أهل العلم، وتحرره تحريرا جيدا، ثم تتكلم بالحق. إذا تقرر هذا، فخمس المسائل التي قدمت جوابها في كلام العلماء، وأضيف إليها مسألة سادسة، وهي: إفتائي بكفر شمسان وأولاده، ومن شابههم، وسميتهم طواغيت; وذلك أنهم يدعون الناس إلى عبادتهم من دون الله، عبادة أعظم من عبادة اللات والعزى بأضعاف، وليس في كلامي مجازفة، بل هو الحق، لأن عبادة اللات والعزى، يعبدونها في الرخاء، ويخلصون لله في الشدة، وعبادة هؤلاء أعظم من عبادتهم إياهم، في شدائد البر والبحر. فإن كان الله أوقع في قلبك معرفة الحق، والانقياد له، والكفر بالطاغوت، والتبرؤ ممن خالف هذه الأصول، ولو كان أباك أو أخاك، فاكتب لي وبشرني، لأن هذا ليس مثل الخطأ في الفروع; بل ليس الجهل بهذا، فضلا عن إنكاره، مثل الزنى والسرقة، بل والله ثم والله ثم والله، إن الأمر أعظم؛ وإن وقع في قلبك إشكال، فاضرع إلى مقلب القلوب، أن يهديك لدينه ودين نبيه. وأما بقية المسائل، فالجواب عنها ممكن، إذا خلصنا من شهادة أن لا إله إلا الله، وبيننا وبينكم كلام أهل العلم; لكن العجب من قولك: إني هادم قبور الصحابة; وعبارة "الإقناع" في الجنائز: يجب هدم القباب التي على القبور، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 29 لأنها أسست على معصية الرسول،؛ والنبي صلى الله عليه وسلم صح عنه: أنه بعث عليا لهدم القبور; ومثل صاحب كتابكم، لو كتب لكم: أن ابن عبد الوهاب ابتدع، لأنه أنكر على رجل تزوج أخته، فالعجب كيف راج عليكم كلامه فيه؟! وأما قولي: إن الإله الذي فيه السر; فمعلوم: أن اللغات تختلف، فالمعبود عند العرب، والإله الذي يسمونه عوامنا السيد، والشيخ، والذي فيه السر; والعرب الأولون: يسمون الألوهية ما يسمون عوامنا السر، لأن السر عندهم هو القدرة على النفع والضر، وكونه يصلح أن يدعى ويرجى، ويخاف ويتوكل عليه. فإذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب " 1، وسئل بعض العامة: ما فاتحة الكتاب؟ ما فسرت له إلا بلغة بلده; فتارة تقول: هي فاتحة الكتاب، وتارة تقول: هي أم القرآن، وتارة تقول: هي الحمد; وأشباه هذه العبارات التي معناها واحد، ولكن إن كان السر في لغة عوامنا ليس هذا، وأن هذا ليس هو الإله في كلام أهل العلم، فهذا وجه الإنكار، فبينوا لنا.   1 البخاري: الأذان (756) , ومسلم: الصلاة (394) , والترمذي: الصلاة (247) , والنسائي: الافتتاح (910 ,911) , وأبو داود: الصلاة (822) , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (837) , وأحمد (5/316 ,5/321) , والدارمي: الصلاة (1242) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 30 [تصريح الشيخ ابن عبد الوهاب بكفر ابن سحيم] وله أيضا، أعلى الله منازله في عليين: بسم الله الرحمن الرحيم الذي يعلم به سليمان بن سحيم أنك زعجت قرطاسة فيها عجائب؛ فإن كان هذا قدر فهمك، فهذا من أفسد الأفهام، وإن كنت تلبس به على الجهال، فلا أنت برابح. وقبل الجواب، نذكر لك أنك أنت وأباك، مصرحون بالكفر، والشرك، والنفاق، ولكن صائر لكم عند "خمامة" في معكال، قصاصيب وأشباههم، يعتقدون أنكم علماء؛ ونداريكم نود أن الله يهديكم ويهديهم; وأنت إلى الآن أنت وأبوك، لا تفهمون شهادة أن لا إله إلا الله، أنا أشهد بهذا شهادة يسألني الله عنها يوم القيامة، أنك لا تعرفها إلى الآن، ولا أبوك. ونكشف لك هذا كشفا بينا، لعلك تتوب إلى الله، وتدخل في دين الإسلام، إن هداك الله، وإلا تبين لكل من يؤمن بالله واليوم الآخر، حالكما، والصلاة وراءكما، وقبول شهادتكما، وخطؤكما، ووجوب عداوتكما، كما قال تعالى: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} 1. وأكشف ذلك بوجوه: الأول: أنكم تقرون، أن الذي يأتيكم من عندنا هو   1 سورة المجادلة آية: 22. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 31 الحق، وأنت تشهد به ليلا ونهارا، وإن جحدت هذا، شهد عليك الرجال والنساء; ثم هذه الشهادة "أن هذا دين الله"، أنت وأبوك مجتهدان في عداوة هذا الدين، ليلا ونهارا، ومن أطاعكما، وتبهتون وترمون المؤمنين بالبهتان العظيم، وتصورون على الناس الأكاذيب الكبار؛ فكيف تشهد أن هذا دين الله، ثم تتبين في عداوة من تبعه؟! الوجه الثاني: أنك تقول إني أعرف التوحيد، وتقر أن من جعل الصالحين وسائط، فهو كافر، والناس يشهدون عليك أنك تروح للمولد، وتقرؤه لهم، وتحضرهم وهم ينخون ويندبون مشايخهم ويطلبون منهم الغوث والمدد، وتأكل اللقم من الطعام المعد لذلك؛ فإذا كنت تقر: أن هذا كفر، فكيف تروح لهم، وتعاونهم عليه، وتحضر كفرهم؟! الوجه الثالث: أن تعليقهم التمائم، من الشرك، بنص رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد ذكر تعليق التمائم صاحب الإقناع، في أول الجنائز؛ وأنت تكتب الحجب، وتأخذ عليها شرطا، حتى إنك تكتب لامرأة حجابا، لعلها تحبل، وشرطت لك أحمرين، وطالبتها تريد الأحمرين، فكيف تقول: إني أعرف التوحيد، وأنت تفعل هذه الأفاعيل؟ وإن أنكرت، فالناس يشهدون عليك بهذا. الوجه الرابع: أنك تكتب في حجبك طلاسم، وقد ذكر في الإقناع أنها من السحر، والسحر يكفر صاحبه؛ فكيف تفهم التوحيد، وأنت تكتب الطلاسم؟ وإن جحدت الجزء: 10 ¦ الصفحة: 32 فهذا خط يدك موجود. الوجه الخامس: أن الناس فيما مضى، عبدوا الطواغيت، عبادة ملأت الأرض، بهذا الذي تقر أنه من الشرك، ينخونهم ويندبونهم، ويجعلونها وسائط، وأنت وأبوك تقولان: نعرف هذا، ولكن ما سألونا؛ فإذا كنتما تعرفانه، كيف يحل لكما أن تتركا الناس يكفرون ما تنصحانهم ولو ما سألوكما؟ الوجه السادس: أنا لما أنكرنا عبادة غير الله، بالغتم في عداوة هذا الأمر وإنكاره، وزعمتم أنه مذهب خامس، وأنه باطل؛ وإن أنكرتم فالناس يشهدون عليكم بذلك، وأنتم مجاهرون به؛ فكيف تقولون هذا كفر، ولكن ما سألونا عنه؟ فإذا قام من يبين للناس التوحيد، قلتم إنه مغير الدين، وآت بمذهب خامس؛ فإذا كنت تعرف التوحيد، وتقر أن كلامي هذا حق، فكيف تجعله تغييرا لدين الله، وتشكونا عند أهل الحرمين؟ والأمور التي تدل على أنك أنت وأباك، لا تعرفان شهادة أن لا إله إلا الله لا تحصر، لكن ذكرنا الأمور التي لا تقدر أن تنكرها؛ وليتك تفعل فعل المنافقين الذين قال الله فيهم: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} 1 لأنهم يخفون نفاقهم، وأنت وأبوك، تظهران للخاص والعام.   1 سورة النساء آية: 145. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 33 وأما الدليل على أنك رجل معاند ضال على علم، مختار الكفر على الإسلام، فمن وجوه: الأول: أني كتبت ورقة لابن صالح من سنتين، فيها تكفير الطواغيت، شمسان وأمثاله، وذكرت فيها كلام الله ورسوله، وبينت الأدلة، فلما جاءتك، نسختها بيدك لموسى بن سليم، ثم سجلت عليها، وقلت: ما ينكر هذا إلا أعمى القلب. وقرأها موسى في البلدان وفي منفوحة، وفي الدرعية وعندنا، ثم راح بها للقبلة. فإذا كنت من أول موافقا لنا على كفرهم، وتقول: ما ينكر هذا إلا من أعمى الله بصيرته، فالعلم الذي جاءك بعد هذا يبين لك أنهم ليسوا بكفار، بينه لنا. الوجه الثاني: أني أرسلت لك رسالة الشيخ تقي الدين، التي يذكر فيها أن من دعا نبيا، أو صحابيا، أو وليا، مثل أن يقول: يا سيدي فلان انصرني، أو أغثني، أنه كافر بالإجماع؛ فلما أتتك استحسنتها، وشهدت أنها حق، وأنت تشهد به الآن، فما الموجب لهذه العداوة؟ الوجه الثالث: أنه إذا أتاك أحد من أهل المعرفة، أقررت ان هذا دين الله، وأنه الحق، وقلته على رؤوس الأشهاد، وإذا خلوت مع شياطينك "قصاصيبك" فلك كلام الجزء: 10 ¦ الصفحة: 34 آخر. الوجه الرابع: أن عبد الرحمن الشنيفي ومن معه، لما أتوك وذاكروك، أقررت بحضرة شياطينك، أن هذا هو الحق، وشهدت أن الطواغيت كفار، وتبرأت من طالب الحمضي، وعبد الكريم، وموسى بن نوح؛ فأي شيء بان لك بعد هذا، أن هذا باطل؟ وأن الذي تبرأت منهم، وعاديتهم أنهم على حق؟ الوجه الخامس: أنك لما خرجت من عند الشيوخ، وأتيت عند الشنيفي، جحدت الكلام الذي قلت في المجلس؛ فإن كان الكلام حقا، فلأي شيء تجحده؟ وأنت وأبوك: مقران أنكما لا تعرفان كلام الله ورسوله، لكن تقولان نعرف كلام صاحب "الإقناع" وأمثاله. وأنا أذكر لك كلام صاحب الإقناع، أنه مكفرك، ومكفر أباك، في غير موضع من كتابه. الأول: أنه ذكر في أول سطر من أحكام المرتد، أن الهازل بالدين يكفر، وهذا مشهور عنك، وعن ابن أحمد بن نوح، الاستهزاء بكلام الله ورسوله، وهذا كتابكم كفركم. الثاني: أنه ذكر في أوله، أن المبغض لما جاء به الرسول، كافر بالإجماع، ولو عمل به؛ وأنت مقر أن هذا الذي أقول في التوحيد، أمر الله ورسوله; والنساء والرجال الجزء: 10 ¦ الصفحة: 35 يشهدون عليكم: أنكم مبغضون لهذا الدين، مجتهدون في تنفير الناس عنه، والكذب والبهتان على أهله؛ فهذا كتابكم كفركم. الثالث: أنه ذكر من أنواع الردة، إسقاط حرمة القرآن؛ وأنتم كذلك، تستهزئون بمن يعمل به، وتزعمون أنهم جهال، وأنكم علماء. الرابع: أنه ذكر أن من ادعى في علي بن أبي طالب ألوهية، أنه كافر، ومن شك في كفره فهو كافر، وهذه مسألتك التي جادلت بها في مجلس الشيوخ، وقد صرح في "الإقناع": أن من شك في كفرهم فهو كافر؛ فكيف بمن جادل عنهم، وادعى أنهم مسلمون؟ وجعلنا كفارا لما أنكرنا عليهم؟ الخامس: أنه ذكر أن السحر يكفر بتعلمه وتعليمه؛ والطلاسم من جملة السحر. فهذه خمسة مواضع في "الإقناع". في باب واحد، أن من فعلها فقد كفر، وهي دينك ودين أبيك؛ فإما أن تبرؤوا من دينكم هذا، وإلا أجيبوا عن كلام صاحب "الإقناع"، وكلامنا هذا لغيرك الذين عليهم الشرهة، مثل الشيوخ، أو من يصلي وراءك، لعل الله أن يهديهم، ويعزلوك أنت وأباك عن الصلاة بالناس، لئلا تفسد عليهم دينهم، وإلا فأنا أظنك لا تقبل، ولا يزيدك هذا الكلام إلا جهالة وكفرا. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 36 وأما الكلام الذي لبست به على الناس، فأنا أبينه إن شاء الله كلمة كلمة، وذلك أن جملة المسائل التي ذكرت أربع: الأولى: النذر لغير الله، تقول إنه حرام ليس بشرك. الثانية: أن من جعل بينه وبين الله وسائط كفر، أما الوسائط بأنفسهم فلا يكفرون. الثالثة: عبارة العلماء، أن المسلم لا يجوز تكفيره بالذنوب. الرابعة: التذكير ليلة الجمعة، لا ينبغي الأمر بتركه. هذه المسائل التي ذكرت. فأما المسألة الأولى: فدليلك قولهم: إن النذر لغير الله حرام بالإجماع; فاستدللت بقولهم حرام، على أنه ليس بشرك، فإن كان هذا قدر عقلك، فكيف تدعي المعرفة؟ يا ويلك! ما تصنع بقول الله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} 1 فهذا يدل على أن الشرك حرام ليس بكفر، يا هذا الجاهل الجهل المركب! ما تصنع بقول الله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً} 2، هل يدل هذا التحريم على أنه لا يكفر صاحبه؟ يا ويلك! في أي كتاب وجدته، إذا قيل لك هذا حرام أنه ليس بكفر؟ فقولك: إن ظاهر كلامهم أنه ليس بكفر، كذب وافتراء على أهل العلم.   1 سورة الأنعام آية: 151. 2 سورة الأعراف آية: 33. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 37 بل يقال: ذكر أنه حرام، وأما كونه كفرا، فيحتاج إلى دليل آخر، والدليل عليه: أنه صرح في الإقناع، أن النذر عبادة، ومعلوم: أن لا إله إلا الله معناها لا يعبد إلا الله، فإذا كان النذر عبادة، وجعلتها لغيره، كيف لا يكون شركا؟ وأيضا: مسألة الوسائط تدل على ذلك، والناس يشهدون: أن هؤلاء الناذرين يجعلونهم وسائط، وهم مقرون بذلك; وأما استدلالك بقوله: من قال: انذروا لي، أنه إذا رضي وسكت لا يكفر، فبأي دليل؟ غاية ما يقال: إنه سكت عن الآخذ الراضي، وعلم من دليل آخر. والدليل الآخر: أن الرضاء بالكفر، كفر صرح به العلماء; وموالاة الكفار كفر، وغير ذلك. هذا إذا قدر أنهم لا يقولونه، فكيف وأنت وغيرك تشهد عليهم أنهم يقولون، ويبالغون فيه، ويقصون على الناس الحكايات، التي ترسخ الشرك في قلوبهم، وتبغض إليهم التوحيد، ويكفرون أهل العارض، لما قالوا: لا يعبد إلا الله; وأما قولك: ما رأينا للترشيح معنى في كلام العلماء، فمن أنت حتى تعرف كلام العلماء؟!. وأما الثانية: وهي أن الذي يجعل الوسائط هو الكافر، وأما المجعول فلا يكفر، فهذا كلام تلبيس الجزء: 10 ¦ الصفحة: 38 وجهالة; ومن قال: إن عيسى، وعزيرا، وعلي بن أبي طالب، وزيد بن الخطاب، وغيرهم من الصالحين، يلحقهم نقص بجعل المشركين إياهم وسائط، حاشا وكلا {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} 1. وإنا كفّرنا هؤلاء الطواغيت، أهل الخرج وغيرهم، بالأمور التي يفعلونها هم; منها: أنهم يجعلون آباءهم وأجدادهم وسائط، ومنها: أنهم يدعون الناس إلى الكفر، ومنها: أنهم يبغضون عند الناس دين محمد صلى الله عليه وسلم ويزعمون: أن أهل العارض كفروا لما قالوا: لا يعبد إلا الله، وغير ذلك من أنواع الكفر؛ وهذا أمر أوضح من الشمس، لا يحتاج إلى تقرير. ولكن أنت رجل جاهل مشرك، مبغض لدين الله، وتلبس على الجهال الذين يكرهون دين الإسلام ويحبون الشرك ودين آبائهم; وإلا فهؤلاء الجهال، لو مرادهم اتباع الحق، عرفوا أن كلامك من أفسد ما يكون. وأما المسألة الثالثة: وهي من أكبر تلبيسك الذي تلبس به على العوام، أن أهل العلم قالوا: لا يجوز تكفير المسلم بالذنب، وهذا حق، ولكن ليس هذا ما نحن فيه; وذلك أن الخوارج يكفرون من زنى، أو سرق، أو سفك الدم، بل كل كبيرة إذا فعلها المسلم كفر; وأما أهل السنة فمذهبهم: أن المسلم لا يكفر إلا بالشرك.   1 سورة الأنعام آية: 164. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 39 ونحن ما كفّرنا الطواغيت وأتباعهم، إلا بالشرك; وأنت رجل من أجهل الناس، تظن أن من صلى وادعى أنه مسلم لا يكفر؛ فإذا كنت تعتقد ذلك، فما تقول في المنافقين، الذين يصلون ويصومون ويجاهدون، قال الله تعالى فيهم: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} 1. وما تقول في الخوارج، الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد، أينما لقيتموهم فاقتلوهم " 2؟ أتظنهم ليسوا من أهل القبلة؟ ما تقول في الذين اعتقدوا في علي بن أبي طالب رضي الله عنه مثل اعتقاد كثير من الناس في عبد القادر وغيره، فأضرم لهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه نارا، فأحرقهم بها؟ وأجمعت الصحابة على قتلهم، لكن ابن عباس أنكر تحريقهم بالنار، وقال: يُقتلون بالسيف; أتظن هؤلاء ليسوا من أهل القبلة؟ أم أنت تفهم الشرع، وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يفهمونه؟ أرأيت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قاتلوا من منع الزكاة، فلما أرادوا التوبة، قال أبو بكر: لا نقبل توبتكم، حتى تشهدوا أن قتلانا في الجنة، وقتلاكم في النار؛ أتظن أن أبا بكر وأصحابه، لا يفهمون، وأنت وأبوك الذين تفهمون؟ يا ويلك أيها الجاهل المركب! إذا كنت تعتقد   1 سورة النساء آية: 145. 2 البخاري: التوحيد (7432) , ومسلم: الزكاة (1064) , والنسائي: الزكاة (2578) , وأبو داود: السنة (4764) , وأحمد (3/68 ,3/73) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 40 هذا، أن من أم القبلة لا يكفر، فما معنى هذه المسائل العظيمة الكثيرة، التي ذكرها العلماء في باب حكم المرتد، التي كثير منها في أناس، أهل زهد وعبادة عظيمة؟ ومنهم طوائف، ذكر العلماء: أن من شك في كفرهم، فهو كافر. ولو كان الأمر على زعمك، بطل كلام العلماء في حكم المرتد إلا مسألة واحدة، وهي: الذي يصرح بتكذيب الرسول، وينتقل يهوديا، أو نصرانيا، أو مجوسيا ونحوهم، هذا هو الكفر عندك، يا ويلك! ما تصنع بقوله: صلى الله عليه وسلم " لا تقوم الساعة، حتى تعبد فئام من أمتي الأوثان "؟ وكيف تقول هذا، وأنت تقر: أن من جعل الوسائط كفر؟ فإذا كان أهل العلم في زمانهم، حكموا على كثير من أهل زمانهم، بالكفر والشرك، أتظن أنكم صلحتم بعدهم؟ يا ويلك! وأما مسألة التذكير، فكلامك فيها من أعجب العجاب، أنت تقول بدعة حسنة، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: " كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار" 1، ولم يستثن شيئا. تشير علينا نصدقك أنت وأباك، لأنكم علماء! ونكذب رسول الله! والعجب من نقلك الإجماع، فتجمع مع الجهالة المركبة، الكذب الصريح والبهتان؛ فإذا كان في "الإقناع" في باب الأذان، قد ذكر كراهيته في مواضع متعددة، أتظن أنك أعلم من صاحب "الإقناع"؟ أم تظنه مخالفا للإجماع؟ وأيضا   1 مسلم: الجمعة (867) , والنسائي: صلاة العيدين (1578) , وابن ماجه: المقدمة (45) , وأحمد (3/310) , والدارمي: المقدمة (206) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 41 لما جاءك عبد الرحمن الشنيفي، أقررت لهم أن التذكير بدعة مكروهة، فمتى هذا العلم جاءك؟! وأما قولك: أمر الله بالصلاة على نبيه على الإطلاق، فأيضا أمر الله بالسجود على الإطلاق، في قوله: {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} 1، أفيدل هذا على السجود للأصنام؟ أو يدل على الصلاة في أوقات النهي؟ فإن قلت ذاك قد نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم، قلنا: وكذلك هذا، نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن البدع، وذكر أن " كل بدعة ضلالة " 2؛ ومعلوم أن هذا حادث من زمن طويل، وأنكره أهل العلم، منهم صاحب "الإقناع". وقد ذكر السيوطي في كتاب "الأوائل" أن أول ما حدث التذكير يوم الجمعة، ليتهيأ الناس لصلاتها، بعد السبعمائة، في زمن الناصر بن قلاوون؛ فأرنا كلام واحد من العلماء أرخص فيه، وجعله بدعة حسنة؛ فليس عندك إلا الجهل المركب، والبهتان والكذب. وأما استدلالك بالأحايث التي فيها إجماع الأمة والسواد الأعظم، وقول: " من شذ شذ في النار " 3 و " يد الله على الجماعة " 4 وأمثال هذا، فهذا أيضا من أعظم ما تلبس به على الجهال، وليس هذا معنى الأحاديث، بإجماع أهل العلم كلهم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن الإسلام سيعود غريبا، فكيف يأمرنا باتباع غالب الناس؟! وكذلك الأحاديث الكثيرة، منها قوله: " يأتي على الناس زمان، لا يبقى من   1 سورة الحج آية: 77. 2 مسلم: الجمعة (867) , والنسائي: صلاة العيدين (1578) , وابن ماجه: المقدمة (45) , وأحمد (3/310) , والدارمي: المقدمة (206) . 3 الترمذي: الفتن (2167) . 4 النسائي: تحريم الدم (4020) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 42 الإسلام إلا اسمه، ولا من القرآن إلا رسمه ". وأحاديث عظيمة كثيرة، يبين صلى الله عليه وسلم أن الباطل يصير أكثر من الحق، وأن الدين يصير غريبا، ولو لم يكن في ذلك، إلا قوله صلى الله عليه وسلم: "ستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة". هل بعد هذا البيان بيان؟ يا ويلك! كيف تأمر بعد هذا باتباع أكثر الناس؟! ومعلوم: أن أهل أرضنا، وأرض الحجاز، الذي ينكر البعث منهم أكثر ممن يقر به، والذي يعرف الدين أقل ممن لا يعرفه، والذي يضيع الصلاة أكثر من الذي يحافظ عليها، والذي يمنع الزكاة أكثر ممن يؤديها؛ فإن كان الصواب عندك: اتباع هؤلاء، فبين لنا، وإن كان عنزة، وآل ظفير، وأشباههم من البوادي، هو السواد الأعظم، ولقيت في علمك وعلم أبيك: أن اتباعهم حسن، فاذكروا لنا، ونحن نذكر كلام أهل العلم، في معنى تلك الأحاديث، ليتبين للجهال الذين موهت عليهم. قال ابن القيم رحمه الله، في "إعلام الموقعين" واعلم أن الإجماع والحجة، والسواد الأعظم، هو العالم صاحب الحق، وإن كان وحده، وإن خالفه أهل الأرض; وقال عمرو بن ميمون، سمعت ابن مسعود، يقول: "عليكم بالجماعة، فإن يد الله على الجماعة،" وسمعته يقول: "سيلي عليكم ولاة، يؤخرون الصلاة عن وقتها، فصل الصلاة الجزء: 10 ¦ الصفحة: 43 وحدك، وهي الفريضة، ثم صل معهم، فإنها لك نافلة. قلت: يا أصحاب محمد، ما أدري ما تحدثون؟ قال: وما ذاك؟ قلت: تأمرني بالجماعة، ثم تقول صل الصلاة وحدك; قال: يا عمرو بن ميمون، لقد كنت أظنك من أفقه أهل هذه القرية، أتدري ما الجماعة؟ قلت: لا، قال جمهور الجماعة هم الذين فارقوا الجماعة، الجماعة: ما وافق الحق، وإن كنت وحدك". وقال نعيم بن حماد: "إذا فسدت الجماعة، فعليك بما كان عليه الجماعة، قبل أن تفسد الجماعة; وإن كنت وحدك، فإنك أنت الجماعة حينئذ" وقال بعض الأئمة - وقد ذكر له السواد الأعظم -: أتدري ما السواد الأعظم؟ هو محمد بن أسلم الطوسي وأصحابه، الذين جعلوا السواد الأعظم، والحجة والجمهور والجماعة؛ فجعلوهم عيارا على السنة، وجعلوا السنة بدعة، وجعلوا المعروف منكرا، لقلة أهله، وتفردهم في الأقطار والأمصار، وقالوا: من شذ شذ في النار; وعرف المتخلفون: أن الشاذ ما خالف الحق، وإن كان عليه الناس كلهم إلا واحدا، فهم الشاذون. وقد شذ الناس كلهم في زمن أحمد بن حنبل، إلا نفرا يسيرا، فكانوا هم الجماعة؛ وكان القضاة يومئذ، والمفتون والخليفة وأتباعهم، كلهم هم الشاذون، وكان الإمام أحمد الجزء: 10 ¦ الصفحة: 44 وحده، هو الجماعة؛ ولما لم تحمل ذلك عقول الناس، قالوا للخليفة: يا أمير المؤمنين، أتكون أنت وقضاتك، وولاتك، والفقهاء والمفتون، على الباطل؟ وأحمد وحده على الحق؟ فلم يتسع علمه لذلك، فأخذه بالسياط والعقوبة، بعد الحبس الطويل; فلا إله إلا الله، ما أشبه الليلة بالبارحة، انتهى كلام ابن القيم، رحمه الله تعالى. يا سلامة ولد أم سلامة، هذا كلام الصحابة في تفسير السواد الأعظم، وكلام التابعين، وكلام السلف، وكلام المتأخرين، حتى ابن مسعود ذكر في زمانه: أن أكثر الناس فارقوا الجماعة; وأبلغ من هذه: الأحاديث المذكورة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من غربة الدين، وتفرق هذه الأمة أكثر من سبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة؛ فإن كنت وجدت في علمك، وعلم أبيك، ما يرد على رسول الله صلى الله عليه وسلم والعلماء، وأن عنزة، وآل ظفير، والبوادي، يجب علينا اتباعهم، فأخبرونا؛ وصلى الله على محمد. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 45 [رد ما صنفه ابن سحيم من الكفر والسب والتهورات] وله أيضا، حشره الله في زمرة النبيين والصديقين: بسم الله الرحمن الرحيم يعلم من يقف عليه: أني وقفت على أوراق، بخط ولد ابن سحيم، صنفها يريد أن يصد بها الناس عن دين الإسلام، وشهادة أن لا إله إلا الله، فأردت أن أنبه على ما فيها، من الكفر الصريح، وسب دين الإسلام، وما فيها من الجهالة التي يعرفها العامة. فأما تناقض كلامه، فمن وجوه: الأول: أنه صنف الأوراق يسبنا، ويرد علينا في تكفير كل من قال لا إله إلا الله، وهذا عمدة ما يشبه به على الجهال وعقولها؛ فصار في أوراقه يقول: أما من قال لا إله إلا الله لا يكفر ومن أم القبلة لا يكفر، فإذا ذكرنا لهم الآيات التي فيها كفره وكفر أبيه، وكفر الطواغيت، يقول: نزلت في النصارى، نزلت في الفلاني. ثم رجع في أوراقه يكذب نفسه، ويوافقنا، ويقول: من قال إن النبي صلى الله عليه وسلم أملس الكف كفر، ومن قال كذا كفر; تارة يقول: ما يوجد الكفر فينا، وتارة يقرر الكفر، أعجب لبانيه يخربه؟ الثاني: أنه ذكر في أوراقه، أنه لا يجوز الخروج عن كلام العلماء، وصادق في ذلك; ثم ذكر فيها كفر القدرية، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 46 والعلماء لا يكفرونهم، فكفر ناسا لم يكفروا، وأنكر علينا تكفير أهل الشرك. الثالث: أنه ذكر معنى التوحيد: أن تصرف جميع العبادات، من الأقوال والأفعال لله وحده، لا يجعل فيها شيء، لا لملك مقرب، ولا نبي مرسل; وهذا حق. ثم يرجع يكذب نفسه، ويقول: إن دعاء شمسان وأمثاله في الشدائد، والنذر لهم، ليبرؤوا المريض، ويفرجوا عن المكروب، الذي لم يصل إليه عبدة الأوثان، بل يخلصون في الشدائد لله، ويجعل هذا ليس من الشرك، ويستدل على كفره الباطل، بالحديث الذي فيه: (إن الشيطان يئس أن يعبد في جزيرة العرب) . الرابع: أنه قسم التوحيد إلى نوعين، توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية; ويقول: إن الشيخ بين ذلك; ثم يرجع يرد علينا في تكفير طالب الحمضي، وأمثاله، الذين يشركون بالله في توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، ويزعمون أن حسينا، وإدريس، ينفعون ويضرون، وهذه الربوبية; ويزعم أنهم ينخون ويندبون، وهذا توحيد الألوهية. الخامس: أنه ذكر في {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} 1 أنها كافية في التوحيد؛ فوحد نفسه في الأفعال، فلا خالق إلا الله، وفي الألوهية، فلا يعبد إلا إياه، وبالأمر والنهي، فلا حكم إلا لله؛ فيقرر هذه الأنواع الثلاثة، ثم يكفر بها كلها، ويرد   1 سورة الإخلاص آية: 1. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 47 علينا; فإذا كفّرنا من قال: إن عبد القادر، والأولياء، ينفعون ويضرون، قال: كفّرتم أهل الإسلام، وإذا كفّرنا من يدعو شمسان، وتاجا، وحطابا، قال: كفرتم أهل الإسلام; والعجب: أنه يقول: إن من التوحيد توحيد الله بالأمر والنهي، فلا حكم إلا لله، ثم يرد علينا إذا عملنا بحكم الله، ويقول: من عمل بالقرآن كفر، والقرآن ما يفسر. السادس: أنه ينهى عن تفسير القرآن، ويقول: ما يعرف، ثم يرجع يفسره في تصنيفه، ويقول: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} 1 فيها كفاية، فلما فسرها كفر بها. السابع: أنه ذكر أن التوحيد له تعلق بالصفات، وتعلق بالذات؛ وقبل ذلك قد كتب إلينا: أن التوحيد في ثلاث كلمات: إن الله ليس على شيء، وليس في شيء، ولا من شيء؛ فتارة يذكر: أن التوحيد إثبات الصفات، وتارة يذكر ذلك، ويقول: التوحيد نفي الصفات. الثامن: أنه ذكر آيات في الأمر بالتوحيد، وآيات في النهي عن الشرك، ثم قال: المراد بهذا الشرك، في هذه الآيات والأحاديث. الشرك الجلي، كشرك عباد الشمس، لا على العموم، كما يتوهمه بعض الجهال، فصرح: بأن مراد الله، ومراد النبي صلى الله عليه وسلم لا يدخل فيه إلا عبادة الأوثان، وأن الشرك الأصغر لا يدخل فيه، ويسمى الذين أدخلوه فيه الجهال، ثم في آخر الصفح بعينه، قال: وقد   1 سورة الإخلاص آية: 1. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 48 يطلق الشرك بعبارات أخر؛ وكل ذلك في قوله: {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} 1؛ فرد علينا في أول الصفح، وكذب على الله ورسوله، في أن معنى ذلك بعض الشرك، ثم رجع يقرر ما أنكره، ويقول: إن الشرك الأكبر والأصغر، داخل في قوله: {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} 2. التاسع: أنه ذكر أن الشرك أربعة أنواع: شرك الألوهية، وشرك الربوبية، وشرك العبادة، وشرك الملك; وهذا كلام من لا يفهم ما يقول، فإن شرك العبادة هو شرك الإلهية، وشرك الربوبية هو شرك الملك. العاشر: أنه قال في مسألة الذبح والنذر، ومن قال: إن النذر والذبح عبادة، فهو منه دليل على الجهل، لأن العبادة ما أمر به شرعا، من غير اطراد عرفي، ولا اقتضاء عقلي؛ لكن البهيم لا يفهم معنى العبادة، فاستدل على النفي بدليل الإثبات. الحادي عشر: بعد أربعة أسطر، كذب نفسه في كلامه هذا، فقال: من ذبح لمخلوق يقصد به التقرب، أو لرجاء نفع، أو دفع ضر من دون الله، فهذا كفر; فتارة يرد علينا إذا قلنا إنه عبادة، وتارة يكفّر من فعله. الثاني عشر: أنه قرر أن من ذبح لمخلوق، لدفع ضر، أنه يكفر، ثم قرر أن الذبح للجن ليس بكفر. الثالث عشر: أنه رد علينا في الاستدلال، بقوله:   1 سورة الأنعام آية: 79. 2 سورة الأنعام آية: 79. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 49 {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} 1،ثم رجع يقرر ما قلنا بكلام البغوي: كان ناس يذبحون لغير الله، فنَزلت فيهم الآية; فياسبحان الله! ما من عقول تفهم أن هذا الرجل من البقر التي لا تميز بين التين والعنب! والحمد لله رب العالمين. [التحذير من شياطين الإنس الذين يصدون عن سبيل الله] وله أيضا قدس الله سره: بسم الله الرحمن الرحيم من محمد بن عبد الوهاب، إلى من يصل إليه هذا الكتاب، من المسلمين، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فقد قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} 2،وذلك أن الله أرسل محمدا صلى الله عليه وسلم ليبين للناس الحق من الباطل، فبين صلى الله عليه وسلم للناس جميع ما يحتاجون إليه من أمر دينهم، بيانا تاما، وما مات صلى الله عليه وسلم حتى ترك الناس على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها. فإذا عرفت ذلك، فهؤلاء الشياطين، من مردة الإنس، الذين يحاجون في الله من بعد ما استجيب له، إذا رأوا من يعلم الناس ما أمرهم به محمدا، من شهادة أن لا إله إلا الله، وما نهاهم عنه، مثل الاعتقاد في المخلوقين   1 سورة الكوثر آية: 2. 2 سورة الشورى آية: 16. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 50 الصالحين، وغيرهم، قاموا يجادلون، ويلبسون على الناس; ويقولون: كيف تكفرون المسلمين؟ كيف تسبون الأموات؟ آل فلان، أهل ضيف، آل فلان أهل كذا وكذا. ومرادهم بهذا، لئلا يتبين معنى لا إله إلا الله، ويتبين: أن الاعتقاد في الصالحين النفع والضر، ودعاءهم، كفر ينقل عن الملة; فيقول الناس لهم: إنكم قبل ذلك جهال، لأي شيء لم تأمرونا بهذا؟! وأنا أخبركم عن نفسي والله الذي لا إله إلا هو، لقد طلبت العلم، واعتقد من عرفني أن لي معرفة، وأنا ذلك الوقت، لا أعرف معنى لا إله إلا الله، ولا أعرف دين الإسلام، قبل هذا الخير الذي من الله به؛ وكذلك مشايخي، ما منهم رجل عرف ذلك. فمن زعم من علماء العارض: أنه عرف معنى لا إله إلا الله، أو عرف معنى الإسلام قبل هذا الوقت، أو زعم من مشايخه أن أحدا عرف ذلك، فقد كذب وافترى، ولبس على الناس، ومدح نفسه بما ليس فيه; وشاهد هذا: أن عبد الله بن عيسى، ما نعرف في علماء نجد، لا علماء العارض، ولا غيره، أجل منه، وهذا كلامه يصل إليكم إن شاء الله. فاتقوا الله عباد الله، ولا تكبروا على ربكم، ولا نبيكم، واحمدوه سبحانه، الذي من عليكم، ويسر لكم من الجزء: 10 ¦ الصفحة: 51 يعرفكم، بدين نبيكم صلى الله عليه وسلم، ولا تكونوا من {الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ} 1. إذا عرفتم ذلك، فاعلموا: أن قول الرجل لا إله إلا الله، نفي وإثبات: إثبات الألوهية كلها لله وحده، ونفيها عن الأنبياء والصالحين وغيرهم؛ وليس معنى الألوهية أنه لا يخلق ولا يرزق، ولا يدبر، ولا يحيي ولا يميت إلا الله، فإن الكفار الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرون بهذا، كما قال تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} 2. فتفكروا عباد الله، فيما ذكر الله عن الكفار، أنهم مقرون بهذا كله، لله وحده لا شريك له، وإنما كان شركهم: أنهم يدعون الأنبياء والصالحين، ويندبونهم، وينذرون لهم، ويتوكلون عليهم، يريدون منهم أنهم يقربونهم إلى الله، كما ذكر الله عنهم ذلك في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} 3. إذا عرفتم ذلك، فهؤلاء الطواغيت الذين يعتقد الناس فيهم، من أهل الخرج وغيرهم، مشهورون عند   1 سورة آية: 28. 2 سورة يونس آية: 31. 3 سورة الزمر آية: 3. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 52 الخاص والعام بذلك، وأنهم يترشحون له، ويأمرون به الناس، كلهم كفار مرتدون عن الإسلام؛ ومن جادل عنهم، أو أنكر على من كفرهم، أو زعم أن فعلهم هذا، لو كان باطلا فلا يخرجهم إلى الكفر، فأقل أحوال هذا المجادل، أنه فاسق لا يقبل خطه ولا شهادته، ولا يصلى خلفه. بل لا يصح دين الإسلام، إلا بالبراءة من هؤلاء وتكفيرهم، كما قال تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} 1.ومصداق هذا: أنكم إذا رأيتم من يخالف هذا الكلام، وينكره، فلا يخلو، إما أن يدعى أنه عارف; فقولوا له: هذا الأمر العظيم لا يغفل عنه، فبين لنا ما يصدقك من كلام العلماء، إذا لم تعرف كلام الله ورسوله؛ فإن زعم أن عنده دليلا فقولوا له يكتبه، حتى نعرضه على أهل المعرفة، ويتبين لنا أنك على الصواب، ونتبعك، فإن نبينا صلى الله عليه وسلم قد بين لنا الحق من الباطل. وإن كان المجادل يقر بالجهل، ولا يدعي المعرفة، فيا عباد الله: كيف ترضون بالأفعال والأقوال التي تغضب الله ورسوله، وتخرجكم عن الإسلام؟ اتباعا لرجل يقول: إني عارف؛ فإذا طالبتموه بالدليل، عرفتم أنه لا علم عنده، أو اتباعا لرجل جاهل، وتعرضون عن طاعة ربكم،   1 سورة البقرة آية: 256. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 53 وما بينه نبيكم صلى الله عليه وسلم وأهل العلم بعده. واذكروا ما قص الله عليكم في كتابه، لعلكم تعتبرون، فقال: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ} 1. وهؤلاء أهلكهم الله بالصيحة، وأنتم الآن، إذا جاءكم من يخبركم بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أنكم فريقان تختصمون، أفلا تخافون أن يصيبكم من العذاب ما أصابهم؟ والحاصل: أن مسائل التوحيد، ليست من المسائل التي هي من فن المطاوعة خاصة، بل البحث عنها وتعلمها فرض لازم على العالم والجاهل والمحرم والمحل، والذكر والأنثى؛ وأنا لا أقول لكم: أطيعوني، ولكن الذي أقول: إذا عرفتم أن الله أنعم عليكم، وتفضل عليكم بمحمد صلى الله عليه وسلم، والعلماء بعده، فلا ينبغي لكم معاندة محمد صلى الله عليه وسلم، وقول: تكفّرون المسلمين، كيف تفعلون كذا؟ كيف تفعلون كذا؟ فإنا لم نكفر المسلمين، بل ما كفرنا إلا المشركين. وكذلك أيضا: من أعظم الناس ضلالا، متصوفة في معكال وغيره، مثل ولد موسى بن جوعان، وسلامة بن مانع وغيرهما، يتبعون مذهب ابن عربي، وابن الفارض؛ وقد ذكر أهل العلم: أن ابن عربي من أئمة أهل مذهب الاتحادية، وهم أغلظ كفرا من اليهود والنصارى، فكل من   1 سورة النمل آية: 45. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 54 لم يدخل في دين محمد صلى الله عليه وسلم ويتبرأ من دين الاتحادية، فهو كافر بريء من الإسلام، ولا تصح الصلاة خلفه، ولا تقبل شهادته. والعجب، العجب: أن الذي يدعي المعرفة، يزعم أنه لا يعرف كلام الله ولا كلام رسوله، بل يدعي أنه عرف كلام المتأخرين، مثل "الإقناع" وغيره، وصاحب "الإقناع"، قد ذكر أن من شك في كفر هؤلاء السادة، والمشايخ فهو كافر، سبحان الله! كيف يفعلون أشياء في كتابهم، أن من فعلها كفر؟ ومع هذا يقولون: نحن أهل المعرفة، وأهل الصواب، وغيرنا صبيان جهال; والصبيان يقولون: أظهروا لنا كتابكم، ويأبون عن إظهاره. أما في هذا ما يدل على جهالتهم وضلالتهم، إذا رأوا من يعلم الشيوخ، وصبيانهم أو البدو، شهادة أن لا إله إلا الله، قالوا: لو قالوا لهم يتركون الحرام; وهذا من أعظم جهلهم، فإنهم لا يعرفون إلا ظلم الأموال، وأما ظلم الشرك فلا يعرفونه، وقد قال الله تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} 1. وأين الظلم الذي إذا تكلم الإنسان بكلمة منه، أو مدح الطواغيت، أو جادل عنهم، خرج من الإسلام، ولو كان صائما قائما؟ من الظلم الذي لا يخرج من الإسلام؟ بل: إما أن يؤدي إلى صاحبه بالقصاص، وإما أن   1 سورة لقمان آية: 13. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 55 يغفره الله، فبين الموضعين فرق عظيم. وبالجملة - رحمكم الله - إذا عرفتم ما تقدم أن نبيكم صلى الله عليه وسلم قد بين الدين كله، فاعلموا: أن هؤلاء الشياطين، قد أحلوا كثيرا من الحرام، في الربا والبيع، وغير ذلك، وحرموا عليكم كثيرا من الحلال، وضيقوا ما وسعه الله; فإذا رأيتم الاختلاف، فاسألوا عما أمركم الله به ورسوله، ولا تطيعوني ولا غيري، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. [بيان الإشكال في الفتيا بكفر أولاد شمسان وأولاد إدريس] وله أيضا قدس الله روحه ونور ضريحه: بسم الله الرحمن الرحيم من محمد بن عبد الوهاب، إلى عبد الله بن عيسى، وابنه عبد الوهاب، وعبد الله بن عبد الرحمن، حفظهم الله تعالى، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: ذكر لي أحمد، أنه مشكل عليكم الفتيا بكفر هؤلاء الطواغيت، مثل أولاد شمسان، وأولاد إدريس، والذين يعبدونهم، مثل طالب وأمثاله، فيقال: أولا: دين الله تعالى، ليس لي دونكم، فإذا أفتيت، أو عملت بشيء، وعلمتم أني مخطئ، وجب عليلكم تبيين الحق لأخيكم المسلم. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 56 وإن لم تعلموا وكانت المسألة من الواجبات، مثل التوحيد، فالواجب عليكم: أن تطلبوا وتحرصوا، حتى تفهموا حكم الله ورسوله في تلك المسألة، وما ذكر أهل العلم قبلكم؛ فإذا تبين حكم الله ورسوله بيانا كالشمس، فلا ينبغي لرجل يومن بالله واليوم الآخر، أن يرده، لكونه مخالفا لهواه، أو لما عليه أهل وقته ومشايخه، فإن الكفر كما قال ابن القيم رحمه الله في نونيته: فالكفر ليس سوى العناد ورد ما ... جاء الرسول به لقول فلان فانظر لعلك هكذا دون التي ... قد قالها فتبوء بالخسران ومتى لم تتبين لكم المسألة، لم يحل لكم الإنكار على من أفتى أو عمل، حتى يتبين لكم خطؤه، بل الواجب السكوت والتوقف؛ فإذا تحققتم الخطأ، بينتموه ولم تهدروا جميع المحاسن، لأجل مسألة، أو مائة، أو مائتين، أخطأت فيهن، فإني لا أدعي العصمة. وأنتم تقرون: أن الكلام الذي بينته، في معنى لا إله إلا الله، هو الحق الذي لا ريب فيه، فيا سبحان الله! إذا كنتم تقرون بهذا، فرجل بين الله به دين الإسلام، وأنتم ومشايخكم ومشايخهم لم يفهموه، ولم يميزوا بين دين محمد صلى الله عليه وسلم ودين عمرو بن لحي، الذي وضعه للعرب، بل دين عمرو عندهم دين صحيح، ويسمونه رقة القلب، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 57 والاعتقاد في الأولياء، ومن لم يفعل فهو متوقف لا يدري ما هذا، ولا يفرق بينه وبين دين محمد صلى الله عليه وسلم. فالرجل الذي هداكم الله به لهذا إن كنتم صادقين، لو يكون أحب إليكم من أموالكم وأولادكم، لم يكن كثيرا، فكيف يقال: أفتى في مسألة الوقف، أفتى في كذا، أفتى في كذا؟! كلها - ولله الحمد - على الحق، إلا أنها مخالفة لعادة الزمان، ودين الآباء. وأنا إلى الآن: أطلب الدليل من كل من خالفني؛ فإذا قيل له: استدل، أو اكتب، أو ذاكر، حاد عن ذلك، وتبين عجزه، لكن يجتهدون الليل والنهار، في صد الجهال عن سبيل الله، ويبغونها عوجا، اللهم إلا إن كنتم تعتقدون، أن كلامي باطل وبدعة، مثل ما قال غيركم، وأن الاعتقاد، في الزاهد، وشمسان، والمطيوية، والاعتماد عليهم، هو الدين الصحيح، وكل ما خالفه بدعة وضلالة، فتلك مسألة أخرى. إذا ثبت هذا، فتكفير هؤلاء المرتدين، انظروا في كتاب الله من أوله إلى آخره، والمرجع في ذلك إلى ما قاله المفسرون والأئمة، فإن جادل منافق، بكون الآية نزلت في الكفار، فقولوا له: هل قال أحد من أهل العلم، أولهم وآخرهم: إن هذه الآيات لا تعم من عمل بها من المسلمين؟ من قال هذا قبلك؟! الجزء: 10 ¦ الصفحة: 58 وأيضا فقولوا له: هذا رد على إجماع الأمة؛ فإن استدلالهم بالآيات النازلة في الكفار، على من عمل بها، ممن انتسب إلى الإسلام، أكثر من أن تذكر. وهذا أيضا كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمن فعل مثل هذه الأفاعيل، مثل الخوارج العباد الزهاد، الذين يحقر الإنسان الصحابة عندهم؛ وهم بالإجماع لم يفعلوا ما فعلوا، إلا باجتهاد، وتقرب إلى الله. وهذه سيرة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمن خالف الدين، ممن له عبادة واجتهاد، مثل: "تحريق علي رضي الله عنه من اعتقد فيه بالنار، وأجمع الصحابة على قتلهم وتحريقهم، إلا ابن عباس رضي الله عنهما، خالفهم في التحريق، فقال: يقتلون بالسيف". وهؤلاء الفقهاء، من أولهم إلى آخرهم، عقدوا باب: حكم المرتد للمسلم إذا فعل كذا وكذا، ومصداق ذلك في هذه الكتب، الذي يقول المخالف: جمعوا فيها الثمر، وهم أعلم منا، وهم، وهم; انظروا في متن "الإقناع"، في باب حكم المرتد، هل صرح أن من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم، أنه كافر بإجماع الأمة؟ وذكر فيمن اعتقد في علي بن أبي طالب، دون ما يعتقد طالب، في حسين وإدريس، أنه لا شك في كفره. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 59 وأنا ألزم عليكم: أنكم تحققون النظر، في عبارات "الإقناع"، وتقرؤونها قراءة تفهم، وتعرفون ما ذكر في هذا، وما ذكر في التشنيع علي من الأصدقاء؛ وإذا عرفتم ذلك، عرفتم شيئا من مذاهب الآباء، وفتنة الأهواء، وإذا تحققتم ذلك، وطالعتم الشروح والحواشي، فإذا أنا لم أفهمه، وله معنى آخر، فأرشدوني؛ وعسى الله أن يهدينا وإياكم وإخواننا، لما يحب ويرضى؛ ولا يدخل خواطركم غلظة هذا الكلام، فالله سبحانه يعلم قصدي به، والسلام. [رسالة الشيخ ابن عبد الوهاب إلى عبد الرحمن بن ربيعة في معنى التوحيد] وله أيضا رحمه الله تعالى: بسم الله الرحمن الر حيم السلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم من محمد بن عبد الوهاب، إلى عبد الرحمن بن ربيعة، سلمه الله تعالى. وبعد: وصل كتابك، تسأل عن مسائل كثيرة، وتذكر أن مرادك اتباع الحق; منها: مسألة التوحيد، ولا يخفاك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذا إلى اليمن، قال له: " إن أول ما تدعوهم إليه إلى أن يوحدوا الله؛ فإن هم أجابوك لذلك، فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات " 1 إلى آخره، فإذا كان الرجل لا يدعى إلى الصلوات الخمس، إلا بعدما يعرف التوحيد، وينقاد له، فكيف بمسائل جزئية، اختلف   1 البخاري: التوحيد (7372) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 60 فيها العلماء؟ فاعلم: أن التوحيد الذي دعت إليه الرسل، من أولهم إلى آخرهم: إفراد الله بالعبادة كلها، ليس فيها حق لملك مقرب، ولا نبي مرسل، فضلا عن غيرهم، فمن ذلك لا يدعي إلا إياه، كما قال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} 1. فمن عبد الله ليلا ونهارا، ثم دعا نبيا، أو وليا عند قبره، فقد اتخذ إلهين اثنين، ولم يشهد أن لا إله إلا الله، لأن الإله هو المدعو، كما يفعل المشركون اليوم عند قبر الزبير، أو عبد القادر، أو غيرهما، وكما يفعل قبل هذا عند قبر زيد وغيره. ومن ذبح لله ألف أضحية، ثم ذبح لنبي أو غيره، فقد جعل إلهين اثنين، كما قال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} 2 الآيتين، والنسك هو الذبح؛ وعلى هذا فقس. فمن أخلص العبادات كلها لله، ولم يشرك فيها غيره، فهو الذي شهد أن لا إله إلا الله. ومن جعل فيها مع الله غيره، فهو المشرك الجاحد لقوله لا إله إلا الله؛ وهذا الشرك الذي ذكره الله، قد طبق اليوم مشارق الأرض ومغاربها، إلا الغرباء المذكورين في   1 سورة الجن آية: 18. 2 سورة الأنعام آية: 162. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 61 الحديث، وقليل ما هم؛ وهذه المسألة لا خلاف فيها بين أهل العلم، من كل المذاهب. فإذا أردت مصداق هذا، فتأمل "باب حكم المرتد" في كل كتاب، وفي كل مذهب، وتأمل ما ذكروه في الأمور التي تجعل المسلم مرتدا يحل دمه وماله; منها: من جعل بينه وبين الله وسائط، كيف حكى الإجماع في "الإقناع" على ردته; ثم تأمل ما ذكروه في سائر الكتب. فإن عرفت أن في المسألة خلافا، ولو في بعض المذاهب، فنبهني; وإن صح عندك الإجماع على تكفير من فعل هذا، أو رضيه، أو جادل فيه، فهذه خطوط المويس، وابن إسماعيل، وأحمد بن يحيى، عندنا، في إنكار هذا الدين، والبراءة منه، ومن أهله؛ وهم الآن مجتهدون في صد الناس عنه. فإن استقمت على التوحيد، وتبينت فيه، ودعوت الناس إليه بعداوة هؤلاء، خصوصا ابن يحيى، لأنه من أنجسهم وأعظمهم كفرا، وصبرت على الأذى في ذلك، فأنت أخونا وحبيبنا؛ وذلك محل المذاكرة في المسائل التي ذكرت، فإن بان الصواب معك، وجب علينا الرجوع إليك، وإن لم تستقم على التوحيد، علما وعملا ومجاهدة، فليس هذا محل المراجعة في المسائل، والله أعلم. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 62 [بيان غلط من زعم أن من عبد الأوثان لا يكفر بعينه] وله أيضا عفا الله عنه: بسم الله الرحمن الر حيم من محمد بن عبد الوهاب إلى أحمد بن عبد الكريم، سلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين. أما بعد: وصل مكتوبك تقرر المسألة التي ذكرت، وتذكر أن عليك إشكالا تطلب إزالته، ثم ورد منك مراسلة، تذكر أنك عثرت على كلام للشيخ أزال عنك الإشكال، فنسأل الله أن يهديك لدين الإسلام. وعلى أي شيء يدل كلامه، من أن من عبد الأوثان عبادة أكبر من عبادة اللات والعزى، وسب دين الرسول صلى الله عليه وسلم بعدما شهد به، مثل سب أبي جهل، أنه لا يكفر بعينه. بل العبارة صريحة واضحة، في تكفيره مثل ابن فيروز، وصالح بن عبد الله، وأمثالهما، كفرا ظاهرا ينقل عن الملة، فضلا عن غيرهما؛ هذا صريح واضح، في كلام ابن القيم الذي ذكرت، وفي كلام الشيخ الذي أزال عنك الإشكال، في كفر من عبد الوثن الذي على قبر يوسف وأمثاله، ودعاهم في الشدائد والرخاء، وسب دين الرسل بعدما أقر به، ودان بعبادة الأوثان بعدما أقر بها. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 63 وليس في كلامي هذا مجازفة، بل أنت تشهد به عليهم؛ ولكن إذا أعمى الله القلب فلا حيلة فيه، وأنا أخاف عليك من قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ} 1. والشبهة التي دخلت عليك، هذه البضيعة التي في يدك، تخاف تضيع أنت وعيالك، إذا تركت بلد المشركين، وشاك في رزق الله، وأيضا قرناء السوء، أضلوك كما هي عادتهم. وأنت - والعياذ بالله - تنْزل درجة درجة، أول مرة في الشك، وبلد الشرك وموالاتهم، والصلاة خلفهم، وبراءتك من المسلمين مداهنة لهم، ثم بعد ذلك طحت على ابن غنام وغيره، وتبرأت من ملة إبراهيم، وأشهدتهم على نفسك باتباع المشركين، من غير إكراه، لكن خوفا ومداراة. وغاب عنك قوله تعالى، في عمار بن ياسر وأشباهه: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ} 2 إلى قوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ} 3، فلم يستثن الله إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان، بشرط طمأنينة قلبه. والإكراه لا يكون على العقيدة، بل على القول   1 سورة المنافقون آية: 3. 2 سورة النحل آية: 106. 3 سورة النحل آية: 107. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 64 والفعل، فقد صرح بأن من قال المكفر، أو فعله، فقد كفر، إلا المكره بالشرط المذكور، وذلك: أن ذلك بسبب إيثار الدنيا، لا بسبب العقيدة. فتفكر في نفسك، هل أكرهوك، وعرضوك على السيف، مثل عمار، أم لا؟ وتفكر: هل هذا بسبب أن عقيدته تغيرت، أم بسبب إيثار الدنيا؟ ولم يبق عليك إلا رتبة واحدة، وهي: أنك تصرح مثل ابن رفيع، تصريحا بمسبة دين الأنبياء، وترجع إلى عبادة العيدروس، وأبي حديدة، وأمثالهما؛ ولكن الأمر بيد مقلب القلوب. فأول ما أنصحك به: أنك تفكر، هل هذا الشرك الذي عندكم، هو الشرك الذي ظهر نبيك صلى الله عليه وسلم ينهى عنه أهل مكة؟ أم شرك أهل مكة نوع آخر أغلظ منه؟ أم هذا أغلظ؟ فإذا أحكمت المسألة، وعرفت أن غالب من عندكم سمع الآيات، وسمع كلام أهل العلم من المتقدمين والمتأخرين، وأقر به، وقال: أشهد أن هذا هو الحق، ونعرفه قبل ابن عبد الوهاب، ثم بعد ذلك يصرح بمسبة ما شهد أنه الحق، ويصرح بحسن الشرك واتباعه، وعدم البراءة من أهله. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 65 فتفكر، هل هذه مسألة مشكلة؟ أو مسألة الردة الصريحة؟ التي ذكرها أهل العلم في الردة؟ ولكن العجب من دلائلك التي ذكرت، كأنها أتت ممن لا يسمع ولا يبصر. أما استدلالك بترك النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعده، تكفير المنافقين وقتلهم، فقد صرح الخاص والعام ببديهة العقل لو يظهرون كلمة واحدة، أو فعلا واحدا من عبادة الأوثان، أو مسبة التوحيد الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، أنهم يقتلون أشر قتلة. فإن كنت تزعم أن الذين عندكم أظهروا اتباع الدين الذي تشهد أنه دين الرسول صلى الله عليه وسلم وتبرؤوا من الشرك بالقول والفعل، ولم يبق إلا أشياء خفية، تظهر على صفحات الوجه أو فلتات اللسان في السر، وقد تابوا من دينهم الأول، وقتلوا الطواغيت، وهدموا البيوت المعبودة، فقل لي. وإن كنت تزعم أن الشرك الذي خرج عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أكبر من هذا، فقل لي. وإن كنت تزعم أن الإنسان إذا أظهر الإسلام لا يكفر، ولو أظهر عبادة الأوثان، وزعم أنها الدين، وأظهر سب دين الأنبياء وسماه دين أهل العارض، وأفتى بقتل الجزء: 10 ¦ الصفحة: 66 من أخلص لله الدين، وإحراقه، وحل ماله؛ فهذه مسألتك وقد قررتها، وذكرت: أن من زمن النبي صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا، لم يقتلوا أحدا، ولم يكفروه من أهل الملة. أما ذكرت: قول الله تعالى: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} 1 إلى قوله: {مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً} 2،واذكر قوله: {سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا} 3 إلى قوله: {فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ} 4 الآية؛ واذكر قوله في الاعتقاد في الأنبياء {أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} 5. واذكر ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه شخص رجلا معه الراية، إلى من تزوج امرأة أبيه، ليقتله ويأخذ ماله; فأي هذين أعظم؟ تزوج امرأة الأب؟ أو سب دين الأنبياء بحد معرفته؟ واذكر أنه قد هم بغزو بني المصطلق، لما قيل إنهم منعوا الزكاة، حتى كذب الله من نقل ذلك. واذكر قوله في أعبد هذه الأمة، وأشدهم اجتهادا: " لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد؛ أينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجرا لمن قتلهم يوم القيامة".واذكر قتال الصديق وأصحابه، مانعي الزكاة، وسبي ذراريهم، وغنيمة أموالهم.   1 سورة الأحزاب آية: 60. 2 سورة الأحزاب آية: 61. 3 سورة النساء آية: 91. 4 سورة النساء آية: 89. 5 سورة آل عمران آية: 80. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 67 واذكر إجماع الصحابة على قتل أهل مسجد الكوفة، وكفرهم وردتهم، لما قالوا كلمة في تقرير نبوة مسيلمة، ولكن الصحابة اختلفوا في قبول توبتهم لما تابوا؛ والمسألة في صحيح البخاري وشرحه، في الكفالة. واذكر إجماع الصحابة لما "استفتاهم عمر على أن من زعم أن الخمر تحل للخواص، مستدلا بقوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} 1"مع كونه من أهل بدر. وأجمع الصحابة على كفر من اعتقد في علي، مثل اعتقاد هؤلاء في عبد القادر، وردتهم، وقتلهم، "فأحرقهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهم أحياء، فخالفه ابن عباس في الإحراق، وقال: يقتلون بالسيف"، مع كونهم من أهل القرن الأول، أخذوا العلم عن الصحابة; واذكر إجماع أهل العلم من التابعين وغيرهم، على قتل الجعد بن درهم، وأمثاله، قال ابن القيم: شكر الضحية كل صاحب سنة لله درك من أخي قربان ولو ذهبنا نعدد من كفره العلماء، مع ادعائه الإسلام، وأفتوا بردته وقتله، لطال الكلام؛ لكن من آخر ما جرى قصة بني عبيد، ملوك مصر وطائفتهم، وهم يدعون أنهم من أهل البيت، ويصلون الجمعة والجماعة، ونصبوا القضاة   1 سورة المائدة آية: 93. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 68 والمفتين، وأجمع العلماء على كفرهم، وردتهم، وقتالهم، وأن بلادهم بلاد حرب، يجب قتالهم ولو كانوا مكرهين، مبغضين لهم. واذكر كلامه في "الإقناع" وشرحه، في الردة، كيف ذكروا أنواعا كثيرة موجودة عندكم، ثم قال منصور: وقد عمت البلوى بهذه الفرق، وأفسدوا كثيرا من عقائد أهل التوحيد، نسأل الله العفو والعافية؛ هذا لفظه بحروفه; ثم ذكر قتل الواحد منهم، وحكم ماله، هل قال واحد من هؤلاء من الصحابة إلى زمن منصور: إن هؤلاء يكفر أنواعهم لا أعيانهم؟ وأما عبارة الشيخ التي لبسوا بها عليك، فهي أغلظ من هذا كله، ولو نقول بها لكفرنا كثيرا من المشاهير بأعيانهم؛ فإنه صرح فيها بأن المعين لا يكفر إلا إذا قامت عليه الحجة. فإن كان المعين لا يكفر إلا إذا قامت عليه الحجة، فمن المعلوم أن قيامها ليس معناه: أن يفهم كلام الله ورسوله، مثل فهم أبي بكر رضي الله عنه، بل إذا بلغه كلام الله ورسوله، وخلا من شيء يعذر به، فهو كافر، كما كان الكفار كلهم تقوم عليهم الحجة بالقرآن، مع قول الله: {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أكنةأن يفقهوه} الأنعام 25وقوله: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 69 لا يَعْقِلُونَ} 1. وإذا كان كلام الشيخ، ليس في الشرك والردة، بل في المسائل الجزئيات، سواء كانت من الأصول أو الفروع، ومعلوم أنهم يذكرون في كتبهم في مسائل الصفات، أو مسألة القرآن، أو مسألة الاستواء، أو غير ذلك، مذهب السلف، ويذكرون أنه الذي أمر الله به ورسوله، والذي درج عليه هو وأصحابه، ثم يذكرون مذهب الأشعري أو غيره، ويرجحونه، ويسبون من خالفه. فلو قدرنا أنها لم تقم الحجة على غالبهم، قامت على هذا المعين الذي يحكي المذهبين، مذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه، ثم يحكي مذهب الأشعري ومن معه؛ فكلام الشيخ في هذا النوع، يقول: إن السلف كفروا النوع، وأما المعين، فإن عرف الحق وخالف، كفر بعينه، وإلا لم يكفر. وأنا أذكر لك من كلامه ما يصدق هذا، لعلك تنتفع إن هداك الله، وتقوم عليك الحجة قياما بعد قيام، وإلا فقد قامت عليك، وعلى غيرك قبل هذا. قال رحمه الله في اقتضاء الصراط المستقيم، في الكلام على قوله: {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} 2: ظاهره: أن ما ذبح لغير الله حرم، سواء لفظ به أو لم يلفظ، وهذا أظهر من تحريم ما ذبح للّحم، وقال فيه باسم   1 سورة الأنفال آية: 22. 2 سورة البقرة آية: 173. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 70 المسيح ونحوه، فإن عبادة الله والنسك له، أعظم من الاستعانة باسمه في فواتح الأمور؛ فكذلك الشرك بالنسك لغيره، أعظم من الاستعانة باسمه. وعلى هذا لو ذبح لغير الله متقرب إليه، وإن قال فيه بسم الله، كما قد يفعله طائفة من منافقي هذه الأمة، وإن كان هؤلاء مرتدين، لا تباح ذبيحتهم بحال، لكن يجتمع في الذبيحة مانعان; ومن هذا الباب، ما قد يفعله الجاهلون بمكة وغيرها، من الذبح للجن، انتهى كلامه بحروفه. فانظر كلامه فيمن ذبح لغير الله، وسمى الله عليه عند الذبح، أنه مرتد تحرم ذبيحته، ولو ذبحها للأكل، لكن هذه الذبيحة تحرم من جهتين: من جهة أنها مما أهل به لغير الله، وتحرم أيضا لأنها ذبيحة مرتد؛ يوضح ذلك ما ذكرته: أن المنافقين إذا أظهروا نفاقهم، صاروا مرتدين؛ فأين هذا من نسبتك عنه، أنه لا يكفر أحدا بعينه؟ وقال أيضا في أثناء كلامه على المتكلمين، ومن شاكلهم، لما ذكر عن أئمتهم شيئا من أنواع الردة، والكفر، قال رحمه الله: وهذا إذا كان في المقالات الخفية، فقد يقال إنه فيها مخطئ ضال، لم تقم عليه الحجة، التي يكفر صاحبها؛ لكن ذلك يقع في طوائف منهم، في الأمور الظاهرة، التي يعلم المشركون واليهود والنصارى، أن محمدا صلى الله عليه وسلم بعث بها، وكفر من خالفها، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 71 مثل: أمره بعبادة الله وحده لا شريك له، ونهيه عن عبادة أحد سواه، من النبيين والملائكة وغيرهم؛ فإن هذا أظهر شرائع الإسلام. ثم تجد كثيرا من رؤوسهم وقعوا في هذه الأنواع، فكانوا مرتدين؛ وكثير منهم، تارة يرتد عن الإسلام ردة صريحة، وتارة يعود إليه مع مرض في قلبه ونفاق، والحكاية عنهم في ذلك مشهورة. وقد ذكر ابن قتيبة من ذلك طرفا في أول مختلف الحديث؛ وأبلغ من ذلك: أن منهم من صنف في الردة، كما صنف الرازي في عبادة الكواكب، وهذه ردة عن الإسلام باتفاق المسلمين. هذا لفظه بحروفه. فانظر كلامه في التفرقة بين المقالات الخفية، وبين ما نحن فيه، في كفر المعين، وتأمل تكفيره رؤوسهم، فلانا وفلانا بأعيانهم، وردتهم ردة صريحة، وتأمل تصريحه بحكاية الإجماع على ردة الفخر الرازي عن الإسلام، مع كونه عند علمائكم من الأئمة الأربعة؛ هل يناسب هذا لما فهمت من كلامه أن المعين لا يكفر، ولو دعا عبد القادر في الرخاء والشدة، ولو أحب عبد الله بن عون، وزعم أن دينه حسن، مع عبادته أبي حديدة، ولو أبغضك واستنجسك، مع أنك أقرب الناس إليه، لما رآك ملتفتا بعض الالتفات إلى التوحيد، مع كونك توافقهم على شيء الجزء: 10 ¦ الصفحة: 72 من شركهم، وكفرهم؟! وقال الشيخ أيضا في رده على بعض المتكلمين وأشباههم: والقوم وإن كان لهم ذكاء وفطنة، وفيهم زهد وأخلاق، فهذا لا يوجب السعادة إلا بالإيمان بالله وحده؛ وإنما قوة الذكاء بمنْزلة قوة البدن، وأهل الرأي والعلم، بمنْزلة الملك والإمارة. فكل منهم لا ينفعه ذلك، إلا أن يعبد الله وحده لا شريك له، ويتخذه إلها دون ما سواه، وهو معنى قول لا إله إلا الله؛ وهذا ليس في حكمتهم، ليس فيها الأمر بعبادة الله وحده، والنهي عن عبادة المخلوقات. بل كل شرك في العالم، إنما حدث بزي جنسهم؛ فهم الآمرون بالشرك الفاعلون له، ومن لم يأمر منهم بالشرك لم ينه عنه؛ بل يقر هؤلاء وهؤلاء، وإن رجح الموحدين ترجيحا ما، فقد يرجح غيرهم من المشركين، وقد يعرض عن الأمرين جميعا؛ فتدبر هذا فإنه نافع جدا. وكذلك الذين كانوا في ملة الإسلام، لا ينهون عن الشرك، ويوجبون التوحيد، بل يسوغون الشرك، ويأمرون به؛ وهم إذا ادعوا التوحيد، فإنما توحيدهم بالقول، لا بالعبادة والعمل؛ والتوحيد الذي جاءت به الرسل، لا بد فيه من التوحيد بإخلاص الدين كله لله، وعبادته وحده الجزء: 10 ¦ الصفحة: 73 لا شريك له، وهذا شيء لا يعرفونه. والتوحيد الذي يدعونه، إنما هو تعطيل حقائق الأسماء والصفات؛ فلو كانوا موحدين بالكلام، وهو: أن يصفوا الله بما وصفته به رسله، لكان معهم التوحيد دون العمل، وذلك لا يكفي في النجاة، بل لا بد أن يعبد الله وحده، ويتخذه إلها دون ما سواه؛ وهو معنى قول لا إله إلا الله؛ فكيف وهم في القول معطلون جاحدون، لا موحدون ولا مخلصون؟ انتهى. فتأمل كلامه، واعرضه على ما غرك به الشيطان من الفهم الفاسد، الذي كذبت به الله ورسوله، وإجماع الأمة، وتحيزت به إلى عبادة الطواغيت؛ فإن فهمت هذا، وإلا أشير عليك أنك تكثر من التضرع والدعاء، إلى من الهداية بيده، فإن الخطر عظيم؛ فإن الخلود في النار جزاء الردة الصريحة، ما يسوى بضيعة تربح تومان أو نصف تومان. وعندنا ناس، يجيئون بعيالهم بلا مال، ولا جاعوا ولا شحذوا، وقد قال الله تعالى في هذه المسألة: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} 1 إلى قوله: {وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} 2 والله أعلم.   1 سورة العنكبوت آية: 56. 2 سورة العنكبوت آية: 60. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 74 [مسألة التكفير والتصريح به للمعين] وله أيضا: أعتقه الله من النار: بسم الله الرحمن الرحيم من محمد بن عبد الوهاب، إلى أحمد بن إبراهيم، هدانا الله وإياه. وبعد: ما ذكرت من مسألة التكفير، وقولك أبسط الكلام فيها، فلو بيننا اختلاف، أمكنني أبسط الكلام أو أمتنع; وأما إذا اتفقنا على الحكم الشرعي، لا أنت بمنكر الكلام الذي كتبت إليك، ولا أنا بمنكر العبارات التي كتبت إلي، وصار الخلاف في أناس معينين أقروا أن التوحيد الذي ندعو إليه دين الله ورسوله، وأن الذي ننهى عنه في الحرمين، والبصرة، والأحساء، هو الشرك بالله. ولكن هؤلاء المعينون، هل تركوا التوحيد بعد معرفته، وصدوا الناس عنه؟ أم فرحوا به وأحبوه، ودانوا به، وتبرؤوا من الشرك وأهله؟ فهذا ليس مرجعه إلى طالب العلم، مرجعه إلى علم الخاص والعام. مثال ذلك: إذا صح أن أهل الأحساء والبصرة، يشهدون: أن التوحيد الذي تقول، دين الله ورسوله، وأن هذا المفعول عندهم في الأحياء والأموات، هو الشرك بالله، ولكن أنكروا علينا التكفير والقتال خاصة. والمرجع في المسألة، إلى الحضر والبدو والنساء الجزء: 10 ¦ الصفحة: 75 والرجال؛ هل أهل "قبة الزبير" و "قبة الكواز" تابوا من دينهم، وتبعوا ما أقروا به من التوحيد؟ أم هم على دينهم؟ ولو يتكلم الإنسان بالتوحيد، فسلامته على أخذ ماله؟ فإن كنت تزعم: أن الكواوزة، وأهل الزبير تابوا من دينهم، وعادَوْا من لم يتب، فتبعوا ما أقروا به، وعادَوْا من خالفه، هذا مكابرة. وإن أقررتم: أنهم بعد الإقرار، أشد عداوة ومسبة للمؤمنين والمؤمنات، كما يعرفه الخاص والعام، وصار الكلام في اتباع المويس، وصالح بن عبد الله، هل هم مع أهل التوحيد؟ أم هم مع أهل الأوثان؟ بل أهل الأوثان معهم، وهم حربة العدو، وحاملو الراية؛ فالكلام في هذا نحيله على الخاص والعام. فأود أنك تسرع بالنفور، فتتوجه إلى الله، وتنظر نظر من يؤمن بالجنة والخلود فيها، ويؤمن بالنار والخلود فيها، وتسأله بقلب حاضر أن يهديك الصراط المستقيم. هذا مع أنك تعلم ما جرى من ابن إسماعيل، وولد ابن ربيعة، سنة الحبس، لما شكونا عند أهل "قبة أبي طالب" أن يكسيه صاية، وجميع من معك، من خاص أو عام، معهم إلى الآن، وتعرف روحة المويس، وأتباعه لأهل "قبة الكواز" و "سية طالب" يوم يكسيه صاية، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 76 ويقول لهم: طالع أناس ينكرون قببكم، وقد كفروا، وحل دمهم ومالهم. وصائر هذا عندك، وعند أهل الوشم، وعند أهل سدير، والقصيم، من فضائل المويس ومناقبه، وهم على دينه إلى الآن، مع أن المكاتب التي أرسلها علماء الحرمين، مع المزيودي سنة الحبس، عندنا إلى الآن، وقد صرحوا فيها: أن من أقر بالتوحيد كفر، وحل ماله ودمه، وقتل في الحل والحرم، ويذكرون دلائل على دعاء الأولياء في قبورهم، منها قوله تعالى: {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ} 1. فإن كانت ليست عندك، ولا صبرت إلى أن تجيء، فأرسل إلى ولد محمد بن سليمان في أشيقر، ولسيف العتيقي، ويرسلونها إليك، ويجيبون عن قوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} 2 أنهم يدعون على أنهم المعطون، المانعون بالأصالة، وأما دعوتهم على أنهم شفعاء فهو الدين الصحيح، ومن أنكره قتل في الحل والحرم. وأيضا: جاءنا بعض المجلد الذي صنف القباني، واستكتبه أهل الأحساء، وأهل نجد، وفيه نقل الإجماع، على تحسين "قبة الكواز" وأمثالها، وعبادتها، وعبادة "سية طالب"؛ ويقول في تصنيفه: إنه لم يخالف في تصنيفه إلا   1 سورة الزمر آية: 34. 2 سورة الإسراء آية: 57. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 77 ابن تيمية وابن القيم، وعشرة أنا عاشرهم، الجميع اثنا عشر، فإذا كان يوم القيامة، اعتزلوا وحدهم عن جميع الأمة، وأنتم إلى الآن على ما تعلم مع شهادتكم أن التوحيد دين الله ورسوله وأن الشرك باطل. وأيضا: مكاتيب أهل الأحساء موجودة، فأما ابن عبد اللطيف، وابن عفالق، وابن مطلق، فحشو بالزبيل أعني: سبابة التوحيد، واستحلال دم من صدق به، أو أنكر الشرك؛ ولكن تعرف ابن فيروز، أنه أقربهم إلى الإسلام، وهو رجل من الحنابلة، وينتحل كلام الشيخ وابن القيم خاصة، ومع هذا صنف مصنفا أرسله إلينا، قرر فيه: أن هذا الذي يفعل عند قبر يوسف وأمثاله، هو الدين الصحيح، واستدل في تصنيفه بقول النابغة: أيا قبر النبي وصاحبيه ... ووامصيبتنا لو تعلمونا وفي مصنف ابن مطلق الاستدلال بقول الشاعر: وكن لي شفيعا يوم لا ذو شفاعة ... سواك بمغن عن سواد بن قارب ولكن الكلام الأول، أبلغ من هذا كله، وهو شهادة البدو، والحضر، والنساء والرجال، أن هؤلاء الذين يقولون: التوحيد دين الله ورسوله، ويبغضونه أكثر من بغض اليهود والنصارى، ويسبونه، ويصدون الناس عنه، ويجاهدون في زواله وتثبيت الشرك، بالنفس والمال، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 78 خلاف ما عليه الرسل وأتباعهم، فإنهم يجاهدون {حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} 1. وأما قولك: أبغي أشاور إبراهيم، فلا أود أن تصير ثالثا لابن عباد، يقول: أي شيء أفعل بالعناقر، وإلا فالحق واضح، ونصحتهم وبينت لهم، وابن عيد أنت خابره، حاول إبراهيم في الدخول في الدين، وتعذر الناس أن إبراهيم ممتنع، يا سبحان الله! إذا كان أهل الوشم، وأهل سدير وغيرهم، يقطعون: أن كل مطوع في قرية، لو ينقاد شيخها، ما منهم من أحد يتوقف، كيف يكون قدر الدين عندكم؟ كيف قدر رضى الله والجنة؟ كيف قدر النار وغضب الله؟ ولكن أود أن تفكر فيما تعلم، لما اختلف الناس بعد مقتل عثمان، وبإجماع أهل العلم: أنهم لا يقال فيهم إلا الحسنى، مع أنهم عثوا في دمائهم؛ ومعلوم أن كلا من الطائفتين، أهل العراق وأهل الشام، معتقدة أنها على الحق، والأخرى ظالمة، ونبغ من أصحاب علي من أشرك بعلي، وأجمع الصحابة على كفرهم وردتهم، وقتلهم، لكن حرقهم علي، وابن عباس يرى قتلهم بالسيف. أترى أهل الشام، لو حملهم مخالفة علي على الاجتماع بهم، والاعتذار عنهم، والمقاتلة معهم لو امتنعوا، أترى أحدا من الصحابة، يشك في كفر من التجأ   1 سورة الأنفال آية: 39. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 79 إليهم؟ ولو أظهر البراءة من اعتقادهم، وإنما التجأ إليهم وزين مذهبهم لأجل الاقتصاص من قتلة عثمان؟ فتفكر في هذه القضية، فإنها لا تبقي شبهة إلا على من أراد الله فتنته. وغير ذلك قولك: أريد أمانا على كذا وكذا; فأنت مخالف، والخاص والعام يفرحون بمجيئك، مثلما فرحوا بمجيء ابن غنام، والمنقور، وابن عضيب، مع أن ابن عضيب أكثر الناس سبا لهذا الدين إلى الآن، وراحوا موقرين محشومين، كيف لو تجيء أنت؟ كيف تظن أن يجيئك ما تكره؟ فإن أردت تجديد الأمان على ما بغيت، فاكتب لي، وإن لم تأتنا فكما قال ابن القيم في النونية: يا فرقة جهلت نصوص نبيها ... وقصوده وحقائق الإيمان فسطوا على أتباعه وجنوده ... بالبغي والتكفير والطغيان لله حق لا يكون لغيره ... ولعبده حق هما حقان لا تجعلوا الحقين حقا واحدا ... من غير تمييز ولا فرقان المراد تعريفك، لما صدقتك أن لك نظرا في الحق، أن في ذلك الزمان من يكفر العلماء، إذا ذكروا التوحيد، ويظنونه تنقيصا للنبي صلى الله عليه وسلم، فما ظنك بزمانك هذا؟ وإذا كان المكفرون ممن يعدون من علمائهم، فما ظنك بولد المويس وفاسد وأمثالهما؟ يوضحه تسجيلهم على جواب علماء مكة، ونشره، وقراءته على جماعتهم، ودعوتهم إليه. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 80 وذكر ابن عبد الهادي، في مناقب الشيخ، لما ذكر المحنة التي نالته، بسبب الجواب في شد الرحل، فالجواب الذي كفروه بسببه، ذكر أن كلامه في هذا الكتاب أبلغ منه؛ فالعجب إذا كان الكتاب عندك، وعلماء في زمن الشيخ كفروه بكلام دونه، فكيف بالمويس وأمثاله لا يكفروننا بمحض التوحيد؟! وذكر ابن القيم في النونية ما يصدق هذا الكلام، لما قالوا له: إنك مثل الخوارج، رد عليهم بقوله: من لي بمثل خوارج قد كفروا ... بالذنب تأويلا بلا حسبان ثم ذكر في البيت الثاني: ان هؤلاء يكفروننا بمحض الإيمان، والخوارج يكفرون بالذنوب، وكلامي هذا تنبيه أن إنكار التوحيد متقدم، وكذلك التكفير لمن اتبعه، وأنت لا تعتقد أن الزمان صلح بعدهم، ولا تعتقد أن المويس وأمثاله أجل وأورع من أولئك الذين كفروا الشيخ وأتباعه، وعد ابن عبد الهادي من كتبه كتاب "الاستغاثة" مجلدا، وجاءنا من الشام مع مربد. وسببه: أن رجلا من فقهاء الشافعية، يقال له ابن البكري، عثر على جواب للشيخ في الاستغاثة بالموتى في الشدائد، فأنكر ذلك، وصنف مصنفا في جواز الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم في كل ما يستغاث الله فيه، وصرح بتكفير الشيخ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 81 في ذلك الكتاب، وجعله مستنقصا للأنبياء، وأورد فيه آيات وأحاديث. فصنف الشيخ كتاب "الاستغاثة"، ردا على ابن البكري، وقرر فيه مذهب الرسل وأتباعهم، وذكر أن الكفار لم يبلغ شركهم هذا، بل ذكر الله عنهم أنهم إذا مسهم الضر أخلصوا، ونسوا ما يشركون. والمقصود: أن في زمن الشيخ ممن يدعي العلم والتصنيف، من أنكر التوحيد، وجعله سبا للأنبياء والأولياء، وكفر من ذهب إليه؛ فكيف تزعم أن عبدة قبة الكواز، وأمثالها، ما أنكروه؟! بل تزعم أنهم قبلوه، ودانوا به، وتبرؤوا من الشرك، ولا أنكروا إلا تكفير من لا يكفر. وأعظم وأطم: أنكم تعرفون أن البادية، قد كفروا بالكتاب كله، وتبرؤوا من الدين كله، واستهزؤوا بالحضر الذين يصدقون بالبعث، وفضلوا حكم الطاغوت على شريعة الله، واستهزؤوا بها، مع إقرارهم بأن محمدا رسول الله، وأن كتاب الله عند الحضر، لكن كذبوا وكفروا، واستهزؤوا، عنادا؛ ومع هذا تنكرون علينا كفرهم، وتصرحون بأن من قال لا إله إلا الله لا يكفر. ثم تذكر في كتابك: أنك تشهد بكفر العالم العابد الجزء: 10 ¦ الصفحة: 82 الذي ينكر التوحيد، ولا يكفر المشركين، ويقول هؤلاء السواد الأعظم ما يتيهون؛ فإن قلتم إن الأولين وإن كانوا علماء، فلم يقصدوا مخالفة الرسول بل جهلوا، وأنتم وأمثالكم تشهدون ليلا ونهارا، أن هذا الذي أخرجنا للناس من التوحيد، وإنكار الشرك، أنه دين الله ورسوله، وأن الخلاف منا: التكفير والقتال، ولو قدرنا أن غيركم يعذر بالجهل، فأنتم مصرحون بالعلم; والله أعلم. [بيان الشرك] وله أيضا رحمه الله تعالى: بسم الله الرحمن الر حيم إلى الأخ فايز، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: مسألة الشرك بالله، بينها الله سبحانه، وأكثر الكلام فيها، وضرب لها الأمثال; ومن أعظم ما ذكر فيها، قوله: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} 1، مع أن الذي طلبوا منه، ليس شرك القلب. وأما كونك تعرفه، مثل معرفة الفواحش، وتكرهه كما تكرهها، فهذا له سببان: أحدهما: اللجأ إلى الله، وكثرة الدعاء بالهداية إلى الصراط المستقيم، بحضور قلب. الثاني: الفكرة في المثل الذي ضربه الله في سورة الروم،   1 سورة الزمر آية: 65. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 83 بقوله: {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ} الآية. فإذا أمعنت النظر وتأملت لو أن رجلا يشرك بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين مسيلمة في الرسالة، أنها أكبر قبحا من الفواحش؛ فكيف لو يشرك بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين امرأة زانية؟! وأنت تعرف أن أهل بلد، لو يصلون على شيخهم أو إمامهم كما يصلون على النبي صلى الله عليه وسلم، لعد هذا من أعظم الفواحش بكثير؛ فإذا وازنت بين هذا، وبين ما يفعله أكثر الناس اليوم، من دعوة الله، ودعوة أبي طالب، أو الكواز، أو أخس الناس، أو شجرة، أو حجر، أو غير ذلك، تبين لك أن الأمر أعظم مما ذكرنا بكثير كثير. لكن الذي غير القلوب، أن هذا تعودته وألفته، وتلك الأنواع لم تعودها القلوب، فلذلك تكرهها، لأن القلوب على الفطرة، إلا أن تتغير إذا كبرت بالعادات، والسلام. [نواقض الإسلام] وقال أيضا الشيخ محمد بن عبد الوهاب، أجزل الله له الأجر والثواب، وأسكنه الجنة بغير حساب، بعد كلام له في الإسلام: هذا كلام حسن، لكن إذا عرفه المسلم، وجب عليه أن يعرف نواقضه. فإذا كان نواقض الوضوء ثمانية، فالذي الجزء: 10 ¦ الصفحة: 84 ذكر في "الإقناع" أن نواقض الإسلام أكثر من أربعمائة. ولكن من أشهرها اثنتان: الأولى: الشرك، وهي أول النواقض التي ذكرها؛ وقد عرفتم الشرك وأنواعه، وكل إنسان يحتاج إلى تعلمه. الثانية: أنه ذكر من النواقض: من أبغض ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم - ولو عمل به -،كفر إجماعا; وقد علمتم ما جرى من المطاوعة، ومن العامة، من بعض الذين عرفوا التوحيد، والبراءة من الشرك، حتى إنهم أبغضوا إقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وأبغضوا التحية بالسلام، مع أنهم يعرفون ذلك. الثالثة: من استهزأ بشيء من دين الله إذا ذكر له؛ واذكر قوله: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} 1. الرابعة: إذا ذكر له ثواب الله أو عقابه، استهزأ، وهو قوله: أو سخر بوعد الله أو وعيده. الخامسة: في آخر الباب: ويحرم تعلم السحر؛ وذكر أن من فعله أو رضي به كفر، وذكر أن منه ما يحبب بين اثنين، وهو الذي يسمى في زماننا العطف. السادسة: وهي من أهمها وأكثرها خطرا -:الإعراض عن دين الله لا يتعلمه، والله سبحانه يقول: {وَمَنْ أَظْلَمُ   1 سورة آية: 65-66. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 85 مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ} 1 الآية؛ ويوجد هذا فيمن هو من أورع الناس، وأكثرهم عبادة. وكل هذه الست من أوقع الأشياء. وكثير منها يقع فيها الإنسان، ولا يدري أنه كفر، بل يظنه خفيفا؛ ومرادنا الإنسان الذي يدعي معرفة التوحيد، والبراءة من الشرك; ولكن من أنفع ما يكون: القراءة عليهم فيما جرى على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بمكة، في ثلاث عشرة سنة قبل الهجرة، وتعريفهم أنه عند هذه المسألة التي وقعت بيننا بعينها. فالدين الذي أرسله الله به، هو الذي يسميه مطاوعتكم ... وفعلوا في عداوته أشياء، ما فعلها أبو جهل وأمثاله; والدين الذي يزينونه للناس، هو دين أهل مكة، الذي أرسل الله رسوله ينذر عنه؛ وفعل مطاوعتكم في نصرته الفرية، وتزيينه لمن سمع منهم، أشياء ما فعلتها قريش في نصرة دينهم. فأنفع العلم وأهمه وأكبره - مع أنه أوضحه -:معرفة ما جرى من قريش على الرسول صلى الله عليه وسلم ومن تبعه، ومعرفة أنها مسألتنا بعينها، ومعرفة ما جرى من الناس من عداوة الدين، الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وبغضه وبغض من عمل به، واستحلال دمه وماله، ونصرة دين عريعر وأمثاله، والنجراني وأمثاله، والله أعلم.   1 سورة الكهف آية: 57. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 86 [الدين يكون على القلب واللسان والجوارح] وقال أيضا الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى: اعلم رحمك الله: أن دين الله يكون على القلب بالاعتقاد، وبالحب والبغض، ويكون على اللسان بالنطق وترك النطق بالكفر، ويكون على الجوارح بفعل أركان الإسلام، وترك الأفعال التي تكفر؛ فإذا اختل واحدة من هذه الثلاث، كفر وارتد. مثال عمل القلب: أن يظن أن هذا الذي عليه أكثر الناس، من الاعتقاد في الأحياء والأموات حق، ويستدل بكون أكثر الناس عليه، فهو كافر مكذب للنبي صلى الله عليه وسلم، ولو لم يتكلم بلسانه، ولم يعمل إلا بالتوحيد. وكذلك إذا شك، لا يدري من الحق معه، فهذا لو لم يكذَب فهو لم يصدق النبي صلى الله عليه وسلم؛ فهو يقول عسى الله أن يبين الحق، فهو في شك، فهو مرتد ولو لم يتكلم إلا بالتوحيد. ومثل اللسان: أن يؤمن بالحق ويحبه ويكفر بالباطل ويبغضه، ولكنه تكلم مداراة لأهل الأحساء، ولأهل مكة أو غيرهم بوجوههم، خوفا من شرهم; وإما أن يكتب لهم كلاما يصرح لهم بمدح ما هم عليه، أو يذكر أنه ترك ما هو عليه، ويظن أنه ماكر بهم، وقلبه موقن أنه لا يضره، وهذا أيضا لغروره. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 87 وهو معنى قول الله تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ} 1 إلى قوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ} 2 فقط لا لتغير عقائدهم. فمن عرف هذا، عرف أن الخطر خطر عظيم شديد، وعرف شدة الحاجة للتعلم والمذاكرة، وهذا معنى قوله في "الإقناع" في الردة: نطقا أو اعتقادا أو شكا أو فعلا، والله أعلم. [باب حكم المرتد] وقال أيضا، رحمه الله تعالى: بسم الله الرحمن الر حيم باب حكم المرتد، الذي يكفر بعد إسلامه، نطقا أو شكا أو اعتقادا أو فعلا، ولو مميزا، أو كان هازلا، لقوله تعالى: {أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} 3. فمن أشرك بالله تعالى كفر بعد إسلامه، ولو مكرها بحق كفر، أو جحد ربوبيته أو وحدانيته كفر، أو جحد صفة من صفاته، أو ادعى النبوة، أو صدق من ادعاها بعد النبي صلى الله عليه وسلم، أو استهزأ بالله أو رسله، أو هزل بشيء فيه ذكر الله تعالى. قال الشيخ: أو كان مبغضا لرسوله صلى الله عليه وسلم، أو لما جاء   1 سورة النحل آية: 106. 2 سورة النحل آية: 107. 3 سورة التوبة آية: 65. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 88 به الرسول اتفاقا، كفر، أو جعل بينه وبين الله وسائط، يتوكل عليهم ويدعوهم ويسألهم، كفر إجماعا، لأن ذلك كفعل عابدي الأصنام، قائلين {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} 1، أو سجد لصنم أو شمس أو قمر، أو أتى بقول أو فعل صريح، في الاستهزاء بالدين الذي شرعه الله تعالى، أو وجد منه امتهان القرآن، أو أنكر الإسلام كفر، لأن الدين عند الله الإسلام، أو سحر أو أتى عرافا فصدقه، أو جحد البعث كفر، أو أتى بقول يخرجه عن الإسلام، مثل أن يقول: هو يهودي، أو نصراني أو مجوسي، أو برئ من الإسلام أو القرآن أو النبي صلى الله عليه وسلم، أو يعبد الصليب. وقد عمت البلوى بهذه الفرق، وأفسدوا كثيرا من عقائد أهل التوحيد، نسأل الله العفو والعافية. أقول: يتأمل المسلم الذي قصده اتباع أمر الله ورسوله، ما ذكره هؤلاء العلماء، وحكوا عليه إجماع المذاهب كلها، في أناس يشهدون أن لا إله إلا الله، ويصلون ويصومون، وأهل عبادة، لكنهم يعتقدون في بعض الأولياء، مثل عبد القادر، ومعروف الكرخي وغيرهما، ويتعلقون عليهم، يقولون: لهم جاه عند الله، كيف حكى العلماء إجماع المذاهب، على أن من فعل ذلك فهو كافر،   1 سورة الزمر آية: 3. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 89 ولو كان زاهدا. هذا الذي أنا طالب منهم، وأعظم من أن الرافضي إذا سب الشيخين، فقد توقف الإمام أحمد في تكفيره. وأما إذا اعتقد في علي أو الحسين فهو كافر، مع كونه يشهد أن لا إله إلا الله. أتظنون أن هذا في قوم مضوا؟ أتقولون الصحابة أراهم يكفرون أهل الإسلام؟ أم تظنون أن الذين يعتقدون في علي لا يشهدون أن لا إله إلا الله؟ فرحم الله امرأ نصح نفسه، ونصر الله ورسوله ودينه، ولم تأخذه في الله لومة لائم، والله أعلم. [نواقض الإسلام العشرة] وقال عفا الله عنه: بسم الله الرحمن الرحيم من محمد بن عبد الوهاب، إلى محمد بن فارس، سلام عليكم. وبعد: الواصل إليكم مسألة التكفير، من كلام العلماء، وذكر في "الإقناع" إجماع المذاهب كلها على ذلك؛ فإن كان عند أحد كلمة تخالف ما ذكروه في مذهب من المذاهب، فيذكرها وجزاه الله خيرا؛ وإن كان يبغي يعاند كلام الله، وكلام رسوله، وكلام العلماء، ولا يصغي لهذا أبدا، فاعرفوا أن هذا الرجل معاند ما هو بطلاب حق، وقد الجزء: 10 ¦ الصفحة: 90 قال الله تعالى: {وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} 1. والذي يدلكم على هذا: أن هؤلاء الذين يعتذرون بالتكفير، إذا تأملتهم إذا أن الموحدين أعداؤهم، يبغضونهم ويستثقلونهم، والمشركون والمنافقون هم ربعهم الذين يستأنسون إليهم؛ ولكن هذه قد جرت من رجال عندنا في الدرعية، وفي العيينة الذين ارتدوا وأبغضوا الدين. وقال أيضا: رحمه الله تعالى: اعلم: أن من أعظم نواقض الإسلام عشرة: الأول: الشرك في عبادة الله وحده لا شريك له، والدليل قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} 2؛ومنه الذبح لغير الله كمن يذبح للجن، أو القباب. الثاني: من جعل بينه وبين الله وسائط، يدعوهم ويسألهم الشفاعة، كفر إجماعا الثالث: من لم يكفر المشركين، أو شك في كفرهم، أو صحح مذهبهم، كفر إجماعا الرابع: من اعتقد أن غير هدي النبي صلى الله عليه وسلم أكمل من هديه، أو أن حكم غيره أحسن من حكمه، كالذين يفضلون حكم الطاغوت على حكمه، فهو كافر.   1 سورة آل عمران آية: 80. 2 سورة النساء آية: 48. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 91 الخامس: من أبغض شيئا مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ولو عمل به، كفر إجماعا، والدليل قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} 1. السادس: من استهزأ بشيء من دين الله، أو ثوابه أو عقابه كفر، والدليل قوله تعالى: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} 2. السابع: السحر، ومنه الصرف والعطف، فمن فعله أو رضي به كفر، والدليل قوله تعالى: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ} 3. الثامن: مظاهرة المشركين ومعاونتهم على المسلمين، والدليل قوله تعالى: (ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين) التاسع: من اعتقد أن بعض الناس لا يجب عليه اتباعه صلى الله عليه وسلم وأنه يسعه الخروج من شريعته، كما وسع الخضر الخروج من شريعة موسى عليهما السلام، فهو كافر. العاشر: الإعراض عن دين الله، لا يتعلمه ولا يعمل به، والدليل قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ} 5.   1 سورة محمد آية: 9. 2 سورة آية: 65-66. 3 سورة البقرة آية: 102. 4 سورة المائدة: 51. 5 سورة السجدة آية: 22. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 92 ولا فرق في جميع هذه النواقض، بين الهازل والجاد، والخائف، إلا المكره؛ وكلها من أعظم ما يكون خطرا، ومن أكثر ما يكون وقوعا؛ فينبغي للمسلم أن يحذرها، ويخاف منها على نفسه، نعوذ بالله من موجبات غضبه وأليم عقابه، وصلى الله على محمد. [الشك في تكفير المعين الذي قامت عليه الحجة] وله أيضا، أسكنه الله الفردوس الأعلى: بسم الله الرحمن الر حيم إلى الإخوان، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: ما ذكرتم من قول الشيخ: كل من جحد كذا وكذا، وقامت عليه الحجة، وأنكم شاكون في هؤلاء الطواغيت وأتباعهم، هل قامت عليهم الحجة؟ فهذا من العجب، كيف تشكون في هذا وقد أوضحته لكم مرارا؟! فإن الذي لم تقم عليه الحجة، هو الذي حديث عهد بالإسلام، والذي نشأ ببادية بعيدة، أو يكون ذلك في مسألة خفية، مثل الصرف والعطف، فلا يكفر حتى يعرف. وأما أصول الدين التي أوضحها الله وأحكمها في كتابه، فإن حجة الله هو القرآن، فمن بلغه القرآن فقد بلغته الحجة؛ ولكن أصل الإشكال، أنكم لم تفرقوا بين قيام الحجة، وبين فهم الحجة، فإن أكثر الكفار والمنافقين من الجزء: 10 ¦ الصفحة: 93 المسلمين، لم يفهموا حجة الله مع قيامها عليهم، كما قال تعالى: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} 1. وقيام الحجة نوع، وبلوغها نوع، وقد قامت عليهم، وفهمهم إياها نوع آخر; وكفرهم ببلوغها إياهم، وإن لم يفهموها. إن أشكل عليكم ذلك، فانظروا قوله صلى الله عليه وسلم في الخوارج: " أينما لقيتموهم فاقتلوهم " 2،وقوله: " شر قتلى تحت أديم السماء " 3، مع كونهم في عصر الصحابة، ويحقر الإنسان عمل الصحابة معهم، ومع إجماع الناس أن الذي أخرجهم من الدين هو التشدد والغلو والاجتهاد؛ وهم يظنون أنهم يطيعون الله، وقد بلغتهم الحجة، ولكن لم يفهموها. وكذلك قتل علي رضي الله عنه الذين اعتقدوا فيه، وتحريقهم بالنار، مع كونهم تلاميذ الصحابة، ومع عبادتهم وصلاتهم وصيامهم، وهم يظنون أنهم على حق. وكذلك إجماع السلف: على تكفير غلاة القدرية وغيرهم، مع علمهم وشدة عبادتهم، وكونهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا؛ ولم يتوقف أحد من السلف في تكفيرهم لأجل كونهم لم يفهموا، فإن هؤلاء كلهم لم يفهموا. إذا علمتم ذلك، فإن هذا الذي أنتم فيه كفر: الناس يعبدون الطواغيت، ويعادون دين الإسلام، فيزعمون أنه ليس ردة   1 سورة الفرقان آية: 44. 2 البخاري: المناقب (3611) , ومسلم: الزكاة (1066) , والنسائي: تحريم الدم (4102) , وأبو داود: السنة (4767) , وأحمد (1/131) . 3 الترمذي: تفسير القرآن (3000) , وابن ماجه: المقدمة (176) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 94 ، لعلهم ما فهموا الحجة، كل هذا بين. وأظهر مما تقدم: الذين حرقهم علي، فإنه يشابه هذا. وأما إرسال كلام الشافعية وغيرهم، فلا يتصور يأتيكم أكثر مما أتاكم، فإن كان معكم بعض الإشكال، فارغبوا إلى الله تعالى أن يزيله عنكم، والسلام. [الدليل على كفر من يأخذ النذور] وله أيضا، قدس الله روحه: بسم الله الرحمن الر حيم من محمد بن عبد الوهاب، إلى محمد بن سلطان، سلمه الله تعالى، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: لا يخفاك أنه ذكر لنا عنك كلام حسن، ويذكر أيضا كلام ما هو بزين، وننتظر قدومك إلينا ونبين لك، عسى الله أن يهدينا وإياك الصراط المستقيم. وجاءنا عنك أنك تقول: أبغيكم تكتبون لي الدليل، من قول الله، وقول رسوله، وكلام العلماء، على كفر الذين ينصبون أنفسهم للنذور، والنخي في الشدائد، ويرضون بذلك، وينكرون على من زعم أنه شرك. ويذكرون عنك أنك تقول: أبغي أعرضه على العلماء في الخرج، وفي الأحساء، ولكم علي أني ما أقبل منهم الجزء: 10 ¦ الصفحة: 95 الطفايس والكلام الفاسد؛ فإن بينوا حجة صحيحة عن الله ورسوله، أو عن العلماء تفسد كلامكم، وإلا تبعت أمر الله ورسوله، واعتقدت كفر الطاغوت ومن عبدهم، وتبرأت منهم. فإن كنت قلت هذا، فهو كلام حسن، وفقك الله لطاعته. ولا يخفاك أني أعرض هذا من سنين على أهل الأحساء وغيرهم، وأقول: كل إنسان أجادله بمذهبه، إن كان شافعيا فبكلام الشافعية، وإن كان مالكيا فبكلام المالكية، أو حنبليا أو حنفيا فكذلك، فإذا أرسلت إليهم ذلك عدلوا عن الجواب، لأنهم يعرفون أني على الحق وهم على الباطل، وإنما يمنعهم من الانقياد التكبر والعناد على أهل نجد، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ} 1. وأنا أذكر لك الدليل على هذا الأمر، وأوصيك بالبحث عنه والحرص عليه، وأحذرك عن الهوى والتعصب؛ بل اقصد وجه الله واطلب منه، وتضرع إليه أن يهديك للحق، وكن على حذر من أهل الأحساء أن يلبسوا عليك بأشياء لا ترد على المسألة، أو يشبهوا عليك بكلام باطل، كما قال تعالى: {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ   1 سورة غافر آية: 56. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 96 مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} 1. وأنا أشهد الله وملائكته إن أتاني منهم حق لأقبلنه على الرأس والعين؛ ولكن هيهات أن يقدر أحد أن يدفع حجج الله وبيناته. واعلم أرشدك الله: أن الله سبحانه بعث الرسل، وأنزل الكتب، لمسألة واحدة، وهي: توحيد الله وحده، والكفر بالطاغوت، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} 2. والطاغوت هو الذي يسمى السيد، الذي ينخى وينذر له، ويطلب منه تفريج الكربات، غير الله تعالى؛ وهذا يتبين بأمرين عظيمين: الأول: توحيد الربوبية، وهو الشهادة بأنه لا يخلق ولا يرزق، ولا يحيي ولا يميت، ولا يدبر الأمور إلا هو، وهذا حق. ولكن أعظم الكفار كفرا، الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يشهدون به، ولم يدخلهم في الإسلام، كما قال تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} 3.   1 سورة آل عمران آية: 78. 2 سورة النحل آية: 36. 3 سورة يونس آية: 31. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 97 فإذا تدبرت هذا الأمر العظيم، وعرفت أن الكفار يقرون بهذا كله، لله وحده لا شريك له، وأنهم إنما اعتقدوا في آلهتهم لطلب الشفاعة، والتقرب إلى الله، كما قال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} 1،وفي الآية الأخرى {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} 2، فإذا تبين لك هذا، وعرفته معرفة جيدة، بقي للمشركين حجة أخرى، وهي أنهم يقولون: هذا حق، ولكن الكفار يعتقدون في الأصنام; فالجواب القاطع، أن يقال لهم: إن الكفار في زمانه صلى الله عليه وسلم منهم من يعتقد في الأصنام، ومنهم من يعتقد في قبر رجل صالح، مثل اللات، ومنهم من يعتقد في الصالحين، وهم الذين ذكر الله في قوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} 3، يقول تعالى: هؤلاء الذين يدعونهم الكفار، ويدعون محبتهم، قوم صالحون يفعلون طاعة الله، ومع هذا راجون خائفون. فإذا تحققت أن العلي الأعلى تبارك وتعالى، ذكر في كتابه أنهم يعتقدون في الصالحين، وأنهم لم يريدوا إلا الشفاعة عند الله، والتقرب إليه بالاعتقاد في الصالحين،   1 سورة يونس آية: 18. 2 سورة الزمر آية: 3. 3 سورة الإسراء آية: 57. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 98 وعرفت أن محمدا صلى الله عليه وسلم لم يفرق بين من اعتقد في الأصنام، ومن اعتقد في الصالحين، بل قاتلهم كلهم، وحكم بكفرهم، تبين لك حقيقة دين الإسلام. وعرفت الأمر الثاني وهو توحيد الآلهية وهو أنه لا يسجد إلا لله، ولا يركع إلا له، ولا يدعى في الرخاء والشدائد إلا هو، ولا يذبح إلا له، ولا يعبد بجميع العبادات إلا الله وحده لا شريك له، وأن من فعل ذلك في نبي من الأنبياء، أو ولي من الأولياء، فقد أشرك بالله; وذلك النبي، أو الرجل الصالح، بريء ممن أشرك به، كتبرؤ عيسى من النصارى، وموسى من اليهود، وعلي من الرافضة، وعبد القادر من الفقراء. وعرفت أن الألوهية، هي التي تسمى في زماننا "السيد"، لقوله تعالى: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرائيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} 1.فتأمل قول بني إسرائيل - مع كونهم إذ ذاك أفضل العالمين – لنبيهم: اجعل لنا إلها، يتبين لك معنى الإله، ويزيدك بصيرة قوله تعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ} 2. فيا سبحان الله! إذا كان الله يذكر عن أولئك الكفار أنهم يخلصون لله في الشدائد، لا يدعون نبيا ولا وليا;   1 سورة الأعراف آية: 138. 2 سورة الإسراء آية: 67. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 99 وأنت تعلم ما في زمانك أن أكثر ما بهم الكفر والشرك، ودعاء غير الله عند الشدائد، فهل بعد هذا البيان بيان؟! وأما كلام أهل العلم: فقد ذكر في "الإقناع" في باب حكم المرتد، إجماع المذاهب كلهم، على أن من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم، أنه كافر مرتد، حلال المال والدم; وذكر فيه أن الرافضي إذا شتم الصحابة، فقد توقف الإمام في تكفيره، فإن ادعى أن عليا يدعى في الشدائد والرخاء، فلا شك في كفره؛ هذا معنى كلامه في "الإقناع". وهذا علي بن أبي طالب رضي الله عنه لما اعتقد فيه النفع والضر أناس في زمانه، حرقهم بالنار، مع عبادتهم؛ فكذلك الذين يدعون شمسان وأمثاله وأجناسه، لا شك في كفرهم. واعلم: أن هذه المسألة، مسألة عظيمة جدا، وهي التي خلق الله الجن والإنس لأجلها، ولكن أكثر الناس لا يعلمون. فأنت؛ اعرض هذا الكلام على كل من يدعي العلم، وأنا أعيذك بالله وجميع المسلمين، من التكبر والعناد، الذي يرد صاحبه الحق بعدما تبين؛ واعلم أن أكثر القرآن في هذه المسألة، وتقريرها وضرب الأمثال لها، والله أعلم. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 100 [معنى قوله تعالى لنبيه: (فاعلم أنه لا إله إلا الله) ] وله أيضا، صب الله عليه من شآبيب بره، ووالى: بسم الله الرحمن الر حيم من محمد بن عبد الوهاب، إلى ثنيان بن سعود، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: سألتم عن معنى قوله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} 1، وكونها نزلت بعد الهجرة، فهذا مصداق كلامي لكم مرارا عديدة، أن الفهم الذي يقع في القلب، غير فهم اللسان، وذلك: أن هذه المسألة من أكثر ما يكون تكرارا عليكم، وهى التي بوب لها الباب الثاني، في كتاب التوحيد، وذلك: أن العلم لا يسمى علما إلا إذا أثمر، وإن لم يثمر فهو جهل، كما قال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} 2، وكما قال عن يعقوب: {وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ} 3.والكلام في تقرير هذا ظاهر. والعلم هو الذي يستلزم العمل، ومعلوم تفاضل الناس في الأعمال تفاضلا لا ينضبط، وكل ذلك بسبب تفاضلهم في العلم؛ فيكفيك في هذا استدلال الصديق على عمر، في قصة أبي جندل، مع كونها من أشكل المسائل التي وقعت، في الأولين والآخرين، شهادة أن محمدا رسول الله. وسر المسألة: العلم بلا إله إلا الله ; ومن هذا قوله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أَلَمْ   1 سورة محمد آية: 19. 2 سورة فاطر آية: 28. 3 سورة يوسف آية: 68. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 101 تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} 1. فإن العلم بهذه الأصول الكبار، يتفاضل فيه الأنبياء فضلا عن غيرهم; ولما نهى نوح بنيه عن الشرك، أمرهم بلا إله إلا الله، فليس هذا تكرارا. بل هذان أصلان مستقلان كبيران، وإن كانا متلازمين، فالنهي عن الشرك يستلزم الكفر بالطاغوت، ولا إله إلا الله الإيمان بالله، وهذا وإن كان متلازما، فنوضح لكم الواقع، وهو: أن كثيرا من الناس يقول: لا أعبد إلا الله، وأنا أشهد بكذا، وأقر بكذا، ويكثر الكلام، فإذا قيل له: ما تقول في فلان وفلان، إذا عبدا أو عبدا من دون الله؟ قال: ما علي من الناس، الله أعلم بحالهم، ويظن بباطنه أن ذلك لا يجب عليه. فمن أحسن الاقتران: أن الله قرن بين الإيمان به والكفر بالطاغوت، فبدأ بالكفر به على الإيمان بالله، وقرن الأنبياء بين الأمر بالتوحيد والنهي عن الشرك، مع أن في الوصية بلا إله إلا الله ملازمة الذكر بهذه اللفظة، والإكثار منها، ويتبين عظم قدرها، كما بين صلى الله عليه وسلم فضل سورة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} 2 على غيرها من السور، ذكر أنها تعدل ثلث القرآن مع قصرها، وكذلك حديث موسى عليه السلام، فإن في ذكره ما يقتضي كثرة الذكر بهذه الكلمة، كما في الحديث " أفضل الذكر: لا إله إلا الله " 3 والسلام.   1 سورة البقرة: 106، 107. 2 سورة الإخلاص آية: 1. 3 الترمذي: الدعوات (3383) , وابن ماجه: الأدب (3800) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 102 [معنى قوله تعالى: (اليوم أحل لكم الطيبات) ] وسئل رحمه الله تعالى، عن قوله تعالى: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} إلى آخر السؤال. فقال: الجواب والله الموفق للصواب، قوله تعالى: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} 1 الآية، وقوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} 2، الآيتان لا اختلاف في حكمهن بين أحد، آيتان من كتاب الله؛ ولكن الكلام في حكم الذابح، هل هو مسلم، فيدخل حكمه في حكم الآية إذا ذبح وسمى الله عليها؟ فلو ترك التسمية نسيانا حلت ذبيحته، وكانت من الطيبات، بخلاف من ترك التسمية عمدا، فلا تحل ذبيحته. وكذلك أهل الكتاب، أعني اليهود والنصارى، ذبيحتهم ومناكحتهم حلال، لقوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} 3 الآية، وأما المرتد فلا تحل ذبيحته، وإن قال فيها بسم الله، لأن المانع لذلك ارتداده عن دين الإسلام، لا ترك التسمية، لأن المرتد شر عند الله من اليهود والنصارى من وجوه: أحدها: أن ذبيحته من الخبائث. الثانية. أنها لا تحل مناكحته، بخلاف أهل الكتاب. الثالثة. أنه لا يقر في بلد المسلمين، لا بجزية ولا بغيرها. الرابعة: أن حكمه يضرب عنقه بالسيف، لقوله صلى الله عليه وسلم: " من بدل دينه فاقتلوه " 4،   1 سورة المائدة آية: 5. 2 سورة الأنعام آية: 118. 3 سورة المائدة آية: 5. 4 البخاري: الجهاد والسير (3017) , والترمذي: الحدود (1458) , والنسائي: تحريم الدم (4059 ,4060 ,4061 ,4062 ,4064 ,4065) , وأبو داود: الحدود (4351) , وابن ماجه: الحدود (2535) , وأحمد (1/217 ,1/282 ,1/322) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 103 بخلاف أهل الكتاب. فإذا تقرر هذا عندك، فاعرف أن الكلام في تحريم ذبيحة المرتد، لا في أن الله أمر بأكل ما سمي عليه، ولا تحليل طعام أهل الكتاب; وقولكم: لم تكفّرون من يعمل بفرائض الإسلام الخمس؟ فقد كان في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم من انتسب إلى الإسلام ثم مرق من الدين، كما في الحديث الصحيح: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث البراء بن عازب معه الراية، إلى رجل تزوج امرأة أبيه، ليقتله ويأخذ ماله، وقد انتسب إلى الإسلام وعمل به. ومثل: قتال الصديق والصحابة رضي الله عنهم مانعي الزكاة، وسبي ذراريهم وغنيمة أموالهم، وتسميتهم مرتدين بعدما عملوا بشرائع الإسلام; ومثل إجماع التابعين على قتل الجعد بن درهم، وهو مشتهر بالعلم والدين، إلى غير ذلك، جرى وقائع لا تعد ولا تحصى. ومثل: بني عبيد الذين ملكوا مصر والشام وغيرها، مع تظاهرهم بالإسلام وصلاة الجمعة والجماعة، ونصب القضاة والمفتين، لما أظهروا من الأقوال والأفعال ما أظهروا، ولم يتوقف أحد من أهل العلم والدين عن قتالهم، مع ادعائهم الملة، ومع قولهم لا إله إلا الله، أو لأجل إظهار شيء من أركان الإسلام، إلا ما سمعنا منكم. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 104 فما معنى الباب الذي ذكر العلماء في كل مذهب؟ وهو: "باب حكم المرتد"، وهو المسلم الذي يكفر بعد إسلامه، حتى ذكروا فيه أنواعا كثيرة، كل نوع منها يكفّر الإنسان، ويحل دمه وماله؛ حتى ذكروا أشياء يسيرة مثل كلمة يذكرها بلسانه دون قلبه، أو كلمة يذكرها على وجه المزح واللعب. والذين قال الله فيهم: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ} 1 الآية، أسمعت الله كفّرهم بكلمة؟ مع كونهم في زمن النبي صلى الله عليه وسلم يجاهدون معه، ويصلون ويزكون، ويصومون ويحجون، ويوحدون الله سبحانه، وكذلك الذين قال الله فيهم: {أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} 2 الآية؛ قالوا كلمة على وجه المزح واللعب، فصرح الله أنهم كفروا بعد إيمانهم، وهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك. فتأمل أرشدك الله، من انتسب إلى الإسلام، مرق من الإسلام لما أظهر خلاف ذلك، فكيف بما هو أطم من ذلك; فإذا كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه من انتسب إلى الإسلام من مرق منه، مع عبادته العظيمة، حتى أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتالهم، فليعلم أن المنتسب إلى الإسلام في هذه الأزمان، قد يمرق من الإسلام.   1 سورة التوبة آية: 74. 2 سورة التوبة آية: 65. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 105 وقولكم: هل تعلمون للنبي صلى الله عليه وسلم دينا إلا الإسلام الذي جاء به جبرائيل؟ فمعلوم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام يدعو الناس إلى التوحيد سنين عديدة، قبل أن يدعوهم إلى أركان الإسلام; ومعلوم: أن التوحيد الذي جاء به جبرائيل، أعظم فريضة، وهو أعظم من الصلاة والزكاة، والصوم والحج. فكيف إذا جحد الإنسان شيئا من أركان الإسلام كفر، ولو عمل بكل ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، واذا جحد التوحيد الذي هو دين الرسل، من نوح إلى محمد صلى الله عليه وسلم، لا يكفر لأنه يقول لا إله إلا الله، أو لأنه يفعل كذا وكذا؟! فما الذي فرق بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين قريش؟ هل هو عند الممالك والرياسة والتطاول، أو عند لا إله إلا الله محمد رسول الله؟ فتفرقوا عند ذلك، وقالوا: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} 1. أتظن أن قريشا لو يعلمون أن هذا الكلام مجرد قول بلا عمل، وأنهم يقولون لا إله إلا الله، وينشؤون على دينهم، ولا يضرهم، وأن النبي صلى الله عليه وسلم يرضى منهم بذلك، وأنه ما يحاربهم، ولا يكفرهم، ولا يقاتلهم، أتراهم يتركون التلفظ بلا إله إلا الله، كما هو اعتقادكم، أو دين الإسلام لفظ لا إله إلا الله، وأن من قالها فهو المسلم؟ وتؤثرون عليها حديث جبرائيل، وحديث: " بني الإسلام على   1 سورة ص آية: 5. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 106 خمسة أركان " 1‘ وحديث "أمرت أن أقاتل الناس"‘ وحديث أسامة، وحديث: " من صلى صلاتنا "،وحديث أنه إذا أغار كمن عند القرية، فإن سمع أذانا وإلا أثار الغارة عليها. ولكن الأمر كما قال عمر رضي الله عنه: (إنها لا تنقض عرى الإسلام عروة عروة، حتى ينشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية) ، فذلك أنه إذا لم يعرف الشرك، وما عابه القرآن، وما ذمه، وقع فيه وهو لا يعرف أنه الذي كان عليه أهل الجاهلية، أو فوقه، أو دونه، أو آثر منه، فتنقض بذلك عرى الإسلام، ويعود المعروف منكرا، والمنكر معروفا، والبدعة سنة، والسنة بدعة، ويكفر الرجل بمحض الإيمان وتجريد التوحيد، ويبدع بمتابعة الرسول، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. فإن كان سؤالك مسترشدا، فاسأل عن قول الله في إبراهيم: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} 2. قال شيخ الإسلام: وما نجا من شرك هذا الشرك الأكبر إلا من جرد التوحيد لله، وعادى المشركين في الله، وتقرب بمقتهم إلى الله; فتأمل أن الإسلام لا يصح إلا بمعاداة أهل الشرك، وإن لم يعادهم فهو منهم، ولو لم يفعله. وأسأل عن معنى قوله تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ} 3 إلى قوله: {وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ} 4،   1 البخاري: الإيمان (8) , ومسلم: الإيمان (16) , والترمذي: الإيمان (2609) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (5001) , وأحمد (2/26 ,2/92 ,2/120 ,2/143) . 2 سورة إبراهيم آية: 35. 3 سورة المائدة آية: 78. 4 سورة المائدة آية: 81. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 107 وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} 1 إلى قوله: {وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} 2 الآية. وقال: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} 3، الآية وما أشبه ذلك; واسأل عن سبب نزول الآية، وما معناها، وإن كان غير ذلك فلا آسى على الهالكين، وصلى الله على محمد. [من رسالة الشيخ ابن عبد الوهاب لمطوع ثرمدا] وقال أيضا قدس الله روحه، في رسالته لمطوع ثرمدا العاشرة 4: قولك: إن المشركين الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أقروا بتوحيد الربوبية، ثم أوردت الأدلة الواضحة على ذلك؛ وإنما قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عند توحيد الألوهية، ولم يدخل الرجل في الإسلام بتوحيد الربوبية، إلا إذا انضم إليه توحيد الألوهية. فهذا كلام من أحسن الكلام وأبينه تفصيلا. ولكن عام أول، لما واجهنا إبراهيم، كتب له علماء سدير مكاتبة وبعثها لنا، وهي عندنا الآن، ولم يذكروا فيها إلا توحيد الربوبية؛ فإذا كنت تعرف هذا، فلأي شيء ما أخبرت إبراهيم ونصحته أن هؤلاء ما عرفوا التوحيد، وأنهم منكرون دين الإسلام؟   1 سورة الممتحنة آية: 1. 2 سورة الممتحنة آية: 4. 3 سورة المجادلة آية: 22. 4 وأخرناها لمناسبتها هنا, وأول الرسالة في /ج/1/ صفحة 105. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 108 وكذلك أحمد بن يحيى ساكن رغبة، عداوته لتوحيد الألوهية، والاستهزاء بأهل العارض، لما عرفوه - وإن كان يقرئه أحيانا - عداوة ظاهرة، لا يمكن أنها لا تبلغك; وكذلك ابن إسماعيل أنه نقض ما أبرمت في التوحيد. وتعرف أن عنده الكتاب الذي صنفه رجل من أهل البصرة، كله من أوله إلى آخره، في إنكار توحيد الإلهية، وأتاكم به ولد محمد بن سليمان ساكن أثيثية، وقرأه عندكم، وجادل به جماعتنا; وهذا الكتاب مشهور عند المويس وأتباعه، مثل ابن سحيم وابن عبيد، يحتجون به علينا، ويدعون الناس إليه، ويقولون: هذا كلام العلماء. فإذا كنت تعرف أن النبي صلى الله عليه وسلم ما قاتل الناس إلا عند توحيد الألوهية، وتعلم أن هؤلاء قاموا وقعدوا، ودخلوا وخرجوا، وجاهدوا ليلا ونهارا، في صد الناس عن التوحيد، يقرؤون عليهم مصنفات أهل الشرك، لأي شيء لم تظهر عداوتهم، وأنهم كفار مرتدون؟ فإن كان ظاهر لكأن أحدا من العلماء، لا يكفر من أنكر التوحيد، أو أنه يشك في كفره، فاذكره لنا وأفدنا; وإن كنت تزعم أن هؤلاء فرحوا بهذا الدين، وأحبوه، ودعوا الناس إليه، ولما أتاهم تصنيف أهل البصرة في إنكار التوحيد كفروه، وكفروا من عمل به. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 109 وكذلك لما أتاهم كتاب ابن عفالق، الذي أرسله المويس لابن إسماعيل، وقدم به عليكم العام الماضي، وقرأه على جماعتكم، يزعم فيه أن التوحيد دين ابن تيمية، وأنه لما أفتى به كفره العلماء، وقامت عليه القيامة; إن كنت تقول: ما جرى من هذا شيء، فهذا مكابرة، وإن كنت تعرف أن هذا هو الكفر الصراح، والردة الواضحة، ولكن تقول: أخشى الناس، فالله أحق أن تخشاه. ولا تظن أن كلامي هذا معاتبة وكلام عليك، فوالله الذي لا إله إلا هو إنه نصيحة، لأن كثيرا ممن واجهناه، وقرأ علينا، يتعلم هذا ويعرفه بلسانه، فإذا وقعت المسألة لم يعرفها، بل إذا قال له بعض المشركين: نحن نعرف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا، فإن النافع الضار هو الله، يقول: جزاك الله خيرا، ويظن أن هذا هو التوحيد، ونحن نعلمه أكثر من سنة أن هذا هو توحيد الربوبية الذي أقر به المشركون؛ فالله الله في التفطن لهذه المسألة، فإنها الفارقة بين الكفر والإسلام! ولو أن رجلا قال: شروط الصلاة تسعة، ثم سردها كلها، فإذا رأى رجلا يصلي عريانا بلا حاجة، أو على غير وضوء، أو لغير القبلة، لم يدر أن صلاته فاسدة، لم يكن قد عرف الشروط ولو سردها بلسانه; ولو قال: الأركان أربعة عشر، ثم سردها كلها، ثم رأى من لا يقرأ الفاتحة، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 110 ومن لا يركع، ومن لا يجلس للتشهد، ولم يفطن أن صلاته باطلة، لم يكن قد عرف الأركان ولو سردها؛ فالله الله في التفطن لهذه المسألة! ولكن أشير عليك بعزيمة: أنك تصل إلينا، ونتذاكر معك; وكذلك من جهة البدع، قيل لي: إنك تقول فيها شيئا ما يقوله الذي عرف مسألة البدع; وصلى الله على محمد. [المسائل التي عرَّف بها الشيخ ابن عبد الوهاب] وله أيضا قدس الله روحه، ونور ضريحه: بسم الله الرحمن الر حيم من محمد بن عبد الوهاب، إلى محمد بن عيد، وفقنا الله وإياه لما يحبه ويرضاه. وبعد: وصل الكراس، وتذكرون أن الحق إن بان لكم اتبعتموه، وفيه كلام غير هذا، سر الخاطر من جهتك خاصة، بسبب أن لك عقلا، والثانية أن لك عرضا تشح به، والثالثة: أن الظن فيك إن بان لك الحق، أنك ما تبيعه بالزهائد. فأما تقريركم أول الكلام: أن الإسلام خمس كأعضاء الوضوء، وأنكم تعرفون كلام الله، وكلام رسوله، وإجماع العلماء أن له نواقض كنواقض الوضوء الثمانية; منها: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 111 اعتقاد القلب وإن لم يعمل أو يتكلم، يعني إذا اعتقد خلاف ما علمه الرسول صلى الله عليه وسلم أمته بعدما تبين له، ومنها: كلام باللسان وإن لم يعمل ولم يعتقد، ومنها: عمل بالجوارح وإن لم يعتقد ويتكلم. ولكن من أظهر الإسلام وظننا أنه أتى بناقض، لا نكفره بالظن، لأن اليقين لا يرفعه الظن; وكذلك لا نكفر من لا نعرف منه الكفر، بسبب ناقض ذكر عنه، ونحن لم نتحققه; وما قررتم هو الصواب الذي يجب على كل مسلم اعتقاده والتزامه. ولكن قبل الكلام، اعلم: أني عَرَّفْتُ بأربع مسائل: الأولى: بيان التوحيد مع أنه لم يطرق آذان أكثر الناس. الثانية: بيان الشرك، ولو كان في كلام من ينتسب إلى العلم أو العبادة، من دعوة غير الله، أو قصده بشيء من العبادة، ولو زعم أنهم يريدون أنهم شفعاء عند الله، مع أن أكثر الناس يظن أن هذا من أفضل القربات، كما ذكرتم عن العلماء، أنهم يذكرون أنه قد وقع في زمانهم. الثالثة: تكفير من بان له أن التوحيد هو دين الله ورسوله، ثم أبغضه ونفر الناس عنه، وجاهد من صدق الرسول فيه، ومن عرف الشرك، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث بإنكاره، وأقر بذلك ليلا ونهارا، ثم مدحه وحسنه للناس، وزعم أن أهله لا يخطئون، لأنهم السواد الأعظم. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 112 وأما ما ذكر الأعداء عني، أني أُكَفِّر بالظن وبالموالاة، أو أكفّر الجاهل الذي لم تقم عليه الحجة، فهذا بهتان عظيم، يريدون به تنفير الناس عن دين الله ورسوله. الرابعة: الأمر بقتال هؤلاء خاصة، حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله، فلما اشتهر عني هؤلاء الأربع، صدقني من يدعي أنه من العلماء في جميع البلدان، في التوحيد، وفي نفي الشرك، وردوا علي التكفير والقتال. إذا تحققت ما ذكرت لك، انبنى الجواب على ما ذكرتم في أول الأوراق، من إقراركم بمعرفة نواقض الإسلام بإجماع العلماء، بشرط أنكم لا تكفّرون بالظن ولا من لا تعرفون. فنقول: من المعلوم عند الخاص والعام، ما عليه البوادي أو أكثرهم، فإن كابر معاند لم يقدر على أن يقول: إن عنزة وآل ظفير وأمثالهم كلهم، مشاهيرهم والأتباع، إنهم مقرون بالبعث، ولا يشكون فيه; ولا يقدر أن يقول: إنهم يقولون: إن كتاب الله عند الحضر، وإنهم عائفوه، ومتبعو ما أحدث آباؤهم، مما يسمونه الحق، ويفضلونه على شريعة الله، فإن كان للوضوء ثمانية نواقض، ففيهم من نواقض الإسلام أكثر من مائة ناقض. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 113 فلما بينت ما صرحت به آيات التنْزيل، وعلمه الرسول صلى الله عليه وسلم أمته، وأجمع عليه العلماء: أن من أنكر البعث، أو شك فيه، أو سب الشرع، أو سب الأذان إذا سمعه، أو فضل فراضة الطاغوت على حكم الله، أو سب من زعم أن المرأة ترث، أو أن الإنسان لا يؤخذ في القتل بجريرة أبيه وابنه، أنه كافر مرتد; قال علماؤكم: معلوم أن هذا حال البوادي لا ننكره، ولكن يقولون: لا إله إلا الله، وهي تحميهم من الكفر، ولو فعلوا كل ذلك; ومعلوم أن هؤلاء أولى وأظهر من يدخل في تقريركم. فلما أظهرت تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما جاء به، سبوني غاية المسبة، وزعموا أني أكفّر أهل الإسلام، وأستحل أموالهم، وصرحوا: أنه لا يوجد في جزيرتنا رجل واحد كافر، وأن البوادي يفعلون من النواقض، مع علمهم أن دين الرسول عند الحضر، وجحدوا كفرهم; وأنتم تذكرون: أن من رد شيئا مما جاء به الرسول بعد معرفته، أنه كافر. فإذا كان المويس، وابن إسماعيل، والعديلي، وابن عباد، وجميع أتباعهم، كلهم على هذا، فقد صرحتم غاية التصريح: أنهم كفار مرتدون; وإن ادعى مدع: أنهم يكفرونهم، أو ادعى أن جميع البادية لم تتحقق من أحد منهم من النواقض شيئا، أو ادعى أنهم لا يعرفون أن دين الجزء: 10 ¦ الصفحة: 114 الرسول خلاف ما هم عليه، فهذا كمن ادعى أن ابن سليمان، وسويد، وابن دوّاس، وأمثالهم، عباد زهاد فقراء، ما شاخوا في بلد قط، ومن ادعى هذا، فأسقط الكلام معه. ونقول ثانيا: إذا كانوا أكثر من عشرين سنة، يقرون ليلا ونهارا، سرا وجهارا: أن التوحيد الذي أظهر هذا الرجل، هو دين الله ورسوله، لكن الناس لا يطيعوننا، وأن الذي أنكره هو الشرك، وهو صادق في إنكاره، ولكن لو يسلم من التكفير والقتال، كان على الحق؛ هذا كلامهم على رؤوس الأشهاد، ثم مع هذا يعادون التوحيد ومن مال إليه، العداوة التي تعرف، ولو لم يكفر ويقاتل. وينصرون الشرك نصر الذي تعرف، مع إقرارهم بأنه مشرك، مثل كون المويس وخواص أصحابه، ركبوا وتركوا أهليهم وأموالهم إلى أهل قبة الكواز، وقبة رجب، سنة، يقولون: إنه قد خرج من ينكر قببكم وما أنتم عليه، وقد أحل دماءهم وأموالهم؛ وكذلك ابن إسماعيل، وابن ربيعة، والمويس أيضا بعدهم بسنة، رحلوا إلى أهل قبة أبي طالب، وأغروهم بمن صدق النبي صلى الله عليه وسلم، وأحلوا دماءنا وأموالنا، حتى جرى على الناس ما تعرف، مع أن كثيرا منهم لم يكفر ولم يقاتل. وقررتم: أن من خالف الرسول صلى الله عليه وسلم في عشر معشار الجزء: 10 ¦ الصفحة: 115 هذا، ولو بكلمة، أو عقيدة قلب، أو فعل، فهو كافر، فكيف بمن جاهد بنفسه وماله وأهله ومن أطاعه في عداوة التوحيد، وتقرير الشرك، مع إقراره بمعرفة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم؟ فإن لم تكفروا هؤلاء ومن اتبعهم، ممن عرف أن التوحيد حق، وأن ضده الشرك، فأنتم كمن أفتى بانتقاض وضوء من نزغ منه مثل رأس الإبرة من البول، وزعم أن من يتغوط ليلا ونهارا، وأفتى للناس أن ذلك لا ينقض، وتبعوه على ذلك حتى يموت، أنه لا ينقض وضوءه. وتذكرون: أني أكفّرهم بالموالاة، وحاشا وكلا; ولكن أقطع: أن كفر من عبد قبة أبي طالب، لا يبلغ عشر كفر المويس وأمثاله، كما قال تعالى: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ} 1 الآيتين. وأنا أمثل لك مثالا لعل الله أن ينفعك به، لعلمي أن الفتنة كبيرة، وأنهم يحتجون بما تعرفون; منها: ما ذكروا في الأوراق، أنهم لم يقصدوا بحربكم رد التوحيد، وإحياء الشرك، وإنما قصدوا دفع الشر عن أنفسهم، خوف البغي عليهم. فنقول: لو نقدر أن السلطان ظلم أهل المغرب ظلما عظيما في أموالهم وبلادهم، ومع هذا خافوا استيلاءهم على   1 سورة آية: 8. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 116 بلادهم ظلما وعدوانا، ورأوا أنهم لا يدفعونهم إلا باستنجاد الفرنج، وعلموا أن الفرنج لا يوافقونهم، إلا أن يقولوا نحن معكم على دينكم ودنياكم، ودينكم هو الحق، ودين السلطان هو الباطل، وتظاهروا بذلك ليلا ونهارا، مع أنهم لم يدخلوا في دين الفرنج، ولم يتركوا الإسلام بالفعل، لكن لما تظاهروا بما ذكرنا، ومرادهم دفع الظلم عنهم، هل يشك أحد أنهم مرتدون، في أكبر ما يكون من الكفر والردة؟ إذا صرحوا أن دين السلطان هو الباطل، مع علمهم أنه حق، وصرحوا أن دين الفرنج هو الصواب، وأنه لا يتصور أنهم لا يتيهون، لأنهم أكثر من المسلمين، ولأن الله أعطاهم من الدنيا شيئا كثيرا، ولأنهم أهل الزهد والرهبانية. فتأمل هذا تأملا جيدا، وتأمل ما صدرتم به الأوراق، من موافقتهم فيما ينقض به الإسلام، ومعرفتكم بالناقض؛ فإذا تحققتموه وأنه يكون بكلمة، ولو لم تعتقد، ويكون بفعل ولو لم يتكلم، ويكون في القلب من الحب والبغض ولو لم يتكلم ولم يعمل، تبين لك الأمر، اللهم إلا إن كنتم ذاكرين في أول الأوراق، وأنتم تعتقدون خلافه، فذاك أمر آخر. وأما ما ذكرتم من كلام العلماء، فعلى الرأس والعين، ولكن عنه جوابان أحدهما: أنكم لو لم تنقلوا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 117 كلام ابن عقيل في الفنون، وكلام الشيخ في "اقتضاء الصراط المستقيم" وكلام ابن القيم، لقلت لعلهم مخطئون قائلون بمبلغ علمهم، هذا كله عندنا في هذه الكتب، كما هو عندكم، وابن عقيل ذكر أنهم كفار بهذا الفعل - أعني دعوة صاحب التربة، ودس الرقاع - وأنتم تعلمون ذلك; وأصرح منه كلام الشيخ، في قوله: ومن ذلك ما يفعله الجاهلون بمكة. يا سبحان الله! كيف تركتم صريحه في العبارة بعينها: أن هذا من فعله كان مرتدا، وأن المسلم إذا ذبح للزهرة، أو الجن أو لغير الله، فهو مما أهل لغير الله به; وهي أيضا: ذبيحة مرتد، لكن يجتمع في الذبيحة مانعان; فصرح: أن هذا الرجل إذا ذبح للجن مرة واحدة، صار كافرا مرتدا، وجميع ما يذبحه للأكل بعد ذلك لا يحل، لأنه ذبيحة مرتد. وصرح في مواضع من الكتاب كثيرة، بكفر من فعل شيئا من الذبح والدعوة، حتى ذكر ثابت بن قرة، وأبا معشر البلخي، وذكر أنهم كفار مرتدون وأمثالهم، مع كونهم من أهل التصانيف. وأصرح من الجميع: كلام ابن القيم في كثير من كتبه، فلما نقلتم بعض العبارة، وتركتم بعضها، علمت أنه ليس بجهالة، ولكن الذي عليك: لو أنك فاعل كما فعل الجزء: 10 ¦ الصفحة: 118 بعض أهل الأحساء، لما صنف بعضهم كتابا في الرد علينا، يريد أن يبعثه، تكلم رجل منهم، وقال: أحب ما إلى ابن عبد الوهاب وصول هذا إليه، أنتم ما تستحون، فتركوا الرسالة. الجواب الثاني: أن الشرك لا يكفر من فعله، وأنه شرك أصغر، وأنه معصية غير الكفر، مع أن جميع ما ذكرتم لا يدل على ذلك، فإن أردت بينت لك في غير هذه المرة، معاني هذه العبارات من الأدلة، من كلام كل رجل، كما بينته لك من كلام الشيخ، لكن أنتم مسلِّمون: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أنكره ونهى عنه، فلو أن رجلا أقر بذلك مع كونه لم يفعله، لكنه زينه للناس ورغبهم فيه، أليس هذا كافرا مرتدا؟ ولو قدرنا: أن الأمر الذي كرهه وصد الناس عنه، ما أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم إلا أمر استحباب، كركعتي الفجر، أو أن الذي نهى عنه ما نهى عنه إلا نهي تنْزيه، كالأكل بالشمال، والنوم للجنُب من غير وضوء; ولو أن رجلا عرف نهي الرسول صلى الله عليه وسلم، وزعم لأجل غرض من الأغراض: أن الأكل بالشمال هو الأحب المرضي عند الله، وأن الأكل باليمين يضر عند الله، وأن الوضوء للجنُب إذا أراد النوم يضر عند الله، وأن النوم من غير وضوء أحب إلى الله، مع علمه بما قال الرسول صلى الله عليه وسلم، أليس هذا كلام كافر مرتد؟ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 119 فكيف بمن سب دين الله الذي بعث به جميع أنبيائه؟ مع إقراره ومعرفته به، ومدح دين المشركين، الذي بعث الله الأنبياء بإنكاره، ودعا الناس إليه، مع معرفته; ولكن أرى لك أن تقوم في السَّحَر، وتدعو بقلب حاضر بالأدعية المأثورة، وتطرح نفسك بين يدي الله تعالى أن يهديك لدينه، ودين نبيه عليه السلام، وصلى الله على محمد. [بعض المسائل التي سئل فيها الشيخ في باب المرتد] وسئل أيضا: شيخ الإسلام، محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى، عن مسائل: الأولى: قوله في باب حكم المرتد: أو استهزأ بالله أو كتبه أو رسله، كفر; فما وصف هذا الاستهزاء ... إلى آخر المسائل. فأجاب، رحمه الله بقوله - بعد السلام -: سرني ما ذكرت ألهمك الله التقوى، ولا تتعذر من السؤال، فإن هذا هو الواجب عليك، وعلى غيرك، كما قالوا: مفتاح العلم السؤال; ولكن اعلم: أن المسائل والعلوم المهجورة، ما يفهمها الإنسان إلا بعد المراجعة، وكثرة المذاكرة، ولو كانت واضحة. وهذه المسائل: من العلوم المهجورة، كما ذكرت، فعل الطلبَة في باب حكم المرتد، مع أن معرفة الله ومعرفة حقه، أجلّ العلوم وأشرفها، فلا تستح من المراجعة وكثرة السؤال، ما بقي في نفسك شيء من الإشكال، وقولك: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 120 إن أهل العلم لم يشرحوها، فكثير من الكتب لم يوجد عندكم، وإلا جميع ما ذكرت قد شرحوه. فأما المسألة الأولى: فالعلماء استدلوا عليها بقوله تعالى، في حق بعض المسلمين المجاهدين، في غزوة تبوك: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ} 1 الآية، فذكر السلف والخلف: أن معناها عام إلى يوم القيامة، فيمن استهزأ بالله، أو القرآن، أو الرسول؛ وصفة كلامهم أنهم قالوا: ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطونا، ولا أكذب ألسنا، ولا أجبن عند اللقاء؛ يعنون بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم والعلماء من أصحابه. فلما نقل الكلام عوف بن مالك، أتى القائل يعتذر أنه قال ذلك على وجه اللعب، كما يفعل المسافرون، فنَزل الوحي أن هذا كفر بعد الإيمان، ولو كان على وجه المزح واللعب، والذي يعتذر، يظن أن الكفر إذا قاله جادا لا لاعبا; إذا فهمت أن هذا هو الاستهزاء، فكثير من الناس يتكلم في الله عز وجلبالكلام الفاحش، عند وقوع المصائب على وجه الجد، وأنه لا يستحق هذا، وأنه ليس بأكبر الناس ذنبا. وكذلك من يدعي العلم والفقه، إذا استدل الناس عليه بآيات الله أظهر الاستهزاء، وهذه المسألة لعلك لا تحررها تحريرا تاما إلا من الرأس، إذا أوقفناك على نصوص أهل   1 سورة التوبة آية: 65. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 121 العلم، وذكروا أشياء لعل كثيرا من الناس لا ينكرها إذا سمعها. الثانية: قوله: أو كان مبغضا لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يشرك بالله، لكن أبغض السؤال عنه، ودعوة الناس إليه، كما هو حال من يدعي العلم، يقرون أنه دين الله ورسوله، ويبغضونه أكثر من بغض اليهود والنصارى، بل يعادون من التفت إليه، ويحلون دمه وماله، ويرمونه عند الحكام. وكذلك الرسول صلى الله عليه وسلم أتى بالإنذار عن الشرك، بل هو أول ما أنذر عنه، وأعظم ما أنذر عنه؛ ويقرون أنه أتى بهذا، ويقولون: خلق الله ما ينهون، وينصرون بالقلب واللسان واليد; والتكفير بالاتفاق فيمن أبغض النهي عنه، وأبغض الأمر بمعاداة أهله، ولو لم يتكلم ولم ينصر، فكيف إذا فعل ما فعل؟ وكذلك من جعل بينه وبين الله وسائط، يدعوهم، ويسألهم، ويتوكل عليهم، كفر إجماعا; وذكروا: أن هذا بعينه، هو الذي يفعل أهل زمانهم عند القبور، فكيف بزماننا؟ وبينه لك قول الشارح، لما ذكر هذا، وذكر بعده أنواعا من الكفر المخرج من الملة؛ وقد عمت البلوى بهذه الفرق، وأفسدوا كثيرا من عقائد أهل التوحيد. نسأل الله العفو والعافية، انتهى كلامه في شرح "الإقناع". الجزء: 10 ¦ الصفحة: 122 فإذا كان هذا في زمانه، لم يذكره عن عشرة أو مائة، بل عمت به البلوى في مصر والشام، في زمن الشارح، فأظنك تقطع أن أهل القصيم ليسوا بخير من أهل مصر والشام، في زمن الشارح؛ فتفطن لهذه المعاني، وتدبرها تدبرا جيدا. واعلم: أن هذه المسألة أم المسائل، ولها ما بعدها؛ فمن عرفها معرفة تامة، تبين له الأمر، خصوصا إذا عرف ما فعل المويس وأمثاله، مع قبة الكواز وأهلها، وما فعله هو، وابن إسماعيل، وابن ربيعة، وعلماء نجد في مكة سنة الحبس، مع أهل قبة أبي طالب، وإفتائهم بقتل من أنكر ذلك، وأن قتلهم وأخذ أموالهم، قربة إلى الله، وأن الحرم الذي يحرم اليهودي، والنصراني، لا يحرمهم. ثم تفكر في الأحياء الذين صالوا معهم، هل تابوا من فعلهم ذلك وأسلموا، وعرفوا أن عشر معشار ما فعلوه ردة عن الإسلام، بإجماع المذاهب كلها؟ أم هم اليوم على ما كانوا عليه بالأمس؟ والمويس، وابن إسماعيل، وأضرابهما إلى اليوم، علماء يعظمون ويترحم عليهم!! ومن دعا الناس إلى التوحيد، وترك الشرك، هم الخوارج، الذين خرجوا من الدين!! فالله الله الله استعن بالله، في فهم هذه المسألة، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 123 واحرص على ذلك، لعلك أن تخلص من هذه الشبكة؛ فلو يسافر المسلم إلى أقصى المشرق، أو المغرب، في تحرير هذه المسألة، لم يكن كثيرا؛ والفكرة فيها في أمرين: أحدهما: في صورة المسألة، وما قال الله ورسوله، وما قال العلماء. والفكرة الثانية: إذا عرفت التوحيد الذي دعت إليه الرسل، أولهم نوح عليه السلام، وآخرهم محمد صلى الله عليه وسلم، وأقر به من أقر به، كيف فعلوا؟ هل أحبوه ودخلوا فيه؟ أم عادوه وصدوا الناس عنه؟ وكذلك لما عرفوا ما جاء به من إنكار الشرك والوسائط، وعرفوا أقوال العلماء: أنه الذي عمت به البلوى في زمانهم، هل فرحوا بالسلامة منه؟ ونهوا الناس؟ أم زينوه للناس وزعموا أن أهله السواد الأعظم؟ وثبتوه بما قدروا عليه من الأقوال والأعمال، وجاهدوا في تثبيته كجهاد الصحابة في زواله؟! فالله الله الله الله! بادر ثم بادر ثم بادر! فقد قال صلى الله عليه وسلم: " بدأ الإسلام غريبا، وسيعود غريبا كما بدأ " 1. فأنت تعرف بدوه يوم يقال له صلى الله عليه وسلم: من معك على هذا؟ قال: "حر وعبد"، ومعه يومئذ أبو بكر وبلال; وقد قال الفضيل بن عياض - في زمانه، وهو قبل الإمام أحمد -: لا تترك طريق الحق لقلة السالكين، ولا يضرك الباطل لكثرة الهالكين. ومع هذا وأمثاله من البيان، أضعاف أضعافه {مَنْ   1 مسلم: الإيمان (145) , وابن ماجه: الفتن (3986) , وأحمد (2/389) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 124 يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُرْشِداً} 1. وما أشكل عليك من هذا، فراجعني فيه، فإن كلام العلماء في أنه الشرك الأكبر، وأنه اشتهر عند كثير أهل زمانهم، أكثر من أن يحصر. وأماالثالثة: فالقول الصريح في الاستهزاء بالدين، مثل ما قدمت لك; وأما الفعل: فمثل مدّ الشفة، وإخراج اللسان، ورمز العين، مما يفعله كثير من الناس، عندما يؤمر بالصلاة، والزكاة، فكيف بالتوحيد؟ الرابعة: إذا نطق بكلمة الكفر، ولم يعلم معناها، صريحا واضحا أنه نطق بما لا يعرف معناه؛ وأما كونه لا يعرف أنها لا تكفره، فيكفي فيه قوله: {لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} 2،فهم يعتذرون من النبي صلى الله عليه وسلم ظانين أنها لا تكفرهم. والعجب ممن يحملها على هذا، وهو يسمع قوله: {وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} 3، {إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} 4، {وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} 5، أيظن هؤلاء ليسوا كفارا؟ ولا تستنكر الجهل الواضح لهذه المسائل، لأجل غربتها.   1 سورة الكهف آية: 17. 2 سورة التوبة آية: 66. 3 سورة الكهف آية: 104. 4 سورة الأعراف آية: 30. 5 سورة آية: 37. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 125 ومما يكشف لك الإشكال: ما قدمت لك، إجماع العلماء أن هذا كثر في زمانهم، وأيضا: بلدانهم أكثر علماء من بلدانكم. الخامسة: من أطلق الشارع كفره بالذنوب، فالراجح فيها قولان: أحدهما: ما عليه الجمهور من أنه أنه لا يخرج من الملة. الثاني: الوقف، كما قال الإمام أحمد: أمروها كما جاءت، يعني: لا يقال يخرج، ولا ما يخرج; وما سوى هذين القولين غير صحيح. السادسة: قوله: الذبح للجن منهي عنه; فاعرف قاعدة أهملها أهل زمانك، وهي: أن لفظ التحريم، والكراهة، وقوله: لا ينبغي، ألفاظ عامة، تستعمل في المكفرات، والمحرمات التي دون الكفر، وفي كراهة التنْزيه، التي دون الحرام. مثل استعمالها في المحرمات، قوله: الإله الذي لا تنبغي العبادة إلا له; وقوله: {وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً} 1. ولفظ التحريم، مثل قوله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} 2 وكلام العلماء لا ينحصر في قولهم: يحرم كذا، لما صرحوا في مواضع أخر أنه كفر. وقوله: يكره; كقوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ   1 سورة مريم آية: 92. 2 سورة الأنعام آية: 151. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 126 أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} 1. إلى قوله: {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً} 2. وأما قول الإمام أحمد: أكره كذا، فهو عند أصحابه على التحريم. إذا فهمت هذا، فهم صرحوا، أن الذبح للجن ردة تخرج، وقالوا: الذبيحة حرام، ولو سمي عليها، قالوا: لأنها يجتمع فيها مانعان: الأول: أنها مما أُهلّ به لغير الله، والثانية: أنها ذبيحة مرتد، والمرتد لا تحل ذبيحته، وإن ذبحها للأكل، وسمى الله عليها; وما أشكل عليك في هذا فراجعني، أذكر لك لفظهم بعينه. [بيان الشيخ ابن عبد الوهاب للأشياء التي يكفر مرتكبها] وله أيضا، رحمه الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم من محمد بن عبد الوهاب، إلى الأخ: حمد التويجري، ألهمه الله رشده، سلام عليكم، ورحمة الله وبركاته. وبعد: وصل الخط، أوصلك الله ما يرضيه، وأشرفنا على الرسالة المذكورة؛ وصاحبها ينتسب إلى مذهب الإمام أحمد رحمه الله، وما تضمنته رسالته، من الكلام في الصفات، مخالف لعقيدة الإمام أحمد، وما تضمنته من الشبه الباطلة، في تهوين أمر الشرك، بل في إباحته، فمن   1 سورة الإسراء آية: 23. 2 سورة الإسراء آية: 38. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 127 أبين الأمور بطلانه، لمن سلم من الهوى والتعصب. وكذلك تمويهه على الطغام: بأن ابن عبد الوهاب يقول: الذي ما يدخل تحت طاعتي كافر، ونقول: سبحانك هذا بهتان عظيم! بل نشهد الله على ما يعلمه من قلوبنا، بأن من عمل بالتوحيد، وتبرأ من الشرك وأهله، فهو المسلم في أي زمان، وأي مكان. وإنما نكفّر من أشرك بالله في إلهيته، بعدما نبين له الحجة، على بطلان الشرك، وكذلك نكفر من حسنه للناس، أو أقام الشبه الباطلة على إباحته، وكذلك من قام بسيفه، دون هذه المشاهد، التي يشرك بالله عندها، وقاتل من أنكرها، وسعى في إزالتها؛ والله المستعان، والسلام. وقال أيضا: الشيخ محمد بن عبد الوهاب، أسكنه الله الجنة. وبعد: وصل إلينا حميدان وإخوانه، والذي عليهم من الإشكال زال، فالله الله عن مقدَّم بلاد، أو خاص، أو عام، يعترض عليهم، أو يستهزئ بهم، فإن الاستهزاء بالدين كفر صريح، وافهموا ست مسائل في "الإقناع"، في باب حكم المرتد. الأولى: أنه ذكر الردة مهما تكن اعتقادا، أو شكا، أو نطقا، أو فعلا، فأول ما ذكر الشرك بالله، بسبب أن الجزء: 10 ¦ الصفحة: 128 الجاهل يقول: الشرك ما هو عندنا، فإذا اعتقد بقلبه، أو شك، أو تكلم ولو عرف بقلبه، أو فعل ولو لم يتكلم. الثانية: أن من أبغض ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ولو لم يشرك، كفر. الثالثة: أن الرافضي إذا سب الصحابة، فاختلف العلماء في كفره، وأما إذا اعتقد في علي، أو الحسين، فهو كافر إجماعا، والسني الذي يشك في كفره، كافر. الرابعة: أنه يحرم تعلم السحر، ثم إنه يكفر إن تعلمه أو فعله؛ ثم ذكر أنواعه، وذكر منها العطف، والصرف، والطلاسم، التي يظنها أكثر المطاوعة حسنة. الخامسة: أن كون الشيء حراما، لا يناقض كونه كفرا. السادسة: المسألة العظيمة، استدلال العلماء بقول الله تعالى: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ} . والله أعلم. وقال أيضا الشيخ محمد بن عبد الوهاب: والمسألة الأخرى: يذكر لنا من أعداء الإسلام، من يذكر أنا نكفر بالذنوب، مثل التتن، وشرب الخمر، والزنى أو غير ذلك من كبائر الذنوب، فنبرأ إلى الله من هذه المقالة، بل الذي نحن نقول: الذنوب فيها الحدود، ومعلقة بالمشيئة، إن شاء الله عفا، وإن شاء عذب عليها. وأما الذي نكفر به: فالشرك بالله، كما قال تعالى: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 129 {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً} 1،وقال تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} 2، وقال تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} 3. ونكفّر أيضا: المستهزئين بالدين، مثل ما قال الله في الصحابي، الذي غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} 4، وغيرهم مثل ما حكى الله تعالى: {إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ} ، وفي الآية الأخرى {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً} 5.   1 سورة النساء آية: 48. 2 سورة آية: 65. 3 سورة المائدة آية: 72. 4 سورة آية: 65-66. 5 سورة النساء آية: 140. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 130 [نفي الشيخ ابن عبد الوهاب أنه يكفِّر بالعموم] وله أيضا رحمه الله: بسم الله الرحمن الرحيم من محمد بن عبد الوهاب، إلى من يصل إليه من المسلمين، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: ما ذكر لكم عني: أني أكفر بالعموم، فهذا من بهتان الأعداء، وكذلك قولهم: إني أقول من تبع دين الله ورسوله، وهو ساكن في بلده، أنه ما يكفيه حتى يجيء عندي، فهذا أيضا من البهتان؛ إنما المراد اتباع دين الله ورسوله، في أي أرض كانت. ولكن نكفر من أقر بدين الله ورسوله، ثم عاداه وصد الناس عنه ; وكذلك من عبد الأوثان، بعدما عرف أنها دين المشركين، وزينه للناس، فهذا الذي أكفره؛ وكل عالم على وجه الأرض يكفر هؤلاء، إلا رجل معاند، أو جاهل؛ والله أعلم، والسلام. وسئل أبناء الشيخ، وحمد بن ناصر، رحمهم الله: هل تعتقدون كفر أهل الأرض على الإطلاق؟ أم لا؟ فأجابوا: الذي نعتقده دينا، ونرضاه لإخواننا مذهبا، أن من أنكر ما هو معلوم من الدين بالضرورة، وقامت عليه الحجة، فإنه يكفر بذلك، ولو ادعى الإسلام؛ وهذا أمر مجمع عليه بين العلماء. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 131 ويكفر أيضا: من أنكر وجوب الصلاة، ودُعي إليها وأبى عن فعلها جحدا، يُقتل عندنا كفرا؛ وهو مذهب الإمام أحمد، وإسحاق، وغيرهما من السلف والخلف، وهو الذي تدل عليه الأدلة، من الكتاب والسنة; وفي المسألة قول آخر: أنه يقتل حدا، وهو القول المشهور في مذهب الإمام مالك، والشافعي، وأبي حنيفة. ونكفر أيضا: من أنكر وجوب الزكاة، وامتنع من أدائها، وقاتل الإمام عليها; ونكفر أيضا: من أبغض شيئا من دين الرسول صلى الله عليه وسلم وسبه. وقد ذكر بعض العلماء، رحمهم الله: أن الكفر والردة أنواع كثيرة: فمن ذلك ما هو شك، ومنه ما هو اعتقاد، ومنه ما هو نطق؛ فمن أشرك بالله، أو جحد ربوبيته، أو إلهيته، أو جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم، ويتوكل عليهم، ويسألهم، كفر إجماعا، لأن هذا كفعل عابدي الأصنام، قائلين {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} 1،وذكروا أنواعا كثيرة من أنواع الردة، كل نوع يكفر به المسلم، ويحل دمه وماله. وأما تكفير أهل الأرض كلهم، فنحن نبرأ إلى الله من هذا، بل نعتقد أن أمة محمد صلى الله عليه وسلم لا تجتمع على ضلالة، بل قد أجارها الله عن ذلك، على لسان نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، ولا تزال طائفة منها على الحق منصورين، لا يضرهم من   1 سورة الزمر آية: 3. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 132 خالفهم ولا من خذلهم، إلى أن تقوم الساعة، كما وردت بذلك الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع إخباره بأن أمته تأخذ ما أخذت الأمم قبلها، وتتبع سنتهم، وتسلك مسالكهم، كما ثبت ذلك في الصحيحين، من حديث أبي سعيد، وأبي هريرة وغيرهما، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد دل الكتاب العزيز على ذلك أيضا، فقال تعالى: {كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً وَأَوْلاداً فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} 1. ذكر المفسرون في تفسير هذه الآية عن ابن عباس، قال: (ما أشبه الليلة بالبارحة، هؤلاء بنو إسرائيل شبهنا بهم) ، قال ابن جريج: ولا أعلم إلا أن فيه "والذي نفسي بيده لتتبعنهم" وعن أبي هريرة، قال: (الخلاق كذلك) ، رواه ابن أبي حاتم. وعن زيد بن أسلم، قال: (الخوض مما يتكلمون به من الباطل، وما يخوضون فيه من أذى الله ورسوله، وتكذيبهم إياه) ، رواه ابن أبي حاتم; وروي عن ابن عباس: (نصيبهم من الآخرة في الدنيا) . وقال آخرون: نصيبهم من الدين; قال أهل اللغة: الخلاق هو النصيب، والحظ، كأنه مخلوق للإنسان إلى ما قدر له، كما يقال القسم لما قسم له، والنصيب لما نصب   1 سورة التوبة آية: 69. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 133 له، أي: ما ثبت; ومنه قوله تعالى: {وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ} 1 أي من نصيب، والآية تعم ما ذكره العلماء جميعهم. فإنه سبحانه قال: {كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً وَأَوْلاداً} 2، فتلك القوة التي كانت لهم، كانوا مستطيعين أن يعملوا بها للدنيا والآخرة، وكذلك أموالهم وأولادهم، وتلك القوة والأموال والأولاد، هو الخلاق، فاستمتعوا بقوتهم، وأموالهم، وأولادهم في الدنيا، ونفس الأعمال التي عملوها بهذه القوة، والأموال هي نصيبهم؛ وتلك الأعمال، لو أرادوا بها الله والدار الآخرة، لكان لهم ثواب في الآخرة عليها، فتمتعهم بها أخذ منهم العاجل بها؛ فدخل بهذا من لم يعمل إلا لدنياه، سواء كان جنس العمل من العبادات أو غيرها. وجمع سبحانه بين الاستمتاع بالخلاق، وبين الخوض، لأن فساد الدنيا إما أن يقع بالاعتقاد الباطل، والتكلم به، أو يقع في العمل بخلاف الاعتقاد الحق إلا البدع ونحوها، والثاني من جهة الشهوات؛ ولهذا كان السلف يقولون: احذروا من الناس صنفين، صاحب هوى قد فتنه هواه، وصاحب دنيا قد أعمته دنياه; وعن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: (أنتم أشبه الأمم ببني إسرائيل سمتا وهديا، وتتبعون عملهم حذو القذة بالقذة، غير أني لا أدري أتعبدون العجل أم لا) .   1 سورة البقرة آية: 200. 2 سورة التوبة آية: 69. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 134 وقد أخرج أبو عيسى الترمذي في جامعه، من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ليأتين على أمتي ما أتى على بني إسرائيل، حذو النعل بالنعل، حتى إن كان منهم من أتى أمه علانية، كان من أمتي من يصنع ذلك. وإن بني إسرائيل تفترق على اثنتين وسبعين ملة، فستفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة؛ كلهم في النار إلا ملة واحدة. قالوا: من هي يا رسول الله الناجية؟ قال: ما أنا عليه اليوم وأصحابي " 1.قال أبو عيسى: هذا حديت غريب منكر، لا نعرفه إلا من هذا الوجه; وهذا الافتراق مشهور عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة، وسعد، ومعاوية، وعمرو بن عدي. فانظر رحمك الله إلى ما تضمن هذا الحديث وغيره من الأحاديث، من إخباره بسلوك أمته سلوك الأمم قبلها، وتفرقها على ثلاث وسبعين ملة، وأن الناجية ملة واحدة، ثم وصفها لما سألوه عنها، بأنها ما كان على مثل ما كان عليه هو وأصحابه؛ فصلوات الله وسلامه على من بلغ البلاغ المبين. وما أحسن ما قال بعضهم: يا باغي الإحسان يطلب ربه ... ليفوز منه بغاية الآمال انظر إلى هدي الصحابة والذي ... كانوا عليه في الزمان الخالي فصل: [هل يستتاب من تكلم بكلمة الشرك] وأما قولكم: هل يستتاب من تكلم بكلمة الشرك أم لا؟ فالذي عليه أكثر أهل العلم: أن المرتد يستتاب، فإن تاب وإلا قتل; وعند بعضهم: أن المرتد   1 الترمذي: الإيمان (2641) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 135 يقتل من غير استتابة; والصحيح: الأول، لحديث أم مروان، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر باستتابتها. وفي الموطأ: أن "عمر رضي الله عنه لما بلغه أن رجلا كفر بعد إسلامه، فقتل من غير استتابة، فقال عمر: فهلا حبستموه ثلاثا، وأطعمتموه كل يوم رغيفا، واستتبتموه لعله يتوب، ويراجع أمر الله. اللهم لم أحضر، ولم آمر، ولم أرض إذ بلغني". والله أعلم. فصل: [معنى حديث "الإسلام يهدم ما قبله"] وأما السؤال الثالث، وهو قولكم ورد: " الإسلام يهدم ما قبله " 1،وفي رواية " يجُبُّ ما قبله "، وفي حديث حجة الوداع: " ألا إن دم الجاهلية كله موضوع " 2 إلخ، وظهر لنا من جوابكم: أن المؤمن بالله ورسوله إذا قال أو فعل ما يكون كفرا، جهلا منه بذلك، فلا تكفرونه، حتى تقوم عليه الحجة الرسالية، فهل لو قتل من هذا حاله، قبل ظهور هذه الدعوة، موضوع أم لا؟ فنقول: إذا كان يعمل بالكفر والشرك، لجهله، أو عدم من ينبهه، لا نحكم بكفره حتى تقام عليه الحجة؛ ولكن لا نحكم بأنه مسلم، بل نقول عمله هذا كفر، يبيح المال والدم، وإن كنا لا نحكم على هذا الشخص، لعدم قيام الحجة عليه؛ لا يقال: إن لم يكن كافرا، فهو مسلم، بل نقول عمله عمل الكفار، وإطلاق الحكم على هذا الشخص بعينه، متوقف على بلوغ الحجة الرسالية. وقد   1 مسلم: الإيمان (121) , وأحمد (4/204) . 2 الترمذي: تفسير القرآن (3087) , وابن ماجه: المناسك (3055) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 136 ذكر أهل العلم: أن أصحاب الفترات، يمتحنون يوم القيامة في العرصات، ولم يجعلوا حكمه حكم الكفار، ولا حكم الأبرار. وأما حكم هذا الشخص إذا قتل، ثم أسلم قاتله، فإنا لا نحكم بديته على قاتله إذا أسلم، بل نقول: الإسلام يجُبّ ما قبله، لأن القاتل قتله في حال كفره؛ والله سبحانه وتعالى أعلم. وأما كلام أسعد، على قوله تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} 1، أنه الإيمان اللغوي الشرعي، فهو مصيب في ذلك؛ وقد ذكر المفسرون: أن معنى قوله {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} 2 أن إيمانهم: إقرارهم بأن الله هو الخالق الرازق المدبر، ثم هم مع هذا الإيمان بتوحيد الربوبية، مشركون بالله في العبادة. ومعلوم: أن مشركي العرب وغيرهم، يؤمنون بأن الله رب كل شيء، وهو يجير ولا يجار عليه، ولم تنفعهم هذه الاعتقادات، حيث عبدوا مع الله غيره، وأشركوا معه؛ بل تجد الرجل يؤمن بالله ورسوله، وملائكته وكتبه ورسله، وبالبعث بعد الموت، فإذا فعل نوعا من المكفرات، حكم أهل العلم بكفره وقتله، ولم ينفعه ما معه من الإيمان.   1 سورة يوسف آية: 106. 2 سورة يوسف آية: 106. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 137 وقد ذكر الفقهاء من أهل كل مذهب باب حكم المرتد، وهو الذي يكفر بعد إسلامه، ثم ذكروا أنواعا كثيرة، من فعل واحدا منها كفر؛ وإذا تأملت ما ذكرناه، تبين لك أن الإيمان الشرعي، لا يجامع الكفر، بخلاف الإيمان اللغوي، والله أعلم. وأما قولكم: وهل ينفع هذا المؤمن المذكور، ما معه من أعمال البر، وأفعال الخير، قبل تحقيق التوحيد؟ فيقال: لا يطلق على الرجل المذكور اسم الإسلام، فضلا عن الإيمان; بل يقال: الرجل الذي يفعل الكفر، أو يعتقده في حال جهله، وعدم من ينبهه، إذا فعل شيئا من أفعال البر، وأفعال الخير، أثابه الله على ذلك، إذا صحح إسلامه وحقق توحيده، كما يدل عليه حديث حكيم بن حزام: "أسلمت على ما أسلفت من خير". وأما الحج الذي فعله في تلك الحالة، فلا نحكم ببراءة ذمته، بل نأمره بإعادة الحج، لأنا لا نحكم بإسلامه في تلك الحالة، والحج من شرط صحته الإسلام؛ فكيف نحكم بصحة حجه وهو يفعل الكفر، أو يعتقده؟ ولكنا لا نكفره إلا بعد قيام الحجة عليه، فإذا قامت عليه الحجة وسلك سبيل المحجة، أمرناه بإعادة الحج، ليسقط الفرض عنه بيقين. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 138 وأما ما ذكرته عن السيوطي: أن الردة لا تتبعض إذا لم تتصل بالموت، فهي مسألة اختلف العلماء فيها، وليست من هذا الباب، لأن كلام السيوطي فيمن فعل شيئا من الأعمال في حال إسلامه، ثم ارتد، ثم أسلم، هل يعيد ما فعله قبل ردته، لأنه قد حبط بالردة أم لا؟ لأن الردة لا تحبط العمل إلا بالموت عليها. [إذا أحب الدين ولم يُعادِ المشركين] وقال الشيخ حسين، والشيخ عبد الله، ابنا الشيخ محمد، رحمهم الله تعالى، في أثناء جواب لهما 1: المسألة الحادية عشرة: رجل دخل هذا الدين وأحبه، ولكن لا يعادي المشركين، أو عاداهم ولم يكفرهم، أو قال: أنا مسلم، ولكن لا أقدر أن أكفّر أهل لا إله إلا الله، ولو لم يعرفوا معناها، ورجل دخل هذا الدين وأحبه، ولكن يقول: لا أتعرض للقباب، وأعلم أنها لا تنفع ولا تضر، ولكن ما أتعرضها. الجواب: أن الرجل لا يكون مسلما، إلا إذا عرف التوحيد ودان به، وعمل بموجبه، وصدق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما أخبر به، وأطاعه فيما نهى عنه، وأمر به، وآمن به وبما جاء به; فمن قال: لا أعادي المشركين، أو عاداهم ولم يكفرهم، أو قال: لا أتعرض أهل لا إله إلا الله، ولو فعلوا   1 في مجموعة الرسائل النجدية صفحة: 38/ك/1. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 139 الكفر والشرك وعادوا دين الله، أو قال لا أتعرض للقباب، فهذا لا يكون مسلما، بل هو ممن قال الله فيهم: {وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً} 1. والله سبحانه وتعالى: أوجب معاداة المشركين، ومنابذتهم، وتكفيرهم، فقال: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} 2، الآية وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ} 3 الآيات؛ والله أعلم. المسألة الثانية عشرة: رجل دخل الدين وأحبه، ويحب من دخل فيه، ويبغض الشرك وأهله، ولكن أهل بلده يصرحون بعداوة أهل الإسلام، ويقاتلون أهله، ويعتذر أن ترك الوطن يشق عليه، ولم يهاجر عنهم، فهل يكون مسلما أو كافرا؟ وهل يعذر بعدم الهجرة؟ الجواب: أما الرجل الذي عرف التوحيد وآمن به، وأحبه وأحب أهله، وعرف الشرك وأبغضه، وأبغض أهله، ولكن أهل بلده على الكفر والشرك، ولم يهاجر، فهذا فيه تفصيل: فإن كان يقدر على إظهار دينه عندهم، ويتبرأ مما   1 سورة آية: 150-151. 2 سورة المجادلة آية: 22. 3 سورة الممتحنة آية: 1. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 140 هم عليه من الكفر والشرك، ويظهر لهم كفرهم وعداوتهم، ولا يفتنونه عن دينه، لأجل عشيرته أو ماله، أو غير ذلك، فهذا لا يحكم بكفره. ولكنه إذا قدر على الهجرة ولم يهاجر، ومات بين أظهر المشركين، فيخاف عليه أن يكون قد دخل في أهل هذه الآية: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً} 1 الآية؛ فلم يعذر الله إلا من لم يستطع حيلة ولا يهتدي سبيلا؛ ولكن قل أن يوجد اليوم من هو كذلك، إلا أن يشاء الله; بل الغالب: أن المشركين لا يدعونه بين أظهرهم، بل إما قتلوه، وإما أخرجوه إن وجدوا إلى ذلك سبيلا. وأما إن لم يكن له عذر، وجلس بين أظهرهم، وأظهر لهم أنه منهم، وأن دينهم حق، ودين الإسلام باطل، فهذا كافر مرتد، ولو عرف الدين بقلبه، لأنه يمنعه عن الهجرة محبة الدنيا على الآخرة، ويتكلم بكلام الكفر من غير إكراه، فدخل في قوله تعالى: {وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} 2.   1 سورة النساء آية: 97. 2 سورة النحل آية: 106. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 141 المسألة الثالثة عشرة: فيمن مات قبل هذه الدعوة، ولم يدرك الإسلام، وهذه الأفعال التي يفعلها الناس اليوم يفعلها، ولم تقم عليه الحجة، ما الحكم فيه؟ وهل يلعن أو يسب، أو يكف عنه؟ وهل يجوز لابنه الدعاء له؟ وما الفرق بين من لم يدرك هذه الدعوة، وبين من أدركها ومات معاديا لهذا الدين وأهله؟ الجواب: من مات من أهل الشرك، قبل بلوغ هذه الدعوة، فالذي يحكم عليه: أنه إذا كان معروفا بفعل الشرك، ويدين به، ومات على ذلك، فهذا ظاهره أنه مات على الكفر، ولا يدعى له، ولا يضحى له، ولا يتصدق عنه؛ وأما حقيقة أمره، فإلى الله تعالى، فإن كان قد قامت عليه الحجة في حياته وعاند، فهذا كافر في الظاهر والباطن، وإن كان لم تقم عليه الحجة فأمره إلى الله تعالى. وأما سبه ولعنه فلا يجوز، بل لا يجوز سب الأموات مطلقا، كما في صحيح البخاري، عن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تسبوا الأموات، فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا " 1، إلا إن كان أحدا من أئمة الكفر، وقد اغتر الناس به، فلا بأس بسبه إذا كان فيه مصلحة دينية، والله أعلم. المسألة الرابعة عشرة: فيمن أنكر الصفات التي   1 البخاري: الجنائز (1393) والرقاق (6516) , والنسائي: الجنائز (1936) , وأحمد (6/180) , والدارمي: السير (2511) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 142 وصف الله بها نفسه في كتابه، مثل {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} 1، ثم يقول: يد الله قدرته، أو يؤوِّل الاستواء بالاستيلاء، أو يقول: الله في كل مكان، لا يخلو منه مكان، فهل هذا كافر أم لا؟ الجواب: أن من اعتقد هذا الاعتقاد، فهو مبتدع ضال جاهل، قد خالف العقيدة السلفية، التي درج عليها النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، والتابعون لهم بإحسان، كالأئمة الأربعة، ومن اتبعهم من العلماء; وأما التكفير بذلك، فلا يحكم بكفره إلا إذا عرف أن عقيدته هذه، مخالفة لما عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، والتابعون لهم بإحسان، والله أعلم. المسألة الخامسة عشرة: فيمن عاهد على الإسلام والسمع والطاعة والمعاداة والموالاة، ولم يف بما عاهد عليه من الموالاة والمعاداة، ولا تبرأ من دينه الأول، ويدعي أن آباءه ماتوا على الإسلام، فهل يكون مرتدا؟ وهل يحل أخذ ماله وسبيه إن لم يرجع؟ الجواب: إن هذا الرجل، إن اعتقد أن آباءه ماتوا على الإسلام، ولم يفعلوا الشرك الذي نهينا الناس عنه، فإنه لا يحكم بكفره؛ وإن كان مراده أن هذا الشرك الذي نهينا الناس عنه، هو دين الإسلام، فهذا كافر؛ فإن كان قد أسلم فهو مرتد، يجب أن يستتاب، فإن تاب وإلا قتل،   1 سورة الفتح آية: 10. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 143 وصار ماله فيئا للمسلمين، وإن تاب قبل موته أحرز ماله، والله أعلم. وقالا: المسألة الثامنة عشرة: في بلد بلغتهم هذه الدعوة، وبعضهم يقول: هذا الأمر حق ولا أغير منكرا، ولا آمر بمعروف، ولا أعادي، ولا أوالي، ولا أقر أنه قبل هذه الدعوة على ضلال، وينكر على الموحدين، إذا قالوا: تبرأنا من دين الآباء والأجداد; وبعضهم يكفر المسلمين جهارا، أو يسب هذا الدين، ويقول: دين مسيلمة; والذي يقول: هذا أمر زين، لا يمكنه أن يقوله جهارا؛ فما تقولون في هذه البلدة، على هذه الحالة، مسلمون أم كفار؟ وما معنى قول الشيخ وغيره: إنا لا نكفّر بالعموم؟ وما معنى العموم من الخصوص إلخ؟ الجواب: إن أهل هذه البلدة المذكورين، إذا كانوا قد قامت عليهم الحجة، التي يكفر من خالفها، حكمهم حكم الكفار، والمسلم الذي بين أظهرهم، ولا يمكنه إظهار دينه، تجب عليه الهجرة، إذا لم يكن ممن عذر الله، فإن لم يهاجر فحكمه حكمهم، في القتل وأخذ المال؛ والسامعون كلام الشيخ، في قوله: إنا لا نكفر بالعموم، فالفرق بين العموم والخصوص ظاهر. فالتكفير بالعموم: أن يكفر الناس كلهم عالمهم وجاهلهم، ومن قامت عليه الحجة ومن لم تقم عليه; وأما الجزء: 10 ¦ الصفحة: 144 التكفير بالخصوص، فهو: أن لا يكفر إلا من قامت عليه الحجة بالرسالة، التي يكفر من خالفها؛ وقد يحكم بأن أهل هذه القرية كفار، حكمهم حكم الكفار، ولا يحكم بأن كل فرد منهم كافر بعينه، لأنه يحتمل أن يكون منهم من هو على الإسلام، معذور في ترك الهجرة، أو يظهر دينه ولا يعلمه المسلمون، كما قال تعالى في أهل مكة، في حال كفرهم: {وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَأُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ} 1 الآية، وقال تعالى: {وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا} 2 الآية. وفي الصحيح: عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: (كنت أنا وأمي من المستضعفين) . وأما أهل القرية الذين عاهدوا على الإسلام، ولم يهدموا القباب، ولم يعادوا، ولم يوالوا، وفيهم رجلان أو ثلاثة يدعون التوحيد. فاعلم رحمك الله: أن مجرد العهد على الإسلام، لا يكون الرجل به مسلما، حتى يعمل بما عاهد عليه، من توحيد الله، والتبري من الشرك وأهله، وإقامة الصلوات الخمس في أوقاتها، بشروطها وأركانها، وأداء الزكاة المفروضة، والإيمان بجميع ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم؛ وإذا   1 سورة الفتح آية: 25. 2 سورة النساء آية: 75. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 145 عاهد على الإسلام ولم يعمل به، واستمر على الشرك بالله، فإنه يكون مرتدا عن الإسلام، وذنبه أعظم من ذنب الكافر الأصلي، الذي لم يعاهد قط، ولم يظهر الإسلام. ولهذا ثبت في الصحيحين وغيرهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من بدل دينه فاقتلوه " 1 وفي الصحيح: أن معاذا لما قدم من اليمن، وجد رجلا عند أبي موسى، موثقا في الحديد، فقال: ما هذا؟ قال: رجع بعد إسلامه; فقال: لا أجلس حتى يقتل، قضاء الله ورسوله; فأمر به فقتل. المسألة التاسعة عشرة: ما قولكم في قول: سيدي فلان؟ ومخدومنا فلان؟ وكما في "الدلائل": سيدنا ومولانا محمد صلى الله عليه وسلم؟ هل يكون شركا؟ وبعض المطاوعة جوزوا هذه الألفاظ، وتركوا كتاب رب العالمين، وجعلوا درسهم "دلائل الخيرات". الجواب: إن قول: سيدي ونحوه، إن قصد به أن ذلك الرجل معبوده، الذي يدعوه عند الشدائد، لتفريج الكربات، وإغاثة اللهفات، فإن ذلك شرك أكبر; وأما إن كان مراده غير ذلك، كما يقول التلميذ لشيخه: سيدي، ويقال للأمير والشريف، أو لمن كان من أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا سيد، فهذا لا بأس به، ولكن لا يجعل عادة وسنة، بحيث لا يتكلم إلا به؛ وثبت: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " أنا سيد ولد آدم " 2،وقال في الحسن   1 البخاري: الجهاد والسير (3017) , والترمذي: الحدود (1458) , والنسائي: تحريم الدم (4059 ,4060 ,4061 ,4062 ,4064 ,4065) , وأبو داود: الحدود (4351) , وابن ماجه: الحدود (2535) , وأحمد (1/217 ,1/282 ,1/322) . 2 مسلم: الفضائل (2278) , وأحمد (2/540) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 146 " إن ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين " 1. وأما قول صاحب "دلائل الخيرات": اللهم صل على سيدنا ومولانا محمد، فلا ينبغي جعل ذلك عادة وسنة، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم أمته، كيف يصلون عليه، ولم يذكر ذلك الكلام فيه 2. وقالا أيضا: المسألة الثانية والعشرون، في رجل أظهر الإسلام في بلده، ووالى وعادى في بلده، وأمير البلد ما خالف عليه، وأيده وصدقه، فهل يكون هذا مسلم أم لا؟ ولا بقي في بلده وثن أبدا، ويأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر حد الاستطاعة؟ الجواب: هذا الرجل، إذا أظهر إسلامه في بلده، ووالى وعادى في بلده، وأمير بلده لم يخالف عليه، بل أيده وصدقه، فهذا مسلم، لأنه قد عمل بدين الإسلام، وفعل ما يقدر عليه. المسألة الثالثة والعشرون: إن صاحب البردة وغيره، ممن يوجد الشرك في كلامه، والغلو في الدين، وماتوا، لا يحكم بكفرهم، وإنما الواجب إنكار هذا الكلام، وبيان   1 البخاري: الصلح (2704) والمناقب (3629 ,3746) والفتن (7109) , والنسائي: الجمعة (1410) , وأحمد (5/44) . 2 وتقدمت: المسألة العشرون والحادية والعشرون, في الجزء الخامس صفحة 141 وصفحة 410 لمناسبتهما هناك. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 147 أن من اعتقد هذا على الظاهر، فهو مشرك كافر; وأما القائل: فيرد أمره إلى الله سبحانه، ولا ينبغي التعرض للأموات، لأنه لا يعلم هل تابوا أم لا. وأما شعر ابن الفارض: فإنه كفر صريح، لأنه شاعر الاتحادية، الذين لا يفرقون بين العابد والمعبود، والرب والمربوب، بل يقول بوحدة الوجود، وهو من طائفة ابن عربي، الذي قال فيهم ابن المقري الشافعي: من شك في كفر طائفة ابن عربي، فهو كافر; والله أعلم، وصلى الله على محمد، وآله وصحبه وسلم. وسئلا أيضا: عن الحلف بغير الله، مثل الحلف بالنبي والولي، أو رأس فلان، أو تربة فلان، هل يكون شركا؟ أو مكروها؟ فأجابا: الحلف بغير الله من أنواع الشرك الأصغر، وقد يكون شركا أكبر، بحسب حال قائله ومقصده; والكفر والشرك أنواع، منها ما لا يخرج عن الملة، كما قال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} 1 قال: (كفر دون كفر، وظلم دون ظلم، وفسق دون فسق) . فإذا حلف بغير الله جاهلا أو ناسيا، فليستغفر الله، وليقل: لا إله إلا الله، كما ثبت في صحيح البخاري: أن   1 سورة المائدة آية: 44. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 148 النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من حلف فقال في حلفه: واللات والعزى، فليقل لا إله إلا الله " 1. [الفصول النافعة في المكفرات الواقعة] وقال أيضا: شيخ الإسلام، الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب، أسكنهما الله الفردوس الأعلى: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له; وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، الذي بعثه رحمة للعالمين، وحجة على المعاندين، الذي أكمل الله به الدين، وختم به الأنبياء والمرسلين، صلى الله عليه، وعلى آله وأصحابه، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فهذه فصول وكلمات، نقلتها من كلام العلماء المجتهدين، أصحاب الأئمة الأربعة، الذين هم أئمة أهل السنة والدين، في بيان بعض الأفعال والأقوال المكفرة للمسلم، المخرجة له من الدين، وأن تلفظه بالشهادتين، وانتسابه إلى الإسلام، وعمله ببعض شرائع الدين، لا يمنع من تكفيره وقتله، وإلحاقه   1 البخاري: تفسير القرآن (4860) , ومسلم: الأيمان (1647) , والترمذي: النذور والأيمان (1545) , والنسائي: الأيمان والنذور (3775) , وأبو داود: الأيمان والنذور (3247) , وابن ماجه: الكفارات (2096) , وأحمد (2/309) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 149 بالمرتدين. 1. والسبب الحامل على ذلك: أن بعض من ينتسب إلى العلم والفقه، من أهل هذا الزمان، غلط في ذلك غلطا فاحشا قبيحا، وأنكر على من أفتى به، من أهل العلم والدين، إنكارا شنيعا؛ ولم يكن لهم بإنكار ذلك مستند صحيح، لا من كلام الله ولا من كلام رسوله، ولا من كلام أئمة العلم والدين، إلا أنه خلاف عاداتهم وأسلافهم؛ عياذا بالله من الجهل والخذلان، والتعصب. وأذكر من ذلك ما مست إليه الحاجة، وغلط فيه من غلط، من المنسوبين إلى العلم في هذا الزمان، الذين غلبت عليهم الشقاوة، والجهل والتعصب والخذلان، لما جبلوا عليه من مخالفة الكتاب والسنة، وعمل السلف، والأئمة المهديين، وحب الرياسة، وشهوات الدنيا، والطمع فيما في أيدي الناس، والفسقة المعاندين؛ نسأل الله أن يوفقنا لما يرضاه، من العمل، ويجنبنا لما يسخطه من الزلل، إنه لا يخيب من رجاه، ولا يرد سؤال من دعاه. فنقول - وبالله التوفيق -: اعلم أن هذه المسائل من   1 ويلاحظ القارئ توافق بعض ما فيها, مع ما في رسالة الشيخ محمد المتقدمة في الجزء التاسع, وكذلك بعض ما في رسالة الشيخ عبد اللطيف في الجزء الأول من النقول, فيستدل به على الاتفاق في المنهج وحسن الاختيار وغير ذلك. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 150 أهم ما ينبغي للمؤمن الاعتناء بها، لئلا يقع في شيء منها وهو لا يشعر، وليتبين له الإسلام والكفر، حتى يتبين له الخطأ من الصواب، ويكون على بصيرة في دين الله، ولا يغتر بأهل الجهل والارتياب؛ وإن كانوا هم الأكثرين عددا، فهم الأقلون عند الله، وعند رسوله والمؤمنين قدرا. وقد اعتنى العلماء رضي الله عنهم بذلك في كتبهم، وبوبوا لذلك في كتب الفقه، في كل مذهب من المذاهب الأربعة، وهو: باب حكم المرتد وهو: المسلم الذي يكفر بعد إسلامه، وذكروا أنواعا كثيرة، كل نوع منها يكفر به المسلم، ويبيح دمه وماله. وسأذكر - إن شاء الله تعالى - من ذلك ما يكفي ويشفي، لمن هداه الله وألهمه رشده، وأجعل كلام كل طائفة من أتباع الأئمة الأربعة - أبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد - على حدة، ليسهل ذلك على من أراد الاطلاع عليه. ونبدأ بكلام في الشرك الأكبر، وتكفيرهم لأهله، حين وقع في زمانهم، من بعض المنتسبين إلى الإسلام والسنة، لأنه هو المهم. فنقول: أما كلام الشافعية، فقال ابن حجر، في كتاب "الزواجر عن اقتراف الكبائر": الكبيرة الأولى: الكفر والشرك، أعاذنا الله منه; ولما كان الكفر أعظم الذنوب، كان أحق أن يبسط الكلام عليه، وعلى أحكامه، قال الله الجزء: 10 ¦ الصفحة: 151 تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} 1،وقال تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} 2، وقال تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} 3. وفي الصحيح: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وكان متكئا فجلس، فقال: ألا وقول الزور، ألا وشهادة الزور. فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت " 4 ثم ذكر أحاديث كثيرة. ثم قال: تنبيهات، منها: بيان الشرك، وذكر جملة من أنواعه، لكثرة وقوعها في الناس، وعلى ألسنة العامة، من غير أن يعلموا أنها كذلك؛ فإذا بانت لهم فلعلهم أن يجتنبوها، لئلا تحبط أعمال مرتكبي ذلك، ويخلدون في أعظم العذاب، وأشد العذاب; ومعرفة ذلك أمر مهم جدا. فإن من ارتكب مكفرا تحبط جميع أعماله، ويجب عليه قضاء الواجب منها، عند جماعة من الأئمة، كأبي حنيفة، ومع ذلك فقد توسع أصحابه في المكفرات، وعدوا منها جملا مستكثرة جدا، وبالغوا في ذلك أكثر من بقية أئمة المذاهب؛ هذا مع قولهم: إن الردة تحبط جميع الأعمال، وبأن من ارتد بانت منه زوجته، وحرمت عليه، فمع هذا التشديد، بالغوا في الاتساع في المكفرات.   1 سورة النساء آية: 48. 2 سورة لقمان آية: 13. 3 سورة المائدة آية: 72. 4 البخاري: الشهادات (2654) والأدب (5976) , ومسلم: الإيمان (87) , والترمذي: البر والصلة (1901) والشهادات (2301) وتفسير القرآن (3019) , وأحمد (5/36 ,5/38) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 152 فتعين على كل ذي مسكة في دينه: أن يعرف ما قالوه، حتى يجتنبه، ولا يقع فيه فيحبط عمله، ويلزمه قضاؤه، وتبين منه زوجته عند هؤلاء الأئمة؛ بل عند الشافعي رحمه الله: أن الردة وإن لم تحبط العمل، لكنها تحبط ثوابه، فلم يبق الخلاف بينه وبين غيره، إلا في القضاء فقط; ثم ذكر أنواع الكفر نوعا نوعا؛ وسيأتي بقية كلامه إن شاء الله تعالى في ذلك. لكن تأمل - رحمك الله - قوله: لكثرة وقوعها في الناس على ألسنة العامة، من غير أن يعلموا أنها كذلك، وأن الشرك والردة قد وقع فيه كثير من أهل زمانه، يتبين لك مصداق ما قلنا، إن شاء الله تعالى. وقال النووي في شرح مسلم: وأما الذبح لغير الله، فالمراد به: أن يذبح باسم غير الله، كمن ذبح للصنم، أو للصليب، أو لموسى، أو عيسى، أو للكعبة ونحو ذلك؛ وكل هذا حرام، ولا تحل هذه الذبيحة، سواء كان الذابح مسلما، أو نصرانيا، أو يهوديا، نص عليه الشافعي، واتفق عليه أصحابنا؛ فإن قصد مع ذلك تعظيم المذبوح له غير الله، والعبادة له، كان ذلك كفرا، فإن كان الذابح قبل ذلك مسلما، صار بالذبح مرتدا، انتهى. فتأمل قوله: فإن قصد مع ذلك ... إلخ، تجده صريحا: في أن المسلم إذا قصد بالذبح لغير الله تعظيم الجزء: 10 ¦ الصفحة: 153 المذبوح له غير الله والعبادة، أنه يصير كافرا مرتدا، والله أعلم. وأما كلام الحنفية: فقال في كتاب "تبيين المحارم"، المذكورة في القرآن: "باب الكفر" وهو الستر وجحود الحق، وإنكاره، وهو أول ما ذكر في القرآن العظيم من المعاصي، قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} 1. وهو أكبر الكبائر على الإطلاق، فلا كبيرة فوق الكفر إلى أن قال: واعلم أن ما يلزم به الكفر أنواع: نوع يتعلق بالله سبحانه، ونوع يتعلق بالقرآن، وسائر الكتب المنَزلة، ونوع يتعلق بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم وسائر الأنبياء، والملائكة، والعلماء، ونوع يتعلق بالأحكام. فأما ما يتعلق بالله سبحانه، إذا وصف الله سبحانه بما لا يليق به، بأن شبه الله سبحانه بشيء من المخلوقات، أو نفى صفاته، أو قال بالحلول والاتحاد، أو معه قديم غيره، أو معه مدبر مستقل غيره، أو اعتقد أنه سبحانه جسم، أو محدث، أو غير حي، أو اعتقد أنه لا يعلم الجزئيات، أو كفر باسم من أسمائه، أو أمر من أمره، أو وعيده أو وعده، أو أنكرهما، أو سجد لغير الله،   1 سورة البقرة آية: 6. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 154 أو سب الله سبحانه، أو ادعى أن له ولدا، أو صاحبة، أو أنه متولد من شيء كائن عنه، أو أشرك بعبادته شيئا من خلقه، أو افترى على الله سبحانه وتعالى الكذب، بادعاء الإلهية أو الرسالة، أو نفى أن يكون خالقه ربه، وقال: ليس لي ربا، أو قال لذرة من الذرات: هذه خلقت عبثا وهملا، وما أشبه ذلك مما لا يليق به سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا. يكفر في هذه الوجوه كلها بالإجماع، سواء فعله عمدا أو هزلا؛ ويقتل إن أصر على ذلك، وإن تاب، تاب الله عليه، وسلم من القتل. انتهى كلامه بحروفه. فتأمل رحمك الله تصريحه بأن من أشرك في عبادة الله غيره، أنه يكفر بالإجماع، ويقتل إن أصر على ذلك. والعبادة التي لا تصلح إلا لله، ولا يجوز أن يشرك معه فيها غيره، أنواع: منها: الدعاء لجلب خير، أو دفع ضر، قال الله تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} 1، وقال تعالى: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} 2، وقال {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ} 3، الآية وقال تعالى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} 4.   1 سورة الجن آية: 18. 2 سورة غافر آية: 60. 3 سورة الرعد آية: 14. 4 سورة الشرح آية: 7. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 155 وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لابن عباس " إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله " 1. ومن أنواع العبادة: الصلاة، فلا يصلى إلا لله، ولا يسجد ولا يركع إلا لله وحده، قال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ} 2، الآية وقال تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} 3. ومن أنواع العبادة: النسك وهو الذبح، فلا يجوز أن يتقرب العبد بالذبح لأحد سوى الله تعالى، قال الله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ} 4 الآية، وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} 5 أي: أخلص لربك الصلاة والنحر، بلا شريك له في ذلك، وقال النبي: صلى الله عليه وسلم " لعن الله من ذبح لغير الله " 6. وقد قرن الله بين هاتين العبادتين: الصلاة والنسك، في هاتين الآيتين؛ فإذا كان من صلى لغير الله، أو ركع لغير الله، أو سجد لغير الله، فقد أشرك في عبادة الله غيره، فكذلك من ذبح القربان لغير الله، فقد أشرك في عبادة الله غيره. ومن أنواع العبادة أيضا: الخشية؛ فلا تجوز الخشية إلا لله وحده، قال الله تعالى: {فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} 7،   1 الترمذي: صفة القيامة والرقائق والورع (2516) , وأحمد (1/293 ,1/303 ,1/307) . 2 سورة آية: 162. 3 سورة الكوثر آية: 2. 4 سورة آية: 162. 5 سورة الكوثر آية: 2. 6 مسلم: الأضاحي (1978) , والنسائي: الضحايا (4422) , وأحمد (1/108 ,1/118 ,1/152) . 7 سورة المائدة آية: 44. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 156 وقال تعالى: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} 1، وقال تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} 2، فجعل الطاعة لله ولرسوله، وجعل الخشية والتقوى لله وحده. ومن أنواع العبادة: التوكل، وهو إسناد العبد أمره إلى الله تعالى وحده لا شريك له، في جميع أموره الدينية والدنيوية، قال الله تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} 3، {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} 4؛ فمن توكل على غير الله، فقد أشرك في عبادة الله غيره. ومن أنواع العبادة: الاستعانة، قال الله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} 5، وقال تعالى: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} 6 وقال النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس: " إذا استعنت فاستعن بالله " 7؛ فمن استعان بغير الله، فقد أشرك في عبادة الله غيره. ومن أنواع العبادة: النذر، فلا ينذر إلا لله وحده، قال الله تعالى: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ} 8،وقال تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً} 9 وقال النبي صلى الله عليه وسلم:" من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن   1 سورة آل عمران آية: 175. 2 سورة النور آية: 52. 3 سورة آل عمران آية: 122. 4 سورة المائدة آية: 23. 5 سورة الفاتحة آية: 5. 6 سورة هود آية: 123. 7 الترمذي: صفة القيامة والرقائق والورع (2516) , وأحمد (1/293 ,1/303 ,1/307) . 8 سورة البقرة آية: 270. 9 سورة الإنسان آية: 7. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 157 يعصي الله فلا يعصه " 1. والحاصل: أن العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه، من أقوال العباد وأفعالهم، مما أمرهم الله به في كتابه، على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم. وقد صرح هذا الحنفي في كتابه الذي قدمته لك: أن من أشرك في عبادة الله غيره، فهو كافر بالإجماع، سواء فعله عمدا أو هزلا، وأنه يقتل إن أصر على ذلك، وإن تاب تاب الله عليه، وسلم من القتل؛ والله أعلم. وذكر أيضا: أن ما يكون فعله كفرا بالاتفاق، إذا فعله مسلم تحبط جميع أعماله، ويلزمه إعادة الحج، ولا يلزمه إعادة الصلاة والصوم، لأنهما يسقطان عن المرتد، ويكون وطؤه امرأته حراما وزنى، وإن أتى بكلمة الشهادة بحكم العادة، ولم يرجع عما قاله، لا يرتفع الكفر؛ والله أعلم. وقال الشيخ قاسم، في شرح الدرر: النذر الذي يقع من أكثر العوام، بأن يأتي إلى قبر بعض الصلحاء، قائلا: يا سيدي فلان، إن رد غائبي، أو عوفي مريضي، أو قضيت حاجتي، فلك من الذهب، أو من الطعام، أو الشمع، كذا، باطل إجماعا، لوجوه: منها: أن النذر للمخلوق لا يجوز، ومنها: أن ذلك كفر، إلى أن قال: وقد ابتلي الناس بذلك، ولا سيما في مولد أحمد البدوي، انتهى؛ فصرح بأن هذا النذر كفر، يكفر به المسلم؛ والله   1 البخاري: الأيمان والنذور (6696 ,6700) , والترمذي: النذور والأيمان (1526) , والنسائي: الأيمان والنذور (3806 ,3807 ,3808) , وأبو داود: الأيمان والنذور (3289) , وابن ماجه: الكفارات (2126) , وأحمد (6/36 ,6/41 ,6/208 ,6/224) , ومالك: النذور والأيمان (1031) , والدارمي: النذور والأيمان (2338) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 158 أعلم. ومن كلام الشافعية أيضا: ما قاله الإمام المحقق، ناصر السنة، شهاب الدين عبد الرحمن بن إسماعيل بن إبراهيم، محدث الشام، المعروف بأبي شامة، في كتابه "الباعث على إنكار البدع والحوادث": ومن هذا: ما قد عم به الابتلاء، من تزيين الشيطان للعامة تخليق الحيطان والعمد، ومواضع مخصوصة في كل بلد، يحكي لهم حاك، أنه رأى في منامه بها أحدا ممن شهر بالصلاح والولاية، فيفعلون ذلك، ويحافظون عليه، مع تضييعهم فرائض الله تعالى وسننه، ويظنون أنهم متقربون بذلك. ثم يتجاوزون ذلك إلى أن يعظم وقع تلك الأماكن في قلوبهم، فيعظمونها ويرجون الشفاء لمرضاهم، وقضاء حوائجهم بالنذر لهم، وهي: ما بين عيون، وشجر، وحائط، وحجر. وفي مدينة دمشق - صانها الله تعالى - مواضع متعددة، كعوينة الحمى خارج باب توما، والعمود المخلق داخل باب الصغير، والشجرة الملعونة اليابسة، خارج باب النصر، في نفس قارعة الطريق، سهل الله قطعها واجتثاثها من أصلها. فما أشبهها بذات أنواط، الواردة في الحديث، الذي رواه محمد بن إسحاق، وسفيان بن عيينة، عن الزهري، عن سنان بن أبي سنان، عن أبي واقد الليثي رضي الله عنه ‘ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 159 قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين، وكانت لقريش شجرة خضراء عظيمة، يأتونها كل سنة، فيعلقون عليها سلاحهم، ويعكفون عندها، ويذبحون لها. وفي رواية: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم قبل حنين، ونحن حديثو عهد بكفر، وللمشركين سدرة يعكفون عليها، وينوطون بها أسلحتهم، يقال لها ذات أنواط، فمررنا بسدرة، فقلنا يا رسول الله; وفي الرواية الأولى: وكانت تسمى ذات أنواط، فمررنا بسدرة، وفي رواية: بشجرة عظيمة خضراء، فتنادينا من جنبتي الطريق، ونحن نسير إلى حنين: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط، كما لهم ذات أنواط. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " الله أكبر! هذا كما قال قوم موسى لموسى {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} 1 لتركبن سنن من كان قبلكم ".وأخرجه الترمذي بلفظ آخر، والمعنى واحد، وقال: هذا حديث حسن صحيح. قال الإمام أبو بكر الطرطوشي، رحمه الله، في كتابه: فانظروا رحمكم الله، أينما وجدتم سدرة أو شجرة يقصدها الناس، ويعظمون من شأنها، ويرجون البرء والشفاء من قبلها، وينوطون بها أسلحتهم، ويضربون عليها المسامير والخرق، فهي ذات أنواط، فاقطعوها.   1 الترمذي: الفتن (2180) , وأحمد (5/218) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 160 قلت: ولقد أعجبني ما صنعه الشيخ أبو إسحاق الجبنياني رحمه الله، أحد الصالحين ببلاد أفريقية، في المائة الرابعة، حكى عنه صاحبه الصالح: أبو عبد الله، محمد بن أبي العباس المؤدب، أنه كان إلى جانبه عين تسمى "عين العافية"، كان العامة قد افتتنوا بها، يأتونها من الآفاق، من تعذر عليها نكاح، أو ولد، قالت: امضوا بي إلى "عين العافية"؛ فتعرف بها الفتنة. قال أبو عبد الله: فإنا في السحر ذات ليلة، إذ سمعت أذان أبي إسحاق نحوها، فخرجت فوجدته قد هدمها، وأذن الصبح عليها، ثم قال: اللهم إني هدمتها لك، فلا ترفع لها رأسا، قال: فما رفع لها رأس إلى الآن. قلت: وأدهى من ذلك وأمر: إقدامهم على قطع الطريق السابلة، يجيزون في أحد الأبواب الثلاثة القديمة العادية، التي هي من بناء الجن، في زمن نبي الله سليمان بن داود عليه السلام، أو من بناء ذي القرنين; وقيل فيها غير ذلك، ما يؤذن بالتقدم على ما نقلناه في كتاب تاريخ مدينة دمشق - حرسها الله تعالى - وهو الباب الشمالي، ذكر لهم بعض من لا يوثق به، في أحد شهور سنة ست وثلاثين وستمائة: أنه رأى مناما، يقتضي أن ذلك المكان، دفن فيه بعض أهل البيت، رضي الله عنهم. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 161 وقد أخبرني عنه ثقة: أنه اعترف له، أنه افتعل ذلك، فقطعوا طريق المارة فيه، وجعلوا الباب بكماله أصل مسجد مغصوب؛ وقد كان الطريق يضيق بسالكيه، فتضاعف الضيق والحرج، على من دخل ومن خرج؛ ضاعف الله عذاب من تسبب في بنائه، وأجزل ثواب من أعان على هدمه، وإزالته وإعدامه، اتباعا لسنة النبي صلى الله عليه وسلم في مسجد الضرار، المرصد لأعدائه من الكفار. قلت: فلم ينظر الشرع إلى كونه مسجدا، وهدمه لما قصد به السوء والردى، وقال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ} 1. أسأل الله الكريم معافاته من كل ما يخالف رضاه، وأن لا يجعلنا ممن أضله فاتخذ إلهه هواه، انتهى. فتأمل رحمك الله: كلام هذا الإمام، وتصريحه بأن الذي تفعله العامة في زمانه، في العمد، والشجر، والمواضع المخصوصة، أنه مثل فعل المشركين بذات أنواط، وكذلك تصريح أبي بكر الطرطوشي، وكان من أئمة المالكية، بأن كل شجرة يقصدها الناس، ويعظمون من شأنها، فهي ذات أنواط. وكذلك تأمل قوله: ولقد أعجبني ما فعل الشيخ أبو   1 سورة التوبة آية: 108. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 162 إسحاق، ببلاد إفريقية في المائة الرابعة، في هدمه تلك العين، التي تسمى "عين العافية" لما رأى الناس يقصدونها، ويتبركون بها، يتبين لك أن الشرك قد حدث في هذه الأمة، من زمان قديم، وأن أهل العلم رضي الله عنهم، ينكرون ذلك أشد الإنكار، ويهدمون ما قدروا عليه مما يفتتن به الناس، وأن هذا مما حدث بعد القرون الثلاثة المفضلة، وأن ذلك ليس من الدين بإجماع أهل العلم، ويجب على من قدر على ذلك إزالته، فويل للأمراء والقضاة، القادرين على إزالته والنهي عنه. وتأمل أيضا: كلام أبي شامة، في المسجد الذي بني على قارعة الطريق، وتمنيه هدمه وإزالته، وتشبيهه إياه بمسجد الضرار؛ وكان أبو شامة رحمه الله في أوائل القرن السابع، ومعلوم أن الأمر لا يزيد إلا شدة، والله أعلم؛ فهذا ما وقفنا عليه من كلام الشافعية، والحنفية، في هذه المسألة. فصل: [كلام الحنابلة في تعظيم القبور] وأما كلام الحنابلة: فقال الإمام أبو الوفاء بن عقيل: لما صعبت التكاليف على الجهال والطغام، عدلوا عن أوضاع الشرع، إلى تعظيم أوضاع وضعوها لأنفسهم، فسهلت عليهم إذ لم يدخلوا بها تحت أمر غيرهم؛ وهم عندي كفار بهذه الأوضاع، مثل تعظيم القبور، وخطاب الموتى بالحوائج، وكتب الرقاع، فيها: يا مولاي افعل بي الجزء: 10 ¦ الصفحة: 163 كذا وكذا، وإلقاء الخرق على الشجر، اقتداء بمن عبد اللات والعزى، انتهى كلامه; فتأمل قوله: وهم عندي كفار بهذه الأوضاع، وتشبيهه إياهم بمن عبد اللات والعزى. وقال الشيخ تقي الدين في "الرسالة السنية"، لما ذكر حديث الخوارج، ومروقهم من الدين، وأمره صلى الله عليه وسلم بقتالهم، قال: فإذا كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه من انتسب إلى الإسلام، من مرق منه مع عبادته العظيمة، فليعلم: أن المنتسب إلى الإسلام والسنة في هذه الأزمان، قد يمرق أيضا من الإسلام، وذلك بأسباب، منها: الغلو الذي ذمه الله في كتابه، حيث قال: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} 1 الآية. وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه حرق الغالية من الرافضة، فأمر بأخاديد خدت لهم عند باب كندة، فقذفهم فيها; واتفق الصحابة على قتلهم، لكن ابن عباس رضي الله عنهما كان مذهبه أن يقتلوا بالسيف بلا تحريق، وهو قول أكثر العلماء، وقصتهم معروفة عند العلماء; وكذلك الغلو في بعض المشايخ، بل الغلو في علي بن أبي طالب، بل الغلو في المسيح ونحوه. فكل من غلا في نبي، أو رجل صالح، وجعل فيه نوعا من الإلهية، مثل أن يقول: يا سيدي فلان انصرني، أو أغثني، أو ارزقني، أو اجبرني، أو أنا في حسبك،   1 سورة النساء آية: 171. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 164 ونحو هذه الأقوال، فكل هذا شرك وضلال، يستتاب صاحبه، فإن تاب وإلا قتل؛ فإن الله إنما أرسل الرسل، وأنزل الكتب، ليعبد وحده، لا يجعل معه إله آخر. والذين يدعون مع الله آلهة أخرى، مثل المسيح، والملائكة، والأصنام، لم يكونوا يعتقدون أنها تخلق الخلائق، أو تنْزل المطر، أو تنبت النبات، وإنما كانوا يعبدونهم، أو يعبدون قبورهم، أو صورهم، ويقولون: إنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى، ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله؛ فبعث الله رسله تنهى أن يدعى أحد من دونه، لا دعاء عبادة ولا دعاء استغاثة. وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} 1 الآية. قال طائفة من السلف: كان أقوام يدعون المسيح وعزيرا والملائكة، فنَزلت فيهم، إلى أن قال: وعبادة الله وحده هي أصل الدين، وهي التوحيد الذي بعث الله به الرسل، وأنزل به الكتب، قال الله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} 2،وقال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} 3.   1 سورة آية: 56-57. 2 سورة النحل آية: 36. 3 سورة الأنبياء آية: 25. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 165 وكان صلى الله عليه وسلم يحقق التوحيد ويعلمه أمته، حتى قال له رجل: ما شاء الله وشئت، قال: "أجعلتني لله ندا؟ بل ما شاء الله وحده"، ونهى عن الحلف بغير الله، وقال: " من حلف بغير الله فقد أشرك " 1،وقال في مرض موته " لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " 2 يحذر ما فعلوا، وقال: " اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد " 3. ولهذا اتفق أئمة الإسلام على أنه لا يشرع بناء المساجد على القبور، والصلاة عندها; وذلك لأن من أكبر أسباب عبادة الأوثان، كان تعظيم القبور، ولهذا اتفق العلماء، على أن من سلم على النبي صلى الله عليه وسلم عند قبره، أنه لا يتمسح بحجرته، ولا يقبلها، لأنه إنما يكون لأركان بيت الله، فلا يشبه بيت المخلوق ببيت الخالق؛ كل هذا لتحقيق التوحيد، الذي هو أصل الدين ورأسه، الذي لا يقبل الله عملا إلا به، ولا يغفر لمن تركه، كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً} 4. ولهذا: كانت كلمة التوحيد أفضل الكلام وأعظمه، فأعظم آية في القرآن: آية الكرسي {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} ، 5 وقال صلى الله عليه وسلم:" من كان آخر كلامه لا إله إلا الله، دخل الجنة " 6. والإله هو الذي يألهه القلب،   1 الترمذي: النذور والأيمان (1535) , وأبو داود: الأيمان والنذور (3251) , وأحمد (2/34 ,2/69 ,2/86 ,2/125) . 2 البخاري: الجنائز (1330) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (531) , والنسائي: المساجد (703) , وأحمد (1/218 ,6/34 ,6/80 ,6/121 ,6/252 ,6/255 ,6/274) , والدارمي: الصلاة (1403) . 3 أحمد (2/246) . 4 سورة النساء آية: 48. 5 سورة البقرة آية: 255. 6 أبو داود: الجنائز (3116) , وأحمد (5/233 ,5/247) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 166 عبادة له، واستعانة به، ورجاء له، وخشية منه، وإجلالا، انتهى كلامه. فتامل أول كلامه وآخره، وتأمل كلامه فيمن دعا نبيا أو وليا، مثل أن يقول: يا سيدي فلان أغثني ونحوه، أنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل، تجده صريحا في تكفير أهل الشرك، وقتلهم بعد الاستتابة، وإقامة الحجة عليهم، وأن من غلا في نبي، أو رجل صالح، وجعل فيه نوعا من الإلهية، فقد اتخذه إلها مع الله، لأن الإله هو المألوه الذي يألهه القلب، أي: يقصده بالعبادة والدعوة، والخشية والإجلال، والتعظيم، وإن زعم أنه لا يريد إلا الشفاعة والتقرب عند الله، لأنه بين أن هذا هو مطلوب المشركين الأولين، ويستدل على ذلك بالآيات الصريحات القاطعات، والله أعلم. وقال رحمه الله، في كتاب "اقتضاء الصراط المستقيم": وكانت الطواغيت الكبار التي تشد إليها الرحال ثلاثة: {اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} 1، وكل واحد منها لمصر من أمصار العرب؛ فكانت "اللات" لأهل الطائف، ذكروا أنه كان في الأصل رجلا صالحا، يلت السويق للحاج، فلما مات عكفوا على قبره؛ وأما "العزى" فكانت لأهل مكة قريب من عرفات، وكانت هناك شجرة يذبحون عندها ويدعون; وأما "مناة"   1 سورة آية: 19. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 167 فكانت لأهل المدينة، وكانت حذو قديد من ناحية الساحل. ومن أراد أن يعرف كيف كانت أحوال المشركين في عبادة أوثانهم، ويعرف حقيقة الشرك الذي ذمه الله وأنواعه، حتى يتبين له تأويل القرآن، فلينظر إلى سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وأحوال العرب في زمانه، وما ذكره الأزرقي في أخبار مكة وغيره من العلماء. ولما كان للمشركين شجرة يعلقون عليها أسلحتهم، ويسمونها "ذات أنواط"، فقال بعض الناس: "يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط، كما لهم ذات أنواط، فقال: الله أكبر! إنها السنن، لتركبن سنن من كان قبل كم " 1 فأنكر صلى الله عليه وسلم، مجرد مشابهتهم في اتخاذ شجرة يعكفون عليها، معلقين عليها سلاحهم؛ فكيف بما هو أطم من ذلك الشرك بعينه؟ إلى أن قال: فمن ذلك أمكنة بدمشق مثل: مسجد يقال له "مسجد الكف" فيه تمثال كف، يقال إنه كف علي بن أبي طالب، حتى هدم الله ذلك الوثن; وهذه الأمكنة كثيرة موجودة في أكثر البلاد، وفي الحجاز منها مواضع، انتهى كلامه. فتأمل رحمك الله كلام هذا الإمام، في اللات والعزى ومناة، وجعله بعينه هذا الذي يفعل بدمشق، وغيرها من البلاد من ذلك; وتأمل قوله على حديث ذات أنواط، وتدبره، فإنه نافع جدا.   1 الترمذي: الفتن (2180) , وأحمد (5/218) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 168 وقال رحمه الله تعالى، في الكلام على قوله تعالى: {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} 1: ظاهره: أنه ما ذبح لغير الله، سواء لفظ به أو لم يلفظ؛ وتحريم هذا أظهر من تحريم ما ذبحه للحم، وقال فيه باسم المسيح ونحوه، كما أن ما ذبحناه متقربين به إلى الله، كان أزكى مما ذبحناه للحم، وقلنا عليه بسم الله؛ فإن عبادة الله بالصلاة له، والنسك له، أعظم من الاستعانة باسمه في فواتح الأمور; والعبادة لغير الله، أعظم كفرا من الاستعانة بغير الله؛ فلو ذبح لغير الله متقربا إليه لحرم، وإن قال فيه بسم الله، كما قد يفعله طائفة من منافقي هذه الأمة؛ وإن كان هؤلاء مرتدين لا تباح ذبيحتهم بحال، لكن يجتمع في الذبيحة مانعان، ومن هذا ما يفعل بمكة وغيرها من الذبح للجن؛ انتهى كلام الشيخ رحمه الله. فتأمل رحمك الله هذا الكلام، وتصريحه فيه: بأن من ذبح لغير الله من هذه الأمة، فهو كافر مرتد، لا تباح ذبيحته، لأنه يجتمع فيها مانعان: الأول: أنها ذبيحة مرتد، وذبيحة المرتد لا تباح بالإجماع. الثاني: أنها مما أهل به لغير الله، وقد حرم الله ذلك في قوله: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} 2.وتأمل قوله: ومن هذا ما   1 سورة البقرة آية: 173. 2 سورة الأنعام آية: 145. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 169 يفعل بمكة وغيرها من الذبح للجن، والله أعلم. فصل: [أنواع الشرك] وقال ابن القيم رحمه الله في "شرح المنازل"، في باب التوبة: وأما الشرك فهو نوعان: أكبر وأصغر; فالأكبر: لا يغفره الله إلا بالتوبة منه، وهو أن يتخذ من دون الله ندا، يحبه كما يحب الله؛ بل أكثرهم يحبون آلهتهم، أعظم من محبة الله، ويغضبون لمنتقص معبودهم من المشايخ، أعظم مما يغضبون إذا انتقص أحد رب العالمين؛ وقد شاهدنا هذا نحن منهم جهرة. وترى أحدهم قد اتخذ ذكر إلهه ومعبوده على لسانه، إن قام وإن قعد، وإن عثر وإن استوحش؛ وهو لا ينكر ذلك، ويزعم أنه باب حاجته إلى الله، وشفيعه عنده؛ وهكذا كان عباد الأصنام سواء، وهذا القدر هو الذي قام بقلوبهم، وتوارثه المشركون بحسب اختلاف آلهتهم؛ فأولئك كانت آلهتهم من الحجر، وغيرهم اتخذوها من البشر، قال الله تعالى حاكيا عن أسلاف هؤلاء: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} 1. فهذه حال من اتخذ من دون الله وليا، يزعم أنه يقربه إلى الله تعالى، وما أعز من تخلص من هذا، بل ما أعز من يعادي من أنكره. والذي قام بقلوب هؤلاء المشركين   1 سورة الزمر آية: 3. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 170 وسلفهم: أن آلهتهم تشفع لهم عند الله، وهذا عين الشرك؛ وقد أنكر الله ذلك عليهم في كتابة وأبطله، وأخبر أن الشفاعة كلها له، وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} 1؛والقرآن مملوء من أمثال هذه الآية، ولكن أكثر الناس لا يشعر بدخول الواقع تحته، ويظنه في قوم قد خلوا ولم يعقبوا وارثا، وهذا هو الذي يحول بين المرء وبين فهم القرآن، كما قال عمر بن الخطاب: "إنما تنتقض عرى الإسلام عروة عروة، إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية" وهذا لأنه إذا لم يعرف الشرك، وما عابه القرآن وذمه، وقع فيه وأقره، وهو لا يعرف أنه الذي عليه أهل الجاهلية، فتنتقض بذلك عرى الإسلام، ويعود المعروف منكرا والمنكر معروفا، والبدعة سنة، والسنة بدعة، ويكفر الرجل بمحض الإيمان وتجريد التوحيد، ويبدع بتجريد متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم ومفارقة الأهواء والبدع؛ ومن له بصيرة وقلب حي يرى ذلك عيانا، فالله المستعان. ومن أنواعه: طلب الحوائج من الموتى، والاستعانة بهم، والتوجه إليهم، وهذا أصل شرك العالم; فإن الميت قد انقطع عمله، وهو لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا، فضلا   1 سورة آية: 23. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 171 لمن استغاث به، أو سأله أن يشفع له إلى الله، وهذا من جهله بالشافع والمشفوع عنده، فإن الله تعالى لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه. والله لم يجعل سؤال غيره سببا لإذنه، وإنما السبب لإذنه كمال التوحيد، فجاء هذا المشرك بسبب يمنع الإذن؛ والميت محتاج إلى من يدعو له، كما أوصانا النبي صلى الله عليه وسلم إذا زرنا قبور المسلمين، أن نترحم عليهم، ونسأل لهم العافية، فعكس المشركون هذا، وزاروهم زيارة العبادة، وجعلوا قبورهم أوثانا تعبد، فجمعوا بين الشرك بالمعبود، وتغيير دينه، ومعاداة أهل التوحيد، ونسبتهم إلى التنقص بالأموات. وهم قد تنقصوا الخالق بالشرك، وأولياءه الموحدين بذمهم ومعاداتهم، وتنقصوا من أشركوا به غاية التنقص، إذ ظنوا أنهم راضون منهم بهذا، وأنهم أمروهم به؛ وهؤلاء أعداء الرسل في كل زمان ومكان، وما أكثر المستجيبين لهم، ولله در خليله إبراهيم حيث قال: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ} 1، وما نجا من شرك هذا الشرك الأكبر، إلا من جرد توحيده لله، وتقرب بمقتهم إلى الله؛ انتهى كلامه رحمه الله. فتأمل رحمك الله كلام هذا الإمام، وتصريحه بأن من   1 سورة آية: 35. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 172 دعا الموتى وتوجه إليهم، واستغاث بهم ليشفعوا له عند الله، فقد فعل الشرك الأكبر، الذي بعث محمد صلى الله عليه وسلم بإنكاره، وتكفير من لم يتب منه، وقتاله ومعاداته، وأن هذا قد وقع في زمانه، وأنهم غيروا دين الرسول صلى الله عليه وسلم وعادوا أهل التوحيد، الذين يأمرونهم بإخلاص العبادة لله وحده لا شريك له. وتأمل قوله أيضا: وما أعز من تخلص من هذا، بل ما أعز من لا يعادي من أنكره، يتبين لك الأمر إن شاء الله. وكذلك تأمل أرشدك الله قوله: وما نجا من شرك هذا الشرك الأكبر، إلا من عادى المشركين لله إلى آخره، يتبين لك أن الإسلام لا يستقيم إلا بمعاداة أهل الشرك، فإن لم يعادهم فهو منهم وإن لم يفعله، والله أعلم. وقال رحمه الله في كتاب "زاد المعاد في هدي خير العباد" في الكلام على غزوة الطائف، وما فيها من الفقه، قال: وفيها: أنه لا يجوز إبقاء مواضع الشرك والطواغيت، بعد القدرة على هدمها وإبطالها يوما واحدا، فإنها شعائر الكفر والشرك، وهي أعظم المنكرات، فلا يجوز الإقرار عليها مع القدرة البتة. وهكذا حكم المشاهد التي بنيت على القبور، التي اتخذت أوثانا وطواغيت، تعبد من دون الله، والأحجار التي تقصد للتعظيم، والتبرك والنذر والتقبيل، لا يجوز إبقاء الجزء: 10 ¦ الصفحة: 173 شيء منها على وجه الأرض، مع القدرة على إزالته; وكثير منها بمنْزلة اللات والعزى، ومناة الثالثة الأخرى، أو أعظم شركا عندها وبها، والله المستعان. ولم يكن أحد من أرباب هذه الطواغيت، يعتقد أنها تخلق أو ترزق، أو تحيي وتميت، وإنما كانوا يفعلون عندها وبها، ما يفعله إخوانهم من المشركين اليوم عند طواغيتهم، فاتبع هؤلاء سنن من كان قبلهم، وسلكوا سبيلهم حذو القذة بالقذة، وأخذوا مأخذهم شبرا بشبر وذراعا بذراع. وغلب الشرك على أكثر النفوس، لظهور الجهل وخفاء العلم، وصار المعروف منكرا، والمنكر معروفا، والسنة بدعة، والبدعة سنة؛ ونشأ في ذلك الصغير، وهرم عليه الكبير، وطمست الأعلام، واشتدت غربة الإسلام، وقل العلماء، وغلب السفهاء، وتفاقم الأمر واشتد البأس، وظهر الفساد في البر والبحر، بما كسبت أيدي الناس; ولكن لا تزال طائفة من الأمة المحمدية قائمين، ولأهل الشرك والبدع مجاهدين، إلى أن يرث الله سبحانه الأرض ومن عليها، وهو خير الوارثين. ومنها جواز صرف الإمام الأموال، التي تصير الى هذه المشاهد والطواغيت، في الجهاد ومصالح المسلمين، كما أخذ النبي صلى الله عليه وسلم أموال اللات، وأعطاها أبا سفيان يتألفه بها، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 174 وقضى منها دين عروة والأسود; وكذلك الحكم في أوقافها، فإن وقفها والوقف عليها باطل، ومال ضائع، فإن الوقف لا يصح إلا في قربة؛ وهذا مما لا يخالف فيه أحد من أئمة الإسلام، ومن اتبع سبيلهم، والله أعلم، انتهى كلامه. فتأمل رحمك الله هذا الكلام، وما فيه من التصريح بأن هذا الذي يفعل عند المشاهد والقباب التي على القبور في كثير من البلدان، أنه هو الشرك الأكبر، الذي فعله المشركون، وأن كثيرا منها بمنْزلة اللات، والعزى، ومناة، بل أعظم شركا من شرك أهل اللات والعزى ومناة، وتصريحه بأنهم فعلوا فعل المشركين، واتبعوا سبيلهم حذو القذة بالقذة; وتأمل قوله: وغلب الشرك على أكثر النفوس، لظهور الجهل، وخفاء العلم، والله أعلم، وقال الشيخ تقي الدين رحمه الله، لما سئل عن قتال التتار، مع التمسك بالشهادتين، ولما زعموا من اتباع أصل الإسلام، فقال: كل طائفة ممتنعة عن التزام شريعة من شرائع الإسلام الظاهرة، المتواترة، من هؤلاء القوم، أو غيرهم، فإنه يجب قتالهم حتى يلتزموا شرائعه، وإن كانوا مع ذلك ناطقين بالشهادتين، وملتزمين بعض شرائعه، كما قاتل أبو بكر رضي الله عنه مانعي الزكاة؛ وعلى ذلك اتفق الفقهاء بعدهم، بعد سابقة مناظرة عمر لأبي بكر رضي الله الجزء: 10 ¦ الصفحة: 175 عنهما، فاتفق الصحابة على القتال على حقوق الإسلام، عملا بالكتاب والسنة. وكذلك ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من عشرة أوجه، الحديث عن الخوارج، والأمر بقتالهم، وأخبر أنهم شر الخلق والخليقة، مع قوله: " تحقرون صلاتكم مع صلاتهم، وصيامكم مع صيامهم " 1، فعلم أن مجرد الاعتصام بالإسلام، مع عدم التزام شرائعه، ليس بمسقط للقتال؛ فالقتال واجب. فأيما طائفة ممتنعة، امتنعت عن بعض الصلوات المفروضات، أو الصيام، أو الحج، أو عن التزام تحريم الدماء، أو الأموال، أو الخمر، أو الميسر، أو الزنى، أو نكاح ذوات المحارم، أو عن التزام جهاد الكفار، أو ضرب الجزية على أهل الكتاب، أو غير ذلك من التزام واجبات الدين، أو محرماته التي لا عذر لأحد في جحودها، أو تركها، التي يكفر الواحد بجحودها، فإن الطائفة الممتنعة تقاتل عليها، وإن كانت مقرة بها؛ وهذا مما لا أعلم فيه خلافا بين العلماء. وإنما اختلف الفقهاء في الطائفة الممتنعة، إذا أصرت على ترك بعض السنن، كركعتي الفجر، والأذان، والإقامة عند من لا يقول بوجوبها، ونحو ذلك من الشعائر، وهل تقاتل الطائفة الممتنعة على تركها أم لا؟ فأما الواجبات   1 البخاري: فضائل القرآن (5058) , ومسلم: الزكاة (1064) , وأحمد (3/56 ,3/60 ,3/65) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 176 والمحرمات المذكورة ونحوها، فلا خلاف في القتال عليها. وهؤلاء عند المحققين من العلماء، ليسوا بمنْزلة البغاة الخارجين على الإمام، أو الخارجين عن طاعته، كأهل الشام مع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه؛ فإن أولئك خارجون عن طاعة إمام معين أو خارجون عليه لإزالة ولايته، وأما المذكورون، فهم خارجون عن الإسلام، بمنْزلة مانعي الزكاة، وبمنْزلة الخوارج الذين قاتلهم علي رضي الله عنه. ولهذا افترقت سيرته في قتاله لأهل البصرة، وأهل الشام، وفي قتاله لأهل النهروان، فكانت سيرته مع البصريين والشاميين، سيرة الأخ مع أخيه، ومع الخوارج بخلاف ذلك، وثبتت النصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم بما استقر عليه إجماع الصحابة، من قتال الصديق لمانعي الزكاة، وقتال علي للخوارج، انتهى كلامه. فتأمل رحمك الله تصريح هذا الإمام في هذه الفتوى، بأن من امتنع عن شريعة من شرائع الإسلام الظاهرة، كالصلوات الخمس، والصيام والزكاة والحج، أو ترك المحرمات كالزنى، أو تحريم الدماء والأموال، أو شرب الخمر أو المسكرات، أو غير ذلك، أنه يجب قتال الطائفة الممتنعة عن ذلك، حتى يكون الدين كله لله، ويلتزموا جميع شرائع الإسلام، وإن كانوا مع ذلك ناطقين الجزء: 10 ¦ الصفحة: 177 بالشهادتين، وملتزمين بعض شرائع الإسلام، وأن ذلك مما اتفق عليه العلماء من سائر الطوائف، من الصحابة فمن بعدهم، وأن ذلك عملا بالكتاب والسنة. فتبين لك: أن مجرد الاعتصام بالإسلام، مع عدم التزام شرائعه، ليس بمسقط للقتال، وأنهم يقاتلون قتال كفر، وخروج عن الإسلام، كما صرح به في آخر الفتوى، بقوله: وهؤلاء عند المحققين من العلماء، ليسوا بمنْزلة البغاة الخارجين عن الإمام، بل هم خارجون عن الإسلام بمنْزلة مانعي الزكاة، والله أعلم. وقال الشيخ رحمه الله، في آخر كلامه على كفر مانعي الزكاة: والصحابة لم يقولوا: هل أنت مقر بوجوبها، أو جاحد لها، هذا لم يعهد عن الصحابة بحال، بل قال الصديق لعمر رضي الله عنهما: (والله لو منعوني عناقا كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها) ، فجعل المبيح للقتال مجرد المنع، لا جحد وجوبها; وقد روي: أن طوائف منهم كانوا يقرون بالوجوب، لكن بخلوا بها. ومع هذا، فسيرة الخلفاء فيهم سيرة واحدة، وهي: قتل مقاتلتهم، وسبي ذراريهم، وغنيمة أموالهم، والشهادة على قتلاهم بالنار، وسموهم جميعهم أهل الردة; وكان من أعظم فضائل الصديق عندهم: أن ثبته الله على قتالهم، ولم يتوقف كما توقف غيره، حتى ناظرهم فرجعوا إلى قوله. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 178 وأما قتال المقرين بنبوة مسيلمة، فهؤلاء لم يقع بينهم نزاع في قتالهم؛ وهذه حجة من قال: إن قاتلوا الإمام عليها كفروا، وإلا فلا؛ فإن كفر هؤلاء وإدخالهم في أهل الردة، قد ثبت باتفاق الصحابة المستند إلى نصوص الكتاب والسنة، بخلاف من لم يقاتل الإمام عليها، فإن في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قيل له: منع ابن جميل; فقال: " ما ينقم ابن جميل إلا أنه كان فقيرا فأغناه الله " 1، فلم يأمر بقتله، ولا حكم بكفره; وفي السنن من حديث بهز بن حكيم، عن أبيه عن جده، عن النبي صلى الله عليه وسلم:" ومن منعها فإنا آخذوها وشطر ماله " 2 الحديث. انتهى. فتأمل كلامه وتصريحه: بأن الطائفة الممتنعة عن أداء الزكاة إلى الإمام، أنهم يقاتلون ويحكم عليهم بالكفر والردة عن الإسلام، وتسبى ذراريهم، وتغنم أموالهم، وإن أقروا بوجوب الزكاة، وصلوا الصلوات الخمس، وفعلوا جميع شرائع الإسلام غير أداء الزكاة، وأن ذلك ليس بمسقط للقتال لهم، والحكم عليهم بالكفر والردة، وأن ذلك قد ثبت بالكتاب والسنة، واتفاق الصحابة رضي الله عنهم، والله أعلم. [حكم من سب الرسول (صلى الله عليه وسلم) ] وقال الشيخ: رحمه الله تعالى في كتاب "الصارم المسلول على شاتم الرسول": قال الإمام إسحاق بن راهويه، أحد الأئمة، يعدل بالشافعي وأحمد: أجمع المسلمون أن   1 البخاري: الزكاة (1468) , ومسلم: الزكاة (983) , والنسائي: الزكاة (2464) , وأبو داود: الزكاة (1623) , وأحمد (2/322) . 2 النسائي: الزكاة (2449) , وأبو داود: الزكاة (1575) , وأحمد (5/4) , والدارمي: الزكاة (1677) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 179 من سب الله أو رسوله، أو دفع شيئا مما أنزل الله، أنه كافر بذلك، وإن كان مقرا بكل ما أنزل الله. وقال محمد بن سحنون - أحد الأئمة من أصحاب مالك -: أجمع العلماء على أن شاتم الرسول كافر، وحكمه عند الأئمة القتل، ومن شك في كفره كفر; قال ابن المنذر: أجمع عوام أهل العلم على أن على من سبه القتل. وقال الإمام أحمد فيمن سبّه يقتل، قيل له: فيه أحاديث؟ قال: نعم; منها: حديث الأعمى الذي قتل المرأة; وقول ابن عمر: "من شتم النبي صلى الله عليه وسلم قتل. وعمر بن عبد العزيز يقول: يقتل; وقال في رواية عبد الله: لا يستتاب، فإن خالد بن الوليد قتل رجلا شتم النبي صلى الله عليه وسلم ولم يستتبه" انتهى. فتأمل رحمك الله: كلام إسحاق بن راهويه، ونقله الإجماع على أن من سب الله، أو سب رسوله، أو دفع شيئا مما أنزل الله، أنه كافر، وإن كان مقرا بكل ما أنزل الله، يتبين لك: أن من تلفظ بلسانه بسب الله تعالى، أو سب رسوله، فهو كافر مرتد عن الإسلام، وإن أقر بجميع ما أنزل الله، وإن كان هازلا بذلك لم يقصد معناه بقلبه، كما قال الشافعي: من هزل بشيء من آيات الله فهو كافر، فكيف بمن هزل بسب الله، أو سب رسوله صلى الله عليه وسلم؟ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 180 ولهذا قال الشيخ تقي الدين: قال أصحابنا وغيرهم، من سب الله تعالى كفر، مازحا أو جادا، لقوله تعالى: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} 1، الآية قال: وهذا هو الصواب المقطوع به، انتهى. ومعنى قول إسحاق رحمه الله تعالى: أو دفع شيئا مما أنزل الله، أن يدفع أو يرد شيئا مما أنزل الله في كتابه، أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم من الفرائض، أو الواجبات، أو المسنونات، أو المستحبات، بعد أن يعرف أن الله أنزله في كتابة، أو أمر به رسوله صلى الله عليه وسلم أو نهى عنه، ثم دفعه بعد ذلك، فهو كافر مرتد، وإن كان مقرا بكل ما أنزل الله في كتابه من الشرع، إلا ما دفعه وأنكره لمخالفته لهواه أو عادته، أو عادة أهل بلده. وهذا معنى قول العلماء: من أنكر فرعا مجمعا عليه كفر، فإذا كان من أنكر النهي عن الأكل بالشمال، أو النهي عن إسبال الثياب، بعد معرفته أن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك، فهو كافر مرتد، ولو كان من أعبد الناس وأزهدهم، فكيف بمن أنكر إخلاص العبادة لله وحده، وإخلاص الدعوة والاستغاثة، والنذر والتوكل، وغير ذلك من أنواع العبادة، التي لا تصلح إلا لله وحده، ولا يصلح منها شيء   1 سورة آية: 65-66. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 181 لملك مقرب، ولا نبي مرسل، التي أرسل الله جميع رسله، وأنزل جميع كتبه لأجل معرفتها والعمل بها، التي هي أعظم شعائر الإسلام، الذي هو معنى لا إله إلا الله؟ فمن أنكر ذلك وأبغضه، وسبه وسب أهله، وسماهم الخوارج، فهو الكافر حقا، الذي يجب قتاله، حتى يكون الدين كله لله، بإجماع المسلمين كلهم؛ والله سبحانه أعلم. فصل: [قول ابن القيم في اتخاذ القبور أعياداً] وقال ابن القيم رحمه الله تعالى في "الإغاثة": قال صلى الله عليه وسلم: " لا تتخذوا قبري عيدا " 1، وقال: " اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " 2؛ وفي اتخاذها عيدا من أعيادهم من المفاسد العظيمة، ما يغضب لأجله من في قلبه وقار لله وغيرة على التوحيد؛ ولكن ما لجرح بميت إيلام. منها: الصلاة إليها والطواف بها، واستلامها، وتعفير الخدود على ترابها، وعبادة أصحابها، وسؤالهم النصر والرزق والعافية، وقضاء الديون، وتفريج الكربات، التي كان عباد الأوثان يسألونها أوثانهم، وكل من شم أدنى رائحة من العلم، يعلم أن من أهم الأمور سد الذريعة إلى ذلك، وأنه صلى الله عليه وسلم أعلم بعاقبة ما نهى عنه، وما يؤول إليه. وإذا لعن من اتخذ قبور الأنبياء مساجد يعبد الله فيها، فكيف بملازمتها واعتياد قصدها؟ ومن جمع بين سنة رسوله صلى الله عليه وسلم في القبور، وما أمر به ونهى عنه، وما عليه   1 أبو داود: المناسك (2042) , وأحمد (2/367) . 2 أحمد (2/246) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 182 أصحابه، وبين ما عليه أكثر الناس اليوم، رأى أحدهما مضادا للآخر. فنهى عن اتخاذها مساجد، وهؤلاء يبنون عليها المساجد، ونهى عن تشريفها، وهؤلاء يوقفون الوقوف على إيقاد القناديل عليها، ونهى أن تتخذ عيدا، وهؤلاء يتخذونها أعيادا، وأمر بتسويتها كما في صحيح مسلم، عن علي رضي الله عنه، وهؤلاء يرفعونها، ويجعلون عليها القباب، ونهى عن تجصيص القبر والبناء عليه، كما في صحيح مسلم عن جابر. ونهى عن الكتابة عليها، كما رواه الترمذي عن جابر وصححه، ونهى أن يزاد عليها غير ترابها، كما رواه أبو داود عن جابر، وهؤلاء يتخذون عليها الألواح، ويكتبون عليها القرآن، ويزيدون على ترابها بالجص، والآجر والأحجار. وقد آل الأمر بهؤلاء الضلال المشركين، إلى أن شرعوا للقبور حجا، ووضعوا له مناسك، حتى صنف بعضهم كتابا سماه "مناسك حج المشاهد"؛ ولا يخفى أن هذا مفارقة لدين الإسلام، ودخول في دين عباد الأصنام. فانظر إلى هذا التباين العظيم، بين ما شرعه الرسول صلى الله عليه وسلم وما شرعه هؤلاء. والنبي صلى الله عليه وسلم أمر بزيارة القبور، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 183 لأنها تذكّر الآخرة، وأمر الزائرين أن يدعوا لأهل القبور، ونهاه أن يقول هجرا؛ فهذه الزيارة التي أذن فيها لأمته، وعلمهم إياها، هل تجد فيها شيئا مما يعتمده أهل الشرك والبدع؟ أم تجدها مضادة لما هم عليه من كل وجه؟! وما أحسن ما قال الإمام مالك رحمه الله: لن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها، ولكن كلما ضعف تمسك الأمم بعهود أنبيائهم، عوضوا عن ذلك بما أحدثوه من البدع والشرك؛ ولقد جرد السلف الصالح التوحيد، وحموا جنابه حتى كان أحدهم إذا سلم على النبي صلى الله عليه وسلم ثم أراد الدعاء جعل ظهره إلى جدار القبر ثم دعا؛ وقد نص على ذلك الأئمة الأربعة: أنه يستقبل القبلة للدعاء حتى لا يدعو عند القبر، فإن الدعاء عبادة. وبالجملة: فالميت قد انقطع عمله، فهو محتاج إلى من يدعو له؛ ولهذا شرع في الصلاة عليه من الدعاء، ما لم يشرع مثله للحي؛ ومقصود الصلاة على الميت الاستغفار له، والدعاء له، وكان صلى الله عليه وسلم يقف على القبر بعد الدفن، فيقول: " سلوا له التثبيت فإنه الآن يسأل " فبدل أهل الشرك والبدع قولا غير الذي قيل لهم: فبدلوا الدعاء له بدعائه نفسه، والشفاعة له بالاستشفاع به، والزيارة التي شرعت إحسانا للميت وإلى الزائر، بسؤال الميت والإقسام به على الله، وتخصيص تلك البقعة بالدعاء، الذي هو مخ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 184 العبادة، وحضور القلب عندها، وخشوعه أعظم منه في المساجد. وذكر ابن إسحاق، عن أبي العالية قال: لما فتحنا تستر، وجدنا في بيت مال الهرمزان سريرا، عليه رجل ميت، عند رأسه مصحف، فحملنا المصحف إلى عمر، فدعا كعبا فنسخه بالعربية، فأنا أول رجل من العرب قرأه؛ قرأته مثلما أقرأ القرآن، فيه سيرتكم وأموركم، ولحون كلامكم، وما هو كائن بعد; قلت: فما صنعتم بالرجل؟ قال: حفرنا بالنهار ثلاثة عشر قبرا متفرقة، فلما كان الليل دفناه، وسوينا القبور كلها، لنعميه على الناس أن لا ينبشوه. قلت: وما يرجون منه؟ قال: كانت السماء إذا حبست عنهم، أبرزوا السرير فيمطرون، قلت: من كنتم تظنون الرجل: قال: دانيال; قلت: منذ كم مات؟ قال: من ثلاثمائة سنة; قلت: ما تغير منه شيء؟ قال: لا، إلا شعرات من قفاه؛ إن لحوم الأنبياء لا تبليها الأرض، ولا تأكلها السباع. ففي هذه القصة: ما فعله المهاجرون والأنصار، من تعمية قبره، لئلا يفتتن به؛ ولو ظفر به المتأخرون، لجالدوا عليه بالسيوف، وعبدوه، فهم قد اتخذوا من القبور أوثانا من لا يدانيه، وجعلوا لها سدنة. وقد أنكر الصحابة ما هو دون هذا بكثير، "فقطع الجزء: 10 ¦ الصفحة: 185 عمر بن الخطاب رضي الله عنه الشجرة التي بويع رسول الله صلى الله عليه وسلم تحتها،" "ولما رأى عمر الناس يذهبون، فسأل عن ذلك فقيل: مسجد صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلون فيه، فقال: إنما هلك من كان قبلكم بمثل هذا، كانوا يتبعون آثار أنبيائهم، ويتخذونها كنائس، وبيعا؛ فمن أدركته الصلاة منكم في هذه المساجد، فليصل، ومن لا فليمض ولا يتعمدها". وقد أنكر رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصحابة، لما سألوه شجرة يعلقون عليها أسلحتهم بخصوصها، ثم ذكر حديث ذات أنواط؛ فإذا كان اتخاذ الشجرة لتعليق الأسلحة، والعكوف حولها، اتخاذ إله مع الله، وهم لا يعبدونها ولا يسألونها، فما الظن بالعكوف حول القبر، ودعائه والدعاء عنده، والدعاء به؟ وأين نسبة الفتنة بشجرة، إلى الفتنة بالقبر، لو كان أهل الشرك والبدع يعلمون؟ ومن له خبرة بما بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم، وبما عليه أهل الشرك والبدع اليوم، في هذا الباب وغيره، علم أن بين السلف وبينه، أبعد مما بين المشرق والمغرب؛ والأمر والله أعظم مما ذكرنا. وفي صحيح البخاري، عن أم الدرداء، قالت: (دخل علي أبو الدرداء مغضبا فقلت: ما لك؟ فقال: والله ما أعرف فيهم شيئا من أمر محمد صلى الله عليه وسلم إلا أنهم يصلون جميعا" انتهى. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 186 فتأمل رحمك الله كلام الشيخ، وتصريحه بأن عبادة الأوثان قد وقعت في زمانه، وتصريحه بعد ذكره لقصة دانيال، بأن أهل زمانه المتأخرين، قد اتخذوا من قبور من لا يدانيه في المرتبة والفضل والصلاح، أوثانا، وأنهم لو وجدوه لجالدوا عليه بالسيوف، وعبدوه من دون الله، يتبين لك ما أصبح غالب الناس فيه، من عبادة غير الله، ودعائهم، والاستغاثة بهم في الشدائد، وتفريج الكربات، وإغاثة اللهفات، والإخلاص لهم في العبادة، في أوقات الشدائد، عند ركوبهم في البحر وغيره، الذي لم يفعله المشركون الأولون، كما أخبر الله عنهم، بقوله: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} 1،وقوله: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ} 2. فتأمل رحمك الله: ما ذكر الإله عن هؤلاء المشركين، من إخلاص الدعوة له أوقات الشدائد، ثم تأمل ما يفعله المشركون في زماننا، مما ذكرت لك، يتبين لك غربة الإسلام، الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الأزمان. فإذا كان هذا كلام أهل العلم، وتصريحهم بأن الشرك غلب   1 سورة العنكبوت آية: 65. 2 سورة آية: 41. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 187 على أكثر النفوس، وأن القليل الذي تخلص منه، بل القليل من لا يعادي من أنكر الشرك، فما ظنك بزمانك هذا؟ ومعلوم: أن الأمر لا يزداد إلا شدة، وغربة; وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا يأتي زمان إلا والذي بعده شر منه " أخرجه البخاري في صحيحه، عن أنس. ولكن الأمر كما قال الشيخ رحمه الله: ومن له خبرة بما بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم، وبما عليه أهل الشرك والبدع اليوم، في هذا الباب وغيره، علم أن بينهما أبعد مما بين المشرق والمغرب، وهذه هي الفتنة التي قال فيها ابن مسعود رضي الله عنه: "كيف أنتم إذا لبستكم فتنة، يهرم فيها الكبير، وينشأ فيها الصغير، يتخذها الناس سنة، إذا غيرت قيل غيرت السنة"؛ والله أعلم. فصل: [ابتلاء الناس بالأنصاب والأزلام] قال ابن القيم رحمه الله تعالى: والناس قد ابتلوا بالأنصاب والأزلام، فالأنصاب للشرك، والأزلام لطلب علم ما استأثر الله به، هذه للعلم، وتلك للعمل، ودين الله مضاد لهذا، وهذا; "وعمى الصحابة قبر دانيال بأمر عمر"، "ولما بلغه: أن الناس ينتابون الشجرة، التي بويع رسول الله صلى الله عليه وسلم تحتها، أرسل فقطعها"، قال عيسى بن يونس: هو عندنا من حديث ابن عون عن نافع؛ فإذا كان هذا فعله في الشجرة التي ذكر الله في القرآن، وبايع تحتها الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فماذا حكمه فيما عداها؟ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 188 وأبلغ من ذلك: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هدم مسجد الضرار" ففيه دليل على هدم المساجد التي هي أعظم فسادا منه، كالمبنية على القبور، وكذلك قبابها؛ فتجب المبادرة إلى هدم ما لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعله، والله يقيم لدينه من ينصره ويذب عنه. وكان بدمشق كثير من هذه الأنصاب، فيسر الله سبحانه كسرها على يد شيخ الإسلام، وحزب الله الموحدين; وكانوا يقولون - أي العامة - لشيء منها: إنه يقبل النذر، أي: يقبل العبادة من دون الله، فالنذر عبادة يتقرب بها الناذر إلى المنذور له. ولقد أنكر السلف التمسح بحجر المقام، الذي أمر الله أن يتخذ منه مصلى، قال قتادة في الآية: إنما أمروا أن يصلوا عنده، ولم يؤمروا بمسحه؛ ولقد تكلفت هذه الأمة شيئا ما تكلفته الأمم قبلها، ذكر لنا من رأى أثر أصابعه، فما زالت هذه الأمة تمسحه حتى اخلولق. وأعظم الفتنة بهذه الأنصاب: فتنة أصحاب القبور، وهي أصل فتنة عبادة الأصنام، كما ذكره الله في سورة نوح، في قوله: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً} 1 الآية؛ ذكر السلف في تفسيرها: أن هؤلاء أسماء رجال صالحين في قوم نوح،   1 سورة نوح آية: 23. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 189 فلما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوروا تماثيلهم، ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم; وتعظيم الصالحين إنما هو باتباع الصالحين، واتباع ما دعوا إليه، دون اتخاذ قبورهم أعيادا وأوثانا، فأعرضوا عن المشروع، واشتغلوا بالبدع. ومن أصغى إلى كلام الله وتفهمه، أغناه عن البدع والآراء، ومن بعد عنه فلا بد أن يتعوض عنه بما لا ينفعه، كما أن من عمر قلبه بمحبة الله، وخشيته والتوكل عليه، أغناه عن محبة غيره، وخشيته والتوكل عليه؛ فالمعرض عن التوحيد مشرك شاء أم أبى، والمعرض عن اتباع السنة مبتدع شاء أم أبى، والمعرض عن محبة الله عابد الصور شاء أم أبى. وهذه الأمور المبتدعة عند القبور أنواع: أبعدها عن المشروع: أن يسأل الميت حاجته، كما يفعله كثير؛ وهؤلاء من جنس عباد الأصنام، ولهذا قد يتمثل لهم الشيطان في صورة الميت، كما يتمثل لعباد الأصنام، وهذا يحصل للمشركين وأهل الكتاب، وكذلك السجود للقبر، وتقبيله والتمسح به. والنوع الثاني: أن يسأل الله به، وهذا يفعله كثير من المتأخرين، وهو بدعة إجماعا. النوع الثالث: أن يظن أن الدعاء عنده مستجاب، وأنه أفضل من الدعاء في المسجد، فيقصد القبر لذلك؛ فهذا أيضا من المنكرات إجماعا، وما علمت فيه نزاعا بين أئمة الدين، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 190 وإن كان كثير من المتأخرين يفعله. وبالجملة: فأكثر أهل الأرض مفتتنون بعبادة الأوثان، ولم يتخلص منه إلا الحنفاء أتباع إبراهيم، وعبادتها في الأرض من قبل نوح، وهياكلها ووقوفها، وسدنتها وحجابها، والكتب المصنفة في عبادتها طبق الأرض. قال إمام الحنفاء عليه السلام: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ} 1. وكفى في معرفة أنهم أكثر أهل الأرض: ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم: " أن بعث النار من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون " وقد قال تعالى: {فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً} 2، وقال: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} 3، وقال: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} 4، وقال: {وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ} 5. ولو لم تكن الفتنة بعبادة الأصنام عظيمة، لما أقدم عبادها على بذل نفوسهم، وأموالهم، وأبنائهم دونها، وهم يشاهدون مصارع إخوانهم، وما حل بهم، ولا يزيدهم ذلك إلا حبا لها وتعظيما، ويوصي بعضهم بعضا بالصبر عليها، والله أعلم.   1 سورة آية: 35. 2 سورة الإسراء آية: 89. 3 سورة الأنعام آية: 116. 4 سورة يوسف آية: 103. 5 سورة الأعراف آية: 102. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 191 فتأمل رحمك الله تعالى: كلام الشيخ في الأنصاب، والأزلام، والقباب المبنية على القبور، وأنه يجب المبادرة إلى هدمها، وأنها أعظم ضررا من مسجد الضرار الذي قال الله في أهله: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادَاً لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ} 1، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بهدمه وتحريقه، ونهى الله نبيه عن الصلاة فيه. وقوله: والله يقيم لدينه من ينصره ويذب عنه؛ وكان بدمشق كثير من هذه الأنصاب، فيسر الله كسرها على يد شيخ الإسلام، وحزب الله الموحدين، ومراده بذلك: الشيخ تقي الدين ابن تيمية رحمه الله، فإنه هدم مواضع كثيرة بدمشق، مما يعبده العامة من دون الله، وينذرون له، ويقولون: إنه يقبل النذر، أي: يقبل العبادة. وذلك لأن النذر عبادة، قال تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً} 2، وقال تعالى: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ} 3، فإذا عرفت أن النذر عبادة، وصرفته لغير الله، فقد أشركت في عبادة الله غيره. وقد أقام الله في زماننا هذا - وهو آخر القرن الثاني عشر من الهجرة النبوية - من بعث به دين الإسلام،   1 سورة التوبة آية: 107. 2 سورة الإنسان آية: 7. 3 سورة البقرة آية: 270. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 192 وإخلاص العبادة لله وحده بعد اندراسه، وهو: الشيخ، الإمام العالم، ذو الفضائل والمكارم، والأخلاق السنية، والأعمال المرضية السنية، محيي السنة النبوية، وقامع البدعة الشركية: محمد بن عبد الوهاب، أسكنه الله الجنة التي هي أحسن المآب، وبرد مضجعه، وأجزل له الثواب. فنصر الله به الدين القويم، وبين بسببه صراطه المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم، من النبيين والصديقين، والشهداء والصالحين، وأزال الله به الشرك، وعبادة الأوثان من أرض نجد، من الكفر والطغيان، ويسر الله كسر تلك الأوثان على يده، وأيدي أتباعه من الموحدين، وحزب الله المفلحين. وكان قبل ذلك في كل أرض وبلد من أرض نجد، أوثان وأشجار تعبد من دون الله، وينذر لها ويذبح لها القربان، ويعظمونها أعظم من تعظيم الله، كقبر زيد بن الخطاب رضي الله عنه في "الجبيلة" وكشجرة في "قريوة" في بلد الدرعية، وشجرة أخرى لأهل "الطرفية"، وغار يقال له "غار بنت الأمير" في أسفل بلد الدرعية، وقبر يقال له قبر المغربي. وأعظم من ذلك: عبادتهم تاجا، وشمسان، مع شهادتهم عليهم بالفجور، لكن يزعمون أنهم أولياء، لا تضرهم الذنوب، ويهابونهم أعظم مما يهابون الله؛ ومنهم الجزء: 10 ¦ الصفحة: 193 من يدعو الجن ويذبح لهم، وفي كل بلد من ذلك شيء عظيم; فأزال الله ذلك كله، بشيخ الإسلام، وأقام الله به الحجة على أهل زمانه، وعرف التوحيد جميع عدوانه، وأقروا أنه دين الله ورسوله، وأن الذي هم عليه الشرك بالله تعالى، ولم يردهم ذلك إلا بغضا له وعداوة. وسعوا في إزالته وعداوته، بكل ممكن حسدا له، لما أظهر الله الدين على يده، حتى أظهره الله عليهم، ونصره، ونصر أتباعه على من خذلهم وخالفهم، مع ضعفهم وقلة عددهم، وقوة عدوهم وكثرتهم، وأدخل الله جميع أهل نجد في الإسلام، ودانوا به، واجتمعوا عليه، حاضرتهم وباديتهم؛ فالحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، كما يحب ربنا ويرضى، وكما ينبغي لكرم وجهه وعز جلاله; ونسأل الله العظيم المنان أن يثبتنا على الإسلام، وأن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، وأن يعيذنا من التفرق والاختلاف، إنه على كل شيء قدير. فصل: [رد الشيخ ابن تيمية على ابن البكري في مسألة الاستغاثة] وقال الشيخ تقي الدين رحمه الله تعالى - في رده على ابن البكري، في مسألة الاستغاثة -: العبادة مبناها على الاتباع، لا على الابتداع، فليس لأحد أن يشرع من الدين ما لم يأذن به الله، قال الله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} 1، وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها، عن   1 سورة الشورى آية: 21. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 194 النبي صلى الله عليه وسلم: " من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد " 1، وفي لفظ في الصحيح: " من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد " 2. وفي الصحيح وغيره يقول الله تعالى: " أنا أغنى الشركاء عن الشرك؛ من عمل عملا أشرك فيه معي غيري، فأنا منه بريء، وهو للذي أشرك " 3؛ ولهذا قال الفقهاء: العبادات مبناها على التوقيف، كما في الصحيحين عن عمر رضي الله عنه أنه قبل الحجر الأسود، وقال: "والله إني لأعلم أنك لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك". والله سبحانه وتعالى أمرنا باتباع الرسول صلى الله عليه وسلم وطاعته وموالاته ومحبته، وضمن لنا بطاعته ومحبته وكرامته، محبته لنا ومغفرته وهدايته، وإدخالنا الجنة، فقال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} 4، وقال: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} 5، وقال: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} 6؛ وأمثال ذلك في القرآن كثير، ولا ينبغي لأحد أن يخرج في هذا الباب عما مضت به السنة، وكان عليه سلف الأمة. وبالجملة: فمعنا أصلان عظيمان: أحدهما: أن لا نعبد إلا الله. والثاني: أن لا نعبده إلا بما شرع، لا نعبده   1 البخاري: الصلح (2697) , ومسلم: الأقضية (1718) , وأبو داود: السنة (4606) , وابن ماجه: المقدمة (14) , وأحمد (6/240) . 2 البخاري: الصلح (2697) , ومسلم: الأقضية (1718) , وأبو داود: السنة (4606) , وابن ماجه: المقدمة (14) , وأحمد (6/73 ,6/146 ,6/180 ,6/240 ,6/256 ,6/270) . 3 مسلم: الزهد والرقائق (2985) , وابن ماجه: الزهد (4202) , وأحمد (2/301 ,2/435) . 4 سورة آل عمران آية: 31. 5 سورة النور آية: 54. 6 سورة النساء آية: 13. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 195 بعبادة مبتدعة; وهذان الأصلان هما تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، كما قال تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} 1، قال الفضيل بن عياض: أخلصه، وأصوبه; قال: إن العمل إذا كان خالصا، ولم يكن صوابا، لم يقبل، وإذا كان صوابا، ولم يكن خالصا، لم يقبل، حتى يكون خالصا صوابا; والخالص: أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنة، وذلك تحقيق قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} 2. وجاءت السنة: أن يسأل الله بأسمائه وصفاته، فيقال: أسألك بأن لك الحمد، لا إله إلا أنت، المنان، بديع السماوات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام، يا حي يا قيوم، أسألك بأنك أنت الله، لا إله إلا أنت، الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد. وكذلك قوله: اللهم إني أسألك بمعاقد العز من عرشك، ومنتهى الرحمة من كتابك، وباسمك الأعظم، وجدك الأعلى، وكلماتك التامة، مع أن هذا الدعاء الثاني، في جواز الدعاء به قولان للعلماء; وقال الشيخ أبو الحسين القدوري: قال بشر بن الوليد: سمعت أبا يوسف قال: قال أبو حنيفة: لا ينبغي لأحد أن يدعو الله إلا به،   1 سورة هود آية: 7. 2 سورة الكهف آية: 110. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 196 وأكره أن يقول بمعاقد العز من عرشك، أو بحق خلقك، وهو قول أبي يوسف. قال أبو يوسف: بمعقد العز من عرشك، هو الله، فلا أكره هذا، وأكره بحق فلان، أو بحق أنبيائك ورسلك، وبحق البيت والمشعر الحرام; قال القدوري: المسألة بخلقه لا تجوز، لأنه لا حق للمخلوق على الخالق، يعني: فلا تجوز وفاقا; وقال البلدجي في شرح المختار: ويكره أن يدعو الإله إلا به، فلا يقول أسألك بحق فلان، وبملائكتك، أو بأنبيائك، ونحو ذلك، لأنه لا حق للمخلوق على الخالق، ويقول في دعائه: أسألك بمعقد العز من عرشك; وعن أبي يوسف أنه يجوز; قلت: وهذا عن أبي حنيفة، وأبي يوسف، وغيرهما، يقتضي المنع; أن يسأل الله تعالى بغيره. وأما سؤال الميت والغائب، نبيا كان أو غير نبي، فهو من المحرمات المنكرة، باتفاق أئمة المسلمين، لم يأمر الله به ولا رسوله، ولا فعله أحد من الصحابة، ولا التابعين لهم بإحسان، ولا استحبه أحد من أئمة المسلمين؛ وهذا مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام، فإن أحدا منهم ما كان يقول - إذا نزلت به شدة، أو عرضت له حاجة - لميت: يا سيدي فلان، أنا في حسبك، أو اقض حاجتي، كما يقول بعض هؤلاء المشركين، لمن الجزء: 10 ¦ الصفحة: 197 يدعونهم من الموتى والغائبين؛ ولا أحد من الصحابة استغاث بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد موته، ولا بغيره من الأنبياء، لا عند قبورهم، ولا إذا بعدوا عنها، ولا كانوا يقصدون الدعاء عند قبور الأنبياء، ولا الصلاة عندها. ولما قحط الناس في زمان عمر بن الخطاب، استسقى بالعباس، وتوسل بدعائه، وقال: (اللهم إنا كنا نتوسل إذا أجدبنا بنبينا، فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا) ، فيسقون، كما ثبت ذلك في صحيح البخاري، وكذلك معاوية رضي الله عنه لما استسقى بأهل الشام، توسل بيزيد بن الأسود الجرشي؛ فهذا الذي ذكره عمر رضي الله عنه توسل منهم بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم وشفاعته في حياته، ولهذا توسلوا بعده بدعاء العباس، ودعاء يزيد بن الأسود، وهذا هو الذي ذكره الفقهاء في كتاب الاستسقاء، فقالوا: يستحب أن يستسقي بالصالحين، وإذا كانوا من أقارب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو أفضل. وقد كره العلماء، كمالك وغيره: أن يقوم الرجل عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم يدعو لنفسه، وذكروا أن هذا من البدع، التي لم يفعلها السلف; وقد قال تعالى. {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} 1، قال: عيسى ابن مريم، وعزير،   1 سورة آية: 56. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 198 والملائكة. وكذلك عن إبراهيم النخعي، قال: كان ابن عباس يقول في قوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} 1: (هو عزير، والمسيح، والشمس، والقمر) ; وكذلك شعبة روى عن السدي، عن أبي صالح، عن ابن عباس، قال: (عيسى وأمه والعزير) ، وعن عبد الله بن مسعود قال: (نزلت في نفر من العرب، كانوا يعبدون نفرا من الجن، فأسلم الجنيون، والإنس الذين كانوا يعبدونهم، لا يشعرون بإسلامهم، فنَزلت هذه الآية) ، ثبت ذلك عنه في صحيح البخاري. وهذه الأقوال كلها حق، فإن الآية تعم كل من كان معبوده عابدا لله، سواء كان من الملائكة، أو من الجن، أو من البشر; والسلف في تفسيرهم، يذكرون جنس المراد بالآية، على نوع التمثيل، كما يقول الترجمان لمن سأله: ما معنى لفظ "الخبز"؟ فيريه: رغيفا، فيقول: هذا، فالإشارة إلى نوعه لا إلى عينه، وليس مرادهم بذلك تخصيص نوع دون نوع، مع شمول الآية للنوعين؛ فالآية خطاب لكل من دعا دون الله مدعوا، وذلك المدعو يبتغي إلى الله الوسيلة، ويرجو رحمته ويخاف عذابه. فكل من دعا ميتا أو غائبا، من الأنبياء والصالحين، سواء كان بلفظ الاستغاثة، أو غيرها، فقد تناولته هذه   1 سورة الإسراء آية: 57. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 199 الآية، كما تتناول من دعا الملائكة والجن؛ ومعلوم أن هؤلاء كلهم وسائط، فيما يقدره الله بأفعالهم، ومع هذا فقد نهى الله تعالى عن دعائهم، وبين أنهم لا يملكون كشف الضر عن الداعين، ولا تحويلا، لا يرفعونه بالكلية، ولا يحولونه من موضع إلى موضع، كتغيير صفته أو قدره، ولهذا قال: {وَلَا تَحْوِيلًا} ، فذكر نكرة تعم أنواع التحويل. فكل من دعا ميتا، أو غائبا، من الأنبياء والصالحين، أو دعا الملائكة، أو دعا الجن، فقد دعا من لا يغيث، ولا يملك كشف الضر عنه، ولا تحويلا; وقد قال تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْأِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً} 1؛ وقد نص الأئمة أحمد وغيره، على أنه لا يجوز الاستغاثة بمخلوق، وهذا مما استدلوا به على أن كلام الله غير مخلوق، قالوا: لأنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه استعاذ بكلمات الله، وأمر بذلك؛ ولهذا نهى العلماء عن التعازيم، والتعاويذ التي لا يعرف معناها، خشية أن يكون فيها شرك. ومما يبين حكمة الشريعة، وعظم قدرها، وأنها كما قيل: كسفينة نوح، من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق، أن الذين خرجوا عن المشروع، زين لهم الشيطان أعمالهم، حتى خرجوا إلى الشرك، وطائفة من هؤلاء، يصلون إلى الميت، ويستدبر أحدهم القبلة، ويسجد للقبر;   1 سورة الجن آية: 6. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 200 ويقول أحدهم: القبلة قبلة العامة، وقبر الشيخ فلان قبلة الخاصة، وهذا يقوله من هو أكثر الناس عبادة وزهدا، وهو شيخ متبوع، ولعله من أمثل أتباع شيخه، يقوله في شيخه. وآخر من أعيان الشيوخ المتبوعين، أصحاب الصدق والاجتهاد في العبادة والزهد، يأمر المريد أول ما يذهب يتوب: أن يذهب إلى قبر الشيخ، فيعكف عليه عكوف أهل التماثيل عليها؛ وجمهور هؤلاء المشركين بالقبور، يجدون عند عبادة القبور من الرقة والخشوع، والدعاء وحضور القلب، ما لا يجده أحدهم في مساجد الله، التي أذن أن ترفع ويذكر فيها اسمه. وآخرون يحجون للقبور، وطائفة صنفوا مناسك حج المشاهد، كما صنف أبو عبد الله محمد بن النعمان، الملقب بالمفيد، أحد شيوخ الإمامية، كتابا في ذلك، وذكر فيه من الحكايات المكذوبة على أهل البيت، ما لا يخفى كذبه على من له معرفة بالنقل. وآخرون يسافرون إلى قبور المشائخ، وإن لم يسموا ذلك منسكا وحجا، فالمعنى واحد؛ ومن هؤلاء من يقول: وحق النبي الذي تحج إليه المطايا، فيجعل الحج إلى النبي لا إلى بيت الله (، وكثير من هؤلاء أعظم قصده من الحج، قصد قبر النبي صلى الله عليه وسلم لا حج البيت. وبعض الشيوخ المشهورين بالدين والزهد والصلاح، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 201 صنف كتابا أسماه "الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم في اليقظة والمنام"، وهذا الضال استعان بهذا الكتاب، وقد ذكر في مناقب هذا الشيخ: أنه حج مرة، وكان قبر النبي صلى الله عليه وسلم منتهى قصده، ثم رجع ولم يذهب إلى مكة، وجعل هذا من مناقبه؛ فإن كان هذا مستحبا، فينبغي لمن يجب عليه حج البيت إذا حج أن يجعل المدينة منتهى قصده، ولا يذهب إلى مكة، فإنه زيادة كلفة ومشقة، مع ترك الأفضل، وهذا لا يقوله عاقل. وبسبب الخروج عن الشريعة صار بعض أكابر الشيوخ عند الناس، ممن يقصده الملوك، والقضاة، والعلماء، والعامة، على طريق ابن سبعين، قيل عنه أنه كان يقول: البيوت المحجوجة ثلاثة: مكة، وبيت المقدس، والبيت الذي للمشركين بالهند، وهذا لأنه كان يعتقد أن دين اليهود حق ودين النصارى حق. وجاء بعض إخواننا العارفين- قبل أن يعرف حقيقتة- فقال له: أريد أن أسلك على يديك، فقال علي دين اليهود، أو النصارى، أو المسلمين؟ فقال اليهود والنصارى ليسوا كفارا فقال: لا تشدد عليهم، لكن الإسلام أفضل. ومن هؤلاء: من قدم الحج إلى المقابر، على الحج إلى البيت ; ومنهم من يرجح الحج إلى البيت، لكن قد يقول أحدهم: إنك إذا زرت قبر الشيخ مرتين أو ثلاثا، كان الجزء: 10 ¦ الصفحة: 202 كحجة ; ومن الناس من يجعل مقبرة الشيخ بمنْزلة عرفات، يسافرون إليها وقت الموسم، فيعرفون بها كما يعرف المسلمون بعرفات، كما يفعل هذا بالمشرق والمغرب. ومنهم: من يجعل السفر إلى المشهد والقبر الذي يعظمه، أفضل من الحج؛ ويقول أحد المريدين، للآخر- وقد حج سبع حجج إلى بيت الله العتيق-:أتبيعني زيارة قبر الشيخ بالحجج السبع؟ فشاور الشيخ، فقالوا: لو بعته كنت مغلوبا. ومنهم من يقول: من طاف بقبر الشيخ سبعا، كان كحجة، ومنهم من يقول: زيارة المغارة الفلانية ثلاث مرات كحجة. ومنهم من يحكي عن الشيخ الميت، أنه قال: كل خطوة إلى قبري كحجة، ويوم القيامة لا أبيع بحجة؛ وأنكر بعض الناس ذلك. فتمثل له الشيطان بصورة الشيخ في منامه، وزجره على إنكار ذلك، وهؤلاء وأمثالهم: صلاتهم، ونسكهم لغير الله رب العالمين، فليسوا على ملة الحنفاء. وليسوا من عمار مساجد الله، الذين قال الله فيهم: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ} 1، فعمار مساجد الله لا يخشون إلا الله.   1 سورة التوبة آية: 18. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 203 وعمار مشاهد القبور يخشون غير الله، ويرجون غير الله، حتى إن طائفة من أرباب الكبائر، الذين لا يخشون الله فيما يفعلونه من القبائح، كان إذا رأى قبة الميت، أو الهلال الذي على رأس القبة، فيخشى من فعل الفواحش، ويقول أحدهم لصاحبه: ويحك هذا هلال القبة، فيخشون المدفون تحت الهلال، ولا يخشون الذي خلق السماوات والأرض، وجعل أهلة السماء مواقيت للناس والحج. وهؤلاء إذا نوظروا، خوفوا مناظرهم، كما صنع المشركون بإبراهيم، قال تعالى: {وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ} 1 إلى قوله: {فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} 2. وآخرون قد جعلوا الميت بمنْزلة الإله، والشيخ الحي المتعلق به كالنبي؛ فمن الميت تطلب قضاء الحاجات، وكشف الكربات، وأما الحي فالحلال ما أحله، والحرام ما حرمة، وكأنهم في أنفسهم قد عزلوا الله عن أن يتخذوه إلها، وعزلوا محمدا صلى الله عليه وسلم أن يتخذوه رسولا.   1 سورة الأنعام آية: 80. 2 سورة آية: 81. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 204 وقد يجيء الحديث العهد بالإسلام، أو التابع لهم، الحسن الظن بهم أو غيره، يطلب من الشيخ الميت: إما دفع ظلم ملك يريد أن يظلمه، أو غير ذلك، فيدخل ذلك السادن، فيقول: قد قلت للشيخ، والشيخ يقول للنبي، والنبي يقول لله، والله قد بعث رسولا إلى السلطان فلان; فهل هذا إلا محض دين المشركين والنصارى، وفيه من الكذب والجهل، ما لا يستجيزه كل مشرك ونصراني، ولا يروج عليه. ويأكلون من النذور، والمنذور، وما يؤتى به إلى قبورهم، ما يدخلون به في قوله تعالى: {إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} 1، يعرضون بأنفسهم، ويمنعون غيرهم، إذ التابع لهم يعتقد أن هذا سبيل الله ودينه، فيمتنع بسبب ذلك من الدين الحق، الذي بعث الله به رسله وأنزل به كتبه. والله تعالى لم يذكر في كتابه المشاهد، بل ذكر المساجد، وأنها خالصة له، قال تعالى: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} 2، وقال تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} 3 الآية، وقال تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} 4 الآية،   1 سورة التوبة آية: 34. 2 سورة الأعراف آية: 29. 3 سورة التوبة آية: 18. 4 سورة النور آية: 36. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 205 وقال تعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً} 1، ولم يذكر بيوت الشرك، كبيوت الأصنام والمشاهد، ولا ذكر بيوت النار، لأن الصوامع والبيع لأهل الكتاب؛ فالممدوح من ذلك ما كان مبنيا قبل النسخ والتبديل، كما أثنى على اليهود والنصارى والصابئين، الذين كانوا قبل النسخ والتبديل، يؤمنون بالله واليوم الآخر، ويعملون الصالحات. فبيوت الأوثان، وبيوت النيران، وبيوت الكواكب، وبيوت المقابر، لم يمدح الله شيئا منها، ولم يذكر ذلك إلا في قصة من لعنهم النبي صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً} 2 فهؤلاء الذين اتخذوا مسجدا على أهل الكهف، كانوا من النصارى الذين لعنهم النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: " لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " 3،وفي رواية:?" والصالحين". ودعاء المقبورين من أعظم الوسائل إلى ذلك، وقد قدم بعض شيوخ المشرق، وتكلم معي في هذا، فبينت له فساد هذا، فقال أليس قد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا أعيتكم الأمور، فعليكم بأصحاب القبور"؟ فقلت: هذا مكذوب باتفاق أهل   1 سورة الحج آية: 40. 2 سورة الكهف آية: 21. 3 البخاري: الجنائز (1330) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (531) , والنسائي: المساجد (703) , وأحمد (1/218 ,6/34 ,6/80 ,6/121 ,6/252 ,6/255 ,6/274) , والدارمي: الصلاة (1403) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 206 العلم، لم يروه عن النبي صلى الله عليه وسلم أحد من علماء الحديث. وبسبب هذا وأمثاله، ظهر مصداق قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح "لتتبعن سنن من كان قبلكم، حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه. قالوا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟ ". وهؤلاء الغلاة المشركون، إذا حصل لأحدهم مطلوبه، ولو من كافر، لم يقبل على الرسول صلى الله عليه وسلم، بل يطلب حاجته من حيث يظن أنها تقضى. فتارة يذهب إلى ما يظنه قبر رجل صالح، ويكون فيه قبر كافر أو منافق، وتارة يعلم أنه كافر، أو منافق، ويذهب إليه، كما يذهب قوم إلى كنيسة، أو إلى موضع، يقال لهم: إنها تقبل النذر؛ فهذا يقع فيه عامتهم، وأما الأول فيقع فيه خاصتهم. حتى إن بعض أصحابنا، المباشرين لقضاء القضاة، لما بلغه أني أنهى عن ذلك، صار عنده من ذلك شبهة ووسواس، لما يعتقده من الحق فيما أذكره، ولما عنده من المعارضة، لذلك قال لبعض أصحابنا سرا: أنا جربت إجابة الدعاء عند قبر بالقرافة، فقال له ذلك الرجل: فأنا أذهب معك إليه، لنعرف من هو قبره، فذهب إليه، فوجد مكتوبا عليه "عبد علي" فعرفوا: أنه إما رافضي، أو إسماعيلي. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 207 وكان بالبلد جماعة كثيرون، يظنون فى العبيديين أنهم أولياء الله الصالحون، فلما ذكرت لهم أن هؤلاء كانوا منافقين زنادقة، وخيار من فيهم الرافضة، جعلوا يتعجبون ويقولون: نحن نذهب بالفرس التي فيها مغل إلى قبورهم فتشفى عند قبورهم، فقلت لهم: هذا من أعظم الأدلة على كفرهم. وطلبت طائفة من سياس الخيل، فقلت: أنتم بالشام ومصر، إذا أصاب الخيل المغل أين تذهبون بها؟ فقالوا: في الشام نذهب بها إلى قبور اليهود والنصارى، وإذا كنا بأرض الشمال، نذهب بها إلى القبور التي ببلاد الإسماعيلية، كالعليقة والمنيقة ونحوهما، وأما في مصر، فنذهب بها إلى دير هناك للنصارى، ونذهب بها إلى قبور هؤلاء الأشراف، وهم يظنون: أن العبيديين أشراف، لما أظهروا أنهم من أهل البيت. فقلت: هلا تذهبون إلى قبور صالحي المسلمين، مثل الليث بن سعد، والشافعي، وابن القاسم، ونفيسة، وغير هؤلاء، فقالوا: لا; فقلت لأولئك: اسمعوا، إنما يذهبون بها إلى قبور الكفار، والمنافقين، وبينت لهم سبب ذلك، فقلت: لأن هؤلاء يعذبون في قبورهم، والبهائم تسمع أصواتهم، كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح، فإذا سمعت ذلك فزعت؛ فبسبب الرعب الذي يحصل لها، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 208 تنحل بطونها، فتروث، فإن الفزع يقتضي الإسهال، فتعجبوا من ذلك؛ وهذا المعنى كثيرا ما كنت أذكره للناس، ولم أعلم أن أحدا قاله، ثم وجدته قد ذكره بعض العلماء. والمقصود هنا: أن كثيرا من الناس، يعظم قبر من يكون في الباطن كافرا، أو منافقا، ويكون هذا عنده والرسول من جنس واحد، لاعتقاده أن الميت يقضي حاجته، إذا كان رجلا صالحا، وكلا هذين عنده من جنس من يستغيث به. وكم من مشهد يعظمه الناس، وهو كذب، بل يقال: إنه قبر كافر، كالمشهد الذي بسفح جبل لبنان، الذي يقال إنه قبر نوح، فإن أهل المعرفة يقولون: إنه قبر بعض العمالقة، وكذلك مشهد الحسين الذي بالقاهرة، وقبر أبي بن كعب الذي في دمشق، اتفق العلماء على أنه كذب، ومنهم من قال: هما قبران لنصرانيين؛ وكثير من المشاهد متنازع فيها، وعندها شياطين تضل بسببها من تضل. ومنهم: من يرى في المنام شخصا، يظن أنه المقبور، ويكون ذلك شيطانا تصور بصورته، أو بغير صورته، كالشياطين التي تكون بالأصنام، وكالشياطين الذين يتمثلون لمن يستغيث بالأصنام، والموتى والغائبين؛ وهذا كثير في زماننا وغيره. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 209 مثل أقوام يرصدون بعض التماثيل التي بالبرابي بديار مصر، بأخميم وغيرها، يرصدون التمثال مدة، لا يتطهرون طهر المسلمين، ولا يصلون صلاة المسلمين، ولا يقرؤون حتى يتعلق الشيطان تلك الصورة، فيراها تتحرك فيضع فيها شمعة، أو غيرها، فيرى شيطانا قد خرج له، فيسجد لذلك الشيطان حتى يقضي بعض حوائجه. وقد يمكنه من فعل الفاحشة، حتى يقضي حوائجه، ومثل هذا كثير في شيوخ الترك الكفار، يسمونه "البوشت"، وهو: "المخنث"، إذا طلبوا منه بعض هذه الأمور، أرسلوا له من ينكحه، وينصبون له حركات عالية في ليلة ظلماء، وقربوا له خبزا، أو ميتة، وغنوا غناء يناسبه، بشرط أن لا يكون عندهم من يذكر الله، ولا هناك شيء فيه شيء من ذكر الله. ثم يصعد ذلك الشيخ المفعول به في الهواء، ويرون الدف يطير في الهواء، ويضرب من مد يده إلى الخبز، ويضرب الشيطان بآلات اللهو وهم يسمعون، ويغني لهم الأغاني التي كانت تغنيها آباؤهم الكفار، ثم قد يغيب، وكذلك الطعام، فيرونه وقد نقل إلى بيت "البوشت"، وقد لا يغيب، ويقربون له ميتة يحرقونها بالنار، ويقضي بعض حوائجهم؛ ومثل هذا كثير جدا للمشركين، فالذي يجري عند المشاهد، من جنس ما يجري عند الأصنام. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 210 وقد ثبت بطرق متعددة: أن ما يشرك به من دون الله، من صنم وقبر وغير ذلك، قد يكون عنده شياطين، تضل من أشرك به، وأن تلك الشياطين لا يقضون إلا بعض أغراضهم، وإنما يقضونها إذا حصل منهم من الشرك والمعاصي ما يحبه الشيطان: فمنهم من يأمر الداعي أن يسجد له، ومنهم من يأمره بالفواحش، وقد يفعلها الشيطان، وقد ينهاه عما أمر الله به، من التوحيد والإخلاص، والصلوات الخمس، وقراءة القرآن ونحو ذلك. والشياطين تغوي الإنسان، بحسب ما تطمع منه، فإن كان ضعيف الإيمان أمرته بالكفر البين، وإلا أمرته بما هو فسق أو معصية؛ وإن كان قليل العلم، أمرته بما لا يعلم أنه مخالف للكتاب والسنة؛ وقد وقع في هذا النوع كثير من الشيوخ، الذين لهم نصيب وافر، من الدين، والزهد، والعبادة، لكن لعدم علمهم بحقيقة الدين، الذي بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم، طمعت فيهم الشياطين، حتى أوقعوهم فيما يخالف الكتاب والسنة. وقد جرى لغير واحد من أصحابنا المشائخ، يستغيث بأحدهم بعض أصحابه، فيرى الشيخ قد جاء في اليقظة، حتى قضى ذلك المطلوب؛ وإنما هي شياطين تتمثل للمشركين، الذين يدعون غير الله، والجن بحسب الإنس، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 211 فالكافر للكافر، والفاجر للفاجر، والجاهل للجاهل، وأما أهل العلم والإيمان، فأتباع الجن لهم كأتباع الإنس، يتبعونهم فيما أمر الله تعالى به ورسوله. وقد حدثني بعض الثقات عن هذا الشيخ- يعني ابن البكري، الذي جوز في كتابه الاستغاثة بالرسول صلى الله عليه وسلم في كل ما يستغاث بالله- أنه كان يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم علم مفاتيح الغيب التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم: " خمس لا يعلمها إلا الله " 1، {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} 2، وأظنه ذكر عنه أنه قال: علمها بعد أن أخبر أنه لا يعلمها إلا الله. وآخر من جنسه، يباشر التدريس، وينسب إلى الفتيا، كان يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم ما يعلمه الله، ويقدر على ما يقدر الله عليه، وأن هذا السر انتقل بعده إلى الحسن، ثم انتقل في ذرية الحسن إلى الشيخ أبي الحسن الشاذلي، وقالوا: هذا مقام القطب الغوث، الفرد الجامع. وكان شيخ آخر، معظم عند أتباعه، يدعي هذه المنْزلة، ويقول: إنه "المهدي" الذي بشر به النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه يزوج عيسى بابنته، وأن نواصي الملوك والأولياء بيده، يولي من يشاء، ويعزل من يشاء، وأن الرب يناجيه دائما، وأنه الذي يمد حملة العرش وحيتان البحر.   1 البخاري: الجمعة (1039) , وأحمد (2/24 ,2/52 ,2/58 ,2/122) . 2 سورة لقمان آية: 34. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 212 وقد عزرته تعزيرا بليغا، في يوم مشهود، بحضرة من أهل المسجد الجامع، يوم الجمعة بالقاهرة، فعرفه الناس، وانكسر بسببه أشباهه من الدجاجلة. ومن هؤلاء: من يقول قول الله سبحانه: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} ، 1 أن الرسول هو الذي يسبح بكرة وأصيلا. ومنهم من يقول: نحن نعبد الله ورسوله، فيجعلون الرسول معبودا. ومنهم من يأتي إلى قبر الميت- الرجل أو المرأة- الذي يحسن الظن لنفسه، فيقول: اغفر لي وارحمني، ولا توقفني على زلة، ونحو هذا الكلام، إلى أمثال هذه الأمور، التي يتخذ فيها المخلوق إلها. ولما استقر هذا في نفوس عامتهم، تجد أحدهم إذا سئل عمن ينهاهم: ما يقول هذا؟ فيقول: فلان عنده ما ثم إلا الله، لما استقر في نفوسهم: أنهم يجعلون مع الله إلها آخر، وهذا كله وأمثاله وقع ونحن بمصر، وآخر يقول- معظما لمن يدعو إلى التوحيد-: قد جعل الآلهة إلها واحدا. وهؤلاء الضالون مستخفون بتوحيد الله، ويعظمون دعاء غير الله من الأموات؛ فإذا أمروا بالتوحيد، ونهوا عن الشرك، استخفوا به، كما أخبر تعالى عن المشركين،   1 سورة آية: 9. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 213 بقوله تعالى: {وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً} 1 الآية، فاستهزؤوا بالرسول صلى الله عليه وسلم لما نهاهم عن الشرك. وقال تعالى عن المشركين: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ} 2، وقال تعالى: {وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} 3، وذكر رحمه الله آيات كثيرة. وما زال المشركون يسفهون الأنبياء، ويصفونهم بالجنون، والضلال والسفاهة، كما قال قوم نوح لنوح، وعاد لهود: {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} 4، فأعظم ما سفهوه لأجله، وأنكروه، هو التوحيد. وهكذا تجد من فيه شبه هؤلاء من بعض الوجوه، إذا رأى من يدعو إلى توحيد الله، وإخلاص الدين له، وأن لا يعبد الإنسان إلا الله، ولا يتوكل إلا عليه، استهزأ بذلك، لما عنده من الشرك؛ وكثير من هؤلاء يخربون المساجد، فتجد المسجد الذي بني للصلوات الخمس، معطلا مخربا، ليس له كسوة إلا من الناس، كأنه خان من   1 سورة الفرقان آية: 41. 2 سورة آية: 36-37. 3 سورة آية: 4-5. 4 سورة الأعراف آية: 70. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 214 الخانات، والمشهد الذي بني على الميت، فعليه الستور وزينة الذهب والفضة، والرخام، والنذور تغدو، وتروح إليه. فهل هذا إلا من استخفافهم بالله وآياته ورسوله، وتعظيمهم للشرك؟ فإنهم اعتقدوا أن دعاء الميت الذي بني له المشهد، والاستغاثة به، أنفع لهم من دعاء الله، والاستغاثة به، في البيت الذي بني لله عز وجلففضلوا البيت الذي بني لدعاء المخلوق، على البيت الذي بني لله. وإذا كان لهذا وقف، ولهذا وقف، كان وقف الشرك أعظم عندهم منه، مضاهاة لمشركي العرب الذين ذكر الله حالهم في قوله تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيباً فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا} 1 الآية، كما يجعلون لله زرعا وماشية، ولآلهتهم زرعا وماشية، فإذا أصيب نصيب آلهتهم، أخذوا من نصيب الله فوضعوه فيه، وقالوا: الله غني، وآلهتنا فقيرة، فيفضلون ما يجعل لغير الله، على ما يجعل لله. وهكذا هؤلاء الوقوف والنذور التي تبذل عندهم للمشاهد، أعظم مما تبذل عندهم للمساجد، ولعمار المساجد، والجهاد في سبيل الله؛ وهؤلاء إذا قصد أحدهم القبر الذي يعظمه، بكى عنده وخضع، ويدعو ويتضرع،   1 سورة الأنعام آية: 136. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 215 ويحصل له من الرقة والتواضع، والعبودية، وحضور القلب، ما لا يحصل له مثله في الصلوات الخمس، والجمعة، وقيام الليل، وقراءة القرآن؛ فهل هذا إلا من حال المشركين المبتدعين، لا الموحدين المخلصين، المتبعين لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. ومثل هذا أنه إذا سمع أحدهم سماع الأبيات، يحصل له من الحضور، والخشوع، والبكاء، ما لا يحصل له مثله عند سماع آيات الله؛ فيخشع عند سماع المشركين المبتدعين، ولا يخشع عند سماع المتقين المخلصين؛ بل إذا سمعوا آيات الله اشتغلوا عنها، وكرهوها، واستهزؤوا بها، وبمن يقرؤها، ما يحصل لهم به أعظم نصيب، من قوله تعالى: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} 1. وإذا سمعوا القرآن، سمعوه بقلوب لاهية وألسن لاغية، كأنهم صم وعمي، وإذا سمعوا الأبيات، حضرت قلوبهم، وسكنت حركاتهم، حتى لا يشوب العطشان منهم ماء. ومن هؤلاء من إذا كانوا في سماعهم، فأذن المؤذن، قالوا: نحن في شيء أفضل مما دعانا إليه. ومنهم من يقول: كنا في الحضرة، فإذا قمنا إلى الصلاة صرنا إلى الباب. وقد سألني بعضهم عمن قال ذلك من هؤلاء الشيوخ   1 سورة التوبة آية: 65. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 216 الضلاّل، فقلت: كذب، كان في حضرة الشيطان، فصار على باب الله، فإن البدع والضلالة فيها من حضور الشيطان، ما قد فصل في غير هذا الموضع. والذين يجعلون دعاء الموتى، من الأنبياء والأئمة والشيوخ، أفضل من دعاء الله، أنواع متعددة، منهم من تقدم، ومنهم من يحكي أنواعا من الحكايات، حكاية: أن بعض المريدين استغاث بالله فلم يغثه، واستغاث بشيخه فأغاثه، وحكاية: أن بعض المأسورين في بلاد العدو، دعا الله فلم يخرجه، فدعا بعض المشائخ الموتى، فجاءه فأخرجه إلى بلاد الإسلام، وحكاية: أن بعض الشيوخ، قال لمريده: إذا كانت لك إلى الله حاجة، فتعال إلى قبري، وآخر قال: فتوسل إلى الله بي، وآخر قال: قبر فلان هو الترياق المجرب. فهؤلاء وأشباههم يرجحون هذه الأدعية على أدعية المخلصين لله، مضاهاة لسائر المشركين، وهؤلاء يتمثل لكثير منهم، صورة شيخه الذي يدعوه، فيظنه إياه، أو ملكا على صورته، وإنما هو شيطان أغواه. ومن هؤلاء من إذا نزلت به شدة لا يدعو إلا شيخه، ولا يذكر إلا اسمه، قد لهج به كما يلهج الصبي بذكر أمه، فيستنصر به أحدهم، فيقول: يا فلان؛ وقد قال الله تعالى للموحدين {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 217 ذِكْراً} 1 ومن هؤلاء من يحلف بالله ويكذب، ويحلف بشيخه وإمامه ويصدق، ولا يكذب؛ فيكون شيخه عنده في صدره أعظم من الله. فإذا كان دعاء الموتى، مثل الأنبياء والصالحين، يتضمن هذا الاستهزاء، بالله وآياته ورسوله، فأي الفريقين أحق بالاستهزاء بالله وآياته ورسوله؟ من كان يأمر بدعاء الموتى والاستغاثة بهم، مع ما يترتب على ذلك من الاستهزاء بالله وآياته ورسوله صلى الله عليه وسلم أو من كان يأمر بدعاء الله وحده لا شريك له، كما أمرت به رسله، ويوجب طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم ومتابعته في كل ما جاء به؟ وأيضا: فإن هؤلاء الموحدين، من أعظم الناس إيجابا لرعاية جانب الرسول صلى الله عليه وسلم وتصديقا له فيما أخبر، وطاعة له فيما أمر، واعتناء بمعرفة ما بعث به، والتمييز بين ما روي عنه، من الصحيح والضعيف، والصدق والكذب، واتباع ذلك دون ما خالفه، عملا بقوله تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} 2. وأما أولئك الضلاّل، أشباه المشركين والنصارى، فعمدتهم إما أحاديث ضعيفة، أو موضوعة، أو منقولات عمن لا يحتج بقوله، إما أن يكون كذب عليه، وإما أن يكون غلطا منه، إذ هي نقل غير مصدق، عن قائل غير   1 سورة البقرة آية: 200. 2 سورة الأعراف آية: 3. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 218 معصوم، وإن اعتصموا بشيء مما ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم حرفوا الكلم عن مواضعه، وتمسكوا بمتشابهه، وتركوا محكمه كما يفعل النصارى. وكما فعل هذا الضال، أخذ لفظ الاستغاثة، وهي تنقسم إلى الاستغاثة بالحي وبالميت، والاستغاثة بالحي تكون فيما يقدر عليه، وما لا يقدر عليه، فجعل حكم ذلك كله واحدا، ولم يكفه حتى جعل السؤال بالشخص من مسمى الاستغاثة، ولم يكفه ذلك، حتى جعل الطالب منه إنما طلب من الله، لا منه، فالمستغيث به مستغيثا بالله، ثم جعل الاستغاثة بالله بكل ميت، من نبي وصالح جائزة. واحتج على هذه الدعوى العامة الكلية، التي أدخل فيها من الشرك والضلال، ما لا يعلمه إلا ذو الجلال، بقضية خاصة جزئية، كسؤال الناس للنبي صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة أن يدعو الله، وتوجههم إلى الله بدعائه وشفاعته؛ ومعلوم أن هذا الذي جاءت به السنة، حق لا ريب فيه، لكن لا يلزم من ذلك، ثبوت جميع تلك الدعاوى العامة، وإبطال نقيضها، إذ الدعوى الكلية، لا تثبت بمثال جزئي، لا سيما عند الاختلاف والتباين. وهذا كمن يريد أن يثبت جميع الملاهي لكل أحد، والتقرب بها إلى الله، بكون جاريتين غنتا عند عائشة رضي الله عنها، في بيت النبي صلى الله عليه وسلم يوم عيد، مع كون وجهه الجزء: 10 ¦ الصفحة: 219 كان مصروفا إلى الحائط، لا إليهما، ويحتج على استماع كل قول، بقوله: {فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} 1، ولا يدري أن القول هنا، هو القرآن، كما في قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ} 2، وإلا فمسلم لا يسوغ استماع كل قول. وقد نهى الله عز وجلعن الجلوس مع الخائضين في آياتة، وخوضهم نوع من القول، فقال تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} 3 الآية، وقال تعالى: {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً} 4،وقال تعالى: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ} 5 الآية. وهذا الضال يجوز عنده أن يستغاث بالرسول، في كل ما يستغاث بالله، على معنى أنه وسيلة من وسائل الله، في طلب الغوث؛ وهذا عنده ثابت للصالحين، وهو ثابت عند هذا الضال بعد موته، ثبوتها في حياته، لأنه عند الله في مزيد دائم، لا ينقص جاهه. فدخل عليه الخطأ من وجوه: منها: أنه جعل المتوسل به بعد موته بالدعاء، مستغيثا به؛ وهذا لا يعرف في لغة أحد من الأمم، لا حقيقة ولا مجازا، مع دعواه الإجماع على ذلك؛ فإن المستغاث هو المسؤول المطلوب   1 سورة آية: 17. 2 سورة المؤمنون آية: 68. 3 سورة الأنعام آية: 68. 4 سورة الفرقان آية: 72. 5 سورة القصص آية: 55. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 220 منه، لا المسؤول به. الثاني: ظنه أن توسل الصحابة به في حياته، كان توسلا بذاته، لا بدعائه وشفاعته، فيكون التوسل به بعد موته كذلك؛ وهذا غلط، لكنه يوافقه طائفة من الناس، بخلاف الأول، فإني ما علمت أحدا وافقه عليه. الثالث: أنه أدرج سؤاله أيضا في الاستغاثة به، وهذا صحيح جائز في حياته؛ وهو قد سوى في ذلك بين محياه ومماته، وهذا أصاب في لفظ الاستغاثة، لكن أخطأ في التسوية، بين المحيا والممات. وهذا ما علمته ينقل عن أحد من العلماء، لكنه موجود في كلام بعض الناس، مثل الشيخ يحيى الصرصري، ففي شعره قطعة منه; والشيخ محمد بن النعمان، له كتاب المستغيثين بالنبي عليه السلام، في اليقظة والمنام، وهذا الرجل قد نقل منه، فيما يغلب على ظني. وهؤلاء لهم صلاح ودين، لكنهم ليسوا من أهل العلم، العالمين بمدارك الأحكام، الذين يؤخذ بقولهم، في شرائع الإسلام، ومعرفة الحلال والحرام، وليس لهم دليل شرعي، ولا نقل عن عالم مرضي، بل عادة جروا عليها، كما جرت عادة كثير من الناس، بأنه يستغيث بشيخه الجزء: 10 ¦ الصفحة: 221 في الشدائد، ويدعوه. وكان بعض الشيوخ الذين أعرفهم، ولهم فضل وعلم وزهد، إذا نزل به أمر، خطا إلى جهة الشيخ عبد القادر خطوات معدودة، واستغات به، وهذا يفعله كثير من الناس؛ ولهذا لما نبه من نبه من فضلائهم تنبهوا، وعلموا أن ما كانوا عليه، ليس من دين الإسلام، بل هو مشابهة لعباد الأصنام. لكن هؤلاء كلهم، ليس منهم من يعد نفي هذا والنهي عنه كفرا، إلا مثل هذا الأحمق الضال، الذي حاق به وبيل النكال؛ فإنه من غلاة أهل البدع الذين يبتدعون القول، ويكفرون من خالفهم فيه، كالخوارج والروافض والجهمية، فإن هذا القول الذي قالوه، لم يوافقهم عليه أحد من علماء المسلمين، الأولين، ولا الآخرين. وقد طاف بجوابه على علماء مصر، ليوافقه واحد منهم، فما وافقوه، وطلب منهم أن يخالفوا الجواب الذي كتبته، فما خالفوه؛ وقد كان بعض الناس يوافقه، على جواز التوسل بالنبي الميت، لكنهم لم يوافقوه على تسميته استغاثة، ولا على كفر من أنكر الاستغاثة به، ولا جعل هذا من السب؛ بل عامتهم وافقوا على منع الاستغاثة به، بمعنى أنه يطلب منه ما لا يقدر عليه إلا الله. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 222 وما علمت عالما نازع في أن الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم وغيره من المخلوقينبهذا المعنى لا تجوز، مع أن قوما كان لهم غرض، وفيهم جهل بالشرع، قاموا في ذلك قياما عظيما، واستغاثوا بمن كان له غرض من ذوي السلطان، وجمعوا الناس وعقدوا مجلسا عظيما، ضل فيه سعيهم، وظهر فيه جهلهم، وخاب فيه قصدهم، وظهر فيه الحق لمن يعاونهم من الأعيان، وتمنوا أن ما فعلوه ما كان، لأنه كان سببا لظهور الحق، مع الذي عادوه، وقاموا عليه، وسببا لانقلاب الخلق إليه، وكانوا كالباحث عن حتفه بظلفه، والجادع مارن أنفه بكفه، مع فرط تعصبهم، وكثرة جمعهم، وقوة سلطانهم، ومكائد شيطانهم. وهذه الطريقة التي سلكها هذا وأمثاله، هي طريقة أهل البدع الذين يجمعون بين الجهل والظلم، فيبتدعون بدعة مخالفة للكتاب والسنة وإجماع الصحابة، ويكفرون من خالفهم في بدعتهم، كالخوارج المارقين، وكذلك الروافض الذين كفروا من خالفهم من الصحابة وجمهور المؤمنين، حتى كفروا أبا بكر وعمر وعثمان، ومن والاهم، وأئمة السنة والجماعة. وأهل العلم والإيمان، فيهم العلم والعدل والرحمة، فيعلمون الحق الذي يكونون به موافقين للسنة، سالمين من البدعة، ويعدلون فيمن خرج عنها ولو ظلمهم، كما قال الجزء: 10 ¦ الصفحة: 223 تعالى: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} 1 الآية، وقال: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} 2 الآية. فلهذا كان أهل العلم والسنة، لا يكفرون من خالفهم، وإن كان ذلك المخالف يكفرهم، لأن الكفر حكم شرعي، فليس للإنسان أن يعاقب بمثله، كمن كذب عليك، وزنى بأهلك، ليس لك أن تكذب عليه، وتزني بأهله، لأن الكذب والزنى حرام لحق الله، وكذلك التكفير حق لله، فلا يكفر إلا من كفره الله ورسوله. وأيضا: فإن تكفير الشخص المعين وجواز قتله، موقوف على أن تبلغه الحجة النبوية، التي يكفر من خالفها؛ فليس كل من جهل شيئا من الدين يكفر ولهذا لما استحل طائفة، من الصحابة والتابعين- كقدامة بن مظعون وأصحابه- الخمر، وظنوا أنها تباح لمن عمل صالحا، على ما فهموه من آية المائدة، اتفق علماء الصحابة، كعمر وعلي وغيرهما، على أنهم يستتابون، فإن أصروا على الاستحلال كفروا، وإن أقروا به جلدوا، فلم يكفروهم بالاستحلال ابتداء، لأجل الشبهة التي عرضت لهم، حتى يتبين لهم الحق، فإذا أصروا على الجحود كفروا.   1 سورة النساء آية: 135. 2 سورة المائدة آية: 8. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 224 وقد ثبت في الصحيحين، حديث الذي قال لأهله: " إذا أنا مت فاسحقوني، ثم ذروني في اليم؛ فوالله لئن قدر الله علي، ليعذبني عذابا ما عذبه أحدا من العالمين. فأمر الله البر فرد ما أخذه منه، وأمر البحر فرد ما أخذه منه، وقال: ما حملك على ما فعلت؟ قال: خشيتك يا رب، فغفر له ". فهذا اعتقد أنه إذا فعل ذلك، لن يقدر الله على إعادته، وأنه لا يعيده، أو جوز ذلك، وكلاهما كفر، لكن كان جاهلا، لم يتبين له الحق، بيانا لا يعذر بمخالفته، فغفر الله له. ولهذا كنت أقول للجهمية، من الحلولية، والنفاة الذين نفوا أن يكون الله تعالى فوق العرش: أنا لو وافقتكم كنت كافرا، لأني أعلم أن قولكم كفر، وأنتم عندي لا تكفرون، لأنكم جهال، وكان هذا خطابا لعلمائهم، وقضاتهم، وشيوخهم، وأمرائهم. وهو قد احتج بحديث الأعمى، الذي قال: " اللهم إني أسألك، وأتوجه إليك بنبيك محمد، نبي الرحمة " 1، وهذا الحديث لا حجة فيه، لوجهين: أحدهما: أنه ليس هو استغاثة، بل توجه به. والثاني: أنه إنما توجه بدعائه وشفاعته، فإنه طلب من النبي صلى الله عليه وسلم الدعاء، وقال في آخره: اللهم فشفعه في، فعلم أنه شفع له، فتوسل بشفاعته لا بذاته، كما كان الصحابة يتوسلون بدعائه في الاستسقاء،   1 الترمذي: الدعوات (3578) , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1385) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 225 وكما توسلوا بدعاء العباس بعد مماته صلى الله عليه وسلم. وكل ذلك في أول الحديث أنه طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو له، فدل الحديث على أن النبي صلى الله عليه وسلم شفع له ودعا له، وإن النبي صلى الله عليه وسلم أمره هو أن يدعو الله تعالى، وأن يسأله قبول شفاعته، وقوله: يا محمد إني أتوجه بك إلى ربي في حاجتي هذه لتقضى، خطاب لما ظهر في قلبه، كما نقول في صلاتنا: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، وكما يستحضر الإنسان من يحبه ويبغضه في قلبه، ويخاطبه، وهذا كثير. وما ذكره من توسل آدم وحكاية المنصور، فجوابها من وجهين: أحدهما: أن هذا لا أصل له، ولا تقوم به حجة، ولا إسناد لذلك. والثاني: أنه لو دل على التوسل بذاته، لا يدل على الاستغاثة به. وأما اشتكاء البعير إليه، فهذا كاشتكاء الآدمي إليه، وما زال الناس يستغيثون به في حياته، كما يستغيثون به يوم القيامة؛ وقد قلنا إنه إذا طلب ما يليق بمنصبه، فهذا لا نزاع فيه؛ والطلب منه في حياته، والاستغاثة به في حياته فيما يقدر عليه، لم ينازع فيه أحد. فما ذكره لا يدل على مورد النِّزاع. ولكن هذا أخذ لفظ الاستغاثة، ومعناها العام، فجعل يشبه به، وهذا إنما يليق بمن: قال لا يستغيث به أحد حيا، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 226 ولا ميتا في شيء من الأشياء، ومعلوم أن العاقل لا يقول هذا في آحاد العامة، فضلا عن الصالحين، فضلا عن الأنبياء والمرسلين، فضلا عن سيد الأولين والآخرين؛ فإنه ما من أحد إلا يمكن أن يستغاث به في بعض الأشياء، فكيف أفضل الخلق، وأكرمهم على الله. ولكن النفي عاد إلى شيئين، إلى الاستغاثة به بعد الموت، وأن يطلب منه ما لا يقدر عليه إلا الله تعالى؛ وأما قول هؤلاء الجهال، فهو يستلزم الردة عن الدين، والكفر برب العالمين؛ ولا ريب أن أصل قول هؤلاء، هو من باب الشرك بالله، الذي هو الكفر، الذي لا يغفره الله تعالى. فإن الله سبحانه قال في كتابه: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً} 1 الآية، وقد قال غير واحد من السلف: هذه أسماء قوم صالحين، كانوا في قوم نوح، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوروا تماثيلهم، ثم عبدوهم. وقد ذكروا ذلك بعبارات متقاربة، في كتب الحديث، والتفسير، وقصص الأنبياء، كما ذكره البخاري في صحيحه، وجماعة من أهل الحديث، وقد أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} 2 الآية؛ فيقول أهل الضلال: هذا يقوله هو نفسه، وأما نحن   1 سورة نوح آية: 23. 2 سورة الكهف آية: 110. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 227 فليس لنا أن نقول: هذا بشر، بل نقول كما قال فلان وفلان، ومن زعم أن محمدا بشر كله، فقد كفر. وهذا يقوله قوم منهم، وهو تشبه بقول النصارى في المسيح، يقولون: ليس هو بشر كله، بل المسيح عندهم: اسم يتناول اللاهوت والناسوت، الإلهية والبشرية جميعا؛ وهذا يقوله طائفة من غلاة الصوفية والشيعة، يقولون باتحاد اللاهوت والناسوت، في الأنبياء والصالحين، كما تقول النصارى في المسيح. ونحن نعلم بالضرورة: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشرع لأمته، أن يدعوا أحدا من الأموات، لا الأنبياء، ولا الصالحين، ولا غيرهم، بلفظ الاستغاثة، ولا غيرها، كما أنه لم يشرع لأمته السجود لميت، ولا إلى ميت، ونحو ذلك؛ بل نعلم: أنه نهى عن كل هذه الأمور، وأن ذلك من الشرك الذي حرمه الله ورسوله، ولكن لغلبة الجهل، وقلة العلم بآثار الرسالة في كثير من المتأخرين، لم يمكن تكفيرهم بذلك، حتى يتبين لهم ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم مما يخالفه. ولهذا ما بينت هذه المسألة قط، لمن يعرف دين الإسلام إلا تفطن لها، وقال: هذا أصل دين الإسلام؛ وكان بعض أكابر الشيوخ- العارفين- من أصحابنا، يقول: هذا أعظم ما بينته لنا، لعلمه أن هذا أصل الدين. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 228 وكان هذا وأمثاله في ناحية أخرى، يدّعون الإسلام، ويدعون الأموات، ويسألونهم، ويستجيرون بهم، ويفزعون إليهم، وربما كان ما يفعلونه بالأموات أعظم، لأنهم إنما يقصدون الميت في ضرورة نزلت بهم، فيدعونه دعاء المضطر، راجين قضاء حاجاتهم بدعائه، والدعاء به عند قبره، بخلاف عبادتهم لله، ودعائهم إياه، فإنهم يفعلون ذلك في كثير من الأوقات، على وجه التكلف والعادة. حتى إن العدو الخارج من الإسلام، لما قدم دمشق، خرجوا يستغيثون بالموتى عند القبور، يرجون عندها كشف ضرهم، وقال بعض الشعراء: يا خائفين من التتر ... لوذوا بقبر أبي عمر أو قال: عوذوا بقبر أبي عمر ... ينجيكمو من الضرر فقلت لهم: هؤلاء الذين تستغيثون بهم، لو كانوا معكم في القتال لانهزموا، كما انهزم من انهزم من المسلمين يوم أحد، فإنه قضى أن العسكر ينكسر لأسباب اقتضت ذلك، والحكمة كانت لله في ذلك؛ ولهذا كان أهل المعرفة بالدين والمكاشفة، لم يقاتلوا في تلك المرة، لعدم القتال الشرعي الذي أمر الله به ورسوله. فلما كان بعد ذلك، جعلنا نأمر الناس بإخلاص الجزء: 10 ¦ الصفحة: 229 الدين لله، والاستغاثة به، وأنهم لا يستغيثون إلا إياه، لا يستغيثون بملك مقرب، ولا نبي مرسل، فلما أصلح الناس أمورهم، وصدقوا في الاستغاثة بربهم، نصرهم على عدوهم، نصرا لم يتقدم نظيره، ولم يهزم مثل هذه الهزيمة قبل ذلك أصلا، لما صح من توحيد الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم ما لم يكن قبل ذلك. فإن الله ينصر رسله، والذين آمنوا في الحياة الدنيا، ويوم يقوم الأشهاد، كما قال تعالى في يوم بدر: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} 1 وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر كان يقول: "يا حي يا قيوم، لا إله إلا أنت، برحمتك أستغيث "،وفي لفظ " أصلح لي شأني كله، ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين، ولا إلى أحد من خلقك " 2. وهؤلاء يدعون الميت والغائب، فيقول أحدهم: بك أستغيث، بك أستجير، أغثنا، أجرنا، ويقول: أنت تعلم ذنوبي، ومنهم من يقول للميت: اغفر لي وارحمني، وتب علي، ونحو ذلك؛ ومن لم يقل من عقلائهم، فإنه يقول: أشكو إليك ذنوبي، وأشكو إليك عدوي، وأشكو إليك جور الولاة، وظهور البدع، وجدب الزمان، أو غير ذلك. فيشكو إليه ما حصل من ضرر في الدين والدنيا، ومقصوده بالشكوى: أن يشكيه، فيزيل ذلك الضرر عنه؛   1 سورة الأنفال آية: 9. 2 أبو داود: الأدب (5090) , وأحمد (5/42) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 230 وقد يقول مع ذلك: أنت تعلم ما نزل بنا من الضرر، وأنت تعلم ما فعلته من الذنوب، فيجعل الميت، أو الحي الغائب، عالما بذنوب العباد وجزئياتهم، التي يمتنع أن يعلمها بشر حي أو ميت. ثم منهم من يطلق سؤاله والشكوى، ظانا أنه يقضي حاجته، كما يخاطب بذلك ربه، بناء على أنه يمكنه ذلك بطريق من الطرق، وأنه وسيلة وسبب، وإن كان السائل لا يعلم وجه ذلك. وعقلاؤهم يقولون: مقصودنا أن يسأل الله لنا، ويشفع لنا، ويظنون أنهم إذا سألوه بعد موته، أنه يسأل الله لهم، فإنه يسأل ويشفع، كما يسأل ويشفع لما سأله الصحابة رضي الله عنهم الاستسسقاء وغير ذلك، وكما يشفع يوم القيامة إذا سئل الشفاعة؛ ولا يعلمون أن سؤال الميت أو الغائب، غير مشروع البتة، ولم يفعله أحد من الصحابة، بل عدلوا عن سؤاله وطلب الدعاء منه، إلى سؤال غيره وطلب الدعاء منه، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم وسائر الأنبياء والصالحين وغيرهم، لا يطلب منه بعد موته من الأمور، ما كان يطلب منه في حياته، والله أعلم، انتهى ملخصا. فتأمل رحمك الله، كلامه ساعة بعد ساعة، ويوما بعد يوم، وشهرا بعد شهر، وسنة بعد سنة، لعلك أن تعرف دين الإسلام، الذي بعث الله به جميع رسله، وأنزل به جميع كتبه، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً الجزء: 10 ¦ الصفحة: 231 أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} 1 وقال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} 2، وقال تعالى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} 3. ثم تأمل ما ذكره الشيخ، من أنواع الشرك الأكبر، الذي قد وقع في زمانه، لمن يدعي العلم والمعرفة، وينتصب للفتيا والقضاء، لكن لما نبههم الشيخ على ذلك، وبين لهم أن هذا هو الشرك الذي حرمه الله ورسوله، تنبهوا وعرفوا أن ما هم عليه شرك وضلال، وانقادوا للحق، وأن بعضهم لما بين له ذلك، قال: هذا أحسن ما بينته لنا، يتبين لك غربة الإسلام؛ وهذا مصداق ما تواترت به الأحاديث، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لتتبعن سنن من كان قبلكم " 4 الحديث. وتأمل أيضا: ما وقع من هذا الرجل، وتجويزه الاستغاثة بغير الله، وأنه يجوز الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم في كل ما يستغاث به الله، واحتجاجه على ذلك بمتشابه القرآن والسنة، وتكفير من قال: إنه لا يستغاث إلا بالله في الأمور التي لا يقدر عليها إلا الله، من كشف الشدائد وإنزال الفوائد. ثم تأمل رد الشيخ رحمه الله عليه، بالآيات   1سورة النحل آية: 36. 2 سورة الأنبياء آية: 25. 3 سورة الزخرف آية: 45. 4 البخاري: أحاديث الأنبياء (3456) , ومسلم: العلم (2669) , وأحمد (3/84 ,3/89) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 232 المحكمات، والبراهين القاطعات، من الأحاديث الصريحات، يتبين لك الأمر إن هداك الله، وتنْزاح عنك الشبهة التي أدخلت كثيرا من الناس النار، وهي الاغترار بما عليه الآباء والأجداد، وما استمر عليه عمل كثير من أهل البلاد. ومن أعجب ما ذكره الشيخ رحمه الله، عن هؤلاء المشركين في زمانه: أن أحدهم يسجد للقبر ويستدبر القبلة، ويقول أحدهم: القبلة قبلة العامة، وقبر الشيخ فلان قبلة الخاصة؛ قال رحمه الله في هذا: يقوله من هو أكثر الناس عبادة وزهدا، وهو شيخ متبوع. قلت: كما يشاهد اليوم في زماننا، يفعل في مشهد علي، وغيره من المشاهد، والمساجد، المبنية على القبور، ويجدون عند عبادة القبور، من الرقة، والخشوع، والبكاء، أعظم مما يجدون في بيوت الله. بل إذا قام أحدهم في الصلاة بين يدي الله، نقرها نقر الغراب، ومنهم من يحلف بالله اليمين الغموس كاذبا، فإذا قيل له: احلف بتربة فلان، أو بفلان، أبى أن يحلف كاذبا، فيكون فلان، أو تربته، والشيخ فلان، أعظم في صدره من الله؛ فإنا لله وإنا إليه راجعون، ما أعظمها من مصيبة! تالله إنها فتنة عمت فأعمت، وربت على القلوب والأسماع، فأصمت. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 233 وتأمل أيضا رحمك الله، قول الشيخ رحمه الله: وهذا ما علمته ينقل عن أحد من العلماء، لكنه موجود في كلام بعض الناس، مثل الشيخ يحيى الصرصري، والشيخ محمد بن النعمان، وأن هؤلاء وأشباههم، ليسوا من أهل العلم، العالمين بمدارك الأحكام، الذين يؤخذ بقولهم في شرائع الإسلام، ومعرفة الحلال والحرام. فإن الشيخ يحيى الصرصري الحنبلي، في شعره قطعة من دعوة الرسل، والاستغاثة بهم، وكذلك غيره من المصنفين في الزيارة؛ فإياك أن تغتر بذلك، وتقلدهم في ذلك، فإنه ليس لهم في ذلك مستند صحيح، لا من كتاب ولا سنة، ولا نقل عن عالم مرضي، بل قال الشيخ رحمه الله: عادة جروا عليها، فلا يقتدى بهم في ذلك؛ إنما يقتدى في الدين بكلام رب العالمين، وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، رضي الله عنهم أجمعين. فهل تجد أحدا من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد موته، واستغاث به، أو استشفع به إلى ربه، أو قال: يا رسول الله اشفع لي إلى ربك، أو اقض ديني، أو فرج كربتي، أو انصرني، أو اغفر لي ذنبي؟ بل جردوا التوحيد لله تعالى، وحموا جانبه، ولهذا كان "عبد الله بن عمر، وغيره من الصحابة، إذا سلم على النبي صلى الله عليه وسلم يقف، فيقول: السلام عليك يا رسول الله. ثم الجزء: 10 ¦ الصفحة: 234 يقف فيقول: السلام عليك يا أبا بكر، ثم يقف فيقول: السلام عليك يا أبت". وإذا أراد أحدهم الدعاء، جعل ظهره إلى جدار القبر، واستقبل القبلة إذا أراد أن يدعو، حتى لا يدعو عند القبر؛ وذكر الإمام أحمد وغيره: أنه يستقبل القبلة، ويجعل القبر عن يساره، لئلا يستدبره، وذلك بعد تحيته، والصلاة والسلام عليه صلى الله عليه وسلم، ثم يدعو لنفسه؛ وذكروا أنه إذا حياه، وصلى عليه، يستقبل وجهه بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم فإذا أراد الدعاء جعل الحجرة عن يساره، واستقبل القبلة ودعا الله. وذكر أصحاب مالك: أنه يدنو من القبر، فيسلم على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يدعو مستقبل القبلة، يوليه ظهره، وقيل لا يوليه ظهره؛ وإنما اختلفوا لما فيه من استدباره، فأما إذا جعل الحجرة عن يساره، فقد زال المحذور بلا خلاف. وقال مالك في المبسوط: لا أرى أن يقف عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن يصلي ويسلم، فهذا هو هدي السلف الصالح، من الصحابة رضي الله عنهم، والتابعين لهم بإحسان، والأئمة الأربعة. وما أحسن ما قال الإمام مالك رحمه الله: لن يصلح آخر هذه الأمة، إلا ما أصلح أولها، ولكن كلما ضعف تمسك الأمم بعهود أنبيائهم، عوضوا عن ذلك بما أحدثوا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 235 من البدع، والشرك، وغيره، ولهذا كرهت الأئمة استلام القبر وتقبيله، وبنوا بناء منعوا الناس أن يصلوا إليه، والله أعلم. وتأمل أيضا قول الشيخ رحمه الله، في آخر الكلام: ولا ريب أن أصل قول هؤلاء، هو الشرك الأكبر، والكفر الذي لا يغفره الله إلا بالتوبة منه، وأن ذلك يستلزم الردة عن الدين، والكفر برب العالمين، كيف صرح بكفر من فعل هذا وردته عن الدين، إذا قامت عليه الحجة من الكتاب والسنة، ثم أصر على فعل ذلك؛ وهذا لا ينازع فيه من عرف دين الإسلام، الذي بعث الله به رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم؛ والله أعلم. فصل: [في تعريف المرتد وحكمه] قال في "الإقناع" وشرحه: باب حكم المرتد، وهو الذي يكفر بعد إسلامه، نطقا، أو شكا، أو فعلا، ولو مميزا، فتصح ردته كإسلامه، لا مكرها، لقوله: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ} 1، ولو هازلا، لعموم قوله تعالى: {مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ} 2 الآية، وأجمعوا على وجوب قتل المرتد. فمن أشرك بالله تعالى، كفر بعد إسلامه، لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} 3، أو جحد ربوبيته، أو وحدانيته، كفر، لأن جاحد ذلك مشرك بالله تعالى، أو جحد صفة من   1 سورة النحل آية: 106. 2 سورة المائدة آية: 54. 3 سورة النساء آية: 48. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 236 صفاته، أو اتخذ له صاحبة أو ولدا كفر، أو ادعى النبوة، أو صدق من ادعاها بعد النبي صلى الله عليه وسلم كفر، لأنه مكذب‘ لقوله تعالى: {وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} 1، أو جحد نبيا، أو كتابا من كتب الله، أو شيئا منه، أو جحد الملائكة، أو واحدا ممن ثبت أنه ملك كفر، لتكذيبه القرآن، أو جحد البعث كفر، أو سب الله ورسوله كفر، أو استهزأ بالله أو كتبه، أو رسله، كفر، لقوله: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُون} 2. قال الشيخ: أو كان مبغضا لرسوله، أو لما جاء به اتفاقا، أو جعل بينه وبين الله وسائط، يتوكل عليهم، ويدعوهم، ويسألهم، كفر إجماعا، لأن ذلك كفعل عابدي الأصنام، قائلين: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} 3، أو أتى بقول أو فعل صريح في الاستهزاء بالدين الذي شرعه الله، كفر، للآية السابقة، أو وجد منه امتهان للقرآن، كفر. وإن أتى بقول يخرجه عن الإسلام، مثل أن يقول: هو يهودي، أو نصراني، فهو كافر، أو سخر بوعد الله، أو وعيده، فهو كافر، لأنه كالاستهزاء بالله، أو لم يكفر من دان بغير الإسلام، أو شك في كفرهم، إلى أن قال: ومن قال: أنا محتاج إلى محمد، في علم الظاهر دون   1 سورة الأحزاب آية: 40. 2 سورة التوبة آية: 65. 3 سورة الزمر آية: 3. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 237 علم الباطن، أو قال: من الأولياء من يسعه الخروج عن الشريعة، كما وسع الخضر الخروج من شريعة موسى، فهو كافر. ومن سب الصحابة رضي الله عنهم، أو واحدا منهم، واقترن بسبه دعوى أن عليا إله، وأن جبرائيل غلط، فلا شك في كفر هذا، بل لا شك في كفر من توقف في تكفيره، وأما من لعن، أو قبح مطلقا، فهذا محل الخلاف، توقف أحمد في تكفيره وقتله. ويحرم تعلم السحر وتعليمه وفعله، وهو عقد، ورقى، وكلام يتكلم به، أو يكتبه، أو يعمل شيئا يؤثر في بدن المسحور، أو عقله أو قلبه، من غير مباشرة؛ وله حقيقة، فمنه ما يقتل، ومنه ما يمرض، ومنه ما يأخذ الرجل عن امرأته، ومنه ما يفرق بين المرء وزوجته، ومنه ما يبغض أحدهما إلى الآخر، ويحبب بين اثنين، ويكفر بتعلمه وفعله، سواء اعتقد تحريمه أو إباحته، كالذي يركب الجماد من مكة وغيرها، فيطير به في الهواء. وأما الذي يعزم على الجن، ويزعم أنه يجمعها، فتطيعه، فلا يكفر، ويعزر تعزيرا بليغا، دون القتل، كالمنجم، والضارب بحصى أو شعر، والنظر في ألواح الأكتاف، إذا لم يعتقد إباحته، وأنه لا يعلم به، عزر، ويكف عنه، وإلا كفر. وقال في شرحه، عند قوله: أنا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 238 محتاج إلى محمد، في علم الظاهر، قال: وقد عمت به البلوى في زمنه، في مصر والشام؛ والله أعلم، وصلى الله على محمد، وآله وصحبه وسلم. [حال من صدر منه الكفر من غير قصد] وسئل أيضا، الشيخ عبد الله بن الشيخ، رحمهما الله تعالى، عن حال من صدر منه كفر من غير قصد منه بل هو جاهل، هل يعذر، سواء كان قولا، أو فعلا، أو توسلا؟ فأجاب: إذا فعل الإنسان الذي يؤمن بالله ورسوله، ما يكون فعله كفرا، أو اعتقاده كفرا، جهلا منه بما بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم، فهذا لا يكون عندنا كافرا، ولا نحكم عليه بالكفر حتى تقوم عليه الحجة الرسالية، التي يكفر من خالفها. فإذا قامت عليه الحجة، وبين له ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وأصر على فعل ذلك بعد قيام الحجة عليه، فهذا هو الذي يكفر، وذلك لأن الكفر: إما يكون بمخالفة كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وهذا مجمع عليه بين العلماء في الجملة. واستدلوا بقوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} 1، وبقوله: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً} 2 إلى قوله: {بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ} 3.   1 سورة الإسراء آية: 15. 2 سورة الزمر آية: 71. 3 سورة الزمر آية: 71. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 239 واستدلوا أيضا: بما ثبت في الصحيحين والسنن، وغيرها من كتب الإسلام، من حديث حذيفة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن رجلا ممن كان قبلكم، قال لبنيه: إذا أنا مت فأحرقوني، ثم ذروا نصفي في البر، ونصفي في البحر؛ فوالله لئن قدر الله علي، ليعذبني عذابا لا يعذبه أحدا من العالمين. فأمر الله البحر فجمع ما فيه، وأمر الله البر فجمع ما فيه، ثم قال له: كن، فإذا الرجل قائم. قال الله: ما حملك على ذلك؟ قال خشيتك ومخافتك، فما تلافاه أن رحمه " 1. فهذا الرجل اعتقد أنه إذا فعل به ذلك، لا يقدر الله على بعثه، جهلا منه لا كفرا ولا عنادا، فشك في قدرة الله على بعثه، ومع هذا غفر له ورحمه، وكل من بلغه القرآن، فقد قامت عليه الحجة بالرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن الجاهل يحتاج إلى من يعرفه بذلك من أهل العلم، والله أعلم. [من كان مقيما بين أهله في دار الكفر] وسئل أيضا، الشيخ عبد الله بن محمد، قال السائل: سميتم المسلم الجالس بين أهله وولده ببلده، مشركا كافرا، والله سبحانه يقول: {وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ} 2 الآية، يوم فتح مكة، وهم بين ظهراني المشركين، وقد سماهم الله مؤمنين.   1 البخاري: التوحيد (7506) , ومسلم: التوبة (2756) , والنسائي: الجنائز (2079) , وابن ماجه: الزهد (4255) , وأحمد (2/269 ,2/304) , ومالك: الجنائز (568) . 2 سورة الفتح آية: 25. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 240 فأجاب: إن الله تبارك وتعالى قد بين لنا في كتابه، أن المراد بذلك المستضعفين من الرجال والنساء والولدان، الذين لا يقدرون على الهجرة، كما قاله في سورة النساء: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً} 1. ذكر أهل التفسير عن ابن عباس رضي الله عنهما أنها نزلت في قوم من المسلمين، خرجوا مع المشركين يوم بدر كرها، فقتلوا بالرمي، فلما رآهم بعض الصحابة في القتلى، قالوا: قتلنا إخواننا، فأنزل الله هذه الآية. وبين فيها حكم هؤلاء المشركين، وأنهم من أهل النار، مع تكلمهم بالإسلام، ولكن لم يهاجروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل اختاروا الجلوس في بلدهم، بين أهليهم وأولادهم، خوفا من الفقر والفاقة في بلد الإسلام، ولم يعذرهم الله بذلك، لأنهم يستطيعون الهجرة، فقالت لهم الملائكة: {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} 2. ثم بين سبحانه حكم من تسقط عنه الهجرة، بقوله:   1 سورة آية: 97. 2 سورة النساء آية: 97. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 241 {إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً} 1 إلى الهجرة، فحكمه حكم المسلم، لا يجوز قتله ولا أخذ ماله، وقد ثبت في سنن أبي داود وغيره: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أنا بريء من مسلم بين ظهراني المشركين " 2، وهو محمول على القادر على الهجرة، والله أعلم. [سؤال حول حديث "صنفان من أمتي لا تنالهما شفاعتي يوم القيامة ... "] وسئل أيضا، الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد، رحمهما الله، عما يذكر في الحديث: "صنفان من أمتي ليس لهما في الإسلام نصيب: المرجئة والقدرية"، وقوله في الحديث: "صنفان من أمتي لا تنالهما شفاعتي يوم القيامة: المرجئة والقدرية" الخ؟ فأجاب: الحديثان ليسا بثابتين عند أهل العلم، وعند أهل الحديث، وليسا في الكتب الستة المعتمدة، المسماة دواوين الإسلام؛ وإنما يذكر هذا بعض المصنفين، الذين يروون الغث والسمين، ولا يميزون بين الصحيح، والضعيف، والحسن، والموضوع؛ فلا ينبغي للسائل أن يعبر بمثل هذه العبارة، في مثل هذه الأحاديث وما شاكلها. وإنما ينبغي له أن يقول: يذكر في الحديث، أو يروى في بعض الكتب، وأشباه هذه العبارة، التي يفعلها أهل التحقيق والعرفان، من أهل الفقه والحديث، وذلك لأنه لا ينبغي أن يجزم بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إلا فيما ثبت   1 سورة النساء آية: 98. 2 الترمذي: السير (1604) , والنسائي: القسامة (4780) , وأبو داود: الجهاد (2645) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 242 إسناده، وصححه أهل العلم بهذا الشأن، لأنه ثبت في الأحاديث الصحيحة، من رواية جماعة من الصحابة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن كذبا علي ليس ككذب على غيري؛ من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار "، وفي صحيح مسلم: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من حدث عني بحديث وهو يرى أنه كذب، فهو أحد الكاذبين " 1؛ فلهذا كان كثير من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، يهابون الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والجزم به، إلا فيما ثبت عندهم وقطعوا عليه. وقد أخرج إسحاق بن راهويه في مسنده، من حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه مرفوعا: " صنفان من أمتي لا يدخلون الجنة: القدرية والمرجئة "، قال الحافظ ابن حجر: فيه انقطاع، من رواية بقية بن الوليد. وأخرج أيضا إسحاق، من رواية بقية بن الوليد، حدثني سليمان بن جعفر الأعبدي، عن محمد بن أبي ليلى، عن أبيه عن جده أبي ليلى: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " صنفان من أمتي لا يردون على الحوض: القدرية والمرجئة "، وبقية بن الوليد، مختلف فيه؛ ووثقه بعضهم إذا روى عن الثقات، وضعفه إذا روى عن المجهولين. قال أبو مسهر الغساني: أحاديث بقية ليست بنقية.   1 مسلم: مقدمة (1) , والترمذي: العلم (2662) , وابن ماجه: المقدمة (39 ,41) , وأحمد (4/255 ,5/14) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 243 فكن من أحاديث بقية على تقية; وقال أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به، ومحمد بن أبي ليلى ضعيف عند أهل الحديث، كان يحيى القطان يضعفه؛ قال أحمد بن حنبل: سيء الحفظ، مضطرب الحديث، في حديثه اضطراب. إذا علمت ذلك، فاعلم ألهمك الله للصواب، وأزال عن قلبك ظلم الشك والارتياب أن الذي عليه المحققون من العلماء، أن أهل البدع كالخوارج والمرجئة والقدرية والرافضة ونحوهم، لا يكفرون، وذلك لأن الكفر لا يكون، إلا بإنكار ما علم من الدين بالضرورة. وأما الجهمية: فالمشهور من مذهب أحمد، وعامة أئمة أهل السنة تكفيرهم؛ فإن قولهم صريح في مناقضة ما جاءت به الرسل، من الكتاب والسنة، وحقيقة قولهم: جحود الصانع، وجحود ما أخبر به عن نفسه، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، بل وجميع الرسل. ولهذا قال عبد الله بن المبارك: "إنا لنحكي كلام اليهود والنصارى، ولا نستطيع أن نحكي كلام الجهمية"، وبهذا كفروا من يقول: إن القرآن مخلوق، وإن الله لا يرى في الآخرة، وأن الله ليس على العرش، وأنه ليس له علم، ولا قدرة، ولا رحمة، ولا غضب، ولا غير ذلك من صفاته. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 244 وهم عند كثير من السلف، مثل ابن المبارك، ويوسف بن أسباط، وطائفة من أصحاب أحمد، ليسوا من الثلاث والسبعين فرقة، التي افترقت عليها هذه الأمة. وأصول هذه الفرق هم الخوارج، والشيعة والمرجئة، والقدرية ; ولا تختلف نصوص أحمد أنه لا يكفر المرجئة، فإن بدعتهم من جنس اختلاف الفقهاء في الفروع، وكذلك الذين يفضلون عليا على أبي بكر، وذلك قول طائفة من الفقهاء، ولكن يبدعون ; وفي الأدلة الشرعية، ما يوجب أن الله لا يعذب من هذه الأمة مخطئا على خطئه. وقد ثبت في الصحيح من حديث أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " قال رجل لم يعمل حسنة قط لأهله، إذا مات فحرقوه، ثم ذروا نصفه في البر، ونصفه في البحر، فوالله لئن قدر الله عليه ليعذبنه عذابا لا يعذبه أحدا من العالمين. فلما مات فعلوا به كما أمرهم، فأمر الله البر فجمع ما فيه، وأمر البحر فجمع ما فيه، ثم قال له: لم فعلت هذا؟ قال من خشيتك يا رب؛ فغفر له " 1. وهذا الحديث ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم من طرق متعددة من رواية جماعة من الصحابة، منهم أبو سعيد الخدري، وحذيفة، وعقبة بن عامر؛ فهذا الرجل قد وقع له الشك   1 البخاري: التوحيد (7506) , ومسلم: التوبة (2756) , والنسائي: الجنائز (2079) , وابن ماجه: الزهد (4255) , وأحمد (2/269) , ومالك: الجنائز (568) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 245 والجهل، في قدرة الله تعالى، على إعادة من فعل به ما أمر أهله أن يفعلوه. فهذا الرجل لما كان مؤمنا بالله في الجملة، ومؤمنا باليوم الآخر في الجملة، وهو: أن الله يثيب، ويعاقب بعد الموت، فهذا عمل صالح، فغفر الله له بما كان معه، من الإيمان بالله واليوم الآخر، وإنما أخطأ من شدة خوفه؛ وقد وقع الخطأ الكثير في الخلق، في هذه الأمة، واتفقوا على عدم تكفير من أخطأ، مثل ما أنكر بعض الصحابة أن يكون الميت يسمع نداء الحي، وأنكر بعضهم أن يكون المعراج يقظة. "وكان شريح القاضي ينكر قراءة من قرأ (بل عجبتُ) بالرفع، ويقول: إن الله لا يعجب، فبلغ ذلك إبراهيم النخعي، فقال: إنما شريح شاعر، يعجبه علمه، كان عبد الله أفقه منه، وكان يقرأ (بل عجبت") فهذا أنكر قراءة ثابتة، وأنكر صفة لله، دل عليها الكتاب والسنة، واتفقت الأمة، على أن شريحا إمام من الأئمة. وكذلك بعض العلماء أنكر حروفا من القرآن، كما أنكر بعضهم {أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا} 1 فقال إنما هي: "ألم يتبين الذين آمنوا"، وهذا الخطأ معفو عنه بالإجماع؛ وكذلك الخطأ في الفروع العلمية، فإن المخطئ فيها لا يكفر، ولا يفسق، بل ولا يأثم، وإن كان بعض   1 سورة الرعد آية: 31. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 246 المتكلمة، والمتفقهة يجعل المخطئ فيها آثما، وبعض المتفقهة يعتقد أن كل مجتهد فيها مصيب، فهذان القولان شاذان. والإجماع منعقد على أن من بلغته دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم فلم يؤمن بها، فهو كافر، ولا يقبل منه الاعتذار بالاجتهاد، لظهور أدلة الرسالة، وأعلام النبوة؛ والنصوص إنما أوجبت رفع المؤاخذة، بالخطأ لهذه الأمة؛ وإذا كان كذلك، فأصول الإيمان تقتضي وجوب الإيمان بالواجبات الظاهرة المتواترة، وتحريم المحرمات الظاهرة المتواترة. والجاحد لها كافر بالاتفاق، مع أن المجتهد في بعضها إذا أخطأ ليس بكافر بالاتفاق، مع أن كثيرا من أهل البدع، يوجد فيهم النفاق الأكبر، والردة عن الإسلام؛ فما أكثر ما يوجد في الرافضة، والجهمية، ونحوهم، زنادقة منافقون، فأولئك {فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} 1. وأصل ضلال هؤلاء، هو الإعراض عما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من الكتاب والحكمة، وابتغاء الهدى من غيرهما؛ فمن كان هذا أصله، فهو بعيد عن الخير، والرسالة إنما هي للعامة فوق الخاصة، كما يقوله قوم من المتفلسفة والمتصوفة.   1 سورة النساء آية: 145. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 247 وأكثر السلف يرون قتل الداعية إلى البدعة، لما يجري على يديه من الفساد في الدين، سواء قالوا إنه كافر، أو ليس بكافر، وذلك لأن الدعاء إلى المقالة التي تخالف الكتاب والسنة، أعظم من قولها، وإثابة قائلها وعقوبة تاركها، أعظم من مجرد الدعوة إليها. فتكفير المعين من هؤلاء الجهال وأمثالهم، بحيث يحكم عليه بأنه مع الكفار، لا يجوز الإقدام عليه، إلا بعد أن تقوم على أحدهم الحجة بالرسالة، التي يتبين بها لهم أنهم مخالفون للرسول صلى الله عليه وسلم، وإن كانت مقالتهم هذه لا ريب أنها كفر، فإن نفي الصفات كفر، والتكذيب بأن الله لا يرى في الآخرة كفر، وإنكار أن يكون الله على العرش كفر، وإنكار القدر كفر؛ وبعض هذه البدع أشد من بعض، والله أعلم. [الرد على سؤال حول الرافضة] وسئل أيضا: الشيخ عبد الله رحمه الله، عن بيان حكم الرافضة، وعن قول من يقول: إن من تكلم بالشهادتين لم يجز تكفيره؟ فأجاب، رحمه الله تعالى: الرافضة في الأصل طوائف، منهم طائفة يسمون المفضلة، لتفضيلهم عليا رضي الله عنه على سائر الصحابة رضي الله عنهم، ولا يلعنون؛ ومنهم طائفة يزعمون غلط جبرائيل عليه السلام الجزء: 10 ¦ الصفحة: 248 في الرسالة، ولا شك في كفر هذه الطائفة؛ وأكثرهم في الأصل يعترفون برسالة محمد صلى الله عليه وسلم ويزعمون أن الخلافة لعلي، ويلعنون الصحابة رضي الله عنهم، ويفسقونهم. ونذكر ما ذكره الشيخ تقي الدين، رحمه الله، في حكمهم، قال رحمه الله في "الصارم المسلول": ومن سب الصحابة أو واحدا منهم، واقترن بسبه دعوى أن عليا إله، أو نبي، وأن جبرائيل غلط، فلا شك في كفر هذا؛ بل لا شك في كفر من توقف في كفره. ومن قذف عائشة رضي الله عنها، بما برأها الله منه، كفر بلا خلاف، إلى أن قال: وأما من لعن وقبح- يعني لعن الصحابة رضي الله عنهم-، ففيه الخلاف، هل يفسق أو يكفر؟ وتوقف أحمد في تكفيره، وقال: يعاقب ويجلد، ويحبس حتى يموت أو يتوب. قال الشيخ رحمه الله: وأما من جاوز ذلك، كمن زعم أن الصحابة ارتدوا بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا نفرا يسيرا قليلا، لا يبلغون بضعة عشر، أو أنهم فسقوا، فلا ريب أيضا في كفر قائل ذلك؛ بل من شك في كفره فهو كافر، انتهى. فهذا حكم الرافضة في الأصل، وأما حكم متأخريهم الآن، فضموا الآن مع الرفض الشرك العظيم، الذي يفعلونه عند المشاهد الذي ما بلغه شرك العرب، الذين بعث إليهم الجزء: 10 ¦ الصفحة: 249 رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأما قول من يقول: إن من تكلم بالشهادتين ما يجوز تكفيره، وقائل هذا القول لا بد أن يتناقض، ولا يمكنه طرد قوله، في مثل من أنكر البعث، أو شك فيه، مع إتيانه بالشهادتين، أو أنكر نبوة أحد من الأنبياء الذين سماهم الله في كتابه، أو قال الزنى حلال، أو نحو ذلك، فلا أظن يتوقف في كفر هؤلاء وأمثالهم، إلا من يكابر ويعاند. فإن كابر وعاند، وقال: لا يضر شيء من ذلك، ولا يكفر به من أتى بالشهادتين، فلا شك في كفره، ولا كفر من شك في كفره، لأنه بقوله هذا مكذب لله ولرسوله، ولإجماع المسلمين؛ والأدلة على ذلك ظاهرة بالكتاب والسنة والإجماع. فمن قال: إن التلفظ بالشهادتين لا يضر معهما شيء، أو قال: من أتى بالشهادتين وصلى وصام لا يجوز تكفيره، وإن عبد غير الله فهو كافر، ومن شك في كفره فهو كافر، لأن قائل هذا القول مكذب لله ورسوله، وإجماع المسلمين كما قدمنا، ونصوص الكتاب والسنة في ذلك كثيرة، مع الإجماع القطعي، الذي لا يستريب فيه من له أدنى نظر في كلام العلماء، لكن التقليد والهوى يعمي ويصم {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} 1.   1 سورة النور آية: 40. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 250 وليعلم من أنعم الله عليه بمعرفة الشرك، الذي يخفى على أكثر الناس اليوم، أنه قد منح أعظم النعم، {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا} 1، {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْأِيمَانَ} 2 إلى قوله: {فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً} 3، ثم لا يأمن من من الله عليه بذلك من الافتتان. اللهم إذ هديتنا للإسلام فلا تنْزعه منا، ولا تنْزعنا منه حتى توفانا عليه، {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} 4. انتهى ملخصا، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. [حكم من سب الصحابة] وسئل أيضا الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد، رحمهما الله: من سب الصحابه هل يكفر أو يفسق؟ وما الدليل على ذلك؟ فأجاب: فسقه لا خلاف فيه، لقوله عليه السلام: " سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر " 5؛ وأما تكفيره: فاختلف العلماء في ذلك، فمنهم من كفره كما يذكر عن مالك، واحتج على كفره بقوله تعالى: {لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} 6، قال فكل من غاظوه فهو كافر، لهذه الآية. والذي عليه الأكثر عدم تكفيره، وتوقف أحمد في تكفيره وقتله؛ وأما تعزيره وتأديبه، بالضرب، والحبس،   1 سورة يونس آية: 58. 2 سورة الحجرات آية: 7. 3 سورة الحجرات آية: 8. 4 سورة آل عمران آية: 8. 5 البخاري: الإيمان (48) , ومسلم: الإيمان (64) , والترمذي: البر والصلة (1983) والإيمان (2634 ,2635) , والنسائي: تحريم الدم (4105 ,4106 ,4108 ,4109 ,4110 ,4111 ,4112 ,4113) , وابن ماجه: المقدمة (69) والفتن (3939) , وأحمد (1/385 ,1/411 ,1/417 ,1/433 ,1/439 ,1/446 ,1/454 ,1/460) . 6 سورة الفتح آية: 29. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 251 الذي يزجره عن ذلك، فلا خلاف فيه. [الاستغاثة بالمخلوق] وسئل: هل يجوز التحاكم إلى غير كتاب الله؟ فأجاب: لا يجوز ذلك، ومن اعتقد حله فقد كفر، وهو من أعظم المنكرات، ويجب على كل مسلم الإنكار على من فعل ذلك؛ ولا يستريب في هذا من له أدنى علم. وقال أيضا: وأما المبحث الثاني عمن كان يستغيث بالمخلوق عند الشدائد، بالنداء والدعاء، ويستغيث ويتوسل، ويتوجه بنبيه صلى الله عليه وسلم أو بالصالحين، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في أدعية الصباح: " أسألك بنور وجهك الذي أشرقت له السماوات والأرض، وبكل حق هو لك، وبحق السائلين عليك، أن تقيلني في هذه الغداة "،مع الحديث الآخر: " إن رجلا ضرير البصر أتى النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: ادع الله أن يعافيني، قال: إن شئت دعوت، وإن شئت صبرت فهو خير لك. قال ادعه، قال: فأمره أن يتوضأ فيحسن الوضوء، ويدعو بهذا الدعاء: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، يا محمد، إني أتوجه بك إلى ربي في حاجتي لتقضى، اللهم فشفعة فيّ " 1: فهذان الحديثان مصرحان بالتوسل والتوجه والدعاء، والتشفع والنداء. وأما حكم من فعل ذلك، وهو غير قاصد للشرك،   1 الترمذي: الدعوات (3578) , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1385) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 252 ولا معاند للإسلام، فالفرق ظاهر بينه وبين من قصد الشرك والعناد، بعد معرفة التوحيد. فنقول: الجواب- وبالله التوفيق-: أما سؤال الميت والغائب، نبيا كان أو غيره، تفريج الكربات، وإغاثة اللهفات، والاستغاثة به في الأمور المهمات، فهو من المحرمات المنكرة، باتفاق أئمة المسلمين؛ لم يأمر الله به ولا رسوله، ولا فعله أحد من الصحابة ولا التابعين لهم بإحسان، ولا استحبه أحد من أئمة المسلمين؛ وهذا مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام. فإنه لم يكن أحد منهم إذا نزلت به ترة، أو عرضت له حاجة، أو نزلت به كربة وشدة، يقول لميت: يا سيدي فلان أنا في حسبك، أو اقض حاجتي، وأنا مستشفع بك إلى ربي، كما يقول بعض هؤلاء المشركين لمن يدعونهم، من الموتى والغائبين؛ ولا أحد من الصحابة استغاث بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد موته، ولا بغيره من الأنبياء، لا عند قبورهم ولا إذا بعدوا عنها، ولا كانوا يقصدون قبورهم للدعاء والصلاة عندها. ولهذا ثبت في الصحيح: أن الناس لما قحطوا في زمان عمر بن الخطاب رضي الله عنه استسقى بالعباس، وتوسل بدعائه، وقال: (اللهم إنا كنا نتوسل إليك إذا أجدبنا بنبينا، فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا، فاسقنا) ، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 253 فيسقون؛ وكذلك معاوية رضي الله عنه لما استسقى بأهل الشام، توسل بيزيد بن الأسود الجرشي. فهذا الذي ذكره عمر رضي الله عنه توسل منهم بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم وشفاعته في حياته؛ ولهذا توسل بعده بدعاء العباس، وتوسل معاوية بدعاء يزيد بن الأسود؛ وهذا الذي ذكره الفقهاء في كتاب الاستسقاء، وقالوا: يستحب أن يستسقى بالصالحين، وإذا كانوا من أقارب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو أفضل. وهذه الأمور المبتدعة عند القبور أنواع، أبعدها عن الشرع من يسأل الميت حاجته، كما يفعله كثير من الناس، وهؤلاء من جنس عباد الأصنام، وقد قال الله تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} 1 الآية. قال طائفة من السلف: كان أقوام يدعون الملائكة، والمسيح، وعزيرا، فقال الله لهم: هؤلاء عبيدي كما أنتم عبيدي، يرجون رحمتي كما ترجون رحمتي، ويخافون عذابي كما تخافون عذابي؛ فكل من دعا نبيا، أو وليا، أو صالحا، وجعل فيه نوعا من الإلهية، فقد تناولته هذه الآية، فإنها عامة في كل من دعا من دون الله مدعوا، وذلك المدعو يبتغي إلى الله الوسيلة، ويرجو رحمته ويخاف   1 سورة آية: 57. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 254 عذابه. فكل من دعا ميتا أو غائبا، من الأنبياء أو الصالحين، سواء كان بلفظ الاستغاثة أو غيرها، فقد فعل الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله إلا بالتوبة منه؛ ومعلوم أن هؤلاء كلهم، يجعلونهم وسائط فيما يقدره الله بأفعالهم، ومع هذا فقد نهى عن دعائهم، وبين أنهم لا يملكون كشف الضر عن الداعين ولا تحويله، لا يرفعونه بالكلية، ولا يحولونه من موضع إلى موضع، كتغيير صفته أو قدره، ولهذا قال: {ولا تحويلا} فذكر نكرة تعم أنواع التحويل. فكل من دعا ميتا أو غائبا من الأنبياء والصالحين، أو دعا الملائكة أو الجن، فقد دعا من لا يغيث، ولا يملك كشف ضره ولا تحويله، وقد قال تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْأِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً} 1. وقد نص الأئمة كأحمد وغيره، على أنه لا يجوز الاستغاثة بمخلوق، وهذا مما استدلوا به على أن كلام الله غير مخلوق، قالوا: لأنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه استعاذ بكلمات الله، وأمر بذلك، فدل على أن كلمات الله غير مخلوقة، وأنها صفة من صفاته، لأن الاستغاثة بالمخلوق لا تجوز. والمقصود: أن يعلم السائل- وفقه الله- أن الاستغاثة بالمخلوق في الأمور التي لا يقدر عليها إلا الله، من كشف   1 سورة الجن آية: 6. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 255 الكربات، وإغاثة اللهفات، وإجابة الدعوات، من الشرك الذي لا يغفره الله؛ وهو من الغلو الذي ذمة الله في كتابه، حيث قال: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} 1، وقال: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} 2. والغلو في الصالحين هو من فعل المشركين، كما حكاه سبحانه عن قوم نوح، في قوله: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً} 3 الآية، قال ابن عباس: (هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما ماتوا أوحى الشيطان إلى قومهم: أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابا، وسموا بأسمائهم ففعلوا فلم تعبد، حتى إذا هلك أولئك ونسي العلم عبدت". فكل من غلا في نبي أو رجل صالح، وجعل فيه نوعا من العبادة مثل أن يقول: يا سيدي فلان انصرني، أو أغثني، أو ارزقني، أو اجبرني، أو أنا في حسبك، ونحو هذه الأقوال؛ فكل هذا شرك وضلال، يستتاب صاحبه، فإن تاب وإلا قتل. فإن الله إنما أرسل الرسل، وأنزل الكتب، ليعبد وحده، ولا يجعل معه إله آخر، والذين يدعون مع الله آلهة   1 سورة النساء آية: 171. 2 سورة المائدة آية: 77. 3 سورة نوح آية: 23. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 256 أخرى، مثل المسيح والملائكة والأصنام، لم يكونوا يعتقدون أنها تخلق الخلائق، أو تنْزل المطر، أو تنبت النبات؛ وإنما كانوا يعبدونهم، أو يعبدون قبورهم، أو صورهم، يقولون: إنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى، ويقولون: هؤلاء شفعاؤنا عند الله، كما أخبر الله عنهم بذلك في كتابه، في غير ما آية، فبعث الله رسله تنهى أن يدعى أحد من دونه، لا دعاء عبادة ولا دعاء استغاثة. وعبادة الله وحده هي أصل الدين، وهي التوحيد الذي أمر الله به الرسل، وأنزل به الكتب، قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} 1، {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} 2. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحقق التوحيد، ويعلمه أمته، حتى قال له رجل: ما شاء الله وشئت، قال: (أجعلتني لله ندا؟ بل ما شاء الله وحده " 3، وقال فيما ثبت عنه في الصحيحين وغيرهما " لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله " 4، ونهى عن الحلف بغير الله، وقال: " من حلف بغير الله فقد اشرك " 5. وقال في مرض موته: " لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " 6، يحذر ما صنعوا، وقال: "اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد " 7، رواه مالك في الموطأ ;   1 سورة النحل آية: 36. 2 سورة الأنبياء آية: 25. 3 أحمد (1/283) . 4 البخاري: أحاديث الأنبياء (3445) , وأحمد (1/23 ,1/24 ,1/47 ,1/55) . 5 الترمذي: النذور والأيمان (1535) , وأبو داود: الأيمان والنذور (3251) , وأحمد (2/34 ,2/69 ,2/86 ,2/125) . 6 البخاري: الجنائز (1330) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (531) , والنسائي: المساجد (703) , وأحمد (1/218 ,6/34 ,6/80 ,6/121 ,6/252 ,6/255 ,6/274) , والدارمي: الصلاة (1403) . 7 أحمد (2/246) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 257 وروى الطبراني عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إنه لا يستغاث بي، وإنما يستغاث بالله ". ولهذا كانت كلمة التوحيد أفضل الكلام وأعظمه، فأعظم آية في القرآن: آية الكرسي {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} 1، وقال صلى الله عليه وسلم: " من كان آخر كلامه لا إله إلا الله، دخل الجنة " 2 والإله: هو الذي يألهه القلب، خشية له وإجلالا وإكراما. ولهذا اتفق أئمة الإسلام، على أنه لا يشرع بناء المساجد على القبور، ولا الصلاة عندها، وذلك لأن من أكبر أسباب عبادة الأوثان، كان تعظيم القبور؛ ولهذا اتفق العلماء، على أن من سلم على النبي صلى الله عليه وسلم عند قبره لا يتمسح بحجرته، ولا يقبلها، لأن ذلك إنما يكون لأركان بيت الله، فلا يشبه بيت المخلوق ببيت الخالق؛ كل هذا لتحقيق التوحيد الذي هو أصل الدين ورأسه، الذي لا يقبل الله عملا إلا به، ويغفر لصاحبه ولا يغفر لمن تركه. قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً} 3، ولما "كان للمشركين سدرة يعكفون عندها، ويسمونها ذات أنواط، فقال بعض الصحابة: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، قال صلى الله عليه وسلم: الله أكبر! إنها السنن، لتركبن سنن من كان   1 سورة البقرة آية: 255. 2 أبو داود: الجنائز (3116) , وأحمد (5/233 ,5/247) . 3 سورة النساء آية: 48. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 258 قبلكم "،فأنكر صلى الله عليه وسلم مجرد مشابهتهم. فإذا كان اتخاذ الشجرة لتعليق الأسلحة، والعكوف حولها، اتخاذ إله مع الله، وهم لا يعبدونها، ولا يسألونها، فما الظن بالعكوف حول القبر، ودعائه، والدعاء عنده، والدعاء به؟ وأي شبه للفتنة بالشجرة، إلى الفتنة بالقبر، لو كان أهل الشرك والبدع يعلمون؟ ! ومن له خبرة بما بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم وبما عليه أهل الشرك والبدع اليوم، في هذا الباب وغيره، علم أن بين السلف وبينهم أبعد مما بين المشرق والمغرب؛ والأمر والله أعظم مما ذكرنا، وبالله التوفيق. النوع الثاني: من الأمور المبتدعة عند القبور: أن يسأل الله تعالى به، وهذا يفعله كثير من المتأخرين، وهو من البدع المحدثة في الإسلام؛ لكن بعض العلماء يرخص فيه، وبعضهم ينهى عنه ويكرهه، وليس هذا مثل النوع الذي قبله، فإنه لا يصل إلى الشرك الأكبر عند من كرهه، ولا يسمى هذا استغاثة بالرسول صلى الله عليه وسلم وإنما هو سؤال به. والفرق بينه وبين الذي قبله، فرق عظيم، أبعد مما بين المشرق والمغرب؛ والسائل- سامحه الله- لم يفرق بين هذا وهذا، وجعل هذين النوعين نوعا واحدا، وهذا جهل عظيم بدين الإسلام، الذي بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم الجزء: 10 ¦ الصفحة: 259 وبما درج عليه السلف الصالح، من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، ومن سلك سبيلهم. والعامة الذين يتوسلون في أدعيتهم بالأنبياء والصالحين، كقول أحدهم: أتوسل إليك بنبيك، أو بأنبيائك، أو بملائكتك، أو بالصالحين من عبادك، أو بحق الشيخ فلان، أو بحرمته، أو أتوسل إليك باللوح والقلم، أو بالكعبة وغير ذلك مما يقولونه في أدعيتهم، يعلمون أنهم لا يستغيثون بهذه الأمور، ولا يسألونها وينادونها، فإن المستغيث بالشيء، طالب منه، سائل له، والمتوسل به لا يدعو، ولا يطلب منه ولا يسأل، وإنما يطلب به. وكل أحد يفرق بين المدعو به، وبين المدعو المستغاث; والاستغاثة هي طلب الغوث، وهو إزالة الشدة، كالاستنصار طلب النصر، والاستعانة طلب العون، والمخلوق إنما يطلب منه من هذه الأمور، ما يقدر عليه منها، كما قال تعالى: {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} 1، وكما قال: {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} 2. وأما ما لا يقدر عليه إلا الله، فلا يطلب إلا من الله، كما قال تعالى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} 3، حتى إن المشركين عبدة الأوثان، يخلصون الدعاء لله، والاستغاثة به في الشدة، وينسون ما يشركون، لعلمهم أنه   1 سورة الأنفال آية: 72. 2 سورة القصص آية: 15. 3 سورة النمل آية: 62. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 260 لا يقدر على تفريج الكربات، وقضاء الحاجات، وإغاثة اللهفات إلا رب الأرض والسماوات، كما قال تعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ} 1. وقال تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} 2، وقال تعالى: {وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} 3 الآية، وقال تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الْأِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَاداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} 4. ولا يعرف في لغة أحد من بني آدم، أن من قال: أتوسل إليك برسولك، أو: أتوجه إليك برسولك، فقد استغاث به حقيقة، فإنهم يعلمون أن المستغاث به مسؤول مدعو، فيفرقون بين المسؤول، والمسؤول به، سواء استغاث بالخالق، أو بالمخلوق، فإنه يجوز أن يستغاث بالمخلوق، فيما يقدر عليه، والنبي صلى الله عليه وسلم أفضل مخلوق يستغاث به في مثل ذلك. فلو قال قائل فيمن يستغيث به: أسألك بفلان، أو بحق فلان، لم يقل أحد إنه استغاث بمن توسل به، بل   1 سورة الإسراء آية: 67. 2 سورة العنكبوت آية: 65. 3 سورة لقمان آية: 32. 4 سورة الزمر آية: 8. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 261 إنما استغاث بمن دعاه وسأله؛ ولهذا قال المصنفون في شرح أسماء الله الحسنى، أن المغيث بمعنى المجيب، لكن الإغاثة أخص بالأفعال، والإجابة أخص بالأقوال. والتوسل إلى الله في الدعاء بغير نبينا صلى الله عليه وسلم، لا نعلم أحدا من السلف فعله، ولا روى فيه أثرا؛ وقد قال أبو الحسين القدوري الحنفي، في شرح الكرخي: قال بشر بن الوليد: سمعت أبا يوسف قال: قال أبو حنيفة: لا ينبغي لأحد أن يدعو الله إلا به، وأكره أن تقول بمعقد العز من عرشك، أو بحق خلقك، وهو قول أبي يوسف. قال أبو يوسف: بمعقد العز من عرشك، هو الله، فلا أكره هذا، وأكره بحق فلان، أو بحق أنبيائك ورسلك، وبحق البيت، والمشعر الحرام؛ بهذا الحق قالوا جميعا يكره، انتهى. وكذلك قال الشيخ أبو محمد بن عبد السلام، الفقيه الشافعي، في فتاويه المشهورة عنه: أنه لا يجوز التوسل إلى الله تعالى بخلقه، إلا بالنبي صلى الله عليه وسلم إن صح الحديث فيه، يعني حديث الأعمى، الذي رواه الترمذي وغيره؛ والمسألة بخلقه لا تجوز، لأنه لاحق للمخلوق على الخالق، فلا يجوز أن يسأل ما ليس لمستحق. ولكن معقد العز من عرشك، هل هو سؤال بمخلوق؟ أو بالخالق؟ فيه نزاع بينهم، فلذلك تنازعوا فيه; وأبو يوسف بلغه الأثر فيه: أسألك بمعقد العز من الجزء: 10 ¦ الصفحة: 262 عرشك، ومنتهى الرحمة من كتابك، وباسمك الأعظم، وجدك الأعلى، وكلماتك التامة، فجوزه لذلك، والله أعلم. وأما الجواب عن الحديثين المذكورين، فمن وجوه: أحدها: أن يقال قد أجاب عنها غير واحد من العلماء، على تقدير صحتها، بأن المعنى بحق السائلين عليك، أي: الحق الذي أوجبه الله على نفسه للسائلين، وهو الإجابة. ولا ريب أن الله جعل على نفسه حقا لعباده المؤمنين، كما قال تعالى: {وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} 1، وكما قال: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} 2. وفي حديث معاذ في الصحيحين: " أتدري ما حق العباد على الله؟ قلت: الله ورسوله أعلم " 3 الحديث؛ فهذا حق وجب بكلماته التامة، ووعده الصادق. وقد اتفق العلماء على وجوب ما يجب، بوعده الصادق، وتنازعوا: هل يوجب بنفسه على نفسه؟ ومن جوز ذلك احتج بقوله: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} 4 وبقوله في الحديث "إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرما " 5 وأما الإيجاب عليه، والتحريم، بالقياس على خلقه،   1 سورة الروم آية: 47. 2 سورة الأنعام آية: 54. 3 البخاري: الجهاد والسير (2856) واللباس (5967) والاستئذان (6267) والرقاق (6500) والتوحيد (7373) , ومسلم: الإيمان (30) , والترمذي: الإيمان (2643) , وابن ماجه: الزهد (4296) , وأحمد (5/228 ,5/230 ,5/234 ,5/236 ,5/238 ,5/242) . 4 سورة الأنعام آية: 54. 5 مسلم: البر والصلة والآداب (2577) , وأحمد (5/160) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 263 فهو قول القدرية والمعتزلة، وهو قول مبتدع، مخالف لصحيح المنقول، وصريح المعقول، ولهذا كان من قال من أهل السنة بالوجوب، قال: إنه كتب على نفسه الرحمة، وحرم على نفسه، لا أن العبد نفسه مستحق على الله شيئا، كما يكون للمخلوق على المخلوق. فإن الله هو المنعم على العباد بكل خير، فهو الخالق لهم، وهو المرسل إليهم الرسل، وهو الميسر لهم الإيمان والعمل، وإذا كان كذلك، فالحق الذي لعباده، هو من فضله وامتنانه؛ وإذا سئل بما جعله هو سببا للمطلوب، من الأعمال الصالحة، التي وعد أصحابها كرامته، وإجابته لدعائهم، فهو سؤال وتسبب بما جعله الله سببا. الوجه الثاني: أن يقال: إن الله إذا سئل بشيء ليس سببا للمطلوب، فإما أن يكون إقساما عليه به، فلا يقسم على الله بمخلوق، وإما أن يكون سؤالا بما لا يقتضي المطلوب، فيكون عديم الفائدة؛ فالأنبياء والمؤمنون، لهم حق على الله بوعده الصادق لهم، وكلماته التامة، هذا حق وليس فيه محذور؛ وأما إذا سئل بنفس ذوات الأنبياء والصالحين، لم يكن في ذلك سبب يقتضي المطلوب. الوجه الثالث: أن يقال: الذي جاءت به السنة، وتواتر في الأحاديث، هو التوسل والتوجه والإقسام عليه بأسمائه وصفاته، وبالأعمال كالأدعية المعروفة في الجزء: 10 ¦ الصفحة: 264 السنن: " اللهم إني أسألك بأن لك الحمد، لا إله إلا أنت، المنان، بديع السماوات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام " 1 الحديث. وفي الحديث الآخر: " اللهم إني أسألك بأنك أنت الله، لا إله إلا أنت، الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد "، وفي الحديث الآخر: "أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك " 2 الحديث. وقد أخبر الله تعالى عن عباده الصالحين، أنهم سألوا الله بالأعمال الصالحة، فقال تعالى: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا} 3 الآيات. وكما ثبت في الصحيحين، في قصة الثلاثة الذين أووا إلى الغار، فدعوا الله، وتوسلوا إليه بالأعمال الصالحة، وكالتوسل بدعاء الأنبياء والصالحين، وشفاعتهم في حياتهم، فهذا مما لا نزاع فيه، بل هو من الوسيلة التي أمر الله بها، في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} 4، وقوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} 5 الآية،   1 النسائي: السهو (1300) , وأبو داود: الصلاة (1495) . 2 أحمد (1/452) . 3 سورة آل عمران آية: 193. 4 سورة المائدة آية: 35. 5 سورة الإسراء آية: 57. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 265 فإن ابتغاء الوسيلة منه، هو طلب ما يتوسل به، أي يتقرب به إليه سبحانه، سواء كان على وجه العبادة والطاعة، وامتثال الأمر، أو كان على وجه السؤال به، والاستعانة به، رغبة إليه في طلب المنافع، ودفع المضار؛ ولفظ الدعاء في القرآن يتناول هذا وهذا، بمعنى العبادة، والدعاء بمعنى المسألة، وإن كان كل منهما مستلزما للآخر؛ لكن العبد قد تنْزل به النازلة، فيكون مقصوده طلب حاجاته، وتفريج كرباته، فيسعى في ذلك بالسؤال والتضرع، وإن كان ذلك من العبادة والطاعة. الوجه الرابع: أن يقال: قد علم بالاضطرار من دين الإسلام، أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشرع لأمته أن يدعوا أحدا من الأموات، لا الأنبياء، ولا الصالحين، ولا غيرهم، لا بلفظ الاستغاثة، ولا بغيرها، كما أنه لم يشرع لأمته السجود لميت، ولا إلى ميت؛ بل نعلم أنه نهى عن كل هذه الأمور، وأنه من الشرك الذي حرم الله. قال الله تعالى: {فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ} 1، وقال: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ} 2، وقال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ   1 سورة الشعراء آية: 213. 2 سورة يونس آية: 106. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 266 كَافِرِينَ} 1، وقال تعالى: {إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ} 2، وقال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} 3. ومن تأمل أدلة الكتاب والسنة، علم علما ضروريا أن الميت لا يطلب منه شيء، لا دعاء ولا غيره. وأما حديث الأعمى، فليس فيه بحمد الله تعالى إشكال، فإنه إنما توجه بدعاء الرسول صلى الله عليه وسلم وشفاعته في حياته، فإن في الحديث: أنه طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو له، فقال: " يا رسول الله: ادع الله أن يعافيني، فقال: إن شئت صبرت فهو خير لك، وإن شئت دعوت. فقال: فادعه، وقال في آخره: اللهم فشفعه في "، فعلم أنه شفع له، فتوسل بشفاعته، لا بذاته، كما كان الصحابة يتوسلون بدعائه وشفاعته، في الاستسقاء، كما قال عمر: (اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فأسقنا"، معناه: نتوسل بدعائه وشفاعته، ونحن نتوسل إليك بدعاء عمه وشفاعته، ليس المراد أنا نقسم عليك به، وما يجري هذا المجرى مما يفعل بعد موته وفي مغيبه، كما يقوله بعض الناس: أسألك بجاه فلان عبدك ; ويقولون: إنا نتوسل إلى الله بأنبيائه.   1 سورة آية: 6. 2 سورة فاطر آية: 14. 3 سورة الجن آية: 18. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 267 ولو كان هذا هو التوسل الذي يفعله الصحابة، لفعلوا ذلك بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يعدلوا عنه إلى العباس، مع علمهم أن السؤال به، والإقسام به، أعظم من العباس، فعلم: أن ذلك التوسل الذي في حديث عمر، والذي في حديث الأعمى، هو ما يفعل بالأحياء دون الأموات، وهو التوسل بدعائهم وشفاعتهم. فالأعمى طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو له أن يرد عليه بصره، فعلمه النبي صلى الله عليه وسلم دعاء، وأمره أن يسأل الله قبول شفاعة نبيه صلى الله عليه وسلم فيه؛ فقوله في الحديث: (أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة) ، بدعائه وشفاعته، فلفظ التوجه والتوسل في الحديثين بمعنى واحد. وقوله: (يا محمد يا رسول الله إني أتوجه بك إلى ربي) ، أجاب عنه العلماء: بأن هذا وأمثاله نداء، يطلب به استحضار المنادى في القلب، فيخاطب المشهود بالقلب، كما نقول في صلاتنا: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، ليس المراد سؤاله والاستغاثة به. الوجه الخامس: أن يقال: هذا الحديث قد رواه النسائي في اليوم والليلة، والإمامان البيهقي وابن شاهين في دلائلهما، كلهم من حديث عثمان بن حنيف، ولم يذكروا فيه هذه الكلمة، أعني قوله: (يا محمد، يا نبي الله) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 268 ولفظ الحديث عندهم: عن عثمان بن حنيف: "أن رجلا أعمى أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبي الله قد أصبت في بصري، فادع الله لي، فقال له النبي: صلى الله عليه وسلم توضأ وصل ركعتين، ثم قل: اللهم إني أتوجه إليك بنبيي محمد نبي الرحمة، إني أتشفع به إليك في رد بصري، اللهم شفع نبيي في. ففعل ذلك، فرد الله عليه بصره، وقال له: فإذا كان لك حاجة فمثل ذلك فافعل " انتهى. ولفظ التوسل بالشخص، والتوجه به، والسؤال به، فيه إجمال واشتراك، غلط بسببه من لم يفهم مقصود الصحابة؛ فيراد به التسبب به، لكونه داعيا وشافعا مثلا، أو لكون الداعي مجيبا له مطيعا لأمره مقتديا به، ويراد به الإقسام به والتوسل بذاته؛ فهذا الثاني هو الذي كرهه العلماء ونهوا عنه. النوع الثالث: من الأنواع المبتدعة عند القبور: أن يظن أن الدعاء عندها مستجاب، أو أنه أفضل من الدعاء في المسجد، فيقصد القبر لذلك، فإن هذا من المنكرات إجماعا، ولم نعلم في ذلك نزاعا بين أئمة الدين؛ وإن كان كثير من المتأخرين يفعله، فإن هذا أمر لم يشرعه الله ولا رسوله، ولا فعله أحد من الصحابة ولا التابعين، ولا أئمة المسلمين، ولا ذكره أحد من العلماء، ولا الصالحين المتقدمين؛ بل أكثر ما ينقل ذلك، عن بعض الجزء: 10 ¦ الصفحة: 269 المتأخرين بعد المائة الثانية. وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أجدبوا مرات، ودهمتهم نوائب، ولم يجيئوا عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم، ولا استغاثوا به؛ بل خرج عمر بالعباس، فاستسقى به، ولم يستسق عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم. وقد كان من قبور أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأمصار عدد كثير، وعندهم التابعون ومن بعدهم من الأئمة، فما استغاثوا عند قبر صاحب قط، ولا توسلوا به، ولا استسقوا عنده، ولا استنصروا عنده، ولا به؛ ومعلوم: أن مثل هذا مما تتوفر الهمم والدواعي على نقله لو وقع، بل على ما هو دونه. ومن تأمل كتب الآثار، وعرف حال السلف، علم قطعا أن القوم ما كانوا يستغيثون عند القبور، ولا يتحرون الدعاء عندها أصلا، بل كانوا ينهون عن ذلك من يفعله من جهالهم. فمن ذلك: ما رواه أبو يعلى الموصلي في مسنده: حدثنا أبو بكر، حدثنا يزيد بن الحباب، حدثنا جعفر بن إبراهيم، حدثنا علي بن عمر، عن أبيه عن علي بن الحسين: أنه رأى رجلا يجيء إلى فرجة، كانت عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم فيدخل فيدعو فيها، فقال: ألا أحدثكم حديثا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 270 سمعته من أبي، عن جدي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا تتخذوا قبري عيدا، ولا بيوتكم قبورا؛ فإن تسليمكم يبلغني أينما كنتم " 1 رواه أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد المقدسي، فيما اختاره من الأحاديث الجياد على الصحيحين، وشرطه فيه أحسن من شرط الحاكم في صحيحه. وروى سعيد في سننه، عن "سهيل بن أبي سهيل، قال رآني الحسن بن الحسين بن علي بن أبي طالب عند القبر، فناداني- وهو في بيت فاطمة يتعشى- فقال: هلم إلى العشاء، فقلت: لا أريده، فقال: مالي رأيتك عند القبر؟ فقلت: سلمت على النبي صلى الله عليه وسلم. فقال: إذا دخلت المسجد فسلم، ثم قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا تتخذوا بيتي عيدا، ولا تتخذوا بيوتكم مقابر؛ وصلوا علي، فإن صلاتكم تبلغني حيثما كنتم، لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد. ما أنتم ومن بالأندلس إلا سواء". وروى سعيد أيضا، عن أبي سعيد مولى المهدي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تتخذوا بيتي عيدا، ولا تتخذوا بيوتكم قبورا؛ وصلوا علي حيثما كنتم، فإن صلاتكم تبلغني " 2.   1 أبو داود: المناسك (2042) , وأحمد (2/367) . 2 أبو داود: المناسك (2042) , وأحمد (2/284 ,2/337 ,2/367 ,2/378 ,2/388) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 271 فهذان المرسلان من وجهين مختلفين، يدلان على ثبوت الحديث، لا سيما وقد احتج من أرسله به، وذلك يقتضي ثبوته عنده، لو لم يكن روي من وجوه مسندة غير هذين، فكيف وقد روى مسندا؟ ووجه الدلالة: أن قبر النبي صلى الله عليه وسلم أفضل قبر على وجه الأرض، وقد نهى عن اتخاذه عيدا، فغيره أولى بالنهي كائنا من كان؛ ثم إنه قرن ذلك بقوله: "ولا تتخذوا بيوتكم قبور ا" 1، أي لا تعطلوها من الصلاة فيها والدعاء، فتكون بمنْزلة القبور، فأمر بتحري العبادة في البيوت، ونهى عن تحريها عند القبور، عكس ما يفعله المشركون، من النصارى ومن تشبه بهم. وقد قال الإمام أحمد: إذا سلم الرجل على النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه، ثم أراد الدعاء فليستقبل القبلة، ويجعل الحجرة عن يساره، لئلا يستدبره؛ وكذلك ذكر أصحاب مالك، قالوا: يدنو من القبر، فيسلم على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يدعو مستقبل القبلة. وقال مالك في "المبسوط": لا أرى أن يقف عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم يدعو، ولكن يسلم ويصلي. فقصد الدعاء عند القبر كرهه السلف، متأولين في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: " لا تتخذوا قبري عيدا " 2 كما ذكرنا ذلك عن علي بن الحسين،   1 البخاري: الصلاة (432) والجمعة (1187) , ومسلم: صلاة المسافرين وقصرها (777) , والترمذي: الصلاة (451) , والنسائي: قيام الليل وتطوع النهار (1598) , وأبو داود: الصلاة (1448) , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1377) , وأحمد (2/6) . 2 أبو داود: المناسك (2042) , وأحمد (2/367) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 272 والحسن بن الحسن بن عمه، وهما أفضل أهل البيت من التابعين، وأعلم بهذا الشأن من غيرهما، لمجاورتهما الحجرة النبوية نسبا ومكانا. وقد ذكرنا عن أحمد وغيره: أنهم أخبروا من سلم على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أراد أن يدعو، أن ينصرف فيستقبل القبلة؛ وكذلك أنكر ذلك غير واحد من العلماء المتقدمين، كما ذكرناه عن مالك وغيره، وكذلك غير واحد من المتأخرين، مثل أبي الوفاء بن عقيل، وأبي الفرج بن الجوزي. ولا يحفظ عن صاحب ولا عن تابع، ولا عن إمام معروف، أنه استحب قصد شيء من القبور للدعاء عندها، ولا روى أحد في ذلك شيئا، لا عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عن الصحابة، ولا عن الأئمة المعروفين، والله أعلم. المبحث الثالث: عمن مات على التوحيد، وإقامة قواعد الإسلام الخمس وأصول الإيمان الستة، ولكنه كان يدعو وينادي، ويتوسل في الدعاء إذا دعا ربه، ويتوجه بنبيه في دعائه معتمدا على الحديثين الذين ذكرناهما، أو جهلا منه وغباوة، كيف حكمهم؟ فالجواب، أن يقال: قد قدمنا الكلام على سؤال الميت والاستغاثة به، وبينا الفرق بينه وبين التوسل به في الجزء: 10 ¦ الصفحة: 273 الدعاء، وأن سؤال الميت والاستغاثة به في قضاء الحاجات، وتفريج الكربات، من الشرك الأكبر الذي حرمه الله ورسوله، واتفقت الكتب الإلهية، والدعوات النبوية، على تحريمه وتكفير فاعله، والبراءة منه ومعاداته. ولكن في أزمنة الفترات وغلبة الجهل، لا يكفر الشخص المعين بذلك، حتى تقوم عليه الحجة بالرسالة، ويبين له، ويعرف أن هذا هو الشرك الأكبر الذي حرمه الله ورسوله؛ فإذا بلغته الحجة، وتليت عليه الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، ثم أصر على شركه فهو كافر، بخلاف من فعل ذلك جهالة منه، ولم ينبه على ذلك؛ فالجاهل فعله كفر، ولكن لا يحكم بكفره إلا بعد بلوغ الحجة إليه، فإذا قامت عليه الحجة ثم أصر على شركه فقد كفر، ولو كان يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، ويصلي ويزكي، ويؤمن بالأصول الستة. وهذا الدين الذي ندعو إليه، قد ظهر أمره وشاع وذاع، وملأ الأسماع، من مدة طويلة؛ وأكثر الناس بدعونا، وخرجونا، وعادونا عنده، وقاتلونا، واستحلوا دماءنا وأموالنا، ولم يكن لنا ذنب سوى تجريد التوحيد، والنهي عن دعوة غير الله، والاستغاثة بغيره، وما أحدث من البدع والمنكرات، حتى غلبوا وقهروا، فعند ذلك أذعنوا، وأقروا بعد الإنكار. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 274 وأما من مات، وهو يفعل الشرك جهلا لا عنادا، فهذا نكل أمره إلى الله، ولا ينبغي الدعاء له، والترحم عليه، والاستغفار له، وذلك لأن كثيرا من العلماء يقولون: من بلغه القرآن، فقد قامت عليه الحجة، كما قال تعالى: {لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} 1. فإذا بلغه القرآن وأعرض عنه، ولم يبحث عن أوامره ونواهيه، فقد استوجب العقاب، قال تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} 2، وقال تعالى: {وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْراً خَالِدِينَ فِيهِ} 3. [حلق شعر الرأس وشرب التنباك] ثم قال رحمه الله تعالى: وأما البحث عن حلق شعر الرأس، وأن بعض البوادي الذين دخلوا في ديننا، قاتلوا من لم يحلق رأسه، وقتلوا بسبب الحلق خاصة، وأن من لم يحلق رأسه صار مرتدا؟. فالجواب: أن هذا كذب وافتراء علينا، ولا يفعل هذا من يؤمن بالله واليوم الآخر؛ فإن الكفر والردة لا تكون إلا بإنكار ما علم بالضرورة من دين الإسلام؛ وأنواع الكفر والردة من الأقوال والأفعال، معلومة عند أهل العلم، وليس عدم الحلق منها، بل ولم نقل أن الحلق مسنون،   1 سورة الأنعام آية: 19. 2 سورة طه آية: 124. 3 سورة آية: 99-100-101. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 275 فضلا عن أن يكون واجبا، فضلا عن أن يكون تركه ردة عن الإسلام. والذي وردت السنة بالنهي عنه، هو القزع، وهو: حلق بعض الرأس، وترك بعضه، وهذا هو الذي نهينا عنه، ونؤدب فاعله؛ ولكن الجهال القادمون إليكم، لا يميزون أنواع الكفر والردة، وكثير منهم غرضه نهب الأموال، ونحن لم نأمر أحدا من الأمراء بقتال من لم يحلق رأسه. بل نأمرهم بقتال من أشرك بالله، وأبى عن توحيد الله، والتزام شرائع الإسلام، من إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان، فإذا فعلوا خلاف ذلك، وبلغنا ذلك من فعلهم، لم نقرهم على ذلك، بل نبرأ إلى الله من فعلهم، ونؤدبهم على قدر جرائمهم، بحول الله وقوته. وأما البحث عن التنباك، وقولكم: بلغنا أنكم أفتيتم فيه، بأنه من المسكرات، اعتمدنا على قولكم، فعارض بعض الراحلين من عندكم، فقالوا: من شربه بعدما تاب منه، فقد ارتد وحل دمه وماله. فالجواب: أن من نسب إلينا القول بهذا، فقد كذب وافترى؛ بل من قال هذا القول، استحق التعزير البليغ، الذي يردعه وأمثاله، فإن هذا مخالف للكتاب والسنة، بل لو تاب منه ثم عاد إلى شربه، لم يحكم بكفره وردته، ولو الجزء: 10 ¦ الصفحة: 276 أصر على ذلك، إذا لم يستحله؛ والتكفير بالذنوب مذهب الخوارج، الذين مرقوا من الإسلام، واستحلوا دماء المسلمين بالذنوب والمعاصي 1. [من يرد عن الحوض وما ذكر العلماء فيهم] سئل الإمام عبد العزيز بن محمد بن سعود عما جاء في بعض كتب الحديث ما معناه: إنه "يرد على الحوض جماعة من أصحابي، فيعدل بهم ذات الشمال"، هل ورد في تعيينهم أثر خاص ... إلخ؟ فأجاب: هذه الأحاديث ثابتة في الصحاح والمساند، لكن لم يرد نص فيما علمنا بتعيينهم، وذكر العلماء أن هذا في أهل الردة، الذين ارتدوا بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم كأصحاب مسيلمة الكذاب، والأسود العنسي، وكثير من بوادي العرب، الذين جاهدهم خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من الصحابة، حتى أدخلهم في الإسلام الذي خرجوا منه، وقتلوا منهم من قتلوا؛ فعلى هؤلاء تنَزل هذه الأحاديث، وهذا هو الذي عليه أهل السنة والجماعة، من هذه الأمة. وأما من جعلها متناولة لأكثر الصحابة وخيارهم، الذين شهد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة، من السابقين الأولين، من المهاجرين والأنصار، فقد كذب وافترى، واتبع غير سبيل المؤمنين.   1 وتقدم في باب حد المسكر, صفحة 439 - 443/ج/7. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 277 وهؤلاء كأهل البدع، من الروافض والخوارج، الذين كفروا جمهور الصحابة رضي الله عنهم، فهؤلاء وأمثالهم ممن استحوذ عليهم الشيطان، فأضلهم عن الصراط المستقيم. وجعلوا من أصول دينهم: التبري من جمهور الصحابة، وبغضهم، وسبهم، لأنهم ظنوا أن ذلك من إتمام التولي لعلي، وأهل البيت رضي الله عنهم؛ وهذا من حمقهم وجهلهم، نعوذ بالله من الخذلان. وأما أهل السنة والجماعة فيتولون أهل البيت، وجميع الصحابة رضي الله عنهم، الذين ثبتوا على الإسلام، وجاهدوا المرتدين، وما أحسن ما قال بعض أهل السنة: إن كان نصبا حب صحب محمد فليشهد الثقلان أني ناصبي وذلك أن الروافض يسمون أهل السنة ناصبة، أي: أنهم نصبوا العداوة لأهل البيت، وقد تواتر عن أمير المؤمنين علي رضي الله عنه أنه قال في خلافته على منبر الكوفة: (خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر، ثم عمر) ، وقال: (لا أوتى برجل يفضل على أبي بكر، إلا جلدته حد المفتري) . ونسأل الله تعالى: أن يهدينا وجميع المسلمين لما يحبه ويرضاه من القول والعمل، ويجنبنا ما يسخطه من المعاصي والزلل، وأن يجعلنا ممن يتبع كتابه، وسنة الجزء: 10 ¦ الصفحة: 278 رسوله صلى الله عليه وسلم وما عليه الصحابة والتابعون لهم بإحسان، ويعيذنا من التفرق والاختلاف، ويرزقنا الاجتماع والائتلاف، على دينه القويم، وصراطه المستقيم؛ وفي هذا بيان لمن أراد الله هدايته، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم 1212 هـ. [من دعا نبيا واستغاث به] وسئل الشيخ: حمد بن ناصر بن معمر، رحمه الله: ما قولكم فيمن دعا نبيا أو وليا، أو استغاث به في تفريج الكربات، كقوله: يا رسول الله، أو يا ابن عباس، أو يا محجوب، أو غيرهم من الأولياء والصالحين. فأجاب: الحمد لله أحمده وأستعينه، وأستغفره، وأعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن اتبعهم بإحسان، وقفا أثرهم إلى آخر الزمان. أما بعد: فإن الله تعالى قد أكمل لنا الدين، ورسوله قد بلغ البلاغ المبين، وأنزل عليه الكتاب هدى وذكرى للمؤمنين، قال الله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} 1، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ   1 سورة المائدة آية: 3. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 279 لِلْمُؤْمِنِينَ} 1، وقال تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} 2. وقال تعالى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} 3. قال ابن عباس: (تكفل الله لمن قرأ القرآن واتبع ما فيه، أن لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة) ، وقال تعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} 4. وروى مالك في الموطأ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله، وسنة رسوله " 5، وعن أبي الدرداء رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لقد تركتكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها؛ لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك ". وقال صلى الله عليه وسلم: "ما تركت من شيء يقرب من الجنة إلا وقد حدثتكم به، ولا من شيء يقرب إلى النار إلا وقد حدثتكم به"، وقال صلى الله عليه وسلم: " عليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي؛ تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل بدعة   1 سورة يونس آية: 57. 2 سورة النحل آية: 89. 3 سورة آية: 123-124. 4 سورة آية: 36-37. 5 مالك: الجامع (1661) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 280 ضلالة ". فمن أصغى إلى كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وجد فيهما الهدى والشفاء. وقد ذم الله تعالى من أعرض عن كتابه، ودعا عند التنازع إلى حكم غيره، فقال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً} 1. إذا عرف هذا، فنقول: الذي شرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم عند زيارة القبور، إنما هو تذكر الآخرة، والإحسان إلى الميت، بالدعاء له والترحم، والاستغفار له، وسؤال العافية، كما في صحيح مسلم، عن بريدة قال: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر، أن يقولوا: السلام على أهل الديا ر ـ وفي لفظ: عليكم أهل الديار- من المؤمنين والمسلمين. وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، نسأل الله لنا ولكم العافية " 2. وفي سنن أبي داود، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إذا صليتم على الميت، فأخلصوا له الدعاء " 3، وعن عائشة رضي الله عنها، عن النبي صلى الله عليه وسلم: " ما من ميت يصلى عليه أمة من المسلمين، يبلغون مائة، كلهم يشفعون له، إلا شفعوا فيه " 4 رواه مسلم. فإذا كنا على جنازته، ندعو له لا ندعوه، ونشفع له لا نستشفع به، فبعد الدفن أولى وأحرى.   1 سورة النساء آية: 61. 2 مسلم: الجنائز (975) , والنسائي: الجنائز (2040) , وابن ماجه: ما جاء في الجنائز (1547) , وأحمد (5/353 ,5/359) . 3 أبو داود: الجنائز (3199) , وابن ماجه: ما جاء في الجنائز (1497) . 4 مسلم: الجنائز (947) , والترمذي: الجنائز (1029) , والنسائي: الجنائز (1991) , وأحمد (3/266 ,6/32 ,6/40 ,6/97 ,6/231) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 281 فبدل أهل الشرك قولا غير الذي قيل لهم: بدلوا الدعاء له بدعائه، والشفاعة له بالاستشفاع وبه، وقصدوا بالزيارة التي شرعها رسول الله صلى الله عليه وسلم إحسانا إلى الميت، سؤال الميت، وتخصيص تلك البقعة بالدعاء الذي هو مخ العبادة، بنص رسول الله صلى الله عليه وسلم. فعن أنس رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الدعاء مخ العبادة " 1 رواه الترمذي، وعن النعمان بن بشير، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الدعاء هو العبادة " 2، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} 3، رواه أحمد والترمذي، وأبو داود والنسائي وابن ماجه. ومن المحال أن يكون دعاء الموتى مشروعا، ويصرف عنه القرون الثلاثة المفضلة بنص رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم يوفق له الخلوف، الذي يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون فهذه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذه طريقة الصحابة والتابعين لهم بإحسان، هل نقل عن أحد منهم بنقل صحيح، أو حسن، أنهم كانوا إذا كان لهم حاجة، قصدوا القبور فدعوا عندها، وتمسحوا بها، فضلا عن أن يسألوا أصحابها جلب الفوائد، وكشف الشدائد؟ ومعلوم: أن مثل هذا مما تتوفر الهمم والدواعي على   1 الترمذي: الدعوات (3371) . 2 الترمذي: تفسير القرآن (2969) , وابن ماجه: الدعاء (3828) . 3 سورة غافر آية: 60. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 282 نقله، وقد كان عندهم من قبور أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأمصار عدد كثير، وهم متوافرون؛ فما منهم من استغاث عند قبر ولا دعاه، ولا استشفى به ولا استنصر به، ولا أحد من الصحابة استغاث بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد موته، ولا بغيره من الأنبياء، ولا كانوا يقصدون الدعاء عند قبور الأنبياء، ولا الصلاة عندها؛ فإن كان عندكم في هذا أثر صحيح، أو حسن، فأوقفونا عليه. بل الذي صح عنهم خلاف ما ذهبتم إليه، "ولما قحط الناس في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه استسقى بالعباس، وتوسل بدعائه، وقال: اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فأسقنا، فيسقون" ثبت ذلك في صحيح البخاري، ذكره في كتاب الاستسقاء من صحيحه. ونحن نعلم بالضرورة: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشرع لأمته أن يدعوا أحدا من الأموات، لا الأنبياء ولا الصالحين، ولا غيرهم، لا بلفظ الاستغاثة، ولا بغيرها؛ بل نعلم أنه نهى عن كل هذه الأمور، وأن ذلك من الشرك الأكبر، الذي حرمه الله ورسوله. قال الله تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} 1 وقال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ   1 سورة الجن آية: 18. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 283 دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} 1، وقال تعالى: {فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ} 2، وقال تعالى: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ} 3 الآية، وقال تعالى: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ} 4، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ} 5 الآية. وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} 6. قال مجاهد: (يبتغون إلى ربهم الوسيلة هو عيسى وعزير والملائكة". وكذا قال إبراهيم النخعي، قال: كان ابن عباس يقول في قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ:} (هو عزير والمسيح، والشمس والقمر) وعن السدي، وعن أبي هريرة، عن ابن عباس قال: (عيسى وأمه   1 سورة آية: 5-6. 2 سورة الشعراء آية: 213. 3 سورة الرعد آية: 14. 4 سورة يونس آية: 106. 5 سورة آية: 13-14. 6 سورةالإسراء آية: 56-57. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 284 والعزير) . وعن عبد الله بن مسعود، قال: (نزلت إلى نفر من العرب كانوا يعبدون نفرا من الجن، فأسلم الجنيون، والإنس الذين كانوا يعبدونهم لا يشعرون بإسلامهم، فنَزلت هذه الآية"، ثبت ذلك عنه في صحيح البخاري، ذكره في كتاب التفسير. وهذه الأقوال في معنى الآية كلها حق، فإن الآية تعم كل من كان معبوده عابدا الله، سواء كان من الملائكة، أو من الجن، أو من البشر؛ فالآية خطاب لكل من دعا من دون الله مدعوا، وذلك المدعو يبتغي إلى الله الوسيلة، ويرجو رحمته، ويخاف عذابه؛ فكل من دعا ميتا، أو غائبا من الأنبياء والصالحين، فقد تناولته هذه الآية. ومعلوم: أن المشركين يسألون الصالحين، بمعنى أنهم وسائط بينهم وبين الله، ومع هذا فقد نهى الله عن دعائهم، وبين أنهم لا يملكون كشف الضر عن الداعي، ولا تحويله، لا يرفعونه بالكلية، ولا يحولونه من موضع إلى موضع، كتغيير صفته، أو قدره، ولهذا قال: {ولا تحويلا} ، فذكر نكرة تعم أنواع التحويل. فكل من دعا ميتا من الأنبياء والصالحين، أو دعا الملائكة أو الجن، فقد دعا من لا يغيثه، ولا يملك كشف الضر عنه، ولا تحويله. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 285 وهؤلاء المشركون اليوم، منهم من إذا نزلت به شدة، لا يدعو إلا شيخه، ولا يذكر إلا اسمه، قد لهج به كما يلهج الصبي بذكر أمه، فإذا تعس أحدهم، قال: يا ابن عباس، أو يا محجوب. ومنهم من يحلف بالله ويكذب، ويحلف بابن عباس أو غيره فيصدق ولا يكذب، فيكون المخلوق في صدره أعظم من الخالق، وإذا كان دعاء الموتى يتضمن هذا الاستهزاء بالدين، وهذه المحادة لرب العالمين، فأي الفرقين أحق بالاستهزاء، والمحادة لله؟ من كان يدعو الموتى ويستغيث بهم، أو يأمر بذلك؟ أو من كان لا يدعو إلا الله وحده لا شريك له، كما أمرت به رسله، ويوجب طاعة الرسول، ومتابعته في كل ما جاء به؟ ونحن- بحمد الله- من أعظم الناس إيجابا لرعاية الرسول صلى الله عليه وسلم تصديقا له فيما أخبر، وطاعة له فيما أمر، واعتناء بمعرفة ما بعث به، واتباع ذلك دون ما خالفه، عملا بقوله تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} 1، وقوله تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} 2. ومعنا- ولله الحمد- أصلان عظيمان: أحدهما: أن لا نعبد إلا الله، فلا ندعو إلا هو، ولا نذبح النسك إلا لوجهه، ولا نرجو إلا هو، ولا نتوكل إلا عليه. والأصل   1 سورة الأعراف آية: 3. 2 سورة الأنعام آية: 155. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 286 الثاني: أن لا نعبده إلا بما شرع، لا نعبده بعبادة مبتدعة. وهذان الأصلان: هما تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله. فإن شهادة أن لا إله إلا الله تتضمن إخلاص الإلهية لله، فلا يتأله القلب، ولا اللسان، ولا الجوارح بغيره تعالى، لا بحب ولا خشية، ولا إجلال ولا رهبة. وشهادة أن محمدا عبده ورسوله تتضمن تصديقه في جميع ما أخبر به، وطاعته واتباعه في كل ما أمر به، فما أثبته وجب اتباعه، وما نفاه وجب نفية. وقد روى البخاري من حديث أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى. قالوا: ومن يأبى، يا رسول الله؟ قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى " 1. إذا تمهد هذا، فنقول: الذي نعتقده وندين الله به، أن من دعا نبيا أو وليا، أو غيرهما، وسأل منهم قضاء الحاجات، وتفريج الكربات، أن هذا من أعظم الشرك، الذي كفر الله به المشركين، حيث اتخذوا أولياء وشفعاء، يستجلبون بهم المنافع، ويستدفعون بهم المضار بزعمهم. قال الله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا   1 البخاري: الاعتصام بالكتاب والسنة (7280) , وأحمد (2/361) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 287 لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} 1.فمن جعل الأنبياء أو غيرهم، كابن عباس، أو المحجوب، أو أبي طالب، وسائط يدعوهم، ويتوكل عليهم، ويسألهم جلب المنافع، ودفع المضار، بمعنى أن الخلق يسألونهم، وهم يسألون الله، كما أن الوسائط عند الملوك، يسألون الملوك حوائج الناس، لقربهم منهم، والناس يسألونهم أدبا منهم، أن يباشروا سؤال الملك، أو لكونهم أقرب إلى الملك، فمن جعلهم وسائط على هذا الوجه، فهو كافر مشرك، حلال المال والدم. وقد نص العلماء رحمهم الله على ذلك، وحكوا عليه الإجماع؛ قال في "الإقناع" وشرحه: من جعل بينه وبين الله وسائط يتوكل عليهم، ويدعوهم، ويسألهم، كفر إجماعا، لأن ذلك فعل عابدي الأصنام، قائلين {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} 2. انتهى. وقال الإمام أبو الوفاء علي بن عقيل الحنبلي، رحمه الله: لما صعبت التكاليف على الطغام والجهال، عدلوا عن أوضاع الشرع إلى تعظيم أوضاع وضعوها لأنفسهم، فسهلت عليهم، إذ لم يدخلوا بها تحت أمر غيرهم. قال: وهم عندي كفار بهذه الأوضاع، مثل تعظيم   1 سورة يونس آية: 18. 2 سورة الزمر آية: 3. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 288 القبور وإكرامها، والتزامها بما نهى عنه الشرع، من إيقاد النيران، وتقبيلها، وتخليقها، وخطاب الموتى بالحوائج، وكتب الرقاع عليها: يا مولاي افعل لي كذا وكذا، وأخذ تربتها تبركا، وإفاضة الطيب على القبور، وشد الرحال إليها، وإلقاء الخرق على الشجر، اقتداء بمن عبد اللات والعزى، انتهى كلامه. وقال الإمام البكري الشافعي، رحمه الله، في تفسيره، عند قوله تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} 1: وكانت الكفار إذا سئلوا: من خلق السماوات والأرض؟ قالوا: الله، فإذا سئلوا عن عبادة الأصنام، قالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ} 2، لأجل طلب شفاعتهم عند الله؛ وهذا كفر منهم، انتهى كلامه. فتأمل ما ذكره صاحب "الإقناع"، وما ذكره ابن عقيل، من تعظيم القبور، وخطاب الموتى بالحوائج، وأن ذلك كفر. وقال الحافظ العماد بن كثير رحمه الله، في تفسيره عند قوله تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} : 3 إنما يحملهم على عبادتهم: أنهم عمدوا إلى أصنام اتخذوها على صور الملائكة المقربين بزعمهم، فعبدوا تلك الصور تنْزيلا لذلك، منْزلة عبادتهم   1 سورة الزمر آية: 3. 2 سورة الزمر آية: 3. 3 سورة الزمر آية: 3. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 289 الملائكة، ليشفعوا لهم عند الله في نصرهم ورزقهم، وما ينوبهم من أمور الدنيا، فأما المعاد فكانوا جاحدين له، كافرين به. قال قتادة والسدي، ومالك عن زيد بن أسلم، وابن زيد {إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} 1 أي: ليشفعوا لنا عنده ويقربونا، ولهذا كانوا يقولون في تلبيتهم، إذا حجوا في جاهليتهم: لبيك لا شريك لك، إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك. وهذه الشبهة هي التي اعتقدها المشركون، في قديم الدهر وحديثه، وجاءتهم الرسل صلوات الله وسلامه عليهم بردها، والنهي عنها، والدعوة إلى إفراد العبادة لله وحده لا شريك له، وأن هذا شيء اخترعه المشركون من عند أنفسهم، لم يأذن الله فيه ولا رضي به، بل أبغضه ونهى عنه، قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} 2، وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} 3. وأخبر أن الملائكة التي في السماوات، من المقربين وغيرهم، كلهم عبيد، خاضعون لله، لا يشفعون عنده إلا بإذنه لمن ارتضى، وليسوا عنده كالأمراء عند ملوكهم، يشفعون بغير إذنهم، فيما أحبه الملوك وكرهوه؛ فلا   1 سورة الزمر آية: 3. 2 سورة النحل آية: 36. 3 سورة الأنبياء آية: 25. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 290 تضربوا لله الأمثال، تعالى الله عن ذلك، انتهى كلامه. وقال الإمام البكري، رحمه الله، عند قوله تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ} 1 الآية: فإن قلت: إذا أقروا بذلك، فكيف عبدوا الأصنام؟ قلت: كلهم كانوا يعتقدون بعبادتهم الأصنام، عبادة الله، والتقرب إليه، لكن بطرق مختلفة. ففرقة قالت: ليس لنا أهلية عبادة الله تعالى بلا واسطة لعظمته، فعبدناها لتقربنا إليه زلفى. وفرقة قالت: الملائكة ذو وجاهة ومنْزلة عند الله، فاتخذنا أصناما على هيئتها، لتقربنا إلى الله زلفى. وفرقة قالت: جعلنا الأصنام قبلة لنا في العبادة، كما أن الكعبة قبلة في عبادته. وفرقة اعتقدت: أن لكل ملك شيطانا موكلا بأمر الله، فمن عبد الصنم حق عبادته قضى الشيطان حوائجه بأمر الله، وإلا أصابه شيطان بنكبة بأمر الله تعالى، انتهى كلامه. فانظر إلى كلام هؤلاء الأئمة، وتصريحهم بأن المشركين ما أرادوا ممن عبدوا إلا التقرب إلى الله، وطلب شفاعتهم عند الله، وتأمل: ما ذكره ابن كثير، وما حكاه عن زيد بن أسلم، وابن زيد، ثم قال: وهذه الشبهة، هي التي اعتقدها المشركون، في قديم الدهر وحديثه، وجاءتهم   1 سورة يونس آية: 31. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 291 الرسل- صلوات الله وسلامه عليهم- بردها، والنهي عنها. وتأمل ما ذكره البكري رحمه الله عند آية الزمر: أن الكفار ما أرادوا إلا الشفاعة، ثم صرح بأن هذا كفر; فمن تأمل ما ذكره الله في كتابه، تبين له أن الكفار ما أرادوا ممن عبدوا إلا التقرب إلى الله، وطلب شفاعتهم عند الله، فإنهم لم يعتقدوا فيها أنها تخلق الخلائق، وتنَزل المطر، وتنبت النبات، بل كانوا مقرين أن الفاعل لذلك هو الله، وحده لا شريك له في ذلك. قال الله تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} 1، وقال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} 2، وقال تعالى: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيم ِسَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ?قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ?سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} 3،   1 سورة يونس آية: 31. 2 سورة العنكبوت آية: 61. 3 سورة المؤمنون آية: 84-89. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 292 إلى غير ذلك من الآيات التي أخبر الله فيها أن المشركين معترفون، أن الله هو الخالق الرازق، وإنما كانوا يعبدونهم ليقربوهم، ويشفعوا لهم، كما ذكره سبحانه، في قوله: {وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} 1؛ فبعث الله الرسل، وأنزل الكتب، ليعبد وحده، ولا يجعل معه إله آخر، وأخبر سبحانه أن الشفاعة كلها له، وأنه لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، وأنه لا يأذن إلا لمن رضي قوله وعمله، وأنه لا يرضى إلا التوحيد، فالشفاعة مقيده بهذه القيود. قال تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ?قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً} 2، وقال تعالى: {مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ} 3، وقال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ} 4. وقال تعالى: {يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً} 5، وقال تعالى: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} 6، وقال تعالى: {وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} 7. وفي الصحيحين من غير وجه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو   1 سورة يونس آية: 18. 2 سورة آية: 43-44. 3 سورة السجدة آية: 4. 4 سورة البقرة آية: 255. 5 سورة طه آية: 109. 6 سورة النجم آية: 26. 7 سورة سبأ آية: 23. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 293 سيد ولد آدم، وأكرم الخلق على الله، أنه قال: " آتي تحت العرش، فأخر لله ساجدا، ويفتح علي بمحامد لا أحصيها الآن، فيدعني ما شاء الله أن يدعني، ثم يقال: يا محمد، ارفع رأسك، وقل يسمع، واشفع تشفع، قال: فيحد لي حدا، ثم أدخلهم الجنة، ثم أعود " 1 فذكر أربع مرات، صلوات الله وسلامه عليه، وعلى سائر الأنبياء. وقال الإمام البكري رحمه الله، عند قوله تعالى: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ} 2: نفى الشفيع، وإن كانت الشفاعة واقعة في الآخرة، لأنها من حيث إنها لا تقع إلا بإذنه، كأنها غير موجودة من غيره، وهو كذلك، لكن جعل ذلك لتبيين الرتب؛ وجملة النفي حال من ضمير يحشروا، وهي محل الخوف، والمراد به المؤمنون العاصون، انتهى. وقال أيضا: عند قوله تعالى {يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً} 3: دل على أن الشفاعة تكون للمؤمنين فقط. وقال الحافظ عماد الدين بن كثير، عند قوله تعالى: {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ} 4: يقرر تعالى أنه لا إله إلا هو، لأنهم معترفون أنه هو الذي خلق السماوات والأرض، وهو ربها ومدبرها؛ وهم مع   1 البخاري: تفسير القرآن (4476) , ومسلم: الإيمان (193) , وأحمد (3/116 ,3/244 ,3/247) . 2 سورة الأنعام آية: 51. 3 سورة طه آية: 109. 4 سورة الرعد آية: 16. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 294 هذا، قد اتخذوا من دون الله أولياء يعبدونهم، وإنما عبد هؤلاء المشركون آلهة، هم يعترفون أنها مخلوقة عبيد له، كما كانوا يقولون في تلبيتهم: لبيك لا شريك لك، إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك. وكما أخبر عنهم في قوله: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} 1، فأنكر تعالى ذلك عليهم، حيث اعتقدوا ذلك، وهو تعالى: لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه {وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} 2. ثم قد أرسل رسله، من أولهم إلى آخرهم، يزجرون عن ذلك، وينهون عن عبادة من سوى الله، فكذبوهم؛ انتهى كلامه. والمقصود: بيان شرك المشركين الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنهم ما أرادوا ممن عبدوا إلا التقرب إلى الله، وطلب شفاعتهم عند الله، وبيان أن طلب الحوائج من الموتى، والاستغاثة بهم في الشدائد، أنه من الشرك الأكبر، الذي كفر الله به المشركين، وبيان أن الشفاعة كلها لله، ليس لأحد معه فيها شيء، وأنه لا شفاعة إلا بعد إذن الله تعالى، وأنه تعالى لا يأذن إلا لمن رضي قوله وعمله، وأنه لا يرضى إلا التوحيد، كما تقدمت الأدلة الدالة على ذلك.   1 سورة الزمر آية: 3. 2 سورة سبأ آية: 23. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 295 ومعلوم: أن أعلى الخلق وأفضلهم وأكرمهم عند الله: الرسل، والملائكة المقربون، وهم عبيد محض، لا يسبقونه بالقول، ولا يتقدمون بين يديه، ولا يفعلون شيئا إلا بعد إذنه لهم وأمره، فيأذن سبحانه لمن يشاء أن يشفع فيه؛ فصارت الشفاعة في الحقيقة إنما هي له تعالى، والذي شفع عنده إنما شفع بإذنه له، وأمره بعد شفاعته سبحانه إلى نفسه، وهي إرادته أن يرحم عبيده. وهذا ضد الشفاعة الشركية، التي أثبتها المشركون ومن وافقهم، وهي التي أبطلها سبحانه في كتابه العزيز، بقوله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ} 1، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ} 2. ولهذا كان أسعد الناس بشفاعة سيد الشفعاء يوم القيامة: أهل التوحيد، كما صرحت بذلك النصوص، فروى البخاري عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة، من قال لا إله إلا الله خالصا من قلبه " 3،وعن عوف بن مالك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أتاني آت من عند ربي، فخيرني بين أن يدخل نصف أمتي الجنة، وبين الشفاعة، فاخترت الشفاعة، وهي لمن مات لا يشرك بالله شيئا " 4، رواه الترمذي   1 سورة البقرة آية: 123. 2 سورة البقرة آية: 254. 3 البخاري: العلم (99) , وأحمد (2/373) . 4 الترمذي: صفة القيامة والرقائق والورع (2441) , وابن ماجه: الزهد (4317) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 296 وابن ماجه. فأسعد الناس بشفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم: أهل التوحيد، الذين جردوا التوحيد، وأخلصوه من التعلقات الشركية، وهم الذين ارتضى الله سبحانه، قال تعالى: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} 1، وقال تعالى: {يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً} 2؛ فأخبر سبحانه: أنه لا يحصل يومئذ شفاعة تنفع، إلا بعد رضاه قول المشفوع له، وإذنه للشافع؛ فأما المشرك فإنه لا يرتضيه، ولا يرضى قوله، فلا يأذن للشفعاء أن يشفعوا فيه؛ فإنه سبحانه علقها بأمرين: رضاه عن المشفوع له، وإذنه للشافع؛ فما لم يوجد مجموع الأمرين، لم توجد الشفاعة. وهذه الشفاعة في الحقيقة هي منه سبحانه، فإنه الذي أذن، والذي قبل، والذي رضي عن المشفوع له، والذي وفقه لفعل ما يستحق به الشفاعة؛ فالرب تبارك وتعالى: هو الذي يتفضل على أهل الإخلاص، فيغفر لهم بواسطة دعاء من أذن له أن يشفع، ليكرمه. فالشفاعة التي نفاها القرآن: ما كان فيها شرك، ولهذا أثبتها الله سبحانه بإذنه، في مواضع من كتابه؛ وبين النبي صلى الله عليه وسلم أنها لا تكون إلا لأهل التوحيد، كما تقدم من حديث أبي هريرة، وعوف بن   1 سورة الأنبياء آية: 28. 2 سورة طه آية: 109. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 297 مالك، فمتخذ الشفيع مشرك، لا تنفعه شفاعته، ولا يشفع فيه، ومتخذ الرب إلهه ومعبوده، هو الذي يأذن للشفيع أن يشفع فيه، قال تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً} 1، وقال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} 2. فبين أن المتخذين شفعاء مشركون، وأن الشفاعة لا تحصل باتخاذهم، إنما تحصل بإذنه سبحانه للشافع، ورضاه عن المشفوع له، كما تقدم بيانه. والمقصود: أن الكتاب والسنة دلا على أن من جعل الملائكة والأنبياء أو ابن عباس أو أبا طالب أو المحجوب وسائط بينهم وبين الله، ليشفعوا لهم عند الله لأجل قربهم من الله، كما يفعل عند الملوك، أنه كافر مشرك حلال الدم والمال، وإن قال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله، وصلى وصام، وزعم أنه مسلم؛ بل هو من {الْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} 3. ومن تأمل القرآن العزيز، وجده مصرحا بأن   1 سورة آية: 43-44. 2 سورة يونس آية: 18. 3 سورة آية: 103-104. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 298 المشركين الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مقرون بأن الله هو الخالق الرازق، وأن السماوات السبع ومن فيهن، والأرضين السبع ومن فيهن، كلهم عبيده وتحت قهره وتصرفه، كما حكاه تعالى عنهم في سورة يونس، وسورة المؤمنون، والعنكبوت، وغيرها من السور، ووجده مصرحا بأن المشركين يدعون الصالحين، كما ذكر تعالى ذلك عنهم في سورة سبحان، والمائدة وغيرهما من السور. وكذلك ذكر عنهم أنهم يعبدون الملائكة، كما ذكر ذلك عنهم، في سورة الفرقان والنجم، ووجده مصرحا بأن المشركين ما أرادوا ممن عبدوا إلا الشفاعة، والتقرب إلى الله، كما ذكر تعالى ذلك عنهم، في سورة يونس والزمر، وغيرهما من السور. فإذا تبين لكم أن القرآن قد صرح بهذه المسائل الثلاث، أعني: اعتراف المشركين بتوحيد الربوبية، وأنهم يدعون الصالحين، وأنهم ما أرادوا منهم إلا الشفاعة، تبين لكم أن هذا الذي يفعل عند القبور اليوم، من سؤالهم جلب الفوائد، وكشف الشدائد، أنه الشرك الأكبر، الذي كفر الله به المشركين، فإن هؤلاء المشركين مشبهون، شبهوا الخالق بالمخلوق. وفي القرآن العزيز، وكلام أهل العلم، من الرد على الجزء: 10 ¦ الصفحة: 299 هؤلاء، ما لا يتسع له هذا الموضع؛ فإن الوسائط التي بين الملوك وبين الناس، تكون على أحد وجوه ثلاثة: إما لإخبارهم عن أحوال الناس ما لا يعرفونه، ومن قال: إن الله لا يعرف أحوال العباد، حتى يخبره بذلك بعض الأنبياء، أو غيرهم من الأولياء والصالحين، فهو كافر؛ بل هو سبحانه يعلم السر وأخفى، لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء. الثاني: أن يكون الملك عاجزا عن تدبير رعيته، ودفع أعدائه، إلا بأعوان يعاونون، فلا بد له من أعوان يعاونونه، وأنصار لذله وعجزه؛ والله سبحانه ليس له ظهير ولا ولي من الذل، وكل ما في الوجود من الأسباب، فهو سبحانه ربه وخالقه، وهو الغني عن كل ما سواه، وكل ما سواه فقير إليه، بخلاف الملوك المحتاجين إلى ظهرائهم، وهم في الحقيقة شركاؤهم. والله سبحانه ليس له شريك في الملك، بل لا إله إلا هو، وحده لا شريك له له الملك، وله الحمد؛ ولهذا لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، لا ملك مقرب، ولا نبي مرسل، فضلا عن غيرهما; فإن من شفع عنده بغير إذنه، فهو شريك له في حصول المطلوب أثر فيه بشفاعته، حتى يفعل ما يطلب منه، والله تعالى لا شريك له بوجه من الوجوه. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 300 الثالث: أنه لا يكون الملك مريدا لنفع رعيته، والإحسان إليهم، إلا بمحرك يحركة من خارج، فإذا خاطب الملك من ينصحه ويعظمه، أو من يدل عليه، بحيث يكون يرجوه ويخافه، تحركت إرادة الملك وهمته، في قضاء حوائج رعيته؛ والله تعالى رب كل شيء ومليكه، وهو أرحم بعباده من الوالدة بولدها، وكل الأسباب إنما تكون بمشيئته، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن. وهو سبحانه إذا أراد إجراء، نفع العباد، بعضهم على يد بعض، جعل هذا يحسن إلى هذا، ويدعو له أو يشفع له؛ فهو الذي خلق ذلك كله، وهو الذي خلق في قلب هذا المحسن، والداعي إرادة الإحسان، والدعاء والشفاعة; ولا يجوز أن يكون في الوجود، من يكرهه على خلاف مراده، أو يعلمه ما لم يكن يعلمه. والشفعاء الذين يشفعون عنده، لا يشفعون إلا بإذنه، كما تقدم بيانه، بخلاف الملوك المحتاجين، فإن الشافع عندهم، يكون شريكا لهم في الملك، وقد يكون مظاهرا لهم، معاونا لهم على ملكهم، وهم يشفعون عند الملوك، بغير إذن الملوك، والملك يقبل شفاعتهم، تارة لحاجته إليهم، وتارة لجزاء إحسانهم ومكافأتهم، حتى إنه يقبل شفاعة ولده وزوجته لذلك. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 301 فإنه محتاج إلى الزوجة والولد، حتى لو أعرض عنه ولده وزوجته لتضرر بذلك، ويقبل شفاعة مملوكه، فإنه إذا لم يقبل شفاعته، يخاف أن لا يطيعه، ويقبل شفاعة أخيه، مخافة أن يسعى في ضرره، وشفاعة العباد بعضهم عند بعض، كلها من هذا الجنس، فلا يقبل أحد شفاعة أحد، إلا لرغبة أو لرهبة؛ والله تعالى لا يرجو أحدا، ولا يخافه ولا يحتاج إلى أحد; بل هو الغني سبحانه عما سواه، وكل ما سواه فقير إليه. والمشركون يتخذون شفعاء، من جنس ما يعهدونه عند المخلوق، قال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} 1، وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً?أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} 2. فأخبر سبحانه: أن ما يدعى من دونه، لا يملك كشف الضر عن الداعي، ولا تحويله، وأنهم يرجون رحمته، ويخافون عذابه، ويتقربون إلى الله؛ فقد نفى سبحانه ما أثبتوه، من توسط الملائكة، والأنبياء. وفيما ذكرنا كفاية   1 سورة يونس آية: 18. 2 سورة آية: 56-57. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 302 لمن هداه الله; وأما من أراد الله فتنته فلا حيلة فيه، {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُرْشِداً} 1. [من تلفظ بالشهادة ولم يصل ولم يزك] وأما المسألة الثانية، فقالوا: من قال: لا إله إلا الله محمد رسول الله، ولم يصل ولم يزك، هل يكون مؤمنا؟. فنقول: أما من قال: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، وهو مقيم على شركه، يدعو الموتى، ويسألهم قضاء الحاجات، وتفريج الكربات، فهذا كافر مشرك، حلال الدم والمال، وإن قال لا إله إلا الله، محمد رسول الله، وصلى وصام، وزعم أنه مسلم، كما تقدم بيانه. وأما إن وحد الله تعالى، ولم يشرك به، ولكنه ترك الصلاة، ومنع الزكاة، فإن كان جاحدا للوجوب، فهو كافر إجماعا; وأما إن أقر بالوجوب، ولكنه ترك الصلاة تكاسلا عنها، فهذا قد اختلف العلماء في كفره. والعلماء إذا أجمعوا، فإجماعهم حجة، لا يجتمعون على ضلالة، وإذا تنازعوا في شيء، رد ما تنازعوا فيه إلى الله والرسول; والواحد منهم ليس بمعصوم على الإطلاق، بل كل أحد يؤخذ من قوله ويترك، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ   1 سورة الكهف آية: 17. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 303 فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} 1،قال العلماء: الرد إلى الله، هو الرد إلى كتابه; والرد إلى الرسول: هو الرد إلى السنة بعد وفاته، وقال تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} 2. وقد ذم الله تعالى من أعرض عن كتابه، ودعا عند التنازع إلى غيره، فقال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً} 3. إذا عرف هذا فنقول: اختلف العلماء رحمهم الله، في تارك الصلاة كسلا من غير جحود، فذهب الإمام أبو حنيفة، والشافعي في أحد قوليه، ومالك: إلى أنه لا يحكم بكفره، واحتجوا بما رواه عبادة بن الصامت، قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " خمس صلوات كتبهن الله على العباد، من أتى بهن كان له عند الله عهدا أن يدخله الجنة، ومن لم يأت بهن فليس له عندالله عهد، إن شاء عذبه، إن شاء غفر له " 4. وذهب إمامنا أحمد بن حنبل، والشافعي في أحد قوليه، وإسحاق بن راهويه، وعبد الله بن المبارك، والنخعي، والحكم، وأيوب السختياني، وأبو داود الطيالسي، وغيرهم من كبار الأئمة والتابعين، إلى أنه كافر؛ وحكاه إسحاق بن راهويه إجماعا، ذكره عنه الشيخ أحمد بن حجر الهيتمي، في "شرح الأربعين"، وذكره في   1 سورة النساء آية: 59. 2 سورة الشورى آية: 10. 3 سورة النساء آية: 61. 4 النسائي: الصلاة (461) , وأبو داود: الصلاة (425 ,1420) , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1401) , وأحمد (5/315) , ومالك: النداء للصلاة (270) , والدارمي: الصلاة (1577) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 304 كتاب "الزواجر عن اقتراف الكبائر" عن جمهور الصحابة رضي الله عنهم. وقال الإمام أبو محمد بن حزم: سائر الصحابة رضي الله عنهم، ومن بعدهم من التابعين، يكفرون تارك الصلاة مطلقا، ويحكمون عليه بالارتداد، منهم أبو بكر وعمر، وابنه عبد الله، وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عباس، ومعاذ بن جبل، وجابر بن عبد الله، وعبد الرحمن بن عوف، وأبو الدرداء، وأبو هريرة، وغيرهم من الصحابة، ولا نعلم لهؤلاء مخالفا من الصحابة. وأجابوا عن قوله صلى الله عليه وسلم: " من لم يأت بهن فليس له عند الله عهد، إن شاء عذبه وإن شاء غفر له " 1 أن المراد: عدم المحافظة عليهن في أوقاتهن، بدليل الآيات، والأحاديث الواردة فيها، وفي تركها. واحتجوا على كفر تاركها، بما رواه مسلم في صحيحه، عن جابر بن عبد الله، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة " 2، وعن بريدة بن الحصيب، قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر " 3، رواه الإمام أحمد، وأهل السنن، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح، إسناده على شرط مسلم.   1 النسائي: الصلاة (461) , وأبو داود: الصلاة (425 ,1420) , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1401) , وأحمد (5/315 ,5/317 ,5/319 ,5/322) , ومالك: النداء للصلاة (270) , والدارمي: الصلاة (1577) . 2 مسلم: الإيمان (82) , والترمذي: الإيمان (2620) , وأبو داود: السنة (4678) , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1078) , وأحمد (3/370 ,3/389) , والدارمي: الصلاة (1233) . 3 الترمذي: الإيمان (2621) , والنسائي: الصلاة (463) , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1079) , وأحمد (5/346 ,5/355) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 305 وعن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " بين العبد والكفر والإيمان، الصلاة؛ فإذا تركها فقد كفر وأشرك " 1، وإسناده صحيح على شرط مسلم، وعن عبد الله بن عمرو بن العاص، رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذكر الصلاة يوما، فقال: " من حافظ عليها كانت له نورا وبرهانا ونجاة يوم القيامة، ومن لم يحافظ عليها لم يكن له نور ولا برهان ولا نجاة، وكان يوم القيامة مع قارون، وفرعون، وهامان، وأبي بن خلف " 2 رواه الإمام أحمد، وأبو حاتم، وابن حبان في صحيحه. وعن عبادة بن الصامت: قال أوصاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "لا تشرك بالله شيئا، ولا تترك الصلاة عمدا؛ فمن تركها عمدا فقد خرج من الملة" رواه عبد الرحمن بن أبي حاتم في سننه; وعن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من ترك صلاة مكتوبة متعمدا، فقد برئت منه ذمة الله " 3 رواه الإمام أحمد; وعن أبي الدرداء، قال: " أوصاني أبو القاسم صلى الله عليه وسلم لا أترك الصلاة متعمدا، فمن تركها متعمدا فقد برئت منه الذمة " 4 رواه ابن أبي حاتم. وعن معاذ بن جبل: عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة " 5 الحديث; وعن عبد الله بن شقيق العقيلي، قال: "كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لا يرون شيئا من الأعمال تركه كفر غير الصلاة" رواه الترمذي.   1 ابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1080) . 2 أحمد (2/169) , والدارمي: الرقاق (2721) . 3 أحمد (5/238) . 4 ابن ماجه: الفتن (4034) . 5 الترمذي: الإيمان (2616) , وابن ماجه: الفتن (3973) , وأحمد (5/231 ,5/237 ,5/245) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 306 فهذه الأحاديث كما ترى، صريحة في كفر تارك الصلاة، مع ما تقدم من إجماع الصحابة، كما حكاه إسحاق بن راهويه، وابن حزم، وعبد الله بن شقيق؛ وهو مذهب جمهور العلماء، من التابعين ومن بعدهم. ثم اعلم: أن العلماء كلهم مجمعون على قتل تارك الصلاة كسلا، إلا أبا حنيفة، ومحمد بن شهاب الزهري، وداود، قالوا: يحبس تارك الصلاة المفروضة، حتى يموت أو يتوب. ومن احتج لهذا القول، بقوله صلى الله عليه وسلم: " أمرت أن أقاتل الناس، حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها، عصموا مني دماءهم، وأموالهم إلا بحقها " 1، فقد أبعد النجعة، فإن هذا الحديث لا حجة فيه، بل هو حجة لمن يقول بقتله، كما سيأتي بيانه إن شاء الله. واحتج الجمهور على قتله بالكتاب والسنة: أما الكتاب: فقوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} 2 إلى قوله {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} 3. فشرط الكف: التوبة من الشرك، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، فإذا لم توجد هذه الثلاث، لم يكف عن قتلهم، ولم يخل سبيلهم. قال ابن ماجه: حدثنا نصر بن علي، حدثنا أبو   1 الترمذي: تفسير القرآن (3341) , وأحمد (3/295 ,3/300 ,3/332 ,3/394) . 2 سورة التوبة آية: 5. 3 سورة التوبة آية: 5. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 307 أحمد، حدثنا الربيع بن أنس، عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من فارق الدنيا على الإخلاص لله وحده، وعبادته لا شريك له، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، مات والله عنه راض " 1. قال أنس: (وهو دين الله الذي جاءت به الرسل، وبلغوه عن ربهم، قبل هرج الأحاديث، واختلاف الأهواء، وتصديق ذلك في كتاب الله، في آخر ما أنزل الله {فَإِنْ تَابُوا} ، قال: خلعوا الأوثان وعبادتها، {وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} 2 وقال في آية أخرى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} 3) . وأما السنة: فثبت في الصحيحين، عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة؛ فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله " 4؛ فعلق العصمة على الشهادتين، والصلاة والزكاة. وقد بعث النبي صلى الله عليه وسلم كتابا فيه: "من محمد رسول الله، إلى أهل عمان. أما بعد: فأقروا بشهادة أن لا إله إلا الله، والنبي رسول الله، وأدوا الزكاة، وخطوا المساجد، وإلا غزوتكم" خرجه الطبراني، والبزار وغيرهما، ذكره الحافظ ابن رجب   1 ابن ماجه: المقدمة (70) . 2 سورة التوبة آية: 5. 3 سورة التوبة آية: 11. 4 البخاري: الإيمان (25) , ومسلم: الإيمان (22) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 308 الحنبلي، في شرح الأربعين. وروى ابن شهاب عن حنظلة، عن علي بن الأشجع: "أن أبا بكر الصديق بعث خالد بن الوليد، وأمره أن يقاتل الناس على خمس، فمن ترك واحدة فقاتله عليها كما تقاتله على الخمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج بيت الله الحرام". قال سعيد بن جبير، قال عمر بن الخطاب: "لو أن الناس تركوا الحج، لقاتلناهم على تركه، كما نقاتل على الصلاة والزكاة" وبالجملة: فالكتاب والسنة، يدلان على أن القتال ممدود إلى الشهادتين، والصلاة والزكاة؛ وقد أجمع العلماء على ذلك، قال في شرح "الإقناع": أجمع العلماء على أن كل طائفة ممتنعة عن شريعة من شرائع الإسلام، فإنه يجب قتالها حتى يكون الدين كله لله، كالمحاربين وأولى; انتهى. وأما حديث أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها " 1؛فهذا لا إشكال فيه بحمد الله، وليس لكم فيه حجة، بل هو حجة عليكم، ولو لم يكن إلا قوله: (إلا بحقها) لكان كافيا في إبطال قولكم. وقد قال علماؤنا رحمهم الله: إذا قال الكافر: لا إله   1 الترمذي: تفسير القرآن (3341) , وأحمد (3/295 ,3/300 ,3/332 ,3/394) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 309 إلا الله، فقد شرع في العاصم لدمه، فيجب الكف عنه، فإن تمم ذلك تحققت العصمة وإلا بطلت، ويكون النبي صلى الله عليه وسلم قد قال كل حديث في وقت، فقال: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله " 1 ليعلم المسلمون أن الكافر المحارب، إذا قالها كف عنه، وصار دمه وماله معصوما. ثم بين صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر: أن القتال ممدود إلى الشهادتين، والعبادتين، فقال: " أمرت أن أقاتل الناس، حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة " 2 فبين: أن تمام العصمة وكمالها إنما يحصل بذلك، ولئلا تقع الشبهة بأن مجرد الاقرار يعصم على الدوام، كما وقعت لبعض الصحابة، حتى جلاها أبو بكر الصديق، ثم وافقوه رضي الله عنه. ومما يبين فساد قولكم، وخطأ فهمكم في معنى حديث أبي هريرة: أن الصحابة رضي الله عنهم، أجمعوا على قتال مانعي الزكاة، بعد مناظرة وقعت بين أبي بكر وعمر؛ واستدل عمر على أبي بكر، بحديث أبي هريرة، فبين صديق الأمة رضي الله عنه أن الحديث حجة على قتال من منع الزكاة؛ فوافقه عمر، وسائر الصحابة على قتال مانعي الزكاة، وهم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ويصلون. ونحن نسوق الحديث بتمامه، ثم نذكر ما قاله العلماء   1 البخاري: الجهاد والسير (2946) , ومسلم: الإيمان (21) , والترمذي: الإيمان (2606) , والنسائي: الجهاد (3090 ,3095) وتحريم الدم (3971 ,3972 ,3974 ,3976 ,3977 ,3978) , وأبو داود: الجهاد (2640) , وابن ماجه: المقدمة (71) والفتن (3927 ,3928) , وأحمد (1/11 ,2/377 ,2/423 ,2/502 ,2/528 ,3/300 ,3/332 ,3/339 ,3/394) . 2 البخاري: الإيمان (25) , ومسلم: الإيمان (22) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 310 في شرحه، ليتبين أن فهمكم الفاسد، لم يقل به أحد من العلماء، وأنه فهم مذموم مشؤوم، مخالف للكتاب والسنة، وإجماع الأمة، فنقول: ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة، قال: "لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وكفر من كفر من العرب، قال عمر لأبي بكر: كيف تقاتل الناس؟ وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها؟ فقال أبو بكر: لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال؛ فوالله، لو منعوني عقالا، كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعه; قال عمر: فوالله ما هو إلا أن رأيت الله، قد شرح صدر أبي بكر للقتال، فعلمت أنه الحق" وهذا الحديث خرجه البخاري في كتاب الزكاة، ومسلم في كتاب الإيمان، وهو من أعظم الأدلة على فساد قولكم؛ فإن الصديق رضي الله عنه جعل المبيح للقتال مجرد المنع، لا جحد الوجوب. وقد تكلم النووي رحمه الله على هذا الحديث، في شرح صحيح مسلم، فقال: باب الأمر بقتال الناس، حتى يقولوا: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، ويؤمنوا بجميع ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، وأن من قال ذلك عصم نفسه وماله إلا بحقها، ووكلت سريرته إلى الله تعالى، وقتال من منع الزكاة وغيرها، من حقوق الجزء: 10 ¦ الصفحة: 311 الإسلام، واهتمام الإمام بشرائع الإسلام؛ ثم ساق الحديث. ثم قال: قال الخطابي في شرح هذا الكلام كلاما حسنا لا بد من ذكره، لما فيه من الفوائد، قال رحمه الله: مما يجب تقديمه، أن يعلم: أن أهل الردة كانوا إذ ذاك صنفين: صنف ارتدوا عن الدين، ونابذوا الملة، وعادوا لكفرهم، وهم الذين عنى أبو هريرة بقوله وكفر من كفر من العرب. والصنف الآخر: فرقوا بين الصلاة، وأنكروا فرض الزكاة، ووجوب أدائها إلى الإمام. وقد كان في ضمن هؤلاء المانعين للزكاة، من كان يسمح بالزكاة ولا يمنعها، إلا أن رؤساءهم صدوهم عن ذلك الرأي، وقبضوا على أيديهم في ذلك، كبني يربوع، فإنهم جمعوا صدقاتهم، وأرادوا أن يبعثوا بها إلى أبي بكر، فمنعهم مالك بن نويرة من ذلك، وفرقها فيهم. وفي أمر هؤلاء عرض الخلاف، ووقعت الشبهة لعمر رضي الله عنه، فراجع أبا بكر رضي الله عنه وناظره، واحتج عليه بقول النبي صلى الله عليه وسلم:" أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله؛ فمن قالها فقد عصم نفسه وماله" 1 فكان هذا من عمر رضي الله عنه تعلقا بظاهر الكلام، قبل أن ينظر في آخره، ويتأمل شرائطه.   1 البخاري: الزكاة (1400) , ومسلم: الإيمان (20) , والترمذي: الإيمان (2607) , والنسائي: الزكاة (2443) والجهاد (3091 ,3092 ,3093 ,3094) وتحريم الدم (3969 ,3970 ,3971 ,3973 ,3975) , وأبو داود: الزكاة (1556) , وأحمد (1/11 ,1/19 ,1/35 ,1/47 ,2/423 ,2/528) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 312 فقال أبو بكر: الزكاة حق المال; يريد أن القضية التي قد تضمنت عصمة دمه وماله، معلقة بإيفاء شرائطها، والحكم المتعلق بشرطين، لا يحصل بأحدهما والآخر معدوم، ثم قاسه بالصلاة، ورد الزكاة إليها، وكان في ذلك من قوله دليل على أن قتال الممتنع من الصلاة، كان إجماعا من الصحابة رضي الله عنهم، ولذلك ردوا المختلف فيه إلى المتفق عليه. فلما استقر صحة رأي أبي بكر رضي الله عنه وبان لعمر صوابه، تابعه على قتال القوم، وهو معنى قوله: "فلما رأيت الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال عرفت أنه الحق"‘ يريد انشراح صدره بالحجة، التي أدلى بها، والبرهان الذي أقامه، نصا ودلالة. انتهى. فتأمل: هذا الباب، الذي ذكره النووي رحمه الله - وهو إمام الشافعية، على الإطلاق ـ، تجده صريحا في رد شبهتك: أن من قال لا إله إلا الله، لا يباح دمه وماله، وإن ترك الصلاة ومنع الزكاة؛ فالترجمة نفسها صريحة في رد قولكم، فإنه صرح بالأمر بالقتال، على ترك الصلاة، ومنع الزكاة. وتأمل: ما ذكره الخطابي، أن الذين منعوا الزكاة، منهم من كان يسمح بها ولا يمنعها، إلا أن رؤساءهم الجزء: 10 ¦ الصفحة: 313 صدوهم عن ذلك الرأي، وقبضوا على أيديهم، كبني يربوع، فإنهم أرادوا أن يبعثوا بها إلى أبي بكر، فمنعهم مالك بن نويرة من ذلك وفرقها فيهم، وأنه عرض الخلاف، ووقعت الشبهة لعمر في أمر هؤلاء، ثم إن عمر وافق أبا بكر على قتالهم. وتأمل قوله: واحتج عمر بقول النبي صلى الله عليه وسلم: " أمرت أن أقاتل الناس، حتى يقولوا: لا إله إلا الله " 1، وكان هذا من عمر تعلقا بظاهر الكلام، قبل أن ينظر في آخره، ويتأمل في شرائطه. وتأمل قوله: إن قتال الممتنع من الصلاة، كان إجماعا من الصحابة. وقد أشار الخطابي إلى أن حديث أبي هريرة مختصر; قال النووي رحمه الله: قال الخطابي: ويبين لك أن حديث أبي هريرة مختصر، وأن عبد الله بن عمر وأنسا، روياه بزيادة لم يذكرها أبو هريرة; ففي حديث ابن عمر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة؛ فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها " 2. وفي رواية أنس: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا   1 الترمذي: تفسير القرآن (3341) , وأحمد (3/295 ,3/300 ,3/332 ,3/394) . 2 البخاري: الإيمان (25) , ومسلم: الإيمان (22) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 314 أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وأن يستقبلوا قبلتنا، وأن يأكلوا ذبيحتنا، وأن يصلوا صلاتنا؛ فإذا فعلوا ذلك حرمت علينا دماؤهم وأموالهم إلا بحقها، لهم ما للمسلمين، وعليهم ما على المسلمين " 1. انتهى. قلت: وقد ثبت في الطريق الثالث المذكور في الكتاب والسنة، من رواية أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، ويؤمنوا بي وبما جئت به؛ فإذا قالوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها " 2. وفي استدلال أبي بكر، واعتراض عمر رضي الله عنهما: دليل على أنهما لم يحفظا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رواه ابن عمر وأنس وأبو هريرة؛ وكأن هؤلاء الثلاثة سمعوا هذه الزيادة في روايتهم في مجلس آخر، فإن عمر لو سمع ذلك لما خالف، ولما كان احتج بالحديث، فإن هذه الزيادة حجة عليه، ولو سمع أبو بكر هذه الزيادة لاحتج بها، ولما كان احتج بالقياس والعموم، والله أعلم. انتهى كلام النووي. فتأمل ما ذكره الخطابي، تجده صريحا في رد قولكم، وتأمل قوله: فإن عمر لو سمع ذلك لما خالف، ولما كان احتج بالحديث، فإن هذه الزيادة حجة عليهم.   1 البخاري: الصلاة (393) , والترمذي: الإيمان (2608) , والنسائي: تحريم الدم (3966 ,3967) والإيمان وشرائعه (5003) , وأبو داود: الجهاد (2641) , وأحمد (3/199 ,3/224) . 2 البخاري: الإيمان (25) , ومسلم: الإيمان (22) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 315 وبالجملة: فحديث أبي هريرة حجة عليكم لا لكم، ولو لم يكن فيه إلا قوله: "بحقها" لكان كافيا في بطلان شبهتكم؛ فإن الصلاة والزكاة من أعظم حقوق لا إله إلا الله، بل هما أعظمها على الإطلاق. ومما يدل على بطلان قولكم، وفساد فهمكم في معنى الحديث، أعني حديث أبي هريرة: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله " 1،أن جميع الشراح والمحدثين لم يتأولوه على هذا التأويل الذي ذهبتم إليه. فإنه حديث صحيح مخرج في الصحاح، وهؤلاء شراح البخاري، ومحشّوه نحوا من أربعين، كما نبه عليه القسطلاني في خطبة شرح البخاري، وكذا شرح مسلم، هل أحد منهم استدل به، على ترك قتال من ترك الفرائض؟ بل الذي ذكروه خلاف ما ذهبتم إليه; ولو لم يكن إلا احتجاج عمر به على أبي بكر، واستدلال أبي بكر على قتال مانعي الزكاة، لكان كافيا؛ ونحن نذكر كلامهم عذرا أو نذرا. قال النووي، رحمه الله: قوله صلى الله عليه وسلم: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله؛ فمن قال: لا إله إلا الله، فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقها، وحسابه على الله عز وجل " 2.قال الخطابي: ومعلوم أن المراد بهذا أهل الأوثان، دون أهل الكتاب، لأنهم يقولون لا إله إلا الله،   1 الترمذي: تفسير القرآن (3341) , وأحمد (3/295 ,3/300 ,3/332 ,3/394) . 2 البخاري: استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم (6924) , ومسلم: الإيمان (20) , والترمذي: الإيمان (2607) , والنسائي: الزكاة (2443) والجهاد (3091 ,3092 ,3093 ,3094) وتحريم الدم (3969 ,3970 ,3971 ,3973 ,3975) , وأبو داود: الزكاة (1556) , وأحمد (1/11 ,1/19 ,1/35 ,1/47 ,2/423 ,2/528) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 316 ثم يقاتلون ولا يرفع عنهم السيف. قال: ومعنى حسابه على الله، أي: فيما يسرون ويخفون، قال: ففيه: أن من أظهر الإسلام، وأسر الكفر، يقبل إسلامه في الظاهر؛ وهذا قول أكثر العلماء، وذهب مالك إلى أن توبة الزنديق لا تقبل، ويحكى ذلك عن أحمد بن حنبل، هذا كلام الخطابي. وذكر القاضي عياض، رحمه الله في معنى هذا، وزاد عليه وأوضحه، فقال: اختصاص عصمة المال والنفس، لمن قال لا إله إلا الله، تعبيرا عن الإجابة إلى الإيمان، وأن المراد مشركو العرب، وأهل الأوثان، ومن لا يوحد، وهم كانوا أول من دعي إلى الإسلام، وقوتل عليه; فأما غيرهم ممن يقر بالتوحيد، فلا يكتفى في عصمته بقول لا إله إلا الله إذا كان يقولها في كفره، وهي من اعتقاده، ولذلك جاء في الحديث الآخر "وأني رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة"؛ هذا كلام القاضي عياض. قال النووي: قلت: ولا بد من الإيمان بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم كما جاء في الرواية الأخرى لأبي هريرة: " حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، ويؤمنوا بي وبما جئت به " 1. انتهى كلام النووي. فتأمل ما ذكر الخطابي، وذكره القاضي عياض، أن   1 مسلم: الإيمان (21) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 317 المراد بقول لا إله إلا الله: التعبير عن الإجابة إلى الإيمان، واستدل لذلك بالحديث الآخر، الذي فيه: "وأني رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة". وتأمل قوله: إن المراد بحديث أبي هريرة، مشركو العرب، ومن لا يوحد; فأما غيرهم ممن يقر بالتوحيد فلا يكتفى في عصمته بقول لا إله إلا الله، إذا كان يقولها في كفره، وهي من اعتقاده. وتأمل قول النووي: ولا بد من الإيمان بما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم. وبالجملة: فقوله صلى الله عليه وسلم: " أمرت أن أقاتل الناس، حتى يقولوا: لا إله إلا الله " 1 لا نعلم أحدا من العلماء، أجراه على ظاهره، وقال: إن من قال لا إله إلا الله، يكف عنه، ولا يجوز قتاله، وإن ترك الصلاة، ومنع الزكاة، هذا لم يقل به أحد من العلماء. ولازم قولكم: أن اليهود لا يجوز قتالهم، لأنهم يقولون لا إله إلا الله; وأن الخوارج الذين قاتلهم علي بن أبي طالب، لا يجوز قتالهم، لأنهم يقولون لا إله إلا الله، وأن الصحابة مخطئون في قتالهم لمانعي الزكاة، لأنهم يقولون لا إله إلا الله. ولازم قولكم: أن بني حنيفة مسلمون، لا يجوز قتالهم، لأنهم يقولون لا إله إلا الله. سبحان الله! ما أعظم   1 الترمذي: تفسير القرآن (3341) , وأحمد (3/295 ,3/300 ,3/332 ,3/394) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 318 هذا الجهل! {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} 1. ومن العجب: أنكم تقرؤون في صحيح البخاري هذا الباب، الذي ذكره في كتاب الإيمان، حيث قال: باب {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} 2. حدثنا عبد الله بن محمد المسندي، أنبأنا أبو روح الحرمي، قال: حدثنا شعبة، عن واقد بن محمد، سمعت أبي يحدث عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله " 3. ثم بعد ذلك تقولون: من قال لا إله إلا الله حرم ماله ودمه، ولا أدري بماذا تجيبون به عن هذه الآية والحديثين، اللذين ذكرهما البخاري؟ وبأي شيء تدفعون به هذه الأدلة؟! وقال الإمام أبو عيسى الترمذي، في سننه: باب (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله) : حدثنا هناد، وأنبأنا أبو معاوية عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أمرت أن   1 سورة الروم آية: 59. 2 سورة التوبة آية: 5. 3 البخاري: الإيمان (25) , ومسلم: الإيمان (22) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 319 أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله " 1 الحديث، ثم أردفه بحديث أبي هريرة في قتال أبي بكر لمانعي الزكاة، وساق الحديث بتمامه. ثم قال: باب ما جاء " أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، ويقيموا الصلاة " 2: حدثنا سعيد بن يعقوب الطالقاني، أنبأنا حميد الطويل، عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله، وأن يستقبلوا قبلتنا، وأن يأكلوا ذبيحتنا، وأن يصلوا صلاتنا؛ فإذا فعلوا ذلك حرمت علينا دماؤهم وأموالهم إلا بحقها، لهم ما للمسلمين، وعليهم ما على المسلمين " 3، وفي الباب عن معاذ بن جبل، وأبي هريرة، هذا حديث حسن صحيح. والمقصود: فساد هذه الشبهة التي دسها من يدعي أنه من العلماء، على الجهلة من الناس: أن من قال لا إله إلا الله، محمد رسول الله، أنه مسلم، ولا يجوز قتله، وإن ترك فرائض الإسلام؛ فهذا كلام الله، وهذا كلام رسوله، وهذا كلام العلماء، صريحا في رد هذه الشبهة؛ بل قد دل الكتاب والسنة والإجماع، على أن الطائفة الممتنعة تقاتل على ترك الصلاة، ومنع الزكاة، وإن أقروا بالوجوب، كما تقدمت النصوص الدالة على ذلك. بل قد صرح العلماء: أن أهل البلد إذا تركوا الأذان   1 البخاري: استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم (6924) , ومسلم: الإيمان (20) , والترمذي: الإيمان (2607) , والنسائي: الزكاة (2443) والجهاد (3091 ,3092 ,3093 ,3094) وتحريم الدم (3969 ,3970 ,3971 ,3973 ,3975) , وأبو داود: الزكاة (1556) , وأحمد (1/11 ,1/19 ,1/35 ,1/47 ,2/423 ,2/528) . 2 البخاري: الإيمان (25) , ومسلم: الإيمان (22) . 3 البخاري: الصلاة (393) , والترمذي: الإيمان (2608) , والنسائي: تحريم الدم (3967) والإيمان وشرائعه (5003) , وأبو داود: الجهاد (2641) , وأحمد (3/224) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 320 والإقامة، يقاتلون كما سيأتي، وصرحوا أيضا: بأنهم لو تركوا إقامة صلاة الجماعة يقاتلون، وكذلك لو تركوا صلاة العيد؛ وعلماء حرم الله الشريف يقولون: من قال لا إله إلا الله، فقد عصم ماله ونفسه، وإن لم يصل ولم يزك، فسبحان الله مقلب القلوب كيف يشاء! وهل هذا إلا معارضة لكلام الله، وكلام رسوله، وكلام أئمة المذاهب، وهذا كلامهم موجود في كتبهم، يصرحون بأن من ترك الصلاة قتل، وأن الطائفة الممتنعة من فعل الصلاة، والزكاة والصيام والحج تقاتل، حتى يكون الدين كله لله؛ ويحكون عليه الإجماع، كما صرح بذلك أئمة الحنابلة في كتبهم. فإذا كانوا مصرحين بأن من ترك بعض شعائر الإسلام، كأهل القرية إذا تركوا الأذان، أو تركوا الجماعة، أو تركوا صلاة العيد، أنهم يقاتلون، فكيف بمن ترك الصلاة رأسا؟ وهؤلاء يقولون: من قال لا إله إلا الله، محمد رسول الله، فقد عصم ماله ودمه، وإن كانوا طائفة ممتنعين من فعل الصلاة والزكاة. بل يصرحون بأن البوادي مسلمون، حرام علينا دماؤهم وأموالهم، مع العلم القطعي بأنهم لا يؤذنون، ولا يصلون، ولا يزكون؛ بل الظاهر عنهم أنهم كافرون بالشرائع، وينكرون البعث بعد الموت. فسبحان الله ما الجزء: 10 ¦ الصفحة: 321 أعظم هذا الجهل! وقد ذكرنا من كلام الله، وكلام رسوله، وكلام شراح الحديث، ما فيه الهدى لمن هداه الله، وبينا أن العصمة شرطها التوحيد، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة؛ فمن لم يأت بهذه الثلاث، لم يكف عنهم، ولم يخل سبيلهم، وقد قال تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} 1. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله " 2. وأما كلام الفقهاء، فنذكره على التفصيل إن شاء الله; أما كلام المالكية: فقال الشيخ علي الأجهوري، في "شرح المختصر": من ترك فرضا آخر، لبقاء ركعة بسجدتيها من الضروري، قتل بالسيف حدا على المشهور، وقال ابن حبيب وجماعة خارج المذهب: كفرا، واختاره ابن عبد السلام، انتهى. وقال في فضل الأذان: قال المازري: في الأذان معنيان، أحدهما: إظهار الشعائر، والتعريف بأن الدار دار إسلام، وهو فرض كفاية، يقاتل أهل القرية حتى يفعلوه،   1 سورة التوبة آية: 5. 2 البخاري: الإيمان (25) , ومسلم: الإيمان (22) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 322 فإن عجز عن قهرهم على إقامته إلا بقتال قوتلوا; والثاني: الدعاء للصلاة، والإعلام بوقتها. وقال الأبي في شرح مسلم: والمشهور: أن الأذان فرض كفاية على أهل المصر، لأنه شعار الإسلام، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إن لم يسمع الأذان أغار، وإلا أمسك; وقال المصنف: يقاتلون عليه، ليس القتال من خصائص القول بالوجوب، لأنه نص عن عياض; وفي قول المصنف: والوتر غير واجب، لأنهم اختلفوا في التمادي على ترك السنن، هل يقاتلون عليها؟ والصحيح: قتالهم وإكراههم، لأن في التمادي على تركها إماتتها، انتهى. وقال في فضل صلاة الجماعة: قال ابن رشد: صلاة الجماعة مستحبة للرجل في نفسه، فرض كفاية في الجملة; ويعني بقوله في الجملة: أنها فرض كفاية على أهل المصر، ولو تركوها قوتلوا، كما تقدم. انتهى. وعبارة غيره: وإن تركها أهل بلد قوتلوا، وأهل حارة أجبروا عليها؟ انتهى كلام الشيخ علي الأجهوري. فانظر تصريحهم: بأن تارك الصلاة يقتل باتفاق أصحاب مالك، وإنما اختلفوا في كفره، وأن ابن حبيب، وابن عبد السلام اختارا: أنه يقتل كافرا. وتأمل كلامهم في الطائفة الممتنعة عن الأذان، أو عن إقامة الجماعة في المساجد، أنهم يقاتلون; فأين هذا من قولكم: إن من ترك الجزء: 10 ¦ الصفحة: 323 الفرائض مع الإقرار بوجوبها، لا يحل قتالهم، لأنهم يقولون: لا إله إلا الله. وأما كلام الشافعية، فقال الشيخ الإمام العلامة، أحمد بن حمدان الأذرعي، رحمه الله، في كتاب "قوت المحتاج، في شرح المنهاج": من ترك الصلاة جاحدا لوجوبها كفر بالإجماع، وذلك جار في كل جحود مجمع عليه، معلوم من الدين بالضرورة; فإن تركها كسلا، قتل حدا على الصحيح، أو المشهور. أما قتله: فلأن الله أمر بقتل المشركين، ثم قال: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} 1، فدل على أن القتل لا يرفع إلا بالإيمان، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، ولما في الصحيحين: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة؛ فإذا فعلوا ذلك، عصموا مني دماءهم وأموالهم، إلا بحقها " 2. ثم قال: إشارات، منها: جعل قتله ردة، ووجد لشرذمة، منهم منصور التميمي، وابن خزيمة; وقضية كلام الرونق: أنه كلام منصور، حيث قال: فإذا قتل ففي ماله ودفنه بين المسلمين قولان: أحدهما: ما رواه الربيع عن الشافعي، أن ماله يكون فيئا، ولا يدفن في مقابر المسلمين; والثاني: ما رواه المازني عن الشافعي: ماله   1 سورة التوبة آية: 5. 2 البخاري: الإيمان (25) , ومسلم: الإيمان (22) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 324 لورثته، ويدفن في مقابر المسلمين. وقال منصور في "المستعمل": سألت الربيع: ما نصنع بماله إذا قتلناه؟ قال: يكون فيئا; ومنها: قال "في الروضة": تارك الوضوء يقتل على الصحيح، جزم به الشيخ أبو حامد. وفي "البيان": أو صلى عريانا مع القدرة على الستر، أو الفريضة قاعدا بلا عذر، قتل، وكذلك التشهد، والاعتدال، حكاه ابن الأستاذ عن البحر، فإن صح، طرد في سائر الأركان والشروط، ويجب أن يكون محله فيما أجمع عليه; ومنها: لو امتنع من الصوم والزكاة، حبس ومنع المفطرات. وقال إمام الحرمين: يجوز أن يجعل الممتنع مما يضيق عليه، كالممتنع من الصلاة، فإن أبى ضربت عنقه; قال المصنف: والصحيح قتله بصلاة واحدة، بشرط إخراجها عن وقت الضرورة، انتهى كلام الأذرعي. فانظر كلامه في قتل من ترك الصلاة كسلا، وأن الربيع روى عن الشافعي: أن ماله يكون فيئا، ولا يدفن في مقابر المسلمين. وتأمل كلام أبي حامد، وكلام صاحب "الروضة" في قتل تارك الوضوء، وكلام صاحب "البيان"، فيمن صلى عريانا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 325 مع القدرة على الستر، أو صلى الفريضة قاعدا بلا عذر، أنه يقتل; فأين هذا من قولكم: إن من قال لا إله إلا الله كف عنه، ولا يجوز قتاله بوجه من الوجوه. وقال الشيخ: أحمد بن حجر الهيتمي في "التحفة" في باب حكم تارك الصلاة: إن ترك الصلاة جاحدا وجوبها، كفر بالإجماع، أو تركها كسلا، مع اعتقاده وجوبها، قتل للآية: {فَإِنْ تَابُوا} ، وخبر: " أمرت أن أقاتل الناس" 1، لأنهما شرطا في الكف عن القتل والمقاتلة: الإسلام، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، لأن الزكاة يمكن الإمام أخذها، ولو بالمقاتلة ممن امتنعوا وقاتلوا، فكانت فيها على حقيقتها بخلافها في الصلاة، فإنه لا يمكن فعلها بالمقاتلة. وقال في باب صلاة الجماعة: قيل: وهي فرض للرجال، فتجب بحيث يظهر بها الشعائر في ذلك المحل، في البادية أو غيرها، فإن لم يظهر الشعار، بأن امتنعوا كلهم أو بعضهم، كأهل محلة من قرية كبيرة، ولم يظهر الشعار إلا بهم، قوتلوا؛ يقاتلهم الإمام أو نائبه، لإظهار هذه الشعيرة الكبيرة. وقال في باب الأذان: والإقامة سنة، وقيل فرض كفاية، يقاتل أهل بلد تركوهما، أو أحدهما، أو بحيث لم يظهروا الشعائر.   1 البخاري: الجهاد والسير (2946) , ومسلم: الإيمان (21) , والترمذي: الإيمان (2606) , والنسائي: الجهاد (3090 ,3095) وتحريم الدم (3971 ,3972 ,3974 ,3976 ,3977 ,3978) , وأبو داود: الجهاد (2640) , وابن ماجه: المقدمة (71) والفتن (3927 ,3928) , وأحمد (1/11 ,2/377 ,2/423 ,2/502 ,2/528 ,3/300 ,3/332 ,3/339 ,3/394) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 326 وقال في باب صلاة العيد: هي سنة، وقيل فرض كفاية، فعليه يقاتل أهل بلد تركوها، انتهى كلامه في التحفة; فانظر كلامهم في قتل تارك الصلاة كسلا; وتأمل قوله: إن الآية والحديث، شرطا في الكف عن القتل والمقاتلة: الإسلام، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وأن الإمام يأخذ الزكاة بالمقاتلة، ممن امتنعوا وقاتلوا. وتأمل كلامه، في باب صلاة الجماعة: وأنها تجب بحيث يظهر الشعار، في ذلك المحل، حتى في البادية وأنهم يقاتلون إذا امتنعوا; وتأمل كلامه في الأذان والإقامة، وأن الإمام يقاتل على تركهما، وعلى ترك أحدهما، على القول بأنها فرض كفاية. وتأمل كلامه في الطائفة: إذا امتنعوا من صلاة العيدين؛ فأين هذا من كلام من يقول: إن أهل البلد والبوادي، إذا قالوا: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، لم يجز قتالهم، وإن لم يصلوا ولم يزكوا; سبحان الله! ما أعظم هذا الجهل! وأما كلام الحنابلة: فقال في "الإقناع وشرحه"، في كتاب الصلاة: ومن جحد وجوبها كفر، فإن تركها تهاونا وكسلا لا جحودا، دعاه الإمام أو نائبه إلى فعلها، لاحتمال أن يكون تركها لعذر، يعتقد سقوطها به، كالمرض الجزء: 10 ¦ الصفحة: 327 ونحوه، فيهدده، فإن أبى أن يصليها، حتى تضايق وقت التي بعدها، وجب قتله، لقوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} 1 إلى قوله تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} 2. فمتى ترك الصلاة، لم يأت بشرط التخلية، فيبقى على إباحة القتل، ولقوله عليه السلام: " ومن ترك الصلاة متعمدا، فقد برئت منه ذمة الله ورسوله " 3 رواه أحمد عن مكحول، وهو مرسل جيد؛ ولا يقتل حتى يستتاب ثلاثة أيام، كمرتد نصا; فإن تاب بفعلها، وإلا قتل بالسيف، لما رواه جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة " 4 رواه مسلم; وروى بريدة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من تركها فقد كفر " رواه الخمسة، وصححه الترمذي، انتهى. وقال رحمه الله في باب الأذان والإقامة: فإن تركهما، أي: الأذان والإقامة، أهل بلد قوتلوا; أي: يقاتلهم الإمام أو نائبه، حتى يفعلوهما، لأنهما من أعلام الدين الظاهرة، فقوتلوا على تركهما، كصلاة العيد. وقال رحمه الله، في باب صلاة الجماعة: وهي واجبة وجوب عين، فيقاتل تاركها كأذان، لكن الأذان إنما يقاتل على تركه، إذا تركه أهل البلد كلهم، بخلاف الجماعة، فإنه يقاتل تاركها وإن أقامها غيره، لأن وجوبها   1 سورة التوبة آية: 5. 2 سورة التوبة آية: 5. 3 أحمد (6/421) . 4 مسلم: الإيمان (82) , والترمذي: الإيمان (2618 ,2620) , وأبو داود: السنة (4678) , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1078) , وأحمد (3/370 ,3/389) , والدارمي: الصلاة (1233) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 328 على الأعيان بخلافه. وقال رحمه الله، في باب صلاة العيدين: وهي فرض كفاية، إن تركها أهل بلد يبلغون أربعين بلا عذر، قاتلهم الإمام كأذان، لأنها من شعائر الإسلام الظاهرة، وفي تركها تهاون بالدين. وقال رحمه الله، في باب إخراج الزكاة: ومن منعها بخلا أو تهاونا، أخذت منه قهرا، كدين الآدمي. وإن غيب ماله أو كتمه، وأمكن أخذها، بأن كان في قبضة الإمام، أخذت منه بغير زيادة. وإن لم يمكن أخذها استتيب ثلاثة أيام وجوبا، فإن تاب وأخرج كف عنه، وإلا قتل، لاتفاق الصحابة على قتال مانعيها. وإن لم يمكن أخذها إلا بقتال، وجب على الإمام قتاله، إن وضعها موضعها، انتهى كلامه في "الإقناع وشرحه". فتأمل كلامه فيمن ترك الصلاة كسلا، من غير جحود، أن يستتاب، فإن تاب وإلا قتل كافرا. وتأمل كلامه في أهل البلد، إذا تركوا الأذان والإقامة، وصلاة العيد: أنهم يقاتلون بمجرد ترك ذلك; فهذا كلام المالكية، وهذا كلام الشافعية، وهذا كلام الحنابلة، الكل منهم قد صرح بما ذكرناه. فإذا كانوا مصرحين بقتال من التزم شرائع الإسلام، إلا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 329 أنهم تركوا الأذان، أو تركوا صلاة الجماعة، أو تركوا صلاة العيد، فكيف بمن ترك الصلاة رأسا؟ كالبوادي الذين لا يصلون، ولا يزكون، ولا يصومون، بل ينكرون الشرائع، وينكرون البعث بعد الموت؛ هذا هو الغالب عليهم، إلا من شاء الله وهم القليل، وإلا فأكثرهم ليس معهم من الإسلام، إلا أنهم يقولون لا إله إلا الله. ومع هذا يجادل عنهم علماء مكة المشرفة، ويقولون: إنهم مسلمون، وإن دماءهم وأموالهم حرام بحرمة الإسلام، وإن لم يصلوا ولم يزكوا، ولم يصوموا، إلا أنهم يقولون لا إله إلا الله، وهل هذا إلا رد على الله تعالى حيث قال: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} 1. وهؤلاء يقولون: يخلى سبيلهم، وإن لم يصلوا، ولم يزكوا، وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة؛ فإن فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم، إلا بحق الإسلام " 2. وهؤلاء يقولون: من قال لا إله إلا الله، عصم دمه وماله، وإن لم يصل ولم يزك. {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} 3. فهذا كتاب الله، وهذه   1 سورة التوبة آية: 5. 2 البخاري: الإيمان (25) , ومسلم: الإيمان (22) . 3 سورة الروم آية: 59. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 330 سنة رسوله، وهذا إجماع الصحابة، على قتل من ترك الصلاة، أو منع الزكاة. قال صديق الأمة، أبو بكر رضي الله عنه: "والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، والله لو منعوني عقالا، كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي رواية: عناقا، لقاتلتهم على منعها" وهذا أيضا إجماع العلماء. قال في شرح "الإقناع": أجمع العلماء على أن كل طائفة ممتنعة، عن شريعة من شرائع الإسلام، فإنه يجب قتالها، حتى يكون الدين كله لله، كالمحاربين وأولى، انتهى. وقال أبو العباس رحمه الله: القتال واجب حتى يكون الدين كله لله، وحتى لا تكون فتنة، فمتى كان الدين لغير الله فالقتال واجب؛ فأيما طائفة ممتنعة عن بعض الصلوات المفروضات، أو الزكاة، أو الصيام، أو الحج، أو عن التزام تحريم الدماء والأموال، والخمر والزنى والميسر، أو نكاح ذوات المحارم، أو عن التزام جهاد الكفار، وضرب الجزية على أهل الكتاب، أو غير ذلك من التزام واجبات الدين، أو محرماته التي لا عذر لأحد في جحودها أو تركها، التي يكفر الواحد بجحودها، فإن الطائفة الممتنعة تقاتل عليها، وإن كانت مقرة بها؛ وهذا مما لا أعلم فيه خلافا بين العلماء. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 331 وإنما اختلف الفقهاء في الطائفة الممتنعة، إذا اجترؤوا على ترك بعض السنن، كركعتي الفجر، أو الأذان والإقامة، عند من لا يقول بوجوبها، ونحو ذلك من الشعائر، فهل تقاتل الطائفة الممتنعة على تركها، أم لا؟ فأما الواجبات، والمحرمات المذكورة، ونحوها، فلا خلاف في القتال عليها، انتهى كلامه. فتأمل: كلام إمام الحنابلة، وتصريحه بأن من امتنع من شريعة من شرائع الإسلام الظاهرة، كالصلوات الخمس، والصيام، أو الزكاة، أو الحج، وعن ترك المحرمات، كالزنى أو شرب الخمر، أو المسكرات، أو غير ذلك، فإنه يجب قتال الطائفة الممتنعين عن ذلك، حتى يكون الدين كله لله، ويلتزمون جميع شرائع الإسلام، وإن كانوا مع ذلك ناطقين بالشهادتين، وملتزمين ببعض شرائع الإسلام، وإن كان ذلك مما اتفق عليه الفقهاء، من سائر الصحابة فمن بعدهم. فأين هذا من قولكم: إن من قال لا إله إلا الله، فقد عصم ماله ودمه، وإن ترك الفرائض، وارتكب المحرمات؟ بل من تأمل سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وسيرة الخلفاء الراشدين المهديين من بعده، عرف أن قولكم هذا مضاد لما فعله النبي صلى الله عليه وسلم وما فعله الخلفاء الراشدون، ومن بعدهم. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 332 فيا سبحان الله! أما علمتم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتل اليهود، وهم يقولون لا إله إلا الله، وسبى نساءهم، واستحل دماءهم وأموالهم؟ أما علمتم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أن يغزو بني المصطلق، لما قيل له إنهم منعوا الزكاة؟ وكان الذي قاله كاذبا؛ والقصة مشهورة في كتب الحديث، والتفسير، ذكرها المفسرون عند قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} 1. أما علمتم: "أن علي بن أبي طالب، رضي الله عنه حرق الغالية مع أنهم يقولون لا إله إلا الله؟ ". أما علمتم: "أن الصحابة رضي الله عنهم، قاتلوا الخوارج بأمر نبيهم صلى الله عليه وسلم؟ "، مع أنه صلى الله عليه وسلم أخبر: أن الصحابة يحقرون صلاتهم مع صلاتهم، وصيامهم مع صيامهم، وقراءتهم مع قراءتهم، وقال: (أينما لقيتموهم فاقتلوهم) ; أما علمتم: أن الصحابة قاتلوا بني حنيفة؟ وهم يشهدون أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، ويصلون، ويؤذنون، ويصومون. أما علمتم: أن الصحابة قاتلوا بني يربوع؟ لما منعوا الزكاة مع أنهم مقرون بوجوبها، وكانوا قد جمعوا صدقاتهم، وأرادوا أن يبعثوا بها إلى أبي بكر، فمنعهم مالك بن نويرة، وفي أمر هؤلاء عرضت الشبهة لعمر رضي الله عنه حتى جلاها له الصديق أبو بكر رضي الله عنه وقال: "والله لو منعوني عقالا، وفي رواية: عناقا،   1 سورة الحجرات آية: 6. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 333 كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها، فقال عمر: فوالله ما هو إلا أن رأيت الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال، فعرفت أنه الحق". وقد تقدم ذلك مبسوطا، وذكرنا لفظه في شرح مسلم، في باب الأمر بقتال الناس، حتى يقولوا لا إله إلا الله، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة. أما علمتم: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا بردة، إلى رجل تزوج امرأة أبيه"، كما رواه الترمذي في سننه، حيث قال: باب فيما جاء فيمن تزوج امرأة أبيه، حدثنا أبو سعيد الأشج، أخبرنا حفص بن غياث، عن أشعث، عن عدي بن ثابت، " عن البراء، قال مر بي خالي أبو بردة، ومعه لواء، فقلت: أين تريد؟ فقال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رجل، تزوج امرأة أبيه، أن آتيه برأسه " 1، حديث حسن غريب، انتهى. ولو تتبعنا الآيات، والأحاديث، والآثار، وكلام العلماء، في قتال من قال لا إله إلا الله، إذا ترك بعض حقوقها، لطال الكلام جدا، فكيف بمن جحد الإسلام كله؟ وكذب به، واستهزأ به على عمد، إلا أنهم يقولون: لا إله إلا الله، كهؤلاء البوادي. وفيما ذكرنا كفاية لمن طلب الإنصاف، فقد ذكرنا من كلام الله، وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، وإجماع الصحابة، وإجماع العلماء بعدهم، فإن كان هذا الذي ذكرناه، له   1 الترمذي: الأحكام (1362) , والنسائي: النكاح (3331 ,3332) , وأبو داود: الحدود (4457) , وابن ماجه: الحدود (2607) , وأحمد (4/297) , والدارمي: النكاح (2239) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 334 معنى آخر غير ما فهمناه، فبينوه لنا من كلام الله، وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، وكلام الصحابة، وكلام العلماء، فرحم الله امرءا نظر لنفسه، وعرف أنه ملاقي الله، الذي عنده الجنة والنار. [كفار أهل زماننا هل هم مرتدون؟] وسئل: عن قول الفقهاء، إن المرتد لا يرث ولا يورث، فكفار أهل زماننا هل هم مرتدون؟ أم حكمهم حكم عبدة الأوثان، وأنهم مشركون؟ فأجاب: أما من دخل في دين الإسلام ثم ارتد، فهؤلاء مرتدون، وأمرهم عندك واضح; وأما من لم يدخل في دين الإسلام، بل أدركته الدعوة الإسلامية، وهو على كفره، كعبدة الأوثان، فحكمه حكم الكافر الأصلي، لأنا لا نقول الأصل إسلامهم، والكفر طارئ عليهم. بل نقول: الذين نشؤوا بين الكفار، وأدركوا آباءهم على الشرك بالله، هم كآبائهم، كما دل عليه الحديث الصحيح في قوله:" فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه " 1. فإن كان دين آبائهم الشرك بالله، فنشأ هؤلاء واستمروا عليه، فلا نقول الأصل الإسلام والكفر طارئ، بل نقول: هم الكفار الأصليون، ولا يلزمنا على هذا تكفير من مات في الجاهلية قبل ظهور الدين، فإنا لا نكفر الناس بالعموم، كما أنا لا نكفر اليوم بالعموم.   1 البخاري: الجنائز (1358) , ومسلم: القدر (2658) , والترمذي: القدر (2138) , وأبو داود: السنة (4714) , وأحمد (2/233 ,2/275 ,2/282 ,2/315 ,2/346 ,2/393 ,2/410 ,2/481) , ومالك: الجنائز (569) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 335 بل نقول: من كان من أهل الجاهلية، عاملا بالإسلام، تاركا للشرك، فهو مسلم، وأما من كان يعبد الأوثان، ومات على ذلك قبل ظهور هذا الدين، فهذا ظاهره الكفر، وإن كان يحتمل أنه لم تقم عليه الحجة الرسالية، لجهله وعدم من ينبهه، لأنا نحكم على الظاهر، وأما الحكم على الباطن فذلك إلى الله، والله تعالى لا يعذب أحدا إلا بعد قيام الحجة عليه، كما قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} 1. وأما من مات منهم مجهول الحال، فهذا لا نتعرض له، ولا نحكم بكفره ولا بإسلامه، وليس ذلك مما كلفنا به، {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 2.فمن كان منهم مسلما أدخله الله الجنة، ومن كان كافرا أدخله الله النار، ومن كان منهم لم تبلغه الدعوة، فأمره إلى الله؛ وقد علمت الخلاف في أهل الفترات، ومن لم تبلغهم الحجة الرسالية. وأيضا: فإنه لا يمكن أن نحكم في كفار زماننا، بما حكم به الفقهاء في المرتد: أنه لا يرث ولا يورث، لأن من قال لا يرث ولا يورث، يجعل ماله فيئا لبيت مال المسلمين؛ وطرد هذا القول، أن يقال: جميع أملاك الكفار اليوم بيت مال، لأنهم ورثوها عن أهليهم، وأهلوهم مرتدون لا يورثون، وكذلك الورثة مرتدون لا يرثون، لأن   1 سورة الإسراء آية: 15. 2 سورة البقرة آية: 134. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 336 المرتد لا يرث ولا يورث. وأما إذا حكمنا فيهم بحكم الكفار الأصليين، لم يلزم شيء من ذلك، بل يتوارثون؛ فإذا أسلموا فمن أسلم على شيء فهو له، ولا نتعرض لما مضى منهم في جاهليتهم، لا المواريث ولا غيرها، وقد روى أبو داود، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كل قسم قسم في الجاهلية فهو على ما قسم، وكل قسم أدركه الإسلام فهو على قسم الإسلام " 1، وروى سعيد في سننه من طريقين، عن عروة بن أبي مالك، عن النبي صلى الله عليه وسلم: " من أسلم على شيء فهو له "، ونص أحمد على مثل ذلك، كما تقدم عنه في رواية مهنا. واعلم: أن القول بأن المرتد لا يرث ولا يورث، أحد الأقوال في المسألة، وهو المشهور في المذهب، وهو مذهب مالك والشافعي. والقول الثاني: أنه لورثته المسلمين، وهو رواية عن أحمد، وهو مروي عن أبي بكر الصديق، وعلي بن أبي طالب، وابن مسعود، وهو قول جماعة من التابعين، وهو قول الأوزاعي، وأهل العراق، والقول الثالث: أن ماله لأهل دينه الذي اختاره، إن كان منهم من يرثه، وإلا فهو فيء، وهو رواية عن أحمد، وهو مذهب داود بن علي، وصلى الله على محمد. [التكفير بالمعصية] وسئل أيضا: الشيخ حمد بن ناصر، قال السائل: إنكم تكفرون بالمعاصي؟   1 أبو داود: الفرائض (2914) , وابن ماجه: الأحكام (2485) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 337 فأجاب: ليس هذا قولنا، بل هذا قول الخوارج، الذين يكفرون بالذنوب، ولم نكفر أحدا بعمل المعاصي؛ بل نكفر من فعل المكفرات، كالشرك بالله بأن يعبد معه غيره، فيدعو غير الله، أو يذبح له، أو ينذر له، أو يخافه، أو يرجوه، أو يتوكل عليه، فإن هذه الأمور كلها عبادة لله بنص القرآن، وإيراد الأدلة على ذلك له بسط طويل، لا تحتمله هذه الورقة. فنقول: الدعاء والذبح والنذر وغير ذلك، حق الله على عباده، فمن أشرك مع الله غيره في هذه الأفعال فهو مشرك كافر، وإن قال لا إله إلا الله، وصلى وصام، وزعم أنه مسلم؛ وهذا مجمع عليه عند أهل العلم، لا اختلاف في ذلك. [التطير والتشاؤم] سئل الشيخ سليمان بن حمدان: هل يجوز للإنسان أن يصدق، أو يعتقد، أو يتشاءم، أو يتوهم: أن يصيبه ضرر كمرض أو موت أو غيره من الأعداد أو السنين، أو الشهور أو الأيام، أو الأوقات، أو قراءة سورة أو آية، أو ورد أو فائدة، أو دخول بيت، أو لبس ثوب أو غيره، أم لا؟ فأجاب: الحمد لله، لا يجوز للإنسان التشاؤم، باعتقاد أو توهم: أن يصيبه ضرر، كمرض أو موت، أو غير ذلك من قبل الأشياء المذكورة، أو غيرها، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 338 ولا التصديق بذلك؛ بل هذا ونحوه من الطيرة المنهي عنها، وهي من أعمال أهل الشرك والكفر، كما حكاه الله في كتابه عن قوم فرعون، وقوم صالح، وأصحاب القرية التي جاءها المرسلون، ومن أمور الجاهلية وعاداتها التي جاء الإسلام بإبطالها وتحريمها، فكانوا يتطيرون بالسوانح والبوارح وغيرهما. والتطير: التشاؤم، وأصله: الشيء المكروه من قول أو فعل أو مرئي، قاله النووي، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا عدوى ولا طيرة، ولا هامة ولا صفر " 1، وهذا نفي لما كانت الجاهلية تعتقده في هذه الأمور، من التأثير من غير أن يكون ذلك بقضاء الله وقدره؛ فدل على بطلان ذلك، وعدم تأثيره. وقد فسرت "الهامة" في هذا الحديث بأنها طائر من طير الليل، قيل: إنه "البومة"، وأن العرب كانت تشاءم بها، إذا وقعت على بيت أحدهم، قال: نَعَتْ إلي نفسي أو أحدا من أهل داري. ومما جاء في معنى "صفر"، أنه التشاؤم بدخول صفر والقول بأنه شهر مشؤوم، قال ابن رجب رحمه الله: ولعله أشبه الأقوال في ذلك، وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا عدوى ولا طيرة، ويعجبني الفأل، قالوا: وما الفأل؟ قال: الكلمة الطيبة " 2.   1 البخاري: الطب (5757) , ومسلم: السلام (2220 ,2221 ,2220) , وأبو داود: الطب (3911) , وأحمد (2/266 ,2/267 ,2/327 ,2/397 ,2/406 ,2/420 ,2/434 ,2/453 ,2/487 ,2/507 ,2/524) . 2 البخاري: الطب (5776) , ومسلم: السلام (2224) , والترمذي: السير (1615) , وأبو داود: الطب (3916) , وابن ماجه: الطب (3537) , وأحمد (3/118 ,3/130 ,3/154 ,3/173 ,3/178 ,3/251 ,3/275 ,3/277) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 339 فنفى العدوى والطيرة، وأخبر أن الفأل يعجبه، وأنه الكلمة الطيبة; فدل على أنه ليس من الطيرة المذمومة، لأنه حسن ظن، ورجاء خير، وأما الطيرة فهى سوء ظن بالله، وتوقع للبلاء. ولما ذكرت الطيرة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " خيرها الفأل، ولا ترد مسلما " 1. قال ابن القيم رحمه الله: أخبر أن الفأل من الطيرة، وهو خيرها، فأبطل الطيرة وأخبر أن الفأل منها، ولكنه خيرها، ففصل بين الفأل والطيرة لما بينهما من الامتياز والتضاد، ونفع أحدهما ومضرة الآخر؛ ونظير هذا منعه من الرقى بالشرك، وإذنه في الرقية إذا لم يكن فيها شرك، لما فيها من المنفعة الخالية من المفسدة، انتهى. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: " خيرها الفأل " 2 مع أن الطيرة كلها لا خير فيها، فقال صاحب الفتح: إن أفعل التفضيل في ذلك إنما هو بين القدر المشترك بين شيئين، والقدر المشترك بين الطيرة والفأل: تأثير كل منهما فيما هو فيه، والفأل في ذلك أبلغ، انتهى. وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " الطيرة شرك، الطيرة شرك "، وهذا صريح في تحريمها، وأنها من الشرك، لما فيها من تعلق القلب على غير الله تعالى، باعتقاد أنها تجلب نفعا أو تدفع ضرا، إذا عمل الإنسان بموجبها، مع أن الأمر   1 أبو داود: الطب (3919) . 2 أبو داود: الطب (3919) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 340 بخلاف ذلك، وأنه لا تأثير لها في جلب نفع أو دفع ضر، لأنها مجرد وساوس وأوهام يلقيها الشيطان في نفس العبد، فإن صادفت إيمانا كاملا وتوكلا قويا، فلا قرار لها، وإنما تتمكن مع نقص الإيمان وضعف التوكل. وفي صحيح مسلم عن معاوية بن الحكم أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: " ومنا أناس يتطيرون، قال: ذلك شيء يجده أحدكم في نفسه، فلا يصدنكم " 1. قال ابن القيم رحمه الله: فأخبر أن تشاؤمة بالطيرة إنما هو في نفسه وعقيدته، لا في المتطير به؛ فوهمه، وخوفه، وإشراكه، هو الذي يطيره ويصده، لا ما رآه وسمعه؛ فأوضح صلى الله عليه وسلم لأمته الأمر وبين لهم فساد الطيرة، ليعلموا أن الله سبحانه لم يجعل لهم عليها علامة ولا فيها دلالة، ولا نصبها سببا لما يخافونه ويحذرونه، انتهى. وفي الحديث: " ليس منا من تطير، أو تطير له "؛ وقد جاء بأن الطيرة من الجبت، وذكر بعض العلماء أنها من الكبائر، وقال ابن القيم: قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " الطيرة شرك " 2، فيحتمل أن تكون من الكبائر، ويحتمل أن تكون دونها. وقال صاحب الرعاية: تكره الطيرة، وهي: التشاؤم; وكذا قال غير واحد من أصحاب أحمد. وقال ابن مفلح: الأولى القطع بتحريمها، لأنها شرك،   1 مسلم: السلام (537) , والنسائي: السهو (1218) , وأبو داود: الصلاة (930) , وأحمد (5/447 ,5/448 ,5/449) . 2 الترمذي: السير (1614) , وأبو داود: الطب (3910) , وابن ماجه: الطب (3538) , وأحمد (1/389 ,1/438 ,1/440) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 341 وكيف يكون الشرك مكروها الكراهة الاصطلاحية؟ وقال: ولعل مرادهم - يعني الأصحاب - بالكراهة التحريم، وما قاله هو موجب النصوص، والقواعد تقتضيه، لأن الأحكام الخمسة لا تؤخذ إلا عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم؛وقد قام الدليل الموجب للتحريم، فتعين القول به، وحمل كلام من أطلق الكراهة عليه بلا تودد. إذا علم هذا، فيحرم التطير والتشاؤم من حيث هو، من غير استثناء شيء من ذلك، لعموم الأدلة وعدم المخصص؛ وعليه: فالتشاؤم بالأعداد الناتجة عن حساب اسم الشخص واسم أمه، بالجمل، وأن طالعه كذا، ونجمه كذا، والحكم كذا، أو الحكم على ذلك بفقر أو غنى، أو صحة أو مرض، أو حياة أو موت، أو غير ذلك من الدلائل الفلكية على الأحوال السفلية، كما يصنع الآن في بعض النتائج والتقاويم، كل ذلك محرم لا يجوز تعلمه وتعليمه، ولا اعتقاد صحته؛ وهو من الطيرة المذمومة، ومن تعاطي علم ما استأثر الله به من الغيب. وكذا يحرم التشاؤم بالأزمان، لا فرق في ذلك بين السنين والشهور، والأيام والأوقات، لأن السنين مجموعة من الأشهر، وهي من الأيام، والأيام من الأوقات، لأن الزمان مخلوق مسخر، وليس له فعل ولا إرادة. فالتشاؤم به مضاهاة لأهل الجاهلية، في تشاؤمهم بصفر، وبشوال في الجزء: 10 ¦ الصفحة: 342 النكاح خاصة، لما فيه من أن طاعونا وقع فيه، مات منه كثير من العرائس فتشاءموا به. وقد صح عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: " تزوجني النبي صلى الله عليه وسلم في شوال، وبنى بي في شوال، فأي نسائه كان أحظى عنده مني؟ وكانت تستحب أن يدخل على نسائها في شوال" 1،" وتزوج النبي صلى الله عليه وسلم أم سلمة في شوال " 2 أيضا، وهذا منه صلى الله عليه وسلم مخالفة لما عليه أهل الجاهلية. وما زالت هذه العادات السيئة سارية في كثير من الناس، مثل التشاؤم بصفر، وربما نهوا عن السفر فيه، وحتى أن منهم من لا يكاد يذكر صفر إلا ويضيف إليه لفظة "الخير"، نظرا لما قام في قلوبهم من هذه الأمور؛ وقد قال عكرمة: "كنا جلوسا عند ابن عباس، فمر طائر يصيح، فقال رجل من القوم: خير خير، فقال ابن عباس: لا خير ولا شر، فبادره بالإنكار عليه، لئلا يعتقد تأثيره في الخير والشر". "وخرج طاووس مع صاحب له في سفر، فصاح غراب، فقال الرجل: خير، فقال طاووس: وأي خير عند هذا؟ لا تصحبني! " فالطيور والشهور كغيرهما، لا خير عندها ولا شر، فلا يجوز أن يضاف إليها شيء من ذلك; ومن هذا تشاؤمهم   1 مسلم: النكاح (1423) , والترمذي: النكاح (1093) , والنسائي: النكاح (3236) , وابن ماجه: النكاح (1990) , وأحمد (6/54 ,6/206) , والدارمي: النكاح (2211) . 2 ابن ماجه: النكاح (1991) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 343 ببعض الأيام، كيوم الأربعاء وهذا أمر باطل، وما يروى في يوم الأربعاء من أنه يوم نحس مستمر، قال أهل العلم: إنه حديث لا يصح، بل قد جاء في المسند عن جابر رضي الله عنه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا على الأحزاب يوم الإثنين ويوم الثلاثاء ويوم الأربعاء، فاستجيب له يوم الأربعاء بين الظهر والعصر، فعرف البشر في وجهه؛ قال جابر رضي الله عنه: فما نزل بي أمر مهم غليظ إلا توخيت ذلك الوقت، فدعوت الله فيه فرأيت الإجابة"، فتبين بهذا: أنه يوم تجاب فيه الدعوات، وتقضى فيه الحاجات، وهذا ينافي كونه يوم نحس مستمر. وأما التشاؤم بقراءة سورة، أو آية من كتاب الله، فحرام أيضا، لما تقدم، ولأن قراءة القرآن عبادة مرغب فيها، وهي من أفضل الأعمال، وفيها ثواب عظيم مع الإخلاص. وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من قرأ حرفا من كتاب الله فله حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول {الم} حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف " 1 وأيضا: فإن القرآن كلام الله تعالى، وكلامه صفة من صفات ذاته المقدسة؛ ولذا لو حلف بسورة أو آية منه، فهو يمين تجب فيه الكفارة بالحنث؛ وصفاته تعالى لا شر فيها ولا ضرر يتوقع منها، بل قد قال أعلم الخلق بربه،   1 الترمذي: فضائل القرآن (2910) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 344 محمد صلى الله عليه وسلم: " والشر ليس إليك " 1 يعني ربه، فلا يصح أن يضاف الشر إلى ذاته تعالى، ولا إلى صفاته. كذلك، يحرم التشاؤم بالأوراد والأدعية المأثورة، لأنه لا شؤم فيها ولا ضرر، بل قد ورد الأمر بها، والحث على المحافظة عليها في المساء والصباح؛ فالاشتغال بها من أعظم ما يستدفع به الشر والبلاء، فضلا عن كونها سببا في حصوله، لأن الدعاء يمنع البلاء بعد انعقاد أسبابه، وفي الحديث " لا يرد القضاء إلا الدعاء " 2، وقال ابن عباس: "الدعاء يدفع القدر، وهو إذا دفع القدر فهو من المقدر". وبالجملة: فليس فيما بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم ما يكون سببا للشر أصلا، بل كل شر أصاب العبد أو يصيبه في دنياه وآخرته، فسببه الذنوب والمعاصي. وأما الفوائد، سواء كانت دينية أو دنيوية، فقد استفيدت بطريق مباح، فلا ضرر فيها ولا شؤم؛ فيحرم التشاؤم بها، لأنها من نعم الله على عبده، التي يجب أن تقابل بشكر المنعم بها، لا التشاؤم منها؛ ولهذا شرع سجود الشكر عند تجدد النعم واندفاع النقم، دينية كانت أو دنيوية، عامة أو خاصة، وهكذا في الحكم كل ما يتشاءم به، من دخول بيت أو لبس ثوب أو غير ذلك. إذا تبين هذا، فلا يجوز إضافة الشؤم إلى عدد أو سنة   1 مسلم: صلاة المسافرين وقصرها (771) , والنسائي: الافتتاح (897) , وأحمد (1/102) , والدارمي: الصلاة (1238) . 2 الترمذي: القدر (2139) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 345 أو شهر، أو يوم أو وقت، أو قراءة سورة، أو آية، أو ورد أو فائدة، أو دخول بيت، أو لبس ثوب، أو غير ذلك. ولا اعتقاد وقوع ضرر منه، أو كونه سببا في حصوله، إلا بقضاء الله وقدره؛ فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وهو سبحانه خالق الأسباب ومسبباتها، لا خالق غيره ولا مقدر سواه؛ والعبد مأمور بتوقي أسباب الشر الظاهرة، واجتنابها بقدر ما وردت به الشريعة، مثل اتقاء المجذوم والمريض، والقدوم على مكان الطاعون. وأما ما خفي منها، فلا يشرع اتقاؤه واجتنابه، بل ذلك من الطيرة المحرمة، فإنها سوء ظن بالله تعالى، بغير سبب محقق، فلا تجوز; وأما ما ورد من إثبات الشؤم، في المرأة والدار والدابة، فقد اختلف أهل العلم في معناه؛ وحاصل ما ذكروه من التحقيق في ذلك، هو: أن إثبات الشؤم في هذه الثلاث، بمعنى أنها أسباب، يقدر الله بها الشؤم واليمن ويقرنه، ولهذا شرع لمن استفاد زوجة أو أمة أو دابة، أن يسأل الله من خيرها وخير ما جبلت عليه، ويستعيذه من شرها وشر ما جبلت عليه، وكذا ينبغي لمن سكن دارا أن يفعل ذلك. وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم قوما سكنوا دارا، فقل عددهم وقل مالهم، أن يتركوها ذميمة; فترك ما لا يجد الإنسان فيه بركة من دار أو زوجة أو دابة غير منهي عنه. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 346 قال ابن قتيبة في مختلف الحديث: إنما أمرهم من التحول منها، لأنهم كانوا مقيمين فيها، على استثقال لظلها، واستخباث بما نالهم فيها، فأمرهم بالتحول، وقد جعل الله في غرائز الناس وتركيبهم استثقال ما نالهم فيه السوء، إن كان لا سبب له في ذلك، وحب من جرى على يديه الخير لهم وإن لم يردهم به؛ وكيف يتطير صلى الله عليه وسلم والطيرة من الجبت؟ انتهى. فالواجب على من نصح نفسه: عدم الالتفات إلى شيء من هذه التخيلات الباطلة والأوهام الكاذبة، والاشتغال عنها بما يدفع البلاء من الدعاء والذكر، والصدقة، والتوكل على الله، والإيمان بقضائه وقدره، وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وقول ما ورد، ومنه: " اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت، ولا يدفع السيئات إلا أنت، ولا حول ولا قوة إلا بك" 1 فإذا قال ذلك لم يضره شيء، وأما إذا استرسل معها، وفتح على نفسه باب الوساوس في هذه الأمور، أو همه الشيطان وألقى في نفسه منها ما يفسد عليه دينه وينكد عليه عيشته، وربما وقع به ما يحذره، عقوبة له. والله أعلم وصلى الله على محمد.   1 أبو داود: الطب (3919) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 347 [الخوراج ومذهبهم في التكفير بالمعاصي] وسئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن، رحمه الله تعالى، عن مذهب الخوارج ... إلى آخر السؤال. فأجاب: أما مذهب الخوارج، فإنهم يكفرون أهل الإيمان بارتكاب الذنوب، ما كان منها دون الكفر والشرك، وإنهم قد خرجوا في خلافة علي رضي الله عنه وكفروا الصحابة بما جرى بينهم من القتال، واستدلوا على ذلك بآيات، وأحاديث، لكنهم اخطؤوا في الاستدلال. فما دون الكفر والشرك من المعاصي، فلا يكفر فاعله، لكنه ينهى عنه إذا أصر على كبيرة ولم يتب منها، فيجب نهيه والقيام عليه؛ وكل منكر يجب إنكاره، من ترك واجب، أو ارتكاب محرم، لكن لا يكفر إلا من فعل مكفرا، دل الكتاب والسنة على أنه كفر، وكذلك ما اتفق العلماء على أن فعله، أو اعتقاده كفر، كما إذا جحد وجوب ما هو معروف من الدين بالضرورة، أو استحل ما هو معروف بالضرورة أنه محرم، فهذا مما أجمع العلماء على أنه كفر إذا جحد الوجوب، لا إذا ترك الصلاة تهاونا وكسلا، فالمشهور في مذهب أحمد أنه يستتاب، فإن تاب وإلا قتل كافرا، وأما الثلاثة فلا يكفرونه بالترك، بل يعدونه من الكبائر؛ وكذلك إذا فعل كبيرة كما تقدم، فلا يكفر عند أهل السنة والجماعة إلا إذا استحلها. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 348 [التحذير من أنواع الكهانة] له أيضا، رحمه الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الرحمن بن حسن، إلى الإخوان: علي بن حمد، وإخوانه، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وتذكرون أمر "الهتيمي" الذي معه الحيات، ويبيع "سقوة" على الناس البدو الحضر، يسقيهم من ريقه، ويأخذ عليهم العهد، ويدعي أن من سقاه من ريقه لا تلدغه الحية، ولم ينكر عليه إلا عبد العزيز بن عبد الجبار، جزاه الله خيرا. وتذكرون: أن عثمان بن منصور تابعه، وقبل منه سقوته، هذا تحققناه منكم، ومن سبيع الذين جاؤوا من قبلكم، ويذكرون أنهم توقفوا في مبدأ أمره، وأهل القرايا كذلك، حتى وافقه ابن منصور وقبل منه، وكتب معه خطابا؛ وبعد هذا تزاحم عليه البدو والحضر، الذي يشتري سقوته بدراهم، والذي بعيش، والذي بغنم، والذي بسمن; والذي حصل منهم باعه في "تمير"، وبعد هذا قدم "المجمعة"، وطردوه. وخط عبد العزيز بن عبد الجبار أشرفنا عليه، وذكر كلام العلماء وإنكارهم على من فعل هذا، وأخذ الحيات، وأن هذه أحوال شيطانية، تحصل بواسطة الشياطين، إذا تقرب إليهم بالشرك بالله، وهذا لا يوجد إلا في أجهل الجزء: 10 ¦ الصفحة: 349 الناس، وأبعدهم عن الله وعن دينه; وعبد العزيز جزاه الله خيرا أدى الذي عليه. وأما ابن منصور، فالله أعلم أنه معاقب، ولا ندري هل هذا كله جهل، أوْ له مقصد شر، وإلا فالذي على فطرة أو له عقل ينكر هذا بفطرته وعقله; وذكر شيخ الإسلام رحمه الله، في كتاب "الفرقان" من الأحوال الشيطانية أمورا من هذا، تركنا ذكرها، لئلا يطول الجواب. فهذا من جنس أحوال الكهان مع الشياطين; والكهانة أنواع هذا منها، وفي الحديث الصحيح: " من أتى كاهنا فصدقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم " 1. وأمور الكهانة وما شابهها، من الاستمتاع بالشياطين، والاستكثار منهم، محاها الله بما أطلع في نجد من الدعوة إلى توحيد الله، وامتدت إلى كثير من الجزائر، كما محا الله أحوال الكهان، ببعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسدّ صلى الله عليه وسلم أبواب الشرك، وأحوال الجاهلية، وحمى حمى الإسلام. من ذلك: ما ثبت في حديث ابن مسعود مرفوعا: " إن الرقى والتمائم والتولة شرك " 2، فلم يبح من الرقى إلا ما خصه الدليل، من الآيات القرآنية، والأذكار النبوية، والدعوات المعروفة بالألفاظ العربية. وأما ما كان بأسماء الشياطين، أو بما لا يعرف معناه، فينهى عنه، لهذا الحديث، وحكمه   1 الترمذي: الطهارة (135) , وأبو داود: الطب (3904) , وابن ماجه: الطهارة وسننها (639) , وأحمد (2/429) , والدارمي: الطهارة (1136) . 2 أبو داود: الطب (3883) , وابن ماجه: الطب (3530) , وأحمد (1/381) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 350 التحريم; فإذا كان حال الرقى التي فيها من الألفاظ ما لا يعرف معناه، فكيف بما هو ظاهر أنه من أعمال الشياطين مع من تولاهم؟ مثل هذا الهتيمي وأمثاله، ممن شاهدنا بمصر، لا يشك أحد أنه من أعمال الشيطان. ولهؤلاء اعتقادات شركية في معبودهم الذي يعبدونه من دون الله، وأكثر هذه الطرائق محشوة بالشرك والبدع. قوله في الحديث: " والتولة شرك " 1 ذكر العلماء: أنها تشبه السحر؛ وما يشبه السحر فهو شرك، وكذلك التمائم شرك، للتعلق بها، والاعتماد عليها من دون الله، وفي بعضها أسماء الشياطين، وما لا يعرف معناه; فكل هذه الأمور لا تجامع الإسلام الصحيح، بل تنافيه إذا اشتملت على ما هو شرك بالله، من التوكل على غيره، ونحو ذلك. وقد وقع في نفوس كثير من الجهال، الذين أخذوا عن هذا الهتيمي كثير من تصديقه، وقبول ما جاءهم به، من هذه الضلالة، وهذه فتنة، وقى الله شرها; وبسط القول في ذلك، وذكر ما قاله العلماء، له موضع آخر، إن شاء الله تعالى، والسلام. [الوقوع في بعض المكفرات جهلا] وسئل الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين، رحمه الله: عمن ارتكب شيئا من المكفرات جهلا، يكفر إذا كان جاهلا بكون ما ارتكبه كفر، أم لا؟ فأجاب: قال تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى   1 أبو داود: الطب (3883) , وابن ماجه: الطب (3530) , وأحمد (1/381) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 351 نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُوراً وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً} 1. فلا عذر لأحد بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم في عدم الإيمان به وبما جاء به، بكونه لم يفهم حجج الله وبيناته لأن الله سبحانه أخبر عن الكفار بعدم الفهم، فقال تعالى: {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً} 2 وقال: {إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} 3 وقال: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ} 4. والآيات في وصفهم بغاية الجهل، كثيرة معلومة، فلم يعذرهم تعالى بكونهم لم يفهموا، بل صرح بتكفير هذا الجنس، وأنهم من أهل النار، كما في قوله تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً} 5، وقوله: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ   1 سورة آية: 163-164-165. 2 سورة الأنعام آية: 25. 3 سورة الأعراف آية: 30. 4 سورة البقرة آية: 171. 5 سورة آية: 103-104-105. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 352 بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} 1. قال الشيخ أبو محمد المقدسي، لما انجر كلامه في مسألة: هل كل مجتهد مصيب، أم لا؟ ورجح ما هو الحق في ذلك، وهو: أنه ليس كل مجتهد مصيبا، بل الحق في قول واحد من أقوال المجتهدين; قال: وزعم الجاحظ أن مخالف ملة الإسلام، إذا نظر فعجز عن إدراك الحق، فهو معذور غير آثم، - إلى أن قال: وأما ما ذهب إليه الجاحظ، فباطل يقينا، وكفر بالله، ورد عليه وعلى رسوله. فإنا نعلم قطعا: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر اليهود والنصارى بالإسلام واتباعه، وذمهم على إصرارهم، وقاتل جميعهم، وقتل البالغ منهم، ونعلم أن المعاند العارف مما يقل، وإنما الأكثر مقلدة، اعتقدوا دين آبائهم تقليدا، ولم يعرفوا معجزة الرسول صلى الله عليه وسلم وصدقه. قال: والآيات الدالة على هذا كثيرة من القرآن، كقوله تعالى: {ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} 2، {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} 3، {وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} 4، وقوله: {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ} 5، {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} 6، {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} 7.   1 سورة الأعراف آية: 179. 2 سورة ص آية: 27. 3 سورة فصلت آية: 23. 4 سورة البقرة آية: 78. 5 سورة المجادلة آية: 18. 6 سورة الأعراف آية: 30. 7 سورة الكهف آية: 104. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 353 وفي الجملة: ذم المكذبين لرسوله صلى الله عليه وسلم مما لا ينحصر في الكتاب والسنة، انتهى كلامه رحمه الله. 1. فبين رحمه الله: أنا لو لم نكفر إلا العارف المعاند، لزمنا أن لا نكفر اليهود والنصارى، وهذا من أبطل الباطل. وأما قول الشيخ رحمه الله، لما ذكر شيئا من أنواع الشرك الحادث في هذه الأمة، قال: لكن لغلبة الجهل، وقلة العلم بآثار الرسالة في كثير من المتأخرين، لم يمكن تكفيرهم بذلك، حتى يبين لهم ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، لم يقل: حتى يتبين، فتحقق منهم العناد بعد المعرفة. قال رحمه الله في بعض كتبه، لما ذكر بعض ما يفعله كثير من الكفار، والخروج بذلك عن الإسلام، قال: وهذا كثير غالب، لا سيما في الأعصار والأمصار، التي تغلب فيها الجاهلية والكفر والنفاق؛ فلهؤلاء من عجائب الجهل، والظلم، والكذب، والنفاق، والضلال، ما لا يتسع لذكره المقام. وإذا كان في المقالات الخفية، فقد يقال فيها إنه مخطئ ضال، لم تقم عليه الحجة التي يكفر صاحبها؛ لكن ذلك يقع من طوائف منهم، في الأحوال الظاهرة التي   1 في روضة الناظر ص 194 وص 195. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 354 يعلم الخاصة والعامة من المسلمين، أنها من دين الإسلام بل اليهود والنصارى، والمشركون، يعلمون أن محمدا صلى الله عليه وسلم بعث بها، وكفر من خالفها، مثل أمره بعبادة الله وحده لا شريك له، ونهيه عن عبادة أحد سوى الله، من الملائكة، والنبيين أو غيرهم؛ فإن هذا أظهر شعائر الإسلام، ومثل هذا: معاداة اليهود والنصارى والمشركين، ومثل تحريم الفواحش، والربا والخمر والميسر، ونحو ذلك، ثم تجد كثيرا من رؤوسهم وقعوا في هذه الأنواع، فكانوا مرتدين، وإن كانوا قد يتوبون من ذلك، أو يعودون إلى أن قال: وأبلغ من ذلك: أن منهم من يصنف في دين المشركين، والردة عن الإسلام، كما صنف الرازي كتابه في عبادة الكواكب، وأقام الأدلة على حسن ذلك، ومنفعته، ورغب فيه؛ وهذه ردة عن الإسلام باتفاق المسلمين، وإن كان قد يكون عاد إلى الإسلام، انتهى. فانظر إلى تفريقه بين المقالات الخفية، والأمور الظاهرة‘ فقال في المقالات الخفية التي هي كفر: قد يقال: إنه فيها مخطئ ضال، لم تقم عليه الحجة التي يكفر صاحبها، ولم يقل ذلك في الأمور الظاهرة؛ بل قال: ثم تجد كثيرا من رؤوسهم وقعوا في هذه الأمور، فكانوا مرتدين، فحكم بردتهم مطلقا، ولم يتوقف في الجاهل. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 355 فكلامه ظاهر: في التفرقة بين الأمور المكفرة الخفية، كالجهل ببعض الصفات ونحوها، فلا يكفر بها الجاهل، كقوله للجهمية: أنتم عندي لا تكفرون لأنكم جهال، وقال فيمن ارتكب بعض أنواع الشرك جهلا، لم يمكن تكفيرهم حتى يبين لهم ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يقل: لم يمكن تكفيرهم، لأنهم جهال، كما قال في المنكر لبعض الصفات جهلا؛ بل قال: لم يمكن تكفيرهم حتى يبين لهم ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فلم ينتهوا، أو إن كانوا جهالا، مع أن قول الشيخ رحمه الله، في عدم تكفير الجهمية ونحوهم، خلاف المشهور في المذهب؛ فإن الصحيح من المذهب: تكفير المجتهد الداعي إلى القول بخلق القرآن، ونفي الرؤية ونحو ذلك. قال المجد رحمه الله: الصحيح: أن كل بدعة كفرنا فيها الداعية، فإنا نفسق المقلد فيها، كمن يقول بخلق القرآن، أو أن علم الله سبحانه مخلوق، أو أسماءه مخلوقة، أو أنه لا يرى في الآخرة، أو يسب الصحابة، أو أن الإيمان مجرد الاعتقاد، ونحو ذلك؛ فمن كان عالما في شيء من هذه البدع، يدعو إليه، ويناظر عليه، فهو محكوم بكفره، نص أحمد على ذلك في مواضع، انتهى. فتبين: أن الصحيح من المذهب تكفيره، ولم يعذرهم الجزء: 10 ¦ الصفحة: 356 بالجهل. ومما يوضح المسألة: ما هو معلوم من حكم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم في المرتد، أنه يستتاب فإن تاب وإلا قتلوه، ولم يتوقفوا في قتله حتى تتحقق منه المعاندة؛ وكذلك العلماء في المذاهب، ذكروا حكم من كانت ردته بإنكار ما يمكن جهله به، أنه يعرف ذلك، فإن أصر قتل، ولم يعتبروا تحقق العناد منه، كما قالوا فيمن جحد تحريم الخمر ونحوه، أو شك فيه ومثله لا يجهله، كفر، وإن كان مثله يجهله عرف، فإن أصر بعد التعريف كفر وقُتل، ولم يعتبروا المعاندة. وأيضا، فقد دل القرآن على أن الشك في الجملة كفر، كما في قوله تعالى في الكفار: {قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنَّاً وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} 1، وغير ذلك من الآيات الصريحة؛ والشك غير العناد، وهذا ظاهر بحمد الله تعالى. ومما يبين لك مراد الشيخ تقي الدين رحمه الله، ما ذكره في بعض كتبه، بقوله: من اعتقد أن زيارة أهل الذمة كنائسهم قربة إلى الله فهو مرتد، وإن جهل أن ذلك الأمر محرم عرف ذلك، فإن أصر صار مرتدا; وقال: من سب الصحابة أو واحدا منهم، واقترن بسبه دعوى أن عليا إله أو نبي، أو أن جبريل غلط، فلا نشك في كفره، بل لا شك   1 سورة الجاثية آية: 32. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 357 في كفر من توقف في تكفيره. وقال أيضا: من زعم أن الصحابة ارتدوا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا نفرا قليلا لا يبلغون بضعة عشر، أو أنهم فسقوا، فلا ريب في كفر قائل ذلك، بل من شك في كفره فهو كافر، انتهى. فانظر تكفيره الشاك، مع القطع بأن سبب الشك هو الجهل، وأطلق على من ذكر مع العلم القاطع بأن أكثر هؤلاء أو كلهم جهال لم يعلموا أن ما قالوه كفر. وقال أيضا: فكل من غلا في نبي، أو رجل صالح، وجعل فيه نوعا من الإلهية، مثل أن يدعوه من دون الله، مثل أن يقول: يا فلان أغثني، أو ارحمني، أو انصرني، أو اجبرني، أو توكلت عليك، أو أنا في حسبك، أو أنت في حسبي، ونحو هذه الأقوال، التي هي من خصائص الربوبية، التي لا تصلح إلا لله، فكل هذا شرك وضلال، يستتاب صاحبه، فإن تاب وإلا قتل، انتهى. ولم يخص القتل بمن تحقق منه العناد، ولم يقل في هؤلاء ونحوهم: لم يكفروا لأنهم جهال، كما قال في الجهمية، وهذا كثير في كلامه رحمه الله. وقال أيضا: لما استحل طائفة من الصحابة والتابعين، الخمر، كقدامة وأصحابه، وظنوا أنها تباح لمن آمن وعمل الجزء: 10 ¦ الصفحة: 358 صالحا، على ما فهموا من آية المائدة، اتفق علماء الصحابة كعمر وعلي وغيرهما، على أنهم يستتابون، فإن أصروا على الاستحلال كفروا، وإن أقروا به جلدوا؛ فلم يكفروهم بالاستحلال ابتداء، لأجل الشبهة حتى يبين لهم الحق، فإن أصروا كفروا، انتهى. فانظر كيف حكم الصحابة بكفرهم، لو أصروا بعد الاستتابة، ولم يعذروهم بعد المعرفة، وبعد التعريف، فأوضح مما ذكرناه: ضلالا من لم يكفر من ارتكب ما هو كفر، إلا إذا كان معاندا، وأن هذا مخالف للكتاب والسنة، وإجماع الأمة. فكيف يقول هذا فيمن يشك في وجوب الرب سبحانه وتعالى، أو في وحدانيته، أو يشك في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم أو في البعث بعد الموت، فإن طرد أصله في ذلك فهو كافر بلا شك، كما قرره موفق الدين في كلامه المتقدم، وإن لم يطرد أصله في ذلك، فلم لا يعذر بالشك في هذه الأشياء، وعذر فاعل الشرك الأكبر، المناقض لشهادة أن لا إله إلا الله، التي هي أصل دين الإسلام بجهله؛ فهذا تناقض ظاهر. فقد بين أنه لا عذر لأحد في الجهل بهذه الأمور ونحوها، بعد بعثته صلى الله عليه وسلم وبلوغ حجج الله وبيناته، وإن لم يفهمها من بلغته، فحجة الله قائمة على عباده ببلوغ الحجة، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 359 لا بفهمها، فبلوغ الحجة شيء وفهمها شيء آخر؛ ولهذا لم يعذر الله الكفار بعدم فهمهم، بعد أن بلغتهم حجته وبيناته، وهذا ظاهر بحمد الله. [أهل العلم والسنة لا يكفرون المخالف] وسئل أيضا: الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين، رحمه الله، عن قول شيخ الإسلام تقي الدين، رحمه الله، في رده على ابن البكري: فلهذا كان أهل العلم والسنة لا يكفّرون من خالفهم، وإن كان ذلك المخالف يكفرهم، لأن الكفر حكم شرعي؛ فليس للإنسان أن يعاقب بمثله، كمن كذب عليك، وزنى بأهلك، ليس لك أن تكذب عليه، وتزني بأهله، لأن الزنى والكذب، حرام لحق الله تعالى؛ وكذلك التكفير حق لله، فلا نكفر إلا من كفره الله ورسوله. وأيضا: فإن تكفير الشخص المعين، وجواز قتله، موقوف على أن تبلغه الحجة النبوية، التي يكفر من خالفها، وإلا فليس كل من جهل شيئا من الدين يكفر، إلى أن قال: ولهذا كنت أقول للجهمية، من الحلولية والنفاة، الذين ينفون أن يكون الله فوق العرش: أنا لو وافقتكم كنت كافرا، لأني أعلم أن قولكم كفر، وأنتم عندي لا تكفرون، لأنكم جهال ... إلخ، ما معنى قيام الحجة؟ فأجاب: الحمد لله رب العالمين، تضمن كلام الشيخ رحمه الله، مسألتين: إحداهما: عدم تكفيرنا لمن كفرنا، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 360 وظاهر كلامه: أنه سواء كان متأولا أم لا، وقد صرح طائفة من العلماء: أنه إذا قال ذلك متأولا، لا يكفر، ونقل ابن حجر الهيتمي عن طائفة من الشافعية، أنهم صرحوا بكفره إذا لم يتأول، فنقل عن المتولي أنه قال: إذا قال لمسلم: يا كافر، بلا تأويل كفر; قال: وتبعه على ذلك جماعة. واحتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم: " إذا قال الرجل لأخيه يا كافر، فقد باء بها أحدهما " 1، والذي رماه به مسلم، فيكون هو كافرا، قالوا: لأنه سمى الإسلام كفرا؛ وتعقب بعضهم هذا التعليل، وهو قولهم: إنه سمى الإسلام كفرا، فقال: هذا المعنى لا يفهم من لفظه، ولا هو مراده، إنما مراده ومعنى لفظه: إنك لست على دين الإسلام، الذي هو حق، وإنما أنت كافر، دينك غير الإسلام، وأنا على دين الإسلام، وهذا مراده بلا شك. لأنه إنما وصف بالكفر الشخص، لا دين الإسلام، فنفى عنه كونه على دين الإسلام، فلا يكفر بهذا القول، وإنما يعزر بهذا السب الفاحش، بما يليق به؛ ويلزم على ما قالوه أن من قال لعابد: يا فاسق، كفر، لأنه سمى العبادة فسقا، ولا أحسب أحدا يقوله، وإنما يريد: إنك تفسق، وتفعل مع عبادتك ما هو فسق، لا أن عبادتك فسق، انتهى. وظاهر كلام النووي في شرح مسلم، يوافق ذلك،   1 البخاري: الأدب (6103) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 361 فإنه لما ذكر الحديث، قال: وهذا مما عده العلماء من المشكلات، فإن مذهب أهل الحق: أن المسلم لا يكفر بالمعاصي، كالقتل والزنى، وكذا قوله لأخيه: يا كافر من غير اعتقاد بطلان دين الإسلام. ثم حكى في تأويل الحديث وجوها: أحدها: أنه محمول على المستحل، ومعنى (باء بها) أي بكلمة الكفر، وكذا (حارت عليه) في رواية، أي: رجعت عليه كلمة الكفر، فباء وحار ورجع بمعنى. الثاني: رجعت عليه نقيصته لأخيه ومعصية تكفيره. الثالث: أنه محمول على الخوارج، المكفرين للمؤمنين; وهذا نقله القاضي عياض عن مالك، وهو ضعيف، لأن المذهب الصحيح المختار، الذي قاله الأكثرون، والمحققون: إن الخوارج لا يكفّرون، كسائر أهل البدع. الرابع: معناه: أنه يؤول إلى الكفر، فإن المعاصي كما قالوا: بريد الكفر، ويخاف على المكثر منها، أن يكون عاقبة شؤمها المصير إلى الكفر، ويؤيده رواية أبي عوانة، في مستخرجه على مسلم: "فإن كان كما قال، وإلا فقد باء بالكفر". الخامس: فقد رجع بكفره، وليس الراجع حقيقة الكفر، بل التكفير، كونه جعل أخاه المؤمن كافرا، فكأنه الجزء: 10 ¦ الصفحة: 362 كفر بنفسه، إما لأنه كفر من هو مثله، وإما لأنه كفر من لا يكفره إلا كافر، يعتقد بطلان الإسلام، انتهى. وقال ابن دقيق العيد، في قوله: صلى الله عليه وسلم " ومن دعا رجلا بالكفر، وليس كذلك، إلا حار عليه " 1 أي: رجع عليه; وهذا وعيد عظيم لمن كفر أحدا من المسلمين، وليس هو كذلك؛ وهي ورطة عظيمة، وقع فيها خلق من العلماء، اختلفوا في العقائد، وحكموا بكفر بعضهم بعضا. ثم نقل عن الأستاذ أبي إسحاق الإسفراييني، أنه قال: لا أكفر إلا من كفرني; قال: وربما خفي هذا القول على بعض الناس، وحمله على غير محمله الصحيح؛ والذي ينبغي أن يحمل عليه، أنه لمح هذا الحديث الذي يقتضي: أن من دعا رجلا بالكفر وليس كذلك، رجع عليه الكفر; وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: " من قال لأخيه: يا كافر، فقد باء بها أحدهما " 2. وكان هذا المتكلم، أي: أبو إسحاق، يقول: الحديث دل على أنه يحصل الكفر لأحد الشخصين، إما المكفر أو المكفر، فإذا كفرني بعض الناس، فالكفر واقع بأحدنا، وأنا قاطع أني لست بكافر، فالكفر راجع إليه، انتهى. فظاهر كلام أبي إسحاق: أنه لا فرق بين المتأول   1 مسلم: الإيمان (61) , وأحمد (5/166) . 2 البخاري: الأدب (6104) , ومسلم: الإيمان (60) , والترمذي: الإيمان (2637) , وأبو داود: السنة (4687) , وأحمد (2/112) , ومالك: الجامع (1844) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 363 وغيره، والله أعلم; وما نقله القاضي عن مالك، من حمله الحديث على الخوارج، موافق لإحدى الروايتين عن أحمد، في تكفير الخوارج، اختارها طائفة من الأصحاب وغيرهم، لأنهم كفروا كثيرا من الصحابة، واستحلوا دماءهم وأموالهم، متقربين بذلك إلى الله، فلم يعذروهم بالتأويل الباطل; لكن أكثر الفقهاء على عدم كفرهم، لتأويلهم، وقالوا: من استحل قتل المعصومين، وأخذ أموالهم بغير شبهة ولا تأويل كفر، وإن كان استحلالهم ذلك بتأويل كالخوارج لم يكفر، والله أعلم. [تكفير الشخص المعين وجواز قتله] المسألة الثانية: أن تكفير الشخص المعين وجواز قتله، موقوف على أن تبلغه الحجة النبوية، التي يكفر من خالفها ... إلى آخره، يشمل كلامه من لم تبلغه الدعوة، وقد صرح بذلك في موضع آخر; ونقل ابن عقيل عن الأصحاب: أنه لا يعاقب; وقال: إن الله عفا عن الذي كان يعامل ويتجاوز، لأنه لم تبلغه الدعوة، وعمل بخصلة من الخير. واستدل لذلك بما في صحيح مسلم مرفوعا: " والذي نفسي بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة، يهودي أو نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به، إلا كان من أصحاب النار " 1. قال في شرح مسلم: وخص اليهودي والنصراني، لأن لهم كتابا; قال: وفي مفهومه أن من   1 مسلم: الإيمان (153) , وأحمد (2/317 ,2/350) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 364 لم تبلغه دعوة الإسلام فهو معذور; قال: وهذا جار على ما تقرر في الأصول، لا حكم قبل ورود الشرع على الصحيح، انتهى. وقال القاضي أبو يعلى: في قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} 1: في هذا دليل على أن معرفة الله لا تجب عقلا، وإنما تجب بالشرع، وهو بعثة الرسل، وأنه لو مات الإنسان قبل ذلك، لم يقطع عليه بالنار; انتهى. وفيمن لم تبلغه الدعوة قول آخر: أنه يعاقب؛ اختاره ابن حامد، واحتج بقوله {أَيَحْسَبُ الْأِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً} 2. والله أعلم; فمن بلغته رسالة محمد صلى الله عليه وسلم وبلغه القرآن، فقد قامت عليه الحجة، فلا يعذر في عدم الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، فلا عذر له بعد ذلك بالجهل. وقد أخبر الله سبحانه بجهل كثير من الكفار، مع تصريحه بكفرهم، ووصف النصارى بالجهل، مع أنه لا يشك مسلم في كفرهم; ونقطع أن أكثر اليهود والنصارى اليوم جهال مقلدون، فنعتقد كفرهم، وكفر من شك في كفرهم. وقد دل القرآن على أن الشك في أصول الدين كفر؛   1 سورة الإسراء آية: 15. 2 سورة القيامة آية: 36. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 365 والشك هو التردد بين شيئين، كالذي لا يجزم بصدق الرسول صلى الله عليه وسلم ولا كذبه، ولا يجزم بوقوع البعث ولا عدم وقوعه، ونحو ذلك، كالذي لا يعتقد وجوب الصلاة ولا عدم وجوبها، أو لا يعتقد تحريم الزنى ولا عدم تحريمه؛ وهذا كفر بإجماع العلماء، ولا عذر لمن كان حاله هكذا، بكونه لم يفهم حجج الله وبيناته، لأنه لا عذر له بعد بلوغها، وإن لم يفهمها. وقد أخبر الله تعالى عن الكفار أنهم لم يفهموا، فقال: {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً} 1، وقال: {إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} 2؛ فبين الله سبحانه: أنهم لم يفقهوا، فلم يعذرهم لكونهم لم يفهموا، بل صرح القرآن بكفر هذا الجنس من الكفار، كما في قوله تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً} 3 الآية. قال الشيخ: أبو محمد، موفق الدين بن قدامة، رحمه الله، لما انجر كلامه في مسألة: هل كل مجتهد، مصيب أم لا؟ ورجح أنه ليس كل مجتهد مصيبا، بل الحق   1 سورة الأنعام آية: 25. 2 سورة الأعراف آية: 30. 3 سورة آية: 103-104-105. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 366 في قول واحد من أقوال المجتهدين، قال: وزعم الجاحظ أن مخالف ملة الإسلام، إذا نظر فعجز عن إدراك الحق، فهو معذور غير آثم، إلى أن قال:: أما ما ذهب إليه الجاحظ، فباطل يقينا، وكفر بالله تعالى، ورد عليه وعلى رسوله. فإنا نعلم قطعا: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر اليهود والنصارى بالإسلام واتباعه، وذمهم على إصرارهم، وقاتل جميعهم، وقتل البالغ منهم; ونعلم: أن المعاند العارف مما يقل، وإنما الأكثر مقلدة اعتقدوا دين آبائهم تقليدا، ولم يعرفوا معجزة الرسول صلى الله عليه وسلم وصدقه. والآيات الدالة في القرآن على هذا كثيرة، كقوله تعالى: {ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} 1، {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} 2، {وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} 3، وقوله: {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ} 4، {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} 5، {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً} 6؛ وفي الجملة: ذم المكذبين لرسول الله صلى الله عليه وسلم مما لا ينحصر في الكتاب والسنة، انتهى.   1 سورة ص آية: 27. 2 سورة فصلت آية: 23. 3 سورة البقرة آية: 78. 4 سورة المجادلة آية: 18. 5 سورة الأعراف آية: 30. 6 سورة الكهف آية: 104-105. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 367 فبين رحمه الله: أنا لو لم نكفر إلا المعاند العارف، لزمنا الحكم بإسلام أكثر اليهود والنصارى، وهذا من أظهر الباطل؛ فقول الشيخ تقي الدين، رحمه الله: إن التكفير والقتل موقوف على بلوغ الحجة، يدل من كلامه على أن هذين الأمرين، وهما: التكفير، والقتل، ليسا موقوفين على فهم الحجة مطلقا، بل على بلوغها، ففهمها شيء، وبلوغها شيء آخر. فلو كان هذا الحكم موقوفا على فهم الحجة، لم نكفر ونقتل إلا من علمنا أنه معاند خاصة، وهذا بين البطلان؛ بل آخر كلامه رحمه الله، يدل على أنه يعتبر فهم الحجة، في الأمور التي تخفى على كثير من الناس، وليس فيها مناقضة للتوحيد والرسالة، كالجهل ببعض الصفات. وأما الأمور التي هي مناقضة للتوحيد، والإيمان بالرسالة، فقد صرح رحمه الله في مواضع كثيرة بكفر أصحابها، وقتلهم بعد الاستتابة، ولم يعذرهم بالجهل، مع أنا نتحقق أن سبب وقوعهم في تلك الأمور، إنما هو الجهل بحقيقتها؛ فلو علموا أنها كفر تخرج من الإسلام، لم يفعلوها. وهذا في كلام الشيخ رحمه الله كثير، كقوله في بعض كتبه: فكل من غلا في نبي، أو رجل صالح، وجعل فيه الجزء: 10 ¦ الصفحة: 368 نوعا من الإلهية، مثل أن يدعوه من دون الله، نحو أن يقول: يا فلان أغثني، أو اغفر لي، أو ارحمني، أو انصرني، أو اجبرني، أو توكلت عليك، أو أنا في حسبك، أو أنت حسبي، ونحو هذه الأقوال، التي هي من خصائص الربوبية، التي لا تصلح إلا لله؛ فكل هذا شرك وضلال، يستتاب صاحبه، فإن تاب وإلا قتل. وقال أيضا: فمن جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم، ويتوكل عليهم، ويسألهم، كفر إجماعا; وقال: من اعتقد أن زيارة أهل الذمة كنائسهم قربة إلى الله، فهو مرتد؛ وإن جهل أن ذلك محرم عرف ذلك، فإن أصر صار مرتدا. وقال: من سب الصحابة أو أحدا منهم، أو اقترن بسبه دعوى أن عليا إله، أو نبي، أو أن جبرائيل غلط، فلا شك في كفر هذا؛ بل لا شك في كفر من توقف في تكفيره. وقال أيضا: من زعم أن الصحابة ارتدوا، بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا نفرا قليلا، لا يبلغون بضعة عشر، أو أنهم فسقوا، فلا ريب في كفر قائل ذلك؛ بل من شك في كفره، فهو كافر، انتهى; فانظر كيف كفر الشاك، والشاك جاهل؛ فلم ير الجهل عذرا في مثل هذه الأمور. وقال رحمه الله في أثناء كلام له، قال: ولهذا قالوا: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 369 من عصى مستكبرا كإبليس، كفر بالاتفاق، ومن عصى مشتهيا لم يكفر عند أهل السنة، ومن فعل المحارم مستحلا، فهو كافر بالاتفاق. وقال: والاستحلال: اعتقاد أنها حلال، وذلك يكون تارة باعتقاد أن الله لم يحرمها، وتارة بعدم اعتقاد أن الله حرمها؛ وهذا يكون لخلل في الإيمان بالربوبية أو الرسالة، ويكون جحدا محضا غير مبني على مقدمة، وتارة يعلم: أن الله حرمها، ثم يمتنع من التزام هذا التحريم ويعاند، فهذا أشد كفرا ممن قبله، انتهى. وكلامه رحمه الله في مثل هذا كثير، فلم يخص التكفير بالمعاند، مع القطع بأن أكثر هؤلاء جهال لم يعلموا أن ما قالوه أو فعلوه كفر؛ فلم يعذروا بالجهل في مثل هذه الأشياء، لأن منها ما هو مناقض للتوحيد، الذي هو أعظم الواجبات، ومنها ما هو متضمن معارضة الرسالة، ورد نصوص الكتاب والسنة الظاهرة المجمع عليها بين علماء المسلمين. وقد نص السلف والأئمة على تكفير أناس بأقوال صدرت منهم، مع العلم أنهم غير معاندين; ولهذا قال الفقهاء رحمهم الله تعالى: من جحد وجوب عبادة من العبادات الخمس، أو جحد حل الخبز ونحوه، أو جحد تحريم الخمر ونحوه، أو شك في ذلك ومثله لا يجهله، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 370 كفر، وإن كان مثله يجهله عرّف ذلك، فإن أصر بعد التعريف، كفر، وقتل؛ ولم يخصوا الحكم بالمعاند، وذكروا في باب حكم المرتد أشياء كثيرة، أقوالا وأفعالا، يكون صاحبها بها مرتدا، ولم يقيدوا الحكم بالمعاند. وقال الشيخ أيضا: لما استحل طائفة من الصحابة الخمر، كقدامة وأصحابه، وظنوا أنها تباح لمن آمن بالله وعمل صالحا، على ما فهموه من آية المائدة، اتفق علماء الصحابة كعمر وعلي وغيرهما، على أنهم يستتابون، فإن أصروا على الاستحلال كفروا، وإن أقروا به جلدوا؛ فلم يكفروهم بالاستحلال ابتداء لأجل الشبهة، حتى يبين لهم الحق، فإن أصروا كفروا. وقال أيضا: ونحن نعلم بالضرورة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يشرع لأمته أن يدعوا أحدا من الأموات، لا من الأنبياء ولا غيرهم، لا بلفظ الاستغاثة، ولا بلفظ الاستعانة، ولا بغيرها، كما أنه لم يشرع لهم السجود لميت، ولا إلى ميت ونحو ذلك؛ بل نعلم أنه نهى عن ذلك كله، وأنه من الشرك الذي حرمه الله ورسوله، لكن لغلبة الجهل، وقلة العلم بآثار الرسالة في كثير من المتأخرين، لم يمكن تكفيرهم بذلك، حتى يبين لهم ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم انتهى. فانظر إلى قوله: لم يمكن تكفيرهم بذلك، حتى يبين لهم ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يقل: حتى يتبين لهم، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 371 ونتحقق منهم المعاندة بعد المعرفة. وقال أيضا: لما انجر كلامه في ذكر ما عليه كثير من الناس، من الكفر، والخروج عن الإسلام، قال: وهذا كثير غالب في الأعصار والأمصار، التي تغلب فيها الجاهلية والكفر والنفاق؛ فلهؤلاء من عجائب الجهل، والظلم والكذب، والنفاق والكفر والضلال، ما لا يتسع لذكره المقال. وإذا كان في المقالات الخفية، فقد يقال إنه فيها مخطئ ضال، لم تقم عليه الحجة التي يكفر صاحبها، لكن ذلك يقع في طوائف منهم، في الأمور الظاهرة، التي يعلم الخاصة والعامة من المسلمين، أنها من دين الإسلام، بل اليهود والنصارى والمشركون، يعلمون أن محمدا صلى الله عليه وسلم بعث بها، وكفر من خالفها، مثل أمره بعبادة الله وحده لا شريك له، ونهيه عن عبادة أحد سواه، من الملائكة والنبيين أو غيرهم، فإن هذا أظهر شعائر الإسلام، ومثل معاداة اليهود والنصارى والمشركين، ومثل تحريم الفواحش، والربا والخمر والميسر، ونحو ذلك، ثم تجد كثيرا من رؤوسهم وقعوا في هذه الأنواع، فكانوا مرتدين، وإن كانوا قد يتوبون من ذلك، أو يعودون إلى أن قال: وأبلغ من ذلك: أن منهم من يصنف في دين المشركين، والردة عن الإسلام، كما صنف الرازي كتابه في الجزء: 10 ¦ الصفحة: 372 عبادة الكواكب، وأقام الأدلة على حسن ذلك ومنفعته، ورغب فيه؛ وهذه ردة عن الإسلام باتفاق المسلمين، وإن كان قد يكون عاد إلى الإسلام، انتهى. فانظر إلى تفريقه بين المقالات الخفية، والأمور الظاهرة، فقال في المقالات الخفية، التي هي كفر: قد يقال إنه فيها مخطئ ضال، لم تقم عليه الحجة التي يكفر صاحبها، ولم يقل ذلك في الأمور الظاهرة؛ فكلامه ظاهر في الفرق بين الأمور الظاهرة والخفية، فيكفر بالأمور الظاهر حكمها مطلقا، وبما يصدر منها من مسلم جهلا، كاستحلال محرم أو فعل أو قول شركي بعد التعريف، ولا يكفر بالأمور الخفية جهلا، كالجهل ببعض الصفات، فلا يكفر الجاهل بها مطلقا، وإن كان داعية، كقوله للجهمية: أنتم عندي لا تكفرون، لأنكم جهال; وقوله عندي يبين أن عدم تكفيرهم، ليس أمرا مجمعا عليه، لكنه اختياره؛ وقوله في هذه المسألة خلاف المشهور في المذهب، فإن الصحيح من المذهب تكفير المجتهد الداعي إلى القول بخلق القرآن، أو نفي الرؤية، أو الرفض ونحو ذلك، وتفسيق المقلد. قال المجد رحمه الله: الصحيح: أن كل بدعة كفرنا فيها الداعية، فإنا نفسق المقلد فيها، كمن يقول بخلق القرآن، أو أن علم الله مخلوق، أو أن أسماءه مخلوقة، أو الجزء: 10 ¦ الصفحة: 373 أنه لا يُرى في الآخرة، أو يسب الصحابة تدينا، أو أن الإيمان مجرد الاعتقاد، وما أشبه ذلك؛ فمن كان عالما في شيء من هذه البدع، يدعو إليه ويناظر عليه، فهو محكوم بكفره، نص أحمد على ذلك في مواضع، انتهى. فانظر كيف حكموا بكفرهم مع جهلهم، والشيخ رحمه الله يختار عدم كفرهم، ويفسقون عنده; ونحوه قول ابن القيم رحمه الله، فإنه قال: وفسق الاعتقاد، كفسق أهل البدع الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر، ويحرمون ما حرم الله، ويوجبون ما أوجب الله، ولكن ينفون كثيرا مما أثبت الله ورسوله، جهلا وتأويلا وتقليدا للشيوخ، ويثبتون ما لم يثبته الله ورسوله كذلك؛ وهؤلاء كالخوارج المارقة، وكثير من الروافض والقدرية والمعتزلة، وكثير من الجهمية الذين ليسوا غلاة في التجهم. وأما غلاة الجهمية، فكغلاة الرافضة، ليس للطائفتين في الإسلام نصيب، ولذلك أخرجهم جماعة من السلف، من الثنتين والسبعين فرقة، وقالوا هم مباينون للملة، انتهى. وبالجملة: فيجب على من نصح نفسه، ألا يتكلم في هذه المسألة إلا بعلم وبرهان من الله؛ وليحذر من إخراج رجل من الإسلام بمجرد فهمه واستحسان عقله، فإن إخراج رجل من الإسلام أو إدخاله فيه، أعظم أمور الدين; وقد الجزء: 10 ¦ الصفحة: 374 كفينا بيان هذه المسألة كغيرها، بل حكمها في الجملة أظهر أحكام الدين؛ فالواجب علينا: الاتباع وترك الابتداع، كما قال ابن مسعود رضي الله عنه: "اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم". وأيضا: فما تنازع العلماء في كونه كفرا، فالاحتياط للدين التوقف وعدم الإقدام، ما لم يكن في المسألة نص صريح عن المعصوم صلى الله عليه وسلم. وقد استزل الشيطان أكثر الناس في هذه المسألة، فقصر بطائفة فحكموا بإسلام من دلت نصوص الكتاب والسنة والإجماع على كفره، وتعدى بآخرين فكفروا من حكم الكتاب والسنة مع الإجماع بأنه مسلم. ومن العجب: أن أحد هؤلاء لو سئل عن مسألة في الطهارة، أو البيع ونحوهما، لم يفت بمجرد فهمه واستحسان عقله، بل يبحث عن كلام العلماء، ويفتي بما قالوه؛ فكيف يعتمد في هذا الأمر العظيم، الذي هو أعظم أمور الدين وأشد خطرا، على مجرد فهمه واستحسانه؟ فيا مصيبة الإسلام من هاتين الطائفتين ومحنته من تينك البليتين!! ونسألك اللهم أن تهدينا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم، غير المغضوب عليهم ولا الضالين، وصلى الله على محمد. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 375 [التشديد في أمر الشرك] وله أيضا، رحمه الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين، إلى جناب الأخ إبراهيم بن عجلان، وفقه الله لطاعته، وهداه بهدايته، آمين; سلام عليكم ورحمة الله وبركاته; والخط وصل وصلك الله إلى خير، وصرف عنا وعنكم كل ضير; وذكرت في خطك أشياء، ينبغي تنبيهك عليها. منها قولكم: إن الشيخ تقي الدين بن تيمية، شدد في أمر الشرك تشديدا لا مزيد عليه، فالله سبحانه هو الذي شدده، لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} 1 في موضعين من كتابه، وقال عن قول المسيح لبني إسرائيل: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ} 2 الآية، وقال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} 3 الآية، وقال: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 4، وقال سبحانه وتعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} 5.   1 سورة النساء آية: 48. 2 سورة المائدة آية: 72. 3 سورة الزمر آية: 65. 4 سورة الأنعام آية: 88. 5 سورة التوبة آية: 5. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 376 وفي السنة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم من التحذير عن الشرك، والتشديد فيه ما لا يحصى؛ وغالب الأحاديث التي يذكر صلى الله عليه وسلم الكبائر فيها، يبدؤها بالشرك، ولما " سئل صلى الله عليه وسلم أي الذنب أعظم عند الله؟ قال: أن تجعل لله ندا وهو خلقك " 1. إذا عرف ذلك، تعين على كل مكلف معرفة حد الشرك وحقيقته، لا سيما في هذه الأزمنة التي غلب فيها الجهل بهذا الأمر العظيم. والشيخ تقي الدين، رحمه الله تعالى، وتلميذه ابن القيم إنما بالغا في بيان هذا الشرك وإيضاحه، لما شهدا من ظهوره في زمنهما، وكثرته في بلاد الإسلام، وبينا بطلانه بالأدلة والبراهين القاطعة الواضحة، كما قال أبو حيان في حق الشيخ: قام ابن تيمية في نصر شرعتنا ... مقام سيد تيم إذ عصت مضر وأظهر الحق إذ آثاره اندرست ... وأخمد الكفر إذ طارت له شرر وقولك: إن هذه الأمور المحدثة، منها ما هو شرك أكبر، ومنها ما هو أصغر، فالأمر كذلك، لكن يتعين معرفة الأكبر، المخرج من الملة، الذي يحصل به الفرق بين المسلم والكافر، وهو عبادة غير الله. فمن جعل شيئا من العبادة لغير الله، فهو المشرك الشرك الأكبر، من ذلك الدعاء الذي هو مخ العبادة،   1 البخاري: تفسير القرآن (4477) , ومسلم: الإيمان (86) , والترمذي: تفسير القرآن (3182 ,3183) , والنسائي: تحريم الدم (4013 ,4014 ,4015) , وأبو داود: الطلاق (2310) , وأحمد (1/380 ,1/431 ,1/434 ,1/462 ,1/464) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 377 كالتوجه إلى الموتى والغائبين، وسؤالهم قضاء الحاجات، وتفريج الكربات، وكذلك الذبح والنذر لغير الله. كذلك يتعين البحث عن الشرك الأصغر، فمنه الحلف بغير الله، ونحو تعليق الخرز والتمائم عن العين، وكيسير الرياء في أنواع كثيرة لا تحصى. ومن كلام للشيخ تقي الدين، وقد سئل عن الوسائط، فقال - بعد كلام -: وإن أراد بالواسطة: أنه لا بد من واسطة يتخذها العباد بينهم وبين الله، في جلب المنافع ودفع المضار، مثل أن يكونوا واسطة في رزق العباد، ونصرهم وهداهم، يسألونهم ذلك، ويرجعون إليهم فيه، فهذا من أعظم الشرك الذي كفر الله به المشركين، حيث اتخذوا من دون الله أولياء وشفعاء، يجلبون بهم المنافع، ويدفعون بهم المضار، إلى أن قال: قال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً} 1 إلى قوله {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} 2. وقال طائفة من السلف: كان أقوام من الكفار يدعون عيسى، وعزيرا، والملائكة، والأنبياء، فبين الله لهم أن الملائكة والأنبياء لا يملكون كشف الضر عنهم ولا تحويلا، وأنهم يتقربون إليه ويرجون رحمته، ويخافون عذابه إلى أن قال رحمه الله:   1 سورة الإسراء آية: 56. 2 سورة الإسراء آية: 57. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 378 فمن جعل الملائكة والأنبياء وسائط، يدعوهم، ويتوكل عليهم، ويسألهم جلب المنافع، ودفع المضار، مثل أن يسألهم غفران الذنوب، وهداية القلوب، وتفريج الكربات، وسد الفاقات، فهو كافر مشرك بإجماع المسلمين، إلى أن قال: فمن أثبت وسائط بين الله وبين خلقه، كالحجّاب الذين يكونون بين الملك ورعيته، بحيث يكونون هم يرفعون إلى الله حوائجهم، وأن الله إنما يهدي عباده، ويرزقهم وينصرهم، بتوسطهم، بمعنى: أن الخلق يسألونهم، وهم يسألون الله، كما أن الوسائط عند الملوك، يسألون حوائج الناس لقربهم منهم، والناس يسألونهم أدبا منهم، لكونهم أقرب إلى الملك من الطالب، فمن أثبتهم وسائط على هذا الوجه، فهو كافر مشرك، يجب أن يستتاب، فإن تاب وإلا قتل؛ وهؤلاء مشبهون شبهوا الخالق بالمخلوق، وجعلوا لله أندادا؛ وفي القرآن من الرد على هؤلاء ما لا تتسع له هذه الفتوى؛ فإن هذا دين المشركين عباد الأوثان، كانوا يقولون: إنها تماثيل الأنبياء والصالحين، وإنها وسائل يتقربون بها إلى الله، وهو من الشرك الذي أنكره الله على النصارى، إلى أن قال: وأما الشفاعة التي نفاها القرآن، كما عليه المشركون الجزء: 10 ¦ الصفحة: 379 والنصارى، ومن ضاهاهم من هذه الأمة، فينفيها أهل العلم والإيمان، مثل أنهم يطلبون من الأنبياء، والصالحين الغائبين، والميتين، قضاء حوائجهم، ويقولون: إنهم إن أرادوا ذلك قضوها; ويقولون: إنهم عند الله كخواص الملوك عند الملوك، ولهم على الملوك إدلال يقضون به حوائجهم، فيجعلونهم لله بمنْزلة شركاء الملك؛ والله سبحانه قد نزه نفسه عن ذلك، انتهى، ملخصا. فهذا الذي ذكر الشيخ، رحمه الله، إجماع المسلمين على أن مرتكبه مشرك كافر يقتل، هو الذي زعم داود البغدادي أنه جائز; بل زعم: أن الله أمر به، وأنه معنى الوسيلة التي أمر الله بها، في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} 1، وزعم أن الوسيلة التي أمر الله بها، أمر إيجاب، أو استحباب، بطلب الحاجات، وتفريج الكربات، من الأموات والغائبين. وزعم أن الشرك هو السجود لغير الله فقط، وأن دعاء الأموات، والغائبين، والتقرب إليهم بالنذور، والذبائح، ليس بشرك، بل هو مباح; ثم زاد على ذلك بالكذب على الله، وعلى رسوله، وزعم أن الله أمر بذلك، وأحبه; لم يقتصر على دعوى إباحة ذلك، بل زعم: أن الله أمر عباده المؤمنين، أن يقصدوا قبور   1 سورة المائدة آية: 35. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 380 الأموات، ويسألوهم قضاء حاجاتهم، وتفريج كرباتهم. فسبحان الله! ما أجرأ هذا على الافتراء والكذب على الله؟ فلو أن إنسانا ادعى إباحة بعض صغائر الذنوب، كأن يزعم أنه يباح للرجل تقبيل المرأة الأجنبية، لكان كافرا بإجماع المسلمين، وإن زاد على ذلك، بأن قال: إن الله يحب ذلك ويرضاه، فقد ازداد كفرا على كفره، فكيف بمن زعم أن الله أباح الشرك الأكبر؟ ثم زاد على ذلك بأن قال: إن الله أمر به وأحب من عباده المؤمنين أن يسارعوا إليه؟ ما أعظم هذه الجراءة! ومن كذبه على الله، زعمه أن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم الغيب، حتى مفاتيح الغيب الخمس يزعم أن الله أطلعه عليها; وكلام شيخ الإسلام في هذه المسألة كثير، لا يخلو غالب مصنفاته من الكلام عليها; وذكر رحمه الله تعالى، عن بعض علماء عصره أنه قال: هذا من أعظم ما بينته لنا. وذكر رحمه الله، في "الرسالة السنية" لما ذكر حديث الخوارج، قال: وإذا كان في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قد مرق من الدين، مع عبادته العظيمة، فليعلم أن المنتسب إلى الإسلام في هذه الأزمان، قد يمرق أيضا; وذلك بأمور; منها: الغلو الذي ذمه الله، كالغلو في بعض المشائخ، مثل: الشيخ عدي، بل الغلو في علي بن أبي طالب، بل الغلو في المسيح. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 381 فكل من غلا في نبي، أو رجل صالح، وجعل فيه نوعا من الإلهية، مثل أن يدعوه من دون الله، بأن يقول: يا سيدي فلان أغثني، أو أجرني، أو توكلت عليك، أو أنا في حسبك، فكل هذا شرك وضلال، يستتاب صاحبه فإن تاب وإلا قتل. فإن الله أرسل الرسل، وأنزل الكتب، ليعبد وحده، لا يجعل معه إله آخر؛ والذين يجعلون مع الله آلهة أخرى، مثل الملائكة، والمسيح، وعزير، والصالحين، لم يكونوا يعتقدون: أنها ترزق، وتدبر أمر من دعاها، وإنما كانوا يدعونهم، يقولون: هؤلاء شفعاؤنا عند الله; فبعث الله الرسل تنهى أن يدعى أحد من دونه، لا دعاء عبادة، ولا دعاء استعانة; وكلامه رحمه الله في هذا الباب كثير. وكذلك ابن القيم، رحمه الله تعالى، بالغ في إيضاح هذا الأمر، وبين بطلانه، كقوله في "شرح المنازل": ومنه - أي الشرك -: طلب الحوائج من الموتى، والاستغاثة بهم، والتوجه إليهم، فإن هذا أصل شرك العالم؛ فإن الميت قد انقطع عمله، وهو لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا، فضلا عمن يستغيث به، ويسأله أن يشفع له، انتهى; وهذا الذي قال: إنه أصل شرك العالم، هو الذي يزعم داود: أن الله أمر به؛ تعالى الله عما يقول المفترون علوا كبيرا. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 382 وقال ابن القيم في "الهدي" في فوائد غزوة الطائف: ومنها: أنه لا يجوز إبقاء مواضع الشرك والطواغيت، بعد القدرة على هدمها وإبطالها يوما واحدا؛ فإنها شعائر الكفر والشرك، ولا يجوز الإقرار عليها بعد القدرة عليها البتة. قال: وهكذا حكم المشاهد التي بنيت على القبور، التي اتخذت أوثانا وطواغيت تعبد من دون الله، وكذا الأحجار التي تقصد بالتعظيم والتبرك، والنذر والتقبيل، فلا يجوز إبقاء شيء منها على وجه الأرض، مع القدرة على إزالتها; وكثير منها بمنزلة اللات، والعزى، ومناة الثالثة الأخرى، بل أعظم شركا عندها وبها؛ والله المستعان. ولم يكن أحد من أرباب هذه الطواغيت، يعتقد أنها تخلق وترزق، وتحيي وتميت، وإنما كانوا يفعلون عندها وبها، ما يفعله إخوانهم من المشركين اليوم عند طواغيتهم؛ اتبع هؤلاء سنن من كان قبلهم، وسلكوا سبيلهم، حذو القذة بالقذة، وأخذوا مأخذهم، شبرا بشبر وذراعا بذراع، وغلب الشرك على أكثر النفوس، لظهور الجهل وخفاء العلم. وصار المعروف منكرا، والمنكر معروفا، والسنة بدعة، والبدعة سنة، نشأ في ذلك الصغير، وهرم عليه الكبير، وطمست الأعلام، واشتدت غربة الإسلام، وقل الجزء: 10 ¦ الصفحة: 383 العلماء، وغلب السفهاء، وتفاقم الأمر، واشتد البأس، وظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس؛ ولكن لا تزال طائفة من العصابة المحمدية، بالحق قائمين، ولأهل الشرك والبدع مجاهدين، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وهو خير الوارثين، انتهى. فانظر قوله في المشاهد التي بنيت على القبور، كونها اتخذت أوثانا وطواغيت، وربما ينفر قلب الجاهل من تسمية قبر نبي، أو رجل صالح وثنا، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: " اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد " 1؛ فهذا الحديث ينبئ أنه لو قصد قبر النبي صلى الله عليه وسلم بعبادة له، كان قاصده بذلك قد اتخذه وثنا، فكيف بغيره من القبور؟. وقوله رحمه الله: وكثير منها بمنْزلة اللات، والعزى، ومناة الثالثة الأخرى، بل أعظم شركا عندها وبها; صدق رحمه الله، لما شاهدنا في هذه الأزمنة من الغلو والشرك العظيم، من كون كثير من الغلاة عند الشدائد في البر والبحر، يخلصون الدعاء لمعبوديهم، وكثير منهم ينسون الله عند الشدائد، كما هو مستفيض عند الخاصة والعامة. وقد أخبر الله عن المشركين الأولين أنهم يخلصون الدعاء له سبحانه وتعالى، وينسون آلهتهم، ونصوص القرآن في ذلك كثيرة، كما قال تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} 2، {وَإِذَا   1 أحمد (2/246) . 2 سورة العنكبوت آية: 65. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 384 مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ} 1. وقال: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ} 2، {وَإِذَا مَسَّ الْأِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَاداً} 3؛ فهذا إخباره سبحانه عن المشركين، الذين بعث إليهم النبي صلى الله عليه وسلم ينهاهم عن الشرك، ويأمرهم بالتوحيد، وغالب مشركي أهل هذا الزمان، بعكس ذلك. وقول ابن القيم، رحمه الله: وغلب الشرك على أكثر النفوس، وسبب ذلك كله ظهور الجهل وقله العلم، فهذا قوله فيما شاهده في زمانه ببلاد الإسلام، فكيف لو رأى هذا الزمان؟ وفي الحديث: " لا يأتي زمان إلا والذي بعده شر منه " 4؛ قال ابن مسعود: "لا أقول: زمان أخصب من زمان، ولا أمير خير من أمير، ولكن بذهاب خياركم وعلمائكم"، فكيف لو شاهد من يقول: إن الله أمر بطلب الحاجات من الأموات؟ ويقول: إنما الشرك هو السجود لغير الله لا غير؟ كما قال ذلك داود البغدادي مشافهة لي.   1 سورة الإسراء آية: 67. 2 سورة الأنعام آية: 40-41. 3 سورة الزمر آية: 8. 4 البخاري: الفتن (7068) , والترمذي: الفتن (2206) , وأحمد (3/179) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 385 فيلزمه: أن قصد المشركين الأولين لآلهتهم، كاللات والعزى ومناة، وكذلك هبل، إذا طلبوا الحاجات منها، وكشف الكربات، والتقرب إليها بالنذور، والذبائح، أن هذا ليس بشرك، إذا لم يسجدوا لها، فيا سبحان الله! كيف يبلغ الجهل بمن ينتسب إلى علم إلى هذه الفضيحة؟! وقال ابن القيم، رحمه الله تعالى: رأيت لأبي الوفاء بن عقيل فصلا حسنا، فذكرته بلفظه; قال: لما صعبت التكاليف على الجهال والطغام، عدلوا عن أوضاع الشرع إلى أوضاع وضعوها لأنفسهم، فسهلت عليهم إذ لم يدخلوا بها تحت أمر غيرهم. قال: وهم عندي كفار بهذه الأوضاع، مثل تعظيم القبور وإكرامها، بما نهى عنه الشرع، من إيقاد السرج عليها، وتقبيلها، وتخليقها، وخطاب أهلها بالحوائج، وكتابة الرقاع، فيها: يا مولاي افعل بي كذا وكذا، وأخذ تربتها تبركا، وإفاضة الطيب على القبور، وشد الرحال إليها، والقاء الخرق على الشجر، اقتداء بمن عبد اللات والعزى. وقولك: إن الشيخ تقي الدين وابن القيم يقولان: إن من فعل هذه الأشياء، لا يطلق عليه أنه كافر مشرك، حتى تقوم عليه الحجة الإسلامية، من إمام أو نائبه، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 386 فيصر; وأنه يقال: هذا الفعل كفر، وربما عذر فاعله، لاجتهاد، أو تقليد، أو غير ذلك، فهذه الجملة التي حكيت عنهما، لا أصل لها في كلامهما. وأظن اعتمادك في هذا، على ورقة كتبها داود، ونقل فيها نحوا من هذه العبارة، من اقتضاء الصراط المستقيم، للشيخ تقي الدين، لما قدم عنيزة المرة الثانية، معه هذه الورقة، يعرضها على ناس في عنيزة، يشبه بهذا، ويقول: لو سلمنا أن هذه الأمور التي تفعل عند القبور شرك، كما تزعم هذه الطائفة، فهذا كلام إمامهم ابن تيمية، الذي يقتدون به، يقول: إن المجتهد المتأول، والمقلد، والجاهل، معذورون، مغفور لهم فيما ارتكبوه. فلما بلغني هذا عنه، أرسلت إليه وحضر عندي، وبينت له خطأه، وأنه وضع كلام الشيخ في غير موضعه; وبينت له: أن الشيخ إنما قال ذلك في أمور بدعية، ليست بشرك، مثل تحري دعاء الله عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم وبعض العبادات المبتدعة، فقال في الكلام على هذه البدع: وقد يفعل الرجل العمل الذي يعتقده صالحا، ولا يكون عالما أنه منهي عنه، فيثاب على حسن قصده، ويعفى عنه لعدم علمه; وهذا باب واسع. وعامة العبادات المنهي عنها، قد يفعلها بعض الناس، ويحصل له نوع من الفائدة، وذلك لا يدل على أنها الجزء: 10 ¦ الصفحة: 387 مشروعة، ثم العالم قد يكون متأولا، أو مجتهدا مخطئا، أو مقلدا فيغفر له خطؤه، ويثاب على فعله من المشروع، المقرون بغير المشروع، فهذا كلامه في الأمور التي ليست شركا. وأما الشرك، فقد قال رحمه الله: إن الشرك لا يغفر، وإن كان أصغر; نقل ذلك عنه تلميذه صاحب الفروع فيه، وذلك - والله أعلم - لعموم قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} 1، مع أن الشيخ رحمه الله، لم يجزم أنه يغفر لمن ذكرهم، وإنما قال قد يكون. وقد قال رحمه الله، في "شرح العمدة" لما تكلم في كفر تارك الصلاة، فقال: وفي الحقيقة: فكل رد لخبر الله، أو أمره فهو كفر، دق أو جل، لكن قد يعفى عما خفيت فيه طرق العلم، وكان أمرا يسيرا في الفروع، بخلاف ما ظهر أمره، وكان من دعائم الدين، من الأخبار والأوامر، يعني: فإنه لا يقال قد يعفى عنه. وقال رحمه الله، في أثناء كلام له، في ذم أصحاب الكلام، قال: والرازي من أعظم الناس في باب الحيرة، له نهمة في التشكيك، والشك في الباطل خير من الثبات على اعتقاده، لكن قل أن يثبت أحد على باطل محض، بل لا بد فيه من نوع من الحق، وتوجد الردة فيهم كثيرا، كالنفاق؛ وهذا إذا كان في المقالات الخفية، فقد يقال: لم   1 سورة النساء آية: 48. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 388 تقم عليه الحجة التي يكفر صاحبها. لكن يقع ذلك في طوائف منهم، في أمور يعلم العامة والخاصة، بل اليهود والنصارى يعلمون أن محمدا بعث بها، وكفر من خالفها، مثل عبادة الله وحده لا شريك له، ونهيه عن عبادة غيره، فإن هذا أظهر شعائر الإسلام، ومثل أمره بالصلوات الخمس، ومثل معاداة المشركين، وأهل الكتاب، ومثل تحريم الفواحش، والربا والميسر، ونحو ذلك. وقولك: إن الشيخ يقول، إن من فعل شيئا من هذه الأمور الشركية، لا يطلق عليه أنه مشرك كافر، حتى تقوم عليه الحجة الإسلامية، فهو لم يقل ذلك في الشرك الأكبر، وعبادة غير الله، ونحوه من الكفر، وإنما قال هذا في المقالات الخفية، كما قدمنا من قوله: وهذا إذا كان في المقالات الخفية، فقد يقال: لم تقم عليه الحجة التي يكفر صاحبها; فلم يجزم بعد كفره، وإنما قال: قد يقال. وقوله: قد يقع ذلك في طوائف منهم، يعلم العامة والخاصة، بل اليهود والنصارى، يعلمون أن محمدا بعث بها، وكفر من خالفها، مثل عبادة الله وحده لا شريك له، ونهيه عن عبادة غيره، فإن هذا أظهر شرائع الإسلام، يعني: فهذا لا يمكن أن يقال، لم تقم عليه الحجة التي يكفر صاحبها، والأمر بعبادة الله وحده لا شريك له، والنهي الجزء: 10 ¦ الصفحة: 389 عن عبادة غيره، هو ما نحن فيه، قال تعالى: {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} 1. وقوله رحمه الله: بل اليهود والنصارى يعلمون ذلك، حكي لنا عن غير واحد من اليهود في البصرة، أنهم عابوا على المسلمين ما يفعلونه عند القبور، قالوا: إن كان نبيكم أمركم بهذا فليس بنبي، وإن لم يأمركم فقد عصيتموه؛ وعبادة الله وحده لا شريك له، هي أصل الأصول، الذي خلق الله الجن والإنس لأجله، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} 2، أي: يعبدوني وحدي. وهو الذي أرسل به جميع الرسل، قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} 3، والطاغوت: اسم لكل ما عبد من دون الله، وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} 4. وكل رسول أرسله الله، فأول ما يدعوهم إليه هذا التوحيد، قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} 5 {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} 6، {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا   1 سورة النساء آية: 165. 2 سورة الذاريات آية: 56. 3 سورة النحل آية: 36. 4 سورة الأنبياء آية: 25. 5 سورة الأعراف آية: 59. 6 سورة الأعراف آية: 65. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 390 قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} 1، {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} 2. فمن جعل شيئا من العبادة لغير الله، فهذا هو الشرك الأكبر، الذي لا يغفره الله، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} 3؛ فمن زعم أن الله يغفره، فقد رد خبر الله سبحانه. وحد العبادة وحقيقتها: طاعة الله; فكل قول وعمل ظاهر وباطن يحبه الله فهو عبادة، فكل ما أمر به شرعا، أمر إيجاب، أو استحباب، فهو عبادة؛ فهذا حقيقة العبادة عند جميع العلماء، التي من جعل منها شيئا لغير الله فهو كافر مشرك. ومما يبين أن الجهل ليس بعذر في الجملة، قوله صلى الله عليه وسلم في الخوارج ما قال، مع عبادتهم العظيمة؛ ومن المعلوم: أنه لم يوقعهم ما وقعوا فيه إلا الجهل، وهل صار الجهل عذرا لهم؟ يوضح ما ذكرنا: أن العلماء من كل مذهب يذكرون في كتب الفقه: باب حكم المرتد، وهو المسلم الذي يكفر بعد إسلامه. وأول شيء يبدؤون به من أنواع الكفر: الشرك، يقولون: من أشرك بالله كفر، لأن الشرك عندهم أعظم   1 سورة الأعراف آية: 73. 2 سورة الأعراف آية: 85. 3 سورة النساء آية: 48. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 391 أنواع الكفر، ولم يقولوا إن كان مثله لا يجهله، كما قالوا فيما دونه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لما " سئل: أي الذنب أعظم إثما عند الله؟ قال: أن تجعل لله ندا وهو خلقك " 1. فلو كان الجاهل أو المقلد، غير محكوم بردته إذا فعل الشرك، لم يغفلوه؛ وهذا ظاهر. وقد وصف الله سبحانه، أهل النار بالجهل، كقوله تعالى: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} 2، وقال: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} 3 وقال: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} 4. وقال تعالى: {فَرِيقاً هَدَى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} 5، قال ابن جرير - عند تفسير هذه الآية -: وهذا يدل على أن الجاهل غير معذور؛ ومن المعلوم: أن أهل البدع الذين كفرهم السلف والعلماء بعدهم، أهل علم وعبادة وفهم وزهد، ولم يوقعهم فيما ارتكبوه إلا الجهل.   1 البخاري: تفسير القرآن (4477) , ومسلم: الإيمان (86) , والترمذي: تفسير القرآن (3182 ,3183) , والنسائي: تحريم الدم (4013 ,4014 ,4015) , وأبو داود: الطلاق (2310) , وأحمد (1/380 ,1/431 ,1/434 ,1/462 ,1/464) . 2 سورة الملك آية: 10. 3 سورة الأعراف آية: 179. 4 سورة الكهف آية: 103-104. 5 سورة الأعراف آية: 30. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 392 والذين حرقهم علي بن أبي طالب بالنار، هل آفتهم إلا الجهل؟ ولو قال إنسان: أنا أشك في البعث بعد الموت، لم يتوقف من له أدنى معرفة في كفره، والشاك جاهل، قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنَّاً وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} 1؛ وقد قال الله تعالى عن النصارى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} 2 الآية. " قال عدي بن حاتم للنبي صلى الله عليه وسلم: ما عبدناهم، قال: أليس يحلون ما حرم الله فتحلونه؟ ويحرمون ما أحل الله فتحرمونه؟ قال: بلى; قال: فتلك عبادتهم " 3، فذمهم الله سبحانه، وسماهم مشركين، مع كونهم لم يعلموا أن فعلهم معهم هذا عبادة لهم، فلم يعذروا بالجهل. ولو قال إنسان عن الرافضة في هذا الزمان: إنهم معذورون في سبهم الشيخين وعائشة، لأنهم جهال مقلدون، لأنكر عليهم الخاص والعام. وما تقدم من حكاية شيخ الإسلام رحمه الله، إجماع المسلمين على: أن من جعل بينه وبين الله وسائط، يتوكل عليهم، ويسألهم جلب المنافع ودفع المضار، أنه كافر مشرك، يتناول الجاهل وغيره، لأنه من المعلوم أنه إذا كان إنسان يقر برسالة محمد صلى الله عليه وسلم ويؤمن بالقرآن، ويسمع ما ذكر الله سبحانه في   1 سورة الجاثية آية: 32. 2 سورة التوبة آية: 31. 3 الترمذي: تفسير القرآن (3095) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 393 كتابه، من تعظيم أمر الشرك، بأنه لا يغفره، وأن صاحبه مخلد في النار، ثم يقدم عليه وهو يعرف أنه شرك، هذا مما لا يفعله عاقل، وإنما يقع فيه من جهل أنه شرك؛ وقد قدمنا كلام ابن عقيل، في جزمه بكفر الذين وصفهم بالجهل فيما ارتكبوه من الغلو في القبور، نقله عنه ابن القيم متحسنا له. والقرآن يرد على من قال: إن المقلد في الشرك معذور، فقد افترى وكذب على الله، وقد قال الله تعالى عن المقلدين من أهل النار {إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا} 1، وقال سبحانه حاكيا عن الكفار قولهم: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} 2. وفي الآية الأخرى {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} 3، واستدل العلماء بهذه الآية ونحوها، على أنه لا يجوز التقليد في التوحيد، والرسالة، وأصول الدين، وأن فرضا على كل مكلف أن يعرف التوحيد بدليله، وكذلك الرسالة، وسائر أصول الدين، لأن أدلة هذه الأصول ظاهرة ولله الحمد، لا يختص بمعرفتها العلماء. وقولك: حتى تقوم عليه الحجة الإسلامية، من إمام   1 سورة الأحزاب آية: 67. 2 سورة الزخرف آية: 22. 3 سورة الزخرف آية: 23. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 394 أو نائبه، معناه: أن الحجة الإسلامية لا تقبل إلا من إمام أو نائبه، وهذا خطأ فاحش، لم يقله أحد من العلماء، بل الواجب على كل أحد قبول الحق ممن قاله كائنا من كان. ومقتضى هذا: أن من ارتكب أمرا محرما، شركا فما دونه بجهل، وبين له من عنده علم بأدلة الشرع أن ما ارتكبه حرام، وبين له دليله من الكتاب والسنة، أنه لا يلزمه قبوله، إلا أن يكون ذلك من إمام أو نائبه، وأن حجة الله لا تقوم عليه، إلا أن يكون ذلك من الإمام أو نائبه. وأظنك سمعت هذا الكلام من بعض المبطلين، وقلدته فيه، ما فطنت لعيبه; وإنما وظيفة الإمام أو نائبه: إقامة الحدود، واستتابة من حكم الشرع بقتله، كالمرتد في بلاد الإسلام. وأظن هذه العبارة مأخوذة، من قول بعض الفقهاء في تارك الصلاة: أنه لا يقتل حتى يدعوه إمام أو نائبه إلى فعلها؛ والدعاء إلى فعل شيء، غير بيان الحجة على خطئه أو صوابه، أو كونه حقا أو باطلا بأدلة الشرع; فالعالم مثلا: يقيم الأدلة الشرعية على وجوب قتل تارك الصلاة، ثم الإمام أو نائبه يدعوه إلى فعلها، ويستتيبه. وقولك: إنك رأيت كثيرا من هذه الأمور التي نقول إنها شرك، ظاهرة في الشام، والعراق، والحجاز، ولم الجزء: 10 ¦ الصفحة: 395 تسمع منكرا; فمن رزقه الله بصيرة بدينه، ما راج عليه ذلك؛ والمتعين على الإنسان معرفة الحق بدليله، فإذا عرف الحق بالأدلة الشرعية، عرض أعمال الناس عليه، فما وافق الحق عرفه وقبله، وما خالفه رده، ولا يغتر بكثرة المخالف. "قال رجل لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: أترى أننا نظن أنك على الحق، وفلانا على باطل؟ فقال علي: ويحك يا فلان! الحق لا يعرف بالرجال; اعرف الحق، تعرف أهله" وقد سبق كلام ابن القيم، في وصفه لزمانه، وقوله: غلب الشرك على أكثر النفوس، لظهور الجهل، وخفاء العلم، وصار المعروف منكرا، والمنكر معروفا، والسنة بدعة والبدعة سنة، ونشأ في ذلك الصغير، وهرم عليه الكبير، وطمست الأعلام، واشتدت غربة الإسلام، وقل العلماء، وغلب السفهاء; هذا وصفه لزمانه، فما ظنك بأهل زمان بعده بخمسمائة عام؟ لأنه لا يأتي عام إلا والذي بعده شر منه، بخبر الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم مع قوله: " لتتبعن سنن من كان قبلكم، حذو القذة بالقذة " 1 مع أننا قد سمعنا، وبلغنا عن كثير من علماء الزمان، إنكار هذه البدعة الشركية، سمعنا في الحرمين واليمن، وبلغنا عن أناس في مصر والشام، إنكار هذه المحدثات، لكن همتهم تقصر عن إظهار ذلك،   1 البخاري: أحاديث الأنبياء (3456) , ومسلم: العلم (2669) , وأحمد (3/84 ,3/89) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 396 لأن عمارة هذه المشاهد الشركية، أكثرها من تحت أيدي ولاة الأمور، وأهل الدنيا، ووافقهم على ذلك، وزينه لهم بعض علماء السوء; وبسبب ذلك: استحكم الشر، وتزايد، والشر في زيادة، والخير في نقصان. وفي حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " هلكت بنو إسرائيل على يدي قرائهم وفقهائهم، وستهلك هذه الأمة على يدي قرائها وفقهائها "؛ فما أصدق قول عبد الله بن المبارك، رحمه الله تعالى: وهل أفسد الدين إلا الملوك وأحبار سوء ورهبانها ومما يبين لك عدم الاغترار بالكثرة، أن أكثر هذه الأمصار التي ذكرت، مخالفون للصحابة والتابعين، وأئمة الإسلام - خصوصا الإمام أحمد ومن وافقه - في صفات الرب تبارك وتعالى، يتأولون أكثر الصفات، بتحريف الكلم عن مواضعه. من ذلك، قولهم: إن الله لا يتكلم بحرف وصوت، وأن حروف القرآن مخلوقة، ويقولون: الإيمان مجرد التصديق; وكلام السلف والأئمة في ذم أهل هذه المقالات كثير; وكثير منهم صرح بكفرهم; وأكثر الأئمة ذما لهم وتضليلا: الإمام أحمد رحمه الله تعالى، وأفاضل أصحابه بعده. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 397 وأكثر أهل هذه الأمصار اليوم، على خلاف ما عليه السلف والأئمة; ومن له بصيرة بالحق، لم يغتر بكثرة المخالف، فإن أهل الحق هم أقل الناس فيما مضى، فكيف بهذه الأزمان التي غلب فيها الجهل، وصار بسبب ذلك المعروف منكرا، والمنكر معروفا؟ نسأل الله أن يهدينا وإخواننا صراطه المستقيم، صراط الذين أنعم عليهم، من النبيين والصديقين، والشهداء والصالحين، وصلى الله على محمد. وسئل أيضا: الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين، رحمه الله تعالى، قال السائل: إن قال قائل: تقرون أن إجماع الأمة حجة، وأنها لا تجتمع على ضلالة، وأنتم قد خالفتم جميع العلماء، من أهل الأمصار قاطبة، وادعيتم ما لم يدعه غيركم، وأنكرتم ما لم ينكر في جميع الأرض، وافتريتم أمرا أنكرته جميع علماء الأمة؛ والإشارة هنا إلى التوحيد، وما دعا إليه الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وتكفير من أشرك بالله في ألوهيته عند المشاهد وغيرها، فما الجواب لذلك؟ فأجاب قدس الله روحه: أما دعوى هذا المبطل إجماع العلماء على جواز دعاء أهل القبور، والاستغاثة بهم، والتقرب إليهم بالنذور والذبائح، فهذا كذب ظاهر؛ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 398 وشبهته: أن هذه الأمور ظاهرة في جميع الأمصار، ولم يسمعوا أن عالما أنكره; فيقال: بل أنكره كثير من علماء هذا الزمان، ووافق عليه خواص من علماء الحرمين واليمن، وسمعنا منهم مشافهة، ولكن الشوكة لغيرهم. وصنف فيه جماعة، كالنعمى من أهل اليمن، له مصنف في ذلك حسن، وكذلك الشوكاني، ومحمد بن إسماعيل، وغيرهم; ورأيت مصنفا لعالم من أهل جبل سليمان في إنكار ذلك؛ وهذا مصداق قول النبي صلى الله عليه وسلم: " لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين " 1، وليس المراد الظهور بالسيف، بل بالحجة دائما وبالسيف أحيانا. ولو قال هذا المجادل: إن أكثر الناس على ما يرى، لكان صادقا، وهذا مصداق الحديث: " بدأ الإسلام غريبا، وسيعود غريبا كما بدأ " 2. وأيضا: فالبناء على القبور، وإسراجها، وتجصيصها، ظاهر غالب في الأمصار التي نعرف، مع أن النهي عن ذلك، ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم ومنصوص على النهي عنه، في جميع المذاهب; فهل يمكن هذا المبطل، أن يقول: إن الأمة مجمعة على جواز ذلك، لكونه ظاهرا في الأمصار؟ والله سبحانه إنما افترض على الخلق طاعته، وطاعة رسوله، وأمرهم أن يردوا إلى كتابه وسنة رسوله، ما تنازعوا فيه؛ وأجمع العلماء على أنه لا يجوز التقليد، في   1 مسلم: الإمارة (1920) , والترمذي: الفتن (2229) , وابن ماجه: المقدمة (10) والفتن (3952) , وأحمد (5/279) . 2 مسلم: الإيمان (145) , وابن ماجه: الفتن (3986) , وأحمد (2/389) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 399 التوحيد والرسالة. فإذا عرف أن الشرك عبادة غير الله، وعرف معنى العبادة، وأنها كل قول وعمل يحبه الله ويرضاه، ومن أعظم ذلك الدعاء، لأنه مخ العبادة، وعلم ما يفعل عند القبور، من دعاء أصحابها بسؤالهم قضاء الحاجات، وتفريج الكربات، والتقرب إليهم بالنذور والذبائح، عرف أن هذا هو الشرك الأكبر، الذي هو عبادة غير الله تعالى; فإذا تحقق الإنسان ذلك، عرف الحق، ولم يبال بمخالفة أكثر الناس، ويعتقد أن الأمة لا تجتمع على ذلك، لأنه ضلالة. فإن قال هذا المجادل: إن هذه الأفعال التي تفعل عند القبور، وعلى القبور، جائزة شرعا، فهو محاد لله ولرسوله; وإن قال: هذه الأمور لا تجوز، لكنها ليست شركا، مع دعواه أن علماء الزمان أجمعوا على ذلك، فيلزمه أن الأمة أجمعت على ضلالة; والإنسان إذا تبين له الحق، لم يستوحش من قلة الموافقين، وكثرة المخالفين، لا سيما في آخر هذا الزمان. وقول الجاهل: لو كان هذا حقا ما خفي على فلان وفلان، هذه دعوى الكفار، في قولهم: {لَوْ كَانَ خَيْراً مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ} 1، {أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا} 2؛ وقد قال علي رضي الله عنه:"اعرف الحق تعرف أهله". وأما الذي في حيرة ولبس، فكل شهبة   1 سورة الأحقاف آية: 11. 2 سورة الأنعام آية: 53. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 400 تروج عليه؛ فلو كان أكثر الناس اليوم على الحق، لم يكن الإسلام غريبا، وهو والله اليوم في غاية الغربة. ولما ذكر ابن القيم رحمه الله نوع الشرك وظهوره، قال: فما أعز من تخلص من هذا، بل ما أعز من لا يعادي من أنكره؟! يعني: ما أقل من لا يعادي من أنكره! وهذا قوله في زمانه، ولا يأتي عام إلا وما بعده شر منه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم. وقد نقلنا في الأوراق التي كتبناها - وهي عندكم - طرفا من كلام العلماء في أنواع الشرك. ومن ذلك قول: شيخ الإسلام تقي الدين رضي الله عنه: فمن جعل الملائكة والأنبياء وسائط، يدعوهم ويتوكل عليهم، ويسألهم جلب المنافع، ودفع المضار، فهو كافر بإجماع المسلمين، انتهى; وهذا هو الذي يفعل اليوم عند هذه المشاهد، وهذا أظهر أمور الدين; ولكن {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} 1. ونسأل الله أن يهدينا صراطه المستقيم، صراط الذين أنعم عليهم، من النبيين والصديقين، والشهداء والصالحين. [كلا م الشيخ عبد الله أبا بطين في تكفير المعين] وقال أيضا الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين، نقول في تكفير المعين: ظاهر الآيات، والأحاديث، وكلام جمهور العلماء تدل على كفر من أشرك بالله فعبد معه غيره، ولم تفرق الأدلة بين المعين وغيره، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا   1 سورة النور آية: 40. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 401 يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} 1، وقال تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} 2، وهذا عام في كل واحد من المشركين. وجميع العلماء في كتب الفقه، يذكرون حكم المرتد، وأول ما يذكرون من أنواع الكفر والردة: الشرك، فقالوا: إن من أشرك بالله كفر، ولم يستثنوا الجاهل، ومن زعم لله صاحبة أو ولدا كفر، ولم يستثنوا الجاهل، ومن قذف عائشة كفر، ومن استهزأ بالله أو رسله أو كتبه، كفر إجماعا، لقوله تعالى: {لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} 3؛ ويذكرون أنواعا كثيرة مجمعا على كفر صاحبها، ولم يفرقوا بين المعين وغيره. ثم يقولون: فمن ارتد عن الإسلام قتل بعد الاستتابة، فحكموا بردته قبل الحكم باستتابته، فالاستتابة بعد الحكم بالردة، والاستتابة إنما تكون لمعين; ويذكرون في هذا الباب، حكم من جحد وجوب واحدة من العبادات الخمس، أو استحل شيئا من المحرمات، كالخمر والخنْزير ونحو ذلك، أو شك فيه يكفر، إذا كان مثله لا يجهله. ولم يقولوا ذلك في الشرك ونحوه مما ذكرنا بعضه، بل أطلقوا كفره ولم يقيدوه بالجهل، ولا فرقوا بين المعين وغيره، وكما ذكرنا أن الاستتابة إنما تكون لمعين؛ وهل يجوز لمسلم أن يشك في كفر من قال: إن لله صاحبة أو   1 سورة النساء آية: 48. 2 سورة التوبة آية: 5. 3 سورة التوبة آية: 66. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 402 ولدا، أو أن جبرائيل غلط في الرسالة، أو ينكر البعث بعد الموت، أو ينكر أحدا من الأنبياء، وهل يفرق مسلم بين المعين وغيره في ذلك ونحوه، وقد قال صلى الله عليه وسلم:" من بدل دينة فاقتلوه " 1، وهذا يعم المعين وغيره. وأعظم أنواع تبديل الدين: الشرك بالله بعبادة غيره، لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} 2، ولقوله صلى الله عليه وسلم لما سئل: أي الذنب أعظم؟ أي: عند الله، قال: (أن تجعل لله ندا وهو خلقك) 3. وأما قول الشيخ في موضع من كلامه، لما ذكر الشرك، قال: ولكن لغلبة الجهل في كثير من المتأخرين، لم يمكن تكفيرهم حتى يبين لهم ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، فالظاهر أن مراده المعين، لجزمه في غير موضع بكفر من فعل الشرك، ولم يتوقف في تكفيره حتى يبين له ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، لقوله في مسألة الوسائط: فمن جعل الملائكة أو الأنبياء وسائط، يدعوهم ويتوكل عليهم، ويسألهم جلب المنافع ودفع المضار، مثل أن يسألهم غفران الذنوب، وهداية القلوب، وتفريج الكربات، وسد الفاقات، فهو كافر بإجماع المسلمين، إلى أن قال: فمن أثبت وسائط بين الله وبين خلقه، كالوسائط الذين يكونون بين الملك ورعيته، بحيث يكونون هم يرفعون إلى الله حوائج خلقه،   1 البخاري: الجهاد والسير (3017) , والترمذي: الحدود (1458) , والنسائي: تحريم الدم (4059 ,4060 ,4061 ,4062 ,4064 ,4065) , وأبو داود: الحدود (4351) , وابن ماجه: الحدود (2535) , وأحمد (1/217 ,1/282 ,1/322) . 2 سورة النساء آية: 48. 3 البخاري: تفسير القرآن (4477) , ومسلم: الإيمان (86) , والترمذي: تفسير القرآن (3182 ,3183) , والنسائي: تحريم الدم (4013 ,4014 ,4015) , وأبو داود: الطلاق (2310) , وأحمد (1/380 ,1/431 ,1/434 ,1/462 ,1/464) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 403 بمعنى: أن الخلق يسألونهم، وهم يسألون الله، كما أن الوسائط عند الملوك يسألون الملوك حوائج الناس، لقربهم منهم، والناس يسألونهم أدبا منهم، أن يباشروا سؤال الملك، أو لأن طلبهم من الوسائط أنفع من طلبهم من الملك، لكونهم أقرب إلى الملك من الطالب، فمن أثبتهم وسائط على هذا الوجه فهو كافر مشرك، يجب أن يستتاب فإن تاب وإلا قتل. فانظر قوله: فهو كافر بإجماع المسلمين، فجزم بكفر من هذه حاله، وأنه إجماع المسلمين، ولم يقل في هذا الموضع لم يمكن تكفير من فعل ذلك حتى يبين له ما جاء به الرسول، وقوله: فمن أثبتهم وسائط على هذا الوجه فهو كافر مشرك، يجب أن يستتاب، فجزم بكفره قبل الاستتابة. وكلامه في هذا الموضع نقله صاحب "الفروع" فيه، وكذا صاحب "الإنصاف" و"الإقناع" وغيرهم؛ وهذا الذي ذكر الشيخ أن من فعله كافر بإجماع المسلمين، هو الذي يفعل اليوم عند هذه المشاهد المشهورة في أكثر بلاد الإسلام، بل زادوا على ذلك أضعافه، وضموا إلى ذلك الذبح والنذر لهم، وبعضهم زاد السجود لهم في الأرض. فنقول: كل من فعل اليوم ذلك عند هذه المشاهد، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 404 فهو مشرك كافر بلا شك، بدلالة الكتاب والسنة والإجماع؛ ونحن نعلم أن من فعل ذلك ممن ينتسب إلى الإسلام، أنه لم يوقعهم في ذلك إلا الجهل، فلو علموا أن ذلك يبعد عن الله غاية الإبعاد، وأنه من الشرك الذي حرمه الله، لم يقدموا عليه، فكفرهم جميع العلماء، ولم يعذروهم بالجهل، كما يقول بعض الضالين: إن هؤلاء معذورون لأنهم جهال. وهذا قول على الله بغير علم، معارض بمثل قوله تعالى: {فَرِيقاً هَدَى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} 1 الآية، {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً} 2 الآيتين. وكذلك الخوارج، ورد فيهم الذم العظيم، مع أنهم ما ارتكبوا ما ارتكبوا إلا عن جهل، ولم يعذروا بذلك؛ وهذا جواب لمن يعترف بأن ما يفعلون شرك. وأما كثير من الناس، فيقولون: ما يقوله هؤلاء الضالون عند المشاهد، ليس بشرك، بل يقول إنه جائز، أو إنه مستحب، كما يزعمه بعض أئمة الضالين. وأما قول الشيخ: ولكن لغلبة الجهل في كثير من المتأخرين، لم يمكن تكفيرهم ... إلخ، فهو لم يقل إنهم   1 سورة الأعراف آية: 30. 2 سورة الكهف آية: 103. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 405 معذورون، ولكن هذا توقف منه في إطلاق الكفر عليهم قبل التبيين؛ فيجمع بين كلامه بأن يقال: إن مراده أننا إذا سمعنا من إنسان كلام كفر، أو وجدناه في كلام بعض الناس المنظوم، أو المنثور، أننا لا نبادر في تكفير من رأينا منه ذلك؛ أو سمعناه حتى نبين له الحجة الشرعية، وهذا مع قولنا: إن هؤلاء الغلاة الداعين للمقبورين، أو الملائكة، أو غيرهم، الراغبين إليهم في قضاء حوائجهم، مشركون كفار. وأما تبيين ما جاء به الرسول لعباد القبور، فلا يمكن اليوم، لأن هذه أمور نشأ عليها الصغير، وهرم عليها الكبير، وقوّى ذلك في نفوسهم أئمة ضلال، زينوا لهم هذا الصنيع؛ فلو يقوم إنسان بين هؤلاء الغلاة، يبين لهم ضلالهم، تبادروا إلى قتله، لأن الفتنة عظمت بسبب من ينتسب إلى علم، يزينون ذلك للناس. وولاة الأمور يبنون مشاهد الشرك، ويعمرونها، ويقفون عليها الأوقاف، فتبيين ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم لا يمكن إلا من عالم يعرفونه، أو يعظمونه، فقد يحتملون منه؛ ولكن الأمر كما ورد في الحديث: "إنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين " 1، وورد أن هلاك هذه الأمة، على يدي قرائها وفقهائها، والله أعلم. [من لا يعرف معنى الإيمان والكفر ولكنه يلتزم الشرائع] وسئل أيضا: عمن لا يعرف الإيمان بالله ولا معنى   1 الترمذي: الفتن (2229) , وأبو داود: الفتن والملاحم (4252) , وابن ماجه: الفتن (3952) , وأحمد (5/278 ,5/284) , والدارمي: المقدمة (209) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 406 الكفر بالطاغوت، وهذه حالة الأكثر ممن لدينا يدعي الإسلام، ويلتزم شرائعه الظاهرة، ويزعم حب أهل الحق، وينتسب إليهم على الإجمال، وأما على التفصيل، فيبغض أهل التوحيد، ويمقتهم، ويرى منهم الخطأ في الأمور التي تخالف عادته، وما يعرفه، فيعتقد خلاف ما عرف خطأ،. لأن الذي في ذهنه أن ما عرف الناس عليه هو الدين، ولا يعرف دليلا يرد عليه، ولا يرعوي ولا يلتفت إليه، لأنه يرى الدين ما تظاهر به المنتسبون، فما حال من هذا وصفه؟ ومنهم كثير يصرحون بالبغض والعداوة لأهل الحق، ويحرصون على اتباع عوراتهم، والوقوع في عثراتهم، ونرى مثل هؤلاء الواقع منهم هذا المذكور، مع عدم معرفة أصل الإسلام كفارا، لأنهم لم يعرفوا الإسلام أولا، وثانيا عادْوا أهله وأبغضوهم، ورأوا الدين ما عليه أكثر المنتسبين، فهل رأيُنا فيهم صواب أم لا؟ وبينوا حال الصنف الأول لنا أيضا، هل يطلق عليهم الكفر أم لا؟ وفيمن يزعم أن النفاق لا يوجد في هذه الأمة، بعد زمن النبي صلى الله عليه وسلم أو قريبا منه، ثم بعد ذلك لا يوجد إلا الإسلام المحض، ويحتج بما رواه البخاري عن عبد الله بن عقبة بن مسعود، قال سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: (إن ناسا يؤاخذون في الوحي وإن الجزء: 10 ¦ الصفحة: 407 الوحي قد انقطع؛ فمن أظهر لنا خيرا أمناه وقربناه، وليس لنا من سريرته من شيء، الله يحاسبه في سريرته، ومن أظهر لنا سوءا، لم نأمنه ولم نصدقه، وإن قال: إن سريرته حسنة) . وعن حذيفة رضي الله عنه قال: (إنما النفاق على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فأما اليوم إنما هو الكفر والإيمان) رواه البخاري، ما الجواب عن قول حذيفة؟ وعن قول عمر؟ وما علامات النفاق، الذي يصير به الرجل في الدرك الأسفل من النار؟ فأجاب رحمه الله تعالى: حكم الصنفين المسؤول عنهما، الموصوفة حالهما، يرجع إلى شيء واحد، وهو: إن كان الرجل يقر بأن هذه الأمور الشركية التي تفعل عند القبور وغيرها، من دعاء الأموات، والغائبين، وسؤالهم قضاء الحاجات، وتفريج الكربات، والتقرب إليهم بالنذور، والذبائح أن هذا شرك وضلال، ومن أنكره هو المحق، ومن زينه ودعا إليه فهو شر من الفاعل، فهذا يحكم بإسلامه، لأن هذا معنى الكفر بالطاغوت، والكفر بما يعبد من دون الله. فإذا اعترف أن هذه الأمور وغيرها من أنواع العبادة، محض حق الله تعالى، لا تصلح لغيره، لا ملك مقرب، ولا نبي مرسل، فضلا عن غيرهما، فهذا حقيقة الجزء: 10 ¦ الصفحة: 408 الإيمان بالله، والكفر بما يعبد من دون الله، قال النبي صلى الله عليه وسلم: " من قال لا إله إلا الله، وكفر بما يعبد من دون الله، حرم ماله ودمه، وحسابه على الله تعالى " 1.وفرض على كل أحد معرفة التوحيد، وأركان الإسلام بالدليل. ولا يجوز التقليد في ذلك، لكن العامي الذي لا يعرف الأدلة، إذا كان يعتقد وحدانية الرب سبحانه، ورسالة محمد صلى الله عليه وسلم، ويؤمن بالبعث بعد الموت، وبالجنة والنار، وأن هذه الأمور الشركية التي تفعل عند هذه المشاهد، باطلة وضلال، فإذا كان يعتقد ذلك اعتقادا جازما لا شك فيه، فهو مسلم وإن لم يترجم بالدليل، لأن عامة المسلمين ولو لقنوا الدليل، فإنهم لا يفهمون المعنى غالبا. ذكر النووي في شرح مسلم، في الكلام على حديث ضمام بن ثعلبة، قال: قال أبو عمرو بن الصلاح، فيه دلالة لما ذهب إليه أئمة العلماء، من أن العوام المقلدين مؤمنون، وأنه يكتفى منهم بمجرد اعتقاد الحق، جزما من غير شك وتزلزل، خلافا لمن أنكر ذلك من المعتزلة، وذلك لأنه صلى الله عليه وسلم قرر ضمام على ما اعتمد عليه في معرفة رسالته، وصدقه، ومجرد إخباره إياه بذلك، ولم ينكر عليه ذلك، ولا قال يجب عليك النظر في معجزاتي، والاستدلال بالأدلة القطعية، انتهى. وأما من قال: إن هذه الأمور التي تفعل عند هذه   1 مسلم: الإيمان (23) , وأحمد (3/472 ,6/394) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 409 المشاهد، من دعاء غير الله، والنذر، والذبح لهم، إن هذا ليس بحرام، فإطلاق الكفر على هذا النوع لا بأس به، بل هذا كفر بلا شك، وأما من يوافق في الظاهر، على أن هذه الأمور شرك، ويبطن خلاف ذلك، فهو منافق نفاقا أكبر، فإن كان يظهر منه بغض من قام بهذه الدعوة الإسلامية عامة، فهذا دليل نفاقه. قال بعض العلماء، في قول النبي صلى الله عليه وسلم في الأنصار: " لا يحبهم إلا مؤمن، ولا يبغضهم إلا منافق " 1، قال: فمن أبغض من قام لنصرة دين الله وسنّة نبيه صلى الله عليه وسلم استحق هذا الوصف، وهو النفاق، وأما من يبغض بعضا دون بعض، فقد يكون ذلك لسبب غير الدين. وأما من صرح بالسب، فقد قال شيخ الإسلام تقي الدين، رحمه الله تعالى، فيمن سب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: اختلف العلماء في حكمهم على قولين، قيل: بكفرهم، وقيل: بفسقهم; وتوقف أحمد في كفره وقتله، وقال: يعاقب ويجلد، ويحبس حتى يموت، أو يرجع عن ذلك; قال: وهذا هو المشهور من مذهب مالك، انتهى. فإذا كان هذا كلامهم في الذي يسب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، الذين أثنى الله عليهم ورضي عنهم، فغيرهم دونهم، ولم يقل أحد من العلماء بكفر من سب غيرهم ولا قتله؛ ولهذا قال الأصحاب: من سب إماما عدلا، أو عدلا   1 البخاري: المناقب (3783) , ومسلم: الإيمان (75) , والترمذي: المناقب (3900) , وأحمد (4/283 ,4/292) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 410 غيره عزر. وأما قول من قال: إن النفاق لا يوجد إلا في أفضل القرون، فهذا جاهل بحقيقة النفاق، ضال أو معاند فاجر، بل كافر إذا قال: إنه لا يوجد بعد ذلك إلا الإسلام المحض; وصاحب هذا القول مكذب لله ورسوله، ولجميع علماء أهل السنة والجماعة. فإنهم أجمعوا على كفر الاتحادية، الذين يقولون: الخالق هو المخلوق; وكذلك أجمعوا على تكفير الحلولية، الذين يقولون: إن الله بذاته في كل مكان; وهاتان الطائفتان، منتشرون في أمصار المسلمين. ولما ذكر صاحب "الإقناع" حكم هاتين الطائفتين، قال شارحه: وقد عمت البلوى بهذه الفرق، فأفسدوا كثيرا من عقائد أهل التوحيد، فأخبر الشارح بكثرة هؤلاء المجمع على كفرهم. وذكرنا هاتين الطائفتين، وكذا من قذف عائشة رضي الله عنها، أو ادعى أن جبرئيل غلط ونحو ذلك، مما لا يقدر أحد على إنكاره. وأما أمر الشرك، فالكلام معهم فيه يطول، وكفى هذا فضيحة قوله: إن الكفر والنفاق يوجد في القرن الأول، ويستحيل وجوده فيما بعده، وهذا في حقيقة أمره ينكر على الجزء: 10 ¦ الصفحة: 411 الفقهاء، وضعهم "باب حكم المرتد" إذا لم يكن إلا الإسلام المحض، فيلزم تخطئتهم، بأن نقول: لا كفر ولا نفاق، بعد القرون الأُوَل الأفاضل. وأما احتجاج بعضهم بقول عمر رضي الله عنه:"إن الناس كانوا يؤاخذون بالوحي على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم" ... إلخ، فأي حجة له في هذا، على نفي الكفر والنفاق عن الأمة؟ وإنما هذا مثل قوله صلى الله عليه وسلم فيمن أتى بشرائع الإسلام، حيث قال: " وحسابهم على الله تعالى " 1. ومراد عمر رضي الله عنه أن من رأينا عمله حسنا، ولم نر منه ما يعاب، أمناه وقربناه، وحسابه في سريرته إلى الله، ومن رأينا منه ما يكرهه الله، من المعاصي، كشرب الخمر، وشهادة الزور، والكذب، والنميمة، والغيبة، وغير ذلك من الذنوب، أو إخلال في فرض، لم نأمنه ولم نقربه، وإن قال سريرته حسنة. فقوله: من أظهر لنا سوءا، أي: من اطلعنا منه على ذلك، وعلمناه، ليس مراده أنه يظهر ذلك ويجاهر به، كما يقول العلماء في الشاهد، إذا علم منه ما يقدح في شهادته ردت شهادته، وإن كان لا يظهر إلا الخير. وكذا إذا رأينا من ظاهره الخير، لكن رأيناه يألف الفسقة، أو أهل البدع والضلال، قلنا هذه خصلة سوء يتهم   1 البخاري: الإيمان (25) , ومسلم: الإيمان (22) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 412 بها، وإن قال سريرته حسنة، نقل أبو داود، عن الإمام أحمد رحمه الله، في الرجل يمشي مع المبتدع، لا تكلمه; ونقل غيره إذا سلم على المبتدع فهو يحبه. وقال أحمد رحمه الله: إنما هجر النبي صلى الله عليه وسلم الثلاثة، لأنه اتهمهم بالنفاق، فكذلك كل من خفنا عليه، وهذا الذي ينكر وجود النفاق، سببه: عدم معرفة الإسلام وضده; وحقيقة النفاق: إظهار الخير وإسرار ضده. فإذا كان إنسان عند أهل السنة، يظهر بطلان مذهب الاتحادية، والحلولية ونحوهم، وهو يعتقد في الباطن صحة بعض هذه المذاهب، فهو منافق نفاقا أكبر؛ وكذا إذا أظهر تضليل غلاة الرافضة، وهو في الباطن يرى رأيهم، فهو منافق؛ وكذا من اعترف بصحة هذا الأمر، الذي ندعو إليه، وهو التوحيد وإفراد الله بالعبادة، يعترف به ظاهرا، ويبطن خلافه، فهو منافق نفاقا أكبر. وأما قول حذيفة، فهو كما روي عنه من وجه آخر، أنه قال: (المنافقون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يخفون نفاقهم، وهم اليوم يظهرونه) ، ومراد حذيفة: أنهم في زمانه تبدو منهم أمارات ظاهرة، بخلاف حالهم زمن النبوة; وقال: (إن كان الرجل ليتكلم بالكلمة، على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، يصير بها منافقا، وإني لأسمعها من أحدكم في اليوم، أو المجلس، عشر مرات) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 413 "وسمع حذيفة رجلا يقول: اللهم أهلك المنافقين; فقال: يا ابن أخي، لو هلك المنافقون لاستوحشتم في طرقاتكم، من قلة السالكين". وهذا النافي للنفاق عن جميع الأمة، قائل بغير علم، كاذب، وما يدريه أنه ليس في الأمة حاضرها وباديها منافق، لأن من أظهر الإسلام وهو يشك في البعث بعد الموت، أو في رسالة محمد صلى الله عليه وسلم فهو منافق نفاقا أكبر؛ وهل اطلع هذا المتخرص على قلوب الأمة، شرقا وغربا؟ وهل يأمن على نفسه من النفاق، بأن يزيغ قلبه إذا زاغ عن الحق؟ {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} 1. وقد أثنى الله سبحانه على الراسخين في العلم، بسؤالهم إياه أن لا يزيغ قلوبهم، في قولهم: {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} 2؛ ومن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: " يا مقلب القلوب، ثبت قلبي على دينك. فقيل له: أوتخاف عليك؟ قال: نعم، ما من قلب إلا وهو بين أصبعين من أصابع الرحمن، إذا شاء أن يقيمه أقامه، وإذا شاء أن يزيغه أزاغه " 3. ومن دعائه صلى الله عليه وسلم عند الانتباه من النوم: " ولا تزغ قلبي بعد إذ هديتني ".4 قيل للإمام أحمد: ما تقول فيمن لا يخاف   1 سورة الصف آية: 5. 2 سورة آل عمران آية: 8. 3 الترمذي: الدعوات (3522) , وأحمد (6/294 ,6/301 ,6/315) . 4 أبو داود: الأدب (5061) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 414 النفاق على نفسه؟ فقال: ومن يأمن على نفسه النفاق؟ وروي عن الحسن: أنه: (حلف ما مضى مؤمن قط أو بقي، إلا وهو من النفاق خائف، ولا مضى منافق قط، ولا بقي إلا وهو من النفاق آمن"؛ وكلام السلف في هذا كثير. ويكفي في بطلان قول هذا إثباته الكفر والنفاق، في أفضل قرون الأمة، ونفي ذلك عن القرون التي وصفها صلى الله عليه وسلم بأنها شر إلى يوم القيامة; ويفضح شبهة هذا، وشبهة من قال إنه يستحيل وجود الكفر في أرض العرب: ما ثبت في صحيح مسلم، من حديث أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ليس من بلد إلا سيطوله الدجال إلا مكة والمدينة، وما من نقب من أنقابهما إلا وعليه الملائكة حافين تحرسهما، فينْزل السبخة، فترجف المدينة ثلاث رجفات، يخرج الله تعالى منها كل كافر ومنافق" فأخبر صلى الله عليه وسلم أن في المدينة إذ ذاك كفارا ومنافقين، موجودين قبل خروج الدجال، فإذا كان هذا حال المدينة، فغيرها أولى وأحرى، والله أعلم. [من كفر مسلما] وسئل: عما يروى: "من كفر مسلما فقد كفر"؟ فأجاب: لا أصل لهذا اللفظ فيما نعلم عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما الحديث المعروف: " من قال لأخيه: يا كافر، فقد باء بها أحدهما " 1، ومن كفر إنسانا أو فسقه، أو نفقه متأولا غضبًا لله تعالى، فيرجى العفو عنه، كما قال عمر رضي الله   1 البخاري: الأدب (6104) , ومسلم: الإيمان (60) , والترمذي: الإيمان (2637) , وأبو داود: السنة (4687) , وأحمد (2/112) , ومالك: الجامع (1844) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 415 عنه، في شأن حاطب بن أبي بلتعة، أنه منافق; وكذا جرى من غيره من الصحابة وغيرهم، وأما من كفر شخصا، أو نفقه غضبا لنفسه، أو بغير تأويل، فهذا يخاف عليه. وأما من جعل سبيل الكفار أهدى من سبيل المؤمنين، فإن كان مراده حال أهل الزمان اليوم، كأن يقول: إن فعل مشركي الزمان عند القبور وغيرها، أحسن ممن لا يدعو إلا الله، ولا يدعو غيره، فهذا كافر بلا شك; وكذا قولنا: إن فعل مشركي الزمان عند القبور، من دعاء أهل القبور، وسؤالهم قضاء الحاجات، وتفريج الكربات، والذبح، والنذر لهم، وقولنا: إن هذا شرك أكبر، وأن من فعله فهو كافر، والذين يفعلون هذه العبادات عند القبور، كفار بلا شك. وقول الجهال: إنكم تكفرون المسلمين، فهذا ما عرف الإسلام، ولا التوحيد، والظاهر عدم صحة إسلام هذا القائل؛ فإن لم ينكر هذه الأمور، التي يفعلها المشركون اليوم، ولا يراها شيئا، فليس بمسلم. [من يرتكب شيئا من المكفرات] وسئل أيضا: عمن يرتكب شيئا من المكفرات ... إلخ؟ فأجاب: ما سألت عنه، من أنه هل يجوز تعيين إنسان بعينه بالكفر، إذا ارتكب شيئا من المكفرات، فالأمر الجزء: 10 ¦ الصفحة: 416 الذي دل عليه الكتاب والسنة وإجماع العلماء على أنه كفر، مثل الشرك بعبادة غير الله سبحانه، فمن ارتكب شيئا من هذا النوع أو جنسه، فهذا لا شك في كفره. ولا بأس بمن تحققت منه شيئا من ذلك، أن تقول: كفر فلان بهذا الفعل، يبين هذا: أن الفقهاء يذكرون في باب حكم المرتد أشياء كثيرة، يصير بها المسلم كافرا، ويفتتحون هذا الباب بقولهم: من أشرك بالله كفر، وحكمه أنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل، والاستتابة إنما تكون مع معين. ولما قال بعض أهل البدع عند الشافعي: إن القرآن مخلوق; قال: كفرت بالله العظيم; وكلام العلماء في تكفير المعين كثير. وأعظم أنواع الكفر: الشرك بعبادة غير الله، وهو كفر بإجماع المسلمين، ولا مانع من تكفير من اتصف بذلك، كما أن من زنى قيل: فلان زان، ومن رابى: قيل: فلان مراب. وأما قولك: إذا ظهر من إنسان الكفر، وقامت عليه الحجة، وامتنع إنسان من تكفيره، فكأنك تشير إلى حال أهل هذه المشاهد، التي يقع عندها الشرك الأكبر; ومن المعلوم: أنه لا يصح إسلام إنسان، حتى يكفر بالطاغوت، وهو كل ما عبد من دون الله، قال تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} 1. وفي الحديث الصحيح: " من قال لا إله   1 سورة البقرة آية: 256. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 417 إلا الله، وكفر بما يعبد من دون الله، حرم ماله ودمه " 1؛ والكفر بذلك: البراءة منه، واعتقاد بطلانه. وقال أيضا الشيخ عبد الله أبا بطين: وأما قول القائل: إن دعاءهم الأموات، وسؤالهم قضاء الحاجات، مجاز، والله سبحانه هو المسؤول حقيقة، فهذا حقيقة قول المشركين: {هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} 2، {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} 3، فهم يسألون الوسائط، زاعمين أنهم يشفعون لهم عند الله، في قضاء حوائجهم; قال شيخ الإسلام، تقي الدين، رحمه الله: فمن جعل بينه وبين الله وسائط، يدعوهم ويتوكل عليهم، ويسألهم، كفر إجماعا. وأما قول من يقول: إن الآيات التي نزلت بحكم المشركين الأولين، فلا تتناول من فعل فعلهم، فهذا كفر عظيم، مع أن هذا قول، ما يقوله إلا "ثور" مرتكس في الجهل، فهل يقول: إن الحدود المذكورة في القرآن والسنة، لأناس كانوا وانقرضوا؟ فلا يحد الزاني اليوم، ولا تقطع يد السارق، ونحو ذلك، مع أن هذا قول يستحيا من ذكره; أفيقول هذا: إن المخاطبين بالصلاة والزكاة، وسائر شرائع الإسلام، انقرضوا، وبطل حكم القرآن؟! وأما قول من يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم أو غيره ينجي من عذاب الله، أو يغني من الله شيئا، فهذا كفر، يحكم بكفر   1 مسلم: الإيمان (23) , وأحمد (3/472 ,6/394) . 2 سورة يونس آية: 18. 3 سورة الزمر آية: 3. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 418 صاحبه بعد تعريفه إن كان جاهلا؛ بل أبلغ من ذلك لو قال: إن أحدا يشفع عند الله من غير إذنه له، فهو كافر. [من فعل الشرك فهو مشرك] وسئل أيضا: عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين، عن قول الصنعاني: إنه لا ينفع قول من فعل الشرك: أنا لا أشرك بالله ... إلخ؟ فأجاب، يعني: أنه إذا فعل الشرك فهو مشرك، وإن سماه بغير اسمه، ونفاه عن نفسه. وقوله: وقد صرح الفقهاء في كتبهم، بأن من تكلم بكلمة الكفر، يكفر، إن لم يقصد معناها، فمرادهم بذلك: أن من يتكلم بكلام كفر، مازحا أو هازلا، وهو عبارة كثير منهم، في قولهم: من أتى بقول، أو فعل صريح في الاستهزاء بالدين، وإن كان مازحا، لقوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} 1. وأما من تكلم بكلمة كفر، لا يعلم أنها كفر، فعرِّف بذلك فرجع، فإنه لا يحكم بكفره، كالذين قالوا: اجعل لنا ذات أنواط، كما لهم ذات أنواط; وقوله: فصاروا كفارا، كفرا أصليا، يعني: أنهم نشؤوا على ذلك، فليس حكمهم كالمرتدين الذين كانوا مسلمين، ثم صدرت منهم هذه   1 سورة آية: 65-66. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 419 الأمور الشركية. [الإكراه على فعل مكفر] وسئل: عن الإكراه على فعل مكفر ... إلخ؟ فأجاب: الظاهر من كلام الفقهاء أنه في حكم المرتد، حيث قالوا: إنه يكفر بعد إسلامه، بقول، أو فعل، أو شك، أو اعتقاد; واشترطوا كونه طوعا، ولم يقيدوه بالقول; قال ابن رجب، في شرح الأربعين: ولو أكره على شرب الخمر، أو غيره من الأفعال المحرمة، ففي إباحته بالإكراه قولان، إلى أن قال: والقول الثاني: أن التقية بالأقوال، ولا تقية بالأفعال، روي ذلك عن ابن عباس، وجماعة من التابعين، ذكرهم، وهو رواية عن أحمد، إلى أن قال: وما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أوصى طائفة من أصحابه، وقال: " لا تشركوا بالله، وإن قطعتم، أو حرقتم "، فالمراد: الشرك بالقلوب؛ فظاهر كلامه: أن الإكراه في الفعل، كالقول، لقوله تعالى: {وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً} 1،والله أعلم. [الصلاة خلف الجهمية] وسئل الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن، رحمهما الله، عما أورده بعض الملحدين: أنه نسب عن شيخ الإسلام أنه ذكر عن الإمام أحمد: أنه كان يصلي خلف الجهمية ... إلخ؟   1 سورة النحل آية: 106. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 420 فأجاب: هذا لو سلم، من أوضح الواضحات عند طلبة العلم، وأهل الأثر; وذلك: أن الإمام أحمد وأمثاله من أهل العلم والحديث، لا يختلفون في تكفير الجهمية، وأنهم ضلال زنادقة؛ وقد ذكر من صنف في السنة تكفيرهم عن عامة أهل العلم والأثر، وعد اللالكائي رحمه الله منهم عددا، يتعذر ذكرهم في هذه الرسالة. وكذا عبد الله بن الإمام أحمد، في كتاب السنة، والخلال في كتاب السنة، وابن أبي مليكة في كتاب السنة؛ وإمام الأئمة ابن خزيمة قرر كفرهم، ونقله عن أساطين الأئمة، وقد حكى كفرهم شمس الدين ابن القيم في كافيته، عن خمسمائة من أئمة المسلمين وعلمائهم، والصلاة خلفهم لا سيما صلاة الجمعة، لا تنافي القول بتكفيرهم، لكن تجب الإعادة حيث لا تمكن الصلاة خلف غيرهم؛ والرواية المشهورة عن الإمام أحمد، هي المنع من الصلاة خلفهم. وقد يفرق بين من قامت عليه الحجة التي يكفر تاركها، وبين من لا شعور له بذلك؛ وهذا القول يميل إليه شيخ الإسلام في المسائل التي قد يخفى دليلها على بعض الناس. على هذا القول: فالجهمية في هذه الأزمنة، قد بلغتهم الحجة، وظهر الدليل، وعرفوا ما عليه أهل السنة، واشتهرت الأحاديث النبوية، وظهرت ظهورا ليس بعده إلا المكابرة والعناد، وهذا حقيقة الكفر والإلحاد. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 421 كيف: لا؟ وقولهم يقتضي من تعطيل الذات والصفات، والكفر بما اتفقت عليه الرسالة والنبوات، وشهدت به الفطر السليمات، ما لا يبقى معه حقيقة للربوبية والإلهية، ولا وجود للذات المقدسة، المتصفة بجميل الصفات؛ وهم إنما يعبدون عدما لا حقيقة لوجوده، ويعتمدون من الخيالات والشبه، ما يعلم فساده بضرورة العقل، وبالضرورة من دين الإسلام، عند من عرفه وعرف ما جاءت به الرسل من الإثبات. ولبشر المريسي وأمثاله، من الشبه والكلام في نفي الصفات، ما هو من جنس هذا المذكور عند الجهمية المتأخرين، بل كل أمة أخف إلحادا من بعض هؤلاء الضلال، ومع ذلك، فأهل العلم متفقون على تكفيره، وأن الصلاة لا تصح خلف كافر جهمي أو غيره. وقد صرح الإمام أحمد، فيما نقل عنه ابنه عبد الله وغيره، أنه كان يعيد صلاة الجمعة وغيرها؛ وقد يفعله المؤمن مع غيرهم من المرتدين، إذا كانت لهم شوكة ودولة؛ والنصوص في ذلك معروفة مشهورة، نحيل طالب العلم على أماكنها ومظانها. وبهذا ظهر الجواب عن السؤال، والله أعلم. [تكفير من ظاهره الإسلام] وسئل أيضا الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن، عن الجزء: 10 ¦ الصفحة: 422 تكفير من أحب انتصار آل شامر على المسلمين وفرح بقتلهم، هل له مستند؟ فأجاب: لا أعلم مستندا لهذا القول، والتجاسر على تكفير من ظاهره الإسلام، من غير مستند شرعي ولا برهان مرضي، يخالف ما عليه أئمة العلم من أهل السنة والجماعة; وهذه الطريقة، هي طريقة أهل البدع والضلال، ومن عُدم الخشية والتقوى، فيما يصدر عنه من الأقوال والأفعال. والفرح بمثال هذه القضية، قد يكون له أسباب متعددة، لا سيما وقد كثر الهرج، وخاضت الأمة في الأموال والدماء، واشتد الكرب والبلاء، وخفي الحق والهدى، وفشا الجهل والهوى، وكثر الخوض والردى، وغلب الطغيان والعمى، وقل التمسك بالكتاب والسنة، بل قل من يعرفهما، ويدري حدود ما أنزل الله من الأحكام الشرعية، كالإسلام والإيمان، والكفر والشرك، والنفاق، ونحوها. وقد جاء في الحديث: " من قال لأخيه: يا كافر، فقد باء بها أحدهما " 1؛ فإطلاق القول بالتكفير والحالة هذه، دليل على جهل المكفر وعدم علمه بمدارك الأحكام وتأول أهل العلم ما ورد، من إطلاق الكفر على بعض المعاصي، كما في حديث: " سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر " 2،وحديث:   1 البخاري: الأدب (6104) , ومسلم: الإيمان (60) , والترمذي: الإيمان (2637) , وأبو داود: السنة (4687) , وأحمد (2/112) , ومالك: الجامع (1844) . 2 البخاري: الإيمان (48) , ومسلم: الإيمان (64) , والترمذي: البر والصلة (1983) والإيمان (2634 ,2635) , والنسائي: تحريم الدم (4105 ,4106 ,4108 ,4109 ,4110 ,4111 ,4112 ,4113) , وابن ماجه: المقدمة (69) والفتن (3939) , وأحمد (1/385 ,1/411 ,1/417 ,1/433 ,1/439 ,1/446 ,1/454 ,1/460) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 423 " لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض " 1، وحديث " لا ترغبوا عن آبائكم، فإنه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم " 2، فهذا ونحوه تأولوه على أنه كفر عملي، ليس كالكفر الاعتقادي الذي ينقل عن الملة، كما جزم به العلامة ابن القيم وغيره من المحققين، هذا مع أنه باشره عمل وفرح، وأطلق عليه الشارع هذا الوصف، فكيف بمجرد الفرح؟ وذكر عن الإمام أحمد أنه قال: أمروا هذه النصوص كما جاءت، ولا تعرضوا لتفسيرها. وقد ذكر شيخ الإسلام في "الفتاوى المصرية" أن السلف متفقون على عدم تكفير البغاة، فكيف بمجرد الفرح؛ وقد قابل هذا الصنف من الإخوان، قوم كفروا أهل العارض أو جمهورهم في هذه الفتنة، واشتهر عن بعضهم أنه تلا عند سماع وقعة آل شامر، قوله تعالى: {وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا} 3. وعللوا بأشياء متعددة، من فرح ومكاتبة وموالاة، وغير ذلك، والفريقان ليس لهم لسان صدق، ولا هدى ولا كتاب منير. قال شيخ الإسلام، رحمه الله: لا بد للمتكلم في هذه المباحث ونحوها، أن يكون معه أصول كلية يرد إليها الجزئيات، ليتكلم بعلم وعدل، ثم يعرف الجزئيات كيف وقعت، وإلا فيبقى في كذب وجهل في الجزئيات، وجهل   1 البخاري: العلم (121) , ومسلم: الإيمان (65) , والنسائي: تحريم الدم (4131) , وابن ماجه: الفتن (3942) , وأحمد (4/358 ,4/363 ,4/366) , والدارمي: المناسك (1921) . 2 البخاري: الحدود (6830) , وأحمد (1/47 ,1/55) . 3 سورة محمد آية: 10. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 424 وظلم في الكليات؛ وأطال الكلام على الفرق بين المتأول والمتعمد، ومن قامت عليه الحجة وزالت عنه الشبهة، والمخطئ الذي التبس عليه الأمر، وخفي عليه الحكم. وقرر مذهب علي بن أبي طالب، في عدم تكفير الخوارج المقاتلين له، المكفرين له ولعثمان، ولمن والاهما رضي الله عنهما; ونقل قول علي لما سئل عن الخوارج: أكفار هم؟ قال: (من الكفر فروا) ، وقوله: (إن لكم علينا أن لا نمنعكم مساجد الله، وأن لا نقاتلكم حتى تبدؤونا بالقتال، وأن لا نمنعكم حقا هو لكم في مال الله) ; ومع هذا هم مصرحون بتكفيره، مقاتلون له، مستحلون لدمه؛ فكيف بالفرح وقد ذكر في الزواجر: أن الفرح بمثل هذه المعاصي من المحرمات، ولم يقل إنه كفر. ثم اعلم: أن الفتنة في هذا الزمان، بالبادية والبغاة، وبالعساكر الطغاة، فتنة عمياء صماء، عم شرها وطار شررها، ووصل لهيبها إلى العذارى في خدورهن، والعواتق وسط بيوتهن، ولم يتخلص منها إلا من سبقت له من الله الحسنى، وكان له نصيب وافر من نور الوحي، والنور الأول يوم خلق الله الخلق في ظلمة، وألقى عليهم من نوره; وما أعز من يعرف هذا الصنف؛ بل ما أعز من لا يعاديهم ويرميهم بالعظائم! وأكثر الناس، كما وصفهم أمير المؤمنين علي الجزء: 10 ¦ الصفحة: 425 رضي الله عنه، فيما رواه عنه كميل بن زياد، لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجؤوا إلى ركن وثيق؛ ومجرد الانتساب إلى الإيمان والإخوان، والتزيي بزي أهل العلم والإيمان، مع فقد الحقيقة لا يجدي. والناس مشتبهون في إيرادهم وتفاضل الأقوام في الإصدار [التحاكم إلى الأعراف والعادات] وسئل أيضا، الشيخ: عبد اللطيف بن عبد الرحمن، عما يحكم به أهل السوالف من البوادي وغيرهم من عادات الآباء والأجداد، هل يطلق عليهم بذلك الكفر بعد التعريف ... إلخ؟ فأجاب: من تحاكم إلى غير كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم بعد التعريف، فهو كافر، قال الله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} 1، وقال تعالى: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ} 2 الآية، وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ} 3 الآية، وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} 4 الآية؛ والآيات في هذا المعنى كثيرة. [من يقول في الرياح: هذه هبوب الثريا] وسئل: عمن إذا أكلته يده، أو شهق، أنه يأكل كذا   1 سورة المائدة آية: 44. 2 سورة آل عمران آية: 83. 3 سورة النساء آية: 60. 4 سورة النحل آية: 36. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 426 أو كذا، أو إذا أكله عقب قدمه، قال إنه يحكى فيه، هل هذا شرك أو لا؟ فأجاب: الاستدلال بأكل اليد، والشهيق، وأكلة العقب، على ما ذكر: جهل وضلال، من أوضاع الجهلة الضالين؛ وبعض الرافضة، يزعم أن اختلاج الأعضاء يدل على الحوادث، وينسبونه إلى جعفر الباقر، وقد ذكر أهل العلم: أنه كذب على جعفر، وأنه من أوضاع الرافضة المشركين، الغالين في أهل البيت، سلام الله على أهل بيت رسوله. وأما مسألة من يقول في الرياح: هذه هبوب الثريا، هذه هبوب التويبع، هذه هبوب الجوزاء، فهذا لا يجوز؛ شدد في المنع منه مالك وغيره، ولا يجوز إضافة هذه الأشياء إلى النجوم، قال قتادة: (خلق الله هذه النجوم لثلاث: زينة للسماء، ورجوما للشياطين، وعلامات يهتدى بها) فمن تأول فيها غير ذلك، فقد أخطأ وأضاع نصيبه، وتكلف ما لا علم له به، والله أعلم. [الاستهزاء بالدين] وسئل الشيخ حمد بن عتيق، عن معنى قول الفقهاء: ومن قال: يا فقيِّه، بالتصغير، يكفر; ما المعني بالاستهزاء؟ هل هو بالشخص نفسه؟ أو بما معه من العلم؟ وهل هذا كفر ينقل من الملة؟ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 427 فأجاب: كان عليك أن تذكر من قال ذلك من الفقهاء؛ واعلم أن العلماء قد أجمعوا على أن من استهزأ بالله أو رسوله، أو كتابه، أو دينه، فهو كافر; وكذا إذا أتى بقول، أو فعل صريح في الاستهزاء، واستدلوا بقول الله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} 1، وسبب النُزول مشهور. وأما قول القائل: "فقيِّه" أو "عُوَيْلِم" أو "مطَيْوِيع" ونحو ذلك، فإذا كان قصد القائل الهزل، أو الاستهزاء بالفقه، أو العلم، أو الطاعة، فهذا كفر أيضا، ينقل عن الملة، فيستتاب، فإن تاب وإلا قتل مرتدا. وأما قولك: هل هو استهزاء بالشخص نفسه؟ أو بما معه من العلم؟ فإن كنت تسأل عن مراد القائل، فعجب منك; وإن كان السؤال عن علة الحكم، فإنا نقول: ظاهر هذا القول أن مراد قائله الفقه، أو العلم، أو الطاعة، فيحكم عليه به، ولأنه يمكنه الاستهزاء بالشخص، بدون هذه العبارات، فلما عدل إليها عما هو دونها، أعطيناه حكمها؛ لكن الله يقبل التوبة عن عباده، ويعفو عن السيئات.   1 سورة آية: 65-66. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 428 [من لم يكفر الذين يحكمون بغير ما أنزل الله] وسئل الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف، عمن لم يكفر الدولة، ومن جرهم على المسلمين، واختار ولايتهم وأنه يلزمهم الجهاد معه; والآخر لا يرى ذلك كله، بل الدولة ومن جرهم بغاة، ولا يحل منهم إلا ما يحل من البغاة، وأن ما يغنم من الأعراب حرام؟ فأجاب: من لم يعرف كفر الدولة، ولم يفرق بينهم وبين البغاة من المسلمين، لم يعرف معنى لا إله إلا الله،؛ فإن اعتقد مع ذلك: أن الدولة مسلمون، فهو أشد وأعظم، وهذا هو الشك في كفر من كفر بالله، وأشرك به; ومن جرهم وأعانهم على المسلمين، بأي إعانة، فهي ردة صريحة. ومن لم ير الجهاد مع أئمة المسلمين، سواء كانوا أبرارا أو فجارا، فهو لم يعرف العقائد الإسلامية، إذا استقام الجهاد مع ذوي الإسلام، فلا يبطله عدل عادل ولا جور جائر؛ والمتكلم في هذه المباحث، إما جاهل فيجب تعليمه، أو خبيث اعتقاد، فتجب منافرته ومباعدته. [الكلام على الجهمية] وسئل أيضا، الشيخ عبد الله، والشيخ إبراهيم ابنا الشيخ عبد اللطيف، والشيخ سليمان بن سحمان رحمهم الله تعالى، عن الجهمية؟ فأجابوا: أما الجهمية، فالمشهور من مذهب أحمد، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 429 وعامة علماء السنة رحمهم الله، تكفيرهم، لأن قولهم صريح في مناقضة ما جاء به الرسل، وأنزلت به الكتب، وحقيقة قولهم: جحود الصانع، وجحود ما أخبر به عن نفسه، بل وجميع الرسل; ولهذا قال الإمام: عبد الله بن المبارك: (إنا لنحكي كلام اليهود والنصارى، ولا نستطيع أن نحكي كلام الجهمية) . وبهذا كفروا من يقول: القرآن مخلوق، وإن الله لا يرى في الآخرة، وإن الله ليس على العرش، وإنه ليس له علم ولا قدرة، ولا رحمة، ولا غضب، ولا غير ذلك من صفاته; وهم عند كثير من السلف مثل ابن المبارك، ويوسف ابن أسباط، وطائفة من أصحاب أحمد، ليسوا من الثلاث والسبعين فرقة. وقد بينا لك فيما مضى: أن الإمام أحمد، وأمثاله من أهل العلم والحديث، لا يختلفون في تكفير الجهمية، وأنهم ضلال زنادقة مرتدون; وقد ذكر من صنف في السنة: تكفيرهم عن عامة أهل العلم والأثر، كاللالكائي، وعبد الله بن الإمام أحمد في السنة له، وابن أبي ملكية، والخلال في السنة له، وإمام الأئمة ابن خزيمة، قد قرر كفرهم ونقله عن أساطين الأئمة. وقد حكى كفرهم شمس الدين ابن القيم في كافيته، عن خمسمائة من أئمة المسلمين وعلمائهم، فكيف إذا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 430 انضاف إلى ذلك كونهم من عباد القبور، وعلى طريقتهم؟ فلا إشكال - والحالة هذه - في كفرهم وضلالهم. وأما إباضية أهل هذا الزمان، فحقيقة مذهبهم وطريقتهم: جهمية، قبوريون، وإنما ينتسبون إلى الإباضية انتسابا، فلا يشك في كفرهم وضلالهم، إلا من غلب عليه الهوى، وأعمى الله عين بصيرته؛ فمن تولاهم فهو عاص ظالم، يجب هجره ومباعدته، والتحذير منه، حتى يعلن بالتوبة، كما أعلن بالظلم والمعصية. وما ذكر في السؤال: عمن لا يرى كفر الجهمية، وإباضية أهل هذا الزمان، ويزعم: أن جهاد أهل الإسلام لهم سابقا غلو، وهو لأجل المال كاللصوص، فهذا لم يعرف حقيقة الإسلام، ولا شم رائحته، وإن انتسب إليه وزعم أنه من أهله. {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً} 1، {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} 2. وأما ما ذكرته: من استدلال المخالف، بقوله صلى الله عليه وسلم: "من صلى صلاتنا " 3 وأشباه هذه الأحاديث، فهذا استدلال جاهل بنصوص الكتاب والسنة، لا يدري، ولا يدري أنه لا يدري، فإن هذا فرضه ومحله في أهل الأهواء، من هذه الأمة؛ ومن لا تخرجه بدعته من الإسلام، كالخوارج ونحوهم، فهؤلاء لا يكفرون،   1 سورة المائدة آية: 41. 2 سورة النور آية: 40. 3 البخاري: الصلاة (391) , والترمذي: الإيمان (2608) , والنسائي: تحريم الدم (3966 ,3967 ,3968) والإيمان وشرائعه (4997 ,5003) , وأبو داود: الجهاد (2641) , وأحمد (3/199 ,3/224) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 431 لأن أصل الإيمان الثابت، لا يحكم بزواله إلا بحصول مناف لحقيقته، مناقض لأصله; والعمدة: استصحاب الأصل وجودا وعدما، لكنهم يبدعون ويضللون، ويجب هجرهم وتضليلهم، والتحذير عن مجالستهم ومجامعتهم، كما هو طريقة السلف في هذا الصنف. وأما الجهمية وعباد القبور، فلا يستدل بمثل هذه النصوص على عدم تكفيرهم، إلا من لم يعرف حقيقة الإسلام، وما بعث الله به الرسل الكرام، لأن حقيقة ما جاؤوا به ودعوا إليه، وجوب عبادة الله وحده لا شريك له، وإخلاص العمل له، وأن لا يشرك في واجب حقه أحد من خلقه، وأن يوصف بما وصف به نفسه، من صفات الكمال ونعوت الجلال. فمن خالف ما جاؤوا به، ونفاه وأبطله، فهو كافر ضال، وإن قال لا إله إلا الله، وزعم أنه مسلم، لأن ما قام به من الشرك، يناقض ما تكلم به من كلمة التوحيد؛ فلا ينفعه التلفظ بقول لا إله إلا الله، لأنه تكلم بما لم يعمل به، ولم يعتقد ما دل عليه. وأما قوله: نقول بأن القول كفر، ولا نحكم بكفر القائل; فإطلاق هذا جهل صرف، لأن هذه العبارة لا تنطبق إلا على المعين، ومسألة تكفير المعين مسألة معروفة، إذا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 432 قال قولا يكون القول به كفرا، فيقال: من قال بهذا القول فهو كافر، لكن الشخص المعين، إذا قال ذلك لا يحكم بكفره، حتى تقوم عليه الحجة التي يكفر تاركها. وهذا في المسائل الخفية، التي قد يخفى دليلها على بعض الناس، كما في مسائل القدر والإرجاء ونحو ذلك مما قاله أهل الأهواء، فإن بعض أقوالهم تتضمن أمورا كفرية، من رد أدلة الكتاب والسنة المتواترة، فيكون القول المتضمن لرد بعض النصوص كفرا، ولا يحكم على قائله بالكفر، لاحتمال وجود مانع كالجهل، وعدم العلم بنقض النص، أو بدلالته، فإن الشرائع لا تلزم إلا بعد بلوغها؛ ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية، قدس الله روحه في كثير من كتبه. وذكر أيضا تكفير أناس من أعيان المتكلمين، بعد أن قرر هذه المسألة، قال: وهذا إذا كان في المسائل الخفية، فقد يقال بعدم التكفير; وأما ما يقع منهم في المسائل الظاهرة الجلية، أو ما يعلم من الدين بالضرورة، فهذا لا يتوقف في كفر قائله، ولا تجعل هذه الكلمة عكازة، تدفع بها في نحر من كفر البلدة الممتنعة عن توحيد العبادة والصفات، بعد بلوغ الحجة ووضوح المحجة. وأما قوله: وهؤلاء ما فهموا الحجة; فهذا مما يدل على جهله، وأنه لم يفرق بين فهم الحجة، وبلوغ الحجة، ففهمها نوع وبلوغها نوع آخر؛ فقد تقوم الحجة على من لم الجزء: 10 ¦ الصفحة: 433 يفهمها; وقد قال شيخنا، الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله - في كلام له -: فإن الذي لم تقم عليه الحجة، هو الذي حديث عهد بالإسلام، أو نشأ ببادية بعيدة، أو يكون ذلك في مسائل خفية، مثل مسألة الصرف والعطف، فلا يكفر حتى يعرف. وأما أصول الدين التي وضحها الله، وأحكمها في كتابه، فإن حجة الله هي القرآن، فمن بلغه فقد بلغته الحجة; ولكن أصل الإشكال: أنكم لم تفرقوا بين قيام الحجة، وفهم الحجة؛ فإن الكفار والمنافقين لم يفهموا حجة الله مع قيامها عليهم، كما قال تعالى: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} 1، وقال تعالى: {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً} 2. فقيام الحجة وبلوغها نوع، وفهمها نوع آخر، وكفرهم الله ببلوغها إياهم، مع كونهم لم يفهموها، إلى آخر كلامه رحمه الله. وأما قوله - عن الشيخ محمد، رحمه الله -: إنه لا يكفر من كان على قبة الكواز، ونحوه، ولا يكفر الوثني حتى يدعوه، وتبلغه الحجة، فيقال: نعم; فإن الشيخ محمدا رحمه الله، لم يكفر الناس ابتداء، إلا بعد قيام الحجة والدعوة، لأنهم إذ ذاك في زمن فترة، وعدم علم   1 سورة الفرقان آية: 44. 2 سورة الأنعام آية: 25. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 434 بآثار الرسالة، ولذلك قال: لجهلهم وعدم من ينبههم، فأما إذا قامت الحجة، فلا مانع من تكفيرهم وإن لم يفهموها. وفي هذه الأزمان، خصوصا في جهتكم، قد قامت الحجة على من هناك، واتضحت لهم المحجة، ولم يزل في تلك البلاد من يدعو إلى توحيد الله، ويقرره، ويناضل عنه، ويقرر مذهب السلف، وما دلت عليه النصوص من الصفات العلية، والأسماء القدسية، ويرد ما يشبه به بعض أتباع الجهمية، ومن على طريقتهم، حتى صار الأمر في هذه المسائل،؛ في تلك البلاد، أظهر منه في غيرها، ولا تخفى النصوص والأدلة، حتى على العوام؛ فلا إشكال - والحالة هذه - في قيام الحجة وبلوغها، على من في جهتكم من المبتدعة، والزنادقة الضلال. ولا يجادل في هذه المسألة، ويشبه بها، إلا من غلب جانب الهوى، ومال إلى المطامع الدنيوية، واشترى بآيات الله ثمنا قليلا، والله أعلم. وأما قوله: وتجوز حماية الكفار، أو نائبهم، وأخذ علم منهم، لسلامة المال، والسفينة، وأن هذا بمنْزلة الخفير، الذي هو الرفيق، فالجواب، أن يقال: هذا قياس باطل، فإن أخذ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 435 الخفير لسلامة المال، جائز إذا ألجأ الحال إليه، والخفير مسلم ظالم، أو فاجر فاسق؛ وأما الدخول تحت حماية الكفار، فهي ردة عن الإسلام؛ وأخذ العلم منهم لا يجوز، إذا كانوا لم يدخلوا تحت حمايتهم، وولايتهم، وليس بمنْزلة أخذ الخفير لحماية المال، فإن هذا علم وعلامة على أنهم منقادون لأمرهم، داخلون في حمايتهم، وذلك موافقة لهم في الظاهر. وأجابوا أيضا: لا تصح إمامة من لا يكفر الجهمية، والقبوريين، أو يشك في تكفيرهم؛ وهذه المسألة من أوضح الواضحات عند طلبة العلم وأهل الأثر، وذلك أن الإمام أحمد وأمثاله من أهل العلم والحديث، لم يختلفوا في تكفير الجهمية، وأنهم ضلال زنادقة. وقد ذكر من صنف في السنة تكفيرهم، عن عامة أهل العلم والأثر؛ وعد اللالكائي منهم عددا يتعذر ذكرهم في هذه الفتوى، وكذا عبد الله بن الإمام أحمد، في كتاب السنة، والخلال في كتاب السنة، وإمام الأئمة ابن خزيمة قرر كفرهم، ونقله عن أساطين الأئمة. وقد حكى كفرهم ابن القيم في كافيته، عن خمسمائة من أئمة المسلمين وعلمائهم؛ وقد يفرق بين من قامت عليه الحجة، التي يكفر تاركها، وبين من لا شعور له بذلك، وهذا القول يميل إليه شيخ الإسلام، في المسائل التي قد الجزء: 10 ¦ الصفحة: 436 يخفى دليلها على بعض الناس. وعلى هذا القول: فالجهمية في هذه الأزمنة، قد بلغتهم الحجة، وظهر الدليل، وعرفوا ما عليه أهل السنة والجماعة، واشتهرت التفاسير والأحاديث النبوية، وظهرت ظهورا ليس بعده إلا المكابرة والعناد، وهذه هي حقيقة الكفر والإلحاد، كيف: لا؟ وقولهم يقتضي من تعطيل الذات والصفات، والكفر بما اتفقت عليه الرسالة والنبوات، وشهدت به الفطر السليمات، مما لا يبقى معه حقيقة للربوبية والإلهية، ولا وجود للذات المقدسة، المتصفة بجميل الصفات، وهم إنما يعبدون عدما، لا حقيقة لوجوده، ويعتمدون على الخيالات والشبه، ما يعلم فساده بضرورة العقل، وبالضرورة من حقيقة دين الإسلام، عند من عرفه، وعرف ما جاءت به الرسل. ولبشر المريسي وأمثاله، من الشبه والكلام في نفي الصفات، ما هو من جنس هذا المذكور عند الجهمية المتأخرين، بل كلامه أخف إلحادا من بعض قول هؤلاء الضلال، ومع ذلك فأهل العلم متفقون على تكفيره؛ وكذلك القبوريون لا يشك في كفرهم، من شم رائحة الإيمان. وقد ذكر شيخ الإسلام، وتلميذه ابن القيم، في غير موضع: أن نفي التكفير بالمكفرات، قوليها وفعليها، فيما الجزء: 10 ¦ الصفحة: 437 يخفى دليله، ولم تقم الحجة على فاعله، وأن النفي يراد به نفي تكفير الفاعل وعقابه، قبل قيام الحجة عليه، وأن نفي التكفير مخصوص بمسائل النِّزاع بين الأئمة. دعاء الصالحين، والاستغاثة بهم، وقصدهم في الملمات والشدائد، فهذا لا ينازع مسلم في تحريمه، والحكم بأنه من الشرك الأكبر؛ فليس في تكفيرهم، وتكفير الجهمية قولان. وأما الإباضية في هذه الأزمنة، فليسوا كفرقة من أسلافهم، والذي يبلغنا أنهم على دين عباد القبور، وانتحلوا أمورا كفرية، لا يتسع ذكرها هنا؛ ومن كان بهذه المثابة فلا شك في كفره، فلا يقول بإسلامهم إلا مصاب في عقله ودينه. [جواب الشيخ محمد بن عبد اللطيف فيما يفعل عند القبور] وقال الشيخ محمد بن الشيخ عبد اللطيف، وفقه الله تعالى 1: بسم الله الرحمن الر حيم الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله، إله الأولين   1 قدمت هذه الرسالة في مكانها المناسب المشار إليه في الطبعة الأولى صفحة 481/ج/8. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 438 والآخرين، وقيوم السماوات والأرضين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، خاتم النبيين، وإمام المتقين، وقائد الغر المحجلين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا. أما بعد: فقد رفع إلينا ونحن بمكة المشرفة، في المحرم سنة 1358 هـ، أسئلة من رجل من أهل حضرموت، يطلب الجواب عنها، فرأيت الجواب متعينا، فقلت مستعينا بالله معتمدا عليه: المسألة الأولى: وهي قوله: ما قولكم في مواسم وأعياد تقام في بلادنا الحضرمية، كأعياد الجاهلية الأولى، على بعض الأضرحة في مختلف الأقطار، لمن يدعون لهم الولاية، ويفدون من كل فج عميق، رجالا وركبانا، وتضرب إليها أكباد الإبل، وتقام عندها الحضرات، والموالد والاحتفالات العظيمة، حول تلك القباب الهائعة، والتوابيت الكبيرة، فمن مقبل وملتثم وباك، ومتمسح بالأركان، وآخذ من ذياك التراب، يذره على رأسه للتبرك، والإكثار من الخير، وتشاع فيها الفواحش، والمنكرات ... إلى آخر السؤال؟ الجواب: وبالله التوفيق: اعلم أن هذه الأفعال هي من دين الجاهلية التي بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بإنكارها وإزالتها، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 439 ومحو آثارها، لأنها من الشرك الأكبر، الذي دلت الآيات المحكمات على تحريمه؛ وهذه الأعياد تشبه أعياد الجاهلية، فمن اعتقد جوازه وحله، وأنه عبادة ودين، فهو من أكفر خلق الله وأضلهم، ومن شك في كفرهم بعد قيام الحجة عليهم فهو كافر. والآيات والأحاديث الدالة على منع ذلك، أكثر من أن تحصر، قال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} 1، وقال: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} 2 الآية. وقال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} 3، وقوله تعالى: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ} 4. وقوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} 5 الآية، وقوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ   1 سورة يونس آية: 18. 2 سورة الزمر آية: 3. 3 سورة آية: 5-6. 4 سورة يونس آية: 106. 5 سورة آية: 56-57. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 440 مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} 1 الآية، وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} 2، وقوله تعالى: {قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ} 3 الآية، وقوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} 4، وقوله تعالى: {قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} 5، وقال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} 6. فدلت هذه الآيات على أن الدعاء عبادة، فمن صرف شيئا من هذه العبادة لغير الله، سواء كان ملكا، أو نبيا، أو وليا، أو جنيا، أو إنسيا، أو حجرا، أو شجرا،   1 سورة آية: 22-23. 2 سورة آية: 13-14. 3 سورة الزمر آية: 38. 4 سورة التوبة آية: 31. 5 سورة المائدة آية: 76. 6 سورة غافر آية: 60. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 441 فهو مشرك كافر. وقال تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى?وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} 1 الآية؛ فهذه الأشجار والأحجار، كانت تعظمها أهل الجاهلية، وينحرون لها، ويعتقدون أنها تقبل النذر، أي: تقبل العبادة. ولما " خرج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة، عام الفتح، قاصدا حنينا، مر بشجرة يقال لها "ذات أنواط"، فقالوا: يا رسول الله: اجعل لنا ذات أنواط، كما لهم ذات أنواط، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الله أكبر! إنها السنن، قلتم والذي نفسي بيده، كما قالت بنو إسرائيل لموسى: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} . لتركبن سنن من كان قبلكم) 2") أخرجه الترمذي، عن أبي واقد الليثي. فشبه المقالة بالمقالة، لأن قولهم اجعل لنا ذات أنواط، كما لهم ذات أنواط، أي: اجعل لنا إلها، كما لهم آلهة; فهذه الأضرحة، وهذه الأماكن، هي من مواسم الشرك؛ فالنذر لها، وتقبيلها، واستلامها، هو الشرك الأكبر، الذي نزلت الكتب، وأرسلت الرسل بتحريمه، وقتال من دان به، واستحلال دمه وماله. المسألة الثانية: فيمن خصص بعض المواضع، كبعض   1 سورة آية: 19-20-. 2 الترمذي: الفتن (2180) , وأحمد (5/218) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 442 الأحجار التي يعتقدون فيها، أن من وقف بها نهار تاسع ذي الحجة، كأنما وقف بعرفة، وبذلك يسقط عنه فرض الحج، فهل يكفر معتقد ذلك، أم لا يكفر إلا بعد التعريف، والإصرار على ذلك؟ الجواب: إن هذه المسألة كالتي قبلها، لأن من خصص بعض المواضع بعبادة، أو اعتقد أن من وقف عندها سقط عنه الحج، كفره لا يستريب فيه من شم رائحة الإسلام؛ ومن شك في كفره، فلا بد من إقامة الحجة عليه، وبيان أن هذا كفر وشرك، وأن اتخاذ هذه الأحجار مضاهاة لشعائر الله، التي جعل الله الوقوف بها عبادة لله، فإذا أقيمت الحجة عليه، وأصر فلا شك في كفره. المسألة الثالثة: فيمن يأتي قبر نبي الله هود عليه السلام، في كل حول للزيارة والتبرك به، والاغتسال في موضع تجتمع فيه المياه هنالك، المنحدرة من رؤوس الشعاب، وبطون الأودية، ويعتقدون أن الذي يتمكن من الغسل فيه، يكون مغفورا له من جميع الذنوب. وهنالك بئر يذهبون إليها، ويقولون بزعمهم إنها "البئر المعطلة" التي ذكرت في سورة الحج، وينادي أكبرهم، فيقول: السلام عليك يا نبي الله آدم، ويعدد الأنبياء عليهم السلام إلى آخرهم، والذين في معيته يؤمّنون على دعائه، ويعتقدون أن أرواح الأنبياء، موجودة في هذه الجزء: 10 ¦ الصفحة: 443 البئر؟ الجواب: إنه لا يعلم على وجه الأرض قبر معروف، من قبور الأنبياء، لا هود ولا غيره، ومن زعم ذلك فهو مفتر ضال، ولا يعرف إلا قبر محمد صلوات الله وسلامه عليه، وهذه المغارات، والقبور التي تنسب إلى الأنبياء، كلها كذب وافتراء، والماء الذي يزعمون حول قبر هود، وأن من اغتسل منه فهو مغفور له، من أعظم الكذب والزور الذي يروجون به على خفافيش البصائر. وأما "البئر المعطلة" فالله سبحانه أخبر أنها هي والقصر المشيد آثار من مضى، ذكرها الله للاعتبار، وأن الله أفناهم، وأبقى آثارهم عبرة؛ وأما معنى الآية، فقال البغوي رحمه الله في تفسيره: قوله تعالى: {وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ} 1 يعني: من بئر معطلة متروكة، مخلاة عن أهلها، وقوله: {وَقَصْرٍ مَشِيدٍ} 2: قال قتادة والضحاك ومقاتل: رفيع طويل، من قولهم: شاد بناءه إذا رفعه; وقال سعيد بن جبير ومجاهد وعطاء: مجصص من الشيد، وهو الجص. وقيل: إن البئر المعطلة والقصر المشيد باليمن؛ أما القصر فعلى قمة جبل، والبئر في سفحه، ولكل واحد منهما قوم كانوا في نعمة، فكفروا فأهلكهم الله، فبقي البئر والقصر خاليين.   1 سورة الحج آية: 45. 2 سورة الحج آية: 45. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 444 وروى أبو روق عن الضحاك: أن هذه البئر كانت بحضرموت، في بلد يقال لها "حاصوراء"، وذلك أن أربعة آلاف نفر ممن آمن بصالح نجوا من العذاب، أتوا حضرموت ومعهم صالح، فلما حضروه مات صالح، فسمي حضرموت، لأن صالحا لما حضره مات. فبنوا حاصوراء، وقعدوا على هذه، وأمَّرُوا عليهم رجلا، فأقاموا دهرا، وتناسلوا حتى كثروا. ثم إنهم عبدوا الأصنام وكفروا، فأرسل الله إليهم نبيا، يقال له: حنظلة بن صفوان، وكان حمالا فيهم، فقتلوه في السوق، فأهلكهم الله، وعطلت بئرهم، وخربت قصورهم، انتهى. وقال الحافظ ابن كثير على قوله: {وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ} :أي: لا يستقي فيها، ولا يردها أحد، بعد كثرة وارديها والازدحام عليها. {وَقَصْرٍ مَشِيدٍ} قال عكرمة يعني: مبيضا بالجص، وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه ومجاهد وعطاء، وسعيد بن جبير، وأبي المليح والضحاك نحو ذلك. وقال آخرون: هو المنيف المرتفع; وقال آخرون: المشيد المنيع الحصين، وكل هذه الأقوال متقاربة، ولا منافاة بينها، فإنه لم يحم أهله شدة بنائه ولا ارتفاعه، ولا إحكامه ولا حصانته، عن حلول بأس الله بهم، كما قال الجزء: 10 ¦ الصفحة: 445 تعالى: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} 1. انتهى كلامه رحمه الله. وأما دعوى: إن أرواح الأنبياء في هذا البئر، فمن الخرافات والكذب، التي تنافي ما جاءت به الشريعة المطهرة. ومن المعلوم بالضرورة: أن أرواح الأنبياء والمرسلين في جنات عدن في الرفيق الأعلى، منعمة من النعيم المقيم; وأما أرواح الكفار، ففي أسفل سافلين، في الأرض السابعة; وأجساد الأنبياء في الأرض لا تبلى، ولا يأكلها التراب، وأرواحهم كما تقدم في الجنة. وأما وقوف أحدهم على البئر، ينادي يا آدم حتى يعدد الأنبياء والرسل، فهذا من الكذب البحت، فإنما تخاطبهم في القليب الشياطين، تضلهم عن سواء السبيل، ويروّجون بذلك على خفافيش البصائر، الذين خليت قلوبهم من الإيمان، ولا شعور لهم بما جاءت به الرسل، وأنزلت به الكتب، بل هم في جاهلية جهلاء، وضلالة عمياء. المسألة الرابعة: فيمن خصص بعض ماله، إذا وافته المنية، صدقة جارية، باسم مولد النبي صلى الله عليه وسلم تفعل في رمضان، كقراءة القرآن ختمة، أو ختمتين فأكثر، أو سبعين ألفا من قول لا إله إلا الله، وبوليمة يصنع فيها اللحم،   1 سورة النساء آية: 78. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 446 وأنواع الأطعمة، في تلك الليلة المعلومة، من رمضان، تقدم للفقراء والمساكين، وأرحامه وإن كانوا موسرين؛ وما يقصد من ذلك، إلا الأجر والثواب من الله، فهل لهذا وجه من الشرع؟ أو هو من البدع التي ينبغي هجرها والفرار منها؟ الجواب: إن هذه الأفعال من البدع المنكرات، والأعمال السيئات؛ وصرف المال لأجل مولد النبي صلى الله عليه وسلم بدعة محرمة، وفاعلها مأزور غير مأجور. فيجب الإنكار على من فعل ذلك؛ وهذا الطعام محرم، لأنه قصد به غير وجه الله، فلا يباح الأكل منه، بل يجب هجر من فعل ذلك، واعتقد جوازه. ثم قال: المسألة السادسة: فيما ينذره الناس، لإنارات القبور، والمشاهد من الزيت، وفيمن مرض، أو أصابه شيء من دنياه، فيقول إذا شفي مريضي، وحصل مقصودي، عليّ زيارة لقبر الشيخ الفلاني، أو أن أذبح له، أو أسوي خبزا أو قهوة، أو تمرا، ثم يعمل ذلك، ويجتمع على ذلك أناس، يأكلون الخبز والتمر، واللحم، والقهوة، وغير ذلك عند القبر المذكور، فهل يجوز الأكل من ذلك؟ أم هو رجس أهلّ به لغير الله عز وجل؟ الجواب: إن هذا النذر لغير الله شرك، لأنه عبادة، وصرفها لغير الله شرك، وهذه الذبيحة مما أهل به لغير الله، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 447 والأكل منها ومن الطعام حرام، فلا يباح الأكل منه; والزيارة للقبور إذا كانت بشد رحل وسفر، فهي زيارة بدعية محرمة; وقوله: إذا شفي مريضي أو حصل مقصودي، فعليّ زيارة قبر الشيخ الفلاني، فهذا النذر محرم، ومن البدع المنكرة. المسألة السابعة: فيما هو مشاع في بلادنا الحضرمية، عندما توضع القواعد لبناء الديار، وهو المسمى عندنا "الساس" فيأتون بالجلبة، ويذبحونها على أول لبنة توضع على الساس، ويقولون هكذا: اذبحوا للساس، ويقصدون بذلك الوقاية من الأعين الخبيثة السمية، ومن الجن. وكذلك إذا حفروا بئرا، أو نبع ماؤها، قالوا: اذبحوا للبئر، أتى أحدهم بجلبة، وذبحها على شفير البئر، لكي يمزج الدماء بماء البئر، فهل هذا يدخل فيما أهل به لغير الله؟ وهل يحل الأكل من الجلبة المذكورة، أم لا؟ الجواب: إن هذا الذبح عند تأسيس البناء، وعند حفر البئر وغيره، مما أهلّ به لغير الله، وإنه حرام؛ والذابح إذا قصد بذبحه دفع الأعين، أو دفع شر الجن، فلا شك أن هذا كفر، والأكل مما ذبح لهذه الأشياء حرام، لا يحل، لأنها من الذبح الذي أهل لغير الله به؛ والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 448 [جواب الشيخ محمد بن عبد اللطيف عمن اتصف بالكفر من بادية نجد] وسئل أيضا: الشيخ محمد بن الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن، عن حكم من اتصف بالكفر اليوم وقام به، من بادية نجد، هل هو كفر أصلي، أم طارئ؟ وهل عمهم الإسلام، في وقت دعوة شيخ الإسلام، محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى أم لا؟ فأجاب: اعلم - وفقني الله وإياك للصواب - أن أهل نجد باديتهم وحاضرتهم، قبل دعوة شيخ الإسلام، وعلم الهداة الأعلام، مجدد ما اندرس من معالم الإسلام، الشيخ محمد بن عبد الوهاب، قدس الله روحه، ونور ضريحه، في جاهلية جهلاء، وضلالة عمياء؛ قد اشتدت غربة الإسلام فيما بينهم، واستحكمت، وعم الشر وطم، وفشا الشرك، وشاع الكفر وذاع، في القرى والأمصار، والبادية والحضار، وصارت عبادة الطواغيت والأوثان، دينا يدينون به، ويعتقدون في الأولياء، أنهم ينفعون ويضرون، وأنهم يعلمون الغيب، مع تضييع الصلاة، وترك الزكاة، وارتكاب المحرمات، ولم يوجد من ينكر ذلك؛ نشأ عليه الصغير وهرم عليه الكبير. فشرح الله صدر إمام الدعوة الإسلامية، الشيخ محمد رحمه الله، فدعا الخلق إلى دين الله، وعرفهم حقيقة العبادة التي خلقوا لها، وأمروا بها، ودعت إليها الرسل، فشمروا له عن ساق العداوة، فعارضوه، وصادموه، العلماء منهم الجزء: 10 ¦ الصفحة: 449 والأمراء، وسعوا بالتهييج عليه عند القريب والبعيد، ولم يبقوا ممكنا. فعند ذلك ثبته الله، وصبر على أعباء الدعوة ومكابدة من عارضه، ولم يعبأ بمن خالفه، لأنه قام مقام نبوة، لأن حقيقة ما دعا إليه هي دعوة الرسل، من أولهم إلى آخرهم. فأعانه على هذه الدعوة، والقيام بها، وتحمل عداوة القريب والبعيد، وآواه ونصره الإمام محمد بن سعود، وأولاده، وإخوانه، فعاضدوه رحمهم الله، فثبتهم الله وقوى عزمهم. وبادأهم من بادأهم بالعداوة والقتال، وألبوا عليهم، فما ثنى عزمهم ولا تضعضعوا، فأظهرهم الله، وخذل جميع من ناوأهم، فدخل كافة أهل نجد والجزيرة، من البادية والحاضرة، تحت ولايتهم، والتزموا ما دعوا إليه، ودانوا به. ولم يوجد في نجد من البادية والحاضرة، من لم يدخل في هذا الدين، ولم يلتزم شرائعه; بل شملتهم الدعوة الإسلامية، والتزموا أحكام الإسلام، وواجباته. وأقاموا على ذلك مدة سنين، في أمن وعافية، وعز وتمكين، وبنودهم تخفق شرقا وغربا، جنوبا وشمالا، حتى دهمهم ما دهمهم، من الحوادث العظام، التي أزعجت القلوب، وزلزلتهم من الأوطان، عقوبة قدرية، سببها ارتكاب الذنوب والمعاصي، لأن من عصى الله وهو الجزء: 10 ¦ الصفحة: 450 يعرفه، سلط الله عليه من لا يعرفه. والفتنة التي حلت بهم، هي فتنة العساكر التركية، والمصرية، فانتثر نظام الإسلام، وشتت أنصاره وأعوانه، وارتحلت الدولة الإسلامية; وأعلن أهل النفاق بنفاقهم، فرجع من رجع إلى دين آبائه، وإلى ما كان عليه سابقا من الشرك والكفر; وثبت من ثبت على الإسلام; وقام بهم من أمور الجاهلية أشياء، لا تخرج من ثبت منهم عن الإسلام. إذا تبين هذا: فاعلم أن الكفر الموجود في أعراب نجد، الذين قد دخلوا في الإسلام سابقا، إنما هو كفر طارئ، لا كفر أصلي، فيعامل من وجد منه مكفر بما يعامل به أهل الردة، ولا يحكم عليهم بعموم الكفر، لأنه يوجد فيهم من هو ملتزم لشرائع الإسلام وواجباته. وأما من ظاهره الإسلام منهم، ولكن ربما قد يوجد فيهم من الكفر العملي، الذي لا يخرج من الملة، وفيهم شيء من أمور الجاهلية، ومن أنواع المعاصي، صغائر كانت أو كبائر، فلا يعاملون معاملة المرتدين; بل يعاملون بالنصح برفق ولين، ويبغضون على ما معهم من هذه الأوصاف. وليعلم: أن المؤمن تجب موالاته ومحبته، على ما معه من الإيمان، ويبغض ويعادى على ما معه من المعاصي، وهجره مشروع إن كان فيه مصلحة، وزجر الجزء: 10 ¦ الصفحة: 451 وردع، وإلا فيعامل بالتأليف وعدم التنفير، والترغيب في الخير برفق ولطف ولين، لأن الشريعة مبنية على جلب المصالح، ودفع المضار; والله ولي الهداية. [من يسب الدين ويفعل المكفرات] وسئل أيضا: عن حكم الذي باع بيته بعد ما نزل، ثم خرج إلى البادية، ومع ذلك يصدر منه مسبة للدين وأهل الدين ويفعل أشياء من المكفرات؟ فأجاب: إذا كان بهذه الصفة، فهو مرتد قد خرج من الإسلام، ولا ينفعه ما فعله أولا، لأن إقامته عند إخوانه، وسماع النصائح، والمواعظ، وسماع القرآن من أعظم قيام الحجة عليه، لأنه عرف ثم أنكر. وقد كان سابقا من جملة المسلمين، وإنما رغب عن السكنى، وفعل ما فعل من المسبة وغيرها، لخبث في قلبه، فهذا يعادى ولا يوالى، ويبغض ولا يحب، وهجره من الواجبات الشرعية، إلا إن حصل منه توبة صادقة، فالتوبة تهدم ما قبلها، ولا يحال بينه وبين التوبة، والتوبة معروضة، وبابها مفتوح لمن وفقه الله وهداه. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 452 [رسالة الشيخ سعد بن حمد في الذبح عند المريض] وقال الشيخ: سعد بن حمد بن عتيق، أعتقه الله من النار: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إله الأولين والآخرين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وخليله الصادق الأمين; أرسله رحمة للعالمين، وحجة على الخلق أجمعين، فأشاد منار الملة، ومهد قواعد الدين، اللهم صل على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه الهداة المهتدين، وسلم تسليما كثيرا. أما بعد: فقد سألني من تعينت إجابته، ولم تسعني مخالفته، عما يفعله كثير من الجهال، من أهل البوادي، ومن شابههم من ساكني البلدان، من ذبح كبش أو غيره، إذا مرض المريض، يزعمون أنهم قصدوا الصدقة، والتقرب إلى الله تعالى بتلك الذبيحة، وهل ذلك مما يجوز فعله للإنسان، ويثاب عليه؟ أو ينهى عنه، وينكر على من فعله؟ الجواب: لا ريب أن التقرب إلى الله بالنسك، من أفضل القربات، وأعظم الطاعات، ومن أشرف الحسنات، وأفضل النفقات التي يعظم ثوابها للمسلم، إذا حسن قصده في ذلك، وتجرد من الشوائب، والأسباب التي توجب الجزء: 10 ¦ الصفحة: 453 حبوط العمل، وعدم الانتفاع به، أو لحوقه بالمعاصي التي يعاقب عليها، كما سيأتي بيانه. قال الله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ} 1، وقال تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} 2. قال ابن كثير: يأمره تعالى أن يخبر المشركين الذين يعبدون غير الله، ويذبحون لغير اسمه، أنه مخالف لهم في ذلك؛ فإن صلاته ونسكه، على اسمه وحده لا شريك له؛ وهذا كقوله: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} أي: أخلص له صلاتك وذبحك، فإن المشركين كانوا يعبدون الأصنام ويذبحون لها. فأمره تعالى بمخالفتهم، والانحراف عما هم فيه، والإقبال بالقصد والنية والعزم، على الإخلاص لله تعالى، قال مجاهد: (النسك الذبح في الحج والعمرة) ؛ قال الثوري عن السدي، عن سعيد بن جبير (وَنُسُكِي) : ذبحي، وكذا قال الضحاك، انتهى; فما يتقرب به المسلم إلى الله تعالى، من الهدي والأضاحي، وغير ذلك من النسك المأمور به شرعا، كل ذلك من العبادات التي أمر الله بها عباده; فمن فعل من ذلك شيئا لغير الله، فهو مشرك. وقد كان المشركون يتقربون إلى معبوداتهم بأنواع من القرب، كالهدايا والنذور وغير ذلك، وهذا من الشرك الذي   1 سورة آية: 162-163. 2 سورة الكوثر آية: 2. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 454 حرمه الله، وأخبر أنه لا يغفره، كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} 1، وقال: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} 2،وقال: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} 3. وعن أبي بكرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قلنا: بلى يا رسول الله، قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين وكان متكئا فجلس، فقال: ألا وقول الزور، ألا وشهادة الزور. فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت " 4 وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الكبائر فقال:?"الشرك بالله، واليأس من روح الله، والأمن من مكر الله" وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "أكبر الكبائر: الإشراك بالله، والأمن من مكر الله، والقنوط من رحمة الله، واليأس من روح الله" رواه عبد الرزاق; وفي صحيح مسلم، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: حدثني رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربع كلمات: " لعن الله من ذبح لغير الله، لعن الله من لعن والديه، لعن الله من آوى محدثا، لعن الله من غير منار الأرض " 5. وعن طارق بن شهاب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "دخل الجنة رجل في ذباب، ودخل النار رجل في ذباب.   1 سورة النساء آية: 48. 2 سورة الزمر آية: 65. 3 سورة المائدة آية: 72. 4 البخاري: الأدب (5976) , ومسلم: الإيمان (87) , والترمذي: البر والصلة (1901) والشهادات (2301) وتفسير القرآن (3019) , وأحمد (5/36) . 5 أحمد (1/317) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 455 قالوا: وكيف ذلك يا رسول الله؟ قال: مر رجلان على قوم لهم صنم، لا يجوزه أحد حتى يقرب له شيئا، فقالوا لأحدهما: قرب; قال ليس عندي شيء أقرب; قالوا: قرب ولو ذبابا; فقرب ذبابا فخلوا سبيله، فدخل النار. وقالوا للآخر: قرب; فقال: ما كنت لأقرب لأحد شيئا دون الله، فضربوا عنقه فدخل الجنة " ومن الشرك المحرم: ما يقع في كثير من المدن، والبوادي والقرى، والأمصار، من كثير ممن ينتسب إلى الإسلام، ممن قل نصيبه من الدين، وخالف سبيل المؤمنين، وسلك طريق المغضوب عليهم والضالين، من الذبح للجن، واتخاذهم أولياء من دون الله، مضاهاة لإخوانهم من المشركين الأولين، الذين قال الله فيهم: {إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} 1، وقال: {بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} 2. وقد كان أولئك المشركون، يجعلون الجن شركاء لله في عبادته، فيذبحون لهم، وينذرون لهم، ويستعيذون بهم، ويفزعون إليهم عند النوائب; وكان منهم من يفعل ذلك خوفا من شرهم، وتخلصا من أذاهم; ومنهم من يفعل ذلك لقضاء بعض حاجاته، فإن من الناس من تخدمه الجن، فتخبره بأخبار من المغيبات، أو تأتيه بطعام أو   1 سورة الأعراف آية: 30. 2 سورة سبأ آية: 41. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 456 بشراب، أو نفقة أو تدله على مسروق، وربما تطير به في الهواء، ذكر ذلك شيخ الإسلام رحمه الله; قال: ومثله واقع كثيرا، أعرف منه وقائع كثيرة، انتهى. وإنما تفعل الجن ذلك بأوليائهم من الإنس، لطاعتهم إياهم فيما يهوونه، ويأمرونهم به من الشرك، وفعل الفواحش، وغير ذلك; وكل ذلك من الاستمتاع الذي ذكره الله في كتابه، في قوله: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْأِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْأِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} 1، قال بعض المفسرين على هذه الآية: فاستمتاع الإنسي بالجني، في قضاء حوائجه، وامتثال أوامره، وإخباره بشيء من المغيبات، واستمتاع الجني بالإنسي: تعظيمه إياه، واستعاذته به، وخضوعه له، انتهى. ولهذا أمر الله عباده بالاستعاذة به، قال تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} 2، {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} 3، وقال: {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ} 4. وفي صحيح مسلم عن خولة بنت حكيم قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من نزل منْزلا، فقال: أعوذ بكلمات الله التامات، من شر ما خلق، لم يضره شيء حتى يرحل من منْزله ذلك " 5.   1 سورة الأنعام آية: 128. 2 سورة الفلق آية: 1. 3 سورة الناس آية: 1. 4 سورة المؤمنون آية: 97-98. 5 مسلم: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2708) , والترمذي: الدعوات (3437) , وابن ماجه: الطب (3547) , وأحمد (6/377 ,6/378 ,6/409) , والدارمي: الاستئذان (2680) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 457 وفي الدعاء المأثور عنه صلى الله عليه وسلم: "اللهم رب السماوات السبع، ورب العرش العظيم، ربنا ورب كل شيء، فالق الحب والنوى، منْزل التوراة والإنجيل والقرآن، أعوذ بك من شر نفسي، ومن شر كل دابة أنت آخذ بناصيتها. أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء، اقض عني الدين وأغنني من الفقر " 1. وكذلك الدعاء الذي علمه النبى صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه: "اللهم فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، رب كل شيء ومليكه، أشهد أن لا إله إلا أنت، أعوذ بك من شر نفسي، ومن شر الشيطان وشركه، وأن أقترف على نفسي سوءا، أو أجره إلى مسلم " 2. وفي الموطأ عن كعب الأحبار، قال: كلمات أحفظها من التوراة - لولاها لجعلتني يهود حمارا -: أعوذ بوجه الله العظيم، الذي لا شيء أعظم منه، وبكلمات الله التامات، التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر، وبأسماء الله الحسنى، ما علمت منها وما لم أعلم، وشر ما خلق وذرأ وبرأ. فشرع سبحانه لعباده الاستعاذة به، والالتجاء إليه، والاعتصام به، والفزع إليه عند المخاوف والشرور، والرغبة إليه في دفع كل محذور، عكس ما كان عليه جهلة المشركين، من أهل الجاهلية الأولين، ومن سلك سبيلهم، ممن اتخذ الولائج من دون الله، من الأولياء والصالحين   1 مسلم: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2713) , والترمذي: الدعوات (3400 ,3481) , وأبو داود: الأدب (5051) , وابن ماجه: الدعاء (3831) , وأحمد (2/381 ,2/404 ,2/536) . 2 الترمذي: الدعوات (3529) , وأحمد (2/171) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 458 وغيرهم، من الأصنام والجن والشياطين، فإنهم كانوا يستجيرون بهم، ويستعيذون بهم، كما قال تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْأِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً} 1. قال ابن كثير، أي: كنا نرى لنا فضلا على الإنس، لأنهم كانوا يعوذون بنا، أي: إذا نزلوا واديا، أو مكانا موحشا، كما كانت عادة العرب في جاهليتها، يعوذون بعظيم ذلك المكان من الجن، أن يصيبهم أحد بسوء؛ فلما رأت الجن أن الإنس يعوذون بهم من خوفهم منهم، زادوهم رهقا، أي: خوفا وإرهابا وذعرا، حتى بقوا أشد منهم مخافة، وأكثر تعوذا بهم، انتهى. فالاستعاذة بالله من أفضل مقامات العبودية، التي أمر الله بها عباده، مثل الدعاء والخوف والرجاء، والذبح والتوكل غير ذلك؛ فمن صرف منها شيئا لغير الله، من ملك أو ولي أو جني، أو صنم أو غير ذلك، فهو مشرك. قال ابن القيم رحمه الله: ومن ذبح للشيطان ودعاه، واستعاذ به وتقرب إليه بما يحب، فقد عبده وإن لم يسم ذلك عبادة، أو يسميه استخداما؛ وصدق، هو: استخدام من الشيطان له، فيصير من خدم الشيطان وعابديه، وبذلك يخدمه الشيطان؛ لكن خدمة الشيطان له ليست خدمة عبادة، فإن الشيطان لا يخضع له، ولا يعبده كما يفعله هو   1 سورة الجن آية: 6. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 459 به، انتهى. فصل [الذبح للجن عند المريض] والذبح للجن يفعله كثير من أهل الجهل والضلال، في البوادي والبلدان، إذا مرض الشخص أو أصابه جنون، أو داء مزمن ذبحوا عنده كبشا أو غيره، وكثير منهم يصرحون: بأنهم ذبحوه للجن، ويزعمون أن الجن أصابته بسبب حدث منه، فيذبحون عنده ذبيحة للجن، يقصدون تخليصه مما أصابه من ذلك الداء. ولا شك أن الجن قد تعرض لبعض الإنس بأنواع من الأذى، كالصرع أو غيره، لأسباب يفعلها الإنسي يتأذون بها، كإلقائه عليهم مثقلا، أو غير ذلك من الأسباب. قال شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله: وصرع الجن للإنس، هو لأسباب ثلاثة: تارة يكون الجني يحب المصروع، فيصرعه ليستمتع به، وهذا الصرع يكون أرفق من غيره وأسهل، وتارة يكون الإنسي آذاهم، إذا بال عليهم أو صب عليهم ماء حارا، أو يكون قتل بعضهم، أو غير ذلك بأنواع الأذى، وهذا أشد الصرع، وكثيرا ما يقتلون المصروع، وتارة يكون بطريق العبث به، كما يعبث سفهاء الإنس بأبناء السبيل، انتهى. وأكثر ما ينسبه من ابتلي بشيء مما ذكر، ليس كما يزعمون من نسبته إلى الجن، بل أكثر ذلك كذب باطل، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 460 وزعم فاسد؛ ولكن إذا ابتلي الإنسان بشيء من ذلك، فالواجب عليه الفزع إلى الله تعالى، والاستعاذة به، والالتجاء إليه، ورجاؤه والتوكل عليه، والتوجه إليه بقلبه وقالبه، فإن هذا هو السبب المنجي من الشرور. قال تعالى: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} 1، وقال تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} 2، وقال: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} 3، أي: كافيه. وقال ابن عباس: "حسبنا الله ونعم الوكيل قالها إبراهيم حين ألقي في النار، وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قالوا له: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} ". وفي بعض الآثار: إن الله تعالى أوحى إلى داود، يا داود: وعزتي وعظمتي، ما يعتصم بي عبد من عبادي دون غيري، أعرف ذلك من نيته، فتكيده السماوات السبع والأرضون ومن فيهن، إلا جعلت له من بينهن مخرجا. أما وعزتي وعظمتي، ما يعتصم عبد من عبادي بمخلوق دوني، أعرف ذلك من نيته، إلا قطعت أسباب السماء من يديه، وأسخت الأرض من تحت قدميه، ثم لا أبالي في أي واد هلك; قال ابن القيم، رحمه الله تعالى:   1 سورة آل عمران آية: 175. 2 سورة المائدة آية: 23. 3 سورة الطلاق آية: 3. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 461 وإذا تولاه امرؤ دون الورى ... طرا تولاه العظيم الشان فبالاعتصام بالله والاعتماد عليه، وإنزال الحوائج به دون غيره، يبطل كيد الكائدين، ويندفع عدوان المعتدين، وشر الحاسدين، من الإنس والجن والشياطين؛ وأما العدول عن ذلك، إلى التجاء إلى الجن، والذبح لهم، فهذا هو الشرك الذي لا يغفره الله، كما عرفت مما تقدم في هذا الجواب، وفاعل ذلك مشرك، خارج عن الإسلام، يستتاب فإن تاب وإلا ضربت عنقه. والذبيحة على هذا الوجه حرام، لا يباح لمسلم أكلها، وإن ذكر اسم الله عليها، لأنها مما أهل به لغير الله، كذبائح الكفار التي يذبحونها للأصنام، والشمس والكواكب. قال شيخ الإسلام، رحمه الله في قوله: {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} 1 مثل أن يقول: هذا ذبيحة لكذا، وإن كان هذا هو المقصود، فسواء لفظ به أو لم يلفظ؛ وتحريم هذا أظهر من تحريم ما ذبحه للحم، وقال فيه باسم المسيح، أو نحوه، كما أن ما ذبحناه متقربين به إلى الله، كان أزكى وأعظم مما ذبحناه للحم، وقلنا عليه باسم الله; فإذا حرم ما قيل فيه باسم المسيح، أو الزهرة، فلأن يحرم ما قيل فيه لأجل المسيح، أو الزهرة، أو قصد به ذلك، أولى; فإن العبادة لغير الله أعظم كفرا من   1 سورة البقرة آية: 173. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 462 الاستعانة بغيره. وعلى هذا، فلو ذبح لغير الله متقربا إليه يحرم، وإن قال فيه بسم الله، كما قد يفعله طائفة من منافقي هذه الأمة، الذين يتقربون إلى الكواكب بالذبح والبخور ونحو ذلك؛ وإن كان هؤلاء مرتدين، لا تباح ذبيحتهم بحال، لكن يجتمع في الذبيحة مانعان: الأول: أنه مما أهل به لغير الله. والثاني: أنها ذبيحة مرتد؛ ومن هذا الباب ما يفعله الجاهلون بمكة، من الذبح للجن; ولهذا روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن ذبائح الجن، انتهى. قال الزمخشري: كانوا إذا اشتروا دارا أو بنوها، أو استخرجوا عينا ذبحوا ذبيحة، خوفا أن تصيبهم الجن، فأضيفت إليهم الذبائح لذلك; ثم من الناس من يذبح عند المريض، لهذا المقصد الخبيث، ويظهر للناس أنه إنما قصد التقرب إلى الله، والصدقة على الفقراء والمساكين، بلحم ما يذبحه. وقد اطلع الله منه على سوء القصد، وأنه إنما قصد بذبيحته التقرب إلى الجن، ولكن منعه من بيان مقصده، وإظهار نيته الخوف من المسلمين؛ وهذا نفاق وخيم، وزندقة شنيعة، ومحادة لله ورسوله، ومخادعة لله ولعباده المؤمنين، كإخوانه الموصوفين في قوله تعالى: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 463 يَشْعُرُونَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} 1. وفاعل ذلك أعظم من الذي قبله، لأنه أظهر الخير وحسن القصد، والتقرب إلى الله، وهو بضد ذلك، إنما أبطن الشر وقصد السوء، والتقرب إلى غير الله، وهو نظير إخوانه من المنافقين، والزنادقة الضالين. فصل: [الذبح عند المريض لغير مقصد شركي] وإذا عرفت أن الذبح عند المريض، على هذا الوصف الذي ذكرناه، من الشرك المحرم، فاعلم: أن من الناس من يذبح عند المريض لغير مقصد شركي، وإنما يقصد بالذبح التقرب إلى الله بالذبيحة، والصدقة بلحمها على من عنده من الأقارب، والمساكين وغيرهم. ولا يخفى: أن قاعدة سد الذرائع المفضية إلى الشرك، ودرء المفاسد، يقتضي المنع من فعل ذلك، والنهي عنه، لأن ذلك ذريعة قوية، وفتح باب لفعل الشرك المحرم، لما قد عرَّفناك: أن كثيرا من الناس يذبح عند المريض، لقصد التقرب إلى الجن، ولكنه يخفي قصده عن الناس، خوفا من العقوبة الدنيوية، وبعضهم بين قصده بالذبح، ويظهر نيته لإخوانه، وأخدانه من شياطين الإنس، وهذا يعلمه من عرف أحوال الناس. وقد حدثني من لا أتهم: أن من هذا الجنس من أتى   1 سورة آية: 9-10. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 464 إلى مريض زمن، وأشار بأن يذبح عنده ذبيحة، ثم لما تفرق الناس عنه، ولم يبق عنده إلا ذلك الرجل، الذي حدثني، أسر إليه وأشار: أن الذبيحة لغير الله; وبذلك يعلم: أن المتعين النهي عن الذبح عند المريض، وإن حسن قصد الفاعل، سدا لباب الشرك، وحسما للذرائع، والمواد التي تجر إليه. فإن العمل وإن كان أصله قربة، وفعله طاعة، فقد يقترن به ما يوجب بطلانه، ويقتضي النهي عنه، ولحوقه بالمنهيات، كأعمال الرياء، وتحري الدعاء، والصلاة لله عند القبور، والصلاة غير ذوات السبب في الأوقات التي نهي عن الصلاة فيها، والنحر لله في أمكنة أعياد المشركين، ومواطن أوثانهم، قبل زوالها وبعده. وفي حديث ثابت بن الضحاك، رضي الله عنه قال: "نذر رجل أن ينحر إبلا ببوانة، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد؟ قالوا: لا; قال: فهل كان فيها عيد من أعيادهم؟ قالوا: لا; فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أوف بنذرك، فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله، ولا فيما لا يملك ابن آدم " 1. فسأله صلى الله عليه وسلم هل كان في ذلك المحل وثن من أوثان الجاهلية، أو عيد من أعيادهم; وقوله بعد ذلك: " فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله " 2 يفيد: أنه لو كان فيه وثن من   1 أبو داود: الأيمان والنذور (3313) . 2 مسلم: النذر (1641) , والنسائي: الأيمان والنذور (3812 ,3847 ,3848 ,3849 ,3851) , وأبو داود: الأيمان والنذور (3316) , وأحمد (4/429 ,4/430 ,4/443) , والدارمي: النذور والأيمان (2337) والسير (2505) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 465 أوثان الجاهلية، أو عيد من أعياد الجاهلية، لكان الوفاء بالنذر لله فيه معصية، وهذا بين واضح. قال الشيخ عبد اللطيف رحمه الله تعالى، في بعض رسائله: الوجه الخامس: أن سد الذرائع وقطع الوسائل، من أكبر أصول الدين وقواعده، وقد رتب العلماء على هذه القاعدة من الأحكام الدينية، تحليلا وتحريما، ما لا يحصى كثرة، ولا يخفى أهل العلم والخبرة؛ وقد ترجم شيخ الدعوة النجدية - قدس الله روحه - لهذه القاعدة في "كتاب التوحيد" فقال: باب ما جاء في حماية المصطفى صلى الله عليه وسلم جناب التوحيد، وسده كل طريق يوصل إلى الشرك، انتهى. وبما ذكرناه وحررناه، يعلم وجه النهي عن ذبح المسلم عند المريض، وإن حسن قصده ; ومن مفاسد ذلك: أنه سبب لدخول أهل النفاق والزندقة، من هذا الباب، متشبهين بالمسلمين، فيذبحون لأوليائهم من الجن، والشياطين، ولا يخافون من أحد من المسلمين، لعلمهم بخفاء سوء قصدهم، وعدم اطلاع المؤمنين على ما أبطنوه، من شركهم وضلالهم. وقد نهى الله أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقولوا له: "راعنا"، لئلا يتشبه بهم اليهود، فيخاطبون بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم سبا له بذلك. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 466 قال ابن القيم رحمه الله، على قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا} 1: نهى سبحانه المؤمنين، أن يقولوا هذه الكلمة، مع قصدهم بها الخير، لئلا يكون قولهم ذريعة إلى التشبه باليهود، في أقوالهم وخطابهم، فإنهم كانوا يخاطبون بها النبي صلى الله عليه وسلم ويقصدون بها السب؛ فراعنا من الرعونة، فنهي المسلمون عن قولها، سدا لذريعة المشابهة، ولئلا يكون ذلك ذريعة إلى أن يقولها اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم تشبها بالمسلمين، يقصدون بها غير ما يقصده المسلمون، انتهى. وفيما أوردناه كفاية، ولنختم الجواب بأبيات، قليلة الألفاظ والمباني، جليلة القدر والمعاني، يأنس بها كل ذي قلب سليم، وعقل مستقيم، وهي هذه: نور الشريعة يهدي قلب ملتمس ... للحق من ساطع الأنوار مقتبس والجهل والصدف عن نهج الهدى كفلا ... لا شك للشخص بالخذلان والفلس وبالشقا والردى والبعد عن سبل ... تفضي إلى جنة المأوى بملتمس فخذ بنص من التنْزيل أو سنن ... جاءت عن المصطفى الهادي بلا لبس وسنة الخلفاء الراشدين فهم ... أكرم بهم لمريد الحق من قبس فإن خير الأمور السالفات على ... نهج الهدى والهدى يبدو لمقتبس   1 سورة البقرة آية: 104. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 467 والشر في بدع في الدين منكرة ... تحلو لدى كل أعمى القلب منتكس من ذاك ذبح لدى المرضى فصاحبه ... على شفا جرف الخسران والتعس فإن به قصد الجن لفواه فذا ... شرك وكفر جلي غير ملتبس أولا فبدعة ذي جهل وذي عمه ... تدني إلى درن الإشراك والدنس فاصغ للحق واردد سواه على ... أربابه من أخي نطق وذي خرس وهذه حجة التحريض قائمة ... قد أسفرت لمريد الحق فاقتبس وصلى الله على محمد. [بماذا يعامل من ظاهره الإسلام، ومن ظاهره لا إسلام ولا كفر] وقال الشيخ سليمان بن سحمان، رحمه الرحيم المنان. بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى. أما بعد: فقد تأملت ما ذكره الأخ، من المسائل التي ابتلي بالخوض فيها كثير من الناس، من غير معرفة ولا اتقان، ولا بينة ولا دليل واضح، من السنة والقرآن؛ وقد كان غالب من يتكلم فيها بعض المتدينين من العوام الذين لا معرفة لهم بمدارك الأحكام، ولا خبرة لهم بمسالك مهالكها المظلمة العظام، وليس لهم اطلاع على ما قرره أئمة الإسلام، ووضحوه في هذه المباحث، التي لا يتكلم الجزء: 10 ¦ الصفحة: 468 فيها إلا فحول الأئمة الأعلام. وهذه المسائل قد وضحها أهل العلم وقرروها، وحسبنا أن نسير على منهاجهم القويم; ونكتفي بما وضحوه، من التعليم والتفهيم، ونعوذ بالله من القول على الله بلا علم. وهذه المسائل التي أشرت إليها، لا يتكلم فيها إلا العلماء من ذوي الألباب، ومن رزق الفهم عن الله، وأوتي الحكمة، وفصل الخطاب. ونحن وإن كنا لسنا من أهل هذا الشأن، ولا ممن يجري الجواد في هذا الميدان، فإنما نسير على منهاج أهل العلم، ونتكلم بما وضحوه في هذا الباب؛ ولولا ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم من الوعيد في ذلك، بقوله: " من سئل عن علم وهو يعلمه، فكتمه، ألجمه الله بلجام من نار " 1، لضربت عن الجواب صفحا، ولطويت عن ذلك كشحا، ولكن ما لا يدرك كله لا يترك كله. فقوله: ماذا يعامل من ظاهره الإسلام؟ ومن ظاهره لا إسلام ولا كفر، بل جاهل؟ ومن ظاهره الكفر؟ ومن ظاهره المعاصي دون الكفر؟ ومن الذي تباح ذبيحته منهم؟ ومن الذي لا تباح ذبيحته؟ وما القدر الواجب في الإسلام المبيح للذبيحة؟   1 الترمذي: العلم (2649) , وأبو داود: العلم (3658) , وابن ماجه: المقدمة (266) , وأحمد (2/263 ,2/296 ,2/305 ,2/344 ,2/353 ,2/495) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 469 فالجواب: أن من في جزيرة العرب، لا نعلم ما هم عليه جميعهم، بل الظاهر أن غالبهم وأكثرهم ليسوا على الإسلام، فلا نحكم على جميعهم بالكفر، لاحتمال أن يكون فيهم مسلم. وأما من كان في ولاية إمام المسلمين، فالغالب على أكثرهم الإسلام، لقيامهم بشرائع الإسلام الظاهرة; ومنهم من قام به من نواقض الإسلام، ما يكون به كافرا، فلا نحكم على جميعهم بالإسلام، ولا على جميعهم بالكفر لما ذكرنا. وأما من لم يكن في ولاية إمام المسلمين، فمن كان ظاهره الإسلام منهم، فيعامل بما يعامل به المسلم في جميع الأحكام. وأما من ظاهره لا إسلام ولا كفر، بل هو جاهل، فنقول: هذا الرجل الجاهل، إن كان معه الأصل الذي يدخل به الإنسان في الإسلام، فهو مسلم، ولو كان جاهلا بتفاصيل دينه، فإنه ليس على عوام المسلمين، ممن لا قدرة لهم على معرفة تفاصيل ما شرعه الله ورسوله، أن يعرفوا على التفصيل، ما يعرفه من أقدره الله على ذلك، من علماء المسلمين، وأعيانهم، مما شرعه الله ورسوله، من الأحكام الدينية؛ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 470 بل عليهم أن يؤمنوا بما جاء به الرسول، إيمانا عاما مجملا، كما قرر ذلك شيخ الإسلام في المنهاج. وإن لم يوجد معه الأصل، الذي يدخل به الإنسان في الإسلام، فهو كافر، وكفره هو بسبب الإعراض عن تعلم دينه، لا علمه، ولا تعلمه، ولا عمل به. والتعبير بأن ظاهره لا إسلام ولا كفر، لا معنى له عندي، لأنه لا بد أن يكون مسلما جاهلا، أو كافرا جاهلا؛ فمن كان ظاهره الكفر، فهو كافر، ومن كان ظاهره المعاصي، فهو عاص؛ ولا نكفر إلا من كفره الله ورسوله، بعد قيام الحجة عليه. وأما الذي تباح ذبيحته منهم، فهو المسلم، وأما الذي لا تباح ذبيحته، فهو الكافر، والمرتد، وهو الذي يكفر بعد إسلامه، بفعل ناقض من نواقض الإسلام، المخرجة من الملة؛ وقد وضحنا حكم أعراب أهل نجد. والعجب كل العجب من هؤلاء الجهال، الذين يتكلمون في مسائل التكفير، وهم ما بلغوا في العلم والمعرفة، معشار ما بلغه من أشار إليهم الشيخ عبد الله أبا بطين، من أن أحدهم لو سئل عن مسألة في الطهارة، أو البيع، ونحوهما لم يفت بمجرد فهمه، واستحسان عقله؛ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 471 بل يبحث عن كلام العلماء، ويفتي بما قالوه، فكيف يعتمد في هذا الأمر العظيم، الذي هو أعظم أمور الدين، وأشدها خطرا، على مجرد فهمه، واستحسان عقله؟ فما أشبه الليلة بالبارحة، في إقدام هؤلاء على الفتوى، في مسائل التكفير، بمجرد أفهامهم، واستحسان عقولهم، ثم أخذ بذلك عنهم، وأفتى به من لا يحسن قراءة الفاتحة؟ المسألة الرابعة: قول السائل: وما الإعراض الذي هو ناقض من نواقض الإسلام؟ وما الذي يصدق عليه الإعراض؟ فالجواب أن نقول: قد ذكرنا الجواب عن هذه المسألة، ولكن نذكر هاهنا ما ذكره شيخنا، الشيخ عبد اللطيف، رحمه الله تعالى، لما سئل عن هذه المسألة. فقال، الجواب: إن أحوال الناس تتفاوت تفاوتا عظيما، وتفاوتهم بحسب درجاتهم في الإيمان، إذا كان أصل الإيمان موجودا، والتفريط والشرك، إنما هو فيما دون ذلك من الواجبات، والمستحبات; وأما إذا عدم الأصل الذي يدخل به في الإسلام، وأعرض عن هذا بالكلية، فهذا كفر إعراض، فيه قوله تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ} 1 الآية، وقوله: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً} 2 الآية.   1 سورة الأعراف آية: 179. 2 سورة طه آية: 124. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 472 ولكن عليك أن تعلم: أن المدار على معرفة حقيقة الأصل، وحقيقة القاعدة، وإن اختلف التعبير واللفظ; فإن كثيرا يعرف الأصل والقاعدة، ويعبر بغير التعبير المشهور؛ وتعزيرهم وتوقيرهم كذلك، تحته أنواع أيضا، أعظمها: رفع شأنهم، ونصرتهم على أهل الإسلام، وتصويب ما هم عليه، فهذا وجنسه من المكفرات؛ ودونه مراتب، من التوقير بالأمور الجزئية، كلياقة الدواة ونحوه، انتهى. فتبين من كلام الشيخ: أن الإنسان لا يكفر، إلا بالإعراض عن تعلم الأصل، الذي يدخل به الإنسان في الإسلام، لا ترك الواجبات والمستحبات. ثم قال رحمه الله تعالى: وأما قول السائل: ومما يتقاولونه بينهم، ما فعل المشايخ بهم ذلك، إلا أنهم مكفرون لهم. فالجواب: أن نقول: هذا من أعظم كذبهم، وافترائهم على المشايخ، لأنه قد كان من المعلوم أن المبادرة بالتكفير، والجراءة على ذلك بغير بينة من الله ولا برهان، من طرائق أهل البدع ومذاهبهم، كما قال شيخ الإسلام: ومن مثالب أهل البدع: تكفير بعضهم لبعض; ومن الجزء: 10 ¦ الصفحة: 473 ممادح أهل العلم: أنهم يخطئون ولا يكفرون; فإذا فهمت هذا، وتحققت أن المشايخ لا يكفرون بما دون الكفر من الذنوب والمعاصي، تبين لك أن هذه الأمور، التي زعموا أن المشايخ ما منعوهم من فعلها، إلا أنهم مكفرون لهم بها، كان من المعلوم: أنهم هم الذين يكفرون بها، لاعتقادهم أنها كفر. والمشايخ: يبرؤون إلى الله من هذا المعتقد، لأن هذا هو حقيقة مذهب الخوارج الذين يكفرون بما دون الكفر من الذنوب؛ وإذا كان هذا هو معتقدهم، وكان هذا القول، الذي بهتوا به المشايخ، ثابتا عنهم، فلا تسأل عنهم وعن معتقدهم، هذا عين ما نطقوا به، وأظهروه علانية، وهذا هو الذي خاف الإمام والمشايخ بمنعهم، أن يتجارى بهم هذا الأمر، ويبثوه في عوام البدو، الذين ليس عندهم من المعرفة والعلم إلا ما ألقاه هؤلاء إليهم، فيصادف قلوبا خالية من غيره، فيصعب إخراجه من قلوبهم، كما قيل: أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى ... فصادف قلبا خاليا فتمكنا وهذا قد وقع في كثير من البدو، لا يقبلون إلا ما قاله هؤلاء لهم; والعاقل يسير وينظر، والظاهر أنهم في رميهم وبهتانهم المشايخ بأنهم مكفرون لهم، مبرئون أنفسهم مما هو معلوم بالضرورة، بأن تلك هي حالتهم وسيرتهم، كما الجزء: 10 ¦ الصفحة: 474 قيل: ... رمتني بدائها وانسلت. ثم إن المشايخ - ولله الحمد والمنة - لا يزكون أنفسهم، ولا يبرئونها من الخطأ والزلل، والذنوب والمعاصي، بل هم معترفون بذلك على أنفسهم، وأنهم مقصرون في الأعمال الصالحات، والعصمة إنما هي للرسل؛ ولكنهم لا يرضون ما يسخط الله، من الأقوال والأعمال، والغلو، والتجاوز، والمجاوزة للحد، بغير ما شرعه الله ورسوله، ولا القول على الله بلا علم؛ وحسبنا الله ونعم الوكيل. [السؤال عن حكم استعمال الساعات وعن تركيبها] [استعمال الساعات وتركيبها] وله أيضا قدس الله روحه: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وإمام المتقين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فقد تأملت ما ذكره الأخ المكرم حفظه الله، من السؤال عن الساعة، وعن تركيبها; والموجب لذلك: أن رجلين تنازعا في شأنها، فقال أحدهما: هي عمل سحر; وقال الآخر: هي صنعة من سائر الصناعات، المخترعة في هذه الأزمنة; قال الآخر: أقل أحوالها أنها الجزء: 10 ¦ الصفحة: 475 بدعة، لم تكن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه، والبدع محظورة ... إلى آخر السؤال. فاعلم وفقك الله لطاعته، وأحاطك بحياطته، وتولاك في الدنيا والآخرة: أن أمر الساعة قد تكلم العلماء فيها قديما، ولم تكن مما أحدث في هذه الأزمان; وقد كانت موجودة على عهد مشايخ أهل الإسلام، الذين هم القدوة، وبهم الأسوة في مسائل الدين والأحكام، وهم يعلمون أنها موجودة في بلادهم، وعند بعض الولاة والحكام، ولم ينكرها أحد منهم، ولم يتكلم فيها بشيء مما يتكلم به هؤلاء المتمعلمون المتنطعون، الصعافقة المجان، الذين تكلفوا أن يتجروا فينا بلا أثمان. فإذا تحققت هذا، وعرفته، فاعلم أن قول المنكر للساعات: إنها عمل سحر، وإن أقل أحوالها أنها بدعة، لم تكن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه، والبدع محظورة، قول خطأ محض، لا دليل عليه من كتاب ولا سنة، ولا إجماع، ولا قول أحد من العلماء، الذين يعتد بقولهم في الخلاف والوفاق، بل هو قول مجرد عن الدليل، ودعوى عارية عن التأصيل، والتفصيل. ونحن نبين ما ذكره العلماء في ذلك، ليزول الإشكال والتلبيس، ويندفع ما قصده من التمويه والتدليس; قال الإمام الحافظ: العماد بن كثير، رحمه الله تعالى في الجزء: 10 ¦ الصفحة: 476 تفسيره، على قوله تعالى {وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ} 1 الآية: حكى أبو عبد الله الرازي، في تفسيره، عن المعتزلة أنهم أنكروا وجود السحر، فذكر كلاما طويلا، إلى أن قال: ثم ذكر أبو عبد الله الرازي، أنواع السحر ثمانية، فذكرها إلى أن قال: النوع الخامس من السحر: الأعمال العجيبة، من تركيب الآلات، المركبة من النسب الهندسية، كفارس على فرس، في يده بوق، كلما مضت ساعة من النهار ضرب بالبوق، من غير أن يمسها أحد; ومنها: الصور التي تصورها الروم والهند، حتى لا يفرق الناظر بينها وبين الإنسان، حتى يصوروها ضاحكة وباكية، إلى أن قال: فهذه الوجوه من لطيف أمور التخاييل; قال: وكان سحر سحرة فرعون من هذا القبيل، قلت: يعني ما قاله بعض المفسرين، أنهم عمدوا إلى تلك الحبال والعصي، فحشوها زئبقا، فصارت تتلوى بسبب ما فيها من ذلك الزئبق، فيخيل إلى الرائي أنها تسعى باختيارها. قال الرازي: ومن هذا الباب: تركيب صندوق الساعات، ويندرج في هذا الباب علم جر الأثقال بالآلات الخفية; قال: وهذا في الحقيقة لا ينبغي أن يعد من باب   1 سورة البقرة آية: 102. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 477 السحر، لأن لها أسبابا معلومة يقينية، من اطلع عليها قدر عليها. قلت: ومن هذا القبيل حيل النصارى على عامتهم، بما يرونهم إياه من الأنوار، كقضية قمامة الكنيسة، التي لهم ببلد المقدس، وما يحتالون به من إدخال النار إلى الكنيسة، وإشعال ذلك القنديل بصفة لطيفة، تروج على العوام منهم; وأما الخواص منهم، فهم معترفون بذلك، ولكن يتأولون: أنهم يجمعون شمل أصحابهم على دينهم، فيرون ذلك سائغا لهم ... إلى آخر كلامه رحمه الله. فتأمل ما ذكره الرازي، من تركيب صندوق الساعات، وأنه من هذا الباب، يعني من باب جعل الزئبق في الحبال والعصي، فصارت تتلوى بسبب ما فيها من ذلك الزئبق، فيخيل إلى الرائي أنها تسعى باختيارها; ثم قال: ويندرج في هذا الباب علم جر الأثقال بالآلات الخفية; قال: وهذا في الحقيقة لا ينبغي أن يعد من باب السحر، لأن لها أسبابا معلوما يقينية، من اطلع عليها قدر عليها. فذكر: أن تركيب صندوق الساعات، وعلم جر الأثقال بالآلات الخفية، لا ينبغي أن يعد من باب السحر، لأن لها أسبابا معلومة يقينية، من اطلع عليها قدر عليها، وهذا مما لا إشكال فيه، لأنه قد ذكر ابن القيم رحمه الله في "بدائع الفوائد" ما معناه: أن سحر سحرة الجزء: 10 ¦ الصفحة: 478 فرعون من باب الشعبذة والتخييلات، كما قال تعالى: {قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} 1، وقال تعالى: {قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} 2، فذكر أنهم سحروا أعين الناس، وخيلوا إليهم بسحرهم أنها تسعى، وهذا بخلاف جعل الزئبق، في الحبال، والعصي، فإنه صناعة من الصناعات؛ ورد رحمه الله قول من قال من المفسرين: إنهم عمدوا إلى تلك الحبال والعصي فحشوها زئبقا، لأن هذا صناعة من الصناعات، ليس من باب الشعبذة، ولا من باب التخييل. وقد أقر الحافظ ابن كثير ما ذكره الرازي من صندوق الساعات، وعلم جر الأثقال بالآلات الخفية، ولم يعترض عليه في ذلك بشيء، كما اعترض عليه فيما أخطأ فيه من الأمور التي تقدم ذكرها، في السحر، وجواز تعلمه، ووجوبه، وغير ذلك; بل ذكر رحمه الله: أن صناعة صندوق الساعات، كمثل صناعات النصارى، فيما تتحيل به على عوامهم، بما يرونهم إياه من الأنوار، كقضية قمامة المتقدم ذكرها، وقد ذكرها ابن القيم في "هداية   1 سورة آية: 65-66. 2 سورة آية: 115-116. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 479 الحيارى"، وذكر أنها من الحيل والصناعات التي أضلت بها النصارى عوامهم، وليست من قبيل السحر، كما يظنه من لا معرفة لديه. فإذا فهمت هذا، وتحققته، فاعلم: أن المنكر للساعات لم يأت بدليل يمنع من استعمالها، ولا ذكر أن أحدا من العلماء، المعتد بأقوالهم أنكرها، وجعلها من قبيل السحر; وإنما ذكر: أن أقل أحوالها، أنها بدعة، والبدع محظورة، والجواب عن ذلك من وجوه. الوجه الأول: أن البدع لا تكون إلا في القرب، والعبادات التي يتقرب بها العبد إلى ربه، لا في العادات، كالصناعات، والملابس، والمآكل، والمشارب، وغير ذلك من العادات الطبيعية، ولا يعترض بمثل هذا إلا الجهال العوام الذين هم أشبه شيء بسائمة الأنعام. الوجه الثاني: أنا لو سلمنا أنها من البدع، وأنها محظورة، فما الجواب عن الآلات، والصناعات، والملابس، التي حدثت بعد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، كالمدافع، والصمع، وآلات الحرب، مما يستعمله الناس، إن كانت من قبيل البدع، فلأي شيء لم ينكر هذه البدع؟ وما الذي يسوغ له السكوت عن إنكارها، إن كان مقصوده إنكار البدع؟ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 480 الوجه الثالث: أن يقال لهذا الجاهل: لا بد أن تذكر شيئا من الأدلة الشرعية، على الفرق بين جواز استعمال آلات الحرب، والصنائع العادية المحدثة بعد عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وأنها من قسيم العادات التي يجوز استعمالها، وبين آلات صندوق الساعات، وما أحدثه الناس من الملابس، والمطاعم، وغيرها من العادات المصنوعة، لكن بعضها بأسباب خفية لطيفة، وبعضها بأسباب معلومة ظاهرة، وأنها من قسيم العبادات، والبدع المحظورة المحدثة، بعد عهد النبوة. فإن لم يذكر دليلا شرعيا، يدل على الفرق بين ما ذكرناه، وإلا فكيف يجوز له أن يتكلم فيما لا معرفة له به؟ ويأمر وينهى وينكر بغير علم، وقد قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} 1. ومن سوى بين العبادات التي يتقرب بها إلى الله، وبين العادات التي هي مباحة في الجملة، فهو أضل من حمار أهله. وقد اعترض رجل من الجهمية، على أهل الإسلام، بمسائل يطعن عليهم بها في دينهم، منها قوله: أكثر ما   1 سورة الأعراف آية: 33. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 481 تستعملونه من شرب القهوة، ولبس المحارم، بدعة. فأجاب شيخنا: الشيخ عبد اللطيف، بقوله: وهذا من أدلة جهله، وعدم معرفته للأحكام الشرعية، والمقاصد النبوية؛ فإن الكلام في العبادات، لا في العادات، والمباحث الدينية نوع، والعادات الطبيعية نوع آخر؛ فما اقتضته العادة من أكل، وشرب، ومركب، ونحو ذلك، ليس الكلام فيه; والبدعة: ما ليس لها أصل في الكتاب والسنة، ولم يرد بها دليل شرعي، ولم تكن من هديه صلى الله عليه وسلم وهدي أصحابه. وأما ما له أصل، كإرث ذوي الأرحام، وجمع المصحف، والزيادة في حد الشارب، وقتل الزنديق، ونحو ذلك، فهذا وإن لم يفعل في وقته صلى الله عليه وسلم فقد دل عليه الدليل الشرعي؛ وبهذا التعريف تنحل إشكالات، طالما عرضت في المقام. وقال رحمه الله تعالى، في رده على البولاقي صاحب مصر، في قوله: وها أنتمو قد تفعلون كغيركم ... حوادث قد جاءت عن الأب والجد كحرب ببارود وشرب لقهوة ... وكم بدع زادت عن الحد والعد قال رحمه الله تعالى: وأعجب شيء أن عددت لقهوة ... مع الحرب بالبارود في بدع الضد الجزء: 10 ¦ الصفحة: 482 وقد كان في الإعراض ستر جهالة ... غدوت بها من أشهر الناس في البلد فما بدع في الدين تلك وإنما ... يراد بها الإحداث في قرب العبد فتبين بما ذكرناه، عن الشيخ عبد اللطيف رحمه الله: كثافة جهل هذا المنكر، وعدم علمه ومعرفته بالأحكام الشرعية والمقاصد النبوية، حيث زعم أن العادات الطبيعية والآلات الصناعية، من قسيم العبادات، وأنها محظورة، لأنها لم تكن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ولم يفرق بين العادات، والعبادات. وأما قول، القائل: ومما يدل على أنها سحر، أن فلانا قرأ عليها آية من القرآن، فوقفت؟ فالجواب: أن نقول: وهذا أيضا من الأدلة الدالة على جهل هذا المتكلم، وكثافة طبعه وشدة غباوته، حيث حكم واستدل على أنها من السحر، بحكاية لم يسندها من نقلها، عمن يوثق به في دينه وعدالته. وحقيقة الأمر: أن الذي صدر في قراءته على الساعة، أنه قرأ عليها بمحضر من الإخوان، قراءة طويلة، وجعل يتفل عليها بريقه، فلم تقف، فلما تبين عجزه، وتبين كذبه في دعواه أنها سحر، أمسك عن القراءة; وأخذ الساعة صاحبها، فأزال عنها الأذى الذي حصل بريقه فيها. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 483 فقال القارئ: أعوذ بالله، كيف تزيل عنها كلام الله؟ فزعم هذا الجاهل المركب: أن تفاله وريقه القذر المخلوق، هو نفس كلام الله سبحانه وتعالى، وكلام الله سبحانه وتعالى صفة قائمة بذاته، ليس هو الريق المتفول المخلوق المستقذر، تعالى الله وتقدس عما يقوله الجاهلون علوا كبيرا، ولكنا نحمله على الجهل؛ فكيف يستدل بقول هذا الجاهل أو فعله، عاقل؟ مع عدم ثبوت النقل على حقيقته، في التحليل والتحريم، سبحانك هذا بهتان عظيم! وقد كان من المعلوم أن دعواه أنها وقفت بقراءته عليها كذب، وأنها لم تقف; ومما يبين كذب هذه الدعوى، أنها معنا ومع من يحملها من طلبة العلم وغيرهم، ممن يقرأ القرآن، فلا تقف عند قراءة أحد من الناس. ثم إنه قد كان من المعلوم أن كثيرا من الناس، إذا اختلت نقض صندوقها، ونثرها، ثم أعادها على هيئتها الأولى، وهم لا يعرفون السحر، ولا أسبابه ولا أنواعه. وقد أشكل على بعض الناس ما ذكره ابن كثير عن الرازي، لما أدخل في مسمى السحر، وأنواعه، بعض الصناعات، باسمه العام في اللغة، فظن أنه من السحر الذي من تعلمه وعمل به كان كافرا، وليس الأمر كذلك. وقد بيّن ذلك ابن كثير رحمه الله تعالى، بقوله: قلت الجزء: 10 ¦ الصفحة: 484 وإنما أدخل كثيرا من هذه الأنواع المذكورة في فن السحر، للطافة مداركها، لأن السحر في اللغة: عبارة عما لطف وخفي سببه; ولهذا جاء في الحديث: " إن من البيان لسحرا " 1، وسمي "السَّحَر" لكونه يقع خفيا آخر الليل; و "السَّحَر" الرئة، وهي محل الغذاء، وسميت بذلك لخفائها، ولطف مجاريها، إلى أجزاء البدن وغضونه، كما قال أبو جهل يوم بدر لعتبة: انتفخ سحره، أي: انتفخت رئته من الخوف، وقالت عائشة رضي الله عنها: "توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم بين سحري ونحري"، وقال تعالى: {سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ} 2، أي: أخفوا عنهم عملهم، والله أعلم. وبهذا القدر الذي أوردناه كفاية لمن كان قصده الحق، والله المستعان، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل، وحسبنا الله ونعم الوكيل، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.   1 البخاري: النكاح (5146) , والترمذي: البر والصلة (2028) , وأبو داود: الأدب (5007) , وأحمد (2/16 ,2/59 ,2/62 ,2/94) , ومالك: الجامع (1850) . 2 سورة الأعراف آية: 116. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 485 [تقريظ الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف على رسالة حكم استعمال الساعات] قال الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف، رحمه الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وكفى، وصلى الله على محمد النبي الهاشمي المصطفى، وسلم تسليما. أما بعد: فقد تأملت ما أجاب به الشيخ سليمان بن سحمان، فيمن سأله عن أمر الساعة، فما أجاب به هو عين الصواب، وأهل الخوض فيها فلان وأشياعه، ممن ارتكب ما نهى الله عنه من التحليل والتحريم برأيه، ممن تناولهم نص هذه الآية، وهي قوله تعالى: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} 1 وهي قديمة من القرن السادس، أو قبله، متداولة بين الملوك. وقد نص شيخ الإسلام، على أشياء ملتحقة بالسحر، لأنها بواسطة عبادة الشياطين، كالسيميا، والكيميا، ولم يتعرض للساعة، لأنها من الصناعة المستخرجة; وهذا مشاهد أنها من قوي إدراكه أحسن تركيبها; وبالجملة: من أصغى إلى هؤلاء وكلامهم، فقد رضي بافتراء الكذب على الله، في التحليل والتحريم، وحسبنا الله ونعم الوكيل.   1 سورة النحل آية: 116. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 486 وقال الشيخ محمد بن عبد اللطيف، وفقه الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي أقام من شاء من عباده لنصر السنة والقرآن، ووفقهم لكشف ما موّه به أهل الزيغ والافتتان، وصلى الله وسلم على أشرف الأنبياء والمرسلين، وصفوة الخلق أجمعين، نبينا محمد سيد ولد عدنان، وآله وصحبه الذابين عن دينه، بالسيف واللسان، وسلم تسليما كثيرا. أما بعد: فإني نظرت فيما كتبه العالم النبيل، والفاضل الجليل، الشيخ سليمان بن سحمان، جوابا لمن سأله عن الساعة، فإذا هو عين الصواب، والحق الذي لا شك فيه ولا ارتياب؛ إذ المجادل فيها، والقائل أنها من السحر، من أضل الناس، وأجهلهم بقواعد الشرع، وبالتحريم والتحليل، لأن من يحلل ويحرم بلا حجة ولا برهان، بل بمجرد رأيه، فهو أضل من حمار أهله. والتحليل والتحريم، مرجعهما ومأخذهما، من كتاب الله وسنّة نبيه صلى الله عليه وسلم وما أجمع عليه السلف الصالح، وأئمة الدين. والساعة صنعة من الصناعات، التي تدرك بالحذق والفكرة، ليست من البدع، ولا من السحر؛ إذ البدع الجزء: 10 ¦ الصفحة: 487 المذمومة ما كانت في القرب الشرعية، وأما العادات والصناعات، فليست من قسيم البدع. وقد تداولها الملوك وغيرهم، والعلماء من أهل التحقيق، يشاهدونها، ويسمعون بها، ولم يبلغنا عن أحد ممن مضى ممن يعتد به، تحريمها، ولا إنكارها. ولكن إذا خاض في مسائل التحليل والتحريم، من لا بصيرة له ولا علم، ولا دراية له بالحدود الشرعية، وقلده على جهله من هو من عوام المسلمين، الذين هم أشباه الأنعام، وقع اللبس والتشكيك؛ ولا يلتفت إلى هؤلاء الصعافقة، إلا من قلّ حظه، وضاع نصيبه، من العلم، والإيمان. والله يقول الحق وهو يهدي السبيل، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 488 [تقريظ الشيخ سعد بن حمد على رسالة حكم استعمال الساعات] وقال الشيخ سعد بن حمد بن عتيق، رحمه الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي نور قلوب أهل العلم والإيمان، بنور السنّة والقرآن، ووفق من أراد هدايته عند الاختلاف، لإصابة الحق والعرفان، وحرم المخذولين بما انتحلوه، من طرائق الجهل، وموارد الخذلان؛ أحمده على تيسير السنة والقرآن، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة متواطئ عليها القلب واللسان، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، سيد ولد عدنان، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان. أما بعد: فقد نظرت في هذا التحرير المفيد، والكلام السديد، الذي كتبه أخونا الشيخ الفاضل سليمان بن سحمان، أيده الله بروح منه وسلطان، في رد ما قاله بعض الجهلة، في صندوق الساعة، من أنها من السحر المحرم، وأنه يحرم على المسلم اتخاذها واستعمالها، فوجدت كلامه عافاه الله، وافيا بالمرام، شافيا للسقام، كافيا في رد ما انتحله أولئك الجهلة الطغام، وتهجين ما توهموه واعتقدوه بآرائهم الفاسدة، وعقولهم الكاسدة؛ فجزاه الله أحسن الجزء: 10 ¦ الصفحة: 489 الجزاء. ولا يشك من له معرفة بمدارك الأحكام الشرعية، وأصول الشريعة المحمدية أن هذا القول من أفسد الأقوال، وأبعدها عن الصواب، وأنه من القول على الله في شرعه وأحكامه بغير علم. وقد قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} 1، وقال تعالى: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ} 2. وكيف يستجيز من له نصيب من العقل والدين، الجراءة على مثل هذا القول؟! ومن العجب: أن الرجل الذي اخترع هذا الكلام، حتى اغتر به بعض جهلة العوام، الذين هم أشبه شيء بالأنعام، ينسب هذا القول – أعني: زعمه أن صندوق الساعة من السحر - إلى ابن كثير رحمه الله، ويدعي أنه استدل بكلام ابن كثير، على ما اعتقده برأيه الفاسد؛ وهذا يدل العاقل على كثافة جهل هذا الرجل، وفساد تصوره لما ذكره ابن كثير؛ فإن ما ذكره ابن كثير، ونقله عن   1 سورة الأعراف آية: 33. 2 سورة النحل آية: 116. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 490 الرازي، أوضح شيء في بيان أن الساعة ليست من السحر في شيء، وإنما هي من الأعمال العجيبة، والحِرَف التي هي أسباب تخفى على من لا يعرفها. وقد اجتمعت بهذا الرجل، وبينت خطأه في ذلك، وفساد تصوره لما ذكره ابن كثير، وأنه ينادي بخلاف ما ادعاه، ويشهد بجهله وخطئه، فأصر على ما انتحله، وكابر وعاند; ولا يغتر بما تخيله هذا الرجل ورآه، واعتقده بجهله، وافتراه من التحريم، بغير حجة من الله ولا برهان، إلا من هو من الجهلة المخذولين; والله الهادي إلى سواء السبيل، وهو حسبنا ونعم الوكيل، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم. [حكم ذبائح الصلب وكفار البوادي] وله أيضا: أسكنه الله الفردوس الأعلى: بسم الله الرحمن الرحيم من سليمان بن سحمان إلى عبد الكريم بن السيد عباس، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: وصل إلي منك جملة خطوط، تذكر فيها التنصل من هذه الفتوى المنسوبة إليك، وتزعم أنها مكذوبة عليك، وتبرأ إلى الله منها وممن قالها؛ وهذا بخلاف ما حدثني به الشيخ عبد الله بن بليهد، لما قدم الهند، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 491 واجتمع بك، وعرض عليك الفتوى التي أفتيت بها، في حل ذبائح الصلب 1 وكفار البوادي، بمجرد النطق بالشهادتين، وانتسابهم إلى دين الإسلام، مع ترك الصلاة والزكاة والصوم والحج، وارتكاب جميع المحارم، التي حرمها الله ورسوله، وذكر لي أنك ستكتب بالتوبة، والرجوع عما قلت فيها. ثم لما جاءتنا رسائلك، فإذا هي بخلاف ما ذكره الشيخ عنك; ولا يخفى عليك أن الرد الذي كتبناه، إنما كتبناه في الرد على هذه الشبهات، التي شبّه بها هذا المفتري على أهل الإسلام، وزعم أنها مما أمر الله به ورسوله; وليس المقصود الرد عليك نفسك، وإنما هو على هذه الورطات العظيمة، والشبهات المدلهمة الوخيمة. وليس المقصود الأعظم بالرد على من أباح ذبائح الصلب فقط، لأنه من المعلوم عند جميع المسلمين أنهم كفار، وأنها لا تباح ذبائحهم، وإنما المقصود بالرد على من أفتى بهذه الفتوى لأمور: أحدها: أن دعوى من أفتى بهذه الفتوى: أن من تلفظ بالشهادتين يكون مسلما تؤكل ذبيحته، وإن كان مع ذلك لا يصلي ولا يزكي، ولا يصوم ولا يحج، ويرتكب مع ذلك جميع الكبائر. وقد تبين لك: أنه لا بد من معرفة شهادة أن لا إله   1 وتقدم للشيخ إسحاق الكلام في صيد الصلب صفحة 485/ج/7. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 492 إلا الله، والعمل بمقتضاها من القيام بهذه الأركان الأربعة. وهؤلاء الصَّلب الذين أحل ذبائحهم، وشهد لهم بالإسلام، لا يعرفون معنى لا إله إلا الله، ولا عملوا بمقتضاها، وقد حكم لهم بغير ما أمر الله به ورسوله. الأمر الثاني: أنه زعم أن من انتسب إلى الإسلام، يكون مسلما بمجرد انتسابه إليه، فعلى زعمه: أن عباد القبور اليوم، ممن يدعون الأنبياء، والأولياء والصالحين، وسائر من كفر بالله، وأشرك به ممن يتلفظ بالشهادتين، أنهم مسلمون بمجرد انتسابهم إلى الإسلام، تحل نساؤهم، وتؤكل ذبائحهم؛ وقد تبين لك ما أمر الله به فيهم ورسوله، من تكفيرهم وعدم إسلامهم. الأمر الثالث: أنه زعم أن الرجل يكون مسلما بنفسه، لا باعتقاده وإرادته، وقوله وعمله; وزعم: أن هذا القول لشيخ الإسلام ابن تيمية، وهو نقل محرف متصرف فيه، كما بيناه في الرد، وأن هذا لا يقوله عالم؛ ولو أن هذا الرجل من أهل العلم والمعرفة، العالمين بمدارك الأحكام، لعلم أن آخر العبارة يناقض تحريفهم، وما تصرفوا فيه منها. فإن قوله رحمه الله: وكل حكم علق بأسماء الدين، من إسلام وإيمان، وكفر ونفاق، وردة وتهود وتنصر، إنما يثبت لمن اتصف بالصفات الموجبة لذلك، فهذا يناقض ما الجزء: 10 ¦ الصفحة: 493 حرفوه بقولهم، هو حكم يتعلق بنفسه، لا باعتقاده، وإرادته، وقوله وعمله؛ فإن هذه الأوصاف: من الإيمان والإسلام، والكفر والنفاق، والردة وغيرها، هي الموجبة لكونه مسلما، أو يهوديا، أو نصرانيا. الأمر الرابع: أنه زعم أن من أشرك بالله وكفر به، مسلم بمجرد انتسابه إلى الإسلام، قياسا على اليهود والنصارى، لأن الله أحل ذبائحهم ونساءهم، بمجرد انتسابهم إلى الكتاب، وأن الله سماهم أهل كتاب، مع أنهم لم يعملوا بما في التوراة والإنجيل، مما أمر الله به؛ فكذلك تحل ذبيحة من ارتد عن الإسلام، وكفر بالله وأشرك به، من هذه الأمة على زعمه، وإن لم يعملوا بما أمر الله به، من الصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، بمجرد انتسابه إلى الإسلام. الأمر الخامس: أنه قاس هؤلاء الصَّلَب، وكفار البدو، الذين لم يعملوا بشيء من شرائع الإسلام، ولم يأتمروا بشيء من الأوامر، ولم ينتهوا عن شيء من المناهي، إلا بمجرد التلفظ بالشهادتين; وقد كان من المعلوم بالضرورة: أن الله قد أكمل لنا الدين، وأتم لنا شرائع الإسلام، وقد بلّغ رسول الله صلى الله عليه وسلم البلاغ المبين، فقاسهم على الأعراب، الذين قالوا - أول ما دخلوا في الإسلام -:آمنا، فقال الله: {قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 494 أَسْلَمْنَا} 1. الأمر السادس: أنه ذكر في آخر جوابه، أن ذبيحة المرتد لا تؤكل عند جمهور العلماء، إلا ما ذكر عن إسحاق، وسفيان الثوري، وقد ذكر العلماء في باب حكم المرتد: أنه هو الذي يكفر بعد إسلامه، وقد كان من المعلوم أنهم ذكروا أشياء، مما يكون به الرجل مرتدا عن الإسلام، وإن كان مع ذلك يتلفظ بالشهادتين، وينتسب إلى الإسلام، كما هو مذكور في باب حكم المرتد وغيره، فناقض ما ذكره العلماء في هذا الباب، بأنه يكون مسلما بمجرد انتسابه إلى الإسلام، والتلفظ بالشهادتين. الأمر السابع: أنه استدل في جوابه على إسلام الصّلبة - الذين لا يصلون ولا يزكون، ولا يصومون ولا يحجون، لأنهم يشهدون أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وينتسبون إلى الإسلام - بما في الصحيحين: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " أمرت أن أقاتل الناس، حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم، إلا بحقها، وحسابهم على الله عز وجل "، وأن مجرد التلفظ بالشهادتين، يكتفى به في عصمة المال والدم، ويكون الرجل به مسلما، وإن لم يصل ويزك ويصم ويحج.   1 سورة الحجرات آية: 14. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 495 وقد أشكل هذا على عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال: يا خليفة رسول الله، كيف نقاتل الناس ... ؟ الحديث، فقال أبو بكر:? "ألم يقل إلا بحقها؟ فإن الزكاة من حقها، والله لو منعوني عناقا كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلهم. على منعها، قال عمر: فوالله ما هو إلا أن رأيت الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال، فعلمت أنه الحق"، فوافق عمر أبا بكر، واتفق الصحابة كلهم على ذلك، وقاتلوا من منع الزكاة، وأدخلوهم في حكم أهل الردة، فكيف بمن أضاف إلى ذلك ترك الصلاة، والصيام، والحج؟ فهذا أولى بالكفر والردة عن الإسلام، ممن ترك الزكاة وحدها، فناقض ما أجمع عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من تكفير هؤلاء، وجعلهم مسلمين بمجرد التلفظ بالشهادتين. الأمر الثامن: أنه استدل على حل ذبائح الكفار، من الصلبة وغيرهم، بقوله في الحديث، لما "سئل صلى الله عليه وسلم: إن أناسا يأتوننا باللحم، ولا ندري أسموا الله عليها، أم لا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سموا الله عليها، ثم كلوها "، وهذا إنما هو في حل ذبائح البادية، الذين أسلموا، وكانوا حديثي عهد بكفر، ولا يدرى أذكروا اسم الله عليها، أم لا؟ فأمرهم إذا شكوا في ذلك، أن يذكروا اسم الله ويأكلوا. فناقض هذا ما أمر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم من الأمر بأكل ذبيحة المسلم، الذي لا يدرى أذكر اسم الله عليها أم لا، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 496 بحل ذبائح من كفر بالله، وأشرك به وارتد عن الإسلام؛ وليس الكلام مع هذا، في مجرد التسمية على الذبيحة، وإنما الكلام معه في تحريم ذبيحة المرتد، وقد ذكر أهل العلم أنها لا تباح بحال، سواء ذكر اسم الله عليها، أو لم يذكره. الأمر التاسع: أنه استدل على إسلام من كفر بالله، وأشرك به، وعلى حل ذبائحهم، بقوله صلى الله عليه وسلم:" من كفر مسلما فقد كفر "، فمن كفر هؤلاء الصلب، التاركين للصلاة والزكاة، والصيام والحج، وحرم ذبائحهم، فقد كفر المسلمين، ومن كفر مسلما وحرم ذبيحته، فقد كفر عند هذا المفتي!! وأيضا: فلنا جواب ثان عن قولك: من كفر مسلما فقد كفر; فيقال لك: صحح نسبة هذا الحديث إلى قائل معروف يحتج بقوله، ويكفينا في قبوله إذا كان له وجود في دواوين الإسلام، التي صنفها الحفاظ أهل الحديث؛ فإن لم تجد أصلا لهذا اللفظ، فكيف تحكيه جازما به؟ وما كان كذلك فلا ينهض للاحتجاج به. نعم: قد ثبت في الصحيح، عن أبي ذر: " من دعا رجلا بالكفر، أو قال: يا عدو الله، وليس كذلك، إلا حار عليه " 1، فليتأمل قوله: (وليس كذلك) ومعنى قوله: "حار عليه" أي: رجع; وغاية ما في هذا الحديث: الوعيد   1 مسلم: الإيمان (61) , وأحمد (5/166) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 497 الشديد، إذا لم يكن خصمه كذلك. الأمر العاشر: أن الكفار الذين كانوا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يعرفون معنى لا إله إلا الله، وأنها تنفي جميع ما يعبد من دون الله، وتثبت العبادة لله وحده لا شريك له، ولهذا لما قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: قولوا: لا إله إلا الله. قالوا: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} 1، فأبوا عن التلفظ بهذا. وأما عباد القبور اليوم، فإنهم يشهدون أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، ومع ذلك يدعون الأنبياء، والأولياء، والصالحين، ويستشفعون بهم في المهمات والملمات، ويلجؤون إليهم في جميع الطلبات والرغبات، ويطلبون منهم قضاء الحاجات، وكشف الكربات، وإغاثة اللهفات، ويزعم هذا وأضرابه من الجهال أنهم مسلمون بمجرد التلفظ بالشهادتين، والانتساب إلى الإسلام. سبحانك هذا بهتان عظيم!! الحادي عشر: أنه زعم فيما نقله عن الإمام، العماد بن كثير من تفسيره، حيث قال: هم الذين أسلموا حقا وصدقا، لا نفاقا ولا خوفا، ولكنهم لم يعملوا بأمر من الأوامر، ولم يجتنبوا الكبائر والمناهي؛ وهذا هو قول جمهور الصحابة والتابعين، وهو الراجح، انتهى.   1 سورة ص آية: 5. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 498 وهذا كذب وافتراء على ابن كثير رحمه الله، فإنه لم يذكر هذا بلفظه، بل حرفه وتصرف فيه، كما هو مذكور في الرد؛ وهذا يناقض ما ذكره شيخ الإسلام، في كتاب الإيمان، قال رحمه الله - بعد كلام له -: وأما ما ذكره أحمد فاتبع فيه الزهري، حيث قال: فكانوا يرون الإسلام: الكلمة، والإيمان: العمل، في حديث سعد بن أبي وقاص; وهذا على وجهين. فإنه قد يراد به: الكلمة بتوابعها، من الأعمال الظاهرة، وهذا هو الإسلام الذي بينه رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: " الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت " 1. وقد تراد: الكلمة فقط، من غير فعل الواجبات الظاهرة، وليس هذا هو الذي جعله النبي صلى الله عليه وسلم الإسلام، لكن قد يقال: إسلام الأعراب كان من هذا; فيقال: الأعراب وغيرهم، كانوا إذا أسلموا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ألزموا بالأعمال الظاهرة: الصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، ولم يكن أحد يترك بمجرد الكلمة; بل كان من أظهر المعصية يعاقب عليها، انتهى. فناقض هذا ما ذكره أهل العلم، مع الكذب عليهم بقوله: ولكنهم لم يعملوا بأمر من الأوامر، ولم يجتنبوا   1 مسلم: الإيمان (8) , والترمذي: الإيمان (2610) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (4990) , وأبو داود: السنة (4695) , وابن ماجه: المقدمة (63) , وأحمد (1/27 ,1/51) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 499 الكبائر، والمناهي; ثم لم يكتف بذلك، حتى زعم أن هذا هو قول جمهور الصحابة، والتابعين، وهو الراجح. الأمر الثاني عشر: أنه زعم أن شيخ الإسلام ابن تيمية، صرح في الاختيارات، أنه قال: واذا أنكروا شيئا من أركان الإسلام، والإيمان، غير الشهادتين جهلا، لا يقال بردتهم; وهذا كذب على شيخ الإسلام، لم يقله في الاختيارات بهذا اللفظ الذي نسبه إليه. والذي في الاختيارات: ومن شك في صفة من صفات الله تعالى ومثله لا يجهلها فمرتد، وإن كان مثله يجهلها، فليس بمرتد؛ ولهذا لم يكفر النبي صلى الله عليه وسلم الرجل الشاك في قدرة الله وإعادته، لأنه لا يكون كافرا إلا بعد الرسالة. فهذا وأضعاف أضعافه، هو الذي حملنا على الرد على هذه الشبهات، وتغيير هذه المنكرات، التي هي من أعظم السيئات الموبقات، ولا يسعنا مع القدرة على إنكارها، والرد على من قالها السكوت عليها، لأن الله سبحانه وتعالى أوجب علينا نصر الدين، وفرضه علينا، كما قال ابن القيم رحمه الله: هذا ونصر الدين فرض لازم ... لا للكفاية بل على الأعيان بيد وإما باللسان فإن عجز ... ت فبالتوجه والدعا بجنان الجزء: 10 ¦ الصفحة: 500 وأما قولك: وإني أشهد الله على محبتك، ومحبة المشايخ، ما دمتم متمسكين بالكتاب والسنة، وهذا القول ليس من محاباة، ولا تقية، لأني ما زلت سابقا ولاحقا، مشددا النكير على المبتدعة، ويشهد لي بذلك الوقائع، التي وقعت بالكويت، وبغداد مع المبتدعة. فأقول: أما ما وقع لك من الإنكار، على الجهمية وغيرهم من المبتدعة، وانتسابك إلى أهل هذه الدعوة المحمدية، ومحبة المشايخ، فلولا هذا لكان جوابك عندنا غير ما ترى. وأما ما ذكرت من جهة الرسالة، المسماة: بحقيقة المذهب الوهابي، فهي عندنا موجودة، منسوبة إلى ابن دخيل، صاحب القصيم، مع ما فيها من الإجمال والقصور، والتقصير، والكذب في بعضها، كقوله: إن علماء أهل نجد، يحرمون التنباك على العامة، ويكرهونه للخاصة، وقوله: وأعهد منهم الآن الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف، وكان شاعرا بليغا، وذكر من شعره كيت وكيت؛ وهذا كله كذب لا أصل له. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 501 [كلمات في بيان الطاغوت ووجوب اجتنابه] وقال أيضا رحمه الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم هذه كلمات في بيان الطاغوت، ووجوب اجتنابه، قال الله تعالى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} 1، فبين تعالى أن المستمسك بالعروة الوثقى، هو الذي يكفر بالطاغوت؛ وقدم الكفر به على الإيمان بالله، لأنه قد يدعي المدعي أنه يؤمن بالله، وهو لا يجتنب الطاغوت، وتكون دعواه كاذبة. وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} 2، فأخبر أن جميع المرسلين قد بعثوا باجتناب الطاغوت، فمن لم يجتنبه فهو مخالف لجميع المرسلين، قال تعالى: {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى} 3. ففي هذه الآيات من الحجج على وجوب اجتنابه وجوه كثيرة؛ والمراد من اجتنابه هو بغضه، وعداوته بالقلب، وسبه وتقبيحه باللسان، وإزالته باليد عند القدرة،   1 سورة البقرة آية: 256. 2 سورة النحل آية: 36. 3 سورة الزمر آية: 17. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 502 ومفارقته، فمن ادعى اجتناب الطاغوت ولم يفعل ذلك فما صدق. وأما حقيقته والمراد به، فقد تعددت عبارات السلف عنه، وأحسن ما قيل فيه، كلام ابن القيم رحمه الله تعالى، حيث قال: الطاغوت ما تجاوز به العبد حده من معبود، أو متبوع، أو مطاع؛ فطاغوت كل قوم من يتحاكمون إليه، غير الله ورسوله، أو يعبدونه من دون الله، أو يتبعونه في غير بصيرة من الله، أو يطيعونه فيما لا يعلمون أنه طاعة لله؛ فهذه طواغيت العالم، إذا تأملتها، وتأملت أحوال الناس معها، رأيت أكثرهم ممن أعرض عن عبادة الله إلى عبادة الطاغوت، وعن طاعته ومتابعة رسوله، إلى طاعة الطاغوت ومتابعته، انتهى. وحاصله: أن الطاغوت ثلاثة أنواع: طاغوت حكم، وطاغوت عبادة، وطاغوت طاعة ومتابعة؛ والمقصود في هذه الورقة هو طاغوت الحكم، فإن كثيرا من الطوائف المنتسبين إلى الإسلام، قد صاروا يتحاكمون إلى عادات آبائهم، ويسمون ذلك الحق بشرع الرفاقة، كقولهم شرع عجمان، وشرع قحطان، وغير ذلك، وهذا هو الطاغوت بعينه، الذي أمر الله باجتنابه. وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاجه، وابن كثير الجزء: 10 ¦ الصفحة: 503 في تفسيره: أن من فعل ذلك فهو كافر بالله، زاد ابن كثير: يجب قتاله، حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله. قال شيخ الإسلام: ولا ريب أن من لم يعتقد وجوب الحكم بما أنزل الله على رسوله فهو كافر; ومن استحل أن يحكم بين الناس بما يراه هو عدلا من غير اتباع لما أنزل الله فهو كافر؛ فإنه ما من أمة إلا وهي تأمر بالحكم بالعدل؛ وقد يكون العدل في دينها، ما رآه أكابرهم، بل كثير من المنتسبين إلى الإسلام، يحكمون بعاداتهم التي لم ينْزلها الله، كسوالف البوادي، وكأوامر المطاعين في عشائرهم، ويرون أن هذا هو الذي ينبغي الحكم به، دون الكتاب والسنة، وهذا هو الكفر. فإن كثيرا من الناس أسلموا، ولكن مع هذا لا يحكمون إلا بالعادات الجارية، التي يأمر بها المطاعون في عشائرهم؛ فهؤلاء إذا عرفوا أنه لا يجوز لهم الحكم إلا بما أنزل الله، فلم يلتزموا ذلك، بل استحلوا أن يحكموا بخلاف ما أنزل الله، فهم كفار، انتهى. وفيه بيان كفر الحاكم نفسه، والمتحاكمين على الوجه الذي ذكره، وكذا من لم يعتقد وجوب ما أنزل الله، وإن لم يكن حاكما ولا متحاكما، فتأمله; ذكره عند قوله تعالى: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 504 {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} 1. وقال ابن كثير، رحمه الله، في قوله تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} 2؛ ينكر تعالى على من خرج عن حكم الله تعالى، المشتمل على كل خير وعدل، الناهي عن كل شر، إلى ما سواه من الآراء والأهواء، والاصطلاحات التي وضعها الرجال، بلا مستند من شريعة الله، كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الجهالات، وكما يحكم به التتار من السياسات، المأخوذة من جنكسخان الذي وضع لهم كتابا مجموعا من أحكام، اقتبسها من شرائع شتى، من الملة الإسلامية، وفيه كثير من الأحكام أخذها عن مجرد نظره، فصار في بنيه يقدمونه على الحكم بالكتاب والسنة؛ ومن فعل ذلك فهو كافر، يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله، فلا يحكم سواه في كثير ولا قليل، انتهى. وما ذكرناه من عادات البوادي، التي تسمى "شرع الرفاقة" هو من هذا الجنس، من فعله فهو كافر، يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله، فلا يحكم سواه في قليل ولا كثير.   1 سورة المائدة آية: 44. 2 سورة المائدة آية: 50. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 505 وقد قال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ} 1 الآيات إلى قوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً} 2. قال الشعبي: "كان بين رجل من اليهود ورجل من المنافقين خصومة، فقال اليهودي: نتحاكم إلى محمد صلى الله عليه وسلم، عرف أنه لا يأخذ الرشوة، ولا يميل في الحكم. وقال المنافق: نتحاكم إلى اليهود، لعلمه أنهم يأخذون الرشوة، ويميلون في الحكم. ثم اتفقا على أنهما يأتيان كاهنا في جهينة، فيتحاكمان إليه، فنَزلت {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ} الآية"؛ وقيل نزلت في "رجلين اختصما، فقال أحدهما: نترافع إلى محمد صلى الله عليه وسلم، وقال الآخر: إلى كعب بن الأشرف; ثم بعد ذلك ترافعا إلى عمر بن الخطاب، فذكر له أحدهما القصة، فقال للذي لم يرض برسول الله صلى الله عليه وسلم: أكذلك؟ قال: نعم، فضربه بالسيف فقتله، فنزلت الآية". وهكذا ينبغي أن يفعل بالمتحاكمين إلى الطواغيت؛ فإذا كان هذا الخليفة الراشد، قد قتل هذا الرجل، بمجرد طلبه التحاكم إلى الطاغوت، فمن هذا عادته التي هو   1 سورة النساء آية: 60. 2 سورة النساء آية: 61. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 506 عليها، ولا يرضى لنفسه وأمثاله سواها، أحق وأولى أن يقتل، لردته عن الإسلام، وعموم فساده في الأرض. فإنه لا صلاح للخليقة، إلا بأن يكون الله معبودها، والإسلام دينها، ومحمد نبيها الذي تتبعه، وتتحاكم إلى شريعته، ومتى عدم ذلك عظم فسادها، وظهر خرابها. فقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} 1 الآية، بيان بأن من زعم الإيمان بالله وبرسوله، وهو يحكم غير شريعة الإسلام، فهو كاذب منافق، ضال عن الصراط المستقيم، كما قال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} 2، فأقسم بنفسه: أن الخلق لا يؤمنون، حتى يحكموا الرسول صلى الله عليه وسلم في جميع موارد النِّزاع؛ فإذا حكم انتفى الحرج باطنا، وحصل التسليم الكامل ظاهرا؛ فمن لم يحصل منه ذلك فالإيمان منتف عنه. وقد تظاهرت الأدلة الشرعية، بالدلالة على ذلك، فذم الله في كتابه من أعرض عن حكم رسوله، قال الله تعالى: {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ   1 سورة النساء آية: 60. 2 سورة النساء آية: 65. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 507 وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} 1. واعلم: أنه ما دعا داع إلى حق، إلا كان للشيطان شبهة عنده، يصد بها الناس عنه، ومن ذلك أنه إذا قيل لأهل الطاغوت: ارجعوا إلى حكم الله ورسوله، واتركوا أحكام الطواغيت، قالوا: إنا لا نفعل ذلك إلا خوفا من أن يقتل بعضنا بعضا، فإني إذا لم أوافق صاحبي، على التحاكم إلى "شرع الرفاقة" قتلني أو قتلته. فالجواب أن نقول: يظهر فساد هذه الشبهة الشيطانية، بتقرير ثلاثة مقامات: المقام الأول: أن الفساد الواقع في الأرض، من قتل النفوس، ونهب الأموال، إنما هو بسبب إضاعة أوامر الله، وارتكاب نواهيه، كما قال تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} 2، المفسرون من السلف (البر) أهل العمود من البوادي، (والبحر) أهل القرى. أخبر تعالى: أن ظهور الفساد في البادية والحاضرة، سببه أعمالهم؛ فلو أنهم عبدوا ربهم، وحكموا نبيهم، لصلحت أحوالهم، ونمت أموالهم وأنفسهم، كما   1 سورة آية: 48-49-50-51. 2 سورة الروم آية: 41. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 508 قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} 1. قال تعالى: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} 2. فأخبر: أن الرحمة في هذا القرآن، فمن اكتفى به عن أحكام الباطل، فهو المرحوم، ومن أعرض عنه إلى غيره، فهو الخاسر؛ فإذا أعرض الناس عن كتاب ربهم، وحكموا غير نبيهم، عاقبهم الله بأن يعادي بعضهم بعضا، ويقتل بعضهم بعضا، كما قال تعالى: {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} 3. ولكن لما عاد الإسلام غريبا كما بدأ، صار الجاهلون به، يعتقدون ما هو سبب الرحمة، سبب العذاب، وما هو سبب الألفة والجماعة، سبب الفرقة والاختلاف، وما يحقن الدماء سببا لسفكها، كالذين قال الله فيهم: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ   1 سورة الأعراف آية: 96. 2 سورة آية: 51-52. 3 سورة المائدة آية: 14. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 509 أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} 1. وكذلك الذين قالوا لأتباع الرسل: {إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ} 2؛ فمن اعتقد أن تحكيم شريعة الإسلام، يفضي إلى القتال والمخالفة، وأنه لا يحصل الاجتماع والألفة، إلا على حكم الطاغوت، فهو كافر عدو لله ولجميع الرسل؛ فإن هذا حقيقة ما عليه كفار قريش، الذين يعتقدون أن الصواب ما عليه آباؤهم، دون ما بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم. المقام الثاني: أن يقال: إذا عرفت أن التحاكم إلى الطاغوت كفر، فقد ذكر الله في كتابه أن الكفر أكبر من القتل، قال: {وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} 3، وقال: {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} 4، والفتنة: هي الكفر; فلو اقتتلت البادية والحاضرة، حتى يذهبوا، لكان أهون من أن ينصبوا في الأرض طاغوتا، يحكم بخلاف شريعة الإسلام، التي بعث الله بها رسوله صلى الله عليه وسلم. المقام الثالث: أن نقول: إذا كان هذا التحاكم كفرا، والنّزاع إنما يكون لأجل الدنيا، فكيف يجوز لك أن تكفر لأجل ذلك؟ فإنه لا يؤمن الإنسان، حتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وحتى يكون الرسول أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين.   1 سورة الأعراف آية: 131. 2 سورة آية: 18-19. 3 سورة البقرة آية: 217. 4 سورة البقرة آية: 191. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 510 فلو ذهبت دنياك كلها، لما جاز لك المحاكمة إلى الطاغوت لأجلها، ولو اضطرك مضطر وخيرك، بين أن تحاكم إلى الطاغوت، أو تبذل دنياك، لوجب عليك البذل، ولم يجز لك المحاكمة إلى الطاغوت; والله أعلم، وصلى الله على محمد، وآله وسلم تسليما كثيرا. [الرد على من أنكر على أهل الدعوة الوهابية إنكارهم الشرك] وقال أيضا، رحمه الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، اعلم: أيها الطالب للحق، الراغب في معرفة الإخلاص والصدق، أنه ورد علينا أوراق صدرت من رجل سوء، تتضمن التحذير من التكفير، من غير تحقيق ولا تحرير. يقول فيها: قال شيخ الإسلام ابن تيمية، في الرد على أهل الرفض، من الخوارج والاعتزال: أقول: هذه عبارة من لا علم عنده، ولسنا بصدد بيان ما فيها من الجهل والخطل؛ والبصير يدرك ما فيها من الزلل. ثم إنه قال: قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وهؤلاء الذين ابتدعوا أصولا، زعموا أنه لا يمكن تصديق الرسول إلا بها، وأن معرفتها شرط في الإيمان، واجبة على الأعيان، أهل بدعة عند السلف والأئمة، وجمهور العلماء الجزء: 10 ¦ الصفحة: 511 الحذاق، من الأئمة ومن تبعهم بإحسان; إنها باطلة في العقل، مبتدعة في الشرع ... إلى أن قال: ومن شأن أهل البدع: أنهم يبتدعون أقوالا، يجعلونها واجبة في الدين، بل يجعلونها من الإيمان الذي لا بد منه، ويكفرون من خالفه بها، ويستحلون دمه، كفعل الخوارج والجهمية والمعتزلة وغيرهم ... مقطعا أخذ منه ما قصد به اللبس والتضليل، وترك منه ما فيه البيان والتفصيل. وما وجدنا لنقل هذا الرجل لكلام شيخ الإسلام وغيره، محملا حسنا يحمل عليه، ولا حاجة لذلك دعته إليه، إذ ليس في جزيرة العرب وما حولها، من يرى رأيا ويكفر الصحابة وغيرهم، من أهل الإيمان بالذنوب، التي لا يكفر صاحبها، ولا من يقول بالمنْزلة بين المنْزلتين، وينكر القدر، كالمعتزلة، ولا من يجحد صفات الرب تعالى كالجهمية، ولا من يغلو في أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم ويدعي فيهم الإلهية، كالرافضة. فإذا كان ذلك كذلك، علم: أنه إنما أراد بهذه النقول، أهل هذه الدعوة الإسلامية، التي ظهرت بنجدنا، فانتفع بها الخلق الكثير، والجم الغفير من هذه الأمة، وتمسكوا فيها بالأصول، من الكتاب والسنة، وتأيدوا بإجماع سلف الأمة، وما قرره أتباع السلف من الأئمة، كشيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه العلامة: محمد بن قيم الجزء: 10 ¦ الصفحة: 512 الجوزية، وسلفهم من أهل السنة والجماعة. وهذا الرجل إنما أُتي من جهة فساد الاعتقاد، فلا يرى الشرك الجلي ذنبا كبيرا يكفر فاعله، فوجه إنكاره وطعنه على من أنكر الشرك وفارق أهله، وكفرهم بالكتاب والسنة والإجماع; ولا يخفى أن من أشد الناس إنكارا للشرك: شيخ الإسلام ابن تيمية، وأمثاله من علماء السنة، لما حدث في زمانهم، وعمت به البلوى، فأنكروه، وبينوا أن هذا هو الشرك الجلي، الذي عليه المشركون الأولون، كما سيأتي في كلامه رحمه الله. فصار من هؤلاء المشركين، من يكفر أهل التوحيد، بمحض الإخلاص والتجريد، وإنكارهم على أهل الشرك والتنديد; فلهذا قالوا: أنتم خوارج، أنتم مبتدعة، كما أشار العلامة ابن القيم، إلى مثل هذه الحال، بقوله: من لي بشبه خوارج قد كفروا ... بالذنب تأويلا بلا إحسان ولهم نصوص قصروا في فهمها ... فأُتوا من التقصير في العرفان وخصومنا قد كفرونا بالذي ... هو غاية التوحيد والإيمان وهذا الرجل: قد أخذ بطريقة من يكفر بتجريد التوحيد، فإذا قلنا: لا يُعبد إلا الله، ولا يدعى إلا هو، ولا يرجى سواه، ولا يتوكل إلا عليه، ونحو ذلك من أنواع العبادة، التي لا تصلح إلا لله، وأن من توجه بها لغير الله الجزء: 10 ¦ الصفحة: 513 فهو كافر مشرك، قال: ابتدعتم، وكفرتم أمة محمد، أنتم خوارج، أنتم مبتدعة؛ وأخذ من كلام شيخ الإسلام في أهل البدع، ما كتبه يعرض بأهل التوحيد. ولا يخفى ما قاله شيخ الإسلام فيمن أشرك بالله، قال: من جعل بينه وبين الله وسائط، يدعوهم، ويسألهم، ويتوكل عليهم، كفر إجماعا; وغاية ما موَّه به على الجهال، من أن شيخ الإسلام رحمه الله، ذكر في أهل المقالات الخفية: أنها وإن كانت كفرا، فلا ينبغي أن يكفر صاحبها حتى تقوم علية الحجة. وهذا كلامه، قال: نفي الصفات كفر، والتكذيب بأن الله يرى في الآخرة كفر، وإنكار أن يكون الله على العرش كفر، وما في معنى ذلك; فتكفير المعين من هؤلاء، بحيث يحكم عليه بأنه مع الكفار، لا يجوز الإقدام عليه، إلا أن تقوم الحجة التي يتبين بها أنهم مخطئون. فتأمل قوله: من هؤلاء; وتأمل قوله: بحيث يحكم عليه بأنه مع الكفار‘ وقوله: حتى تقوم عليه الحجة‘ فأراد بالكفار هنا المشركين، كما سيأتي تقريره في كلام هذا الشيخ وغيره. ونحن بحمد الله قد خلت ديارنا من المبتدعة، أهل هذه المقالات، وقد صار الخلاف بيننا وبين كثير من الجزء: 10 ¦ الصفحة: 514 الناس، في عبادة الأوثان، التي أرسل الله الرسل وأنزل الكتب بالنهي عنها، وعداوة أهلها، فندعو إلى ما دعت إليه الرسل، من التوحيد والإخلاص، وننهى عما نهت عنه من الشرك بالله، في ربوبيته، وإلهيته، كما قال تعالى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} 1. والقرآن من أوله إلى آخره، في بيان هذا الشرك والنهي عنه، وتقرير التوحيد، كما قال الله تعالى: {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} 2 الآيات. وهذا التوحيد هو من أصولنا بحمد الله، وكاتب الأوراق، يقول: هذا بدعة; نعم هو بدعة عند نحو القائلين: {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلاقٌ} 3. فانظر كلام شيخ الإسلام رحمه الله، الذي لا يقبل اللبس، فإنه لما ذكر من تقدمت الإشارة إليهم، من أرباب المقالات، قال: وهذا إذا كان في المقالات الخفية، فقد يقال إنه فيها مخطئ ضال، لم تقم عليه الحجة، لكن ذلك يقع في طوائف منهم، في الأمور الظاهرة، التي يعلم العامة والخاصة من المسلمين أنها من دين الإسلام.   1 سورة الزخرف آية: 45. 2 سورة آية: 14-15. 3 سورة ص آية: 7. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 515 بل اليهود، والنصارى، والمشركون، يعلمون أن محمدا صلى الله عليه وسلم بعث بها، وكفر من خالفها، مثل أمره بعبادة الله وحده لا شريك له، ونهيه عن عبادة أحد سواه، من الملائكة والنبيين، والشمس والقمر، والكواكب، والأصنام وغير ذلك، فإن هذا أظهر شعائر الإسلام، ومثل أمره بالصلاة، وإيجابه لها، وتعظيم شأنها، ومثل معاداة اليهود والنصارى، والمشركين والصابئين والمجوس، ومثل تحريم الفواحش، والربا والميسر، ونحو ذلك; ثم تجد كثيرا من رؤوسهم وقعوا في هذه الأنواع، فكانوا مرتدين، انتهى كلامه رحمه الله. فتأمل قوله: ومثل معاداة اليهود والنصارى والمشركين ... إلى آخره; والذين قال فيهم شيخ الإسلام: إنهم يكونون - بمخالفتهم لبعض الشرائع - مرتدين، هو الذي نقول به، وعليه أئمة الإسلام قاطبة؛ وهو الذي ينقم منا هذا الرجل، وأمثاله من المنحرفين عن التوحيد. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله تعالى: ومن اعتقد أنه بمجرد تلفظه بالشهادة يدخل الجنة، ولا يدخل النار، فهو مخالف الكتاب والسنة، والإجماع; انتهى. وذكر شيخ الإسلام أن الفخر الرازي صنف "السر الجزء: 10 ¦ الصفحة: 516 المكتوم" في عبادة النجوم، فصار مرتدا، إلا أن يكون قد تاب بعد ذلك؛ فقد كفر الرازي بعينه لما زين الشرك. وقال: بعد أن ذكر العلة في النهي عن اتخاذ القبور مساجد، والنهي عن الصلاة عند طلوع الشمس، وعند غروبها، قال: فسد الذريعة أن لا يصلى في هذه الساعة، وإن كان المصلي لا يصلي إلا لله، ولا يدعو إلا الله، لئلا يفضي إلى دعائها والصلاة لها. وهذا من أسباب الشرك الذي ضل به كثير من الأولين والآخرين، حتى شاع ذلك في كثير ممن ينتسب إلى الإسلام، وصنف كتبا على مذهب المشركين، مثل أبي معشر البلخي، وثابت بن قرة، وأمثالهما ممن دخل في الشرك، وآمن بالجبت والطاغوت، وهم ينتسبون إلى الكتاب، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} 1. انتهى. فانظر إلى هذا الإمام، الذي نسب عنه - من أزاغ الله قلبه - عدم تكفير المعين، كيف ذكر عن الفخر الرازي، وأبي معشر وغيرهما، من المصنفين المشهورين أنهم كفروا، وارتدوا عن الإسلام. وتأمل قوله: حتى شاع ذلك في كثير ممن ينتسب إلى الإسلام، لتعلم ما وقع في آخر هذه الأمة من الشرك بالله،   1 سورة النساء آية: 51. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 517 وقد ذكر الفخر الرازي في رده على المتكلمين، وذكر تصنيفه "السر المكتوم" وقال: هذه ردة صريحة باتفاق المسلمين. وقال في "الرسالة السنية": وكل من غلا في نبي، أو رجل صالح، وجعل فيه نوعا من الإلهية، مثل أن يقول: يا سيدي فلان انصرني، أو أغثني، أو ارزقني، أو اجبرني، أو أنا في حسبك، ونحو هذه الأقوال، فكل هذا شرك وضلال، يستتاب صاحبه فإن تاب وإلا قتل. فإن الله إنما أرسل الرسل، وأنزل الكتب، ليعبد وحده، ولا يجعل معه إله آخر؛ والذين يدعون مع الله آلهة أخرى، مثل المسيح والملائكة والأصنام، لم يكونوا يعتقدون أنها تخلق الخلائق، وتنْزل المطر وتنبت النبات، وإنما كانوا يعبدونهم، أو يعبدون قبورهم أو صورهم، ويقولون: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} 1، {وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} 2. فبعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم ينهى أن يدعى أحد من دون الله، لا دعاء عبادة ولا دعاء استعانة، قال الله تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} 3 الآية؛ قال طائفة من السلف: كان أقوام يدعون المسيح، وعزيرا، والملائكة.   1 سورة الزمر آية: 3. 2 سورة يونس آية: 18. 3 سورة آية: 56-57. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 518 ثم ذكر رحمه الله آيات، ثم قال: وعبادة الله وحده لا شريك له، هي أصل الدين، وهي أصل التوحيد، الذي بعث الله به الرسل، وأنزل به الكتب، قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} 1، وقال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} 2. وكان صلى الله عليه وسلم يحقق التوحيد ويعلمه أمته، حتى " قال له رجل: ما شاء الله وشئت; قال: أجعلتني لله ندا؟ بل ما شاء الله وحده " 3، ونهى عن الحلف بغير الله، وقال: " من حلف بغير الله فقد أشرك "، وقال في مرض موته: " لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " 4 يحذر ما فعلوا; وقال: " اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد " 5، وقال: " لا تتخذوا قبري عيدا، ولا بيوتكم قبورا، وصلوا علي حيث ما كنتم، فإن صلاتكم تبلغني " 6. ولهذا اتفق أئمة الإسلام، على أنه لا يشرع بناء المساجد على القبور، ولا الصلاة عندها، وذلك لأن من أكبر أسباب عبادة الأوثان: كان تعظيم القبور; ولهذا اتفق العلماء: على أنه من سلم على النبي صلى الله عليه وسلم عند قبره، أنه لا يتمسح بحجرته، ولا يقبلها، لأنه إنما يكون لأركان بيت الله، فلا يشبه بيت المخلوق ببيت الخالق.   1 سورة النحل آية: 36. 2 سورة الأنبياء آية: 25. 3 أحمد (1/283) . 4 البخاري: الجنائز (1330) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (531) , والنسائي: المساجد (703) , وأحمد (1/218 ,6/34 ,6/80 ,6/121 ,6/252 ,6/255 ,6/274) , والدارمي: الصلاة (1403) . 5 أحمد (2/246) . 6 أبو داود: المناسك (2042) , وأحمد (2/367) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 519 كل هذا لتحقيق التوحيد، الذي هو أصل الدين، ورأسه الذي لا يقبل الله عملا إلا به، ويغفر لصاحبه ولا يغفر لمن تركه، كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً} 1؛ ولهذا كانت كلمة التوحيد أفضل الكلام وأعظمه، انتهى. قلت: فلم يبق بحمد الله لمرتاب حجة في كلام العلماء، بعد هذا التفصيل والإيضاح والبيان، وما أحسن ما قال العلامة ابن القيم رحمه الله شعرا: والعلم يدخل قلب كل موفق ... من غير بواب ولا استئذان ويرده المحروم من خذلانه ... لا تشقنا اللهم بالخذلان وله رحمه الله: تفصيل حسن في "مدارج السالكين" في ذكر أجناس ما يتاب منه، وهي اثنا عشر جنسا، مذكورة في كتاب الله عزوجل: الأول الكفر، والثاني الشرك. فأنواع الكفر خمسة: كفر تكذيب، وكفر استكبار وإباء مع التصديق، وكفر إعراض، وكفر شك، وكفر نفاق - وبيّن هذه الأنواع - ثم قال: وأما الشرك فهو نوعان: أكبر وأصغر؛ فأما الأكبر: فلا يغفره الله إلا بالتوبة منه، وهو أن يتخذ من دون الله ندا، يحبه كما يحب الله؛ وهو الشرك الذي تضمن تسوية آلهة المشركين برب   1 سورة النساء آية: 48. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 520 العالمين. ولهذا قالوا لآلهتهم في النار: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} 1، مع إقرارهم بأن الله وحده هو خالق كل شيء، وربه ومليكه، وأن آلهتهم لا تخلق ولا ترزق، ولا تميت ولا تحيي؛ وإنما كانت هذه التسوية في المحبة والتعظيم والعبادة، كما هو حال مشركي العالم، بل كلهم يحبون معبوداتهم، ويعظمونها ويوالونها من دون الله. وكثير منهم بل أكثرهم، يحبون آلهتهم أعظم من محبة الله، ويستبشرون بذكرهم أعظم من استبشارهم إذا ذكر الله وحده، ويغضبون لمنتقص معبوديهم وآلهتهم من المشايخ، أعظم مما يغضبون إذا استنقص أحد رب العالمين، وإذا انتهكت حرمة من حرمات آلهتهم ومعبوديهم، غضبوا غضب الليث إذا حَرِدَ; وإذا انتهكت حرمات الله، لم يغضبوا لها، بل إذا قام المنتهك لها بإطعامهم شيئا، أعرضوا عنه ولم تستنكر له قلوبهم. وقد شاهدنا هذا نحن وغيرنا منهم جهرة، وترى أحدهم قد اتخذ ذكر إلهه ومعبوده من دون الله، على لسانه دَيْدَنًا له، إن قام وإن قعد، وإن عثر وإن استوحش; فذكر إلهه ومعبوده من دون الله، هو الغالب على قلبه ولسانه، وهو لا ينكر ذلك، ويزعم: أنه باب حاجته إلى الله،   1 سورة آية: 97-98. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 521 وشفيعه عنده ووسيلته إليه، وهكذا كان عباد الأصنام سواء. وهذا القدر هو الذي قام بقلوبهم، وتوارثه المشركون، بحسب اختلاف آلهتهم، فأولئك كانت آلهتهم من الحجر، وغيرهم اتخذوها من البشر، قال الله تعالى حاكيا عن أسلاف هؤلاء المشركين {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} 1. ثم شهد عليهم بالكذب والكفر، وأخبر أنه لا يهديهم، فقال: {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} 2 فهذا حال من اتخذ من دون الله وليا، يزعم أنه يقربه إلى الله; وما أعز من تخلص من هذا، بل ما أعز من لا يعادي من أنكره! والذي قام في قلوب هؤلاء المشركين وسلفهم: أن آلهتهم تشفع لهم عند الله، وهذا عين الشرك. وقد أنكر الله عليهم ذلك في كتابه، وأبطله وأخبر أن الشفاعة كلها له، وأنه لا يشفع عنده أحد إلا لمن أذن الله أن يشفع فيه، ورضي قوله وعمله، وهم أهل التوحيد الذين لم يتخذوا من دون الله شفعاء؛ فإنه يأذن سبحانه لمن يشاء في الشفاعة لهم، حيث لم يتخذوهم شفعاء من دونه، فيكون أسعد الناس بشفاعته من يأذن له، وهو صاحب التوحيد، الذي لم يتخذ شفيعا من دون الله.   1 سورة الزمر آية: 3. 2 سورة الزمر آية: 3. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 522 والشفاعة التي أثبتها الله ورسوله، هي الشفاعة الصادرة عن إذنه لمن وحده، والشفاعة التي نفاها، هي الشفاعة الشركية في قلوب المشركين، المتخذين من دون الله شفعاء، فيعاملون بنقيض قصدهم من شفاعتهم، ويفوز بها الموحدون. فتأمل قول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة، وقد سأله: " من أسعد الناس بشفاعتك يا رسول الله؟ قال: أسعد الناس بشفاعتي، من قال: لا إله إلا الله"، كيف جعل أعظم الأسباب، التي تنال بها شفاعته، تجريد التوحيد؟ عكس ما عند المشركين، أن الشفاعة تنال باتخاذهم شفعاء، وعبادتهم، وموالاتهم من دون الله؛ فقلب النبي صلى الله عليه وسلم ما في زعمهم الكاذب، وأخبر أن سبب الشفاعة تجريد التوحيد، فحينئذ يأذن الله للشافع أن يشفع. ومِنْ جَهْلِ المشرك: اعتقاده أن من اتخذ وليا أو شفيعا، أنه يشفع له وينفعه عند الله، كما تكون خواص الملوك والولاة تنفع من والاهم، ولم يعلموا أن الله لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، ولا يأذن في الشفاعة إلا لمن رضي قوله وعمله، كما قال تعالى في الفصل الأول: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} 1، وفي الفصل الثاني {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} 2.   1 سورة البقرة آية: 255. 2 سورة الأنبياء آية: 28. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 523 وبقي فصل ثالث، وهو أنه لا يرضى من القول والعمل إلا التوحيد، واتباع الرسول صلى الله عليه وسلم؛ وعن هاتين الكلمتين يسأل الأولون والآخرون، كما قال أبو العالية: كلمتان يسأل عنهما الأولون والآخرون، ماذا كنتم تعبدون؟ وماذا أجبتم المرسلين1؟. وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. آخر الجزء العاشر من الدرر السنية، ويليه الجزء الحادي عشر أول مختصرات الردود.   1 إلى آخر كلامه رحمه الله. انظر صفحة 341 /جـ 1 من مدارج السالكين. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 524 المجلد الحادي عشر: (القسم الأول من كتاب مختصرات الردود) كتاب مختصر الردود ... كتاب مختصر الردود قال الشيخ: حمد بن ناصر بن معمر رحمه الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين; وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولا ند ولا معين; وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أرسله رحمة للعالمين، وحجة على الكافرين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليما. أما بعد: فإنه لما كان منتصف جمادى الثانية، من سنة سبع عشرة بعد المائتين والألف، ورد علينا رسالة من محمد بن أحمد الحفظي اليمني، يسأل فيها عن مسائل أوردها عليه بعض المجادلين، فطلب منا الجواب عليها. منها: أنه زعم أن إطلاق الكفر بدعاء غير الله، غير مسلم لوجوه: الوجه الأول: عدم النص الصريح على ذلك بخصوصه. الثاني: إن نظر فيه من حيثية القول، فهو كالحلف بغير الله، وقد ورد أنه شرك وكفر ثم أولوه بالأصغر وإن نظر فيه من حيثية الاعتقاد، فهو كالطيرة، وهي من الأصغر. الثالث: أنه قد ورد في حديث الضرير، قوله: " يا محمد إني أتوجه بك " 1 إلخ. وفي الجامع الكبير،   1 الترمذي: الدعوات (3578) , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1385) , وأحمد (4/138) . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 5 وعزاه للطبراني فيمن انفلتت عليه دابته، قال: " يا عباد الله احبسوا " وهذا دعاء ونداء لغير الله. الجواب:- وبالله التوفيق والتأييد، ومنه أستمد العون والتسديد - اعلم: أن دعاء غير الله وسؤاله نوعان: أحدهما: سؤال الحي الحاضر ما يقدر عليه، مثل سؤاله أن يدعو له أو يعينه، أو ينصره مما يقدر عليه، فهذا جائز كما كان الصحابة رضي الله عنهم يستشفعون بالنبي صلى الله عليه وسلم في حياته، فيشفع لهم، ويسألونه الدعاء فيدعو لهم. فالمخلوق يطلب منه من هذه الأمور ما يقدر عليه منها، كما قال تعالى في قصة موسى: {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} [سورة القصص آية: 15] وقال تعالى: {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} [سورة الأنفال آية: 72] وكما ورد في الصحيحين أن الناس يوم القيامة يستغيثون بآدم، ثم بنوح، ثم بإبراهيم، ثم بموسى، ثم بعيسى، ثم بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم. وفي سنن أبي داود، " أن رجلا قال للنبي:صلى الله عليه وسلم إنا نستشفع بالله عليك، ونستشفع بك على الله، فقال: شأن الله أعظم من ذلك، إنه لا يستشفع بالله على أحد من خلقه " فأقره على قوله نستشفع بك على الله; وأنكر قوله: نستشفع بالله عليك. فالصحابة رضي الله عنهم كانوا يطلبون منه الدعاء، ويستشفعون به في حياته صلى الله عليه وسلم. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6 النوع الثاني: سؤال الميت والغائب وغيرهما، مما لا يقدر عليه إلا الله; مثل: سؤال قضاء الحاجات، وتفريج الكربات، وإغاثة اللهفات; فهذا من المحرمات المنكرة، باتفاق أئمة المسلمين; لم يأمر الله به، ولا رسوله، ولا فعله أحد من الصحابة، ولا التابعين لهم بإحسان، ولا استحبه أحد من أئمة المسلمين. وهذا مما يعلم بالاضطرار أنه ليس من دين الإسلام؛ فإنه لم يكن أحد منهم إذا نزلت به شدة أو عرضت له حاجة، يقول لميت: يا سيدي فلان اقض حاجتي، أو اكشف شدتي، أو أنا في حسبك، أو أنا متشفع بك إلى ربي، كما يقول بعض هؤلاء المشركين لمن يدعونهم من الموتى والغائبين. ولا أحد من الصحابة استغاث بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد موته، ولا بغيره من الأنبياء عند قبورهم، ولا إذا بعدوا عنها; فإن هذا من الشرك الأكبر، الذي كفّر الله به المشركين، الذين كفرهم النبي صلى الله عليه وسلم واستباح دماءهم وأموالهم; لم يقولوا إن آلهتهم شاركت الله في خلق العالم، أو إنها تنْزل المطر وتنبت النبات; بل كانوا مقرين بذلك لله وحده، كما قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [سورة لقمان آية: 25] الآية وقال تعالى: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [سورة المؤمنون آية: 84-85] إلى قوله: {فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} [سورة المؤمنون آية: 89] . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 7 وقال تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [سورة يوسف آية: 106] قال طائفة من السلف، في تفسير هذه الآية: إذا سئلوا من خلق السماوات والأرض، قالوا: الله، وهم يعبدون غيره؛ ففسروا الإيمان في الآية، بإقرارهم بتوحيد الربوبية، وفسروا الإشراك بإشراكهم في توحيد الإلهية، الذي هو توحيد العبادة. والعبادة: اسم جامع لما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال، من ذلك: الدعاء بما لا يقدر على جلبه أو دفعه إلا الله; فمن طلبه من غيره، واستعان به فيه، فقد عبده به والدعاء من أفضل العبادات، وأجل الطاعات، قال الله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [سورة غافر آية: 60] . وفي الترمذي: عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " الدعاء مخ العبادة " 1 وللترمذي والنسائي وابن ماجه، من حديث النعمان بن بشير، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الدعاء هو العبادة "2 ثم قرأ: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} [سورة غافر آية: 60] الآية، قال الترمذي حديث حسن صحيح. قال الشارح: معنى قوله صلى الله عليه وسلم: " الدعاء هو العبادة " أي: معظمها، فهو كقوله: " الحج عرفة " 3 أي: ركنه الأعظم. ومعنى قوله: "الدعاء العبادة" أي: خالصها،   1 الترمذي: الدعوات (3371) . 2 الترمذي: تفسير القرآن (2969) , وابن ماجه: الدعاء (3828) . 3 الترمذي: الحج (889) , والنسائي: مناسك الحج (3016) , وأبو داود: المناسك (1949) , وابن ماجه: المناسك (3015) , وأحمد (4/309 ,4/335) , والدارمي: المناسك (1887) . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 8 لأن الداعي إنما يدعو الله، عند انقطاع أمله مما سواه، وذلك حقيقة التوحيد والإخلاص، انتهى. والدعاء في القرآن يتناول معنيين: أحدهما: دعاء العبادة، وهو: دعاء الله لامتثال أمره، في قوله: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} الثاني: دعاء المسألة; وهو دعاؤه سبحانه في جلب المنفعة، ودفع المضرة. وبقطع النظر عن الامتثال، فقد فسر قوله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [سورة غافر آية: 60] بالوجهين: أحدهما: ما هو عام في الدعاء وغيره، وهو العبادة، وامتثال الأمر له سبحانه؛ فيكون معنى قوله: {أَسْتَجِبْ لَكُمْ} أثبكم، كما قال في الآية الأخرى: {وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [سورة الشورى آية: 26] أي يثيبهم على أحد التفسيرين. الثاني: ما هو خاص، معناه: سلوني أعطكم، كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ينْزل ربنا كل ليلة إلى السماء الدنيا، حين يبقى ثلث الليل الآخر، فيقول: من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه سؤاله؟ من يستغفرني فأغفر له؟ " 1 فذكر أولا لفظ الدعاء، ثم السؤال، ثم الاستغفار، والمستغفر سائل، كما أن المسائل داع؛ فعطف السؤال والاستغفار على الدعاء؛ فهو من باب عطف الخاص على العام.   1 البخاري: التوحيد (7494) , ومسلم: صلاة المسافرين وقصرها (758) , والترمذي: الصلاة (446) والدعوات (3498) , وأبو داود: الصلاة (1315) والسنة (4733) , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1366) , وأحمد (2/258 ,2/264 ,2/267 ,2/282 ,2/419 ,2/487 ,2/504 ,2/521) , ومالك: النداء للصلاة (496) , والدارمي: الصلاة (1478 ,1479) . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 9 وهذا المعنى الثاني، أعني: الخاص هو الأظهر، لوجهين: أحدهما: ما في حديث النعمان بن بشير، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن الدعاء هو العبادة " 1 ثم قرأ الآية: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [سورة غافر آية: 60] فاستدلاله عليه الصلاة والسلام، بالآية على الدعاء، دليل على أن المراد منها: سلوني. وخطاب الله عباده المكلفين بصيغة الأمر، منصرف إلى الوجوب، ما لم يقم دليل يصرفه إلى الاستحباب؛ فيفيد قصر فعله على الله، فلا يجعل لغيره، لأنه عبادة; ولهذا أمر الله الخلق بسؤاله، فقال: {وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ} [سورة النساء آية: 32] . وفي الترمذي: عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: " سلوا الله من فضله، فإن الله يحب أن يُسأل " 2 وله عن أبي هريرة، مرفوعا: " من لم يسأل الله يغضب عليه " 3 وله أيضا: " إن الله يحب الملحين في الدعاء " فتبين بهذا: أن الدعاء من أفضل العبادات، وأجل الطاعات. الوجه الثاني: أنه سبحانه قال: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [سورة البقرة آية: 186] والسائل راغب راهب، وكل سائل راغب راهب، فهو عابد للمسؤول. وكل عابد فهو أيضا راغب راهب، يرجو رحمته ويخاف عذابه؛ فكل عابد سائل، وكل سائل لله فهو عابد.   1 الترمذي: تفسير القرآن (2969) , وابن ماجه: الدعاء (3828) . 2 الترمذي: الدعوات (3571) . 3 الترمذي: الدعوات (3373) , وابن ماجه: الدعاء (3827) . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 10 قال الله تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً} [سورة الأنبياء آية: 90] لا يتصور أن يخلو داع لله دعاء عبادة، أو دعاء مسألة، من الرغب والرهب، والخوف والطمع له; فدعاء العبادة، ودعاء المسألة، كلاهما عبادة لله، لا يجوز صرفها إلى غيره; فلا يجوز أن يطلب من مخلوق ميت أو غائب، قضاء حاجة، أو تفريج كربة، ما لا يقدر عليه إلا الله، لا يجوز أن يطلب إلا من الله. فمن دعا ميتا أو غائبا فقال: يا سيدي فلان أغثني، أو انصرني، أو ارحمني، أو اكشف عني شدتي، ونحو ذلك، فهو كافر مشرك، يستتاب فإن تاب وإلا قتل. وهذا مما لا خلاف فيه بين العلماء، فإن هذا هو شرك المشركين، الذين قاتلهم النبي صلى الله عليه وسلم فإنهم لم يكونوا يقولون تخلق وترزق، وتدبر أمر من دعاها؛ بل كانوا يعلمون أن ذلك لله وحده، كما حكاه عنهم في غير موضع من كتابه. وإنما كانوا يفعلون عندها ما يفعله إخوانهم من المشركين اليوم، من دعائها، والاستغاثة بها، والذبح لها، والنذر لها؛ يزعمون أنها وسائط بينهم وبين الله، تقربهم إليه، وتشفع لهم لديه، كما حكاه عنهم في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [سورة الزمر آية: 3] . وقال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 11 يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [سورة يونس آية: 18] فقاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ليكون الدعاء كله لله، والذبح كله لله، والاستغاثة كلها بالله، وجميع العبادات كلها لله. والله سبحانه قد بين في غير موضع من كتابه أن الدعاء عبادة، فقال تعالى: حاكيا عن خليله إبراهيم عليه السلام: {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيّاً فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [سورة مريم آية: 48-49] . وقال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [سورة الأحقاف آية: 5] فأخبر سبحانه أنه لا أضل من هذا الداعي، وأن المدعو لا يستجيب له، وأن ذلك عبادة يكفر بها المعبود يوم القيامة، كقوله تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزّاً كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً} [سورة مريم آية: 81-82] . وقد سمى الله سبحانه الدعاء دينا في غير موضع من كتابه، وأمرنا أن نخلصه له، وأخبر أن المشركين يخلصون له في الشدائد، فقال تعالى: {وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [سورة لقمان آية: 32] وقال تعالى: {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 12 عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [سورة يونس آية: 22] وقال تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [سورة العنكبوت آية: 65] فأخبر سبحانه أنهم عند الاضطرار يدعونه وحده لا شريك له، مخلصين له في تلك الحالات، لا يستغيثون بغيره، فلما نجاهم من تلك الشدة، إذا هم يشركون في دعائهم; ولهذا قال: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ} [سورة الإسراء آية: 67] أي: أنه سبحانه لما نجاكم إلى البر أعرضتم، أي: نسيتم ما عرفتم من توحيده، وأعرضتم عن دعائه وحده لا شريك له. وقال تعالى: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [سورة غافر آية: 14] وقال تعالى: {الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [سورة غافر آية: 65] فالدعاء من أفضل العبادات، وأجل الطاعات، ولهذا أخبر أنه الدين، فذكره معرفا بالألف واللام، وأخبر أن المشركين يخلصون له في الشدائد، وأنهم في الرخاء يشركون معه غيره، فيدعون من لا ينفعهم ولا يضرهم ولا يسمع دعاءهم؛ فصاروا بذلك كافرين. ومن تأمل أدلة الكتاب والسنة، علم أن شرك المشركين الذين كفرهم النبي صلى الله عليه وسلم إنما هو في الدعاء والذبح والنذر، والتوكل والالتجاء ونحو ذلك. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 13 فإن جادل مجادل، وزعم أنه ليس هذا، قيل له: فأخبرنا عما كانوا يفعلون عند آلهتهم؟ وما الذي يريدون؟ وما هذا الشرك الذي حكاه الله عنهم؟ فإن قال: شركهم عبادة غير الله، قيل له: وما معنى عبادتهم لغير الله؟ أتظن أنهم يعترفون أن تلك الأخشاب والأحجار، تخلق وترزق وتدبر أمر من دعاها؟ فهذا يكذبه القرآن; لأن الله أخبر عنهم: أنهم مقرون بذلك لله وحده. فإن قال: إنهم يريدون منهم النفع والضر من دون الله، فهذا يكذبه القرآن أيضا; لأن الله أخبر عنهم: أنهم لم يريدوا إلا التقرب بهم إلى الله، وشفاعتهم عنده، كما قال تعالى حاكيا عنهم: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [سورة الزمر آية: 3] الآية وقال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ} [سورة يونس آية: 18] الآية. وأخبر تعالى عن شركهم في غير آية من كتابه، كقوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً} [سورة الإسراء آية: 56] الآيتين أي: لا يرفعونه بالكلية، ولا يحولونه من حال إلى حال، ثم قال: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} [سورة الإسراء آية: 57] . قال طائفة من السلف: كان أقوام يدعون المسيح والعزير والملائكة، فبين الله لهم أن هؤلاء عبادي كما أنتم عبادي، يرجون رحمتي، كما ترجون رحمتي، ويخافون عذابي كما الجزء: 11 ¦ الصفحة: 14 تخافون عذابي; وأخبر أنهم لا يملكون كشف الضر عن الداعين، ولا تحويله؛ وهذا هو الإغاثة. والمشركون يزعمون أن آلهتهم تشفع لهم بالسؤال لله، والطلب منه، فيقضي الله لهم تلك الحاجات؛ فأبطل الله هذه الشفاعة التي يظنها المشركون، وبين أنه لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، فقال: {وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سورة سبأ "آية: 23] الآية وقال: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [سورة البقرة آية: 255] . فمن جعل الأنبياء والملائكة وسائط بين الله وبين خلقه، كالحُجّاب الذين يكونون بين الملك ورعيته، بحيث يزعم أنهم يرفعون الحوائج إلى الله، وأن الله يرزق عباده، وينصرهم بتوسطهم، أي بمعنى: أن الخلق يسألونهم، وهم يسألون الله; فمن اعتقد هذا فهو كافر مشرك. إذا تقرر هذا، فنقول: قول القائل: إن إطلاق الكفر بدعاء غير الله، غير مسلم لوجوه: الوجه الأول: عدم النص الصريح على ذلك بخصوصه، كلام باطل; بل النصوص الصريحة في كفر من دعا غير الله وجعل لله ندا من خلقه يدعوه كما يدعو الله، ويرجوه كما يرجو الله، ويتوكل عليه في أموره. قال الله تعالى: {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [سورة الأنعام آية: 1] وقال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 15 أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} [سورة البقرة آية: 165] إلى قوله: {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [سورة البقرة آية: 167] . فمن أحب مخلوقا كما يحب الله، أو رجاه كما يرجو الله، فقد جعله ندا لله؛ وصار من الخالدين في النار. وفي صحيح البخاري، عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من مات وهو يدعو لله ندا دخل النار " 1. وفي الصحيحين: "أنه صلى الله عليه وسلم سئل: أي الذنب أعظم؟ قال: "أن تجعل لله ندا وهو خلقك " 2. والند: المثل، قال الله تعالى: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [سورة البقرة آية: 22] وقال تعالى عن أهل النار: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [سورة الشعراء آية: 97-98] ومعلوم: أنهم ما سووهم به في الخلق والرزق، والإحياء والإماتة، وإنما سووهم به في الدعاء والخوف والرجاء، والمحبة والتعظيم والإجلال. وقال تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الْأِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَاداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} [سورة الزمر آية: 8] فصرح بكفره. وقال تعالى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [سورة المؤمنون آية: 117] ، وقال تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً   1 البخاري: تفسير القرآن (4497) , وأحمد (1/374 ,1/407 ,1/425 ,1/462 ,1/464) . 2 البخاري: الأدب (6001) , ومسلم: الإيمان (86) , والترمذي: تفسير القرآن (3182 ,3183) , والنسائي: تحريم الدم (4013 ,4014 ,4015) , وأبو داود: الطلاق (2310) , وأحمد (1/380 ,1/431 ,1/434 ,1/462 ,1/464) . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 16 لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ} [سورة آل عمران آية: 79] إلى قوله: {وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [سورة آل عمران آية: 80] ، فبين: أن اتخاذ الملائكة والنبيين أربابا كفر. وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [سورة النساء آية: 48] وقال فيما حكاه عن المسيح: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} [سورة المائدة آية: 72] . وقال تعالى: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ?إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ} [سورة فاطر آية: 13-14] فدلت الآية الكريمة: على أن أعظم شركهم إنما هو دعاء غير الله؛ فإنه أخبر أنهم لا يملكون من قطمير، وهو القشر الذي يكون على ظهر النواة، أي: ليس لهم من الأمر شيء، وإن قل. ثم أخبر: أنهم لا يسمعون دعاءهم، وأنهم لو سمعوا ما استجابوا لهم؛ وهذا صريح في دعاء المسألة. ثم أخبر: أن هذا شرك يكفرون به يوم القيامة، فقال: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ} [سورة فاطر آية: 14] كقوله: {كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً} [سورة مريم آية: 82] وكقوله: {وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [سورة الأحقاف آية: 6] . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 17 والله سبحانه قد أرسل رسله، وأنزل كتبه، ليعبد وحده، ويكون الدين كله له، ونهى أن يُشرك به أحد من خلقه. وأخبر أن الرسالة عمت كل أمة، وأن دين الرسل واحد، وهو: الأمر بعبادته وحده لا شريك له، وأن لا يشرك به أحد سواه، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [سورة النحل آية: 36] ، وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [سورة الأنبياء آية: 25] . وأخبر أنه لا يغفر أن يشرك به، وأن من أشرك به فقد حبط عمله، وصار من الخالدين في النار، كما قال تعالى: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ} [سورة التوبة آية: 17] . فيقال لمن أنكر: أن يكون دعاء الموتى، والاستغاثة بهم في الشدائد شركا أكبر: أخبرنا عن هذا الشرك الذي عظمه الله وأخبر أنه لا يغفره؟ أتظن أن الله يحرمه هذا التحريم، ولا يبينه لنا؟ ومعلوم أن الله سبحانه أنزل كتابه تبيانا لكل شيء، وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين. وقد أخبر في كتابه أنه أكمل لنا الدين، وأتم علينا النعمة، ورضي لنا الإسلام دينا، فكيف يجوز أن يترك بيان الشرك، الذي هو أعظم ذنب عصي الله به سبحانه؟! فإذا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 18 أصغى الإنسان إلى كتاب الله وتدبره، وجد فيه الهدى والشفاء. {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [سورة الرعد آية: 33] {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [سورة النور آية: 40] . ويقال أيضا: قد أمرنا الله سبحانه بدعائه وسؤاله، وأخبر أنه يجيب دعوة الداع إذا دعاه، وأمرنا أن ندعوه خوفا وطمعا؛ فإذا سمع الإنسان قوله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [سورة غافر آية: 60] وقوله: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً} [سورة الأعراف آية: 55] ، وأطاع الله ودعاه، وأنزل به حاجته، وسأله تضرعا وخفية، فمعلوم أن هذا عبادة. فيقال: فإن دعا في تلك الحاجة نبيا، أو ملكا، أو عبدا صالحا، هل أشرك في هذه العبادة؟ فلا بد أن يقر بذلك إلا أن يكابر ويعاند. ويقال أيضا: إذا قال الله: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [سورة الكوثر آية: 2] ، وأطعت الله، ونحرت له، هل هذا عبادة؟ فلابد أن يقول: نعم; فيقال له: فإذا ذبحت لمخلوق، نبي أو ملك أو غيرهما، هل أشركت في هذه العبادة؟ فلا بد أن يقول: نعم، إلا أن يكابر ويعاند. وكذلك السجود عبادة، فلو سجد لغير الله لكان شركا. ومعلوم: أن الله سبحانه وتعالى، ذكر في كتابه النهي عن دعاء غيره، وتكاثرت نصوص القرآن على النهي عن ذلك، أعظم مما ورد في النهي عن السجود لغير الله، والذبح لغير الله. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 19 فإذا كان من سجد لقبر نبي، أو ملك، أو عبد صالح، لا يشك أحد في كفره. وكذلك لو ذبح له القربان، لم يشك أحد في كفره; لأنه أشرك في عبادة الله غيره؛ فيقال: السجود عبادة، وذبح القربان عبادة، والدعاء عبادة؛ فما الفارق بين السجود والذبح، وبين الدعاء إذ الكل عبادة، والدعاء عبادة؟ وما الدليل على أن السجود لغير الله، والذبح لغير الله شرك أكبر، والدعاء بما لا يقدر عليه إلا الله شرك أصغر؟ ويقال أيضا: قد ذكر أهل العلم من أهل كل مذهب، باب حكم المرتد، وذكروا فيه أنواعا كثيرة، كل نوع منها يكفر به الرجل، ويحل دمه وماله، ولم يرد في واحد منها ما ورد في الدعاء؛ بل لا نعلم نوعا من أنواع الكفر والردة، ورد فيه من النصوص مثل ما ورد في دعاء غير الله، بالنهي عنه والتحذير من فعله، والوعيد عليه. ولا يشتبه هذا إلا على من لم يعرف حقيقة ما بعث الله به محمدا صلى الله عليه وسلم من التوحيد، ولم يعرف حقيقة شرك المشركين، الذين كفرهم النبي صلى الله عليه وسلم وأحل دماءهم وأموالهم، وأمره الله أن يقاتلهم {حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} [سورة البقرة آية: 193] أي: لا يكون شرك، {وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [سورة الأنفال آية: 39] . فمن أصغى إلى كتاب الله، علم علما ضروريا أن دعاء الأموات من أعظم الشرك، الذي كفر الله به المشركين؛ فكيف يسوغ لمن عرف التوحيد الذي بعث الله به محمدا صلى الله عليه وسلم أن يجعل الجزء: 11 ¦ الصفحة: 20 ذلك من الشرك الأصغر، ويقول: قد عدم النص الصريح على كفر فاعله؟ فإن الأدلة القرآنية والنصوص النبوية، قد دلت على ذلك دلالة ظاهرة ليست خفية؛ ومن أعمى الله بصيرته فلا حيله فيه {مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [سورة الأعراف آية: 186] . وأيضا: فإن كثيرا من المسائل التي ذكرها العلماء في مسائل الكفر والردة، وانعقد عليها الإجماع، لم يرد فيها نصوص صريحة بتسميتها كفرا، وإنما يستنبطها العلماء من عموم النصوص، كما إذا ذبح المسلم نسكا متقربا به إلى غير الله، فإن هذا كفر بالإجماع، كما نص على ذلك النووي وغيره، وكذلك لو سجد لغير الله. فإذا قيل: هذا شرك، لأن الذبح عبادة والسجود عبادة، فلا يجوز لغير الله، كما دل على ذلك قوله: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [سورة الكوثر آية: 2] ، وقوله: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ} [سورة الأنعام آية: 162-163] ؛ فهذا صريح في الأمر بهما، وأنه لا يجوز صرفهما لغير الله. فينبغي أن يقال: فأين الدليل المصرح بأن هذا كفر بعينه؟. ولازم هذه المجادلة الإنكار على العلماء في كل مسألة من مسائل الكفر والردة التي لم يرد فيها نص بعينها، مع أن هذه المسألة المسؤول عنها، قد وجدت فيها النصوص الصريحة الجزء: 11 ¦ الصفحة: 21 من كلام الله وكلام رسوله، وأوردنا من ذلك ما فيه الهدى لمن هداه الله. وأما كلام العلماء، فنشير إلى قليل من كثير، ونذكر كلام من حكى الإجماع على ذلك: قال في الإقناع وشرحه: من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم، ويتوكل عليهم، ويسألهم، كفر إجماعا، لأن هذا كفعل عابدي الأصنام، قائلين: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [سورة الزمر آية: 3] . انتهى. [هل لابد من واسطة تبلغنا أمر الله] وقال الشيخ تقي الدين رحمه الله، وقد سئل عن رجلين تناظرا؛ فقال أحدهما: لا بد لنا من واسطة بيننا وبين الله، فإنا لا نقدر أن نصل إليه إلا بذلك. فأجاب بقوله: إن أراد بذلك أنه لا بد من واسطة تبلغنا أمر الله، فهذا حق. فإن الخلق لا يعلمون ما يحبه الله ويرضاه، وما أمر به وما نهى عنه إلا بالرسل الذين أرسلهم الله إلى عباده؛ وهذا مما أجمع عليه أهل الملل من المسلمين واليهود والنصارى؛ فإنهم يثبتون الوسائط بين الله وبين عباده، وهم الرسل الذين بلغوا عن الله أوامره ونواهيه، قال الله تعالى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ} [سورة الحج آية: 75] ؛ ومن أنكر هذه الوسائط فهو كافر بإجماع أهل الملل. وإن أراد بالواسطة أنه لا بد من واسطة يتخذها العباد بينهم وبين الله، في جلب المنافع ودفع المضار، مثل أن يكون الجزء: 11 ¦ الصفحة: 22 واسطة في رزق العباد، ونصرهم وهداهم، يسألونه ذلك، ويرجعون إليه، فهذا من أعظم الشرك الذي كفر الله به المشركين؛ حيث اتخذوا من دون الله أولياء وشفعاء، يجتلبون بهم المنافع، ويدفعون بهم المضار، لكون الشفاعة لم يأذن الله له فيها. قال تعالى: {مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ} [سورة السجدة آية: 4] ، وقال تعالى: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ} [سورة الأنعام آية: 51] ، وقال تعالى: {وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ} [سورة الأنعام آية: 70] ، وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍوَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سورة سبأ آية: 22-23] . وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً} [سورة الإسراء آية: 56] إلى قوله: {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} [سورة الإسراء آية: 57] . قال طائفة من السلف: كان أقوام من الكفار يدعون عيسى والعزير، والملائكة والأنبياء; فبين الله لهم أن الملائكة والأنبياء لا يملكون كشف الضر عنهم ولا تحويلا، وأنهم يتقربون إليه، ويرجون رحمته، ويخافون عذابه. قال تعالى: {وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 23 أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [سورة آل عمران آية: 80] ، فبين الله سبحانه وتعالى أن اتخاذ الملائكة والنبيين أربابا كفر، فمن جعل الملائكة والأنبياء وسائط، يدعوهم ويتوكل عليهم، ويسألهم جلب المنافع ودفع المضار، مثل أن يسألهم غفران الذنوب، وهداية القلوب، وتفريج الكربات، وسد الفاقات، فهو كافر بإجماع المسلمين. وقد قال تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} [سورة الأنبياء آية: 26-27-28] إلى قوله: {كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} [سورة الأنبياء آية: 29] ، وقال تعالى: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} [سورة النساء آية: 172] الآية، وقال تعالى: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [سورة النجم آية: 26] . وقال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [سورة البقرة آية: 255] ، وقال: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ} [سورة الأنعام آية: 17] الآية، وقال تعالى: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ} [سورة فاطر آية: 2] . فمن أثبت الوسائط بين الله وبين خلقه كالحُجّاب الذين بين الملك ورعيته، بحيث يكونون هم يرفعون إلى الله حوائج الجزء: 11 ¦ الصفحة: 24 خلقه، وأن الله تعالى إنما يهدي عباده ويرزقهم، وينصرهم بتوسطهم، بمعنى: أن الخلق يسألونهم، وهم يسألون الله، كما أن الوسائط عند الملوك، يسألون الملوك حوائج الناس بقربهم منهم، والناس يسألونهم، أدبا منهم أن يباشروا سؤال الملك، أو لأن طلبهم من الوسائط أنفع لهم من طلبهم من الملك، لكونهم أقرب إلى الملك من الطالب، فمن أثبتهم وسائط على هذا الوجه، فهو كافر مشرك؛ يجب أن يستتاب فإن تاب وإلا قتل. وهؤلاء مشبهون شبهوا الخالق بالمخلوق، وجعلوا لله أندادا. وفي القرآن من الرد على هؤلاء، ما لا تتسع له هذه الفتوى. فإن هذا دين المشركين عباد الأوثان، كانوا يقولون: إنها تماثيل الأنبياء والصالحين، وإنها وسائل يتقربون بها إلى الله تعالى؛ وهو من الشرك الذي أنكره الله على النصارى، حيث قال: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} [سورة التوبة آية: 31] . وقال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [سورة البقرة آية: 186] أي: فليستجيبوا لي إذا دعوتهم بالأمر والنهي، ويؤمنوا بي أني أجيب دعاءهم لي بالمسألة، والتضرع، وقال تعالى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [سورة الشرح آية: 7-8] . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 25 وقد بين الله هذا التوحيد في كتابه، وحسم مواد الإشراك به، حيث لا يخاف أحد غير الله، ولا يرجوه سواه، ولا يتوكل إلا عليه، قال تعالى: {فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} [سورة المائدة آية: 44] ، وقال تعالى: {وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [سورة آل عمران آية: 175] وقال: {وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ} [سورة التوبة آية: 18] ، وقال: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [سورة النور آية: 52] ؛ فبين أن الطاعة لله والرسول، وأما الخشية والتقوى فلله وحده. وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} [سورة التوبة آية: 59] فبين أن الإيتاء لله والرسول، وأما الحسب فهو لله وحده؛ كما قالوا حسبنا الله، ولم يقولوا حسبنا الله ورسوله، ونظيره قوله تعالى: {فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [سورة آل عمران آية: 173] . وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحقق هذا التوحيد لأمته، ويحسم عنهم مواد الشرك؛ وهذا تحقيق قولنا: لا إله إلا الله; فإن الإله هو الذي تألهه القلوب، بالمحبة والتعظيم والإجلال والإكرام والخوف، حتى قال لهم: " لا تقولوا: ما شاء الله وشاء محمد، ولكن قولوا: ما شاء الله، ثم شاء محمد " 1. " وقال له رجل: ما شاء الله وشئت. قال: أجعلتني لله   1 ابن ماجه: الكفارات (2118) , وأحمد (5/72) , والدارمي: الاستئذان (2699) . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 26 ندا؟ بل ما شاء الله وحده " 1 وقال لابن عباس: " إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله "، وقال: " لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم؛ فإنما أنا عبد، فقولوا عبد الله ورسوله " 2 وقال: " لا تتخذوا قبري عيدا، وصلوا علي حيث ما كنتم، فإن صلاتكم تبلغني " 3. وقال في مرضه: " لعن الله اليهود والنصارى؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، يحذر ما فعلوا " 4 قالت عائشة رضي الله عنها: ولولا ذلك لأبرز قبره، ولكن خشي أن يتخذ مسجدا، وهذا باب واسع. انتهى ما لخصته من كلام الشيخ في مسألة الوسائط. وقال رحمه الله تعالى، في موضع آخر: والله سبحانه وتعالى لم يجعل أحدا من الأنبياء والمؤمنين واسطة في شيء من الربوبية والإلهية مثل ما ينفرد به، من الخلق والرزق وإجابة الدعاء، والنصر على الأعداء، وقضاء الحاجات، وتفريج الكربات؛ بل غاية ما يكون العبد سببا مثل أن يدعو ويشفع. والله تعالى قال: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [سورة البقرة آية: 255] ، وقال تعالى: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [سورة النجم آية: 26] ، وقال تعالى: {وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [سورة آل عمران آية: 80] .   1 ابن ماجه: الكفارات (2117) , وأحمد (1/283) . 2 البخاري: أحاديث الأنبياء (3445) , وأحمد (1/23 ,1/24 ,1/47 ,1/55) . 3 أبو داود: المناسك (2042) , وأحمد (2/367) . 4 البخاري: الجنائز (1330) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (531) , والنسائي: المساجد (703) , وأحمد (1/218 ,6/34 ,6/80 ,6/121 ,6/252 ,6/255 ,6/274) , والدارمي: الصلاة (1403) . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 27 فبين سبحانه أن اتخاذ الملائكة والنبيين أربابا كفر، ولهذا كانوا في الشفاعة على ثلاثة أقسام: فالمشركون: أثبتوا الشفاعة التي هي شرك، كشفاعة المخلوق عند المخلوق، كما يشفع عند الملوك خواصهم، لحاجة الملوك إلى ذلك؛ فيسألونهم بغير إذنهم، ويجيب الملوك سؤالهم لحاجتهم إليهم؛ فالذين أثبتوا مثل هذه الشفاعة عند الله مشركون كفار; لأن الله تعالى لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، ولا يحتاج إلى أحد من خلقه، بل من رحمته وإحسانه إجابة دعاء الشافعين. ولهذا قال: {مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ} [سورة السجدة آية: 4] ، وقال: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً} [سورة الزمر آية: 43-44] ، وقال عن صاحب يس: {أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ} [سورة يس آية: 23] . وأما الخوارج والمعتزلة: فإنهم أنكروا شفاعة نبينا صلى الله عليه وسلم في أهل الكبائر من أمته، وهؤلاء مبتدعة ضلال، مخالفون للسنة المستفيضة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولإجماع خير القرون. [الشفاعة وما يثبت وما ينتفي منها] القسم الثالث: أهل السنة والجماعة، وسلف الأمة وأئمتها ومن تبعهم بإحسان: أثبتوا ما أثبته الله في كتابه وسنة رسوله، ونفوا ما نفاه؛ فالشفاعة التي أثبتوها هي التي جاءت بها الأحاديث. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 28 وأما الشفاعة التي نفاها القرآن، كما عليه المشركون والنصارى ومن ضاهاهم من هذه الأمة، فينفيها أهل العلم والإيمان؛ مثل أنهم يطلبون من الأنبياء والصالحين، الغائبين والميتين قضاء حوائجهم، ويقولون: إنهم إذا أرادوا ذلك قضوها; ويقولون: إنهم عند الله كخواص الملوك عند الملوك، يشفعون بغير إذن الملوك، ولهم على الملوك إدلال يقضون به حوائجهم؛ فيجعلونهم لله بمنْزلة شركاء الملك؛ والله سبحانه قد نزه نفسه عن ذلك، انتهى. [أنواع الشرك] وقال ابن القيم رحمة الله تعالى: وأما الشرك فنوعان: أصغر وأكبر; فالأكبر: الذي لا يغفره الله إلا بالتوبة منه، وهو أن يتخذ من دون الله ندا يحبه كما يحب الله، وهو الشرك الذي يتضمن تسوية آلهة المشركين برب العالمين. ولهذا قالوا لآلهتهم في النار: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ?إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [سورة الشعراء آية: 97-98] مع إقرارهم بأن الله هو الخالق وحده، خالق كل شيء ومليكه، وأن آلهتهم لا تخلق ولا ترزق، ولا تحيي ولا تميت؛ وإنما كانت هذه التسوية في المحبة والتعظيم والعبادة، كما هو حال أكثر مشركي العالم يحبون معبوداتهم، ويعظمونها ويوالونها من دون الله. وكثير منهم بل أكثرهم يحبون آلهتهم أعظم من محبة الله، ويستبشرون بذكرهم أعظم من استبشارهم إذا ذكر الله الجزء: 11 ¦ الصفحة: 29 وحده، ويغضبون إذا انتقص أحد معبوداتهم وآلهتهم من المشائخ، أعظم مما يغضبون إذا انتقص أحد رب العالمين; وإذا انتقصت حرمة من حرمات آلهتهم ومعبوديهم، غضبوا غضب الليث إذا حرب، وإذا انتهكت حرمات الله لم يغضبوا لها. بل إذا قام المنتهك لها بإطعامهم شيئا رضوا عنه، ولم تنكره قلوبهم، وقد شاهدنا هذا منهم نحن وغيرنا، ونرى أحدهم قد اتخذ ذكر إلهه ومعبوده من دون الله، على لسانه إن قام وإن قعد، وإن عثر وإن مرض؛ فذكر إلهه ومعبوده من دون الله، هو الغالب على لسانه وهو لا ينكر ذلك، ويزعم أنه باب حاجته إلى الله وشفيعه عنده، ووسيلته إليه؛ وهكذا كان عباد الأصنام سواء. وهذا القدر، هو الذي قام بقلوبهم، يتوارثه المشركون بحسب اختلاف آلهتهم، فأولئك كانت آلهتهم من الحجر، وغيرهم اتخذوها من البشر، قال تعالى حاكيا عن أسلاف هؤلاء المشركين: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [سورة الزمر آية: 3] ، ثم شهد عليهم بالكذب والكفر وأخبر أنه لا يهديهم، فقال: {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} [سورة الزمر آية: 3] فهذا حال من اتخذ من دون الله وليا، يزعم أنه يقربه إلى الله، وما أعز من يتخلص من هذا، بل ما أعز من لا يعادي من أنكره! والذي قام في قلوب هؤلاء المشركين وسلفهم أن الجزء: 11 ¦ الصفحة: 30 آلهتهم تشفع لهم عند الله، وهذا عين الشرك؛ وقد أنكره الله عليهم في كتابه وأبطله، وأخبر أن الشفاعة كلها له، وأنه لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه لمن رضي قوله وعمله، وهم أهل التوحيد، الذين لم يتخذوا من دون الله شفعاء، ثم ساق كلاما طويلا وقرره أحسن تقرير. فتأمل كلامه هذا، حيث قرر أن الذي يفعله مشركو زمانه، هو عين الشرك الذي فعله المشركون الأولون، ثم قال: وما أعز من يتخلص من هذا، بل ما أعز من لا يعادي من أنكره! ففي هذا شاهد لصحة الحديث الوارد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ " 1 وقوله: فيما صح عنه صلى الله عليه وسلم " لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتمو. قالوا: يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟ " 2 أخرجاه في الصحيحين. [قول ابن تيمية لما تكلم عن حديث الخوارج] وقال الشيخ أبو العباس ابن تيمية رحمه الله، في رسالته "السنية" لما تكلم عن حديث الخوارج: فإذا كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه، ممن انتسب إلى الإسلام، من قد مرق منه مع عبادته العظيمة، فليعلم أن المنتسب إلى الإسلام في هذا الزمان، قد يمرق أيضا، وذلك بأمور; منها: الغلو الذي ذمه الله كالغلو في المشائخ، كالشيخ عدي، بل الغلو في علي بن أبي طالب، بل الغلو في المسيح.   1 مسلم: الإيمان (145) , وابن ماجه: الفتن (3986) , وأحمد (2/389) . 2 البخاري: أحاديث الأنبياء (3456) , ومسلم: العلم (2669) , وأحمد (3/84 ,3/89) . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 31 فكل من غلا في نبي أو رجل صالح، وجعل فيه نوعا من الإلهية، مثل: أن يدعوه من دون الله، بأن يقول: يا سيدي فلان أغثني، وأنا في حسبك، فكل هذا شرك وضلال، يستتاب صاحبه، فإن تاب وإلا قتل. فإن الله أرسل الرسل، وأنزل الكتب، ليعبد وحده، ولا يجعل معه إله آخر، والذين يجعلون مع الله آلهة أخرى، مثل الملائكة والمسيح، وعزير والصالحين، أو قبورهم، لم يكونوا يعتقدون أنها تخلق وترزق; وإنما كانوا يدعونهم، يقولون: هؤلاء شفعاؤنا عند الله؛ فبعث الله الرسل تنهى أن يدعى أحد من دونه، لا دعاء عبادة ولا دعاء استغاثة، انتهى. وقال أبو الوفاء ابن عقيل رحمه الله: لما صعبت التكاليف على الجهال والطغام، عدلوا عن أوضاع الشرع إلى أوضاع وضعوها لأنفسهم، فسهلت عليهم; إذ لم يدخلوا بها تحت أمر غيرهم، قال: وهم عندي كفار بهذه الأوضاع، مثل: تعظيم القبور وإكرامها بما نهى عنه الشرع، من إيقاد السرج، وتقبيلها، وتخليقها، وخطاب الموتى بالحوائج، وكتب الرقاع، فيها: يا مولاي افعل بي كذا وكذا، وأخذ تربتها تبركا، وإفاضة الطيب على القبور، وشد الرحال إليها، وإلقاء الخرق على الشجر، اقتداء بمن عبد اللات والعزى. والويل عندهم لمن لم يقبل مشهد الكف، ولم يتمسح الجزء: 11 ¦ الصفحة: 32 بالآجر يوم الأربعاء، ولم يقل الحمالون على جنازته أبو بكر الصديق، أو محمد أو علي، أو لم يعقد على قبر أبيه أزجا بالجص والآجر، ولم يخرق ثيابه، ولم يرق ماء الورد على القبر، انتهى كلامه. فتأمل رحمك الله ما ذكره هذا الإمام، وما كشف من الأمور التي يفعلها الخواص من الأنام، فضلا عن النساء، والغوغاء والعوام، مع كونه في سادس القرون، والناس لما ذكره يفعلون، وجهابذة العلماء والنقدة لذلك مشاهدون، وحظهم من النهي مرتبته الثانية، فهم بها قائمون، يتضح لك فساد ما زخرفه المبطلون، وموه به المتعصبون والملحدون. فصل وأما قوله الثاني: إن نظر فيه من حيثية القول، فهو كالحلف بغير الله، وقد ورد أنه شرك وكفر، ثم أولوه بالأصغر; وإن نظر فيه من حيثية الاعتقاد، فهو كالطيرة وهي من الأصغر. فنقول: هذا كلام باطل، وليس يخفى ما بينهما من الفرق؛ فأي مشابهة بين من وحد الله وعبده، ولم يشرك معه أحدا من خلقه وأنزل حاجاته كلها بالله، واستغاث به في تفريج كرباته، وإغاثة لهفاته; لكنه حلف بغير الله يمينا مجردة لم يقصد بها تعظيمه على ربه، ولم يسأله ولم يستغث به، وبين من استغاث بغير الله، وسأله جلب الفوائد وكشف الشدائد؟! الجزء: 11 ¦ الصفحة: 33 فإن هذا صرف مخ العبادة الذي هو لبها وخالصها لغير الله، وأشرك مع الله غيره في أجل العبادات، وأفضل القربات التي أمرنا الله بها، في غير موضع من كتابه، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه هو العبادة، كما تقدم في حديث النعمان بن بشير، أن الدعاء هو العبادة، وفي حديث أنس: " الدعاء مخ العبادة " 1، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الله يحب الملحين فيه، وأن من لم يسأل الله يغضب عليه. ففي الترمذي عن ابن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم: " سلوا الله من فضله، فإن الله يحب أن يسأل " 2، وفيه أيضا: " إن الله يحب الملحين في الدعاء " وفيه أيضا: " من لم يسأل الله يغضب عليه " 3، وفي الترمذي وابن ماجه، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ليس شيء أكرم على الله من الدعاء " 4. وأما الحلف: فلم يأمرنا الله به; بل أمرنا بحفظه، فقال: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} [سورة المائدة آية: 89] قيل المعنى: لا تحلفوا، وقيل: لا تحنثوا، ولا يرد على هذا ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه حلف في مواضع؛ فاليمين تستحب إذا كان فيها مصلحة راجحة، وعلى هذا حمل العلماء، ما روي في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم فهو يحلف لمصالح مطلوبة للأمة، كزيادة إيمانهم، وطمأنينة قلوبهم، كما أمره الله بذلك في ثلاثة مواضع من كتابه، وأما الحلف لغير مصلحة فليس مشروعا، بل يباح إذا كان صادقا.   1 الترمذي: الدعوات (3371) . 2 الترمذي: الدعوات (3571) . 3 الترمذي: الدعوات (3373) , وابن ماجه: الدعاء (3827) . 4 الترمذي: الدعوات (3370) , وابن ماجه: الدعاء (3829) . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 34 وأما الدعاء: فهو محبوب مشروع لله، بل سماه الله في كتابه الدين، وأمر بإخلاصه له; وسماه رسوله صلى الله عليه وسلم العبادة، ومخ العبادة، فكيف يقال: هو الحلف؟ فمن صرف الدعاء لغير الله، فقد أشرك في الدين، الذي أمر الله بإخلاصه، وفي العبادة التي أمر الله بها. وأيضا: فإن الداعي راغب راهب، فالعبد يدعو ربه رغبا ورهبا، ويتوكل عليه في حصول مطلوبه، ودفع مرهوبه; فإذا طلب فوائده، وكشف شدائده من غير الله، فقد أشرك مع الله في الرغبة والرهبة، والرجاء والتوكل، فإن هذا من لوازم الدعاء، وهو من العبادة التي أمر الله بها، كقوله تعالى: {إِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [سورة الشرح آية: 8] ، وقوله تعالى: {فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} [سورة النحل آية: 51] ، وقال: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [سورة المائدة آية: 23] . فمن استغاث بغير الله، فهو راغب في حصول مطلوبه، راج له متوكل عليه، وذلك هو حقيقة العبادة التي لا تصلح إلا لله، وهو معنى لا إله إلا الله; فإن الإله هو الذي تألهه القلوب، محبة ورجاء وخوفا وتوكلا. ويقال أيضا: الذي يدعو غير الله في مهماته، وكشف كرباته، قد رد على الله وكذب بآياته؛ فإن الله أخبر أنه لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، وأن الشفاعة كلها لله، وهذا زعم: أن الميت يشفع له. وأخبر الله أن الأولياء والصالحين لا يملكون الجزء: 11 ¦ الصفحة: 35 كشف الضر ولا تحويله، وأنهم لا ينفعون ولا يضرون، ولا يسمعون الدعاء ولا يستجيبون; وهذا زعم: أنهم باب حوائجه إلى الله، وأنهم ينفعون ويشفعون، وللدعاء يسمعون، وله يستجيبون; فكذب على الله وكذب بآياته. فكيف يقال: إن هذا كالحلف بغير الله الذي قصاراه أن يكون شركا أصغر، يعاقب عليه كما يعاقب الزاني، وقاتل النفس وآكل الربا; لأنه ارتكب محرما غير مستحل له، نظير ما يفعله الزاني وقاتل النفس، فأما إن فعله مستحلا له، أو يكون المخلوق في قلبه أعظم من الخالق، كان ذلك كفرا؟ قال ابن القيم رحمه الله تعالى: وأما الشرك الأصغر فكيسير الرياء، والتواضع للخلق، والحلف بغير الله، ومالي إلا الله وأنت، وأنا متوكل على الله وعليك، ولولا أنت لم يكن كذا وكذا; وقد يكون هذا شركا أكبر، بحسب حال قائله ومقصده، انتهى. ويقال أيضا: من المعلوم بالاضطرار من دين الإسلام، أن الله تعالى بعث محمدا صلى الله عليه وسلم يدعو إلى التوحيد، وينهى عن الإشراك؛ فكان أول آية أرسله الله بها {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [سورة المدثر آية: 1-2-3-4-5] ؛ فأنذر عن الشرك، وهجر الأوثان وكبر الله، وعظمه بالتوحيد. فاستجاب له من استجاب من المسلمين، وصبروا على الجزء: 11 ¦ الصفحة: 36 الأذى من قومهم، وقاسوا الشدائد العظيمة، فهاجروا وأخرجوا من ديارهم، وأوذوا في الله وتميز الكافر من المسلم، ومات من المسلمين من استوجب الجنة، ومات من الكفار من استوجب النار، هذا كله قبل النهي عن الحلف بغير الله. فالاستغاثة بأهل القبور، واستنجادهم واستنصارهم، لم يبح في شرائع الرسل كلهم؛ بل بعث الله جميع رسله بالنهي عن ذلك، والأمر بعبادته وحده لا شريك له. وأما الحلف: فكان الصحابة يحلفون بآبائهم، ويحلفون بالكعبة وغير ذلك، ولم ينهوا عن ذلك إلا بعد مدة طويلة، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم " إن الله تعالى ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم " 1، وقال: " من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت " 2، ومن لا يميز بين دعاء الميت والحلف به، لا يعرف الشرك الذي بعث الله به محمدا صلى الله عليه وسلم ينهى عنه، ويقاتل أهله. [الجامع بين الحلف والاستغاثة] وأي جامع بين الحلف والاستغاثة؟ فالمستغيث طالب سائل، والحالف لم يطلب ولم يسأل. فإن كان الجامع بينهما عند القائل باتحادهما: أن كلا منهما قول باللسان فيقال له: والإنكار والدعوات، وقول الزور وقذف المحصنات، كل ذلك قول باللسان; ولو قال أحد: إنها ألفاظ متقاربة لعد من المجانين. وإن أراد هذا القائل اتحادهما في المعنى، فهذا باطل كما تقدم بيانه; وأي مشابهة بين من جعل لله ندا من خلقه، يدعوه   1 البخاري: الأدب (6108) والأيمان والنذور (6646 ,6647) , ومسلم: الأيمان (1646) , والترمذي: النذور والأيمان (1533) , والنسائي: الأيمان والنذور (3766 ,3767 ,3768) , وأبو داود: الأيمان والنذور (3249) , وابن ماجه: الكفارات (2094) , وأحمد (1/18 ,2/7 ,2/8) . 2 البخاري: الشهادات (2679) والمناقب (3836) والأدب (6108) والأيمان والنذور (6646) والتوحيد (7401) , ومسلم: الأيمان (1646) , والترمذي: النذور والأيمان (1534) , والنسائي: الأيمان والنذور (3764) , وأبو داود: الأيمان والنذور (3249) , وأحمد (2/11 ,2/17 ,2/20 ,2/76 ,2/98 ,2/142) , ومالك: النذور والأيمان (1037) , والدارمي: النذور والأيمان (2341) . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 37 ويرجوه، ويستنصره ويستغيث به، وبين من لا يدعو إلا الله وحده لا شريك له، وأخلص له في عبادته؟ فالأول أشرك مع الله في قوله وفعله، واعتقاده بخلاف الحالف؛ بل لو اعتقد الحالف تعظيم المخلوق على الخالق، لصار مشركا شركا أكبر كما تقدم. ومما يبين ذلك أيضا: أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما نهاهم عن الحلف بغير الله، وحلف بعض الصحابة حدثاء العهد، فقال في حلفه: واللات، قال النبي صلى الله عليه وسلم " من حلف باللات والعزى، فليقل: لا إله إلا الله " 1، ولما " قال له بعض الصحابة حدثاء العهد بالكفر: اجعل لنا ذات أنواط، قال: الله أكبر إنها السنن، قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اجعل لنا إلها كما لهم آلهة، لتركبن سنن من كان قبلكم " 2. فانظر كيف نهى الحالف، وأرشده إلى الكفارة، بأن يقول: لا إله إلا الله، من غير تغليظ; والذين قالوا: اجعل لنا ذات أنواط، غلظ عليهم التغليظ الشديد، وحلف لهم أن طلبتهم كطلبة بني إسرائيل، وأن قولهم: اجعل لنا ذات أنواط، كقول بني إسرائيل: اجعل لنا إلها، سواء؛ فهما متفقان معنى، وإن اختلفا لفظا; وهذا مما يبين لك شيئا من معنى لا إله إلا الله. فإذا كان اتخاذ الشجرة للعكوف حولها، وتعليق   1 البخاري: تفسير القرآن (4860) والأدب (6107) والاستئذان (6301) والأيمان والنذور (6650) , ومسلم: الأيمان (1647) , والترمذي: النذور والأيمان (1545) , والنسائي: الأيمان والنذور (3775) , وأبو داود: الأيمان والنذور (3247) , وابن ماجه: الكفارات (2096) , وأحمد (2/309) . 2 الترمذي: الفتن (2180) , وأحمد (5/218) . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 38 الأسلحة بها للتبرك، اتخاذ إله مع الله، مع أنهم لا يعبدونها ولا يسألونها، فما الظن بالعكوف حول القبر، ودعائه في إنزال الفوائد، والاستغاثة به في كشف الشدائد، وأخذ تربته تبركا، وإسراج القبر وتخليقه؟! وأي شبهة للفتنة بشجرة إلى الفتنة بالقبر؟ لو كان أهل الشرك والبدع يعلمون. قال بعض أهل العلم، من أصحاب مالك: فانظروا رحمكم الله أينما وجدتم سدرة، أو شجرة يقصدها الناس، ويعظمونها، ويرجون البرء والشفاء من قبلها، ويضربون بها المسامير والخرق، فهي ذات أنواط فاقطعوها، انتهى. ومما يبين الفرق بين دعاء الأموات والاستغاثة بهم وبين الحلف بهم، أن العلماء قسموا الشرك إلى أكبر وأصغر، جعلوا دعاء الأموات، والاستغاثة بهم فيما لا يقدر عليه إلا رب السماوات والأرض، هو عين شرك المشركين الذين كفرهم الله في كتابه، وجعلوا الحلف بغير الله شركا أصغر. فيذكرون الأول في باب حكم المرتد، وأن من أشرك بالله فقد كفر، ويستدلون بقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [سورة النساء آية: 48] ، ويفسرون هذا الشرك بما ذكرناه، ويذكرون الثاني في كتاب الأيمان؛ فيفرقون بين هذا وهذا. ولم نعلم أن أحدا من العلماء الذين لهم لسان صدق في الجزء: 11 ¦ الصفحة: 39 الأمة، قال إن طلب الحوائج من الموتى والاستغاثة بهم شرك أصغر، ولا قال إن ذلك كالحلف بغير الله، اللهم إلا أن يكون بعض المنتسبين إلى العلم، من المتأخرين الضالين، الذين قرروا الشرك، وحسنوه للناس، نظما ونثرا، وصار لهم نصيب من قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} [سورة النساء آية: 51] . وأما قوله: وإن نظر فيه من جهة الاعتقاد، فهو كالطيرة; فهذا كلام باطل أيضا، يظهر بطلانه مما تقدم. فيقال: وأين الجامع بين شرك من جعل بينه وبين الله واسطة، يدعوه ويسأله قضاء حاجاته، وكشف كرباته، ويقول: هذا وسيلتي إلى الله، وباب حاجتي إليه، وبين من عبد الله وحده لا شريك له، ودعاه خوفا وطمعا، وأنزل به حاجاته كلها، وتبرأ من عبادة كل معبود سواه؟ ولكن وقع في قلبه شيء من الطيرة؟ فالأول: هو دين أبي جهل وأصحابه، وهو دين أعداء الرسل، من لدن نوح إلى يومنا هذا. وأما الطيرة: فتقع على المؤمنين الموحدين، كما في حديث ابن مسعود المرفوع: "الطيرة شرك " 1 وما منا إلا، ولكن الله يذهبه بالتوكل، رواه أبو داود، ورواه الترمذي وصححه، وجعل آخره من قول ابن مسعود; وفي مراسيل أبي داود: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ليس عبد إلا سيدخل قلبه طيرة؛ فإذا أحس بذلك، فليقل: أنا عبد الله، ما شاء الله لا قوة إلا   1 الترمذي: السير (1614) , وأبو داود: الطب (3910) , وابن ماجه: الطب (3538) , وأحمد (1/389 ,1/438 ,1/440) . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 40 بالله، لا يأتي بالحسنات إلا الله، ولا يذهب بالسيئات إلا الله. أشهد أن الله على كل شيء قدير. ثم يمضي لوجهه " وفي مسند الإمام أحمد، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم:" من ردته الطيرة عن حاجته فقد أشرك، وكفارة ذلك أن يقول أحدهم: اللهم لا طير إلا طيرك، ولا خير إلا خيرك، ولا إله غيرك " 1. وفي صحيح ابن حبان عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا طيرة، والطيرة على من تطير ". ومعنى هذا: من تطير تطيرا منهيا عنه، بأن يعتمد على ما يسمعه، أو يراه من الأمور التي يتطير بها، حتى تمنعه مما يريد من حاجته، فإنه قد يصيبه ما يكرهه، وأما من توكل على الله، ولم ينظر إلى الأسباب المخوفة، وقال ما أمر به من هذه الكلمات، ومضى؛ فإنه لا يضره ذلك. فإذا كان هذا حال الطيرة، فأين الجامع بينها وبين الشرك الأكبر في الاعتقاد؟! فإن أراد السائل: أن التطير إذا زجر الطير، أو تطير بما يراه من علم النجوم وغيره، أو يسمعه من الكلام، يعتقد في ذلك علم الغيب، وأن الطير تخبره عما هو صائر إليه في المستقبل، وأن الأفلاك تدبر أمر الخلائق، فليس هذا من الشرك الأصغر؛ بل هذا من الشرك الأكبر؛ نظير شرك عباد الكواكب. فصل [في دعاء غير الله] وأما قول القائل: الثالث أنه قد ورد في حديث الضرير، قوله: يا محمد. وفي الجامع الكبير، وعزاه للطبراني فيمن   1 أحمد (2/220) . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 41 انفلتت عليه دابته، قال: " يا عباد الله احبسوا، " وهذا دعاء ونداء لغير الله. فنقول - وبالله التوفيق -: اعلم أن الله سبحانه وتعالى بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بالدعوة إلى التوحيد، والنهي عن الإشراك؛ فحمى حمى التوحيد، وسد كل طريق يوصل إلى الشرك، حتى في الألفاظ، حتى " إن رجلا قال له: ما شاء الله وشئت، قال: أجعلتني لله ندا؟ بل ما شاء الله وحد هـ"؛ فكيف يأمر بدعاء الميت أو الغائب؟ بل من المعلوم بالضرورة من دين الإسلام أن دعاء الميت والغائب، لم يأمر الله به ولا رسوله، ولا فعله أحد من الصحابة ولا التابعين، ولا فعله أحد من أئمة المسلمين، ولا أحد من الصحابة استغاث بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد موته; ولا قال أحد: إن الصحابة استغاثوا بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد موته، ولو كان هذا جائز أو مشروعا لفعلوه، ولو كان خيرا لسبقوا إليه. وقد كان عندهم من قبور أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بالأمصار عدد كثير، وهم متوافرون؛ فما منهم من استغاث عند قبر صاحب، ولا دعاه ولا استغاث به، ولا استنصر به. ومعلوم: أن مثل هذا مما توفر الهمم والدواعي على نقله، بل على نقل ما هو دونه. وحينئذ فلا يخلو: إما أن يكون دعاء الموتى والغائبين، أو الدعاء عند قبورهم والتوسل بأصحابها أفضل، أو لا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 42 يكون؟ فإن كان أفضل، فكيف خفي علما وعملا على الصحابة والتابعين وتابعيهم؟ فتكون القرون الثلاثة الفاضلة، جاهلة علما وعملا بهذا الفضل العظيم، يظفر به الخلوف علما وعملا. وهذان الحديثان اللذان أوردهما السائل، إما أن يكون الصحابة الذين رووهما، وسمعوهما من النبي صلى الله عليه وسلم جاهلين بمعناهما، وعلمه هؤلاء المتأخرون; وإما أن يكون الصحابة علموها علما، وزهدوا فيها عملا مع حرصهم على الخير، وطاعتهم لنبيهم صلى الله عليه وسلم؛ وكلاهما محال. بل هم أعلم الناس بكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأطوع الناس لأوامره، وأحرص الناس على كل خير; وهم نقلوا إلينا سنة نبينا صلى الله عليه وسلم؛ فهل فهموا من هذه الأحاديث جواز دعاء الموتى والغائبين، والفضلاء؟ فضلا عن استحبابه والأمر به؟! ومعلوم: أنهم عرضت لهم شدائد واضطرارات، وفتن وقحط وسنون مجدبات، أفلا جاؤوا إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم شاكين، وله مخاطبين، وبكشفها عنهم وتفريج كرباتهم داعين؟ والمضطر يتشبث بكل سبب يعلم أن له فيه نفعا، لا سيما الدعاء; فلو كان ذلك وسيلة مشروعة، وعملا صالحا لفعلوه. فهذه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في أهل القبور حتى توفاه الله، وهذه سنة خلفائه الراشدين، وهذه طريقة جميع الصحابة الجزء: 11 ¦ الصفحة: 43 والتابعين، هل يمكن أحد أن يأتي عنهم بنقل صحيح، أو حسن، أو ضعيف أنهم كانوا إذا كانت لهم حاجة، أو عرضت لهم شدة، قصدوا القبور، فدعوا عندها وتمسحوا بها، فضلا عن أن يسألوها حوائجهم؟ فمن كان عنده في هذا أثر، أو حرف واحد في ذلك، فليوقفنا عليه. نعم، يمكنهم أن يأتوا عن الخلوف الذين يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، بكثير من المختلقات، والحكايات المكذوبات؛ حتى لقد صنف في ذلك عدة مصنفات، ليس فيها حديث صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وإنما فيها التمويهات، والحكايات والمخترعات، والأحاديث المكذوبات. كقولهم: إذا أعيتكم الأمور، فعليكم بأصحاب القبور; وحديث: لو أحسن أحدكم ظنه بحجر نفعه; ومنها حكايات لهم عن تلك القبور: إن فلانا استغاث بالقبر الفلاني في شدة فخلص منها، وفلانا دعاه أو دعا به في حاجة فقضيت، وفلانا نزل به ضر، فأتى صاحب ذلك القبر، فكشف ضره، ونحو ذلك مما هو مضاد، لما بعث الله به محمدا صلى الله عليه وسلم من الدين. ومن له معرفة بما بعث الله به محمدا صلى الله عليه وسلم، يعلم أنه حمى جانب التوحيد، وسد الذرائع الموصلة إلى الشرك؛ فكيف يستدل بكلامه على نقيض ما أمر به؟ فيستدل في حديث الأعمى الجزء: 11 ¦ الصفحة: 44 بقوله: يا محمد، على أنه أمر بدعائه في حال غيبته، فيدل على جواز الاستغاثة بالغائب، وكذلك قوله: "يا عباد الله احبسوا" يدل على ذلك أيضا، هذا من أعظم المحال وأبطل الباطل. بل كلامه صلى الله عليه وسلم يوافق الوحي المنزل عليه، يصدقه ولا يكذبه، فإنهما من مشكاة واحدة {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [سورة النجم آية: 3-4] ونحن نجيب عن هذين الحديثين، بعون الله وتأييده، من وجوه. الوجه الأول: أن القرآن فيه {آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [سورة آل عمران آية: 7] ؛ فيردّ المتشابه إلى المحكم، ولا يضرب كتاب الله بعضه ببعض. وكذلك السنة: فيها محكم ومتشابه؛ فيردّ متشابهها إلى المحكم، ولا يضرب بعضها ببعض; فكلام النبي صلى الله عليه وسلم لا يتناقض، بل يصدق بعضه بعضا؛ والسنة توافق القرآن ولا تناقضه. وهذا أصل عظيم يجب مراعاته; ومن أهمله فقد وقع في أمر عظيم وهو لا يدري. ومن المعلوم: أن أدلة القرآن الدالة على النهي عن دعاء غير الله، متظاهرة مع وضوحها وبيانها، كقوله تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} [سورة الجن آية: 18] . وقوله: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ} [سورة الرعد آية: 14] ، وقوله: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 45 يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ} [سورة يونس آية: 106] ، إلى غير ذلك من الآيات الواضحات البينات. فمن أعرض عن هذا كله، وتعامى عنه، وأعرض عن الأحاديث الصحيحة الدالة على تحقيق التوحيد، وإبطال الشرك وسد ذرائعه، وتعلق بحديث ضعيف، بل ذكر بعض العلماء أنه حديث منكر، وهو قوله: "إذا انفلتت دابة أحدكم، فليناد يا عباد الله احبسوا" ومثل حديث الأعمى، الذي فيه: يا محمد، وزعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره أن يسأله في حال غيبته، لم يكن هذا إلا من زيغ في قلبه؛ قد تناوله قوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} [سورة آل عمران آية: 7] ، وقوله صلى الله عليه وسلم فيما ثبت عنه في الصحيح، من حديث عائشة رضي الله عنها: " إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه، فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم " 1. الوجه الثاني: أن يقال لمن استدل بالحديثين على دعاء غير الله: أتظن أن الرسول صلى الله عليه وسلم يأمر أمته بالشرك، وقد نهى عنه وقد جرد التوحيد لله، ونهى عن دعوة غير الله؟ وقال فيما ثبت عنه في صحيح البخاري: " من مات وهو يدعو لله ندا دخل النار " 2، وقال لابن عباس: " إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله " 3. فكيف يجتمع في قلبك أن الله بعثه يأمر بالتوحيد، ويحذر من الإشراك، ثم يأمر أمته بعين ما   1 البخاري: تفسير القرآن (4547) , ومسلم: العلم (2665) , والترمذي: تفسير القرآن (2994) , وأبو داود: السنة (4598) , وأحمد (6/48 ,6/132 ,6/256) , والدارمي: المقدمة (145) . 2 البخاري: تفسير القرآن (4497) , وأحمد (1/374 ,1/407 ,1/425 ,1/462 ,1/464) . 3 الترمذي: صفة القيامة والرقائق والورع (2516) , وأحمد (1/293 ,1/303 ,1/307) . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 46 حذرهم عنه؟! فمن زعم أن قوله "يا عباد الله احبسوا" يدل على جواز دعاء الغائب بالنص، وعلى دعاء الميت بالقياس على الغائب، وكذلك حديث الأعمى، فمن زعم هذا فقد حادّ الله ورسوله; حيث زعم أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر أمته بالإشراك الذي بعثه الله ينهى عنه. الوجه الثالث: أن يقال: وعلى تقدير أن هذا يدل على أن الاستغاثة بغير الله شرك أصغر، فيظن من في قلبه رائحة الإيمان أن الرسول صلى الله عليه وسلم يأمر أمته بالشرك الأصغر، الذي قد حرمه الله ورسوله; بل إذا علم الإنسان أن هذا شرك أصغر، ثم زعم أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر أمته به كان كافرا. وقد قال تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ} [سورة آل عمران آية: 79] إلى قوله: {وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [سورة آل عمران آية: 80] فحاشا جنابه صلى الله عليه وسلم أن يأمر أمته بالشرك، ولو كان أصغر. ومن استدل بهذين الحديثين على دعاء الموتى والغائبين، فهو بين أمرين لا محيد له عنهما: إما أن يقول: هذا يدل على أن دعاءهم مستحب أو جائز؛ ومن قال ذلك فقد خالف إجماع المسلمين، ومرق من الدين; فإنه لم يقل أحد من المسلمين: إن دعاء الموتى جائز أو مستحب. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 47 وإما أن يقول: إن ذلك يدل على أن دعاء الموتى شرك أصغر لا أكبر؛ ومن قال ذلك فقد تناقض في استدلاله، حيث استدل بكلام النبي صلى الله عليه وسلم الذي أمر به على ما نهى عنه؛ وكيف يسوغ لمن يؤمن بالله واليوم الآخر، أن يستدل بأمره على نهيه؟ ثم يقال: لهذا المستدل بقوله: فليقل: "يا عباد الله احبسوا" أخبرنا عن هذا الأمر، هل هو للوجوب، أو الاستحباب أو الإباحة؟ وهي أقل أحواله، وأما ما كان مكروها أو محرما، فلا يكون فيما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم فما وجه الاستدلال؟ الوجه الرابع: أن هذا الحديث لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم فإنه من رواية معروف بن حسان، وهو منكر الحديث؛ قاله ابن عدي. الوجه الخامس: أن يقال: إن صح الحديث فلا دليل فيه على دعاء الميت والغائب؛ فإن الحديث ورد في أذكار السفر; ومعناه: أن الإنسان إذا انفلتت دابته وعجز عنها، فقد جعل الله عبادا من عباده الصالحين، أي صالحي الجن أو الملائكة، أو ممن لا يعلمه من جنده سواه {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [سورة المدثر آية: 31] . أما خبر النبي صلى الله عليه وسلم إن لله عبادا قد وكلهم لهذا الأمر، فإذا انفلتت الدابة، ونادى صاحبها بما أمره به النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث حبسوا عليه دابته؛ فإن هؤلاء عباد لله أحياء، قد الجزء: 11 ¦ الصفحة: 48 جعل الله لهم قدرة على ذلك، كما جعل الله للإنس. فهو ينادي من يسمع ويعين بنفسه ويرى بعينه، كما ينادي أصحابه الذين معه من الإنس. فأين هذا من الاستغاثة بأهل القبور؟! بل هذا من جنس ما يجوز طلبه من الأحياء، فإن الإنسان يجوز له أن يسأل المخلوق من الأحياء ما يقدر عليه، كما قال تعالى: {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} [سورة القصص آية: 15] ، وكما قال تعالى: {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} [سورة الأنفال آية: 72] ، وكما يستغيث الناس يوم القيامة بآدم، ثم بنوح، ثم بإبراهيم، ثم بموسى، ثم بعيسى، حتى يأتوا نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم؛ بل هذا من جنس استغاثته برفقته من الإنس. فإذا انفلتت دابته، ونادى أحد رفقته: يا فلان ردوا الدابة، لم يكن في هذا بأس; فهذا الذي ورد في الحديث من جنس هذا بل قد تكون قربة إذا قصد به امتثال أمر النبي صلى الله عليه وسلم؛ فأين هذا من استغاثة العبادة؟ بأن ينادي ميتا، أو غائبا في قطر شاسع، سواء كان نبيا أو عبدا صالحا؟! الوجه السادس: أن الله تعالى قال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} [سورة المائدة آية: 3] ؛ فبعد أن أكمله بفضله ورحمته، فلا يحل له أن يخترع فيه ما ليس منه، ونقيس عليه ما لا يقاس عليه; بل الواجب اتباع ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم فنقول كما أمر به، الجزء: 11 ¦ الصفحة: 49 فإذا نادى شخصا معينا باسمه، فقد كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ونادى من لم يؤمر بندائه؛ وليس ذلك في كل حركة وسكون وقيام وقعود، وإنما ذلك في أمر مخصوص. وأما حديث الأعمى، فالجواب عنه من وجوه: الوجه الأول: أن الحديث إذا شذ عن قواعد الشرع لا يعمل به؛ فإنهم قالوا: إن حد الحديث الصحيح، إذا رواه العدل الضابط عن مثله، من غير شذوذ ولا علة. فهذا الحديث: لا يجوز الاحتجاج به في هذا الباب، لمخالفته لقواعد الشرع وأصوله؛ بل من احتج به على دعاء الميت والغائب، فقد خالف نصوص الكتاب والسنة، مع أنه - بحمد الله - يوافق ذلك ولا يخالفه; فليس فيه دليل على ما ذكره السائل، كما سننبه عليه إن شاء الله تعالى، وكيف يستدل بما ليس فيه دلالة مطابقة ولا تضمن ولا التزام؟! الوجه الثاني: أن يقال: هذا الحديث قد رواه النسائي، في اليوم والليلة، والبيهقي وابن شاهين في دلائلهما، كلهم عن عثمان بن حنيف، ولم يذكروا فيه هذه اللفظة - أعني قوله: يا محمد - ولفظ الحديث عندهم: عن عثمان بن حنيف، " أن رجلا أعمى أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: يا نبي الله: قد أصبت في بصري، فادع الله لي، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: توضأ وصل ركعتين، ثم قل: اللهم إني أتوجه إليك بنبيي الجزء: 11 ¦ الصفحة: 50 محمد، نبي الرحمة، أي: أتشفع به إليك، في رد بصري، اللهم شفع نبيي في. ففعل ذلك فرد الله عليه بصره، وقال له: إذا كانت لك حاجة فبمثل ذلك فافعل " انتهى. فهذا الحديث بهذا اللفظ، لا حجة للمبطل فيه; لأن غايته: أنه توسل بالنبي صلى الله عليه وسلم وساقه الترمذي بسياق قريب من هذا، فقال: حدثنا محمود بن غيلان، حدثنا عثمان بن عمر، حدثنا شعبة عن أبي جعفر، عن عمارة بن خزيمة بن ثابت، عن عثمان بن حنيف: "أن رجلا ضرير البصر أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ادع الله أن يعافيني، قال: إن شئت دعوت، وإن شئت صبرت فهو خير لك. قال: فادعه فأمره أن يتوضأ ويحسن وضوءه، ويدعو بهذا الدعاء: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، إني أتوجه بك إلى ربي في حاجتي هذه لتقضى، اللهم فشفعه في " 1 هذا حديث حسن صحيح غريب، لا نعرفه إلا من حديث أبي جعفر، وهو غير الخطاء، انتهى. هذا لفظه بحروفه، وفي نسخة أخرى: "إني توجهت إلى ربي"; وليست هذه اللفظة في سياق هؤلاء الأئمة، أعني قوله: يا محمد; التي هي غاية ما يتعلق به المبطلون. الوجه الثالث: أن يقال: على تقدير صحة هذه اللفظة، فليس فيها ما يدل على دعاء النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته; ولو كان فيها ما يدل على ذلك، لفعله الصحابة رضي الله عنهم.   1 الترمذي: الدعوات (3578) , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1385) . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 51 فلما ثبت أن الصحابة لم يفعلوه، بل ولا أجازوه، علمنا أنه ليس في ذلك دلالة، فبقي أن يقال: ما معناه؟ فنقول: ذكر العلماء في معناه قولين: أحدهما: أنه توسل بالنبي صلى الله عليه وسلم؛ فيدل: على جواز التوسل به صلى الله عليه وسلم في حياته، وبعد وفاته، إلا أن التوسل ليس فيه دعاء له، ولا استغاثة به، وإنما سأل الله بجاهه، وهذا ذكره الفقيه أبو محمد بن عبد السلام; فإنه أفتى: بأنه لا يجوز التوسل بغير النبي صلى الله عليه وسلم قال: وأما التوسل به صلى الله عليه وسلم فيجوز إن صح الحديث فيه، يعني: حديث الأعمى. [التوسل إلى الله بغير نبينا] قال الشيخ: تقي الدين بن تيمية رحمه الله تعالى: أما التوسل إلى الله بغير نبينا صلى الله عليه وسلم فلم نعلم أحدا من السلف فعله، ولا روى فيه أثرا، ولا نعلم فيه إلا ما أفتى ابن عبد السلام من المنع. وأما التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم ففيه حديث في السنن، وهو حديث الأعمى الذي أصيب بصره، فلأجل هذا الحديث، استثنى الشيخ التوسل به. وللناس في معنى هذا الحديث قولان: أحدهما: أن هذا التوسل هو الذي ذكره عمر رضي الله عنه لما استسقى بالعباس؛ فذكر: أنهم يتوسلون بالنبي صلى الله عليه وسلم في الاستسقاء، ثم توسلوا بعمه العباس بعد موته، وتوسلهم به هو استسقاؤهم به، بحيث يدعو ويدعون معه، فيكون هو وسيلتهم إلى الله تعالى. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 52 وهذا لم يفعله الصحابة بعد موته، ولا في مغيبه، والنبي صلى الله عليه وسلم كان في مثل هذا شافعا لهم داعيا، ولهذا قال في حديث الأعمى: "اللهم فشفعه في"; فعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم شفع له، فسأل الله أن يشفعه فيه. والثاني: أن التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم يكون في حياته وبعد وفاته، انتهى كلام الشيخ رحمه الله تعالى; فتبين بهذا: أن معناه التوسل إلى الله بدعائه وشفاعته في حضوره، أو التوسل بذاته أن يسأل الله بجاهه. والتوسل غير الاستغاثة، فإنه لم يقل أحد إن من قال: اللهم إني أسألك بحق فلان، أنه استغاث به؛ بل إنما استغاث بمن دعاه. بل العامة الذين يتوسلون في أدعيتهم بأمور، كقول أحدهم: أتوسل إليك بحق الشيخ فلان، أو بحرمته، أو نحو ذلك مما يقولونه في أدعيتهم، يعلمون أنهم لا يستغيثون بهذه الأمور؛ فإن المستغيث بالشيء طالب منه سائل له، والمتوسل به لا يدعى، ولا يسأل ولا يطلب منه; وإنما يطلب به، وكل أحد يفرق بين المدعو والمدعو به. والاستغاثة هي طلب الغوث، وهو إزالة الشدة، كالاستنصار طلب النصر، والاستعانة طلب العون، فكل أحد يفرق بين المسؤول والمسؤول به. فالحديث على هذا المعنى، الذي ذهب إليه ابن عبد السلام، لا حجة فيه لمن جوز الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد الجزء: 11 ¦ الصفحة: 53 وفاته; فإن هذا لم يفهمه أحد من العلماء من الحديث، ولم يذكروا في معناه إلا هذين القولي، اللذين ذكرناهما، أحدهما: ما ذهب إليه ابن عبد السلام. والثاني: ما ذهب إليه الأكثرون، أن معناه: التوسل إلى الله بدعائه، وشفاعته بحضوره، كما في صحيح البخاري: "أن عمر رضي الله تعالى عنه استسقى بالعباس، فقال: اللهم إنا كنا إذا أجدبنا توسلنا إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا، فيُسقون"، فبين عمر رضي الله عنه أنهم كانوا يتوسلون به في حياته فيسقون. وتوسلهم به، هو أنهم يسألونه أن يدعو الله لهم، فيدعو ويدعون معه؛ فيتوسلون بدعائه، كما في الصحيحين عن أنس رضي الله عنه " أن رجلا دخل المسجد يوم الجمعة، من باب كان نحو دار القضاء، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائما يخطب، فاستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم قائما، ثم قال: يا رسول الله، هلكت الأموال وانقطعت السبل، فادع الله أن يغيثنا; فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه، ثم قال: اللهم أغثنا " 1 الحديث بطوله. ففي هذا أنه قال: ادع الله أن يغيثنا; فلما كثر الغيث، قال: ادع الله أن يمسكه عنا ;2 فهذا هو التوسل الذي كانوا يفعلونه; فلما مات صلوات الله وسلامه عليه، لم يتوسلوا به، ولم يستسقوا به; فلو كان ذلك مشروعا لم يعدلوا إلى العباس، وكيف يتركون التوسل بنبيهم صلى الله عليه وسلم ويعدلون إلى   1 البخاري: الجمعة (1014) , ومسلم: صلاة الاستسقاء (897) , والنسائي: الاستسقاء (1518) . 2 البخاري: الجمعة (1013) , ومسلم: صلاة الاستسقاء (897) , والنسائي: الاستسقاء (1518) , وأبو داود: الصلاة (1174) , وأحمد (3/104 ,3/187 ,3/194 ,3/245 ,3/261 ,3/271) . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 54 العباس؟ وكذلك "معاوية رضي الله عنه استسقى بيزيد بن الأسود الجرشي، وقال: اللهم إنا نستشفع إليك بخيارنا; يا يزيد: ارفع يدك إلى الله؛ فرفع يديه ودعا ودعوا فسقوا". وقال الشيخ الإمام أبو العباس، تقي الدين بن تيمية في رده على ابن البكري، لما تكلم على حديث الأعمى; قال: والأعمى كان قد طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو له، كما كان الصحابة يطلبون منه في الاستسقاء; وقوله: أتوجه إليك بنبيك نبي الرحمة، أي: بدعائه وشفاعته ; ولهذا قال في تمام الحديث: اللهم فشفعه في; فالذي في الحديث: متفق على جوازه، وليس هو مما نحن فيه، انتهى. وقال رحمه الله تعالى، في موضع آخر: لفظ التوجه والتوسل، يراد به: أن يتوجه به ويتوسل إلى الله بدعائهم وشفاعتهم، فهذا هو الذي جاء في ألفاظ السلف، من الصحابة رضي الله عنهم; كقول عمر: "اللهم إنا كنا إذا أجدبنا، نتوسل إليك بنبينا فتسقينا; وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فأسقنا، فيسقون". فهذا إخبار من عمر رضي الله عنه عما كانوا يفعلونه، وتوسلوا بالعباس كما كانوا يتوسلون بالنبي صلى الله عليه وسلم. وكذلك "معاوية رضي الله عنه لما استسقى بأهل الشام، توسل بيزيد" ومن هذا الباب ما في البخاري: عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، قال: "ربما ذكرت قول الشاعر، وأنا أنظر إلى الجزء: 11 ¦ الصفحة: 55 وجه النبي صلى الله عليه وسلم يستسقي، فما ينْزل حتى يجيش الميزاب. وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ... ثمال اليتامى عصمة للأرامل ومن هذا الباب: حديث الأعمى؛ فإنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "ادع الله أن يعافيني، قال: إن شئت دعوته، وإن شئت صبرت فهو خير لك. قال: ادع الله; فأمره أن يتوضأ فيحسن الوضوء، ويدعو بهذا الدعاء: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، يا محمد، إني توجهت بك إلى ربي في حاجتي هذه لتقضى، اللهم فشفعه في " 1. فأمره أن يطلب من الله أن يشفع فيه النبي صلى الله عليه وسلم وإنما يكون طالبا لتشفيعه فيه إذا شفع فيه، فدعا الله. وكذلك في أول الحديث: أنه طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو له، فدل الحديث على: أن النبي صلى الله عليه وسلم شفع له ودعا له، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أمره هو: أن يدعو الله، وأن يسأله قبول شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم. فهذا نظير توسلهم به في الاستسقاء، حيث طلبوا منه أن يدعو الله لهم، ودعوا هم الله تعالى أيضا. وقوله: " يا محمد إني توجهت بك إلى ربي " 2 خطاب لحاضر قلبه، كما نقول في صلاتنا: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، وكما يستحضر الإنسان من يحبه، أو يبغضه ويخاطبه، وهذا كثير; فهذا كله يبين أن معنى   1 الترمذي: الدعوات (3578) , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1385) . 2 الترمذي: الدعوات (3578) , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1385) . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 56 التوسل والتوجه به، وبالعباس وغيرهما في كلامهم هو التوسل، والتوجه بدعائه وبدعاء العباس، ودعاء من توسلوا به، وهذا مشروع بالاتفاق لا ريب فيه، انتهى كلام أبي العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى. وفيما ذكرنا كفاية لمن نور الله قلبه، ومن أعمى الله قلبه لم تزده كثرة النقول إلا حيرة وضلالا {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [سورة النور آية: 40] . فصل [توسل آدم بالنبي] وأما قول القائل: وأما التوسل، فقد أخرج الحاكم في مستدركه وصححه، أن آدم توسل بالنبي صلى الله عليه وسلم، وورد: اللهم بحق نبيك والأنبياء قبلي، ولا أدري من خرجه ; فأما التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم خاصة، فقد رأيت لشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، قدس الله سره، ونور رمسه، نقلا في جواز ذلك عن ابن عبد السلام، فبقي الكلام في النداء وفي غيره من الأنبياء، وفي معاني الأحاديث الأخر، وما حكمها؟ وما الحجة القابلة لما يقولون، المخصصة لما يعممون؟ وأما التوسل بغير الأنبياء، فيوردون: "أن عمر توسل بالعباس في الاستسقاء فسقوا، وطفق الناس يتمسحون به،" ويقولون: هذا الوسيلة إلى الله، فأما أول القصة فهي في البخاري، وهي لدينا بحمد الله. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 57 وقولهم فطفق ... إلخ، لا أدري من قالها، فما تقولون في معناها; وقد رأيت لبعض المحققين: أن التوسل بالأولياء غير التوسل إليهم، فالأول: جائز; والثاني: شرك، وفي عدة الحصن الحصين للجزري، والتوسل إلى الله بأنبيائه ورسله والصالحين ... إلى آخره. فالجواب أن يقال: العبادات مبناها على الأمر والاتباع، لا على الهوى والابتداع; والتوسل الذي جاءت به السنة، وتواتر في الأحاديث، هو: التوسل والتوجه إلى الله بالأسماء والصفات، وبالأعمال الصالحة كالأدعية الواردة في السنة، كقوله: " اللهم إني أسألك بأن لك الحمد، لا إله إلا أنت المنان، بديع السماوات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام، يا حي يا قيوم " 1 وفي الحديث الآخر: " اللهم إني أسألك بأني أشهد أن لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد " 2، وكقوله في الحديث الآخر: "أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك " 3. وكما حكى الله سبحانه عن عباده المؤمنين: أنهم توسلوا إليه بصالح أعمالهم، فقال حاكيا عنهم: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا} [سورة آل   1 النسائي: السهو (1300) , وأبو داود: الصلاة (1495) . 2 الترمذي: الدعوات (3475) , وابن ماجه: الدعاء (3857) . 3 أحمد (1/452) . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 58 عمران آية: 193] . وكما ثبت في الصحيحين، من قصة الثلاثة الذين أووا إلى الغار، فانطبقت عليهم الصخرة، فتوسلوا إلى الله بصالح أعمالهم. وكالتوسل بدعاء الأنبياء والصالحين، وشفاعتهم في حياتهم، كما ذكرنا من توسل الصحابة بالنبي صلى الله عليه وسلم في الاستسقاء، وتوسلهم بالعباس، وبيزيد بن الأسود، وتوسل الأعمى بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم وشفاعته له; فهذا مما لا نزاع فيه; بل هو من الأمور المشروعة، وهو من الوسيلة التي أمر الله بها، في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} [سورة المائدة آية: 35] . [سؤال الله بذوات المخلوقين] وأما التوسل بالذات فيقال: ما الدليل على جواز سؤال الله بذوات المخلوقين؟ ومن قال هذا من الصحابة والتابعين؟ فالذي فعله الصحابة رضي الله عنهم: هو التوسل إلى الله بالأسماء والصفات، والتوحيد، والتوسل بما أمر الله به من الإيمان بالرسول، ومحبته وطاعته، ونحو ذلك، وكذلك توسلوا بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم وشفاعته في حياته، وتوسلوا بدعاء العباس، وبيزيد. وأما التوسل بالذات بعد الممات، فلا دليل عليه، ولا قاله أحد من السلف; بل المنقول عنهم يناقض ذلك، وقد نص غير واحد من العلماء، على أن هذا لا يجوز; ونقل عن بعضهم جوازه. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 59 وهذه المسألة وغيرها من المسائل، إذا وقع فيها النّزاع بين العلماء، فالواجب رد ما تنازعوا فيه إلى الله والرسول، قال الله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [سورة النساء آية: 59] ، وقال تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [سورة الشورى آية: 10] ومعلوم: أن هذا لم يكن منقولا عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا مشهورا بين السلف، وأكثر النهي عنه. ولا ريب أن الأنبياء والصالحين، لهم الجاه عند الله، لكن الذين لهم عند الله من الجاه، والمنازل والدرجات، أمر يعود نفعه إليهم; ونحن ننتفع من ذلك باتباعنا لهم، ومحبتنا؛ فإذا توسلنا إلى الله بإيماننا بنبيه صلى الله عليه وسلم ومحبته وطاعته، واتباع سنته، كان هذا من أعظم الوسائل. وأما التوسل بنفس ذاته، مع عدم التوسل بالإيمان به وطاعته، فلا يكون وسيلة; فالمتوسل بالمخلوق، إذا لم يتوسل بما أمر من التوسل به، من الدعاء للمتوسل، وبمحبته واتباعه، فبأي شيء يتوسل به؟ والإنسان إذا توسل إلى غيره بوسيلة، فإما أن يطلب من الوسيلة الشفاعة له عند ذلك، مثل أن يقول لأبي الرجل، أو صديقه، أو من يكرم عليه: اشفع لنا عند الجزء: 11 ¦ الصفحة: 60 فلان، وهذا جائز; وإما أن يقسم عليه، ولا يجوز الإقسام بمخلوق; كما أنه لا يجوز أن يقسم على الله بالمخلوقين; فالتوسل إلى الله بذات خلقه، بدعة مكروهة، لم يفعلها السلف من الصحابة، ولا التابعين لهم بإحسان. [أنواع الأمور المبتدعة عند القبور] قال ابن القيم رحمه الله تعالى: في كتابه "إغاثة اللهفان في مكائد الشيطان": وهذه الأمور المبتدعة عند القبور أنواع: أبعدها عن الشرع: أن يسأل الميت حاجته، كما يفعله كثير من هؤلاء من جنس عباد الأصنام ; ولهذا قد يتمثل لهم الشيطان في صورة الميت، كما يتمثل لعباد الأصنام، وكذلك السجود للقبر، وتقبيله والتمسح به. النوع الثاني: أن يسأل الله به; وهذا يفعله كثير من المتأخرين، وهو بدعة إجماعا. النوع الثالث: أن يظن أن الدعاء عنده مستجاب، أو أنه أفضل من الدعاء في المسجد؛ فيقصد القبر لذلك; فهذا أيضا من المنكرات إجماعا، وما علمت فيه نزاعا بين أئمة الدين، وإن كان كثير من المتأخرين يفعله. وبالجملة: فأهل الأرض مفتونون بعبادة الأصنام، ولم يتخلص منه إلا الحنفاء، أتباع ملة إبراهيم. وعبادتها في الأرض من قبل نوح. وهياكلها، ووقوفها وسدنتها وحجابها، والكتب المصنفة في عبادتها طبق الأرض. قال إمام الحنفاء، عليه الصلاة والسلام: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 61 نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ} [سورة إيراهيم آية: 35-36] . وكفى في معرفة أنهم أكثر أهل الأرض: ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أن بعث النار من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون" وقد قال تعالى: {فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً} [سورة الإسراء آية: 89] ، وقال: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [سورة الأنعام آية: 116] . ولو لم تكن الفتنة بعبادة الأصنام عظيمة، لما أقدم عبادهم على بذل نفوسهم، وأموالهم وأبنائهم دونها، وهم يشاهدون مصارع إخوانهم، وما حل بهم، ولا يزيدهم ذلك إلا حبا لهم وتعظيما، ويوصي بعضهم بعضا بالصبر عليها، انتهى كلامه، رحمة الله عليه. والمقصود: أنه حكى الإجماع، على أن التوسل إلى الله بصاحب القبر، بدعة إجماعا. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه - في رده على ابن البكري -: وما زلت أبحث وأكشف ما أمكنني من كلام السلف، والأئمة والعلماء، هل جوز أحد منهم التوسل بالصالحين في الدعاء؟ أو فعل ذلك أحد منهم؟ فما وجدته. ثم وقعت على فتيا للفقيه: أبي محمد بن عبد السلام، أفتى بأنه لا يجوز التوسل بغير النبي صلى الله عليه وسلم، وأما بالنبي صلى الله عليه وسلم الجزء: 11 ¦ الصفحة: 62 فجوز التوسل به، إن صح الحديث في ذلك. وذكر القدوري في شرح الكرخي، عن أبي حنيفة وأبي يوسف: أنه لا يجوز أن يسأل الله بالأنبياء، انتهى كلامه. وذكر ابن القيم رحمه الله تعالى، عن أبي الحسين القدوري نحو ذلك، فقال رحمه الله تعالى: قال القدوري، قال بشر بن الوليد: سمعت أبا يوسف، قال: قال أبو حنيفة: لا ينبغي لأحد أن يدعو الله إلا به، وأكره أن يقول: بمعقد العز من عرشك; أو يقول: بحق خلقك. وقال أبو يوسف: بمعقد العز من عرشك، هو الله، فلا أكره ذلك، وأكره بحق فلان، أو بحق أنبيائك ورسلك، وبحق البيت والمشعر الحرام. قال القدوري: المسألة بخلقه لا تجوز، لأنه لا حق لمخلوق على الخالق؛ فلا تجوز، يعني وفاقا. وقال البلدجي في "شرح المختارة": ويكره أن يدعو الله إلا به، فلا يقول: أسألك بفلان، أو بملائكتك، أو أنبيائك، أو نحو ذلك، لأنه لا حق لمخلوق على الخالق، انتهى. [التوسل بالشخص والتوجه به] وقال أبو العباس، تقي الدين أحمد بن تيمية، قدس الله نفسه، ونور رمسه، في كتاب "اقتضاء الصراط المستقيم": لفظ التوسل بالشخص، والتوجه به، والتوسل به، فيه إجمال واشتراك، غلط بسببه من لم يفهم مقصود الجزء: 11 ¦ الصفحة: 63 الصحابة; يراد به التسبب به، لكونه داعيا وشافعا مثلا; أو يكون الداعي مجيبا له، مطيعا لأمره، مقتديا به. فيكون التسبب: إما بمحبة السائل واتباعه له، وإما بدعاء الوسيلة وشفاعته. ويراد به: الإقسام والتوسل بذاته؛ فهذا هو الذي كرهوه ونهوا عنه. وكذلك لفظ السؤال بشيء، قد يراد به المعنى الأول، وهو التسبب به، لكونه سببا في حصول المطلوب، وقد يراد به الإقسام. ومن الأول حديث الثلاثة الذين أووا إلى غار، وهو حديث مشهور في الصحيحين وغيرهما، فإن الصخرة انطبقت عليهم، فقالوا: ليدْعُ كل رجل منكم بأفضل عمله، فدعوا الله بصالح أعمالهم لأن الأعمال الصالحة هي أعظم ما يتوسل به العبد إلى الله، ويتوجه به إليه ويسأل به؛ وهؤلاء دعوه بعبادته، وفعل ما أمر به من العمل الصالح، وسؤاله والتضرع إليه. ومن هذا ما يذكر عن "فضيل بن عياض، أنه أصابه عسر البول، فقال: بحبي إياك إلا فرجت عني، ففرج عنه"، وكذلك دعاء "المرأة المهاجرة، التي أحيا الله ابنها، قالت: اللهم إني آمنت بك وبرسولك، وهاجرت في سبيلك، وسألت الله أن يحيي ولدها"، وأمثال ذلك، وهذا كما قال المؤمنون: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا} [سورة آل الجزء: 11 ¦ الصفحة: 64 عمران آية: 193] الآيات. فسؤال الله والتوسل إليه، بامتثال أوامره واجتناب نواهيه. وأما قوله في حديث أبي سعيد: " أسألك بحق السائلين عليك، وبحق ممشاي هذا " 1 فهذا الحديث رواه عطية العوفي، وفيه ضعف؛ لكن بتقدير ثبوته هو من هذا الباب، فإن حق السائلين عليه أن يجيبهم، وحق المطيعين له أن يثيبهم، فالسؤال له والطاعة سبب لحصول إجابته وإثابته، فهو التوسل به، والتوجه به، والتسبب به. ولو قدر أنه قسم، لكان قسما بما هو من صفاته؛ فإن إجابته وإثابته من أفعاله وأقواله، فصار هذا كقوله في الحديث الصحيح: " أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك " 2؛ والاستعاذة لا تصح بمخلوق، كما نص عليه الإمام أحمد وغيره من الأئمة. فاستعاذ صلى الله عليه وسلم بعفوه ومعافته من عقوبته، مع أنه لا يستعاذ بمخلوق، كسؤال الله بإجابته وإثابته، وإن كان لا يسأل بمخلوق. ومن قال من العلماء لا يسأل إلا به، لا ينافي السؤال بصفاته، كما أن الحلف لا يشرع إلا بالله، ومن حلف بغير الله فقد أشرك، ومع هذا فالحلف بعزة الله، ولعمر الله، ونحو ذلك مما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم الحلف   1 ابن ماجه: المساجد والجماعات (778) , وأحمد (3/21) . 2 مسلم: الصلاة (486) , والترمذي: الدعوات (3493) , والنسائي: التطبيق (1100 ,1130) والاستعاذة (5534) , وأبو داود: الصلاة (879) , وابن ماجه: الدعاء (3841) , وأحمد (6/58) , ومالك: النداء للصلاة (497) . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 65 به، لم يدخل في الحلف بغير الله. وأما قول بعض الناس: أسألك بالله وبالرحم، وقراءة من قرأ {تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} [سورة النساء آية: 1] ، فهو من باب التسبب بها، فإن الرحم توجب الصلة، وتقتضي أن يصل الإنسان قرابته؛ فسؤال السائل بالرحم لغيره، يتوسل إليه بما يوجب صلته من القرابة التي بينهما، ليس هو من باب الإقسام، ولا من باب التوسل بما لا يقتضي المطلوب، بل هو توسل بما يقتضي المطلوب، كالتوسل بدعاء الأنبياء، وبطاعتهم. ومن هذا الباب: ما يروى، أن "عبد الله بن جعفر قال: كنت إذا سألت عليا شيئا فلم يعطنيه، قلت له: بحق جعفر إلا ما أعطيتنيه، فيعطيه"، أو كما قال; فإن بعض الناس ظن: أن هذا من باب الإقسام عليه بجعفر، أو من قولهم: أسألك بحق أنبيائك ونحو ذلك، وليس كذلك. بل جعفر هو أخو علي، وعبد الله ابنه، وله عليه حق الصلة، فصلة عبد الله صلة لأبيه جعفر، كما في الحديث: " إن من أبر البر أن يصل الرجل أهل ود أبيه بعد ما يولي " 1. ولو كان من هذا الباب الذي ظنوه، لكان سؤاله لعلي بحق النبي صلى الله عليه وسلم وإبراهيم ونحوهما، أولى من سؤاله بحق   1 مسلم: البر والصلة والآداب (2552) , والترمذي: البر والصلة (1903) , وأبو داود: الأدب (5143) , وأحمد (2/97) . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 66 جعفر، ولكان علي إلى تعظيم رسول الله صلى الله عليه وسلم ومحبته وإجابته السائل، أسرع منه إلى إجابة السائل بغيره; انتهى ملخصا. وأما قول القائل: فقد أخرج الحاكم في المستدرك وصححه، "أن آدم توسل بالنبي صلى الله عليه وسلم"، فهو من رواية: عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، قال أحمد بن حنبل: ضعيف; وقال ابن معين: ليس حديثه بشيء; وضعفه ابن المديني جدا، وقال أبو داود: أولاد زيد بن أسلم كلهم ضعيف، وقال النسائي: ضعيف. وقال ابن عبد الحكم: سمعت الشافعي يقول: ذكر رجل لمالك حديثا، فقال: من حدثك؟ فذكر إسنادا له منقطعا; فقال: اذهب إلى عبد الرحمن بن زيد، يحدثك عن أبيه، عن نوح عليه السلام، وقال أبو زرعة ضعيف; وقال أبو حاتم: ليس بقوي في الحديث، كان في نفسه صالحا، وفي الحديث واهيا. وقال ابن حبان: كان يقلب الأخبار وهو لا يعلم، حتى كثر ذلك في روايته، من رفع المراسيل، وإسناد الموقوف، فاستحق الترك; وقال ابن سعد: كان كثير الحديث، ضعيفا جدا; وقال ابن خزيمة: ليس هو ممن يحتج أهل العلم بحديثه; وقال الحاكم، وأبو نعيم: روى عن أبيه أحاديث موضوعة; وقال ابن الجوزي: أجمعوا على الجزء: 11 ¦ الصفحة: 67 ضعفه; فهذا الحديث الذي استدل به، تفرد به عبد الرحمن بن زيد، وهو كما تسمع. وقال الشيخ تقي الدين ابن تيمية، قدس الله روحه ونور ضريحه في رده على ابن البكري: وأما قول القائل: قد توسل به الأنبياء، آدم، وإدريس، ونوح، وأيوب، كما هو مذكور في كتب التفسير وغيرها، فيقال: مثل هذه القصص لا يجوز الاحتجاج بها، بإجماع المسلمين. فإن الناس لهم في شرع من قبلنا قولان: أحدهما: أنه ليس بحجة. الثاني: أنه حجة ما لم يأت شرعنا بخلافه، بشرط أن يثبت ذلك بنقل معلوم، كإخبار النبي صلى الله عليه وسلم. فأما الاعتماد على نقل أهل الكتاب، أو نقل من نقل عنهم، فهذا لا يجوز باتفاق المسلمين، لأن في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إذا حدثكم أهل الكتاب، فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم " 1. وهذه القصص التي فيها ذكر توسل الأنبياء بذاته، ليست في شيء من كتب الحديث المعتمدة، ولا لها إسناد معروف عن أحد من الصحابة; وإنما تذكر مرسلة، كما تذكر الإسرائيليات التي تروى عمن لا يعرف. وقد بسطنا الكلام في غير هذا الموضع، على ما نقل في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم وتكلمنا عليه وبينا بطلانه. ولو نقل ذلك عن كعب، ووهب، ومالك بن   1 أبو داود: العلم (3644) , وأحمد (4/136) . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 68 دينار، ونحوه ممن ينقل عن أهل الكتاب، لم يجز أن يحتج به; لأن الواحد من هؤلاء، وإن كان ثقة، فغاية ما عنده أن ينقل من كتاب من كتب أهل الكتاب، أو يسمعه من بعضهم، فإنه بينه وبين الأنبياء دهر طويل; والمرسل عن المجهول من أهل الكتاب، الذي لا يعرف علمه وصدقه، لا يقبل باتفاق المسلمين. ومراسيل أهل زماننا عن نبينا صلى الله عليه وسلم لا تقبل عند العلماء، مع كون ديننا محفوظا محروسا، فكيف بما يرسل عن آدم وإدريس، ونوح وأيوب عليهم السلام؟ والقرآن قد أخبرنا بأدعية الأنبياء وتوباتهم واستغفارهم، وليس فيها شيء من هذا; وقد نقل أبو نعيم في الحلية: أن داود عليه السلام قال: يا رب أسألك بحق آبائي عليك، إبراهيم وإسحاق ويعقوب; فقال: يا داود: وأي حق لآبائك علي؟ فإن كانت الإسرائيليات حجة، فهذا يدل على أنه لا يسأل بحق الأنبياء، وإن لم تكن حجة لم يجز الاحتجاج بتلك الإسرائيليات، انتهى كلامه; فبين رحمه الله تعالى: أنه لم يصح في هذا شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم وأن جميع ما روي في ذلك باطل لا أصل له. [التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم خاصة] وأما قوله: وأما التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم خاصة فقد رأيت لشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب نقلا في جواز الجزء: 11 ¦ الصفحة: 69 ذلك عن ابن عبد السلام. فنقول: قد تقدم أن التوسل المشروع، هو التوسل إلى الله بالأسماء والصفات، والتوحيد، وكذلك التوسل بمحبة النبي صلى الله عليه وسلم والإيمان به وطاعته، وكذلك التوسل بدعائه وشفاعته؛ وكل هذا مشروع بلا ريب، وأما التوسل بنفس الذات، فقد قدمنا أن كثيرا من العلماء نهوا عن ذلك، وجعلوه من البدع المكروهة المحدثة. وبعضهم رخص في ذلك، وهو قول ضعيف مردود; وعز الدين بن عبد السلام: أنكر التوسل إلى الله بغير النبي صلى الله عليه وسلم، وأما التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم فعلق القول بجوازه على صحة حديث الأعمى; لأنه فهم من الحديث: أن الأعمى توسل بذات النبي صلى الله عليه وسلم. وأما الجمهور: فحملوا حديث الأعمى على أنه توسل بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم كما كان الصحابة يتوسلون به في الاستسقاء، كما في حديث أنس الذي رواه البخاري في صحيحه، وقد تقدم; وشيخنا رحمه الله: نقل كلام العز بن عبد السلام ليبين أن مسألة التوسل بغير النبي صلى الله عليه وسلم بدعة مكروهة; وأما التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم فأجازه بعض العلماء، كالعز بن عبد السلام. والسائل فهم من نقل الشيخ أنه اختاره، وليس الأمر كذلك; بل الذي اختاره رحمه الله تعالى، هو الذي ذهب الجزء: 11 ¦ الصفحة: 70 إليه الجمهور: أن ذلك بدعة محدثة، لم يفعلها الصحابة، ولا التابعون، فإنه لم ينقل عن أحد منهم: أنه توسل بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد موته، كما قدمناه. وأما قوله: وأما التوسل بغير الأنبياء، فيوردون: "أن عمر توسل بالعباس في الاستسقاء"، وقد نقلنا بيانه بما فيه كفاية، وبينا أن التوسل بدعاء الصالحين في الاستسقاء وغيره مشروع، كما فعله الصحابة لما توسلوا بالعباس ويزيد بن الأسود، وليس كلامنا في هذا، وإنما الكلام في التوسل بنفس الذات. وأما قولهم في حديث العباس "فطفق الناس يتمسحون به"، فلم نقف لها على أصل، ولا رأيناها في شيء من الكتب، وعلى تقدير ثبوتها فليس فيها حجة على التوسل بالأموات. فصل وأما قوله: إن سلمنا هذا القول، وظهر دليله، فالجاهل معذور; لأنه لم يدر ما الشرك والكفر، ومن مات قبل البيان فليس بكافر، وحكمه حكم المسلمين في الدنيا والآخرة; لأن قصة ذات أنواط، وبني إسرائيل، حين جاوزوا البحر، تدل على ذلك.. إلى آخره. فالجواب أن يقال: إن الله تعالى أرسل الرسل مبشرين ومنذرين، لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل، الجزء: 11 ¦ الصفحة: 71 فكل من بلغه القرآن ودعوة الرسول صلى الله عليه وسلم فقد قامت عليه الحجة قال الله تعالى: {لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [سورة الأنعام آية: 19] ، وقال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [سورة الإسراء آية: 15] . وقد أجمع العلماء على أن من بلغته دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم أن حجة الله قائمة عليه. ومعلوم بالاضطرار من الدين: أن الله بعث محمدا صلى الله عليه وسلم وأنزل عليه الكتاب ليعبد وحده ولا يشرك معه غيره، فلا يدعى إلا هو، ولا يذبح إلا له، ولا ينذر إلا له، ولا يتوكل إلا عليه، ولا يخاف خوف السر إلا منه. والقرآن مملوء من هذا، قال الله تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} [سورة الجن آية: 18] ، وقال: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ} [سورة الرعد آية: 14] ، وقال: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ} [سورة يونس آية: 106] ، وقال: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [سورة الكوثر آية: 2] ، وقال: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [سورة المائدة آية: 23] ، وقال: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [سورة هود آية: 123] ، وقال: {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} [سورة البقرة آية: 40] ، وقال: {وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [سورة آل عمران آية: 175] ، وقال: {وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} [سورة التوبة آية: 18] ، والآيات الواردة في هذا المعنى كثيرة. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 72 والله تعالى: لا يعذب خلقه إلا بعد الإعذار إليهم، فأرسل رسله وأنزل كتبه، لئلا يقولوا: {لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [سورة القصص آية: 47] ، وقال: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى} [سورة طه آية: 134] . وكل من بلغه القرآن فليس بمعذور؛ فإن الأصول الكبار، التي هي أصل دين الإسلام، قد بينها الله تعالى في كتابه، وأوضحها وأقام بها حجته على عباده. وليس المراد بقيام الحجة أن يفهمها الإنسان فهما جليا، كما يفهمها من هداه الله ووفقه، وانقاد لأمره; فإن الكفار قد قامت عليهم الحجة من الله تعالى، مع إخباره بأنه جعل على قلوبهم أكنة أن يفقهوا كلامه، فقال: {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً} [سورة الأنعام آية: 25] . وقال: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمىً} [سورة فصلت آية: 44] ، وقال تعالى: {إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} [سورة الأعراف آية: 30] ، وقال تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاًالَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} [سورة الكهف آية: 103-104] . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 73 والآيات في هذا المعنى كثيرة؛ يخبر سبحانه أنهم لم يفهموا القرآن ولم يفقهوه، وأنه عاقبهم بالأكنة على قلوبهم، والوقر في آذانهم، وأنه ختم على قلوبهم وأسماعهم وأبصارهم؛ فلم يعذرهم مع هذا كله؛ بل حكم بكفرهم وأمر بقتالهم، وقاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وحكم بكفرهم ; فهذا يبين لك أن بلوغ الحجة نوع، وفهمها نوع آخر. وقد سئل شيخنا رحمه الله تعالى، عن هذه المسألة، فأجاب السائل بقوله: من العجب العجاب، كيف تشكون في هذا، وقد وضحته لكم مرارا؟! فإن الذي لم تقم عليه الحجة، هو الذي حديث عهد بالإسلام، والذي نشأ ببادية بعيدة، أو يكون في مسألة خفية، مثل الصرف والعطف، فلا يُكَفَّر حتى يُعرَّف; وأما أصول الدين التي أوضحها الله وأحكمها في كتابه، فإن حجة الله هي القرآن؛ فمن بلغه فقد بلغته الحجة. ولكن أصل الإشكال أنكم لم تفرقوا بين قيام الحجة، وفهم الحجة; فإن أكثر الكفار والمنافقين لم يفهموا حجة الله مع قيامها عليهم، كما قال تعالى: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} [سورة الفرقان آية: 44] . وقيام الحجة وبلوغها نوع، وفهمهم إياها نوع آخر; وكفّرهم الله الجزء: 11 ¦ الصفحة: 74 ببلوغها إياهم، مع كونهم لم يفهموها. وإن أشكل عليكم ذلك، فانظروا قوله صلى الله عليه وسلم في الخوارج " أينما لقيتموهم فاقتلوهم " 1 مع كونهم في عصر الصحابة، ويحقر معهم الإنسان عمل الصحابة، ومع إجماع الناس أن الذي أخرجهم من الدين، هو التشديد والغلو والاجتهاد، وهم يظنون أنهم مطيعون لله، وقد بلغتهم الحجة، ولكن لم يفهموها. وكذلك: قتل علي رضي الله عنه الذين اعتقدوا فيه، وتحريقهم بالنار، مع كونهم تلاميذ الصحابة، ومع عبادتهم وصلاحهم؛ وهم أيضا يظنون أنهم على حق، وكذلك إجماع السلف على تكفير أناس من غلاة القدرية، وغيرهم، مع كثرة علمهم، وشدة عبادتهم، وكونهم يظنون أنهم يحسنون صنعا; ولم يتوقف أحد من السلف في تكفيرهم; لأجل أنهم لم يفهموا، فإن هؤلاء كلهم لم يفهموا، انتهى كلامه. إذا تقرر هذا، فنقول: إن هؤلاء الذين ماتوا قبل ظهور هذه الدعوة الإسلامية، وظاهر حالهم الشرك، لا نتعرض لهم، ولا نحكم بكفرهم ولا بإسلامهم؛ بل نقول: من بلغته هذه الدعوة المحمدية، وانقاد لها، ووحد الله، وعبده وحده لا شريك له، والتزم شرائع الإسلام، وعمل بما أمره الله به، وتجنب ما نهاه عنه،   1 البخاري: المناقب (3611) , ومسلم: الزكاة (1066) , والنسائي: تحريم الدم (4102) , وأبو داود: السنة (4767) , وأحمد (1/131) . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 75 فهذا من المسلمين الموعودين بالجنة، في كل زمان وفي كل مكان. وأما من كانت اله حال أهل الجاهلية، لا يعرف التوحيد الذي بعث الله رسوله يدعو إليه، ولا الشرك الذي بعث الله رسوله ينهى عنه، ويقاتل عليه، فهذا لا يقال إنه مسلم لجهله؛ بل من كان ظاهر عمله الشرك بالله، فظاهره الكفر، فلا يستغفر له ولا يتصدق عنه، ونكل حاله إلى الله الذي يبلو السرائر، ويعلم ما تخفي الصدور. ولا نقول: فلان مات كافرا، لأنا نفرق بين المعيّن وغيره، فلا نحكم على معين بكفر، لأنا لا نعلم حقيقة حاله وباطن أمره؛ بل نكل ذلك إلى الله. ولا نسب الأموات؛ بل نقول: أفضوا إلى ما قدموا. وليس هذا من الدين الذي أمرنا الله به؛ بل الذي أمرنا به أن نعبد الله وحده ولا نشرك به، ونقاتل من أبى عن ذلك، بعد ما ندعوه إلى ما دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإذا أصر وعاند كفّرناه وقاتلناه. فينبغي للطالب أن يعهم الفرق بين المعين وغيره؛ فنكفر من دان بغير الإسلام جملة، ولا نحكم على معين بالنار، ونلعن الظالمين جملة، ولا نخص معينا بلعنة، كما قد ورد في الأحاديث من لعن السارق، وشارب الخمر؛ فنلعن من لعنه الله ورسول الله صلى الله عليه وسلم جملة، ولا نخص شخصا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 76 بلعنة؛ يبين ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن شارب الخمر جملة. ولم اجلد رجلا قد شرب، قال رجل من القوم: اللهم اللعنه، ما أكثر ما يؤتى به النبي صلى الله عليه وسلم؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " لا تلعنوه، فوالله ما علمت إلا أنه يحب الله ورسوله ?". فصل وأما قوله: ومنها: أن كثيرا من العلماء الكبار فعلوا هذه الأمور، وفُعلت بحضرتهم ولم تنكر. ومن ذلك تتابعهم على بناء القباب على القبور، واتخاذها أعيادا في الغالب؛ فلكل شيخ يوم معروف، في شهر معلوم، يؤتى إليه من النواحي؛ وقد يحضرهم بعض العلماء فلا ينكر. فالجواب من وجوه: الوجه الأول: أن يقال: قد افترض الله على الخلق طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخبر أن من أطاعه فقد أطاع الله، فقال: {ومن يطع الرسول فقد أطاع الله} وقال: {وإن تطيعوه تهتدوا} ، وقال: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} . وقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول الجزء: 11 ¦ الصفحة: 77 وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول} . فإذا اختلف الناس في شيء من أمور الدين، هل هو واجب أو محرم أو جائز، وجب رد ما وقع فيه الاختلاف إلى الله والرسول، ويجب على المؤمن إذا دعي إلى ذلك، أن يقول: سمعا وطاعة; قال الله تعالى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [سورة النور آية: 51] . فنحن نحاكم من نازعنا في هذه المسألة وغيرها من المسائل، إلى الله والرسول، لا إلى أقوال الرجال وآرائهم. فنقول لمن أجاز بناء القباب على القبور بالجص والآجر وأسرجها، وفرشها بالرخام، وعلق عليها قناديل الفضة وبيض النعام، وكساها كما يكسى بيت الله الحرام: هل أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا وحث عليه؟ أم نهى عنه وأمر بإزالة ما وضع من ذلك عليه؟ فما أمرنا به ائتمرنا، وما نهانا عنه انتهينا; وسنته هي الحاكمة بيننا وبين خصومنا في محل النّزاع. فنقول: قد ثبت في صحيح مسلم عن أبي الهياج الأسدي، قال: قال لي علي بن أبي طالب رضي الله عنه: " ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا أدع تمثالا إلا طمسته، ولا قبرا مشرفا إلا سويته " 1 ; وفي صحيحه   1 مسلم: الجنائز (969) , والترمذي: الجنائز (1049) , وأبو داود: الجنائز (3218) , وأحمد (1/96 ,1/128) . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 78 أيضا، عن ثمامة بن شفي الهمداني، قال: "كنا مع فضالة بن عبيد بأرض الروم فتوفي صاحب لنا، فأمر فضالة بن عبيد بقبره فسوي، ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بتسويتها". وفي صحيحه أيضا، عن جابر بن عبد الله، قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تجصيص القبر، وأن يقعد عليه، وأن يبنى عليه " 1. وفي سنن أبي داود، والترمذي، عن جابر رضي الله عنه " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن تجصص القبور، وأن يبنى عليها، ويكتب عليها " 2، قال الترمذي: حديث حسن صحيح. وعن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: " لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسرج " 3، رواه الإمام أحمد، وأهل السنن. فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البناء عليها، وأمر بهدمه بعد ما يبنى، ونهى عن الكتابة عليها، ولعن من أسرجها؛ فنحن نأمر بما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم من تسويتها، وننهى عن البناء عليها، كما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فهو الذي افترض الله علينا طاعته واتباعه. وأما غيره فيؤخذ من قوله ويترك، كما قال الإمام مالك: كل أحد يؤخذ من قوله ويترك، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال الإمام أحمد: لا تقلد في دينك أحدا، ما جاء   1 مسلم: الجنائز (970) , والترمذي: الجنائز (1052) , والنسائي: الجنائز (2027 ,2028 ,2029) , وأبو داود: الجنائز (3225) , وابن ماجه: ما جاء في الجنائز (1562) , وأحمد (3/295 ,3/332 ,3/339 ,3/399) . 2 مسلم: الجنائز (970) , والترمذي: الجنائز (1052) , والنسائي: الجنائز (2028 ,2029) , وأبو داود: الجنائز (3225) , وابن ماجه: ما جاء في الجنائز (1562 ,1563) , وأحمد (3/295 ,3/332 ,3/339) . 3 الترمذي: الصلاة (320) , والنسائي: الجنائز (2043) , وأبو داود: الجنائز (3236) , وابن ماجه: ما جاء في الجنائز (1575) , وأحمد (1/229 ,1/287 ,1/324 ,1/337) . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 79 عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه فخذه; ثم التابعين بعد، الرجل فيهم مخير. وقال أيضا: لا تقلدوني، ولا تقلدوا مالكا، ولا الثوري، ولا الأوزاعي، وخذوا من حيث أخذوا. والعجب ممن يسمع هذه الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من النهي عن تعظيم القبور، وعقد القباب عليها بالجص والآجر، وإسراجها، ولعن من أسرجها; ثم يقول فعلت هذه الأمور، بحضرة العلماء الكبار ولم ينكروا، كأنه لم يسمع ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك. قال ابن عباس رضي الله عنهما: "يوشك أن تنْزل عليكم حجارة من السماء. أقول: قال رسول الله، وتقولون: قال أبو بكر وعمر". وقال الإمام أحمد: عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته، ويذهبون إلى رأي سفيان، والله تعالى يقول: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [سورة النور آية: 63] : أتدري ما الفتنة؟ الفتنة الشرك؛ لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك. فإذا كان هذا كلام ابن عباس، فيمن عارض السنة لقول أبي بكر وعمر، وكلام أحمد فيمن ذهب إلى رأي سفيان، فكيف بمن عارض السنة بقول فلان وفلان؟ وقد روى البيهقي عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: قال الجزء: 11 ¦ الصفحة: 80 رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن أشد ما أتخوف على أمتي ثلاثا: زلة عالم، وجدال منافق بالقرآن، ودنيا تقطع أعناق الرجال " 1. ومن المعلوم أن المخوف في زلة العالم تقليده فيها؛ إذ لولا ذلك لم يخف من زلة العالم على غيره؛ فإذا عرف أنها زلة، لم يجز له أن يتبعه فيها باتفاق العلماء; فإنه اتباع للخطأ على عمد. وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه "يفسد الزمان ثلاثة: أئمة مضلون، وجدال المنافق بالقرآن والقرآن حق، وزلة العالم". فإذا صح وثبت أن العالم يزل ويخطئ، لم يجز لأحد أن يفتي ويدين الله بقول لا يعرف وجهه؛ فكيف إذا عارض بقوله أو فعله قول رسول الله صلى الله عليه وسلم أو فعله؟ الوجه الثاني: أن يقال: إذا لم تقنع ولم يطمئن قلبك بما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقلت: العلماء أعلم منا بالسنة، وأطوع لله ولرسوله، فنقول: أعلم الناس بما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم وما نهى عنه: أصحابه رضي الله عنهم، فهم أعلم الناس بسنته، وأطوعهم لأمره; وهم الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه، ورضي عمن اتبعهم بإحسان. وفي حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه عن   1 الدارمي: المقدمة (649) . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 81 رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " عليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين المهدين من بعدي؛ تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ. وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة " 1 وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " خير القرون قرني الذي بعثت فيه، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم " 2. وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه:"من كان منكم مستنا فليستن بمن قد مات، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة. أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أبر هذه الأمة قلوبا، وأعمقها علما، وأقلها تكلفا، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه وإقامة دينه، فاعرفوا لهم حقهم، وتمسكوا بهديهم، فإنهم كانوا على الصراط المستقيم". وقال حذيفة بن اليمان رضي الله عنه:"يا معشر القراء، استقيموا وخذوا طريق من قبلكم، فوالله لقد سبقتم سبقا بعيدا، ولئن أخذتم يمينا وشمالا، لقد ضللتم ضلالا بعيدا". فإن احتج أحد علينا بما عليه المتأخرون، قلنا: الحجة بما عليه الصحابة، والتابعون، الذين هم خير القرون، لا بما عليه الخلف، الذين يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون. فهؤلاء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هل نقل عنهم أنهم عقدوا القباب على القبور، وأسرجوها؟ وخلقوها وكسوها الحرير؟ أم هذا مما حدث بعدهم من المحدثات، التي   1 الترمذي: العلم (2676) , وأبو داود: السنة (4607) , وابن ماجه: المقدمة (42 ,44) , وأحمد (4/126) , والدارمي: المقدمة (95) . 2 البخاري: الشهادات (2652) , ومسلم: فضائل الصحابة (2533) , والترمذي: المناقب (3859) , وابن ماجه: الأحكام (2362) , وأحمد (1/378 ,1/417 ,1/434 ,1/438 ,1/442 ,4/267 ,4/276 ,4/277) . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 82 هي بدع وضلالات؟ ومعلوم أن عندهم من قبور الصحابة، الذين ماتوا في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعد وفاته ما لا يحصى، هل بنوا على قبورهم وعظموها، ودعوا عندها، وتمسحوا بها؟ فضلا عن أن يسألوها حوائجهم؟ أو يسألوا الله بأصحابها؟ فمن كان عنده في هذا أثر صحيح أو حسن، فليرشدنا إليه وليدلنا عليه، وأنى له بذلك؟ فهذه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في القبور وسنة خلفائه الراشدين. وقد روى خالد بن سنان، عن أبي العالية قال: "لما فتحنا تستر وجدنا في بيت مال الهرمزان سريرا عليه رجل ميت، عند رأسه مصحف، فأخذنا المصحف، فحملناه إلى عمر بن الخطاب فدعا له كعبا، فنسخه بالعربية؛ فأنا أول رجل من العرب قرأه، قرأته مثلما أقرأ القرآن. قال خالد، فقلت لأبي العالية: ما كان فيه؟ قال: سيرتكم، وأموركم، ولحون كلامكم، وما هو كائن بعد. قلت: فما صنعتم بالرجل؟ قال: حفرنا بالنهار ثلاثة عشر قبرا متفرقة، فلما كان بالليل دفناه، وساوينا القبور كلها مع الأرض، لنعميه عن الناس لا ينبشونه. فقلت: وما يرجون منه؟ قال: كانت السماء إذا حبست عنهم، أبرزوا السرير فيمطرون. فقلت: من كنتم تظنون الرجل؟ قال: رجل يقال له "دانيال". فقال: منذ كم الجزء: 11 ¦ الصفحة: 83 وجدتموه مات؟ قال: منذ ثلاثمائة سنة; قلت: ما كان تغير منه شيء؟ قال: لا، إلا شعرات من قفاه; إن لحوم الأنبياء لا تبليها الأرض، ولا تأكلها السباع". ففي هذه القصة: ما فعله المهاجرون والأنصار، من تعمية قبره، لئلا يفتنن به الناس; ولم يبرزوه للدعاء عنده، والتبرك به; ولو ظفر به هؤلاء المشركون، وعلموا حقيقته لبنوا عليه وعظموه، وزخرفوا قبره، وأسرجوه، وجعلوه وثنا يعبد. فإنهم قد اتخذوا من القبور أوثانا، ممن لا يداني هذا ولا يقاربه - بل لعله عدو لله - وأقاموا لها سدنة، وجعلوها معابد، واعتقدوا أن الصلاة عندها، والدعاء حولها والتبرك بها، فضيلة مخصوصة ليست في المساجد ; ولو كان الأمر كما زعموا، بل لو كان مباحا، لنصب المهاجرون والأنصار هذا القبر علما، ولما أخفوه خشية الفتنة به؛ بل دعوا عنده وبينوه لمن بعدهم؛ ولكن كانوا أعلم بالله ورسوله ودينه، من هؤلاء الخلوف، الذين أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات، وصرفوا لغير الله جل العبادات. وما أحسن ما قال الإمام مالك، رحمه الله تعالى: لن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها; ولكن كلما نقص تمسكهم بسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم وهديه، وسنة خلفائه الراشدين، تعوضوا عن ذلك بما أحدثوه من البدع والشرك. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 84 ومن له خبرة بما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم عند زيارة القبور، وما يفعل بها، وما يفعل عندها، وبما كان عليه الصحابة رضي الله تعالى عنهم، ثم وازن بين هديه صلى الله عليه وسلم وهدي أصحابه، وبين ما عليه المتأخرون اليوم، وما يفعلونه عند القبور، تبين له التباين والتضاد، وعلم أن بينهما من الفرق أبعد مما بين المشرق والمغرب، كما قيل: سارت مشرقة وسرت مغربا شتان بين مشرق ومغرب الوجه الثالث: أن يقال: قوله: إن كثيرا من العلماء فعلوا هذه الأمور، وفعلت بحضرتهم فلم ينكروا، من ذلك تتابعهم على بناء القباب على القبور. فيقال: بل قد نهوا عن ذلك، وصرحوا بكراهته والنهي عنه، وهذه كتبهم بأيدينا مصرحة بما ذكرنا، ونحن نسوق عباراتهم بألفاظها: فأما كلام الحنابلة، فقال في الإقناع: ويستحب رفع القبر قدر شبر، ويكره فوقه، ويكره البناء عليه، سواء لاصق البناء القبر أو لا، ولو في ملكه من قبة أو غيرها، للنهي عن ذلك. وقال ابن القيم، رحمه الله تعالى، في "إغاثة اللهفان": ويجب هدم القباب التي على القبور ; لأنها أسست على معصية الرسول، انتهى. وهو في المسبلة أشد كراهة; قال الشيخ: هو غاصب; الجزء: 11 ¦ الصفحة: 85 وقال أبو حفص: تحرم الحجرة؛ بل تهدم وهو الصواب، انتهى كلامه في الإقناع; وهذا الذي ذكره، ذكره غير واحد من أئمة الحنابلة، فلا حاجة إلى الإطالة بنقل عباراتهم. [تجصيص القبر والبناء والكتابة عليه] وأما كلام الشافعية، فقال الأذرعي، رحمه الله تعالى: في "قوت المحتاج إلى شرح المنهاج" عند قول المؤلف، رحمه الله تعالى: ويكره تجصيص القبر، والبناء والكتابة عليه؛ ثبت في صحيح مسلم النهي عن التجصيص والبناء. وفي الترمذي وغيره: النهي عن الكتابة، وعبارة الحلوانية ممنوعا منهما; وعبارة القاضي ابن كج: ولا يجوز أن تجصص القبور، ولا أن يبنى عليها قبابا، ولا غير قباب؛ والوصية بها باطلة. وقال الحضرمي في شرح المهذب: وقد يقولون - يعني الأصحاب -: لا تبنى القبور، وكأنهم يريدون: لا تبنى القبور في نفسها بآجر، والبناء قبل، فالمفهوم من كلامهم: أن هذا كالتجصيص فيكره، ولا يحرم، إلا أن يريد في المقبرة المسبلة فيحرم. قلت: وينبغي تحريمه في المسبلة مطلقا وإن لم يضيق; لأنه قد أبدى بالجص وإحكام البناء، فيمنع من الدفن هناك بعد البلاء، ولا يبعد الجزم بالتحريم في ملكه وغيره، على من علم النهي عنه؛ بل هو القياس الحق. قوله: ولو بني في مقبرة مسبلة هدم، أي: البناء على القبر فيها; وعلى الفرق في التحريم بين ملكه وملك غيره جرى كثيرون، منهم القاضيان الحسين، والماوردي في موضع آخر، فقال: يكره البناء على الجزء: 11 ¦ الصفحة: 86 القبور، كالقباب والبيوت؛ وإن كان في غير ملكه لم يجز للنهي عن ذلك والتضييق. قال الشافعي رضي الله عنه: ورأيت الولاة بمكة يأمرون بهدم ما يبنى منها، ولم أر الفقهاء يعيبون ذلك عليهم، انتهى. وأما بطلان الوصية ببناء القباب، وغيرها من الأبنية العظيمة، وإنفاق الأموال الكثيرة عليها، فلا ريب في تحريمه; والعجب كل العجب ممن يلزم ذلك الورثة من حكام العصر، ويعمل بالوصية بذلك، مع قول الأصحاب: لا تنفذ الوصية بالتابوت، حيث لا حاجة إليه. ومن جوز البناء في الملك صرح بالكراهة، فكيف تنفذ الوصية على المكروه؟ انتهى كلام الأذرعي رحمه الله. فصرح بأن البناء مكروه، وساق عبارات الأصحاب; وهل الكراهة كراهة تحريم أم لا؟ أم يفرق بين المسألة وغيرها؟ واختار التحريم مطلقا في ملكه وغيره، على من علم النهى; وقال: بل هو القياس الحق. وأما كلام المالكية، فقال القرطبي رحمه الله: في شرح مسلم، لما ذكر قوله صلى الله عليه وسلم: " ولا قبرا مشرفا إلا سويته" 1 ظاهره: منع تسنيم القبور، ورفعها، وأن تكون لاطئة   1 مسلم: الجنائز (969) , والترمذي: الجنائز (1049) , والنسائي: الجنائز (2031) , وأبو داود: الجنائز (3218) , وأحمد (1/96 ,1/128 ,1/145) . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 87 بالأرض، وقد قال به بعض أهل العلم. وذهب الجمهور إلى أن هذا الارتفاع المأمور بإزالته، ليس هو التسنيم، ولا ما يعرف به القبر، كي يحترم; إنما هو الارتفاع الكثير، الذي كانت الجاهلية تفعله; فإنها كانت تعلي عليها، وتبني فوقها، تفخيما لها وتعظيما. وأما تسنيمها، فذلك صفة قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وقبر أبي بكر وعمر، على ما ذكر في الموطأ. وقد جاء عن عمر: أنه هدمها، وقال: ينبغي أن تسوى تسوية تسنيم. وهذا معنى قول الشافعي: تسطح القبور، ولا تبنى ولا ترفع، وتكون على وجه الأرض; وتسنيمها: اختاره أكثر العلماء، وجملة أصحابنا، وأصحاب أبي حنيفة، والشافعي. قلت: والذي صار إليه عمر أولى، فإنه جمع بين التسوية والتسنيم. وقوله: نهى أن يجصص القبر، ويبنى عليه; التجصيص، والتقصيص، هو: البناء بالجص; وبظاهر هذا الحديث، قال مالك: وكره البناء والجص على القبور، وقد أجازه غيره، وهذا الحديث حجة عليه. ووجه النهي عن البناء، والتجصيص في القبور: أن ذلك مباهاة، واستعمال زينة الدنيا في أول منازل الآخرة، وتشبه بمن كان يعبد القبور، ويعظمها. وباعتبار هذه المعاني، وبظاهر هذا النص، ينبغي أن يقال: هو حرام، كما قال به: بعض أهل العلم، انتهى كلام القرطبي رحمه الله. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 88 وقال الشيخ سالم السنهوريفي كتابه "تيسير الملك الجليل، شرح مختصر خليل": قال بعض: لا شك أن "المعلاة" و "الشبيكة" من مقابر المسلمين المسبلة، المرصدة لدفن الموتى بمكة المشرفة، وأما البناء بهما لا يجوز، ويجب هدمه، يدل له قول الشافعي: رأيت من الولاة من يهدم بمكة ما بني بها. قال في المدخل: وقد "جعل عمر رضي الله عنه "القرافة" بمصر لدفن موتى المسلمين"، واستمر الأمر على ذلك، وأن البناء بها ممنوع، وأن السلطان "الظاهر" أمر باستفتاء العلماء في زمانه في هدم ما بها من البناء، فاتفقوا على لسان واحد: يجب على ولي الأمر هدمه، وأن يكلف أصحابه رمي ترابها في "الكمارة"؛ ولم يختلف في ذلك أحد منهم; ثم إن الملك الظاهر سافر إلى الشام، فلم يرجع، انتهى. قال بعض: ولم أعلم أحدا من المالكية أباح البناء حول القبور في مقابر المسلمين، سواء كان الميت صالحا أو عالما أو شريفا أو سلطانا أو غير ذلك. وفي جواب ابن رشد - عن سؤال القاضي له عن ذلك -: أما ما بني في مقبرة المسلمين ووقف، فإن وقفه باطل، وأنقاضه باقية على ملك ربها إن كان حيا أو كان له ورثة؛ ويؤمر هو ووارثه بنقلها عن مقابر المسلمين. وإن لم يكن له وارث استأجر الجزء: 11 ¦ الصفحة: 89 القاضي على نقلها منها وصرف الباقي في مصاريف بيت المال. ولا يؤخذ جواز البناء على القبور، من قول الحاكم في مستدركه - عقب تصحيحه الأحاديث -: النهي عن البناء على القبر، والكتب عليه: ليس العمل عليها؛ فإن أئمة المسلمين شرقا وغربا مكتوب على قبورهم، وأخذه الخلف عن السلف، فيكون إجماعا، مستندا إلى حديث آخر كخبر: "لا تجتمع أمتي على ضلالة". ولا من قول ابن قداح في مسائله: لا يجوز البناء على القبر; وهل يكتب عليه أو لا؟ لم يرد في ذلك عن السلف الصالح شيء، ولكن إن وقع وعمل على قبر رجل من أهل الخير فخفيف; لأن كلام الحاكم وابن قداح: خاص بالكتابة، لا يتعداها إلى البناء. وقال ابن رشد: كره مالك البناء على القبر، وجعل البلاطة المكتوبة، وهي من بدع أهل الطول، وأحدثوه إرادة الفخر والمباهاة والسمعة؛ وهو مما لا اختلاف فيه، انتهى كلام السنهوري رحمه الله. وأما كلام الحنفية فقال الزيلعي - في شرحه على الكنْز - عند قول الماتن: ويسنم القبر ولا يربع ولا يجصص، لما روى البخاري عن سفيان التمار: أنه رأى قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم مسنما. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 90 وقال إبراهيم النخعي: أخبرني بعض من رأى قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وقبر أبي بكر وعمر مسنمة، وسنم محمد بن الحنفية قبر ابن عباس. ويسنم قدر شبر; وقيل: قدر أربع أصابع; ولا بأس برش الماء عليه، حفظا لترابه عن الاندراس. وعن أبي يوسف أنه كرهه; لأنه يجري مجرى التطيين. ويكره أن يبنى على القبر. وفي الخلاصة: ولا يجصص القبر ولا يطين، ولا يرفع عليه بناء. وذكر أيضا قاضي خان، في فتاويه: أنه لا يجصص القبر ولا يبنى عليه، لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن التجصيص والتقصيص، وعن البناء فوق القبر; قالوا: أراد بالبناء السفط الذي يجعل في ديارنا. وقال ابن الهمام في "فتح القدير"، قال أبو حنيفة: حدثنا شيخ لنا، يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن تربيع القبور وتجصيصها. وروى محمد بن الحسن، عن أبي حنيفة عن حماد بن أبي سليمان، عن إبراهيم قال: أخبري من رأى قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وقبر أبي بكر وعمر، ناشزة من الأرض، وعليها فلق أبيض من مدر. فتأمل كلام الحنفية في ذكر كراهة البناء على القبور؛ والمراد بالكراهة: كراهة التحريم، التي هي في مقابلة ترك الواجب; وقد ذكروا من قواعدهم: أن الكراهة حيث أطلقت، فالمراد منها التحريم; وممن نبه على ذلك: ابن نجيم الجزء: 11 ¦ الصفحة: 91 في "البحر" وغيره، حيث قال: وأفاد صحة إطلاق الحرمة على المكروه تحريما. وتأمل كلام الزيلعي، وما ذكره من الخلاف بين الأصحاب، هل يسنم قدر شبر؟ أو قدر أربع أصابع؟ وذكر عن أبي يوسف أنه كره رش القبر بالماء; لأنه يجري مجرى التطيين; وهل هذا منهم رحمهم الله، إلا اتباع ما عليه السلف الصالح من ترك تعظيم القبور، التي هي من أعظم الوسائل إلى الشرك. فتأمل رحمك الله: كلام العلماء من أهل المذاهب الذين نقلنا عنهم، والموجود في كلام غيرهم، يوافق ذلك ولا يخالفه، وكلامهم صريح في النهي عن البناء على القبور; لكن هل هو تحريم أو تنْزيه؟ اختلفوا في ذلك; فبعضهم قال: هو حرام مطلقا، اتباعا للنص; ولم يفرق بين ملكه وغيره. وبعضهم صرح بالنهي مطلقا، اتباعا للنص، وجعل التحريم في البناء في المقبرة المسبلة; والقول بتحريمه في المسبلة، هو قول الأئمة الأربعة. وهذا صريح في إبطال ما ذكره القائل: أن العلماء لم ينكروا ذلك; فإذا كانوا مصرحين بالنهي عن ذلك، في كتب أصحاب الأئمة الأربعة; فكيف يقال: لم ينهوا عن ذلك بل أقروهم؛ وقد صرحوا بتحريمه، ووجوب هدمه إذا بني في مقابر المسلمين؟! ومع هذا فقد ضيقت المقابر بالقباب، في كل الجزء: 11 ¦ الصفحة: 92 مصر من الأمصار، مع وجود النهي والإنكار. فظهر لك بهذا وتبين أنه ليس بناء هذه القباب وتعظيمها وإسراجها بأمر من العلماء، ولا رضى منهم بذلك; بل هو بأمر الذين أضاعوا الصلاة، واتبعوا الشهوات، وشربوا الخمور والمسكرات، وأعرضوا عن سماع الآيات، وأقبلوا على سماع الأبيات; فهل يقول أحد: إن هؤلاء الذين تركوا المأمور، وارتكبوا كل محظور، قد أقرهم العلماء على ذلك، ورضوا به، ولم ينكروه؟! وهذا القائل الذي زعم: أن بناء القباب جائز; لأن العلماء لم ينكروه، يقال له: هل وجد في زمانهم من ترك الصلاة، ولا يؤدي الزكاة، ويشرب الخمور ويجاهر بالفجور؟ فإن قال: لم يوجد، فهذا مكابرة، كمن ينكر الشمس بالهاجرة. وإن قال بل وجدت في سائر الأقطار، وكثر في جميع الأعصار والأمصار، فيقال: هل أجازه العلماء ورضوا به؟ فإن كان وجود القباب يدل على رضاهم بها، فهذا مثله، وكيف يقال: إن العلماء بذلك راضون، وله فاعلون؟ وهذه كتبهم مشحونة بالنهي عن ذلك وتحريمه، ويوجبون هدمه في المقابر المسبلة. وهذه المقابر المسبلة مشحونة بالقباب في الحرمين، ومصر والشام واليمن، والعراق وبلاد العجم، وكتبهم تنهى الجزء: 11 ¦ الصفحة: 93 عن ذلك وتحرمه، وتوجب هدمه; ولا يقول: إن العلماء لم ينكروه إلا من قصر في العلم باعه، وقل نظره واطلاعه; هذا مع أنا نقول كما قال صلى الله عليه وسلم: " خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة " 1. فلو قدر: أن المتأخرين فعلوا ذلك، وحضروه وأقروه، ولم ينكروه، لم يكن قولهم حجة {فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ} وكل يؤخذ من قوله ويترك، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فما وافق هديه فهو مقبول، وما خالفه فهو مردود، كما ثبت في الصحيح عن عائشة رضي الله عنها، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد " 2، وكل قول يخالف سنته، فهو مردود على قائله. وما أحسن ما قال الشافعي، رحمه الله: إذا صح الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاضربوا بقولي الحائط; وقال أيضا: أجمع الناس أن من استبانت له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد; وصح عنه، أنه قال: إذا رويت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا، ولم آخذ به، فاعلموا أن عقلي قد ذهب. وصح عنه أنه قال: لا قول لأحد مع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا وإن كان لسان الشافعي، فهو لسان الجماعة كلهم. وأبلغ من هذا كله، قول الله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ}   1 مسلم: الجمعة (867) , والنسائي: صلاة العيدين (1578) , وابن ماجه: المقدمة (45) , وأحمد (3/310 ,3/319 ,3/371) . 2 البخاري: الصلح (2697) , ومسلم: الأقضية (1718) , وأبو داود: السنة (4606) , وابن ماجه: المقدمة (14) , وأحمد (6/73 ,6/146 ,6/180 ,6/240 ,6/256 ,6/270) . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 94 [سورة النساء آية: 59] . فهذا دليل على أنه يجب رد موارد النّزاع، في كل ما تنازع فيه الناس من الدين كله، أصوله وفروعه، إلى الله ورسوله، لا إلى غير الله ورسوله. فمن أحال في الرد على غيرهما، لقول فلان أو نص كتابه، أو عمل فلان وطريقة أصحابه، فقد ضاد الله في أمره; فلا يدخل العبد في الإيمان حتى يرد كل ما تنازع فيه المتنازعون، إلى الله ورسوله; ولهذا قال: {إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [سورة النساء آية: 59] ، وهذا شرط ينتفي المشروط بانتفائه؛ فدل: على أن من حكّم غير الله ورسوله في موارد النّزاع، كان خارجا عن مقتضى الإيمان بالله واليوم الآخر. وقد اتفق السلف والخلف، على أن الرد إلى الله هو الرد إلى كتابه، والرد إلى الرسول هو الرد إلى سنته بعد وفاته؛ قال تعالى: {ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [سورة النساء آية: 59] أي: هذا الرد الذي أمرتكم به من طاعتي، وطاعة رسولي، وأولي الأمر؛ ورد ما تنازعتم فيه إلى الله والرسول، خير لكم في معاشكم ومعادكم، وهو سعادتكم في الدارين، فهو خير لكم وأحسن عاقبة; فدل على: أن طاعة الله ورسوله، وتحكيم الله ورسوله، هو سبب السعادة عاجلا وآجلا. وهذه قاعدة عظيمة مهمة، يحتاج إليها كل أحد، وطالب العلم إليها أحوج، فإنه في غالب الأحوال يرى نصوص أهل مذهبه قد خالفت نصوص غيرهم من أهل الجزء: 11 ¦ الصفحة: 95 المذاهب، فلا ينبغي له أن يهجم على كتب المذاهب، ويأخذ بعزائمها ورخصها; بل الواجب عليه أن يطلب ما جاء في تلك المسائل، عن الله ورسوله، ويعرض نصوص مذهبه ونصوص غيرهم من أهل المذاهب، على ما جاء عن الله ورسوله؛ فما وافقها قبله، وما خالفها رده على قائله، كائنا من كان; فيجعل ما جاء عن الله ورسوله، هو المعيار، ويدور معه حيث دار. وكثير من الناس أو أكثرهم نكس هذا الحكم على رأسه، وجعلوا الحكم للكتب التي صنفها المتأخرون {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [سورة المؤمنون آية: 53] . بل صرح بعضهم في مصنفاته بأنه يجب على العامي، أن يتمذهب بمذهب، يأخذ بعزائمه ورخصه، وإن خالف نص الكتاب أو السنة؛ وهذا من أعظم حيل الشيطان، وحبائله التي صاد بها كثيرا ممن ينتسب إلى العلم والدين؛ فنبذوا كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون، وأقبلوا على الكتب التي صنفها متأخروهم; وقالوا: هم أعلم منا. ثم لم يكتفوا بها، ولم يعملوا بما فيها؛ بل إن وافق ما فيها أهواءهم قبلوه، وعملوا به، وقالوا: نص عليه في الكتاب الفلاني; وإن خالف ما فيها أهواءهم، لم يعبؤوا بها، ولم يحتجوا بها؛ بل ربما جعلوا حجتهم ما فعله إخوان الجزء: 11 ¦ الصفحة: 96 الشياطين، من الرعايا والسلاطين، الذين بنوا القباب على القبور، وارتكبوا كل محظور؛ فزخرفوا القبور بالبناء، وكسوها كما يكسى البيت الحرام، وفعلوا عندها ما يفعله عباد الأصنام؛ حتى آل الأمر إلى أن صار فعلهم هذا حجة، تعارض بها النصوص. فيقول قائلهم: هذا موجود في كل عصر ومصر من غير نكير، فيكون إجماعا؛ هذا مع علمه بما نص عليه الفقهاء من النهي عن ذلك وتحريمه، خصوصا البناء في المقابر المسبلة، فإنهم اتفقوا على تحريم البناء فيها. ثم لا يخفى ما في الحرمين الشريفين، من القباب المبنية في المعلاة، والبقيع، ومقابر مصر، كالقرافة وغيرها، ومقابر الشام وغيرها، فهلا أنكر المتأخرون ما نهى عنه علماؤهم، وحرموه؟ بل أعرضوا عن ذلك، كأنهم لم يسمعوه. بل أعرضوا عن كتاب ربهم، وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم وغلبت عليهم العادة التي نشؤوا عليها، ووجدوا أهلهم عليها، واحتجوا بالحجة القرشية {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} [سورة الزخرف آية: 22] ، والحجة الفرعونية {فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى} [سورة طه آية: 51] ، وقبلهم إبراهيم، لما قال لهم عليه السلام: {هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} [سورة الشعراء آية: 72-73-74] . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 97 والمشركون في هذا الزمان يسلكون سبيلهم حذو القذة بالقذة، لما أنكرنا عليهم الشرك بالله، وتعظيم القبور والبناء عليها، وإسراجها ودعاءها، والدعاء عندها، ولم يكن لهم حجة يحتجون بها إلا هذه الحجج، التي حكى الله عن المشركين، من قريش ومن قبلهم. فيقولون: هذا قد وجد من ستمائة سنة فلم ينكر، هذا عمل الناس في القديم والحديث، هذا فلان قد نص على هذا في منسكه، هذا صاحب البردة قد ذكره في بردته، هذا فلان حضره فلم ينكره; وهذه الشبهة هي التي ملأت قلوبهم، وأخذت أسماعهم وأبصارهم، فلم يلتفتوا إلى غيرها; فإذا قيل لهم: تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول، رأيتهم يصدون وهم مستكبرون. وغاية ما يحتج به أحدهم، إذا قيل له: انزل، وألجئ إلى المحاجة والمناظرة، أن يقول: القرآن لا يفسره إلا الصحابة، كان ابن عباس لا يفسره إلا في الصحراء، مخافة أن ينْزل عليه العذاب. فإذا قيل له: بيننا وبينكم تفاسير السلف، كابن عباس، قال: لسنا أهلا لذلك، بل فرضنا التقليد؛ ومشائخنا أعلم منا بكتاب الله، فلو كان هذا شركا لما ذكروه في مناسكهم وأشعارهم. ثم ينشد من الأشعار ما تقشعر منه الجلود، لما فيها من الشرك بالواحد المعبود; ويقول: هذا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 98 كلام العالم الفلاني في قصيدته، وشرحها فلان وفلان، وتداولها العلماء فلم ينكروا ذلك. وهذه الشبهة هي التي قامت بقلوبهم، وتوارثوها عن آبائهم؛ فهم لا يصغون إلا إليها، ولا يعولون إلا عليها؛ كأنهم لم يسمعوا بكتاب منزل، ولا نبي مرسل. فلما فضحهم الله، وهتك أستارهم، بما أقيم عليهم من أدلة الكتاب والسنة على إبطال الشرك، وكفر من فعله وإباحة دمه وماله، وأقيم عليهم من الأدلة ما لا يقدرون على دفعه، لم يكن لهم حيلة إلا الجحود والإنكار; وقالوا: نعم هذا الشرك بالله، ونشهد أنه باطل، ولكن هذه القباب التي على القبور، لا يقصدها إلا العوام، والجهلة الطغام. فإذا قيل: أفلا تنهون العوام عما يفعلونه، من الإشراك؟ وتهدمون هذه البنايات التي على القبور؟ قالوا: هذا أمره إلى الملوك; فبسبب هذه الأمور: غلب الشرك على أكثر النفوس، لغلبة الجهل، وقلة العلم؛ حتى صار المعروف منكرا، والمنكر معروفا، والسنة بدعة، والبدعة سنة؛ ونشأ في ذلك الصغير وهرم عليه الكبير. وقد ذكر ابن القيم رحمه الله تعالى، في كتاب "الهدى" كلاما حسنا، يناسب ذكره في هذا الموضع; قال رحمه الله لما ذكر غزوة الطائف، وذكر فوائد القصة، قال: ومنها: أنه لا يجوز إبقاء مواضع الشرك والطواغيت، بعد القدرة على هدمها الجزء: 11 ¦ الصفحة: 99 وإبطالها يوما واحدا؛ فإنها شعائر الكفر والشرك، وهي من أعظم المنكرات; فلا يجوز الإقرار عليها بعد القدرة البتة. وهذا حكم المشاهد التي بنيت على القبور، التي اتخذت أوثانا وطواغيت تعبد من دون الله تعالى، والأحجار التي تقصد بالتعظيم والتبرك، والنذر والتقبيل; فلا يجوز إبقاء شيء منها على وجه الأرض، مع القدرة على إزالتها; وكثير منها بمنْزلة اللات، والعزى، ومناة الثالثة الأخرى، وأعظم شركا عندها وبها، والله المستعان. فلم يكن أحد من أرباب هذه الطواغيت، يعتقد أنها تخلق، وترزق وتميت، وتحيي، وإنما كانوا يفعلون عندها وبها، ما يفعله إخوانهم من المشركين اليوم عند طواغيتهم. فاتبع هؤلاء سنن من كان قبلهم، وسلكوا سبيلهم حذو القذة بالقذة، وأخذوا مأخذهم، شبرا بشبر، وذراعا بذراع. وغلب الشرك على أكثر النفوس، لظهور الجهل وخفاء العلم؛ فصار المعروف منكرا، والمنكر معروفا، والسنة بدعة، والبدعة سنة. ونشأ في ذلك الصغير، وهرم عليه الكبير. وطمست الأعلام واشتدت غربة الإسلام. وقل العلماء وغلبت السفهاء. وتفاقم الأمر واشتد البأس، وظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس. ولكن لا تزال طائفة من العصابة المحمدية، بالحق قائمين ولأهل الشرك والبدع مجاهدين، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين، انتهى كلامه. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 100 [فصل في العبادات مبناها على الأمر والاتباع] فصل وأما قول القائل: واتخاذها أعيادا في الغالب، فلكل شيخ يوم معروف، في شهر معلوم، يؤتى إليه من النواحي؛ وقد يحضر بعض العلماء ولا ينكر. فنقول: هذه المسألة يظهر جوابها مما تقدم; فإن الله قد أتم نعمته على خلقه برسالة محمد صلى الله عليه وسلم وأنزل عليه الكتاب، ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، وافترض على الخلق طاعته، وأخبر أن من أطاعه فقد أطاع الله، فقال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [سورة النساء آية: 80] ، وقال جل وعلا: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [سورة الحشر آية: 7] . وهو صلى الله عليه وسلم أنصح الخلق للأمة، كما أخبر الله عنه في قوله: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [سورة التوبة آية: 128] ؛ فدل أمته على كل خير يعلمه لهم، وحذر أمته عن شر ما يعلمه لهم؛ فكل عمل لم يشرعه فليس من الدين. والعبادات مبناها على الأمر والاتباع، لا على الهوى والابتداع، وكل عمل ليس عليه أمره فهو رد، كما في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد " 1. وقال صلى الله عليه وسلم:" كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى.   1 البخاري: الصلح (2697) , ومسلم: الأقضية (1718) , وأبو داود: السنة (4606) , وابن ماجه: المقدمة (14) , وأحمد (6/73 ,6/146 ,6/180 ,6/240 ,6/256 ,6/270) . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 101 قالوا: يا رسول الله، وما يأبى؟ قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى " 1. فيقال لمن أجاز اتخاذ القبور أعيادا: هل هذا مما شرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم ورغب فيه؟ أم هو مما نهى عنه وحذر من الوقوع فيه؟ وهل فعل ذلك خلفاؤه الراشدون؟ والذين أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بلزوم سنتهم؟ كما في حديث العرباض: " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي؛ تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ. وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة " 2. ومعلوم أن قبره صلى الله عليه وسلم أشرف قبر على وجه الأرض، فلو كان فضيلة لما أهملوه. ومن له معرفة بالسنن والآثار، يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك وحذر أمته، وأن الصحابة لم يفعلوه، وكذلك أتباعهم الذين اتبعوهم بإحسان لم يفعلوه؛ بل نهوا عن ذلك، وأنكروا على من فعله. ونحن نذكر بعض ما ورد في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم من النهي عن اتخاذ قبره عيدا، وهو سيد القبور؛ فقبر غيره من باب الأولى والأحرى: قال أبو داود في سننه: حدثنا أحمد بن صالح، قال: قرأت على عبد الله بن نافع، أخبرني ابن أبي ذئب، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" لا تجعلوا بيوتكم قبورا، ولا تجعلوا قبري عيدا، وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث ما كنتم " 3، وهذا إسناد جيد، رواته كلهم ثقات مشاهير.   1 البخاري: الاعتصام بالكتاب والسنة (7280) , وأحمد (2/361) . 2 أبو داود: السنة (4607) , والدارمي: المقدمة (95) . 3 أبو داود: المناسك (2042) , وأحمد (2/284 ,2/337 ,2/367 ,2/378 ,2/388) . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 102 وقال أبو يعلى الموصلي، في مسنده: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا زيد بن الحباب، حدثنا جعفر بن إبراهيم من ولد ذي الجناحين، حدثنا علي بن الحسن: أنه رأى رجلا يجيء إلى فرجة، كان عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم فيدخل فيها فيدعو؛ فنهاه، فقال: ألا أحدثكم بحديث سمعته من أبي عن جدي، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا تتخذوا قبري عيدا، ولا بيوتكم قبورا، وصلوا علي فإن تسليمكم يبلغني أينما كنتم " 1 رواه أبو عبد الله عمد بن عبد الواحد المقدسي في مختاراته التي اختارها من الأحاديث الجياد، الزائدة على الصحيحين. وقال سعيد بن منصور، في السنن: حدثنا حبان بن علي، حدثني محمد بن عجلان، عن أبي سعيد مولى المهري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا تتخذوا بيتي عيدا، ولا بيوتكم قبورا، وصلوا علي حيث ما كنتم، فإن صلاتكم تبلغني " 2. وقال سعيد: حدثنا عبد العزيز بن محمد، أخبرني سهيل بن أبي سهيل، قال: رآني الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عند القبر، فناداني وهو في بيت فاطمة يتعشى، فقال: هلم إلى العشاء، فقلت: لا أريده; فقال: مالي رأيتك عند القبر؟ فقلت سلمت على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إذا دخلت المسجد فسلم، ثم قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا تتخذوا قبري عيدا، ولا تتخذوا بيوتكم مقابر؛ لعن الله اليهود   1 أبو داود: المناسك (2042) , وأحمد (2/367) . 2 أبو داود: المناسك (2042) , وأحمد (2/367) . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 103 والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد. وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث ما كنتم، ما أنتم ومن بالأندلس إلا سواء " 1. فهذان المرسلان من هذين الوجهين المختلفين، يدلان على ثبوت الحديث؛ لاسيما وقد احتج به من أرسله؛ وذلك يقتضي ثبوته عنده؛ هذا لو لم يكن روي مسندا من وجوه غير هذا، فكيف وقد تقدم مسندا؟ ووجه الدلالة منه: أن قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل قبر على وجه الأرض، وقد نهى عن اتخاذه عيدا؛ فقبر غيره أولى بالنهي، كائنا من كان. ثم إنه قرن ذلك بقوله: " ولا تتخذوا بيوتكم قبورا" 2 أي: لا تعطلوها، من الصلاة فيها، والدعاء، والقرآن، فتكون بمنْزلة القبور. فأمر بتحري النافلة في البيوت، ونهى عن تحري العبادة عند القبور، وهذا ضد ما عليه المشركون; ثم إنه عقب النهي عن اتخاذه عيدا، بقوله: " وصلوا علي، فإن صلاتكم تبلغني حيث ما كنتم" 3 يشير بذلك إلى ما ينالني منكم من الصلاة والسلام، يحصل مع قربكم من قبري وبعدكم؛ فلا حاجة إلى اتخاذه عيدا. وقد حرف هذه الأحاديث، بعض من أخذ شبها من النصارى بالشرك، وشبها من اليهود بالتحريف، فقال: هذا أمر بملازمة قبره، والعكوف عنده، واعتياد قصده،   1 أبو داود: المناسك (2042) , وأحمد (2/367) . 2 البخاري: الصلاة (432) والجمعة (1187) , ومسلم: صلاة المسافرين وقصرها (777) , والترمذي: الصلاة (451) , والنسائي: قيام الليل وتطوع النهار (1598) , وأبو داود: الصلاة (1448) , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1377) , وأحمد (2/6) . 3 أبو داود: المناسك (2042) , وأحمد (2/367) . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 104 وانتيابه; ونهى أن يجعل كالعيد الذي إنما يكون من الحول إلى الحول؛ بل اقصدوه كل ساعة، وكل وقت; وهذا مراغمة ومحادة، ومناقضة لما قصده الرسول صلى الله عليه وسلم وقلب للحقائق، ونسبة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى التدليس والتلبيس والتناقض. فقاتل الله أهل الباطل أنى يؤفكون! ولا ريب أن ارتكاب كل كبيرة بعد الشرك، أسهل إثما وأخف عقوبة، من تعاطي مثل ذلك في دينه وسنته; وهكذا غيرت أديان الرسل، ولولا أن الله أقام لدينه أنصارا وأعوانا يذبون عنه، لجرى عليه ما جرى على الأديان قبله. ولو أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قاله هؤلاء الضلال، لم ينه عن اتخاذ قبور الأنبياء مساجد، ويلعن فاعل ذلك; فإنه إذا لعن من اتخذها مساجد يعبد الله فيها، فكيف يأمر بملازمتها، والعكوف عندها؟! وأن يعتاد قصدها وانتيابها؟! ولا تجعل كالعيد الذي يجيء من الحول إلى الحول؟! وكيف يسأل ربه ألا يجعل قبره وثنا يعبد؟ وكيف يقول أعلم الخلق بذلك: ولولا ذلك لأبرز قبره ولكن خشي أن يتخذ مسجدا؟ وكيف يقول: " لا تجعلوا قبري عيدا، وصلوا علي حيث ما كنتم " 1؟ وكيف لم يفهم أصحابه وأهل بيته من ذلك، ما فهمه هؤلاء الضلال الذين جمعوا بين الشرك والتحريف؟! وهذا أفضل التابعين من أهل بيته: علي بن الحسين، رضي الله تعالى عنه، نهى ذلك الرجل أن يتحرى الدعاء عند   1 أبو داود: المناسك (2042) , وأحمد (2/367) . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 105 قبره صلى الله عليه وسلم، واستدل عليه بالحديث، وهو الذي رواه وسمعه من أبيه الحسين، عن جده علي، وهو أعلم بمعناه من هؤلاء الضلال. وكذلك عن الحسن بن الحسن شيخ أهل بيته، كره أن يقصد الرجل القبر، إذا لم يكن يريد المسجد، ورأى أن ذلك من اتخاذه عيدا. فانظر إلى هذه السنة، كيف مخرجها من أهل المدينة، وأهل البيت الذين لهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم قرب نسبي، وقرب الدار، لأنهم إلى ذلك أحوج من غيرهم، وكانوا له أضبط. والعيد إذا جعل اسما للمكان، فهو المكان الذي يقصد الاجتماع فيه، وانتيابه للعبادة عنده أو لغير العبادة، كما أن المسجد الحرام، ومزدلفة، وعرفة، جعلها الله عيدا، مثابة للناس يجتمعون فيها، وينتابونها للدعاء والذكر والنسك؛ وكان المشركون لهم أمكنة ينتابونها للاجتماع عندها، فلما جاء الإسلام محا الله ذلك كله. فصل [فصل في اتخاذ القبورأعيادا] واعلم: أن في اتخاذ القبور أعيادا من المفاسد العظيمة التي لا يعلمها إلا الله، ما يغضب لأجله كل من في قلبه وقار لله، وغيرة على التوحيد. فمن ذلك: الصلاة إليها، والطواف بها، وتقبيلها، الجزء: 11 ¦ الصفحة: 106 واستلامها، وتعفير الخدود على ترابها، والاستغاثة بأصحابها، وسؤالهم الرزق، والنصر والعافية، وقضاء الديون، وتفريج الكربات، وإغاثة اللهفات، وغير ذلك من أنواع الطلبات التي كان عباد الأصنام يسألونها أوثانهم؛ وهذا هو عين الشرك الأكبر، الذي بعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم ينهى عنه، ويقاتل أهله، ومن مات عليه كان من أهل النار، عياذا بالله من ذلك. وكان مبدأ هذا الداء العظيم في قوم نوح لما غلوا في الصالحين، كما أخبر الله عنهم كتابه، حيث قال: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً} [سورة نوح آية: 23] . قال ابن جرير: وكان من خبر هؤلاء ما حدثناه ابن حميد، حدثنا مهران عن سفيان، عن موسى عن محمد بن قيس: أن يغوث ويعوق ونسرا، كانوا قوما صالحين من بني آدم، وكان لهم أتباع يقتدون بهم، فلما ماتوا، قال أصحابهم الذين يقتدون بهم: لو صورناهم كان أشوق لنا إلى العبادة إذا ذكرناهم؛ فصوروهم، فلما ماتوا وجاء آخرون، دب إليهم إبليس، فقال: إنما كانوا يعبدونهم، وبهم يسقون المطر؛ فعبدوهم. وقال غير واحد من السلف: كان هؤلاء قوما صالحين في قوم نوح، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوروا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 107 تماثيلهم، ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم. فهؤلاء جمعوا بين فتنتين: فتنة القبور، وفتنة التماثيل؛ وهما الفتنتان اللتان أشار إليهما النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكرت له أم سلمة كنيسة رأتها بأرض الحبشة، وما فيها من الصور، فقال: " أولئك إذا مات فيهم العبد الصالح، أو الرجل الصالح، بنوا على قبره مسجدا، وصوروا فيه تلك الصور. أولئك شرار الخلق عند الله " 1. وهذا كان سبب عبادة اللات، فروى ابن جرير بإسناده، عن منصور عن مجاهد {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى} [سورة النجم آية: 19] قال: كان يلت السويق للحاج، فمات فعكفوا على قبره. وكذلك قال أبو الجوزاء، عن "ابن عباس: كان يلت السويق للحاج، فقد رأيت أن سبب عبادة يغوث، ويعوق ونسر، واللات، إنما كان سببه تعظيم قبورهم؛ ثم اتخذوا لها تماثيل، ثم عبدوها" قال أبو العباس ابن تيمية قدس الله روحه، ونور ضريحه: وهذه العلة التي لأجلها نهى الشارع عن اتخاذ المساجد على القبور؛ وهي التي أوقعت كثيرا من الأمم، إما في الشرك الأكبر، أو فيما دونه من الشرك; فإن الشرك بقبر الرجل الذي يعتقد صلاحه، أقرب إلى النفوس من الشرك بخشبة أو حجر. ولهذا نجد أهل الشرك كثيرا يتضرعون عندها ويخشعون، ويعبدون بقلوبهم عبادة لا يفعلونها في بيوت الله،   1 البخاري: الصلاة (434) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (528) , والنسائي: المساجد (704) , وأحمد (6/51) . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 108 ولا وقت السحر، ومنهم من يسجد لها، وأكثرهم يرجون من بركة الصلاة عندها، والدعاء ما لا يرجون في المساجد، فلأجل هذه المفسدة: حسم النبي صلى الله عليه وسلم مادتها، حتى نهى عن الصلاة وقت طلوع الشمس، وإن لم يقصد ما قصده المشركون سدا للذريعة. قال: وأما إن قصد الرجل بالصلاة عند القبر تبركا بالصلاة في تلك البقعة، فهذا عين المحادة لله ورسوله، والمخالفة لدينه، وابتداع دين لم يأذن به الله; فإن المسلمين قد أجمعوا على أن الصلاة عند القبور منهي عنها، وأنه لعن من اتخذها مساجد. فمن أعظم المحدثات وأسباب الشرك الصلاة عندها، واتخاذها مساجد، وبناء المساجد عليها; فقد تواترت النصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم بالنهي عن ذلك، والتغليظ فيه؛ بل نهى عن ذلك في آخر حياته، ثم إنه لعن وهو في السياق، من فعل ذلك من أهل الكتاب، ليحذر أمته أن يفعلوا ذلك. قالت عائشة رضي الله عنها: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي لم يقم منه: " لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" 1، ولولا ذلك لأبرز قبره، غير أنه خشي أن يتخذ مسجدا; متفق عليه، وقولها: خشي; هو بضم الخاء المعجمة، تعليلا لمنع إبراز قبره; وأبلغ من هذا: أنه نهى عن الصلاة إلى القبر، فلا يكون القبر بين المصلي وبين القبلة.   1 البخاري: الجنائز (1330) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (531) , والنسائي: المساجد (703) , وأحمد (1/218 ,6/34 ,6/80 ,6/121 ,6/252 ,6/255 ,6/274) , والدارمي: الصلاة (1403) . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 109 فروى مسلم في صحيحه، عن أبى مرثد الغنوي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا تجلسوا على القبور، ولا تصلوا إليها " 1؛ وفي هذا إبطال قول من زعم أن النهي عن الصلاة فيها لأجل النجاسة، فهذا أبعد شيء عن مقاصد الرسول صلى الله عليه وسلم. وهو باطل من عدة أوجه: منها: أن الأحاديث كلها ليس فيها فرق بين المقبرة الحديثة والمنبوشة كما يقوله المعللون بالنجاسة. ومنها: أنه صلى الله عليه وسلم لعن اليهود والنصارى، على اتخاذ قبور أنبيائهم مساجد; ومعلوم قطعا أن هذا ليس لأجل النجاسة; لأن قبور الأنبياء من أطهر البقاع، وليس للنجاسة عليها طريق، فإن الله حرم على الأرض أن تأكل أجسادهم، فهم في قبورهم طريون. ومنها: أنه نهى عن الصلاة إليها. ومنها: أنه أخبر أن الأرض كلها مسجد، إلا المقبرة والحمام; ولو كان ذلك لأجل النجاسة، لكان ذكر الحشوش، والمجازر، أولى من ذكر القبور. ومنها: أنه لعن المتخذين عليها المساجد؛ ولو كان ذلك لأجل النجاسة لأمكن أن يتخذ عليها المساجد، مع تطيينها بطين طاهر؛ وهذا باطل قطعا. وبالجملة: فمن له معرفة بالشرك وأسبابه، وفهم عن الرسول صلى الله عليه وسلم مقاصده، جزم جزما لا يحتمل النقيض أن هذه   1 مسلم: الجنائز (972) , والترمذي: الجنائز (1050) , والنسائي: القبلة (760) , وأبو داود: الجنائز (3229) , وأحمد (4/135) . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 110 المبالغة، واللعن، والنهي، ليس لأجل النجاسة، بل هو لأجل الشرك; فإن هذا وأمثاله منه صلى الله عليه وسلم صيانة لحمى التوحيد؛ فأبى المشركون إلا معصية لأمره، وارتكابا لنهيه. ومن جمع بين سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في القبور، وما أمر به، وما نهى عنه، وبين ما عليه أكثر الناس اليوم، رأى أحدهما مضادا للآخر، مناقضا له; فإنه نهى عن الصلاة إليها، وهؤلاء يصلون عندها؛ ونهى عن اتخاذها مساجد، وهؤلاء يبنون عليها المساجد، ويسمونها مشاهد، مضاهاة لبيوت الله؛ ونهى عن إيقاد السرج عليها، وهؤلاء يوقفون الوقوف على إيقاد القناديل عليها. ونهى أن تتخذ عيدا، وهؤلاء يتخذونها أعيادا، ومناسك يجتمعون لها، كاجتماعهم للعيد أو أكثر؛ وأمر بتسويتها، وهؤلاء يرفعونها، ويبنون عليها القباب; ونهى عن الكتابة عليها، وهؤلاء يكتبون عليها القرآن وغيره; ونهى أن يزاد عليها غير ترابها، وهؤلاء يزيدون سوى التراب الآجر، والأحجار والجص; فأهل الشرك مناقضون لما أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم في أهل القبور، وفيما نهى عنه، محادون له في ذلك. فإذا نهى الموحدون عما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم من تعظيمها، والصلاة عندها، وإسراجها، والبناء عليها، والدعاء عندها، وما هو أعظم من ذلك، مثل: بناء المساجد الجزء: 11 ¦ الصفحة: 111 عليها، ودعائها وسؤالها قضاء الحاجات، وإغاثة اللهفات، غضب المشركون، واشمأزت قلوبهم، وقالوا: قد تنقص أهل الرتب العالية، وزعم أنهم لا حرمة لهم ولا قدر. وسرى ذلك في نفوس الجهال الطغام، حتى عادَوْا أهل التوحيد، ورموهم بالعظائم، ونفروا الناس عن دين الإسلام، ووالوا أهل الشرك، وعظموهم {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [سورة التوبة آية: 32-33] . فصل وأما قوله: فلكل شيخ يوم معروف، في شهر معلوم، يؤتى إليه من النواحي؛ وقد يحضر بعض العلماء فلا ينكر. فنقول: أما قوله فلكل شيخ يوم معروف في شهر معلوم، فقد قدمنا الجواب عن ذلك، وبينا أن ذلك من اتخاذها أعيادا، وأنه مما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن العيد ما يعتاد مجيئه وقصده من زمان، ومكان. فالزمان كقوله صلى الله عليه وسلم " يوم عرفة، ويوم النحر، وأيام منى، عيدنا أهل الإسلام " 1 رواه أبو داود وغيره. وأما المكان، فكما روى أبو داود في سننه: " أن رجلا قال: يا رسول الله، إني نذرت أن أنحر إبلا ببوانة; فقال: أبها   1 الترمذي: الصوم (773) , والنسائي: مناسك الحج (3004) , وأبو داود: الصوم (2419) , وأحمد (4/152) , والدارمي: الصوم (1764) . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 112 وثن من أوثان المشركين؟ أو عيد من أعيادهم؟ قال: لا; قال: فأوف بنذرك " 1، وكقوله: " لا تجعلوا قبري عيدا " 2. فالعيد مأخوذ من المعاودة والاعتياد. فإذا كان اسما للمكان، فهو المكان الذي يقصد الاجتماع فيه، وإتيانه للعبادة ولغيرها، كما أن المسجد الحرام ومنى ومزدلفة، وعرفة والمشاعر، جعلها الله عيدا للحنفاء، كما جعل أيام التعبد فيها عيدا؛ فإتيان القبور في يوم معلوم، من شهر معلوم، والاجتماع لذلك، بدعة لم يشرعها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يفعلها الصحابة، ولا التابعون لهم بإحسان، سواء كان ذلك في البلد أو خارجا عنه. وأما قوله: يؤتى إليه من النواحي؛ فنقول: وهذا أيضا بدعة مذمومة، لم يفعلها الصحابة ولا التابعون لهم بإحسان; وبيان ذلك: أن زيارة القبور نوعان: زيارة شرعية، وزيارة بدعية شركية; فالزيارة الشرعية مقصودها: ثلاثة أشياء: أحدها: تذكير الآخرة، والاتعاظ والاعتبار. والثاني: الإحسان إلى الميت، وأن لا يطول عهده به، فيهجره ويتناساه. فإذا زاره وأهدى إليه هدية، من دعاء أو صدقة، سر الميت بذلك، كما يسر الحي من يزوره ويهدي له; ولهذا شرع النبي صلى الله عليه وسلم للزائرين أن يدعوا لأهل القبور بالمغفرة والرحمة، ولم يشرع أن يدعوهم، ولا يدعو بهم، ولا يصلى عندهم.   1 أبو داود: الأيمان والنذور (3313) . 2 أبو داود: المناسك (2042) , وأحمد (2/367) . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 113 الثالث: إحسان الزائر إلى نفسه، باتباع السنة، والوقوف عندما شرعه النبي صلى الله عليه وسلم؛ فيحسن إلى نفسه، وإلى المزور. وأما الزيارة البدعية الشركية: فأصلها مأخوذ من عبادة الأصنام; وهو: أن يقصد قبر صالح في الصلاة عنده، أو الدعاء عنده، أو الدعاء به، أو طلب الحوائج منه، والاستغاثة به، ونحو ذلك من البدعة التي لم يشرعها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا فعلها أحد من الصحابة ولا التابعين لهم بإحسان، كما تقدم بيانه مبسوطا. ثم اعلم: أن الزيارة الشرعية هي التي لا تشد لها الرحال؛ فإن كانت بشد رحل، فهي زيارة بدعية، لم يأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا فعلها الصحابة; بل قد نهى عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم كما ثبت عنه في الصحيحين، أنه قال: "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدي هذا " 1. وهذا الحديث: اتفق الأئمة على صحته، والعمل به. فلو نذر رجل أن يصلي في المسجد، أو يعتكف فيه، أو يسافر إليه، لم يجب عليه ذلك باتفاق الأئمة؛ حتى نص بعض العلماء على أنه لا يسافر إلى مسجد قباء لأنه ليس من الثلاثة، مع أن مسجد قباء تستحب زيارته لمن كان بالمدينة; لأن ذلك ليس بشد رحل، كما في الصحيح: " من تطهر في بيته ثم أتى مسجد قباء، لا يريد إلا الصلاة فيه، كان كعمرة ".   1 البخاري: الجمعة (1189 ,1197) والحج (1864) والصوم (1996) , ومسلم: الحج (827) , والترمذي: الصلاة (326) , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1410) , وأحمد (3/78) . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 114 [السفر لزيارة قبور الأنبياء والصالحين] قالوا: ولأن السفر لزيارة قبور الأنبياء والصالحين بدعة، لم يفعلها أحد من الصحابة والتابعين، ولا أمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا استحسنها أحد من أئمة المسلمين; فمن اعتقد ذلك عبادة، وفعلها، فهو مخالف للسنة. وإنما اختلف العلماء أتباع الأئمة في الجواز، بعد اتفاقهم أنه ليس مشروعا، ولا مستحبا؛ فالمتقدمون منهم قالوا: لا يجوز السفر إليها، ولا تقصر الصلاة في هذا السفر، لأنه معصية; وهذا قول: أبي عبد الله بن بطة، وأبي الوفاء بن عقيل، وطوائف كثيرة. وذهب طائفة من المتأخرين: أصحاب أحمد، والشافعي، إلى جواز السفر إليها، كأبي حامد الغزالي، وابن عبدوس، وأبي محمد المقدسي; وأجابوا عن حديث "لا تشد الرحال" بأنه لنفي الاستحباب والفضيلة; ورد عليهم الجمهور من وجهين: أحدهما: أن هذا تسليم منهم، أن هذا السفر ليس بعمل صالح، ولا قربة ولا طاعة؛ ومن اعتقد أن السفر لزيارة القبور قربة وطاعة، فقد خالف الإجماع، وإذا سافر لاعتقاده أنه طاعة، فإن ذلك محرم بإجماع المسلمين؛ فصار التحريم من جهة اتخاذه قربة; ومعلوم: أن أحدا لا يسافر إليها إلا لذلك، وأما إذا قصد بشد الرحل غرضا من الأغراض المباحة، فهذا جائز. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 115 الوجه الثاني: أن النفي يقتضي النهي، والنهي يقتضي التحريم؛ والأحاديث التي تذكر في زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم ضعيفة، باتفاق أهل العلم بالحديث; بل هي موضوعة; فليس في زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم حديث صحيح، ولا حسن، ولا روى أهل السنن المعروفة - كسنن أبي داود، والنسائي، وابن ماجة، والترمذي - في ذلك شيئا. بل ولا أهل المسانيد المعروفة، كمسند أحمد، وأبي داود الطيالسي، وعبد بن حميد وغيرهم، ولا أهل المصنفات المعروفة، كموطأ مالك وغيره. بل لما سئل الإمام أحمد وغيره - وهو أعلم الناس في زمانه بالسنة - عن هذه المسألة، لم يكن عنده ما يعتمد عليه، إلا حديث أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما من رجل يسلم علي، إلا رد الله علي روحي، حتى أرد عليه السلام 1، وعلى هذا اعتمد أبو داود في سننه. وكذلك مالك في الموطأ، روى عن (عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أنه كان إذا دخل المسجد قال: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليكم يا أبا بكر، السلام عليك يا أبت; ثم ينصرف واتفقت الأمة على أنه إذا دعا بمسجد النبي صلى الله عليه وسلم لا يستقبل قبره. وتنازعوا عند السلام عليه؛ فقال مالك وأحمد وغيرهما: يستقبل قبره ويسلم عليه; وهو الذي ذكره أصحاب   1 أبو داود: المناسك (2041) , وأحمد (2/527) . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 116 الشافعي، وأظنه منصوصا عنه. وقال أبو حنيفة: يستقبل القبلة ويسلم عليه، هكذا في كتب أصحابه. وقال مالك: لا أرى أن يقف عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم ويدعو; ولكن يسلم ويمضي. ومن رخص منهم في الدعاء عند قبره صلى الله عليه وسلم فإنه إنما يرخص فيما إذا سلم عليه ثم أراد الدعاء، أن يدعو مستقبل القبلة، إما مستدبر القبر، وإما منحرفا عنه; وهو أن يستقبل القبلة ويدعو، ولا يدعو مستقبل القبر. وهكذا المنقول عن سائر الأئمة; ليس فيهم من استحب للمرء أن يستقبل القبر - أعني قبر النبي صلى الله عليه وسلم - ويدعو عنده؛ فإذا كان هذا حالهم وفعلهم، عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم فكيف بغيره؟ ولم يكن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولا في عصر الصحابة والتابعين، مشهد يقصد بالزيارة، لا في الحجاز، ولا في الشام، ولا اليمن، ولا العراق، ولا خراسان، ولا مصر، بعد ما فتح الله هذه البلاد، وصارت بلاد إسلام. وإنما حدث فيها بعد انقراض عصر السلف، فصار يوجد في كلام بعض الناس: فلان ترجى الإجابة عند قبره، وفلان يدعى عند قبره. وبعضهم يقول: قبر فلان الترياق المجرب، ونحو ذلك مما لم يكن معروفا في عهد الصحابة والتابعين. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 117 وقائل هذا، أحسن أحواله: أن يكون مجتهدا في هذه المسألة، أو مقلدا، فيعفو الله عنه؛ أما أن هذا الذي قاله يقتضي استحباب ذلك، فلا; بل يقال: هذه زلة، فلا يجوز تقليده فيها، إذا عرف أنها زلة; لأنه اتباع للخطأ على عمد; ومن لم يعرف أنها زلة، فهو أعذر من العارف، وكلاهما مفرط فيما أمر به. وقال الشعبي: قال عمر رضي الله عنه: "يفسد الزمان ثلاثة: أئمة مضلون; وجدال المنافق بالقرآن والقرآن حق، وزلة العالم". وقال معاذ رضي الله عنه: "احذروا زيغة الحكيم؛ فإن الشيطان قد يقول الضلالة على لسان الحكيم، وقد يقول المنافق كلمة الحق"، وقال: "اجتنبوا من كلام الحكيم المشتبهات التي يقال: ما هذه؟ ولا يثنيك ذلك عنه، فإنه لعله يراجع; وتلقّ الحق إذا سمعته، فإن على الحق نورا". واعلم رحمك الله: أن الرجل الجليل، الذي له في الإسلام قدم صالح، وآثار حسنة، وهو من الإسلام وأهله بمكان، قد تكون منه الهفوة والزلة، وهو فيها معذور، بل مأجور لاجتهاده; فلا يجوز أن يتبع فيها، ولا يجوز أن يهدر مكانه وإمامته، ومنْزلته من قلوب المسلمين. قال مجاهد، والحكم، ومالك، وغيرهم: ليس أحد من خلق الله إلا يؤخذ من قوله ويترك، إلا النبي صلى الله عليه وسلم. وقال سليمان التيمي: إن أخذت برخصة كل عالم، اجتمع فيك الشر كله. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 118 وقد روى كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني، عن أبيه عن جده، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إني لأخاف على أمتي من بعدي، من أعمال ثلاثة; قالوا: وما هي يا رسول الله؟ قال: أخاف عليهم من زلة العالم، وجدال المنافق بالقرآن والقرآن حق، وعلى الحق منار كأعلام الطريق ". ويكفي اللبيب في هذا ما قصه الله في كتابه عن بني إسرائيل، مع صلاحهم وعلمهم: أنهم بعد ما فلق الله لهم البحر، وأنجاهم من عدوهم، أتوا نبيهم صلى الله عليه وسلم قائلين: اجعل لنا إلها كما لهم آلهة. وكذلك ما رواه الترمذي وغيره: أن أناسا من الصحابة، في غزوة حنين أتوا النبي صلى الله عليه وسلم حين مروا بسدرة للمشركين يعكفون عندها، وينوطون بها أسلحتهم، يقال لها "ذات أنواط"، فقالوا: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط، كما لهم ذات أنواط; فقال: "الله أكبر! إنها السنن، قلتم والذي نفسي بيده، كما قالت بنو إسرائيل لموسى: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} 1. لتركبن سنن من كان قبلكم ". فإذا كان هذا قد خفي عليهم، مع صلاحهم، ووضوحه، وبيانه، وقبلهم قوم موسى، مع صلاحهم وعلمهم، وقد اختارهم الله على عالمي زمانهم، وخفي عليهم   1 الترمذي: الفتن (2180) , وأحمد (5/218) . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 119 هذا، وقالوا: يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة; فهذا يفيد أن المسلم، بل العالم، قد يقع في أشياء من الشرك، وهو لا يدري; فيفيد الحرص وبذل الجهد، في البحث عما جاء عن الله ورسوله، ولا يقلد دينه الرجال؛ فإنهم لن يسلموا أن يغلطوا، وأبى الله أن يصح إلا كتابه، وأن يعصم إلا رسوله صلى الله عليه وسلم. وإذا اشتبه عليه الحق في هذا الباب أو غيره فليدع بما رواه مسلم في صحيحه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول إذا قام من الليل: " اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك؛ إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم " 1 وصلى الله على محمد، وآله وصحبه وسلم.   1 مسلم: صلاة المسافرين وقصرها (770) , والترمذي: الدعوات (3420) , والنسائي: قيام الليل وتطوع النهار (1625) , وأبو داود: الصلاة (767) , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1357) , وأحمد (6/156) . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 120 [أبيات من البردة فيها من الغلو والشرك العظيم] وقال شيخ الإسلام، علم الهداة الأعلام، الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب، أجزل الله لهم الثواب، وأدخلهم الجنة بغير حساب: بسم الله الرحمن الرحيم اللهم لك الحمد، أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد، أنت قيوم السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد، أنت ملك السماوات والأرض ومن فيهن. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَيَاةً وَلا نُشُوراً} [سورة الفرقان آية: 2-3] . وأشهد أن محمد عبده ورسوله، الذي قال الله خطابا له: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً} [سورة الفرقان آية: 45-46] . اللهم صل على محمد، وعلى آل محمد وأصحابه، ومن أذهب الله عنهم الرجس، وطهرهم تطهيرا. أما بعد: فإني وقفت، على جواب للشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين، وقد سئل عن أبيات من البردة، وما فيها من الغلو، والشرك العظيم، المضاهي لشرك النصارى ونحوهم، ممن صرف خصائص الربوبية والإلهية، لغير الجزء: 11 ¦ الصفحة: 121 الله، كما هو صريح الأبيات المذكورة; ولا يخفى على من عرف دين الإسلام أنه الشرك الأكبر، الذي لا يغفره الله لمن لم يتب منه، وأن الجنة عليه حرام. وذكر الشيخ في جوابه أن الأبيات المذكورة تضمنت الشرك، وصرف خصائص الربوبية والإلهية لغير الله، فاعترض عليه جاهل ضال، فقال مبرئا لصاحب الأبيات من ذلك الشرك بقوله: حماه الله من ذلك، ويكفيه في نفي هذه الشناعة، قوله أول المنظومة: دع ما ادعته النصارى في نبيهم ... ............... البيت، المطابق لقول النبي صلى الله عليه وسلم: " لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم "1. الجواب: أن هذه التبرئة إنما نشأت عن الجهل وفساد التصور، فلو عرف الناظم، وهذا المعترض، ومن سلك سبيلهم، حق الله على عباده، وما اختص به من ربوبيته، وألوهيته، وعرفوا معنى كلام الله، وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم لما قالوا ما قالوا، هم وأمثالهم، ممن جهل التوحيد، كما قال تعالى في حق من هذا وصفه: {وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ} [سورة الأنعام آية: 119] . فالجهل بما بعث الله به رسله قد عم كثيرا من هذه الأمة، فظهر فيها ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: " لتتبعن سنن من كان قبلكم، حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه. قالوا: يا رسول الله اليهود والنصارى؟   1 البخاري: أحاديث الأنبياء (3445) , وأحمد (1/23 ,1/24 ,1/47 ,1/55) . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 122 قال: فمن؟ " 1 ونحو هذا من الأحاديث. وقوله: ويكفيك في نفي هذه الشناعة، قوله أول المنظومة: دع ما ادعته النصارى في نبيهم ... البيت. الجواب: أن هذا يزيده شناعة ومقتا، لأن هذا تناقض بيّن، وبرهان على أنه لا يعلم ما يقول؛ فلقد وقع فيما وقعت فيه النصارى، من الغلو العظيم، الذي نهى الله عنه ورسوله، ولعن النبي صلى الله عليه وسلم من فعله، أو فعل ما يوصل إليه، بقوله: " لعنة الله على اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " 2، يحذر ما صنعوا. وقال: " لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله " 3، وقوله، لما قال له رجل: ما شاء الله وشئت; قال: "أجعلتني لله ندا؟ بل ما شاء الله وحده "، وقال: " إنه لا يستغاث بي، وإنما يستغاث بالله عز وجل ". فلقد حذر أمته، وأنذرهم عن الشرك ووسائله، وما دق منه وجل، ودعا الناس إلى التوحيد، ونهاهم عن الشرك، وجاهدهم على ذلك؛ حتى أزال الله به الشرك والأوثان، من جميع الجزيرة، وما حولها من نواحي الشام واليمن، وغير ذلك. وقد بعث السرايا في هدم الأوثان وإزالتها، كما هو مذكور في كتب الحديث، والتفسير والسير، كما في حديث أبي الهياج الأسدي، الذي في الصحيح، قال: قال علي بن أبى   1 البخاري: أحاديث الأنبياء (3456) , ومسلم: العلم (2669) , وأحمد (3/84 ,3/89) . 2 البخاري: الصلاة (436) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (531) , والنسائي: المساجد (703) , وأحمد (1/218 ,6/34 ,6/80 ,6/121 ,6/252 ,6/255 ,6/274) , والدارمي: الصلاة (1403) . 3 البخاري: أحاديث الأنبياء (3445) , وأحمد (1/23 ,1/24 ,1/47 ,1/55) . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 123 طالب رضي الله عنه: " ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أن لا تدع قبرا مشرفا إلا سويته، ولا تمثالا إلا طمسته "؛ وقد بعثه النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح لهدم مناة. وبعث خالد بن الوليد يومئذ لهدم العزى، وقطع السمرات التي كانت تعبدها قريش وهذيل، وبعث المغيرة بن شعبة لهدم اللات فهدمها، وأزال من جزيرة العرب وما حولها، جميع الأصنام والأوثان التي كانت تعبد من دون الله. والصحابة رضي الله عنهم تعاهدوا هذا الأمر، واعتنوا بإزالته أعظم الاعتناء، بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بما يقع في أمته من الاختلاف، كما في حديث العرباض بن سارية، قال: " فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا " 1 الحديث; فوقع ما أخبره به صلى الله عليه وسلم، وعظم الاختلاف في أصل الدين بعد القرون المفضلة، كما هو معلوم عند العلماء؛ ولو أخذنا نذكر ذلك أو بعضه، لخرج بنا عن المقصود من الاختصار. فانظر إلى ما وقع اليوم، من البناء على القبور والمشاهد، وعبادتها؛ فلقد عمت هذه البلية في كثير من البلاد، ووقع ما وقع من الشرك وسوء الاعتقاد في أناس ينتسبون إلى العلم. قال سليمان التيمي: لو أخذت بزلة كل عالم، لاجتمع فيك الشر كله، فإنا لله وإنا إليه راجعون. وقوله: المطابق لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم:   1 الترمذي: العلم (2676) , وأبو داود: السنة (4607) , وابن ماجه: المقدمة (42 ,44) , وأحمد (4/126) , والدارمي: المقدمة (95) . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 124 " لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم " 1. أقول: لا ريب أن المطابقة وقعت منه ولا بد، لكنها في المنهي عنه، لا النهي، فالذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم من الإطراء، طابقته الأبيات من قوله: يا أكرم الخلق مالي من ألوذ به سواك ... إلى آخرها. فقد تضمنت غاية الإطراء والغلو الذي وقعت فيه النصارى وأمثالهم; فإنه قصر خصائص الإلهية والربوبية التي قصرها الله على نفسه، وقصرها عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصرفها لغير الله; فإن الدعاء مخ العبادة، واللياذ من أنواع العبادة. وقد جمع في أبياته الاستعانة والاستغاثة بغير الله، والالتجاء والرغبة إلى غير الله؛ فإن غاية ما يقع من المستغيث والمستعين والراغب، إنما هو الدعاء، واللياذ بالقلب واللسان؛ وهذه هي أنواع العبادة التي ذكرها الله تعالى في مواضع كثيرة من كتابه، وشكرها لمن قصرها على الله، ووعده على ذلك الإجابة والإثابة، كقوله تعالى: {هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [سورة غافر آية: 65] ، وقوله: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [سورة غافر آية: 60] ، وقوله: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدا} [سورة الجن آية: 19-20-21-22] الآية.   1 البخاري: أحاديث الأنبياء (3445) , وأحمد (1/23 ,1/24 ,1/47 ,1/55) . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 125 فهذا هو الدين الذي بعث الله به نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم وأمره أن يقول لهم: {قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً} [سورة الجن آية: 20] ؛ فقصر الدعاء على ربه، الذي هو توحيد الإلهية، وقال: {قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً} [سورة الجن آية: 21] إلى آخر الآيات، وهذا هو توحيد الربوبية; فوحد الله في إلهيته وربوبيته، وبين للأمة ذلك كما أمره الله تعالى. وقال تعالى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [سورة الشرح آية: 7-8] ؛ أمره بقصر الرغبة على ربه تعالى، وقال: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [سورة الأنبياء آية: 90] . ونهى عن الاستعاذة بغيره، بقوله تعالى عن مؤمن الجن: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْأِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً} [سورة الجن آية: 6] . واحتج الإمام أحمد رحمه الله وغيره، على القائلين بخلق القرآن، بحديث خولة بنت حكيم، مرفوعا: " من نزل منْزلا فقال: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق " 1 الحديث، على أن القرآن غير مخلوق; إذ لو كان مخلوقا، لما جاز أن يستعاذ بمخلوق لأن الاستعاذة بالمخلوق شرك، وأمثال ذلك في القرآن والحديث كثير، يظهر بالتدبر. وأما قول المعترض: إن النصارى يقولون: إن المسيح ابن الله، نعم قاله طائفة، وطائفة قالوا: هو الله; والطائفة   1 مسلم: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2708) , والترمذي: الدعوات (3437) , وابن ماجه: الطب (3547) , وأحمد (6/377 ,6/378 ,6/409) , والدارمي: الاستئذان (2680) . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 126 الثالثة قالوا: هو ثالث ثلاثة; وبهذه الطرق الثلاث عبدوا المسيح عليه السلام، فأنكر الله عليهم تلك الأقوال في المسيح. وأنكر عليهم ما فعلوه من الشرك، كما قال تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [سورة التوبة آية: 31] ؛ فأنكر عليهم عبادتهم للمسيح، والأحبار والرهبان. أما المسيح فعبادتهم له بالتأله، وصرف خصائص الإلهية له من دون الله، كما قال الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ} [سورة المائدة آية: 116] فأخبر أن الإلهية - وهي العبادة - حق الله لا يشركه فيها أولو العزم ولا غيرهم؛ يبين ذلك قوله: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} [سورة المائدة آية: 117] . وأما عبادتهم للأحبار والرهبان، فإنهم أطاعوهم فيما حللوه لهم من الحرام، وتحريم ما حرموه عليهم من الحلال. ولما قدم عدي بن حاتم رضي الله عنه على النبي صلى الله عليه وسلم - بعد فراره - من الشام، وكان قبل مقدمه على النبي صلى الله عليه وسلم نصرانيا، فلما قدم على النبي صلى الله عليه وسلم مسلما، تلا عليه هذه الآية: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 127 [سورة التوبة آية: 31] . قال يا رسول الله: لسنا نعبدهم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم "أليس يحلون لكم ما حرم الله فتحلونه؟ ويحرمون عليكم ما أحل الله فتحرمونه؟ قال: بلى، قال: فتلك عبادتهم " ففيه بيان أن من أشرك مع الله غيره في عبادته، وأطاع غير الله في معصيته، فقد اتخذه ربا معبودا، وهذا بين بحمد الله. فلو تأمل هذا الجاهل المعترض قول الله تعالى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ} [سورة المؤمنون آية: 91] ، لعلم أن الله تعالى قد أنكر على النصارى، قولهم وفعلهم، وعلى كل من عبد معه غيره، بأي نوع من أنواع العبادة. لكن هذا وأمثاله كرهوا التوحيد، وألفوا الشرك وأحبوه، وأحبوا أهله؛ فترامى بهم هذا الداء العضال، إلى ما ترى من التخليط والضلال، والاستغناء بالجهل ووساوس الشيطان " فمن وجد خيرا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك، فلا يلومن إلا نفسه " 1. ولا شفاء لهذا الداء العظيم، إلا بالتجرد عن الهوى والعصبية، والإقبال على تدبر الآيات المحكمات في بيان التوحيد الذي بعث الله به المرسلين، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [سورة يونس آية: 57] ، ومثل قوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ   1 مسلم: البر والصلة والآداب (2577) . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 128 سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} [سورة آل عمران آية: 64] ؛ أمره تعالى أن يدعو أهل الكتاب، إلى أن يخلصوا العبادة لله وحده، ولا يشركوا فيها أحدا من خلقه؛ فإنهم كانوا يعبدون أنبياءهم، كالمسيح بن مريم، ويعبدون أحبارهم ورهبانهم. وتأمل قوله: {كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} ؛ وهذا هو التوحيد الذي بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم إلى جميع من أرسل إليه، كما قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ} [سورة الرعد آية: 36] ، وقوله: {وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً} تعم كل شرك دق أو جل كثر أو قل. قال العماد بن كثير، في تفسيره: هذا الخطاب مع أهل الكتاب، من اليهود والنصارى، ومن جرى مجراهم، وقوله: {سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً} [سورة آل عمران آية: 64] لا وثنا ولا صنما، ولا صليبا ولا طاغوتا، ولا نارا، ولا شيئا، بل نفرد العبادة لله وحده لا شريك له؛ قلت: وهذا هو معنى لا إله إلا الله. ثم قال: وهذه دعوة جميع الرسل، قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [سورة الأنبياء آية: 25] ، وقال: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 129 رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [سورة النحل آية: 36] . انتهى المقصود. وقال رحمه الله، في تفسير قوله: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ} [سورة آل عمران آية: 79] الآية: قال محمد بن إسحاق: حدثنا محمد بن أبي محمد، عن عكرمة أو سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: قال أبو رافع القرظي، حين اجتمعت الأحبار من اليهود والنصارى من أهل نجران عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعاهم إلى الإسلام: أتريد يا محمد أن نعبدك، كما عبدت النصارى عيسى ابن مريم؟ فقال رجل من أهل نجران - يقال له الرئيس -: أو ذاك منا يا محمد، وإليه تدعونا؟ أو كما قال; فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "معاذ الله أن نعبد غير الله، أو نأمر بعبادة غير الله، وما بذلك بعثني، ولا بذلك أمرني" أو كما قال صلى الله عليه وسلم. فأنزل الله عز وجل في ذلك: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ} [سورة آل عمران آية: 79] إلى قوله: {بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} . قوله: {ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ} [سورة آل عمران آية: 79] أي: ما ينبغي لبشر آتاه الله الكتاب والحكم والنبوة أن يقول للناس: اعبدوني من دون الله، أي مع الله. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 130 وإذا كان هذا لا يصح لنبي ولا لمرسل، فلأن لا يصح لأحد من الناس بطريق الأولى والأحرى؛ ولهذا قال الحسن البصري: لا ينبغي هذا للمؤمن أن يأمر الناس بعبادته؛ وذلك أن القوم كان يعبد بعضهم بعضا، يعني أهل الكتاب. وقوله: {وَلا يَأْمُرَكُمْ} بعبادة أحد غير الله، لا ملك مقرب، ولا نبي مرسل {أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [سورة آل عمران آية: 80] أي: لا يفعل ذلك; لأن من دعا إلى عبادة غير الله، فقد دعا إلى الكفر; والأنبياء: إنما يأمرونكم بالإيمان، وعبادة الله وحده لا شريك له، كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [سورة الأنبياء آية: 25] ، وقال: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} [سورة الزخرف آية: 45] وقال في حق الملائكة: {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} [سورة الأنبياء آية: 29] انتهى. وهو في غاية الوضوح، وبيان التوحيد، وخصائص الربوبية، والإلهية؛ ونظائر هذه الآيات كثيرة في القرآن، وفي السنة من الأحاديث كذلك. فإذا كان من المستحيل عقلا وشرعا على رسول الله صلى الله عليه وسلم هو وجميع الأنبياء والمرسلين، أن يأمروا أحدا بعبادتهم، فكيف جاز في عقول هؤلاء الجهلة، أن يقبلوا قول صاحب البردة؟ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 131 يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به ... سواك عند حلول الحادث العمم وقد أخلص الدعاء الذي هو مخ العبادة، واللياذ الذي هو من أنواع العبادة، وتضمن إخلاص الرغبة والاستكانة والاستعانة، والالتجاء إلى غير الله؛ وهذه هي معظم العبادة، كما أشير إلى ذلك، كما قال تعالى: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ} [سورة الرعد آية: 14] الآية، وقوله: {قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا} [سورة الأنعام آية: 71] إلى قوله: {قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} [سورة الأنعام آية: 73] . وعن أنس رضي الله عنه مرفوعا: " الدعاء مخ العبادة " 1 رواه الترمذي. وقوله: إن لم تكن في معادي آخذاً بيدي فضلا وإلا فقل يا زلة القدم المنافي لقوله تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [سورة الانفطار آية: 17-18-19] ، وقوله: {قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً} [سورة الجن آية: 21] الآية، وقوله: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً} [سورة الأعراف آية: 188] .   1 الترمذي: الدعوات (3371) . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 132 وفي الحديث الصحيح، قال لابنته فاطمة، وأحب الناس إليه: "يا فاطمة بنت محمد، سليني من مالي ما شئت، لا أغني عنك من الله شيئا "1. فتأمل ما بين هذا، وبين قول الناظم، من التضاد والتباين، ثم المصادمة منه لما ذكره الله تعالى، وذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم كقوله: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} [سورة آل عمران آية: 128] . وتأمل ما ذكره العلماء، في سبب نزول هذه الآية، وأمثال هذه الآية كثير، لم ينسخ حكمها ولم يغير؛ ومن ادعى ذلك فقد افترى على الله كذبا، وأضل الناس بغير علم، كقوله تعالى: {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [سورة هود آية: 123] . وبهذا يعلم أن الناظم قد زلت قدمه، اللهم إلا أن يكون قد تاب وأناب قبل الوفاة، والله أعلم. وأما قوله: فإن من جودك الدنيا وضرتها ... ............... فمن المعلوم: أن الجواد لا يجود إلا بما يملكه، فمقتضى ذلك أن الدنيا والآخرة ليست لله، بل لغيره، وأن أهل الجنة من الأولين والآخرين، لم يدخلهم الجنة الرب الذي خلقهم وخلقها لهم؛ بل أدخلهموها غيره   1 البخاري: الوصايا (2753) والمناقب (3527) وتفسير القرآن (4771) , ومسلم: الإيمان (206) , والنسائي: الوصايا (3646) , والدارمي: الرقاق (2732) . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 133 {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ} [سورة الصافات آية: 180] . وفي الحديث الصحيح: " لن يدخل الجنة أحد منكم بعمله. قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمته ". وقد قال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} [سورة النساء آية: 134] ، وقوله: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [سورة الملك آية: 1] ، وقوله: {قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [سورة الأنعام آية: 12] ، وقوله: {وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى} [سورة الليل آية: 13] . فلا شريك لله في ملكه، كما لا شريك له في إلهيته وربوبيته؛ والآيات في هذا المعنى كثيرة جدا. وقوله: ............... ... ومن علومك علم اللوح والقلم وهذا أيضا كالذي قبله، لا يجوز أن يقال إلا في حق الله تعالى، الذي أحاط علمه بكل شيء، كما قال تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} [سورة الأنعام آية: 73] ، وقال: {وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [سورة يونس آية: 61] ، وقوله: {قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ} [سورة الأنعام آية: 50] . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 134 وقال تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [سورة الأنعام آية: 59] ، وقال تعالى: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [سورة النمل آية: 65] . والآيات في هذا المعنى كثيرة تفوت الحصر؛ وكل هذه الأمور من خصائص الربوبية والألوهية، التي بعث الله رسله، وأنزل كتبه، لبيانها واختصاصها لله سبحانه، دون كل من سواه. وقال تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} [سورة الجن آية: 26-27] ، كقوله في آية الكرسي: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} [سورة البقرة آية: 255] ؛ فقد أطلع من شاء من أنبيائه ورسله، على ما شاء من الغيب، بوحيه إليهم. فمن ذلك ما جرى من الأمم السالفة، وما جرى عليهم، كما قال تعالى: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا} [سورة هود آية: 49] ، وكذلك ما تضمنه الكتاب والسنة، من أخبار المعاد والجنة والنار ونحو ذلك، أطلع الله عليه رسوله، والمؤمنون عرفوه من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وآمنوا به. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 135 وأما إحاطة العلم بالمعلومات كلياتها وجزئياتها، وما كان منها وما لم يكن، فذاك إلى الله وحده، لا يضاف إلى غيره من خلقه. فمن ادعى ذلك لغير الله فقد أعظم الفرية على الله، وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم. فما أجرأ هذا القائل على الله في سلب حقه! وما أعداه لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولمن تولاه من المؤمنين والموحدين؟ قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وذكر قول عمر بن الخطاب، رضي الله عنه:"إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة، إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية" فمن لم يعرف الجاهلية والشرك، وما عابه القرآن وذمه، وقع فيه وأقره ودعا إليه وصوبه وحسنه، وهو لا يعرف أنه الذي كان عليه أهل الجاهلية، أو نظيره، أو شر منه أو دونه؛ فتنتقض بذلك عرى الإسلام، ويعود المعروف منكرا، والمنكر معروفا، والبدعة سنة، والسنة بدعة؛ ويكفر الرجل بمحض الإيمان، وتجريد التوحيد، ويبدع بتجريد متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم ومفارقة الأهواء والبدع. ومن له بصيرة وقلب حي، يرى دلك عيانا، والله المستعان، انتهى. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 136 قلت: وقد رأينا ذلك والله عيانا من هؤلاء الجهلة، الذين ابتلينا بهم في هذه الأزمنة، أشربت قلوبهم الشرك والبدع، واستحسنوا ذلك، وأنكروا التوحيد والسنة، وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق، فضلوا وأضلوا. وأما قول الناظم: فإن لي ذمة منه بتسميتي محمدا ... .............. البيت فهذا من جهله، إذ من المعلوم عند من له أدنى مسكة من عقل، أن الاتفاق في الاسم لا ينفع إلا بالموافقة في الدين، واتباع السنة؛ فأولياء الرسول صلى الله عليه وسلم أتباعه على دينه، والعمل بسنته، كما دل على ذلك الكتاب والسنة. كما قال تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنَا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ} [سورة الأعراف آية: 156-157] إلى قوله: {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [سورة الأعراف آية: 157] . وتأمل قصة أبي طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم وقد كان يحوطه ويحميه وينصره، ويجمع القبائل على نصرته صلى الله عليه وسلم وحمايته من أعدائه، وقد قال في حق النبي صلى الله عليه وسلم: لقد علموا أن ابننا لا مكذب ... لدينا ولا يعنى بقول الأباطل الجزء: 11 ¦ الصفحة: 137 حدبت بنفسي دونه وحميته ... ودافعت عنه بالذرى والكلاكل ولما لم يتبرأ من دين أبيه عبد المطلب، ومات على ذلك، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:" لأستغفرن لك ما لم أُنه عنك " 1، أنزل الله سبحانه: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [سورة التوبة آية: 113] . فلا وسيلة للعبد إلى نيل شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم إلا بالإيمان به وبما جاء به من توحيد الله، وإخلاص العبادة له وحده لا شريك له، ومحبته واتباعه، وتعظيم أمره ونهيه، والدعوة إلى ما بعث به من دين الله، والنهي عما نهى عنه من الشرك والبدع، وما لا فلا. فعكس الملحدون الأمر - فطلبوا الشفاعة - الذي بعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم بالنهي عنه وإنكاره، وقتال أهله، وإحلال دمائهم وأموالهم، وأضافوا إلى ذلك إنكار التوحيد، وعداوة من قام به، واقتفى أثر النبي صلى الله عليه وسلم كما تقدم في كلام شيخ الإسلام رحمه الله، من قوله: ويكفر الرجل بمحض الإيمان، وتجريد التوحيد، إلى آخر كلامه. وأما قول الناظم: ولن يضيق رسول الله جاهك بي ... ............. البيت فهذا هو الذي ذكر الله عن المشركين، من اتخاذ الشفعاء   1 البخاري: الجنائز (1360) والمناقب (3884) وتفسير القرآن (4675 ,4772) , ومسلم: الإيمان (24) , والنسائي: الجنائز (2035) , وأحمد (5/433) . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 138 ليشفعوا لهم، ويقربوهم إلى الله زلفى، قال الله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [سورة الزمر آية: 2] . فهذا هو دين الله الذي لا يقبل الله من أحد دينا سواه. ثم ذكر بعد ذلك دين المشركين، فقال: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} [سورة الزمر آية: 3] ؛ فتأمل كون الله تعالى كفرهم بقولهم: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [سورة الزمر آية: 3] . وقال في آخر هذه السورة: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً} [سورة الزمر آية: 43-44] ؛ قلت: وقد وقع من هؤلاء من اتخاذهم شفعاء، بدعائهم وطلبهم، ورغبتهم، والالتجاء إليهم، وهم أموات غافلون عنهم، لا يقدرون ولا يسمعون لما طلبوا منهم وأرادوه. وقد أخبر تعالى: أن الشفاعة ملكه، لا ينالها من أشرك به غيره، وهو الذي له ملك السماوات والأرض، كما قال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [سورة الأحقاف آية: 5-6] ؛ فعاملهم الله بنقيض قصدهم من جميع الوجوه، وأسجل عليهم بالضلال. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 139 ولهذه الآية نظائر كثيرة، كقوله: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [سورة فاطر آية: 13-14] . فبين أن دعوتهم غير الله شرك بالله، وأن المدعو غيره لا يملك شيئا، وأنه لا يسمع دعاء الداعي، ولا يستجيب له، وأن المدعو ينكر ذلك الشرك ويتبرأ منه، ومن صاحبه، يوم القيامة؛ فمن تأمل هذه الآيات، انزاحت عنه بتوفيق الله وفتحه جميع الشبهات. ومما يشبه هذه الآية، في حرمان من أنزل حوائجه بغير الله، واتخذه شفيعا من دون الله، بتوجيه قلبه وقالبه إليه، واعتماده في حصول الشفاعة عليه، كما قد تضمنه بيت الناظم، قول الله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [سورة يونس آية: 18] . فانظر كيف حرمهم الشفاعة، لما طلبوها من غير الله، وأخبر أن حصولها مستحيل في حقهم، بطلبها في دار العمل من غيره؛ وهذه هي الشفاعة التي نفاها القرآن كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 140 فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ} [سورة البقرة آية: 254] ، وقال: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ} [سورة الأنعام آية: 51] ؛ فهذه الشفاعة المنفية هي التي فيها الشرك. وأما الشفاعة التي أثبتها القرآن فإنما ثبتت بقيدين عظيمين: إذن الرب تعالى للشفيع، ورضاه عن المشفوع له؛ وهو لا يرضى من الأديان الستة المذكورة في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} [سورة الحج آية: 17] الآية إلا الإيمان الذي أصله وأساسه التوحيد والإخلاص، كما قال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [سورة البقرة آية: 255] ، وقال تعالى: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} [سورة الأنبياء آية: 28] ، وقال: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [سورة النجم آية: 26] ، وقال تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} [سورة الأعراف آية: 54] إلى قوله: {مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ} [سورة يونس آية: 3] . وفي الحديث الصحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر شفاعته، قال: " وهي نائلة إن شاء الله، من مات لا يشرك بالله شيئا" 1. وقال أبو هريرة: " من أحق الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ قال: من قال لا إله إلا الله خالصا من قلبه " 2. قال شيخ الإسلام في   1 مسلم: الإيمان (199) , والترمذي: الدعوات (3602) , وابن ماجه: الزهد (4307) , وأحمد (2/426) . 2 البخاري: العلم (99) , وأحمد (2/373) . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 141 هذا الحديث: فتلك الشفاعة لأهل الإخلاص بإذن الله، ولا تكون لمن أشرك بالله. وقد كشفنا - بحمد الله - بهذه الآيات المحكمات تلبيس هذا المعترض الملبس ولجاجه، وافتراءه على الله ورسوله; فإن دعوة غير الله ضلال وشرك ينافي التوحيد، وإن اتخاذ الشفعاء إنما هو بدعائهم، والالتجاء إليهم، وسؤالهم أن يشفعوا للداعي. وقد نهى الله عن ذلك، وبين أن الشفاعة له؛ فإذا كانت له وحده، فلا تطلب إلا ممن هي ملكه، فيقول: اللهم شفع نبيك في; لأنه تعالى هو الذي أذن للشفيع أن يشفع فيمن يرضى دينه وهو الإخلاص، كما تقدم بيانه. وأما قول المعترض: إن المعتزلة احتجوا بالآيات التي فيها نفي الشفاعة، على أنها لا تقع لأهل الكبائر من الموحدين. فأقول: لا ريب أن قولهم هذا بدعة وضلالة، وأنت أيها المجادل في آيات الله بغير سلطان، مع المعتزلة في طرفي نقيض، تقول: إن الشفاعة تثبت لمن طلبها، وسألها من الشفيع؛ فجعلت طلبها موجبا لحصولها، والقرآن قد نفى ذلك وأبطله، في مواضع كثيرة بحمد الله. والحق: أنها لا تقع إلا لمن طلبها من الله وحده، ورغب إليه فيها، وأخلص له العبادة بجميع أنواعها؛ فهذا هو الذي الجزء: 11 ¦ الصفحة: 142 تقع له الشفاعة، قبل دخول النار، أو بعده إن دخلها بذنوبه؛ فهذا هو الذي يأذن الله للشفعاء أن يشفعوا له، بما معه من الإخلاص، كما صرحت بذلك الأحاديث، والله أعلم. وقد قدمنا: ما دل عليه الكتاب والسنة: أن ما في القرآن من ذكر الشفاعة نفيا وإثباتا، فحق لا اختلاف فيه بين أهل الحق; فالشفاعة المنفية إنما هي في حق المشرك، الذي اتخذ له شفيعا يطلب الشفاعة منه، فيرغب إليه في حصولها، كما في البيت المتقدم؛ وهو كفر، كما صرح به القرآن. وأما الشفاعة التي أثبتها الكتاب والسنة، فقد ثبتت للمذنبين الموحدين المخلصين؛ وهذا هو الذي تظاهرت عليه النصوص، واعتقده أهل السنة والجماعة، ودانوا به. والحديث الذي أشار إليه المعترض، من قوله: " أنا لها، أنا لها " لا ينافي ما تقرر، وذلك: أن الناس في موقف القيامة، إذا فزعوا إلى الرسل ليشفعوا لهم إلى الله، في إراحتهم من كرب ذلك المقام بالحساب، وكل نبي ذكر عذره. قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: " فيأتوني فأخرّ بين يدي الله ساجدا " 1 أو كما قال: " فأحمده بمحامد يفتحها علي، ثم يقال: ارفع رأسك، وقل تسمع، واسأل تعطه، واشفع تشفع، قال: فيحد لي حدا، فأدخلهم الجنة " 2 فتأمل كون هذه الشفاعة لم تقع إلا بعد السجود لله، ودعاه وحمده، والثناء عليه بما هو أهله، وقوله: " فيحد لي   1 البخاري: أحاديث الأنبياء (3340) وتفسير القرآن (4712) , ومسلم: الإيمان (194) , والترمذي: صفة القيامة والرقائق والورع (2434) , وأحمد (2/435) . 2 البخاري: التوحيد (7410) , ومسلم: الإيمان (193) , وابن ماجه: الزهد (4312) , وأحمد (3/116 ,3/244 ,3/247) . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 143 حدا "، فيه: بيان أن الله هو الذي يحد له، وهذا الذي يقع من الناس يوم القيامة مع الرسل، هو من باب سؤال الحي الحاضر، والتوسل إلى الله بدعائه، كما كان الصحابة رضي الله عنهم، يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته أن يدعو لهم إذا نابهم شيء، كما في حديث الاستسقاء وغيره. ولما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكونوا يفعلون عند قبره شيئا من ذلك البتة؛ ففرق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم - وهم أعلم الأمة وأفضلها - بين حالتي الحياة والممات. وكانوا يصلون على النبي صلى الله عليه وسلم عند دخول المسجد والخروج منه، وفي الصلوات والخطب، وعند ذكره، امتثالا لقوله: " لا تجعلوا قبري عيدا، ولا بيوتكم قبورا؛ وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني أينما كنتم " 1. ولما أراد عمر رضي الله عنه أن يستسقي بالناس، أخرج معه العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه فقال: "اللهم إنا كنا إذا أجدبنا توسلنا إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا، فيدعو". فلو جاز أن يتوسل عمر والصحابة بذات النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته، لما صلح منهم أن يعدلوا عن النبي صلى الله عليه وسلم إلى العباس؛ فلما عدلوا عنه إلى العباس، علم أن التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته لا يجوز في دينهم، وصار هذا إجماعا منهم. قال العلامة ابن القيم رحمه الله: وقد أنكر أئمة الإسلام   1 أبو داود: المناسك (2042) , وأحمد (2/367) . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 144 ذلك، فقال أبو الحسن القدوري في شرح كتاب الكرخي، قال بشر بن الوليد: سمعت أبا يوسف، يقول: قال أبو حنيفة: لا ينبغي لأحد أن يدعو الله إلا به، وأكره أن يقول بحق فلان، أو بحق أنبيائك ورسلك، وبحق البيت الحرام. قال أبو الحسن: أما المسألة بغير الله، فتكره في قولهم; لأنه لا حق لغير الله عليه؛ وإنما الحق لله على خلقه. وقال ابن بلدجي في شرح المختار: ويكره أن يدعو الله إلا به، فلا يقول: أسالك بفلان، أو بملائكتك، أو بأنبيائك، ونحو ذلك; لأنه لا حق للمخلوق على الخالق، وما يقول فيه أبو حنيفة وأصحابه: أكره كذا، هو عند محمد حرام; وعند أبى حنيفة وأبي يوسف: هو إلى الحرام أقرب، وجانب التحريم عليه أغلب. فإذا قرر الشيطان عنده: أن الإقسام على الله به، والدعاء به، أبلغ في تعظيمه واحترامه، وأنجع لقضاء حاجته، نقله درجة أخرى إلى دعائه نفسه من دون الله، ثم ينقله بعد درجة أخرى، إلى أن يتخذ قبره وثنا يعكف عليه، ويوقد عليه القنديل، ويعلق عليه الستور، ويبنى عليه المسجد، ويعبده بالسجود له، والطواف به وتقبيله واستلامه، والحج إليه، والذبح عنده؛ ثم ينقله درجة أخرى إلى دعاء الناس لعبادته، واتخاذه عيدا ومنسكا، وأن ذلك أنفع لهم في دنياهم وآخرتهم. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 145 قال شيخنا - قدس الله روحه -: وهذه الأمور المبتدعة عند القبور مراتب: أبعدها عن الشرع: أن يسأل الميت حاجته، ويستغيث به فيها، كما يفعله كثير من الناس; قال: وهؤلاء من جنس عباد الأصنام، وهذا يحصل للكفار من المشركين وأهل الكتاب؛ يدعو أحدهم من يعظمه، ويتمثل لهم الشيطان أحيانا، وقد يخاطبهم ببعض الأمور الغائبة. ثم ذكر المرتبة الثانية، وهي: أن يسأل الله به، وقال: هو بدعة باتفاق المسلمين. والثالثة: أن يظن أن الدعاء عند قبره مستجاب، أو أنه أفضل من الدعاء في المسجد؛ فهذا أيضا من المنكرات المبتدعة باتفاق المسلمين، وهي محرمة، وما علمت في ذلك نزاعا بين أئمة الدين؛ وإن كان كثير من الناس يفعل ذلك، انتهى. ففرض على كل أحد: أن يعلم ما أمر الله به ورسوله، من إخلاص العبادة لله وحده، فإنه الدين الذي بعثه به، وأن يترك ما نهى الله عنه ورسوله صلى الله عليه وسلم من الشرك فما دونه، كما قال تعالى: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ} [سورة يونس آية: 106] ، وأن لا يدين الله تعالى إلا بما دل الدليل على أنه من دين الله، ولا يكون إمعة يطير مع كل ريح. فإن الناس من أمة محمد صلى الله عليه وسلم والأمم قبلها، قد تنازعوا في ربهم وأسمائه وصفاته، وما يجب له على عباده، وقد قال الجزء: 11 ¦ الصفحة: 146 تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [سورة النساء آية: 59] . فيا سعادة من تجرد عن العصبية والهوى، والتجأ إلى حصن الكتاب والسنة؛ فإن العلم معرفة الهدى بدليله، وما ليس كذلك فجهل وضلال. وأما قول المعترض: فانظر إلى الشفاء; تجده حكى كفر من قال مثل هذه الكلمة، أي: الكلمة التي ذكرها المجيب، في معنى قوله: {قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً} [سورة الجن آية: 21] الآيات، ذكر عبارات النسفي في معناها، وهي قوله: هو إظهار للعبودية، وبراءة مما يختص بالربوبية من علم الغيب; أي: أنا عبد ضعيف، لا أملك لنفسي اجتلاب نفع، ولا دفع ضر ... إلى آخر كلامه. إذ من عادة هذا المعترض الجاهل: رد الحق، والمكابرة في دفعة، والغلو المتناهي، وإلا فمن المعلوم عند من له معرفة بدين الإسلام: أن المجيب إنما أتى في جوابه، بتحقيق التوحيد، ونفي الشرك بالله، وذلك تعظيم لجانب الرسالة؛ وكان النبي صلى الله عليه وسلم ينهى أمته عن كل ما يؤول بهم إلى الغلو. ولما قيل له صلى الله عليه وسلم: أنت سيدنا وابن سيدنا، وخيرنا وابن خيرنا; قال: " يا أيها الناس، قولوا بقولكم أو بعض قولكم، ولا يستهوينكم الشيطان. أنا عبد الله ورسوله؛ ما أحب أن ترفعوني فوق منْزلتي التي أنزلني الله تعالى " 1 والنبي هو أحق   1 أحمد (3/249) . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 147 الخلق بالتواضع لله وحده سبحانه. وفي الحديث: "فإنك إن تكلني إلى نفسي، تكلني إلى ضيعة وعورة، وذنب وخطيئة. وإني لا أثق إلا برحمتك" الحديث; والأحاديث في هذا المعنى كثيرة، يخبر بذلك عن نفسه، ويعترف بذلك لربه، وهو الصادق المصدوق; فإذا قال المسلم مثل هذا في حقه صلى الله عليه وسلم وأخبر بما أخبر به عن نفسه، لم يكن منتقصا له؛ بل هذا من تصديقه والإيمان به. قال شيخ الإسلام رحمه الله: إذا كان الكلام في سياق توحيد الرب، ونفي خصائصه عما سواه، لم يجز أن يقال: هذا سوء عبارة في حق من دون الله، من الأنبياء، والملائكة؛ فإن المقام أجل من ذلك، وكل ما سوى الله يتلاشى عند تجريد توحيده. والنبي صلى الله عليه وسلم كان أعظم الناس تقريرا لما يقال على هذا الوجه، وإن كان نفسه المسلوب، كما الصحيحين في حديث الإفك، " لما نزلت براءة عائشة من السماء، وأخبرها النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، قالت لها أمها: قومي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. قالت: والله لا أقوم إليه، ولا أحمده، ولا إياكما؛ ولا أحمد إلا الله الذي أنزل براءتي "، فأقرها النبي صلى الله عليه وسلم وأبوها على هذا الكلام، الذي نفت فيه أن تحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي رواية: بحمد الله لا بحمدك; ولم يقل أحد هذا سوء أدب عليه صلى الله عليه وسلم. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 148 وأخرج البيهقي بسنده إلى محمد بن مسلم، سمعت حبان صاحب ابن المبارك، يقول: قلت لعبد الله بن المبارك: قول عائشة للنبي صلى الله عليه وسلم: بحمد الله لا بحمدك، إني لأستعظم هذا، فقال عبد الله: ولت الحمد أهله; وكذلك الحديث الذي رواه الإمام أحمد، بسنده عن الأسود بن سريع: "أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بأسير، فقال: اللهم أتوب إليك، ولا أتوب إلى محمد; فقال النبي صلى الله عليه وسلم: عرف الحق لأهله " 1. وهذا المعترض، وأمثاله: ادعوا تعظيم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قد نهى عنه، من الغلو والإطراء، وهضموا ربوبية الله، وتنقصوا إلهيته، وأتوا بزخارف شيطانية، وحاولوا أن يكون حق الله من العبادة - التي خلق لها عباده - نهبا بين الأحياء والأموات؛ هذا يصرفه لنبي، وهذا لملك، وهذا لصالح، أو غير هؤلاء ممن اتخذوهم أندادا لله، وعبدوا الشياطين بما أمروهم به من ذلك الشرك بالله. فإن عبادتهم للملائكة والأنبياء والصالحين، إنما تقع في الحقيقة على من زينها لهم من الشياطين، وأمرهم بها، كما قال تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} [سورة سبأ آية: 40-41] . ونحو هذه الآية كثير في القرآن. ولما ذكر العلامة ابن القيم، رحمه الله، ما وقع في   1 أحمد (3/435) . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 149 زمانه من الشرك بالله، قال: وهذا هضم للربوبية، وتنقص للإلهية، وسوء ظن برب العالمين؛ وذكر أنهم ساووهم بالله في العبادة، كما قال تعالى عنهم وهم في النار {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [سورة الشعراء آية: 97-98] . وأما ما ذكره عن خالد الأزهري، فخالد وما خالد؟ أغرك منه كونه شرح التوضيح، والآجرومية في النحو؟ وهذا لا يمنع كونه جاهلا بالتوحيد، الذي بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم، كما جهله من هو أعلم وأقدم منه، ممن لهم تصانيف في المعقول، كالفخر الرازي، وأبي معشر البلخي، ونحوهما ممن غلط في التوحيد. وقد كان خالد هذا يشاهد أهل مصر يعبدون البدوي وغيره، فما أنكر ذلك في شيء من كتبه، ولا نقل عنه أحد إنكاره. فلو صح ما ذكره خالد من حال الناظم، لم يكن جسرا تذاد عنه النصوص، من الآيات المحكمات القواطع، والأحاديث الواضحات البينات، كقوله تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} [سورة النساء آية: 36] ، وقوله: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [سورة المؤمنون آية: 117] ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: " من مات وهو يدعو لله ندا دخل النار " 1.   1 البخاري: تفسير القرآن (4497) , وأحمد (1/374 ,1/407 ,1/425 ,1/462 ,1/464) . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 150 وقد استدرج الله أهل الشرك بأمور تقع لهم، يظنونها كرامات، عقوبة لهم; وكثير منها أحوال شيطانية، أعانوا بها أولياءهم من الإنس، كما قد يقع كثيرا لعباد الأصنام; وما أحسن ما قال بعضهم شعرا: تخالف الناس فيما قد رأوا ورووا ... وكلهم يدعون الفوز بالظفر فخذ بقول يكون النص ينصره ... إما عن الله أو عن سيد البشر وقد حاول هذا الجاهل المعترض صرف أبيات البردة عما هو صريح فيها، ونص فيما دلت عليه من الشرك في الربوبية والإلهية، ومشاركة الله في علمه وملكه؛ وهي لا تحتمل أن تصرف عما هي فيه من ذلك الشرك والغلو، فما ظفر هذا المعترض من ذلك بطائل؛ غير أنه وسم نفسه بالجهل والضلال، والزور والمحال؛ ولو سكت لسلم من الانتصار لهذا الشرك العظيم، الذي وقع فيه. وأما قول المعترض: ورد في الحديث: لولا حبيبي محمد، ما خلقت سمائي ولا أرضي، ولا جنتي ولا ناري، فهذا من الموضوعات، لا أصل له؛ ومن ادعى خلاف ذلك، فليذكر من رواه من أهل الكتب المعتمدة في الحديث، وأنى له ذلك؟ بل هو من أكاذيب الغلاة الوضاعين. وقد بين الله تعالى حكمته في خلق السماوات والأرض، في كثير من سور القرآن، كما قال في الآية التي الجزء: 11 ¦ الصفحة: 151 تأتي بعد، وهي قول الله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً} [سورة الطلاق آية: 12] ، ولها نظائر تبين حكمة الرب في خلق السماوات والأرض. وقوله: وكيف ينكر تصرفه في إعطاء أحد بإذن الله، من الدنيا في حياته، أو في الآخرة بعد وفاته؟ أقول: هذا كلام من اجترى، وافترى، وأساء الأدب مع الله، وكذب على رسوله صلى الله عليه وسلم، ولم يعرف حقيقة الشفاعة، ولا عرف تفرد الله بالملك يوم القيامة؛ وهل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أحد من أصحابه، أو من بعدهم من أئمة الإسلام: إن أحدا يتصرف يوم القيامة في ملكه؟ ولو أطلقت هذه العبارة في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم لادعاه كل لمعبوده، من نبي وملك أو صالح، أنه يشفع له إذا دعاه. {سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ} [سورة الفرقان آية: 18] ، وقال تعالى: {يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [سورة هود آية: 105] ، وقال: {لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَاباً} [سورة النبأ آية: 38] . وهذا القول الذي قاله الجاهل، قد شافهنا به جاهل مثله بمصر، يقول: الذي يتصرف في الكون سبعة: البدوي، والإمام الشافعي، والشيخ الدسوقي، حتى الجزء: 11 ¦ الصفحة: 152 أكمل السبعة من الأموات; هذا يقول: هذا ولي له شفاعة، وهذا صالح كذلك، وقد قال تعالى: {لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [سورة غافر آية: 15-16] إلى قوله: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ} [سورة غافر آية: 18] . أي ظلم أعظم من الشرك بالله؟ ودعوى الشريك في الملك والتصرف؟ وهذا غاية الظلم. قال شيخ الإسلام، رحمه الله في معنى قوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍوَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سورة سبأ آية: 22-23] : نفى الله عما سواه كل ما يتعلق به المشركون؛ فنفى أن يكون لغيره ملك أو قسط منه، أو يكون عونا لله، ولم يبق إلا الشفاعة؛ فبين أنها لا تنفع إلا لمن أذن له الرب; فالشفاعة التي يظنها المشركون منتفية، كما نفاها القرآن. وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه يأتي فيسجد لربه ويحمده، لا يبدأ بالشفاعة أولا، ثم يقال له: ارفع رأسك، وقل تسمع، واسأل تعطه، واشفع تشفع; وقال له أبو هريرة رضي الله عنه: " من أسعد الناس بشفاعتك؟ قال: من قال لا إله إلا الله خالصا من قلبه " 1؛ فتلك الشفاعة لأهل الإخلاص   1 البخاري: العلم (99) , وأحمد (2/373) . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 153 بإذن الله، ولا تكون لمن أشرك بالله. وحقيقته: أن الله سبحانه هو الذي يتفضل على أهل الإخلاص؛ فيغفر لهم بواسطة دعاء من أذن له أن يشفع، ليكرمه وينال المقام المحمود; فالشفاعة التي نفاها القرآن: ما كان فيها شرك، ولهذا أثبت الشفاعة بإذنه في مواضع، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أنها لا تكون إلا لأهل التوحيد والإخلاص، انتهى كلامه. وقال العلامة ابن القيم في "مدارج السالكين": وقد قطع الله الأسباب التي يتعلق بها المشركون جميعا، فقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سورة سبأ آية: 22-23] . فالمشرك إنما يتخذ معبوده، لما يحصل له به من النفع؛ والنفع لا يكون إلا ممن فيه خصلة من هذه الأربع، إما مالك لما يريده عابده منه؛ فإن لم يكن مالكا كان شريكا للمالك؛ فإن لم يكن شريكا له كان معينا له وظهيرا؛ فإن لم يكن معينا ولا ظهيرا، كان شفيعا عنده; فنفى سبحانه المراتب الأربع نفيا مرتبا، منتقلا من الأعلى إلى الأدنى؛ فنفى الملك، والشركة، والمظاهرة، والشفاعة التي يطلبها المشرك، وأثبت شفاعة لا نصيب فيها لمشرك، وهي الشفاعة بإذنه. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 154 فكفى بهذه الآية برهانا، ونجاة، وتجريدا للتوحيد، وقطعا لأصول الشرك ومواده، لمن عقلها. والقرآن مملوء من أمثالها ونظائرها، ولكن أكثر الناس لا يشعر بدخول الواقع تحته، وتضمنه له، ويظنه في نوع وقوم قد خلوا من قبل، ولم يعقبوا وارثا؛ فهذا هو الذي يحول بين القلب، وفهم القرآن; ولعمر الله إن كان أولئك، إلى أن قال: ومن أنواعه - أي الشرك -: طلب الحوائج من الموتى والاستغاثة بهم، والتوجه إليهم؛ وهذا أصل شرك العالم; فإن الميت قد انقطع عمله، وهو لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا، فضلا عن أن يملك لمن استغاث به، وسأله قضاء حاجته، أو سأله أن يشفع له إلى الله فيها. وهذا من جهله بالشافع، والمشفوع له عنده، فإنه لا يقدر أن يشفع عند الله إلا بإذنه، والله لم يجعل استغاثته وسؤاله سببا لإذنه، وإنما السبب لإذنه: كمال التوحيد. فجاء هذا المشرك، بسبب يمنع هذا الإذن، وهو بمنْزلة من استعان في حاجته بما يمنع حصولها؛ وهذه حالة كل مشرك. فجمعوا بن الشرك بالمعبود، وتغيير دينه، ومعاداة أهل التوحيد، ونسبة أهله إلى التنقص بالأموات. وهم قد تنقصوا الخالق بالشرك، وأولياءه الموحدين له، بذمهم، وعيبهم، ومعاداتهم; وتنقصوا من أشركوا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 155 به غاية التنقص؛ إذ ظنوا أنهم راضون منهم بهذا، وأنهم يوالونهم عليه. وهؤلاء أعداء الرسل في كل زمان ومكان، وما أكثر المستجيبين لهم! قال: وما نجا من شرك هذا الشرك الأكبر، إلا من جرد توحيده لله، وعادى المشركين في الله، وتقرب بمقتهم إلى الله، واتخذ الله وحده وليه وإلهه ومعبوده؛ فجرد حبه لله، وخوفه لله، ورجاءه لله، وذله لله، وتوكله على الله، واستعانته بالله، والتجاءه إلى الله، وأخلص قصده لله متبعا لأمره، متطلبا لمرضاته؛ إذا سأل سأل الله، وإذا استعان استعان بالله، وإذا عمل عمل لله؛ فهو بالله ومع الله، انتهى. فرحم الله هذا الإمام وشيخه، فلقد بينا للناس حقيقة الشرك وطرقه وما يبطله; وما حديث ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: " إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله " 1، ولم يقل فاسألني واستعن بي، فقصر السؤال والاستعانة على الله الذي لا يستحقه سواه، كما في قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [سورة الفاتحة آية: 5] ، فمن صرف ذلك لغير الله، فقد عصى الله ورسوله، وأشرك بالله. وللمعترض كلام ركيك، لا حاجة لنا إلى ذكر ما فيه، وإنما نتتبع من كلامه، ما يحتاج إلى رده وإبطاله جنس ما تقدم.   1 الترمذي: صفة القيامة والرقائق والورع (2516) , وأحمد (1/293 ,1/303 ,1/307) . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 156 واعلم أنه قال: لما ذكر قول المجيب - إنه لا يجتمع الإيمان بالآيات المحكمات وتلك الأبيات، لما بينهما من التنافي والتضاد، قال المعترض: أقول: يحتمعان، بأن يفرد الله بالعبادة، ولا يقدح فيه تشفعه بأحباب حبه إليه. وكيف يحكم عليه بالضلال، بمجرد طلبه الشفاعة ممن هو أهل لها؟ كما في الحديث "أنا لها، أنا لها" ومعلوم: أن الضلال ضد الحق. فالجواب: لا يخفى ما في كلامه من التخليط والتلبيس، والعصبية المشوبة بالجهل المركب؛ لا يدري ولا يدري أنه لا يدري. وقد بينا فيما تقدم أن دعوة غير الله ضلال، وأن اتخاذ الشفعاء الذين أنكر الله تعالى، إنما هو بدعائهم والالتجاء إليهم، والرغبة إليهم فيما أراده الراغب منهم، من الشفاعة التي لا يقدر عليها إلا الله؛ وذلك ينافي الإسلام والإيمان بلا ريب. فإن طلبها من الأموات والغائبين، طلب لما لا يقدر عليه إلا الله، وهو خلاف لما أمر الله تعالى به، وارتكاب لما نهى عنه، كما تقدم بيانه في معنى قوله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [سورة يونس آية: 18] الآية، وقوله: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً} [سورة الإسراء آية: 56] الآية، وقوله: {مَا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 157 نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [سورة الزمر آية: 3] . فطلب الشفاعة من النبي صلى الله عليه وسلم وغيره بعد وفاته، وبعده عن الداعي، لا يحبه الله تعالى، ولا يرضاه، ولا رسوله صلى الله عليه وسلم؛ وهو التوسل الذي ذكره العلامة ابن القيم، وشيخه، وصرحا بأنه شرك. وللعلامة "ابن القيم" أبيات في المعنى، وهي قوله: والشرك فهو توسل مقصوده الـ ... زلفى من الرب العظيم الشان بعبادة المخلوق من حجر ومن ... بشر ومن قبر ومن أوثان والناس في هذا ثلاث طوائف ... ما رابع أبدا بذي إمكان إحدى الطوائف مشرك بإلهه ... فإذا دعاه دعا إلها ثان هذا وثاني هذه الأقسام ذ ... لك جاحد يدعو سوى الرحمن هو جاحد للرب يدعو غيره ... شركا وتعطيلا له قدمان هذا وثالث هذه الأقسام خيـ ... ر الخلق ذاك خلاصة الإنسان يدعو إله الحق لا يدعو ولا ... أحدا سواه قط في الأكوان يدعوه في الرغبات والرهبات والـ ... حالات من سر ومن إعلان وقد أنكر الله ذلك الدعاء، على من زعم في الرسل والملائكة، وذلك كما قال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً} [سورة الإسراء آية: 56] . قال طائفة من السلف: كان أقوام يدعون المسيح، وأمه، وعزيرا، والملائكة; فأنكر الله ذلك، وقال: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 158 هؤلاء عبيدي يرجون رحمتي كما ترجون رحمتي، ويخافون عذابي كما تخافون عذابي؛ وهؤلاء الذين نزلت هذه الآية في إنكار دعوتهم، من أوليائه وأحبابه; وقد تقدم أن الدعاء وجميع أنواع العبادة، حق الله المحض، كما تقدم في الآيات. والحاصل: أن الله تعالى لم يأذن لأحد أن يتخذ شفيعا من دونه يسأله، ويرغب إليه، ويلتجئ إليه؛ وهذا هو العبادة، ومن صرف من ذلك شيئا لغير الله، فقد أشرك مع الله غيره، كما دلت عليه الآيات المحكمات؛ وهذا ضد إفراد الله بالعبادة. وكيف يتصور إفراد الله بالعبادة، وقد جعل العبد ملاذا ومفزعا سواه؟ فإن هذا ينافي الإفراد; فأين ذهب عقل هذا وفهمه؟ قال شيخ الإسلام رحمه الله: العبادة: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه، من الأقوال والأعمال، الباطنة والظاهرة، انتهى. وقد تبين أن الدعاء مخ العبادة، وهو مما يحبه الله ويأمر به عباده أن يخلصوه له; وقد تقدم من الآيات: ما يدل عل ضلال من فعل ضد ذلك وكفره; وبهذا يحصل الجواب عن قول المعترض: إن الشفاعة المنفية إنما هي في حق الكفار ; فنقول: فمن اتخذ معبودا سوى الله، يرجوه أو يخافه، فقد كفر. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 159 وتأمل قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [سورة النحل آية: 20-21-22] ؛ فبين تعالى أن المخلوق لا يصلح أن يدعى من دون الله، وأن من دعاه فقد أشرك مع الله غيره في الإلهية. والقرآن من أوله إلى آخره، يدل على ذلك، وكذلك سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ولكن الملحدون محجوبون عن فهم القرآن، كما حجبوا عن الإيمان، بجهلهم وضلالهم، وإعراضهم عما أنزل الله في كتابه، من بيان دينه الذي رضيه لنفسه، ورضيه لعباده. قال شيخ الإسلام أحمد بن تيمية رحمه الله تعالى: وحقيقة التوحيد: أن يعبد الله وحده، لا يدعى إلا هو، ولا يخشى، ولا يتقى إلا هو، ولا يتوكل إلا عليه، ولا يكون الدين إلا له، وأن لا يتخذ الملائكة والنبيون أربابا، فكيف بالأئمة والشيوخ؟ فإذا جعل الإمام والشيخ، كأنه إله يدعى، مع غيبته وموته، ويستغاث به، ويطلب منه الحوائج، كأنه مشبها بالله، فيخرجون عن حقيقة التوحيد، الذي أصله شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، انتهى. وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لابن عباس: " إذا سألت الجزء: 11 ¦ الصفحة: 160 فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله " 1؛ فلو جاز أن يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قصر سؤاله واستعانته على الله وحده؛ وابن عباس أحق الناس، بأن يعلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما فيه له منفعة. فلو جاز صرف ذلك لغير الله، لقال: واسألني واستعن بي، بل أتى صلى الله عليه وسلم بمقام الإرشاد، والإبلاغ، والنصح لابن عمه بتجريد إخلاص السؤال لله، والاستعانة بالله تعالى. فأين ذهبت عقول هؤلاء الضلال، عن هذه النصوص؟! والله المستعان. [القول بأن لناظم البردة جانباً عظيماً من الزهد والورع والرد عليه] وقال الشيخ رحمه الله: واعلم أن لفظ الدعاء والدعوة في القرآن، يتناول معنيين: دعاء العبادة، ودعاء المسألة; وكل عابد سائل، وكل سائل عابد، وأحد الاسمين يتناول الآخر، عند تجرده عنه. وإذا جمع بينهما، فإنه يراد بالسائل: الذي يطلب لجلب المنفعة ودفع المضرة، بصيغ السؤال والطلب. ويراد بالعابد: من يطلب ذلك بامتثال الأمر، وإن لم يكن هناك صيغة سؤال. ولا يتصور أن يخلو داع لله، دعاء عبادة، أو دعاء مسألة، من الرغب والرهب، والخوف والطمع، انتهى. فتبين أن أبيات البردة التي قدمنا الكلام عليها، تنافي الحق وتناقضه، وماذا بعد الحق إلا الضلال. وقول المعترض: لا سيما وللناظم جانب عظيم من   1 الترمذي: صفة القيامة والرقائق والورع (2516) , وأحمد (1/293 ,1/303 ,1/307) . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 161 الزهد، والورع والصلاح، بل وله يد في العلوم، كما حكى ذلك مترجموه؛ وهذا كله صار هباء منثورا، حيث لم يرضوا عنه. أقول: هذه دعوى تحتمل الصدق والكذب، والظاهر: أنه لا حقيقة لذلك، فإنه لا يعرف إلا بهذه المنظومة؛ فلو قدر أن لذلك أصلا، فلا ينفعه ذلك من تلك الأبيات، لأن الشرك يحبط الأعمال، كما قال تعالى: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [سورة الأنعام آية: 88] ، وقد صار العمل مع الشرك هباء منثورا. قال سفيان بن عيينة: احذروا فتنة العالم الفاجر، والعابد الجاهل؛ فإن فتنتهم فتنة لكل مفتون. فإن كان للرجل عبادة، فقد فتن بأبياته كثيرا من الجهال؛ وعبادته إن كانت فلا تمنع كونه ضالا، كما يرشد إلى ذلك آخر الفاتحة. قال سفيان بن عيينة: من فسد من علمائنا ففيه شبه من اليهود، ومن فسد من عبادنا، ففيه شبه من النصارى. فالواجب علينا: أن نبين ما في كلامه، مما يسخط الله ورسوله، من الشرك، والغلو; وأما الشخص وأمثاله ممن قد مات، فيسعنا السكوت عنه، لأنا لا ندري ما آل أمره إليه، وما مات عليه. وقد عرف أن كلام خالد الأزهري لا حجة فيه؛ وأهل الغلو والشرك، ليس عندهم إلا المنامات، والأحوال الجزء: 11 ¦ الصفحة: 162 الشيطانية، التي يحكيها بعضهم عن بعض، كما قال لي بعض علماء مصر: إن شيخا مشى بأصحابه على البحر، فقال: لا تذكروا غيري، وفيهم رجل ذكر الله فسقط في البحر، فأخذ بيده الشيخ، فقال: ألم أقل لكم لا تذكروا غيري؟ فقلت: هذه الحكاية تحتمل أحد أمرين لا ثالث لهما: أحدهما: أن تكون مكذوبة مثل أكاذيب سدنة الأوثان، أو أنها حال شيطانية; وأسألك أيها الحاكي لذلك: أيكون فيها حجة على جواز دعوة غير الله؟ فأقر، وقال: لا حجة فيها على ذلك. والمقصود بيان أنه ليس عند الغلاة من الحجة على ما زخرفوه، أو كذبوه; وما قال الله، وقال رسوله، فهذا - بحمد الله - كله عليهم لا لهم، وما حرفوه من ذلك، رد إلى صحيح معناه، الذي دل عليه لفظه مطابقة، وتضمنا والتزاما. قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} [سورة الأنعام آية: 112] . [الادعاء بأن غير واحد من العلماء رأوا النبي والمنظومة تنشد بين يديه] وذكر المعترض حكاية يقول - عن غير واحد من العلماء العظام - إنهم رأوا النبي صلى الله عليه وسلم والمنظومة تنشد بين يديه، إلى قوله: لكن الخصم مانع ذلك كله، بقوله: إنهم كفار. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 163 فالجواب: أن يقال: ليس هذا وجه المنع، وإنما وجهه: أنها حكاية مجهولة عن مجهول; وهذا جنس إسناد الأكاذيب; فلو قيل: من هؤلاء العظام؟ وما أسماؤهم؟ وما زمنهم؟ وما طبقتهم؟ لم يدر عنهم; وأخبار المجهولين لا تقبل شهادة، ولا رواية يقظة، فكيف إذا كانت أحلاما؟! والمعترض كثيرا ما يحكي عن هيان بن بيان. ثم قال المعترض على قول المجيب: وطلب الشفاعة من النبي صلى الله عليه وسلم ممتنع شرعا وعقلا، قال المعترض: من أين هذا الامتناع؟ وما دليله من العقل والسمع؟ فالجواب: أن يقال: معلوم أن دليله من الجهتين، لا تعرفه أنت ومن مثلك، وإنما معرفتك في اللجاج، الذي هو كالعجاج، الذي يحوم في الفجاج; أما دليله من السمع، فقد تقدم في آيات الزمر، ويونس وغيرها، وقد بسطنا القول في ذلك، بما يغني عن إعادته؛ فليرجع إليه. وأما دليله من العقل، فالعقل الصحيح يقضي ويحكم بما يوافق النقل بأن النجاة والسعادة والفلاح، وأسباب ذلك كله، لا تحصل إلا بالتوجه إلى الله تعالى وحده، وإخلاص الدعاء له، والالتجاء إليه; لأن الخير كله بيده، وهو القادر عليه; وأما المخلوق فليس في يده من هذا شيء، كما قال تعالى: {مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} [سورة فاطر آية: 13] . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 164 فتسوية المخلوق بالخالق، خلاف العقل، كما قال تعالى: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [سورة النحل آية: 17] . فالذي له الخلق والأمر، والنعم كلها منه، وكل مخلوق فقير إليه، لا يستغنى عنه طرفة عين، هو الذي يستحق أن يدعى ويرجى، ويرغب إليه، ويرهب منه، ويتخذ معاذا وملاذا، ويتوكل عليه، وقد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [سورة فاطر آية: 15] . وقال المفسرون المحققون، السلفيون المتبعون، في قول الله تعالى: {وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [سورة الأنفال آية: 2] أي: لا يرجون سواه، ولا يقصدون إلا إياه، ولا يلوذون إلا بجنابه، ولا يطلبون الحوائج إلا منه، ولا يرغبون إلا إليه، ويعلمون أنه ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، وأنه المتصرف في الملك وحده لا شريك له {لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [سورة الرعد آية: 41] ؛ ولهذا قال سعيد بن جبير: التوكل جماع الإيمان، ذكره العلماء في تفسيره. وليتأمل ما ذكره الله عن صاحب ياسين، من قوله: {أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [سورة يس آية: 23-24] ، فهذا دليل فطري عقلي سمعي. وأما قول المعترض: إن قول الناظم: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 165 ومن علومك علم اللوح والقلم، أن "من" بيانية، فالجواب: أنه ليس كما قال; بل هي تبعيضية. ثم لو كانت بيانية، فما ينفعه والمحذور بحاله، وهو أنه يعلم ما في اللوح المحفوظ؟ وقد صرح المعترض بذلك، فقال: ولا شك أنه أوتي علم الأولين والآخرين، وعلم ما كان وما يكون. فالجواب: هذه مصادمة لما هو صريح في كتاب الله، وسنة رسوله بأن الإحاطة بما في اللوح المحفوظ علما، ليس إلا لله وحده؛ كذلك علم الأولين والآخرين، ليس إلا لله وحده، إلا ما أطلع الله عليه نبيه في كتابه، كما قال الله تعالى: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} [سورة البقرة آية: 255] . فالرجل في عمى عن قول الله تعالى: {بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ} [سورة البقرة آية: 255] . وقال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً} [سورة الطلاق آية: 12] ، وقد تقدم لهذه الآيات نظائر؛ فإحاطة العلم بالموجودات، والمعدومات التي وجدت، أو ستوجد، لله وحده؛ لم يجعل ذلك لأحد سواه. وقال تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ} الجزء: 11 ¦ الصفحة: 166 [سورة الأعراف آية: 187] ؛ فأسند علم وقت الساعة إلى ربه بأمره، كقوله تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَارضي الله عنهفِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا} [سورة النازعات آية: 42-43-44] . وأمثال هذه الآيات، مما يدل على أن الله تعالى اختص بعلم الغيب كله، إلا ما استثناه بقوله: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} [سورة البقرة آية: 255] ، ومن تبعيضية هاهنا بلا نزاع. وقد قال الخضر لموسى عليهما السلام: " ما نقص علمي وعلمك في علم الله، إلا كما نقص هذا العصفور من هذا البحر " 1، فتأمل هذا وتدبر. وأما قول المعترض، وتأويله، لقوله تعالى: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [سورة النمل آية: 65] ؛ فتأويل فاسد، ما قاله غيره، ولا يقوله مسلم، من: أنه يعلم الغيب بتعليم الله له; والنفي في الآية أن يعلمه بنفسه بدون أن يعلمه الله ذلك; فما أجرأ هذا الجاهل على هذا التأويل! وما أجهله بالله وبكتابه! فيقال في الجواب: لا ينفعك هذا التأويل الفاسد، إذ لو كان أحد يعلم جميع الغيب بتعليم الله، لصدق عليه أن يقال: هذا يعلم الغيب كله، الذي يعلمه الله; فما بقي على هذا القصر علم الغيب على الله في هذه الآية معنى، وحصل الاشتراك. نعوذ بالله من الافتراء على الله وعلى كتابة، وخرق ما لم ينزل الله به سلطانا.   1 البخاري: تفسير القرآن (4725) , ومسلم: الفضائل (2380) , والترمذي: تفسير القرآن (3149) . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 167 وأما قوله في قول الناظم: إن لم تكن في معادي آخذا بيدي، أن الأخذ باليد: بالشفاعة. فالجواب: أن حقيقة هذا القول، وصريحه: طلب ذلك من غير الله; فلو صح هذا الحمل، فالمحذور بحاله، لما قد عرفت من أن الاستغاثة بالأموات والغائبين، والاستشفاع بهم، في أمر هو في يد الله، ممتنع حصوله لكونه تألها وعبادة; وقد أبطله القرآن; فهذا المعترض الجاهل، يدور على منازعة الله في حقه، وملكه، وشمول علمه، والله يجزيه بعمله. وأما قوله: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} [سورة الأنعام آية: 59] فقيل: المراد بها الخمس المذكورة في سورة لقمان، وهذا قبل أن يطلع نبيه عليها، وإلا فقد ذكر عامة أهل العلم أنه لم يتوفاه الله تعالى حتى علّمه كل شيء حتى الخمس. فالجواب: انظر إلى هذا المفتري الجاهل البليد، كيف اقتفى أثر صاحب الأبيات بجميع ما اختلقه، وافتراه! وأكثر من الأكاذيب على أهل العلم! فإن قوله: ذكر عامة أهل العلم أنه لم يتوفاه الله حتى علمه كل شيء حتى الخمس; فحاشا أهل العلم الذين يعرفون بأنهم من أهل العلم، من هذه المقالة; وعامة أهل العلم، بل كلهم على خلاف ما ادعاه، سلفا وخلفا. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 168 قال أبو جعفر محمد بن جرير رحمه الله، في تفسيره الكبير، الذي فاق على التفاسير: ابتدأ تعالى ذكر الخبر عن علمه بمجيء الساعة، فقال: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} [سورة لقمان آية: 34] التي تقوم فيها القيامة، لا يعلم ذلك أحد غيره، {وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ} من السماء، لا يقدر على ذلك أحد غيره، {وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ} [سورة لقمان آية: 34] أرحام الإناث، {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً} [سورة لقمان آية: 34] ، يقول: وما تعلم نفس حي ماذا تعمل في غد، {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} [سورة لقمان آية: 34] يقول: وما تعلم نفس حي بأي أرض يكون موتها. {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [سورة لقمان آية: 34] يقول: إن الذي يعلم ذلك كله هو الله، دون كل أحد سواه. وذكر سنده عن مجاهد: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} [سورة لقمان آية: 34] ، قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: امرأتي حبلى، فأخبرني ماذا تلد؟ وبلادنا جدبة، فأخبرني متى ينزل الغيث؟ وقد علمت متى ولدت، فمتى أموت؟ فأنزل الله: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} [سورة لقمان آية: 34] إلى آخر السورة; قال: فكان مجاهد يقول: هن مفاتح الغيب التي قال الله: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} [سورة الأنعام آية: 59] . وأخرج بسنده عن قتادة: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} [سورة لقمان آية: 34] الآية: خمس من الغيب استأثر الله بهن، فلم يطلع عليهن ملكا مقربا، ولا نبيا مرسلا. وبسنده عن عائشة رضي الله عنها: من قال: إن أحدا يعلم الغيب إلا الله، فقد كذب، وأعظم الجزء: 11 ¦ الصفحة: 169 الفرية على الله؛ قال تعالى: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [سورة النمل آية: 65] . وبالسند عن عبد الله بن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " مفاتح الغيب خمس لا يعلمهن إلا الله {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ} [سورة لقمان آية: 34] الآية. ثم قال: لا يعلم ما في غد إلا الله، ولا يعلم أحد متى ينزل الغيث إلا الله، ولا يعلم أحد متى قيام الساعة إلا الله، ولا يعلم أحد ما في الأرحام إلا الله، ولا تدري نفس بأي أرض تموت ". وبسنده عن مسروق عن عائشة، قالت: من حدثك أنه يعلم ما في غد فقد كذب، ثم قرأت {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} [سورة لقمان آية: 34] . وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خمس لا يعلمهن إلا الله {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ} [سورة لقمان آية: 34] الآية". انتهى ما ذكره ابن جرير. وذكر البغوي في تفسيره: حديث ابن عمر وعائشة المتقدم، ثم قال: وقال الضحاك ومقاتل: مفاتح الغيب: خزائن الأرض; وقال عطاء: ما غاب عنكم من الثواب، وقيل: انقضاء الأجل، وقيل: أحوال العباد من السعادة والشقاوة، وخواتيم أعمالهم، وقيل: ما لم يكن بعد، أنه يكون أو لا يكون، وما لا يكون كيف يكون; انتهى. قلت: ولا يعرف عن أحد من أهل العلم خلاف ما الجزء: 11 ¦ الصفحة: 170 دلت عليه هذه الآيات المحكمات. ونعوذ بالله من مخالفة ما أنزل الله في كتابه، وما أخبر به عن نفسه، أو أخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم، وأجمع عليه العلماء؛ فإن الله أستأثر بعلمه عن خلقه، ووصف نفسه بأنه علام الغيوب، ونعوذ بالله من حال أهل الافتراء، والتكذيب. وأما قوله: ولو أن عبارات أهل العلم، مثل البيضاوي، وأبي السعود، والقسطلاني، وأمثالهم، تجدي إليكم شيئا، لذكرناها؛ لكنها تمحى بلفظة واحدة، وهي: أنهم كلهم كفار، فلا نقبل منهم أحدا؛ ومن هذه حاله فلا حيلة به. فالجواب: أنه ليس للبيضاوي ومن ذكر، عبارات تخالف ما قاله السلف والعلماء في معنى الآيات، ومعاذ الله أن يقول المجيب: إن هؤلاء كفار; ولا يوجد عن أحد من علماء المسلمين أنه كفر أحدا قد مات من هذه الأمة؛ فمن ظاهره الإسلام، فلو وجد في كلامه زلة من شرك، أو بدعة، فالواجب التنبيه على ذلك، والسكوت عن الشخص; لما تقدم من أنا لا ندري ما خاتمته. وأما هؤلاء الذين ذكرهم من المفسرين، فإنهم من المتأخرين الذين نشؤوا في اغتراب من الدين. والمتأخرون يغلب عليهم الاعتماد على عبارات أهل الكلام، مخالفة لما عليه السلف، وأئمة الإسلام، من الإرجاء، ونفي حكمة الله، الجزء: 11 ¦ الصفحة: 171 وتأويل صفات الله، وسلب معانيها، ما يقارب ما في كشاف الزمخشري; والإرجاء والجبر يقابل ما فيه من نفي القدر; وكلاهما في طرفي نقيض، وكل واحد خالف ما عليه أهل السنة والجماعة في ذلك. ومعلوم أن صاحب الكشاف أقدم من هؤلاء الثلاثة، وأرسخ قدما منهم في فنون من العلم، ومع هذا، فقال شيخ الإسلام البلقيني: استخرجت ما في الكشاف من دسائس الاعتزال بالمناقيش; وقال أبو حيان وقد مدح الكشاف، وما فيه من لطيف المعنى، ثم قال: ولكنه فيه مجال لناقد ... وزلات سوء قد أخذن المخانقا يثبت موضوع الأحاديث جاهلا ... ويعزو إلى المعصوم ما ليس لائقا وينسب إبداء المعاني لنفسه ... ليوهم أغمارا وإن كان سارقا ويسهب في المعنى الوجيز دلالة ... بتكثير ألفاظ تسمى الشقاشقا يقول فيها الله ما ليس قائلا ... وكان محبا في المخاطب وامقا ويشتم أعلام الأئمة ضلة ... ولا سيما إن أولجوه المضائقا لئن لم تداركه من الله رحمة ... لسوف يُرى للكافرين مرافقا فإذا كان هذا في تفسير مشهور، وصاحبه معروف بالذكاء والفهم، فما دونه من المتأخرين، أولى بأن لا يتلقى من كلامهم بالقبول، إلا ما وافق تفسير السلف، وقام عليه الدليل. وهذا المعترض، من جهله يحسب كل بيضاء الجزء: 11 ¦ الصفحة: 172 شحمة، يعظم المفضول من الأشخاص والتصانيف، ولا يعرف ما هو الأفضل؛ ولو كان له أدنى مسكة من فهم، ومعرفة بالعلماء ومصنفاتهم، لعلم أن أفضل ما في أيدي الناس من التفاسير، هذه الثلاثة التي نقلنا منها: تفسير أبي جعفر، محمد بن جرير الطبري، وتفسير الحسين بن مسعود البغوي، وتفسير العماد إسماعيل بن كثير؛ فهذه أجل التفاسير. ومصنفوها أئمة مشهورون، أهل سنة، ليسوا بجهمية، ولا معتزلة، ولا قدرية، ولا جبرية، ولا مرجئة - بحمد الله -؛ وأكثر ما في هذه التفاسير: الأحاديث الصحيحة، وآثار الصحابة، وأقوال التابعين وأتباعهم؛ فلا يرغب عنها إلا الجاهلون، الناقصون المنقوصون; والله المستعان. والمصنفون في التفسير وغيره، غير ما ذكر المعترض، كثيرون، وأحسن من البيضاوي، وأبي السعود: "البحر" لأبي حيان، لأنه كثيرا ما ينقل في تفسيره عن السلف والأئمة، وكذلك تفسير الخازن. وبالجملة: فمن كان من المصنفين أبعد عن تقليد المتكلمين، وذكر عباراتهم، ويعتمد أقوال السلف، فهو الذي ينبغي النظر إليه، والرغبة فيه; وعلى كل حال، فليس في تفسير البيضاوي، وأبي السعود، وشرح الجزء: 11 ¦ الصفحة: 173 القسطلاني، ومواهبه، ما ينفع هذا الجاهل المفتري، وكل يؤخذ من قوله ويترك، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقول المعترض على قول المجيب: علماؤهم شر من تحت أديم السماء، فيقال: هل ورد هذا الحديث في أهل العراق؟ فهم على عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم كفار مجوس، أو فيما يأتي؟ فهذه شناعة على غالب علماء الأمة؛ ومنهم الإمام أبو حنيفة والإمام أحمد وأمثالهم. فالجواب: أن هذا كلام من لا يعقل، ولا يفهم شيئا، ولا يفرق بين أهل السنة والجماعة، وأهل البدعة والضلالة؛ ففي الحديث الصحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا تقوم الساعة حتى يعبد فئام من أمتي الأوثان، ولا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم، حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك " 1 رواه البرقاني في صحيحه. وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن أمته ستفترق، كما افترقت اليهود والنصارى؛ فاليهود افترقت على إحدى وسبعين، والنصارى على اثنتين وسبعين، وهذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقه، كلها في النار إلا واحدة، وهي الجماعة. وأول من فارق الجماعة، في عهد الصحابة رضي الله عنهم: الخوارج، قاتلهم علي رضي الله عنه بالنهروان،   1 مسلم: الإمارة (1920) , والترمذي: الفتن (2229) , وابن ماجه: المقدمة (10) والفتن (3952) , وأحمد (5/278) . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 174 والقدرية في أيام ابن عمر، وابن عباس، وأكثر الصحابة موجودون; ومن دعاتهم: معبد الجهني، وغيلان القدري الذي قتله هشام بن عبد الملك; وكذلك الغلاة في علي، الذين خد لهم علي الأخاديد، وحرقهم بالنار; ومنهم المختار بن أبي عبيد، الذي قتله مصعب بن الزبير، ادعى النبوة وتبعه خلق. ثم ظهرت فتنة الجهمية، وأول من أظهرها الجعد بن درهم، قتله خالد بن عبد الله القسري; والصحابة رضي الله عنهم والتابعون والأئمة، متوافرون وقت ظهور مبادئ هذه البدع، لم يلحقهم من ضلال هذه الفرق شناعة، ولا غضاضة; لأنهم متمسكون بالكتاب والسنة منكرون لما خالف الحق. وصح من حديث أنس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا يأتي على الناس زمان، إلا والذي بعده شر منه، حتى تلقوا ربكم " سمعته من نبيكم. وظهرت بدعة جهم بن صفوان، في زمن أبي حنيفة، وأنكرها وناظرهم، وانتشرت في زمن الإمام أحمد رحمه الله، والفقهاء، وأهل الحديث; وامتحن الإمام أحمد، فتمسك بالحق وصبر. وصنف العلماء رحمهم الله المصنفات الكبار، في الرد على الجهمية القائلين بخلق القرآن، المعطلين لصفات الجزء: 11 ¦ الصفحة: 175 الملك الديان، كالإمام أحمد في رده المعروف، وابنه عبد الله، وعبد العزيز الكناني في كتاب "الحيدة"، وأبي بكر الأثرم، والخلال، وعثمان بن سعيد الدارمي، وإمام الأئمة محمد بن خزيمة واللالكائي، وأبي عثمان الصابوني، وقبلهم وبعدهم ممن لا يحصى؛ وهذا كله إنما هو في القرون الثلاثة المفضلة. ثم بعدها ظهرت كل بدعة، بدعة الفلاسفة، وبدعة الرافضة، وبدعة المعتزلة، وبدعة المجبرة، وبدعة أهل الحلول، وبدعة أهل الاتحاد، وبدعة الباطنية الإسماعيلية، وبدعة النصيرية، والقرامطة ونحوهم. وأما أهل السنة والجماعة فيردون بدعة كل طائفة من هؤلاء الطوائف بحمد الله; فالأئمة متمسكون بالحق، في كل زمان ومكان; والبلد الواحد من هذه الأمصار، يجتمع فيها أهل السنة وأهل البدعة، وهؤلاء يناظرون هؤلاء، ويناضلونهم بالحجج والبراهين. وظهر معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: " خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم. ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف، يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون؛ فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل " 1، وقال: " بدأ الإسلام غريبا،   1 مسلم: الإيمان (50) , وأحمد (1/458 ,1/461) . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 176 وسيعود غريبا كما بدأ، فطوبى للغرباء، الذين يصلحون إذا فسد الناس " 1، وفي رواية: " يصلحون ما أفسد الناس " 2. وقد صنف العلماء رحمهم الله مصنفات، وبينوا ما تنتحله كل فرقه من بدعتها المخالفة لما عليه أهل الفرقة الناجية. وليس على الفرقة الناجية شناعة، ولا نقص في مخالفة هذه الفرق كلها وإنما ظهر فضل هذه الفرقة بتمسكها بالحق، وصبرها على مخالفة هذه الفرق الكثيرة، والاحتجاج بالحق ونصرته. وما ظهر فضل الإمام أبي حنيفة، والإمام أحمد، ومن قبلهما من الأئمة، ومن بعدهما، إلا بتمسكهم بالحق، ونصرته وردهم الباطل. وما ضر شيخ الإسلام أحمد بن تيمية وأصحابه، حين أجلب عليهم أهل البدع، وآذوهم; بل أظهر الله بهم السنة، وجعل لهم لسان صدق في الأمة، وكذلك من قبلهم، ومن بعدهم، كشيخنا، شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى، لما دعا إلى التوحيد وبين أدلته، وبين الشرك وما يبطله. وفيه قال الإمام العلامة الأديب، أبو بكر ابن غنام، رحمه الله تعالى: وعاد به نهج الغواية طامسا ... وقد كان مسلوكا به الناس تربع وجرت به نجد ذيول افتخارها ... وحق لها بالألمعي ترفع   1 مسلم: الإيمان (145) , وابن ماجه: الفتن (3986) , وأحمد (2/389) . 2 الترمذي: الإيمان (2630) . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 177 فآثاره فيها سوام سوافر ... وأنواره فيها تضيء وتسطع فهذا المعترض لو تصور وعقل، لتبين له أن ما احتج به ينقلب حجة عليه. وقول المعترض: وإن كان قد ورد في حق أهل الحرمين، فهذا ظاهر البطلان، إذ هي مهبط الوحي، ومنبع الإيمان; ولو قيل: إن هذا الحديث وأمثاله، ورد في ذم نجد وأهلها، فقد ورد في ذمهم أحاديث كثيرة شهيرة، منها قوله صلى الله عليه وسلم: " لا يزالون في شر من كذابهم إلى يوم القيامة ". فالجواب: أن نقول: الأحاديث التي وردت في غربة الدين، وحدوث البدع وظهورها، لا تختص بمكة والمدينة، ولا غيرهما من البلاد; والغالب: أن كل بلد لا تخلو من بقايا متمسكين بالسنة; فلا معنى لقوله: وإن كان قد ورد في حق أهل الحرمين، في أواخر عهد الصحابة رضي الله عنهم، بل في وقت الخلفاء الراشدين، ما هو معروف عند أهل العلم، مشهور في السير والتآريخ. وأول ذلك: مقتل أمير المؤمنين، عثمان بن عفان رضي الله عنه، ثم وقعة الحرة المشهورة، ومقتل ابن الزبير في مكة، وما جرى في خلال ذلك من الفتن؛ وصار الغلبة في الحرمين وغيرها، لأهل الأهواء؛ فإذا كان هذا وقع في خير القرون، فما ظنك فيما بعد، حين اشتدت غربة الجزء: 11 ¦ الصفحة: 178 الإسلام، وعاد المنكر معروفا والمعروف منكرا، فنشأ على هذا الصغير وهرم عليه الكبير؟ وأما قوله: إذ هي مهبط الوحي، ومنبع الإيمان. فالجواب، أن نقول: مهبط الوحي في الحقيقة قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ} [سورة الشعراء آية: 193-194] ، وقال تعالى: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} [سورة العنكبوت آية: 49] ؛ فهذا محل الوحي ومستقره; وقوله: ومنبع الإيمان; الإيمان: ينزل به الوحي من السماء، لا ينبع من الأرض، ومحله قلوب المؤمنين. وهذه السور المكية التي في القرآن معلومة، نزلت على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأكثر من في مكة المشركون، وفيها ذمهم والرد عليهم، كقوله: {وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ} [سورة الأنعام آية: 66] ، وقال: {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ} [سورة الأنعام آية: 26] ، وقوله: {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [سورة الأنعام آية: 33] ، ونحو هذه الآيات كما في "فصلت" و "المدثر" وغيرهما. ثم هاجر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة، وأهل الشرك لم يزالوا بها، ومنعوا رسول الله وأصحابه من دخولها - بالوحي - وقاتلوهم ببدر، وأحد، والخندق، وهم كانوا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 179 من آخر العرب دخولا في الإسلام، حاشا من هاجر؛ وكل هذا بعد نزول الوحي. ونحن - بحمد الله - لا ننكر فضل الحرمين؛ بل ننكر على من أنكره. ولكن نقول: الأرض لا تقدس أحدا، وإنما يقدس المرء عمله؛ فالمحل الفاضل قد يجتمع فيه المسلم والكافر، وأهل الحق وأهل الباطل، كما تقدم، فأهل الحق يزدادون بالعمل الصالح في المحل الفاضل، لكثرة ثوابه. وأهل الباطل لا يزيدهم إلا شرا، تعظم فيه سيئاتهم، كما قال تعالى في حرم مكة: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [سورة الحج آية: 25] . فإذا كان هذا الوعيد في الإرادة، فعمل السوء أعظم؛ فالمعول على الإيمان والعمل الصالح، ومحله قلب المؤمن، والناس مجزيون بأعمالهم، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر. وقوله: ولو قيل إن هذا الحديث ورد في ذم نجد وأهلها ... إلى آخره. فأقول: الذم إنما يقع في الحقيقة على الحال، لا على المحل؛ والأحاديث التي وردت في ذم نجد، كقوله صلى الله عليه وسلم " اللهم بارك لنا في يمننا، اللهم بارك لنا في شامنا " قالوا: وفي نجدنا، قال: " هناك الزلازل والفتن، وبها يطلع قرن الشيطان "، قيل: إنه أراد نجد العراق؛ لأن في بعض ألفاظه الجزء: 11 ¦ الصفحة: 180 ذكر المشرق، والعراق شرقي المدينة، والواقع يشهد له، لا نجد الحجاز، ذكره العلماء في شرح هذا الحديث. فقد جرى في العراق من الملاحم والفتن، ما لم يجر في نجد الحجاز، يعرف ذلك من له اطلاع على السير، والتاريخ، كخروج الخوارج بها، الذين قاتلهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وكمقتل الحسين، وفتنة ابن الأشعث، وفتنة المختار وقد ادعى النبوة، وقتال بني أمية لمصعب بن الزبير، وقتله، وما جرى في ولاية الحجاج بن يوسف، من القتل والسفك، وغير ذلك مما يطول عده. وعلى كل حال، فالذم يكون في حال دون حال، ووقت دون وقت، بحسب حال الساكن; لأن الذم إنما يكون للحال دون المحل، وإن كانت الأماكن تتفاضل. وقد تقع المداولة فيها; فإن الله يداول بين خلقه حتى في البقاع، فمحل معصية في زمن، قد يكون محل طاعة في زمن آخر. وأما قول المعترض: منها قوله صلى الله عليه وسلم: " لا يزالون في شر من كذابهم " فالجواب: أن هذا من جملة كذبه على رسول الله صلى الله عليه وسلم وجهله بالعلم، لا يميز بين الحديث وغيره; وهذا الكلام ورد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه في نفر من بني حنيفة، سكنوا الكوفة في ولاية ابن مسعود عليها، الجزء: 11 ¦ الصفحة: 181 وكانوا في مسجد من مساجدها، فسمع منهم كلمة تشعر بتصديق مسيلمة، فأخذهم عبد الله بن مسعود، وقتل كبيرهم ابن النواحة. وقال في الباقين: لا يزالون في بلية من كذابهم - يعني ذلك النفر - يذم نجدا بنفر أحدثوا حدثا في العراق. وقد أفنى الله كل من حضر مسيلمة في القرن الأول، ولم يبق بنجد من يصدق الكذاب; بل من كان في أواخر عهد الصحابة رضي الله عنهم، ومن بعدهم بنجد، يكفرون مسيلمة ويكذبونه، فلم يبق بنجد من فتنة مسيلمة لا عين ولا أثر. فلو ذم نجد بمسليمة بعد زواله، وزوال من يصدقه، لذم اليمن بخروج الأسود العنسي دعواه النبوة، وما ضر المدينة سكنى اليهود فيها، وقد صارت مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ومعقد الإسلام، وما ذمت مكة بتكذيب أهلها الرسول صلى الله عليه وسلم وشدة عداوتهم له، بل هي أحب أرض الله إليه. فإذا كان الأمر كذلك، فأرض اليمامة لم تعص الله؛ وإنما ضرت المعصية ساكنيها، بتصديقهم كذابهم. وما طالت مدتهم على ذلك الكفر - بحمد الله - فطهر الله تلك البلاد منهم، ومن سلم منهم من القتل دخل في الإسلام؛ فصارت بلادهم بلاد إسلام، بنيت فيها المساجد، وأقيمت الجزء: 11 ¦ الصفحة: 182 الشرائع، وعبد الله فيها في عهد الصحابة، رضي الله عنهم، وبعدهم، ونفر كثير منهم مع خالد بن الوليد، لقتال العجم، فقاتلوا مع المسلمين. فنال تلك البلاد من الفضل، ما نال غيرها من بلاد أهل الإسلام، على أنها تفضل على كثير من البلاد بالحديث الذي رواه البخاري في صحيحه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال وهو بمكة لأصحابه: " أريت دار هجرتكم "1، فوصفها، ثم قال: " فذهب وهلي إلى أنها اليمامة أو يثرب " ورؤيا النبي صلى الله عليه وسلم حق، وكفى بهذا فضلا لليمامة، وشرفا لها على غيرها. فإن ذهاب وهله صلى الله عليه وسلم في رؤياه إليها، لا بد أن يكون له أثر في الخير يظهر، فظهر ذلك الفضل - بحمد الله - في القرن الثاني عشر، فقام الداعي يدعو الناس إلى ما دعت إليه الرسل، من إفراد الله بالعبادة، وترك عبادة ما سواه، وإقامة الفرائض، والعمل بالواجبات، والنهي عن مواقعة المحرمات. وظهر فيها الإسلام أعظم من ظهوره في غيرها في هذه الأزمان، ولولا ذلك ما سب هؤلاء نجدا واليمامة بمسيلمة. إذا عرف ذلك، فليعلم أن مسيلمة وبني حنيفة إنما كفروا بجحودهم بعض آية من كتاب الله جهلا وعنادا; وهذا المعترض وأمثاله جحدوا حقيقة ما بعث الله به رسله   1 أحمد (6/198) . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 183 من التوحيد الذي دلت عليه الآيات المحكمات التي تفوت الحصر، وعصوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بارتكاب ما نهى عنه من الغلو والشرك. فجوزوا أن يدعى مع الله غيره، وقد نهى الله ورسوله عن ذلك، في أكثر سور القرآن، وجوزوا أن يستعان بغير الله؛ ورسوله نهى عن ذلك أشد النهي، وجعلوا لله شريكا في ملكه وربوبيته، كما جعلوا له شريكا في الإلهية. وجعلوا له شريكا في إحاطة العلم بالمعلومات، كلياتها وجزئياتها؛ وقد قال تعالى، مبينا لما اختص به من شمول علمه: {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍعَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ} [سورة الرعد آية: 8-9] إلى قوله: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ} [سورة الرعد آية: 14] الآية. وهذه الأصول كلها في الفاتحة؛ يبين تعالى أنه هو المختص بذلك دون كل من سواه; ففي قوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [سورة الفاتحة آية: 2] اختصاص الله بالحمد، لكماله في ربوبيته، وإلهيته وملكه، وشمول علمه وقدرته، وكماله في ذاته وصفاته، {رَبِّ الْعَالَمِينَ} هو ربهم وخالقهم ورازقهم، ومليكهم والمتصرف فيهم بحكمته، ومشيئته ليس ذلك إلا له. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 184 {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [سورة الفاتحة آية: 4] فيه تفرده بالملك، كقوله: {يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [سورة الانفطار آية: 19] . وقوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [سورة الفاتحة آية: 5] فيه قصر العبادة عليه تعالى بجميع أفرادها، وكذلك الاستعانة، وفي {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [سورة الفاتحة آية: 5] أيضا توحيد الربوبية. وهذه الأصول أيضا، في: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [سورة الناس آية: 1] فهو ربهم ورازقهم، والمتصرف فيهم والمدبر لهم {مَلِكِ النَّاسِ} [سورة الناس آية: 2] هو الذي له الملك كما في الحديث الوارد في الأذكار " لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير " وقوله: {إِلَهِ النَّاسِ} [سورة الناس آية: 3] هو مألوههم ومعبودهم، لا معبود لهم سواه; فأهل الإيمان خصوه بالإلهية، وأهل الشرك جعلوا له شريكا، يألهونه بالعبادة، كالدعاء، والاستعانة والاستغاثة والالتجاء، والرغبة والتعلق عليه ونحو ذلك. وفي {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [سورة الكافرون آية: 1] براءة النبي صلى الله عليه وسلم من الشرك والمشركين. {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} [سورة الكافرون آية: 1-2] إلى قوله: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [سورة الكافرون آية: 6] فهذا هو التوحيد العملي؛ وأساسه البراءة من الشرك والمشركين باطنا وظاهرا. وفي {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [سورة الإخلاص آية: 1] توحيد العلم والعمل؛ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} سورة الإخلاص آية: 1 [] يعني هو الله الواحد الأحد، الذي لا نظير الجزء: 11 ¦ الصفحة: 185 له، ولا وزير ولا ند، بل ولا شبيه له ولا عديل; ولا يطلق هذا اللفظ في الإثبات، إلا على الله عز وجل لأنه الكامل في جميع صفاته وأفعاله. وقوله: {اللَّهُ الصَّمَدُ} [سورة الإخلاص آية: 2] ، قال عكرمة عن ابن عباس، رضي الله عنهما: يعني الذي يصمد الخلائق إليه في حوائجهم، ومسائلهم. قلت: وفيه توحيد الربوبية، وتوحيد الإلهية; وقال الأعمش عن شقيق، عن أبي وائل، الصمد: السيد، الذي قد انتهى سؤدده. وقال الحسن أيضا، الصمد: الحي القيوم، الذي لا زوال له. وقال الربيع بن أنس: هو الذي لم يلد ولم يولد، كأنه جعل ما بعده تفسيرا له. وقال سفيان عن منصور عن مجاهد، الصمد: المصمت لا جوف له. قال أبو القاسم الطبراني، في كتاب السنة: وكل هذه صحيحة، وهي صفات ربنا عز وجل. وقال مجاهد: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [سورة الإخلاص آية: 4] يعني لا صاحبة له، وهذا كما قال تعالى: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [سورة الأنعام آية: 101] أي: هو مالك كل شيء، وخالقه؛ فكيف يكون له من خلقه نظير يساميه، أو قريب يدانيه؟ تعالى وتقدس وتنزه. قلت: فتدبر هذه السورة، وما فيها من توحيد الجزء: 11 ¦ الصفحة: 186 الإلهية والربوبية، وتنْزيه الله عن الشريك والشبيه والنظير، وما فيها من مجامع صفات كماله، ونعوت جلاله; ومن له بعض تصور، يدري هذا بتوفيق الله {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [سورة النور آية: 40] . وأما قول المعترض على قول المجيب: ونوع الشرك جرى زمن شيخ الإسلام ابن تيمية; أقول: هذه البردة متقدمة على زمن شيخ الإسلام، ومع هذا لم ينقل عنه فيها كلمة واحدة. فالجواب: تقدم البردة على زمن شيخ الإسلام، إن كان كذلك فماذا يجدي عليه؟ وما الحجة منه على جواز الشرك؟ وأيضا: فشهادته هذه على شيخ الإسلام، غير محصورة، فلا تقبل; وهو لم يطلع إلا على النّزر اليسير من كلام شيخ الإسلام، ولم يفهم معنى ما اطلع عليه; وهو في شق، وشيخ الإسلام في شق. وليس في كلام شيخ الإسلام إلا ما هو حجة على هذا المعترض; لكنه يتعلق في باطله، بمثل خيط العنكبوت; فإن كان يقنعه كلام شيخ الإسلام رحمه الله، المؤيد بالبرهان، فقد تقدم من كلامه ما يكفي ويشفي، في تمييز الحق من الباطل؛ وكلامه رحمه الله في أكثر كتبه، يبين هذا الشرك وينكره، ويرده، كما قد رد على ابن البكري، حين جوز الاستغاثة بغير الله. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 187 ولا يشك من له أدنى مسكة من عقل وفهم أن كلام صاحب البردة، داخل تحت كلام شيخ الإسلام، في الرد عليه والإنكار. وأنا أورد هنا جوابا لشيخ الإسلام، عن سؤال من سأله عن نوع هذا الشرك، وبعض أفراده، فأتى بجواب عام شامل كاف واف. [سؤال وجه لشيخ الإسلام فيمن يستنجد بأهل القبور، والجواب عنه] قال السائل: ما قول علماء المسلمين فيمن يستنجد بأهل القبور ويطلب منهم إزالة الألم، ويقول: يا سيدي أنا في حسبك؟ وفيمن يستلم القبر، ويمرغ وجهه عليه، ويقول: قضيت حاجتي ببركه الله، وبركة الشيخ ونحو ذلك؟ الجواب: الحمد لله رب العالمين. الدين الذي بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه، هو عبادة الله وحده لا شريك له، واستعانته والتوكل عليه، ودعاؤه لجلب المنافع ودفع المضار، كما قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [سورة الزمر آية: 2] الآيات. وقال: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} [سورة الجن آية: 18] ، وقال: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [سورة غافر آية: 14] ، وقوله: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً} [سورة الإسراء آية: 56] الآيتين قال طائفة من السلف: كان أقوام الجزء: 11 ¦ الصفحة: 188 يدعون المسيح، وعزيرا، والملائكة، قال الله تعالى: هؤلاء الذين تدعونهم عبادي، يرجون رحمتي كما ترجون رحمتي، ويخافون عذابي كما تخافون عذابي. فإذا كان هذا حال من يدعو الأنبياء والملائكة، فكيف بمن دونهم؟ قال تعالى: {أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ} [سورة الكهف آية: 102] الآية وقال: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سورة سبأ آية: 22-23] . فبين سبحانه أن من دعي من دون الله، من جميع المخلوات، الملائكة، والبشر، وغيرهم، أنهم لا يملكون مثقال ذرة في ملكه؛ وأنه ليس له شريك في ملكه، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير; وأنه ليس له عون، كما يكون للملك أعوان وظهراء؛ وأن الشفعاء لا يشفعون عنده إلا لمن ارتضى؛ فنفى بذلك وجوه الشرك. وذلك أن من دعي من دونه، إما يكون مالكا، وإما أن لا يكون مالكا، وإذ لم يكن مالكا، فإما أن يكون شريكا، وإما أن لا يكون شريكا; وإذا لم يكن شريكا، فإما أن يكون معاونا، وإما أن يكون سائلا طالبا; فأما الرابع فلا يكون إلا من بعد إذنه، كما قال تعالى: {مَنْ ذَا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 189 الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [سورة البقرة آية: 255] ، وكما قال تعالى: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [سورة النجم آية: 26] . وقال: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [سورة الزمر آية: 43-44] ، وقال: {لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ} [سورة الأنعام آية: 51] وقال: {مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ} [سورة السجدة آية: 4] ، وقال: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ} [سورة آل عمران آية: 79] إلى قوله: {وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [سورة آل عمران آية: 80] . فبين سبحانه أن من اتخذ الملائكة والنبيين أربابا كان كافرا؛ فكيف بمن اتخذ من دونهم من المشائخ وغيرهم أربابا؟ فلا يجوز أن يقول لملك، ولا لنبي، ولا لشيخ، سواء كان حيا أو ميتا: اغفر ذنبي، أو انصرني على عدوي، أو اشف مريضي، أو ما أشبه ذلك. ومن سأل ذلك مخلوقا كائنا من كان، فهو مشرك بربه، من جنس المشركين الذين يعبدون الملائكة والأنيياء، والتماثيل التي يصورونها على صورهم، ومن جنس دعاء الجزء: 11 ¦ الصفحة: 190 النصارى للمسيح وأمه، قال الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ} [سورة المائدة آية: 116] الآية، وقال: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [سورة التوبة آية: 31] . وإن قال: أنا أسأله، لأنه أقرب إلى الله مني ليشفع لي; لأني أتوسل إلى الله به، كما يتوسل إلى السلطان بخواصه وأعوانه، فهذا من أفعال المشركين والنصارى؛ فإنهم يزعمون أنهم يتخذون أحبارهم ورهبانهم شفعاء، يستشفعون بهم في مطالبهم. ولذلك أخبر الله عن المشركين، أنهم قالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [سورة الزمر آية: 3] ، وقد قال سبحانه: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ} [سورة الزمر آية: 43] إلى قوله: {تُرْجَعُونَ} ، وقال: {مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ} [سورة السجدة آية: 4] ، وقال: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [سورة البقرة آية: 255] . فبين الفرق بينه وبين خلقه؛ فإن من عادة الناس أن يستشفع إلى الكبير بمن يكرم عليه، فيسأله ذلك الشافع فيقضي حاجته، إما رغبة وإما رهبة، وإما حياء وإما غير الجزء: 11 ¦ الصفحة: 191 ذلك؛ فالله لا يشفع عنده أحد حتى يأذن هو للشافع؛ فلا يفعل إلا ما يشاء، وشفاعة الشافع عن إذنه والأمر كله له. فالرغبة يجب أن تكون إليه، كما قال تعالى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [سورة الشرح آية: 7-8] ، والرهبة تكون منه، قال تعالى: {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} [سورة البقرة آية: 40] ، وقال: {فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} [سورة المائدة آية: 44] وقد أمرنا أن نصلي على النبي صلى الله عليه وسلم في الدعاء، وجعل ذلك من أسباب إجابة دعائنا. وقول كثير من الضلال: هذا أقرب إلى الله مني وأنا بعيد منه؛ لا يمكن أن ندعوه إلا بهذه الواسطة، ونحو ذلك، هو من قول المشركين؛ فإن الله تعالى يقول: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [سورة البقرة آية: 186] . وقد روي أن الصحابة رضي الله عنهم، قالوا: يا رسول الله، ربنا قريب فنناجيه، أم بعيد فنناديه؟ فنَزلت الآية; وقد أمر الله العباد كلهم بالصلاة له، ومناجاته، وأمر كلا منهم أن يقول: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [سورة الفاتحة آية: 5] . ثم يقال لهذا المشرك: أنت إذا دعوت هذا، فإن كنت تظن أنه أعلم بحالك، أو يقدر على سؤالك، وأرحم الجزء: 11 ¦ الصفحة: 192 بك من ربك، فهذا جهل وضلال، وكفر; وإن كنت تعلم أن الله تعالى أعلم وأقدر وأرحم، فلماذا عدلت عن سؤاله إلى سؤال غيره؟ وإن كنت تعلم أنه أقرب إلى الله منك، وأعلى منْزلة عند الله منك، فهذا حق أريد به باطل؛ فإنه إذا كان أقرب منك، وأعلى درجة، فإن معناه أن يثيبه، ويعطيه؛ ليس معناه: أنك إذا دعوته، كان الله يقضي حاجتك، أعظم مما يقضيها إذا دعوته أنت; فإنك إن كنت مستحقا للعقاب، ورد الدعاء، فالنبي والصالح لا يعين على ما يكرهه الله، ولا يسعى فيما يبغضك إليه، وإن لم يكن كذلك، فالله أولى بالرحمة والقبول منه. فإن قلت: هذا إذا دعا الله أجاب دعاءه، أعظم مما يجيب إذا دعوته أنا، فهذا هو القسم الثاني، وهو: أن يطلب منه الفعل ولا يدعوه، ولكن يطلب أن يدعو له، كما يقال للحي: ادع لي، وكما كان الصحابة يطلبون من النبي صلى الله عليه وسلم الدعاء، فهذا مشروع في الحي. وأما الميت من الأنبياء والصالحين وغيرهم، فلم يشرع لنا أن نقول: ادع لنا، ولا: اسأل لنا ربك، ونحو ذلك; ولم يفعل هذا أحد من الصحابة، ولا التابعين، ولا أمر به أحد من الأئمة، ولا ورد بذلك حديث؛ بل الذي ثبت في الصحيح، أنهم لما أجدبوا زمن عمر، استسقى بالعباس الجزء: 11 ¦ الصفحة: 193 رضي الله عنهما، فقال: اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا، فيُسقون. فلم يجيئوا إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم قائلين: يا رسول الله ادع الله، أو استسق لنا، ونحن نشكو إليك ما أصابنا، ونحو هذا; ولم يقله أحد من الصحابة قط; بل هو بدعة ما أنزل الله بها من سلطان; بل كانوا إذا جاؤوا عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم يسلمون عليه، ثم إذا أرادوا الدعاء لم يدعوا الله مستقبلي القبر، بل ينحرفون، فيستقبلون القبلة، ويدعون الله وحده لا شريك له، كما كانوا يدعونه في سائر البقاع. وفي الموطأ وغيره: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد. اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " 1. وفي السنن أيضا، أنه قال: "لا تتخذوا قبري عيدا، وصلوا علي حيث ما كنتم؛ فإن صلاتكم تبلغني" 2. وفي الصحيح: أنه قال في مرضه الذي لم يقم منه: " لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " 3، يحذر ما فعلوا، قالت عائشة: ولولا ذلك لأبرز قبره، لكن خشي أن يتخذ مسجدا; وفي سنن أبي داود عنه، أنه قال: " لعن الله زوارات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسرج " 4.   1 أحمد (2/246) . 2 أبو داود: المناسك (2042) , وأحمد (2/367) . 3 البخاري: الجنائز (1330) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (531) , والنسائي: المساجد (703) , وأحمد (1/218 ,6/34 ,6/80 ,6/121 ,6/252 ,6/255 ,6/274) , والدارمي: الصلاة (1403) . 4 الترمذي: الصلاة (320) , والنسائي: الجنائز (2043) , وأبو داود: الجنائز (3236) , وابن ماجه: ما جاء في الجنائز (1575) , وأحمد (1/229 ,1/287 ,1/324 ,1/337) . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 194 ولهذا قال العلماء: لا يجوز بناء المساجد على القبور; وقالوا: إنه لا يجوز أن ينذر لقبر، ولا للمجاورين عند القبر شيئا، لا من دراهم، ولا زيت، ولا شمع، ولا حيوان، ولا غير ذلك؛ كله نذر معصية. ولم يقل أحد من أئمة المسلمين: إن الصلاة عند القبور في المشاهد مستحبة، ولا أن الدعاء هناك أفضل؛ بل اتفقوا كلهم على أن الصلاة في المساجد، وفي البيوت، أفضل من الصلاة عند قبر، لا قبر نبي ولا صالح، سواء سميت مشاهد أم لا؛ وقد شرع الله ذلك في المساجد دون المشاهد. وقال: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا} [سورة البقرة آية: 114] ، ولم يقل في المشاهد، وقال تعالى: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [سورة الأعراف آية: 29] ، وقال تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [سورة التوبة آية: 18] الآية. وذكر البخاري في صحيحه، والطبرى وغيره في تفاسيرهم، في قوله تعالى: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً} [سورة نوح آية: 23] الآية، قالوا: هذه أسماء قوم صالحين في قوم نوح، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم؛ ثم طال عليهم الأمد، فاتخذوا تماثيلهم أصناما. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 195 فالعكوف على القبور، والتمسح بها وتقبيلها، والدعاء عندها، هو أصل الشرك وعبادة الأوثان; ولهذا اتفق العلماء على أن من زار قبر النبي صلى الله عليه وسلم أو قبر غيره من الأنبياء والصالحين، فإنه لا يتمسح به ولا يقبله. وليس في الدنيا ما شرع تقبيله إلا الحجر الأسود؛ وقد ثبت في الصحيحين: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: "والله إني لأعلم إنك حجر، لا تضر ولا تنفع؛ ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك" ولهذا: لا يسن أن يقبل الرجل ويستلم ركني البيت اللذين يليان الحجر، ولا جدران البيت، ولا مقام إبراهيم، ولا صخرة بيت المقدس، ولا قبر أحد من الأنبياء والصالحين، انتهى. وقال رحمه الله في "الرد على ابن البكري" بعد كلام له سبق: لكن من هو الذي جعل الاستغاثة بالمخلوق ودعاءه سببا في الأمور التي لا يقدر عليها إلا الله؟ ومن الذي قال: إنك إذا استغثت بميت أو غائب من البشر، سواء كان نبيا أو غير نبي، كان ذلك سببا في حصول الرزق والنصر والهدى، وغير ذلك مما لا يقدر عليه إلا الله؟ ومن الذي شرع ذلك وأمر به؟ ومن الذي يفعل ذلك من الأنبياء والصحابة والتابعين لهم بإحسان؟ فإن هذا المقام يحتاج إلى مقدمتين: إحداهما: أن هذه أسباب لحصول الجزء: 11 ¦ الصفحة: 196 المطالب التي لا يقدر عليها إلا الله; والثانية: أن هذه الأسباب مشروعة لا يحرم فعلها; فإنه ليس كل ما كان سببا كونيا يجوز تعاطيه، إلى أن قال: وهذا المقام مما يظهر به ضلال هؤلاء المشركين، خلقا وأمرا؛ فإنهم مطالبون بالأدلة الشرعية، على أن الله شرع لخلقه أن يسألوا ميتا أو غائبا، وأن يستغيثوا به، سواء كان ذلك عند قبره، أو لم يكن عند قبره. بل نقول: سؤال الميت والغائب، نبيا كان أو غير نبي، من المحرمات المنكرة، باتفاق أئمة المسلمين؛ لم يأمر الله به ولا رسوله، ولا فعله أحد من الصحابة، ولا التابعين لهم بإحسان، ولا استحبه أحد من أئمة المسلمين؛ وهذا مما يعلم بالاضطرار من دين المسلمين. فإن أحدا منهم ما كان يقول إذا نزلت به شدة، أو عرضت له حاجة لميت: يا سيدي فلان أنا في حسبك، أو اقض حاجتي، كما يقول بعض هؤلاء المشركين لمن يدعونهم من الموتى والغائبين، ولا أحد من الصحابة استغاث بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد موته، ولا بغيره من الأنبياء، لا عند قبورهم، ولا إذا بعدوا عنها; بل ولا أقسم بمخلوق على الله أصلا، ولا كانوا يقصدون الدعاء عند قبور الأنبياء، ولا قبور غير الأنبياء، ولا الصلاة عندها. وقد كره العلماء - كمالك وغيره - أن يقوم الرجل الجزء: 11 ¦ الصفحة: 197 عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم يدعو لنفسه; وذكروا أن هذا من البدع التي لم يفعلها السلف. وأما ما يروى عن بعضهم، أنه قال: قبر "معروف" الترياق المجرب; وقول بعضهم: فلان يدعى عند قبره; وقول بعض الشيوخ: إذا كانت لك حاجة فاستغث بي; أو قال: استغث عند قبري، ونحو ذلك، فإن هذا قد وقع فيه كثير من المتأخرين وأتباعهم؛ ولكن هذه الأمور كلها بدع محدثة في الإسلام، بعد القرون المفضلة. وكذلك المساجد المبنية على القبور، التي تسمى "المشاهد" محدثة في الإسلام، والسفر إليها محدث في الإسلام؛ لم يكن شيء من ذلك في القرون الثلاثة المفضلة؛ بل ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " 1 يحذر ما فعلوا، قالت عائشة: ولولا ذلك لأبرز قبره، ولكن كره أن يتخذ مسجدا. وثبت في الصحيح عنه، أنه قال قبل أن يموت بخمس: " إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد؛ فإني أنهاكم عن ذلك " 2. وقد تقدم أن عمر لما أجدبوا: استسقى بالعباس، فقال: "اللهم إنا كنا إذا أجدبنا، نتوسل إليك بنبينا   1 البخاري: الجنائز (1330) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (531) , والنسائي: المساجد (703) , وأحمد (1/218 ,6/34 ,6/80 ,6/121 ,6/252 ,6/255 ,6/274) , والدارمي: الصلاة (1403) . 2 مسلم: المساجد ومواضع الصلاة (532) . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 198 فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا؛ فاسقنا؛ فيسقون"، فلم يذهبوا إلى القبر، ولا توسلوا بميت ولا غائب، بل توسلوا بالعباس؛ وكان توسلهم به توسلا بدعائه، كالإمام مع المأموم؛ وهذا تعذر بموته. فأما قول القائل عند ميت من الأنبياء والصالحين: اللهم إني أسألك بفلان، أو بجاه فلان، أو بحرمة فلان، فهذا لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عن الصحابة ولا التابعين; وقد نص غير واحد من العلماء أنه لا يجوز، فكيف بقول القائل للميت: أنا أستغيث بك، أو أستجير بك، أو أنا في حسبك، أو سل الله لي، ونحو ذلك. فتبين أن هذا ليس من الأسباب المشروعة، لو قدر أن له تأثيرا؛ فكيف إذا لم يكن له تأثير صالح؟ وذلك: أن من الناس الذين يستغيثون بغائب أو ميت، من تتمثل له الشياطين، وربما كانت على صورة ذلك الغائب، وربما كلمته، وربما قضت له أحيانا بعض حوائجه، كما تفعل شياطين الأصنام. فإن أحدا من الأنبياء والصالحين لم يعبد في حياته إذ هو ينهى عن ذلك؛ وأما بعد الموت فهو لا يقدر أن ينهى، فيفضي ذلك إلى اتخاذ قبره وثنا يعبد؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم " لا تتخذوا قبري عيدا " 1، وقال: " اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد " 2.   1 أبو داود: المناسك (2042) , وأحمد (2/367) . 2 أحمد (2/246) . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 199 وقال غير واحد من السلف، في قوله تعالى: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ} [سورة نوح آية: 23] الآية: إن هؤلاء كانوا قوما صالحين في قوم نوح، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوروا تماثيلهم، ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم; ولهذا المعنى لعن النبي صلى الله عليه وسلم الذين اتخذوا قبور الأنبياء والصالحين مساجد، انتهى ملخصا. وأخرج ابن أبي شيبة، عن ابن الزبير: أنه رأى قوما يمسحون المقام; فقال: لم تؤمروا بهذا، إنما أمرتم بالصلاة عنده. وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر عن قتادة، في قول الله تعالى: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً} [سورة البقرة آية: 125] قال: إنما أمروا أن يصلوا عنده، ولم يؤمروا بمسحه؛ ولقد تكلفت هذه الأمة شيئا ما تكلفته الأمم قبلهم. فإن كان المعترض يستدل بكلام شيخ الإسلام، فهذا صريح كلامه، المؤيد بالأدلة والبراهين. وكلام العلماء كمثل كلام الشيخ في هذا كثير جدا؛ لو ذكرناه لطال الجواب. [ادعاء مدح الصرصري والرد عليه] وأما قول المعترض: بل مدح الصرصري وأثنى عليه، بقوله: قال الفقيه الصالح، يحيى بن يوسف الصرصري، في نظمه المشهور، فالجواب: أن هذا من جملة أكاذيب المعترض على شيخ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 200 الإسلام وغيره، وقد كذب على "الإقناع" و"الشفاء"، وليس في الكتابين إلا ما يبطل قوله، وفي الحديث: " إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت "؛ وإلا فكلام الشيخ في رد ما يقوله الصرصري وإنكاره، موجود بحمد الله. قال رحمه الله في رده على ابن البكري، بعد وجهين ذكرهما، الثالث: أنه أدرج سؤاله أيضا في الاستغاثة به، وهذا جائز في حياته، لكنه أخطأ في التسوية بين المحيا والممات، وهذا ما علمته ينقل عن أحد من العلماء، ولكنه موجود في كلام بعض الناس، مثل الشيخ يحيى الصرصري، ففي شعره قطعة، وكمحمد بن النعمان. وهؤلاء لهم دين وصلاح، لكنهم ليسوا من أهل العلم العالمين بمدارك الأحكام، الذين يؤخذ بقولهم في شرائع الإسلام، وليس معهم دليل شرعي، ولا نقل عن عالم مرضي؛ بل عادة جروا عليها، كما جرت عادة كثير من الناس بأنه يستغيث بشيخه في الشدائد ويدعوه؛ وأكثر منه من يأتي إلى قبر الشيخ يدعوه، ويدعو به ويدعو عنده. وهؤلاء ليس لهم مستند شرعي من كتاب أو سنة، أو قول عن الصحابة والأئمة، وليس عندهم إلا قول طائفة أخرى: قبر معروف، ترياق مجرب، والدعاء عند قبر الشيخ مجاب، ونحو ذلك، ومعهم: أن طائفة استغاثوا بحي أو الجزء: 11 ¦ الصفحة: 201 ميت، فرأوه قد أتى في الهواء، وقضى بعض تلك الحوائج؛ وهذا كثير واقع في المشركين، الذين يدعون الملائكة، والأنبياء، والصالحين، أو الكواكب والأوثان. فإن الشياطين كثيرا ما تتمثل لهم فيرونها، وقد تخاطب أحدهم ولا يراها؛ ولو ذكرت ما أعلم من الوقائع الموجودة في زماننا لطال المقال؛ وكلما كان القوم أعظم جهلا وضلالا، كانت هذه الأحوال الشيطانية عندهم أكثر. وقد يأتي الشيطان أحدهم بمال أو طعام، أو لباس أو غير ذلك، وهو لا يرى أحدا أتاه به، فيحسب ذلك كرامة، وإنما هو من الشيطان؛ وسببه شركه بالله، وخروجه عن طاعة الله ورسوله، إلى طاعة الشيطان؛ فأضلتهم الشياطين بذلك، كما كانت تضل عباد الأصنام، انتهى ما ذكره شيخ الإسلام رحمه الله، من إنكاره ما في شعر الصرصري وغيره، من هذه الأمور الشركية، وبيان أسبابها. وأما قول المعترض: وفيه توسل عظيم، إن لم يؤد على قول صاحب البردة لم ينقص عنه، فالجواب: أن هذا من عدم بصيرته، وكبير جهله، فإن من له أدنى معرفة وفهم، يعلم أن بين قول صاحب البردة، وقول الصرصري في أبياته، تفاوتا بعيدا؛ فقد نبهنا على ما يقتضيه كلام صاحب البردة، من قصر الإلهية والربوبية الجزء: 11 ¦ الصفحة: 202 والملك، وشمول العلم، على عبد شرفه الله بعبوديته ورسالته، ودعوة الخلق إلى عبادته وحده، وجهاد الناس على ذلك، وبلغ الأمة ما أنزل الله تعالى عليه، في الآيات المحكمات، من تجريد التوحيد، والنهي عن الشرك ووسائله، كما قدمنا الإشارة إليه. وأما الصرصري، ففي كلامه: التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم والاستغاثة به، بلا قصر ولا حصر للاستعانة والاستغاثة في جانب المخلوق؛ وقد أنكره شيخ الإسلام رحمه الله، وذكر أنه لا دليل من كتاب ولا سنة عليه، ولا قال به أحد من الصحابة والتابعين والأئمة. وقد بين رحمه الله أن استغاثة الحي بالحي، إنما هي بدعائه وشفاعته، وأما الميت والغائب، فلا يجوز أن يستغاث به، وكذلك الحي فيما لا يقدر عليه إلا الله، وأن أهل الإشراك ليس معهم إلا الجهل والهوى، وعوائد نشؤوا عليها بلا برهان. وقد عرفت أن هذا المعترض لم يأت إلا بشبهات واهية، وحكايات سوفسطائية، أو منامات تضليلية، كما قال كعب بن زهير: فلا يغرنك ما منت وما وعدت إن الأماني والأحلام تضليل وليس مع هؤلاء المشركين إلا دعوى مجردة محشوة بالأكاذيب، وليس معهم- بحمد الله- دليل من كتاب أو الجزء: 11 ¦ الصفحة: 203 سنة، أو قول أحد من سلف الأمة وأئمتها؛ وقد جئناهم بأدلة الكتاب والسنة، وما عليه الصحابة والأئمة، ولو استقصينا ذكر الأدلة، وبسطنا القول، لاحتمل مجلدا ضخما. وسبب الفتنة بقصائد هؤلاء المتأخرين، كقصائد البوصيري، والبرعي واختيارها على قصائد شعراء الصحابة كحسان بن ثابت، وكعب بن مالك، وكعب بن زهير، وغيرهم من شعراء الصحابة رضي الله عنهم، وفيها من شواهد اللغة والبلاغة، ما لم يدرك هؤلاء المتأخرون منه عشر المعشار، وما ذلك إلا لأن قصائد هؤلاء المتأخرين، تجاوزوا فيها الحد إلى ما يكرهه الله ورسوله، فزينها الشيطان في نفوس الجهال، والضلال، فمالت إليها نفوسهم عن قصائد الصحابة التي ليس فيها إلا الحق والصدق، وما قصروا فيها جهدهم عما يصلح أن يمدح به رسول الله صلى الله عليه وسلم وتحروا ما يرضيه، وتجنبوا ما يسخطه صلى الله عليه وسلم وما نهى عنه من الغلو. فما أشبه هؤلاء بقول أبي الوفاء بن عقيل- وهو في القرن الخامس-: لما صعبت التكاليف على الجهال والطغام، عدلوا عن أوضاع الشرع إلى أوضاع وضعوها لأنفسهم، فسهلت عليهم؛ إذ لم يدخلوا بها تحت أمر غيرهم. قال: وهم عندي كفار بهذه الأوضاع ... إلى آخره. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 204 ومما يتعين أن نحسم به هذا الجواب: "فصل" ذكره العلامة ابن القيم رحمه الله، ونفعنا بعلومه، قال بعد أن ذكر زيارة الموحدين للقبور، وأن مقصودها ثلاثة أشياء: أحدها: تذكير الآخرة، والاعتبار والاتعاظ. الثاني: الإحسان إلى الميت وأن لا يطول عهده به فيتناساه؛ فإذا زاره وأهدى إليه هدية، من دعاء أو صدقة، ازداد بذلك سروره وفرحه. ولهذا شرع النبي صلى الله عليه وسلم للزائر أن يدعو لأهل القبور، بالمغفرة والرحمة، وسؤال العافية فقط، ولم يشرع أن يدعوهم، ولا يدعو بهم، ولا يصلي عندهم. الثالث: إحسان الزائر إلى نفسه باتباع السنة، والوقوف عند ما شرعه الرسول صلى الله عليه وسلم. وأما الزيارة الشركية، فأصلها مأخوذ من عباد الأصنام، قالوا: الميت المعظم الذي لروحه قرب ومزية عند الله، لا يزال تأتيه الألطاف من الله، وتفيض على روحه الخيرات؛ فإذا علق الزائر روحه به وأدناها منه، فاض من روح المزور على روح الزائر من تلك الألطاف بواسطتها، كما ينعكس الشعاع من المرآة الصافية، والماء على الجسم المقابل له. قالوا: فتمام الزيارة، أن يتوجه الزائر بروحه وقلبه الجزء: 11 ¦ الصفحة: 205 إلى الميت، ويعكف بهمته عليه، ويوجه قصده كله وإقباله عليه، بحيث لا يبقى فيه التفات إلى غيره؛ وكلما كان جمع القلب والهمة عليه أعظم، كان أقرب إلى الانتفاع به. وقد ذكر هذه الزيارة ابن سينا والفارابي وغيرهما، وصرح بها عباد الكواكب في عبادتها؛ وهذا بعينه هو الذي أوجب لعباد القبور اتخاذها أعيادا، وتعليق الستور عليها وإيقاد السرج، وبناء المساجد عليها. وهو الذي قصد رسول الله صلى الله عليه وسلم إبطاله ومحوه بالكلية، وسد الذرائع المفضية إليه؛ فوقف المشركون في طريقه، وناقضوه في قصده؛ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في شق، وهؤلاء في شق. وهذا الذي ذكره هؤلاء في زيارة القبور، والشفاعة التي ظنوا أن آلهتهم تنفعهم بها، وتشفع لهم عند الله، قالوا: فإن العبد إذا تعلق روحه بروح الوجيه المقرب عند الله، وتوجه بهمته إليه، وعكف بقلبه عليه، صار بينه وبينه اتصال يفيض عليه نصيب مما يحصل له من الله. وشبهوا ذلك بمن يخدم ذا جاه وحضرة، وقرب من السلطان، وهو شديد التعلق به؛ فما يحصل لذلك من السلطان من الإنعام والإفضال، ينال ذلك المتعلق به بحسب تعلقه به؛ فهذا سر عبادة الأصنام، وهو الذي الجزء: 11 ¦ الصفحة: 206 بعث الله رسله، وأنزل كتبه بإبطاله، وتكفير أصحابه ولعنهم، وأباح دماءهم وأموالهم، وسبى ذراريهم، وأوجب لهم النار. والقرآن من أوله إلى آخره: مملوء من الرد على أهله، وإبطال مذهبهم، قال الله تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [سورة الزمر آية: 43-44] ، فأخبر أن الشفاعة لمن له ملك السماوات والأرض، وهو الله وحده، وهو الذي يشفع بنفسه إلى نفسه ليرحم عبده، فيأذن هو لمن يشاء أن يشفع فيه؛ فصارت الشفاعة في الحقيقة إنما هي له، والذي يشفع عنده إنما يشفع بإذنه وأمره، بعد شفاعته سبحانه إلى نفسه، وهي إرادته من نفسه أن يرحم عبده. وهذا ضد الشفاعة الشركية التي أثبتها هؤلاء المشركون ومن وافقهم؛ وهي التي أبطلها الله سبحانه وتعالى، بقوله: {وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ} [سورة البقرة آية: 123] ، وقوله: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ} [سورة البقرة آية: 254] ، وقال: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 207 أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ} [سورة الأنعام آية: 51] . وأخبر سبحانه أنه ليس للعباد شفيع من دونه؛ بل إذا أراد سبحانه رحمة بعبده أذن هو لمن يشفع فيه، كما قال تعالى: {مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِه} [سورة يونس آية: 3] ، وقال: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [سورة البقرة آية: 255] . فالشفاعة بإذنه، ليست شفاعة من دونه، ولا الشافع شفيع من دونه، بل يشفع بإذنه; والفرق بين الشفيعين كالفرق بين الشريك، والعبد المأمور. فالشفاعة التي أبطلها: شفاعة الشريك؛ فإنه لا شريك له، والتي أثبتها: شفاعة العبد المأمور الذي يشفع، ولا يتقدم بين يدي مالكه حتى يأذن له، ويقول: اشفع في فلان؛ ولهذا كان أسعد الناس بشفاعة سيد الشفعاء يوم القيامة: أهل التوحيد الذين جردوا التوحيد، وخلصوه من تعلقات الشرك وشوائبه؛ وهم الذين ارتضى الله سبحانه. قال تعالى: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [سورة الأنبياء آية: 28] ، وقال تعالى: {يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً} [سورة طه آية: 109] ، فأخبر: أنه لا تحصل يومئذ شفاعة تنفع، إلا بعد رضى قول المشفوع الجزء: 11 ¦ الصفحة: 208 له، وإذنه للشافع؛ فأما المشرك فإنه لا يرضاه، ولا يرضى قوله؛ فلا يأذن للشفعاء أن يشفعوا فيه؛ فإنه سبحانه علقها بأمرين: رضاه عن المشفوع له، وإذنه للشافع؛ فمتى لم يوجد مجموع الأمرين لم توجد الشفاعة. وسر ذلك: أن الأمر كله لله وحده، فليس لأحد معه من الأمر شيء; وأعلى الخلق وأفضلهم وأكرمهم عنده، هم الرسل والملائكة المقربون، وهم عبيد محض، لا يسبقونه بالقول ولا يتقدمون بين يديه، ولا يفعلون شيئا إلا من بعد إذنه لهم، ولا سيما يوم لا تملك نفس لنفس شيئا، فهم مملوكون مربوبون، أفعالهم مقيدة بأمره وإذنه. فإذا أشركهم به المشرك، واتخذهم شفعاء من دونه، ظنا منه أنه إذا فعل ذلك تقدموا وشفعوا له عند الله، فهو من أجهل الناس بحق الرب سبحانه، وما يجب له وما يمتنع عليه؛ فإن هذا محال ممتنع، يشبه قياس الرب سبحانه على الملوك والكبراء؛ حيث يتخذ الرجل من خواصهم وأوليائهم، من يشفع له عندهم في الحوائج. وبهذا القياس الفاسد عبدت الأصنام، واتخذ المشركون من دون الله الشفيع والولي؛ والفرق بينهما هو الفرق بين الخالق والمخلوق، والرب والمربوب، والسيد والعبد، والمالك والمملوك، والغني والفقير، والذي لا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 209 حاجة به إلى أحد قط، والمحتاج من كل وجه إلى غيره. فالشفعاء عند المخلوقين هم شركاؤهم، فإن قيام مصالحهم بهم، وهم أعوانهم وأنصارهم، الذين قيام الملوك والكبراء بهم، ولولاهم لما انبسطت أيديهم وألسنتهم في الناس، فلحاجتهم إليهم يحتاجون إلى قبول شفاعتهم، وإن لم يأذنوا فيها ولم يرضوا عن الشافع، لأنهم يخافون أن يردوا شفاعتهم فتنقص طاعتهم لهم، ويذهبون إلى غيرهم، فلا يجدون بدا من قبول شفاعتهم على الكره والرضى. فأما الذي غناه من لوازم ذاته، وكل ما سواه فقير إليه لذاته، وكل من في السماوات والأرض عبيد له، مقهورون لقهره، مصروفون بمشيئته؛ لو أهلكهم جميعا لم ينقص من عزه، وسلطانه وملكه، وربوبيته وإلهيته مثقال ذرة، قال تعالى {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [سورة المائدة آية: 17] وقال في سيدة آي القرآن، آية الكرسي: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [سورة البقرة آية: 255] ، وقال: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [سورة الزمر آية: 44] ؛ فأخبر أن ملكه السماوات والأرض يوجب أن تكون الجزء: 11 ¦ الصفحة: 210 الشفاعة كلها له وحده، وأن أحدا لا يشفع عنده إلا بإذنه؛ فإنه ليس بشريك بل مملوك محض، بخلاف شفاعة أهل الدنيا بعضهم عند بعض. فتبين أن الشفاعة التي نفاها الله سبحانه في القرآن، هي هذه الشفاعة الشركية، التي يفعلها بعضهم مع بعض؛ ولهذا يطلق نفيها تارة، بناء على أنها هي المعروفة عند الناس، ويقيدها تارة، بأنها لا تنفع إلا بإذنه. وهذه الشفاعة في الحقيقة هي منه؛ فإنه هو الذي قبل والذي أذن، والذي رضي عن المشفوع، والذي وفقه لفعل ما يستحق به الشفاعة. وقوله: فمتخذ الشفيع لا تنفعه شفاعته، ولا يشفع فيه، ومتخذ الرب وحده إلهه ومعبوده، ومحبوبه ومرجوه، ومخوفه الذي يتقرب إليه وحده، ويطلب رضاه ويتباعد من سخطه، هو الذي يأذن الله سبحانه للشفيع ليشفع له. قال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [سورة يونس آية: 18] ؛ فبين سبحانه أن متخذي الشفعاء مشركون، وأن الشفاعة لا تحصل باتخاذهم. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 211 وسر الفرق بين الشفاعتين: أن شفاعة المخلوق للمخلوق، وسواه للمشفوع عنده، لا يفتقر فيها إلى المشفوع عنده، لا خلقا ولا أمرا ولا إذنا؛ بل هو سبب محرك له من خارج، كسائر الأسباب. وهذا السبب المحرك، قد يكون عند المحرك لأجله ما يوافقه، كمن يشفع عنده أمر يحبه ويرضاه، وقد يكون عنده ما يخالفه، كمن يشفع إليه في أمر يكرهه. ثم قد يكون سؤاله وشفاعته أقوى من المعارض، فيقبل شفاعة الشافع، وقد يكون المعارض الذي عنده أقوى من شفاعة الشافع فيردها، وقد يتعارض عنده الأمران، فيبقى مترددا بين ذلك المعارض الذي يوجب الرد، وبين الشفاعة التي تقتضي القبول، فيتوقف إلى أن يترجح عنده أحد الأمرين بمرجح. وهذا بخلاف الشفاعة عند الرب سبحانه؛ فإنه ما لم يخلق شفاعة الشافع، ويأذن له فيها ويحبها منه، ويرضى عن الشافع، لم يمكن أن توجد. والشافع لا يشفع عنده بمجرد امتثال أمره وطاعته له، فهو مأمور بالشفاعة مطيع بامتثال الأمر؛ فإن أحدا من الأنبياء والملائكة، وجميع المخلوقات، لا يتحرك بشفاعة، ولا غيرها إلا بمشيئة الله وخلقه. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 212 فالرب تعالى هو الذي يحرك الشفيع حتى يشفع، والشفيع عند المخلوق هو الذي يحرك المشفوع إليه حتى يقبل. والشافع عند المخلوق مستغن عنه في أكثر أموره، وهو في الحقيقة شريكه، ولو كان مملوكه وعبده؛ فالمشفوع عنده محتاج إليه فيما يناله من النفع والضر، والمعاونة، وغير ذلك، كما أن الشافع محتاج إليه فيما يناله من رزق أو نصر أو غيره؛ فكل منهما محتاج إلى الآخر. ومن وفقه الله لفهم هذا الموضوع، تبين له حقيقة التوحيد والشرك، والفرق بين ما أثبت الله من الشفاعة، وما نفاه وأبطله، {ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور} ، ومن له خبرة بما بعث الله به رسوله، وبما عليه أهل الشرك والبدع اليوم، علم أن بين السلف وبين هؤلاء الخلوف من البعد، أبعد مما بين المشرق والمغرب، وأنهم على شيء والسلف على شيء، كما قيل: سارت مشرقة وسرت مغربا ... شتان بين مشرق ومغرب والأمر- والله- أعظم مما ذكرنا. انتهى، وبه كمل الجواب، والحمد لله الذي هدانا لدينه، الذي رضيه لعباده، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، وصلى الله وسلم على محمد النبي الأمي، وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 213 [ما قاله الشيخ عبد الرحمن بن حسن في بردة البوصيري] وقال أيضا الشيخ: عبد الرحمن بن حسن، رحمه الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده. اعلم: أن البردة التي تنسب للبوصيري، قد ضمنها أبياتا شركية، تنافي ما بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم من توحيده. وقد افتتن بها كثير من الناس، وجعلوها أفضل من الأوراد النبوية التي شرعها رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعضهم اشتغل بها عن القرآن. ومن المعلوم عند أهل السنة والجماعة: أن أبيات حسان بن ثابت، وكعب بن مالك، وكعب بن زهير وأمثالهم، أفضل منها لوجوه: منها: أنه على الوجه العربي. ومنها: أن اللغة سليقتهم. ومنها: أنه ليس فيها من الإطراء- الذي نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم - شيء. ومنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم سمعها واستحسنها، وهم صحابته. وهؤلاء عدلوا عنها إلى شعر المولدين، الذين جمعوا فيه الغث والسمين، وتصرفوا في الدين بآرائهم التي لم ينزل الله بها سلطانا. وقد قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم {قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ} [سورة الجن آية: 21-22] ، وقال: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلَّا مَا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 214 شَاءَ اللَّهُ} [سورة الأعراف آية: 188] . وقال تعالى: {أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لا أَشْهَدُ} [سورة الأنعام آية: 19] الآية، وقال: {وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً} [سورة آل عمران آية: 80] الآية. فهذا ما أمر الله نبيه أن يبلغه الأمة ليؤمنوا به، ويعرفوا لربهم حقه من إخلاص العبادة له وحده؛ وتبرأ من شرك المشركين في هذه الآيات، ونحوها فأبى الظالمون إلا كفورا. ولما نزل عليه صلى الله عليه وسلم: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [سورة الشعراء آية: 214] ، "صعد الصفا، وقال: " يا معشر قريش "، أو كلمة نحوها، " اشتروا أنفسكم. لا أغني عنكم من الله شيئا، يا صفية عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا أغني عنك من الله شيئا. ويا فاطمة بنت محمد، سليني من مالي ما شئت، لا أغني عنك من الله شيئا "" 1. فأخبر صلى الله عليه وسلم أنه لا ينجي المرء من عذاب الله، إلا الإيمان بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من توحيده، وطاعته، وترك ما نهاهم عنه من الشرك بالله، في الأقوال، والأعمال الباطنة والظاهرة. والقرآن كله يدل على ذلك، قال تعالى: {ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا} [سورة غافر آية: 12] الآية؛ فقصر الدعاء على نفسه، كسائر أنواع   1 البخاري: الوصايا (2753) , ومسلم: الإيمان (204 ,206) , والنسائي: الوصايا (3644 ,3646 ,3647) , وأحمد (2/333 ,2/360 ,2/519) , والدارمي: الرقاق (2732) . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 215 العبادة، بقوله: (وحده) ومن لم يقصره عليه فهو مشرك، كما في هذه الآية ونظائرها، كقوله تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} [سورة الجن آية: 18] ، وقوله: {قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ} [سورة الأنعام آية: 71] الآية. والقرآن كله يقرر التوحيد، وينهى عن الغلو والشرك، وكذلك السنة؛ وقد أنكر الله على المشركين اتخاذ الشفعاء والوسائط، في طلب ما ينفع وما يدفع. إذا عرفت ذلك، فإن هذه المنظومة حصل فيها أبيات، كثيرها مما اختلقه المتأخرون، من الوقوع فيما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغلو والشرك، لجهلهم بمعنى الله، ومعنى لا إله إلا الله، فلم يعرفوا الإله الذي نهوا عن عبادته، ولا عرفوا العبادة التي من قصد بها صار إلها. فالجهل بالتوحيد، أوقعهم فيما وقعوا فيه، من هذا الشرك العظيم، فلذلك قبلوه، واستحسنوه، نعوذ بالله من زيغ القلوب؛ فلم يعرفوا من التوحيد، إلا ما أقر به المشركون من قريش، وأهل الجاهلية وغيرهم، من أن الله رب كل شيء، ومليكه وخالقه. ولم يعرفوا أنه المعبود الذي لا تصلح العبادة إلا له، ولا عرفوا الشرك الذي هو تنْزيل المخلوق منْزله الخالق فيما يختص به، أو يجعله شريكا في خصائص الإلهية، التي الجزء: 11 ¦ الصفحة: 216 هي أبين شيء في القرآن وأوضحه. فعمت البلوى بهذا الشرك، وأطلقوا عنان الغلو في الأموات والغائبين، وأنزلوهم منْزلة رب العالمين في الرغبات والرهبات والدعوات، التي لا يصلح منها شيء لغير الله. فمما وقع فيه هؤلاء من الغلو والشرك العظيم، ما ذكره صاحب هذه المنظومة، بقوله: يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به سواك عند حلول الحادث العمم فعظم النبي صلى الله عليه وسلم بما يسخطه ويحزنه؛ فقد اشتد نكيره صلى الله عليه وسلم عما هو دون ذلك، كما لا يخفى على من له بصيرة في دينه؛ فقصر هذا الشاعر لياذه على المخلوق دون الخالق، الذي لا يستحقه سواه؛ فإن اللياذ عبادة كالعياذ. وقد ذكر الله عن مؤمني الجن أنهم أنكروا استعاذة الإنس بهم، بقوله: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْأِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً} [سورة الجن آية: 6] أي: طغيانا. واللياذ يكون لطلب الخير، والعياذ لدفع الشر؛ فهما سواء في الطلب والهرب، كما قال العلامة ابن القيم: وبك المعاذ ولا ملاذ سواك أنـ ت غياث كل ملدد لهفان وقد ذكر هذا المعنى ابن كثير في تفسيره، وابن جرير وغيرهما ; فهذا الشاعر أتى بما ينافي الآيات المحكمات، الجزء: 11 ¦ الصفحة: 217 وبالغ في الغلو، وارتكب ما اشتد نهي النبي صلى الله عليه وسلم عنه في أحاديث كثيرة؛ لكن لما اشتدت غربة الإسلام، وقع من الغلو أضعاف ما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، في رده على ابن البكري: أنه لما قدم مصر، وجد بها ممن غلا في رسول الله صلى الله عليه وسلم وارتكب ما نهى عنه أمته من الغلو، ومن جملة من ذكر منهم: صاحب البردة، ذكر له أبياتا: وهذا كلام شيخ الإسلام في تعظيم ما قاله من الغلو، فقال: ومن هؤلاء من يقول أسقط الربوبية، وقل في الرسول ما شئت، ويقول: دع ما ادعته النصارى في نبيهم ... واحكم بما شئت مدحا فيه واحتكم فإن فضل رسول الله ليس له ... حد فيعرب عنه ناطق بفم وانسب إلى ذاته ما شئت من شرف ... وانسب إلى قدره ما شئت من عظم لو ناسبت قدره آياته عظما ... أحيا اسمه حين يدعى دارس الرمم ومنهم من يقول: نحن نعبد الله ورسوله، فيجعلون الرسول معبودا، ومنهم من يأتي إلى قبر الميت، الرجل أو المرأة الذي يحسن به الظن، فيقول اغفر لي وارحمني، ولا توقفني على زلة، ونحو هذا الكلام. وأمثال هذه الأمور التي يتخذ منها المخلوق إلها، وهذا وأمثاله وقع ونحن بمصر، انتهى. فهذا ما ذكره شيخ الإسلام، عن صاحب هذه الجزء: 11 ¦ الصفحة: 218 المنظومة وغيره، من الغلو العظيم. ومن المعلوم: أن أنواع الغلو كثيرة، والشرك بحر لا ساحل له، ولا ينحصر في قول النصارى، لأن الأمم أشركوا قبلهم بعبادة الأوثان، وأهل الجاهلية كذلك. وليس فيهم من قال في إلهه ما قالت النصارى في المسيح غالبا: إنه الله، أو ابن الله، أو ثالث ثلاثة؛ بل كلهم معترفون أن آلهتهم ملك لله، لكن عبدوها معه، لاعتقاد أنها تشفع لهم أو تنفعهم. فيحتج الجهلة المفتونون بهذه الأبيات، هو أن قوله - في منظومته- دع ما ادعته النصارى في نبيهم، مخلص من الغلو بهذا البيت؛ وهو قد فتح ببيته هذا باب الغلو والشرك، لاعتقاده بجهله أن الغلو مقصور على هذه الأقوال الثلاثة، وأن من لم يقل في النبي واحدا منها، فإنه قد وفاه حقه بكل قول يقوله بلا حد. وقد عرفت أن أنواع الغلو الذي فعله المشركون مع معبوديهم لا تنحصر؛ فإذا أنزل المخلوق منْزلة الخالق في شيء من خصائص الإلهية، فقد غلا فيه وأشرك. وكان أهل الجاهلية يقولون في تلبيتهم: لبيك لا شريك لك، إلا شريك هو لك، تملكه وما هلك. وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله ذكر هذه العبارة عنه، لبيان أنه أفرط في الغلو غاية الإفراط، وهو كذلك، الجزء: 11 ¦ الصفحة: 219 وبلغ فيه حدا لا نهاية له، تشنيعا منه رحمه الله على جنس المشركين في زمانه؛ وقيل يبين ذلك الأبيات بعد هذا البيت. فتأمل ما فيها من المجازفة العظيمة التي لا يحبها الله ولا رسوله؛ بل أنكر على من مدحه بما هو أقل من هذا بمراتب، ولما قال له رجل: أنت سيدنا وابن سيدنا، وخيرنا وابن خيرنا، قال: " قولوا بقولكم أو بعض قولكم، ولا يستجرينكم الشيطان، ما أحب أن ترفعوني فوق منْزلتي التي أنزلني الله عز وجل " صلاة الله وسلامه عليه، فقد جرد خصائص الربوبية لربه تعالى، التي لا يستحقها سواه. والقرآن من أوله إلى آخره، يبين أن الشرك تشبيه المخلوق بالخالق في العبادة، على أي وجه كان، كما قال تعالى عن المشركين: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [سورة الشعراء آية: 97-98] ، وقال تعالى: {وَقَالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} [سورة النحل آية: 51] ؛ فقصر الرهبة عليه، كما قصر الرغبة في قوله تعالى: {وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً} [سورة الأنبياء آية: 90] ، وقوله: {وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [سورة الشرح آية: 8] ؛ وكل ما أدى إلى صرف العبادة لغير الله، فهو غلو كما جرى من قوم نوح، وغيرهم. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 220 [من أعظم الغلو ما قاله صاحب البردة: إن لم تكن في معادي آخذا بيدي] ومن أعظم الغلو: ما ذكره صاحب البردة، بقوله: إن لم تكن في معادي آخذا بيدي فضلا وإلا فقل يا زلة القدم فلم يقصد في طلب النجاة إلا المخلوق، دون خالقه الذي له ملك السماوات والأرض، كما قال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} [سورة النساء آية: 134] ، وقال: {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [سورة غافر آية: 15] إلى قوله: {لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [سورة يوسف آية: 39] ؛ فلم يطلب صاحب الأبيات النجاة من الذي له الملك كله، يأذن بالشفاعة لأهل التوحيد خاصة، ويمنعها ممن طلبها من غيره؛ وهذا ينافي ما بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم من توحيد الله تعالى بالعبادة، الذي اتفقت عليه دعوة الأنبياء والمرسلين، كما قال تعالى عن المسيح ابن مريم: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} [سورة المائدة آية: 117] ، وقال تعالى لنبيه: {وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [سورة الشرح آية: 8] فأمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يرغب إليه وحده، وهذا رغب إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ ومن المعلوم أن الرغبة إلى غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله، من ميت، أو غائب، وغيرهما، شرك عظيم. ومن ذلك قوله: فإن من جودك الدنيا وضرتها ... ومن علومك علم اللوح والقلم الجزء: 11 ¦ الصفحة: 221 وهذا ينافي قول الله تعالى: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى} [سورة طه آية: 6] . فإذا كانت الدنيا والآخرة من جود المخلوق، فما أبقى هذا الشاعر للخالق ما يجود به؛ بل جعلها كلها لعبده، وهي لله وحده، وقد قال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ} [سورة سبأ آية: 22] إلى قوله: {وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سورة سبأ آية: 23] ؛ فأخبر أنه صلى الله عليه وسلم لم يبق لمخلوق في ملك السماوات والأرض مثقال ذرة، ولا له شركة أصلا في هذا المقدار. وهذا الشاعر: جعل ملك السماوات والأرض لغير الله، دون الله تعالى؛ فما أبعد هذا الضلال، وما أعظم هذا المحال! ناقض الآيات المحكمات، وأتى بعكس المطلوب منها والمراد، فلم يترك لله شيئا من ملكه الذي اختص به، من أمر الدنيا والآخرة، قال تعالى: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ} [سورة فاطر آية: 13-14] الآية. وقوله: ومن علومك علم اللوح والقلم. فصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " أول ما خلق الله القلم، فقال له: اكتب، فجرى في تلك الساعة بما هو كائن الجزء: 11 ¦ الصفحة: 222 إلى يوم القيامة " قبل أن يخلق الخلق بخمسين ألف سنة، يكتب آثارهم، وأعمالهم، وأرزاقهم، وآجالهم وغير ذلك مما لا يعلمه إلا الله. وقد قال تعالى: {قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ} [سورة الأنعام آية: 50] ، {وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ} [سورة هود آية: 31] رد لقوله: فإن من جودك الدنيا وضرتها، وقوله: {وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ} [سورة الأنعام آية: 50] رد لقوله: ومن علومك علم اللوح والقلم. وقال تعالى: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [سورة النمل آية: 65] ، وقال: {وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ} [سورة الأعراف آية: 188] ، وقال: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [سورة الأنعام آية: 59] إلى قوله: {إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [سورة الأنعام آية: 59] . ومما تشهد به العقول والفطر، والآيات والأحاديث والآثار أن ذلك لا يعلمه إلا الله، قال تعالى: {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ} [سورة هود آية: 123] فهذه الآية تبطل جميع هذا الغلو المذكور في هذه الأبيات. وقال تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً الجزء: 11 ¦ الصفحة: 223 إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} [سورة الجن آية: 26-27] ؛ قال ابن عباس في الآية: فأعلم الله سبحانه وتعالى الرسل من الغيب الوحي، أظهرهم عليه، بما أوحى إليهم من غيبه، وبما يحكم الله عز وجل؛ فإنه لا يعلم ذلك غيره. وروى معمر عن قتادة {إلا من ارتضى من رسول} فإنه يظهره من الغيب على ما يشاء، فارتضاه. وقال تعالى {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ} [سورة يونس آية: 61] الآية؛ وهذا كله لله، وهو المختص به. وأخبر أنه أطلع أنبياءه ورسله على ما شاء، فيما أوحاه إليهم من الغيب، كما قال: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} [سورة البقرة آية: 255] . والقرار كله من غيبه، كما قال ابن زيد: وقد أطلع الله نبيه على كثير مما يحدث في أمته، وعلى ما يقع يوم القيامة، ليجب الإيمان به صلى الله عليه وسلم وعلى أمته، ويقرر البعث، والنشور على الأعمال والجنة والنار لوجوب العلم بذلك، وهو في القرآن أيضا. وأما الإحاطة بالغيب كله، وعلم ما كان وما يكون في الدنيا والآخرة، فلا يعلم ذلك كله إلا الله، كما دلت عليه هذه الآيات؛ وأمثالها في القرآن كثير. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 224 قال شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله، في معنى هذه الآية: يبين أنهم لا يعلمون من علمه إلا ما علمهم إياه، كما قالت الملائكة: {لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا} [سورة البقرة آية: 32] ؛ فكان في هذا النفي إثبات أنه عالم، وأن عباده لا يعلمون إلا ما علمهم إياه، فأثبت أنه الذي يعلم، لا ينالون العلم إلا منه؛ فإنه الذي خلق الإنسان من علق، وعلم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم، انتهى. وما ذكرنا يبين أن صاحب البردة أفرط في الغلو غاية الإفراط، وخرج عما يحبه الله ورسوله، إلى ما حرمه الله ورسوله، ويدل على شدة إعراض هؤلاء الغلاة عن القرآن والإيمان به، ومخالفة الآيات التي دلت على أن العبادة لا يصلح منها شيء لملك مقرب، ولا نبي مرسل، وأن الله هو الذي يتصرف في خلقه، بمشيئته، وإرادته، وحكمته وعلمه. وقد قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم في حق عمه أبي طالب، لما مات على دين أبيه عبد المطلب: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [سورة القصص آية: 56] ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " لن يدخل أحد الجنة بعمله. قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته "1.   1 البخاري: المرضى (5673) , ومسلم: صفة القيامة والجنة والنار (2816) , وأحمد (2/256 ,2/264 ,2/326 ,2/385 ,2/390 ,2/469 ,2/473 ,2/524) . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 225 ولما دعا صلى الله عليه وسلم على كفار قريش، لشدة عداوتهم له ولأصحابه، أنزل الله: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} [سورة آل عمران آية: 128] . وأهل الجاهلية أقروا له بالربوبية، وأنه المدبر لجميع الأمور، الذي يجيب المضطر إذا دعاه، وأما مشركو هذه الأمة، فجعلوا له شريكا في ربوبيته؛ تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا. وممن غلا في الدين في وقت شيخ الإسلام: القاضي السبكي، لكنه لم يبلغ ما ذكر شيخ الإسلام عن الغلاة الذين وجدهم بمصر وقد رد عليه الحافظ محمد بن عبد الهادي، في مجلد كبير، سماه "الصارم المنكي في الرد على السبكي"؛ فمن قوله المردود: أن المبالغة في تعظيمه، أي: الرسول صلى الله عليه وسلم واجبة. فأجابه الحافظ محمد بن عبد الهادي، بقوله: إن أريد بها المبالغة بحسب ما يراه كل أحد تعظيما، حتى الحج إلى قبره والسجود له والطواف به، واعتقاد أنه يعلم الغيب، وأنه يعطي ويمنع، ويملك لمن استغاث به من دون الله الضر والنفع، وأنه يقضي حوائج السائلين، ويفرج كربات المكروبين، وأنه يشفع فيمن يشاء، ويدخل الجنة من يشاء، فدعوى المبالغة في هذا التعظيم مبالغة في الشرك، الجزء: 11 ¦ الصفحة: 226 وانسلاخ من جملة الدين. قلت: ومن المعلوم أن الأخذ بعموم كلام السبكي، من الغلو الذي لا يحبه الله ولا يرضاه. وأما ما أعطى الله نبيه صلى الله عليه وسلم من الخصائص إكراما له، وزيادة في فضله، فهي كثيرة، كما قال تعالى: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً} [سورة الإسراء آية: 79] ، وهو مقام الشفاعة، كما عليه أكثر المفسرين. وأحاديث الشفاعة معروفة لا مطمع فيها لأهل الغلو، ولا أهل الإشراك ; بل هي مختصة بأهل الإخلاص من أمته صلى الله عليه وسلم، وهم في القرون المفضلة لا يحصيهم إلا الله، ومن كان على التوحيد والسنة ممن بعدهم. جعلنا الله وإخواننا المسلمين، ممن تناله شفاعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ووفقنا للإخلاص لله، وإنكار الشرك والغلو الذي نهى عنه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم؛ فهو الذي عرفنا بالله، ودعانا إلى توحيده، وأن لا نتخذ معبودا سواه، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير. قال تعالى: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [سورة غافر آية: 14] ، وقال: {هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [سورة غافر آية: 65] . وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا انفتل من صلاة الفريضة، يقول: " لا إله إلا الله وحده لا شريك الجزء: 11 ¦ الصفحة: 227 له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون ". فالإخلاص هو حق الله، الذي بعث به رسله، ودعا أمته إليه، وهو في الآيات المحكمات، أكثر من أن يحصر، طلبا وخبرا، وصلى الله على محمد، وآله وصحبه وسلم الجزء: 11 ¦ الصفحة: 228 وله أيضا رحمه الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الرحمن بن حسن، وابنه عبد اللطيف، إلى عبد الخالق الحفظي، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فقد بلغنا من نحو سنتين، اشتغالكم ببردة البوصيري، وفيها من الشرك الأكبر ما لا يخفى، من ذلك قوله: يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به سواك عند حلول الحادث العمم إلى آخر الأبيات التي فيها طلب ثواب الدار الآخرة من النبي صلى الله عليه وسلم وحده. فأما دعاء الميت والغائب فقد ذكر الله في كتابه العزيز- الذي أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم - النهي عن دعوة الأموات، والغائبين بقوله: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [سورة يونس آية: 106] الآية؛ فلم يستثن الله من هذا أحدا، والنبي صلى الله عليه وسلم هو المبلغ عن الله. وقال تعالى: {وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ} [سورة القصص آية: 88] الآية؛ فانظر إلى هذا الوعيد الشديد، المترتب على دعوة غير الله، وخاطب به نبيه صلى الله عليه وسلم ليكون أبلغ للتحذير؛ فكيف يظن بالنبي صلى الله عليه وسلم أن الله ينهاه عن ذلك الجزء: 11 ¦ الصفحة: 229 مع غيره، صلوات الله وسلامه عليه. ولما قال له رجل: " ما شاء الله وشئت، قال: أجعلتني لله ندا؟ بل ما شاء الله وحده ". ودعوة غير الله تنافي الإخلاص، الذي هو دينه الذي لا يقبل الله دينا سواه. وذكر تعالى اختصاصه بالدعاء، بقوله: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ} [سورة الرعد آية: 14] الآية، وأخبر أن دعوة الحق مختصة به؛ وما ليس بحق فهو باطل، ولا يحصل به نفع لمن فعله؛ بل هو ضرر في العاجل والآجل، لأنه ظلم في حق الله تعالى. يقرر هذا تهديده لمن دعا الأنبياء والصالحين والملائكة بقوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ} [سورة الإسراء آية: 56] الآية، نزلت في عيسى وأمه والعزير والملائكة، باتفاق أكثر المفسرين من الصحابة والتابعين والأئمة؛ فكيف يظن من له عقل أنه يرضى منه في حقه قولا وعملا، تهدد الله من فعله مع عيسى وأمه والعزير والملائكة؟. وكونه صلى الله عليه وسلم أفضل الأنبياء، لا يلزم أن يختص دونهم بأمر نهى الله عنه عباده، عموما وخصوصا; بل هو مأمور أن ينهى الناس عنه، ويتبرأ منه كما تبرأ المسيح منه في الآيات، في آخر سورة المائدة، وكما تبرأت منه الملائكة، الجزء: 11 ¦ الصفحة: 230 الآيات في آخر سورة المائدة، وكما تبرأت منه الملائكة في الآيات التي في سورة سبأ. وأما اللياذ، فهو كالعياذ سواء؛ فالعياذ لدفع الشر، واللياذ لجلب الخير. وحكى الإمام أحمد وغيره الإجماع على أنه لا يجوز العياذ إلا بالله وأسمائه وصفاته، وأما العياذ بغيره فشرك ولا فرق. وأما قوله: فإن من جودك الدنيا وضرتها. فمناقض لما اختص الله به تعالى يوم القيامة من الملك، في قوله: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [سورة غافر آية: 16] ، وفي الفاتحة: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [سورة الفاتحة آية: 4] ، وفي قوله تعالى: {يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [سورة الانفطار آية: 19] ، وغير ذلك من الآيات في هذا المعنى. وقال غير ذلك في منظومته، مما يستبشع من الشرك. ومدح النبي صلى الله عليه وسلم شعراء العرب الفصحاء، ولم يقرب منهم أحد حول هذا الحمى، الذي هو لله وحده؛ بل مدحوه بالنبوة، وما خصه الله من الفضائل، والأخلاق الحميدة، مثل حسان بن ثابت، وكعب بن مالك، وكعب بن زهير، وأمثال هؤلاء. فما تعلقت قلوبكم يا عبد الخالق، إلا بنظم للشياطين فيه حظ وافر؛ قد أنكر الله ورسوله على من قاله وفعله. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 231 وهذه الأمور كانت عند محمد الحفظي، وأبيه وأخيه، فأقلعوا عنها، وتابوا إلى الله منها، وتجنبوا الشرك، وتبرؤوا إلى الله منه ومن أهله، وجاهدوا أهله نثرا ونظما. وقد نزلت المنْزلة التي كانوا عليها في الجاهلية ثم تابوا منها، فأصغ سمعك لكتاب الله؛ فإنه يكفيك ويشفيك من كل خير، ويعصمك من كل شر. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 232 [رد الشيخ عبد الرحمن بن حسن على الكشميري] وقال أيضا الشيخ الإمام، شيخ الإسلام عبد الرحمن بن حسن، ابن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، رحمهم الله تعالى، ورضي عنهم 1. بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولا مثل ولا معين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، سيد الأولين والآخرين؛ صلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليما. اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، وألف بين قلوبهم، وأصلح ذات بينهم، وانصرهم على عدوك وعدوهم، واهدهم سبل السلام، وأخرجهم من الظلمات إلى النور، وجنبهم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، واجعلهم شاكرين لنعمتك، مثنين بها عليك؛ فاقبلها منهم، وأتمها عليهم. اللهم انصر دينك وكتابك، ورسولك، وعبادك المؤمنين. اللهم أظهر دينك - دين الهدى، ودين الحق- الذي بعثت به نبيك محمدا صلى الله عليه وسلم على الدين كله. اللهم عذب الكفار والمنافقين، الذين يصدون عن   1 أي في "الرد على عبد المحمود الكشميري". الجزء: 11 ¦ الصفحة: 233 سبيلك، ويبدلون دينك، ويعادون عبادك المؤمنين. اللهم خالف بين كلمتهم، وشتت بين قلوبهم، واجعل تدميرهم في تدبيرهم، وأدر عليهم دائرة السوء. اللهم أنزل بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين. اللهم منزل الكتاب ومجري السحاب، وهازم الأحزاب، اهزمهم وزلزلهم، وانصرنا عليهم. اللهم أعنا ولا تعن علينا، واهدنا ويسر الهدى لنا، وانصرنا على من بغى علينا. اللهم اجعلنا شاكرين ذاكرين مطاويع إليك مخبتين، أواهين منيبين. اللهم تقبل توبتنا واغسل حوبتنا، واهد قلوبنا وثبت حجتنا واسلل سخيمة صدورنا يا رب العالمين. أما بعد: فاعلموا معشر الإخوان، أن الله تعالى أرسل رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق ليخرج الناس من الظمات إلى النور، وعرفهم ما خلقوا له من إخلاص العبادة لله وحده لا شريك له، وترك عبادة ما كانوا يعبدونه من دون الله، والرغبة عن عبادة غيره، والبراءة منها، والكفر بالطاغوت وهو الشيطان، وما زينه من عبادة الأوثان. فدعا قريشا والعرب إلى أن يقولوا لا إله إلا الله، لما دلت عليه من بطلان عبادة كل ما يعبد من دون الله، وإخلاص العبادة لله وحده دون كل ما سواه؛ وهذا هو التوحيد الذي خلق الله الخلق لأجله، وأرسل الرسل لأجله، وأنزل الكتب لأجله؛ وهو أساس الإيمان والإسلام ورأسه؛ وهو الدين الجزء: 11 ¦ الصفحة: 234 الحق الذي لا يقبل الله من عبد دينا سواه. قال الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [سورة الذاريات آية: 56] أي: يوحدون، وقال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} [سورة الإسراء آية: 23] ، وهذه الآية تفسر الآية قبلها، وتبين أن المراد بالعبادة التوحيد، وأن يكون الله سبحانه وتعالى هو المعبود وحده دون كل ما سواه؛ والقرآن كله في تقرير هذا التوحيد وبيانه، وبين ذلك قوله تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [سورة يوسف آية: 40] . والرسل عليهم الصلاة والسلام افتتحوا دعوتهم لقومهم بهذا التوحيد {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [سورة المؤمنون آية: 32] . وقال تعالى: {وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [سورة العنكبوت آية: 16-17-18] . قوله: {فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ} [سورة العنكبوت آية: 18] يعني قوم نوح وعاد وثمود وأصحاب مدين، والمؤتفكات وهم قوم لوط، وقد قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 235 اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ} [سورة النحل آية: 36] . وكل رسول يدعو قومه إلى أن يخلعوا عبادة ما كانوا يعبدونه من دون الله، ويخلصوا أعمالهم كلها عن الأصنام والأوثان التي اتخذوها، وجعلوها أندادا لله بعبادتهم، كما قال تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ} [سورة يس آية: 74] ، وهذا هو معنى لا إله إلا الله، لا يشك في هذا مسلم، كما قال تعالى: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [سورة الأعراف آية: 65] . فأجابوه بقولهم: {قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ} [سورة هود آية: 53-54-55] ، وهذا هو المنفي في كلمة الإخلاص {إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ} [سورة هود آية: 54-55] ، كما قال تعالى مخبرا عن جميع رسله، أنهم قالوا لقومهم: {إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [سورة الممتحنة آية: 4] . والإيمان بالله وحده، هو البراءة مما كانوا يعبدونه من الأصنام والأوثان، وإخلاص العبادة لله وحده؛ لا يرتاب في هذا مسلم. فمن شك في أن هذا هو معنى لا إله إلا الله، فليس الجزء: 11 ¦ الصفحة: 236 معه من الإسلام ما يزن حبة خردل. والقرآن أفصح عن معنى لا إله إلا الله، في آيات كثيرة يطول الكتاب بذكرها؛ ويأتي بعضها إن شاء الله في هذا الجواب. وأنتم معشر المخاطبين بهذا قد تقرر عند من له علم فيكم- حتى العامة- من أكثر من مائه وثلاثين سنة أن هذا هو التوحيد الذي بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه؛ فما بال أناس يرغبون عما عرفوه، وعرفوه من كتاب الله وسنة رسوله، إلى طلب العلم ممن لم يعرف هذا التوحيد، ولا نشأ في تعلمه ولا عرفه، كما هو ظاهر في كلامه؟ يعرف من له عقل، وبصيرة أنه لا يتكلم به إلا من لم يعرف ما بعث الله به المرسلين من توحيد رب العالمين. وقد علمتم، معشر الموحدين ما حال بين كثير من الناس، وبين معرفة التوحيد، من العوائد الشركية، والشبهات الخيالية، لما افترقت الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة. فلقد عظمت نعمة الإسلام على من عرفها، وقبلها وأحبها، وصار مستيقنا بها قلبه، مخلصا صادقا، ورزق الثبات والاستقامة على ذلك. فيا لها من نعمة ما أعظمها، وموهبة ما أجملها! نعوذ بالله أن يصدف عنها صادف، أو يصرف عنها صارف، ونعوذ بالله من مضلات الفتن، ما ظهر منها وما بطن. فاتقوا الله عباد الله، وارغبوا فيما كنتم فيه من نعمة الإسلام والإيمان، الجزء: 11 ¦ الصفحة: 237 وجددوا، وجدوا واجتهدوا في معرفته على الحقيقة، بأدلته وبراهينه، التي نصبها عليه رب العالمين في كتابه المبين، وبينها لكم نبيه الصادق المصدوق الأمين؛ صلوات الله وسلامه عليه، وعلى من اتبعه إلى يوم الدين. ثم إنه قد تكلم غريب، في معنى لا إله إلا الله، لا يعرف ما هو ولا ممن هو، وكتب في ذلك ورقة، تبين فيها من الجهل والضلال، ما سنذكره لكم حذرا وتحذيرا، واعذارا وتعذيرا؛ والقلوب بين أصابع الرحمن، نسأل الله الثبات على الإسلام والإيمان. ذكر ما في الورقة، قال: الحمد لله المتوحد بجميع الجهات. الجواب- وبالله التوفيق-: لا يخفى على من له ذوق وممارسة، ومعرفة بمذاهب المبتدعة أن هذا لفظ لا معنى له، إلا على قول أهل الحلول، من الجهمية ومن تابعهم؛ فإنهم يقولون: إن الله تعالى حال في جميع الجهات، وفي كل مكان، ويجحدون ما تقرر في القرآن، من علو الله على جميع خلقه، واستوائه على عرشه؛ تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا. وهذا الرجل إنما تكلم بألسنتهم؛ فهذا محصوله من العلم الذي ادعاه، قد ظهر واستبان، على صفحات وجهه وفلتات لسانه، وأهل السنة ينكرون هذه الألفاظ، ويشيرون الجزء: 11 ¦ الصفحة: 238 إلى ما فيها من دسائس أهل البدع، أسوة أمثال هذا من الفلاسفة، وأهل الوحدة وغيرهم، ممن لم يستضئ بنور العلم، ولم يلجأ إلى ركن وثيق، فلا تنظر إلى منظر الرجل، وانظر إلى مخبره. وقد غلط أكثر الفرق الثلاث والسبعين في مسمى التوحيد؛ وكل فرقة لها توحيد تعتقد أنه هو الصواب، حتى الأشاعرة القائلين بأن معنى الإله: الغني عما سواه، المفتقر إليه ما عداه، يقولون إنهم أهل السنة، وهيهات هيهات. ولم يصبر منها على الحق إلا فرقة واحدة، وهم الذين عرفوا التوحيد على الحقيقة، من الآيات المحكمات، وصحيح السنة - جعلنا الله وإياكم من الفرق الناجية- وقد أشار شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله تعالى إلى هذا المعنى، فقال: وقد غلط في مسمى التوحيد طوائف، من أهل النظر والكلام، ومن أهل الإرادة والعبادة؛ وهذا يفيد الحذر من مخالطة كل من لا يعرف دينه. وقد كان بعض العلماء إذا دخل عليه مبتدع، جعل أصبعيه في أذنيه حتى يفارقه، حذرا من أن يلقي إليه كلمة تفتنه. فارجعوا رحمكم الله إلى صريح القرآن، فإنه حبل الله المتين، والذكر الحكيم، والصراط المستقيم. وهو النور، كما قال تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 239 بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [سورة المائدة آية: 15-16] . ثم إن هذا قال، في ورقته: اعلم أن الإله هو المعبود فقط، غير مقيد بقيد الحقيقة والبطلان؛ إذ اشتقاقه من أَلِهَه، إذا عبده يوجب اتحاده معه في المعنى، لعدم وجوده بدونه، إذ الاشتقاق وجود التناسب في اللفظ والمعنى. فالجواب أن نقول: سبحان الله! كيف يشكل على من له أدنى مسكة من عقل، ما في هذا القول من الكذب والضلال، والإلحاد والمحال؟ فلقد صادم الكتاب والسنة؛ والفطر والعقول، واللغة والعرف. أما مصادمته الكتاب والسنة، فإن الله تعالى يقول: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ} [سورة الحج آية: 62] في عدة مواضع من الكتاب والسنة، فالله تعالى الحق، وعبادته وحده هي الحق أزلا وأبدا، وما يدعى من دونه هو الباطل، قبل وضع اللغات وبعدها. وهذا لا يمتري فيه مسلم أصلا. وأما مصادمته للعقل، فإن كل مألوه معبود; ولا بد أن يكون حقا أو باطلا؛ فإن كان هو الله فهو الحق سبحانه، كما في حديث الاستفتاح الذي رواه البخاري وغيره: " ولك الحمد أنت الحق ووعدك حق "، وإن كان المعبود غيره فهو باطل بنص القرآن؛ والقرآن كله يدل على أن الله هو الحق، وأن ما يدعى الجزء: 11 ¦ الصفحة: 240 من دونه فهو باطل. وأما مخالفته للفطر، فباتفاق الناس على ما دل عليه الكتاب، والسنة، والمعقول؛ حتى أهل البدع من كل طائفة، لا يقول بهذا القول- الذي قاله هذا- أحد منهم؛ لكن كل طائفة تدعي أنها أسعد من غيرها بالدليل، على ما في أدلة كل طائفة من التحريف والتأويل. وأما مخالفته للغة: فلا ريب أن الواضع وضع الألفاظ بإزاء معانيها؛ فكل لفظ وضع لمدلوله الذي وضع له لأجل الدلالة عليه. والواضع وضع الألفاظ دالة على معانيها؛ فاللفظ دال والمعنى مدلوله؛ يعرف هذا كل من له أدنى مسكة من عقل. وكل ما ذكرناه لا نزاع فيه، ولا يعرف أن أحدا قال بخلاف ما ذكرناه. وواضع اللغة، قال بعض العلماء: هو الله تعالى، وقال بعضهم: وضعها غيره من بني آدم المتقدمين بإلهام منه تعالى، وجبلة جبلهم عليها. واللغات وإن تعددت فهي بإلهام من الله، وبها يعرف مراد المتكلم، ومقصوده. إذا عرفت ذلك، فيلزم على قول هذا الجاهل أن الملائكة قبل خلق آدم وذريته كانت عبادتهم لله تعالى غير مقيدة بحق ولا باطل؛ وهذا اللازم باطل فبطل الملزوم، وكذلك عبادة آدم وذريته قبل حدوث الشرك في قوم نوح، لا توصف عبادتهم لله بأنها حق أو باطل؛ وهذا اللازم باطل فبطل الملزوم. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 241 وكذلك قوم نوح لما عبدوا آلهتهم، قالوا لما دعاهم نوح عليه السلام: {لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً} [سورة نوح آية: 23] فيلزم على قول هذا أن عبادتهم لتلك الأصنام ليست باطلة؛ وهذه اللوازم الباطلة تلزمه، وببطلانها يبطل ملزومها الذي ذكرناه عنه. وأيضا: ففي قوله هذا مضاهاة لقول ابن عربي، إمام أهل الوحدة: وعباد عجل السامري على هدى ولائمهم في اللوم ليس على رشد فمن وجد خيرا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه. فلا تعجب، فكل صاحب بدعة، لا بد أن يجادل عن بدعته. والعلم نور يهبه الله لمن يشاء من عباده، وهو معرفة الهدى بدليله؛ والناس ليسوا كلهم كذلك إلا أقل القليل، الذين تمسكوا بالكتاب والسنة، وما عليه سلف الأمة، وأئمتها علما وعملا. ومن تدبر القرآن رأى العجب فيما قصه الله تعالى عن الرسل مع أممهم قديما وحديثا، كما قال تعالى: {مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ} [سورة غافر آية: 4-5] . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 242 فإذا كان الكلام في بيان معنى لا إله إلا الله، فإن الله تعالى هو الذي تولى بيانه في مواضع من كتابه، وأجمعت عليه الرسل من أولهم إلى آخرهم، كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [سورة الأنبياء آية: 25] . بل القرآن كله في بيان معناها، كما قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [سورة الزخرف آية: 26-27-28] أي: إليها من البراءة من عبادة كل معبود سوى الله. وإخلاص العبادة له، كقول إمام الحنفاء عليه الصلاة والسلام، في هذه الآية: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا} [سورة البقرة آية: 256] ، وهي لا إله إلا الله. وقال تعالى: {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ} [سورة الزمر آية: 17] ، والطاغوت: الشيطان، وما زينه للمشركين من عبادة معبوداتهم التي كانوا يعبدونها من دون الله تعالى، كأصنام قوم نوح، وأصنام قوم إبراهيم، واللات والعزى ومناة، وما لا يحصى كثرة في العرب والعجم وغيرهم. وهي موجودة في الخارج معينة معلومة الوجود، الجزء: 11 ¦ الصفحة: 243 كأصنام قوم نوح، وغيرها مما لا يحصى كثرة؛ فمن قال لا إله إلا الله بصدق وإخلاص ويقين، فقد برئ من كل معبود يعبد من دون الله، ممن كان يعبده أهل الأرض. وهذه الكلمة دلت على البراءة من الشرك والكفر به تضمنا، ودلت عليه وعلى إخلاص العبادة لله تعالى مطابقة، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [سورة الذاريات آية: 56] . بين تعالى أن الحكمة في خلق الجن والإنس أن يعبدوه وحده لا شريك له، ومن المعلوم أنه خلق الجن قبل الإنس. فيلزم على هذا القول الفاسد، الذي أبداه هذا الجاهل: أن العبادة التي خلق تعالى لها الثقلين، لا توصف بحق ولا باطل حين خلقهم لها؛ واللازم باطل فبطل الملزوم. وهذا الموضع الذي بينا بطلانه بالمعقول والمنقول، هو ثاني موضع زلت فيه قدم هذا الذي يدعي أنه على شيء، وليس معه شيء يلتفت إليه بما يوجب إنكاره عليه. وقد قال تعالى: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [سورة العنكبوت آية: 51] ، وقال تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 244 وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} [سورة الجاثية آية: 18-19] . وقال تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} [سورة الأعراف آية: 3] . وعن زياد بن حدير، قال: قال لي عمر: "هل تعرف ما يهدم الإسلام؟ قلت: لا. قال: يهدمه زلة العالم، وجدال المنافق بالكتاب، وحكم الأئمة المضلين"، رواه الدارمي؛ فرضي الله تعالى عن أمير المؤمنين عمر، كأنه ينظر إلى ما وقع في هذه الأمة، من جدال أهل الأهواء بالكتاب، وكثرة الآراء المخالفة للحق، التي بها كثر أهل الضلال، وكثرت بها البدع، وتفرقت الأمة، واشتدت غربة الإسلام؛ حتى عاد المعروف منكرا، والمنكر معروفا، والسنة بدعة، والبدعة سنة؛ نشأ على هذا الصغير، وهرم عليه الكبير. وما أحسن ما قال بعض السلف: لا تستوحش من الحق لقلة السالكين، ولا تغتر بالباطل لكثرة الهالكين. وقال بعضهم: ليس العجب ممن هلك كيف هلك؟ إنما العجب ممن نجا كيف نجا؟ فالناصح لنفسه يتهم رأيه وهواه، ويرجع إلى تدبر كتاب الله سبحانه لا إله غيره، ولا رب سواه، وإلى ما سنه الرسول صلى الله عليه وسلم، وما عليه سلف الأمة وأئمتها قبل حدوث الأهواء، وتفرق الآراء؛ وليكن من الشيطان وجنده على حذر. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 245 اللهم اجعلنا هادين مهتدين، غير ضالين ولا مضلين، سلما لأوليائك، حربا لأعدائك، نحب بحبك من أحبك، ونعادي بعداوتك من خالفك. اللهم هذا الدعاء وعليك الإجابة. اللهم هذا الجهد، وعليك التكلان. وأما قول هذا في ورقته: إذ اشتقاقه من ألهه، يوجب اتحاده معه في المعنى. أقول: قد عرفتم ما ذكرناه من تناقضه في هذه العبارة، وما قبلها. وقد أخطأ أيضا فيما عبر به عن الاشتقاق، من وجهين: الأول: أنه جعل ألهه مشتقا منه، وهو: فعل، يشتق، ولا يشتق منه. والمصدر هو الذي يشتق منه الفعل، كما في الخلاصة 1. ............... ... وكونه أصلا لهذين انتخب ومصدره أَلِهَ إلهة; قال في القاموس: أله إلهة وأُلوهة وأُلوهية: عبد عبادة; ومنه لفظ الجلالة. وأصله: إله كفعال بمعنى مألوه; وكل ما اتخذ معبودا إله عند متخذه; انتهى. الوجه الثاني: قوله: أَلِهَه إذا عبده، فجعل عبده   1 المعروفة: بألفية ابن مالك. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 246 مشتقا من ألهه، وهو من غير مادته، وهو فعل أيضا، فإن عبده مشتق من عبادة، يقال: عبده عبادة، فمادته عبد، لكن عبد تفسير لأله، فاتفقا في المعنى لا في اللفظ. وأيضا، فقوله: ألهه إذا عبده، يناقض ما سلف من كلامه. وأما قوله: يوجب اتحاده معه في المعنى، لعدم وجوده بدونه، فالجواب: أن قوله يوجب اتحاده معه في المعنى، ليس كذلك؛ بل لابد أن يتضمن أحدهما، وهو: الفعل، معنى المصدر وزيادة، لدلالته على الحدث والزمان. والمصدر: إنما يدل على الحدث فقط. وهذا أمر معروف عند النحاة وغيرهم، محسوس. فعبارته تدل على أنه لا يعرف معنى الاشتقاق الذي ذكره العلماء؛ ولو سئل عن معناه لما أجاب. ولكنه خلا بأناس عظموه في نفسه، فأراد أن يأخذ العلوم بمجرد الدعوى، ومن نظر في كلامه عرف أنه لا شيء هناك؛ فتجده يأتي بعبارات متضمنة لجهالات لم يسبقه إليها سابق، كما قد عرفتم، وتعرفونه فيما يأتي من كلامه، وما فيه من التناقض؛ فما أقبح جهل من يدعي العلم! وما أفحش خطأ من يدعي الفهم! والله أسأل أن يوزعنا شكر ما أنعم به علينا مما علمناه الجزء: 11 ¦ الصفحة: 247 وفهمناه، فلله الحمد لا نحصي ثناء عليه، ونسأله الثبات والاستقامة، والعفو والعافية في الدنيا والآخرة، ولكل من عرف الإسلام وقبله، ودان به ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وأما قوله: ثم استعمل في العرف على الأغلب والأكثر على المعبود بحق، لعدم تحقق العبادة إلا بعد اعتقاد العابد استحقاق المعبود لها، وإلا فلا تسمى عبادة. فالجواب أن قوله: ثم استعمل في العرف، أي: بعد أن كان الإله المعبود لغة غير مقيد بقيد الحقيقة والبطلان، كما تقدم صريحا في كلامه، فليت شعري متى هذا العرف، الذي وضع للألفاظ اللغوية معناها؟ ومن هم أهل هذا العرف، هل كانوا في قوم نوح أو قوم هود؟ فيسأل هذا متى كانوا؟ فما أقبح هذه الأقوال المختلقة، التي غايتها التمويه والتلبيس! فلا منقول ولا معقول، ولم يسبقه إليها أحد؛ وقد تقدم ما يلزم على هذا القول من اللوازم الباطلة. فتبين أن قوله هذا كذب على اللغة، لا يعرف عن أحد لغوي، ولا عن عربي؛ والعرف لا يغير اللغة عن أصلها لفظا ومعنى. وهذه كتب اللغة، كالقاموس، وصحاح الجوهري وغيره، ليس فيها ما يدل على هذا القول الباطل؛ فيكون قد كذب على اللغة العربية وعلى غيرها من الجزء: 11 ¦ الصفحة: 248 اللغات، وعلى كتاب الله وسنة رسوله. وقال شيخ الإسلام أحمد بن تيمية، رحمه الله تعالى: الإله هو الذي تألهه القلوب محبة ورجاء وتوكلا، وغير ذلك من أنواع العبادة؛ وهذا قول أهل السنة قاطبة، لا يختلف فيه اثنان. وأما قوله: على الأغلب والأكثر، على المعبود بحق; فمفهومه: أنه يستعمل في غير الأغلب والأكثر، على غير المعبود بحق، فهذا صحيح، لكنه لا يختص بالعرف بل هو في اللغة كذلك؛ فإذا كان يطلق على غير المعبود بحق، كما تفهمه كل أمة، فهذا حجة عليه؛ فإن جميع الأصنام والأوثان، وما يعبد من دون الله، كلها آلهة معبودة بغير حق، باطلة بكلمة الإخلاص: لا إله إلا الله؛ ففيها النفي والإثبات، كما سيأتي بيان ذلك. وكل ما نفته لا إله إلا الله من الأصنام والأنداد، فليس كليا لا يوجد ذهنا، كما يقوله المفتري: أفلاطون الفيلسوف، وشيعته، وإنما كانت أشخاصا متعددة، يباشرها عبادها بالعبادة بالدعاء، والاستغاثة والاستشفاع بها، والعكوف عندها والتبرك بها، كأصنام قوم نوح، وأصنام قوم عاد القائلين: {إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ} [سورة هود آية: 54] . وأصنام نمرود التي تبرأ منها خليل الرحمن بقوله: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 249 {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [سورة الزخرف آية: 26-27-28] أي: هذه الكلمة، وهي: عبادة الله وحده لا شريك له، وخلع ما سواه من الأوثان، وهي لا إله إلا الله، وجعلهما في ذريته باقية {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [سورة الزخرف آية: 28] أي إليها. فالخليل عليه السلام فسر لا إله إلا الله بمدلولها، من النفي والإثبات؛ فالنفي في قوله: {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ} [سورة الزخرف آية: 26] فالبراءة منها وإبطالها نفيها ; وقوله: {إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} [سورة الزخرف آية: 27] استثنى الإله الحق، الذي لا تصلح العبادة إلا له، وهو الذي فطره، أي: خلقه، وخلق جميع المخلوقات {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ} [سورة الصافات آية: 5] . وقد قال تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [سورة آل عمران آية: 64] : فإن تولوا، أي: عما تدعوهم إليه، من عبادة الله وحده لا شريك له، والرغبة عما كانوا يعبدونه من دون الله، كالمسيح وأمه عليهما السلام؛ فإن سبب نزول الآية في نصارى نجران، وكانوا يعبدون آلهة أخرى. فقوله: {أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ} [سورة آل عمران آية: 64] ينفي كل معبود سوى الجزء: 11 ¦ الصفحة: 250 الله، ويثبت العبادة لله وحده، التي لا يستحقها غيره؛ وهذا ظاهر جلي، لا يخفى على من له أدنى بصيرة. وسبب النّزول: لا يمنع عموم النهي لجميع الأمة، كما هو ظاهر في قوله: {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} [سورة هود آية: 2] ، فلم يستثن أحدا سواه، لا ملكا ولا نبيا، ولا من دونهما، كما قال تعالى: {وَقَالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} [سورة النحل آية: 51] ، وقوله: {وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} [سورة آل عمران آية: 64] أي: من جميع المخلوقات من بشر، وحجر وغير ذلك. لكن قوله: {وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً} [سورة آل عمران آية: 64] يختص بالبشر لما تقدم من أنهم كانوا يعبدون المسيح وأمه، وغيرهما من الأنبياء والصالحين، ويشمل غيرهم من باب أولى. وقد قال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} [سورة الجن آية: 18] ، وأحدا: نكرة في سياق النهي، وهي تعم كل مدعو من دون الله، من أهل السماوات والأرض. وتأمل قوله: (مع الله) وخبر (لا) التي لنفي الجنس محذوف، تقديره: حق، كما دل عليه القرآن، قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ} [سورة الحج آية: 62] ؛ وهذا قول أهل السنة والجماعة، اتباعا لما دل عليه القرآن. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 251 ومن قدر الخبر المحذوف غير ذلك، كقول بعضهم: إن المحذوف "أحد" فلا حجة له ولا برهان؛ ينبئك على هذا المعنى العظيم: ما قرره ابن القيم، رحمه الله تعالى; قال: فإن قوام السماوات والأرض والخليقة، بأن تأله الإله الحق، فلو كان فيهما آلهة أخرى غير الله لم يكن إلها حقا؛ إذ الإله الحق لا شريك له، ولا سمي له ولا مثل له. فلو تألهت غيره لفسدت كل الفساد، بانتفاء ما فيه صلاحها؛ إذ صلاحها بتأله الإله الحق، كما أنها لا توجد إلا باستنادها إلى الرب الواحد القهار، ويستحيل أن تستند في وجودها، إلى ربين متكافئين، فكذلك يستحيل أن تستند في تألهها إلى إلهين متساويين. وقد قال رحمه الله قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} [سورة البقرة آية: 165] الآية، قال: فالمؤمنون أشد حبا لربهم ومعبودهم، من كل محب لكل محبوب. وليست هذه المسألة من المسائل التي للعبد عنها غنى أو منها بد؛ بل هذه أفرض مسألة على العبد. وهي أصل عقد الإيمان، الذي لا يدخل فيه الداخل إلا بها؛ ولا فلاح للعبد ولا نجاة له من عذاب الله إلا بها؛ فليشتغل العبد بها أو ليعرض عنها. ومن لم يتحقق بها علما وعملا وحالا، لم يتحقق الجزء: 11 ¦ الصفحة: 252 شهادة أن لا إله إلا الله، فإنها سرها وحقيقتها ومعناها، وإن إبى ذلك الجاحدون، وقصر عن علمه الجاهلون؛ فإن الإله هو المحبوب المعبود، الذي تأله القلوب بحبه وتخضع له، وتذل له وتخافه، وترجوه، وتنيب إليه في شدائدها، وتدعوه في مهماتها، وتتوكل عليه في مصالحها، وتلجأ إليه، وتطمئن بذكره، وتسكن إلى حبه، وليس ذلك إلا لله وحده؛ ولهذا كانت أصدق الكلام، وكان أهلها أهل الله وحزبه، والمنكرون لها أعداؤه، وأهل غضبه ونقمته. فهذه المسألة قطب رحى الدين الذي عليه مداره، وإذا صحت صح بها كل مسألة وحال وذوق، وإذا لم يصححها العبد، فالفساد لازم له في علومه وأعماله، وأحواله وأقواله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، انتهى، فما أحسن هذا من بيان! وأما قول الملحد في ورقته: لعدم تحقق العبادة، إلا بعد اعتقاد استحقاق المعبود لها، فالجواب: هذا القيد ممنوع، وهو من جملة اختلافاته، وأكاذيبه، لأنه فاسد شرعا، ولغة وعرفا؛ ومما يبين فساده: ما في الحديث من قصة الرجلين اللذين مرا على صنم قوم، لا يجاوزه أحد إلا قرّب له شيئا، فقالوا لأحد الرجلين: قرّب، فقال: ما عندي شيء أقرب، فقالوا: قرّب ولو ذبابا، فقرّب ذبابا، فخلوا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 253 سبيله، فدخل النار، أي: بتقريبه الذباب لصنمهم. وهو إنما قربه للتخلص من شرهم، من غير اعتقاد استحقاقه لذلك، فصار عبادة للصنم دخل بها النار؛ وهذا يدل على أن هذا الفعل منه هو الذي أوجب له دخول النار، لأنه عبد مع الله غيره بهذا الفعل. وقالوا للآخر: قرب، فقال: ما كنت لأقرب لأحد شيئا دون الله عز وجل، فضربوا عنقه فدخل الجنة. وأيضا: فقد قال أبو طالب: لقد علموا أن ابننا لا مكذب ... لدينا ولا يعني بقول الأباطل وقوله يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم ودعوتني وعرفت أنك ناصحي ... ولقد صدقت وكنت ثم أمينا وعرضت دينا قد عرفت بأنه ... من خير أديان البرية دينا لولا الملامة أو حذار مسبة ... لوجدتني سمحا بذاك مبينا فثبت بهذا: أن أبا طالب لم يعتقد أن ما كان قومه عليه من الشرك حقا، ولم يمنعه من الدخول في الإسلام، إلا خوف أن يسب أسلافه فقط، ومع هذا مات مشركا، كما ثبت في الصحيح؛ وهذا يبين فساد هذا القيد. فإذا عرف ذلك، تبين أن هذا الرجل يختلق أقوالا، لا برهان عليها، ولا حجة. ثم إن من المعلوم أن كل من عبد معبودا غير الله، وأصر على عبادته له أنه يعتقد استحقاقه للعبادة؛ وهذا هو الغالب على المشركين في حق الجزء: 11 ¦ الصفحة: 254 معبوداتهم، ولهذا تجدهم يجادلون عنها ويناضلون مجادلة من يعتقد أنها تستحق ما كانوا يفعلونه لها من العبادة. وقوله: في كل أمة أيضا، اعتراف منه بأن الإله يطلق على كل معبود يعتقد عابده أنه يستحق العبادة، كما هو حال أكثر المشركين. فاحفظ هذا الاعتراف منه، فسيأتي في كلامه ما يناقضه. وأما قوله: ولهذا ذهب كثير من المتبحرين، إلى أنه عبارة عن المعبود بحق، وما قيل من أن كثيرا ما يطلق على الآلهة الباطلة، كما ورد في أكثر موارد القرآن، وهو يوجب عدم صحة المدعى، فمدفوع بأن إطلاقها عليها بالنظر، إلى اعتقاد عبادها، لا باعتبار نفس الأمر. فالجواب: أن يقال: هذا يناقض ما تقدم له، من أن العابد إذا اعتقد استحقاق معبوده للعبادة، صار إلها؛ ولا يخفى مناقضة هذا له، فإنه أقر فيما تقدم قريبا أن المعبود يكون إلها، باعتقاد عابده استحقاقه للعبادة في نفس الأمر؛ وقد عرفت أن القيد ممنوع، فأخطأ في الموضعين، أي في هذا والذي قبله، وتناقض. وأما قوله: ولهذا ذهب كثير من المتبحرين ...... إلخ. فهذا القول مجهول قائله، لا يعرف أن أحدا من المسلمين قاله، والقائل به مجهول، لا يقبل له قول، وقد الجزء: 11 ¦ الصفحة: 255 أجمع العلماء قديما وحديثا، على أن المجهول لا يقبل له قول ولا خبر، ولا تقوم به حجة في شيء من أبواب العلم؛ فكيف إذا كان إلحادا، وطعنا في أصل الدين؟ وقد أجمع المحدثون على أن رواية المجهول لا تقبل كذلك؛ فسقط هذا القول من أصله وفسد. وقوله: كما ورد في أكثر موارد القرآن، فانظر إلى هذا الجهل العظيم، في محاولته رد ما ورد في أكثر موارد القرآن، بقول المجهولين الذين لا يعتد بقولهم عند أحد من طوائف العلماء؛ وموارد القرآن يحتج بها، لا يحتج عليها بقول أحد. وهي الحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، كما قال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [سورة النساء آية: 59] الآية؛ فما وافق القرآن سواء كان نصا أو ظاهرا قُبل، وما خالفه رُد على من قاله، كائنا من كان. فقد ارتقى هذا مرتقى صعبا، بتهجينه القرآن، وإبطال دلالته عنه، بما زخرفه ونسبه إلى مجهولين؛ فسبحان الله! كيف يخفى هذا على أحد؟ فمن تدبر هذا المحل، تبين له ضلاله. وأما قوله: فمدفوع بأن إطلاقه عليها، بالنظر إلى الجزء: 11 ¦ الصفحة: 256 اعتقاد عبادها، فالجواب: أن هذا يبطله القرآن، كما قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [سورة الأنعام آية: 74] ، وقال: {أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ} [سورة الصافات آية: 86] ، فسماها الخليل آلهة، مع كونها باطلة. وكونها باطلة لا ينافي تسميتها آلهة، كما قال موسى عليه الصلاة والسلام، لما قال له بنو إسرائيل: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ إِنَّ هَؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ?قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهاً} [سورة الأعراف آية: 138-139-140] ، فسماه الكليم إلها، مع إنكاره عليهم ما طلبوا، وهو قد أقر فيما تقدم أنه يطلق على غير الإله الحق، فتناقض. وأما الإلهية المنفية في كلمة الإخلاص، بدخول أداة النفي عليها، وهي "لا" النافية، فالمراد بنفيها إبطالها، والبراءة منها، والكفر بها، واعتزالها، وغير ذلك مما سيأتي ذكره، إن شاء الله تعالى، كما تسمى آلهه وأندادا، وأربابا وشركاء، وأولياء، لأن من عبدها فقد جعلها مألوهة له، وجعل لها شركة في العبادة التي هي حقه، ومثلها بالله في عبادته لها، واتخذها أربابا وأولياء. وكل هذا في القرآن، كما قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 257 مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} [سورة البقرة آية: 165] . وقد تقدم كلام العلامة ابن القيم، رحمه الله تعالى، على هذه الآية العظيمة. وقال تعالى: {وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ} [سورة القصص آية: 64] ، وقال تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} [سورة التوبة آية: 31] ، وقال: {أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ} [سورة الكهف آية: 102] ؛ وهذا في القرآن كثير. فصارت تطلق عليها هذه الأوصاف، بجعل عابديها، واتخاذهم لها كذلك، بعبادتهم وإرادتهم، كما تقدم بيانه في هذه الآيات، كما في قوله تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ} [سورة يس آية: 74] {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزّاً} [سورة مريم آية: 81] ؛ فصارت آلهة بالفعل، والاتخاذ والإرادة، والقصد. واستشهد العلماء على ذلك، بقول رؤبة بن العجاج: لله در الغانيات المدَّه ... سبّحن واسترجعن من تألُّه أي: من تعبد; وتقدم كلام صاحب القاموس، على هذا المعنى، وقرأ ابن عباس، رضي الله تعالى عنهما: {وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ} [سورة الأعراف آية: 127] أي: عبادتك قال: لأنه كان يعبد؛ وتقدم تقرير هذا في كلام العلماء، وهذا يبين أن كل معبود إله، حقا كان أو الجزء: 11 ¦ الصفحة: 258 باطلا، لأنه قد ألهه العابد بالعبادة. وتبين بهذا أن هذا الرجل يتكلم في هذه الأمور بلا علم، ويأتي بما يخالف القرآن واللغة، والسلف والعلماء، ويتناقض؛ ومن فرط جهله، قوله: وبهذا تعين فساد ما توهم، من أن الإله المنفي بلا- في الكلمة الطيبة- هو المطلق، غير المقيد بالحق أو الباطل؛ وهذا القول الذي أقر بفساده، هو الذي قاله آنفا، وبينا فساده في محله. فتأمل ما في هذا الكلام من الفساد والضلال، فإنه جعل المنفي في كلمة الإخلاص، قابلا للوصفين، أي: الحق والباطل؛ فإنه لا شك أن الإله المنفي باطل، ولا بد من تقييده بالبطلان، لأن المنفي في كلمة الإخلاص، هي الطواغيت والأصنام، وكل ما عبد من دون الله؛ وكلها باطلة بلا ريب، كما قال لبيد في شعره، الذي سمعه منه النبي صلى الله عليه وسلم: ألا كل شيء ما خلا الله باطل ... ..................... ومن لم يعتقد هذا، فليس من الإسلام في شيء؛ وتقدم في الآيات: أن المستثنى في كلمة الإخلاص "بإلا" هو الله الحق، كما قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ} [سورة الحج آية: 62] . وهذا الرجل قد افترى على اللغة، وكذب عليها بقوله المتقدم: إن الإله هو المعبود، لا بقيد الحقيقة ولا البطلان؛ فهو دائما الجزء: 11 ¦ الصفحة: 259 يتناقض، يذكر قولا وينفيه، ثم يذكره بعده ويثبته ثم ينفيه. ومن وقف على ما كتبته في هذا المعنى 1 عرف ذلك من حاله ومقاله؛ ومحط رحله هو قول الفلاسفة، كابن سينا، والفارابي، وابن العلقمي، القائلين بأن مدلول لا إله إلا الله نفيا وإثباتا فرد، هو: الوجود المطلق، أو قول الاتحادية: إنه الوجود بعينه. وكلام هذا وعبارته، المتقدم منها والآتي، يدل على أنه يقول بقولهم، ويحمل معنى كلمة الإخلاص لا إله إلا الله، على إلحادهم؛ يعرف هذا من له فهم واطلاع على ما ذكره العلماء، في بيان حقيقة قول هاتين الطائفتين الكفريتين، كما سيأتي في كلام شيخ الإسلام، وابن القيم وغيرهما. وهذا إعراب كلمة الإخلاص، الذي يعرفه أهل العربية وغيرهم من العلماء في إعرابها، فيقولون: "لا" نافية للجنس، واسمها "إله" مبني معها على الفتح، منفي بلا، والإله جنس، يتناول كل معبود، من بشر أو حجر، أو شجر أو مدر 2 أو غير ذلك، فهذا الجنس على تعدد أفراده منفي بلا.   1 انظر: صفحة 238 وما بعدها. 2 وهو: الطين. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 260 وخبر "لا" محذوف على الصحيح، كما في الآيات، وتقدم ذكره، والاستثناء من الخبر، و"إلا" أداة الاستثناء، والله هو المستثنى بإلا، وهو الإله الحق وعبادته حق، وقوله الحق ; والصحيح: أنه مخرج من اسم لا وحكمه، كما قرره العلامة ابن القيم، رحمه الله تعالى. والأدلة على هذا في القرآن، أكثر من أن تحصر، وقد صرحت بذلك الآيات المحكمات، كقوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ} [سورة يونس آية: 104] ؛ وهذا هو المنفي بلا في كلمة الإخلاص، وقوله: {وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ} [سورة يونس آية: 104] هو معنى إلا الله. وهذا هو الذي أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يدعو أمته إليه، وما خالف هذا فهو تلبيس وتشبيه، وبهرج وباطل، نعوذ بالله من كل قول يؤخذ عن غير القرآن، وعن غير ما دان به أهل الإسلام والإيمان. ثم إن هذا الرجل، انتهى أمره فيما كتبه، إلى أن زعم أن المنفي بلا كلي، وهذا الكلي منوي ذهنا، لا يوجد منه في الخارج إلا فرد، وذلك الفرد المنفي بلا هو المستثنى بعينه؛ وهذا صريح كلامه، وأتى فيه بثلاث عظائم، هي إلى الكفر أقرب منها إلى الإيمان: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 261 الأولى: أنه زعم أن المنفي بلا كلي لا يوجد إلا ذهنا؛ فعنده أنها لم تنف طاغوتا، ولا وثنا، ولا صنما، ولا غيرها، مما يعبد من دون الله؛ فخالف أيضا أهل المنطق، فإن الكلي عندهم مقول على كثيرين، مختلفين بالعدد دون الحقيقة، ولم يقولوا: إنه منوي لا يوجد منه في الخارج إلا فرد. الثانية: أنه زعم أن ذلك الفرد الذي لا يوجد غيره، لما كان منفيا بلا صار ثابتا بإلا، وهو فرد واحد؛ فصار الإله عنده متصفا بالنفي والإثبات. والنفي والإثبات في فرد نقيضان، ومقتضاه أن هذا الفرد صار أولا باطلا لأنه منفي، ثم صار حقا لأنه استثني بإلا؛ فاجتمع فيه الوصفان، نعوذ بالله من هذا التهافت والإلحاد، والتناقض والعناد. وقد عرفت أن النحاة وأهل الكلام،، كالرازي وغيره ومن قبلهم، يعلمون أن المنفي غير المثبت، كما سنذكر عنهم اتفاقهم على ذلك، وأنه لا يحصل التوحيد إلا بذلك؛ وهذا أمر يعرفه كل أحد، حتى مشركو العرب ومن ضاهاهم، من الأمم أعداء الرسل، يعلمون أنها نفت الآلهة التي كانت تعبد من دون الله، وأثبتت إلهية الحق الذي أقروا أنه رب كل شيء ومليكه، وخالق كل شيء ورازق كل حي، وذلك هو الله العلي الأعلى، القاهر فوق عباده. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 262 والثالثة: أنه صرح أن المنفي كلي، والفرد الموجود في الخارج جزئي، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا؛ وهذا هو حقيقة قول هذا، ولهذا مثله بقوله: لا شمس إلا الشمس. ومن أشكل عليه فساد قول هذا وضلاله، فليتدبر القرآن، وليراجع كلام المفسرين في معنى كلمة الإخلاص، وما وضعت له، وما دلت عليه هذه الكلمة العظيمة؛ فقد قال تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [سورة البقرة آية: 256] . فدلت الآية على أنه لا يكون مستمسكا بلا إله إلا الله، إلا إذا كفر بالطاغوت، وهي العروة الوثقى، التي لا انفصام لها؛ ومن لم يعتقد هذا، فليس بمسلم، لأنه لم يتمسك بلا إله إلا اله. فتدبر واعتقد ما ينجيك من عذاب الله، وهو تحقيق معنى لا إله إلا الله نفيا وإثباتا. وتدبر قوله تعالى عن خليله عليه السلام: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [سورة الزخرف آية: 26-27-28] ؛ والكلمة هي: لا إله إلا الله، بإجماع المفسرين؛ فلا أحسن من هذا التفسير، ولا أبين منه، وليس للجنة طريق إلا بمعرفته وقبوله، واعتقاده الجزء: 11 ¦ الصفحة: 263 والعمل به. نسأل الله أن يوزعنا شكر ما أنعم به علينا من هذا التوحيد، والبصيرة فيه، ولا حول ولا قوة إلا بالله. فتأمل كيف عبر الخليل عليه السلام، عن هذه الكلمة بمدلولها الذي وضعت له، من البراءة من عبادة كل معبود سوى الله، من وثن وصنم، وغير ذلك، وقصر العبادة على الله وحده بقوله: {إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي} [سورة الزخرف آية: 27] . ودلت على أن المنفي جنس، تحته أفراد موجودة في الخارج يعبدها المشركون، وليست آلهة إلا في حق من يعبدها ويتألهها، دون من يكفر بها، ويتبرأ منها، ويعاديها، ويعادي من عبدها. إذا ثبت ذلك وعرفت أن الحق فيما دل عليه كتاب الله، وسنة رسوله، في بيان معنى هذه الكلمة، فاعلم: أن النحاة والمتكلمين، اختلفوا: هل تحتاج "لا" النافية لخبر مضمر، أم لا؟ فمنعه الرازي، والزمخشري، وأبو حيان، وقالوا: إنه يكفي في الدلالة على التوحيد، ما تضمنته من النفي والإثبات، بناء على أن أصلها مبتدأ وخبر، ثم قدم الخبر على المبتدأ، ثم دخل حرف النفي على الخبر المقدم، ودخل حرف إلا مستثنى على المبتدأ؛ فانتفت الإلهية عن كل ما سوى الله، من كل ما يعبد من دونه، من صنم، ووثن، وطاغوت، وغير ذلك. هذا مضمون ما ذهب إليه هؤلاء، وغيرهم وافقهم في الجزء: 11 ¦ الصفحة: 264 المعنى، فاتفقوا أن المستثنى مخرج بإلا، ولولا الاستثناء لدخل؛ قال الكسائي هو مخرج من اسم لا، وقال الفراء مخرج من حكم اسمها وهو النفي؛ والصحيح: أنه مخرج منهما، كما قرره العلامة ابن القيم، رحمه الله. إذا عرفت ذلك، فكثير من النحاة وغيرهم، يقولون: لا بد لها من خبر مضمر. قال بعض من صنف في إعراب هذه الكلمة، ومعناها- بعد كلام له سبق- أقول: قد عرفت أن المضمر على تقدير: أن يكون في الكلام إضمار، إما الخبر، أو المرفوع بإلا، المكتفى به عن الخبر. [المعنى المقصود في لا إله إلا الله] وقد عرفت أيضا أن المعنى المقصود في لا إله إلا الله، هو قصر الألوهية على الله تعالى؛ والعلامة الدواني قائل بهذا، كما يشير إليه في البحث الخامس من رسالته، وصرح به في شرحه للعقائد العضدية، حيث قال: واعلم: أن التوحيد إما بحصر وجوب الوجود، أو بحصر الخالقية، أو بحصر العبودية، ثم قال: الأول كذا، والثاني كذا، وساق الكلام، وحقق المقام، أي في رده، إلى أن قال: والثالث، وهو: حصر العبودية، وهو أن لا يشرك بعبادة ربه أحدا. فقد دلت عليه الدلائل السمعية، وانعقد عليه إجماع الأنبياء عليهم السلام؛ وكلهم دعوا المكلفين أولا إلى هذا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 265 التوحيد، ونهوهم عن الإشراك في العبادة، قال تعالى: {أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ [سورة الصافات آية: 95-96] انتهى. ثم قال الناقل: ومصداق إجماع الأنبياء، قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [سورة الأنبياء آية: 25] بعد قوله تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ} [سورة الأنبياء آية: 24] . وقوله تعالى: {يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ} [سورة النحل آية: 2] ، وقوله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [سورة النحل آية: 36] ، وقال تعالى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} [سورة الزخرف آية: 45] إلى أن قال: فإثبات الألوهية له تعالى على وجه الانحصار، فرع على أصل ثبوتها له تعالى، وأصل ثبوتها له تعالى، فرع على ثبوته تعالى في نفسه؛ بل أصل ثبوت الألوهية له تعالى أيضا على ما يقتضيه دلالة هذا الكلام لغة، أمر مسلم الثبوت مفروغ منه، لا نزاع فيه. وإنما النّزاع أي مع المشركين في قصر الألوهية عليه تعالى؛ فالموحد يخصها به، فيقول: لا إله إلا الله، والمشرك ينكر الجزء: 11 ¦ الصفحة: 266 ذلك استكبارا، فيقول: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [سورة ص آية: 5] . قال تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} [سورة الصافات آية: 35-36] ، إلى أن قال: فإذا تمهد هذا، فنقول: لما كان في لا إله إلا الله نفي وإثبات، فهي في الحقيقة جملتان اسميتان، لأن كلا من النفي والإثبات يقتضي طرفين ينعقد الحكم بينهما؛ فطرف الإثبات هو الاسم الجليل، مع صحة الإيجاب من إله، فصح أن يقصر بالأولى استمرار الثبوت الممتنع الانفكاك، وبالثانية استمرار النفي، الممتنع الانفكاك؛ ومقام الدعوة إلى كلمة التوحيد، قرينة على أن المعنى المراد من لا إله إلا الله نفيا وإثباتا، هو هذا الاستمرار الممتنع الانفكاك، ضرورة أن الشارع لا يقول إلا صدقا، واستمرار ثبوت الإلهية له تعالى، على سبيل امتناع الانفكاك، واستمرار انتفاء الألوهية عن غيره تعالى، هو المطابق لما في نفس الأمر، فهو المقصود للشارع، فلم يبق إلا أن أهل اللسان هل فهموا ذلك منه، حتى يكون دلالته لغوية أم لا؟ فنقول: إنهم قد فهموا منه ذلك، بدليل قوله تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} [سورة الصافات آية: 35-36] ؛ ووجه دلالته على ما ذكرناه، هو أن الصادق أخبر بأن إنكارهم لما الجزء: 11 ¦ الصفحة: 267 يلزم من الاعتراف بلا إله إلا الله- من تركهم آلهتهم، واختصاصه تعالى بالألوهية- إنكار بمحض استكبار لا لتمسك عقلي، انتهى ما نقلته، وهو تقرير حسي، موافق لما دل عليه الكتاب والسنة، كما عرفت من صريح الآيات، والأحاديث. لكن قوله: وأصل ثبوتها له تعالى، فرع على ثبوته تعالى في نفسه، أمر فطري مسلم حتى عند أعداء الرسل؛ فإنهم يعرفونه ويعبدونه، لكن عبدوا معه غيره، فدلالتها على وجوده تعالى دلالة التزام. فيلزم من اختصاصه بالإلهية، وجوده وكماله في ذاته، وصفاته ومباينته للمخلوقين، وأنه أحد صمد، لا كفء له، ولا مثل له، ولا شريك له، ولا ظهير له، ولا ند له تعالى وتقدس، كما قال تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [سورة الإخلاص آية: 1-2-3-4] ، وقال تعالى: {يْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [سورة الشورى آية: 11] ، إلى أمثال هذه الآيات. رجعنا إلى تقرير معنى هذه الكلمة العظيمة، قال الله تعالى: {فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ} [سورة يونس آية: 32] ؛ قال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى، في هذه الآية: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ} [سورة يونس آية: 32] : فالآية إنما سيقت فيمن يعبد غير الله، فما عبد إلا الضلال المحض، والباطل الجزء: 11 ¦ الصفحة: 268 البحت، انتهى. وقد فسر العلماء من المفسرين وغيرهم، سلفا وخلفا، معنى قوله تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [سورة البقرة آية: 256] ، أن الطاغوت هو الشيطان، وما زينه من عبادة الأوثان، كما تقدم؛ ولا ريب أن الكفر بالشيطان، يحصل بالبراءة منه، ومعصيته في كل ما أمر به ونهى عنه- وكان موجودا- أعاذنا الله من عبادته؛ وكذلك الأوثان يكفر بها المؤمنون، ويتبرؤون من عبادتها مع وجودها، ومن عبادة المشركين لها. والمقصود: أن نفي الأوثان، الذي دلت عليه كلمة الإخلاص، يحصل بتركها، والرغبة عنها، والبراءة منها، والكفر بها وبمن يعبدها، واعتزالها واعتزال عابديها، وبغضها وعداوتها، وكل هذا في القرآن مبينا؛ وقد انتفت عبادة كل ما عبد من دون الله، مما هو موجود في الخارج، مما يعبده المشركون سلفا وخلفا، بهذه الكلمة، كما تقدم. وقد ذكر تعالى عن خليله عليه السلام، أنه قال: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ} [سورة الشعراء آية: 77-78] الآيات، وبالله التوفيق. وصح عن أهل السير والمغازي، وغيرهم من العلماء: أن الله تعالى لما أرسل محمدا صلى الله عليه وسلم يدعو الناس إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأنه رسول الله، وكان حول الكعبة ثلاثمائة الجزء: 11 ¦ الصفحة: 269 وستون صنما، تعبدها قريش، وكانوا يعبدون اللات والعزى ومناة، وهي أكبر الطواغيت، التي يعبدها أهل مكة والطائف ومن حولهم، فاستجاب للنبي صلى الله عليه وسلم من استجاب من السابقين الأولين، وهاجر من هاجر منهم إلى الحبشة، وكل من آمن منهم يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، رغبة عن الشرك وعبادة الأوثان، وكفرا بها، وبراءة منها، ومسبة لها؛ فصح إسلامهم، وإيمانهم بذلك، مع كونها موجودة يعبدها من يعبدها، ممن لم يرغب عنها، وعن عبادتها. فبهذا يتبين أنه ليس المراد من نفي الأوثان والأصنام وغيرها، في كلمة الإخلاص، زوال ماهية الأصنام، ونفي وجودها؛ وإنما المراد إنكار عبادتها، والكفر بها، وعداوتها، كما تقدم بيانه. وكل من تبرأ منها، ورغب عنها، فقد نفاها بقول لا إله إلا الله، وأثبت الألوهية لله تعالى، دون كل ما يعبد من دونه. فلما تمكن صلى الله عليه وسلم من إزالة هذه الأصنام، كسرها، وبعث من يزيل ما بعد عنه منها، فخلت الجزيرة من أعيانها؛ وهذا معنى قوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [سورة الأنفال آية: 39] . وفيه الرد على الفلاسفة، وأهل الاتحاد، القائلين بأن المنفي كلي، يوجد منه ذهنا، ولا يوجد منه في الخارج إلا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 270 فرد، بناء على ما اعتقدوه في الله تعالى، من الكفر به، وبكتابه وبرسوله؛ وقد عرفت أن المنفي بها أفرادا متعددة من الأصنام والأنداد، والشركاء والأولياء، من حين حدث الشرك بعبادة الأصنام في قوم نوح، إلى أن تقوم الساعة. فيجب بلا إله إلا الله البراءة من كل ما يعبده المشركون من دون الله؛ فلا بد من نفي هذا كله، بالبراءة من عبادته، ومن عابديه. فمن تبرأ من عبادتها كلها، وأنكرها وكفر بها، فقد قال لا إله إلا الله، وأخلص العبادة لله وحده، وصار بهذا التوحيد مسلما مؤمنا. وتأمل ما ذكره المفسرون، في قول الله تعالى: {وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [سورة ص آية: 4-5] . قال أبو جعفر ابن جرير، رحمه الله تعالى: أنبأنا أبو كريب، وابن وكيع، قالا: حدثنا أبو أسامة، أنبأنا الأعمش، حدثنا عباد عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: لما مرض أبو طالب، دخل عليه رهط من قريش فيهم أبو جهل، فقالوا: إن ابن أخيك يشتم آلهتنا، ويفعل ويفعل، ويقول ويقول، فلو بعثت إليه فنهيته. فبعث إليه، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فدخل البيت، وبينهم وبين أبي طالب قدر مجلس رجل، قال: فخشي أبو جهل إن جلس الجزء: 11 ¦ الصفحة: 271 النبي صلى الله عليه وسلم إلى جنب أبي طالب، أن يكون أرق عليه، فوثب فجلس في ذلك المجلس، ولم يجد رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسا قرب عمه، فجلس عند الباب. فقال له أبو طالب: أي ابن أخي، ما بال قومك يشكونك؟ يزعمون أنك تشتم آلهتهم، وتقول وتقول؟ قال: وأكثروا عليه القول، وتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "?يا عم إني أريدهم على كلمة واحدة يقولونها، تدين لهم بها العرب، وتؤدي إليهم بها العجم الجزية" ففزعوا لكلمته، ولقوله، فقال القوم: كلمة واحدة، نعم وأبيك عشرا. فقالوا: وما هي؟ وقال أبو طالب: وأي كلمة هي يا ابن أخي؟ قال: "?لا إله إلا الله" فقاموا فزعين ينفضون التراب عنهم، ويقولون: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [سورة ص آية: 5] إلى قوله: {لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ} [سورة ص آية: 8] : لفظ أبي كريب. وهكذا رواه الإمام أحمد والنسائي، من حديث محمد بن عبد الله بن نمير، كلاهما عن أبي أسامة عن الأعمش، عن عباد منسوبا به نحوه، ورواه الترمذي والنسائي، وابن أبي حاتم، وابن جرير، كلهم من تفاسيرهم، من حديث سفيان الثوري، عن الأعمش، عن يحيى بن عمارة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، وقال الترمذي: حسن. ففي هذا من البيان والعلم أن لا إله إلا الله، تبطل الجزء: 11 ¦ الصفحة: 272 عبادة كل ما يعبده المشركون من دون الله، وتنفي ما كان بينهم من معبوداتهم الموجودة في الخارج بأعيانها. وفيه أن المشركين عرفوا معناها الذي وضعت له، ودلت عليه، من إبطال عبادة كل معبود سوى الله. فإذا كان معناها هذا يعرفه كل أحد، حتى المشركون يعرفون ما نفته، وما أثبتته، فإذا جاء ملحد لا يعرف معناها من كتاب الله، ولا سنة رسوله، ولا لغة، ولا عرف، ولا عرف من معناها ما عرفه المشركون، وقال: إن لا إله إلا الله لم تنف إلا كليا منويا لا يوجد منه في الخارج إلا فرد، وهذا الفرد المنفي هو المثبت، فأين هذا من معناها الذي يعرفه المسلمون، وبه يدينون، ويعرفه المشركون أيضا، ويشمئزون منه وينفرون؟ كما قال تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} [سورة الصافات آية: 35-36] . فالمشركون عرفوا وأنكروا مدلولها، وهذا الملحد أنكر مدلولها، مع الجهل بمعناها، الذي يعرفه كل أحد، حتى أعداء الرسل القائلون: {أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ} [سورة الأعراف آية: 70] . فسبحان الله ما أبين ضلال هذا الملحد عند أهل البصيرة من أهل التوحيد، وعند أهل الفطر والعقول قاطبة! فكل ذي عقل ينكر هذا القول، ويعرف بطلانه. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 273 ونذكر وجوها، تبين بطلان هذا القول مع ما تقدم. الأول: أن هذا يناقض ما شهد الله به، وشهدت به ملائكته، وأولو العلم من عباده، قال تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [سورة آل عمران آية: 18] ؛ فلم يبق معبود يعبده الأولون والآخرون من دون الله، إلا بطلت عبادته، وإلهيته، بشهادة الله عز وجل وملائكته، وأولي العلم قاطبة. وأن المعبودات التي بطلت بشهادة الله، ليست كليا لا يوجد منه في الخارج إلا فرد، كما يقوله الملحد، بل كل ما يوجد في الأمم، وفي العرب من الأوثان، والأصنام التي لا تحصى كثرة، كأصنام قوم نوح وغيرها. ومن لم يعتقد أن هذا هو الذي شهد الله به، وملائكته، وأنبياؤه، بنفي، عن هذه الأصنام، وكل ما عبد من دون الله، فما قال لا إله إلا الله، وما عرف من الإسلام ما يعصم دمه وماله، وصار عما شهد الله به في معزل. الوجه الثاني: أن هذا القول ينافي ما بينه الله تعالى في كتابه، من ملة الخليلين، لقوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ} [سورة الزخرف آية: 26] الآية، وقد تقدمت. وقال تعالى: {وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 274 ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً} [سورة العنكبوت آية: 16-17] . فذكرها عليه السلام بصيغة الجمع؛ أيجوز في عقل عاقل أن ما ذكره تعالى عن خليله، من إنكاره لعبادة هذه الأوثان، وإخباره أنهم لا يملكون لعابديهم رزقا، أنها لا توجد في الخارج؟ ولا ريب أنه لا يجحد هذا إلا مكابر معاند، مخالف لما جاءت به الرسل من التوحيد. وقوله تعالى عن خليله: {وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [سورة العنكبوت آية: 25] الآية، أيشك من له عقل أن تلك الأوثان موجودة عند عابديها، يباشرونها بالعبادة؟ وهل يعرف أحد من هذا السياق، إلا أنها موجودة معبودة، منتفية بلا إله إلا الله. وكذلك قول الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [سورة الأنعام آية: 74] ، ولا خلاف أن الصنم شيء مصور، على صورة شخص يعبد من دون الله، وذلك لا يكون إلا موجودا في الخارج؛ فسماه الخليل أوثانا، وآلهة، وأنكرها وتبرأ منها، وممن عبدها. الوجه الثالث: أن الله بعث محمدا ينهى قريشا والعرب وغيرهم من المشركين، عن أن يعبدوا مع الله غيره، الجزء: 11 ¦ الصفحة: 275 كاللات والعزى ومناة، والأصنام التي كانت حول الكعبة كما تقدم. وقد قال تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى} [سورة النجم آية: 19] إلى قوله: {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} [سورة النجم آية: 23] ؛ أيشك أحد بعد هذا أنها موجودة تعبد من دون الله؟ بل لا يشك مسلم، ولا مشرك في وجودها، وأن قريشا وغيرهم يعبدونها. الوجه الرابع: أن الله تعالى، قال: {إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ} [سورة نوح آية: 1-2-3] ، فأجابوا ردا عليه، فيما دعاهم إليه: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً} [سورة نوح آية: 23] ؛ ومعلوم عند العلماء قاطبة، بل وعند العامة، أنها أسماء رجال صالحين، صورها قومهم أصناما على صورهم، وسموها بأسمائهم، فآل بهم الأمر إلى أن عبدوها؛ وهي موجودة في الخارج، لا يشك في وجودها أحد، ولا ريب أنها منتفية بكلمة الإخلاص، لا إله إلا الله. وهذه الأصنام استخرجها عمرو بن لحي الخزاعي، الكاهن، لما كان واليا على مكة قبل قريش، وفرقها في العرب؛ فعبدوها كما عبدها قوم نوح، كما ذكره البخاري في صحيحه. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 276 الوجه الخامس: ما ذكره الله عن قوم هود، لما دعاهم هود عليه السلام إلى أن يعبدوا الله وحده ويتقوه، قال لهم: {أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} [سورة الأعراف آية: 71] ، فأجابوه بقولهم: {أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} [سورة الأعراف آية: 70] ، فظهر: أن لهم ولآبائهم، معبودات في الخارج، يعبدونها من دون الله، ودعوة الرسل تبطل عبادتها. وتقدم ما ذكره الله تعالى في سورة هود، من قولهم لهود عليه السلام: {إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ} [سورة هود آية: 54] ، وهذا لا يقال إلا على آلهة موجودة تعبد. ودلت هذه الآيات على أن الإلهية هي العبادة، وأن المشركين وضعوها فيمن لا يستحقها من صنم ووثن وطاغوت وغير ذلك. الوجه السادس: قول يوسف عليه السلام: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} [سورة يوسف آية: 39-40] ؛ فسبحان الله! أين ذهب عقل الفيلسوف، حين اعتقد أن المنفي كلي لا يوجد إلا ذهنا؟! ومعلوم: أنه لا يكون له أعداد على هذا الاعتقاد الباطل، وتبين أن كلمة الإخلاص نفت أربابا متفرقين، وضعت عليها أسماء ما أنزل الله بها من الجزء: 11 ¦ الصفحة: 277 سلطان، كما كان أهل الأوثان يسمون آلهتهم. وفيما ذكرناه في هذه الوجوه كفاية، فلو ذكرنا ما يبطل قوله من الوجوه، لبلغ مائة أو أكثر. وقد قدمنا عن أئمة اللغة في معنى" الإله" موافقتهم في لغتهم لما دل عليه الكتاب والسنة، من معنى كلمة الإخلاص، وما دلت عليه مطابقة وتضمنا والتزاما؛ وكذلك النحاة، وجميع العلماء من المفسرين، وغيرهم، أجمعوا قاطبة على أن الإله هو المعبود، وأن العبادة حق لله، لا يجوز أن يصرف منها شيء لغير الله، كائنا ما كان، وأن المنفي في كلمة الإخلاص: كل ما كان يعبد من دون الله، من بشر أو ملك أو شجر أو حجر أو غير ذلك. ولولا قصد الاختصار، لبسطت القول في هذا المعنى العظيم، الذي لا يصلح لأحد دين، إلا إذا عرفه على الحقيقة، وقبل ما دل عليه الكتاب والسنة، من بيان توحيد الله، وقصر العبادة عليه دون كل ما سواه. واعلم: أني لما كتبت قبل هذا، في رد قول هذا الملحد: أن المنفي بلا إله إلا الله كلي منوي لا يوجد منه في الخارج إلا فرد، وهو المستثنى، فأجبت بما حاصله: إذا كانت لا إله إلا الله لم تنف إلا كليا منويا، فعلى هذا القول الباطل: لم تنف لا إله إلا الله صنما، ولا وثنا، ولا طاغوتا، وصار النفي منصبا على الفرد، فهو المنفي، وهو المستثنى؛ وتناقض هذا، الجزء: 11 ¦ الصفحة: 278 لا يخفى على من له عقل وفهم. وقد عرفت أن هذه دعوى منه مخالفة، لما بعث الله به رسله من توحيده؛ وعلى قول هذا: لم يكن للا إله إلا الله مدخل في الكفر بالطاغوت، والبراءة من الأوثان، التي صرح القرآن بنفيها، بكلمة الإخلاص لا إله إلا الله، كما في آية البقرة وغيرها؛ وقد تقدم بيان ذلك. وبهذا يتبين لمن له فهم: أن قول هذا الرجل، من أبطل الباطل، وأبين الضلال، وأمحل المحال؛ والمسلم الموحد يعلم من الكتاب والسنة، ومن قول أهل العقول الصحيحة، والفطر السليمة أن لا إله إلا الله لها موضوع عظيم، ومدلولها هو حقيقة الإسلام، والإيمان. فإنها إنما وضعت للرغبة عن عبادة كل ما يعبد من دون الله، والبراءة منه والكفر به، وإنكار ذلك وبغضه، وعداوته، وعداوة من اتخذ الشرك في العبادة دينا؛ وهذا هو أظهر ما في القرآن، وأبينه إيضاحا وتقريرا. وجواب ثان: وهو قولي: كيف يجوز أن يكون الفرد الذي وجد من الكلي المنفي، داخلا في المنفي بإلا، خارجا بالاستثناء، فيكون متصفا بالنفي والإثبات، وأحدهما نقيض الآخر، وأن لا إله إلا الله، لا تدل إلا على هذا الفرد خاصة، نفيا وإثباتا؟ هذا لا يقبله إلا من كان عقلة فاسدا، لا يعرف حقا من باطل، ولا هدى من ضلال. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 279 كيف يصح استثناء فرد منفي، ويكون هو المستثنى؟ فأين المستثنى، والمستثنى منه الذي يعرفه العرب من لغتهم، المستعملة في الكتاب والسنة، وأقوال سلف الأمة وأئمتها، وأهل العربية وغيرهم، ويعرفه أهل اللغات؟ فما أبعد ضلال هذا وأجهله، وأبعده عن العلم وأهله! ثم إن هذا الرجل سمع بما كتبته على قوله، من الرد والإبطال، فأجاب بقوله: قلنا إنما يلزم هذا، لو أريد بالمستثنى منه فرد خاص جزئي؛ وإنما أريد منه المفهوم العام المتناول لأفراد المعبود بحق، سواء كانت في الذهن، أو في الخارج. فالجواب: أنه عدل عن قوله الأول، إلى ما هو أفظع منه وأشنع، فزعم أن المستثنى منه، إنما أريد منه المفهوم العام، المتناول لأفراد المعبود بحق، فصرح بأن المستثنى منه، إنما أريد منه المفهوم العام، المنفي مرادا؛ فصار المفهوم العام المنفي له أفراد; ومعلوم: أن الأفراد لا توجد في الذهن، وإنما توجد في الخارج؛ فتراه يحوم حول الباطل ويتهافت. وأعظم من هذا، قوله: إن المفهوم العام المنفي، متناول لأفراد المعبود بحق؛ فجعل للمعبود بحق أفرادا منفية بلا، وكلها حق، فكيف يجوز أن ينفي ما هو حق؟ وكيف تكون الأفراد كلها حقا؟! فتدبر يتضح لك الحال؛ فهذه فنون من الضلال والإلحاد، يبديها تارة، ثم يأتي بما هو أعظم الجزء: 11 ¦ الصفحة: 280 منها، وأبين في الضلال والمحال. والمنفي بلا في كلمة الإخلاص، لا يكون حقا؛ بل هو الباطل، كما دل عليه الكتاب والسنة، وما عليه المسلمون. و"الحق" في كلمة الإخلاص هو المستثنى، وهو الله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً} [سورة الفرقان آية: 59] ، لا شريك له في إلهيته، ولا في ربوبيته، ولا في أفعاله، ولا مثل له، ولا كفء له، ولا ند له، وكل معبود سواه فباطل؛ ومن لم يعتقد هذا فليس بمسلم. ولا يخفى أنه يلزم على قول هذا، أن للكلي أفرادا معبودة، فإذا كانت كلها معبودة بحق، جاز أن تقصد بالعبادة؛ وهذا دين المشركين، الذي بعث الله رسله بإنكاره وإبطاله، كما قال تعالى: {وَقَالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [سورة النحل آية: 51] ، وقال تعالى: {وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ} [سورة القصص آية: 88] ؛ والآيات في المعنى كثيرة جدا. فمن عبد مع الله غيره، فقد ألحد وأشرك; وكل هذه العبارات التي ذكرها هذا في ورقته، ينكرها كل من له عقل. وأصل هذا الرجل الذي اعتمده وعبر عنه، هو بعينه الذي ذكره شيخ الإسلام رحمه الله، عن أفلاطون الفيلسوف وأتباعه، بناء منهم على كفرهم؛ فإنهم يقولون: إن الله هو الجزء: 11 ¦ الصفحة: 281 الوجود المطلق. ومعلوم أن هذا لا يكون له وجود متميز بنفسه، مباين للمخلوقات؛ إذ الكلي كالجنس، والفصل، والخاص، والعرض العام لا يوجد في الخارج منفصلا عن الأعيان الموجودة؛ وهذا معلوم بالضرورة، متفق عليه بين العقلاء. قال شيخ الإسلام: وإنما يحكى الخلاف في ذلك، عن شيعة أفلاطون ونحوه، الذين يقولون بإثبات المثل الأفلاطونية، وهي الكليات المجردة عن الأعيان خارج الذهن. قلت: وهذا قول هذا الرجل في ورقته، تبع فيه أفلاطون، وهو قوله: إن المنفي في لا إله إلا الله كلي، لا يوجد منه في الخارج إلا فرد واحد، وهو المستثنى؛ وقد عرفت بطلان هذا القول من الكتاب والسنة، وأن العلماء أنكروا هذا القول غاية الإنكار، كما سيأتي في كلام شيخ الإسلام؛ لأن المنفي بلا إله إلا الله، كل ما يعبد من دون الله، وهي أجناس موجودة في الخارج، كما قال الخليل عليه السلام: {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} [سورة الزخرف آية: 26-27] . وقال تعالى عن أهل الكهف: {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ} [سورة الكهف آية: 16] ، ولا ريب أن المنفي: ما كان أهل الشرك يباشرونه بعباداتهم، وهي أنداد موجودة في الخارج. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 282 [قول شيخ الإسلام في رده على أفلاطون وأتباعه] قال شيخ الإسلام، رحمه الله تعالى- في رده قول أفلاطون ومن تبعه-: والمعلم الأول أرسطو وأتباعه، متفقون على بطلان قول هؤلاء; فلو ظنوا أن البارئ هو الوجود المطلق بهذا الاعتبار، لوقعوا فيما منه فروا؛ فإن هذا يستلزم مباينته لجميع المخلوقات، وانفصاله عنها، مع أن عاقلا لا يقول: إن الكليات هي المبدعة لمعيناتها. بل هم يقولون: إن العلم بالقضية المعينة المطلوب إثباتها- وهو علو الله على العالم- معلوم بالضرورة والفطرة، ويعلمون بطلان نقيضها بالفطرة والضرورة، ويعلمون أنه إذا لم يكن مباينا كان داخلا محايدا؛ فيلزم الحلول والاتحاد. وذكر رحمه الله تعالى، في موضع آخر أن قدماء الفلاسفة خالفوا أفلاطون وأتباعه، في الكلي والجزئي، لأنه قول غير معقول. قلت: وبهذا يعلم أن قول هذا الرجل أن المنفي كلي لا يوجد في الخارج، قول غير معقول. وذكر شيخ الإسلام، رحمه الله تعالى أن الطوائف من المسلمين وغيرهم خالفوا هذا القول، وذكروا أنه لا يعقل، وذكر رحمه الله تعالى أن الفلاسفة وأهل الاتحاد لم يفرقوا بين القديم والحديث، ولا بين المأمور والمحظور، وقد وقع كثير من الصوفية في هذا الضلال؛ وكلتا الطائفتين ضلوا، وأضلوا عن سواء السبيل. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 283 وقال رحمه الله تعالى: إن ابن سينا ومن تبعه، أخذوا أسماء جاء بها الشرع، ووضعوا لها مسميات مخالفة لمسميات صاحب الشرع، فأخذوا مخ الفلسفة، وكسوه ثوب الشريعة؛ وهذا كلفظ: الملك، والملكوت، والجبروت، واللوح المحفوظ كما يوجد في كلام أبي حامد -يعني الغزالي- ونحوه، من أصول هؤلاء الفلاسفة الملاحدة، الذين يحرفون كلام الله ورسوله. قلت: ومن ذلك ما ذكره العلامة ابن القيم عنهم، من أنهم يقولون: عناية إلهية، وتحت هذه الكلمة نفي القدر، والحكمة. ثم إن هذا في ورقته، صرح بأن معنى لا إله إلا الله، مثل لا شمس إلا الشمس، استثناء للشيء من نفسه; وهذا قول في غاية الضلال والجهل، باطل بأدلة الكتاب والسنة، لا يقوله أحد من الأولين والآخرين، ولا في لغة أحد; وليس في المعقول والمنقول إلا رده وإبطاله؛ ومن لم يعرف بطلان هذا القول، فلا حيلة فيه. وتأمل قول هذا أيضا: وخلاصة المعنى: سلب مفهوم الإله لما سوى الله، وإيجابه له وانحصاره فيه، وصرح بهذا المراد بإلا الله. قلت: فمن يسمع كلامه هذا ظن أنه حق، وقد بناه على ما مثل به: لا شمس إلا الشمس. وحقيقة هذا القول أن الإله الجزء: 11 ¦ الصفحة: 284 واحد، يبينه قوله: سلب مفهوم الإله على ما تقدم له من أن المنفى كلي لا يوجد منه في الخارج إلا فرد. وقد عرفت مما قدمناه أن توحيد الأنبياء والمرسلين، البراءة من عبادة الأصنام، والأوثان، والطواغيت، وكلها موجودة في الخارج بأعيانها، كما قال تعالى عن قوم نوح: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً} [سورة نوح آية: 23] ؛ فتبين أن نوحا عليه السلام دعا قومه إلى ترك عبادة هذه الأصنام، والبراءة منها، والكفر بها. وكذلك هود عليه السلام دعا قومه إلى عبادة الله وحده، وترك ما كان يعبده آباؤهم، كما أخبر تعالى عنهم، أنهم قالوا له: {أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} [سورة الأعراف آية: 70] ؛ ومعلوم أن آباءهم لم يكونوا يعبدون كليا ذهنيا لا يوجد إلا في الذهن، بل يعبدون أشخاصا موجودة في الخارج، وقد قالوا لهود عليه السلام: {إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ} [سورة هود آية: 54] . وقد تقدم من الأدلة ما يدل على أن المنفي والمنهي عنه، هو: عبادة الأصنام، والأوثان، والطواغيت التي تعبد من دون الله، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [سورة النحل آية: 36] ، {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ} [سورة الزمر آية: 17] فلا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 285 يشك مسلم، بل كل من له عقل أن الطواغيت التي يعبدها المشركون، موجودة في الخارج؛ والقرآن من أوله إلى آخره يدل على هذا. فيا من لا يعرف من كلمة الإخلاص، ما عرفه عوام المسلمين، ارجع إلى نفسك، وتأمل ما وقعت فيه! أما علمت أن لا النافية إنما وضعت لغة لنفي الجنس تنصيصا؟ والجنس الذي وضعت له، لا بد له من أشخاص متعددة الخارج، قديمة، وحديثة، يعبدها كل مشرك، وليست كليا لا يوجد إلا في الذهن. فإن هذه الدعوى الباطلة لم يقل بها مسلم، في معنى كلمة الإخلاص؛ حتى المشركون في لغاتهم، لا يعرفون أن هذا معناها، ولا أنها سلبت مفهوم الإله؛ بل عرفوا كلهم أن من دعاهم إلى أن يقولوا: لا إله إلا الله، فإنما أراد منهم ترك ما كانوا يعبدونه من أصنامهم وأوثانهم وطواغيتهم التي كانت عندهم، يعبدونها من دون الله. أما قريش والعرب فأخبر الله تعالى عنهم، أنهم لما قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: " قولوا لا إله إلا الله " قالوا: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً} [سورة ص آية: 5] إلى قوله: {وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ} [سورة ص آية: 6] . وآلهتهم: اللات، والعزى، ومناة، التي كانت حول الكعبة؛ فهذا هو المراد من هذه الكلمة من لغتهم، لا يعرفون الجزء: 11 ¦ الصفحة: 286 غير ذلك. فمعنى النفي في هذه الكلمة: ترك عبادة الأوثان والبراءة منها، والكفر بها وعداوتها، وعداوة من عبدها. وقد كان العرب، يقولون في تلبيتهم: لبيك لا شريك لك، إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك؛ والشريك إنما هو أوثانهم، أشركوها مع الله في العبادة، واتخذوها أندادا، كما قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} [سورة البقرة آية: 165] ؛ ومفهوم الإله الذي لا يوجد إلا ذهنا، لا يوصف بالاتخاذ ولا بالمحبة، بل ولا له ثبوت. وتأمل ما فهمه أعداء الرسل، لما دعتهم الرسل إلى أن يعبدوا الله وحده، قال تعالى عن قوم هود: {إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ} [سورة هود آية: 54] ، وقالوا: {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا} [سورة الأحقاف آية: 22] ؛ عرفوا أنه دعاهم إلى ترك عبادتها، والبراءة منها، قال تعالى: {فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} [سورة هود آية: 101] . والمفهوم الكلي الذي لا يوجد في الخارج، لا يوصف بهذه الصفات، ولا يجمع بهذا الجمع ; بل ولا يتصور أن يدعى من دون الله. وقال تعالى عن قوم صالح: {يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوّاً قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} [سورة هود آية: 62] ، عرفوا أنه أراد منهم، ونهاهم أن يعبدوا ما يعبد آباؤهم من الأوثان، وقال تعالى عن قوم شعيب: {أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} [سورة هود آية: 87] ، عرفوا في لغاتهم أنه نهاهم الجزء: 11 ¦ الصفحة: 287 عن عبادة ما كان يعبد آباؤهم، من الأوثان الموجودة في الخارج. وتأمل، قول الله تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزّاً} [سورة مريم آية: 81] ، وقال: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ} [سورة الأنبياء آية: 24] ، وقال: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ} [سورة الزمر آية: 43] ، وقال: {أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلاً} [سورة الكهف آية: 102] ، وقال: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ} [سورة الشورى آية: 6] . ولا شك عند من له أدنى مسكة من عقل أن الذي اتخذه المشركون يعبدونه من دون الله، أشخاصا متعددة في القرآن من هذا النمط، لا تحصى. والمقصود: أن الرسل من أولهم إلى آخرهم، دعوا أممهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وترك عبادة ما كانوا يعبدونه من دونه، والكفر به والبراءة منه، كما أفصح عن ذلك خليل الرحمن إبراهيم، كما قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [سورة الأنعام آية: 74] ، وقال: {إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً} [سورة العنكبوت آية: 17] ، وقال: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 288 مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [سورة الممتحنة آية: 4] . فالنهي عن عبادة الأصنام والطواغيت، والبراءة منها والكفر بها، وإخلاص العبادة لله وحده، هو التوحيد الذي دعت إليه الرسل وأفصح القرآن عنه، وجرى يسبب جحوده على الأمم والمشركين ما جرى من العذاب، والذهاب والعقاب؛ فأين هذا من سلب مفهوم ذهني، لا يفيد شركا ولا براءة، ولا عداوة؟! فسبحان من طبع على قلوب من شاء من عباده، عن فهم ما بعث الله به رسله، من توحيده في العبادة وصرفهم عن فهم الأدلة التي أظهر فيها لعباده مراده، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم! وبهذا يتبين فساد ما لبس به هذا المفتري في معنى كلمة التوحيد، وأنه مصادم لما في كتاب الله، من تفسير هذه الكلمة العظيمة، ومناقض لما بعث الله به رسله، من إخلاص العبادة له، وترك عبادة ما سواه، والبراءة منها. وهذا أظهر شيء في القرآن، وأبينه؛ لا يمتري فيه مسلم. ونشير إلى ما ذكره بعض العلماء، في أصل هذه المقالة وبطلانها: قال إبراهيم بن سعد الكوراني، في "مصنفه" في الجزء: 11 ¦ الصفحة: 289 بيان معنى لا إله إلا الله وإعرابها، وأنها دلت على توحيد الإلهية، مطابقة وتضمنا، وما دلت عليه التزاما، وذكر كلاما في تقرير هذا المعنى، وذكر أن بعضهم اشترط في "لا" النافية للجنس هذه الكلمة الوحدة الذهنية، فجعلوا الجنس المنفي واحدا، لا يوجد إلا ذهنا. قال: وبما ذكرناه، يتضح أنه لا يصح أن يقال: نأخذ الجنس بشرط الوحدة الذهنية، فتكون القضية طبيعية. أما أولا: فالمراد بالجنس - بلا شرط - الصالح للصدق على الأفراد، كما هو الشأن في موضوع القضايا. وأما ثانيا: فلأن الكلام يخرج عن إفادة التوحيد بالكلية، لأن حاصله حينئذ هذا الجنس المأخوذ بشرط الوحدة الذهنية، المغايرة لله تعالى، منتف؛ وليس هذا من التوحيد في شيء، ولا شم من رائحة الدلالة عليه. ويقال ثالثا: إن أريد أن هذا الجنس منتف في الذهن، فهو قطعي البطلان ; إذ كل من ينطق بهذا التوحيد، مستحضرا لمعناه، قد تحقق هذا الجنس في ذهنه، فكيف يصلح نفيه؟ وعلى كل حال، فلا يصح تفسيرا لهذه الكلمة، لأن المراد من لا إله إلا الله، هو الدلالة على توحيد الألوهية؛ وهذا معلوم بالضرورة، وعلى تفسيرهم يكون بينه وبين الدلالة على التوحيد بعد المشرقين. قلت: وهذا الذي ذكره إبراهيم بن سعد، من الجزء: 11 ¦ الصفحة: 290 اشتراطهم: أن يكون الجنس فردا، لا يؤخذ إلا ذهنا، هو الذي صرح به هذا الملحد في ورقته، وهو أن "لا" في كلمة التوحيد سلبت مفهوم الإله الذي لا يوجد إلا ذهنا؛ وقد عرفت بعد هذا، عن التوحيد الذي دلت عليه كلمة الإخلاص. ولقد صرفوا هذه الكلمة العظيمة، عما وضعت له وأريد بها لغة وشرعا، وعقلا وفطرة، فإنها وضعت للبراءة من كل ما يعبد من دون الله، وإبطال عبادته والكفر به؛ وقد عرف هذا كل أحد، حتى مشركو الأمم، ومشركو العرب، كما تقدم بيانه. وأما قوله: وخلاصة المعنى: سلب مفهوم الإله لما سوى الله، وإيجابه له، وانحصاره فيه، وصرح بهذا المراد بإلا الله، فمراده بقوله: وإيجابه له، وانحصاره فيه: هذا هو توحيد الفلاسفة، وأهل الوحدة؛ فإن الله عندهم، مسماه: الكون المطلق، فكل ما كان خارجا عن الذهن من الأشخاص، فقد دخل في مسمى الله؛ فكل ما في الكون من خبيث، وطيب فهو الله، كما ذكره شيخ الإسلام، وابن القيم، وغيرهما عنهم. فواجب الوجود، والممكن، كله داخل في هذا المسمى الجزء: 11 ¦ الصفحة: 291 عندهم؛ وقد صرحوا بهذا في كتبهم، فلم يفرقوا بين الخالق والمخلوق. وقد قدمنا التنبيه في كلام شيخ الإسلام، وابن القيم رحمهما الله تعالى، كما ذكر إبراهيم بن سعد ذلك عنهم، وكما قال العلامة ابن القيم، رحمه الله تعالى: يا أمة معبودها موطوؤها أين الإله وثغرة الطعان؟ والناصح لنفسه يكون من هؤلاء الملبسة على حذر، ولا يهمل السؤال عنهم، وعن مذهبهم، وما يخدعون به العامة، من زخرف القول الذي ربما يظن الجاهل أنه حق؛ وهو عبارة هؤلاء عن باطلهم، كما نبه على ذلك شيخ الإسلام، من وضعهم أسماء الحق على باطلهم، وكل طائفة من أهل البدع لها توحيد، وهذا الذي ذكرناه هو توحيد الفلاسفة، والاتحادية، وقد أضلوا بما موهوا به كثيرا، ممن ينتسب إلى العلم. يا قومنا الله في إسلامكم ... لا تفسدوه لنخوة الشيطان وتأمل ما ذكره الفخر الرازي في معنى لا إله إلا الله، فإنه قال: التحقيق أن المضمر المرفوع بإله، راجع بالحقيقة إلى نفي الأعيان التي سموها آلهة من حيث إنها آلهة، لا إلى وجودها في حد ذاتها، ضرورة أنها موجودة في الخارج بالفعل، محسوسة. وحاصله: نفي كل فرد من أفراد إله، من تلك الحيثية غير الله، راجع إلى نفي الألوهية عن كل موجود غير الله، انتهى. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 292 فتأمل قوله: راجع إلى نفي الأعيان التي سموها آلهة. قلت: وهو الحق، لأنها نفت إلهية كل مألوه، يألهه المشركون غير الله، من كل صنم ووثن، وشريك وطاغوت; وهذا هو مدلول لا إله إلا الله: نفي إلهية كل ما يؤله من دون الله. وقوله: لا إلى وجودها، دفعا لقول من قال: إن الخبر المضمر موجود؛ وقد بين وجه ذلك، وتقديره للخبر بأحد، قريب مما تقدم في المعنى. وتأمل قوله: وحاصله: نفي كل فرد من أفراد إله؛ فبين أن المنفي له أفراد كثيرة، وهذا ظاهر بين لا يمنعه أحد، كما هو ظاهر في الكتاب والسنة، واللغة والفطرة، خلافا للفلاسفة. وكذلك قوله: راجع إلى نفي الإلهية عن كل موجود غير الله؛ وهذا هو الذي يعرفه الناس كلهم، إلا ما كان من هذه الطائفة، ومن أهل الوحدة، فإنهم ألحدوا في التوحيد، وأتوا بكل ما يستحيل عقلا وشرعا. فسبحان الله، والله أكبر، أيجوز في عقل أن المشركين من أولهم إلى آخرهم، الذين عبدوا مع الله غيره، أنهم إنما عبدوا فردا في الذهن، لا وجود له في الخارج؟ هذا أمحل المحال، وأبطل الباطل. وقد نبهت فيما تقدم، على أنهم أرادوا بهذا: أن الأصنام، والأوثان والطواغيت، لا تدخل في المنفي لأنها من جملة الوجود الذي يسمونه الله. وأقول أيضا: الآلهة هي الأنداد والطواغيت، الجزء: 11 ¦ الصفحة: 293 والشركاء، وقد قال تعالى: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [سورة البقرة آية: 22] ، فذكرها مجموعة، لكثرة أفرادها في الخارج، وقال: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} [سورة البقرة آية: 165] ، فذكرها بصيغة الجمع، يدل على كثرة إفرادها، وقال تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [سورة البقرة آية: 256] ، وقال: {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا} [سورة الزمر آية: 17] . وهذه الآيات: تدل على أن المعبودات، التي تعبد من دون الله كثيرة، من الطواغيت، وغيرها، كقوله في آيه البقرة: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ} [سورة البقرة آية: 257] ، وكقوله: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ} [سورة الأنعام آية: 100] ؛ ولا ريب أن الجن لهم وجود في الخارج، وقوله: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [سورة الشورى آية: 21] . فدلت هذه الآيات على أن لهذه المعبودات أفرادا كثيرة، وكلها منتفية بلا إله إلا الله، ما قال تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ} [سورة الأنبياء آية: 24] وهذا واضح- بحمد الله- فبطل ما اختلق الفيلسوف، وتبين به إلحاده في التوحيد، الذي بعث الله به رسوله، وأنزل به كتبه {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} [سورة الحشر آية: 2] . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 294 واعلم: أن هؤلاء الزنادقة قد طردوا أصلهم هذا حتى في الإيمان، كما قال شيخ الإسلام، رحمه الله تعالى، في "كتاب الإيمان" عن هؤلاء: إنهم يثبتون لهذه المسميات وجودا مطلقا، مجردا عن جميع القيود والصفات؛ وهذا لا حقيقة له في الخارج، وإنما هو شيء يقدره الإنسان في ذهنه، كما يقدر موجودا لا قديما ولا محدثا، ويقدر إنسانا لا موجودا ولا معدوما. ويقول: الماهية من حيث هي، لا توصف بوجود ولا عدم، ويقول: الماهية من حيث هي، هي شيء يقدره الذهن، وذلك موجود في الذهن، لا في الخارج؛ فهكذا الإيمان، يقدر إيمانا لا يتصف به مؤمن، بل هو مجرد عن كل قيد، كتقدير إنسان لا يكون موجودا ولا معدوما، بل ما ثم إيمان إلا مع المؤمنين. قلت: وكذلك إله لا يوجد إلا مع مألوه تألهه القلوب بالعبادة، وقد أشرت إلى ما ذكره شيخ الإسلام عن هذه الطائفة، كابن سينا ومن سبقه، أخذوا أسماء جاء بها الشرع، ووضعوا لها مسميات مخالفة لمسميات صاحب الشرع، ثم صاروا يتكلمون بتلك الأسماء، فيظن الجاهل أنهم قصدوا بها ما قصده صاحب الشرع؛ فأخذوا مخ الفلسفة، فكسوه ثوب الشريعة. وهذا كلفظ: الملك، والملكوت، والجبروت، واللوح الجزء: 11 ¦ الصفحة: 295 المحفوظ، والملك، والملكوت، والشيطان، والحدث والقدم، وغير ذلك. وقد ذكرنا من ذلك طرفا في الرد على الاتحادية، لما ذكرنا قول ابن سبعين، وابن عربي، وما يوجد في كلام أبي حامد وغيره، من أصول الفلاسفة، والملاحدة، التي يحرفون بها كلام الله ورسوله عن مواضعه، كما فعلت القرامطة الباطنية؛ انتهى كلامه رحمه الله تعالى. والمقصود من هذا الجواب: بيان ما قد يفتريه الجاهل، من كلام هؤلاء الذين يلبسون على العامة، فيأتونهم بما لا يعرفون أنه حق أو باطل، فربما اعتقدوه تعليلا لهؤلاء، فيقعون قي حيرة وشك؛ وهم قبل الابتلاء بهؤلاء في عافية، فسبحان مقلب القلوب. والأصل في ذلك ما أشار إليه شيخ الإسلام، رحمه الله تعالى، في مثل هؤلاء: أنه ليس عندهم من علم القلب، ومعرفته، ويقينه ما يدفع الريب، ولا عندهم من قوة الحب لله، ورسوله ما يقدمونه على الأهل والمال؛ وهؤلاء إن عوفوا من المحنة وماتوا، دخلوا الجنة، وإن ابتلوا بمن يدخل عليهم شبهات توجب ريبهم، فإن ينعم الله عليهم بما يزيل الريب، وإلا صاروا مرتابين، وانتقلوا إلى نوع من النفاق. انتهى كلامه رحمه الله تعالى. فليكن العبد المؤمن من المحنة بأهل الأهواء على حذر، ومن دنياه على خطر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي الجزء: 11 ¦ الصفحة: 296 العظيم. اللهم مصرف القلوب، صرف قلوبنا على توحيدك وطاعتك وتقواك، وأقم لنا ديننا الذي ارتضيته لنا وثبتنا عليه. اللهم زينا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين. ونختم الجواب بذكر ما ذكر العلماء، رحمهم الله تعالى، في معنى لا إله إلا الله: قال ابن رجب، رحمه الله تعالى: الكلام على لا إله إلا الله، الإله: هو الذي يطاع فلا يعصى هيبة له، وإجلالا ومحبة، وخوفا ورجاء، وتوكلا وسؤالا منه، ودعاء له، ولا يصلح ذلك كله إلا لله عز وجل. فمن أشرك مخلوقا في شيء من هذه الأمور التي هي من خصائص الإلهية، كان ذلك قدحا في إخلاصه في قول: لا إله إلا الله، وكان فيه من عبودية المخلوق بحسب ما فيه من ذلك. وقال البقاعي: لا إله إلا الله، أي: انتفى انتفاء عظيما أن يكون معبودا بحق غير الملك الأعظم؛ فإن هذا العلم هو أعظم الذكرى المنجية من أهوال الساعة، وإنما يكون علما نافعا، إذا كان مع الإذعان، والعمل بما تقتضيه، وإلا فهو جهل صرف. وقال الطيبي: الإله فعال، بمعنى مفعول، كالكتاب بمعنى المكتوب، من أله إلهة، أي: عبد عبادة. قلت: وهذا الذي ذكره الطيبي، رحمه الله تعالى، على معنى ما ثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما، أنه قرأ {وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ} الجزء: 11 ¦ الصفحة: 297 [سورة الأعراف آية: 127] . قال: لأنه كان يُعبَد، ولا يَعْبُد؛ وهذا ظاهر- بحمد الله- لمن تدبر القرآن، وعرف حقيقة الإسلام والإيمان، والله المستعان وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله على محمد وآله وصحبه، وسلم تسليما كثيرا. [المورد العذب الزلال في الرد على من لم يذكر اسمه] وله أيضا قدس الله روحه 1: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله معز الإسلام بنصره، ومذل الشرك بقهره، ومصرف الأمور بأمره، ومستدرج العاصين بمكره، الذي أظهر دينه على الدين كله، القاهر فوق عباده فلا يمانع، الظاهر على خلقه فلا ينازع، الحكيم فيما يريد فلا يدافع. أحمده على إعزازه لأوليائه، ونصرته لأنصاره، وخفضه لأعدائه، حمد من استشعر الحمد باطن سره، وظاهر جهاره. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد، شهادة من طهر بالتوحيد قلبه، وأرضى بالمعاداة فيه والموالاة ربه. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، رافع الشك وخافض الشرك، وقامع الكذب والإفك؛ اللهم صل على محمد وعلى آله، وصحبه، وسلم تسليما كثيرا.   1 " المورد العذب الزلال " في الرد على من لم يذكر اسمه. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 298 وبعد: فاعلم أيها الطالب للسلامة، الساعي في أسباب تحصيل الفقه والكرامة، أني وقفت على رسالة لمن لم يسم نفسه، مشعرة بأنه من بلاد الخرج، متضمنة لأنواع من الكذب والمرج، جامعة لأمور من الباطل، لا يسع مسلما السكوت عليها، خشية أن يفتن بها بعض الجاهلين، فيعتمد عليها؛ فإن كل عصر لا يخلو من قائل بلا علم، ومتكلم بغير إصابة ولا فهم. وقد جعل الله في كل زمان فترة، بقايا من أهل العلم يدعون من ضل إلى الهدى، ويبصرون بدين الله أهل العمى، ويحيون بكتاب الله الموتى؛ فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه وتائه ضال قد هدوه؛ فما أحسن أثرهم على الناس، وأقبح أثر الناس عليهم! وقد عن لي الجواب، ليتميز الخطأ من الصواب، فلا بد من ذكر مقدمة نافعة، لتكون هي المقصودة بالذات، ورجاء أن تكون سببا موصلا إلى رضوان الله، يستبصر بها طالب الهدى من عباد الله، وذلك بتوفيق الله الذي لا إله سواه، ولا حول ولا قوة إلا بالله. اعلم أيها المنصف: أن دين الله القويم، وصراطه المستقيم، إنما يتبين بمعرفة أمور ثلاثة، عليها مدار دين الإسلام، وبها يتم العمل بأدلة الشريعة والأحكام، ومتى اختلت وتلاشت، وقع الخلل في ذلك النظام. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 299 الأمر الأول: أن تعلم أن أصل دين الإسلام، وأساسه وعماد الإيمان ورأسه، هو: توحيد الله تعالى، الذي بعث به المرسلين، وأنزل به كتابه المحكم المبين، قال تعالى: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ} [سورة هود آية: 1-2] ؛ وهذا هو مضمون شهادة أن لا إله إلا الله. فإن أصل دين الإسلام: أن لا يعبد إلا الله، وأن لا يعبد إلا بما شرع، لا بالأهواء والبدع. وقد قال شيخنا رحمه الله، إمام الدعوة الإسلامية، والداعي إلى الملة الحنيفية: أصل دين الإسلام وقاعدته: أمران: الأمر بعبادة الله وحده والتحريض على ذلك، والموالاة فيه، وتكفير من تركه، والنهي عن الشرك في عبادته والتغليظ فيه، والمعاداة فيه وتكفير من فعله. والمخالف في ذلك أنواع ذكرها رحمه الله. وهذا التوحيد له أركان، ومقتضيات، وفرائض ولوازم، لا يحصل الإسلام الحقيقي على الحال والتمام، إلا بالقيام بها علما وعملا. وله نواقض ومبطلات تنافي ذلك التوحيد، فمن أعظمها أمور ثلاثة: الأول: الشرك بالله في عبادته، كدعوة غير الله، ورجائه، والاستعانة به، والاستغاثة، والتوكل، ونحو ذلك الجزء: 11 ¦ الصفحة: 300 من أنواع العبادة; فمن صرف منها شيئا لغير الله كفر، ولم يصح له عمل. وهذا الشرك، هو أعظم محبطات الأعمال، كما قال تعالى: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [سورة الأنعام آية: 88] . وقوله: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [سورة الزمر آية: 65-66] ؛ ففي هذه الآية: نفي الشرك، وتغليظه، والأمر بعبادة الله وحده; ومعنى قوله: {بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ} [سورة الزمر آية: 66] أي: لا غيره؛ فإن تقديم المعمول يفيد الحصر عند العلماء. الأمر الثاني من النواقض: انشراح الصدر لمن أشرك بالله، وموادة أعداء الله، كما قال تعالى: {وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [سورة النحل آية: 106] إلى قوله: {وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [سورة النحل آية: 107] ، فمن فعل ذلك فقد أبطل توحيده، ولو لم يفعل الشرك بنفسه، قال الله تعالى: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [سورة المجادلة آية: 22] الآية. قال شيخ الإسلام: أخبر سبحانه أنه لا يوجد مؤمن يوادّ كافرا؛ فمن وادّه فليس بمؤمن. قال: والمشابهة مظنة الموادة، فتكون محرمة. وقال العماد ابن كثير رحمه الله في تفسيره: قيل: نزلت في أبي عبيدة، حين قتل أباه يوم بدر، {أَوْ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 301 أَبْنَاءَهُمْ} في الصديق يومئذ هم بقتل ابنه عبد الرحمن، {أَوْ إِخْوَانَهُمْ} في مصعب بن عمير، قتل أخاه عبيد بن عمير، {أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} في عمر قتل قريبا له يومئذ أيضا، وحمزة وعلي، وعبيدة بن الحارث، قتلوا عتبة وشيبة والوليد بن عتبة يومئذ. قلت: ذكر في السيرة، أن سعد بن مالك حرص على قتل أخيه عتبة يوم أحد. وقال في قوله: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [سورة المائدة آية: 119] سر بديع، وهو: أنهم لما سخطوا على الأقارب والعشائر في الله، عوضهم الله بالرضى عنهم، ورضاهم عنه بما أعطاهم، من النعيم المقيم، والفوز العظيم، والفضل العميم، ونوه بفلاحهم وسعادتهم، ونصرتهم في الدنيا والآخرة، قي مقابلة ما ذكر عن أولئك من أنهم {حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [سورة المجادلة آية: 19] . قلت: هم الذين والوا أهل الضلال، وسخطوا على أهل الإيمان. الأمر الثالث: موالاة المشرك، والركون إليه ونصرته وإعانته باليد، أو اللسان أو المال، كما قال تعالى: {فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكَافِرِينَ} [سورة القصص آية: 86] ، وقال: {رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ} [سورة القصص آية: 17] ، وقال: {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [سورة الممتحنة آية: 9] . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 302 وهذا خطاب الله للمؤمنين، من هذه الأمة؛ فانظر أيها السامع، أين تقع من هذا الخطاب، وحكم هذه الآيات؟ ولما أعانت قريش بني بكر على خزاعة سرًّا، وقد دخلوا في صلح رسول الله صلى الله عليه وسلم، انتقض عهدهم، وغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم لذلك غضبا لله، وتجهز لحربهم ولم ينبذ إليهم. ولما كتب لهم حاطب كتابا، يخبرهم بذلك إخبارا، أنزل الله تعالى في ذلك هذه السورة، ابتدأها بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} [سورة الممتحنة آية: 1] إلى قوله: {وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} [سورة الممتحنة آية: 1] . ثم أمر تعالى بالتأسي بخليله عليه السلام، وإخوانه من المرسلين، بالعمل بدينه الذي بعثهم به، فقال: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [سورة الممتحنة آية: 4] . فذكر أمورا خمسة، لا يقوم التوحيد إلا بها، علما وعملا ; وعند القيام بهذه الخمسة، ميز الله الناس لما ابتلاهم بعد، وهم كما قال تعالى: {الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [سورة العنكبوت آية: 1-2-3] . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 303 وحذر تعالى عباده عن توليهم عدوهم، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [سورة المائدة آية: 57] ، وقال تعالى: {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً} [سورة النساء آية: 138-139] الآية. وقال تعالى: {تَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [سورة المائدة آية: 80-81] . فتأمل ما في هذه الآيات، وما رتب الله سبحانه وتعالى على هذا العمل، من سخطه والخلود في عذابه، وسلب الإيمان، وغير ذلك. وقال شيخ الإسلام، في معنى قوله تعالى: {وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ} [سورة المائدة آية: 81] ؛ فثبوت ولايتهم يوجب عدم الإيمان. وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ} [سورة محمد آية: 25] إلى قوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ} [سورة محمد آية: 26] ، والسين حرف تنفيس، تفيد استقبال الفعل؛ فدل على الجزء: 11 ¦ الصفحة: 304 أنهم وعدوهم ذلك سرا، بدليل قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [سورة محمد آية: 26-27-28] ، والآيات في هذا المعنى كثيرة. والمقصود: بيان عظم هذا الذنب عند الله، وما رتب عليه من العقوبات عاجلا وآجلا؛ نسأل الله الثبات على الإسلام والإيمان، ونعوذ بالله من الخيبة والخذلان. وقد ذكر شيخنا رحمه الله، في مختصر السيرة له، عن سيرة الواقدي: "أن خالد بن الوليد لما قَدِمَ "العُرْضَ" قدَّم مائتي فارس، فأصابوا مُجَّاعة بن مرارة، في ثلاثة عشر رجلا من قومه بني حنيفة، فقال لهم خالد بن الوليد: ما تقولون في صاحبكم؟ فشهدوا أنه رسول الله، فضرب أعناقهم حتى إذا بقي سارية بن عامر، قال: يا خالد إن كنت تريد بأهل اليمامة خيرا أو شرا، فاستبق مجاعة، وكان شريفا، فلم يقتله، وترك سارية أيضا. فأمر بهما فأوثقا في مجامع من حديد، فكان يدعو مجاعة وهو كذلك، فيتحدث معه، وهو يظن أن خالدا يقتله; فقال: يا ابن المغيرة، إن لي إسلاما، والله ما كفرت; فقال خالد: بين القتل والترك منْزلة، وهي الحبس حتى يقضي الله في أمرنا ما هو قاض، ودفعه إلى أم متمم زوجته، وأمرها أن تحسن إساره. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 305 فظن مجاعة أن خالدا يريد حبسه ليخبره عن عدوه، وقال: يا خالد، لقد علمت أني قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعته على الإسلام، وأنا اليوم على ما كنت عليه بالأمس، فإن يكن كذاب قد خرج فينا، فإن الله يقول: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [سورة الأنعام آية: 164] . فقال: يا مُجاعة، تركت اليوم ما كنت عليه أمس، وكان رضاؤك بأمر هذا الكذاب، وسكوتك عنه، وأنت من أعز أهل اليمامة، إقرارا له، ورضاء بما جاء به، فهلا أبديت عذرا فتكلمت فيمن تكلم؟ فقد تكلم ثمامة فرد وأنكر، وتكلم اليشكري، فإن قلت: أخاف قومي، فهلا عمدت إلي، أو بعثت إلي رسولا؟ ". فتأمل كيف جعل خالد سكوت مجاعة، رضاء بما جاء به مسيلمة وإقرارا; فأين هذا ممن أظهر الرضى وظاهر، وأعان وجد وشمر، مع أولئك الذين أشركوا مع الله في عبادته، وأفسدوا في الأرض؟ فالله المستعان. الأمر الثاني من الأمور التي لا يصلح الإسلام إلا بها: العمل بشرائعه وأحكامه؛ وبالقيام بذلك يقوم الدين، وتستقيم الأعمال، كما قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً} [سورة النساء آية: 66] الآية. وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 306 يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [سورة النساء آية: 58-59] . وقال تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [سورة الشورى آية: 10] الآية، وقال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً} [سورة الأحزاب آية: 36] ، وقال تعالى: {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [سورة النور آية: 48-49-50] . وقال تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ} [سورة القصص آية: 50] الآية، وقال تعالى: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} [سورة النور آية: 43-44] . وفي هذا المعنى قال أبو تمام شعرا: وعبادة الأهواء في تطويحها ... بالدين مثل عبادة الأوثان وهذا هو الغالب على كثير من الناس، رد الحق لمخالفة الهوى، ومعارضته بالآراء؛ وهذا من نقص الجزء: 11 ¦ الصفحة: 307 الدين، وضعف الإيمان واليقين. الأمر الثالث: أداء الأمانات، واجتناب المحرمات، والشهوات، والجد في أداء الفرائض، والعبادات والواجبات، والقيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد في سبيل الله; وقد وقع الخلل العظيم في ذلك، كما قال تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً} [سورة مريم آية: 59] الآية. وبذلك وقعت الغفلة والإعراض عن كتاب الله تعالى، واشتغل أكثر الناس بدنياهم، عن طاعة مولاهم، وزهدوا في كل ما يعود نفعه إليهم في دنياهم وأخراهم، مما يوجب رضى ربهم، ومولاهم، كما قال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} [سورة الكهف آية: 57] . فيجب على من نصح نفسه، ممن جعل الله تعالى له القدرة والسلطان، ونفوذ الكلمة، أن يهتم بحفظ هذه الثغور الثلاثة؛ فإنها ثغور الإسلام، وقد سعى في خرابها من ليس له فيه رغبة ولا مقام; ومن أسباب حفظها: الإخلاص لله، والصدق، واللجأ إليه، وتعظيم أمره ونهيه، والتوكل عليه، وتمييز الخبيث من الطيب؛ فإن الله تعالى ميزهم لعباده لما ابتلاهم. فعليك ببغض أعداء الله، والاهتمام بما يرضيه، ومحبة ما يحبه، وكراهة ما يكرهه، الجزء: 11 ¦ الصفحة: 308 وخشيته ومراقبته، فإنه أوثق عرى الإيمان، والله المستعان. [فصل في الإشارة إلى ما تضمنته لا إله إلا الله] فصل في الإشارة إلى ما تضمنته: لا إله إلا الله، من الشرك، وإبطاله، وتجريد التوحيد لله تعالى، والإشارة إلى بعض ما تنتقض به عرى الدين، الذي بعث الله به المرسلين، والباعث على ذلك: ما بلغني عن رجل، قبل طروق الفتن، يغلو في التكفير، ويكفر بأشياء لم يكفّر بها أحد من أهل العلم. ثم إنه قال بعد ذلك، لما غرق في الفتن - أعاذنا الله من مضلات الفتن، ما ظهر منها وما بطن -: من قال لا إله إلا الله، فهو المسلم المعصوم، وإن قال ما قال. فأقول وبالله التوفيق: اعلم أن لا إله إلا الله: كلمة الإسلام، ومفتاح دار السلام، وقد سماها الله كلمة التقوى، والعروة الوثقى؛ وهي كلمة الإخلاص، التي جعلها إبراهيم عليه السلام كلمة باقية، في عقبه لعلهم يرجعون. ومضمونها: نفي الإلهية عما سوى الله، وإخلاص العبادة بجميع أفرادها لله وحده، كما قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} [سورة الزخرف آية: 26-27] الآية، وقال عن يوسف عليه السلام: {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 309 مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ} [سورة يوسف آية: 38] إلى قوله: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [سورة يوسف آية: 40] ، وقال تعالى: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ} [سورة الأنعام آية: 14] ، وقال: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبّاً وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ} [سورة الأنعام آية: 164] ، وقال: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً} [سورة الأنعام آية: 114] ، وقال: {قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ لااللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ} [سورة الرعد آية: 36] . والقرآن من أوله إلى آخره، يقرر أن دين الله الذي بعث به رسله، وأنزل به كتبه، هو: إخلاص العبادة بجميع أنواعها لله وحده، دون كل ما سواه، والبراءة من الشرك وأهله، وقتالهم حتى لا تكون فتنة، أي: شرك; وهذا لا يخفى على من له أدنى بصيرة؛ وهذا هو مدلول لا إله إلا الله. وقد عرف ذلك كفار قريش، فما انقادوا له؛ فإنهم لما دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن يقولوا: لا إله إلا الله، قالوا: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ?وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ} [سورة ص آية: 5-6] . وقد تفاوت الناس في هذا التوحيد، الذي هو معنى لا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 310 إله إلا الله؛ فهما وعلما، واعتقادا وعملا، أعظم تفاوت: فمنهم من يقولها: عن علم ويقين، صدقا مخلصا من قلبه، وأدى حقوقها، وعمل بمقتضاها، من المعاداة لأهل الشرك بالله، والموالاة لأهل التوحيد، متقدمهم، ومتأخرهم، واستقام على ذلك، ولم يأت بما يبطلها. وهؤلاء هم المسلمون المؤمنون، الذين لم يخلطوا إيمانهم بشرك، فأدوا شكر ما أنعم الله به عليهم، بالإخلاص له، والبراءة من كل دين يخالف ذلك، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [سورة فصلت آية: 30] الآية. والمراد الربوبية الخالصة، وهي: أن يتخذوا خالقهم ومالكهم، والمتصرف فيهم معبودا، دون كل ما سواه. أخرج ابن جرير بسنده عن أنس بن مالك: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [سورة فصلت آية: 30] ، قال: " قد قالها الناس ثم كفر أكثرهم "1. ومنهم من يقول لا إله إلا الله، ولا عرف مدلولها من النفي والإثبات، فيثبت بفعله ما دلت هذه الكلمة العظيمة على نفيه بإشراكه بالله في الإلهية، وينفي ما دلت على إثباته من إفراد الرب تعالى بالإلهية، وينكر ذلك ويعادي من دعا إلى التوحيد وعرف به؛ وذلك من فرط جهله بمعنى ما يقول، كما هو الغالب على أكثر من يقول: لا إله إلا الله. فإذا قال الموحد: لا تجوز العبادة إلا لله تعالى، فلا يدعى   1 الترمذي: تفسير القرآن (3250) . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 311 إلا الله، ولا يرجى ولا يتوكل إلا عليه، وأمثال ذلك من أنواع العبادة، أنكرته قلوبهم وألسنتهم. فليتأمل الناصح لنفسه ما قرره الله في كتابه من أدلة التوحيد، كقوله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [سورة الزوم آية: 30-31-32] . ومنهم المنافقون، وقد كانوا مع المسلمين، ويقولون لا إله إلا الله، ويشهدون أن محمدا رسول الله، ويصلون ويزكون، ويصومون، ويجاهدون مع المسلمين، ولم يظاهروا عليهم عدوا؛ ومع هذا وغيره، أكذبهم الله لما جاءوا رسوله صلى الله عليه وسلم وقالوا: نشهد إنك رسول الله، وأكدوا لشهادتهم بالمؤكدات: إنّ واللام، فقال الله عز وجل: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ} [سورة المنافقون آية: 1-2-3] . ووجه الدلالة من هذه الآيات: أن شهادتهم وأعمالهم لم تنفعهم، مع قيام المنافي لذلك< فإنهم قام بهم من الجهل والشك، والريب وغير ذلك، ما صاروا به كفارا في الجزء: 11 ¦ الصفحة: 312 الدرك الأسفل من النار. ومن صفاتهم، ما ذكر الله في سورة البقرة: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [سورة البقرة آية: 10] إلى قوله: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [سورة البقرة آية: 14] الآية. وقال: {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ} [سورة النساء آية: 143] الآية، وقال تعالى: {يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} [سورة الفتح آية: 11] ، وقال: {يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ} [سورة التوبة آية: 8] . والمقصود: أن القول لا ينفع إلا مع علم القلب، وإيمانه، ويقينه؛ والأعمال تصدق ذلك إذا كانت على مقتضى الإيمان، وأما مع الإتيان بالمنافي، فإنه أعدل شاهد على كذب ذلك القول؛ إذ لو كان صدقا لعمل بمدلول ذلك. ومدلول اللفظ هو المعنى المطابق للدال، وهو اللفظ; وكل قول مستعمل دال، ومدلوله: المعنى الذي وضع ذلك اللفظ للدلالة عليه. إذا عرف ذلك، فإن منهم من يقول لا إله إلا الله عالما بمدلولها، لكن قد يعرض له ما يمنعه من الاستقامة على العمل، كما قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 313 رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ} [سورة العنكبوت آية: 10-11] . فتأمل ما ذكره المفسرون في معنى هذه الآيات، وكان يمنعني من سياق كلامهم، وجوده وشهرته، مع أن قصدي الاختصار. ولما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وكفر من كفر من العرب، ولم يتركوا قول لا إله إلا الله، ومنهم بنو حنيفة، كفروا بتصديقهم مسيلمة في كذبه؛ وقصة عمر مع أبي بكر رضي الله عنهما مشهورة، في الصحاح، والسنن، والمسانيد. وتأمل قول الله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ?لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [سورة التوبة آية: 65-66] ؛ وسبب نزولها، وفيمن نزلت، مشهور في كتب التفسير والحديث. وكان أولئك النفر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، يصلون، وينفقون، ويجاهدون، فكفرهم الله تعالى بما قالوه. وكذلك قوله تعالى: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ} [سورة التوبة آية: 74] الآية، وسبب نزولها، ومن نزلت فيهم، معروف، لا يحتاج إلى أن نذكره. وقوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 314 لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكَذِبُونَ} [سورة التوبة آية: 75-76-77] . فليتق الله المرء في نفسه، ويخاف من عقوبات الذنوب. وكذلك قوله تعالى، عن أهل مسجد الضرار {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادَاً لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [سورة التوبة آية: 107] ، وهو أبو عامر الفاسق؛ وهؤلاء، ومن قبلهم يقولون: لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وفي الظاهر كانوا في عداد الأنصار، قبل أن يظهر الله ما أسروه من الكفر. وقال الله في شأنهم: {لا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ_ إِلّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ} [سورة التوبة آية: 110] أي: بالموت; والكتاب والسنة: مملوء بمثل هذه الأدلة; وفيما ذكرناه كفاية للمسترشدين، وبالله التوفيق. أيظن من وقع منه مثل ما وقع من أولئك، أنه يسلم من هذه العقوبات؟ وليس معه براءة من الله، وهو يعلم أن ما كلف به أولئك كلف به من بعدهم، وما عوقبوا به، عوقب به من بعدهم، إذا عمل بأعمالهم، ونسج على منوالهم. نسأل الله الثبات في الدين، واتباع سبيل المؤمنين. ومن تدبر القرآن مسترشدا مصيخا مصغيا، علم أن الرسل إنما بعثوا إلى الناس بالدعوة، إلى أن يعملوا بالتوحيد، الجزء: 11 ¦ الصفحة: 315 ويؤدوا ما افترض الله عليهم، ويجتنبوا ما نهاهم عنه، من عبادة ما سواه، ويخلصوا أعمالهم لله وحده. والقرآن العظيم من أوله إلى آخره، يقرر هذا التوحيد، وينهى عن الشرك بالله في عبادته، التي لا يصلح أن يقصد بها غيره; فانظر واستمع، تجده يقرر الإخلاص وشرائعه، وينفي الشرك وتوابعه، أوضح بيان; وكذلك الأحاديث والسير، ترشد إلى ذلك، وتقرره على أكمل الوجوه، وأحسن البيان. لكن لما اشتدت غربة الدين بهجوم المفسدين، وقع الريب والشك بعد الإيمان، وانتقض أكثر عرى الإسلام، بانقراض عصر الأئمة الأعلام، كما قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب: "إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة، إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية". ومما انتقض من عراه: الحب في الله، والبغض في الله، والمعاداة والموالاة لله وفي الله، كما جاء في الحديث الصحيح: "أوثق عرى الإيمان الحب في الله، والبغض في الله"؛ وأنت ترى حال الكثير، حبه لهواه، وبغضه لهواه، ولا يسكن إلا لمن يلائم طبعه وهواه، وإن غره وأغراه؛ فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. والحاصل: أن كل قول وعمل صالح يحبه الله ويرضاه، فهو من مدلول لا إله إلا الله، إما مطابقة أو تضمنا، أو التزاما; يقرر ذلك أن الله تعالى سماها: {كَلِمَةَ التَّقْوَى} ، [الفتح: 26] . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 316 والتقوى: أن يتقي العبد سخط الله وعقابه وعذابه، بترك الشرك والبراءة منه ومن أهله، وإخلاص العبادة لله تعالى، وامتثال ما أمر الله به، وترك ما نهى الله عنه، متبعا في ذلك كله ما شرعه الله ورسوله. وقد عرّفها السلف رضي الله عنهم، قال طلق بن حبيب: "التقوى أن تعمل بطاعة الله، على نور من الله، ترجو ثواب الله; وأن تترك معصية الله، على نور من الله، تخاف عقاب الله تعالى" وأخرج الترمذي وابن ماجه، بالإسناد عن عبد الله بن يزيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين، حتى يدع ما لا بأس به حذرا مما به البأس " 1. قال شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [سورة فصلت آية: 30] ، قال أبو بكر الصديق: فلم يلتفتوا عنه يمنة ولا يسرة; أي: لم يلتفتوا بقلوبهم إلى ما سواه، لا بالحب، ولا بالخوف، ولا بالرجاء، ولا بالتوكل عليه؛ بل لا يحبون إلا الله، ولا يحبون إلا له، انتهى. وقال شيخنا، شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، سألني الشريف عما نقاتل عليه، وما نكفّر به؟ فقال في الجواب: إنا لا نقاتل إلا على ما أجمع عليه العلماء كلهم، وهو الشهادتان بعد التعريف، إذا عرف ثم أنكر; فنقول: أعداؤنا معنا على أنواع. الأول: من عرف أن التوحيد دين الله ورسوله، وأن   1 الترمذي: صفة القيامة والرقائق والورع (2451) , وابن ماجه: الزهد (4215) . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 317 هذه الاعتقادات في الحجر والشجر، والبشر، الذي هو دين غالب الناس، أنه الشرك الذي بعث الله رسوله بالنهي عنه، وقاتل أهله ليكون الدين كله لله، ولا يلتفت إلى التوحيد ولا تعلمه، ولا دخل فيه، ولا ترك الشرك، فهذا كافر نقاتله، لأنه عرف دين الرسل فلم يتبعه، وعرف دين المشركين فلم يتركه، مع أنه لم يبغض دين الرسول، ولا من دخل فيه، ولا يمدح الشرك ولا يزينه. الأمر الثاني: من عرف ذلك، ولكن تبين في سب دين الرسول، مع ادعائه أنه عامل به، وتبين في مدح من عبد يوسف، والأشقر، وأبا علي، والخضر، وفضلهم على من وحد الله، وترك الشرك؛ فهذا أعظم كفرا من الأول، وفيه قوله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ} [سورة البقرة آية: 89] الآية، وممن قال الله فيهم: {وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ} [سورة التوبة آية: 12] الآية. الثالث: من عرف التوحيد وأحبه واتبعه، وعرف الشرك وتركه؛ لكن يكره من دخل في التوحيد، ويحب من بقي على الشرك؛ فهذا أيضا كافر، وفيه قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [سورة محمد آية: 9] . النوع الرابع: من سلم من هذا كله، ولكن أهل بلده يصرحون بعداوة التوحيد، واتباع الشرك، ويسعون في قتالهم، وعذره: أن ترك وطنه يشق عليه، فيقاتل أهل الجزء: 11 ¦ الصفحة: 318 التوحيد مع أهل بلده، ويجاهد بنفسه وماله؛ فهذا أيضا كافر; لأنهم لو أمروه بترك صيام رمضان، ولا يمكنه ذلك إلا بفراق وطنه فعل، ولو أمروه بتزوج امرأة أبيه، ولا يمكنه مخالفتهم إلا بذلك فعل. وأما موافقتهم على الجهاد معهم بماله ونفسه مع أنهم يريدون قطع دين الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فأكبر مما ذكرنا بكثير؛ فهذا أيضا كافر، ممن قال الله فيهم: {سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ} [سورة النساء آية: 91] الآية. والله سبحانه وتعالى أعلم؛ وصلى الله على محمد، وآله وصحبه وسلم. فصل وهذا شروع في الجواب، المشار إليه سابقا وقد كنت عزمت على أن أتتبع كلامه، وأجيب عنه تفصيلا، ثم إنه عرض لي ما يجب أن يكون هو المقصود بالذات، مما قدمته حماية لجانب التوحيد والشريعة، ثم بدا لي أن أقتصر في جواب الرجل، لما في الاقتصار من رعاية الصبر والاصطبار; لأنا لو أجبناه بكل ما يليق في الجواب، لم نسلم من أمثاله ممن نسج على منواله، كما هو الواقع من أكثر البشر قديما وحديثا، مع كل من قام بالحق، ونطق بالصدق. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 319 فكل من كان أقوم في دين الله، كان أذى الناس إليه أسرع، والعداوة له أشد وأفظع; وأفضل خلق الله رسله، وقد عالجوا من الناس أشد الأذى؛ حكمة بالغة، كما قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً} [سورة الفرقان آية: 31] . والآيات والأحاديث في ذلك كثيرة جدا ينبئك عن تفصيل هذا ما ذكره الله في كتابه عن أنبيائه، لما دعوا أممهم إلى التوحيد، كيف قيل لهم، وما خوطبوا به. وتأمل ما جرى لخيار هذه الأمة، كالخلفاء الراشدين، وسادات أصحاب سيد المرسلين، من أعدائهم كالروافض، والخوارج ونحوهم، وما جرى لأعيان التابعين ومن بعدهم من أعيان الأئمة، كالإمام أحمد بن حنبل، ومحمد بن نوح، وأحمد بن نصر الخزاعي، وأمثال هؤلاء ممن لا يمكن حصرهم. ولو ذكرنا جنس ما جرى لهم من الأذى لطال الجواب، والقصد الاقتصار؛ ومن أراد الوقوف على ذلك، فعليه بالسير والتاريخ، ولله در أبي تمام حيث يقول، شعرا: وإذا أراد الله نشر فضيلة طويت أتاح لها لسان حسود وقال أبو الطيب شعرا: وشأن صدقك عند الناس كذبهم ... وهل يطابق معوج بمعتدل إذا علمت ذلك، فإن هذا الرجل ذكر عن الشيخ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 320 عبد الرحمن بن حسن، أنه لا يصلي بهم، ولا يقدم من يهوونه، ولا يقطع خصومة، وعدوه من نظر في كتاب، أو نطق بصواب؛ هذا كلامه فيه عن هذه الأمور من المثالب، والبصير إذا تأمل، رآها من المناقب; لأن المسلم لا يجوز أن يحمل إلا على الخير، فيما خفي عذره فيه، حتى يتبين ما يرفع الاحتمال. وهذه العيوب الخمسة، محتملة لأمور: منها: ما يحتمل أنه فعله تأثما من الصلاة بالناس، لعذر خفي عليهم أوجب ذلك. وأما الثاني: فيحتمل أنه إنما فعله نصحا لهم، وطلبا للسلامة من تبعة ذلك؛ ولا يخفى أن نظره لهم، خير من نظرهم لأنفسهم، فإن جهال العامة لا يهتدون غالبا إلى ما يصلح دينهم. وأما الثالث: ففيه التثبت في الفتيا؛ فإن الإفتاء في دين الله بلا علم حرام; فلا بد للمفتي والقاضي، من التأمل والمراجعة، وإلا أصيبت مقاتله. والعامة لا يعجبهم ذلك; والعالم عندهم من يبادرهم بالحكم والإفتاء، من غير تأن ولا مراجعة؛ وهذا من فرط جهلهم، وعدم علمهم، كما يتبين من حال هذا المعترض. وأما الرابع، والخامس: ففيه حماية جانب العلم، وصيانته عن مثل هؤلاء الجهال الذين لا يعلمون، ولا يعلمون أنهم لا يعلمون؛ فإن صيانة العلم عن تخبيط الجاهلين الجزء: 11 ¦ الصفحة: 321 أمر لا بد منه. فانظر كيف وقع من أمثالهم من تتبع الرخص، أعاذنا الله من ذلك، وما أحسن ما قال بعض العلماء، رحمه الله: العلم قال الله قال رسوله ... قال الصحابة ليس خلف فيه ما العلم نصبك للخلاف سفاهة ... بين الرسول ورأي كل فقيه وهذا الضرب من الناس: أفسدوا بدعواهم العلم، على كثير من العامة دينهم، لما قلدوهم لهواهم، وأحسنوا بهم الظن، وفاقا لدنياهم; فتأمل تجد ما ذكرته واقعا، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم; فلفرط عداوة هذا الرجل، عدّ هذه الأمور الخمسة من المثالب؛ وهي كما ترى صالحة لأن تعدّ من المناقب، كما قيل: إذا كان من فيهم قليل حظ ... فما حسناته إلا ذنوب ثم إنه أخذ يحذر الإمام من أولاد الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وأنه لا يجوز له أن يصغي إليهم، ولا يأخذ منهم، ولا يلين لهم بجانبه، إلى غير ذلك، ويحلف جهد يمينه أن الحامل إلى هذا القول محض النصيحة بلا عول. فأقول: يكفيك دليلا على كذب هذا وغشه، وسخافة عقله، وقلة دينه وجهله، ما عبر به من هذا القيل; أما كان يعرف ما كان عليه المسلمون؟ وما كانوا ينصحون به الإمام؟ فإن كل من يعرف بإسلام حسن، يوصيه بضد هذا; ولا ريب عندهم أن هذا كلام لا يقوله إلا رجل سوء; فسل من شئت الجزء: 11 ¦ الصفحة: 322 من غير أهل الفساد; وكل إناء بالذي فيه ينضح; وفيما قص الله عن الأنبياء: تسلية لعبده المسلم، إذا كان له أعداء، كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً} [سورة الفرقان آية: 31] . فيؤخذ من هذا: أن من قال الحق ودعا إليه، فلا بد أن يتصدى له من يوقع الأذى عليه، وما ذاك إلا لصعوبة الحق على النفوس، ومخالفته الأهواء، وإيثار الشهوات على التقوى. نسأل الله الثبات على الإيمان، والعفو والعافية، في الدين والدنيا والآخرة; ولقد أحسن من قال في مثل هذه الحال شعرا: يقضى على المرء في أيام محنته حتى يرى حسنا ما ليس بالحسن وقائل هذا إنما أخذه من كتاب الله تعالى، وهو مذكور في عدة آيات من الكتاب، ترشد إلى من لم يرد الله به خيرا، يرى أن نفس الخطأ هو عين الصواب. ثم إن هذا المعترض زعم أن ابن ثنيان يطعمهم الحرام. فالجواب: أن يقال: وهذا من جهله وقلة دينه وعقله، لأن هذا الكلام شاهد على قائله أنه لا يعرف شيئا من الأحكام، ولا يتصور الواقع؛ وذلك لا يخلو، إما أن يكون صدر عن سوء طوية وفساد روية، أسوة أمثاله ممن لم يستضيء بنور التوحيد الذي هدى الله إليه كثيرا من أهل نجد وغيرهم، أحرارهم والعبيد. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 323 أو أنه مغفل عن هذا الشأن، كحال أهل المهن، وأرباب الدنيا في كل زمان؛ فلو سألت أحدهم عن الدين، الذي بعث الله به المرسلين، لما أحسن التعبير عنه، ولا عرف حقيقة الإسلام بيقين. ولا ريب أن هذه قصارى حال المشار إليه، لدلالة كتابه عليه؛ فإن هذا كلام من لا يدري ما يقول، من غير تصور ولا معقول، فلا بد - والحالة هذه - من بيان يكشف ما يقول، قد يلتبس على بعض الجهال من ذلك الهذيان. فأقول: من المعلوم عند الموافق والمخالف، أن أئمة المسلمين الذين أقام الله بهم هذا الدين، بعد ما اشتدت غربته من بين الظلمة والمفسدين، أن الله بفضله ورحمته، أقامهم بالحق المبين، فدعوا إلى التوحيد، وأنكروا كل شرك وشك وتنديد، ونشروا أعلام الجهاد، حتى أدخل الله بدعوتهم كل حاضر من قومهم وباد. فأخذوا تلك الأموال من أهل البغي والفساد، بسيف الحق والجهاد، فهو - بحمد الله - من طيب الحلال بلا تردد ولا إشكال؛ فقد أحل الله لرسوله صلى الله عليه وسلم ولأمته الغنائم; وقد غنم الصحابة رضي الله عنهم أموال من ارتد من العرب، أو شك في الحق واضطرب. وكل ما لا يؤيد بالدليل، فلا التفات إليه ولا تعويل، الجزء: 11 ¦ الصفحة: 324 على أن الكثير من تلك الأموال التي أخذت على هذا الوجه الحلال، وصارت من جملة بيت المال، قد تركت في أيدي الغاصبين لها، حين تبدلت الحال; فلما قام هؤلاء الولاة، واجتمع عليهم الناس في هذه الأوقات، لم يبق في أيديهم من أموال الفيء إلا القليل، لتغلب أناس عليها من ظلمة ذلك الجيل. فإن كان ابن ثنيان استولى عليها، فقد فاته منها الكثير; وذلك أمر بين شهير. وإن كان قد أخذ غير ذلك بتأويل الجهاد، أو بمن يمنع زكاته من أهل تلك البلاد، أسوة الماضين من الولاة المتقدمين، كالأمويين والعباسيين، وعلى هذا، فدعوى أن مجموع ما أخذه كله حرام، من جملة الهذيان في الكلام. فإن القول بحلِّها هو الصواب المقرر في كتب الأحكام، كما نص عليه الصحابة والأئمة بعدهم، في جوائز السلطان، فإنها أحب إلى بعضهم من صلات الإخوان، ولأنها حلال لرسول الله صلى الله عليه وسلم دون الزكاة، في المأثور والمنقول. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وأصل الضلال في أهل الأهواء، من اتخاذ دين لم يشرعه الله، أو تحريم ما لم يحرمه الله; إذا عرف ذلك، فلا يخفى حال من سلف من الولاة، المتغلبين على هذه الجهات، قبل أن يظهر عليها أهل الإسلام، أنهم يقاتلون عليها بغير الحق المبين، ويأخذون الأموال ظلما وعدوانا بيقين. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 325 وفي تلك المدة وقفوا الأوقاف، وليس بأيديهم إلا تلك الأموال، فهل يصح - والحالة هذه - ما كان هذا أصله من تلك الأوقاف؟ وكذا أموال التجار، فإنهم يعاملون فيها بالربا، في جميع القرى والأمصار ويكون لتلك الأموال والمعاوضة بها امتداد وانتشار، من غير سؤال عنها ولا استفسار، مثل هذا ما يأخذه الأعراب المعتدون من أموال الغير، وبها يمتارون; فما قال هذا المجترئ على شيء من ذلك أنه حرام، أو أن فيه إشكالا في حال من الأحوال. وكذلك ما وقع في هذه الديار من المعاملات الربوية، ولا ريب أنها بلية، وأي بلية؟! وأمر خاسر ظاهر في أناس، من ظهور أمارات الخيانة عليهم، ونسبتها - لقوة القرينة - إليهم، وكل ذلك لا عتب فيه ولا بأس؛ وأما الثلب والسب منه والعتاب، فإنما يتوجه إلى خصوص أولاد الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وإن لم يكن لهم مدخل في الأموال، ولا عمل لهم فيها بحال!! أعوذ برب الناس من كل طاعن علينا بسوء أو ملح بباطل والعارف لا يخفى عليه موجب هذه العداوة. فإن قيل: ما قولكم في حكم ما ذكرتموه، من هذه الأموال؟ أمن الحرام هي، أم من الحلال؟ قلنا: القول فيها يتوقف على البحث عن كل فرد منها، والاستفصال؛ ولكن من حيث عدم العلم، الجزء: 11 ¦ الصفحة: 326 بأعيانها، على طريق الإجمال، فالمأثور عن السلف والأئمة، في جوائز السلطان، وما كان على هذا المنوال: أنه من قسيم الحلال، إلا ما علم أنه بعينه حرام، وما لا فلا يمنع أخذه ممن أعطاه إياه، إذا كان يستحقه. قال الإمام أحمد، رحمه الله: ليس أحد من المسلمين إلا وله في هذه الدراهم حق، وكيف أقول: إنها سحت؟ والحسن، والحسين، وعبد الله بن جعفر، وكثير من الصحابة يقبلون جوائز معاوية; قال: ولأن جوائز السلطان لها وجه في الإباحة والتحليل، فإن لها جهات كثيرة من الفيء والصدقة وغيرها، انتهى من المغني. قال ابن رجب: وروي في ذلك آثار كثيرة عن السلف، وكان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه: يعاملون المشركين، وأهل الكتاب، مع علمهم أنهم لا يجتنبون الحرام; وقال ابن مسعود: إنما الهنا لكم، والوزر عليهم. قلت: وما زال العلماء في كل عصر، يقبلون جوائز الأمراء، ويأخذون حقهم من بيت المال، فلم ينكر ذلك أحد من أهل الورع، ولا غيرهم من العلماء. إذا عرف ذلك, فهنا أمر ينبغي الإشارة إليه، وهو أن يقال: ما حكم هذه الأموال، لما كانت بأيدي أناس تغلبوا عليها بعد أئمة المسلمين, وجاروا على الناس وصدوهم عن الحق، وأفسدوا في الأرض بالمعاصي؟ فإن الجزء: 11 ¦ الصفحة: 327 علم أن ما في أيديهم هو من عين ما غصبوه، فالحكم فيه كالحكم في الأموال المغصوبة، وكذا ما علم أن صاحبه أخذه على وجه الخيانة، فينبغي أن يجتنب. فينظر حال هذا الرجل؛ فإن كان متحاشيا من أخذ هذه الأموال، ويتباعد عمن كانت في يده، ولم يبق إلا أنه جهل حكم تلك الأموال، فالأمر أهون; وإن كان لا يتحاشى من الحرام الذي هذا وجهه، ويحرم الحلال الذي عرف وجهه، صار محلا لإساءة الظن به، خصوصا إذا عرف أنه لا سبب بينه وبين أولاد الشيخ يقتضي هذه العداوة إلا الدين الذي يعرفون به ويدعون إليه. فقد كان بعض أهل نجد، لما أخرج الله ضغائنهم، توصلوا إلى مسبة دين الله بمسبة أهله، كما فعل أشباههم من الماضين، {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [سورة التوبة آية: 32] . ثم إن هذا المعترض، قال في أولئك الذين وجه الطعن إليهم: إنهم نظروا إلى سد باب القبلة ومصر، ولم ينظروا إلى أبواب السماء، يعني أنهم رضوا لمتولي أمرهم أن يداهن أهل تلك الجهات. فالجواب أن يقال: أين أنت يا هذا لما كان أهل مصر ببلاد نجد؟ هل صحبتهم وأقمت فيهم؟ أم فارقتهم وخالفتهم؟ فارجع العيب إلى نفسك إن كنت إذ ذاك في عدادهم. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 328 ونقول أيضا، في الجواب: لا يخلو هذا الرجل من حالتين: إما أن يكون من أبله الناس، وأشدهم غباوة، وأجهلهم بالناس وأحوالهم، ولا معرفة له بالواقع أصلا، وإما أنه يتعمد الكذب ولا يبالي، ويظن أن ولي الأمر لا يعرف الحال، فلعله أن ينقدح في قلبه من ذلك شك، أو إشكال. وإلا فمن المعلوم من رأيهم لولاة الأمر، ونصحهم لهم، التنبه على أن هذا الأمر لا يصلح معه حال، وأن المداراة لا تصل إلى هذا الحد الذي يفعلونه، وأنه كان يكفيهم مما فعلوه كف أيديهم؛ وقد كانوا يرضون الأئمة بتقوى الله، والعمل بكتابه، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم واتباع شرعه، وتنفيذ أحكامه، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وذلك من فضل الله تعالى عليهم وعلى الناس؛ ومن ادعى ما ليس فيه كذبته شواهد الامتحان. ومن كانت هذه حالهم، فلا يتعرض لسبهم وعداوتهم، إلا من يكره هذه الأفعال، فإن العداوة لها أسباب، أعظمها: اختلاف الدين; والناس إنما يتميزون بأعمالهم لا بأقوالهم، فرب ناطق بالحق وهو لا يحبه، ولا يقبل أهله، بل ربما نطق بالحق، وهو لا يعرف حقيقة ما يقول. فعلى من نصح نفسه من أئمة المسلمين أن يبذلوا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 329 الجد في إقامة الدين، ويصرفوا الهمة إلى معرفة التوحيد، بالصدق، واليقين، وأن يحملوا الناس على ذلك، ويجاهدوهم على ما هنالك، وأن يحبوا في ربهم، ويبغضوا فيه، ويعادوا لأجله، ويوالوا فيه. وليحذروا من أمور ثلاثة، توجب الذم والإثم، والعقوبة: الأول: ترك الحق بعد ظهوره وتبينه. والثاني: التقصير في طلبه ليتبين له. الثالث: الإعراض عن طلب معرفته، لهوى أو كسل، أو نحو ذلك. وهذه الثلاثة الأشياء، هي الآفة العظمى، ومن أجلها يضيع الدين. وقد انقسم الناس في هذه الأزمان، إلى هذه الأقسام، وكل قسم منهم معجب بنفسه، ويظن أنه في رتبة الكمال من العلم والدين؛ وهذا من خدع الشيطان وغروره، فلا حول ولا قوة إلا بالله. وقد قال الله تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَإِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} [سورة الجاثية آية: 18-19] ؛ فتأمل هذه الآية، وما فيها من الامتنان، والترغيب في اتباع ما جعله الله عليه مما شرعه له، وما فيها من التحذير والإنذار؛ فما أعظم خطر هذا! وما أحوج العبد إلى ذلك! خصوصا إن نظر العبد بعين البصيرة، إلى ما انتحله الجزء: 11 ¦ الصفحة: 330 أكثر الناس من الشرك بالله في عبادته، وما جروا عليه من أنواع الظلم والفساد. فما أكثر المغرورين بالجهل والأهواء، وطاعة الأنفس، والشيطان! وقد حدثت هذه الأمور في هذه الأمة، في زمن من سلف من الأئمة، وبينوا وحذروا، وأنكروا وأنذروا، رحمة الله عليهم، كما قال العلامة ابن القيم، رحمه الله تعالى: ولقد رأينا من فريق يدعي الـ ... إسلام شركا ظاهر التبيان جعلوا له شركاء والوهم وسا ... ووهم به في الحب لا السلطان والله ما ساووهم بالله بل ... زادوا لهم حبا بلا كتمان وكل من تدبر القرآن، وفهم أدلة التوحيد، وعرف حقيقة الشرك، الذي بعث الله الرسل بإزالته، والنهي عنه، وألهمه الله رشده، علم يقينا الذي عليه أكثر الجهال من هذه الأمة؛ حيث جعلوا أرباب القبور من الأموات، محطا لرحالهم في طلب الحاجات، وتفريج الكربات، وتألهتهم قلوبهم بالخشية، والإجلال والتعظيم والالتجاء إليهم، والتوكل عليهم، وغير ذلك من العبادة التي لا تصلح إلا لفاطر الأرض والسماوات، كما قال تعالى: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [سورة الزمر آية: 2-3] . ثم بين ضد ذلك، وهو ما عليه أهل الشرك، فقال: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى الجزء: 11 ¦ الصفحة: 331 اللَّهِ زُلْفَى} [سورة الزمر آية: 3] . إلى قوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} [سورة الزمر آية: 3] ؛ فأقام الله الحجة على هذه الأمه، وبين دينه الذي رضيه لنفسه، ورضيه لعباده، وبين الدين الذي انتحله المشركون، وأخبر عن ضلالهم، وسوء مآلهم، وأبان أنهم ما أرادوا ممن عبدوا، إلا القربة والشفاعة، وبين أنواع العبادة، التي صرفها المشركون لآلهتهم، وأخبر أن ذلك لا ينبغي إلا للواحد القهار. فأقام الحجة على عباده، وقطع بهذا البيان كل حجة واعتذار، وأعذر إليهم على لسان البشير النذير صلى الله عليه وسلم {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} [سورة النجم آية: 31] . قال الله تعالى: {الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [سورة العنكبوت آية: 1-2-3] إلى قوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} [سورة العنكبوت آية: 10] إلى قوله: {وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ} [سورة العنكبوت آية: 11] . وقال تعالى: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [سورة آل عمران آية: 179] ، وقال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [سورة التوبة آية: 16] . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 332 وقد بلى الله أخبار الناس، بما جرى في هذه الأعوام، وميز بها من قاتل أهل الإسلام وسبهم، ممن والاهم وأحبهم؛ والله يعلم إنا لم نرد بهذا تشيين أحد، أو عداوته، ولكنا تأثمنا من كتمان العلم، ورغبنا في إرشاد العباد إلى طاعة ربهم، ومعبودهم لما ابتلينا بأناس من أهل نجد، يقولون على الله بلا علم، ويتكلمون في أشياء من غير دراية ولا فهم. فكان الواجب على من منحه الله علما أن ينشر منه ما تيسر، وقت الاحتياج إليه، وخصوصا في هذه الأزمنة، لما قل العلم وكثر الجهل، وغلبت الأهواء، واشتعل الناس فية بمحبة دنياهم، وإيثارها على طاعة مولاهم، والعمل لأخراهم. والله تعالى هو المرجو المسؤول أن يرفع عنا وعن المسلمين العقوبة، وأن يكتب لنا المثوبة لتحري رضاه، وأن يوفقنا للاستقامة على طاعته وتقواه، وأن يحقق لنا ولإخواننا ما طلبناه، ورجوناه، إنه هو البر الرحيم، وحسبنا الله ونعم الوكيل. واعلم: أن هذا الرجل وأمثاله، لما امتلأت قلوبهم بالعداوة والبغضاء، وظهرت على صفحات وجوههم، وفلتات ألسنتهم، وأتوا بكل بلية ورمية، كما تقدم، طمعوا فيما هو أعظم من ذلك، وأكبر ضررا مما هنالك، الجزء: 11 ¦ الصفحة: 333 فأوردوا على الجهال شبهات، تحسينا لما قد فعلوه، وتزيينا لسبيلهم الذي قد سلكوه، أسوة من مضى من أمثالهم. قال العماد، في "التفسير": قال قتادة، في قول الله تعالى: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ} [سورة المؤمنون آية: 68] : إذ والله يجدون في القرآن زاجرا عن معصية الله، لو تدبره القوم وعقلوه، ولكنهم أخذوا بما تشابه فهلكوا عند ذلك؛ والعارف إذا نظر إليها، علم أنهم قد أقروا على أنفسهم، وعلى الذين والَوْهم وآووهم، بما قد لا يصرح به غيرهم فيهم ابتداء. فمن ذلك، قول بعضهم: إن الله تعالى يقول: {وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَأُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [سورة الفتح آية: 25] الآية، يشير إلى أنه معذور بإقامته مع هؤلاء، كما عذر من أقام من المؤمنين بمكة مع الشركين. فيقال له: أولا: إن هؤلاء الذين سماهم الله مؤمنين ما لم يظاهروا على المؤمنين مشركا، ولا منافقا، ولا باغيا، ولا ظالما، ولا سبوا مؤمنا ولا عادوه; ومنهم من قيده أهله بمكة، ومنعوه من الهجرة، كأبي جندل بن سهيل، فإنه خرج يوم الحديبية من مكة، يرسف بقيوده، فلو أن أحدا منهم سب المسلمين أو عابهم، أو أعان عدوهم، انتقض إسلامه بلا ريب، لكن الله تعالى حفظهم الجزء: 11 ¦ الصفحة: 334 من هذه الأمور، وعذرهم باستضعافهم وعجزهم. ولهذا ثبت في الصحيح وغيره: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو لهم في الفريضة، كما أخرج البخاري رحمه الله في صحيحه، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يدعو على أحد، أو يدعو لأحد، قنت بعد الركوع، وربما قال إذا قال: سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد: " اللهم أنج الوليد بن الوليد، وسلمة بن هشام، وعياش بن أبي ربيعة، والمستضعفين من المؤمنين " 1 قوله: "والمستضعفين من المؤمنين" هو من عطف العام على الخاص بلا ريب. ومن المحال أن يسميهم الله ورسوله مؤمنين، وقد وقع منهم ما ينافي الإيمان، قال الله تعالى: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [سورة المجادلة آية: 22] . فعلم من هذه الآية: أن أولئك المستضعفين من المؤمنين، لما كانوا بمكة مع قريش، أنهم لم يتخذوهم أولياء من دون المؤمنين، ولم يطمعوا منهم بموادة ولا ركون، وحاشاهم من ذلك، كما قال تعالى: {وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ   1 البخاري: الأذان (804) والجمعة (1006) والجهاد والسير (2932) وأحاديث الأنبياء (3386) وتفسير القرآن (4560 ,4598) والأدب (6200) والدعوات (6393) والإكراه (6940) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (675) , والنسائي: التطبيق (1073 ,1074) , وأبو داود: الصلاة (1442) , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1244) , وأحمد (2/239 ,2/255 ,2/271 ,2/396 ,2/407 ,2/418 ,2/470 ,2/502 ,2/521) , والدارمي: الصلاة (1595) . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 335 لَدُنْكَ نَصِيراً} [سورة النساء آية: 75] ؛ فلهذا وصفهم الله بالإيمان. وقد أخبر تعالى: أن الإيمان ينتفي بموالاة أعدائه، كما قال: {وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [سورة المائدة آية: 81] . قال بعض المفسرين في الآية الأولى: من الممتنع أن تجد قوما من المؤمنين يوادون من حاد الله ورسوله; وقد تقدم ذلك في كلام شيخ الإسلام، رحمه الله. ويقال أيضا: إن الله بين حال الذين عذرهم عن الهجرة، وميزهم بالوصف، ممن لم يعذرهم، فقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ} [سورة النساء آية: 97] ؛ قال في شرح البخاري: والسؤال للتوبيخ; أي: لم تركتم الجهاد والهجرة والنصرة؟ {قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً} [سورة النساء آية: 97] . وروى البخاري في صحيحه عن عبد الرحمن بن الأسود قال: قطع على أهل المدينة بعث، فاكتتبت فيه، فلقيني عكرمة فأخبرته، فنهاني أشد النهي، وقال: أخبرني ابن عباس: أن أناسا من المسلمين كانوا مع المشركين، يأتي السهم فيصيب أحدهم فيقتله أو يضربه فيقتله، فأنزل الله: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 336 كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} [سورة النساء آية: 97] الآيتين. فتأمل كيف ترتب عليهم هذا الوعيد، وأوجب لهم النار; وقد ورد أنهم مكرهون على تكثير سواد المشركين فقط، فكيف بمن كثر سوادهم بغير إكراه، وأعان وظاهر، وقال، وفعل من غير استضعاف؟ أترى بقي مع هذا شيء من الإيمان، والحالة هذه؟! ثم إن الله تعالى: بين في هذه الآية، من خرج من هذا الوعيد، بأوصاف لا تخفى على البليد، فقال: {إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً} [سورة النساء آية: 98-99] فذكر أنهم الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا، وهم العاجزون عن الهجرة من كل وجه; وهؤلاء هم الذين دعا لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة المتقدم، بخلاف من لم يعجز عن الهجرة، بل اختارهم ورغب فيهم، وسكن إليهم ووافقهم، وتأيد بهم واستنصر، مثل: عبد الله بن أبي سرح، ومقيس بن صبابة الليثي، وأمثالهما ممن تزين له الباطل، كجبلة بن الأيهم الغساني، وأمثال هؤلاء كثيرون; نسأل الله الثبات على الإسلام، والعفو والعافية في الدنيا والآخرة. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 337 الأمر الثاني: استدلالهم على جواز الإقامة مع المشركين، وتركهم الهجرة، بأن الصحابة هاجروا إلى الحبشة، وفيها نصارى; فيقال أولا: لا يجوز عند من له أدنى معرفة، أن يستدل على ترك الهجرة، بأن الصحابة هاجروا، وكيف يجوز في عقل من له أدنى مسكة من عقل، أن يستدل لترك شيء: بأن ذلك الشيء الذي تركه، قد فعله غيره؟! وقد عرفت أن الله سبحانه أسجل على من ترك الهجرة، بالوعيد الشديد، وبرئ منه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأثنى على من هاجر، ووعدهم على الهجرة بخير الدنيا والآخرة، كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [سورة النحل آية: 41] ، وقال: {فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَاباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ} [سورة آل عمران آية: 195] . وأي جهل أعظم من جهل من يسوي بين حسنات المقربين الأبرار، وسيئات العصاة الأشرار؟ {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لا يَسْتَوُونَ} [سورة السجدة آية: 18] . وأيضا: فإن الصحابة رضي الله عنهم، هاجروا إلى الحبشة لما لم يجدوا إذ ذاك دار إسلام، ففعلوا ما أمكنهم الجزء: 11 ¦ الصفحة: 338 فعله، من طاعة الله، وتقواه؛ وأهل الحبشة، وإن كانوا نصارى، فهم أقرب مودة للذين آمنوا، من اليهود والذين أشركوا. ثم إنه حصل بتلك الهجرة، من سلامة دينهم وظهوره، والدعوة إلى الله، وإسلام النجاشي، وبعض أساقفته، ونصرتهم وإكرامهم إياهم، وغيظ عدوهم من المشركين، ومراغمتهم ما هو من مقاصد الدين، فتأمل! وهذا سياق قصة مهاجرة الحبشة: قال أبو نعيم في "منتقاه" من سيرة ابن هشام: قال ابن إسحاق: حدثنا محمد بن مسلم الزهري، عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: "لما نزلنا أرض الحبشة جاورنا بها خير جار "النجاشي" أمنا على ديننا، وعبدنا الله لا نؤذى، ولا نسمع شيئا نكرهه. فلما بلغ ذلك قريشا، ائتمروا بينهم أن يبعثوا إلى النجاشي فينا رجلين جلدين، وأن يهدوا للنجاشي هديا مما يستطرف من متاع مكة، وكان من أعجب ما يأتيه منها الأدم؛ فجمعوا له أدما كثيرا، ولم يتركوا من بطارقته بطريقا، إلا أهدوا له هدية. ثم بعثوا بذلك عبد الله بن أبي ربيعة، وعمرو بن العاص، وأمروهما بأمرهم، وقالوا لهما: ادفعا إلى كل بطريق هديته، قبل أن تكلما النجاشي فيهم، ثم قدِّما الجزء: 11 ¦ الصفحة: 339 إلى النجاشي هداياه، ثم اسألاه: أن يسلِّمهم إليكما قبل أن يكلمهم. قالت: فخرجا حتى قدما على النجاشي، ونحن عنده بخير دار، عند خير جار، إلى أن قالت: وكان الذي كلمه جعفر بن أبي طالب، وقال له: أيها الملك، كنا قوما أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي الضعيف. وكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولا منا، نعرف نسبه وصدقه، وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده، ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه، من الحجارة والأوثان; وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات. وأمرنا أن نعبد الله لا نشرك به شيئا. وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام. قالت: فعدد عليه أمور الإسلام، فصدقناه وآمنا به، واتبعناه على ما جاء به من الله، فعبدنا الله وحده، فلم نشرك به شيئا، وحرمنا ما حرم علينا، وأحللنا ما أحل لنا. فعدا علينا قومنا، وعذبونا، وفتنونا عن ديننا، ليردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله، وأن نستحل من الخبائث؛ فلما قهرونا وظلمونا، وحالوا بيننا وبين ديننا، الجزء: 11 ¦ الصفحة: 340 خرجنا إلى بلادك، واخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك، ورجونا: أن لا نظلم عندك أيها الملك. قالت، فقال له النجاشي: هل معك مما جاء به عن الله من شيء؟ قالت، فقال جعفر: نعم، فقال له النجاشي: اقرأ علي; فقرأ عليه صدرا من (كهيعص) . قالت: فبكى النجاشي حتى أخضل لحيته، وبكت أساقفته حتى أخضلوا مصاحفهم، حين سمعوا ما تلي عليهم. ثم قال النجاشي: إن هذا - والله - والذي جاء به موسى، ليخرج من مشكاة واحدة، انطلقا، فلا والله لا أسلمهم إليكم، ولا أكاد; ثم ساقت القصة". قال ابن إسحاق: وحدثني يزيد بن رومان، عن عروة عن عائشة، قالت: "لما مات النجاشي، كانوا يتحدثون أنه لا يزال على قبره نور"، انتهى. وذكر ابن إسحاق في قوله عز وجل {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ} [سورة القصص آية: 52] إلى قوله: {وَيَدْرَأُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ} [سورة الرعد آية: 22] الآية، وقد سألت الزهري عن هذه الآيات، فيمن نزلت؟ فقال: ما زلت أسمع من علمائنا، أنهن أنزلن في النجاشي وأصحابه. والآيات في سورة المائدة: {ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً} [سورة المائدة آية: 82] إلى قوله: {فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} [سورة المائدة آية: 83] . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 341 قال السهيلي رحمه الله: وفي هذه من الفقه: الخروج من الوطن، وإن كان الوطن مكة على فضلها، إذا كان الخروج فرارا بالدين؛ فإن الحبشة كانوا نصارى، وسمي الصحابة بهذه الهجرة مهاجرين، وهم أصحاب الهجرتين، الذين أثنى الله عليهم بالسبق، فقال: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ} [سورة التوبة آية: 100] ؛ وجاء في التفسير: أنهم الذين صلوا القبلتين، وهاجروا الهجرتين. فانظر كيف أثنى الله عليهم بهذه الهجرة، لما كان فعلهم ذلك احتياطا على دينهم، وأن يخلى بينهم وبين عبادة ربهم آمنين مطمئنين؛ وهذا حكم مستمر. فإذا غلب المنكر على بلد، وأوذي على الحق مؤمن، ورأى الباطل قاهرا للحق، ورجى أن يكون في بلد آخر، أي بلد كان، يبين فيه دينه، ويظهر فيه عبادة ربه، فإن الخروج على هذا الوجه حتم على المؤمن؛ وهذه الهجرة لا تنقطع إلى يوم القيامة; انتهى ملخصا. وكل من له أدنى معرفة، لا يفهم من هذه القصة إلا أنها حجة عظيمة على من ترك الهجرة الواجبة، من وجوه لا تخفى على البليد، اللهم إلا من ابتلي بسوء الفهم، وفساد التصور، وكابر العقل والشرع، فلا حيلة فيه. يا ربنا نسألك الثبات على الإسلام. وأورد أيضا، حديث: " أنا بريء من مسلم يبيت الجزء: 11 ¦ الصفحة: 342 بين أظهر المشركين، لا تراءا ناراهما " 1؛ والحجة منه: أنه سماه مسلما; فيفيد: أن إقامته بين أظهر المشركين لا تخرجه عن الإسلام. فالجواب: أن براءة النبي صلى الله عليه وسلم ممن جلس بين ظهرانيهم، إنما كان عقوبة له، على مجرد الإقامة بين أظهرهم; وأما إيواؤهم، ونقض العهد لهم، ومظاهرتهم، ومعاونتهم، والاستبشار بنصرهم، وموالاة وليهم، ومعاداة عدوهم من أهل الإسلام، فكل هذه الأمور، زائدة على الإقامة بين أظهرهم؛ وكل عمل من هذه الأعمال، قد توعد الله عليه بالعذاب، والخلود فيه، وسلب الإيمان، وحلول السخط به، وغير ذلك مما هو مضمون الآيات المحكمات، التي قد تقدمت; وكل ذنب من هذه الذنوب، له عقوبة تخصه، وكلما ازداد منه، زاد الله له في العقوبة. فإن لم يؤمن بتلك الآيات المحكمات، ويعترف بصدور تلك الأعمال منه، فما أشبه حاله بحال من قال الله فيهم: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ} [سورة البقرة آية: 85-86] .   1 الترمذي: السير (1604) , والنسائي: القسامة (4780) , وأبو داود: الجهاد (2645) . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 343 واعلم: أن هؤلاء المشركين، لم يرضوا من هذا وأمثاله، بمجرد الموالاة والنصرة، دون عبادتهم، وتسويتهم لهم بالله، في التعظيم والإجلال، والتودد إليهم؛ فمن ذلك الانحناء لهم، والإشارة باليد إلى أشرف أعضاء السجود، وهو الجبهة والأنف؛ وكل ذلك من خصائص الإلهية، وذلك أمر لا محيد لهم عنه، كما قال تعالى عن أهل الكهف: {إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً} [سورة الكهف آية: 20] ، ولهذا لم يجدوا من مفارقتهم بدًّا، حتى ذهبوا إلى غار في رأس جبل، خوفا من ذهاب دينهم؛ فآثروا الله على كل ما سواه. قال شيخنا، في هذه القصة: فيه اعتزال أهل الشرك، واعتزال معبوداتهم، وقوله: فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ} [سورة الكهف آية: 16] فيه شدة صلابتهم في دينهم، حيث عزموا على ترك الرياسة الكبرى، والنعمة العظيمة، واستبدلوا بها كهفا في رأس جبل. قلت: ومثل ذلك ما ذكره الله عن سحرة فرعون، لما استنارت قلوبهم بالإيمان، قالوا لفرعون لعنه الله: {لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [سورة طه آية: 72] . واعلم: أن حقيقة حال هؤلاء المشبهة، أن الله تعالى الجزء: 11 ¦ الصفحة: 344 أمرهم بقتال المشركين فقاتلوا معهم، وأمرهم بالبعد عنهم فآووهم، وقربوا منهم، وأمرهم بمعاداتهم فوالوهم، وأمرهم ببغضهم فوادّوهم، وأمرهم بأن ينصروا أهل الإسلام فنصروا الكفرة عليهم، ونهاهم عن مداهنتهم فداهنوهم، ونهاهم عن كتمان ما أنزل الله من هذا وغيره فكتموا وشبهوا، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [سورة البقرة آية: 174] . وقال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ} [سورة البقرة آية: 140] ، وقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى} [سورة البقرة آية: 159] الآية، فجمعوا بين الكتمان والرد على من بين ولم يكتم، والتشبيه والمجادلة بالباطل، فتركوا ما أوجبه الله عليهم، وارتكبوا ما حرم عليهم؛ وهذا ظاهر جدا لا يرتاب فيه من له أدنى معرفة بالناس؛ وما وقع منهم، فلا يأمنهم ويقربهم بعد هذه العظائم، إلا من سفه نفسه. ولهم شبهة أخرى، وهي: أن أبا بكر استأجر عبد الله بن أريقط، في طريق الهجرة إلى المدينة، وكان هاديا خريتا، يدلهم على الطريق، فأحسن رسول الله صلى الله عليه وسلم صحبته؛ فتكون صحبته للعسكر، وإعانتهم على الجزء: 11 ¦ الصفحة: 345 المسلمين، ونصرتهم لا بأس بها. فيقال: أولا: قد ذكرت في الشبهة التي قبل هذه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " أنا بريء من مسلم بات بين أظهر المشركي ن" 1، وهذا يناقض ما استدللت به هنا، وحاشا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتبرأ من صاحب عمل وهو يفعله؛ ومثل هذا قوله: " من جامع المشرك وسكن معه فهو مثله " 2، والآيات المحكمات صريحة، في التحذير من موالاتهم، ناطقة بالوعيد الشديد على موادتهم ونصرتهم؛ إذا عرف هذا، فالفرق بين الدليل والمدعى، أبعد مما بين المشرق والمغرب. وذلك أن ابن أريقط أعان رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبر البر بعد الإسلام، وأفرض الفرائض بعد الإيمان، وسعى لرسول الله صلى الله عليه وسلم في مصالحه التي يتوصل بها إلى رضى مولاه، ومراغمة أعدائه; ولا ريب أن هذا لو صدر من ابن أريقط بنية صالحة، لكان من أفضل الأعمال; فإذا أسلم كتب له ذلك من أفضل حسناته، على حديث حكيم " أسلمت على ما أسلفت من خير "3، بخلاف من آوى المشركين، ورضي بهم بدلا من المسلمن، وأعانهم واستنصر بهم، وفرح بنصرهم، وظهورهم، ودعا الناس إلى متابعتهم؛ فالفرق بين الفعلين، كالفرق بين فعل أبي طالب، من النصرة،   1 الترمذي: السير (1604) , والنسائي: القسامة (4780) , وأبو داود: الجهاد (2645) . 2 أبو داود: الجهاد (2787) . 3 البخاري: الزكاة (1436) , ومسلم: الإيمان (123) , وأحمد (3/402) . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 346 والحياطة والحماية، وفعل أبي جهل وعقبة بن أبي معيط، والنضر بن الحارث؛ فلو أسلم أبو طالب لكان فعله من أعظم القربات. وفعل أبي جهل وأمثاله من أعظم الكفر، الموصل إلى الدركات في العذاب، وحلول المثلات; فأين من أعان الباطل، وواد أهله ونصرهم، وظاهرهم، ممن أعان المسلمين، وسعى في مصالحهم، وراغم عدوهم؟ سارت مشرقة وسرت مغربا شتان بين مشرق ومغرب فابن أريقط فعل خيرا، كما فعل سراقة بن مالك، فقد فعل من النصيحة في حال كفره ما يحمد به باطنا وظاهرا، بخلاف من والى المشركين، ونصح لهم، وعادى المسلمين، وألّب عليهم; فإنه قد وقع في الوعيد والسخط، والمقت، وفساد الدين، ومفارقة المؤمنين؛ والله أعلم بما يؤول إليه حال أعيان أولئك. لكنه يخشى عليهم أن يصيبهم، مثل ما قصه الله في شأن "بلعام" وأهل مسجد الضرار، وقد كانوا قبل ذلك في عداد الأنصار; فيا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على الإيمان. ولا ريب أن عدول هذا المستدل، عن الآيات المحكمات، وصحيح الأخبار، ترك للمحكم واتباع للمتشابه، كما قال تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ} [سورة آل عمران آية: 7] الآية؛ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 347 وعن عائشة رضي الله عنها، مرفوعا: " إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم " 1. وحاصل ما قدمنا من الجواب، عما أورده المشبه هنا، يتضمن خمسة أوجه: الأول: أن ابن أريقط أجير، ومن شأن الأجير أن يخدم المستأجر; لأنه ملك منافعه بعقد الإجارة؛ والأجير تحت المستأجر. الوجه الثاني: أن ذلك الرجل مستأجر في مصلحة دينية، هي من أكبر مصالح الدين؛ فإعانته للمسلم وقت الحاجة إليه لا محذور فيها; لكونها مصلحة محضة. فكيف يجوز أن يستدل بذلك على ما هو أعظم المفاسد في الدين، وموالاة المشركين وإعانتهم على باطلهم، والصد عن سبيل الله؟! شعرا: شتان بين الحالتين فإن ترد جمعا فما الضدان يجتمعان الوجه الثالث: أن استئجار المسلم للكافر للمصلحة، نظير استرقاق الكافر؛ وذلك جائز، بخلاف العكس، فإنه لا يجوز; لأن الإسلام يعلو ولا يعلى عليه. وهذا المشبه كأمثاله، صاروا لأهل الباطل كالمماليك في طاعتهم ومتابعتهم، وإعانتهم، اختيارا منهم لا اضطرارا. الوجه الرابع: أن ما فعله ابن أريقط لا يعاب عليه   1 البخاري: تفسير القرآن (4547) , ومسلم: العلم (2665) , والترمذي: تفسير القرآن (2994) , وأبو داود: السنة (4598) , وأحمد (6/48 ,6/132 ,6/256) , والدارمي: المقدمة (145) . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 348 عقلا ولا شرعا; بل قد يثاب عليه في حال كفره في الدنيا، إن لم يكن أسلم، ولعله - والله أعلم - صار سببا لإسلامه، لقربه من الإسلام، بإعانة أهله على طاعة ربهم، فإنه يستروح لذلك بقول الجن في شعرهم: هما نزلاها بالهدى فاهتدت به فقد فاز من أمسى رفيق محمد وهذا بخلاف من أعان على معصية الله - والصد عن سبيله; فأين من كان مع أهل الحق، ممن كان مع عدوهم؟! وهل سمعت بتفاوت أعظم من هذا التفاوت؟ شعرا: والله ما استويا ولن يتلاقيا حتى تشيب مفارق الغربان الوجه الخامس: أن ما فعله ابن أريقط يغيظ كفار قريش، وإغاظة الكفار يحبها الله، بخلاف من يفعل معهم ما يسرهم، ويغيظ عدوهم من المؤمنين؛ فأين هذا من هذا، لو كانوا يعلمون؟! والبصير يعلم: أن هذا التشبيه من هؤلاء على العوام، صد لهم عن سبيل الله، وأنه من آثار عقوبات تلك الأعمال. اللهم إنا نعوذ بك أن نفتن عن ديننا، أو نرد على أعقابنا، وحسبنا الله ونعم الوكيل، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيد المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وسلم تسليما كثيرا; وهذا آخر ما تيسر جمعه، والله أسأل أن يعم نفعه. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 349 [الرد على ما في ورقة رجل من فارس لما تضمنته من الشقاق لأهل التوحيد] وله أيضا رحمه الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على أشرف المرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: فقد وقفت على ورقة لرجل من أهل فارس، تضمنت من الجهل والشقاق لأهل التوحيد، ما يتبين للبصير أنها لم تخرج إلا من رجل أجهل من حماره، يعتقد المعروف منكرا، والمنكر معروفا، والسنة بدعة والبدعة سنة، والحق باطلاً والباطل حقا، ويأتي بالمحال في معرض الجدال؛ وهذا لفظه: من عبد الرحمن بن محمد، إلى مخدومنا: الحاج إدريس. أما بعد، فلا يخفى على جنابك من طرف هذا الرجل الذي نزل في "دوان" يذكر عنه ما ليس بمرضي، من تأويل الكتاب والسنة، بتأويل أهل البدع؛ فلا تغتر بما يلوح لكم من قوله: قال الله قال رسوله; لأن أهل الملل الثنتين والسبعين الهالكة، كلهم يقولون: قال الله قال رسوله؛ فلا اعتبار بقولهم. فالجواب وبالله التوفيق: قوله: ليس بمرضي; فمن المعلوم: أن الملحد لا يرضى بقول الموحّد كعكسه، كما قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الجزء: 11 ¦ الصفحة: 350 الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً} [سورة النساء آية: 61] . فمن تأمل كلامه هذا، وجده جاريا على أسلوب اعتقاد المنافقين، لأن قلوبهم تأبى الحق وقوله، وتعرض عن دليله، وتنكر مدلوله، ويسمون أهل الإيمان سفهاء، كما قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ} [سورة البقرة آية: 13] الآية. فما أشبه الليلة بالبارحة! كذا يقول أمثالهم في هذه الأزمنة في أهل التوحيد، أنهم أهل بدعة؛ فبفساد قلوب هؤلاء المنافقين أنكروا الحق، ونصبوا العداوة لأهله، كما قال تعالى: {لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلّاً وَلا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ} [سورة التوبة آية: 10] . يحقق ما قلناه في هذا الملحد، قوله لمخدومه إدريس: فلا تغتر بما يلوح لك من قوله: قال الله تعالى، قال رسوله; لأن التحذير عن سماع ما قال الله ورسوله، وتسميته ذلك غرورا، هذا بعينه قول أهل النفاق. وقوله: إن أهل الملل الثنتين والسبعين الهالكة كلهم يقولون: قال الله، قال رسوله، فلا ريب أن هذا القول - مع فساده عقلا وشرعا - من حيل أهل البدع والضلال، ليصرفوا قلوب الجهال عن قبول أدلة الكتاب والسنة؛ وهذا إنما تفرع عن ذلك الأصل الجزء: 11 ¦ الصفحة: 351 الفاسد، وهو كراهة الحق، وعداوة أهله. ومن لم يقبل الدليل من الكتاب والسنة، امتنع عليه معرفة الحق من الباطل؛ فإذا لم يعرف الحق بدليله، لم يبق هناك ما يمنعه من عقائد أهل الأهواء والضلال; لأنه إذا جهل الحق ضل عنه، وغلب عليه الباطل، كحال أكثر الخلق; فإنهم لما غاب عنهم الدليل، ضلوا عن سواء السبيل. فلا ريب أن هذه الشبهة من أعظم مكائد الشيطان، التي كاد بها أولياءه من الإنس والجان، ليصرف بها قلوبهم عن قبول الحجة والبرهان، كما قال تعالى: {فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ} [سورة الأنعام آية: 157] . ويقال لهذا المفتري الجاهل أيضا: إذا كان أهل الملل الثنتين والسبعين يقولون: قال الله، قال رسوله، فكيف يصير ذلك مانعا من قبول الدليل؟ والإصغاء إليه بالكلية؟! وبطلان هذا يدركه كل عاقل، وينتقض عليه هذا الأصل الفاسد، بأن الفرقة الناجية إنما تستدل بأدلة الكتاب والسنة؛ وذلك هو الذي تعتمده الفرقة الناجية؛ وهي أسعد الفرق بمعرفة الأدلة الشرعية ومدلولها. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 352 وتبين خطأ الفرق الثنتين والسبعين، في موارد الأدلة ومفهومها؛ فجميع ما استدلت به الفرق من أدلة الكتاب والسنة صحيح، لكن الخطأ في فهم المستدل. فإذا تحقق معنى الدليل، رجعت أدلة الكتاب والسنة كلها إلى تقرير ما عليه الفرقة الناجية؛ فيجب قبول الأدلة والنظر في معناها، وما أراده المستدل، فقد يكون دليله حجة عليه. وأما قوله: إنه يتأول الكتاب والسنة، بتأويل أهل البدع. فيقال له: بين لنا تأويله الكتاب والسنة، وما وافق فيه أهل البدع، ومن الذي تعني بأهل البدع؟ فإن كنت تعني بهم أهل السنة والجماعة، بتأويلهم الصحيح، الموافق لما عليه الصحابة، والتابعون وأتباعهم من الفقهاء، وأهل الحديث، الذين يعتمدون تفاسير الأئمة المشهورين الذين يفسرون الآيات بالآثار المرفوعة، أو الموقوفة على الصحابة، وبتفسير الصحابة، ومن أخذ عنهم من أئمة التفسير. وأشهر من صنف التفسير: الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، وعبد بن حميد، وابن أبي حاتم، ومحمد بن جرير، فسر القرآن بالأحاديث، وأقوال أئمة التفسير من السلف، ونقلها بالأسانيد، وكذلك من نحا نحوهم، كالحسين بن مسعود البغوي، والعماد بن كثير الشافعي، الجزء: 11 ¦ الصفحة: 353 والسيوطي في كتابه "الدر المنثور". فأهل نجد اليوم، أهل الدعوة الإسلامية، ومن أخذ عنهم، إنما يعتمدون في معاني الكتاب والسنة، على مصنفات أهل السنة والجماعة. وأما الأشاعرة فتعتقد هم أهل السنة، وليسوا كذلك؛ فإنهم تأولوا نصوص الكتاب والسنة، بتأويل أهل الكلام الذين خاضوا مع المعتزلة والجهمية، فأحدثوا للنصوص تأويلات اختلقوها من عند أنفسهم، خالفوا فيها السلف، والأئمة الأربعة، وغيرهم من أهل السنة والجماعة; فتأويلاتهم للكتاب والسنة، تأويلات أحدثها أهل الكلام {مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} [سورة يوسف آية: 40] . وكل صاحب بدعة، لا يألف إلا كتب من هو مثله، كالأشاعرة، فإنهم لا يألفون من التفاسير وغيرها، إلا تفاسير من هو مثلهم في المعتقد، ممن يؤول النصوص، ويصرفها عن مدلولها اللائق بجلال الله، وعظمته، ويخالف أهل السنة في الإيمان، وحكمة الرب تعالى، ويقول بالجبر; وهذه البدع أخذوها عن أتباع جهم بن صفوان. وكذلك المعتزلة، لا يقبلون إلا تفاسير أمثالهم في المعتقد. وكذلك الباطنية لهم تفاسير خالفوا فيها الجميع. وكذلك الرافضة، لهم تفاسير، ولهم تأويلات فاسدة. وأما أهل السنة والجماعة، فإنهم تمسكوا بالكتاب الجزء: 11 ¦ الصفحة: 354 والسنة، وأقوال الصحابة والتابعين والأئمة، وأثبتوا لله ما وصف به نفسه، ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم من صفات كماله، على ما يليق بذي الجلال، إثباتا بلا تأويل، وتنْزيها بلا تعطيل، لا ينفون عنه صفات كماله، ولا يشبهونه بخلقه؛ تعالى الله عما يقوله المشبهة، والمعطلة علوا كبيرا. وينكر أهل السنة والجماعة، ما أنكره النبي صلى الله عليه وسلم من الغلو في أهل القبور، والإطراء والتعظيم، والبناء عليها وإسراجها، والعكوف عندها وعبادتها، والرغبة إليها في قضاء الحاجات، وتفريج الكربات، وتعظيمها بالسدنة. فإن النص الصريح، والعقل الصحيح، يمنع أن يكون الميت يسمع ويضر وينفع، كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [سورة فاطر آية: 13-14] . إذا علم ذلك، فلا ريب: أن كثيرا من أئمة الحديث، صنفوا في إبطال مذهب الأشاعرة ومن وافقهم من نفاة الصفات، وبينوا ما دل عليه الكتاب والسنة. وأول من صنف في ذلك: الإمام أحمد بن حنبل، وابنه عبد الله، وأبو بكر المروذي، وأبو بكر الخلال، وعثمان بن سعيد الدارمي وإمام الأئمة محمد بن خزيمة، وأبو عثمان الجزء: 11 ¦ الصفحة: 355 الصابوني، والدارقطني، وأبو عمر بن عبد البر النمري، ومحمد بن جرير الطبري، في التفسير الكبير، وابن أبي حاتم، ومن بعدهم، كالقاضي أبي يعلى الحنبلي، وأبي محمد عبد الله بن قدامة المقدسي، وشيخ الإسلام ابن تيمية في عامة كتبه، ومن أشهرها: كتاب العقل والنقل، الذي لا نظير له، وكتاب المنهاج في رده على الرافضة، والعلامة ابن القيم رحمه الله، في الجيوش، والصواعق. وكل هؤلاء وأمثالهم من أهل السنة والجماعة، ممن لا يمكن حصرهم سلفا وخلفا، قد خالفوا الأشاعرة، وردوا مذهبهم; وممن خالفهم: أبو الحسن الأشعري، في كتبه الإبانة والمقالات، والرسائل; وصرح بأنه على مذهب الإمام أحمد بن حنبل، في إثبات الصفات، والإيمان، وغير ذلك من أصول الدين؛ فالحمد لله الذي هدانا لما اختلف فيه من الحق بإذنه. وأما قول هذا الجاهل: وإنما المتبوع الفرقة الناجية، المتبعة للكتاب والسنة، على ما بين الشارع صلى الله عليه وسلم، ثم الخلفاء الراشدون، ثم الأئمة الستة "اللقاط"، ثم الأئمة الأربعة النقاد، وانعقد على ذلك الإجماع، في القرن الثاني؛ فمن أتى بمذهب غير ذلك فهو مبتدع، وإن زعم أنه يقول عن الله ورسوله. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 356 فالجواب: انظر إلى هذا التناقض الفاسد، تارة يحذر عمن استدل بالكتاب والسنة، ثم يمدح من اتبع الكتاب والسنة، على ما بين الشارع والخلفاء الراشدون، ثم أئمة الحديث والأربعة؛ وقد عرفت مما تقدم أنه خالف هذا كله، وخالف هؤلاء المذكورين في أصول الدين، وألحد في الأسماء والصفات، وسب أهل التوحيد والإثبات. واعتمد عقيدة ما أنزل الله بها من سلطان، لم يبينها الشارع، ولا الخلفاء الراشدون، ولا الصحابة ولا التابعون، ولا الأئمة الأربعة؛ فمدح الفرقة الناجية، وهو عنها بمعزل، ومدح أتباع الكتاب والسنة، وهو يحذر عن سماع ذلك وقبوله. فما أقبح هذا التناقض وما أخنعه! وقد عرفت أنه أظهر الشناعة على من اتبع الفرقة الناجية في التوحيد، والإثبات والإيمان; ومن المعلوم: أن الفرقة الناجية يعمرون المساجد بالصلوات والطاعة، ويهدمون المشاهد والبناء على القبور، وينكرون دعاءها والاستغاثة بها، وسدوا الطرق والوسائل إلى ذلك، فهدموا البناء عليها، وأمروا بتسويتها، لئلا يغلو فيها غال فيعظمها. كما في صحيح مسلم عن أبي الهياج الأسدي قال، قال لي علي: " ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أن لا تدع تمثالا إلا طمسته ولا قبرا مشرفا إلا سويته "، وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه " لعن زوارات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسرج " 1.   1 الترمذي: الصلاة (320) , والنسائي: الجنائز (2043) , وأبو داود: الجنائز (3236) , وابن ماجه: ما جاء في الجنائز (1575) , وأحمد (1/229 ,1/287 ,1/324 ,1/337) . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 357 وصح عنه أنه قال: " لعنة الله على اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " 1 يحذر ما صنعوا; وقال لأم سلمة وأم حبيبة، حين ذكرتا له كنيسة رأتاها بأرض الحبشة، وما فيها من الصور: " أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح، أو العبد الصالح بنوا على قبره مسجدا، وصوروا فيه تلك الصور؛ أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة " 2. وقد حدث من هذه المنكرات في هذه الأمة كثير، حتى اعتقدوه قربة ودينا، واشتد نكيرهم على من أنكرها من الموحدين، ورموه بالبدعة. وأما قوله: من أهل الحديث الستة "اللقاط" والأئمة الأربعة "النقاد". فقوله: "اللقاط" كلمة محدثة، لم يستعملها أحد من أهل العلم. وقوله: "الستة" لا وجه لهذا الحصر، فلقد صنف في الحديث عدد كثير، وجم غفير يتعذر حصره، وحصر ما صنفوه من الكتب. وأما قوله: والأئمة الأربعة النقاد، فحصر العلم والدين في المذاهب الأربعة، مما أحدثه غلاة المقلدين من المتأخرين، وإلا فمن المعلوم: أن كل من صنف في الفقه من الأئمة بعد الأربعة، يذكر من أقوال الأئمة الأربعة وغيرهم، ويذكرون دليل كل قول نصحا للأمة، وحفظا للعلم، فلعل قول   1 البخاري: الصلاة (436) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (531) , والنسائي: المساجد (703) , وأحمد (1/218 ,6/34 ,6/80 ,6/121 ,6/252 ,6/255 ,6/274) , والدارمي: الصلاة (1403) . 2 البخاري: الصلاة (434) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (528) , والنسائي: المساجد (704) , وأحمد (6/51) . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 358 غيرهم، يكون أرجح من جهة الدليل؛ فالمجتهدون من الأئمة، أكثر من أن يحصروا; وقد اختلف الصحابة رضي الله عنهم في مسائل من العلم، وهي مذكورة في كتب المصنفين، في الخلاف كابن المنذر، وأبي عمر بن عبد البر، وابن حزم، وصاحب المغني وغيرهم، وكذلك أقوال الفقهاء السبعة من التابعين، وأقوال غيرهم، كإبراهيم النخعي والحسن، وابن سيرين وربيعة بن عبد الرحمن، شيخ الإمام مالك، وحماد بن أبي سليمان، شيخ أبي حنيفة، وكالليث بن سعد، إمام أهل مصر، والأوزاعي إمام أهل الشام، وسفيان الثوري إمام أهل العراق، وأبي ثور، وإسحاق بن إبراهيم بن راهويه، ومحمد بن نصر، وداود بن علي الظاهري، وأمثال هؤلاء يذكر العلماء أقوالهم. وما استدل به القائل لقوله: وربما وقع في أقوالهم ما يخالف أقوال الأئمة الأربعة، ومن أتباع الأئمة الأربعة، من يختار غير قول إمامه، فدعوى هذا الجاهل الإجماع على مذاهب الأربعة، وترك من خالفها، وأن خلافها بدعة، كذب وافتراء على العلماء، شعرا: لا يبلغ الأعداء من جاهل ... ما يبلغ الجاهل من نفسه وأما قوله: وبهذه الحيلة يجرون اعتقاد ابن تيمية، الجزء: 11 ¦ الصفحة: 359 ومذهبه في الخلق. فالجواب: اعتقاد ابن تيمية هو الحق، يدعو إلى ما دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن قبله من المرسلين {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [سورة المؤمنون آية: 32] ، وقوله: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} [سورة آل عمران آية: 64] الآية. وينهى عن الشرك المنافي لهذا التوحيد، ويعرف به، ويبين أنه هو الواقع من كثير من هذه الأمة - ويورد الأدلة على بطلانه، ويبين الفرق بين نوعي التوحيد، توحيد الربوبية وتوحيد الإلهية - فعبدوا مع الله غيره؛ وهذا الشرك هو الذي أباح دماءهم، وأموالهم حيث لم يتركوه. وترك هذا الشرك، هو مدلول كلمة الإخلاص، لا إله إلا الله، كما قال تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} [سورة الصافات آية: 35-36] فجملة "لا إله" نفت الشرك في الإلهية، وجملة "إلا الله" أثبتت الإلهية لله، دون كل من سواه. فهذا الشيخ قرر هذا التوحيد بأدلته، وصنف الكتب في بيانه، ونفى ما ينافيه؛ فلا ينكر اعتقاد هذا الشيخ، إلا مشرك بالله، يعتقد الشرك، ويراه دينا، نعوذ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 360 بالله من الشرك وأهله. وأما اعتقاده في توحيد الأسماء والصفات، فهو الذي يعتقده الصحابة والتابعون، ومن بعدهم من أهل السنة والجماعة، يثبتون لله ما أثبته لنفسه، وأثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم من صفات الكمال، ونعوت الجلال، وينفون عن الله مشابهة المخلوقين، في ذاته وصفاته; ويقول: إن إثبات الصفات فرع عن إثبات الذات؛ فكما أن لله ذاتا لا تشبه الذوات، فصفاته كذلك لا تشبه صفات المخلوقين، تعالى الله عما يقول المشبهة علوا كبيرا. وهذا معتقد الأئمة الأربعة، ومن سلك سبيلهم من أهل السنة يُنَزّهون الله تعالى عن كل عيب ونقص، ويثبتون له كل كمال على ما يليق بذي العزة والجلال. وقرر هذا الشيخ هذا المذهب، وبين نصوص علماء السلف في ذلك. وله الكتب المشهورة في أصول الدين؛ وهو الذي رد على الفلاسفة والمعتزلة والجهمية، وأتباعهم من الأشعرية والكرامية، والماتريدية، فإن هذه الطوائف الثلاث، وافقوا الجهمية في الكثير من بدعتهم، وخالفوهم في شيء، وغلطوا على السلف، وادعوا أن مذهبهم الإيمان باللفظ، وتفويض المعنى; وبين شيخ الإسلام وجه غلطهم على السلف، وأوضح ذلك في أكثر مصنفاته. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 361 فهو الإمام الذي لا يجارى ولا يمارى في فنون العلم، وهو حنبلي المذهب لا يخرج عن مذهب الإمام أحمد، وهو أحسن من اجتهد في مذهب إمامه; لقوة نظره وفهمه لمعاني الأدلة، والتوفيق بين ما قد يظن اختلافا، وقد خالف المذهب في مسائل قليلة يظهر رجحانها عنده، وعند العلماء. وقد عظم هذا الشيخ كثير ممن قد اجتمع به من العلماء، حتى قال بعضهم: كل حديث لا يعرفه ابن تيمية فليس بحديث، وقال ابن دقيق العيد - لما رآه - رأيت رجلا كل العلوم بين عينيه، يأخذ ما شاء ويدع ما يشاء، انتهى. وأما إلحاق هذا الخبيث له بمسيلمة الكذاب، فمن تعمقه في باطله، وشدة عداوته لأهل الحق، ومن عادى أتباع الرسل فقد عاداهم; وهذا الملحد هو الأشبه بمسيلمة الكذاب، لكذبه على أهل التوحيد; بل كذب بالحق لما جاءه، فهو ومسيلمة رضيعا لبان، يعرف ذلك من له أدنى عقل ومعرفة. وأما قوله: فإن كنت في شك من هذا، فأتوا به إلينا حتى نخرج أضغانهم. فالجواب: أقول: هو الذي أخرج أضغانه، وكشف عن حاله، وعن سوء معتقده، عبر عنه بفساد مقاله وشدة الجزء: 11 ¦ الصفحة: 362 ضلاله، كما لا يخفى. ثم إنه أتى في ورقته بمقالة قصمت ظهره، فقال: فالحذر منهم لازم، إلا من قال: إنه شافعي، وإن أفتى بقول الشافعي، فاتركوا قوله. فالجواب أن يقال: أي سبب اقتضى هذا الغلو العظيم، في قول الإمام الشافعي؟ وما وجه هذا التخصيص، من دون جميع الأئمة وعلماء الأمة؟ وصحيح العقل لا يقول هذا; لأن الأمة أجمعوا على أنه لا يتعين قصر أحد على قول إمام واحد، بل كلهم يقول: يجوز تقليد من يجوز تقليده، من أئمة المسلمين; والشافعي رحمه الله ليس بأفضل الأئمة، ولا بأكثرهم رواية، ولا بأوسعهم علما. قال بعض المحققين من أئمة أهل السنة: وأما إن قلد شخصا دون نظيره، بمجرد هواه، ونصره بيده، ولسانه من غير علم أن الحق معه، فهذا من أهل الجاهلية، وإن كان متبوعه مصيبا لم يكن عمله صالحا، وإن كان متبوعه مخطئا كان آثما، كمن قال في القرآن برأيه، فإن أصاب فقد أخطأ، وإن أخطأ فليتبوأ مقعده من النار، انتهى. وهذا الجاهل قد تناقض، فادعى الإجماع على مذاهب الأربعة، وقد أخطأ في هذا كله، وقد ترك معتقد الإمام الشافعي في توحيد الأسماء والصفات، وهو مجمع عليه الجزء: 11 ¦ الصفحة: 363 بين الصحابة والتابعين، وأتباعهم والأئمة، ورغب عن معتقدهم كلهم وما أجمعوا عليه، واعتقد قول الأشاعرة المخالف للكتاب والسنة، وما عليه السلف والأئمة. فهو من أعظم من ترك قول الشافعي المجمع عليه، فظهر تناقضه وجهله وخرقه للإجماع؛ وهذا من فساد عقله، لأنه جعل قول هذا الإمام جسرا تذاد عنه أقوال العلماء المجتهدين، وتذاد عنه نصوص الكتاب والسنة، فلا يلتفت إليها عند قوله؛ فما أعظمها من زلة! وما أكبرها من خطيئة وضلة! ومن تأمل قول هذا الجاهل: رآه قد تنقص العلماء سلفا وخلفا، وغلا في الإمام الشافعي، غلوا لا يرضاه من له أدنى معرفة بالعلماء والفقهاء ومراتبهم في العلم، فما أجهل هذا الشخص! وما أشنع ما يأتي به من المحال! وما أفسد ما يورده من الجدال! وأما قوله: وأمر الشيخ أحمد بن حجر الهيتمي أن يخرج ابن تيمية من الحرمين. فالجواب: هذا من اختلاقاته وكذبه الفاحش، فإن ابن حجر هذا، لم يكن في عصر شيخ الإسلام ابن تيمية; بل ولا عاصره أحد من شيوخ ابن حجر، وإنما كانت وفاة شيخ الإسلام بأوائل القرن الثامن، وابن حجر وشيوخه الجزء: 11 ¦ الصفحة: 364 بعده بأعصار. والمقصود: أن هذا الفارسي أظهر للناس فساد عقله ودينه، فمن ذلك: إنكاره على شيخنا، الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ما وضعه في أصول الدين، من المسائل، والقواعد؛ ولا ريب أنها قد تضمنت معرفة الحق بدليله، والجهل بما فيها من الأصول هلاك وضلال؛ فلا يصح إسلام أحد إلا بمعرفة ما تضمنته هذه الأصول والقواعد. فأما المسائل، ففيها معرفة الله بما نصب لعباده من آياته ومخلوقاته، ودلالة القرآن على ذلك؛ وهذه هي المسألة الأولى. الثانية: معرفة دين الإسلام بدليله، وهو الذي لا يقبل الله من أحد دينا سواه. المسألة الثالثة: معرفة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدليل. وهذه الثلاث هي مسائل القبر، التي يسأل عنها كل إنسان في قبره حال الدفن؛ فمن عرفها نجا، ومن جهلها هلك، كما دلت على ذلك الأحاديث الصحيحة؛ وكل مسألة يبرهن عنها في العلم، يعبر عنها بهذه العبارة، فيقال: مسألة كذا، مسألة كذا، فكيف يسوغ لأحد أن ينكر ما هو معروف متداول عند العلماء؟! وكذلك القواعد، فإن كل مسألة ينبني عليها مسائل، يسميها العلماء قاعدة، وقد صنف العلماء كتبا كبارا، وسموها بالقواعد؛ فمنها ما هو في أصول الفقه، الجزء: 11 ¦ الصفحة: 365 كالقواعد لابن عبد السلام الشافعي، وابن اللحام الحنبلي، ومنها ما هو في الفقه، كالقواعد لابن رجب، وهو كتاب ضخم كبير الحجم. وهذه القواعد التي وضعها شيخنا رحمه الله، أحق بهذا الاسم من غيرها، لما ينبني عليها من أصول الدين؛ فإن معرفة توحيد الربوبية، من توحيد الإلهية، لا يسع أحدا جهله. فالقاعدة الأولى، في بيان توحيد الربوبية، وأن المشركين أقروا بذلك. والقاعدة الثانية، في توحيد الإلهية وبيانه، وأنه هو الذي جحده المشركون، وأوجب قتالهم وشدة عداوتهم، لكونهم جحدوا هذا التوحيد، وجعلوا لله شريكا في العبادة، وبيان ما وقع في هذه الأمة من هذا الشرك في الربوبية والإلهية؛ وهو الشرك الذي لا يغفره الله، وأسجل على من فعله بالخلود في النار، إن مات على ذلك الشرك. وقبل هذا الشيخ رحمه الله، وبيانه لهذه القواعد ومعناها، قد التبس ذلك على أكثر الناس، واعتقد هذا الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله دينا، ظنوا أنه يقربهم إلى الله؛ فرحم الله هذا الشيخ، فلقد أخرج الله به كثيرا من هذه الأمة، من ظلمات الجهل إلى نور التوحيد والإيمان. وقبله لا يعرف كثير من الناس معنى لا إله إلا الله، والحاذق منهم يظن أن معناها: لا يخلق ولا يرزق، ولا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 366 يحيي ولا يميت، إلا الله؛ وهذا قد أقر به المشركون، لكنهم جحدوا توحيد الإلهية، الذي هو مدلول كلمة الإخلاص؛ فإنها تنفي إلهية كل من سوى الله، وتثبت الإلهية لمن لا يستحقها غيره، وهو الله تعالى; والإله هو المألوه بالعبادة، فمن صرف شيئا من العبادة لغير الله فقد اتخذه إلها. وأفراد العبادة كثيرة; منها الدعاء والرجاء، والإنابة والخشية، والرغبة والرهبة، والخوف والتوكل وغير ذلك من أنواع العبادة بالقلب والجوارح؛ وتلك الأنواع وغيرها لا يصلح منها شيء لغير الله. وكلمة الإخلاص: دلت على قصر العبادة بأنواعها على الله، ونفيها عما سواه، كما قال تعالى.: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِوَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [سورة الزخرف آية: 26-27-28] . فمن أنكر هذه القواعد التي وضعها شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب قدس الله روحه، فقد كفر بما تضمنته من أدلة أصول الدين، التي تضمنتها آيات القرآن المحكمات وصحيح الأحاديث؛ وذلك هو الدين القيم، كما قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 367 أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [سورة الروم آية: 30-31-32] . وقال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [سورة البينة آية: 5] . وبهذا البيان، يعلم المنصف أنه لا ينكر تلك القواعد إلا من أقعده جهله، وعميت بصيرته، وضل فهمه، وتغيرت فطرته، وضاع عقله; نعوذ بالله من الخذلان، ونسأله معرفة الحق وقبوله، ومحبته والعمل به والثبات عليه، والاستقامة في الدنيا والآخرة؛ ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وهو حسبنا ونعم الوكيل، وصلى الله على سيدنا محمد سيد المرسلين وإمام المتقين، وعلى آله وصحبه أجمعين وسلم تسليما. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 368 [الرد على رسالة من الأحساء مشتملة على الكذب والبهتان] وله أيضا صب الله عليه من شآبيب بره ووالى: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة بقايا من أهل العلم يدعون من ضل إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، يحيون بكتاب الله الموتى، ويبصرون بنوره أهل العمى؛ فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه، ومن تائه ضال قد هدوه؛ فما أحسن أثرهم على الناس! وما أقبح أثر الناس عليهم! ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين الذين عقدوا ألوية البدعة وأطلقوا أعنة الفتنة؛ فهم مختلفون في الكتاب، مخالفون للكتاب مجمعون على مخالفة الكتاب، يقولون على الله وفي الله، وفي كتاب الله بغير علم، يتكلمون بالمتشابه من الكلام، ويخدعون جهال الناس بما يشبهون عليهم; فنعوذ بالله من فتن المضلين. أما بعد: فإنه قد ألقي إلينا رسالة من الأحساء مشتملة على الكذب والبهتان، والإثم والعدوان، قد صدرها صاحبها بشبهة تنبئ عن شكه في الدين وانحرافه عن سبيل المؤمنين. وهذه الشبهة التي ألقاها، هي التي أوردها شياطين أهل نجد، على شيخنا شيخ الإسلام، محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله، لما دعاهم إلى أن يعبدوا الله وحده لا شريك له، ويتركوا عبادة ما كانوا يعبدونه، من القبور والطواغيت، والأشجار والأحجار. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 369 وممن أورد هذه الشبهة: عبد الله المويس في سدير، وابن إسماعيل في الوشم، وابن سحيم وابنه في الرياض، وسليمان بن عبد الوهاب في حريملاء، زعموا: أن هذه الأمة لا يقع فيها شرك ولا بدعة؛ فورثهم هذا الجاهل المرتاب، فقال بقولهم سواء بسواء. وقد رد شيخنا، رحمه الله، شبهة أولئك المنكرين لدين الإسلام والدعوة إليه، وأبطل شبههم بالآيات المحكمات البينات، وبالسنة الصحيحة الصريحة، وبالعقل والفطرة، وبين بالأدلة والبراهين أن هذا الذي يفعله أولئك وغيرهم، في تلك الأوقات، أنه الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله. وبين أن الذي دهى هؤلاء، وصدفهم عن معرفة الدين الذي بعث الله به المرسلين، هو عدم معرفتهم للتوحيد، وجهلهم بالشرك في العبادة والتنديد؛ وقد ألفوا هذا الشرك واعتادوه، فأنكروا ما خالف تلك العوائد، واشمأزت قلوبهم من الدعوة إلى الإخلاص في العبادة. فأبطل الله ما أوردوه من الشبهات، فصمموا على الإنكار، وصاحوا عند الظلمة والفجار، فأظهر الله - وله الحمد - هذه الدعوة، وقبلها من أراد الله هدايته، وهم الخلق الكثير والجم الغفير، وأقر بها كثير من أهل الأمصار. وانتشرت بحمد الله في هذه الأعصار، ونفع الله بها أناسا من أهل تلك الأقطار، فاطمأنت بها القلوب، وذلت بها الألسن، فلم الجزء: 11 ¦ الصفحة: 370 يبق لأهلها فيها مجادل ولا معاند، ولا مماحل. فلله الحمد على ظهور الحجة، وبيان المحجة، لا نحصي ثناء عليه، ولا ملجأ منه إلا إليه، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. ثم إن هذا الجاهل أظهر تلك الشبهة في هذا الوقت القريب، وصدر به كتابه الذي ألقاه، وأخفى نفسه، فقال فيما ضمنه رسالته: أيها الرجل الجاهل المعجب بنفسه، لقد غويت وجهلت باعتقادك في هذه الأمة المحمدية، الذين قال الله فيهم: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [سورة آل عمران آية: 110] ، وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} [سورة البقرة آية: 143] أي: عدلا خيارا. وقال صلى الله عليه وسلم: " ألا وإن هذه الأمة توفي سبعين أمة، هي خيرها وأكرمها عند الله " 1، وذكر أحاديث في فضل الأمة قد حرفها، كما حرف هذا الحديث، وكتم من الآيتين اللتين ذكرهما، ما هو دليل عليه. ثم قال: وأنت جعلتهم ما بين مشرك ومبتدع، وفاسق وجاهل وظالم، ولا هنا مسلم حقيقي إلا أنت؛ وكم نفر من الذي تشتهي، ولا سبقك أحد بهذا الاعتقاد. فأقول: الله أكبر!! ما أعظم هذه الفرية على الله وعلى كتابه، وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم! فإنه ادعى أني أنا الذي جعلت الأمة، ما بين مشرك ومبتدع، وظالم وجاهل، والله تعالى هو الذي ذكر الكفار، وأعمالهم، والمشركين وشركهم،   1 الترمذي: تفسير القرآن (3001) , وابن ماجه: الزهد (4288) , وأحمد (4/446) , والدارمي: الرقاق (2760) . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 371 ورد عليهم في كتابه، وأباح دماءهم وأموالهم، وسبي ذراريهم ونسائهم، وأعد لهم نار جهنم والخلود فيها؛ وكذلك المنافقين، وكل من عصى الله من هذه الأمة، ناله من الوعيد بحسب ما فعل من المعصية. والقرآن من أوله إلى آخره، في بيان الشرك والكفر، والتحذير منه، والنهي عن الفسوق والعصيان، والدعوة إلى ما يحبه الله ويرضاه، من توحيده وطاعته، وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم فيما دعا إليه وأمر به، والانتهاء عما حرمه ونهى عنه؛ ومن له أدنى مسكة من عقل، يعرف أن ما عبر به هذا الجاهل ينبئ عن غاية الجهل والضلال، وأنه لا يدري عن القرآن، ولا عما فيه من تمييز الهدى من الضلال، ومعرفة أهل الحق من أهل الباطل. وقوله: ما هنا مسلم حقيقي، إلا أنت؛ وكم نفر من الذي تشتهي. فأقول: سبحانك هذا بهتان عظيم! اللهم إني أعوذ بك من بهتان أهل البهتان، وظلم أهل الظلم والعدوان; لا ريب أن الأمة لا تخلو من المسلمين، في كل زمان إلى أن تقوم الساعة; وفي القرون الثلاثة المفضلة، المسلمون قد ملؤوا الأمصار، في المشارق والمغارب، والحجاز واليمن. فالحمد لله الذي كثر المسلمين والمؤمنين من هذه الأمة، وإن كان عدوهم من هذه الأمة أكثر، فلهم العزة والظهور، الجزء: 11 ¦ الصفحة: 372 يقلون تارة ويكثرون أخرى، ويظهر عدوهم عليهم تارة، وتكون لهم العاقبة؛ وهذا أمر مجمع عليه، لا يرتاب فيه من عرف الأمة، وما جرى منها وما عليها. وقوله: ولا سبقك أحد بهذا الاعتقاد. فأقول: ما أعظمها من فرية! فكل مسلم يعلم أن في الأمة من هذه الأصناف الخمسة كثيرا، في جميع الأعصار، من حين بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم إلى أن تقوم الساعة؛ فما عاداه - صلوات الله وسلامه عليه - هو وأصحابه، إلا الكفار، والمشركون، وهم من هذه الأمة. وبعد هجرته ظهر النفاق في دار الهجرة، وقد رمته العرب عن قوس العداوة، وذلك لكفرهم وشركهم وضلالهم؛ وهذا أمر ظاهر لا يرتاب فيه مسلم، ولا يمكن أحد أن يجحده، اللهم إلا أن يكون مثل هذا الجاهل، الذي لا يدري إلا عما أكل أو شرب أو لبس. وهل يشك أحد أن الله بعث نبيه صلى الله عليه وسلم إلى الأسود والأحمر، والإنس والجن، بالهدى ودين الحق، فآمن به من آمن، وكفر به من كفر، ونافق من نافق؟ وفي كل سورة من القرآن من السور المكية، يذكر تعالى فيها محاجته للمشركين، والرد عليهم، وبيان ضلالهم; وبعد الهجرة أمره بقتالهم، فقال تعالى: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 373 عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [سورة النساء آية: 84] . فأوجب تعالى أن يقاتلوا لكفرهم، فقال تعالى: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} [سورة التوبة آية: 36] ، وقال تعالى: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} [سورة محمد آية: 1] إلى قوله: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ} [سورة محمد آية: 4] ، إلى غير ذلك من الآيات. وكل من دعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى التوحيد من قريب أو بعيد، فهم من أمته الذين أرسل إليهم، كما قال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [سورة التغابن آية: 2] ، وقال تعالى: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ} [سورة البقرة آية: 26] ، والمراد من بعث النبي صلى الله عليه وسلم إليهم. فإذا كان الأمر كذلك، فلا يخلو صاحب هذه الشبهة من أحد أمور ثلاثة: إما أن يقول: إن الذين سماهم الله كفارا ومشركين ومنافقين، وأمر نبيه والمؤمنين بقتالهم، ليسوا من أمة محمد؛ وهذا لا يقوله إلا جاهل، أو مكابر معاند. الأمر الثاني: أن يقول: إن الكفار والمنافقين والمبتدعة من هذه الأمة كلهم من خير أمة أخرجت للناس; فهذا من أبين البطلان، وأعظم الضلال، لعدم الإيمان الجزء: 11 ¦ الصفحة: 374 بالقرآن، وبمن أنزل القرآن، وبمن بلغه صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى: {لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ} [سورة الحشر آية: 20] ، وقال: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [سورة ص آية: 28] . فإن أقر بأنهم من هذه الأمة، وأنهم كفار، ومنافقون، ومشركون، رجع عن قوله، وأبطل شبهته. وينبغي بسط الجواب، مع الاقتصار على بعض، لتحصل به الفائدة؛ فلعل هذا الجاهل ألقى هذه الشبهة على بعض من لا بصيرة له، فتعلق بقلبه؛ فيتعين كشفها عمن ألقيت إليه. والله أسأل أن يجعله خالصا لوجهه الكريم، موجبا للفوز بجنات النعيم، وفي الأثر "إن الله يحب البصر النافذ عند ورود الشبهات، والعقل الكامل عند حلول الشهوات". فنقول وبالله التوفيق، قال الله تعالى: (بسم الله الرحمن الرحيم) ، {حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ} [سورة فصلت آية: 1-2-3-4] إلى قوله {فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ} [سورة فصلت آية: 5] ؛ فأخبر تعالى في هذه الآيات أن الأكثر أعرضوا عن هذا القرآن الذي أوحاه الله إلى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، فلم يقبلوا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 375 ما جاءهم به، وهم الذين بعث فيهم صلى الله عليه وسلم من قريش وغيرهم، ولا ريب أنهم من أمته صلى الله عليه وسلم؛ فصاروا فريقين، فريق آمنوا به واتبعوه، والأكثر أعرضوا عنه، ونصبوا له العداوة ولأتباعه، وهؤلاء كثير، منهم من مات على كفره، ومنهم من قتل ببدر، وأحد، والخندق، ولا يمكن أحدا له أدنى مسكة من عقل أن يقول: إن هؤلاء ليسوا من أمة محمد، ولا أن الكفار الذين ماتوا على الكفر، وقتلهم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، أنهم من خير أمة أخرجت للناس. فظهر بهذا الدليل الواضح الجلي، أن خير الأمة هم المؤمنون، الذين عزروا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونصروه، واتبعوه في حياته، وبعد وفاته صلى الله عليه وسلم، ومن اتبع سبيلهم إلى يوم القيامة، بخلاف من عاداهم وخالفهم، فأولئك شرار الأمة في كل زمان ومكان. ولما بعث الله نبيه صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق، أقام بمكة ثلاث عشرة سنة، يوحى إليه السور المكية، وكلها جدال مع المشركين، ونهي عن الشرك بالله في العبادة، وبيان للتوحيد بأدلته، من الآيات المحكمات. وبعد ذلك، شرع الله الهجرة لنبيه صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فهاجروا إلى المدينة، فأمره الله بقتال المشركين من قريش وغيرهم، قال تعالى: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 376 الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} [سورة محمد آية: 4] ، وقال تعالى: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ} [سورة النساء آية: 84] ، ونحو هذه الآيات في القرآن كثير. فأمر تعالى بقتال الكفار والمشركين، من أهل الكتاب وغيرهم، كما قال تعالى: قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [سورة التوبة آية: 29] ؛ فهؤلاء وأمثالهم من أمة محمد صلى الله عليه وسلم وهم من شرار الأمة بلا ريب. وقد أخبر تعالى عن الكفار، من أهل الكتاب والمشركين، أنهم في نار جهنم، وأنهم شر البرية، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ} [سورة البينة آية: 6] . فدلت هذه الآيات أن في هذه الأمة كفارا ومشركين، وأنهم في النار، وأنهم شر البرية. فبعدا لرجل ادعى أن أولئك الذين هم شر البرية، من الأمة الوسط، ومن خير أمة أخرجت للناس! أما علم أن قوله محادة لله ولرسوله ولدينه، وأنه لا يقول هذا إلا من ليس له عقل ولا دين، وليس معه من الإسلام إلا مجرد الدعوى. نعوذ بالله من الضلال وسوء الحال. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 377 ونقول أيضا: لا ريب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل كعب بن الأشرف اليهودي، وأجلى بني قينقاع، والنضير، وقتل بني قريظة، لما نقضوا العهد الذي كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وهم من أمة الدعوة بلا ريب، لكنهم من شرار الأمة لا من خيرها. فيلزم هذا الجاهل، على قوله الذي قدمنا ذكره، أن يقول: هؤلاء من الأمة الوسط، ومن خير أمة أخرجت للناس؛ ولا يخفى أن هذا لا يقوله مسلم أصلا. وفي صحيح مسلم عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " والذي نفسي بيده، لا يسمع بي رجل من هذه الأمة، يهودي ولا نصراني، ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار " 1، ولأحمد عن أبي هريرة مثله; وهذا الحديث نص على أن اليهود والنصارى من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وأن من لم يؤمن به، فهو من أهل النار. وقد دل على أنهم من أمته، قوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً} [سورة الأعراف آية: 158] ، وقوله: تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} [سورة الفرقان آية: 1] ، وقوله تعالى: {لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [سورة الأنعام آية: 19] . ولما فرغ صلى الله عليه وسلم من قتال العرب، أخذ في قتال أهل   1 مسلم: الإيمان (153) , وأحمد (2/317 ,2/350) . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 378 الكتاب، فقتل اليهود بخيبر، وبعث سريته إلى الشام لقتال النصارى، وغزاهم بنفسه حتى بلغ تبوك، فلم يلق كيدا، فرجع صلى الله عليه وسلم. وعن بريدة، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمّر أميرا على جيش أو سرية، أوصاه بتقوى الله تعالى، ومن معه من المسلمين خيرا، ثم قال: " اغزوا بسم الله في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله " 1 الحديث. فعلم من هذا: أن النبي صلى الله عليه وسلم قاتل من كفر بالله في حياته، وبعث السرايا لقتالهم، وهم من أمة الدعوة، وليسوا من خير أمة أخرجت للناس، إلا من دخل منهم في الإسلام؛ وهذا وغيره يبطل شبهة أهل الريب، ويبين أنهم لا علم لهم ولا دين، لمعارضتهم لنصوص الكتاب والسنة بالجهل والعناد؛ فإنهم حاولوا نبذ الإسلام وراء الظهر، ويأبى الله إلا أن يتم نوره. وقد كنت أحب لهؤلاء المنحرفين عن دعوة الإسلام، أن يقبلوا الحق، ويعتقدوه، ويعملوا به، لكني أخشى عليهم أن يكونوا، كمن قال الله فيهم: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ} [سورة البقرة آية: 18] . نسأل الله الثبات على الإسلام، والاستقامة عليه والوفاة عليه، إنه ولي ذلك والقادر عليه؛ ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.   1 مسلم: الجهاد والسير (1731) , والترمذي: الديات (1408) والسير (1617) , وأبو داود: الجهاد (2613) , وابن ماجه: الجهاد (2858) , وأحمد (5/352 ,5/358) , والدارمي: السير (2439) . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 379 وأما الجواب عما استدل به من الآيتين والأحاديث، فأقول: قد وصف الله تعالى خير أمة أخرجت للناس بثلاث صفات، فقال: {تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [سورة آل عمران آية: 110] ، كما قال تعالى في سورة براءة: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ} [سورة التوبة آية: 71] الآية، والآية التي بعدها. فمن تدبر هذه الأوصاف، علم يقينا أن خير الأمة هم الأقلون عددا، الأعظمون قدرا عند الله، وهم المؤمنون خاصة؛ قال الحسن رحمه الله: ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني، ولكن ما وقر في القلوب، وصدقته الأعمال. ووصف المنافقين في هذه السورة، بعكس هذه الصفات، فقال تعالى: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [سورة التوبة آية: 67] ؛ فوصفهم بالكفر تارة، وبالفسوق أخرى، ولعنهم; فقال: {لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [سورة التوبة آية: 66] . وقال في سورة الأحزاب: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} [سورة الأحزاب آية: 60] إلى قوله: {مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً} [سورة الأحزاب آية: 61] . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 380 وقد كانوا من أمة محمد صلى الله عليه وسلم وكانوا معه في الحضر والسفر، يشهدون أن لا إله إلا الله بألسنتهم، ويصلون، وينفقون، فلم ينفعهم ذلك، لعدم إيمانهم بما بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم من الهدى والعلم; ولا ريب أنهم لم يكونوا من خير أمة أخرجت للناس، بل هم من شرار الأمة. وذكر العماد بن كثير، رحمه الله تعالى، في تفسير سورة براءة، عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: "بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربعة أسياف، سيف للمشركين {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [سورة التوبة آية: 5] ، وسيف للكفار، أهل الكتاب {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [سورة التوبة آية: 29] وسيف للمنافقين: {جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ} [سورة التوبة آية: 73] وسيف للبغاة: {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} " [سورة الحجرات آية: 9] قال رحمه الله: وهذا يقتضي أنهم يجاهَدون بالسيوف، إذا أظهروا النفاق، وهو اختيار ابن جرير. قلت: وأحسب أن هذا الرجل الذي أورد الشبهة، قد ظهرت مشابهته للمنافقين، في كراهته أهل الأمر بالمعروف، وعداوته لهم وموالاته لأهل الإلحاد، الجزء: 11 ¦ الصفحة: 381 والإعراض عما بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم ممن لم يرفع بهذا الدين رأسا; وما أسرّ عبد سريرة، إلا ألبسه الله رداءها على صفحات وجهه، وفلتات لسانه. فتبين أن خير أمة أخرجت للناس هم المؤمنون الذين يوالون في الله، ويعادون فيه، ويأمرون بالمعروف، وأعظمه توحيد الله بالعبادة، وجميع ما يحبه الله ويرضاه، من الأقوال والأعمال، وينهون عن المنكر، وأعظمه الشرك بالله في العبادة، والإلحاد في أسمائه وصفاته، ووصفه بما لا يليق بجلاله وعظمته. وأما الجواب عما استدل به من الآية الأخرى، وهي قوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} [سورة البقرة آية: 143] أي: عدلا خيارا {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [سورة البقرة آية: 143] ، فالخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وهم المعنيون بهذا؛ ويلحق بهم من سلك سبيلهم من المؤمنين. بخلاف الكفار والمشركين والمنافقين الذين هم أهل النار، يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف، ويعادون أهل المعروف ويبغضونهم، ويوالون أهل المنكر ويحبونهم؛ وهم الذين شاقوا الله ورسوله، وقد قال فيهم: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} [سورة النساء آية: 115] . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 382 فخص بالثناء والجزاء بالجنة، لمن آمن بالله ورسوله وكتابه، ووالى فيه، وعادى فيه; والمقت والوعيد بالغضب والعذاب، لمن كفر بالله وأشرك به، وحاد الله ورسوله؛ وهذا ظاهر - بحمد الله - لا يخفى إلا على من أعمى الله بصيرته، وأعرض عن كتاب الله وسنة رسوله. وأما قول هذا المرتاب: وأنت جعلتهم ما بين كافر ومشرك، ومبتدع وفاسق، وجاهل وظالم. فأقول نعم، بهذا أقول؛ وقد قال الله تعالى في كتابه، كما في أول سورة البقرة، ذكر الكفار والمنافقين، وأكثر السور يذكر فيها الكفار، والمشركين بصفاتهم، ويأمر بقتالهم، وكذلك المنافقين أمر بجهادهم؛ وهذا لا يخفى إلا على من كان قلبه منكوسا، أو في بادية بعيدة، لم يسمع من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم كلمة واحدة، فقد يجهل ذلك؛ ولا ينكر هذا إلا من لا يعرف الإسلام من الكفر، ومن لا يعرف الإسلام من الكفر، كيف يصح له إسلام؟ وهذا قد أنكر أن يكون في الأمة كافر، ومشرك، ومبتدع، فيكون قد أنكر ما في كتاب الله، وما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلا يخلو إما أن يكون في غاية الجهل، وكراهة الحق، والإعراض عن القرآن بالكلية، وإما أن يكون معاندا، مشاقا منكرا لما أنزله الله في كتابه، وعمل به الجزء: 11 ¦ الصفحة: 383 رسوله صلى الله عليه وسلم؛ وقد تقدم في الآيات ما يدل على ذلك. وعلى كل حال، فهذا القول في غاية المحادة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، واتباع غير سبيل المؤمنين. وقد أخبر هذا في كلامه عن نفسه، بعدم الإيمان بالله وكتابه، ورسوله صلى الله عليه وسلم، كما لا يخفى على ذوي البصائر والإيمان; ومع هذا، فإنه قد جعل الإيمان بما في كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم من ذلك الذي لا يصح إسلام أحد إلا بالإيمان به، عيبا ومثلبة، وهو - بحمد الله - من أعظم المناقب. فكفى بالمؤمن شرفا أن يؤمن بما ذكره الله في كتابه، وبما قام به رسوله صلى الله عليه وسلم وعمل به أصحابه رضي الله عنهم، ومن سلك سبيلهم، وعادى الكفار والمشركين والمنافقين في الله، ووالى المؤمنين الموحدين لربهم، الآمرين بما يحبه الله ويرضاه، والمنكرين لما يكرهه الله ويبغضه؛ فيا لها من فضيلة ما أجلها! ونعمة ما أعظمها لمن وفق لها، واطمأن بها قلبه! قال العماد بن كثير، رحمه الله، في تفسيره، في معنى قول الله تعالى: {الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً وَأَجْدَرُ أَلّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} [سورة التوبة آية: 97] : أخبر تعالى أن في الأعراب كفارا ومنافقين ومؤمنين، وأن كفرهم ونفاقهم أعظم من غيرهم {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [سورة التوبة آية: 97] . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 384 أي: عليم بمن يستحق أن يعلمه الإيمان والعلم، حكيم فيما قسم بين عباده، من العلم والجهل، والإيمان، والكفر والنفاق، {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} [سورة الأنبياء آية: 23] لعلمه وحكمته. وقوله: {وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ} [سورة التوبة آية: 99] ، هذا هو القسم الممدوح من الأعراب. قلت: وهم الموصوفون بالإيمان، والإخلاص; فتبين: أن الأعراب - وهم من أمة محمد صلى الله عليه وسلم - فيهم الكافر والمشرك، والمنافق والمؤمن; وما زالوا كذلك في كل زمان، إلى يومنا هذا وبعده. وشرهم اليوم أكثر، وكفرهم أكبر وأظهر، فيلزمه على أصله أن كلهم من خير أمة أخرجت للناس، ومن الأمة الوسط، وأن من قتلهم لشركهم، وكفرهم، فقد ظلمهم؛ فتدبر! وهذا طعن على أئمة المسلمين; بل فيه طعن على الصحابة، في قتالهم من كفر من الأعراب، وأفسد في الأرض. ثم ذكر تعالى السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان، فقال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 385 الْعَظِيمُ} [سورة التوبة آية: 100] . وذكر قول الشعبي: إن السابقين من أدرك بيعة الرضوان. قلت: والمذكورون في هذه الآية من الأمة الوسط، وهم خير أمة أخرجت للناس. قال العماد: فيا ويل من أبغضهم أو سبهم، أو أبغض أو سب بعضهم، ولا سيما سيد الصحابة بعد الرسول صلى الله عليه وسلم وخيرهم، وأفضلهم، أعني: الصديق الأكبر، والخليفة الأعظم، أبا بكر بن أبي قحافة رضي الله عنه؛ فإن الطائفة المخذولة من الرافضة، يعادون أفضل الصحابة ويبغضونهم، ويسبونهم عياذا بالله من ذلك. وهذا يدل على أن عقولهم معكوسة، وقلوبهم منكوسة; فأين هؤلاء من الإيمان بالقرآن؟! وقد عمت البلوى بمن يتولى الرافضة، الذين يسبون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما أكثرهم! لا كثرهم الله، ولا عزهم، إذ يسبون من رضي الله عنهم. وأما أهل السنة، فإنهم يترضون عمن رضي الله عنه، ويسبون من سبه الله ورسوله، ويوالون من يوالي الله، ويعادون من يعادي الله؛ وهم متبعون لا مبتدعون، ومقتدون لا مبتدئون؛ ولهذا هم حزب الله المفلحون وعباده المؤمنون، انتهى. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 386 قلت: فتأمل ما ذكره رحمه الله، من صفات أهل السنة، من أنهم يترضون عمن رضي الله عنهم، ويسبون من سبه الله ورسوله، ويوالون من يوالي الله، ويعادون من يعادي الله ورسوله; وبهذا يحصل التمييز بين الموحد من الملحد، والصادق من الكاذب، والمؤمن من المنافق؛ لاح الصباح لمن له عينان. وأقول: اللهم اجعلنا هادين مهتدين، غير ضالين ولا مضلين، سلما لأوليائك، حربا لأعدائك، نحب بحبك من أحبك، ونعادي بعداوتك من خالفك. اللهم هذا الدعاء وعليك الإجابة. اللهم هذا الجهد وعليك التكلان. فصل [فصل في ذكر أهل الردة والخوارج وغيرهم] لا يخفى أن العرب لما سمعوا بوفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ارتد أكثرهم عن الإسلام، فقاتلهم أبو بكر رضي الله عنه بالصحابة، حتى دخلوا من الباب الذي خرجوا منه، وقتل من قتل منهم على ردته. وكذلك بنو حنيفة، صدقوا مسيلمة لما ادعى النبوة، وكفروا; وقاتلهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأميرهم خالد بن الوليد، وهو أمير الجيش الذين قاتلوا من ارتد; ولا ريب أن بني حنيفة كفار، ومن قتل منهم قتل كافرا، فلم ينفعهم مع الجزء: 11 ¦ الصفحة: 387 الكفر بالله كونهم من هذه الأمة، وعلى رأي هذا المشبه، ليسوا كفارا، والصحابة أخطؤوا في قتالهم. وكذلك الخوارج الذين قتلهم علي بن أبي طالب بالنهروان; فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنهم "يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية " 1، وقال: " أينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجرا لمن قتلهم " 2. وعند ابن ماجه عن أبي أمامة، قال أبو غالب، سمعته يقول: " شر قتلى قتلوا تحت أديم السماء، وخير قتيل من قتلوا، كلاب أهل النا ر" 3. وقد كانوا هؤلاء مسلمين، فصاروا كفارا; قلت يا أبا أمامة: هذا شيء تقوله؟ قال: بل سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولا ريب: أنهم من هذه الأمة، وهم الذين قتلوا علي بن أبي طالب، قتله عبد الرحمن بن ملجم، وهو منهم؛ وكذلك الذين اعتقدوا الألوهية في علي بن أبي طالب، خدَّ لهم الأخاديد، وأحرقهم بالنار لشركهم بالله. فسل هذا الجاهل المفتري: هل أصاب علي في قتلهم أم أخطأ؟ وهل كانوا كفارا أم لا؟ ومن لم يكفرهم فهو كافر. وكذلك الذين أخبر بهم النبي صلى الله عليه وسلم وقال: " سيكون في أمتي كذابون ثلاثون، كلهم يزعم أنه نبي. وأنا خاتم الأنبياء، لا نبي بعدي " أيكون هؤلاء كفارا أم لا؟ فإن طرد أصله، قال: لم يكونوا كفارا، صار أخا لهم; لأنه زكاهم   1 البخاري: المناقب (3611) , ومسلم: الزكاة (1066) , والنسائي: تحريم الدم (4102) , وأبو داود: السنة (4767) , وأحمد (1/88 ,1/91 ,1/131 ,1/147 ,1/151 ,1/156 ,1/160) . 2 البخاري: المناقب (3611) , ومسلم: الزكاة (1066) , والنسائي: تحريم الدم (4102) , وأبو داود: السنة (4767) , وأحمد (1/131) . 3 الترمذي: تفسير القرآن (3000) , وابن ماجه: المقدمة (176) . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 388 وتولاهم، مع أنهم يقولون: لا إله إلا الله، وفيهم عباد وزهاد. وكذلك الذين أنكروا القدر، منهم معبد الجهني، وغيلان القدري، الذين قال عبد الله بن عمر فيهم، لما أخرجه يحيى بن يعمر، قال له: "إذا لقيت أولئك، فأخبرهم أني بريء منهم، وأنهم برآء مني، والذي يحلف به عبد الله بن عمر، إن أحدهم لو أنفق مثل أحد ذهبا، ما قبله الله منه حتى يؤمن بالقدر". وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنهم مجوس هذه الأمة، وأفتى العلماء رحمهم الله بقتل داعيتهم، غيلان القدري؛ فقتله هشام بن عبد الملك في خلافته؛ وهم مبتدعة بإجماع العلماء، لمخالفتهم ما دل عليه الكتاب، والسنة في إثبات القدر؛ وهو من أصول الإيمان، كما في سؤال جبرائيل للنبي صلى الله عليه وسلم قال: فأخبرني عن الإيمان؟ قال: " أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، وباليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره. قال: صدقت "؛ والآيات والأحاديث في إثبات القدر كثيرة جدا. والمقصود: أن نفاة القدر من هذه الأمة، قد صاروا مبتدعة ضلالا، ومن كان كذلك فليس من خير أمة أخرجت للناس، بل هم من شرار الأمة؛ صدق الله، وكذب المرتابون. ثم ظهرت بدعة الجهمية في أواخر دولة بني أمية، الجزء: 11 ¦ الصفحة: 389 فجحدوا ما وصف الله به نفسه، ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم من صفات كماله، ونعوت جلاله. وكان أول من أظهر هذه البدعة: الجعد بن درهم، فضحى به خالد بن عبد الله القسري؛ وكان إذ ذاك أميرا على العراق، فقال في خطبته يوم الأضحى: أيها الناس ضحوا تقبل الله ضحاياكم، فإني مضح بالجعد بن درهم، فإنه يزعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا، ولم يكلم موسى تكليما. قال العلامة ابن القيم، رحمه الله لما ذكر بدعة الجهمية: ولأجل ذا ضحى بجعد خالد الـ ... قسري يوم ذبائح القربان شكر الضحية كل صاحب سنة ... لله درك من أخي قربان وفي تلك الدولة والإسلام ظاهر، والسنة ظاهرة، وأهلها كذلك، والبدعة إذا ظهرت أنكرت، وعوقب أهلها بالقتل تارة، وبالحبس تارة، وبالتعزير تارة. ثم إن جهم بن صفوان أظهر هذه البدعة في دولة بني العباس، فأنكر ذلك العلماء وكفروه ومن تبعه على بدعته؛ منهم سفيان الثوري، وأبو حنيفة والإمام مالك، وخلق كثير من أهل الحديث والفقه، قال العلامة ابن القيم: ولقد تقلد كفرهم خمسون في عشر من العلماء في البلدان فعظمت بدعتهم، وتكلم العلماء في ردها وإبطالها، وصنفوا الكتب في ذلك؛ وممن صنف في رد هذه البدعة: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 390 الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، وابنه عبد الله بن أحمد، وعثمان بن سعيد الدارمي، وأبو بكر المروذي، صاحب الإمام أحمد، وإمام الأئمة: محمد بن خزيمة في كتاب التوحيد له، واللالكائي في كتاب السنة، وأبو عثمان الصابوني، وخلق كثير. وبعض العلماء ضمن كتابه الرد عليهم، كالبخاري في كتاب التوحيد، وغيره من أئمة الحديث. وممن رد عليهم: شيخ الإسلام، أبو إسماعيل الأنصاري، في كتاب الفاروق له، وصنف شيخ الإسلام: أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام، كتاب العقل والنقل، في الرد على الجهمية والفلاسفة، كما قال العلامة ابن القيم، رحمه الله تعالى: واقرأ كتاب العقل والنقل الذي ما في الوجود له نظير ثان قلت: فلو عرف هذا الجاهل المشبه، ما وقع في هذه الأمة من البدع، والمنكرات، لم يتفوه بهذه الشبهة؛ لكنه جاهل لا يدري ما وقع في الأمة من خير وشر، وقد أعجب بنفسه، وهو من السفلة الضلال؛ فلا علم ينفعه، ولا عقل يردعه. نعوذ بالله من غرور الشيطان، والانحراف عن سبيل أهل الإيمان. وهذه البدع التي ذكرنا ظهرت في القرون المفضلة، لكنها تنكر وتغير، وفي هذه القرون من الأمة المفضلة الخلق الكثير، والجم الغفير، لا يحصيهم إلا الله سبحانه وتعالى، الجزء: 11 ¦ الصفحة: 391 وقد عرفت أن أهل البدع والنفاق بينهم، مقهورون ذليلون قليلون. وأهل هذه القرون هم الذين عناهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: "أنتم توفون سبعين أمة، أنتم خيرها وأكرمها على الله"؛ وهم المعنيون بقوله صلى الله عليه وسلم " قال الله لعيسى بن مريم: إني باعث بعدك أمة، إذا أصابهم ما يحبون حمدوا وشكروا، وإن أصابهم ما يكرهون احتسبوا وصبروا، ولا حلم ولا علم. قال يا رب: كيف لا حلم ولا علم؟ قال: أعطيهم من حلمي وعلمي " 1. فإذا تصور العارف ما حصل في خلافة أبي بكر وعمر، ممن اجتمع من المسلمين على حرب فارس والروم، ثم لما أظهرهم الله عليهم، ملؤوا الشام والعراق، والحجاز واليمن وغيرها، فما زالوا كذلك على السنة، في القرون الثلاثة، والجهاد قائم بهم، والأقاليم مملوءة منهم. وفي مسند الإمام أحمد رحمه الله تعالى، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فنَزلنا منْزلا، فمنا من يضرب خباءه، ومنا من هو في جَشَرِه، ومنهم من ينتضل، إذ نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم: الصلاة جامعة، فانتهيت إليه وهو يخطب الناس، ويقول: " أيها الناس إنه لم يكن نبي قبلي إلا كان حقا عليه أن يدل أمته على ما يعلمه خيرا لهم، وينذرهم عما يعلمه   1 أحمد (6/450) . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 392 شرا لهم. ألا وإن عافية هذه الأمة في أولها، وسيصيب آخرها بلاء وفتن، يرقق بعضها بعضا. تجيء الفتنة، فيقول المؤمن: هذه مهلكتي، ثم تنكشف، فتجيء أخرى: فيقول: هذه، هذه، ثم تنكشف. فمن أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة، فلتدركه منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر " 1 الحديث. ويشهد لهذا الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: " خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم. ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون. فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن؛ وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل " 2 انتهى. قلت: وقد وقع ما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر القرن الثالث، وفيه: امتحن المأمون بن الرشيد علماء الحديث، وحملهم على القول بخلق القرآن. فمنهم من أجاب مكرها، ومنهم من لم يجب وصبر على المحنة، كالإمام أحمد، ومحمد بن نوح رحمهم الله تعالى، واستمرت المحنة في خلافة أخيه المعتصم، وفي خلافة الواثق. فلما استخلف المتوكل رفع المحنة عن الإمام أحمد، وأهل الحديث. ثم بعد ذلك ظهرت دولة القرامطة في المشرق، وصار   1 مسلم: الإمارة (1844) , والنسائي: البيعة (4191) , وابن ماجه: الفتن (3956) , وأحمد (2/191) . 2 مسلم: الإيمان (50) , وأحمد (1/458 ,1/461) . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 393 لهم صولة، وأظهروا الكفر، وقتلوا الحُجَّاج بمكة، وألقوهم في بئر زمزم، وقلعوا الحجر الأسود، ونقلوه إلى بلادهم; قال شيخ الإسلام: وهم من أشد الناس كفرا. وظهرت دولة بني بويه في المشرق، والعراقين في أوائل القرن الرابع، فأظهروا الغلو في أهل البيت، وبنوا المساجد على قبورهم، وبنوا المشاهد، وعبدوها من دون الله، فأشبهوا اليهود والنصارى، كما في الحديث الصحيح، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لعنة الله على اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " 1، يحذر ما صنعوا. ولما ذكرت له أم سلمة، وأم حبيبة كنيسة رأتاها بأرض الحبشة، وما فيها من الصور، قال: " أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح، أو العبد الصالح، بنوا على قبره مسجدا، وصوروا فيه تلك الصور؛ أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة " 2. وكذلك بنو عبيد القداح، تغلبوا على مصر وبعض المغرب، وبنوا المساجد على القبور، والمشاهد، بزعمهم أنها قبور أناس من أهل البيت؛ وهي موجودة تعبد إلى الآن، وغيرها تعبد من دون الله. وظهرت المقالات والبدع، من الفلاسفة والجهمية، والمعتزلة والكلابية، والكرامية والأشاعرة، وغيرهم من أهل البدع، وفشا   1 البخاري: الصلاة (436) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (531) , والنسائي: المساجد (703) , وأحمد (1/218 ,6/34 ,6/80 ,6/121 ,6/252 ,6/255 ,6/274) , والدارمي: الصلاة (1403) . 2 البخاري: الصلاة (434) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (528) , والنسائي: المساجد (704) , وأحمد (6/51) . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 394 الشرك والزندقة، في هذه الفرق وغيرها، وقل أهل السنة والجماعة. وفي القرن السابع سار التتر، وقتلوا الخليفة العباسي ببغداد، وقتلوا العلماء، وألقوا كتب الحديث والسنة في شط دجلة، وتحصن أهل الشام عنهم في رؤوس الجبال، فقاتلهم سلطان مصر، ومن معه من أهل مصر والشام، فهزمهم الله، وذلك بسبب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، لما شجع السلطان. وفي تلك القرون اشتدت غربة الإسلام، وعاد المعروف فيها منكرا، والمنكر معروفا، والسنة بدعة، والبدعة سنة، نشأ على هذا الصغير، وهرم عليه الكبير. قال بعض أهل السنة: لا تستوحش من الحق لقلة السالكين، ولا تغتر بالباطل لكثرة الهالكين. وفي هذا الحال يقول الشاطبي، رحمه الله تعالى: وهذا زمان الصبر من لك باللتي كقبض على جمر فتنجو من البلا وكل هذه الدول وهذه الفرق، فيهم الكافر كالفلاسفة، وفيهم أهل الشرك الذين بنوا المساجد على القبور وعبدوها، وكذلك أهل البدع كالقدرية المعتزلة، والجهمية النفاة الجبرية الحلولية، وكذلك أهل وحدة الوجود، ومن رأى رأي هذه الطوائف من المتأخرين، الجزء: 11 ¦ الصفحة: 395 كلهم من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، لكنهم شرارها. وهذا الجاهل الذي لا يدري، ولا يميز الحق من الباطل، زعم أن الكل من خير أمة أخرجت للناس؛ فاعرفوا حاله وحال أمثاله، ممن ارتاب في الدين، فلا يغتر به إلا من كان جاهلا مغرورا; وذلك أن هذه الأزمنة هي التي أخبر عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الإسلام سيعود غريبا كما بدأ، وأن القابض على دينه كالقابض على الجمر. قال ابن القيم: والحديث رواه الأعمش عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن الإسلام بدأ غريبا، وسيعود غريبا كما بدأ؛ فطوبى للغرباء. قيل: ومن الغرباء يا رسول الله؟ قال: النّزّاع من القبائل ". وفي حديث عبد الله بن عمرو: " قيل: من الغرباء يا رسول الله؟ قال: ناس صالحون قليل، في ناس سوء كثير، من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم " 1. قال العلامة ابن القيم: ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم إنهم "النّزاع من القبائل" أن الله سبحانه بعث رسوله صلى الله عليه وسلم وأهل الأرض على أديان مختلفة، فهم ما بين عباد أوثان، وعباد نيران، وعباد صلبان، ويهود، وصابئة، وفلاسفة.   1 أحمد (2/222) . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 396 فكان الإسلام في أول ظهوره غريبا، فكان من أسلم منهم، واستجاب لله ورسوله، غريبا في جنسه وقبيلته، وقريته وأهله وعشيرته، وكان المستجيبون لدعوة الإسلام نزاعا من القبائل، آحادا منهم، تغربوا عن قبائلهم، وعشائرهم، فكانوا هم الغرباء حقا حتى ظهر الإسلام، وانتشرت دعوته ودخل الناس فيه أفواجا. ثم أخذ في الاغتراب حتى عاد غريبا كما بدأ؛ بل الإسلام الحق، الذي كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، اليوم أشد منه غربة في أول ظهوره، وإن كانت أعلامه ورسومه الظاهرة مشهودة معروفة. فالإسلام الحقيقي غريب جدا، وأهله غرباء بين الناس؛ كيف لا يكون فرقة واحدة قليلة جدا غريبة بين اثنتين وسبعين فرقة ذات أتباع، ورياسات ومناصب وولايات لا يقوم لها سوق إلا بمخالفة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم؟ فإن نفس ما جاء به مضاد أهواءهم ولذاتهم، وما هم عليه من الشبهات التي هي منتهى فضيلتهم وعلمهم، والشهوات التي هي غاية مقاصدهم، وإراداتهم؛ فكيف لا يكون المؤمن السائر إلى الله على طريق المتابعة، غريبا بين هؤلاء الذين اتبعوا أهواءهم، وأطاعوا شيخهم، وأعجب كل منهم برأيه؟ انتهى. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 397 قلت: فإذا كان هذا في القرن السابع وما قبله، فما بعدها أشد غربة للإسلام والسنة. وبسبب اشتداد الغربة، أنكر الناس على من قام يدعوهم إلى أن يعبدوا الله ولا يشركوا به شيئا؛ وقد ثبتت الأحاديث التي فيها افتراق هذه الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة، ورواه عن النبي صلى الله عليه وسلم عدة من الصحابة، منهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه؛ وقد رواها الإمام محمد بن نصر المروزي رحمه الله، في "كتاب الاعتصام" وغيره، فنذكر من كل حديث ما دل على ذلك. فروى بإسناده إلى سعيد بن جبير، عن أبي الصهباء، قال: "سمعت علي بن أبي طالب، وقد دعا رأس الجالوت وأسقف النصارى، فقال: إني سائلكما عن أمر، وأنا أعلم به منكما، فلا تكتماني. يا رأس الجالوت، أنشدك الله الذي أنزل التوراة على موسى، وأطعمكم المن والسلوى، وضرب لكم في البحر طريقا، وأخرج لكم من الحجر اثنتي عشرة عينا لكل سبط من بني إسرائيل عين، إلا ما أخبرتني عن كم افترقت بنو إسرائيل بعد موسى؟ فقال له: ولا فرقة واحدة; فقال له علي ثلاث مرات: كذبت والله الذي لا إله إلا هو، لقد افترقت على إحدى وسبعين فرقة، كلها في النار إلا فرقة واحدة. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 398 ثم دعا الأسقف، وقال: أنشدك الله الذي أنزل الإنجيل على عيسى، وجعل على رجله البركة، وأراكم العبرة فأبرأ الأكمه وأحيا الموتى، وصنع لكم من الطين طيورا، وأنبأكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم، فقال: دون هذا أصدقك يا أمير المؤمنين. فقال علي: كم افترقت النصارى بعد عيسى من فرقة؟ فقال: لا والله ولا فرقة; فقال ثلاث مرات: كذبت والله الذي لا إله إلا هو، لقد افترقت على ثنتين وسبعين فرقة، كلها في النار إلا فرقة; فأما أنت يا يهودي، فإن الله يقول: {وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} [سورة الأعراف آية: 159] ، فهي التي تنجو. وأما أنت يا نصراني فإن الله يقول: {مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ} [سورة المائدة آية: 66] ، فهي التي تنجو. وأما نحن فيقول: {وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} [سورة الأعراف آية: 181] ، وهي التي تنجو من هذه الأمة". وبالسند إلى زاذان أبي عمرو، قال: "قال علي: يا أبا عمرو، أتدري كم افترقت اليهود؟ قال: قلت: الله ورسوله أعلم; فقال: افترقت على إحدى وسبعين فرقة، الجزء: 11 ¦ الصفحة: 399 كلها في الهاوية إلا واحدة، هي الناجية. والنصارى على ثنتين وسبعين فرقة، كلها في الهاوية إلا واحدة، هي الناجية; يا أبا عمرو: أتدري كم تفترق هذه الأمة؟ فقلت: الله ورسوله أعلم; قال: تفترق على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في الهاوية إلا واحدة وهي الناجية. ثم قال علي: أتدري كم تفترق في؟ قلت: وإنه يفترق فيك يا أمير المؤمنين؟ قال نعم: اثنتي عشرة فرقة، كلها في الهاوية إلا واحدة، هي الناجية، وهي تلك الواحدة، يعني: الفرقة التي من الثلاث والسبعين، وأنت منهم يا أبا عمرو". وبالسند إلى عبد الله بن يزيد، عن عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " سيأتي على أمتي ما أتى على بني إسرائيل، مثلا بمثل، حذو النعل بالنعل، وإنهم تفرقوا على ثنتين وسبعين ملة، وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة، كلهم في النار غير واحدة. قالوا: يا رسول الله، وما تلك الواحدة؟ قال: هو ما أنا عليه اليوم وأصحابي " 1. وبالسند إلى عبد الله بن عبيدة، عن بنت سعد، عن أبيها سعد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" افترقت بنو إسرائيل على إحدى وسبعين ملة، ولن تذهب الليالي والأيام، حتى تفترق أمتي على مثلها "، أو قال: "على مثل ذلك، وكل فرقة منها في النار، إلا واحدة، وهي الجماعة". وبالسند إلى سويد بن غفلة، عن ابن مسعود، قال:   1 الترمذي: الإيمان (2641) . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 400 " دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا ابن مسعود. قلت: لبيك يا رسول الله; قال: أتدري أي الناس أعلم؟ قال: قلت: الله ورسوله أعلم; قال: فإن أعلم الناس أبصرهم بالحق إذا اختلف الناس، وإن كان مقصرا في العمل; واختلف من قبلي على ثنتين وسبعين فرقة، نجا منها ثلاث، وهلك سائرها; فرقة آذت الملوك وقاتلوهم على دينهم، ودين عيسى، وأخذوهم فقطعوهم بالمناشير. وفرقة لم يكن لهم طاقة بموازاة الملوك، ولا بأن يقيموا بين ظهرانيهم، ويدعونهم إلى دين الله، ودين عيسى بن مريم، فساحوا في البلاد وترهبوا، وهم الذين قال الله: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} [سورة الحديد آية: 27] إلى قوله: {فاسقون} " وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " من آمن بي وصدقني واتبعني، فقد رعاها حق رعايتها، ومن لا يتبعني فأولئك هم الهالكون ". قلت: فالفرقة الثالثة، هي التي آمنت بمحمد صلى الله عليه وسلم واتبعته، من بني إسرائيل وغيرهم. وبالسند إلى يزيد الرقاشي، حدثني أنس بن مالك مرفوعا " أن بني إسرائيل افترقت على إحدى وسبعين فرقة، وإن أمتي ستفترق على ثنتين وسبعين فرقة، كلها في النار إلا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 401 فرقة واحدة " 1؛ قال يزيد الرقاشي: وهي الجماعة; وفيه حديث معاوية، وهو مشهور. فتبين بهذه الأحاديث أن الفرقة الناجية من الثلاث والسبعين، هي التي تمسكت بكتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وعملوا بما في كتاب الله، وأخلصوا له العبادة، واتبعوا رسوله صلى الله عليه وسلم؛ فإن أصل دين الإسلام أن لا يعبد إلا الله، وأن لا يعبد إلا بما شرع; وأنت ترى اليوم أكثر من ينتسب إلى العلم، لا يعرف من معنى لا إله إلا الله، إلا ما دلت عليه التزاما، وهو توحيد الربوبية الذي أقر به المشركون. وذلك أن هؤلاء يفسرون الإله، بالقادر على الاختراع، وما اهتدوا إلى ما دلت عليه كلمة الإخلاص مطابقة، وهو نفي ما يأله المشركون من دون الله، بأي نوع كان من أنواع العبادة؛ هذا هو المنتفي بجملة لا إله. ومعنى إلا الله، أنه هو الذي يؤله ويعبد، بكل نوع من أنواع العبادة، دون كل ما سواه. وسيأتي مزيد لذلك إن شاء الله. وبسبب جهل كثير مما دلت عليه لا إله إلا الله، لم ينكروا عبادة الطواغيت، والأشجار، والأحجار، والقبور; وذلك أنه لا يعرف عن أحد من العلماء، في العصر الذي قام فيه شيخنا، رحمه الله، ولا ما قبله، أنه أنكر الشرك في الإلهية، ودعا الناس إلى أن يعبدوا الله وحده. فبسبب الجهل بهذا التوحيد، الذي هو حق الله على   1 ابن ماجه: الفتن (3993) , وأحمد (3/120 ,3/145) . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 402 عباده أنكروا على شيخنا رحمه الله تعالى، لما دعا الناس في القرن الثاني عشر، إلى ما دعت إليه الرسل: {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [سورة المؤمنون آية: 32] {أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} [سورة هود آية: 26] ، {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍأَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ} [سورة هود آية: 1-2-3] . فالوقت الذي صارت دعوة الرسل فيه عند أهله منكرا، فالإسلام فيه قد بلغ في الغربة إلى غايتها ومنتهاها. وقد دل القرآن العزيز، على أن الكفار الذين جحدوا هذا التوحيد، كانوا يعرفون ما دعاهم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال لهم: " قولوا لا إله إلا الله " 1، قال تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} [سورة الصافات آية: 35-36] ؛ فعرفوا أن معناها: ترك عبادة الآلهة التي كانوا يعبدونها من دون الله. وقد أخبر تعالى عن قوم هود، أنهم أجابوه لما قال لهم: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [سورة الأعراف آية: 59] ، {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ} [سورة الأعراف آية: 70] ، وقوله تعالى: {وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [سورة الأحقاف آية: 21] . فتبين بهذه الآيات، وجميع ما في القرآن أن الدعوة   1 البخاري: تفسير القرآن (4675) , ومسلم: الإيمان (24) , والنسائي: الجنائز (2035) , وأحمد (5/433) . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 403 التي اتفق عليها الرسل هي إفراد الرب تعالى بالعبادة، كما في قوله تعالى في فاتحة الكتاب: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [سورة الفاتحة آية: 5] ؛ فتقديم المعمول يفيد الحصر، أي: لا نعبد غيرك، ولا نستعين إلا بك. فالجهل بهذا التوحيد هو غاية الجهل، والإنكار على من دعا إليه هو الغاية في الكفر. وقد قال عالم صنعاء، في منظومته المشهورة، التي بعث بها لشيخنا محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله: لقد أنكرت كل الطوائف قوله بلا صدر في الحق منهم ولا ورد إلى أن قال: وقد جاءت الأخبار عنه بأنه ... يعيد لنا الشرع الشريف بما يبدي وينشر جهرا ما طوى كل جاهل ... ومبتدع منه فوافق ما عندي والمقصود: أن الله تعالى منّ على الناس في آخر هذه الأعصار، ببيان الدين الذي بعث الله به رسله، وهو الذي خلق الخلق لأجله، وبيان أدلته من الكتاب والسنة، ودعوة الناس إلى أن يتدبروا ذلك، ويعرفوا ما أراد الله تعالى من عباده. وبينه تعالى بقوله: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [سورة الزمر آية: 2-3] ، وقوله: {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي} [سورة الزمر آية: 14] ، وقال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [سورة البينة آية: 5] . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 404 وقد ذكر الإمام أحمد، وابن جرير في تفسيره: أن الدين المذكور في هذه الآيات وأمثالها، هو الدعاء، والدعاء نوعان: دعاء عبادة، ودعاء مسألة، والكل عبادة؛ فمن أخلص الدعاء بنوعيه لله تعالى، ولم يجعل له فيه شريكا في ذلك، فقد وحد الله تعالى بعبادته وأسلم لله، ومن جعل لله شريكا في ذلك، فقد أشرك مع الله غيره. وهذا واضح في الآيات المحكمات، كقوله تعالى: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ} [سورة الزمر آية: 64-65-66] ؛ وهذه الآية تشبه: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [سورة الفاتحة آية: 5] ، والمعنى: بل الله فاعبد لا غيره؛ فإن تقديم المعمول يفيد الحصر، وهذا هو الإخلاص، وهو معنى شهادة أن لا إله إلا الله. فمن لم يفهم دين الإسلام، الذي رضيه الله تعالى لعباده، من هذه الآيات المحكمات، فأبعده الله; فإن الخصومة بين الرسل والأمم إنما كانت في إخلاص العبادة لله، كما قال تعالى: {وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [سورة الأحقاف آية: 21] . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 405 وهذا هو الدين الذي دعا إليه شيخنا، رحمه الله، في آخر هذه الأعصار، لما اندرست أعلامه، وانمحت آثاره، واتخذ أكثر الناس الشرك في العبادة دينا، وأنزلوا حوائجهم بمن لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا؛ فكيف يملك لهم من الضر والنفع ما لا يملك لنفسه، كما قال تعالى: {فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [سورة المائدة آية: 76] ؟ والقرآن من أوله إلى آخره في بيان توحيد العبادة، وهو أظهر شيء في القرآن، وأبينه. وقد أشرت إلى سبب خفاء هذا التوحيد على كثير من المتكلمين، ومن سلك سبيلهم; فلهذا لم ينكروا الشرك الذي وقع في هذه الأمة، من عبادة الأشجار، والأحجار، والطواغيت، والجن، فصار هذا الشرك لهم عادة، نشأ علية الصغير، وهرم عليه الكبير؛ وهذا هو سبب إنكارهم على من نهاهم عنه. فمن تدبر ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه "، تبين له خطأ المغرورين، في إنكارهم على من دعاهم إلى إخلاص العبادة لله وحده لا شريك له، واشمئزازهم من ذلك، وكراهتهم له؛ وهو الحامل لهم على إلقاء الشبهات الفاسدة. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 406 فلنذكر ما ورد في هذا المعنى: ففي الحديث الصحيح، عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: "أنتم أشبه الناس سمتا وهيئة ببني إسرائيل، تتبعون آثارهم حذو القذة بالقذة، لا يكون فيهم شيء إلا كان فيكم مثله". وبالإسناد إلى سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: "إنه لم يكن في بني إسرائيل شيء إلا كان فيكم"; وعن عبد الله بن عمرو، قال: "لتركبن سنن من كان قبلكم، حلوها ومرها"; وتقدم في الأحاديث المرفوعة مثل هذا. ولا يعرف ما وقع في الأمة من أنواع الشرك الأكبر، وخفائه على الأكثر، إلا من شرح الله صدره للإسلام، وتدبر القرآن، بخلاف من أعرض عن كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم واعتمد على ما في كتب المتكلمين وتقلد بهم؛ نعوذ بالله من عمى البصيرة، وفساد الطوية والسريرة. وقد اعترف عالم صنعاء، الأمير محمد بن إسماعيل، بما كان الناس عليه من الجهل بالتوحيد، في وقت ظهور شيخنا رحمه الله، فمن ذلك قوله: وينشر جهرا ما طوى كل جاهل ... عسى بلدة فيها هدى وصواب فيخبر كل عن قبائح ما رأى ... وليس لأهليها يكون متاب لأنهم عدوا قبائح فعلهم ... محاسن يرجى عندهن ثواب الجزء: 11 ¦ الصفحة: 407 ونذكر شيئا من مبدإ دعوة شيخنا، رحمه الله، فنقول: شرح الله صدره للإسلام، وتبين له ما كان أكثر الناس عليه من الجهل بالتوحيد، وما وقعوا فيه من الشرك والتنديد. دعا من كان حوله إلى تدبر كتاب الله تعالى، ومعرفة التوحيد الذي خلقوا له، وبعث الله به رسله، وأنزل به كتبه، وضمنه أشرف كتبه، وهو القرآن الذي أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم. وما وقع منهم من الاعتقاد في الطواغيت، وأرباب القبور والأشجار، والأحجار، هو الشرك الذي بعث الله رسله بإنكاره. فصاحوا به منكرين لما دعاهم إليه، واستنجدوا بالملوك من كل جانب، حتى أخرجوه من بلده العيينة، فهاجر إلى الدرعية. فتلقاه شيخ البلد محمد بن سعود رحمه الله، هو وأولاده، وقرابته، وأعيان أهل بلده، فقابلوا دعوته بالقبول، وجدوا في نصرته على ضعفهم وقلتهم، وكثرة عدوهم. واستصرخ أعداؤهم الملوك عليهم، فما زالوا يرمونهم بقوس العداوة، وحزبوا عليهم مرارا كثيرة من كل جهة، فأظهرهم الله على من عاداهم، على ضعفهم وقلتهم، وأوقع بأسه بكل من عاداهم في الملوك، وأهلكهم الله، وأباد خضراهم؛ وفي ذلك آيات لمن كان واعيا. وهذه الآية الجزء: 11 ¦ الصفحة: 408 لا تخفى على من صحت بصيرته; وأما أعمى البصيرة فلا يبصر. وكلما كادهم عدو، ورام هلاكهم، أهلكه الله؛ فما زالوا- بحمد الله- ظاهرين بهذه الدعوة، التي خصهم الله بالسبق إلى قبولها، ونصرتها إلى يومنا هذا {فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [سورة الجاثية آية: 36-37] . ولله در الشيخ حسين بن غنام، حيث قال: لما ظهرت له أنوار التوحيد، أظهر ذلك في شعره ونثره، وأجاب محمد بن فيروز في هجوه وسبه; ومنظومته موجودة في تأريخه، فمن قوله رحمه الله: نفوس الورى إلا القليل ركونها ... إلى الغي لا يلفى لدين حنينها فسل ربك التثبيت أي موحد ... فأنت على السمحاء باد يقينها وغيرك في بيد الضلالة سائر ... وليس له إلا القبور يدينها وأنت بمنهاج الشريعة سالك ... وسنة خير المرسلين تبينها قلت: ولا يخفى على ذوي البصائر، أن من أعظم الجهل، وأبين الكذب، وأبعد الضلال: جحود من جحد أنه ليس في هذه الأمة كافر ولا مشرك، ولا مبتدع، ولا فاسق، ولا ظالم؛ والقرآن كله من أوله إلى آخره، يخبر عن الكفار، والمشركين، والمنافقين، والفاسقين والظالمين. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 409 فسبحان الله! كيف أدته العداوة والبغضاء لمن قام بالدعوة إلى التوحيد، إلى أن جحد الكثير من القرآن والسنة، وادعى أن الأمة كلها من أولها إلى آخرها، كلهم خير أمة أخرجت للناس، وأنهم الأمة الوسط، فجحد ما لم يمكن جحوده في حق أحد. وحقيقة حال هذا: أنه كذب بما في القرآن من ذلك; فتأمل ما يترتب على هذا القول، من الفساد والإلحاد، وكيف يمكن أحدا أن يجحد ما وقع في هذه الأمة، من الكفر والشرك والبدع. وقد ذكرت في هذا الجواب، بعض ما وقع في الأمة من ذلك، على سبيل الاختصار، لبيان بطلان هذه الشبهة، وشدة ضلال ملقيها; ثم إنه حرف القرآن والأحاديث، ووضعها في غير موضعها، فلهذا يقول إن المطيع والعاصي، والمؤمن والكافر على حد سواء، وهذا ممتنع عقلا وشرعا وفطرة. وقد تقدم في هذا الجواب، ما يبين الخطأ من الصواب - ولله الحمد والمنة- مع الاقتصار، كما في الأثر: "خير الكلام ما قل ودل، ولم يطل فيمل" والقصد بذلك: انتفاع طالب الحق بالجواب عن شبه المشبهين، وتحريف الملحدين -وبالله التوفيق-، وإلا فالواقع اليوم ممن هم من هذه الأمة، يكفي البصير في رد هذه الشبهة وإبطالها. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 410 فإن الرافضة اليوم كثيرون، وشركهم وبدعتهم لا يخفى على من يعرفهم؛ وكذلك أحوال الأعراب، وما فيهم من الفساد، والجفاء في الدين، واستحلال المحرمات، وسفك الدماء، ونهب الأموال، وإخافة السبيل وقطعها، ولا ريب أنهم من أمة محمد صلى الله عليه وسلم. والحمد لله الذي هدانا لهذا، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، وصلى الله على محمد سيد المرسلين، وإمام المتقين، وعلى الله وصحبه أجمعين، وسلم تسليما كثيرا. [الرد على أوراق جاء بها رجل من أهل جبل سليمان مشتملة على الشرك والإلحاد] وله أيضا، أسكنه الله الفردوس الأعلى: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، إياك نعبد وإياك نستعين. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إله الأولين والآخرين. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أرسله بالحق المبين. اللهم صل على محمد وآل محمد وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليما. أما بعد: فإني رأيت أوراقا، جاء بها رجل من أهل جبل سليمان، يطلب رد ما فيها من الأباطيل والتخاييل، فنظرت فيها، فإذا هي مشتملة على الشرك بالله، والإلحاد في الله، والزيغ عن الهدى، والزندقة والضلال؛ يعرف ذلك كل من في قلبه أدنى مسكة، من عقل وبصيرة، فلذلك لم تحتج إلى تتبع الجواب، عما فيها من الزيغ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 411 والضلال، فإنها كما قال بعض أهل السنة شعرا: شبه تهافت كالزجاج تخالها ... حقا وكل كاسر مكسور ولهذا اقتصرت على بيان التوحيد بأدلته، ودحض الشرك ووسوسته، وجعلت ذلك في فصلين. الفصل الأول: أن هذا الجاهل المركب جهله، قد اتخذ الشرك بالله دينا، وجحد التوحيد الذي بعث الله به رسله وأنزل به كتبه; وهو: إخلاص العبادة بجميع أنواعها لله تعالى، وهو الذي أمر الله به رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ} [سورة الزمر آية: 11-12] إلى قوله: {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ} [سورة الزمر آية: 14-15] . وقال تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} [سورة يوسف آية: 40] ؛ فالدين القيم تجريد التوحيد ونفي الشرك والتنديد، وهو الإسلام الذي لا يقبل الله دينا سواه، كما قال تعالى: {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [سورة لقمان آية: 22] . والعروة الوثقى هي: لا إله إلا الله؛ والآية قد تضمنت نفى الشرك، والبراءة منه، وإخلاص العبادة لله وحده لا شريك له، كما قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 412 وَلا أُشْرِكَ بِهِ} [سورة الرعد آية: 36] . وأمثال هذه الآيات في القرآن كثيرة جدا، لا يصد عنها إلا من كان مغمورا في بحار الشرك بالله. فإن المشرك أعمى أصم لا يعرف الحق، ولا يهتدي إلى أدلته، كما قال تعالى في أمثال هذا: {بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ} [سورة المؤمنون آية: 63] ، وقال تعالى: {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَاباً مَسْتُوراً وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُوراً} [سورة الإسراء آية: 45-46] . واعلم أن هذا الملحد المفتري، قد ادعى أن الاستمداد من الأموات الذين لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا جائز، وأن من أنكره فقد ضل. فالجواب عن هذا من وجوه: الوجه الأول: أن الاستمداد بالأموات والغائبين هو الشرك الأكبر، الذي لا يغفره الله; فإن الاستمداد عبادة، والعبادة لا يجوز أن يصرف منها شيء لغير الله؛ وذلك أن الاستمداد نتيجته الاعتماد، والاعتماد هو معنى التوكل الذي هو من خصائص الإلهية، وأجمعها لأعمال القلوب. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 413 فمن توكل على غير الله، فقد نازع الله تعالى في خصائص الإلهية، واتخذ له معبودا سواه، ولا بد، قال تعالى: {قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [سورة المائدة آية: 76] ؛ ففي هاتين الصفتين بيان أنه تعالى هو السميع لدعاء عبده ومناجاته، العليم بأحوال خلقه وأعمالهم وإراداتهم دون كل من سواه. وتأمل ما في هذه الآية من التأكيد، وهو قوله {نَفْعاً وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [سورة المائدة آية: 76] ؛ ففي هذه الآيات من ظهور أنوار التوحيد ما يفوق الشمس، نورا وظهورا، فكيف يسوغ بعد هذا أن يستمد ممن لا يسمع، ولو سمع ما استجاب بخبر الخبير؟ قال تعالى: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} [سورة فاطر آية: 13] ، وهو القشر الذي على النواة، {إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ} [سورة فاطر آية: 14] ؛ أخبر أصدق القائلين أن المدعو لا يسمع مع القرب منه، ولا البعد عنه، ولو سمع- على سبيل الفرض- ما استجاب، فخاب سعي من دعا مع الله من لا يسمع، ولا يستجيب، ففي الآية معتبر عظيم، وزجر عن التعلق بغير الله عميم؛ فانقطع أمل المستمد الداعي لغير الله، وخاب سعيه. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 414 ثم قال تعالى: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ} [سورة فاطر آية: 14] ، فأخبر أن هذا الاستمداد بهم في الرهبات والرغبات، شرك عظيم ومرتع وخيم؛ فانعكس على المستمد مطلوبه، وفاته الفلاح والنجاح، وخسر خسرانا مبينا؛ وسيأتي ذكر ما دلت عليه هذه الآيات. الوجه الثاني: أن مورد العبادة القلب واللسان والأركان، والمستمد لا يكون إلا داعيا وراغبا، وراهبا وخاشعا ومتذللا، ومستعينا؛ فإن الاستمداد طلب المدد، بالقلب واللسان والأركان ولا بد؛ وهذه الأعمال هي أنواع العبادة، فإذا كانت لله وحده فقد ألهه العبد، فإذا صرفه لغير الله تعالى صار مألوها له. والآله مشرك بصرفه العبادة لغير الله، والله هو مألوه العباد ومعبودهم، دون كل ما سواه; فمن أله غيره بأي نوع كان من أنواع العبادة، صار مشركا شاء أم أبى؛ وقد قصر تعالى العبادة بجميع أنواعها عليه، كما قال تعالى في فاتحة الكتاب {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [سورة الفاتحة آية: 5] ، أي: لا نعبد غيرك، ولا نستعين إلا بك. فالعبادة والاستعانة من خصائص الإلهية والربوبية، ومصدرها عن القلب واللسان والجوارح، كما تقدم، قال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 415 الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ} [سورة الأنعام آية: 162-163] ؛ فليس في هذه الموارد نصيب لغير الله، لا عبادة، ولا استعانة، فإن العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه، من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة. والاستمداد سؤال وطلب بالقلب، أو بالقلب واللسان والأركان كما تقدم، وذلك هو العبادة، كما دل على ذلك الكتاب والسنة، كما قال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [سورة غافر آية: 60] . وقال تعالى: {ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا} [سورة غافر آية: 12] ؛ فتبين بهذه الآية أن دعوة غير الله شرك؛ ولها نظائر في القرآن كثيرة. وفي السنن: عن النعمان بن بشير رضي الله عنه مرفوعا: " الدعاء هو العبادة " 1، وفي السنن أيضا عن أنس، مرفوعا " الدعاء مخ العبادة " 2؛ فتبين بهذا أن المستمد بغير الله مشرك; لأنه جعل للمخلوق نصيبا في حق الله من العبادة. قال العلامة ابن القيم، رحمه الله تعالى، في معنى قول الله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [سورة الفاتحة آية: 5] : فيها سر الخلق والأمر، والدنيا والآخرة؛ وهي متضمنة لأجل الغايات، وأفضل الوسائل. فأجل الغايات عبوديته، وأفضل الوسائل إعانته؛ فلا معبود يستحق العبادة إلا هو، وقد   1 الترمذي: الدعوات (3372) , وأبو داود: الصلاة (1479) , وابن ماجه: الدعاء (3828) , وأحمد (4/267 ,4/271 ,4/276) . 2 الترمذي: الدعوات (3371) . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 416 اشتملت هذه الكلمة على نوعي التوحيد، وهما توحيد الربوبية، وتوحيد الإلهية، انتهى. ولا يخفى أن المستمد بغير الله مستعين به، عابد له، فيصير مشركا ولابد، وإن غير اللفظ فهذا هو المعنى. ومما يدل أيضا على قصر العبادة بجميع أنواعها، على الله وحده، قوله تعالى: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ} [سورة الزمر آية: 64] إلى قوله: {بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [سورة الزمر آية: 66] . فتبين بما تقرر، في هذين الوجهين أن الاستمداد عبادة، ويجمع أنواعا من العبادة، فيكون شركا، كما قال تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} [سورة النساء آية: 36] ، وقال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [سورة الإسراء آية: 23] ؛ لأنه إذا استمد بغير الله فلا يصدق عليه أنه مخلص. وقال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [سورة ص آية: 65] الآية. وهذه الآيات ونحوها ينتفي بها كل شرك، بأي نوع كان من أنواع العبادة. الوجه الثالث: أن الاستمداد ينافي الإخلاص لأنه إذا استمد بغير الله، فلا يصدق عليه أنه مخلص، بل يكون مشركا؛ ودين الله الذي لا يقبل دينا سواه، هو إخلاص العبادة بجميع أنواعها لله وحده لا شريك له، والاستمداد الجزء: 11 ¦ الصفحة: 417 بغير الله ينافي الإخلاص ولابد. قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} [سورة البينة آية: 5] ، والحنيف هو: المقبل على الله، المعرض عن كل ما سواه، والمستمد من غير الله قد عكس الأمر، فأعرض عن الله، وأقبل على من سواه، فصرف حق الله لغيره، وأشغل موارد العبادة بغيره، فصار مشركا. الوجه الرابع: أنك إذا تأملت قول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ} [سورة الأنعام آية: 162-163] ، علمت أن المستمد بغير الله، لم يجعل محياه كله لله، بل جعله له ولغيره؛ وكذلك الصلاة والنسك، فإن الصلاة تتناول الدعاء الذي هو مخ العبادة، وكذلك النسك وهو ذبح القربان. وقد نفت هذه الآية أن يكون أحد شريكا لله في العبادة؛ والشرك ينافي الإخلاص، كما تقدم بيانه في معنى هذا الوجه. الوجه الخامس: أن الاستمداد من غير الله ينافي الإسلام، والإسلام أصله: إسلام القلب والوجه لله، كما قال تعالى: {فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ} [سورة آل عمران آية: 20] ، وقال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً الجزء: 11 ¦ الصفحة: 418 وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} [سورة النساء آية: 125] ، وقال تعالى: {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [سورة لقمان آية: 22] . وذكر النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح، إسلام القلب إذ هو الأصل لكل عمل. والمقصود: أن المستمد من غير الله، لم يسلم وجهه وقلبه لله، كيف وقد أسلم لغيره بوجهه وقلبه؟! وهذا المستمد من غير الله، وإن قال: لا إله إلا الله بلسانه، فقد عكس مدلولها، فلم ينف ما نفته من الشرك، ولم يأت بما أثبتته من إخلاص الإلهية لله وحده، فلم يسلم قلبه لله. والإسلام: هو دين الله الذي لا يقبل دينا سواه، كما قال تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْأِسْلامُ} [سورة آل عمران آية: 19] ، وقال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [سورة آل عمران آية: 85] ؛ وحقيقته: أن لا يعبد إلا الله، ولا يعبد إلا بما شرع، لا بالأهواء والبدع. الوجه السادس: أن الله تعالى أرسل الرسل، وأنزل الكتب، بالأمر بعبادته وحده لا شريك له، والنهي عن عبادة من سواه، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ} [سورة البقرة آية: 21] إلى قوله: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [سورة البقرة آية: 22] ، وقال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 419 إِلَّا إِيَّاهُ} [سورة الإسراء آية: 23] . وهذا هو مدلول كلمة الإخلاص: لا إله إلا الله، ومعنى (قضى) وصى، وأمر. الوجه السابع: أن يقال: إذا كان الرسل من أولهم إلى آخرهم، عليهم الصلاة والسلام، قد اتفقت دعوتهم على إخلاص العبادة بجميع أنواعها الباطنة والظاهرة، لله تعالى دون كل من سواه، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [سورة النحل آية: 36] ، وقال تعالى {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} [سورة هود آية: 25-26] الآية، فإذا كان الرسل كلهم: قد بعثوا بالدعوة إلى إخلاص العبادة، والنهي عن الشرك في العبادة، فكيف ساغ لمن يدعي المعرفة، أن يخالف ما جاءت به الرسل، وأمروا به من التوحيد، ويخالف ما أرسلوا به من النهي عن الشرك بالله؟ وأنت ترى هذا الملحد قد اتخذ الشرك دينا، ونبذ كتاب الله وراء ظهره، وجحد ما جاءت به الرسل من الإخلاص، أسوة أمثاله من أهل الإشراك والتنديد؛ فهم أعداء الرسل، كالذين أخذهم الله بعذاب الاستئصال، لما فعلوا فعل هؤلاء، وتمسكوا بالشرك، وجحدوا التوحيد، فاتبعهم هؤلاء فأدلجوا في ضلالهم وعماهم، وشرعوا لأنفسهم دينا لم يأذن به الله، وصدوا عن سبيل الله؛ فالله المستعان. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 420 الوجه الثامن: أن الله تعالى هو الذي حكم على عباده، أن يعبدوه وحده بأنواع العبادة كلها، قال الله تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [سورة يوسف آية: 40] . فالتوحيد دينه الذي حكم به على عباده، وخلقهم له وهذه حكمته الشرعية الدينية، كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [سورة الذاريات آية: 56] . وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} [سورة النساء آية: 64] ؛ فمنهم من أطاع، ومنهم من عصى، وخرج عن الدين الذي رضيه الله لعباده، وأراده منهم، كما قال تعالى: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً} [سورة النساء آية: 27] . وهذا التوحيد هو الدين الذي عهده تعالى إلى عباده على ألسنة رسله؛ فمنهم من آمن، ومنهم من كفر، قال الله تعالى: {وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ} [سورة الأعراف آية: 102] ، وقال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ?وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ} [سورة يونس آية: 99-100] . فمن هداه الله إلى تدبر كتابه نجا، ومن أعرض عنه ضل؛ نعوذ بالله من الضلال والعمى، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 421 الوجه التاسع: أن الذي ينصر الشرك بالوساوس الشيطانية، إنما يخاصم ربه الذي خلقه وأسبغ عليه نعمه؛ فإن الله تعالى قد أظهر حججه على من أشرك به، واحتج عليهم بما أقروا به من ربوبيته، على ما جحدوه من إلهيته، كما قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ ي} [سورة الزمر آية: 38] . وقال: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [سورة الأحقاف آية: 4] . واحتج عليهم تعالى بأنه لا حجة لهم على ما اختلقوه من الشرك في العبادة، وأبطل استمدادهم من غيره، كما قال تعالى عن أهل الكهف: {هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً} [سورة الكهف آية: 15] ، وقال: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [سورة النحل آية: 17] . فالعبادة لا تصلح إلا لمن انفرد بخلق كل شيء، وقهر العباد بتصرفه فيهم كيف شاء بفضله، ويضل ويعذب من يشاء بعدله، وهو الحكيم في خلقه، يدبر أمرهم بحكمته وعلمه؛ فكيف جاز لأحد أن يعبد عبدا عاجزا، يجعله شريكا للقاهر الجزء: 11 ¦ الصفحة: 422 القادر الخالق الأزلي الذي له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، الذي له ملك السماوات والأرض؟ فمن تدبر واعتبر، وعرف الله، علم أن الشرك أعظم ذنب عصي الله به، وعلم أن المستمد من غير الله، قد وضع العبادة في غير موضعها {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [سورة لقمان آية: 13] ؛ يوضح ذلك: الوجه العاشر: وهو أن الله تعالى سجل على من دعا غيره، بأنه لا أحد أضل منه، فقال: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} [سورة الأحقاف آية: 5] . ففي هذه الآية أمور خمسة، كل واحد منها يبطل الاستمداد بغير الله: الأول: قوله: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ} [سورة الأحقاف آية: 5] ; ففيها بيان: أن دعوة غير الله، هي الغاية في الضلال. الثاني: قوله: {مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ} [سورة الأحقاف آية: 5] ، فالذي لا يستجيب له دعوته، له عناء وشقاء ووبال، في الحال والمآل. الثالث: قوله: {وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} [سورة الأحقاف آية: 5] ؛ فهذا المستمد بمن هو غافل عنه لا أضل منه؛ وهذا كله يبين ضلال المستمد ويحققه، ويدل على فساد عقله. كيف يستمد بالغافل، ويترك القريب المجيب، السميع البصير، العليم الخبير؟ ويرغب عنه إلى من لا يضر ولا ينفع؟ الرابع: قوله: {وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً} [سورة الأحقاف آية: 6] ، فأخبر الجزء: 11 ¦ الصفحة: 423 تعالى: أن المدعو الذي طلب منه الداعي المدد، تخونه دعوته أحوج ما كان إليها؛ فيكون المدعو عدوا له، وخصما له بين يدي الله يوم القيامة، فخاب سعيه وانقطع رجاؤه، وشقي بدعوته، وصار إلى النار بشركه وضلاله. الخامس: قوله: {وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [سورة الأحقاف آية: 6] ، فكل ولي لله، وعبد صالح، يكفر بعبادة من عبد مع الله غيره في الدنيا ويوم يقوم الأشهاد؛ فهم أعداؤه في الدنيا والآخرة: يستحلون دماءهم، وأموالهم في الدنيا، وينكرون عليهم شركهم يوم القيامة، ويظهرون عداوتهم والبراءة منهم؛ فكما كفروهم في الدنيا، يكفرونهم يوم القيامة ولا بد، لأنهم دانوا بخلاف دينهم، الذي من دان بخلافه، نصبوا له العداوة ظاهرا وباطنا. فتدبر القرآن، فإن نظائر هذه الآية كثير، كقوله تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} [سورة سبأ آية: 40-41] ، أي: الشياطين الذين زينوا لهم عبادة غير الله. وقوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ} [سورة المائدة آية: 116] إلى قوله: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 424 فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [سورة المائدة آية: 117] ؛ ففي هذه الآية أيضا: إبطال قول من ادعى علم الغيب، لغير الله تعالى الذي اختص بعلم الغيب، إلا ما أطلع عليه أنبياءه بوحيه إليهم؛ فإن قوله: {فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ} [سورة المائدة آية: 117] هذا وعيسى عليه السلام حي في السماء، فكيف بمن مات؟ ! وأخرج البخاري في الصحيح، عن ابن عباس، قال: خطب النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " إنكم تحشرون إلى الله حفاة عراة غرلا {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} [سورة الأنبياء آية: 104] . ثم إن أول من يكسى يوم القيامة: إبراهيم عليه السلام، إلا أنه يؤتى برجال من أمتي، فيؤخذ بهم ذات الشمال; قال: فأقول يا رب أصحابي; فيقال: لا تدري ما أحدثوا بعدك; فأقول: كما قال العبد الصالح {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ} [سورة المائدة آية: 117] إلى قوله: {شهيد} ". فدل على أن شهادته عليهم، إنما كانت وهو بين أظهرهم، وأما بعد مفارقته لهم، فأسند ذلك إلى الله تعالى، بقوله: {فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [سورة المائدة آية: 117] . فليتأمل هذا التأكيد البليغ المفيد، لاختصاص الله بعلم الغيب، وأن الميت والغائب لا يعلم شيئا. فإذا كان الأمر كذلك، فكيف يستمد بمن لا يطلع على أحوال العباد الجزء: 11 ¦ الصفحة: 425 وأعمالهم؟! وهذا مما يبطل الاستمداد بغير الله تعالى. وقد تقدم أن الاستمداد طلب المدد، لا يكون إلا بالقلب واللسان والأركان، وهذا هو الشرك في العبادة، كما قال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} [سورة الجن آية: 18] ، وقال: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [سورة المؤمنون آية: 117] . فتبين أن الاستمداد بغير الله كفر بالله، وفيه الوعيد الشديد بنفي الفلاح؛ ونفي الفلاح يدل على أن هذا الكافر لا تنفعه شفاعة شافع، ولا ينفعه نافع في دنياه ولا أخراه، كما قال تعالى عن صاحب يس: {أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ} [سورة يس آية: 23-24-25] . وهذا القدر الذي ذكرناه من الأدلة والبراهين، كاف في إبطال حجة هذا المستمد الملحد المشرك؛ والحمد لله على بيان الحق وظهوره، وزهوق الباطل واضمحلاله، وبالله التوفيق. ثم إن هذا الملحد يقول: إنه قادري; يعني: أنه على طريقة عبد القادر الجيلاني؛ وهذه النسب ابتدعها جهال الصوفية، ما أنزل الله بها من سلطان، بل هي من محدثات الأمور التي حذر منها النبي صلى الله عليه وسلم أمته، كما قال: " وإياكم الجزء: 11 ¦ الصفحة: 426 ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة " 1. ولم يعهد مثل هذه النسبة في عهد الصحابة والتابعين، ومن بعدهم من فضلاء الشيوخ، الذين هم أفضل من عبد القادر بمراتب؛ فهو فاضل بالنسبة إلى من دونه، مفضول بالنسبة إلى من فوقه، كبشر الحافي، والجنيد، وسهل بن عبد الله، وأمثالهم ممن في طبقاتهم وغيرهم. وعبد القادر رحمه الله، في أواخر القرن الخامس، وهو حنبلي، صنف الغنية في مذهب الإمام أحمد، وليس بأفضل الحنابلة؛ بل فيهم من هو أفضل منه في العلم والدين، وحفظ الأحاديث، ومعرفة صحيحها، ومعلولها، وغير ذلك. وله عبارات حسنة في الإخلاص والتوكل، وأعمال القلوب، لو تأملها هذا المنتسب لكفته في أصل الدين، ولكنه خالف طريقة عبد القادر وملته، وهو ينتسب إليه، ويرغب عن ملته وطريقته ودينه. وملة عبد القادر هي الإسلام الذي رضيه الله تعالى لعباده، وها أنا أذكر شيئا من نمط كلام عبد القادر، تحقيقا لما قلته. فإنه قال رحمه الله في كتابه "فتوح الغيب": لعمري إنك لتدعو وتبتهل إلى ربك عز وجل بالدعاء، والتضرع، وهما عبادة وطاعة، امتثالا لأمره عز وجل بقوله: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [سورة غافر آية: 60] ، وقوله: {وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ   1 أبو داود: السنة (4607) , والدارمي: المقدمة (95) . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 427 فَضْلِهِ} [سورة النساء آية: 32] ، وغير ذلك من الآيات، ولا تسأم من دعائه؛ فإنك إن لم تربح لم تخسر، إن لم يجبك عاجلا أثابك آجلا. وقال رحمه الله: قال الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [سورة النساء آية: 48] . اتق الشرك جدا ولا تقربه، واجتنبه في حركاتك وسكناتك، وليلك ونهارك، في خلوتك وجلوتك. وقال رحمه الله: اتبعوا ولا تبتدعوا، وأطيعوا ولا تمرقوا، ووحدوا ولا تشركوا. ومن كلامه في الموعظة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ملعون من كان ثقته بمخلوق مثله ". ما أكثر الذين قد دخلوا في هذه اللعنة! ومن وثق بمخلوق مثله، فهو كالقابض على الماء، يفتح يده، لا يرى فيها شيئا. وله في كتبه عدة مواضع تدل على إخلاصه الدعاء وغيره من أنواع العبادة، محافظة منه على معنى شهادة أن لا إله إلا الله، والتحذير من الشرك في العبادة، أسوة أمثاله من أهل السنة سلفا وخلفا، يأمرون بإخلاص العبادة، والطاعة لله وحده، ويتبعون ما شرعه لهم، على لسان نبيه محمد صلى الله عليه وسلم. وقد خالف هذا الملحد جميع أهل السنة والجماعة، فأظهر الشرك وزينه، وأبداه في قالب الاستمداد؛ وقد علمت مما تقدم أن الاستمداد لا يكون إلا بالقلب واللسان اعتمادا ورغبة إلى غير الله، وتركا للإخلاص في العبادة، الذي رضيه الله الجزء: 11 ¦ الصفحة: 428 لعباده، وأوجبه عليهم. فخالف طريقة شيخه عبد القادر، الذي ينتسب، إليه وغيره من الشيوخ والعلماء، واتبع غير سبيلهم، واتبع من شرع من الدين ما لم يأذن به الله، وقد قال عن مؤمن آل فرعون: {لا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلا فِي الْآخِرَةِ} [سورة غافر آية: 43] الآية. فعلى الناصح لنفسه أن يتدبر ما في القرآن، من أدلة التوحيد التي لو استقصينا في ذكرها، لاحتمل مجلدا لكثرة وجود البيان في الإخلاص، وبطلان الشرك في العبادة؛ وفيما ذكرنا من الأدلة، ما تقوم به الحجة على كل ملحد منحرف، عن الصراط المستقيم، والله المستعان. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 429 [الرد عليه حين يسمي أهل التوحيد معتزلة] الفصل الثاني إن هذا الملحد المبهرج، يسمي أهل التوحيد والإخلاص النافين للشرك، المعادين لأهله: معتزلة; والمعتزلة طائفة معروفة، ابتدعوا بنفي القدر، فنفوا ما أثبته الله في كتابه، وما أثبته رسوله صلى الله عليه وسلم بما جرى به القلم بما يكون إلى يوم القيامة، واعتزلوا مجلس الحسن البصري، رحمه الله تعالى، وسموا معتزلة لذلك; فإنهم اعتزلوا أهل السنة، وخالفوهم فيما ذكرنا، وقالوا: بالمنْزلة بين المنْزلتين، قالوا في صاحب الكبيرة: فاسق، لا مؤمن ولا كافر، وقالوا بتخليده في النار. وخالفوا أيضا ما تواترت به الأحاديث: أن الله يدخل من يشاء من أهل المعاصي النار، ثم يخرجهم منها بما معهم من التوحيد; فإذا جازاهم الله تعالى بإدخالهم النار، ومكثهم فيها على قدر ذنوبهم، أخرجهم بما معهم من التوحيد، فأدخلهم الجنة برحمته؛ وهذا هو الذي عليه أهل السنة والجماعة، فإنهم خالفوا هذه الطائفة وكل مبتدع. ثم إن هؤلاء المعتزلة وافقوا جهما وشيعته في نفي الصفات، فنفوا ما أثبته الله لنفسه في كتابه، وأثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته، من صفات كماله، ونعوت جلاله، على ما يليق بعظمته؛ ففارقت هذه الطائفة أهل السنة بهذه البدع وغيرها، فلم يثبتوا الشفاعة لأهل الكبائر أيضا؛ فهذا هو الجزء: 11 ¦ الصفحة: 430 الذي تعلق به هذا المبهرج الملحد. فإنه جعل الشرك وما دونه من الكبائر بابا واحدا، فظن أن من تعلق بالشفعاء، ورغب إليهم، وسألهم أن يشفعوا له، أن ذلك يوجب له شفاعتهم; فظن هذا الظن: أنه لا ينكر هذا إلا المعتزلة، لأنهم ينكرون الشفاعة في أهل الكبائر على مذهبهم؛ وهذه الشفاعة أبطلها القرآن، فلا حظ فيها لمشرك، لأن اتخاذ الشفعاء هو دين المشركين من العرب وغيرهم، فافهم، واعتبر ما ذكره الله عنهم بقوله: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [سورة يونس آية: 18] إلى قوله: {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [سورة يونس آية: 18] ، فنَزّه نفسه عن شركهم هذا، الذي هو اتخاذ الشفعاء، والتوجه إليهم، وطلب الشفاعة منهم، فصار ذلك سببا لحرمانهم الشفاعة، بدليل قوله تعالى: {قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ} [سورة يونس آية: 18] . فالشفاعة في حقهم منتفية، كما قال تعالى: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ} [سورة البقرة آية: 254] . وقال تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} [سورة الزمر آية: 3] ؛ فكفر من الجزء: 11 ¦ الصفحة: 431 تعلق على غيره تعالى، ورغب إليه ورجاه، واعتمد عليه في أن يشفع له عند الله. فدلت هذه الآيات على أن من فعل ذلك، فهو مشرك بالله، كافر به؛ قال تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً} [سورة الزمر آية: 43-44] . فالشفاعة لمن له ملك السماوات والأرض، ومرجع الخلق إليه سبحانه وتعالى؛ وهو الذي يأذن فيها لأهل التوحيد خاصة، كما قال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [سورة البقرة آية: 255] ، {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [سورة الأنبياء آية: 28] ، وقال تعالى: {يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً} [سورة طه آية: 109] ، وقال: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ} [سورة الأنعام آية: 51] . فهؤلاء هم أهل الإخلاص، الذين لم يتخذوا من دون الله شفيعا يسألونه ويرغبون إليه؛ بل قصروا رجاءهم ودعاءهم، ورغبتهم ورهبتهم، وجميع أنواع العبادة، عليه تعالى وتقدس؛ فهو المستحق لذلك دون كل ما سواه. فلا تطلب الشفاعة في هذه الدار، إلا من مالكها الذي لا تحصل إلا بإذنه، وهو الله تعالى، كما قال وهو أصدق القائلين: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي الجزء: 11 ¦ الصفحة: 432 سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ} [سورة السجدة آية: 4] ، وقال في سورة يونس: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ} [سورة يونس آية: 3] . فالمعتزلة الذين تقدم ذكر بدعتهم لسنا- بحمد الله- في شيء من مقالاتهم، بل ننكرها عليهم؛ ونعتقد أنهم خالفوا ما تواترت به النصوص، وتظاهرت عليه أدلة القرآن الذي {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [سورة فصلت آية: 42] . وأما أهل الشرك بالله فإنهم خالفوا ما خلقوا له، من توحيد الله، وما جاءت به الرسل، واتفقت دعوتهم، من أولهم إلى آخرهم عليه، فصار ذنبهم أعظم ذنب عصي الله به؛ لأنهم وضعوا العبادة في غير موضعها، فصرفوها لمخلوق لا يستحقها؛ وأكثر القرآن في الاحتجاج عليهم فيما فعلوه، مما تظاهرت على النهي عنه نصوص الكتاب والسنة، وكل رسول بعثه الله، ينهى أمته عنه أشد النهي. قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً} [سورة النساء آية: 116] ، وقال تعالى: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً} [سورة النساء آية: 48] ، وقال: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [سورة المائدة آية: 72] . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 433 فالحنفاء أهل التوحيد، اعتزلوا هؤلاء المشركين، لأن الله أوجب على أهل التوحيد اعتزالهم، وتكفيرهم، والبراءة منهم، كما قال تعالى عن خليله إبراهيم عليه السلام: {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيّاً} [سورة مريم آية: 48] إلى قوله: {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ} [سورة مريم آية: 49] . وقال: {إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [سورة الممتحنة آية: 4] ، وقال عن أهل الكهف: {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ} [سورة الكهف آية: 16] الآية. فلا يتم لأهل التوحيد توحيدهم، إلا باعتزال أهل الشرك، وعداوتهم وتكفيرهم؛ فهم معتزلة بهذا الاعتبار؛ لأنهم اعتزلوا أهل الشرك، كما اعتزلهم الخليل إبراهيم عليه الصلاة والسلام. وأما ما يزعمه هؤلاء الغلاة المشركون في الأموات، أنهم يعلمون الغيب، وأنهم يسمعون من دعاهم، وأن لهم تصرفا، فهذا من أبطل الباطل، وأعظم الكذب والافتراء، ومن فرط الغلو في الشرك بالله؛ ويكفي في هذا الزعم الفاسد، قول الله تعالى: {قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي الجزء: 11 ¦ الصفحة: 434 مَلَكٌ} [سورة الأنعام آية: 50] . فهذه حال أشرف الخلق وأكرمهم على الله تعالى، أمره الله تعالى أن يقول ذلك، وأن يقول: {إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ} [سورة الأحقاف آية: 9] . فلا يعلم الغيب أحد من العالم العلوي والسفلي، إلا ما أخبرهم الله تعالى به، وأطلعهم عليه، كما قال تعالى: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} [سورة البقرة آية: 255] . فمن تأمل قوله: {بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ} [سورة البقرة آية: 255] ، وأن من للتبعيض، وشيء للتقليل، واستحضر قول الخضر لموسى عليهما السلام، حين رأى عصفورا نقر في البحر، قال: ما نقص علمي وعلمك من علم الله، إلا كما نقص هذا العصفور من البحر. فعلم الخلائق في علم الله، كما يأخذ العصفور في منقاره من البحر، مع أن الله تعالى قد أنزل على موسى التوراة من علمه، وكذلك الإنجيل والزبور والقرآن؛ وما أوحاه الله إلى أنبيائه ورسله، وما أطلع عليه ملائكته، فهو يسير في غيب الله وعلمه. وقد قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [سورة الأعراف آية: 188] . والآيات في هذا المعنى كثيرة، لم نذكرها اختصارا، الجزء: 11 ¦ الصفحة: 435 فسبحان الله! كيف غاب هذا عن قلوب هؤلاء الغلاة؟ كأنهم لم يسمعوا ما قال الله ورسوله! وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه إذا حزبه أمر، فزع إلى الصلاة; وثبت أنه صلى الله عليه وسلم يوم بدر يناشد ربه، ويسأله النصر على المشركين، وكذلك ما جرى له ولأصحابه بأحد والخندق. وقد كان يدعو في صلاة الصبح، على قادة الأحزاب من قريش، ويلعنهم، فأنزل الله: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} [سورة آل عمران آية: 128] ، فتاب عليهم. وقال تعالى: {قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ} [سورة آل عمران آية: 154] ؛ فإذا كان سيد المرسلين لا ينصره على عدوه، إلا الذي أرسله بالهدى ودين الحق، وكان يستمد النصر والنفع من الله تعالى، ويتضرع إليه؛ ولما قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه لأناس من الصحابة: "قوموا بنا نستغيث برسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا المنافق" - وهو عبد الله بن أبي، كما صرح به ابن أبي حاتم في روايته- قال النبي صلى الله عليه وسلم: " إنه لا يستغاث بي، وإنما يستغاث بالله عز وجل ". فإذا كانت هذه حال سيد المرسلين، فكيف يعتقد في عبد القادر، وفيمن هو دونه، أو فوقه في العلم والعبادة: أنهم الجزء: 11 ¦ الصفحة: 436 يسمعون وينفعون ويضرون، وهم جثث بالقبور، صارت أجسادهم إلى الفناء والبلاء؟ فكيف ذهب الشيطان بعقول هؤلاء المشركين، إلى أن بلغ بهم الشيطان إلى أن نزلوا المخلوق منْزلة الخالق، والعبد العاجز منْزلة المعبود القاهر فوق عباده؟! ونزلوا الميت منْزلة الحي القيوم، الذي لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض، فجعلوهم شركاء لله في الإلهية والربوبية والملك، وفي علم الغيب; واعتقدوا فيهم أنهم يسمعون من دعاهم من الأماكن البعيدة، وهم أموات رفاة. وقد قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ} [سورة النحل آية: 20-21-22] . فترك هؤلاء الإيمان بالقرآن، ونبذوه وراء الظهر، واعتقدوا المحال الذي أحالته العقول الصحيحة، وأنكرته الفطر السليمة، والقلوب المستقيمة. قال بعض العلماء من أهل السنة، في قول الله تعالى: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [سورة الإسراء آية: 85] : قالوا: معرفة حقيقية الروح، مما استأثر الله بعلمه، قالوا: والحكمة في إبهامه اختبار الخلق، ليعرفهم عجزهم عن علم ما لا يدركونه، حتى يضطرهم إلى رد الجزء: 11 ¦ الصفحة: 437 العلم إليه. فتقرر بما ذكرنا من الأدلة والبراهين الماحية لشبهة كل مشرك تعلق في مهماته بغير الله. ونذكر أيضا ما يزداد به طالب الحق يقينا، فنقول: من زعم أن الأنبياء والصالحين يشفعون لمن دعاهم في دنياهم أو أخراهم، فقد ادعى دعوى أهل الشرك، من مشركي العرب ومن ضاهاهم. ولا ريب أن هذا الزعم زور وكذب وضلال، كما ذكر الله تعالى في محكم كتابه عن أولئك المشركين، أنهم قالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [سورة الزمر آية: 3] ؛ قال الله تعالى في الجواب: {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} [سورة الزمر آية: 3] . وقال: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [سورة يونس آية: 18] ، فأجابهم الله بقوله: {قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ} [سورة يونس آية: 18] ؛ فأخبر أن حصول الشفاعة على هذا الوجه ممتنع قطعا، وهي الشفاعة التي نفاها القرآن في هذه الآية وغيرها، لأن طلبها من غير الله شرك؛ ولهذا نزه تعالى نفسه عن ذلك الشرك بقوله: {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [سورة يونس آية: 18] . فالشفاعة على هذا الوجه، ممتنعة شرعا وقدرا، وعقلا وفطرة؛ فإذا كان من يدعوه ويرجوه من الأموات، غافلا عن دعوته، لا يسمع دعاءه، كما في قوله تعالى: {إِنْ تَدْعُوهُمْ لا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 438 يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [سورة فاطر آية: 14] ، وقال تعالى: {فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ} [سورة يونس آية: 28-29] ، وهذا كما هو بين في القرآن، فهو بعيد في العقل. فإذا كان المدعو في حال حياته، واجتماع حواسه وحركاته، لا يسمع من دعاه على البعد، ولو مسيرة فرسخ، فكيف يجوز في عقل من له أدنى مسكة من عقل، أنه إذا مات وفارقت روحه جسده، وذهبت حواسه وحركته بالكلية، وصار رهينا في الثرى، جسدا بلا روح أنه- والحالة هذه- يسمع من البعيد، ولو مسيرة شهر، أو أكثر، ويجيب؟ فكل عقل صحيح يحيل ذلك، ويعلم أنه من أمحل المحال. لكن هؤلاء المشركون فسدت عقولهم وفطرهم، وزين لهم الشيطان ما يعتقدونه من الكذب والمحال، والشرك والضلال، قال تعالى: {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ} [سورة النمل آية: 80] ؛ شبه من لم يطلب الحق، ولم يرده في عدم انتفاعه بسماع الحجة، بالميت الذي لا يسمع بالكلية، وبالأصم إذا أدبر، لكونه لا يسمع مناديهلما قام به من الوصفين. وشبهه أيضا: في عدم رؤيته للحق، بالذي لا يبصر، الجزء: 11 ¦ الصفحة: 439 لأن الأعمى عمي بصره؛ وهذا عميت بصيرته عن معرفة الحق وقبوله؛ وهذا هو المعنى الصحيح في هذه الآيات. فإن قيل: إن هذا الذي أردناه من هؤلاء الأموات، يحصل لنا من أرواحهم، قيل: وهذا منتف في العقل، كما نفاه القرآن، وذلك: أن أرواح الأنبياء والصالحين في أعلى عليين، فيمتنع عقلا وشرعا وفطرة وقدرا، أن الأرواح التي فوق السماوات السبع وفي أعلى عليين، أنها تسمع دعاء أهل الأرض، وتنفعهم وتتصرف فيهم؛ هذا محال قطعا، وضلال مبين. فإن الله تعالى، قال: {وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} [سورة الأحقاف آية: 5] ؛ فكل من دعي من الأموات، والغائبين، والأنبياء والصالحين، فمن دونهم، غافل عن دعاء داعيه، بنصوص القرآن العزيز الذي {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [سورة فصلت آية: 42] . فسبحان من أنزل كتابه روحا، وهدى ونورا، وبرهانا، يهتدي به من هداه الله إلى صراطه المستقيم. وقد قال تعالى: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [سورة غافر آية: 14] ، وقال تعالى: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ} [سورة غافر آية: 18] . وأظلم الظلم دعوة غير الله، من الأموات والغائبين; لأن الله تعالى نهى عن ذلك أشد النهي، الجزء: 11 ¦ الصفحة: 440 وأخبر أنه شرك وكفر؛ وقد تقدم بيان ذلك، وتقدم أن اتخاذ الشفعاء والتعلق عليهم، في جلب نفع أو دفع، أنه شرك عظيم. قال أبو جعفر بن جرير، في معنى قوله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ} [سورة يونس آية: 18] إلى آخر الآية، قال: ويعبد هؤلاء المشركون من دون الله، الذي لا يضرهم شيئا، ولا ينفعهم في الدنيا، ولا في الآخرة، وذلك هو الآلهة والأصنام، التي كانوا يعبدونها رجاء شفاعتها عند الله؛ قال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: قل لهم {أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ} [سورة يونس آية: 18] . يقول: أتخبرون الله بما لا يكون في السماوات ولا في الأرض؟! وذلك أن الآلهة لا تشفع لهم عند الله في السماوات ولا في الأرض؛ وكان المشركون يزعمون أنها تشفع لهم عند الله، فقال الله لنبيه: قل لهم: أتخبرون الله أن ما لا يشفع في السماوات ولا في الأرض يشفع لكم فيها؟! وذلك باطل لا يعلم حقيقته وصحته. بل يعلم الله أن ذلك خلاف ما تقولون، وأنها لا تشفع لأحد ولا تنفع ولا تضر. {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [سورة يونس آية: 18] ، يقول: تنْزيها لله وعلوا عما يفعله هؤلاء المشركون، من إشراكهم في عبادته ما لا يضر ولا ينفع، وافترائهم عليه الكذب، انتهى. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 441 تتمة [تتمة في الرد على من ادعى أن للأولياء تصرفات في الحياة وبعد الممات] قال الشيخ صنع الله الحلبي، الحنفي، في كتابه: الرد على من ادعى، أن للأولياء تصرفات في الحياة وبعد الممات: هذا، وإنه قد ظهر الآن فيما بين المسلمين، جماعات يدعون أن للأولياء تصرفات بحياتهم، وبعد مماتهم، ويستغاث بهم في الشدائد والبليات، وبهممهم تكشف المهمات؛ فيأتون قبورهم وينادونهم في قضاء الحاجات، مستدلين على أن ذلك منهم كرامات. وقالوا: منهم أبدال ونقباء، وأوتاد ونجباء، وسبعون وسبعة، وأربعون وأربعة; والقطب هو الغوث للناس، وعليه المدار بلا التباس. وجوزوا لهم الذبائح والنذور، وأثبتوا لهم فيها الأجور. قال: وهذا كلام فيه تفريط وإفراط؛ بل فيه الهلاك الأبدي، والعذاب السرمدي. لما فيه من روائح الشرك المحقق، ومصادمة الكتاب العزيز المصدق، ومخالفة لعقائد الأئمة، وما اجتمعت عليه الأمة، وفي التنْزيل: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} [سورة النساء آية: 115] . ثم قال: فأما قولهم: إن للأولياء تصرفات في حياتهم وبعد الممات، فيرده قوله تعالى: {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} الجزء: 11 ¦ الصفحة: 442 [سورة النمل آية: 60] ، {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} [سورة الأعراف آية: 54] . وذكر من الآيات الدالة على أنه المتفرد بالخلق والتدبير، والتصرف والتقدير، ولا شيء لغيره في شيء بوجه من الوجوه؛ فالكل تحت ملكه وقهره، تصرفا وملكا، وإحياء وإماتة وخلقا، إلى أن قال: وأما القول بالتصرف بعد الممات، فهو أشنع وأبدع من القول في التصرف في الحياة; قال جل ذكره: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [سورة الزمر آية: 30] ، وقوله: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} [سورة الزمر آية: 42] الآية، {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [سورة آل عمران آية: 185] ، {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [سورة المدثر آية: 38] ، وفي الحديث: " إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث " 1 الحديث. فجميع ذلك وما هو نحوه دال على انقطاع الحس والحركة من الميت، وأن أرواحهم ممسكة، وأن أعمالهم منقطعة عن زيادة ونقصان، فدل ذلك أن ليس للميت تصرف في ذاته، فضلا عن غيره؛ فإذا عجز عن حركة نفسه، فكيف يتصرف في غيره؟! فالله سبحانه يخبر أن الأرواح عنده، وهؤلاء الملحدون يقولون: إن الأرواح مطلقة متصرفة {قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ} [سورة البقرة آية: 140] . قال: وأما قولهم: ويستغاث بهم في الشدائد، فهو أقبح مما قبله، وأبدع، لمصادمته قوله جل ذكره: {أَمَّنْ يُجِيبُ   1 مسلم: الوصية (1631) , والترمذي: الأحكام (1376) , والنسائي: الوصايا (3651) , وأبو داود: الوصايا (2880) , وأحمد (2/372) , والدارمي: المقدمة (559) . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 443 الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} [سورة النمل آية: 62] ، {قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [سورة الأنعام آية: 63] ؛ وذكر آيات في هذا المعنى ثم قال: فإنه جل ذكره، قرر أنه الكاشف للضر، لا غيره، وأنه المنفرد بإجابة المضطرين، وأنه المستغاث لذلك كله، وأنه القادر على دفع الضر، القادر على إيصال الخير؛ فهو المنفرد بذلك؛ فإذا تعين هو جل ذكره، خرج غيره من ملك ونبي وولي. قال: وأما كونهم معتقدين التأثير منهم في قضاء حاجاتهم، كما تفعله جاهلية العرب، والصوفية الجهال، وينادونهم، ويستنجدون بهم، فهذا من المنكرات؛ فمن اعتقد أن لغير الله، من نبي أو ولي أو روح، أو غير ذلك، في كشف كربة، أو قضاء حاجة، تأثيرا، فقد وقع في وادي جهل خطير، فهو على شفا حفرة من السعير. وأما كونهم مستدلين على أن ذلك منهم كرامات، فحاشا لله أن تكون أولياء الله بهذه المثابة؛ فهذا ظن أهل الأوثان، كذا أخبر الرحمن {هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [سورة يونس آية: 18] ، {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [سورة الزمر آية: 3] ، {أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ} [سورة يس آية: 23] . فإن ذكر ما ليس من شأنه النفع، ولا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 444 دفع الضر، من نبي وولي، وغيره، على وجه الإمداد منه، إشراك مع الله؛ إذ لا قادر على الدفع غيره، ولا خير إلا خيره، انتهى. ولنختم الجواب، بما قاله بعض السلف: لقد والله عز المسلمون، الذين يعرفون المعروف وبمعرفتهم يعرف، وينكرون المنكر وبإنكارهم ينكر; وقال مجاهد في قول الله تعالى: {وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [سورة الأنعام آية: 153] قال: السبل: البدع والشبهات. وقد اقتصرنا على هذا القدر، وبه تقوم حجة الله، على كل مبطل ضل وأضل؛ والحمد لله الذي هدانا للإسلام {لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [سورة الأعراف آية: 43] ، وصلى الله على محمد سيد المرسلين، وإمام المتقين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وسلم تسليما. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 445 [ورود أوراق تتضمن التحذير من التكفير من غير تحقيق ولا تحرير] وقال أيضا: شيخ الإسلام، الشيخ عبد الرحمن بن حسن، قدس الله روحه: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده. اعلم: أيها الطالب للحق، الراغب في معرفة الإخلاص والصدق، أنه ورد علينا أوراق صدرت من رجل سوء، تتضمن التحذير من التكفير، من غير تحقيق ولا تحرير، يقول فيها: قال شيخ الإسلام ابن تيمية، في الرد على أهل الرفض من الخوارج والاعتزال. أقول: هذه عبارة من لا علم عنده، ولسنا بصدد بيان ما فيها من الجهل والخطل، والبصير يدرك ما فيها من الزلل. ثم إنه قال: قال شيخ الإسلام ابن تيميه: وهؤلاء الذين ابتدعوا أصولا، زعموا أنه لا يمكن تصديق الرسول إلا بها، وأن معرفتها شرط في الإيمان، واجبة على الأعيان أهل بدعة عند السلف، والأئمة وجمهور العلماء الحذاق من الأمة، ومن تبعهم بإحسان; إنها باطلة في العقل، مبتدعة في الشرع، إلى أن قال: ومن شأن أهل البدع: أنهم يبتدعون أقوالا يجعلونها واجبة في الدين; بل يجعلونها من الإيمان الذي لا بد منه، الجزء: 11 ¦ الصفحة: 446 ويكفّرون من خالفهم فيها، ويستحلون دمه، كفعل الخوارج، والجهمية، والرافضة والمعتزلة، وغيرهم. وأهل السنة لا يبتدعون قولا ولا يكفرون من اجتهد فاخطأ، وإن كان مخالفهم لهم مستحلا لدمائهم، كما لم تكفر الصحابة رضي الله عنهم الخوارج، مع تكفيرهم، واستحلالهم دماء المسلمين المخالفين لهم، وساق كلام شيخ الإسلام في الخوارج والجهمية، والمعتزلة وغيرهم مقطعا، أخذ منه ما قصد به اللبس، والتضليل، وترك منه ما فيه البيان والتفصيل. وما وجدنا لنقل هذا الرجل لكلام شيخ الإسلام وغيره، محملا حسنا يحمل عليه، ولا حاجة لذلك دعته إليه، إذ ليس في جزيرة العرب وما حولها، من يرى رأي الخوارج، ويكفر الصحابة وغيرهم من أهل الإيمان بالذنوب، التي لا يكفر صاحبها، ولا من يقول بالمنْزلة بين المنْزلتين، وينكر القدر كالمعتزلة، ولا من يجحد صفات الرب تعالى، كالجهمية، ولا من يغلو في أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم ويدعي فيهم الإلهية، كالرافضة. فإذا كان ذلك كذلك، علم أنه إنما أراد بهذه النقول، أهل هذه الدعوة الإسلامية، التي ظهرت بنجد، فانتفع بها الخلق الكثير، والجم الغفير من هذه الأمة، وتمسكوا فيها بالأصول من الكتاب والسنة، وتأيدوا بإجماع سلف الأمة، الجزء: 11 ¦ الصفحة: 447 وما قرره أتباع السلف من الأئمة، كشيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه العلامة محمد بن قيم الجوزية، وسلفهم من أهل السنة والجماعة. وهذا الرجل إنما أتى من جهة فساد الاعتقاد; فلا يرى الشرك الجلي ذنبا كبيرا يكفر فاعله; فوجه إنكاره وطعنه على من أنكر الشرك، وفارق أهله، وكفرهم بالكتاب والسنة والإجماع; ولا يخفى أن من أشد الناس إنكارا للشرك: شيخ الإسلام ابن تيمية، وأمثاله من علماء السنة، لما حدث في زمانهم، وعمت به البلوى فأنكروه، وبينوا أن هذا هو الشرك الجلل، الذي عليه المشركون الأولون، كما سيأتي في كلامه رحمه الله تعالى. فصار من هؤلاء المشركين من يكفر أهل التوحيد، بمحض الإخلاص والتجريد، وإنكارهم على أهل الشرك والتنديد; فلهذا قالوا: أنتم خوارج، أنتم مبتدعة، كما أشار العلامة ابن القيم إلى مثل هذه الحال في زمانه، بقوله: من لي بشبه خوارج قد كفرونا ... بالذنب تأويلا بلا حسبان ولهم نصوص قصروا في فهمها ... فأتوا من التقصير في العرفان وخصومنا قد كفرو بالذي ... هو غاية التوحيد والإيمان وهذا الرجل قد أخذ بطريقة من يكفر بتجريد التوحيد، فإذا قلنا: لا يعبد إلا الله ولا يدعى إلا هو، الجزء: 11 ¦ الصفحة: 448 ولا يرجى سواه ولا يتوكل إلا عليه، ونحو ذلك من أنواع العبادة التي لا تصلح إلا لله، وأن من توجه بها لغير الله فهو كافر مشرك، قال: ابتدعتم وكفرتم أمة محمد، أنتم خوارج، أنتم مبتدعة. وأخذ من كلام شيخ الإسلام في أهل البدع، ما كتبه يعرض بأهل التوحيد؛ ولا يخفى ما قاله شيخ الإسلام فيمن أشرك بالله، قال رحمه الله تعالى: من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم، ويسألهم ويتوكل عليهم، كفر إجماعا. وغاية ما موه به هذا على الجهال: أن شيخ الإسلام رحمه الله، ذكر في أهل المقالات الخفية، أنها وإن كانت كفرا، فلا ينبغي أن يكفر صاحبها حتى تقوم عليه الحجة، وهذا كلامه: قال: نفي الصفات كفر، والتكذيب بأن الله يرى في الآخرة كفر، وإنكار أن يكون الله على العرش كفر، وما في معنى ذلك؛ فتكفير المعين من هؤلاء، بحيث يحكم عليه بأنه مع الكفار، لا يجوز الإقدام عليه إلا أن تقوم عليه الحجة التي يتبين بها أنهم مخطئون، فتأمل قوله: من هؤلاء بحيث يحكم عليه بأنه مع الكفار; وقوله: حتى تقوم عليه الحجة; فأراد بالكفار هنا المشركين، كما سيأتي تقريره في كلام هذا الشيخ وغيره. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 449 ونحن بحمد الله قد خلت ديارنا من المبتدعة، أهل هذه المقالات، وقد صار الخلاف بيننا وبين كثير من الناس، في عبادة الأوثان التي أرسل الله الرسل، وأنزل الكتب بالنهي عنها، وعداوة أهلها؛ فندعو إلى ما دعت إليه الرسل من التوحيد والإخلاص، وننهى عما نهت عنه من الشرك بالله في ربوبيته وإلهيته، كما قال تعالى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} [سورة الزخرف آية: 45] . والقرآن من أوله إلى آخره، في بيان هذا الشرك والنهي عنه، وتقرير التوحيد، كما قال تعالى: {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [سورة الزمر آية: 14-15] . وهذا التوحيد من أصولنا بحمد الله، وكاتب هذه الأوراق، يقول: هذا بدعة، نعم هو بدعة عند نحو القائلين: {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلاقٌ} [سورة ص آية: 7] . فانظر كلام شيخ الإسلام، رحمه الله، الذي لا يقبل اللبس، فإنه لما ذكر من تقدمت الإشارة إليهم، من أرباب المقالات، قال: وهذا إذا كان في المقالات الخفية، فقد يقال إنه فيها مخطئ ضال، لم تقم عليه الحجة، لكن ذلك يقع في الجزء: 11 ¦ الصفحة: 450 طوائف منهم في الأمور الظاهرة، التي يعلم العامة والخاصة من المسلمين أنها من دين الإسلام. بل اليهود والنصارى والمشركون، يعلمون أن محمدا صلى الله عليه وسلم بعث بها، وكفر من خالفها، مثل أمره بعبادة الله وحده لا شريك له، ونهيه عن عبادة أحد سوى الله، من الملائكة والنبيين، والشمس والقمر والكواكب، والأصنام وغير ذلك، فإن هذا أظهر شعائر الإسلام، ومثل أمره بالصلاة، وإيجابه لها، وتعظيم شأنها، ومثل معاداة اليهود والنصارى، والمشركين، والصابئين، والمجوس، ومثل تحريم الفواحش، والربا والميسر، ونحو ذلك; ثم تجد كثيرا من رؤوسهم، وقعوا في هذه الأنواع فكانوا مرتدين; انتهى كلامه، رحمه الله تعالى. فتأمل قوله: مثل معاداة اليهود والنصارى والمشركين ... إلخ. والذين قال فيهم شيخ الإسلام: إنهم يكونون بمخالفتهم لبعض الشرائع مرتدين، هو الذي نقول به؛ وعليه أئمة الإسلام قاطبة، وهو الذي ينقم منا هذا الرجل، وأمثاله من المنحرفين عن التوحيد. [من اعتقد أنه بمجرد تلفظه بالشهادة يدخل الجنة] وقال شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله تعالى: ومن اعتقد أنه بمجرد تلفظه بالشهادة، يدخل الجنة ولا يدخل الجزء: 11 ¦ الصفحة: 451 النار، فهو ضال، مخالف للكتاب والسنة، والإجماع; انتهى. وذكر شيخ الإسلام رحمه الله: أن الفخر الرازي صنف "السر المكتوم، في عبادة النجوم" فصار مرتدا إلا أن يكون قد تاب بعد ذلك; فقد كفر الرازي بعينه، لما زين الشرك، وقال بعد أن ذكر العلة في النهي عن اتخاذ القبور مساجد، والنهي عن الصلاة عند طلوع الشمس، وعند غروبها، قال: فسد الذريعة أن لا يصلي في هذه الساعة، وإن كان المصلي لا يصلي إلا لله، ولا يدعو إلا الله، لئلا يفضي إلى دعائها والصلاة لها؛ وهذا من أسباب الشرك، الذي ضل به كثير من الأولين والآخرين، حتى شاع ذلك في كثير ممن ينتسب إلى الإسلام، وصنف كتابا على مذهب المشركين، مثل أبي معشر البلخي، وثابت بن قرة، وأمثالهما ممن دخل في الشرك، وآمن بالجبت والطاغوت، وهم ينتسبون إلى الكتاب، كما قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} [سورة النساء آية: 51] . انتهى. فانظر إلى هذا الإمام، الذي نسب عنه من أزاغ الله قلبه، عدم تكفير المعين، كيف ذكر عن الفخر الرازي، وأبي معشر، وغيرهما من المصنفين المشهورين، أنهم كفروا وارتدوا عن الإسلام. وتأمل قوله: حتى شاع ذلك في كثير ممن ينتسب إلى الإسلام، لتعلم ما وقع في آخر هذه الأمة من الشرك بالله؛ وقد الجزء: 11 ¦ الصفحة: 452 ذكر الفخر الرازي في رده على المتكلمين، وذكر تصنيفه "السر المكتوم" وقال: فهذه ردة صريحة باتفاق المسلمين. وقال في "الرسالة السنية": وكل من غلا في نبي، أو رجل صالح، وجعل فيه نوعا من الإلهية، مثل أن يقول يا سيدي فلان انصرني، أو أغثني أو ارزقني، أو اجبرني، أو أنا في حسبك، ونحو هذه الأقوال، فكل هذا شرك، وضلال، يستتاب صاحبه، فإن تاب وإلا قتل، لأن الله تعالى إنما أرسل الرسل، وأنزل الكتب، ليعبد وحده، ولا يجعل معه إله آخر؛ والذين يدعون مع الله آلهة أخرى، مثل المسيح والملائكة، والأصنام، لم يكونوا يعتقدون أنها تخلق الخلائق، وتنزل المطر، وتنبت النبات، وإنما كانوا يعبدونهم أو يعبدون قبورهم، أو صورهم، ويقولون: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [سورة الزمر آية: 3] ، ويقولون: {هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [سورة يونس آية: 18] . فبعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم ينهى أن يدعى أحد من دون الله، لا دعاء عبادة، ولا دعاء استعانة، قال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} [سورة الإسراء آية: 56-57] الآية. قال طائفة من السلف: كان أقوام يدعون المسيح، وعزيرا، والملائكة، ثم ذكر رحمه الله آيات. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 453 ثم قال: عبادة الله وحده لا شريك له، هي أصل الدين، وهي أصل التوحيد، الذي بعث الله به الرسل، وأنزل به الكتب، قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [سورة النحل آية: 36] ، وقال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [سورة الأنبياء آية: 25] . وكان صلى الله عليه وسلم يحقق التوحيد ويعلمه أمته، حتى قال له رجل: ما شاء الله وشئت، قال: "أجعلتني لله ندا؟ بل ما شاء الله وحده،" ونهى عن الحلف بغير الله وقال: "من حلف بغير الله فقد أشرك " 1، وقال في مرض موته: " لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " 2، يحذر ما فعلوا، وقال: " اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد " 3، وقال: " لا تتخذوا قبري عيدا، ولا بيوتكم قبورا، وصلوا علي حيث ما كنتم، فإن صلاتكم تبلغني " 4. ولهذا اتفق أئمة الإسلام، على أنه لا يشرع بناء المساجد على القبور، ولا الصلاة عندها; وذلك لأن من أكبر أسباب عبادة الأوثان، كان تعظيم القبور، ولهذا اتفق العلماء، على أن من سلم على النبي صلى الله عليه وسلم عند قبره، أنه لا يتمسح بحجرته، ولا يقبلها; لأنه إنما يكون لأركان بيت   1 الترمذي: النذور والأيمان (1535) , وأبو داود: الأيمان والنذور (3251) , وأحمد (2/34 ,2/69 ,2/86 ,2/125) . 2 البخاري: الجنائز (1330) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (531) , والنسائي: المساجد (703) , وأحمد (1/218 ,6/34 ,6/80 ,6/121 ,6/252 ,6/255 ,6/274) , والدارمي: الصلاة (1403) . 3 أحمد (2/246) . 4 أبو داود: المناسك (2042) , وأحمد (2/367) . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 454 الله، فلا يشبه بيت المخلوق ببيت الخالق. كل هذا لتحقيق التوحيد، الذي هو أصل الدين ورأسه، الذي لا يقبل الله عملا إلا به، ويغفر لصاحبه، ولا يغفر لمن تركه، كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً} [سورة النساء آية: 48] ؛ ولهذا كانت كلمة التوحيد، أفضل الكلام وأعظمه، انتهى. قلت: فلم يبق- بحمد الله- لمرتاب حجة في كلام العلماء، بعد هذا التفصيل والإيضاح والبيان، وما أحسن ما قال العلامة ابن القيم، رحمة الله تعالى: والعلم يدخل قلب كل موفق ... من غير بواب ولا استئذان ويرده المحروم من خذلانه ... لا تشقنا اللهم بالخذلان [ذكر أجناس ما يتاب منه] وله رحمه الله تفصيل حسن، في "مدارج السالكين" في ذكر أجناس ما يتاب منه، وهي: اثنا عشر جنسا، مذكورة في كتاب الله عز وجل: الأول: الكفر، والثاني: الشرك; فأنواع الكفر خمسة: كفر تكذيب، وكفر استكبار وإباء مع التصديق، وكفر إعراض، وكفر شك، وكفر نفاق; وبين هذه الأنواع ثم قال. وأما الشرك، فهو نوعان: أكبر وأصغر؛ فالأكبر لا يغفره الله إلا بالتوبة منه، وهو أن يتخذ من دون الجزء: 11 ¦ الصفحة: 455 الله ندا، يحبه كما يحب الله، وهو الشرك الذي تضمن تسوية آلهة المشركين برب العالمين، ولهذا قالوا لآلهتهم في النار: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [سورة الشعراء آية: 97-98] ، مع إقرارهم بأن الله وحده خالق كل شيء، وربه ومليكه، وأن آلهتهم لا تخلق ولا ترزق، ولا تميت ولا تحيي; وإنما كانت هذه التسوية، في المحبة، والتعظيم، والعبادة، كما هو حال مشركي العالم. بل كلهم يحبون معبوداتهم، ويعظمونها، ويوالونها من دون الله، وكثير منهم بل أكثرهم يحبون آلهتهم، أعظم من محبة الله، ويستبشرون بذكرهم، أعظم من استبشارهم إذا ذكر الله وحده، ويغضبون من تنقص معبوداتهم، وآلهتهم من المشائخ، أعظم مما يغضبون إذا تنقص أحد رب العالمين. وإذا انتهكت حرمة من حرمات آلهتهم، ومعبوديهم غضبوا غضب الليث إذا حرب، وإذا انتهكت حرمات الله لم يغضبوا لها، بل إذا قام المنتهك لها بإطعامهم شيئا أعرضوا عنه، ولم تستنكر له قلوبهم، وقد شاهدنا هذا نحن وغيرنا منهم جهرة. وترى أحدهم قد اتخذ ذكر إلهه ومعبوده من دون الله، على لسانه إن قام، وإن قعد، وإن عثر، وإن الجزء: 11 ¦ الصفحة: 456 استوحش; فذكر إلهه ومعبوده من دون الله، هو الغالب على قلبه ولسانه، وهو لا ينكر ذلك، ويزعم أنه باب حاجته إلى الله، وشفيعه عنده ووسيلته إليه. وهكذا كان عباد الأصنام سواء، وهذا القدر هو الذي قام بقلوبهم، وتوارثه المشركون بحسب اختلاف آلهتهم؛ فأولئك كانت آلهتهم من الحجر، وغيرهم اتخذوها من البشر. قال الله تعالى حاكيا عن أسلاف هؤلاء المشركين: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [سورة الزمر آية: 3] ، ثم شهد عليهم بالكذب والكفر، وأخبر أنه لا يهديهم، فقال: {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} [سورة الزمر آية: 3] . فهذه حال من اتخذ من دون الله وليا، يزعم أنه يقربه إلى الله; وما أعز من تخلص من هذا! بل ما أعز من لا يعادي من أنكره! والذي قام في قلوب هؤلاء المشركين، وسلفهم: أن آلهتهم تشفع لهم عند الله، وهذا عين الشرك؛ وقد أنكر الله عليهم ذلك في كتابه وأبطله، وأخبر أن الشفاعة كلها له، وأنه لا يشفع عنده أحد إلا لمن أذن له أن يشفع فيه، ورضي قوله وعمله؛ وهم أهل التوحيد، الذين لم يتخذوا من دون الله شفعاء؛ فإنه يأذن سبحانه لمن يشاء في الشفاعة لهم، حيث لم يتخذوهم شفعاء من دونه، فيكون أسعد الجزء: 11 ¦ الصفحة: 457 الناس بشفاعة من يأذن له، وهو صاحب التوحيد، الذي لم يتخذ شفيعا من دون الله. [ذكر الشفاعة المثبتة والمنفية] والشفاعة التي أثبتها الله ورسوله، هي الشفاعة الصادرة عن إذنه لمن وحده، والتي نفاها الله: الشفاعة الشركية في قلوب المشركين، المتخذين من دون الله شفعاء؛ فيعاملون بنقيض قصدهم من شفاعتهم، ويفوز بها الموحدون. فتأمل قول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة، وقد سأله: من أسعد الناس بشفاعتك يا رسول الله؟ قال: " أسعد الناس بشفاعتي، من قال: لا إله إلا الله "، كيف جعل أعظم الأسباب التي تنال بها شفاعته، تجريد التوحيد، عكس ما عند المشركين: أن الشفاعة تنال باتخاذهم شفعاء، وعبادتهم، وموالاتهم من دون الله؛ فقلب النبي صلى الله عليه وسلم ما في زعمهم الكاذب، وأخبر أن سبب الشفاعة تجريد التوحيد، فحينئذ يأذن الله للشافع أن يشفع. [ثلاثة أصول تقطع شجرة الشرك من قلب من وعاها] ومن جهل المشرك: اعتقاده أن من اتخذ وليا أو شفيعا، أنه يشفع له وينفعه عند الله، كما تكون خواص الملوك والولاة تنفع من والاهم؛ ولم يعلموا أن الله لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، ولا يأذن في الشفاعة إلا لمن رضي قوله وعمله، كما قال تعالى: في الفصل الأول {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [سورة البقرة آية: 255] ، وفي الجزء: 11 ¦ الصفحة: 458 الفصل الثاني: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [سورة الأنبياء آية: 28] ، وبقي فصل ثالث: وهو أنه لا يرضى من القول والعمل إلا التوحيد، واتباع الرسول صلى الله عليه وسلم. وعن هاتين الكلمتين، يُسأل الأولون والآخرون، كما قال أبو العالية: كلمتان يسأل عنهما الأولون والآخرون: ماذا كنتم تعبدون؟ وماذا أجبتم المرسلين؟ فهذه ثلاثة أصول، تقطع شجرة الشرك من قلب من وعاها، وعقلها: لا شفاعة إلا بإذنه، ولا يأذن إلا لمن رضي قوله وعمله، ولا يرضى من القول والعمل إلا توحيده واتباع رسوله صلى الله عليه وسلم؛ فإن الله تعالى لا يغفر شرك العادلين به غيره، كما قال تعالى: {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [سورة الأنعام آية: 1] ، وأصح القولين: يعدلون به غيره في العبادة; والموالاة، والمحبة كما في الآية الأخرى: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [سورة الشعراء آية: 97-98] ، وكما في آية البقرة: {يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} [سورة البقرة آية: 165] . وترى المشرك يكذب حاله وعمله قوله; فإنه يقول: لا نحبهم كحب الله، ولا نسويهم بالله، ثم يغضب لهم، ولحرماتهم إذا انتهكت، أعظم مما يغضب لله، ويستبشر بذكرهم، ويتبشبش به، سيما إذا ذكر عنهم ما ليس فيهم، من إغاثة اللهفات، وكشف الكربات، وقضاء الجزء: 11 ¦ الصفحة: 459 الحاجات، وأنهم باب بين الله وعباده؛ فترى المشرك يفرح، ويسر ويحن قلبه، ويهيج منه لواعج التعظيم، والخضوع لهم، والموالاة. وإذا ذكرت له الله وحده، وجردت توحيده، لحقَتْه وحشة، وضيق، وحرج، ورماك بتنقص الآلهة التي له، وربما عاداك؛ رأينا والله منهم هذا عيانا، ورمونا بعداوتهم، وبغوا لنا الغوائل، والله مخزيهم في الدنيا والآخرة؛ ولم تكن حجتهم إلا أن قالوا كما قال إخوانهم: عاب آلهتنا; فقال هؤلاء: تنقصتم مشائخنا، وأبواب حاجاتنا إلى الله. وهكذا قال النصارى للنبي صلى الله عليه وسلم لما قال لهم: إن المسيح عبد، قالوا: تنقصت المسيح وعبته. وهكذا قال أشباه المشركين، لمن منع اتخاذ القبور أوثانا تعبد، ومساجد، وأمر بزيارتها على الوجه الذي أذن الله فيه، ورسوله، قالوا: تنقصت أصحابها. فانظر إلى هذا التشابه بين قلوبهم، حتى كأنهم قد تواصوا به. {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُرْشِداً} [سورة الكهف آية: 17] . وقد قطع تعالى الأسباب التي تعلق بها المشركون جميعها، قطعا يعلم من تأمله وعرفه، أن من اتخذ من دون الله وليا، أو شفيعا فهو {كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً الجزء: 11 ¦ الصفحة: 460 وََإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [سورة العنكبوت آية: 41] ؛ فقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍوَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سورة سبأ آية: 22-23] . فالمشرك إنما يتخذ معبوده، لما يحصل له به من النفع، والنفع لا يكون إلا ممن فيه خصلة من هذه الأربع: إما مالك لما يريده عابده منه، فإن لم يكن مالكا كان شريكا للمالك، فإن لم يكن شريكا للمالك كان معينا له وظهيرا، فإن لم يكن معينا ولا ظهيرا كان شفيعا عنده. فنفى سبحانه هذه المراتب الأربع نفيا مرتبا، منتقلا من الأعلى إلى ما دونه: فنفى الملك، والشركة، والمظاهرة، والشفاعة التي يظنها المشرك؛ وأثبت شفاعة لا نصيب فيها لمشرك، وهي الشفاعة بإذنه. فكفى بهذه الآية نورا وبرهانا، ونجاة وتجريدا للتوحيد، وقطعا لأصول الشرك ومواده، لمن عقلها. والقرآن مملوء من أمثالها ونظائرها، ولكن أكثر الناس، لا يشعر بدخول الواقع تحته، وتضمنه له، ويظنه في نوع وقوم قد خلوا من قبل، ولم يعقبوا وارثا؛ وهذا هو الذي يحول بين القلب، وبين فهم القرآن. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 461 ولعمر الله؛ إن كان أولئك قد خلوا، فقد ورثهم من هو مثلهم، وشر منهم ودونهم؛ وتناول القرآن لهم، كتناوله لأولئك، ولكن الأمر كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة، إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية". وهذا لأنه إذا لم يعرف الجاهلية، والشرك، وما عابه القرآن وذمه، وقع فيه وأقره، ودعا إليه وصوبه وحسنه، وهو لا يعرف أنه الذي كان عليه أهل الجاهلية، أو نظيره أو شر منه، أو دونه؛ فينتقض بذلك عرى الإسلام، ويعود المعروف منكرا، والمنكر معروفا، والبدعة سنة والسنة بدعة، ويكفر الرجل بمحض الإيمان وتجريد التوحيد، ويبدع بتجريد متابعة الرسول، ومفارقة الأهواء والبدع؛ ومن له بصيرة وقلب حي يرى ذلك عيانا، فالله المستعان، انتهى. قلت: فتأمل قول شيخ الإسلام، رحمه الله المتقدم: وذلك لأن من أكبر أسباب عبادة الأوثان، كان تعظيم القبور؛ ولهذا اتفق العلماء على أنه من سلم على النبي صلى الله عليه وسلم عند قبره، أنه لا يتمسح بحجرته ولا يقبلها، فلا يشبه بيت المخلوق ببيت الخالق؛ كل هذا لتحقيق التوحيد، الذي هو أصل الدين ورأسه، الذي لا يقبل الله عملا إلا به، ولا يغفر لمن تركه ... إلى آخر كلامه. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 462 وتأمل قول العلامة ابن القيم، رحمه الله: فالأكبر لا يغفره إلا الله إلا بالتوبة منه، وهو الشرك الذي تضمن تسوية آلهة المشركين برب العالمين كما هو حال مشركي العرب، بل كلهم يحبون معبوداتهم، ويعظمونها، ويوالونها من دون الله ... إلى قوله: وقد شاهدنا هذا نحن وغيرنا منهم جهرة ... إلى قوله: وهكذا كان عباد الأصنام سواء، قال الله تعالى حاكيا عن أسلاف هؤلاء المشركين: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [سورة الزمر آية: 3] ، ثم شهد عليهم بالكذب والكفر، وأخبر أنه لا يهديهم، فقال: {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} [سورة الزمر آية: 3] . إلى قوله: وترى المشرك يكذب حاله وعمله قوله، فإنه يقول: لا نحبهم كحب الله، ولا نسويهم بالله، ثم يغضب لهم، ولحرماتهم إذا انتهكت، أعظم مما يغضب لله، وإذا ذكرت له الله وحده وجردت له توحيده، لحقته وحشة وضيق، وحرج ... إلى آخر ما تقدم من كلامه؛ وهذا هو الواقع من كثير من أهل هذه الأزمنة، فتأمله جملة جملة. وقوله: ولكن أكثر الناس لا يشعر بدخول الواقع تحته، وتضمنه له ... إلخ. والمقصود: بيان ما كان عليه شيخ الإسلام، وإخوانه من أهل السنة والجماعة من الجزء: 11 ¦ الصفحة: 463 إنكار الشرك الأكبر الواقع في زمانهم، وذكرهم الأدلة من الكتاب والسنة، على كفر من فعل هذا الشرك، أو اعتقده؛ فإنه بحمد الله يهدم ما بناه- هذا الجاهل المفتري- على شفا جرف هار. وتأمل أيضا ما ذكره العلامة ابن القيم، بعد ذكره ما تقدم، وذكره أنواعا من الشرك، كما هو الواقع في زمانه، وما بعده ينبغي أن نذكره هنا أيضا، قال: ومن أنواعه: طلب الحوائج من الموتى، والاستعانة بهم، والتوجه إليهم؛ وهذا أصل شرك العالم. فإن الميت قد انقطع عمله، وهو لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا، فضلا لمن استغاث به، وسأله قضاء حاجته، أو سأله أن يشفع له إلى الله فيها؛ وهذا من جهله بالشافع والمشفوع عنده، كما تقدم؛ فإنه لا يقدر أن يشفع له عند الله إلا بإذنه، والله لم يجعل استعانته وسؤاله سببا لإذنه، وإنما السبب لإذنه كمال التوحيد، فجاء هذا المشرك بسبب يمنع الإذن، وهو بمنْزلة من استعان في حاجة بما يمنع حصولها، وهذه حالة كل مشرك. والميت محتاج إلى من يدعو له، ويترحم عليه، ويستغفر له، كما وصانا النبي صلى الله عليه وسلم إذا زرنا قبور المسلمين، أن نترحم عليهم، ونسأل لهم العافية، والمغفرة؛ فعكس المشركون هذا، وزاروهم زيارة العبادة، الجزء: 11 ¦ الصفحة: 464 واستقضاء الحوائج، والاستغاثة بهم، وجعلوا قبورهم أوثانا تعبد، وسموا قصدها حجا، واتخذوا عندها الوقفة، وحلق الرؤوس. فجمعوا بين الشرك بالمعبود، وتغيير دينه، ومعاداة أهل التوحيد، ونسبتهم إلى التنقص بالأموات؛ وهم قد تنقصوا الخالق بالشرك، وأولياءه الموحدين له الذين لم يشركوا به شيئا بذمهم، وعيبهم ومعاداتهم، وتنقصوا من أشركوا به غاية التنقص، إذ ظنوا أنهم راضون منهم بهذا، وأنهم أمروهم به وأنهم يوالونهم عليه. وهؤلاء هم أعداء الرسل والتوحيد في كل زمان ومكان وما أكثر المستجيبين لهم، ولله در خليله إبراهيم، حيث يقول: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ} [سورة إبراهيم آية: 35-36] . وما نجا من شرك هذا الشرك الأكبر إلا من جرد توحيده لله، وعادى المشركين في الله، وتقرب بمقتهم إلى الله، وجرد رجاءه لله، وذله لله، وتوكله على الله، واستعانته بالله، والتجاءه إلى الله، واستغاثته بالله، وأخلص قصده متبعا لأمره، متطلبا لمرضاته؛ إن سأل سأل الله وإذا استعان استعان بالله، وإذا عمل عمل لله؛ فهو لله وبالله، ومع الله، انتهى. فتأمل قوله: وما أكثر المستجيبين لهم; وقوله: وما الجزء: 11 ¦ الصفحة: 465 نجا من شرك هذا الشرك الأكبر، إلا من جرد التوحيد لله، وعادى المشركين في الله، وتقرب بمقتهم إلى الله ... إلى آخره، يتبين لك: خطأ ذلك المفتون وضلاله، خصوصا إذا عرفت أن هذا الشرك الأكبر، قد وقع في زمانهما، وكفّرا أهله بالكتاب والسنة والإجماع، وبينا أنه لم ينج منه إلا القليل، الذين هذا وصفهم، وهم الغرباء في الأمة، الذين أخبر بهم النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "ولا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم، حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك ". ولا ريب أن الله تعالى لم يعذر أهل الجاهلية، الذين لا كتاب لهم، بهذا الشرك الأكبر، كما في حديث عياض بن حمار عن النبي صلى الله عليه وسلم: " إن الله نظر إلى أهل الأرض، فمقتهم عربهم وعجمهم، إلا بقايا من أهل الكتاب " 1. فكيف يعذر أمة كتاب الله بين أيديهم، يقرؤونه، ويسمعونه، وهو حجة الله على عباده، كما قال تعالى: {هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [سورة إبراهيم آية: 52] ، وكذلك سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي بين فيها افتراق الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة، وهي الجماعة، ثم يجيء من يموه على الناس، ويفتنهم عن   1 مسلم: الجنة وصفة نعيمها وأهلها (2865) , وأحمد (4/162) . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 466 التوحيد، بذكر عبارات لأهل العلم، يزيد فيها وينقص، وحاصلها الكذب عليهم; لأنها في أناس لهم إسلام ودين، وفيهم مقالات كفّرهم بها طائفة من أهل العلم، وتوقف بعضهم في تكفيرهم حتى تقوم عليهم الحجة ولم يذكرهم بعض العلماء في جنس المشركين وإنما ذكروهم في الفساق، كما ستقف عليه في كلام العلامة ابن القيم إن شاء الله تعالى. ومن تمويهه الذي كتبه في أوراقه، مما نسبه لشيخ الإسلام في قوله: وكان قتال الخوارج بالنصوص الثابتة، وبإجماع الصحابة والتابعين وعلماء المسلمين ثم قال: فهذا كلامه صلى الله عليه وسلم في هؤلاء العباد، وأمره بقتالهم، فعلم أن أهل الذنوب الذين يعترفون بذنوبهم، أخف ضررا على المسلمين من أهل البدع الذين يبتدعون بدعة يستحلون بها عقوبة من يخالفهم، وتكفيره. ثم قال: وهؤلاء بذلك كفروا الأمة، وضللوها سوى طائفتهم الذين يزعمون أنها الطائفة المحقة، فجعلوا طائفتهم صفوة بني آدم. أقول: هذا الكلام من شيخ الإسلام، إنما هو في الخوارج الذين كفروا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين هم صفوة الأمة، فكيف ينزل في طائفة عرفوا للصحابة فضلهم؟ وتولوهم في الدين، وأحبوهم واقتدوا بهم، الجزء: 11 ¦ الصفحة: 467 وكفروا من كفره الصحابة رضي الله عنهم، ممن ارتد عن الإسلام، ودعوا الناس إلى إخلاص العبادة لله، ونهوهم عن اتخاذ الأوثان وعبادتها، وأطلقوا الكفر على المشركين، طاعة لرب العالمين، وإيمانا بما أنزله في كتابه المبين، كما قال تعالى: {وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [سورة آل عمران آية: 80] ، وقوله: {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍمَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ} [سورة ق آية: 42-26] ، وكقوله: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ} [سورة التوبة آية: 17] الآية؛ فحكم الله فيمن كان الشرك وصفه، أنه كافر، وأن عمله حابط، وأنه في النار خالدا؛ والآية نزلت في مشركي أهل مكة. وكقوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْأِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ} [سورة غافر آية: 10] إلى قوله: {ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا} [سورة غافر آية: 12] . وكقوله: {ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ} [سورة غافر آية: 74] ، وقد أقروا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 468 لله بالربوبية، وشركهم صار في الإلهية، وقوله: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [سورة المؤمنون آية: 117] . فالله تعالى كفّر في هذه الآيات من دعا معه غيره؛ فكيف ينزل من تمسك بكتاب الله، ودعا إلى توحيد الله وطاعته، وأنكر الشرك بالله، ونهى عن معصية الله، واتبع سبيل المؤمنين وأصحابه، منْزلة الخوارج؟! ولا ريب أن هذا ضلال مبين، وانحراف عن سبيل المؤمنين. وقد سلف الوعد بأن نذكر ما قاله العلامة ابن القيم، قال رحمه الله: وفسق الاعتقاد كفسق أهل البدع، الذين يؤمنون بالله ورسوله واليوم الآخر، ويحرمون ما حرمه الله ورسوله، ويوجبون ما أوجبه الله; لكن ينفون كثيرا مما أثبته الله ورسوله، جهلا وتأويلا، وتقليدا للشيوخ، ويثبتون ما لم يثبته الله ورسوله كذلك؛ وهؤلاء كالخوارج المارقة، وكثير من الروافض، والقدرية، والمعتزلة، وكثير من الجهمية، الذين ليسوا غلاة في التجهم. وأما غالية الجهمية فكغلاة الرافضة، وليس للطائفتين في الإسلام نصيب; ولذلك أخرجهم جماعة من السلف، من الثنتين وسبعين فرقة، وقالوا: هم مباينون للملة ... إلى أن قال: فتوبة هؤلاء الفساق، من جهة الاعتقادات الفاسدة، بمحض اتباع السنة، ولا يكتفي منهم بذلك أيضا، حتى يبينوا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 469 فساد ما كانوا عليه من البدعة؛ إذ التوبة من كل ذنب هي بفعل ضده، انتهى المقصود، فتأمل كيف جعل أهل هذه البدع، جنس الفساق، لأنهم يؤمنون بالله ورسوله، واليوم الآخر. وقولنا في هؤلاء المبتدعة الذين ذكرهم شيخ الإسلام، وذكرهم العلامة ابن القيم، قولهما، وقول السلف، والأئمة فيهم; ننكر على كل مبتدع بدعته، ونعتقد فساد ما أصلوه من أصول بدعهم. فنحن- بحمد الله- متبعون لا مبتدعون، ننكر الشرك الأكبر، ونكفر أهله، وننكر البدع، ونناظر أهلها بالسنة؛ فله الحمد على ما هدانا. وأما أهل الإشراك فقد عرفت ما قال الله فيهم، وما قرره هذا الإمام وغيره من العلماء، من تكفيرهم بالشرك في الإلهية، ومخالفة الشريعة; وملة الشرك: ملة كفر، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} [سورة الحج آية: 17] . فأهل الإيمان هم أهل الحق؛ ما عداهم من الملل الخمس، فملل كفر قطعا؛ ومن لم يعرف هذا، ولم يفهم هذا، ولم يفهم الفرق، فهو جاهل مفتون {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً} [سورة المائدة آية: 41] . وقال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى، في الفتاوى المصرية: قد قال بعض الناس إنه تجوهر، وهذا قول قوم داوموا على الرياضة مدة، فقالوا: لا نبالي بما عملنا، وإنما الأمر والنهي الجزء: 11 ¦ الصفحة: 470 رسم العوام، ولو تجوهروا سقط عنهم؛ وحاصل النبوة يرجع إلى الحكمة والمصلحة، والمراد منها ضبط العوام، ولسنا من العوام فندخل في التكليف، لأنا قد تجوهرنا، وعرفنا الحكمة. فهؤلاء أكفر من اليهود والنصارى، بل هم أكفر أهل الأرض، فإن اليهود والنصارى آمنوا ببعض، وكفروا ببعض، وهؤلاء كفروا بالجميع، خارجون عن التزام شيء من الحق; ثم قال: ومن جحد بعض الواجبات الظاهرة المتواترة، أو جحد بعض المحرمات الظاهرة، كالفواحش والظلم، والخمر والزنا والربا، أو جحد حل بعض المباحات الظاهرة المتواترة، كالخبز واللحم والنكاح، فهو كافر مرتد، يستتاب فإن تاب وإلا قتل. قلت: ولم يقل شيخ الإسلام: إنهم يعذرون بالجهل، بل كفّرهم وقال: إنهم ارتدوا. قال: ومن أضمره فهو منافق، لا يستتاب عند أكثر العلماء. ومن هؤلاء: من يستحل بعض الفواحش، كمؤاخاة النساء الأجانب، والخلوة بهن، والمباشرة لهن، في عامة أن يحصل لهن البركة بما يفعله معهن، وإن كان محرما في الشريعة. وكذلك من يستحل ذلك من المردان، ويزعم أن التمتع بالنظر إليهم، ومباشرتهم، هو طريق لبعض السالكين، حتى يترقى في محبة المخلوق، إلى محبة الخالق، ويأمرون بمقدمات الجزء: 11 ¦ الصفحة: 471 الفاحشة الكبرى، كما يستحلها من يقول: إن اللواط مباح بملك اليمين؛ هؤلاء كلهم كفار باتفاق أئمة المسلمين، انتهى. قلت: فنحن- بحمد الله- ننكر هذه الكفريات، ونعادي أهلها؛ فإن أبى المنحرف، إلا أن يطعن علينا بقوله: كفرتم أمة محمد، قلنا: معاذ الله، لا نكفر مسلما، ولا نجحد ما أعطى الله أمة محمد صلى الله عليه وسلم من الفضائل، التي لم يعطها أمة قبلها، وهم الأمة الوسط بنص الكتاب. فالقرون المفضلة لا ريب أن الإسلام فيها أظهر، والعلم والصلاح فيها أكثر، والنبي صلى الله عليه وسلم أكثر الأنبياء تابعا يوم القيامة؛ لكن كلما كان أقرب إلى عهده، فالخير فيهم أكثر، والبدعة فيهم أقل وأندر، وكلما تباعد عن ذلك العهد كان بالعكس. وحدث في الأمة ما حدث، وعمت البلوى بما وقع من تلك الشرور، التي ذكرها شيخ الإسلام وتلميذه العلامة ابن القيم، رحمهما الله تعالى، وغيرهما، كابن وضاح، وأبي شامة في "الباعث على إنكار البدع والحوادث"، فلقد صدقوا وبينوا، وفرقوا بين الهدى والضلال. فتأمل ما ذكره الله في كتابه، عن أهل الكتاب، يتبين لك الصواب، ويظهر لك أن بعد تلك القرون المفضلة، انتشرت البدع، وحدث في الأمة ما قد ذكره شيخ الإسلام الجزء: 11 ¦ الصفحة: 472 فيما تقدم، وذكر أن منهم من هو أكفر من اليهود والنصارى، كالباطنية الإسماعيلية، والقرامطة ونحوهم. ومن هذه الطوائف حدث البناء على القبور والمشاهد، وحدث الغلو ومقدمات الشرك، وعمت البلوى بهذه الأمور؛ فأنكر ذلك العلماء، وحكوا ما قد جرى من الشرك وعبادة الأوثان، حتى وقع ذلك فيمن يدعي الزهد والعبادة، وبلغ الشيطان من كثير الأمة مراده. وصنف العلماء في غربة الإسلام كتبا، يعرفها الخواص من أهل العلم والعوام، والواقع من ذلك لا يخفى على ذوي البصائر؛ ويكفي طالب الحق ما قال النبي صلى الله عليه وسلم لأم المؤمنين، حين قالت: "يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم، إذا كثر الخبث " 1. وقد ذكرنا ما ذكره العلماء، مما حدث في أواخر هذه الأمة، وتواتر وشاهدناه. وقد تقدم قول العلامة ابن القيم، رحمه الله- لما ذكر ما قد وقع في الأمة من الشرك-: وما أعز من يتخلص من هذا! بل ما أعز من لا يعادي من أنكره! فلقد صدق وبين؛ فإذا كان هذا قد وقع في القرن السابع وقبله، فكيف بقرون انقرض فيها العلم، وظهر فيها الجهل والفساد والظلم؟! فالله المستعان. وقد اغتر كثير من الناس في أمر الدين بمجرد التلفظ بلا إله إلا الله، مع الجهل بمدلولها ومخالفة مضمونها، قولا وعملا واعتقادا؛ فيثبت ما نفته لا إله إلا الله من الشرك   1 البخاري: أحاديث الأنبياء (3346) , ومسلم: الفتن وأشراط الساعة (2880) , والترمذي: الفتن (2187) , وابن ماجه: الفتن (3953) , وأحمد (6/428 ,6/429) . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 473 بالله، وينفي ما أثبتته لا إله إلا الله من إخلاص العبادة لله، كما قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [سورة البينة آية: 5] . فإذا دعا غير الله واستغاث به فيما لا يقدر عليه إلا الله، وقال له الموحدون: لا يعبد إلا الله والعبادة بجميع أنواعها مقصورة على الله، قال: تنقصتم الصالحين، وأمثال ذلك من العبارات المتضمنة للكفر بمعنى لا إله إلا الله والإنكار على من دعا إلى مضمون لا إله إلا الله، وهو إخلاص العبادة لله كما قال تعالى: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [سورة الزمر آية: 45] ؛ فما أشبه هؤلاء بمن نزلت فيهم هذه الآية. [قول شيخ الإسلام في بناء المساجد على القبور] قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: بناء المساجد على القبور محرم، ولو بني عليها غير مسجد نهي عنه باتفاق العلماء؛ فهذا من وسائل الشرك المحرمة. وقال رحمه الله: واعلم أن لفظ الدعاء، والدعوة في القرآن، يتناول معنيين: دعاء العبادة، ودعاء المسألة. وكل عابد سائل، وكل سائل عابد، وأحد الاسمين يتناول الآخر عند تجرده عنه؛ وإذا جمع بينهما، فإنه يراد بالسائل الذي يطلب جلب المنفعة، ودفع المضرة بصيغ السؤال والطلب، الجزء: 11 ¦ الصفحة: 474 ويراد بالعابد: من يطلب ذلك بامتثال الأوامر، وإن لم يكن هناك صيغة سؤال ; ولا يتصور أن يخلو داع لله، دعاء عبادة، أو دعاء مسألة، من الرغب والرهب، والخوف والطمع. وقال رحمه الله: الدين الذي بعث الله به رسله وأنزل به كتبه هو عبادة الله وحده لا شريك له. فإذا كان مطلوب العبد من الأمور التي لا يقدر عليها إلا الله، مثل شفاء مريضه، أو وفاء دينه، أو عافيته مما به من بلاء الدنيا والآخرة، وانتصاره على عدوه، أو هداية قلبه، أو غفران ذنبه، وأمثال ذلك. فهذا لا يجوز أن يطلب إلا من الله. ولا يجوز أن يقال لملك ولا نبي، ولا شيخ ولا جني: اغفر لي، انصرني؛ فمن سأل مخلوقا شيئا من ذلك، فهو مشرك به، يجب أن يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، وهذا مثل النصارى، وكذلك قوله: يا سيدي، أنا في جيرتك، فلان يظلمني، يا شيخي فلان، انصرني عليه، انتهى. قلت: فتأمل كلام شيخ الإسلام هذا، وانظر ما يقع من هذا الشرك على ألسن كثير. وكان يكفينا في معرفة ما وقع من الشرك، وبيانه ما ذكره الله تعالى، في قصص الأنبياء، وغيرهم، من الشرك الذي نهى الله عنه، وأخبر أنه لا يغفره، ودخول الواقع من الناس تحت ما ذكره، من شرك الأمم، وشرك العرب، الذي بعث الله رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم ينهاهم عنه. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 475 وإنما ذكرنا ما ذكرنا عن العلماء، في بيان ذلك، وبيان ما وقع منه في طوائف من هذه الأمة، ليتبين سبيل أهل العلم والإيمان، ولينقطع ما تعلق به المبطلون، وحرفوه على أهل العلم، وأن الحجة فيما قرره العلماء في بيان التوحيد، وما ينافيه من الشرك، بالحجج القاطعة، والبراهين الظاهرة. فتأمل كلام أهل السنة والجماعة، يطلعك على معاني القرآن؛ فرحمة الله على أئمة المسلمين، وسلف الموحدين. وأعلى الهمم وأشرفها: إعظام الرغبة فيما أمر الله به من تدبر القرآن، كما قال تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [سورة ص آية: 29] ، وقال: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ} [سورة محمد آية: 42-25] . فتدبر أيها الناصح لنفسه: ما أمر الله به من توحيد العبادة، كقوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ} [سورة الرعد آية: 36] ، وقال: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [سورة يوسف آية: 40] . وقال: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [سورة الروم آية: 30] إلى قوله: {وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الَّذِينَ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 476 فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [سورة الروم آية: 31-32] ، وإقامة الوجه، هو: إخلاص العبادة لله، والحنيف: المقبل على الله، المعرض عن كل ما سواه. وتدبر ما افتتح به المرسلون دعوتهم، في كثير من سور القرآن; ففي سورة الأعراف: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [سورة الأعراف آية: 59] ، وقال: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ} [سورة الأعراف آية: 65] . وتأمل ما أجابوه به: {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ} [سورة الأعراف آية: 70] ؛ فقد عرفوا ربهم وأنه الله لكنهم أبوا أن يخلصوا له العبادة; والإخلاص هو دين الله، ودعوة المرسلين، كما قال تعالى: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [سورة الزمر آية: 2-3] ، وقال: {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي} [سورة الزمر آية: 14] ؛ فتقديم المعمول يفيد الحصر، كما في أم القرآن {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [سورة الفاتحة آية: 5] ، أي: لا نعبد غيرك، ولا نستعين إلا بك، وكقوله: {بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [سورة الزمر آية: 66] . والمقصود: أن الله تعالى بين هذا الدين وفرق بين الموحدين والمشركين، وجعل عداوة المشرك من لوازم هذا الدين، كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 477 إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} [سورة الأنفال آية: 73] . ثم إن الجاهل المرتاب، قال في أوراقه قولا، قد تقدم الجواب عنه، ولا بد من ذكره، قال: فإذا قال المسلم: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ} [سورة الحشر آية: 10] ، يقصد من سبقه من قرون الأمة بالإيمان، وإن كان قد أخطأ في تأويل تأوله، أو قال كفرا، أو فعله، وهو لا يعلم أنه يضاد الشهادتين، فإنه من إخوانه الذين سبقوه بالإيمان. فأقول: انظر إلى هذا التهافت والتخليط، والتناقض؛ ولا ريب أن الكفر ينافي الإيمان، ويبطله، ويحبط الأعمال، بالكتاب، والسنة، وإجماع المسلمين، قال الله تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْأِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [سورة المائدة آية: 5] . ويقال: وكل كافر قد أخطأ، والمشركون لا بد لهم من تأويلات، ويعتقدون أن شركهم بالصالحين، تعظيم لهم، ينفعهم، ويدفع عنهم، فلم يعذروا بذلك الخطأ، ولا بذلك التأويل؛ بل قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} [سورة الزمر آية: 3] . وقال تعالى: {إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} [سورة الأعراف آية: 30] ، وقال تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاًالَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الجزء: 11 ¦ الصفحة: 478 الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} [سورة الكهف آية: 103-104] الآية. فأين ذهب عقل هذا عن هذه الآيات، وأمثالها من الآيات المحكمات؟! والعلماء رحمهم الله تعالى سلكوا منهج الاستقامة، وذكروا باب حكم المرتد، ولم يقل أحد منهم أنه إذا قال كفرا، أو فعل كفرا، وهو لا يعلم أنه يضاد الشهادتين، أنه لا يكفر لجهله. وقد بين الله في كتابه أن بعض المشركين جهال مقلدون، فلم يدفع عنهم عقاب الله بجهلهم وتقليدهم، كما قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ} [سورة الحج آية: 3] إلى قوله: {إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} [سورة الحج آية: 4] . ثم ذكر الصنف الثاني: وهم المبتدعون، بقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ} [سورة الحج آية: 8] ، فسلبهم العلم والهدى؛ ومع ذلك فقد اغتر بهم الأكثرون، لما عندهم من الشبهات، والخيالات، فضلوا وأضلوا، كما قال تعالى في آخر السورة {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} [سورة الحج آية: 71] . وتقرير هذا المقام، قد سلف في كلام العلامة ابن القيم، وكلام شيخ الإسلام. وقال العلامة ابن القيم، رحمه الله تعالى، أيضا في طبقات الناس- من هذه الأمة وغيرها-: الطبقة السابعة عشر: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 479 طبقة المقلدين، وجهال الكفرة وأتباعهم وحميرهم الذين هم تبع، يقولون: إنا وجدنا آباءنا على أمة ولنا أسوة بهم. قال: وقد اتفقت الأمة على أن هذه الطبقة كفار، وكانوا جهالا مقلدين لرؤسائهم، وأئمتهم إلا ما يحكى عن بعض أهل البدع أنه لا يحكم لهؤلاء بالنار وجعلهم بمنْزلة من لم تبلغه الدعوة؛ وهذا مذهب لم يقل به أحد من أئمة المسلمين، لا الصحابة ولا التابعين، ولا من بعدهم. وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ما من مولود إلا ويولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه " 1، فأخبر أن أبويه ينقلانه عن الفطرة، إلى اليهودية، أو النصرانية، أو المجوسية، ولم يعتبر في ذلك غير المربي، والمنشأ على ما عليه الأبوان. وصح عنه أنه قال: " إن الجنة لا يدخلها إلا نفس مسلمة " 2؛ وهذا المقلد ليس بمسلم وهو عاقل مكلف، والعاقل المكلف لا يخرج عن الإسلام أو الكفر. قال: والإسلام هو: توحيد الله وعبادته وحده لا شريك له، والإيمان برسوله واتباعه فيما جاء به؛ فما لم يأت العبد بهذا فليس بمسلم وإن لم يكن معاندا، فهو كافر جاهل. وغاية هذه الطبقة: أنهم كفار جهال، غير معاندين؛ وعدم عنادهم لا يخرجهم عن كونهم كفارا. فإن الكافر من جحد توحيد الله، وكذب رسوله إما عنادا وإما جهلا وتقليدا لأهل العناد.   1 البخاري: الجنائز (1358) , ومسلم: القدر (2658) , والترمذي: القدر (2138) , وأبو داود: السنة (4714) , وأحمد (2/233 ,2/275 ,2/282 ,2/315 ,2/346 ,2/393 ,2/410 ,2/481) , ومالك: الجنائز (569) . 2 البخاري: الرقاق (6528) , ومسلم: الإيمان (221) , والترمذي: صفة الجنة (2547) , وابن ماجه: الزهد (4283) , وأحمد (1/386 ,1/437 ,1/445) . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 480 وقد أخبر الله في القرآن، في غير موضع، بعذاب المقلدين لأسلافهم من الكفار، وأنهم يتحاجون في النار، وأن الأتباع يقولون: {رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ} [سورة الأعراف آية: 38] . انتهى ملخصا; وهذه الآية لها نظائر كثيرة في القرآن، والحمد لله على حسن البيان. وقد دلت الآيات المحكمات على كفر من أشرك بالله غيره في عبادته قال تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الْأِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَاداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} [سورة الزمر آية: 8] . ولها نظائر كثيرة سوى ما تقدم، كقوله: {قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ} [سورة الأعراف آية: 37] . ففي هذه الآية من البيان أن معظم شركهم هو دعاؤهم، وأنه كفر بالله؛ فلا اعتبار بمن أعمى الله بصيرته، عن تدبر كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. وهذا الجاهل يدعي أنه ينقل من منهاج السنة لشيخ الإسلام، وقد عرفت ما في ذلك من فساد قصده، ووضعه العبارة في غير من هي له، ومن قصد بها. وهذا كلام شيخ الإسلام رحمه الله تعالى، في المنهاج، الجزء: 11 ¦ الصفحة: 481 يطابق ما قد أسلفناه عنه في هذا الجواب. قال رحمه الله تعالى: وأشهر الناس بالردة، خصوم أبي بكر الصديق، رضي الله عنه وأتباعه، كمسيلمة الكذاب وأتباعه، وغيرهم. ومن أظهر الناس ردة: الغالية الذين حرقهم علي رضي الله عنه بالنار لما ادعوا فيه الإلهية، والسبئية أتباع عبد الله بن سبأ الذي أظهر سب أبي بكر وعمر. وأول من ظهر عنه دعوة النبوة، من المنتسبين إلى الإسلام: المختار بن أبي عبيد، وكان من الشيعة. فعلم أن أعظم الناس ردة، هم في الشيعة أكثر منهم في سائر الطوائف؛ ولهذا لا يعرف أسوأ ردة من ردة الغالية، كالنصيرية، ومن ردة الإسماعيلية الباطنية، ونحوهم، انتهى. ومن المعلوم: أن كثيرا من هؤلاء جهال، يظنون أنهم على الحق، ومع ذلك حكم شيخ الإسلام بسوء ردتهم. وقال أيضا: وأشهر الناس بقتال المرتدين، هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه، فلا يكون المرتدون في طائفة أكثر مما في خصوم أبي بكر، انتهى. أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " يرد علي يوم القيامة رهط من أصحابي، أو قال من أمتي، فيجلون عن الحوض; الجزء: 11 ¦ الصفحة: 482 فأقول: أصحابي! أصحابي! فيقال: إنه لا علم لك بما أحدثوا بعدك، إنهم ارتدوا على أدبارهم القهقري " 1 وفي رواية: فيُحَلَّؤُون 2. وللبخاري، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " بينما أنا قائم على الحوض، إذا زمرة، حتى إذا عرفتهم، خرج رجل من بيني وبينهم، فقال: هلم; فقلت: إلى أين؟ قال: إلى النار والله; قلت: فما شأنهم؟ قال: إنهم ارتدوا بعدك على أدبارهم القهقري. ثم إذا زمرة، حتى إذا عرفتهم، خرج رجل من بيني وبينهم، فقال: هلم; فقلت: إلى أين؟ قال: إلى النار والله; قلت: فما شأنهم؟ قال: إنهم ارتدوا على أدبارهم؛ ولا أراه يخلص منهم إلا مثل هملاء النعم " 3. قلت: فدلت الأحاديث على أن في خير قرون الأمة من قد ارتد عن الإسلام; وذكر شيخ الإسلام أن ذلك وقع في طوائف، وصرح به في منهاج السنة وغيره؛ وأخبار هؤلاء الطوائف، وذكر مقالاتهم، وكفرياتهم مبسوط في كتب العلماء، وتواريخ الإسلام، لا يخفى ذلك إلا على من هو أجهل الناس بالعلم والعلماء، كهذا الجاهل البليد، الذي أخذ عن أشياخه عداوة التوحيد. فما أشبه حاله بمن قال الله فيهم: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا}   1 البخاري: الرقاق (6586) . 2 أي: يطردون, كذا في فتح الباري صفحة 474/جـ/11. 3 البخاري: الرقاق (6587) . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 483 [سورة المائدة آية: 104] . الآية، وقوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} [سورة الحج آية: 8-9] . وهؤلاء في الحقيقة: خصوم شيخ الإسلام، وإخوانه من العلماء الأعلام، وسلف الأئمة الكرام، كما قد عرفت فيما قدمته لك، من تقرير هذا الإمام; فما أشبه هذا البليد بابن البكري، لما خالف شيخ الإسلام فيما أنكره عليهم من الاستغاثة بغير الله، أخذ يرد على شيخ الإسلام، من كتابه "الصارم المسلول". قال شيخ الإسلام: فأزال بهجته، أي: كتابه "الصارم"، والبصير يعلم أن أعداءنا في هذا الدين، هم أعداء أئمة المسلمين، لأنا لا نخرج عما أجمعوا عليه، ولا نخالفهم فيما اتفقوا عليه؛ نسأل الله الثبات على الإسلام، والإيمان. وقد عرفت أنا لم نكن بصدد مناقشته فيما قاله وأورده، لكنه ذكر في جملة الأحاديث الواردة في الخوارج الحديث المعروف في وصفهم وفيه: " يقتلون أهل الإيمان ويدعون أهل الأوثان " 1؛ وهذه حال هذا الرجل، فإنه سعى في عداوة أهل التوحيد الذي هو أصل الإيمان ومعظمه، ووالى عباد الأوثان. فإن الخوارج تركوهم، وهذا أعانهم وذب عنهم، وحاول أن يدخلهم في عموم أهل الإيمان مع ارتكابهم   1 البخاري: المغازي (4351) والتوحيد (7432) , ومسلم: الزكاة (1064) , والنسائي: الزكاة (2578) . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 484 الذنب الذي لا يغفره الله؛ وقد تقدم أن الله كفّر أهله وجعلهم أهل النار الذين هم أهلها نعوذ بالله من النار وأعمالها. [كلام شيخ الإسلام في المراد بالواسطة] واعلم أنه قد وقع في الفتاوى المصرية لشيخ الإسلام، كلام حسن بين، يزداد به المقام ظهورا، والموحد سرورا. قال رحمه الله: والإله الذي تألهه القلوب بكمال المحبة والتعظيم، والإجلال والإكرام، والرجاء والخوف. قال: ومن قال: لا بد لنا من واسطة بيننا وبين الله، فإن أراد أنه لا بد من واسطة تبلغه أمر الله ونهيه، فهذا حق لا بد للناس من رسول، يبلغ عن الله أمره ونهيه ويعلمهم دين الله الذي بعثه به؛ فهذا مما أجمع عليه أهل الملل، ومن أنكر ذلك فهو كافر بالإجماع. وإن أراد بالواسطة أنه لا بد منه في جلب المنافع ودفع المضار، ورزق العباد، وهداهم، فهذا شرك، كفّر الله به المشركين، حيث اتخذوا من دونه شفعاء وأولياء، يستجلبون بهم المنافع؛ فمن جعل الملائكة أربابا وواسطة يدعوهم، ويتوكل عليهم، ويسألهم تفريج الكربات، فهو كافر بإجماع المسلمين. ومن جعل المشايخ من أهل العلم والدين وسائط يعلمونهم، ويقتدون بهم، فقد أصاب؛ والعلماء ورثة الجزء: 11 ¦ الصفحة: 485 الأنبياء وكل أحد يؤخذ من قوله ويترك، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم. وإن أثبتهم وسائط، بمعنى الحُجّاب، الذين بين الملك والرعية، بحيث يكونون هم يرفعون إلى الله حوائج خلقه، فهذا شرك وكفر، انتهى. ومن أراد الوقوف على ما جرى في آخر هذه الأمة من الشرك، وما أورده المشركون من الشبه، فليطالع " كتاب الإغاثة" للعلامة ابن القيم، "وكتاب الاستغاثة" لشيخ الإسلام - في الرد على ابن البكري- رحمهما الله تعالى "وكتاب الرد على ابن الأخنائي"؛ ففي هذه الكتب من بيان التوحيد، وما ينافيه من الشرك، ما يعين المنصف على فهم كلام الله، وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم وحقيقة ما بعث الله به رسوله من دينه. وقد أشار الشيخ محمد بن إسماعيل الصنعاني، في قصيدته التي سيرها إلى شيخنا محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى، وذكر فيها ما عم وطم من الشرك الأكبر، فقال: وقد جاءت الأخبار عنه بأنه ... يعيد لنا الشرع الشريف بما يبدي وينشر جهرا ما طوى كل جاهل ... ومبتدع منه فوافق ما عندي ويعمر أركان الشريعة هادما ... مشاهد ضل الناس فيها عن الرشد أعادوا بها معنى سواع ومثله ... يغوث وود بئس ذلك من ود وقد هتفوا عند الشدائد باسمها ... كما يهتف المضطر بالصمد الفرد وكم عقروا في سوحها من عقيرة ... أهلت لغير الله جهرا على عمد وكم طائف حول القبور مقبل ... ومستلم الأركان منها باليد الجزء: 11 ¦ الصفحة: 486 وقال العلامة: أبو بكر بن غنام- فريد وقته بعلم المعقول والمنقول، والشعر والإنشاء- في صدر القرن الثالث عشر، شعرا من قصيدة: نفوس الورى إلا القليل ركونها ... إلى الغي لا يلفى لدين حنينها فسل ربك التثبيت أي موحد ... فأنت على السمحاء باد يقينها وغيرك في بيد الضلالة سائر ... وليس له إلا القبور يدينها ولو تتبعنا كلام العلماء، فيما صدر في هذه الأمة من الشرك الأكبر، من عبادة القبور والأشجار والكواكب والأحجار وغير ذلك، لطال الجواب؛ وذلك مما لا يخفى على ذوي البصائر والعقول والألباب. فاعتبر أيها الناصح لنفسه، واعلم أن الاختلاف، إنما وقع بيننا وبين كثير من الناس، في معنى لا إله إلا الله، والعمل بها. فهم قنعوا من كلمة التوحيد باللفظ، ورأوه نافعا، وإن لم يعتقدوا المعنى ولم يعملوا به; ومن له أدنى مسكة من عقل، يعلم أن لا إله إلا الله تدل على التوحيد ولا ريب أن الشرك ينافي التوحيد كما تقدم أنه مبطل للأعمال؛ هذا ولو كانت الأعمال في الأصل صحيحة، فكيف إذا كان مبناها على الكفر بمعنى لا إله إلا الله أو الشرك؟ ! إذا عرفت ذلك فاعلم أن الاختلاف بين الرسل الجزء: 11 ¦ الصفحة: 487 وأممهم إنما هو معنى لا إله إلا الله بالمطابقة؛ فإن جملة: لا إله، تنفي الشرك والإلهية، عن كل ما سوى الله، وجملة: إلا الله، تثبت الإلهية بجميع أنواعها الباطنة والظاهرة، لله وحده؛ وبيان هذا في القرآن في آي كثير. قال تعالى عن الخليل عليه السلام: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} [سورة الزخرف آية: 26-27] ؛ فبين تعالى: أن ملة الخليل هذه الكلمة، وأن مدلولها البراءة من كل ما عبد من دون الله، وقصر العبادة على الله وحده، بقوله: {إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي} [سورة الزخرف آية: 27] ، فدلت هذه الجملة على أن الإله المنفي هو المعبود، وأن العبادة لا تصلح إلا لمن فطر الخلق، وهو الله وحده لا شريك له. قال تعالى: {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [سورة الزخرف آية: 28] وهي لا إله إلا الله؛ وعبر عنها الخليل بمعناها، وهو إفراد الله بالعبادة، ونفيه عن كل ما سواه؛ فدلالتها على معنى لا إله إلا الله، دلالة مطابقة. وهذه ملة الخليل عليه السلام، وملة إخوانه من المرسلين، قال الله تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ} [سورة الممتحنة آية: 4] الآية. وأخبر تعالى عن ابن ابن ابنه يوسف بن يعقوب، عليهم السلام، أنه قال: {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 488 مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ} [سورة يوسف آية: 38] ، فبين أن ملة آبائه نفي الشرك، والبراءة منه، وأن أكثر الناس ليسوا على تلك الملة، ثم بين التوحيد الذي هو إخلاص العبادة لله وحده، بقوله: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [سورة يوسف آية: 40] الآية. وقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم أهل الكتاب وغيرهم، إلى معنى لا إله إلا الله، قال تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [سورة آل عمران آية: 64] . فأصل الملة دين الإسلام، ومعنى لا إله إلا الله في هاتين الكلمتين {أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً و} [سورة آل عمران آية: 64] ، وقوله: {وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} [سورة آل عمران آية: 64] . فهذا المنهي عنه، هو الواقع من كثيرين، اتخذوا بعضهم من الأموات أربابا من دون الله، يدعونهم، ويرجونهم، ويستغيثون بهم في المهمات، ويرغبون إليهم في كشف الكربات؛ هذا وهم رفات أموات، لا يسمعون، ولا يستجيبون. ولما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم المشركين إلى أن يقولوا: لا إله إلا الله، أخبر تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} [سورة الصافات آية: 35-36] . فترك الآلهة والبراءة من الجزء: 11 ¦ الصفحة: 489 عبادتها، قد دلت عليه لا إله إلا الله دلالة تضمن، كما في هذه الآية. وقال في السورة بعدها عن المشركين، لما دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى التوحيد قالوا: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [سورة ص آية: 5] . فهذا الذي عجب منه المشركون، هو دين الله الذي أرسل به رسله، وأنزل به كتبه: أن العبادة والتأله حق الله على عباده، كما قال تعالى: {وَقَالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} [سورة النحل آية: 51] ؛ فقصر الرهبة عليه بتقديم المعمول لأنها نوع من أنواع العبادة; قال شيخ الإسلام: العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه، من الأقوال والأفعال، الظاهرة والباطنة، انتهى. فالعبادة بجميع أنواعها مقصورة على الله دون كل ما سواه، كما في {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [سورة الفاتحة آية: 5] ، وفي قوله: {بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [سورة الزمر آية: 66] . والقرآن كله من أوله إلى آخره، في تقرير معنى لا إله إلا الله؛ فهي كلمة الإخلاص، وكلمة التقوى والعروة الوثقى. ولا يتمسك بها إلا من كفر بالطاغوت وآمن بالله كما قال تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [سورة البقرة آية: 256] . قال الإمام مالك رحمه الله، وغيره: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 490 الطاغوت ما عُبد من دون الله. فانظر، يا من عرفه الله دين المرسلين، وما ينافيه من دين المشركين، إلى تلاعب الشيطان بأكثر الجهال، وكيف سلبوا أنوار شرف العلوم، حتى زين لهم الشيطان سلب حقيقة معنى لا إله إلا الله، فقنعوا منها بلفظها دون المعنى الذي وضعت له، من نفي الشرك بالله، وإخلاص العبادة بجميع أنواعها لله تعالى، فوقعوا بذلك الجهل والغرور، في أعظم ذنب وأكبر محظور، وصرفوا معظم المحبة ومخ العبادة لأرباب القبور، وزادوا على ذلك الشرك، حتى اعتقدوا لها التدبير، وصرفوا لها التأثير. والربوبية والإلهية، لا تصلح بجميع أفرادها، إلا للملك العظيم القدير، الذي {لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [سورة التغابن آية: 1] ، {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} [سورة الأنعام آية: 18] ، {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [سورة فاطر آية: 13-14] . وصلى الله على محمد النبي البشير النذير، والسراج المنير، وعلى آله وصحبه، ومن اتبعهم ممن اعتصم بالله، وهو مولاه، فنعم المولى ونعم النصير، وسلم تسليما. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 491 [رسالة من عبد الرحمن بن حسن إلى عبد الله بن محمد في نصرهم بالحجة والبيان] وله أيضا رحمه الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب، إلى الأخ عبد الله بن محمد: سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وما ذكرت من أنا ننصركم، فبلدكم بعيد لا يستطاع الوصول إليه، وأما نصرتكم بالحجة والبيان، فالله تعالى قد قال في كتابه: {وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً} [سورة الفرقان آية: 33] . والخصومة بينكم وبين الضد، في عبادتهم غير الله من الأموات، الذين لا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا، كما قال تعالى: {قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [سورة المائدة آية: 76] . وقد كان جل عبادتهم لهم في الرغبات والرهبات، بالدعاء والاستغاثة، وقد قال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} [سورة الجن آية: 18] ، و (أحدا) نكرة في سياق النهي، تعم كل مدعو من دون الله، كالأنبياء ومن دونهم. وقد أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يعبد ربه وحده بالدعاء، وغيره من أنواع العبادة، قال الله تعالى آمرا نبيه صلى الله عليه وسلم أن يدعو أمته أن يخلصوا الدعاء لربهم وخالقهم، فقال الجزء: 11 ¦ الصفحة: 492 تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ} [سورة الرعد آية: 36] ، وقال تعالى: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ} [سورة الرعد آية: 14] . فبين تعالى أنه المستحق لدعوة الحق، وأن الذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء؛ فإن دعوة غيره ضلال والضلال ضد الهدى، وكفّرهم بذلك، وقال تعالى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [سورة المؤمنون آية: 117] ، فكفّر من يدعو غيره في هاتين الآيتين. وقال: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [سورة الأحقاف آية: 5-6] ، وقال تعالى: {إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [سورة فاطر آية: 14] . فهذه الآيات تقصم ظهر المشرك الملحد؛ فمن تمسك بها غلب خصمه المشرك، كما قال شيخنا رحمه الله: والعامي من الموحدين، يغلب ألفا من علماء هؤلاء الشياطين. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 493 وما ذكرت من أنهم يأتون بفتاوى من علماء مكة، فليس مع من عارض أدلة التوحيد، إلا شبهات شياطين؛ وقد كتبنا نسخة في هذا المعنى، ردا على من زعم أن الاستمداد بالأموات جائز، وفيها كفاية لأهل الحق. وأما ما سألتنا عنه: فيمن أنكر الحكم برجحان العمل بالحديث الصحيح في مقابلة المذهب الملتزم، فهذا من محدثات الأمور التي ما أنزل الله بها من سلطان، قال تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} [سورة الأعراف آية: 3] . وقال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [سورة النساء آية: 59] ؛ وهذا أصل عظيم من أصول الدين. قال العلماء رحمهم الله: كل يؤخذ من قوله ويترك، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وهذا قول الإمام مالك رحمه الله. وهذا القول الذي يقوله هؤلاء يفضي إلى هجران الكتاب والسنة، وتبديل أحكام النصوص، كما فعل أهل الكتاب من اليهود والنصارى. والكتاب والسنة شفاء وهدى لمن أصغى إليهما، ومن طلب الحق منهما ناله وفهمه، وقد قال تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [سورة ص آية: 29] والأمر بتدبره والتذكر ليس الجزء: 11 ¦ الصفحة: 494 مخصوصا بالعلماء المجتهدين، بل عام لكل من له فهم يدرك به معنى الكلام. والتقليد المفضي إلى هذا الإعراض عن تدبر الكتاب والسنة، فيه شبه بمن قال الله فيهم: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} [سورة التوبة آية: 31] ، وقوله: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [سورة الشورى آية: 21] . وأهل الاجتهاد من العلماء، وإن كانوا معذورين باجتهادهم، إنما هو في معنى أدلة الكتاب والسنة، وينهون عن تقليدهم؛ فالأئمة رحمهم الله اجتهدوا ونصحوا، قال الإمام الشافعي: إذا جاء الحديث بخلاف قولي، فاضربوا بقولي الحائط، فهو مذهبي. وأما قولكم: الفرق بين الشرك الأكبر والأصغر. فالأصغر: كيسير الرياء، والحلف بغير الله، وقول الرجل: أنا في حسب الله وحسبك، ولولا الله وأنت، وأن يجاهد ويأمر بالمعروف لطلب رياسة أو مال أو وظيفة، كمن يتعلم العلم لوظيفة المسجد، أو يقرأ القرآن ليسأل الناس به، أو يبيع ختمات أو يحج ليأخذ المال، أو يتصدق ليكثر ماله، أو نحو ذلك، وهذا إنما يتبين بالتمثيل والحد، لا بالعد. وأما الشرك الأكبر فهو اتخاذ الأنداد، من أرباب الجزء: 11 ¦ الصفحة: 495 القبور والغائبين، ومخاطبتهم بالحوائج، والذبح لهم، والنذر لهم، واعتقاد أنهم ينفعون ويدفعون، وكاتخاذ الأشجار والأحجار، والأصنام، لجلب الخير، ودفع الضر بها، وغير ذلك؛ وهو كثيرا جدا، وهو أن يرغب إلى شيء، أو يدعوه أو يخافه، أو يرجوه، أو يعكف عند القبر تعظيما له، ونحو ذلك. وأمور الشرك أكبره وأصغره لا تدرك بالعد، لكن الشرك الأكبر يخرج من الملة، ويحبط الأعمال; لأنه أعظم ذنب عصي الله به؛ وهو أظلم الظلم لأن الشرك أخذ حق الله، ووضعه فيمن لا يستحقه. وأما الشرك الأصغر فهو أكبر من الكبائر، " لقول النبي صلى الله عليه وسلم لمن رأى في يده حلقة من صفر، فقال: ما هذه؟ قال: من الواهنة; قال: انزعها. فإنها لا تزيدك إلا وهنا، فإنك لو مت وهي عليك ما أفلحت أبدا " ولا يكفر الشرك أصغره وأكبره، إلا بالتوبة منه قبل الممات؛ والأصغر لا يكفره في الدار الآخرة، إلا كثرة الحسنات; لأن الأصغر لا يحبط إلا العمل الذي وقع فيه خاصة. وأما قولكم في الذهاب إلى المقابر، التي بني عليها القباب، وأوقد فيها المصباح، الجزء: 11 ¦ الصفحة: 496 فالجواب: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن اليهود والنصارى، فقال: " لعنة الله على اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " 1، وقال: " لعن الله زوارات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسرج " 2. وبناء القباب على القبور وإسراجها، وسيلة إلى عبادتها، والخضوع لها، والتذلل والتعظيم، وسؤالها ما لا يقدر عليه إلا الله; وفي الحديث الذي رواه مالك في الموطأ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد. اشتد غضب الله على قوم، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " 3. وأما مسألة: استغاثة الأحياء بالموتى، في طلب الجاه، والسعة للرزق، والأولاد، مثل أن يقول عند القبور: أن تدعو الله في دفع فقرنا، وبسط رزقنا، وكثرة أولادنا، وشفاء مريضنا، لأنكم سلف مستجابو الدعوات عند الله، فالجواب: هذا من الشرك الأكبر، الذي لا يغفره الله، وهذا شرك في الربوبية والإلهية؛ وقد كان شرك المشركين في جاهليتهم، بطلب الشفاعة والقربة. وأما طلب الرزق والأولاد، وشفاء المرضى، فقد أقروا بأن آلهتهم لا تقدر على ذلك، كما قال تعالى: {قُلْ   1 البخاري: الصلاة (436) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (531) , والنسائي: المساجد (703) , وأحمد (1/218 ,6/34 ,6/80 ,6/121 ,6/252 ,6/255 ,6/274) , والدارمي: الصلاة (1403) . 2 الترمذي: الصلاة (320) , والنسائي: الجنائز (2043) , وأبو داود: الجنائز (3236) , وابن ماجه: ما جاء في الجنائز (1575) , وأحمد (1/229 ,1/287 ,1/324 ,1/337) . 3 أحمد (2/246) . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 497 مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} [سورة يونس آية: 31] ، فأقروا لله تعالى أنه الخالق الرازق، المدبر لجميع الأمور. وقال: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} [سورة النمل آية: 62] ، أي: يفعل ذلك، فأقروا لله بذلك، وصار إقرارهم حجة عليهم في اتخاذهم الشفعاء; وقد قال تعالى في فاتحة الكتاب: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [سورة الفاتحة آية: 5] ، أي: لا نعبد إلا إياك، ولا نستعين إلا بك؛ فهو المعبود وحده، وهو المستعان. وقد تقدم، ما يبين أن الدعاء مخ العبادة، لأن الله تعالى نهى عن دعوة غيره، وأخبر أن المدعو لا يستجيب لداعيه، وأنه شرك وضلال، وأنه كفر بالله؛ وقد أوضحنا ذلك في الجواب، في إبطال دعوة المدعي جواز الاستمداد بالأموات 1. ومن قال: إن الميت يسمع ويستجيب، فقد {كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكَافِرِينَ} [سورة الزمر آية: 32] ، وقال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} [سورة الأحقاف آية: 5] ؛ فأخبر تعالى أنه لا أضل   1 صفحة 413 - 429. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 498 ممن يدعو أحدا من دون الله، وأخبر أن المدعو لا يستجيب، وأنه غافل عن الداعي ودعوته، وأنه عدوه يوم القيامة. فأهل التوحيد أعداء أهل الشرك في الدنيا والآخرة، قال الله تعالى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ} [سورة يونس آية: 28-29] ، فأخبر تعالى أن آلهتهم تبرأ منهم بين يدي الله ومن عبادتهم، ويستشهدون الله على أنهم في حال دعوتهم لهم غافلون لا يسمعون ولا يستجيبون. وهذا كتاب الله هو الحاكم بيننا وبين جميع من أشرك بالله، من الأولين والآخرين; وليس فعل أحد من الناس - ولو من يظن أنه عالم- يكون حجة على كتاب الله; بل القرآن هو الحجة على كل أحد؛ فلا تغتروا بقول بعضهم: قال فلان، وفعل فلان. وأما السؤال عن "دلائل الخيرات"، فيكفي عن دراستها ما وردت به السنة، " عن النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن كيفية الصلاة؟ قال: قولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد " 1 إلخ. وقد قال بعض العلماء، لما قيل له: إن الشيخ محمد بن عبد الوهاب أحرق دلائل الخيرات، استحسن ذلك، فقال:   1 البخاري: أحاديث الأنبياء (3370) , ومسلم: الصلاة (406) , والترمذي: الصلاة (483) , والنسائي: السهو (1287 ,1288 ,1289) , وأبو داود: الصلاة (976) , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (904) , وأحمد (4/241 ,4/243 ,4/244) , والدارمي: الصلاة (1342) . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 499 وحرق عمدا للدلائل دفترا ... أصاب ففيها ما يجل عن العد غلو نهى عنه الرسول وفرية ... بلا مرية فاتركه إن كنت تستهدي أحاديث لا تعزى إلى عالم فلا ... تساوي فليسا إن رجعت إلى النقد وأما السؤال عن البردة للبوصيري، والهمزية وأمثالهما في المديح، فالمنكر من ذلك ما كان فيه شرك، كقول صاحب البردة: يا أكرم الخلق مالي من ألوذ به ... سواك ....................... فدعا غير الله، ولاذ به من دون الله; والدعاء مخ العبادة، واللياذ نوع من أنواع العبادة، كالعياذ؛ وقد جاء النبي صلى الله عليه وسلم بتغيير ما كان عليه أهل الجاهلية، من الاستعاذة بالجن إذا هبطوا واديا، يقولون: نعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه، كما قال تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْأِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً} [سورة الجن آية: 6] أي طغيانا. فشرع النبي صلى الله عليه وسلم لأمته قصر الاستعاذة على الله وأسمائه وصفاته، فقال في حديث خولة بنت حكيم، وهو في الصحيح: " من نزل منْزلا فقال: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، لم يضره شيء حتى يرحل من منْزله ذلك " 1. وكذلك قول صاحب البردة:   1 مسلم: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2708) , والترمذي: الدعوات (3437) , وابن ماجه: الطب (3547) , وأحمد (6/377 ,6/378 ,6/409) , والدارمي: الاستئذان (2680) . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 500 إن لم تكن في معادي آخذا بيدي ... فضلا وإلا فقل يا زلة القدم وقوله: فإن من جودك الدنيا وضرتها ومن علومك علم اللوح والقلم فكل هذا شرك محرم بالكتاب والسنة، فما كان من جنس ذلك، وجب إنكاره، والنهي عنه، وتغييره بطمسه؛ وهذا يتبين بما تقدم من الآيات المحكمات في النهي عن دعوة غير الله، والرغبة إليه، والتوكل عليه، ورجائه. وأما الإجماع، فقد حكاه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، فقال: من جعل بينه وبين الله وسائط، يدعوهم ويسألهم، ويتوكل عليهم، كفر إجماعا. وأما البدعة المنهي عنها، فكل ما حدث بعد النبي وأصحابه، ولا دل عليه قول من النبي صلى الله عليه وسلم ولا فعل، وكذلك أصحابه، الذين هم أحرص الأمة على فعل الخير، فكل ما حدث بعدهم في العبادات، وغيرها من أمور الدين، فهو بدعة، لقول النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه في خطبته: " وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة " 1. وبسط القول في هذا يستدعي كتابا ضخما، لكن في أصول الأدلة، ما يكفي المسافر إلى الله على صراطه المستقيم; وكل ما لم يفعله أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مما حدث بعدهم، فالجواب أن يقال: لو كان خيرا لسبقونا إليه.   1 أبو داود: السنة (4607) , والدارمي: المقدمة (95) . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 501 وأما السؤال: عن السفر إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى " 1. فالنهي عن شد الرحال إلى غير الثلاثة لفظ عام، يتناول المساجد وغيرها؛ وفحوى الخطاب يدل عليه; لأن غير المساجد من باب أولى. ولكن إذا نوى الإنسان السفر إلى مسجده، حصلت زيارة القبر الشريف تبعا؛ فإنه إذا وصل إلى المسجد، سلم على النبي صلى الله عليه وسلم من قرب، فيكون قد أخذ بعموم الحديث، وحصلت له الزيارة، من غير أن يخصها لشد الرحال المنهي عنها. وأما السؤال عن الرسوم، والعادات التي شاعت وذاعت في الأعاجم، سيما في مشائخهم، إذا مرض أحدهم يخفون ويحيطون، فيقرؤون شيئا من الآيات بحساب وأعداد معلومات، فإذا انتهت قالوا: يا قاضي الحاجات، ويا كاشف الكربات، ثم يأتون بالأطعمة النفيسة، فيأكلونها بأجمعهم؟ فالجواب: أن الذي وردت به السنة، دعاء العائد له وحده، من غير تكلف ولا اجتماع; فإن شاء رقاه بما وردت به السنة، كما قال "عبد الله بن مسعود رضي الله عنه   1 البخاري: الجمعة (1189) , ومسلم: الحج (1397) , والنسائي: المساجد (700) , وأبو داود: المناسك (2033) , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1409) , وأحمد (2/238) , والدارمي: الصلاة (1421) . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 502 لزوجته، لما نخستها عينها: إنما يكفيك أن تقولي: أذهب الباس رب الناس، واشف أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاء لا يغادر سقما"؛ هذا جنس المشروع. وأما على هذه الكيفية التي ذكرها السائل، فبدعة تجري مجرى ما ذكره الله تعالى، ردا على من ابتدع في دينه، فقال: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [سورة الشورى آية: 21] . وأما ما ذكره السائل: من أنه إذا مات أحدهم، يتصدقون أقاربه وعشائره، ويذبحون الذبائح، ويطبخون الطعام، ويفرشون الحرير، ويدعون الناس كلهم، الغني والفقير. فليس هذا من دين الإسلام، بل هو بدعة وضلالة، ما أنزل الله بها من سلطان؛ وهذا من جنس ما أحدثه اليهود والنصارى من التغيير والتبديل في شريعتهم، خالفوا به ما جاءت به أنبياؤهم؛ فيجب اجتناب ذلك المأتم، وما في معناه. وأما ما سألت عنه: من شد الرحال إلى مكانات مشرفة للأنبياء والأولياء هل هو ممنوع ومحذور، أم لا؟ فالجواب: لا ريب أن هذا مما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي تقدم، وهو قوله: " لا تشد الرحال إلا إلى الجزء: 11 ¦ الصفحة: 503 ثلاثة مساجد ". فإذا كان تبركا للمحل المزور، فهو من الشرك، لأنهم قصدوا بذلك تعظيم المزور، كقصد النبي صلى الله عليه وسلم أو الولي، لتعود بركته عليهم بزعمهم؛ وهذه حال عباد الأصنام سواء، كما فعله المشركون، باللات والعزى ومناة، فإنهم يقصدونها لحصول البركة بزيارتهم لها، وإتيانهم إليها. وفي الحديث الذي رواه الترمذي، عن أبي واقد الليثي، قال: " خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين ونحن حدثاء عهد بكفر، وللمشركين سدرة يعكفون عندها وينوطون بها أسلحتهم، يقال لها ذات أنواط. فمررنا بسدرة، فقلنا: يا رسول الله: اجعل لنا ذات أنواط، كما لهم ذات أنواط. فقال النبي صلى الله عليه وسلم الله أكبر! إنها السنن، قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [سورة الأعراف آية: 138] ، لتركبن سنن من كان قبلكم ". فجعل التبرك بالأشجار، مثل قول بني إسرائيل لموسى: اجعل لنا إلها؛ وهذا هو جنس عبادة الأشجار والأحجار. وأما قول بعضهم: إن أمور التعظيمات خصصه الله تعالى للذات، وسماه بالعبادة، كالسجود، والركوع، والقيام كقيام الصلاة، والتصدق بالصدقات، والصيام الجزء: 11 ¦ الصفحة: 504 باسمه، وقصد السفر إلى بيته من المكانات البعيدات، فهذا من وحي الشيطان وزخرفته، التي ألقاها على ألسن المشركين، فجمع لهم الشرك، وتعظيمه والغلو فيه، والبدع والضلالات، وكل هذا باطل ما أنزل الله به من سلطان {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} [سورة النجم آية: 23] . وأما سؤاله: عن رجل بنى في جوار قبر صالح، لإفاضة الفيوضات عليه، وإصابة البركات، ورجل جلس مرابطة على قبر صالح، فالجواب: من أخبر هذا المغرور، أن بركة هذا المدفون تفيض عليه؟! وهذا من جنس ما قبله مما زين الشيطان، وأجراه على ألسن المغرورين المفتونين الذين أعرضوا عن كتاب الله، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ولما " قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: ما شاء الله وشئت; قال: أجعلتني لله ندا؟ قل: ما شاء الله وحده " 1. وقال: " اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد. اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ". وقد صان الله قبر نبيه صلى الله عليه وسلم بأن صار قبره في حجرته، حذرا من هذه الأمور التي نهى عنها، قالت عائشة: "ولولا ذلك لأبرز قبره، غير أنه خشي أن يتخذ مسجدا" وقال صلى الله عليه وسلم: " إياكم والغلو! فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو" 2.   1 أحمد (1/283) . 2 النسائي: مناسك الحج (3057) . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 505 والضابط: أن ما كان يفعل مع الميت، من رفع الأصوات على جنازته، والتبرك به وبتربته، والنذر له، وغير ذلك من الشرك، كالذبائح والنذور التي يقصد بها الميت، حرام، وهي مما أهل به لغير الله، كما صرح به القرآن، قال الله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [سورة المائدة آية: 3] . وقد تضمنت هذه الأفعال التي ذكرت، الشرك والبدع، والغلو في الدين، وخالف أهلها، وصادموا ما بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه، من إخلاص العبادة بجميع أنواعها لله تعالى، وتوجيه الوجه والقلب إلى الله تعالى، بجميع الإرادات الشرعية، والأحوال الدينية. وقد أبطل الله في كتابه التعلق على غيره، كائنا من كان، قال الله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سورة الحج آية: 62] ، وقال تعالى: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ} [سورة يونس آية: 106] . وقال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُ وَمَا لا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 506 يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ} [سورة الحج آية: 11-13] ، وقال تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} [سورة المائدة آية: 72] الآية، وقال تعالى: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [سورة الحج آية: 31] ، وقال تعالى: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [سورة النحل آية: 17] إلى قوله: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [سورة النحل آية: 20-21] . إذا عرفت ذلك وما في معناه، من الآيات المحكمات، فهذه الشبهات التي اعتمدها كثير من جهلة المشركين كلها باطلة، تصادم كتاب الله وسنة رسوله; وأول من زخرف هذه الشبهات، وزين للجهال التعلق على الأموات: زنادقة الفلاسفة الكفار، الدعاة إلى الخلود في عذاب النار، كابن سينا، والفارابي، فإنهم أدخلوا على كثير ممن ينتسب إلى العلم كثيرا من الفلسفة، وزخرفوا هذه الشبهات، التي صارت في أيدي المشركين، وحاولوا بها إبطال ما في الكتاب والسنة، من توحيد المرسلين، وخالص حق رب العالمين، فإن حق الله على العباد: أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا. فمن التفت إلى الأموات، يستمد منهم نفعا، وتبركا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 507 بهم، فقد اتخذهم أربابا من دون الله، قال الله تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [سورة آل عمران آية: 79-80] . وقد أخبر تعالى عن عيسى بن مريم، أنه قال: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي} [سورة المائدة آية: 117] الآية؛ وفي الآية دليل على أن من مات فلا اطلاع له على الأحياء، ولا علم له بهم، فكيف يدعو من لا يعلم حاله، ولا يدري ما يفعله وما يقوله؟ وقد تقدم في الآيات المحكمات ما يدل على ذلك، وأن المدعو لا يسمع ولا يستجيب; فما هذه التعلقات الشركية التي هي أضل الضلال، وأمحل المحال، إلا من وحي الشياطين، وزخرفة أعداء المرسلين، كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} [سورة الأنعام آية: 112] . وكل هذه التعلقات على الأموات والغائبين، هي أعمال الشرك من المشركين، قديما وحديثا؛ وهو شرك قوم الجزء: 11 ¦ الصفحة: 508 نوح لما صوروا الأصنام على صور صالحيهم، قال من بعدهم: ما عظم أولنا هؤلاء إلا وهم يرجون شفاعتهم، فعبدوهم; أي: بطلب الشفاعة منهم، واستمداد البركة بهم؛ وهذا هو شرك العالم، وهم في آخر هذه الأمة أشد وأعظم، فاستمسك بأدلة القرآن، وسبيل أهل الإيمان. وقد عرفت أن عبادة الأشجار والقبور والأحجار، بدعائهم لها باستمداد البركة منها في زعمهم، أنه أبطل الباطل، وأمحل المحال، كما دل عليه الكتاب والسنة؛ وهذا الجواب يكفيك عما تقدم، من السؤالات، فكل ما كان يفعل عند القبور من التعظيم لها ولأربابها، وقصدها، والتبرك بها، والدعاء عندها، أو لها، كل هذا شرك وضلال. فتأمل قوله عن خليله عليه السلام: {يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [سورة الأنعام آية: 78-79] ، والحنيف هو: المقبل على الله، المعرض عن كل ما سواه. فهذه الأدلة التي ذكرنا، تبطل كل ما تعلق به المشركون، مما كانوا يفعلونه مع العزى ومناة؛ ومن ادعى جواز شيء من ذلك، أو أنه يحتمل الجواز، فيطالب بالدليل من كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم على أن هذا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 509 جائز. ولا يخفى أنه ينافي الإخلاص، لما فيه من الإقبال على غير الله، والرغبة إليه، وجلب النفع والدفع منه، وكل هذا مردود بالآيات المحكمات، والأحاديث الصحيحة، كما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح، أنه قال: " لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله" 1. وكل ما كان يفعل هؤلاء مع الأموات، فليس فيه مستحب، ولا مباح، إلا زيارة القبور من غير شد رحل، لتذكر الآخرة، والاستعداد لما بعد الموت، من الإخلاص والعمل المشروع، من غير تحر لإجابة الدعاء عندها، والصلاة إليها، ولو كانت لله؛ فهذا محرم سدا لذريعة الشرك، وحماية لجناب التوحيد. وأما قولهم في عصمة الأنبياء، فالذي عليه المحققون: أنه قد تقع منهم الصغائر، لكن لا يقرون عليها، وأما الكبائر فلا تقع منهم؛ وكل ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مما ثبت عنه فهو حق، كما قال تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [سورة النجم آية: 3-4] ، كذلك تقريراته حق. وأما قول أبي الوفاء ابن عقيل رحمه الله، فهو حق، وأعظمه خطاب الموتى بالحوائج، وكتب الرقاع، فيها: يا مولاي افعل كذا وكذا، وأخذ تربتها والتبرك بها، فهذا   1 البخاري: أحاديث الأنبياء (3445) , وأحمد (1/23 ,1/24 ,1/47 ,1/55) . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 510 الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله؛ وقد كتبنا الأدلة على الذي يقول بالإمداد من الموتى، فطالعه، وفيه ما يكفي، ويميز الحق من الباطل. وأما ما ذكره ابن عقيل رحمه الله، من إفاضة الطيب على القبور وشد الرحال إليها، فهو من إفراطهم وغلوهم في الآلهة التي يعبدونها من دون الله؛ وكلامه عندنا مسلّم; لأنه اشتمل على إنكار الشرك، من التعلق بالأموات، واعتقاد أن لهم قدرة على قضاء الحاجات، وتفريج الكربات، ويخاطبونهم بذلك من قريب وبعيد، لاعتقادهم أن لهم تصرفات، وأنهم يعلمون الغيب، وأن لهم قدرة على ما أرادوا. والقرآن كله من أوله إلى آخره، ينكر ذلك عليهم، ويبين أنه شرك وكفر وضلال، ودليله من الكتاب والسنة، وإجماع أهل السنة والجماعة، مذكور، في الرد على صاحب الاستمداد 1، وأما قول الأئمة الأربعة فذلك مذكور في مذاهبهم، في باب حكم المرتد، في كل مذهب. وأما الرسالة التي أرسلتموها إلينا، فالجواب عليها يصل إليكم، إن شاء الله تعالى، ويظهر بطلانها، بالتمسك بالآيات المحكمات، والوقوف عندها؛ ويكفي في ردها: ما في سورة الفاتحة، في قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [سورة الفاتحة آية: 5] من قصر العبادة، والاستعانة على الله دون كل ما سواه؛ فإن غالط،   1 انظر صفحة 413 , وما بعدها. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 511 فأدلة النهي عن دعوة غير الله وأنها شرك وكفر تكفي المتمسك بها. وذكرنا من الأدلة ما فيه كفاية، ولو تتبعنا ما في كتاب الله وسنة رسوله، من دلائل التوحيد، وكلام السلف والخلف من أهل السنة، لاحتمل مجلدا ضخما أو مجلدات. [رسالة الشيخ عبد الرحمن بن حسن في اطلاعه على أشياء في كتب عثمان بن منصور بعد وفاته] وقال أيضا الشيخ: عبد الرحمن بن حسن، بوأه الله منازل الصديقين: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فإنا قد اطلعنا على أشياء وجدناها في كتب عثمان بن منصور بعد وفاته. فمن ذلك: منظومة أنشأها في مدح داود بن جرجيس، وتعظيمه بما تصدى له من الرد على المسلمين الموحدين، فاتفقا على تأييد الشرك ونصرته، والإنكار على من دعا إلى توحيد الله بالعبادة، الذي دلت عليه الآيات المحكمات، والأحاديث الصحيحة، واعتقدا إسلام عبدة الأوثان، الذين بنوا المساجد والمشاهد على القبور، وعبدوها بأنواع العبادة، فزعما وغيرهما من الدعاة إلى الشرك أن هذا الشرك لا يخرج من فعله عن ملة الإسلام. ووجدنا في كتبه ردا على شيخنا رحمه الله، لما استدل على تحريم موادة المشركين، بقوله تعالى: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [سورة المجادلة آية: 22] . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 512 فقال في رده: من هم هؤلاء الذين تقول إن موادتهم تحرم؟ يعني أنه لا وجود لهم، وأن الأمة ليس فيها من تحرم موادته، وشنع على شيخنا في دعوته الناس إلى أن يعبدوا الله وحده، ويتركوا عبادة ما سواه، فبنى أمره على هذا الأصل الفاسد. وكلام هؤلاء يدور على أن هذا الشرك الذي وقع في الأمة، إما جائز، أو مستحب، ومن طالبهم بتركه فقد أخطأ وشق عليهم، وعرضهم لما يكرهونه. وزعم أن شيخنا رحمه الله تعالى شق على الناس فيما نهاهم عنه من الشرك، وأمرهم به من إخلاص العبادة لله وحده لا شريك له، وعرضهم لحرب الدول; وذكر هذا في رده الذي وجدناه بعد وفاته بخطه في بريدة، أتى فيه من السب والشتم، والكذب والزور على شيخنا، ما يطول عده، ولا تنبغي حكايته. وزعم في رده هذا أنه اجتمع بعبد الله بن سليمان في المدينة المنورة، فاستشاره هل يقدم على المسلمين بنجد أم لا؟ فأشار إليه المذكور أن لا يقدم عليهم، في زعمه أنه أنكر هذه الدعوة، وعد هذا من حججه الواهية؛ وعبد الله بن سليمان هذا قدم نجدا، وقرأ على شيخنا شيخ الإسلام في الاقتضاء، وصار يكتب لأولاده لا يبرح عندهم يكتب الرسائل والكتب؛ فإن كان ما أشار به عليه نصيحة فإنه لم ينصح نفسه بها. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 513 فقبل عنه بزعمه ما أشار به عليه، فقصد الزبير، والبصرة، فود بالزبير محمد بن سلوم، وابن جديد، وكانا من أهل نجد، فتركاها كراهية لهذه الدعوة، وعداوة لمن دعا إلى التوحيد، ووجد بالبصرة ابن سند، وهو أشد منهما عداوة لكل موحد، وحبا لكل ملحد، فتلقى عن هؤلاء الثلاثة هذه البلوى، التي ابتلي بها من عداوة شيخنا ومن استجاب له. ثم بعد ذلك خرج إلى نجد، فصار يبدر منه ما يدل على انحرافه عن التوحيد، من ذكر أحاديث الخوارج، في زعمه أنهم كفروا من يفعل هذه الأمور الشركية، والخوارج إنما كفّروا بالمعاصي، وهذا كفّر من يقول: اعبدوا ربكم، وأفردوه بالعبادة، واتركوا عبادة ما تعبدونه من دونه، من قبر أو مشهد، أو طاغوت أو شجر أو حجر؛ والنهي عن هذا الشرك، والدعوة إلى التوحيد، هو الذي بالغ في إنكاره على شيخنا رحمه الله. وهذا الذي أنكره، هو الذي دعت إلى إنكاره وتركه والبراءة منه الرسل، من أولهم إلى آخرهم، ودعا إليه النبي صلى الله عليه وسلم كما قال أبو سفيان لهرقل لما سأله عما يأمرهم به النبي صلى الله عليه وسلم قال: يقول: " اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، واتركوا ما يقول آباؤكم " 1. والنبي صلى الله عليه وسلم ينادي بهذه الدعوة، وناله ومن استجاب له من قريش، الأذى العظيم، عند إخلاص العبادة لله،   1 البخاري: بدء الوحي (7) . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 514 والدعوة إلى ذلك، وإنكار الشرك في العبادة. وقد أخبر الله عنهم أنهم قالوا: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [سورة ص آية: 5] ، وقال تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} [سورة الصافات آية: 35-36] ، فاستكبروا عن هذه الكلمة، لعلمهم أنها تتضمن ترك عبادة ما كانوا يعبدونه من دون الله. وهذا هو الشرك الذي نهاهم عنه، من عبادة اللات والعزى، ومناة، وغيرها من الأصنام، وكانوا يعبدون الملائكة والصالحين، كما دلت عليه الآيات المحكمات، وليس معهم من الحجة إلا ما ذكر الله عنهم بقوله: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا} [سورة الزخرف آية: 22] الآية، وقول فرعون: {فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى} [سورة طه آية: 51] . فسلك هؤلاء الذين أنكروا على شيخنا التوحيد، مسلك أولئك المشركين، من كفار قريش وغيرهم، سواء بسواء. وسلك من دعا إلى التوحيد، ونفي الشرك، مسلك من اتبع النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الدين، من السابقين الأولين. والآيات في بيان التوحيد، وما ينافيه من الشرك والتنديد، أكثر من أن تحصى، ولا يقدر مبطل أن يعارض آية منها؛ والقرآن كله من أوله إلى آخره، يدل على هذا التوحيد، الجزء: 11 ¦ الصفحة: 515 ونفي الشرك، مطابقة وتضمنا، والتزاما. وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في ابتداء دعوته أنه لم يتبعه إلا أبو بكر وبلال، كما في حديث عمرو بن عبسة، لما اجتمع به بمكة، وأخبره بما بعثه الله به من التوحيد، قال: فمن معك؟ قال: "حر وعبد". وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الإسلام يعود غريبا كما بدأ، وقال: " طوبى للغرباء الذين يصلحون إذا فسد الناس " 1، وفي رواية: " الذين يصلحون ما أفسد الناس " 2 وأخبر أنهم النّزاع من القبائل، وأن من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم. وكل هذا الذي أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم وقع بعد القرون المفضلة، لما حدثت بدعة الجهمية، وظهرت في آخر القرون الثلاثة، وكفرهم من العلماء نحو من خمسمائة أو أكثر؛ لأنهم جحدوا ما وصف الله به نفسه، أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم من صفات الكمال، ونعوت الجلال، على ما يليق بالله تعالى؛ فلم يفهموا من صفات الله، إلا مثل ما يعرفونه من صفات المخلوقين، فشبهوا أولا، وعطلوا ثانيا، فهذا إلحاد منهم في التوحيد العلمي الاعتقادي. وأما الإلحاد في التوحيد العملي، توحيد القصد والطلب، فذلك وقع لما صار لبني بويه الديلمي في المشرق دولة، فأظهروا الغلو في أهل البيت، وبنوا المشهد بزعمهم أنه على قبر أمير المؤمنين علي رضي الله عنه، وبنوا   1 أحمد (4/73) . 2 الترمذي: الإيمان (2630) . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 516 على قبر الحسين وغيره من قبور أهل البيت. وبالغوا في الغلو، وزخرفة البناء على قبورهم، وعبدوهم بأنواع العبادة، واستجلبوا غيرهم لعبادتهم، وتبعهم على ذلك أهل مصر، بنو عبيد القداح، وزعموا أنهم وجدوا رأس الحسن بعسقلان، فدفنوه بالقاهرة، وبنوا عليه مسجدا عظيما. قال شيخ الإسلام: فلما كان بعد زمن البخاري من عهد بني بويه الديلمي، فشا في الرافضة التجهم، وأكثر أصول المعتزلة، وظهرت القرامطة ظهورا كثيرا، وجرت حوادث عظيمة، وعبدت الأموات في هذا المصر وغيره، حتى ادعوا فيهم التصرف في الكون من دون الله تعالى؛ فما زال هذا الشرك يزداد حتى ملأ الأرض قاصيها ودانيها، وما زال الغرباء ينكرونه، لكنهم أقل القليل لا يسمع لهم، ولا يطاع. وقد قال صلى الله عليه وسلم: " خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم. ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف، يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون؛ فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن. وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل " 1. وفي حديث ثوبان الذي رواه مسلم، وأبو داود وغيرهما: "وإنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين، ولا تقوم الساعة حتى يلحق قبائل من أمتي بالمشركين، وحتى يعبد فئام   1 مسلم: الإيمان (50) , وأحمد (1/458 ,1/461) . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 517 من أمتي الأوثان. وإنه سيكون في أمتي كذابون ثلاثون، كلهم يزعم أنه نبي، وأنا خاتم النبيين لا نبي بعدي. ولا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة، لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله تبارك وتعالى " 1. وفي الحديث الصحيح الذي جاء من طرق يشد بعضها بعضا، كما قاله العماد بن كثير في تفسيره، وأخرجه الإمام أحمد وأبو داود، والترمذي، وغيرهم، عن عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ليأتين على أمتي كما أتى على بني إسرائيل، حذو النعل بالنعل، حتى إن كان فيهم من أتى أمه علانية لكان في أمتي من يصنع ذلك. وإن بني إسرائيل تفرقت على ثنتين وسبعين ملة، وتفرقت أمتي على ثلاث وسبعين ملة، كلهم في النار إلا ملة واحدة. قالوا: ومن هي يا رسول الله؟ قال: ما أنا عليه اليوم وأصحابي " 2. وفي رواية أحمد، وأبي داود: " ثنتان وسبعون في النار، وواحدة في الجنة، وهي الجماعة. وإنه سيخرج في أمتي قوم تتجارى بهم تلك الأهواء، كما يتجارى الكلب بصاحبه، لا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله " 3. وعن أبي الدرداء، قال: " كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فشخص ببصره إلى السماء، فقال: هذا أوان يختلس فيه العلم من الناس، حتى لا يقدروا منه على شيء " 4 رواه الترمذي.   1 الترمذي: الفتن (2229) , وأبو داود: الفتن والملاحم (4252) , وابن ماجه: الفتن (3952) , وأحمد (5/278 ,5/284) , والدارمي: المقدمة (209) . 2 الترمذي: الإيمان (2641) . 3 أبو داود: السنة (4597) , وأحمد (4/102) . 4 الترمذي: العلم (2653) , والدارمي: المقدمة (288) . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 518 ومن المعلوم: أن العلم في الكتاب والسنة، اختلس بالإعراض عن الآيات المحكمات، واتباع الأهواء والشبهات، فوقع ما أخبر به الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم؛ وهو علم من أعلام النبوة. ولا يشك في وقوع ما أخبر به في هذه الأمة، إلا منكوس القلب من أعداء الرسل، نسأل الله العفو والعافية، وكيف ينكر ما هو موجود في العيان، مسموع بالآذان؟ ولا يجحد كونه هو الشرك الأكبر، إلا من استحوذ عليه الشيطان. نسأل الله لنا ولإخواننا المسلمين معرفة الحق وقبوله، ومعرفة الباطل وإنكاره، والثبات على الإيمان. قال شيخ الإسلام، رحمه الله: وقد غلط في مسمى التوحيد طوائف من أهل النظر والكلام، ومن أهل الإرادة والعبادة، حتى قلبوا حقيقته ... إلى آخره. وذكر في كتابه "العقل والنقل": أن أهل الكلام غلطوا في معنى لا إله إلا الله، وظنوا أن معناها: القادر على الاختراع، وهذا من توحيد الربوبية؛ وإنما مدلولها توحيد الإلهية، وهو صرف العبادة لله وحده؛ وهذا الذي ظنوه معنى لا إله إلا الله، قد أقر به مشركو العرب وغيرهم، ولم يجحدوه. وأما الذي جحدوا فهو توحيد الإلهية وهي العبادة، فأبوا أن يخلصوا العبادة لله وحده، وأن يتركوا عبادة ما سواه الجزء: 11 ¦ الصفحة: 519 من الأصنام والأوثان، كما تقدم ذلك من قول كفار قريش: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً} [سورة ص آية: 5] ، وقال عن قوم هود، لما قال: اعبدوا الله: {أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} [سورة الأعراف آية: 70] ، وهذا صريح في أنهم إنما جحدوا توحيد العبادة. واما القدرة على الاختراع، فلم يجحدوه، بل أقروا به لله وحده، كما تقدم، كما دلت على ذلك الآيات المحكمات، كقوله تعالى: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [سورة المؤمنون آية: 84] إلى قوله: {فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} [سورة المؤمنون آية: 89] ؛ وأمثال هذه الآيات كثيرة في القرآن. وبسبب هذا الغلط وقع في الشرك من وقع، كأبي معشر البلخي، والفخر الرازي، ومحمد بن النعمان الشيعي، وثابت بن قرة وغيرهم؛ وبهذا الجهل اشتدت غربة الإسلام، وعاد المعروف منكرا، والمنكر معروفا، والسنة بدعة، والبدعة سنة؛ نشأ على هذا الصغير، وهرم عليه الكبير، وفيه يقول الشاطبي: وهذا زمان الصبر من لك بالتي كقبض على جمر فتنجو من البلا قال العماد بن كثير، في قول الله تعالى: {قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [سورة إبراهيم آية: 10] ، يخبر تعالى عما دار بين الكفار وبين رسلهم من المجادلة، وذلك أن أممهم لما واجهوهم بالشك فيما جاؤوهم الجزء: 11 ¦ الصفحة: 520 به، من عبادة الله وحده لا شريك له، قالت الرسل: {أَفِي اللَّهِ شَكٌّ} . وهذا يحتمل شيئين: أحدهما: أفي وجوده شك؟ فإن الفطر شاهدة بوجوده، مجبولة على الإقرار به؛ فإن الاعتراف ضروري في الفطر السليمة، ولكن قد يعرض لبعضها شك واضطراب، فيحتاج إلى النظر في الدليل الموصل إلى وجوده، ولهذا قالت لهم الرسل ترشدهم إلى طريق معرفته: فإنه فاطر السماوات والأرض الذي خلقهما وأبدعهما على غير مثال سبق، فإن شواهد الحدث والخلق، والتسخير، ظاهر عليها، فلا بد لها من صانع، وهو الله لا إله إلا هو خالق كل شيء، وإلهه ومليكه. والمعنى الثاني، في قولهم: {أَفِي اللَّهِ شَكٌّ} : أفي إلهيته شك؟ وتفرده بوجوب العبادة له شك؟ وهو الخالق لجميع الموجودات، فلا يستحق العبادة إلا هو وحده لا شريك له; فإن غالب الأمم كانت مقرة بالصانع، ولكن تعبد معه غيره من الوسائط، التي يظنونها تنفعهم، أو تقربهم إلى الله زلفى. انتهى كلامه رحمه الله تعالى. وهذا الإمام هو من بقايا أهل السنة; وكلام العلماء فيما حدث من الشرك، ومن أنكره كثير. وقد ذكرنا في غير هذا الجواب كلام أبي الوفاء بن الجزء: 11 ¦ الصفحة: 521 عقيل، وابن أبي شامة، وابن وضاح، وصنع الله الحلبي، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم، والحافظ بن عبد الهادي، وابن رجب وغيرهم ممن لا يحصى؛ ومنهم من ابتلي عند إنكاره هذا الأمر، الذي وقع من الشرك والبدع، كشيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم، والمقصود: بيان أن ما أخبر به النبي من حدوث الشرك في الأمة، واتباع أهل الكتاب من اليهود والنصارى، فيما غيروا وبدلوا، وافتراق الأمة إلى ثلاث وسبعين، كل هذا وقع; ومن جهل عثمان أنه اعترض على شيخنا، رحمه الله تعالى، وأنكر قوله في كتاب التوحيد، على قوله صلى الله عليه وسلم: " من قال لا إله إلا الله" 1 إلى آخره. قال شيخنا: فإنه لم يجعل التلفظ بها عاصما للدم والمال، بل ولا معرفة معناها مع لفظها، بل ولا الإقرار بذلك، بل ولا كونه لا يدعو إلا الله وحده لا شريك له; بل لا يحرم ماله ودمه، حتى يضيف إلى ذلك الكفر بما يعبد من دون الله، فإن شك أو تردد لم يحرم ماله ودمه؛ قال هذا المخذول الضال: واغوثاه من هذا الكلام. قلت: وهذا الذي ذكره شيخنا هو معنى لا إله إلا الله مطابقة، وهو معنى قوله تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى}   1 مسلم: الإيمان (23) , وأحمد (3/472 ,6/394) . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 522 [سورة البقرة آية: 256] . وهذا لا يشك فيه مسلم - بحمد الله -، ومن شك فيه فلم يكفر بالطاغوت؛ وكفى بهذا حجة على المعترض، وبيانا لجهله بالتوحيد، الذي هو أصل دين الإسلام وأساسه. فرحم الله محمد بن شهاب الزهري، حيث يقول لعبد الملك بن مروان، لما ذكر العلماء في الأمصار، قال: إنما هو دين، من حفظه ساد، ومن ضيعه سقط. فلقد ساد شيخنا بهذا التوحيد، وبيانه والدعوة إليه. وهذا يبين حال هذا الرجل: أنه لم يعرف لا إله إلا الله؛ ولو عرف معنى لا إله إلا الله، لعرف أن من شك أو تردد في كفر من أشرك مع الله غيره، أنه لم يكفر بالطاغوت. وقد تقدم له من نصرة الشرك وتأييد من نصره، ما يدل على أنه لم يتبين له معنى كلمة الإخلاص، وما دلت عليه من التوحيد، وما نفته من الشرك؛ وهذا ظاهر من قوله: لا يخفى على من له بصيرة في دينه؛ فظهر من حاله فيما وضعه وكتبه أنه يؤيد الشرك، ويوالي أهله، وينكر التوحيد ويعادي أهله؛ وهذا حقيقة ما وجدناه في كتبه بخطوطه، والله أعلم بما آل أمره في آخر حياته، هل راجع الله أم لا. وأما شيخنا رحمه الله، فقد أقر له بالفضل كل من بلغته دعوته إلى التوحيد، من قريب أو بعيد، وقد خصه الجزء: 11 ¦ الصفحة: 523 الله تعالى بمعارضة أهل البدع في بدعتهم، وأهل الشرك في شركهم، وأهل الأهواء في أهوائهم. وألف في دحض أقوالهم، وتزييف أمثالهم، وأجاب عن شبههم الشيطانية، ومعارضتهم النفسانية للشريعة الحنيفية المحمدية، بما منحه الله تعالى من البصائر الرحمانية، والدلائل النقلية، حتى انكشف قناع الحق، وبان - بما جمعه في ذلك وألفه - الكذب من الصدق، حتى لو أن أصحابها أحياء، ووفقوا لغير الشقاء، لأذعنوا له بالتصديق، ودخلوا في الدين العتيق. ولقد وجب على كل من وقف عليها، وفهم ما لديها، أن يحمد الله على حسن توفيقه هذا الإمام، بنصرة الحق بالبراهين الواضحة العظام; ومن أراد اختبار صحة ما قلته، فلينظر بعين الإنصاف العري من الحسد والانحراف، لكن عدم التوفيق وغلبة الهوى، أوقع من أوقع في الضلال {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [سورة النور آية: 40] . وقد حصل في دعوته مشابهة لما جرى لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم وإخوانه من المرسلين، من العز والظهور والتمكين، كما قال شيخ الإسلام رحمه الله: ويستدل بتخصيص الأنبياء، وأتباعهم بالنصر وحسن العاقبة، وتخصيص مكذبيهم بالخزي، وسوء العاقبة، على أنه يأمر ويحب ويرضى ما جاءت به الرسل، ويكره، ويسخط ما كان الجزء: 11 ¦ الصفحة: 524 عليه مكذبوهم; لأن تخصيص أحد النوعين بالإكرام والنجاة، والذكر الحسن والدعاء، وتخصيص الآخر بالعذاب والهلاك، وقبح الذكر، واللعنة، يستلزم محبة ما يفعله الصنف الأول، وبغض ما فعله الصنف الثاني، انتهى. وقد جرى مثل هذا في هذه الدعوة - بحمد الله -، وهو أظهر الأدلة على صحة هذه الدعوة، وأنها هي الحق، كما دلت عليه الآيات المحكمات، والبراهين الواضحات، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ} [سورة البقرة آية: 99] . وقال شيخنا أبو بكر، حسين بن غنام رحمه الله، فيه: لقد رفع المولى به رتبة الهدى ... بوقت به يعلو الضلال ويرفع سقاه نمير الفهم مولاه فارتوى ... وعام بتيار المعارف يقطع فأحيا به التوحيد بعد اندراسه ... وأوهى به من مطلع الشرك مهيع سما ذروة المجد التي ما ارتقى لها ... سواه ولا حاذى فناها سميدع وشمر في منهاج سنة أحمد ... يؤيد ويحمي ما تعفى ويرقع يناظر بالآيات والسنة التي ... أمرنا إليها في التنازع نرجع فآثاره فيها سوام سوافر ... وأنواره فيها تضيء وتلمع فلقد أظهر الله دعوته، ونشرها على كثرة من خالفه في الدين، وناوأه، وأقر عينه بهلاك من تصدى لحربه، الجزء: 11 ¦ الصفحة: 525 وعاداه؛ فلله الحمد لا نحصي ثناء عليه أن جعل هذا الشيخ إماما للدين يعرف الناس به، ويدعوهم إليه، ويجاهدهم عليه، و {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [سورة الحديد آية: 21] . وقد ابتلي رحمه الله في دعوته، بجهلة المنتسبين إلى العلم، لمخالفة ما نشؤوا عليه، واعتقدوه، من الشرك بأرباب القبور، والطواغيت وغيرهم، فإن حالهم وحال أسلافهم، ما ذكره العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى عن جنس هؤلاء. فقال: وما زال الشيطان يوحي إلى عباد القبور، ويلقي إليهم أن البناء والعكوف عليها، من محبة أصحابها من الأنبياء والصالحين، وأن الدعاء عندها مستجاب; ثم ينقلهم من هذه المرتبة إلى الدعاء به، والإقسام على الله به; فإن شأن الله أعظم من أن يقسم عليه، أو يسأل بأحد من خلقه. وإذا تقرر ذلك عندهم، نقلهم إلى دعائه، وعبادته وسؤاله الشفاعة من الله، واتخاذ قبره وثنا، تعلق عليه الستور والقناديل، ويطاف به ويستلم، ويحج إليه; فإذا تقرر ذلك عندهم، نقلهم إلى دعاء الناس إلى عبادته، واتخاذه عيدا ومنسكا، ورأوا أن ذلك أنفع لهم في دنياهم، وأخراهم؛ وكل هذا مما قد علم بالاضطرار من دين الجزء: 11 ¦ الصفحة: 526 الإسلام أنه مضاد لما بعث الله به رسله، من تجريد التوحيد، وأن لا يعبد إلا الله. فإذا تقرر ذلك، نقلهم منه إلى أن من نهى عن ذلك فقد تنقص أهل الرتب العالية، وحطهم عن منْزلتهم، وزعم أنهم لا حرمة لهم ولا قدر، وغضب المشركون واشمأزت قلوبهم، كما قال تعالى: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [سورة الزمر آية: 45] . وسرى ذلك في نفوس كثير من الجهال والطغام، وكثير ممن ينتسب إلى العلم والدين، حتى عادوا أهل التوحيد، ورموهم بالعظائم، ونفروا الناس عنهم، ووالوا أهل الشرك وعظموهم، وزعموا أنهم أولياء الله وأنصار دينه، ويأبى الله ذلك {وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ} [سورة الأنفال آية: 34] . انتهى. فهذا الذي ذكره العلامة ابن القيم رحمه الله، هو حال من أنكر على شيخنا دعوته إلى التوحيد، لتمكن الشرك الأكبر من قلوبهم فاعتقدوه دينا؛ وهذا ظاهر لا خفاء به بحمد الله. وهؤلاء قلبوا مدلول كلمة الإخلاص، فأثبتوا ما نفته من الشرك، وجحدوا ما أثبتته من التوحيد؛ وهم أعداء الرسل بلا ريب، ولهذا استحسنوا قول صاحب الجزء: 11 ¦ الصفحة: 527 البردة: يا أكرم الخلق مالي من ألوذ به سواك عند حلول الحادث العمم والله تعالى يقول: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ} [سورة يونس آية: 106] ، وقال تعالى: {فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ} [سورة الشعراء آية: 213] . والآيات في هذا المعنى أكثر من أن تحصر. [خطاب الموتى بالحوائج] وقد أجمع العلماء على أن خطاب الموتى بالحوائج، شرك عظيم؛ لا يجوز أن يدعى أحد دون الله كائنا من كان. وقول صاحب البردة: مالي من ألوذ به سواك، قصر اللياذ على العبد دون المعبود، وهو نوع من أنواع العبادة، كالعياذ; فإن العياذ لدفع الشر، واللياذ لجلب الخير، وهذا هو معناه لغة وشرعا واستعمالا. وقوله: عند حلول الحادث العمم، أي: في أشد مقام يحتاج فيه العبد، إلى آخر أبياته; وهذا محض الشرك الذي نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: "لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد؛ فقولوا عبد الله ورسوله" 1. فإذا كان أئمة التابعين، كعلي بن الحسين، والحسن بن علي، أنكروا على من أتى عند فرجة يدعو عند   1 البخاري: أحاديث الأنبياء (3445) , وأحمد (1/23 ,1/24 ,1/47 ,1/55) . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 528 قبر النبي صلى الله عليه وسلم يدعو الله، ورأوا أن ذلك من اتخاذه عيدا، ولم يفعل ذلك أحد من الخلفاء، ولا من السابقين الأولين، من المهاجرين والأنصار، فكيف بمن أخلص الدعاء لغير الله تعالى، ولم يجعل الله في مطلبه إذنا ولا رضى؟! وقد نهى الله في كتابه عن اتخاذ الشفعاء في مواضع، وكل شفاعة فيها شرك، فهي منفية كما نفاها القرآن، كما قال تعالى: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ} [سورة الأنعام آية: 51] الآية، وقال: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ} [سورة الزمر آية: 43] ، وقال: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً} [سورة الزمر آية: 44] وقال: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [سورة البقرة آية: 255] ، {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [سورة الأنبياء آية: 28] . وأخبر: أن اتخاذ الشفعاء هو دين المشركين، قال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [سورة يونس آية: 18] ، فأخبر أن الشفاعة لا تقع لهم على هذا الوجه، وبين أن هذا هو الشرك، بقوله: {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [سورة يونس آية: 18] ، وقوله: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [سورة الزمر آية: 3] . فكل من اتخذ له شفيعا فقد ضاهى المشركين في دينهم، وأشرك مع الله غيره. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 529 وقد أخبر الله تعالى أن المدعو دونه لا يسمع دعاء الداعي، ولا يستجب له، وأن المدعو ينكر ذلك، وأن ذلك شرك عظيم، وضلال مبين، كما قال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} [سورة الأحقاف آية: 5] إلى قوله: {وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [سورة الأحقاف آية: 6] . فتدبر هذه الآيات وما فيها من البيان، ومعرفة الحق من الضلال؛ وهذا مبسوط في غير هذا الموضع. وفي هذا كفاية لمن أراد الله به خيرا، وبالله التوفيق. فصل [فصل قد ابتلي أهل الجدل بقلب الحقائق] وقد ابتلي أهل الجدل بقلب الحقائق، من ذلك قوله: إن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، لم يعرف من معنى لا إله إلا الله، ما عرفه أبو جهل. قلت: وهذا هو وصف القائل، كما في المثل: رمتني بدائها وانسلت; ومن المعلوم عند القريب والبعيد، والموافق والمخالف أن شيخ الإسلام هو الذي بين للناس ما جهلوه من معنى لا إله إلا الله، فأرشدهم إلى أن هذه الكلمة دلت على أمرين: الأول: نفي الإلهية عن كل ما سوى الله، نفيا عاما بقوله: لا إله، وأوجبت الإلهية لله وحده، بقوله: إلا الله، وهذا الثاني دلالتها عليه دلالة الجزء: 11 ¦ الصفحة: 530 مطابقة؛ وهذا هو الإخلاص الذي هو دين الله، الذي بعث به رسله، وأنزل به كتبه. قال تعالى: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ} [سورة الزمر آية: 2] الآية، وقال تعالى: {وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [سورة الأعراف آية: 29] ، وقال: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [سورة البينة آية: 5] الآية. فكل ما تعبد الله به عباده، من الأعمال الباطنة والظاهرة، فهو من الدين; فأوجب الله على عباده أن تكون أقوالهم وأعمالهم لله وحده، وحرم عليهم أن يصرفوا منها شيئا لغيره، كما قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ} [سورة الرعد آية: 36] . فالذي لم يعرف معنى لا إله إلا الله، هو الذي يعتقد أن عبادة أرباب القبور دين يدان الله به، والله تعالى لم يشرع ذلك، بل حرمه أشد التحريم، ونهى عنه بقوله: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} [سورة الأنعام آية: 151] الآية؛ فحرم الشرك ونهى عنه. فسبحان من طبع على قلوب المشركين؛ نسأل الله تعالى أن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، والحمد لله الذي عافانا مما ابتلي به هؤلاء الجهلة الضلال، الذين صادموا الحق بالزور والمحال، والله المستعان. وقد بين الله تعالى معنى لا إله إلا الله في آيات كثيرة من القرآن، أصرح شيء وأبينه، لا يخفى إلا على من امتلأ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 531 قلبه بمحبة الشرك، وعبادة الأوثان، كقوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [سورة الإسراء آية: 23] فيه معنى: إلا الله. وأمثال هذه الآية كثيرة في القرآن، كقوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ} [سورة آل عمران آية: 64] ؛ فمن لم يوفق لمعرفة هذه الآيات، فلا حيلة فيه. قال أبو جعفر بن جرير، رحمه الله تعالى، في تفسيره، في قوله: {وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} [سورة لقمان آية: 20] على قراءة الإفراد، ذكر مجاهد عن ابن عباس: أنه فسرها بالإسلام; وقال مجاهد: {وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} [سورة لقمان آية: 20] قال: "لا إله إلا الله، قال: وعن ابن عباس أيضا: أنها لا إله إلا الله". وقوله: {ظَاهِرَةً} يقول: ظاهرة على الألسن قولا، وعلى الأبدان وجوارح الجسد عملا; قوله: {وَبَاطِنَةً} في القلوب اعتقادا ومعرفة. وقوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً} [سورة الحج آية: 8] ، يقول تعالى ذكره: ومن الناس من يخاصم في توحيد الله، وإخلاص الطاعة والعبادة له بغير علم عنده بما يخاصم، {وَلا هُدًى} يقول: ولا بيان يبين به صحة ما يقول، {وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ} [سورة الحج آية: 8] ، يقول: ولا بتنْزيل من الجزء: 11 ¦ الصفحة: 532 الله تعالى جاء بما يدعي، يبين حقيقة دعواه، وصلى الله على محمد. [في كتب عثمان بن منصور أمورا تتضمن الطعن على المسلمين وتضليل إمامهم] وله أيضا رحمه الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، وصلى الله على سيد المرسلين محمد، وآله وصحبه أجمعين، وسلم تسليما. أما بعد: فإنا قد وجدنا في كتب عثمان بن منصور بخطوطه، أمورا تتضمن الطعن على المسلمين، وتضليل إمامهم شيخ الإسلام: محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله، فيما دعا إليه من التوحيد، وإظهار ما يعتقده في أهل هذه الدعوة، من أنهم خوارج، تنزل الأحاديث التي وردت في الخوارج عليهم. وساق جملة من الأحاديث التي وردت في الحث على قتال الخوارج، منها حديث: " أينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجرا لمن قتلهم" 1، وما في معناه من الأحاديث التي صحت عنه صلى الله عليه وسلم فيهم. فنذكر أولا سبب هذه الفتنة التي وقع فيها وأسرها في نفسه، وظهرت على صفحات وجهه، وفلتات لسانه، وفي خطوطه، لمن يظن أنه يرى رأيه، أو يسمع منه.   1 البخاري: المناقب (3611) , ومسلم: الزكاة (1066) , والنسائي: تحريم الدم (4102) , وأبو داود: السنة (4767) , وأحمد (1/131) . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 533 وذلك أنه لما ظهر هذا الدين بنجد، وانتشر في البادية والحاضرة، طلبت نفسه السفر إلى بلاد الزبير، وفيها أناس كثير من أهل نجد قد أجلاهم عنه كراهة هذا الدين وعداوته، منهم محمد بن سلوم، جلا من سدير بسبب كراهة الإسلام والمسلمين، فاجتمع به وقرأ عليه، وأقام عنده مدة من السنين، فصار معظما عنده. ثم إنه تردد إلى البصرة، واجتمع بابن سند وقرأ عليه، واتخذه له شيخا، وهو من أشد الناس عداوة لهذا الدين ومن دعا إليه، يصرح بسبهم وعداوتهم. ثم إن عثمان بعد ذلك قدم الفرعة من بلد الوشم، فأخرجه أهلها من الصف الأول كراهة له، ولما كان عليه في تلك الحال التي ذكرنا، فهو حقيق بأن يمقت ويهان. ثم إنه سكن سديرا في حال اختلاف أهل نجد، لما ابتلوا به من عساكر مصر، فصارت حالهم، وحال أهل الزبير والشمال واحدا، في الموالاة والمحبة، والإكرام، وصاروا يزوجونهم نساءهم، فصار فيهم قاضيا إلى أن ظهر ما كان يعتقده في أهل الإسلام، لكنه بين مصدق ومكذب؛ فمن كانت له غيرة في الدين، عرف حاله وكرهه، ومن لم يكن كذلك غره جهله. فخذ الجواب عما وجدنا له في كتبه بخطه، فقد تضمنت ورقتة التي وجدناها له ثلاثة أمور: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 534 الأول: سياقه أحاديث الخوارج، وتنْزيله تلك الأحاديث على المسلمين، وأنهم خوارج. فالجواب: من وجوه: الأول: أن الخوارج الذين أخبر عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قد خرجوا في خلافة علي بن أبي طالب، منصرفه من قتال صفين، فأظهروا تكفير الصحابة بما جرى بينهم من القتال، كفروا عليا رضي الله عنه بذلك، فدعاهم إلى الرجوع إلى الحق. واستدل عليهم ابن عباس رضي الله عنه بقوله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [سورة الحجرات آية: 9] ، فسماهم مؤمنين مع الاقتتال. وأنكروا التحكيم، وقالوا: لا حكم إلا لله، فناظرهم ابن عباس في ذلك أيضا، واستدل بقوله: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا} [سورة النساء آية: 35] ، إلى غير ذلك مما هو مذكور في كتب الحديث والسير. وأجمع الصحابة رضي الله عنهم والتابعون والأئمة أن هؤلاء هم الذين عنى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأحاديث، وأمر بقتالهم، وعرف أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنهم هم المعنيون، وظهرت العلامة التي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنها توجد فيهم، وهو المخدج الذي له ثدي كثدي المرأة، فوجد في القتلى، فسر بذلك علي رضي الله عنه. وأما أهل هذه الدعوة الإسلامية، التي أظهرها الله الجزء: 11 ¦ الصفحة: 535 بنجد، وانتشرت، واعترف بصحتها كثير من العلماء والعقلاء، وأدحض الله حجة من نازعهم بالشهادة، فهم بحمد الله أبعد الناس عن مشابهة الخوارج وغيرهم من أهل البدع: ودينهم هو الحق، يدعون إلى ما بعث الله به رسله، من إخلاص العبادة لله وحده لا شريك له، وينهون عن دعوة الأموات والغائبين، وطلب الشفاعة منهم. وأنكروا ما يعتقده المشركون، من أن الأموات والغائبين، يملكون الضر والنفع، والتصرف والتدبير; فإن جماع الدين: ألا يعبد إلا الله، وألا يعبد إلا بما شرع ; فخالفوا من خرج عن هذا الدين، وجاهدوا من قدروا على جهاده، حتى أظهر الله هذا الدين، وأبطل كيد الكائدين، وشبه المشبهين. ولم يكفروا أحدا من الصحابة، رضي الله عنهم; بل أحبوهم ووالوهم، وأعرضوا عما شجر بينهم، وعلموا أن لهم حسنات عظيمة، يمحو الله بها السيئات، وتضاعف بها الحسنات. وهذه الطائفة - بحمد الله - على منهج الصحابة، في أصول الدين وفروعه، والحجة عندهم فيما قاله الله ورسوله، وما كان عليه الصحابة والتابعون، وأئمة الإسلام، وفارقوا أهل الشرك وعبادة الأوثان، وأظهروا عداوتهم في الجملة. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 536 وخالفوا أهل كل بدعة في بدعتهم، كالجهمية والمعتزلة والمرجئة، وغيرهم من أهل البدع، كالباطنية، والفلاسفة وغيرهم؛ فما ناظرهم صاحب بدعة إلا وألجؤوه المضائق، وأدحضوا حجته بالكتاب والسنة؛ فالحمد لله الذي هدانا للإسلام، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله. ولكن السبب في تنْزيله لهم منْزلة الخوارج: أنهم ينهون عن دعوة غير الله، وعبادته من الأموات والغائبين، ويقولون: العبادة حق الله، لا يصلح منها شيء لملك مقرب، ولا نبي مرسل، وينكرون ما وقع في كثير من البلاد، من دعوة أرباب القبور، والتذلل لهم والرغبة إليهم، وإنزال الحوائج بهم، والتقرب إليهم بالنحر والذبح لهم، وغير ذلك مما يطول عده. فمن أنكر هذا الشرك سماه خارجيا، لاعتقاده أن هذا الشرك لا يضر، ولا يناقض الإسلام; والإسلام عنده: بناء المساجد والمدارس، والنداء إلى الصلاة وفعلها، والصدقة، وغير ذلك، فهذا عنده هو الدين الذي لا يضر معه اعتقاد ولا عمل؛ وسيأتي الجواب عن هذا إن شاء الله تعالى. فبسبب محبته لأهل الشرك، وموالاتهم، والرضى عنهم، اعتقد في المسلمين ما اعتقد; يبين ذلك نظمه لداود بن جرجيس، وثناؤه عليه فيما ألقاه من الشبهات الجزء: 11 ¦ الصفحة: 537 الواهية، في مصادمة الآيات المحكمات، وصحيح الأحاديث في بيان التوحيد; وهو يقرر أن الاستغاثة بالأموات جائزة، فأطنب بالثناء عليه برده على المسلمين، بما كذب فيه وشبه، وماحل وعاند، فصار هذا عند عثمان هو الحق الذي يمدح صاحبه ويمجد، وشعره هذا لم نجده إلا في كتبه، وقد قدم على ما قدم؛ فهذا ما ظهر منه في حياته، وأما الخاتمة فعلمها عند الله، نسأل الله الثبات والاستقامة. لكن نذكر ما يلزمه على ما اعتقده في المسلمين، من أنهم خوارج، وأن من قاتلهم من أهل بغداد ونواحيه، ومن قاتلهم من أهل مصر، وقتل منهم، أن لهم أجرا في قتالهم، وهذا اللازم لا محيد له عنه؛ فتدبر ما أوجبه هذا القول من الضلال البعيد. المسألة الثانية. اعتراضه على شيخنا، الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله، فإنه قال بعد ذلك: قال محمد بن عبد الوهاب، في مواضعه التي تكلم بها على السيرة: إذا عرفت أن الإنسان لا يستقيم له إسلام، وإن وحد الله، وترك الشرك، إلا بعداوة المشركين والتصريح لهم بالعداوة والبغضاء، كما قال تعالى: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [سورة المجادلة آية: 22] الآية، الجزء: 11 ¦ الصفحة: 538 فالجواب قبل ذكر الاعتراض، أن نقول: هذا الذي أنكره على شيخنا رحمه الله، هو الذي نطق به القرآن، كما قال تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [سورة الممتحنة آية: 4] ؛ ونظائر هذه الآيات كثيرة في القرآن، فمن أنكر هذا القول فقد أنكر ما في الكتاب والسنة. إذا عرفت ذلك فإنه قال في الاعتراض: ظاهر هذا الكلام: أن النجاشي ملك الحبشة كافر، حيث لم يصرح بعداوة قومه من النصارى، وأيضا جعفر وأصحابه كفار، حيث لم يصرحوا بعداوة الحبشة، وكذلك مؤمن آل فرعون; فيا لله العجب ما أعمى عين الهوى عن الهدى! فنقول: تأمل كيف جعل ما تضمنه الكتاب والسنة عمى عن الهدى؟! وأما الجواب عن الاعتراض، فأقول: لقد عميت بصيرته عن فهم كلام شيخنا رحمه الله، فإنه رحمه الله أراد: أنه لا يستقيم إسلام أحد، حتى يصرح بعداوة المشركين وبغضهم، وهذا صريح كلامه ومراده رحمه الله، أن من لحق بالمشركين في بلادهم، وحصل لهم منه موادة ومداهنة، وموالاة فعل ذلك باختياره، أنه قد عرض نفسه الجزء: 11 ¦ الصفحة: 539 للوعيد الشديد، وفعل ما ينافي إسلامه; ولهذا المعنى استدل رحمه الله، بقوله تعالى: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [سورة المجادلة آية: 22] الآية، فعلم: أن كلامه فيمن أظهر الموادة لأهل الشرك، والمداهنة لهم. وأما النجاشي: فإنه أظهر المخالفة لهم، والإيمان بالنبى صلى الله عليه وسلم وبالقرآن، لما قرأ عليه جعفر رضي الله عنه صدر سورة مريم، أذعن وصدق، وقبل، وشهد بأن هذا هو الحق، وشهد بأن هذا هو الذي يعتقده في عيسى عليه السلام، بمحضر من بطارقته. وذكر بعض المفسرين: أنه بكى حتى أخضل لحيته. وبعث الوفد من الحبشة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال بعض المفسرون: إنهم خمسون، وبعضهم قال: أكثر، وبعضهم قال: دون ذلك، أقوال ثلاثة: فلما قرأ عليهم النبي صلى الله عليه وسلم القرآن، بكوا حتى أخضلوا لحاهم، فانقلبوا مؤمنين مصدقين، وأنزل الله فيهم {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ وَمَا لَنَا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 540 الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [سورة المائدة آية: 82-85] ، فأثبت لهم الإيمان في الآية، فلهم أجران على الإيمان بنبيهم، والإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم. وأيضا: فإن قريشا لما بعثوا عمرو بن العاص إلى النجاشي، ليرد إليهم من هاجر إليه، فغضب غضبا شديدا، خاف عمرو أن يقع به، ورد هداياهم إليهم، وحضر جعفر وأصحابه رضي الله عنهم، فتكلم بالحق الذي بعث الله به محمدا صلى الله عليه وسلم كما هو مذكور في السير والتفسير. وقال لهم النجاشي، مخاطبا لجعفر وأصحابه: اذهبوا فأنتم سيوم بأرضي، من سبكم غرم. فأظهروا دينهم، ووحدوا ربهم لا يمنعهم منه مانع، ولا يعارضهم معارض؛ فما حصل منهم لمن كان هناك من النصارى موالاة، ولا ركون إليهم، ولا شيء مما يكرهه الله; وإنما صاروا دعاة إلى الله، وصاروا سببا لإسلام من أسلم من الحبشة. فأين هذا ممن داهن وركن، وأظهر الموافقة للمشركين في شركهم، كحال المعترض؟ فإنه ينادي في رسائله بموادة أهل الشرك ومحبتهم، والثناء عليهم، وتعظيمهم بانتصابهم لمعاداة الإسلام، وأهله. فمثلك أيها المعترض، هو الذي عناه شيخنا; لأن من فعل هذا الفعل الذي فعلته، لم يكن مسلما، لمحبة الشرك الجزء: 11 ¦ الصفحة: 541 وأهله، وبغضه التوحيد وأهله؛ وهذا ينافي حقيقة الإسلام، نعوذ بالله من سوء الخاتمة. فأي فائدة حصلت له من الكتب التي جمعها، إذا كان حاله ما ترى وتسمع. وأما مؤمن آل فرعون، فقد قام على فرعون وملئه مقاما عظيما، فنصحهم وحذرهم، وأنذرهم وخوفهم عقاب الدنيا والآخرة، وأبدى وأعاد في نصحهم ودعوتهم، وقال: {يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ} [سورة غافر آية: 38] ؛ فأظهر لهم إيمانه، ودعاهم إليه؛ وقال تعالى: {فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا} [سورة غافر آية: 45] وقد قام على آل فرعون مقام أنبيائهم، فما داهن في دينه، ولا كتمه، بل أظهر المخالفة لفرعون وقومه، فما حصل منه إلا ما يحبه الله ويرضاه، ولهذا ذكره الله في كتابه وأثنى عليه. فأين هذا ممن قال للمشركين، الذين اتخذوا الأنداد، وجعلوهم شركاء لله في عبادته، فتقربوا إليهم بمدحهم وتعظيمهم، وتهنئتهم بعداوة الإسلام وأهله، فشرح لهم صدره وأحبهم، لما بدر منهم من نصرة الشرك وإنكار التوحيد؟!. سارت مشرقة وسرت مغربا ... شتان بين مشرق ومغرب المسألة الثالثة: قوله: ثانيا، من هم هؤلاء المشركون الذين يطلب عداوتهم، وهم يعمرون المدارس والمساجد، ويدعون بداعي الفلاح على رؤوس المنابر، ما هذا العمى؟! الجزء: 11 ¦ الصفحة: 542 {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} [سورة آل عمران آية: 8] . انتهى كلامه. فالجواب: أن هذا هو محط رحله الذي عليه اعتماده، وأن ما يقع في مصر والشام والعراق من تعظيم الأموات وعبادتهم، وبناء المساجد على قبورهم والرغبة إليهم، وسؤالهم قضاء حاجاتهم وتفريج كرباتهم، وكثير منهم يعتقد أنهم أسرع فرجا من الله إذا دعي في كشف كربة، وكل هذا عنده جائز لا ينقض إسلامهم، لأنهم يعمرون المدارس والمساجد. ولا ريب أن هذا المعتقد لا يقوله إلا من هو من أجهل خلق الله، وأبعدهم عن دين الله; وقد عرفت أن دين الله الذي بعث به رسله، هو أن لا يعبد إلا الله، وأن لا يعبد إلا بما شرع، كما تقرر في الآيات، وبينه تعالى في دعوة الرسل؛ فإنه أرسلهم بالإنذار عن هذا الشرك، ونفيه وإخلاص العبادة بجميع أنواعها لله تعالى، كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [سورة الأنبياء آية: 25] ، وقال تعالى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} [سورة الزخرف آية: 45] . وهؤلاء الذين ذكرنا، قد ألهوا أرباب القبور بقلوبهم، وألسنتهم وأعمالهم، ليجلبوا لهم المنافع، ويدفعوا عنهم المضار؛ وقد أخبر تعالى أنهم {فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 543 وَلا تَحْوِيلاً} [سورة الإسراء آية: 56] ؛ وقد نزلت هذه الآية فيمن عبد المسيح وأمه، والعزير والملائكة بالدعاء رجاء ورغبة، وغير ذلك مما كان يقصده عباد القبور. فإذا كانت هذه الآية نزلت فيمن ذكر، فكيف بمن دونهم؟! ومن المعلوم أن هؤلاء قد جاوزوا ما كان عليه مشركو العرب؛ فإن أولئك أشركوا بالله في العبادة، وأقروا له بالربوبية، وهؤلاء بلغ من شركهم أنهم جعلوا التدبير والتصرف في الكون للأموات، الذين كانوا يعبدونهم من دون الله؛ وهذا الأصل مقرر في كتب هذا الذي جمعها; فإن فيها من كتب شيخ الإسلام، وابن القيم وأمثالهما من أهل السنة، وفيها بيان هذا الشرك الذي وقع في هذه الأمة في زمانهم وقبله، وبعده بأحسن بيان. فليت شعري، ما الذي صده عن محكم القرآن، وصريح السنة، وتقرير العلماء والأئمة؟! فسبحان المتصرف في القلوب بعلمه وحكمته وعدله، كيف جاز في عقل من يدعي العلم جعل الشرك إسلاما، ويجعل الانتصار لهذا الشرك والدعوة إليه دينا؟! ويعظم عند ذلك ويثنى عليه; أليس يدعي أنه حنبلي، وكتب الحنابلة عنده، وفيها حكم المرتد، وحكاية الإجماع على أن من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم، ويسألهم كفر إجماعا؟! قاله شيخ الإسلام، وتلقاه العلماء عنه بالقبول ورضوه. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 544 ويقال أيضا: عمارة المدارس والمساجد، والدعاء إلى الصلاة على المنابر، لا تصح إلا بشرط الإسلام، فسبحان الله كيف يذكر العمل، ويترك شرطه الذي لا تصح الأعمال إلا به؟! وهذا الشرط مذكور في مذهبه، ومذهب غيره من العلماء، لما ذكروا الصلاة، قالوا: تصح بشروط، أولها: الإسلام؛ وكذلك ذكروه في الصيام والزكاة، والحج وغير ذلك من العبادات. [عبادة أرباب القبور] وعبادة أرباب القبور تنافي الإسلام، فإن أساسه التوحيد والإخلاص؛ ولا يقوم الإخلاص إلا بنفي الشرك، والبراءة منه، كما قال تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [سورة البقرة آية: 256] . وهذه الأعمال مع الشرك تكون {كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ} [سورة إبراهيم آية: 18] ، وتكون هباء منثورا {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً} [سورة النور آية: 39] الآية. فلا إله إلا الله، كيف خفي على هذا الشرك، حتى اتخذه دينا تجب نصرته؟! وأجمع العلماء سلفا وخلفا، من الصحابة والتابعين، والأئمة، وجميع أهل السنة أن المرء لا يكون مسلما إلا بالتجرد من الشرك الأكبر، والبراءة منه وممن فعله، وبغضهم ومعاداتهم بحسب الطاقة، والقدرة، وإخلاص الأعمال كلها لله، كما في حديث معاذ الذي في الصحيحين: " فإن حق الله على العباد: أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا " 1.   1 البخاري: الجهاد والسير (2856) , ومسلم: الإيمان (30) , والترمذي: الإيمان (2643) , وابن ماجه: الزهد (4296) , وأحمد (3/260 ,5/228 ,5/229 ,5/230 ,5/234 ,5/236 ,5/238 ,5/242) . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 545 والقرآن كله في بيان هذا التوحيد، وما ينافيه من الشرك والتنديد. وفي حديث "ابن مسعود قلت: يا رسول الله، أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله ندا وهو خلقك " 1. ولقد أحسن ابن القيم رحمه الله في قوله: والعلم يدخل قلب كل موفق ... من غير بواب ولا استئذان ويرده المحروم من خذلانه ... لا تشقنا اللهم بالخذلان وقال شيخنا: أبو بكر بن غنام رحمه الله تعالى: نفوس الورى إلا القليل ركونها ... إلى الغي لا يلفى لدين حنينها فسل ربك التثبيت أي موحد ... فأنت على السمحاء باد يقينها وغيرك في بيد الضلالة سائر ... وليس له إلا القبور يدينها وصدق رحمه الله تعالى، فلقد جعلوا عبادة القبور دينا؛ وكم فتن بهذه الشبهات والجهالات من الخلق، ما لا يحصيهم إلا الله، الذين هم كالأنعام السائمة، يطيرون مع كل ريح، ولم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجؤوا إلى ركن وثيق. اللهم إنا نسألك الثبات على الإسلام، والاستقامة، والاعتصام بحبلك، والاهتداء بهداك، واتباع نبيك محمد صلى الله عليه وسلم.   1 البخاري: الأدب (6001) , ومسلم: الإيمان (86) , والترمذي: تفسير القرآن (3182 ,3183) , والنسائي: تحريم الدم (4013 ,4014) , وأبو داود: الطلاق (2310) , وأحمد (1/380 ,1/431 ,1/434 ,1/462 ,1/464) . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 546 [رسالة كتبها عثمان بن منصور ثم أنكرها] وله أيضا قدس الله روحه: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب. وبعد: فإنه قد بلغنا عمن لا نتهم، عن عثمان بن منصور أنه قد كتب له نسخة، نال فيها من إمام الدعوة الإسلامية، محمد بن عبد الوهاب، ومن تابعه على ملة الإسلام، أنهم كالخوارج، يكفرون المسلمين، وذكرت ذلك للإمام فيصل بن تركي، فاستبعد هذا، واتهم القائل. فلما حضر ابن منصور، حلف بالله جهد أيمانه أنه لم يقل، ولم يكتب ذلك؛ ولعله تأول للإمام، وكنت لا أبعده عن ذلك وإن حلف، لما قد استبان لي من أحواله، مع شهادة من هو أصدق منه. فلما استقضاه الامام على أهل سدير، لكونهم طلبوه، أظهر ذلك تنفيرا لهم عن جماعة المسلمين، وتغييرا للأمر الذي قد عرفوه من الدين، ليصدفهم عنه، وعن متابعة أهل الإسلام والدخول في جماعتهم، فوقعت تلك النسخة في يد بعض من أنكرها من المسلمين، فبعث بها إلينا، فإذا هي تشتمل على أمور: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 547 أحدها: أن المسلمين القائمين بهذا الدين بعد غربته ودروس معالمه، قد زعم أنهم أهل بدعة، كالخوارج الذين يكفرون بالذنوب، لاعتقاده أن ما يفعل عند القبور من عبادة الأموات، ليس بشرك يكفر فاعله، وأنهم وإن فعلوا ذلك فهم مجتهدون مخطئون، وأن أولئك الذين يقع فيهم مثل ذلك، هم الجماعة الذين وردت الأحاديث في وعيد من فارقهم، وساق الأحاديث الواردة في الخوارج، وفيمن فارق الجماعة. وجعل هذه الطائفة الذين يأمرون بالتوحيد، ويدعون إليه، وينهون عن الشرك، ويقاتلون عليه، كالخوارج الذين يكفرون الصحابة، وأنهم فارقوا الجماعة، وذكر من كلام العلماء في رسالته كلاما يتناقض بقوله: إنهم لا يكفرون المعين ولم يفرق بين ... 1. إن الكبائر على نوعين: نوع يكفر فاعله، كما ذكر العلماء في حكم المرتد، وذكر في الإقناع وغيره عن شيخ الإسلام ابن تيمية، أنه قال: من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم ويسألهم، ويتوكل عليهم، كفر إجماعا، انتهى. وما ذكر العلماء سلفا وخلفا أن الشرك يسوغ فيه   1 بياض بالأصل. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 548 الاجتهاد، ويعذر فاعله باجتهاده؛ وهذا كذب على الكتاب والسنة، وإجماع علماء الأمة; بل المعاصي كلها لا يعذر أحد ارتكبها بدعوى أنه مجتهد، والوعيد من الله لفاعلها. ولو قدر أن لبعضهم تأويلا، فكل ما يخالف حكم الله ودينه لا يسوغ، ولو ساغ ذلك لتعطلت الشرائع والحدود؛ وليس مع ما بينه الله من دينه الذي دعت إليه رسله، من أولهم إلى آخرهم عذر لأحد. والقرآن حجة الله على الأمة، مشركهم وكتابيهم، كما قال تعالى: {لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [سورة الأنعام آية: 19] ، وقال تعالى: {هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ} [سورة إبراهيم آية: 52] ، ولم يستثن أحدا من الناس. وقال: {هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً} [سورة آل عمران آية: 138] ، وقال تعالى: {وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [سورة الأعراف آية: 52] ؛ فالبيان عام، والهدى والرحمة خاص، فذلك عدله وحجته، وهذا فضله ورحمته. وهذا القرآن ينادي بدعوة كل رسول إلى التوحيد، والنهي عن الشرك، ويذكر ما ردوا به على من جحده، وذكر تعالى ما وعد على ذلك من عذاب الاستئصال. والاجتهاد إنما هو مختص بأهل العلم والدين، وله شروط لا توجد تامة إلا في خواص من المتقدمين; فإذا كنت الجزء: 11 ¦ الصفحة: 549 يا هذا لا تعرف هذا، فما هذا العلم الذي تدعي معرفته؟! الأمر الثاني: أن من الذنوب ما لا يكفر فاعله، عند أهل السنة والجماعة ... 1. ما كان من أعظم الكبائر من المعاصي، كالزنا والسرقة، وشرب الخمر; والخوارج كفّروا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بتأويل غير سائغ، وقد اجتهدوا ولكنهم لم يحسنوا، ولم يوفقوا بين الأدلة، فما نفعهم اجتهادهم، واستدلالهم بالكتاب والسنة. ومن المعلوم أن لله حججا، وما عذرهم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك الاجتهاد والاستدلال حتى أمر بقتلهم؛ ومن حجة أهل الحق عليهم، قوله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [سورة الحجرات آية: 9] ، فسماهم مؤمنين مع الاقتتال؛ ولأهل الحق أدلة أخر، ليس هذا موضع ذكرها، إذ الغرض التنبيه على ضلال هذا الضال الملبس. وشيخنا رحمه الله ينكر على الخوارج، وعلى من قال بقولهم، ويعتقد بطلانه؛ أما علمت ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل أناسا بأعيانهم لكفرهم، كالنضر وعقبة بن أبي معيط؟! والحاصل: أن هذه الطائفة لم يعاملوا المسلمين إلا بمعاملة ... 2.   1 بياض بالأصل. 2 بياض بالأصل ولعله [المشركين] . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 550 ولو بسطنا القول في هذا، وبيان نقضه من الكتاب والسنة، وأقوال السلف والعلماء، كشيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم ... 1 وقد اكتفيت بما ذكره شيخنا، في رده على سليمان بن عبد الوهاب، الذي صدره بحديث عمرو بن عبسة. [فضل العلم وأهميته وذكر بعض من أعرض عن الحق] وله أيضا رحمه الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي رفع بالعلم أقواما، ووضع به آخرين، وذم من لم يرفع رأسا بما بعث به رسله، وصرف علمه إلى الأفكار الرديئة، وزبالة الأذهان ووساوس الشياطين، فقال تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ} [سورة الأعراف آية: 175] ، ومدح من عمل بما علم، فقال: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [سورة فاطر آية: 28] العاملين. أما بعد: فإن العلم النافع أعظم ما صرفت إليه الهمم، ونشر بساطه في محافل أولي النجابة والكرم، إذ من عدمه فقد عدمت حياته، وجانبه الرشد أو فاته، كما قال صلاح الدين الأخفش، واسمه: عمرو بن مسعده:   1 بياض بالأصل. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 551 وبعد فالعلم أفضل مطلب ... وأحسن ما في كسبه العمر ينفق ويخفق سعي الطالبين لغيره ... وسعي امرئ في كسبه ليس يخفق ولا سيما علم الشريعة إنه ... من العلم مقصود إذا هو يطلق فإن فنون العلم أجمع وصلة ... بهن إلى تحصيله يتسلق هو المقصد المطلوب بالذات دونها ... ومن أجلها قد دونوها ودققوا ولكنه صعب على من لنفسه ... مريح وللذات ليس يطلق فمن خطب الحسناء وفَّى صداقها ... وما هي إلا بالمشيئة تصدق وقد مر في بعض الأوقات، في مجلس من مجالس الإخوان - وفقهم الله للصالحات - ذكر علماء الوقت، الذين أعرضوا عن الحق، فباؤوا بالغضب والمقت، وما عارضوا به شيخنا محيي الدين، أبو الحسن محمد بن عبد الوهاب، نضر الله وجهه في جنته يوم المآب، حتى أظهره الله تعالى، ونفع بدعوته جميع من بلغته فعمل بها. فانجر الكلام إلى ذكر عثمان بن سند، الكائن بالبصرة، فذكره بعض الإخوان، ومدحه بما له به شهرة; فقلت له: إنه اشتهر بالأشعار الخبيثة، ومدح الطريقة النقشبندية، ووضعها، ومدح الظلمة والفجار. ومقامه مع أهل القباب، واللواط، وشرب الخمور، والأشرار، حاكم بمعرفة حاله; إذ بالولاء والبراء يكون الاعتبار؛ ومصنفه في مدح خالد الخبيث، الذي أحدث الطريقة، يطلعك على حاله بالحقيقة. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 552 فأقول: اعلم أن زكى الإنسان وطهارته في أصلين: الأصل الأول: أن لا يعبد إلا الله تعالى. الثاني: أن لا يعبده إلا بما شرع على لسان محمد صلى الله عليه وسلم؛ ذلك هو تحقيق قول: لا إله إلا الله، كما قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [سورة البينة آية: 5] الآية. ولها أربع مراتب: أولها: العلم والمعرفة، واعتقاد صحة المشهود به وثبوته. الثاني: نطقه بذلك. الثالث: أن يعلم غيره بما شهد به، ويبينه له بالقول تارة، وبالفعل أخرى. رابعها: أن يلتزم بمضمون هذه الشهادة، ويأمر غيره أن يعمل بذلك. ولا تتم الشهادة إلا بهذه المراتب الأربع، قاله ابن القيم قدس الله روحه. وهذا الرجل المذكور، عن هذه المراتب في بون بعيد، كما هو غير خفي على من عرف الولاء والبراء، واعتنى بالتوحيد؛ وهذا هو الذي بيننا وبين الناس كلهم، وهو الحنيفية ملة إبراهيم؛ وهذا يكفي في معرفته واعتقاده مع الألفاظ الشركية ومباحثه واعتقاده، وأنه من التقوى عار من اللباس، هادما لأصل التوحيد والأساس. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 553 [عثمان بن منصور ابتلي بكراهة الدعوة الإسلامية] وقال أيضا الشيخ عبد الرحمن بن حسن، قدس الله روحه، ونور ضريحه: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فاعلم أيها الناظر إلى هذا التعليق: أن عثمان بن منصور، ابتلي بكراهة هذه الدعوة الإسلامية، التي قام بها شيخ الإسلام، محمد بن عبد الوهاب، مجدد الدين بعد اندراسه وذهابه، فأطنب في الكذب والزور والبهتان، على من تصدى لهذا الشأن العظيم، والخطب الجسيم؛ فحسيبه الله تعالى فيما قال فيه، مما هو ليس له بأهل. وكان يخفي أمره هذا، وربما ظهر لأناس من فلتات لسانه، ما يتبين من حاله بعد وفاته، وخطوطه ومؤلفاته. وهو في الحقيقة إنما جنى على نفسه، فبنى ما زوره على أصلين فاسدين، ينقض أحدهما الآخر: الأول: أن هذه الأمة كلها صالحة، من أولها إلى آخرها، ليس فيها شرك ينافي التوحيد; فنذكر من حال الأمة ما يبين جهله وضلاله فيما زعمه. الثاني: أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله، كفّر الأمة، وليس فيها كافر; فنبين ما يبطل هذين الأصلين الضالين الباطلين، إن شاء الله تعالى. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 554 فأقول وبالله التوفيق: أما الأمة ففيها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين توفى فيهم، وهم على التوحيد الذي دعاهم إليه، وجاهدوا عليه، فجاهدوا أهل الردة، الذين ارتدوا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم من قبائل العرب، حتى دخلوا من الباب الذي خرجوا منه، فاجتمعوا كلهم على الإسلام، وجاهدوا فارس والروم، ففتح الله عليهم الشام ومصر، والعراق. وما زالوا كذلك في زمن الخلفاء الراشدين، وولاية بني أمية، وصدرا من بني العباس؛ وكل من ظهرت بدعته إذ ذاك، قمع وحمل على السيف، وفيهم الأئمة الأعلام، الذين أخذ عنهم العلم، كعلماء التفسير، والحديث، والفقه، من غير تكلف ولا تعسف. فما زال الحال كذلك في زمن الأئمة الأربعة، وأمثالهم من المحدثين والفقهاء. وقد ثبت في الصحاح والمسانيد والسنن، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم. ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف، يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون. فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن؛ وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل " 1 فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الأمة لا بد أن يقع فيها ما يوجب الجهاد، بحسب قدرة المؤمن.   1 مسلم: الإيمان (50) , وأحمد (1/458 ,1/461) . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 555 وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن أمته ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة، كما افترقت اليهود والنصارى، وكلها في النار إلا واحدة؛ قال العماد بن كثير، رحمه الله تعالى: والحديث له طرق كثيرة، وكل هذا سيقع في الأمة، بخبر الصادق المصدوق، الذي لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى. وأول ما ظهر من البدع: بدعة الجهمية والمعتزلة، فأنكرها العلماء من الفقهاء، وأهل الحديث، وكفرهم أكثر أهل الحديث، حتى استخلف المأمون بن الرشيد، فعرب كتب اليونان. واستماله أهل البدع والضلال، من الجهمية والمعطلة، فامتحن أهل الحديث، وألزمهم أن يقولوا بخلق القرآن؛ فعظمت الفتنة، وظهرت، وامتحن الإمام أحمد رحمه الله، بالضرب بالسياط، في ولاية المعتصم والواثق. قال العلامة ابن القيم، رحمه الله تعالى: فلقد رأيتم ما جرى لأئمة الإسـ ... لام من محن على الأزمان لا سيما لما استمالوا جاهلا ... ذا قدرة للناس مع سلطان وسعوا إليه بكل إفك بين ... بل قاسموهم بأغلظ الأيمان أن النصيحة قصدهمكنصيحة الشيـ ... طان حين خلا به الأبوان فيرى عمائم ذات أذناب على ... تلك القشور طويلة الأردان ويرى هيولا لا تهول لمبصر ... وتهول أعمى في ثياب جبان الجزء: 11 ¦ الصفحة: 556 وبعد ذلك تفرقت الأمة على بني العباس، فظهر بنو بويه في المشرق، وغلوا في أهل البيت وبنوا المساجد على القبور، وعبدوها من دون الله، وظهرت دولة القرامطة، وأنكروا الشرائع، وزعموا أن لها باطنا غير ظاهرها. ولما استولى بنو عبيد القداح على مصر، فعلوا مثل ما فعل بنو بويه، من الغلو، لزعمهم أنهم من ولد فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبعثوا ركبا إلى عسقلان، في زعمهم أن رأس الحسين بن علي بن أبي طالب مدفونا هناك، وقد كذبوا في ذلك، فدفنوا في القاهرة ما جاؤوا به، وبنوا عليه مسجدا يعظم، وصاروا يعبدون هذا الوثن ويعظمونه. وحدث في وقتهم أوثان كثيرة، بنيت عليها المساجد؛ وفي أيامهم ظهرت الإسماعيلية، والنصيرية، والفلاسفة، وأهل الوحدة، والمتكلمون، كل أعلن بمذهبه وطريقته، ودعا إليها، كالمعتزلة، والأشاعرة؛ ومذاهبهم مذكورة في كتب أهل العلم. والسنة موجودة في أهلها، لكنهم يقلون تارة ويكثرون أخرى، كلما تقادم عهد النبوة اشتدت الكربة، وعظمت الغربة، وعاد المعروف منكرا، والمنكر معروفا، نشأ على هذا الصغير، وهرم عليه الكبير؛ وفي ذلك يقول الشاطبي: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 557 وهذا زمان الصبر من لك بالتي ... كقبض على جمر فتنجو من البلا وقال يحيى الصرصري:.- لم يبق إلا حاكم هو مرتش ... أو عالم تخش الرعية ظلمه لولا بقايا سنة ورجالها ... لم يبق نهج واضح نأتمه قال أبو الوفاء بن عقيل: لما صعبت التكاليف على الجهال والطغام، عدلوا عن أوضاع الشرع، إلى تعظيم أوضاع وضعوها لأنفسهم، فسهلت عليهم إذ لم يدخلوا بها تحت حكم غيرهم; قال: وهم عندي كفار بهذه الأوضاع، مثل تعظيم هذه القبور، وإكرامها مما نهى عنه الشرع، من إيقاد النيران، وتقبيلها، وتخليقها، وكتب الرقاع، فيها: يا مولاي افعل بي كذا وكذا، وأخذ تربتها تبركا، وإفاضة الطيب على القبور، وشد الرحال إليها، وإلقاء الخرق على الشجر، اقتداء بمن عبدت اللات والعزى. والويل عندهم لمن لم يقبل مشهد الكف، ويتمسح بآجرة المسجد الملموسة يوم الأربعاء، ولم يقل الحمالون على جنازتة: الصديق أبو بكر، ومحمد، أو علي، أو لم يعقد على قبر أبيه الجص والآجر، ولم يخرق ثيابه إلى الذيل، ولم يرق ماء الورد على القبر، انتهى. وقال الحافظ أبو محمد عبد الرحمن بن إسماعيل، الجزء: 11 ¦ الصفحة: 558 المعروف: بأبي شامة، في كتابه "الباعث على إنكار البدع والحوادث": ومن هذا القسم: ما قد عم الابتلاء به، من تزيين الشيطان للعامة، من تخليق الحيطان والعمد، وسرج مواضع مخصوصة في كل بلد يحكي لهم حاك أنه رأى في منامه بها أحدا ممن شهر بالصلاح، والولاية، ويفعلون ذلك، ويحافظون عليه، مع تضييعهم فرائض الله وسننه، ويظنون أنهم متقربون بذلك. ثم يتجاوزون ذلك إلى أن يعظم وقع تلك الأماكن في قلوبهم، فيعظمونها، ويرجون الشفاء لمرضاهم، وقضاء حوائجهم بالنذر لها، وهي من عيون وشجر وحائط وحجرة وفي مدينة دمشق من ذلك مواضع متعددة، كعوينة الحمى خارج باب توماء، والعمود المخلق خارج باب الصغير، والشجرة الملعونة في نفس قارعة الطريق، سهل الله قطعها، واجتثاثها من أصلها؛ فما أشبهها بذات أنواط الواردة في الحديث! انتهى. فما حدث في هذه الأمة، من الأمور الشركية، هو الذي أنكره شيخنا رحمه الله، على أهل زمانه، لما استعظم، وعمت به البلوى؛ وكلام العلماء فيما حدث من ذلك كثير، فنذكر منه ما تحصل به الفائدة، ورد شبهات المشبهين، كهذا الذي نحن بصدد الرد عليه وأمثاله. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 559 وما زال الشر يزيد بعد من ذكرت كلامه، إلى أن ظهر شيخ الإسلام ابن تيمية، فوجد الشرك والبدع قد طم وعم في الأمة، فرد على كل طائفة من المبتدعة: رد على الرافضة في مجلدات، فما أبقى لهم حجة، ولا شبهة إلا أبطلها، ورد على الفلاسفة في مجلد ضخم. ورد على أهل الوحدة ابن عربي، ومن وافقه على بدعته، ورد على أهل المنطق اليونان; وذكر أن الصحيح منه موجود، في أصول الفقه، وأبطل باطله. ورد على ابن الأخنائى بمجلد. ورد على من اعتقد في المشائخ أن لهم كرامات توجب الغلو فيهم، وتعظيمهم، كما في الرسالة السنية له. ورد على ابن البكري، وأبطل ما زخرفه من الشبهات، وما جوزه من الاستغاثة بالغائبين والأموات. ورد على أهل الحيل من فقهاء المتأخرين، وغير ذلك مما لا يمكن عده، من الكتب والرسائل. ولتلميذه العلامة ابن القيم مثل ذلك، وكذلك الحافظ محمد بن عبد الهادي؛ فأحيا الله بهم وبأصحابهم، ما درست آثاره من السنة في ذلك الوقت. وحصل على شيخ الإسلام، من المحن من القضاة والولاة، ما هو مذكور في ترجمته رحمه الله تعالى، أعظم مما الجزء: 11 ¦ الصفحة: 560 جرى على الإمام أحمد، وحبس بمصر والشام، ومات بالحبس; وعزر ابن القيم رحمه الله، وما ذاك إلا لظهور البدع، وغربة الحق، كما قال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى: وأي اغتراب فوق غربتنا التي ... لها أضحت الأعداء فينا تحكم وهذا ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: " بدأ الإسلام غريبا، وسيعود غريبا كما بدأ " 1. ثم بعد طبقة الشيخ وأصحابه، ومن وافقه على ما قام به، عادت الغربة أعظم مما كان، حتى إن بعض المصنفين من متأخري الحنابلة، ظنوا أن عقيدة الأشاعرة عقيدة الإمام أحمد، ونسبوها إليه. وأما الشرك بعبادة القبور والطواغيت، والجن والأشجار والأحجار، فعم وطم، حتى لا ينكره منكر، ممن له عقل يميز به الصدق من الكذب، وصار العلماء فيه ما بين مستحسن، أو مجيز لفعله، حتى أظهر الله شيخنا محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى. فقام بهذا الدين الذي بعث الله به الرسل، وأنزل به الكتب، فبين للناس من التوحيد ما جهلوه، وأنكر من الشرك ما ألفوه، فلم يوجد عند من اتبعه شرك ولا بدعة، ولا منكر، فطهر الله به نجدا من كل خبيث، من الشرك والمنكرات، فلم يوجد فيها شرك، حتى عم ذلك نجدا   1 مسلم: الإيمان (145) , وابن ماجه: الفتن (3986) , وأحمد (2/389) . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 561 وأكثر الحجاز، وعمان، وشهد له الخاص والعام، بحسن هذا المقام، وأنه هو حقيقة دين الإسلام. وصنف بعض العلماء في البلاد البعيدة، على منوال ما دعا إليه من التوحيد; وفضائله في العلم والرأي، وحسن البيان، والزهد في الدنيا، مما يشهد به القريب والبعيد، لا ينازع فيه منازع، إلا من استحوذ عليه الشيطان، واختار الكفر على الإيمان، بغيا وعنادا، وجهلا وفسادا. ونذكر من كلام شيخ الإسلام أحمد بن تيمية رحمه الله تعالى، ما يبين الحق من الباطل، وما كان ينكره من ذلك، على كل معاند أو جاهل؛ وشيخنا رحمه الله، حذا حذوه، لأنه إمام عظيم، به الأسوة والقدوة، ولا يقول قولا إلا مؤيدا بالدليل، مستقيمًا على سواء السبيل. قال شيخ الإسلام، رحمه الله: والذي يجري عند المشاهد من جنس ما يجري عند الأصنام؛ وقد ثبت بالطرق المتعددة ما يشرك به من دون الله، من صنم، ووثن أو قبر، قد يكون عنده شياطين تضل من أشرك به، وأن تلك الشياطين يقضون بعض أغراضهم، وإنما يقضونها إذا حصل منهم الشرك والمعاصي. ومنهم من يأمر الداعي أن يسجد، وقد ينهاه عما أمره الله به، من التوحيد والإخلاص، والصلوات الخمس، وقراءة القرآن ونحو ذلك؛ وقد وقع في هذا النوع الجزء: 11 ¦ الصفحة: 562 كثير من الشيوخ، الذين لهم نصيب من الدين والزهد، والعبادة، لعدم علمهم بحقيقة الدين الذي بعث الله به رسله؛ طمعت فيهم الشياطين، حتى أوقعوهم فيما يخالف الكتاب والسنة. وقد جرى لغير واحد من أصحابنا المشائخ، يستغيث بأحدهم أحد أصحابهم، فيرى الشيخ جاء في اليقظة، وإنما هو الشياطين تتمثل للذين يدعون غير الله، فالكافر للكافر، والفاجر للفاجر، والجاهل للجاهل، انتهى. وقال أيضا - بعد كلام له سبق -: الوجه السادس: أن سؤال الميت والغائب، نبيا كان أو غيره، من المحرمات المنكرة باتفاق أئمة المسلمين، لم يأمر الله به ولا رسوله، ولا فعله أحد من الصحابة، ولا التابعين لهم بإحسان، ولا استحبه أحد من أئمة المسلمين؛ فإن أحدا منهم ما كان يقول - إذا نزلت به شدة، أو عرضت له حاجة - لميت: يا سيدي فلان أنا في حسبك، أو اقض حاجتي، كما يقوله هؤلاء المشركون، لمن يدعونهم من الموتى والغائبين. ولا أحد من الصحابة استغاث بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد موته، ولا بغيره من الأنبياء، لا عند قبورهم، ولا إذا بعدوا عنها; بل ولا أقسموا بمخلوق على الله تعالى أصلا، ولا كانوا يقصدون الدعاء عند قبور الأنبياء، ولا عند غير قبور الأنبياء. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 563 وقد كره العلماء، كمالك وغيره: أن يقوم الرجل عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم يدعو لنفسه، وذكروا أن هذا من البدع التي لم يفعلها السلف. وأما ما يروى عن بعضهم، أنه قال: قبر معروف الترياق المجرب; وقول بعضهم: فلان يدعى عند قبره، وقول بعض الشيوخ: إذا كانت لك حاجة إلى الله تعالى، فاستغث بي، أو قال: استغث عند قبري، ونحو ذلك، فإن هذا قد وقع في كثير من المتأخرين وأتباعهم. وكثير من هؤلاء إذا استغاث بالشيخ رأى صورته، وربما قضى بعض حاجته، فيظن أنه الشيخ نفسه، أو أنه ملك تصور على صورته، وأن هذا من كرامته؛ ولا يعلم أن هذا من جنس ما تفعله الشياطين بعباد الأوثان، بحيث تتراءى أحيانا لمن يعبدها، وتخاطبهم ببعض الأمور الغائبات، وتقضي لهم بعض الطلبات; ولكن هذه الأمور كلها بدع محدثة في الإسلام، بعد القرون الثلاثة المفضلة. وكذلك المساجد المبنية على القبور، التي تسمى "المشاهد" محدثة في الإسلام، والسفر إليها محدث في الإسلام، لم يكن شيء من ذلك في القرون المفضلة; بل ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " 1، يحذر ما فعلوا، الحديث; وفي الصحيح عنه أنه قال، قبل أن يموت   1 البخاري: الجنائز (1330) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (531) , والنسائي: المساجد (703) , وأحمد (1/218 ,6/34 ,6/80 ,6/121 ,6/252 ,6/255 ,6/274) , والدارمي: الصلاة (1403) . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 564 بخمس: " إن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك " 1. فأما قول القائل عند ميت من الأنبياء والصالحين: اللهم إني أسالك بفلان، أو بجاه فلان، أو بحرمة فلان، فهذا لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا الصحابة ولا عن التابعين؛ وقد نص غير واحد من العلماء، على أنه لا يجوز، ونقل عن بعضهم جوازه; قلت: لكن بغير مستند، فكيف يقول القائل لميت: إني أستغيث بك، أو أستجير بك، أو أنا في حسبك؟! فتبين: أن هذا ليس من الأسباب المشروعة، لو قدر أن له تأثيرا، فكيف إذا لم يكن له تأثير صالح؟ بل مفسدته راجحة على مصلحته، كأمثال من دعا غير الله; وذلك أن من الناس الذين يستغيثون بغائب، أو ميت، تتمثل لهم الشياطين؛ وربما كانت في صورة الغائب، وربما كلمته، وربما قضت له أحيانا بعض حوائجه، كما تفعل شياطين الأصنام؛ وهذا مما جرى لغير واحد، فينبغي أن يعرف هذا. ومن هؤلاء: من يؤذي الميت بسؤاله إياه، أعظم مما يؤذيه لو كان حيا، وربما قضيت حاجته مع ذنب يلحقه، كما كان الرجل يسأل النبي صلى الله عليه وسلم أحيانا فيعطيه، ويقول:   1 مسلم: المساجد ومواضع الصلاة (532) . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 565 " إن أحدكم يسألني المسألة فيخرج يتأبطها نارا " 1، وقال صلى الله عليه وسلم: " لا تتخذوا قبري عيدا "، وقال: " اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " 2. وقد قال غير واحد من السلف، قوله تعالى: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً} [سورة نوح آية: 23] قال: كانوا قوما صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم: أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابا، وسموها بأسمائهم، ففعلوا ولم تعبد؛ حتى إذا هلك أولئك ونسي العلم عبدت، انتهى. [قول ابن القيم في تدرج الشيطان بأصحاب القبور] وقال العلامة ابن القيم، رحمه الله تعالى: وما زال الشيطان يوحي إلى عباد القبور، ويلقي إليهم أن البناء والعكوف عليها من محبة أصحابها، من الأنبياء والصالحين، وأن الدعاء عندها مستجاب; ثم ينقلهم من هذه المرتبة إلى الدعاء به، والإقسام على الله به، فإن شأن الله أعظم من أن يقسم عليه، أو يسأل بأحد من خلقه. فإذا تقرر ذلك عندهم، نقلهم منه إلى دعائه وعبادته، وسؤاله الشفاعة من دون الله، واتخاذ قبره، وثنا، تعلق عليه الستور والقناديل، ويطاف به، ويستلم ويقبل، ويحج إليه، ويذبح عنده; فإذا تقرر ذلك   1 أحمد (3/4) . 2 أحمد (2/246) . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 566 عندهم، نقلهم منه إلى دعاء الناس إلى عبادته، واتخاذه عيدا ومنسكا، ورأوا أن ذلك أنفع في دنياهم وأخراهم. وكل هذا مما قد علم بالاضطرار من دين الإسلام أنه مضاد لما بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم من تجريد التوحيد وأن لا يعبد إلا الله; فإذا تقرر ذلك عندهم، نقلهم منه إلى أن من نهى عن ذلك فقد تنقص أهل الرتب العالية، وحطهم عن منْزلتهم، وزعم أنهم لا حرمة لهم ولا قدر، وغضب المشركون، واشمأزت قلوبهم، كما قال تعالى: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [سورة الزمر آية: 45] . وسرى ذلك في نفوس كثير من الجهال والطغام، وكثير ممن ينتسب إلى العلم والدين، فعادوا أهل التوحيد، ورموهم بالعظائم، ونفروا الناس عنهم، ووالوا أهل الشرك وعظموهم، وزعموا أنهم أولياء الله وأنصار دينه ورسوله; ويأبى الله ذلك، وما كانوا أولياءه، إن أولياؤه إلا المتقون; انتهى. وهذا الذي قرره شيخ الإسلام، وابن القيم، وإخوانهم من أهل السنة، رحمهم الله تعالى، هو معنى لا إله إلا الله، وهو الذي ذكره تعالى في كتابه عن رسله، وأنبيائه، من قوله: {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} الجزء: 11 ¦ الصفحة: 567 [سورة المؤمنون آية: 32] . فمن لم يعرف هذا على الحقيقة، ويقبله ويدين الله به، فليس من الإسلام في شيء. وهذا التوحيد توحيد الرسل، الذي أنكره داود، وأقره على إنكاره - وقبول الشرك المنافي له - عثمان بن منصور، في كتبه الموجودة بعد موته، ونصره نظما ونثرا، وأنكر على شيخنا قوله: {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [سورة المؤمنون آية: 32] ، {وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [سورة الأنعام آية: 26] . والأصل - في خطأ هذين المذكورين، ومن تلقى عنهم شبهاتهم - إنما أخطؤوا في معنى لا إله إلا الله ; فلا ريب أن كل كلمة مستعملة في اللغة العربية، فالاستعمال يعبر بها عن مدلولها، وهو معناها الذي دلت عليه ووضعت له؛ ولا إله إلا الله خير الكلام، وأفضله، وتناولت الدين كله، ودلت عليه مطابقة وتضمنا والتزاما. وتضمنت أمرين هما أساس الدين: الأول: نفي الإلهية عن كل ما سوى الله تعالى نفيا عاما، وهي العبادة كما نطق به القرآن في مواضع كثيرة فـ "لا" هي أداة النفي، دخلت على المنفي بها، فانتفى إذا قاله الموحد. الأمر الثاني: المستثنى بإلا وهو الله وحده دون كل ما سواه، من قبر أو وثن أو شجر، أو حجر أو غير ذلك، فلا يقصد بشيء من أنواع العبادة شيئا سوى الله تعالى وحده. فدلت على هذين الأمرين مطابقة، وهو معنى قوله: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 568 {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ} [سورة آل عمران آية: 62] ، وبعدها قوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً} [سورة آل عمران آية: 64] . فقوله: {أَلَّا نَعْبُدَ} هو معنى لا إله، وقوله: {إِلَّا اللَّهَ} هو المستثنى في كلمة الإخلاص. وأمثال هاتين الآيتين في القرآن كثير، لا يكاد يحصر، كقوله: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [سورة الإسراء آية: 23] ، ففي هذه الآية: الأمران، نفيا وإثباتا، كما في كلمة الإخلاص، وكقول يوسف عليه السلام: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [سورة يوسف آية: 40] ، وهذا هو الحكم الشرعي الديني، الذي أرسلت به الرسل، وأنزلت به الكتب. وكل شريعة فمبناها على الأصل الأصيل، فإذا قيل: لا إله إلا الله، معناها: نفي الشرك، فدلالتها عليه دلالة تضمن، أو قيل دلت على إخلاص العبادة لله تعالى، فدلالتها على ذلك دلالة تضمن؛ ومثله في القرآن قوله: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} [سورة الصافات آية: 35-36] عرفوا على شركهم أنها دلت على ترك عبادتهم لآلهتهم. وهذه المعرفة لم تحصل من هؤلاء المجادلين في هذا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 569 الدين; بل قلبوا الحقيقة، واتخذوا الشرك المنفي بها دينا وقربة؛ والمثبت بها عندهم، هو المنكر الذي أنكروه على من دعا إليه، وقال: إن دعواه أن أرباب القبور لا يدعون، ولا يستغاث بهم، منكر; فأنكروا ما أثبتته كلمة الإخلاص، وأثبتوا ما نفته من الشرك وعبادة الأوثان; فانظر إلى هذا الجهل العظيم، والضلال المبين؛ هذا الذي أوقعهم فيما أوقعهم فيه، وشابهوا أهل الكتاب والفلاسفة في شبهاتهم وترهاتهم، وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل. وأدلة هذه الدعوة، التي قام بها شيخنا رحمه الله تعالى، من الكتاب والسنة، واعتبار الواقع، أبين من الشمس في نحر الظهيرة، ليس دونها قتر ولا غمام; وذلك أنه قام بهذا الدين وحده، لم يساعده غيره على معرفته، فدعا إليه، فما زال يزيد واحدا بعد واحد، حتى أتاح الله له أنصارا، فأنكر الجم الغفير، والخلق الكثير من أهل نجد، والقرى والأمصار، وبذلوا الجد والجهد في إطفاء هذا النور من كل ناحية، وكل قبيلة، فما ظفروا بما أرادوا؛ وأبى الله إلا أن يتم نوره. فانقلب المعادي لهم مسالما، وأقروا له بصحة ما قام به من الدين، وشهد له بصحته [أهل] نجد والحجاز وعمان، وتابعوه ودانوا بهذا الدين وقبلوه، وأيده العلماء الجزء: 11 ¦ الصفحة: 570 بالتصانيف في تقرير هذه الدعوة; منهم: محمد بن إسماعيل الصنعاني، صنف "تطهير الاعتقاد في درن الإلحاد"، والشيخ حسين بن غنام، صنف "العقد الثمين"، وغيرهم؛ وبعضهم نظم ذلك في شعر أنشأه، من أهل فارس والبحرين وغيرهم; فلو ذهبنا نذكر من أقر بذلك من أهل الأمصار، لطال الجواب، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب. ويكفي في حق من جادل في التوحيد ما ذكره الله في كتابه، من خلود الأبد في النار، لمن أشرك بالله غيره في العبادة؛ أجارنا الله وإخواننا المسلمين من الشرك بالله، واتباع سبل الشيطان، وهي البدع والشبهات، كما فسر العلماء بذلك قوله تعالى: {وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [سورة الأنعام آية: 153] . والحمد لله على رؤية الحق، والبصيرة في الدين، ونسأله الثبات والاستقامة على الإخلاص والسنة، حتى نلقى الله تعالى بالإسلام الذي يحبه ويرضاه. وهذا الذي ذكرنا ظاهر بحمد الله، لا يخفى إلا على الجهلة الذين ليس لهم التفات إلى العلم، أو منكوس القلب، زين له الشيطان الباطل، فرآه في صورة الحق، وصدقه، حتى صار عنده الحق بمنْزلة الباطل، فأخذ يجادل ويماحل، ويفتري الكذب عليه ويجتري. وشيخنا رحمه الله إنما أنكر ما وقع في هذه الأمة، من هذا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 571 الشرك الذي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بوقوعه، وقد وقع بعد القرون المفضلة، وعظمت القبور ببناء المساجد عليها، وعبدت من دون الله، رغبة إليها وخوفا، ورجاء وتعظيما ومحبة، وصرفوا لها خصائص الإلهية، التي لا يصلح منها شيء لغير الله تعالى؛ وما زال العلماء من أهل السنة ينكرون هذا الشرك، كابن عقيل، وأبي شامة، وابن وضاح وغير هؤلاء مما لا يمكن حصرهم. وممن اشتهر عنه إنكاره وبيانه، والجواب عما شبه به المشركون، والرد على من اعتقد هذا الشرك، وأجازه، شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم، وتبعهم على هذا في عصرهم الخلق الكثير من أهل السنة؛ وبعدهم بمدة رجع أكثر الأمة على ذلك، لكثرة المخالفين للحق في تلك الأعصار، وفي أكثر الأمصار، حتى غلب الشرك، ونسي العلم الذي بعث الله به رسله، من توحيد الله تعالى، وإخلاص العبادة له، فاستحكمت الغربة، وعظمت البلية. وفي حدود القرن العاشر وما بعده، لا يعرف أحد من العلماء تكلم بالتوحيد ودعا إليه، وعرف هذا الشرك ونهى عنه، حتى أظهر الله هذا الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله، في آخر هذه الأمة، وهي نعمة عظيمة، فبين حقيقة التوحيد، وأنواعه، على ما كان عليه سلف الأمة وأئمتها، لا يعدل عن طريقتهم. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 572 فأنكر كل بدعة بأدلة الكتاب والسنة، وأحيا السنن، وحمل من اتبعه وأطاعه على العمل بالتوحيد، وشرائع الإسلام، والنهي عن جميع المحارم والآثام، فأخرج الله به الكثير من الظلمات إلى النور؛ فتركوا عبادة الأشجار والأحجار، والطواغيت والقبور، والتزموا ما شرعه الله في كتابه، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم. واعتمد على ما ذكره المفسرون من أهل السنة، كأبي جعفر بن جرير، والعماد بن كثير وغيرهما، كتفسير ابن أبي حاتم الرازي وغيرهما، والبغوي وغير هؤلاء، ممن سلمت عقائدهم. واعتمد كتب الحديث التي أجمعت الأمة في الجملة على قبولها، كالصحيحين، والسنن والمسانيد، ففهم من هذه الكتب، رحمه الله أدلة التوحيد وبيانه، والشرك المنافي للتوحيد وبيانه، مع أن الأكثر لم يعرفوا ذلك منها تفصيلا. واعتمد ما رجحه المحققون من الفقهاء، في كتب الفقه، بالأدلة من الكتاب والسنة؛ فطريقته رحمه الله، لم تخرج عن هذا، وبين اختلاف الفقهاء، وصنف في ذلك المصنفات، وانتشرت مصنفاته بمضمون ما ذكرناه. إذا عرفت ذلك، فلا عبرة بما يقوله المخالف المعاند، الذي أشرب قلبه بالشرك، والبدع والضلال، ونصرة الجزء: 11 ¦ الصفحة: 573 المشركين، وفتنة الجهال; فصار هؤلاء ضحكة بين الناس، فيما كذبوه وافتروه; فإذا كان الرسل لم يسلموا من الطعن فيهم، ونسبتهم إلى الجنون والضلال، فما بالك بمن هو دونهم بأضعاف. لكن بحمد الله، صار الغلبة للحق على الباطل، والصدق على الكذب، فلا يقدر مبطل أن يكذب أو يفتري، إلا وكذبه كل لسان من بعيد وقريب؛ فلله الحمد لا نحصي ثناء عليه، هو كما أثنى على نفسه، وصلى الله على محمد، وآله وصحبه وسلم. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 574 [العثور على أوراق بخط عثمان منها منظومة لداود بن جرجيس يعظمه وينصره] وقال أيضا الشيخ: عبد الرحمن بن حسن، رحمه الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليما. أما بعد: فإنا قد رأينا أوراقا بخط عثمان بن منصور بعد وفاته، تنبئ عن سوء اعتقاده في هذه الدعوة، التي من الله بها في آخر هذه الأزمان، وأخرج الله بها الخلق الكثير من الظلمات إلى النور، فصار يعتقد خلاف ما يعتقده المسلمون; فالمسلمون عرفوا أنه هو الحق الذي دعت إليه الرسل، فصار يعتقد خلاف ذلك. فمن ذلك: أنا وجدنا له منظومة لداود بن جرجيس، يعظمه وينصره، لكونه أنكر التوحيد، وجوز الشرك الأكبر; وفي ورقة أخرى: ذكر فيها أحاديث الخوارج، يعني بذلك أن أهل هذه الدعوة خوارج، لتكفيرهم من كفروا، وهو يرى أن هذه الأمة ليس فيها من يعمل الكفر، كما هو صريح كلامه. وذكر في هذه الورقة الاعتراض على شيخنا محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، في استدلاله بقوله: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} الجزء: 11 ¦ الصفحة: 575 [سورة المجادلة آية: 22] الآية يعني أنه لا يصدق الاستدلال بهذه الآية على أحد من هذه الأمة. فالجواب: أما تأييده لداود، فكل من سمع به أنكره واستعظمه، وقد أجبت داود عما كتبه في عدة كراريس، فليرجع إليه. وعلى هذا يصلح جوابنا لشبهات داود في الرد على عثمان، فيما أورده من الاعتراض، ومن أيده ونصره. وله الحمد على فضله وعظم منته علينا، وعلى المسلمين، في معرفة الحق والصدق، وإنكار الشرك والفساد، فالحمد له حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، غير مكفي ولا مكفور، ولا مودع ولا مستغنى عنه. وأما استدلاله بأحاديث الخوارج، وتنْزيله المسلمين منْزلتهم، فهم أبعد الناس شبها بالخوارج; بل رأيهم في الخوارج هو رأي الصحابة رضي الله عنهم; وأما ابن منصور وشيعته: فهم أقرب الناس شبها بالخوارج، بل هم أعظم، لتكفيرهم المسلمين بالتوحيد، وهو إخلاص العبادة لله وحده لا شريك له؛ فمن كفر المسلمين بالتوحيد، فهو أعظم بدعة من الخوارج، كما قال العلامة ابن القيم، رحمة الله تعالى: من لي بمثل خوارج قد كفروا ... بالذنب تأويلا بلا برهان ولهم نصوص قصروا في فهمها ... فأتوا من التقصير في العرفان وخصومنا قد كفرونا بالذي ... هو غاية التحقيق والبرهان وهذا هو الذي زعم ابن منصور أنه رأي الخوارج، الجزء: 11 ¦ الصفحة: 576 هو إنكار الشرك على من أشرك بالله في عبادته، كما قد أطبق عليه أهل الوقت الذي أنكر عليهم شيخنا، فلا تكاد تجد بلدة أو قبيلة إلا وهم يعبدون أرباب القبور، والطواغيت الذين يدعون علم الغيب، وأنهم ينفعون من أرادوا نفعه، ويضرون من أرادوا ضره، بالنية والقصد، على القرب منهم والبعد، ويعبدون الأشجار والأحجار، من غير أن ينكره منكر. ولهذا أنكروا على من أنكره، حتى العلماء وأهل الفتوى والتدريس، وهذا هو الشرك الذي أرسلت الرسل، وأنزلت الكتب بتحريمه، والنهي عنه، والوعيد عليه بالنار. فدعاهم شيخنا رحمه الله: إلى أن يتركوا الشرك رأسا، ويخلصوا العبادة لله وحده، كما قال تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} [سورة المائدة آية: 72] ، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [سورة البقرة آية: 21] إلى قوله: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً} [سورة البقرة آية: 22] . وقال: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [سورة يس آية: 60-61] ؛ فالصراط المستقيم هو عبادة الله وحده، وترك ما زينه لهم الشيطان من عبادة الأوثان، وقال تعالى: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ أَلا لِلَّهِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 577 الدِّينُ الْخَالِصُ} [سورة الزمر آية: 2-3] . وقال: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [سورة غافر آية: 14] . فكل من أنكر إخلاص العبادة لله، وأجاز الشرك بأرباب القبور وغيرهم، فهو كافر بنصوص الكتاب المتظاهرة؛ وقد حكى العلماء الإجماع على ذلك، وهذا هو أصل دين الإسلام وأساسه، وهو معنى شهادة أن لا إله إلا الله. فدعاهم شيخنا رحمه الله إلى معنى هذه الكلمة، وهو ترك الشرك في العبادة، وإخلاصها بجميع أنواعها لله وحده، وأمرهم بفعل ما أوجب الله عليهم من حقوق التوحيد، وأعمال الإسلام، فدعاهم إلى العمل بأركان الإسلام، والتزام أركان الشريعة والعمل بها، وترك البدع. فتناولت دعوته الناس: العمل بكتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم من الأمر بالتوحيد، والأعمال الصالحة، والنهي عن الشرك والبدع والفساد؛ فصار لا يوجد فيمن أطاعه واتبعه شرك ولا بدعة، ولا فساد، ومن ترك شيئا من أحكام الشرع ألزمه فعله؛ وبهذا أيد الله من آواه ونصره، على من ناوأه من الملوك والدول، لما قاتلوهم عند هذه الدعوة على كثرة من المقاتل والمخالف لهم، في كل جهة وبلدة وإقليم. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 578 ومن المعلوم: أن أعداء الرسل الأكثرون، وأتباعهم هم الأقلون، كما قال تعالى: {وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ} [سورة هود آية: 40] ، وقال في ثمانية مواضع من سورة الشعراء، عند ذكر دعوة كل رسول يدعو قومه إلى التوحيد، في آخر كل قصة: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ} [سورة الشعراء آية: 8] ، وذلك في سور كثيرة أيضا، فتدبر; فليس العجب ممن هلك كيف هلك، إنما العجب ممن نجا كيف نجا! وقد أظهر الله هذه الدعوة، وأعز من قام بها، وتمسك بها، ودمر من ناوأهم وعاداهم، وأعز من أطاعهم ووالاهم؛ فما بقي لمن ينكر هذه الدعوة من مدة سنين، إلا الواحد والاثنان; وكثير من العلماء صنفوا في هذه الدعوة المصنفات المفيدة، كما لا يخفى. [اعتراض ابن منصور على شيخنا والرد عليه] فنذكر اعتراض ابن منصور على شيخنا، بجهله وضلاله عن الهدى، فإنه قال في أوراقه التي وجدنا في كتبه - وهي ينادى عليها تباع بعد موته - قال: محمد بن عبد الوهاب، في مواضعه التي تكلم بها على السيرة، إذا عرفت أن الإنسان لا يستقيم له إسلام، وإن وحد الله وترك الشرك، إلا بعداوة المشركين، والتصريح لهم بالعداوة والبغضاء، كما قال تعالى: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [سورة المجادلة آية: 22] الآية، الجزء: 11 ¦ الصفحة: 579 قال في الاعتراض: ظاهر هذا الكلام أن النجاشي ملك الحبشة كافر، حيث لم يصرح بعداوة قومه من النصارى; وأيضا: جعفر وأصحابه كفار، حيث لم يصرحوا بعداوة الحبشة، وكذلك مؤمن آل فرعون; فيا لله العجب! ما أعمى عين الهوى عن الهدى! انتهى. فالجواب: أما اعتراضه على شيخنا في استدلاله بالآية على تحريم موادة المشركين، فخطأ بين، فشيخنا رحمه الله تعالى، إنما قال بحكم القرآن: إن من فعل الشرك الأكبر تحرم موادته؛ وكذلك أرباب المعاصي، إذا أصروا عليها تحرم موادتهم، كما هو الواقع في كثير من الأمصار. فهذا هو الحق الذي دلت عليه الآيات، لا ينازع في هذا من عرف الواقع في الأمة، بعد القرون الثلاثة المفضلة، من الشرك الأكبر. فإذا كان عبادة الأموات، بسؤالهم قضاء الحاجات، وتفريج الكربات، وقع ممن كان يعبدهم، كما يفعل عند عبد القادر بالعراق، وكما يفعل بالشام ومصر، ومن نحا نحوهم من الأعاجم وغيرهم، فإن هذا هو الشرك الأكبر، الذي الأدلة عليه، وعلى تحريمه أكثر من أن تحصر؛ فإنه هو الذي دلت عليه الآية من تحريم موادة المشركين، وصح الاستدلال بها، كما عليه عمل الصحابة فيمن عبد اللات، والعزى، ومناة، والأصنام وغيرها، من قريش وغيرهم سواء بسواء. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 580 فإن شرك هؤلاء أغلظ من شرك أولئك المشركين، من وجوه لا تخفى على ذوي البصائر; فإذا كان يعتقد أن هذا الذي يفعل عند القبور والمشاهد ليس بشرك، فقد وافق على هذا الاعتقاد، من كان يعبد اللات والعزى، ومناة وهبل، سواء من قريش وغيرهم، فإنهم نصبوا العداوة للنبي صلى الله عليه وسلم لما نهاهم عن عبادة هذه الأوثان. فهذا أصل عظيم يتبين به المسلم من الكافر، والمخلص من المشرك، ولا عبرة بمن زين الشرك ورضيه، وهم الأكثرون عددا في السالفين والخالفين، كما قال تعالى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [سورة الأنعام آية: 116] إلى قوله: {وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} [سورة الأنعام آية: 116] . وأما قوله: ظاهر هذا الكلام أن النجاشي ملك الحبشة كافر، حيث لم يصرح بعداوة قومه من النصارى. فالجواب من وجوه: الوجه الأول: أنه لا اعتراض على حكم القرآن بتحريم موادة المشركين. الوجه الثاني: أن المهاجرين إلى الحبشة هاجروا ليأمنوا على دينهم، حيث لم يجدوا عن ذلك بدا، إذ لم يجدوا بلدا ولا قبيلة يأمنوا فيها غير الحبشة، وهذا في أول الدعوة قبل أن تفرض الفرائض، وتنْزل الآيات في الأحكام، وبيان الحلال من الحرام، وأعظم الفرائض بعد التوحيد الصلاة، الجزء: 11 ¦ الصفحة: 581 وأخذوا عشرا بمكة لم تفرض عليهم صلاة ولا زكاة، ولا صوم ولا حج، وكذلك أحكام الهجرة والجهاد؛ كل هذا إنما نزل بعد ذلك بعد البعثة. الوجه الثالث: أن النجاشي أسلم، وطائفة من قومه كذلك أسلموا، فلهم حكم الظهور، وذلك معروف في السير والتفسير؛ فإذا ظهر الإسلام في بلد، لم تحرم الإقامة بها على من صان دينه، وأظهره. وكذلك جعفر وأصحابه، صان الله دينهم بما جرى لهم من النجاشي، قال: من سبكم غرم; فمن تابعهم في تلك البلاد قبلوا منه، ومن لم يتابعهم لم يتبعوه، ولم يلتفتوا إليه، فأظهروا دينهم على رغم من كره. والآية لا تتناول مثل هؤلاء - بحمد الله - بحيث لم تحصل منهم موادة لمشرك، ولا موافقة لهم؛ فأين هذا ممن يواد المشركين، ويظهر لهم محبتهم ومعاشرتهم؟ فهذا الذي لا يبقى معه إيمان. وأما مؤمن آل فرعون، فحذر وأنذر، ودعاهم بالترغيب والترهيب، وخوفهم من الكفر والتكذيب، قال الله تعالى: {فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا} [سورة غافر آية: 45] الآية؛ فأخرجه الله منهم، ونجا مع بني إسرائيل لما أغرق آل فرعون، فسبحان الله! أين ذهب عقل هذا الرجل؟ فلا يدري ما يقول، ففاته من العلم المعقول والمنقول. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 582 وأما قوله: ما أعمى عين الهوى عن الهدى! هذا وصف القائل بعينه؛ فإنه أجاز الشرك ونصره، وخاصم أهل التوحيد في حق ربهم تبارك وتعالى; وشيخنا رحمه الله تعالى، يقول: لا يدعى إلا الله، ولا يعبد سواه; وهذا يقول: يدعى ويستغاث بغير الله، فيما لا يقدر عليه إلا الله، قال الله تعالى: {مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [سورة هود آية: 24] . ثم قال في هذه الورقة، ثانيا: من هؤلاء المشركون الذين يطلب عداوتهم، وهم يبنون المساجد والمدارس، ويدعون بداعي الفلاح؟! فالجواب: هذا هو الذي حوله يدندن تارة، ويصرح، وتارة يلوح بأن الأمة في زمانه وما قبله ليس فيهم من تحرم موادته; بل كلهم لهم حكم الإسلام في زعمه، وهذا غاية الضلال. أما علم ما يقع عند قبور أهل البيت من الشرك العظيم، وغيرها من القبور التي بنيت عليها المساجد، وبنيت بأسمائهم المشاهد، وكثر عبادها بسؤالهم من الأموات قضاء حاجاتهم، وتفريج كرباتهم؟ وما ينحر لهم وما ينذر لهم، وغير ذلك مما لا يخفى على من له أدنى مسكة من عقل، والتفات إلى ما وقع؟ وقد عمت البلوى بهذا الشرك العظيم، فكيف يخفى هذا ويجحد؟! الجزء: 11 ¦ الصفحة: 583 لكن لما لم يفهموا التوحيد الذي دعت إليه الرسل، ولم يفهموا الشرك الذي نهى الله عنه في الآيات المحكمات، ولم يلتفتوا إلى ما بينه النبي صلى الله عليه وسلم وأخبر به أنه يقع في الأمة من التفرق والاختلاف في الدين، ومشابهة أهل الكتاب، وأن الدين يعود وغريبا كما بدأ، فخفي على هذا وأمثاله هذا الشرك الجلي. فليس لهؤلاء من العلم ما يهديهم ولا ينجيهم؛ نعوذ بالله من موت القلوب، ورين الذنوب، وقد قال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ} [سورة النحل آية: 73] الآية. وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً} [سورة الإسراء آية: 56] ، ونحو هذه الآيات، وهي في القرآن أكثر من أن تحصر، في بيان الشرك، وأنواع العبادة التي وقع الشرك بها، في الأولين والآخرين، بدعاء الأموات الغائبين، ممن لا يسمع دعاء الداعي، ولا يستجيب، ولا يحبه منه ولا يرضاه. وأما قوله: وهم يبنون المساجد والمدارس، ويدعون بداع الفلاح، فالجواب من وجوه: الوجه الأول: أن اليهود والنصارى بنوا الكنائس والبيع والصوامع، ويتعبدون الجزء: 11 ¦ الصفحة: 584 فيها، فلم يتركوا دينهم رأسا، ويقرؤون التوراة والإنجيل، ويحكمون بكثير من الأحكام الشرعية، مع ما وقع منهم من الكفر والشرك؛ وقد قال تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} [سورة المائدة آية: 78] الآيات. وقال قبلها في حق عيسى: {قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [سورة المائدة آية: 76] ، وذكرهم في صدر سورة البقرة لما وقع منهم من عظائم الذنوب. الوجه الثاني: أن الشرك مبطل للأعمال، فلا ينفع معه عمل لامرئ، وإن قام ليله وصام نهاره؛ فصورة العمل لا تنفع إلا بالإخلاص والمتابعة. وكثير من الجهال اغتروا بصورة الأعمال، ولم يأتوا بشرطها وهو التوحيد، فصارت كسراب بقيعة، كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ} [سورة النور آية: 39] الآية؛ فهذه حال الأعمال مع الشرك، كالسراب الذي يحسبه الظمآن ماء، حتى إذا جاءه لم يجده شيئا. قال الفضيل بن عياض، في قوله تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} ، قال: "أخلصه وأصوبه; قيل له: يا أبا علي: ما أخلصه وأصوبه؟ قال: إن العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل، وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل، حتى يكون خالصا صوابا". الجزء: 11 ¦ الصفحة: 585 فالخالص أن يكون لله، والصواب: أن يكون على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأيضا: فقد ذكر الفقهاء، في حكم المرتد: أن الرجل قد يكفر بقول يقوله، أو عمل يعمله، وإن كان يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله ويصلي، ويصوم، ويتصدق، فيكون مرتدا تحبط أعماله ما قال أو فعل، خصوصا إن مات على ذلك، فيكون حبوط أعماله إجماعا، بخلاف ما إذا تاب قبل الموت، ففيه الخلاف. والمقصود: أن الأعمال لا ينفع منها شيء مع الشرك، ولهذا ذكر الفقهاء أن الردة تنقض الوضوء، لفوات النية بالردة، فيفوت استصحابها؛ وكل هذا بين لا يخفى إلا على البلداء الأغبياء. فبهذه الأمور يبطل ما احتج به، من أن الصلاة والأذان ينفع مع الشرك، وهذا لا يقوله من له أدنى مسكه من عقل، والله أعلم. نسأل الله الثبات على الإسلام والسنة، وأن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. آخر الجزء الحادي عشر من الدرر السنية، ويليه الجزء الثاني عشر، وأوله: وله أيضا ... إلخ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 586 المجلد الثاني عشر: (القسم الثاني من كتاب مختصرات الردود) تابع كتاب مختصرات الردود ... [جواب الشيخ عبد الرحمن بن حسن على ابن منصور] وله أيضا: أي الشيخ عبد الرحمن بن حسن، صب الله عليه من شآبيب بره، ووالى: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، محمد وآله وصحبه وسلم تسليما. أما بعد: فليعلم أن هذا الذي علقته في هذه الورقات، قد اقتصدت فيه، واقتصرت على ما تحصل به الفائدة، ويحصل به الثواب من الكريم الوهاب، لأنه من أفضل الجهاد في الدين، والنصيحة لعامة المسلمين، ولمن يصل إليه ممن له رغبة في معرفة حقيقة الدين، الذي بعث الله به الأنبياء والمرسلين. فأقول - قبل الشروع في تحرير الجواب -: إن عثمان بن منصور اعترض على شيخنا رحمه الله، فيما دعا إليه من توحيد الله تعالى من الحنيفية ملة إبراهيم، وما بعث به محمد النبي الكريم، صلوات الله وسلامه عليهما، وعلى جميع المرسلين. فقال: إنه لم يتخرج على أشياخ في العلم، وهذا مما افتراه واختلقه، عمن استند إليه من شيوخه الثلاثة: ابن سند، وابن جديد، وابن سلوم؛ وهذا من جهلهم بحال شيخنا، وشدة عداوتهم له; فتلقى عن هؤلاء الثلاثة ما زعموه، من الكذب والبهتان. والجواب عن هذا: أنه لا يعرف شيخنا، ولا حيث نشأ، الجزء: 12 ¦ الصفحة: 5 كما يعرفه الخبير بحاله، ممن يقول الحق ويقصده، ويتحرى الصدق ويؤثره ; فلا ريب أنه لما قدم جده سليمان بن علي، من الروضة، ونزل العيينة، كان أفقه من نزل نجدا في وقته، فتخرج عليه خلق كثير من أهل نجد، منهم ابناه عبد الوهاب وإبراهيم. وكان المتولي للقضاء في العارض: أبوه عبد الوهاب; وكان عمه يسافر إلى ما حولهم من البلاد، لحاجتهم إليه في الإفتاء، وما يقع بينهم من بيع العقارات، وكان عليه اعتمادهم فيما كتبه وأثبته؛ وأكثر إقامته مع أخيه عبد الوهاب. فظهر شيخنا بين أبيه وعمه، فحفظ القرآن وهو صغير. وقرأ في فنون العلم، وصار له فهم قوي، وهمة عالية في طلب العلم، فصار يناظر أباه وعمه في بعض المسائل بالدليل، على بعض الروايات عن الإمام أحمد، والوجوه عن الأصحاب، فتخرج عليهما في الفقه، وناظرهما في مسائل، قرأها في الشرح الكبير والمغني، والإنصاف، لما فيهما من مخالفة ما في متن المنتهى والإقناع. وعلت همته إلى طلب التفسير والحديث، فسافر إلى البصرة غير مرة، كل مرة يقيم بين من كان بها من العلماء، فأظهر الله له من أصول الدين، ما خفي على غيره، وكذلك ما كان عليه أهل السنة، في توحيد الأسماء والصفات والإيمان. فيقال في الجواب: أنت يا ابن منصور، إنما افتخرت الجزء: 12 ¦ الصفحة: 6 برحلتك إلى البصرة والزبير، وأقمت بين أشياخك الثلاثة، فما الذي خصك بأخذ العلم منها دونه؟ إذا كان الكل قد سافر إليها، وجالس العلماء، وتميز عنك بالأخذ عما لا يتهم في حقه بالكذب والزور، وأنت قبلت فيه قول أهل الريب والفجور. فصنف في البصرة كتاب التوحيد، الذي شهد له بفضله بتصنيفه القريب والبعيد، أخذه من الكتب التي في مدارس البصرة من كتب الحديث. وأما أنت يا ابن منصور فأي علم جئت به من رحلتك؟ ضيعت زمانك، وأخملت شأنك، وصرت ضحكة عند من أخذ عمن أخذ عن هذا الشيخ، وقد عدوا عليك من الغلطات ما لا فائدة في عدها هنا، وأنت لم تنقل عنهم واحدة غلطوا فيها، وذلك ببركة ما حصلوه ممن أخذ عن شيخ الإسلام، محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، فكيف حالك لو رأيت من أخذ عنه؟ لكنت في نفسك أحقر; ومن الدليل على ما ذكرته هنا: أنه طلب الإجازة مني على هذا الكلام، فأجزته بمروياتي في الحديث وغيره، ظنا مني أنه على هدى، وأنه بأهل العلم قد اقتدى. ثم إن شيخنا رحمه الله تعالى، بعد رحلته إلى البصرة، وتحصيل ما حصل بنجد وهناك، رحل إلى الأحساء، وفيها فحول العلماء، منهم عبد الله بن فيروز، أبو محمد الكفيف، ووجد عنده من كتب شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم ما سر به، وأثنى على عبد الله هذا بمعرفته بعقيدة الإمام أحمد. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 7 وحضر مشائخ الأحساء، ومن أعظمهم: عبد الله بن عبد اللطيف القاضي، فطلب منه أن يحضر الأول من فتح الباري على البخاري، ويبين له ما غلط فيه الحافظ في مسألة الإيمان، وبين أن الأشاعرة خالفوا ما صدر به البخاري كتابه، من الأحاديث والآثار، وبحث معهم في مسائل وناظر؛ وهذا أمر مشهور يعرفه أهل الأحساء، وغيرهم من أهل نجد، فإذا خفي عليك يا ابن منصور، أو جحدته، فغير مستغرب، والعدو يجحد فضائل عدوه. كل العداوة قد ترجى مودتها ... إلا عداوة من عاداك في الدين ثم إن شيخنا رحمه الله رجع من الأحساء إلى البصرة، وخرج منها إلى نجد قاصدا الحج، فحج رحمه الله تعالى، وقد تبين له بما فتح الله تعالى عليه، ضلال من ضل، باتخاذ الأنداد، وعبادتها من دون الله، في كل قطر وقرية، إلا من شاء الله. فلما قضى الحج وقف في الملتزم، وسأل الله تعالى أن يظهر هذا الدين بدعوته، وأن يرزقه القبول من الناس، فخرج قاصدا المدينة مع الحاج يريد الشام، فعرض له بعض سراق الحجيج، فضربوه وسلبوه، وأخذوا ما معه وشجوا رأسه، وعاقه ذلك عن مسيره مع الحجاج. فقدم المدينة بعد أن خرج الحاج منها، فأقام بها، وحضر عند العلماء إذ ذاك، منهم محمد حياة السندي، وأخذ عنه كتب الحديث إجازة في جميعها، وقراءة لبعضها، ووجد فيها بعض الجزء: 12 ¦ الصفحة: 8 الحنابلة، فكتب كتاب الهدي لابن القيم بيده، وكتب متن البخاري، وحضر في النحو، وحفظ ألفية ابن مالك، حدثني بذلك حماد بن حمد عنه رحمهما الله. ثم رجع إلى نجد وهم على الحالة التي لا يحبها الله ولا يرضاها، من الشرك بعبادة الأموات، والأشجار، والأحجار، والجن، فقام فيهم يدعوهم إلى التوحيد، وأن يخلصوا العبادة بجميع أنواعها لله، وأن يتركوا ما كانوا يعبدونه من قبر أو طاغوت، أو شجر أو حجر؛ والناس يتبعه منهم الواحد والإثنان. فصاح به الأكثرون، وحذروا منه الملوك، وأغروهم بعداوته، حتى إن ابن حميد ملك الأحساء والقطيف والبادية، أرسل إلى ابن معمر أمير العيينة أن يقتله، أو ينفيه، فنفاه إلى الدرعية. وتلقاه محمد بن سعود رحمه الله، وأولاده، وإخوته، فصبروا على حرب القريب والبعيد، حتى أظهر الله هذا الدين، فنجا بدعوته من أنجاه الله من الشرك والضلال، وهلك بدعوته من هلك ممن بغى وطغى، واستكبر وحسد؛ وكل من دعا إلى ما دعت إليه الرسل، لا بد أن يقع له من الناس ما وقع لهم. والمقصود: ذكر نعمة الله تعالى على شيخنا رحمه الله تعالى، وبيان كذب المفتري، وأنه نشأ في طلب العلم، وتخرج على أهله في سن الصبا، ثم رحل لطلب العلم للبصرة مرارا وللأحساء، ثم إلى المدينة؛ والمعول على ما وهبه الله من الفهم والحفظ، الجزء: 12 ¦ الصفحة: 9 وتمييز الحق من الباطل، ومعرفة حقيقة التوحيد، وما ينافيه من الشرك الأكبر، وسبيل أهل السنة، ومعرفة ما خالف السنة من البدع؛ أعطاه الله في ذلك علما عظيما، فصار بذلك يشبه أكابر علماء السنة، وما كان عليه السلف الصالح، فصار آية في العلوم، ونفع الله بدعوته الخلق الكثير، والجم الغفير، وبقيت علومه في الناس، يعرفها العام والخاص، من أهل نجد وغيره. وما أنكر هذه الدعوة الإسلامية، بعد ظهورها في نجد وما والاه، إلا جاهل معاند، لا يدري، ولا يدري أنه لا يدري؛ فدحضت - بحمد الله - حجة كل مجادل ومعاند، ومما حل، فأتم الله نعمته على من قبل هذه الدعوة الإسلامية. وقد قال بعض العلماء، رحمهم الله: الإخلاص سبيل الخلاص، والإسلام مركب السلامة، والإيمان خاتم الأمان; فالحمد لله على تمام هذه النعمة العظيمة، التي لا نعمة أكبر منها، فلا أعظم منها ولا أنفع. إذا عرف مما تقدم ما افتراه ابن منصور على شيخنا، وأنه صدر عن غير علم ولا معرفة بحاله في نشأته وطلبه، فينبغي أن نزيد ما تقدم من الانتصار لإمام الدعوة الإسلامية النبوية رحمة الله عليه، فنقول: ما أدراه عن حال شيخنا رحمة الله عليه؟ وقد تقدم أنه لا دراية له ولا عناية له بحاله، يعرف ذلك مما قدمناه. ومن المعلوم أنه لا يعتني بمعرفة حال مثله، إلا من أحبه وأحب ما قام به، ودعا إليه، وأما من انحرف عنه، وعن الجزء: 12 ¦ الصفحة: 10 دعوته في مبدأ نشأته، وتوجه برحلته إلى من اشتدت عداوته له في دينه، كابن سند، وابن جديد، وابن سلوم، فهؤلاء الثلاثة المذكورون قد أشربوا عداوة التوحيد ومن دعا إليه فصار أهل التوحيد هم أعداؤهم، بما أشربوه من كراهته، وكراهة من دان به. فلعله أخذ عنهم ما وضعه في كتبه من الزور، والكذب والفجور، وانتصر فيها لعباد القبور، وزعم أنهم مسلمون، لأنهم يقولون لا إله إلا الله، ويصلون; والعدو لا يرى محاسن عدوه، خصوصا إذا عاداه في الدين، وصاروا أعداء لكل موحد، ونصرة لكل مشرك ملحد، فأخذ عنهم هذه البضاعة، وشنع على إمام المسلمين بما أودعه كتبه غاية الشناعة؛ ولا ريب أن شره إنما يعود عليه، ويرجع وبال ذلك كله عليه. والمقصود: أن يعلم أن هؤلاء الثلاثة هم أشياخه، الذين تخرج عليهم بالانحراف عن الدين، وتضليل الموحدين، ولولا أنه شحن كتبه بذلك، لما ذكرناه، وهذا هو المحصول الذي حصله، والأساس الذي أسسه وأصله. فقدم بنجد بعد طول المقام، عند أولئك الملحدين المنحرفين عن الدين، فصار حظه جمع الكتب، من غير رواية لها ولا دراية، ولم ير للعلم عليه أثر. مع أن هؤلاء مع ما فيهم من العداوة، صاروا أعقل منه، فلم يكتبوا شيئا من هذه الأكاذيب، والزندقة، والتخليطات الفاسدة، وهذا لقلة عقله وفساد قصده جرى منه ما جرى. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 11 وبالجملة: فقد قال العلامة ابن القيم، رحمه الله تعالى: فالحاسد يحمله بغض المحسود على معاداته، والسعي في أذاه بكل ممكن، مع علمه بفضله وعلمه، وأنه لا شيء فيه يوجب عداوته، إلا محاسنه وفضائله ; ولهذا قيل للحاسد: عدو النعم والمكارم. فالحاسد لم يحمله على معاداة المحسود، جهله بفضله أو كماله; وإنما حمله على ذلك: فساد قصده وإرادته، كما هي حال أعداء الرسل مع الرسل، انتهى. وقال العماد بن كثير في تفسيره، قال تعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [سورة الأنعام آية: 110] ؛ والآيات في هذا المعنى كثيرة، دلت على أن الله عز وجل يجازي من قصد الخير بالتوفيق، ومن قصد الشر بالخذلان، وكل ذلك بقدر مقدر. ونسأل الله الكريم رب العرش العظيم بكلماته، وبآياته التي أنزلها على نبيه صلى الله عليه وسلم لهداية عباده أن يجعل ما كتبنا في هذا وغيره نصرة لهذا الدين، الذي أكرم به عباده المؤمنين، وأن لا يجعله انتصارا لأنفسنا، ولا لسلفنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه، ونسأله العفو والعافية في الدنيا والآخرة، وحسبنا الله ونعم الوكيل. ثم قال الشيخ: عبد الرحمن بن حسن، رحمه الله تعالى: وقد أخبر شيخنا، رحمه الله تعالى أنه كان في ابتداء طلبه للعلم، وتحصيله في فن الفقه وغيره، لم يتبين له الضلال، الجزء: 12 ¦ الصفحة: 12 الذي كان الناس عليه من عبادة غير الله، من جن أو غائب، أو طاغوت أو شجر، أو حجر، أو غير ذلك. ثم إن الله جعل له نهمة، في مطالعة كتب التفسير والحديث، وتبين له من معاني الآيات المحكمات، والأحاديث الصحيحة أن هذا الذي وقع فيه الناس، من هذا الشرك: أنه الشرك الذي بعث الله رسله، وأنزل كتبه بالنهي عنه، وأنه الشرك الذي لا يغفره الله لمن لم يتب منه. فبحث في هذا الأمر مع أهله، وغيرهم من طلبة العلم، فاستنار قلبه بتوحيد الله، الذي أرسل الله به رسله، وأنزل به كتبه، فأعلن بالدعوة إليه، وبذل نفسه لذلك على كثرة المخالفين، وصبر على ما ناله من الأذى العظيم في ابتداء دعوته. فلما اشتهر أمره أجلبوا عليه بالعداوة، خصوصا العلماء والرؤساء، وحرصوا على قتله؛ فأتاح الله له من ينصره على قلة منهم وحاجة، وتصدى لحربهم القريب والبعيد، واستجلبوا على حربهم الدول. ونذكر بعض ما جرى عليهم ممن عاداهم، وتأييد الله لهم ونصره على قلة منهم وضعف، وقوة من عدوهم وكثرة، لما فيه من العبرة، والشهادة لهم أنهم على الحق، وعدوهم على الباطل، فأخذت من حفظي بعض الوقائع، التي جرت عليهم من عدوهم في الدين، وفيها شبه بما جرى لنبينا صلى الله عليه وسلم من عدوه، ونصر الله له، فأقول: الجزء: 12 ¦ الصفحة: 13 المقام الأول: أن شيخنا شيخ الإسلام، محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى، لما ألهمه الله رشده وفتح بصيرته في تمييز الحق من الضلال، وأنكر ما عليه الناس من الشرك فبادروه بالعداوة والإنكار لمخالفتهم ما قد اعتادوه ونشؤوا عليه هم وأسلافهم من الشرك والبدع; وأعظم من عاداه ونفر الناس من دعوته العلماء والرؤساء، كما قال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [سورة غافر آية: 83] ، وفيه مشابهة لنبينا صلى الله عليه وسلم فيما ناله من الرؤساء، والأحبار في الابتداء; فإن شيخنا رحمه الله تعالى أظهر هذه الدعوة في بلد العيينة - وهي في أعلى وادى حنيفة -، فاستحسن دعوته من استحسنها، وقبلها من قبلها، وأنكرها من أنكرها. ثم إن أهل الأحساء، لما استصرخوا شيخهم سليمان آل محمد، شيخ بني خالد، وأرسل إلى ابن معمر شيخ العيينة، بأن يقتله، فهاجر إلى الدرعية بلد محمد بن سعود، فتلقاه هو وأولاده بالقبول، وتابعهم على ذلك أكثر أهل بلده وقبيلته، على قلة منهم، وضعف، كما قدمناه. فصبروا على مخالفة الناس، والملوك ممن حولهم، والبعيد عنهم؛ وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب؛ ولهذا تحمل هذا الرجل وأتباعه، عداوة كل من عادى هذا الدين، قال تعالى: {يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [سورة البقرة آية: 105] . وقد قال هرقل لأبي سفيان: وسألتك هل الجزء: 12 ¦ الصفحة: 14 يرتد أحد سخطه لدينه، فذكرت أن لا، فكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب. فأشبه أمر هذا الشيخ، رحمه الله تعالى ما جرى لخاتم النبيين، حتى في مهاجره، وأنصاره، وكثرة من عاداه وناوأه في الابتداء، كما هو حال الحق في المبادي، يرده الكثير وينكرونه، ويقبله القليل وينصرونه; فأول من عاداهم: أقرب الناس إليهم بلدا، وأقواه كثرة ومالا، بلاد دهام بن داوس. وهو أول من شن الغارة عليهم على غفلة وغرة، وعدم الاحتساب منهم، فخرجوا إليه على فشل، فقتل منهم رجالا، منهم فيصل بن سعود، وسعود بن محمد بن سعود، فسبحان من قوى جأش هذا الرجل على نصرة هذا الدين، حين قتل ابناه; ثم سطا عليهم مرة ثانية، فقتل كثيرا ممن سطا بهم، فأخذ المسلمون الثأر منهم. ثم بعد ذلك استمر الحرب بينهم وبينه، أكثر من ثلاثين سنة، وفي تلك الثلاثين السنة أو أكثر، أعانه على حربهم أهل نجران، وابن حميد شيخ بني خالد، مرارا، فيأتونهم بأنواع الكيد والكثرة، فينصرهم الله عليهم، وفي ذلك أعظم عبرة. وبعد هذه المدة وقع بينه وبين المسلمين وقعة بين البلدين، فقتل فيها ابناه "دواس" و "سعدون" فانتهى أمره، فخرج من بلده هاربا في يوم صيف شديد الحر، وتبعه من تبعه؛ فصارت بلده فيئا للمسلمين، ولم يبق لآل دواس بعد ذلك عين تطرف، الجزء: 12 ¦ الصفحة: 15 فاعتبروا يا أولي الأبصار! المقام الثاني: ما في دعوة هذا الشيخ رحمه الله ابتداء، من المشابهة لما جرى للنبي صلى الله عليه وسلم: في أول دعوته قريشا والعرب، إلى التوحيد، والإيمان بالقرآن، وقد قال صلى الله عليه وسلم " بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ" 1. وفي حديث عمرو بن عبسة، الذي رواه مسلم وغيره، "أنه قدم مكة فاجتمع بالنبي صلى الله عليه وسلم في أول بعثته، فأخبره أن الله بعثه بأن يعبد الله وحده، ولا يشرك به شيئا"، وغير ذلك مما هو مذكور في الحديث، من نفي عبادة الأوثان، والأمر بمكارم الأخلاق; فقال له عمرو: " من معك على هذا؟ قال: حر وعبد; ومعه يومئذ أبو بكر وبلال " 2. فما زال الحق يزيد بزيادة من قبله، ودخل فيه، حتى أكمل الله لهذه الأمة الدين، وأتم عليهم النعمة. وقد قال هرقل لأبي سفيان، لما سأله عن أتباع النبي صلى الله عليه وسلم: أيزيدون أم ينقصون؟ قال: بل يزيدون، قال هرقل: وكذلك أتباع الرسل. وبهذه المشابهة يتحقق المنصف أن هذا الدين الذي دعا إليه هو الحق، وأنه هو الذي دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم كما دلت عليه الآيات المحكمات، التي لا يخفى معناها إلا على من عميت بصيرته، وفسدت سريرته. فتأمل حماية الله ونصره لمن قبل هذه الدعوة، ونصرها، على ضعف منهم في الحال، وقلة من العدد والرجال، مع كثرة   1 مسلم: الإيمان 145 , وابن ماجه: الفتن 3986 , وأحمد 2/389. 2 أحمد 4/114. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 16 من خالفهم من قريب وبعيد، وكثير وقليل مع الكيد الشديد، فأبطل الله كيدهم، وصارت الغلبة للحق وأهله، ومحق الله الباطل وأهله. المقام الثالث: وفيه حجة أيضا ومعتبر، ودليل على صحة هذا الدين، ومدكر لمن عقل وافتكر، وذلك أن الذين أنكروا هذه الدعوة، من الدول الكبار، والشيوخ وأتباعهم من أهل القرى والأمصار، أجلبوا على عداوة هذا العدد القليل، في حال تخلف الأسباب عنهم وفقرهم، فرموهم عن قوس العداوة. من أهل نجد: دهام بن داوس المتقدم ذكره، وابن زامل، وآل بجاد أهل الخرج، ومحمد بن راشد صاحب الحوطة، وتركي الهزاني، وزيد، ومن والاهم من الأعراب والبوادي، كذلك العنقري في الوشم ومن تبعه، وشيوخ قرى سدير والقصيم، وبوادي نجد، وابن حميد ملك الأحساء، ومن تبعه من حاضر وباد. كلهم مجمعون لحرب المسلمين، مرارا عديدة مع عريعر، وأولاده. منها: نزولهم على الدرعية، وهي شعاب لا يمكن تحصينها بالأبواب والبناء؛ وقد أشار إلى ذلك العلامة: حسين بن غنام رحمه الله، حيث يقول شعرا: وجاؤوا بأسباب من الكيد مزعج ... مدافعهم يزجي الوحوش رنينها فنَزلوا البلاد، واجتمع من أهل نجد حتى من يدعي أنه الجزء: 12 ¦ الصفحة: 17 من العلماء؛ ولما قيل لرجل منهم، وهو من أمثل علمائهم وعقلائهم: كيف أشكل عليكم عريعر وفساده، وظلمه، وأنتم تعينونه وتقاتلون معه؟ فقال: لو أن الذي حربكم إبليس لكنا معه. والمقصود: أن الله تعالى ردهم بغيظهم لم ينالوا خيرا، وكفى الله المؤمنين القتال، وحمى الله تلك القرية، فلم يشربوا من آبارها. وأما وزير العراق، فسار مرارا عديدة بما يقدر عليه من الجنود والكيد الشديد، وأجرى الله عليهم من الذل ما لا يخطر ببال، قبل أن يقع بهم ما وقع. من ذلك: أن ثويني في مرة من المرار، مشى بجنوده إلى الأحساء بعد ما دخل أهلها في الإسلام، في حال حداثتهم بالشرك والضلال، فلما قرب من تلك البلاد، أتاه رجل مسكين لا يعرف، من غير ممالأة لأحد من المسلمين، فقتله فمات؛ فنصر الله هذا الدين برجل لا يعرف، وذلك مما به يعتبر، فانفلّت تلك الجنود، وتركوا ما معهم من المواشي والأموال، خوفا من المسلمين ورعبا، فغنمها من حضر; وقد قال الشيخ حسين بن غنام في ذلك: تقاسمتم الأحساء قبل منالها ... فللروم شطر والبوادي لهم شطر ثم جددوا أسبابا لحرب المسلمين، وساروا بدول عظيمة يتبع بعضها بعضا، وكيد عظيم، فنَزلوا الأحساء، وقائدهم الجزء: 12 ¦ الصفحة: 18 "علي كيخيا" فتحصن من ثبت على دينه في "الكوت" و "ثغر صاهود" فنَزل بهم، وصار يضربهم بالمدافع والقنابل، وحفر اللغوب؛ فأعجزه الله، ومن معه ممن ارتد عن الإسلام، فولى مدبرا بجنوده. فاجتمع بسعود بن عبد العزيز في "تاج" وغزوه الذين معه رحمه الله; والذين معه من المسلمين أقل من "المنتفق" و "آل ظفير" الذين مع الكيخيا، فألقى الله الرعب في قلوبهم على كثرتهم، وقوتهم، فصارت عبرة عظيمة؛ فطلبوا الصلح على أن يدعهم سعود يرجعون إلى بلادهم، فأعطاهم أمانا على الرجوع، فذهبوا في ذل عظيم; فلما قدم كل منهم مكانه، مات سليمان باشا؛ وذلك من نصر الله لهذا الدين، فأهلك الله من أنشأ هذه الدولة. تم قام علي كيخيا فصار هو الباشا، فأخذ يجدد آلة الحرب، فجمع من الكيد والأسباب، أعظم مما كان معه في تلك الكرة. فلما كملت أسبابه، وجمع الجموع، فلم يبق إلا خروجه لحرب المسلمين، لينتقم من أهل هذا الدين، سلط الله عليه صبيين مملوكين عنده يبيتونه، فقتلوه آخر الليل؛ فخمدت تلك النيران، وتفرقت تلك الأعوان، فما قام لهم قائمة حتى الآن. فيا لها من عبرة ما أظهرها لمن له أدنى بصيرة! فاعتبروا يا أولي الأبصار! فأين ذهب عقل من أنكر هذا الدين وجادل، وكابر في دفع الأدلة على التوحيد وماحل؟! الجزء: 12 ¦ الصفحة: 19 المقام الرابع: ما جرى من العبر في حرب أشراف مكة، لهذه الدعوة الإسلامية، والطريقة المحمدية، وذلك أنهم من أول من بدأ المسلمين بالعداوة، فحبسوا حاجهم، فمات في الحبس منهم عدد كثير، ومنعوا المسلمين من الحج أكثر من ستين سنة؛ وفي هذه المدة سار إليهم غالب الشريف، بعسكر كثيف، وكيد عنيف، فقدم أخاه عبد العزيز قبله بالخروج، فنَزل على قصر بسام، فأقام مدة يضرب بالمدافع والقنابل، وجر عليه الزحافات؛ فأبطل الله كيده على هذا القصر، الضعيف بناؤه، القليل رجاله، فرحل منه. ووافى غالبا ومعه أكثر الجنود، ومعه من الكيد مثل ما كان مع أخيه أو يزيد، فنَزلوا جميعا "بالشعرى"، فأخذ في حربهم بكل كيد، فأعجزه الله، هو ومن معه، عن ذلك البناء الضعيف، الذي لم يتأهب أهله للحرب بالبناء، ولا بالسلاح، فأبطل الله كيده، ورده عنهم بعد الإياس والإفلاس. فسلط الله المسلمين على من كان معه من الأعراب، خصوصا "مطير" فأوقع الله بهم في العداوة ومعهم مطلق الجربا، فهزمهم الله تعالى، وغنم المسلمون جميع ما كان معهم من الإبل والخيل، وسائر المواشي؛ فصار ما ذكرناه من نصر الله، وتأييده لأهل هذا الدين، عبرة عظيمة، وفي جملة قتلاهم حصان إبليس. وبعد ما ذكرناه، جد غالب في الحرب، واجتهد، لكن صار حربه للأعراب، ولم يتعد النير، فيعدو على من استضعف الجزء: 12 ¦ الصفحة: 20 ويغير، فأعطى الله أعراب المسلمين الظفر عليه في عدة وقعات، من أعظمها وقعة الخرمة على يد ربيع، وغزوه من أهل الوادي وقحطان، فهزمه الله تعالى، واشتد القتل في عسكره، فأخذوا جميع ما كان معه من المواشي وغيرها، فصار بعد ذلك في ذل وهوان. وفتح الله الطائف للمسلمين، وصار أميره عثمان بن عبد الرحمن، فاجتمع فيه دولة للمسلمين، وساروا لحرب الشريف، ومعهم عبد الوهاب أبو نقطة أمير عسير، وسالم بن شكبان أمير أكعل بيشة، فنَزلوا دون الحرم. فخرج إليهم عسكر من مكة فقتلوهم، فطلب الشريف المذكور منهم الأمان، فلم يقبلوا منه إلا الدخول في الإسلام، والبيعة للإمام سعود، فأعطاهم البيعة على يد رجال بعثوهم إليه، هذا بعد وقعات تركنا ذكرها كراهة الإطالة، لأن القصد بهذا الموضع: الاعتبار بما جرى لأهل هذه الدعوة، من النصر والتأييد، والظهور على قلة أسبابهم، وكثرة عدوهم وقوته، وذلك من آيات الله وبيناته على أن ما قام به هذا الشيخ في حال فساد الزمان، أنه الدين الذي بعث الله به رسله؛ وتبين أن هذه الطائفة في هذه الأزمنة، هي الطائفة المذكورة في قوله صلى الله عليه وسلم: "ولا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم، حتى يأتي أمر الله تبارك وتعالى وهم على ذلك ". الجزء: 12 ¦ الصفحة: 21 وقد كانت هذه الطائفة قبل ظهور الشيخ فيما تقدم، موجودة في الشام، والعراق ومصر وغيرها، بوجود السنة وأهلها، وأهل الحديث في القرون المفضلة وبعدها، فلما اشتدت غربة الإسلام، وقل أهل السنة، واشتد النكير عليهم، وسعى أهل البدع في إيصال المكر إليهم، من الله بهذه الدعوة، فقامت بها الحجة، واستبانت بها المحجة؛ فيا سعادة من قبلها وأحبها ونصرها و {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [سورة الجمعة آية: 4] . وأهل العلم من أتباع السلف، والأئمة، لهم المصنفات المفيدة في بيان التوحيد، توحيد الربوبية، وتوحيد الإلهية، وتوحيد الأسماء والصفات، والكثير منها موجود بأيدي علماء المسلمين؛ وما علمنا أحدا بعد القرن الثامن في حال اشتداد غربة الإسلام، يذكر، بمعرفة ما عليه أهل السنة في أنواع التوحيد، أو يلتفت إلى كتبهم، ولا عرفوا الشرك الذي لا يغفره الله. فلذلك لم ينكر منهم منكر، ولا أخبر بوقوعه من علمائهم مخبر، حتى أظهر الله هذا النور، وشفى الله به الصدور، وظهرت كتب أهل السنة، وعظمت بمعرفتها والدعوة إليها المنة؛ يعرف ذلك من عرفه، وشكره وأحبه وقبله، فلا عبرة بمن أخلد إلى الأرض، والغفلة والإعراض والجهل. المقام الخامس: أن كل من ذكرنا ممن عاداهم، من أهل نجد والأحساء، وغيرهم من البوادي، أهلكهم الله، ولحقتهم الجزء: 12 ¦ الصفحة: 22 العقوبة حتى في الذراري، والأموال، فصارت أموالهم فيئا لأهل الإسلام، كما يروى عن زيد بن عمرو بن نفيل، حيث يقول: عجبت وفي الليالي معجبات ... وفي الأيام يعرفها البصير بأن الله قد أفنى رجالا ... كثيرا كان شأنهم الفجور وأبقى آخرين ببر قوم ... فيربو منهم الطفل الصغير وانتشر ملكهم، وصار كل من بقي في مكانهم سامعا مطيعا لإمام المسلمين، القائم بهذا الدين؛ فانتشر ملك أهل الإسلام، حتى وصل إلى حدود الشام مع الحجاز وتهامة وعمان، وصاروا - بحمد الله - بأمن وأمان، يخافهم كل مبطل وشيطان؛ ففي هذا معتبر لأهل الاعتبار، مع ما وقع بمن حاربهم من الخراب والدمار، واستيلاء المسلمين على ما كان لهم من العقار والديار. فلا يرتاب في هذا الدين بعد هذا البيان، إلا من عميت بصيرته، وفسدت علانيته وسريرته. المقام السادس: أن كل من أظهر النفاق، وأضمر الشقاق، صار مكروها مبغضا ممقوتا، وكل ما أبداه المشبهون والمموهون، من زخارفهم، وكذبهم وباطلهم وعنادهم، وفسادهم في أقوالهم، وأحوالهم انعكس عليهم المراد، وحرموا التوفيق والسداد، وصاروا مثلة، حتى استوحش منهم أكثر العباد، ومقتهم كل حاضر وباد؛ فما صار لهم باطل يظهر، ولا شبهة تذكر، اللهم إلا ما كانوا يستخفون به عن الناس - حين ظهرت الجزء: 12 ¦ الصفحة: 23 أنوار التوحيد، واستعلت وزال بها الالتباس - مخافة المقت والشناعة، حين كسدت لهم تلك البضاعة؛ وهذه العبر يعتبر بها الأريب، إذ هو من الحق وقبول العلم قريب. المقام السابع: أن كثيرا ممن عاداهم ابتداء، تبين له صحة ما دعا إليه هذا الشيخ، وأنه الحق الذي بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه، وأنه علم من اتبعه ما أوجبه الله عليهم وحرمه، وعلمهم مكارم الأخلاق، ونهاهم عن سفاسفها. فمن ذلك: ما حدثنا به عثمان بن عبد الرحمن المضايفي - لما أتى راغبا في هذا الدين - أن جاسر الحسيني الذي جلا من حرمه، لعداوة هذا الدين، سكن بغداد، ثم صار في سنين ظهور الإسلام في نجد وما والاه، حضر عند الشريف غالب مجاورا، فسمع الشريف المذكور يسب شيخ الإسلام، محمد بن عبد الوهاب. فقال له: يا شريف، لك علي من المعروف، ما يوجب أن أنصح لك. لا تقل هذا في الشيخ محمد بن عبد الوهاب، فإنه قام بنجد وهم في أسوإ حال من الفساد، والظلم والضلال، فجمعهم الله تعالى به بعد التفرق والاختلاف، وعلمهم مكارم الأخلاق، حتى ما ينبغي أن يقولوه في مخاطباتهم، وما لا ينبغي أن يقولوه من الألفاظ المستكرهة. فاحذر أن تذكره بسوء! وهذا الذي ذكره جاسر للشريف، اعترف به كثير؛ حتى من أهل مصر والشام، والعراق، اعترفوا بصحة هذه الدعوة الجزء: 12 ¦ الصفحة: 24 الإسلامية، والسنة المحمدية، وأكثروا الدعاء له؛ وهذا من العبر والدلالة على صحة ما جدده شيخ الإسلام من الدين، بعد ما اشتدت غربته في كل زمان ومكان، وصار من يطلب العلم ويعلمه، لا يعرف حقيقة التوحيد، ولا ما ينافيه من الشرك والتنديد، مع قراءتهم للقرآن، والأحاديث، لكن جهلوا ما هو المراد من الحق، الذي يأمرهم به رب العباد. فظهر الحق بعد الخفاء، وتبين ما دلت عليه الآيات المحكمات، والبراهن البينات، وتبين الحق بعد أن كان مجهولا، وعرف الباطل، فصار بهذه الدعوة مخذولا. فهذا مقام لا يخفى إلا على من جحد الحق، وكابر وعاند، ممن عميت بصيرته؛ نعوذ بالله من رين الذنوب، وموت القلوب. المقام الثامن: أن الله سبحانه ألبس هذه الطائفة أفخر لباس، واشتهر في الخاصة والعامة من الناس، فلا يسميهم أحد إلا بالمسلمين، وهو الاسم الذي سمى الله به عباده المؤمنين، من أصحاب سيد المرسلين، فقال جل ذكره: {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا} [سورة الحج آية: 78] . فهذا الاسم ألحقه الله أصحاب رسوله، وألحقه هذه الطائفة، كما ألحقه إخوانهم من السابقين الأولين. فيا لها من عبرة، ما أقطعها لحجة من شك وارتاب، وما أنفعها في الاعتبار لمن أراد الحق وطلبه، وإليه أناب؛ فهذا إتمام الثمانية فاقرأها، وتدبرها سرا وعلانية. وقد اقتصرت فيها غاية الاقتصار، وأشرت إلى بعض الجزء: 12 ¦ الصفحة: 25 الوقائع بإيجاز واختصار. نسأل الله أن يجعلها نافعة، لمن أبداها وكتبها وانتفع بها شافعة، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيد المرسلين وإمام المتقين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وسلم تسليما كثيرا. المقام التاسع: وأما الدول التركية المصرية، فابتلى الله بهم المسلمين لما ردوا حاج الشام عن الحج، بسبب أمور كانوا يفعلونها في المشاعر، فطلبوا منهم أن يتركوها، وأن يقيموا الصلاة جماعة، فما حصل منهم ذلك، فردهم سعود رحمه الله تدينا؛ فغضبت تلك الدولة التركية، وجرى عندهم أمور يطول عدها، ولا فائدة في ذكرها. فأمروا محمد علي، صاحب مصر أن يسير إليهم بعسكره، وبكل ما يقدر عليه من القوة والكيد، فبلغ سعود ذلك، فأمر ابنه عبد الله أن يسير لقتالهم، وأمره أن ينْزل دون المدينة. فاجتمعت عساكر الحجاز، على عثمان بن عبد الرحمن المضايفي، وأهل بيشة وقحطان وجميع العربان، فنَزلوا بالجديدة. فاختار عبد الله بن سعود القدوم عليهم والاجتماع بهم، وذلك أن العسكر المصري في ينبع، فاجتمع المسلمون في بلد حرب، وحفروا في مضيق الوادي خندقا، وعبؤوا الجميع، فصار في الخندق من المسلمين أهل نجد، وصار عثمان ومن معه من أهل الحجاز في الجبل فوق الخندق. فحين نزل العسكر أرزت خيولهم، وعلموا أنه لا طريق الجزء: 12 ¦ الصفحة: 26 لها إلى المسلمين، فأخذوا يضربون بالقبوس، فدفع الله شر تلك القبوس الهائلة عن المسلمين، إن رفعوها مرت ولا ضرت، وإن خفضوها اندفنت في التراب فهذه عبرة، وذلك أن أعظم ما معهم من الكيد أبطله الله في الحال. ثم ساروا على عثمان ومن معه في الجبل، فتركهم حتى قربوا منه، فرموهم بما احتسبوهم به، وما عدوه لهم حين أقبلوا عليهم، فما أخطأ لهم بندق، فقتلوا العسكر قتلا ذريعا. وهذه أيضا من العبر، لأن العسكر الذي جاءهم أكثر منهم بأضعاف، ومع كل واحد الفرود والمزندات، فما أصابوا رجلا من المسلمين، وصار القتل فيهم؛ وهذه أيضا عبرة عظيمة، هذا كله وأنا أشاهده. ثم مالوا إلى الجانب الأيمن من الجبال، بجميع عسكرهم من الرجال، وأما الخيل فليس لها فيه مجال، فانهزم كل من كان على الجبل، من أهل بيشة وقحطان، وسائر العربان، إلا ما كان من حرب فلم يحضروا، فاشتد على المسلمين لما صاروا في أعلى الجبل، فصاروا يرمون المسلمين من فوقهم، فحمي الوطيس آخر ذلك اليوم، ثم من الغد. فاستنصر أهل الإسلام ربهم الناصر لمن ينصره. فلما قرب الزوال من اليوم الثاني، نظرت فإذا برجلين قد أتيا، فصعدا طرف ذلك الجبل، فما سمعنا لهم بندقا ثارت، إلا أن الله كسر ذلك البيرق 1 ونحن ننظر، فتتابعت الهزيمة   1 أي أدبر وتولى. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 27 على جميع العسكر فولوا مدبرين، وجنبوا الخيل والمطرح، وقصدوا طريقهم الذي جاؤوا معه، فتبعهم المسلمون يقتلون ويسلبون؛ هذا ونحن ننظر إلى تلك الخيول قد حارت، وخارت. وظهر عليهم عسكر من الفرسان من جانب الخندق، ومعهم بعض الرجال، فولت تلك الجنود مدبرة، فتبعتهم خيول المسلمين في أثرهم، وليس معهم زاد ولا مزاد ; فانظر إلى هذا النصر العظيم من الإله الحق رب العباد، لأن الله هزم تلك العساكر العظيمة برجلين; فهذه ثلاث عبر لكن أين من يعتبر؟ فأخذوا بعد ذلك مدة من السنين. ثم بعد ذلك سار "طوسون" كبير ذلك العسكر الذي هزمه الله، فقصد المدينة فورا، فأمر سعود على عبد الله، ومن معهم من المسلمين أن ينهضوا لقتالهم، فوجدوهم قد هجموا على المدينة ودخلوها، وأخرجوا من كان بها من أهل نجد وعسير، فحج المسلمون تلك السنة. فأقبل ذلك العسكر ونزل رابغا، ونزل المسلمون وادي فاطمة; فخان لهم شريف مكة وضمهم إليه، وجاؤوا مع "الخبت" على غفلة من المسلمين، فعلم المسلمون أنه لا مقام لهم مع ما جرى من الخيانة; فرجعوا إلى الطائف، وإلى أوطانهم. فخاف عثمان وهو بالطائف أن يكون الحرب منهم، ومن الشريف عليه، لما يعلم من شدة عداوتهم، فخرج بأهله وترك الجزء: 12 ¦ الصفحة: 28 لهم الطائف أيضا، مخافة أن يجتمعوا على حربه، وليس معه إلا القليل من عشيرته، ولا يأمن أهل الطائف أيضا. فنَزل المسلمون بتربة بعد ذلك نحوا من شهر، ثم رجعوا حين نفد ما معهم من الزاد، فجرى بعد ذلك وقعات، بينهم وبين المسلمين، ولا فائدة في الإطالة بذكرها. والمقصود: أن استيلاءهم على المدينة ومكة والطائف، كان بأسباب قدرها الملك الغلاب. فيريك عزته ويبدي لطفهو العبد في الغفلات عن ذا الشان وفيها من العبر: أن الله أبطل كيد العدو، وحمى الحوزة وعافى المسلمين من شرهم، وصار المسلمون يغزونهم فيما قرب من المدينة ومكة، في نحو ثلاث سنين أو أربع؛ فتوفى الله سعود رحمه الله تعالى، وهم غزاة على من كان معينا لهذا العسكر من البوادي، فأخذوا وغنموا؛ فبقي لهم من الولاية ما كانوا عليه أولا، إلا ما كان من مكة والطائف وبعض الحجاز. وبعد وفاة سعود تجهزوا للجهاد، على اختلاف كان من أولئك الأولاد; فصاروا جانبين، جانبا مع عبد الله، وجانبا مع فيصل أخيه، فنَزل عبد الله الحناكية، ونزل فيصل تربة باختيار وأمر من أخيه له، فوافق أن: "محمد علي" حج تلك السنة، فراسل محمد علي فيصلا هناك، فطلب منه أن يصالحه على الحرمين فأبى فيصل، وأغلظ له الجواب، وفيما قال: لا أصلح الله منا من يصالحكم ... حتى يصالح ذئب المعز راعيها الجزء: 12 ¦ الصفحة: 29 فأخذت "محمد علي" العزة والأنفة، فسار إلى "بسل". الظاهر أنه كان حريصا على الصلح، فاستعجل فيصل بمن معه، فساروا إليه في بسل، وقد استعد لحربهم خوفا مما جرى منهم، فأقبلوا وهم في منازلهم، فسارت عليهم العساكر والخيول فولوا مدبرين؛ لكن الله أعز المسلمين فحبس عنهم تلك الدول، والخيول، حتى وقفوا على التلول، فسلم أكثر المسلمين من شرهم، واستشهد منهم القليل. [رجوع محمد علي إلى مصر ونزول طوسون الحناكية] ولا بد في القتال من أن ينال المسلم أو ينال منه; قال الله تعالى: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [سورة آل عمران آية: 140] الآيات، وقال الله تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ} [سورة آل عمران آية: 146] إلى قوله: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} [سورة آل عمران آية: 146] الآيات. وقد قال هرقل لأبي سفيان: فما الحرب بينكم وبينه؟ قال: سجال، ينال منا وننال منه; فهذه سنة الله في العباد، زيادة للمؤمنين في الثواب، وتغليظا على الكافرين في العقاب. وأما عبد الله فرجع بمن معه، فلم يلق كيدا دون المدينة، فتفكروا في حماية الله لهذه الطائفة، مع كثرة من عاداهم، وناوأهم، ومع كثرة من أعان عليهم، ممن ارتاب في هذا الدين، وكرهه، وقبل الباطل وأحبه، فما أكثر هؤلاء لا كثرهم الله، لكن الله قهرهم بالإسلام، ففي هذا المقام عبرة، وهو: أن الله أعزهم وحفظهم من شر من عاداهم، فلله الحمد والمنة. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 30 وبعد ذلك رجع محمد علي إلى مصر، وبعث الشريف غالب إلى إصطنبول، وأمر ابنه طوسون أن ينْزل الحناكية دون المدينة، وأمر العطاس أن يسعى بالصلح بينهم، وبين عبد الله بن سعود، ويسير له من مكة. وأراد الله أن أهل الرس يخافون، لأنهم صاروا في طرف العسكر، واستلحقوا لهم طائفة من المغاربة، وطوسون على الحناكية. وصار في أولاد سعود نوع من العجلة في الأمور، فأمروا على الرعايا بالمسير إلى الرس، فنَزلوا الرويضة، فتحصن أهل الرس بمن عندهم; فأوجبت تلك العجلة أن استفزع أهل الرس أهل الحناكية، فلما جاء الخبر بإقبالهم نصرة لأهل الرس، وارتحل المسلمون يلتمسون من أعانهم من حرب ما بينهم وبين المدينة، فصادفوا خزنة العسكر، فقتلوهم وأخذوا ما معهم. فهذا مما يسره الله من النصر من غير قصد، ولا دراية، فرجع المسلمون إلى عنيزة، والعسكر نزلوا الشبيبية قريبا منهم، ويسر الله للمسلمين أسبابا أخر، وذلك من توفيق الله ونصره، جهزوا جيشا وخيلا، فأغاروا على جانب العسكر، فخرجوا عليهم فهزمهم الله، وقتل المسلمون فيهم قتلا كثيرا، فألقى الله الرعب في قلوبهم على كثرة من أعانهم، وقوة أسبابهم، وذلك من نصر الله لهذا الدين. فرجعوا إلى الرس خوفا من هجوم المسلمين عليهم، الجزء: 12 ¦ الصفحة: 31 فتبعهم المسلمون، ونزلوا الحجناوي فقدم العطاس على الأمر الذي عمد عليه محمد علي فوجد الحال قد تغيرت، فصدهم ابتداء، فامتنعوا مما جاء له؛ ثم إنهم سعوا في الصلح، والمسلمون على الحجناوي وكل يوم يجرى بين الخيل طراد، فمل أكثر المسلمين من الإقامة، فلم يبق منهم إلا شرذمة قليلة. فجاء منهم أناس يطلبون الصلح، فأصلحهم عبد الله رحمه الله، وطلبوا منه أن يبعث معهم رجلا من أهل بيته، خوفا أن يعرض لهم أحد من المسلمين في طريقهم، فسار معهم محمد بن حسن بن مشاري إلى المدينة. والمقصود: أن الله سبحانه أذلهم، وألقى الرعب في قلوبهم، وحفظ المسلمين من شرهم؛ بل غنمهم مما بأيديهم، من حيث بذلهم المال في شراء الهجن فاشتروا من المسلمين الذلول بضعفي ثمنها، وهذا مما يفيد صحة هذا الدين، وأنه الذي يحبه الله ويرضاه، وهو الذي يسر أسباب نصر من تمسك به، وخذلان من ناواهم وعاداهم في هذا الدين. فتفكر يا من له قلب، ولولا ما صار في أهل هذا الدين، من مخالفة المشروع في بعض الأحوال، لصار النصر أعظم مما جرى، لكن الله سبحانه عفا عن الكثير، وحمى دينه عمن أراد إطفاءه؛ فلله الحمد والمنة لا نحصي ثناء عليه، هو كما أثنى على نفسه، وفوق ما يثني عليه خلقه. فتدبر هذه الوقائع وما فيها من الألطاف العجيبة، والدلالات الجزء: 12 ¦ الصفحة: 32 الظاهرة، على صدق هذه الدعوة إلى التوحيد والإخلاص في العبادة لله والتجريد، وإنكار الشرك والتنديد، والاهتمام بإقامة حقوق الإسلام، على ما شرعه الله ورسوله، والنهي عما حرمه الله ورسوله، من الشرك والبدع، والفساد الذي وقع في آخر هذه الأمة، لكن خفي على أهل الشقاق والعناد. فلو ساعد القدر وتم هذا الصلح، لكان الحال غير الحال، ولكن ما أراد الله تعالى واقع على كل حال; لكن جرى من عبد الله بن سعود رحمه الله تعالى، ما أوجب نقض ذلك الصلح; وهو أنه بعث عبد الله بن كثير لغامد وزهران، بخطوط مضمونها: أن يكونوا في طرفه وأمره. فبعثوا بها إلى محمد علي، فلم يرض بذلك، وقال: إنهم من جملة من وقع عليهم الصلح، فهذا سبب النقض. فأنشا عسكرا مع إبراهيم باشا، ونزلوا الحناكية، ودار الرأي عند عبد الله بن سعود، وأهل الرأي; يقولون: اضبط ديرتك، واحتسب بالزهبة، كذلك أهل البلدان، واتركوه على هيئته، فإن سار تبين لكم الرأي، وربما أن الله يوفقكم لرأي يصير سبب كسره. وجاء حباب وغصاب، يريدان أن يخلوا بعبد الله في السفر، وملازمته في مجلسه ومأكله ومشربه، ونومه وتغطيته، فأدركاه على الخروج بالمسلمين والعربان، فوصلوا الماوية، وفيها عسكر، فضربوهم بالمدفع، ووقع هزيمة وقى الله شرها، واستشهد فيها قليل من المسلمين. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 33 وبعدها، جسر إبراهيم باشا على القدوم، فنَزل القصيم وحربهم قدر شهرين، وأيدهم الله بالنصر لما كانوا مستقيمين صابرين، وعزم على الرجوع عنهم؛ لكن قوى عزمه فيصل الدويش قاتله الله، وطمعه وخوفه، وبعد هذا صالح أهل الرس وعبد الله بمن معه على عنيزة، ورجع إلى بلده; وأشار عليه مبارك الظاهري أنه يجيء بثلاثة آلاف من الإبل عند ابن جلهم، ويجعل عليها الأشدة، ويحمل عليها كل ما كان له، ولا يدع في الدرعية له طارفة. ويصد مع عربان قحطان ونحوهم، وكل من كان له مروءة من بدوي أو حضري راح معه، كذلك الذي يخاف، فلو ساعد القدر لم يظفر به عدوه، وتبرأ منهم من أعانهم بالرحيل، من مطير وغيرهم؛ ولله فيما جرى حكم قد ظهر بعضها لمن تدبر وتفكر، وهذا الرأي أسلم له، والذي يريد القعود يقعد، ويكون ظهره على السعة ; ويذكر له: أنك يا عبد الله إذا صرت كذلك، صار لك في العسكر مكائد، منها قطع سابلة ما بينه وبين المدينة، وهذا الرأي سديد، ولكن لم يرد الله قبوله، لأن الأقدار غالبة، ولو قدر ذلك لكان. فنَزل الدرعية، وأخذوا قدر ثمانية أشهر متحصنين عنه، وهو يضربهم بالقنابل والقبوس، فوقى الله شره. وأراد الله بعد ذلك أنه يزحمهم مع أماكن خالية ما فيها أحد، لأن البلاد متطاولة، وليس فيها سور ينفع والمقاتل قليل، وانتهى الأمر الجزء: 12 ¦ الصفحة: 34 إلى الصلح، فأعطاهم العهد والميثاق على ما في البلد، من رجل أو مال، حتى الثمرة التي على النخل. لكن لم يف لهم بما صالحهم عليه؛ لكن الله تعالى وقي شره عن أناس معه عليهم حنانة، بسبب أناس من أهل نجد يكثرون فيهم عنده، فكف الله يده ويد العسكر، وغدروا بسليمان بن عبد الله، وآل سويلم، وابن كثير عبد الله بسبب البغدادي الخبيث، حداه عليهم، فاختار الله لهم؛ وبعد هذا شتت أهل البلد عنها، وقطع النخل، وهدم المساكن إلا القليل. وانتقل للحور 1 بعسكره، وأرسل من أرسل لمصر، بعد إرسال عبد الله بن سعود رحمه الله، وتبعه عياله وإخوانه، وكبار آل الشيخ; وبعد ذلك حج، فسلط الله على عسكره الفناء، ولا وصل مصر إلا القليل. فلما وصل مصر حل بهم عقوبات أهل الإسلام، فسار على السودان ولا ظفره الله، فرجع مريضا. ثم إن محمد علي بعث ابنه إسماعيل، وتمكن منهم بصلح؛ فلما رأوا منه الخيانة بأخذ عبيد وجوار، أحرقوه بالنار ومن معه في بيته، ومن كان معه من العسكر، ثم بعده أرسل لهم دفتر دار، ولا ذبل منهم شيئا. فأما عسكر الحجاز التي وصلت إلى مصر، قبل إبراهيم باشا حسين بيه الذي صار في مكة، وعابدين بيه الذي   1 بفتحتين, ماء قريب من البرة غربي الدرعية نحو مرحلتين. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 35 صار في اليمن، فسيرهم محمد علي قبل هذا الحرب، إلى موره، وجريده، لما خرجوا على السلطان، فاستمده السلطان على حربهم، فأمده بهذين العسكرين، فهلكوا عن آخرهم، ولم يفلت منهم عين تطرف. وذلك أن موره وجريده، في أصل ولاية السلطان، فخرجوا عليه، فهلك من عسكر السلطان، والعساكر المصرية في حربهم ما لا يحصى. وهذه عقوبة أجراها الله عليهم، بسبب ما جرى منهم على أهل الإسلام، حتى العرناووط في جبلهم، عصوا على السلطان قبل حادثة موره وجريده. وبعد هذا اشتد الأمر على السلطان، وبعث يستنصر محمد علي، فبعث لهم عسكرا كبير هم قار علي فهلكوا في البحر قبل أن يصلوا. ثم إن السلطان بعث نجيب أفندي لمحمد علي يطلب منه أن يسير بنفسه، فبعث إليه يعتذر بالمرض، وأن إبراهيم باشا يقوم مقامه، وقبل ذلك بعث ابنه حسين بيه، الذي سبا أهل نجد، وقتل منهم البعض في ثرمداء، قاتله الله؛ أرسل للسلطان نجيب، قبل إرسال إبراهيم باشا بعسكره الذي كان معه بنجد، وتبعه إبراهيم باشا يمده، ونزلوا موره لحرب أهلها، فأذلهم الله لهم، فقتلوا فيهم قتلا عظيما. فأما عسكر حسين بيه فما قدم مصر منهم إلا صبي. وأما إبراهيم باشا، فاشترى نفسه منهم بالأموال ; فانظر إلى هذه العقوبات العاجلة، التي أوقعها الله سبحانه وتعالى على الجزء: 12 ¦ الصفحة: 36 الآمر والمأمور، وأكثر الناس لا يدري بهذه الأمور. وهذا الذي ذكرناه فيه عبرة عظيمة، وشاهد لأهل هذا الدين: أن الله لما سلط عليهم عدوهم، ونال منهم ما نال، صار العاقبة والسلامة لمن ثبت على دينه، واستقام على دين الإسلام. ثم إن الله تعالى أوقع بعدوهم ما ذكرنا وأعظم; لكن ذكرنا الواقع على سبيل الاختصار لقصد الاعتبار، {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} [سورة الحشر آية: 2] . ثم إن الله أجرى على من أعانهم من أهل نجد، ممن شك منهم في هذا الدين، وأكتر الطعن على المسلمين، أن الله سبحانه وتعالى أفناهم؛ وهذه أيضا من العبر، لم يبق أحد ممن أظهر شره، وإنكاره وعداوته للمسلمين، إلا وعوجل بالهلاك والذهاب، ولا فائدة بالإطالة بعدهم، ومن سألنا أخبرناه عنهم بأعيانهم. وأما ظهور خالد وإسماعيل، فإنهم لما جاء الخبر بأنهم وصلوا المدينة، وخرجوا منها، استشارنا فيصل رحمه الله في الغزو والإقامة. فأشرت أن اخرج بالمسلمين، ويكونوا في البطينيات، من الدجاني إلى ما دونه، وينْزل قريبا من العربان، لأن أكثر رعيهم من الدهناء، ويؤلف كبارهم بالزاد، وينقل البر من سدير والوشم، وزاد الأحساء والقطيف من تمر وعيش، ويقرب منه كبار العربان بالزاد; وكذلك من معه من المسلمين، ويصير له رجال في القصيم عند من ثبت وينتظر. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 37 فلو ساعد القدر وتم هذا الرأي، لم يقدر العسكر أن يتعدى القصيم للوشم والعارض، وخافوا من قطع سابلتهم، ولا لهم قدرة على حرب فيصل، وهو في ذلك المكان. فلو قدرنا أن بعض عسكرهم يريد أن يقصده، هلكوا في الدهناء والصمان، إذا ماج عن وجوههم يوما أو يومين; فلو قدر أن يفعل هذا الرأي لما ظفروا به، ولا وصلوا إلى بلده، لأسباب معروفة. لكن لما أراد الله سبحانه خيانة أهل الرياض في الإمام فيصل، وهم معه في الصريف قدم الرياض وتركها لهم خوفا منهم، فساروا على الفرع 1 هم والذين معه، من البادية والحاضرة، وصار هلاكهم أن هجموا على الحلوة على غفلة، وأخلى أهل الحلوة البلد لهم. وأراد الله أن تركي الهزاني، وبعض أهل الحوطة يغيرون عليهم، وكسر الله تلك العساكر العظيمة، فيما بين قتل وهلاك، وصاروا يتتبعونهم موتى تحت الشجر، يأخذون السلاح والمال؛ والذي أغار عليهم ما يجيء عشير معشارهم، فصارت آية عظيمة. ورجع أقلهم إلى الرياض، وساعدهم من ساعدهم - والله حسيبهم -، وتصلبوا إلى أن جاءهم خرشد مددا. ونزل فيصل الدلم، وأشير عليه أنه ما يقعد به، ويتحصن بمن معه مر المسلمين في بعض الشعاب، التي بين الحوطة ونعام، ويجعل   1 مجموعة من البلدان في وادي نعام, ووادي بريك. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 38 ثقله وراءه، فإن حصل منهم مسير، جاهدهم بأهل تلك القرى، ولا أراد الله أن يفعل ذلك. فلما تمكنوا من فيصل وأخذوه، وأرسلوه إلى مصر، صار عسكرهم في ذهاب، وعذاب وفساد؛ فأوقع الله الحرب بين السلطان، ومحمد علي، ورد الله الكرة لأهل نجد، فرجعوا كما كانوا أولا، على ما كانوا عليه قبل حرب هذه الدولة، كما قال تعالى في بني إسرائيل: {ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} [سورة الإسراء آية: 6-7] . فنسأل الله أن يمن علينا بالإحسان، وينفي عنا أسباب التغييرات، إنه ولينا، وهو على كل شيء قدير، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. والمقصود بما ذكرنا هو الاعتبار، بأن الله حفظ هذا الدين ومن تمسك به، وأيدهم بالنصر على ضعفهم وقلتهم، وأوقع بأسه بهذه الدول على قوتهم وكثرتهم، وأسباب كيدهم. ثم إن الله تعالى أهلك تلك الدول، بما جرى عليهم من حرب النصارى؛ في بلد الروم، فكل دولة سارت إلى نجد والحجاز، لم يبق منهم اليوم عين تطرف، وكان عددهم لا يحصيه إلا الله تعالى، فهلكوا في حرب النصارى، فصارت العاقبة والظهور، لمن جاهدهم في الله من الموحدين، فجمع الله لهم بعد تلك الحوادث العظيمة من النعم، والعز والنصر، ما لا يخطر بالبال، الجزء: 12 ¦ الصفحة: 39 ولا يدور في الخيال. فلا يشك في هذا الدين بعد ما جرى ممن ذكرناه، إلا من أعمى الله بصيرته، وجعل على قلوبهم أكنة عن فهم أدلة الكتاب والسنة، ويعتبروا بما جرى لهذا الدين، من ابتدائه إلى يومنا هذا، وكل ما ذكرناه من الدول، والبادي والحاضر، رام إطفاءه; وكلما أرادوا إطفاءه استضاءت أنواره، وعز أنصاره. فهذا ما جرى على الدول التي زعم ابن منصور أن شيخنا جرها على أهل نجد، وما جرى بسبب تلك الدول، من ظهور هذا الدين، والعز والتمكين، وذهاب من ناوأهم، من هذه الدول وغيرها. فلله الحمد لا نحصي ثناء عليه، وهو المرجو أن يوزعنا شكر ما أنعم به علينا، من هذا الدين الذي رضيه لعباده، وخص به المؤمنين. ومن عجيب ما اتفق لأهل هذه الدعوة أن محمد بن سعود - عفا الله عنه - لما وفقه الله لقبول هذا الدين ابتداء، مع تخلف الأسباب، وعدم الناصر، شمر في نصرته، ولم يبال بمن خالفه من قريب أو بعيد، حتى إن بعض الناس ممن له قرابة به، عذله عن هذا المقام الذي شمر إليه، فلم يلتفت إلى عذل عاذل، ولا لوم لائم، ولا رأي مرتاب، بل جد في نصرة هذا الدين، فملكه الله تعالى كل من استولى عليه في حياته من أهل القرى. ثم بعد وفاته صار الأمر في ذريته، يسوسون الناس بهذا الجزء: 12 ¦ الصفحة: 40 الدين، ويجاهدون فيه كما جاهدوا في الابتداء، فزادت دولتهم، وعظمت صولتهم على الناس بهذا الدين، الذي لا إشكال فيه، ولا التباس، فصار الأمر في ذريته لا ينازعهم فيه منازع، ولا يدافعهم عنه مدافع؛ فأعطاهم الله القبول والمهابة، وجمع الله عليهم من أهل نجد وغيرهم، ممن لا يمكن اجتماعهم على إمام واحد، إلا بهذا الدين. وظهرت آثار الإسلام في كثير من الأقاليم النجدية وغيرها، مما تقدم ذكره، وأصلح الله بهم ما أفسدت تلك الدول، التي حاربتهم، ودافعتهم عن هذا الدين، ليطفئوه، فأبى الله ذلك، وجعل لهم العز والظهور، كما تقدمت الإشارة إلى ذلك. فنسأل الله أن يديم ذلك، وأن يجعلهم أئمة هدى، وأن يوفقهم لما وفق له الخلفاء الراشدين، الذين لهم التقدم في نصرة هذا الدين؛ وعلينا وعلى المسلمين أن ندعو لمن ولاه الله أمرنا من هذه الذرية، أن يصرف عنا وعنهم كل محنة وبلية، ويحيي الله بهم ما درس من الشريعة المحمدية، ويصلح الله لنا ولهم القلوب، ويغفر لنا ولهم الذنوب، وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم. فإن قيل: ما ذكرتموه حق، لكن الله تعالى سلط الدولة المصرية على بلدتهم، وقتلوا من قتلوا، وقطعوا النخيل، وهدموا المساكن، وأخذوا ما بأيديهم من الأموال، وعم فسادهم بنجد. قلنا: نعم، هذه آثار الذنوب التي حدثت، لما عمت الجزء: 12 ¦ الصفحة: 41 البلوى فيهم بفتنة الشهوات، وذلك بأسباب; منها: توفر الدنيا عليهم، وإقبالهم على طلبها، والإسراف فيها، وتمكن بطانة السوء وكثرتهم، وقربهم من الإمام، وقبول ما زينوه وزخرفوه. فضعف الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر، وقل جدا، وكثر عليه الأذى، فوقع إهمال، وإعراض، فوقعت العقوبة بسبب ما وقع من التفريط، والغفلة، وتمكن أهل الأهواء {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [سورة الكهف آية: 49] . لكن الله سبحانه منّ على كثير من أهل نجد، بحفظ دينهم، وهجرتهم إلى ما يمنعهم من هذا العدو، من أرض الله، فاعتصموا بحبل الله، وصارت لهم العاقبة على هذا العدو، الذي سلط بسبب ذنوب من أذنب، وتفريط من فرط، وغفلة من غفل، ورد لهم الكرة المرة بعد المرة، فالحمد لله على فضله وعدله؛ ففي هذا أيضا عبرة عظيمة، ونعمة جسيمة، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 42 [رسالة من عبد الرحمن بن حسن إلى عثمان بن منصور] وله أيضا رحمة الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الرحمن بن حسن، إلى عثمان بن منصور، وبعد: أشرفت على خطك، وهو كلام من لا يدري، ولا يدري أنه لا يدري؛ ولكن نبين لك عسى فتح من الله; جئت من الزبير والبصرة تلك المجيء، وجرى عليك من آل فائز لأجل طول إقامتك، في أماكن يعبد فيها غير الله. وأراد الله سبحانه وتعالى أن كبارنا يقدمونك في سدير; لأجل اسم العلم الذي لمح لهم: أنك عرفت صحة الدعوة، دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، إلى توحيد الإلهية، وإنكار الشرك والبراءة منه، الذي لا يصير الإنسان مسلما إلا به؛ والذي يدخل هذا قلبه، ويتقدم بالناس، ويصير له مشاركة في العلوم، يدعو الناس إليه ويحثهم عليه، ويبين لهم معنى لا إله إلا الله، وما دلت عليه من إخلاص العبادة لله، ونفي الشرك، وما تقتضيه من المعاداة والموالاة، والحب والبغض، كذلك حقوق لا إله إلا الله. ولا حصل منك إلا ضد هذا، إذا جاء عندك إما مشرك، أو إنسان ما ينكر الشرك، من أهل تلك المكانات، استأنست معه، وقدرته وأكرمته، فإذا أراد أن يتزوج زوجتموه، ولا حصل منك إلا إذا جاء أهل سدير، يتنازعون في أموالهم، ويستفتونك في مسألة فرعية. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 43 والذي هذا حاله، ما يجوز يلين معه الجانب، أو يرد له رأس؛ فلو أن لك معرفة في التوحيد، أو قبوله، لكنت تكثر من ذكره، كما قيل من أحب شيئا أكثر من ذكره. بل الذي يذاكر في التوحيد عند ربعك ويلهج به، وينكر الشرك ويبغض أهله ويعاديهم، ما يجوز عندكم إلا كما يجوز رأس الحمار; ولولا هذا، كان ما يجهلك: أن طلبة العلم هم ربعي، وهم إخواني، وهم خاصتي، ولكن أنت ما لقيت فيك حيلة، إذا فتشنا عن كلامك في شرحك وغيره، وجدنا معتقدك في توحيد الإلهية، معتقد عبد الله المويس، حظه منها اللفظ مع إنكار المعنى، وتضليل من عمل بمعناها وقام بمقتضاها، والجهال ما يدرون عن الحقيقة. والذي هذه حالته يجب التحذير عنه، نصحا لله ولرسوله، ولكتابه، ولأئمة المسلمين وعامتهم; ويا ليتك، ثم يا ليتك قمت بهذا الدين، وأحببت أهله، ودعوت إليه، وأنكرت ضده; لكن القلوب بيد البارئ يقلبها كيف شاء; وأسأل الله أن يقلب قلبك إلى الإسلام، ويدخل فيه الإيمان؛ فإن وفقك الله للتوبة، فلا علينا منك، ولا عليك منا، ولو ما صادقناك ورافقناك ما يضر. ومن الأمور الظاهرة البينة أنك تكتب في الخوارج، وتذكر كلام شيخ الإسلام فيهم، والواقع في كثير من الأمة أعظم من مقاتلة الخوارج: عبادة الأوثان، وتزيين عبادتها، الجزء: 12 ¦ الصفحة: 44 وإنكار التوحيد; ولو أن في قلبك من التوحيد شيئا، فعلت فعل الشيخ عبد الله أبا بطين، ما صبر لما أن داود وأمثاله شبهوا على الناس، رد عليهم من كتاب الله وسنة رسوله، وأقوال الصحابة، وأقوال العلماء والأئمة، وأدحض حججهم بالوحي. والخوارج ما عندنا أحد منهم، حتى في الأمصار، ما فيها طائفة تقول بقول الخوارج، إلا الإباضية في أقصى عمان، ووقعوا فيما هو أكبر من رأي الخوارج، وهي عبادة الأوثان، ولا وجدنا لخطك، وتسميه بالخوارج، وتسميه بالمعارج، إلا أن هذه الدعوة الإسلامية، التي هي دعوة الرسل، إذا كفروا من أنكرها، قلت: يكفرون المسلمين، لأنهم يقولون: لا إله إلا الله; والله أعلم. [رسالة من عبد الرحمن بن حسن إلى محمد بن عمر] وله أيضا: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الرحمن بن حسن، إلى الأخ محمد بن عمر، عمر الله دارهم بالإيمان والقرآن، ووفقهم لاتباع داعي الإسلام والإيمان، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: وصل الخط، وصلك الله ما يرضيه، وسرنا طيبك وعافيتك، جعلنا الله وإياكم من الطيبين المهتدين. ومن جهة تصانيف ابن منصور، فلا يستنكر، كما قيل: ليس العجب ممن هلك كيف هلك؟ إنما العجب ممن نجا كيف الجزء: 12 ¦ الصفحة: 45 نجا؟ ولا ضر إلا نفسه، رد على الشيخ رحمه الله تعالى في دعوته، أناس متشبهين بالعلم، فأبطل الله كيدهم، وصار وبالا عليهم. ولكن هذا الرجل فعل فعلا ما فعله أحد قبله، ممن كره هذا الدين، والله أعلم بما وافى به الله من إصرار أو توبة; نسأل الله تعالى: أن يجعلنا وإياكم ممن عرف لله حقه، وجرد إخلاصه وصدقه، وذلك فضله سبحانه ورحمته، فلو أنت أرسلت الكتاب، ما كرهنا الإشراف عليه. وله أيضا: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الرحمن بن حسن، إلى الأخ محمد بن عمر بن سليم، سلمه الله تعالى، سلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، ونحمد إليكم الله تعالى، على ما أولاه من النعم، وما صرف من النقم؛ نسأل الله لنا ولكم معرفة الحق والعمل به، والصبر والاستقامة، والثبات على الإسلام. وما ذكرت من الورقة التي رميت، يقول صاحبها: إنكم جعلتم الناس بين مشرك ومبتدع، وفاسق وجاهل ظالم، ولا سبقكم أحد بهذا الاعتقاد، فهذا ما ضر إلا نفسه؛ وهذه الشبهة قد تلقاها الجهال، في وقت ظهور شيخنا رحمه الله، وهذه من أفسد شبههم. لأن الذي تدخل معه يدل على جهله، وانحرافه عن دينه، الجزء: 12 ¦ الصفحة: 46 ومخالفته للكتاب والسنة، لأن الله تعالى ذكر الكفار والمشركين من هذه الأمة، وأمر بقتالهم، وأباح دماءهم وأموالهم، وكذلك أهل البدع هم الكثير، وهم دول، وأهل الفسوق كذلك، وهذا الأمر ما يخفى على أبلد الناس، ولكن ما حصل إلا المسبة. مثل من أغار على فريق، وأخذوه ولا أبقوا له شيئا، وصار هذا باعثا على رد هذه الشبهة؛ وإن كان شيخنا قد ردها في كشف الشبهات، لكن كتبنا الرد عليها على سبيل الاختصار، وإلا فردها يحتمل مجلدا، وصار جوابا نافعا لكل موحد. وأرسله الإمام للأحساء، يقرأ في المدارس والمساجد والمجالس، لأنه ربما دخل على بعض من ينتسب إلى العلم، وهم جهال; وما جرى منهم فهو خير بلا شر; وهو في الحقيقة نعمة، ووباله على من أبداه; وليس هذا بأول، قد حزمها علينا ناس من الأشرار، ولا ندري عنهم، ويكفينا هم الله، ولله الحمد، وصلى الله على محمد. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 47 [جواب الشيخ سليمان في التوسل المشروع قال الشيخ: سليمان بن الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمهم الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم من سليمان بن عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب، إلى الأخ عبد الله بن أحمد، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: وصل الخط، وصلك الله إلى رضوانه، وما سألت عنه: هل يجوز التوسل بجاه النبي صلى الله عليه وسلم، أو غيره من الأنبياء والمرسلين، والصالحين في الدعاء؟ فالجواب: أن التوسل المشروع الذي جاء به الكتاب والسنة هو التوسل إلى الله سبحانه وتعالى، بالأعمال الصالحات، والأسماء والصفات، اللائقة بجلال رب البريات، كقوله تعالى حاكيا عن عباده المؤمنين، أنهم توسلوا إليه بصالح أعمالهم: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا} [سورة آل عمران آية: 193] الآيات. وكما ثبت في الصحيحين، من قصة الثلاثة الذين أووا إلى الغار، فانطبقت عليهم الصخرة، فتوسلوا إلى الله بصالح أعمالهم، الحديث; وكقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الإمام أحمد، وابن أبي شيبة، وابن حبان في صحيحه وغيره: " أسالك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته كتابك، أو علمته أحدا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك " الحديث. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 48 والذي رواه الترمذي وغيره: "اللهم إني أسألك بأن لك الحمد، لا إله إلا أنت، المنان، بديع السماوات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام، يا حي يا قيوم " 1، وفي الحديث الذي رواه الترمذي أيضا وحسنه: "أسألك يا الله، يا رحمان بجلالك ونور وجهك " 2 الحديث، وأمثال ذلك، فهذا كله أمر مشروع لا نزاع فيه. وهو من الوسيلة التي أمر الله بها في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} [سورة المائدة آية: 35] ، وكذلك التوسل إلى الله بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم وشفاعته في حياته، وبدعاء غيره من الأنبياء والصالحين في حياتهم، فهذا كله مستحب، كما توسل الصحابة بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم وشفاعته في حياته، وتوسلوا بدعاء العباس بن عبد المطلب، عم النبي صلى الله عليه وسلم وبدعاء يزيد بن الأسود الجرشي. وأما التوسل بجاه المخلوقين كمن يقول: اللهم إني أسألك بنبيك محمد، أو أسألك بجاه نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، ونحو ذلك بعد موتهم، فهذا لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم وأكثر العلماء على النهي عنه. وحكى ابن القيم رحمه الله تعالى: أنه بدعة إجماعا; ولو كان الأنبياء والصالحون لهم جاه عند الله سبحانه وتعالى، فلا يقتضي ذلك جواز التوسل بذواتهم وجاههم، لأن الذي لهم من الجاه والدرجات، أمر يعود نفعه إليهم، ولا ننتفع من ذلك بشيء، إلا باتباعنا لهم ومحبتنا لهم.   1 النسائي: السهو 1300 , وأبو داود: الصلاة 1495. 2 الترمذي: الدعوات 3570. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 49 وأما التوسل بذواتهم مع عدم التوسل بالإيمان، والطاعة، فلا يكون وسيلة; ولأن المتوسل بالمخلوق، إن لم يتوسل بما يحصل من المتوسل به من الدعاء للمتوسل، أو بمحبته واتباعه، فبأي شيء يتوسل؟! قال شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله تعالى، في كتاب "الاستغاثة": وما زلت أبحث، وأكشف ما أمكنني من كلام السلف، والأئمة والعلماء، هل جوز أحد منهم التوسل بالصالحين في الدعاء؟ أو فعل ذلك أحد منهم؟ فما وجدته. ثم وقفت على فتيا للفقيه أبي محمد بن عبد السلام، أفتى بأنه لا يجوز التوسل بغير النبي صلى الله عليه وسلم، وأما بالنبي صلى الله عليه وسلم فجوز التوسل به إن صح الحديث في ذلك. وذكر القدوري في "شرح الكرخي" عن أبي حنيفة وأبي يوسف أنه لا يجوز أن يسأل الله بالأنبياء; انتهى كلام الشيخ رحمه الله تعالى; قال القدوري: المسألة بخلقه لا تجوز، لأنه لا حق للمخلوق على الخالق، فلا تجوز وفاقا; انتهى. وقد احتج من أجاز السؤال بالمخلوقين، بأمور: الأول: ما رواه الإمام أحمد عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، " من خرج من بيته إلى الصلاة، فقال: اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك، وبحق ممشاي هذا.." 1 الحديث.   1 ابن ماجه: المساجد والجماعات 778 , وأحمد 3/21. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 50 فالجواب: أن الحديث في إسناده عطية العوفي، وفيه كلام، ضعفه الإمام أحمد والثوري، وهشيم وأبو زرعة، وأبو حاتم، والجوزجاني، والنسائي; وابن حبان، وقال: لا يحل كتب حديثه إلا على التعجب، وقال ابن معين: صالح; وقال ابن سعد: كان ثقة إن شاء الله تعالى. وبتقدير ثبوته، هو من التوسل المستحب; فإن حق السائلين عليه أن يجيبهم، وحق المطيعين له أن يثيبهم، فالسؤال له، والطاعة سبب لحصول الإجابة والإثابة. والثاني: ما رواه الحاكم في المستدرك وصححه، من حديث عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه عن جده، عن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لما اقترف آدم الخطيئة، قال: رب أسألك بحق محمد، لما غفرت لي ... " الحديث. فالجواب: أن هذا الحديث ساقط، لأن عبد الرحمن بن زيد ضعيف بالاتفاق، ضعفه مالك وأحمد وابن معين، وابن المديني وأبو زرعة، وأبو داود وابن سعد، وأبو حاتم، وابن خزيمة وابن حبان، قال ابن الجوزي: أجمعوا على ضعفه; فهذا كما ترى، تفرد به عبد الرحمن بن زيد بن أسلم وهو هو. وقال الحافظ الذهبي في تلخيص المستدرك، لما ذكر الحاكم هذا الحديث، فقال: هذا صحيح، قال الذهبي: أظنه موضوعا، ثم هو مخالف للقرآن، لأن الله عز وجل ذكر قصة آدم عليه السلام، وتوبته وتوسله، ولم يذكر الله أنه توسل بالنبي صلى الله عليه وسلم. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 51 الثالث: ما رواه الترمذي، والنسائي في اليوم والليلة، وابن شاهين، والبيهقي، وصححه الترمذي، عن عثمان بن حنيف: " أن رجلا ضرير البصر أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ادع الله أن يعافيني; فقال: إن شئت دعوت، وإن شئت صبرت فهو خير لك قال: فادعه. فأمره أن يتوضأ فيحسن وضوءه، ويدعو بهذا الدعاء: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، إنى توجهت بك إلى ربي في حاجتي هذه لتقضى، اللهم فشفعه في " هذا حديث حسن صحيح غريب، لا نعرفه إلا من حديث أبي جعفر، وهو غير الخطمي، هذا لفظ الترمذي; وقال بعضهم: هذا يدل على جواز التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم في حياته وبعد وفاته، فجعله مخصوصا بالنبي صلى الله عليه وسلم لا غير. والجواب: أن هذا التوسل هو الذي ذكره عمر رضي الله عنه لما استسقى بالعباس رضي الله عنه، فذكر أنهم يتوسلون بالنبي صلى الله عليه وسلم في الاستسقاء، ثم توسلوا بعمه العباس بعد موته، وتوسلهم به، هو: دعاؤه ودعاؤهم معه، فيكون وسيلتهم إلى الله تعالى؛ وهذا لم يفعله الصحابة في حق النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته، ولا في مغيبه، والنبي صلى الله عليه وسلم كان في مثل هذا، شافعا لهم داعيا لهم. ولهذا قال في حديث الأعمى: " اللهم فشفّعه في "، فعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم شفع له، فسأل الله أن يشفعه فيه; قلت: ومن تأمل الحديث، علم صحة هذا، فإنه صريح في أن الأعمى الجزء: 12 ¦ الصفحة: 52 أتاه، فقال: ادع الله أن يعافيني، فقال: "إن شئت دعوت، وإن شئت صبرت فهو خير لك. قال: فادعه". فهذا دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا له، وأن الأعمى سأل ربه أن يشفعه فيه، بأن يستجيب دعاءه؛ وهذا كاف في معرفة حكم هذه المسألة. واعلم: أن التوسل بذات المخلوق، أو بجاهه غير سؤاله ودعائه; فالتوسل بذاته أو بجاهه، أن يقول: اللهم اغفر لي وارحمني، وأدخلني الجنة بنبيك محمد صلى الله عليه وسلم أو بجاه نبيك محمد صلى الله عليه وسلم ونحو ذلك، فهذا بدعة ليس بشرك. وسؤاله ودعاؤه، هو أن يقول: يا رسول الله أسألك الشفاعة، وأنا في كرب شديد فرج عني، واستجرت بك من فلان فأجرنين ونحو ذلك؛ فهذا كفر وشرك أكبر، ينقل صاحبه عن الملة، لأنه صرف حق الله لغيره، لأن الدعاء عبادة لا يصلح إلا لله ; فمن دعاه فقد عبده، ومن عبد غير الله فقد أشرك. والأدلة على هذا أكثر من أن تحصر، وكثير من الناس لا يميز، ولا يفرق بين التوسل بالمخلوق أو بجاهه، وبين دعائه وسؤاله؛ فافهم ذلك، وفقنا الله وإياك لسلوك أحسن المسالك. وبهذا يظهر جواب المسألة الثانية، وهي: إذا وجد نحو ذلك في تصنيف بعض العلماء، هل له محمل أم لا؟ والله أعلم. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 53 [رسالة الشيخ عبد الله أبا بطين في حقيقة ما خلقنا له] وقال الشيخ: عبد الله بن عبد الرحمن، أبا بطين رحمه الله تعالى1: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله، وسلم تسليما كثيرا. أما بعد: فقد قال الله عز وجل {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [سورة الذاريات آية: 56] ؛ فلما علمنا سبحانه: أنه ما خلقنا إلا لعبادته، وجب علينا الاعتناء بما خلقنا له علما وعملا، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [سورة البقرة آية: 21] ، وقال تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} [سورة النساء آية: 36] ؛ قال ابن عباس رضي الله عنهما: "كل ما في القرآن من الأمر بالعبادة، فالمراد به التوحيد". وبذلك أرسل الله جميع الرسل، قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} [سورة الأنبياء آية: 25] ، وقال تعالى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ   1 وتتفق هذه الرسالة أيضا مع بعض الرسائل الأخرى في النقول وغيرها، ومن ذلك ما تقدم في الأجزاء السابقة المشار إليها في صفحة 150 / ج / 10 فليعلم.. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 54 مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} [سورة الزخرف آية: 45] ، وكل رسول أول ما يقرع أسماع قومه، أن يقول: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [سورة الأعراف آية: 59] . وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [سورة النحل آية: 36] ، قال مالك وغير واحد من المفسرين: كل ما عبد من دون الله فهو طاغوت قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه وابن عباس رضي الله عنهما: "الطاغوت الشيطان". قال ابن كثير رحمه الله: وهو قول قوي جدا، فإنه يتناول كل ما كان عليه أهل الجاهلية، من عبادة الأوثان، والتحاكم إليها، والانتصار بها، ذكره على قوله: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ} [سورة البقرة آية: 256] الآية. قال النووي: قال الليث وأبو عبيدة والكسائي، وجماهير أهل اللغة: الطاغوت: كل ما عبد من دون الله ; وقال الجوهري: الطاغوت الشيطان، وكل رأس في الضلالة، انتهى. وما تضمنته هذه الآية ونحوها من آي القرآن، من الأمر بعبادة الله وحده لا شريك له، والنهي عن عبادة غيره، هو معنى لا إله إلا الله; قال ابن جرير في الكلام على معنى لفظ الجلالة، قال: روي لنا عن ابن عباس، قال: "أي: هو ذو الألوهية والعبودية على خلقه أجمعين". وقال الجوهري: أله بالفتح، إلهة، أي: عبد عبادة; قال: ومنه قولنا: الله، وأصله إله على وزن فعال، بمعنى الجزء: 12 ¦ الصفحة: 55 مفعول، لأنه مألوه بمعنى معبود; قال: والتأليه التعبيد، والتأله التنسك والتعبد; قال رؤبة: ... سبَّحن واسترجعن من تأله، انتهى. وفي القاموس: أله إلهة وألوهة وألوهية، عبد عبادة، ومنه لفظ الجلالة، وقال: وأصله: إله بمعنى مألوه، وكل ما اتخذ معبودا، فهو إله عند متخذه; قال: والتأله التنسك والتعبد. وفي المصباح: أَلِهَ من باب تَعِبَ إلهة، بمعنى عبد عبادة، وتأله تعبد، والإله المعبود، وهو الله سبحانه; استعاره المشركون لما عبد من دون الله، انتهى. وقال: شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: الإله هو المعبود المطاع، فهو إله بمعنى مألوه. وقال ابن القيم رحمه الله تعالى: الإله هو الذي تألهه القلوب محبة وإجلالا، وإنابة، وإكراما وتعظيما، وذلا وخضوعا، وخوفا ورجاء وتوكلا. وقال ابن رجب: الإله هو الذي يطاع ولا يعصى، هيبة له وإجلالا ومحبة وخوفا، ورجاء وتوكلا، وسؤالا منه، ودعاء له; ولا يصلح ذلك إلا لله، فمن أشرك مخلوقا في شيء من هذه الأمور التي من خصائص الإلهية، كان قدحا في إخلاصه، في قوله: لا إله إلا الله، ونقصا في توحيده، وكان فيه من عبودية المخلوق، بحسب ما فيه من ذلك؛ وهذا كله من فروع الشرك. وقال ابن هبيرة في الإفصاح، قوله: شهادة أن لا إله إلا الله تقتضي: أن يكون الشاهد عالما بأن لا إله إلا الله، قال الجزء: 12 ¦ الصفحة: 56 تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ} [سورة محمد آية: 19] ، وينبغي أن يكون الناطق بها شاهدا بها; فقد قال تعالى ما وضح به أن الشاهد بالحق إذا لم يكن عالما بما شهد به، فإنه غير بالغ من الصدق به مبلغ من شهد بما يعلمه، في قوله تعالى: {إِِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [سورة الزخرف آية: 86] . قال: واسم الله مرتفع بعد إلا، من حيث أنه الواجب له الإلهية، فلا يستحقها غيره سبحانه; قال: واقتضى الإقرار بها أن تعلم أن كل ما فيه إمارات الحدث، فإنه لا يكون إلها; فإذا قلت: لا إله إلا الله، اشتمل نطقك هذا على أن ما سوى الله ليس بإله، فلزمك إفراده سبحانه وحده. قال: وجملة الفائدة في ذلك، أن تعلم: أن هذه الكلمة مشتملة على الكفر بالطاغوت، والإيمان بالله؛ فإنك لما نفيت الإلهية، وأثبت الإيجاب لله، كنت ممن كفر بالطاغوت وآمن بالله، انتهى. وقال أبو عبد الله: القرطبي في "التفسير": لا إله إلا هو، أي: لا معبود إلا هو; وقال الزمخشري: الإله من أسماء الأجناس، كالرجل والفرس، يقع على كل معبود بحق أو باطل، ثم غلب على المعبود بحق. وقال البقاعي: لا إله إلا الله، أي: انتفاء عظيما، أن يكون معبود بحق غير الملك الأعظم؛ فإن هذا العلم هو الجزء: 12 ¦ الصفحة: 57 أعظم الأذكار المنجية من أهوال الساعة؛ وإنما يكون علما إذا كان نافعا، وإنما يكون نافعا إذا كان مع الإذعان والعمل بما يقتضيه، وإلا فهو جهل صرف، انتهى. وجميع المفسرين: يفسرون "الإله" بالمعبود; والمشركون يعرفون ذلك، لأنهم أهل اللسان، فلما طلب منهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يقولوا: لا إله إلا الله، قالوا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [سورة ص آية: 5] . وهم يعترفون بأن الله هو الخالق الرازق، المدبر لجميع الأمور، رب كل شيء ومليكه، كما أخبر الله عنهم بذلك في مواضع كثيرة من كتابه. والله سبحانه فرض على عباده معرفة معنى لا إله إلا الله. وترجم البخاري على الآية، فقال: باب العلم قبل القول والعمل; إشارة إلى أن العلم بمعنى لا إله إلا الله: أول واجب، ثم بعد ذلك القول والعمل. وقال تعالى: {هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ} [سورة إبراهيم آية: 52] ، لم يقل: ليقولوا إنما هو إله واحد; وقال تعالى: {إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [سورة الزخرف آية: 86] بقلوبهم ما شهدوا به بألسنتهم، وقال صلى الله عليه وسلم: " من مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله دخل الجنة" 1. واستدل العلماء بهذه الآية ونحوها، على أن أول واجب على الإنسان: معرفة الله; ودلت هذه الآية، على أن آكد   1 أحمد 1/65. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 58 الفرائض: العلم بمعنى لا إله إلا الله، وأن أعظم الجهل: نقص العلم بمعناها، إذ كان معرفه معناها آكد الواجبات، والجهل بذلك أعظم الجهل وأقبحه. ومن العجب: أن بعض الناس إذا سمع من يتكلم في معنى لا إله إلا الله نفيا وإثباتا، عاب ذلك، وقال: لسنا مكلفين بالناس والقول فيهم. فيقال له: بل أنت مكلف بمعرفة التوحيد، الذي خلق الله الجن والإنس لأجله، وأرسل جميع الرسل يدعون إليه، ومعرفة ضده وهو الشرك الذي لا يغفره الله؛ ولا عذر لمكلف في الجهل بذلك، ولا يجوز فيه التقليد، لأنه أصل الأصول؛ فمن لم يعرف المعروف، وينكر المنكر فهو هالك، لا سيما أعظم المعروف، وهو التوحيد، وأكبر المنكر وهو الشرك. قال رجل لعبد الله بن مسعود رضي الله عنه: هلكت إن لم آمر بالمعروف وأنه عن المنكر; فقال ابن مسعود: "هلكت إن لم يعرف قلبك المعروف، وينكر المنكر"; وبمعرفة التوحيد يعرف أهله; قال علي رضي الله عنه: "اعرف الحق تعرف أهله". "" وأما الإقرار بتوحيد الربوبية، وهو أن الله سبحانه وتعالى خالق كل شيء ومليكه ومدبره، فهذا يقر به المسلم والكافر، ولا بد منه؛ لكن لا يصير به الإنسان مسلما، حتى يأتي بتوحيد الإلهية الذي دعت إليه الرسل، وأبى عن الإقرار به المشركون، وبه يتميز المسلم من المشرك، وأهل الجنة من أهل النار. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 59 وقد أخبر الله سبحانه في مواضع من كتابه عن المشركين أنهم يقرون بتوحيد الربوبية، ويحتج عليهم سبحانه بإقرارهم بتوحيد الربوبية، على شركهم بتوحيد الإلهية، قال الله تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [سورة يونس آية: 31] إلى قوله: {فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} [سورة يونس آية: 31-32] . قال البكري الشافعي في تفسيره على هذه الآية: إن قلت: إذا أقروا بذلك فكيف عبدوا الأصنام. قلت: كلهم كانوا يعتقدون بعبادتهم الأصنام عبادة الله، والتقرب إليه، لكن بطرق مختلفة: ففرقة قالت: ليس لنا أهلية عبادة الله بلا واسطة لعظمته، فعبدناها لتقربنا إلى الله زلفى. وفرقة قالت: الملائكة ذو وجاهة عند الله، فاتخذنا أصناما على هيئة الملائكة، لتقربنا إلى الله زلفى. وفرقة قالت: جعلنا الأصنام قبلة لنا في العبادة، كما أن الكعبة قبلة في عبادته. وفرقة اعتقدت: أن لكل صنم شيطانا موكلا بأمر الله، فمن عبد الصنم حق عبادته قضى الشيطان حوائجه بأمر الله، وإلا أصابه الشيطان بنكبة بأمر الله. قال ابن كثير رحمه الله، عند قوله تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [سورة الزمر آية: 3] الآية: إنما يحملهم على عبادتهم: أنهم عبدوا الأصنام، اتخذوها على صور الملائكة المقربين في زعمهم؛ فعبدوا تلك الصور الجزء: 12 ¦ الصفحة: 60 تنْزيلا لذلك منْزلة عبادتهم الملائكة، ليشفعوا لهم عند الله في نصرهم، ورزقهم وما ينوبهم من أمر الدنيا; قال قتادة والسدي ومالك، عن زيد بن أسلم وابن زيد: {إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [سورة الزمر آية: 3] : ليشفعوا لنا، ويقربونا عنده. وقال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [سورة الزخرف آية: 87] {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} [سورة الزخرف آية: 9] ، وقال: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [سورة يوسف آية: 106] ، قال ابن عباس وغيره: "إذا سألتهم من خلق السماوات والأرض؟ قالوا: الله; وهم يعبدون معه غيره". ففسروا الإيمان في هذه الآية بإقرارهم بتوحيد الربوبية، والشرك بعبادتهم غير الله، وهو إنكار توحيد الإلهية. فلما تقرر الإله وأنه المعبود، تعين علينا معرفة حقيقة العبادة وحدها؛ فعرفها بعضهم: بأنها ما أُمر به الإنسان شرعا، من غير اطراد عرفي، ولا اقتضاء عقلي; وقال بعضهم: هي كمال الحب مع كمال الخضوع، وهذا يستلزم طاعة المحبوب والانقياد له. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله تعالى: هي اسم جامع لكل ما يحبه الله، ويرضاه، من الأقوال، والأعمال الباطنة، والظاهرة، كالصلاة والزكاة والصيام، والحج، وصدق الحديث، وأداء الأمانة، وبر الوالدين، وصلة الأرحام، والأمر الجزء: 12 ¦ الصفحة: 61 بالمعروف، والنهي عن المنكر، والدعاء والذكر والقرآن، وأمثال ذلك من العبادة؛ فالدين كله داخل في العبادة. فإذا علم الإنسان وتحقق معنى الإله، وأنه المعبود، وعرف حقيقة العبادة، تبين له أن من جعل شيئا من العبادة لغير الله، فقد عبده واتخذه إلها، وإن فر من تسميته معبودا وإلها، وسمى ذلك توسلا وتشفعا، والتجاء، ونحو ذلك. فالمشرك مشرك شاء أم أبى، كما أن المرابي مراب شاء أم أبى، وإن لم يسم ما فعله ربا، وشارب الخمر شارب للخمر وإن سماها بغير اسمها. وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: " يأتي أناس من أمتي يشربون الخمر، يسمونها بغير اسمها " 1 فتغيير الاسم، لا يغير حقيقة المسمى، ولا يزيل حكمه، كتسمية البوادي سوالفهم الباطلة حقا، وتسمية الظلمة ما يأخذونه من الناس بغير اسمه. ولما سمع عدي بن حاتم - وهو نصراني - قوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} [سورة التوبة آية: 31] ، قال للنبي صلى الله عليه وسلم إنا لسنا نعبدهم; قال: " أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه، ويحلون ما حرم الله فتحلونه؟ قال: قلت: بلى، قال: فتلك عبادتهم ". فعدي رضي الله عنه ما كان يظن أن موافقتهم في ذلك عبادة منهم لهم، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن ذلك عبادة منهم لهم، مع أنهم لا يعتقدونه عبادة لهم.   1 النسائي: الأشربة 5658 , وأحمد 4/237. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 62 وكذلك: ما يفعله عباد القبور، من دعاء أصحابها، وسؤالهم قضاء الحاجات، وتفريج الكربات، والتقرب إليهم بالذبائح والنذور، عبادة منهم للمقبورين، وإن كانوا لا يسمونه ولا يعتقدونه عبادة. وكذلك الذين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: اجعل لنا ذات أنواط، وإن كانوا يظنون أن هذا من التأله لغير الله، الذي تنفيه لا إله إلا الله، لأنهم يقولون لا إله إلا الله، ويعرفون معناها لأنهم العرب، لكن خفيت عليهم هذه المسألة، لحداثة عهدهم بالكفر، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم: " الله أكبر إنها السنن، قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} 1 لتركبن سنن من كان قبلكم ". فإن قيل: فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يكفرهم بذلك. قلنا: هذا يدل على أن من تكلم بكلمة كفر جاهلا بمعناها، ثم نبه فانتبه، أنه لا يكفر; ولا شك أن هؤلاء لو اتخذوا ذات أنواط بعد إنكار النبي صلى الله عليه وسلم لكفروا. وقال تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [سورة الزخرف آية: 26-27-28] الضمير في قوله: {وَجَعَلَهَا} راجع لقوله: {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي} [سورة الزخرف آية: 26] ؛ قال مجاهد وقتادة: هي شهادة أن لا إله إلا الله،   1 الترمذي: الفتن 2180 , وأحمد 5/218. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 63 فلا يزال في ذرية إبراهيم من يعبد الله وحده. ففي الآية والحديثين قبلها، بيان لمعنى لا إله إلا الله، وأن المراد منها البراءة من التألة والعبادة لغير الله، وإفراده سبحانه وتعالى بالعبادة. ومن أعظم المصائب: إعراض أكثر الناس عن النظر في معنى هذه الكلمة العظيمة، حتى صار كثير منهم يقول: من قال لا إله إلا الله، لا نقول فيه شيئا، وإن فعل ما فعل، لعدم معرفتهم بمعنى هذه الكلمة نفيا وإثباتا، مع أن قائل ذلك لا بد أن يتناقض. فلو قيل له: ما تقول فيمن قال لا إله إلا الله، ولا يقر برسالة محمد بن عبد الله؟ لم يتوقف في تكفيره، أو أقر بالشهادتين وأنكر البعث، لم يتوقف في تكفيره، أو استحل الزنى واللواط ونحوه، أو قال: إن الصلوات الخمس ليست بفرض، فلا بد أن يقول بكفر من قال ذلك; فكيف لا تنفعه لا إله إلا الله إذاً، ولا تحول بينه وبين الكفر؟! فإذا ارتكب ما يناقضها، وهو عبادة غير الله، وهو الشرك الأكبر الذي هو أكبر الذنوب، قيل: هو يقول لا إله إلا الله، ولا يجوز تكفيره، لأنه يتكلم بكلمة التوحيد! لكن آفة الجهل والتقليد أوجبت ذلك، وهؤلاء ونحوهم إذا سمعوا من يقرر التوحيد، ويذكر الشرك، استهزؤوا به وعابوه. قال شيخ الإسلام - في أثناء كلامه -: والضالون مستخفون الجزء: 12 ¦ الصفحة: 64 بتوحيد الله، ويعظمون دعاء غير الله من الأموات، وإذا أمروا بالتوحيد، ونهوا عن الشرك استخفوا به، كما قال تعالى: {وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا} [سورة الفرقان آية: 41-42] . فاستهزؤوا بالرسول لما نهاهم عن الشرك، وما زال المشركون يسبون الأنبياء، ويصفونهم بالسفاهة والضلالة، والجنون، إذا دعوهم إلى التوحيد، لما في أنفسهم من تعظيم الشرك؛ وكذلك من فيه شبه منهم، إذا رأوا من يدعو إلى التوحيد، استهزؤوا بذلك، لما عندهم من الشرك. ومن كيد الشيطان لمبتدعة هذه الأمة، من المشركين بالبشر، من المقبورين وغيرهم، لما علم عدو الله أن كل من قرأ القرآن وسمعه، يفر من الشرك، ومن عبادة غير الله، ألقى في قلوب الجهال أن هذا الذي يفعلونه مع المقبورين وغيرهم، ليس هو عبادة لهم، وإنما هو توسل وتشفع بهم، والتجاء إليهم ونحو ذلك. فسلب العبادة والشرك اسمهما من قلوبهم، وكساهما أسماء لا تنفر عنها القلوب؛ ثم ازداد اغترارهم، وعظمت الفتنة بأن صار بعض من ينسب إلى علم ودين، يسهل عليهم ما ارتكبوه من الشرك، ويحتج لهم بالحجج الباطلة، فإنا لله وإنا إليه راجعون. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 65 فصل [فيما أورده بعض المجادلين عن شيخ الإسلام من قوله في دعاء الأموات] وقد أورد بعضهم: أن شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله تعالى ذكر كلاما وحكايات، تدل على أن دعاء الأموات ليس بشرك، كما ذكر أنه روى أن رجلا جاء إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فشكا إليه الجدب عام الرمادة، فرآه وهو يأمره أن يأتي إلى عمر بن الخطاب، فيأمره أن يستسقي بالناس، وغير ذلك من الحكايات. قال بعض المجادلين: ولو سلم لكم في بعض الأمور أنها شرك وكفر، فإن الشيخ ذكر في اقتضاء الصراط المستقيم، أن المتأول والمجتهد والمخطئ والمقلد، مغفور لهم ما ارتكبوه من الشرك، والكفر; فهذا تلبيس من الناقل، وكذب على الشيخ رحمه الله تعالى، لأنه إنما قال ذلك في سياق الكلام في بعض البدع، كتحري دعاء الله عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم وغيره. فقال: وقد يفعل الرجل العمل الذي يعتقده صالحا، ولا يكون عالما أنه منهي عنه، فيثاب على حسن قصده، ويعفى عنه لعدم علمه؛ وهذا باب واسع، وعامة العبادة المبتدعة المنهي عنها، قد يفعلها بعض الناس، ويحصل له نوع من الفائدة، وذلك لا يدل على أنها مشروعة؛ ثم العامل قد يكون متأولا، أو مخطئا مجتهدا، أو مقلدا، فيغفر خطؤه ويثاب على فعله من الخير المشروع، المقرون بغير المشروع. قال: والحاصل: أن ما يقع من الدعاء المشتمل على كراهية شرعية، بمنْزلة سائر العبادات; وقد علم أن العبادة المشتملة الجزء: 12 ¦ الصفحة: 66 على وصف مكروه، قد تغفر تلك الكراهة لصاحبها لاجتهاده، أو تقليده، أو حسناته، أو غير ذلك؛ تم ذلك لا يمنع أن يكون ذلك مكروها منهيا عنه، وإن كان هذا الفاعل المعين قد زال موجب الكراهة في حقه. قال: فإذا سمعت دعاء أو مناجاة مكروهة في الشرع، قد قضيت حاجة صاحبها، فكثيرا ما يكون من هذا الباب; ولا يقال: هؤلاء لما نقصت معرفتهم سوغ لهم ذلك، فإن الله لم يسوغ هذا لأحد، لكن قصور المعرفة قد يرجى معه العفو والمغفرة، أما استحباب المكروهات، أو إباحة المحرمات، فلا; وفرق بين العفو عن الفاعل والمغفرة له، وبين إباحة فعله والمحبة له. وإنما استحباب الأفعال واتخاذها دينا، بكتاب الله وسنة نبيه، وما كان عليه السابقون الأولون، وما سوى هذا من الأمور المحدثة، فلا تستحب، وإن اشتملت أحيانا على فوائد، لأنا نعلم أن مفاسدها راجحة على فوائدها. ولما قرر رحمه الله: أن تحري الدعاء عند القبور منهي عنه، قال: ولا يدخل في هذا الباب: أن أقواما سمعوا السلام من قبر النبي صلى الله عليه وسلم أو قبر غيره من الصالحين، وأن سعيد بن المسيب كان يسمع الأذان من القبر ليالي الحرة، فهذا كله حق ليس مما نحن فيه، والأمر أجل من ذلك وأعظم. قال وكذلك أيضا: ما روي أن رجلا جاء إلى قبر النبي الجزء: 12 ¦ الصفحة: 67 صلى الله عليه وسلم وشكا إليه الجدب عام الرمادة، فرآه وهو يأمره أن يأتي إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فيأمره أن يخرج فيستسقي بالناس، فإن هذا ليس من هذا الباب. وكذلك سؤال بعضهم عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم حاجته فتقضى، فإن هذا قد وقع كثير، وليس هو مما نحن فيه، إلى أن قال: وكل هذا لا يقتضي استحباب الصلاة عند القبور، ولا قصد الدعاء والنسك عندها، لما في قصد العبادة عندها من المفاسد التي علمها الشرع. ثم قال رحمه الله تعالى: فذكرت هذه الأمور لأنها مما يتوهم أنها معارضة لما قدمنا، وليس كذلك، فإن الخلق لم ينهوا عن الصلاة عند القبور، واتخاذها مساجد، استهانة بأهلها، بل لما يخاف عليهم من الافتتان; وإنما تكون الفتنة إذا انعقد سببها، فلولا أنه قد يحصل عند القبور ما يخاف الافتتان به، لما نهى الناس عن ذلك، انتهى. فانظر قوله: وليس هو مما نحن فيه، وليس فيه معارضة لما ذكرنا، لأنه قرر أن قصد القبور لدعاء الله عندها بدعة منهي عنها; وكذلك قرر: أن دعاء الأموات والغائبين، والاستغاثة بهم شرك، وذكر أنه ليس فيما ذكره معارضة لما قرره، دفعا لما قد يتوهم. واحتج بعض من يجادل عن المشركين بقصة الذي قد أوصى أهله أن يحرقوه بعد موته، على أن من ارتكب الكفر الجزء: 12 ¦ الصفحة: 68 جاهلا لا يكفر، ولا يكفر إلا المعاند. والجواب عن ذلك كله: أن الله سبحانه وتعالى أرسل رسله مبشرين ومنذرين، لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل؛ وأعظم ما أرسلوا به ودعوا إليه: عبادة الله وحده لا شريك له، والنهي عن الشرك الذي هو عبادة غيره؛ فإن كان مرتكب الشرك الأكبر معذورا لجهل، فمن الذي لا يعذر؟! ولازم هذه الدعوى: أنه ليس لله حجة على أحد إلا المعاند، مع أن صاحب هذه الدعوى لا يمكنه طرد أصله، بل لا بد أن يتناقض، فإنه لا يمكنه أن يتوقف في تكفير من شك في رسالة محمد صلى الله عليه وسلم أو شك في البعث، أو غير ذلك من أصول الدين، والشاك جاهل؛ والفقهاء يذكرون في كتب الفقه حكم المرتد: أنه المسلم الذي يكفر بعد إسلامه، نطقا أو فعلا أو شكا أو اعتقادا، وسبب الشك الجهل. ولازم هذا: أنا لا نكفر جهلة اليهود والنصارى، والذين يسجدون للشمس والقمر والأصنام لجهلهم، ولا الذين حرقهم علي ابن أبي طالب رضي الله عنه بالنار، لأنا نقطع أنهم جهال؛ وقد أجمع المسلمون على كفر من لم يكفر اليهود والنصارى، أو شك في كفرهم، ونحن نتيقن أن أكثرهم جهال. [قول الشيخ تقي الدين فيمن سب الصحابة] وقال الشيخ تقي الدين، رحمه الله تعالى: من سب الصحابة رضوان الله عليهم، أو واحدا منهم، واقترن بسبه دعوى أن عليا إله أو نبي، أو أن جبرائيل غلط، فلا شك في كفر هذا، الجزء: 12 ¦ الصفحة: 69 بل لا شك في كفر من توقف في تكفيره. قال: ومن زعم أن الصحابة ارتدوا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا نفرا قليلا لا يبلغون بضعة عشر، أو أنهم فسقوا، فلا ريب في كفر قائل ذلك، بل من شك في كفره فهو كافر. قال: ومن ظن أن قوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ} [سورة الإسراء آية: 23] بمعنى قدر، وأن الله سبحانه ما قدر شيئا إلا وقع، وجعل عبدة الأصنام ما عبدوا إلا الله، فإن هذا من أعظم الناس كفرا بالكتب كلها، انتهى. ولا ريب أن أصحاب هذه المقالة، أهل علم وزهد وعبادة، وأن سبب دعواهم هذه، الجهل. وقد أخبر الله سبحانه عن الكفار: أنهم في شك مما تدعوهم إليه الرسل، وأنهم في شك من البعث، وقالوا لرسلهم: {وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ} [سورة إبراهيم آية: 9] وقال تعالى: {وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ} [سورة هود آية:110] ، وقال تعالى اخبارا عنهم: {إِنْ نَظُنُّ إِلاَّ ظَنَّاً وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} [سورة الجاثية آية: 32] . وقال تعالى عن الكفار: {إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} [سورة الأعراف آية: 30] ، وقال تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} [سورة الكهف آية: 103-104] . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 70 ووصفهم الله سبحانه بغاية الجهل، كما في قوله تعالى: {لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [سورة الأعراف آية: 179] . وقد ذم الله المقلدين، بقوله عنهم: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} [سورة الزخرف آية: 22] الآيتين، ومع ذلك كفّرهم; واستدل العلماء بهذه الآية ونحوها، على أنه لا يجوز التقليد في معرفة الله والرسالة، وحجة الله سبحانه قائمة بإرساله الرسل، وإن لم يفهموا حجج الله وبيناته. [قول ابن قدامة لما سئل هل كل مجتهد مصيب؟] قال الشيخ موفق الدين أبو محمد بن قدامة، رحمه الله تعالى لما انجر كلامه: هل كل مجتهد مصيب؟ ورجح قول الجمهور، أنه ليس كل مجتهد مصيب، بل الحق في قول واحد من أقوال المجتهدين. قال: وزعم الجاحظ أن من خالف ملة الإسلام، إذا نظر فعجز عن إدراك الحق، فهو معذور غير آثم، إلى أن قال: أما ما ذهب إليه الجاحظ فباطل يقينا، وكفر بالله ورد عليه وعلى رسوله، فنعلم قطعا: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر اليهود والنصارى بالإسلام واتباعه، وذمهم على الإصرار، وقاتلهم جميعهم، يقتل البالغ منهم; ونعلم: أن المعاند العارف ممن يقل، وإنما الأكثر مقلدة اعتقدوا دين آبائهم تقليدا، ولم يعرفوا معجزة الرسول وصدقه. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 71 والآيات الدالة في القرآن على هذا كثيرة، كقوله تعالى: {ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا} [سورة ص آية: 27] الآية، وقوله: {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ} [سورة فصلت آية: 23] الآية، وقوله: {وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ} [سورة البقرة آية: 78] وقوله: {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ} [سورة المجادلة آية: 18] وقوله: {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} [سورة الأعراف آية: 30] وقوله: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} [سورة الكهف آية: 103-104] الآية. وفي الجملة: ذم المكذبين للرسول مما لا ينحصر في الكتاب والسنة، انتهى. والعلماء يذكرون أن من أنكر وجوب عبادة من العبادات الخمس، أو قال في واحدة منها إنها سنة لا واجبة، أو جحد حل الخبز ونحوه، أو جحد تحريم الخمر ونحوه، أو شك في ذلك، ومثله لا يجهله، كفر؛ وإن كان مثله يجهله عرف، فإن أصر بعد التعريف كفر، وقتل; ولم يقولوا: فإذا تبين له الحق وعاند كفر. وأيضا: فنحن لا نعرف أنه معاند، حتى يقول: أنا أعلم أن ذلك حق ولا ألتزمه، ولا أقوله، وهذا لا يكاد يوجد. وقد ذكر العلماء من أهل كل مذهب، أشياء كثيرة لا يمكن حصرها، من الأقوال، والأفعال، والاعتقادات أنه يكفر صاحبها، ولم يقيدوا ذلك بالمعاند؛ فالمدعي أن مرتكب الكفر متأولا، أو مجتهدا أو مخطئا، أو مقلدا أو جاهلا، معذور، الجزء: 12 ¦ الصفحة: 72 مخالف للكتاب والسنة، والإجماع بلا شك، مع أنه لا بد أن ينقض أصله، فلو طرد أصله كفر بلا ريب، كما لو توقف في تكفير من شك في رسالة محمد صلى الله عليه وسلم ونحو ذلك. وأما الرجل الذي أوصى أهله أن يحرقوه، وأن الله غفر له مع شكه في صفة من صفات الرب تبارك وتعالى، فإنما غفر له لعدم بلوغ الرسالة له، كذلك قال غير واحد من العلماء; ولهذا قال الشيخ تقي الدين: من شك في صفة من صفات الرب تعالى، ومثله لا يجهله، كفر، وإن كان مثله يجهله لم يكفر; قال: ولهذا لم يكفر النبي صلى الله عليه وسلم الرجل الشاك في قدرة الله تعالى، لأنه لا يكفر إلا بعد بلوغ الرسالة؛ وكذلك قال ابن عقيل، وحمله على أنه لم تبلغه الدعوة. واختيار الشيخ تقي الدين في الصفات أنه لا يكفر الجاهل، وأما في الشرك ونحوه فلا، كما ستقف على بعض كلامه إن شاء الله تعالى؛ وقد قدمنا بعض كلامه في الاتحادية وغيرهم، وتكفيره من شك في كفرهم. قال صاحب اختياراته: والمرتد من أشرك بالله، أو كان مبغضا لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو لما جاء به، أو ترك إنكار كل منكر بقلبه، أو توهم أن من الصحابة من قاتل مع الكفار، أو أجاز ذلك، أو أنكر فرعا مجمعا عليه إجماعا قطعيا، أو جعل بينه وبين الله وسائط يتوكل عليهم ويدعوهم ويسألهم، كفر إجماعا. ومن شك في صفة من صفات الله تعالى، ومثله لا يجهلها الجزء: 12 ¦ الصفحة: 73 فمرتد، وإن كان مثله يجهلها فليس بمرتد، ولهذا لم يكفر النبي صلى الله عليه وسلم الرجل الشاك في قدرة الله، فأطلق فيما تقدم من المكفرات، وفرق في الصفة بين الجاهل وغيره، مع أن رأي الشيخ أن التوقف في تكفير الجهمية ونحوهم، خلاف نصوص أحمد وغيره من أئمة الإسلام. قال المجد رحمه الله تعالى: كل بدعة كفرنا فيها الداعية، فإنا نفسق المقلد فيها، كمن يقول: بخلق القرآن، أو أن علم الله مخلوق، أو أن أسماءه مخلوقة، أو أنه لا يرى في الآخرة، أو يسب الصحابة رضي الله عنهم تدينا، أو أن الإيمان مجرد الاعتقاد، وما أشبه ذلك، فمن كان عالما في شيء من هذه البدع يدعو إليه، ويناظر عليه، محكوم بكفره، نص أحمد على ذلك في مواضع، انتهى. فانظر كيف حكم بكفرهم مع جهلهم. [فصل فيما يتعين الاعتناء به معرفة ما أنزل الله على رسوله] ومما يتعين الاعتناء به، معرفة ما أنزل الله على رسوله، لأن الله سبحانه ذم من لا يعرف حدود ما أنزل الله على رسوله، فقال تعالى: {الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} [سورة التوبة آية: 97] . قال شيخ الإسلام: ومعرفة حدود الأسماء واجبة، لأن بها قيام مصلحة الآدميين في المنطق الذي جعله الله رحمة لهم، لا سيما حدود ما أنزل الله على رسوله من الأسماء، كالخمر والربا؛ فهذه الحدود هي المميزة بين ما يدخل في المسمى، وما الجزء: 12 ¦ الصفحة: 74 يدل عليه من الصفات، وبين ما ليس كذلك، وقد ذم الله سبحانه من لا يعرف حدود ما أنزل الله على رسوله، انتهى. ففرض على المكلف معرفة حد العبادة، وحقيقتها التي خلقنا الله لأجلها، ومعرفة حد الشرك، وحقيقته الذي هو أكبر الكبائر; وتجد كثيرا ممن يشتغل بالعلم لا يعرف حقيقة الأكبر، وإن قال: إنه الشرك في العبادة، لقوله تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} [سورة النساء آية: 36] ، وقوله: {وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} [سورة الكهف آية: 110] ، وقوله صلى الله عليه وسلم: "أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا" 1؛ فإنه مع اعترافه بأن الشرك الذي حرمه الله، هو الشرك في العبادة، لا يعرف حد العبادة وحقيقتها. وربما قال: العبادة التي صرفها لغير الله شرك، الصلاة والسجود؛ فإذا طلب منه الدليل على أن الله يسمي الصلاة لغيره، والسجود لغيره شركا، لم يجده، وربما قال: لأن ذلك خضوع والخضوع لغير الله شرك، فيقال له: هل تجد في القرآن والسنة تسمية هذا الخضوع شركا؟ فلا يجده; فيلزمه أن يقول إنه عبادة; فيقال: وكذلك الدعاء والذبح والنذر عبادات، مع ما يلزم هذه العبادات من أعمال القلوب، من الذل، والخضوع، والحب والتعظيم، والتوكل والخوف والرجاء، وغير ذلك; وفي الحديث: " الدعاء مخ العبادة " 2. وقد قرن الله بين الصلاة والذبح، في قوله: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ   1 البخاري: الجهاد والسير 2856 , ومسلم: الإيمان 30 , والترمذي: الإيمان 2643 , وابن ماجه: الزهد 4296 , وأحمد 5/229 ,5/230 ,5/234 ,5/236 ,5/242. 2 الترمذي: الدعوات 3371. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 75 وَانْحَرْ} [سورة الكوثر آية: 2] أي: أخلص له صلاتك، {وَانْحَرْ} [سورة الكوثر آية: 2] أي: ذبيحتك. فكما أن الصلاة لغير الله شرك، فكذلك قرين الصلاة، وهو الذبح لغير الله شرك، قال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [سورة الأنعام آية: 162-163] . ومن العجب، قول بعض من يحتج للمشركين بالأموات إنهم لا يرجون منهم قضاء حاجاتهم من الميت ونحوه. فنقول: هذا مكابرة ومغالطة، لأن من المعلوم عند كل ذي عقل أنهم ما دعوهم، وتذللوا، وخضعوا لهم، وبذلوا أموالهم بالنذور، والذبائح، إلا لأنهم يرجون حصول مطلوبهم، وقضاء حاجاتهم من جهتهم؛ فكيف يتصور عند عاقل أن يسمع من يسأل الميت والغائب حاجة، بأن يقول: أعطني كذا وأنا في حسبك، أو يستغيث به لدفع عدو، أو كشف ضر، ويتذلل ويخضع له، ثم يقول: إنه لا يرجو حصول مطلوبه، ودفع مرهوبه من جهته؟! وكيف يتصور: أن يبذل ماله بالنذور والذبائح - مع أن المال عزيز عند أهله - لمن يرجوه، ويعتقد أنه لا يحصل له من جهته نفع ولا دفع ضر؟! فهذا من أبين المحال، وأبطل الباطل; كيف وهم يفتخرون بقضاء حاجاتهم، وكشف كرباتهم من جهتهم؟! فبعض هؤلاء، منهم من يعتقد أن الميت ونحوه يفعل ذلك أصالة. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 76 وبعضهم يقول: هم وسيلتنا إلى الله، يعنون واسطة بينهم وبين الله تعالى، كما عليه المشركون الأولون، لأنه سبحانه أخبر عن المشركين، الموجودين حين نزول القرآن أنهم يخلصون لله الدعاء في حال الشدة، وينسون آلهتهم. وكثير من غلاة أهل هذا الزمان يخلصون الدعاء عند هذه الأمور المهمة والشدائد لولائجهم، كما هو مستفيض عنهم; قال الله تعالى إخبارا عن المشركين الأولين: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} } [سورة العنكبوت آية: 65] الآية، وقال تعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ} [سورة الإسراء آية: 67] الآية، وقال تعالى: {قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [سورة الأنعام آية: 63] . ومن العجب، قول من ينسب إلى علم ودين: إن طلبهم من المقبورين والغائبين ليس دعاء لهم، بل هو نداء!! أفلا يستحي هذا القائل من الناس، إذا لم يستح من الله من هذه الدعوى الفاسدة السامجة، التي يروج بها على رعاع الناس؟! والله سبحانه قد سمى الدعاء نداء، كما في قوله تعالى: {إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيّاً} [سورة مريم آية: 3] ، وقوله: {فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ} [سورة الأنبياء آية: 87] ؛ وأي فرق بين ما إذا سأل العبد ربه حاجته، وبين ما إذا طلبها من غيره، من ميت أو غائب، بأن الأول يسمى دعاء، والثاني يسمى الجزء: 12 ¦ الصفحة: 77 نداء؟! ما أسمج هذا القول وأقبحه، وهو قول يستحى من حكايته لولا أنه يروج على الجهال، لا سيما إذا سمعوه ممن يعتقدون علمه ودينه. وأي فرق بين سؤال الميت حاجته، وبين سؤالها من صنم ونحوه، بأن الثاني يسمى دعاء، والأول نداء؟! فإن قال: الكل نداء لا دعاء، فهذا مشاقة للقرآن، ومحادة لله ورسوله، ولا يحتاج في بطلانه إلى أكثر من حكايته؛ وما أظن أن عاقلا يحيك هذا في نفسه، وإنما هو عناد ومكابرة، وإنما يروج على أشباه البهائم. أما يخاف هذا أن يتناوله قوله تعالى: {وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ} [سورة غافر آية: 5] ؛ والله سبحانه وتعالى سمى سؤال غيره دعاء في غير موضع من كتابه، قال تعالى: {إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ} [سورة فاطر آية: 14] ؛ والدعاء في القرآن يتناول دعاء العبادة، ودعاء المسألة. [فصل فيما يقال لمن ادعى أن الشرك هو الصلاة والسجود لغير الله] ويقال لمن ادعى أن الشرك هو الصلاة والسجود لغير الله، مع أن هذا مكابرة من مدعيه؛ فكما أن السجود عبادة، فكذلك الدعاء والنذر، والذبح وغيرهما، كما تقدم تعريفه. وقد نهى الله سبحانه وتعالى عن دعاء غيره، وذم فاعل ذلك، وأمر بإخلاص الدعاء له أكثر مما ذكر في خصوصية السجود، الجزء: 12 ¦ الصفحة: 78 مع أن الدعاء في القرآن يتناول دعاء المسألة، ودعاء العبادة الذي يدخل فيه السجود، وغيره من أنواع العبادة. قال الله تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} [سورة الجن آية:18] ، وقال: {فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [سورة غافر آية: 65] وقال: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ} [سورة الرعد آية: 14] ، وقال: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ} [سورة يونس آية: 106] ، وقال: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} [سورة الأحقاف آية: 5] ، وقال: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ} [سورة فاطر آية: 13-14] الآية، وفي القرآن من ذلك ما لا يحصى. [قول الشيخ في الكلام على دعوة ذي النون] قال شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله تعالى، في الكلام على دعوة ذي النون: لفظ الدعاء والدعوة في القرآن، يتناول دعاء العبادة، ودعاء المسألة، وفسر قوله تعالى: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [سورة غافر آية: 60] بالوجهين، وفي حديث النُزول " من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له " 1. والمستغفر سائل، والسائل داع، لكن ذكر السائل لدفع الشر للخير، وذكرهما بعد الدعاء الذي يتناولهما وغيرهما، من عطف الخاص على العام، وسماها دعوة لتضمنها النوعين. فقوله: {لا إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ} [سورة الأنبياء آية: 87] اعترافا بتوحيد الإلهية، وهو يتضمن النوعين؛ فإن الإله هو المستحق لأن   1 البخاري: الجمعة 1145 , ومسلم: صلاة المسافرين وقصرها 758 , والترمذي: الصلاة 446 والدعوات 3498 , وأبو داود: الصلاة 1315 والسنة 4733 , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها 1366 , وأحمد 2/258 ,2/264 ,2/267 ,2/282 ,2/419 ,2/487 ,2/504 ,2/521 , ومالك: النداء للصلاة 496 , والدارمي: الصلاة 1478 ,1479. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 79 يدعى بالنوعين. قال ابن القيم رحمه الله تعالى، في "البدائع" بعد آيات ذكرها; قال: وهذا في القرآن كثير، يبين أن المعبود لا بد أن يكون مالكا للنفع والضر؛ فهو يدعى للنفع والضر دعاء المسألة، ويدعى رجاء وخوفا دعاء العبادة; فعلم أن النوعين متلازمان. فكل دعاء عبادة مستلزم لدعاء المسألة، وكل دعاء مسألة متضمن لدعاء العبادة، إلى أن قال: وليس هذا من استعمال اللفظ المشترك في معنييه كليهما، واستعمال اللفظ في حقيقته، ومجازه; بل هذا استعماله في حقيقته الواحدة، المتضمنة للأمرين جميعا، انتهى; فعلى هذا يكون النهي عن دعاء غيره سبحانه نصا في دعاء العبادة، ودعاء المسألة، فهو نهي عن كل منهما حقيقة. [فصل في قول ابن تيمية فيمن ترجى له المغفرة] فصل وقد ذكرنا: أن الشيخ تقي الدين، قال: إنما ترجى المغفرة لمن فعل بعض البدع مجتهدا أو جاهلا؛ لم يقل ذلك فيمن ارتكب الشرك الأكبر، والكفر الظاهر، بل قد قال رحمه الله تعالى: إن الشرك لا يغفره الله، وإن كان أصغر؛ وقد قدمنا بعض كلامه في ذلك، ونذكر هنا بعض ما اطلعنا عليه من كلامه، وكلام غيره من العلماء. قال رحمه الله تعالى - في أثناء كلام له في ذم أصحاب الجزء: 12 ¦ الصفحة: 80 الكلام -: والرازي من أعظم الناس في باب الحيرة، لكن هو مسرف فيه، له نهمة في التشكيك; والشك في الباطل خير من الثبات على اعتقاده; لكن قل أن يثبت أحد على باطل محض، بل لا بد فيه من نوع من الحق; وتوجد الردة منهم كثيرا كالنفاق; وهذا إذا كان في المقالات الخفية، فقد يقال: لم تقم عليه الحجة التي يكفر صاحبها. لكن يقع في ذلك طوائف منهم، في أمور يعلم الخاصة والعامة، بل اليهود والنصارى، يعلمون أن محمدا بعث بها، وكفر من خالفها، مثل عبادة الله وحده لا شريك له، ونهيه عن عبادة غيره؛ فإن هذا أظهر شعائر الإسلام، ومثل أمره بالصلوات الخمس، وتعظيم شأنها، ومثل معاداة المشركين وأهل الكتاب، ومثل تحريم الفواحش والربا والميسر ونحو ذلك، إلى أن قال: وصنف الرازي كتابا في عبادة الأصنام والكواكب، وأقام الأدلة على حسنه، ورغب فيه، وهذه ردة عن الإسلام إجماعا، انتهى. فقوله رحمه الله تعالى: بل اليهود والنصارى يعلمون ذلك، هو كما قال؛ فقد سمعنا غير واحد من اليهود: أنهم يعيبون على المسلمين ما يفعل عند هذه المشاهد، يقولون: إن كان نبيكم أمركم بهذا فليس بنبي، وإن كان نهاكم عنه فقد عصيتموه; فسبحان الله ما أعجب هذا؟! اليهود ينكرون هذه الأمور الشركية، ويقولون: ما يأتي بها نبي، وكثير من علماء هذه الجزء: 12 ¦ الصفحة: 81 الأزمان يجوزون ذلك، ويوردون الشبه الباطلة عليه، وينكرون على من أنكره!! وانظر قول الشيخ: لكن قد يعفى عما خفيت فيه طرق العلم، وكان أمرا يسيرا في الفروع; وقوله أيضا: وهذا إذا كان في المقالات الخفية، فقد يقال: لم تقم عليه الحجة التي يكفر صاحبها. وقال الشيخ، في الرسالة السنية - لما ذكر حديث الخوارج -: فإذا كان في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه من مرق من الدين مع عبادته العظيمة، فليعلم: أن المنتسب إلى الإسلام في هذا الزمان، قد يمرق أيضا، وذلك بأمور: منها: الغلو الذي ذمه الله سبحانه كالغلو في بعض المشائخ، كالشيخ عدي، بل الغلو في علي ابن أبي طالب، بل الغلو في المسيح. فكل من غلا في نبي، أو رجل صالح، وجعل فيه نوعا من الإلهية، مثل أن يدعوه من دون الله، بأن يقول: يا سيدي فلان أغثني، أو اجبرني، أو توكلت عليك، أو أنا في حسبك، فكل هذا شرك، وضلال، يستتاب صاحبه فإن تاب وإلا قتل; فإن الله تعالى أرسل الرسل، وأنزل الكتب ليعبد وحده، ولا يجعل معه إلها آخر. والذين يجعلون مع الله آلهة أخرى، مثل الملائكة والمسيح وعزير، والصالحين وقبورهم، لم يكونوا يعتقدون أنها تخلق وترزق، وإنما كانوا يدعونهم، يقولون: هؤلاء شفعاؤنا عند الجزء: 12 ¦ الصفحة: 82 الله، فبعث الله الرسل تنهى أن يدعى أحد من دون الله، لا دعاء عبادة ولا دعاء استغاثة. قال رحمه الله أيضا: وقد سئل عن رجلين تنازعا; فقال أحدهما: لا بد لنا من واسطة بيننا وبين الله، فإنا لا نقدر أن نصل إليه إلا بذلك. فأجاب بقوله: إن أراد بذلك أنه لا بد لنا من واسطة تبلغنا أمر الله، فهذا حق، فإن الخلق لا يعلمون ما يحبه الله ويرضاه، وما يأمرهم به وينهاهم عنه، إلا بواسطة الرسل الذين أرسلهم الله إلى عباده؛ وهذا مما أجمع عليه أهل الملل، من المسلمين واليهود والنصارى، فإنهم يثبتون الوسائط بين الله وبين عباده، وهم الرسل، الذين بلغوا عن الله أوامره ونواهيه، قال الله تعالى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ} [سورة الحج آية: 75] ، ومن أنكر هذه الوسائط فهو كافر بإجماع أهل الملل. وإن أراد بالواسطة: أنه لا بد من واسطة يتخذها العباد بينهم وبين الله، في جلب المنافع، ودفع المضار، مثل أن يكون واسطة في رزق العباد ونصرهم، وهداهم، يسألونهم ذلك ويرجعون إليه، فهذا من أعظم الشرك، الذي كفر الله به المشركين، حيث اتخذوا من دونه أولياء وشفعاء، يجتلبون بهم المنافع، ويستدفعون بهم المضار، إلى أن قال: فمن جعل الأنبياء والملائكة وسائط يدعوهم، ويتوكل عليهم، ويسألهم جلب المنافع ودفع المضار، مثل أن يسألهم الجزء: 12 ¦ الصفحة: 83 غفران الذنوب، وهداية القلوب، وتفريج الكربات، وسد الفاقات، فهو كافر بإجماع المسلمين، إلى أن قال: فمن أثبت وسائط بين الله وبين خلقه، كالحُجّاب الذين بين الملك وبين رعيته، بحيث يكونون هم يرفعون إلى الله حوائج خلقه، وأن الله إنما يهدي عباده وينصرهم ويرزقهم، بتوسطهم; بمعنى: أن الخلق يسألونهم، وهم يسألون الله، كما أن الوسائط عند الملوك، يسألون الملوك حوائج الناس لقربهم منهم، وأن الناس يسألونهم أدبا منهم أن يباشروا سؤال الملوك، أو لأن طلبهم من الوسائط أنفع لهم من طلبهم من الملوك، لكونهم أقرب إلى الملك من الطالب، فمن أثبتهم وسائط على هذا الوجه، فهو كافر مشرك، يجب أن يستتاب، فإن تاب وإلا قتل. وهؤلاء مشبهون، شبهوا الخالق بالمخلوق، وجعلوا لله أندادا; وفي القرآن من الرد على هؤلاء ما لا تتسع له هذه الفتوى; فإن هذا دين المشركين عبدة الأوثان، كانوا يقولون: إنها تماثيل الأنبياء والصالحين، وإنها وسائل يتقربون بها إلى الله، وهو من الشرك الذي أنكره الله على النصارى، قال تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [سورة التوبة آية: 31] انتهى. فقد جزم رحمه الله تعالى في مواضع كثيرة، بكفر من فعل ما ذكرنا من أنواع الشرك، وحكى إجماع المسلمين على ذلك، ولم الجزء: 12 ¦ الصفحة: 84 يستثن الجاهل ونحوه، قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [سورة النساء آية: 48] الآية، وقال تعالى عن عيسى عليه السلام أنه قال: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} [سورة المائدة آية: 72] . فمن خص ذلك الوعيد بالمعاند فقط، وأخرج الجاهل والمتأول والمقلد، فقد شاق الله ورسوله، وخرج عن سبيل المؤمنين; والفقهاء يصدرون "باب حكم المرتد" بمن أشرك بالله، ولم يقيدوا ذلك بالمعاند، وهذا أمر واضح - ولله الحمد - فقد قال تعالى: {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [سورة النساء آية: 165] . [الأمور المبتدعة عند القبور أنواع] وقال الشيخ أيضا: وهذه الأمور المبتدعة عند القبور أنواع، أبعدها عن الشرع: أن يسأل الميت حاجته، كما يفعله كثير من الناس، وهؤلاء من جنس عباد الأصنام، ولهذا قد يتمثل لهم الشيطان في صورة الميت، والغائب، كما يتمثل لعباد الأصنام. ومن تقريره رحمه الله تعالى، في هذا الأصل: ما ذكره في "اقتضاء الصراط المستقيم" حيث قال: إن الدعاء المتضمن شركا، كدعاء غير الله أن يفعل، أو دعائه أن يدعو ونحو ذلك، لا يحصل غرض صاحبه، ولا يورث حصول الغرض شبهة، إلا في الأمور الحقيرة; وأما الأمور العظيمة: كإنزال الغيث عند القحط، وكشف العذاب النازل، فلا ينفع فيه هذا الشرك. قال الله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 85 السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ} [سورة الأنعام آية: 40-41] ، وقال تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [سورة العنكبوت آية: 65] ، وقال تعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ} [سورة الإسراء آية: 67] ، وقال تعالى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} [سورة النمل آية: 62] الآية، فكون هذه المطالب العظيمة، لا يستجيب فيها إلا هو سبحانه وتعالى، دل على توحيده، وقطع شبهة من أشرك به. وعلم بذلك: أن ما دون هذا أيضا من الإجابات، إنما فعلها له سبحانه وحده لا شريك له، وإن كانت تجري بأسباب محرمة أو مباحة، كما أن خلقه السماوات والأرض والسحاب والرياح، وغير ذلك من الأجسام العظيمة، دل على وحدانيته، وأنه خالق كل شيء، وأن ما دون هذا بأن يكون خلقا له أولى، إذ هو منفصل عن مخلوقاته العظيمة، فخالق السبب التام خالق للمسبب لا محالة. وجماع ذلك: أن الشرك نوعان: شرك في ربوبيته، بأن يجعل لغيره معه تدبيرا، كما قال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} [سورة سبأ آية: 22] فبين أنهم لا يملكون مثقال ذرة استقلالا، ولا يشركونه في شيء من ذلك، ولا يعينونه على ملكه، فمن لم يكن مالكا، الجزء: 12 ¦ الصفحة: 86 ولا شريكا، ولا عوينا، فقد انقطعت علاقته. وشرك في الألوهية: بأن يدعى غيره دعاء عبادة، أو دعاء مسألة، كما قال تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [سورة الفاتحة آية: 5] . فكما أن إثبات المخلوقات أسبابا، لا يقدح في توحيد الربوبية، ولا يمنع أن يكون الله خالق كل شيء، ولا يوجب أن يدعى المخلوق دعاء عبادة، أو دعاء استعانة، كذلك إثبات بعض الأفعال المحرمة، من شرك أو غيره أسبابا، لا يقدح في توحيد الإلهية، ولا تمنع أن يكون الله هو الذي يستحق الدين الخالص، ولا يوجب أن تستعمل الكلمات والأفعال التي فيها شرك، إذا كان الله يسخطه ذلك، ويعاقب العبد عليه. وتكون مضرة ذلك على العبد أكثر من منفعته، إذ قد جعل الخير كله في أنا لا نعبد إلا إياه، ولا نستعين إلا به، وعامة آيات القرآن تثبت هذا الأصل، حتى إنه سبحانه قطع أثر الشفاعة بدون إذنه، فذكر رحمه الله آيات كثيرة في هذا المعنى، ثم قال: القرآن عامتة إنما هو في تقرير هذا الأصل العظيم، الذي هو أصل الأصول. وقال رحمه الله، في موضع آخر: ونحن نعلم بالضرورة، أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشرع لأمته أن يدعوا أحدا من الأحياء والأموات، لا الأنبياء ولا غيرهم، لا بلفظ الاستغاثة في حال الشدة، ولا بلفظ الاستعانة، ولا بغيرهما، كما لم يشرع الله السجود لميت، ولا إلى ميت، ونحو ذلك; بل نعلم أنه نهى عن ذلك كله، الجزء: 12 ¦ الصفحة: 87 وأنه من الشرك الذي حرمه الله ورسوله. لكن لغلبة الجهل، وقلة العلم بآثار الرسالة، في كثير من المتأخرين، لم يمكن تكفيرهم حتى يبين لهم ما جاء به الرسول، قال: ولهذا ما بينت هذه المسألة لمن يعرف أصل دين الإسلام إلا تفطن لها، وقال: هذا أصل دين الإسلام; وكان بعض أكابر الشيوخ العارفين من أصحابنا، يقول: هذا أعظم ما بينته لنا، لعلمه بأن هذا أصل الدين، انتهى. فقوله رحمه الله: لم يمكن تكفيرهم حتى يبين لهم ما جاء به الرسول، أي: لم يمكن تكفيرهم بأشخاصهم وأعيانهم، بأن يقال: فلان كافر ونحوه، بل يقال: هذا كفر، ومن فعله كافر؛ كما أطلق رحمه الله الكفر على فاعل هذه الأمور ونحوها في مواضع لا تحصى، وحكى إجماع المسلمين على كفر فاعل هذه الأمور الشركية. وصرح بذلك رحمه الله في مواضع، كما قال في أثناء جواب له في الطائفة القدرية، قال بعد كلام كثير: وأصل ذلك أن المقالة التي هي كفر، في الكتاب والسنة والإجماع، يقال: هي كفر مطلق، كما دل على ذلك الدليل الشرعي؛ فإن الإيمان والكفر، من الأحكام المتلقاة عن الله ورسوله، ليس ذلك مما يحكم الناس فيه بظنونهم، ولا يجب أن يحكم في كل شخص، قال ذلك بأنه كافر حتى يثبت في حقه شروط التكفير، وتنتفي موانعه; مثل من قال: إن الزنى والخمر حلال، لقرب الجزء: 12 ¦ الصفحة: 88 عهده بالإسلام، ونشوئه ببادية بعيدة. وقال رحمه الله تعالى، في موضع آخر - في أثناء كلام له على هذه المسألة -: وحقيقة الأمر في ذلك: أن القول يكون كفرا، فيطلق القول بتكفير صاحبه; فيقال: من قال كذا فهو كافر; لكن الشخص المعين الذي قاله لا يحكم بكفره، حتى تقوم عليه الحجة التي يكفر تاركها، فهذا كما في نصوص الوعيد; فإن الله يقول: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً} [سورة النساء آية: 10] الآية. فهذا ونحوه من نصوص الوعيد حق، لكن الشخص المعين لا يشهد عليه بالوعيد; فلا نشهد لمعين من أهل القبلة بالنار، لجواز أن لا يلحقه الوعيد، لفوات شرط، أو ثبوت مانع؛ فقد لا يكون بلغه التحريم، وقد يتوب من فعله المحرم، وقد يكون له حسنات عظيمة تمحو عقوبة ذلك المحرم، وقد يبتلى بمصائب تكفر عنه. وقال ابن القيم رحمه الله تعالى في "شرح المنازل": ومن أنواعه، أي: الشرك: طلب الحوائج من الموتى، والاستغاثة بهم، والتوجه إليهم، وهذا هو أصل شرك العالم; فإن الميت قد انقطع عمله، وهو لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا، فضلا لمن استغاث به، وسأله أن يشفع له. وقال في أثناء كلام له: فما أسرع أهل الشرك إلى اتخاذ الأوثان من دون الله، ولو كانت ما كانت; ويقولون: إن هذا الحجر، الجزء: 12 ¦ الصفحة: 89 وهذه الشجرة، وهذه العين، تقبل النذر، أي: تقبل العبادة من دون الله تعالى، فإن النذر عبادة وقربة، يتقرب بها الناذر إلى المنذور له. وقال في الهدي - في غزوة الطائف - ومنها: أنه لا يجوز إبقاء مواضع الشرك والطواغيت، بعد القدرة على هدمها، وإبطالها يوما واحدا; فإنها شعائر الكفر والشرك، وهي من أعظم المنكرات، فلا يجوز الإقرار عليها بعد القدرة البتة. وهكذا حكم المشاهد التي بنيت على القبور التي اتخذت أوثانا، وطواغيت تعبد من دون الله، والأحجار التي تقصد بالتعظيم والتبرك والنذر والتقبيل، فلا يجوز إبقاء شيء منها على وجه الأرض، مع القدرة على إزالتها، وكثير منها بِمنْزلة اللات والعزى، ومناة الثالثة الأخرى، بل أعظم تركا عندها وبها، والله المستعان. ولم يكن أحد من أرباب هذه الطواغيت، يعتقد أنها تخلق وترزق، وتحيي وتميت; وإنما كانوا يفعلون عندها وبها، ما يفعله إخوانهم من المشركين اليوم عند طواغيتهم؛ فاتبع هؤلاء سنن من كان قبلهم، وسلكوا سبيلهم حذو القذة بالقذة، وأخذوا مأخذهم شبرا بشبر وذراعا بذراع؛ وغلب الشرك على أكثر النفوس لظهور الجهل، وخفاء العلم، فصار المعروف منكرا، والمنكر معروفا، والسنة بدعة والبدعة سنة. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 90 نشأ على ذلك الصغير وهرم عليه الكبير، وطمست الأعلام واشتدت غربة الإسلام، وقل العلماء وغلب السفهاء، وتفاقم الأمر واشتد البأس، وظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس؛ ولكن لا تزال طائفة من العصابة المحمدية بالحق قائمين، ولأهل الشرك والبدع مجاهدين، إلى أن يرث الله الأرض، ومن عليها، وهو خير الوارثين، انتهى. والأمر كما قال رحمه الله تعالى: إن سبب حدوث الشرك وظهوره: ظهور الجهل، وخفاء العلم وقلة العلماء، وغلبت السفهاء; فيتبين لطالب الحق أن من جادل عن المشركين، وسهل عليه ما ارتكبوه من الشرك، واحتج لهم بالحجج الباطلة، أنه فاقد أصل العلم وأفرضه، فيستحق أن يوصف بالجهل، وإن كان له اشتغال بأنواع من العلوم القليل نفعها، وفي هذا مصداق قول النبي صلى الله عليه وسلم: " لتتبعن سنن من كان قبلكم، حذو القذة بالقذة "1. وما أحسن ما قال ابن المبارك: وهل أفسد الدين إلا الملوك ... وأحبار سوء ورهبانها ويروى: أن هلاك من كان قبلنا، كان على يد قرائهم وفقهائهم، فإنا لله وانا إليه راجعون. وقال ابن القيم رحمه الله تعالى: ومن ذبح للشيطان ودعاه واستغاث به، وتقرب إليه بما يحب، فقد عبده، وإن لم يسم ذلك عبادة، ويسميه استخداما من الشيطان له، وقال: والشرك فاحذره فشرك ظاهر ... ذا القسم ليس بقابل الغفران   1 البخاري: أحاديث الأنبياء 3456 , ومسلم: العلم 2669 , وأحمد 3/84 ,3/89. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 91 وهو اتخاذ الند للرحمن أيا ... كان من حجر ومن إنسان يدعوه أو يرجوه ثم يخافه ... ويحبه كمحبة الديان والله ما ساووهمو بالله في ... خلق ولا رزق ولا إحسان لكنهم ساووهمو بالله في ... حب وتعظيم وفي إيمان جعلوا محبتهم مع الرحمن ما ... جعلوا المحبة قط للرحمن [قول شيخ الإسلام فيما نذر لغير الله] وقال شيخ الإسلام: وأما ما نذره لغير الله، كالنذر للأصنام والشمس، والقمر والقبور ونحو ذلك، فهو بِمنْزلة أن يحلف بغير الله من المخلوقات، والحالف بالمخلوقات، لا وفاء عليه ولا كفارة، وكذلك الناذر للمخلوق ليس عليه وفاء ولا كفارة; فإن كليهما شرك: والشرك ليس له حرمة، بل عليه أن يستغفر الله من هذا العقد، ويقول ما قال النبي صلى الله عليه وسلم: " من حلف باللات والعزى، فليقل: لا إله إلا الله" 1 انتهى; قوله: فهو بِمنْزلة أن يحلف بغير الله; أي: في عدم الانعقاد، لا حقيقة كحقيقته، لأن النذر عبادة بخلاف الحلف. وقال أيضا، على قوله تعالى: {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [سورة المائدة آية: 3] : ظاهره: أنه ما ذبح لغير الله، مثل أن يقول: هذه ذبيحة لكذا; وإذا كان هذا المقصود، فسواء لفظ به أو لم يلفظ به، وتحريم هذا أظهر من تحريم ما ذبح للحم، وقيل فيه: بسم المسيح ونحوه، لأن ما ذبحناه متقربين به إلى الله، كان أزكى وأعظم مما ذبحناه للحم، وقلنا فيه: بسم الله، فإن عبادة الله بالصلاة له   1 البخاري: تفسير القرآن 4860 والأدب 6107 والاستئذان 6301 والأيمان والنذور 6650 , ومسلم: الأيمان 1647 , والترمذي: النذور والأيمان 1545 , والنسائي: الأيمان والنذور 3775 , وأبو داود: الأيمان والنذور 3247 , وابن ماجه: الكفارات 2096 , وأحمد 2/309. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 92 والنسك، أعظم من الاستعانة باسمه في فواتح الأمور; فإذا حرم ما قيل فيه: بسم المسيح والزهرة، فلأن يحرم ما قيل فيه: لأجل المسيح أو الزهرة، أو قصد به ذلك، أولى; فإن العبادة لغير الله أعظم كفرا، من الاستعانة بغير الله. فعلى هذا: فلو ذبح لغير الله متقربا إليه، لحرم، وإن قال فيه: بسم الله، كما يفعله طائفة من منافقي هذه الأمة، الذين يتقربون إلى الكواكب بالذبح والنحر، ونحو ذلك، وإن كان هؤلاء مرتدين لا تباح ذبيحتهم بحال; لكن يجتمع في الذبيحة مانعان; ومن هذا الباب ما يفعله الجاهلون بمكة، من الذبح للجن. وقال: ولهذا كان عباد الشياطين والأصنام، يذبحون لها الذبائح، فالذبح للمعبود، غاية الذل، والخضوع، ولهذا لم يجز الذبح لغير الله. وقال في موضع آخر: والمسلم إذا ذبح لغير الله، أو ذبح بغير اسمه، لم تبح ذبيحته، وإن كان يكفر بذلك; إلى أن قال: ولأن الذبح لغير الله، وباسم غيره، قد علم أنه ليس من دين الإسلام، بل هو من الشرك الذي أحدثوه; قال، وقول الشيخ: انذروا لي لتقضى حاجاتكم، واستعينوا بي، إذا أصر ولم يتب قتل. قال أبو محمد البربهارى، شيخ الحنابلة في وقته، في عقيدته: ولا نخرج أحدا من أهل القبلة من الإسلام، حتى الجزء: 12 ¦ الصفحة: 93 يرد آية من كتاب الله تعالى، أو يرد شيئا من آثار رسول لله صلى الله عليه وسلم، أو يصلي لغير الله، أو يذبح لغير الله، فقد وجب عليك أن تخرجه من الإسلام، في كلام كثير، انتهى، سمع البربهاري من المروزي وغيره. قال ابن القيم رحمه الله تعالى: رأيت لأبي الوفاء بن عقيل فصلا حسنا، فذكرته بلفظه، قال: لما صعبت التكاليف على الجهال والطغام، عدلوا عن أوضاع الشرع، إلى أوضاع وضعوها لأنفسهم، فسهلت عليهم، إذ لم يدخلوا بها تحت أمر غيرهم; قال: وهم عندي كفار بهذه الأوضاع، مثل تعظيم القبور، وإكرامها بما نهى عنه الشرع، من إيقاد السرج، وتقبيلها وتخليقها، وخطاب أهلها بالحوائج، وكتب الرقاع، فيها: يا مولاي افعل بي كذا وكذا، وأخذ تربتها تبركا، وإفاضة الطيب على القبور، وشد الرحال إليها، وإلقاء الخرق على الشجر، اقتداء بمن عبد اللات والعزى. والويل عندهم، لمن لم يقبل مشهد الكف، ولم يتمسح بالآجر يوم الأربعاء، ولم يقل الحمالون على جنازته: أبو بكر الصديق، ومحمد، وعلي، أو لم يعقد علي قبر أبيه آزجا بالجص والآجر، ولم يخرق ثيابه، ولم يرق ماء الورد على القبر، انتهى كلامه. فانظر إلى تكفير ابن عقيل لهم، مع إخباره بجهلهم. وقال الشيخ قاسم الحنفي في "شرح درر البحار": النذر الذي يقع من أكثر العوام، على ما هو مشاهد الآن، كأن يكون الجزء: 12 ¦ الصفحة: 94 لإنسان غائب، أو مريض، أو له حاجة ضرورية، فيأتي إلى قبر بعض الصلحاء ويجعل على رأسه سترة، ويقول: يا سيدي فلان إن رد الله غائبي، أو عوفي مريضي، أو قضيت حاجتي، فلك من الذهب كذا؛ أو من الفضة كذا، أو من الطعام كذا، أو من الماء كذا، أو من الشمع كذا، فهذا باطل بالإجماع، لوجوه: منها: أنه نذر لمخلوق، والنذر للمخلوق لا يجوز، ولأنه عبادة، والعبادة لا تكون لمخلوق. ومنها: أن المنذور له ميت، والميت لا يملك. ومنها: أنه ظن الميت يتصرف في الأمور دون الله، واعتقاد ذلك كفر، إلى أن قال: إذا علمت ذلك، فما يؤخذ من الدراهم والشمع والزيت وغيرها، وينقل إلى ضرائح الأولياء، تقربا إليهم، فحرام بإجماع المسلمين. وقال النووي في شرح مسلم، على قول النبي صلى الله عليه وسلم: " لعن الله من ذبح لغير الله " 1، المراد به: أن يذبح بغير اسم الله، كمن يذبح للصنم، أو للصليب أو لموسى، أو لعيسى، أو للكعبة ونحو ذلك، فكل هذا حرام، ولا تحل هذه الذبيحة، وسواء كان الذابح مسلما، أو نصرانيا، إلى أن قال: فإن قصد مع ذلك تعظيم المذبوح له غير الله، أو العبادة له، كان كافرا; فإن كان الذابح مسلما، صار بالذبح مرتدا، انتهى. وقال الشيخ صنع الله، في الرد على من أجاز الذبح والنذر للأولياء، وأثبت الأجر في ذلك: فهذا الذبح والنذر، إن كان على اسم فلان وفلان لغير الله، فيكون باطلا؛ وفي التنْزيل:   1 مسلم: الأضاحي 1978 , والنسائي: الضحايا 4422 , وأحمد 1/108 ,1/118 ,1/152. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 95 {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [سورة الأنعام آية: 121] {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ} ، [سورة الأنعام آية: 162-163] ، أي: صلاتي وذبحي لله كما فسر به قوله تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [سورة الكوثر آية: 2] ، قال: والنذر لغير الله إشراك مع الله، إلى أن قال: والنذر لغير الله، كالذبح لغير الله; وقال الفقهاء: خمسة لغير الله شرك، الركوع والسجود، والنذر، والذبح، واليمين، قال: والحاصل: أن النذر لغير الله فجور، فمن أين تحصل لهم الأجور؟!. وقال ابن النحاس في "كتاب الكبائر": ومنها: إيقادهم السرج عند الأحجار والأشجار، والعيون والآبار، ويقولون: إنها تقبل النذر، وهذه كلها بدع، ومنكرات قبيحة، تجب إزالتها، ومحو أثرها; فإن أكثر الجهال يعتقدون: أنها تنفع وتضر، وتجلب وتدفع، وتشفي المرضى، وترد الغائب إذا نذر لها، وهذا شرك، ومحادة لله ورسوله. وقال أبو محمد: عبد الرحمن بن إسماعيل الشافعي، المعروف بأبي شامة في كتاب "الباعث على إنكار البدع والحوادث": ومن هذا القسم أيضا: ما قد عم الابتلاء به، مع تزيين الشيطان للعامة تخليق الحيطان والعمد، وسرج مواضع مخصوصة، يحكي لهم حاك: أنه رأى في منامه بها أحدا ممن شهر بالصلاح والولاية؛ فيفعلون ذلك ويحافظون عليه، مع تضييعهم فرائض الله وسننه، ويظنون أنهم متقربون بذلك، ثم يتجاوزون هذا الجزء: 12 ¦ الصفحة: 96 إلى أن يعظم وقع تلك الأماكن في قلوبهم فيعظمونها، ويرجون الشفاء لمرضاهم، وقضاء حوائجهم بالنذر لهم، وهي ما بين عيون وشجر وحائط. وفي مدينة دمشق - صانها الله من ذلك - مواضع متعددة، كعوينة الحمى خارج باب توما، والعمد المخلق داخل باب الصغير، والشجرة الملعونة اليابسة خارج باب النصر، في نفس قارعة الطريق، سهل الله قطعها، واجتثاثها من أصلها; فما أشبهها بذات أنواط الواردة في الحديث، وذكر الحديث. ثم قال: قال أبو بكر الطرطوشي: فانظروا رحمكم الله أينما وجدتم سدرة، أو شجرة يقصدها الناس ويعظمونها، ويرجون البرء والشفاء منها، ويضربون بها المسامير والخرق، فهي ذات أنواط فاقطعوها; ثم قال [أبو شامة] : ولقد أعجبني ما صنعه الشيخ أبو إسحاق الجبنياني رحمه الله تعالى، أحد الصالحين ببلاد إفريقية، في المائة الرابعة، حكى عنه صاحبه الصالح: أبو عبد الله، محمد بن أبي العباس المؤدب، أنه كان إلى جانبه عين تسمى "عين العافية" كانت العامة قد افتتنوا بها، يأتونها من الآفاق من تعذر عليها نكاح، أو ولد، قالت: امضوا بي إلى العافية، فتعرف بها الفتنة. قال أبو عبد الله: فأنا في السحر ذات ليلة، إذ سمعت أذان أبي إسحاق نحوها، فخرجت فوجدته قد هدمها، وأذن الجزء: 12 ¦ الصفحة: 97 الصبح عليها، ثم قال: اللهم إني هدمتها لك، فلا ترفع لها رأسا؛ فما رفع لها رأس إلى الآن، انتهى كلامه. وكان العالم: أبو محمد ابن أبي زيد، يعظم شأن أبي إسحاق، ويقول: طريقة أبي إسحاق خالية، لا يسلكها أحد في الوقت. [الرد على من ادعى أن للأولياء تصرفا في الحياة وبعد الممات] قال الشيخ: صنع الله الحنفي، في كتابه الذي ألفه في الرد على من ادعى، أن للأولياء تصرفا في الحياة وبعد الممات، على سبيل الكرامة: هذا وإنه قد ظهر الآن فيما بين المسلمين، جماعات يدعون أن للأولياء تصرفا في حياتهم، وبعد الممات، ويستغاث بهم في الشدائد والبليات، وبهم تكشف المهمات، فيأتون قبورهم، وينادونهم في قضاء الحاجات، مستدلين على أن ذلك منهم كرامات; وقالوا: منهم أبدال ونقباء، وأوتاد ونجباء، وسبعة وسبعون، وأربعة وأربعون، والقطب هو الغوث للناس، وعليه المدار بلا التباس، وجوزوا لهم الذبائح والنذور، وأثبتوا لهم فيهما الأجور. قال: وهذا كلام فيه تفريط وإفراط، بل فيه الهلاك الأبدي، والعذاب السرمدي، لما فيه من روائح الشرك المحقق، ومضادة الكتاب العزيز المصدق، ومخالف لعقائد الأئمة، وما اجتمعت عليه الأمة، وفي التنْزيل: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} [سورة النساء آية: 115] إلى أن قال: الفصل الأول: فيما انتحلوه من الإفك الوخيم، والشرك العظيم، إلى أن قال: الجزء: 12 ¦ الصفحة: 98 فأما قولهم: إن للأولياء تصرفا في حياتهم وبعد الممات، فيرده، قوله تعالى: {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} [سورة النمل آية: 60] {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [سورة الأعراف آية: 54] {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [سورة الشورى آية: 49] ونحوه من الآيات الدالة على أنه المنفرد بالخلق والتدبير، والتصرف والتقدير، ولا شيء لغيره فيه شيء ما بوجه من الوجوه، فالكل تحت ملكه وقهره، تصرفا وملكا، وإحياء وإماتة وخلقا، وتمدح الرب سبحانه بانفراده في ملكه بآيات من كتابه، كقوله تعالى: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ} [سورة فاطر آية: 3] {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} [سورة فاطر آية: 13] وذكر آيات في هذا المعنى. قال: فقوله في الآيات كلها {مِنْ دُونِهِ} [سورة فاطر آية: 13] أي: من غيره، فإنه عام يدخل فيه من اعتقدته، من ولي وشيطان تستمده; فإن من لم يقدر على نصر نفسه، كيف يمد غيره؟! إلى أن قال: فكيف يمكن أن يتصرف؟ إن هذا من السفاهة لقول وخيم وشرك عظيم، إلى أن قال: وأما القول بالتصرف بعد الممات، فهو أقبح، وأشنع وأبدع، من القول بالتصرف في الحياة، قال جل ذكره: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [سورة الزمر آية: 30] {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ} [سورة الزمر آية: 42] ، {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [سورة المدثر آية: 38] . وفي الحديث: " إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث " 1   1 مسلم: الوصية 1631 , والترمذي: الأحكام 1376 , والنسائي: الوصايا 3651 , وأبو داود: الوصايا 2880 , وأحمد 2/372 , والدارمي: المقدمة 559. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 99 الحديث؛ فجميع ذلك، وما هو نحوه دال على انقطاع الحس والحركة من الميت، وأن أرواحهم ممسكة، وأن أعمالهم منقطعة عن زيادة ونقصان، فدل ذلك على أنه ليس للميت تصرف في ذاته، فضلا عن غيره، بحركة، وأن روحه محبوسة مرهونة بعملها، من خير وشر؛ فإذا عجز عن حركته لنفسه، فكيف يتصرف لغيره؟! فالله سبحانه يخبر أن الأرواح عنده; وهؤلاء الملحدون، يقولون: إن الأرواح مطلقة متصرفة، {قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ} [سورة البقرة آية: 140] ؟! قال: وأما اعتقادهم أن هذه التصرفات لهم من الكرامات، فهو من المغالطة، لأن الكرامة شيء من عند الله، يكرم بها أولياءه، لا قصد لهم فيه، ولا تحد ولا قدرة، ولا علم، كما في قصة مريم بنت عمران، وأسيد بن حضير، وأبي مسلم الخولاني. قال: وأما قولهم: ويستغاث بهم في الشدائد، فهذا أقبح مما قبله وأبدع، لمضادة قوله تعالى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} [سورة النمل آية: 62] الآية {قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [سورة الأنعام آية: 63] ، وذكر الآيات في هذا المعنى، ثم قال: فإنه جل ذكره، قرر أنه الكاشف الضر لا غيره، وأنه المتعين لكشف الشدائد والكرب، وأنه المتفرد بإجابة المضطرين، وأنه المستغاث لذلك كله، وأنه القادر على دفع الضر، وعلى الجزء: 12 ¦ الصفحة: 100 إيصال الخير، فهو المتفرد بذلك; فإذا تعين جل ذكره، خرج غيره من ملك ونبي وولي. قال: والاستغاثة تجوز في الأسباب الظاهرة العادية، من الأمور الحسية في قتال، وإدراك عدو، أو سبع ونحوه، كقولهم: يا لزيد! ويا لقوي! ويا للمسلمين، كما ذكروا ذلك في كتب النحو، بحسب الأسباب الظاهرة بالفعل، وأما الاستغاثة بالقوة والتأثير، أو في الأمور المعنوية من الشدائد، كالمرض، وخوف الغرق، والضيق، والفقر، وطلب الرزق ونحوه، فمن خصائص الله، فلا يطلب فيها غيره. قال: وأما كونهم معتقدين التأثير منهم في قضاء حاجاتهم، كما تفعله جاهلية العرب، والصوفية الجهال وينادونهم، ويستنجدون بهم، فهذا من المنكرات، إلى أن قال: فمن اعتقد أن لغير الله من نبي أو ولي أو روح أو غير ذلك، في كشف كربة أو قضاء حاجة تأثيرا، فقد وقع في وادي جهل خطير، فهو على شفا حفرة من السعير. وأما كونهم مستدلين على أن ذلك منهم كرامات، فحاشا أولياء الله أن يكونوا بهذه المثابة، فهذا ظن أهل الأوثان، كذا أخبر الرحمن {هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [سورة يونس آية: 18] ؛ {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [سورة الزمر آية: 3] ، {أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ} [سورة يس آية: 23] ؛ فإن ذكر ما ليس من شأنه النفع، الجزء: 12 ¦ الصفحة: 101 ولا دفع الضر، من نبي وولي وغيره، على وجه الإمداد منه، إشراك مع الله إذ لا قادر على الدفع غيره، ولا خير إلا خيره. وأما ما قالوه أن فيهم أبدالا ونقباء، وأوتادا ونجباء، وسبعين وسبعة، وأربعين وأربعة، والقطب وهو الغوث للناس، فهذا من موضوعات إفكهم، كما ذكره القاضي المحدث ابن العربي، في سراج المريدين، وابن الجوزي، وابن تيمية، انتهى باختصار ; وأقوال العلماء في ذلك كثير، واكتفينا بما ذكرنا. [فصل في قول الشيخ: الشيطان يضل بني آدم بحسب قدرته] وتقدم في كلام الشيخ الإشارة إلى أنه لولا أنه يخشى من الفتنة بالقبور، لما نهى عن الصلاة عندها وغير ذلك، وتأكدت الفتنة بقضاء حوائج بعض قاصديها والمشركين بها، وذكر الشيخ رحمه الله من ذلك أشياء كثيرة، ذكرها في "الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان"، وغيره من كتبه. قال: والشيطان يضل بني آدم بحسب قدرته، فمن عبد الشمس والقمر والكواكب ودعاها، كما يفعل أهل دعوى الكواكب، فإنه ينْزل عليه شيطان يخاطبه، ويحدثه ببعض الأمور، يسمون ذلك روحانيات الكواكب، وهو شيطان؛ وكذلك عباد الأصنام، قد تخاطبهم الشياطين؛ وكذلك من استغاث بميت أو غائب؛ وكذلك من دعا الميت أو دعا عنده، وظن أن الدعاء عند قبره أفضل منه في البيوت والمساجد. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 102 وللنصارى والضلال من المسلمين أحوال عند المشاهد، يظنونها كرامات، وهي من الشيطان، مثل أن يضعوا سراويل عند القبر، فيجدونه قد عقد، أو يوضع عنده مصروع، فيبصرون شيطانه قد فارقه، فيفعل هذا الشيطان ليضلهم، ومثل: أن يرى أحدهم أن القبر قد انشق، فيخرج منه إنسان، فيظنه الميت. ومن هؤلاء: من يستغيث بمخلوق حي أو ميت، سواء كان ذلك الحي مسلما أو نصرانيا أو مشركا، فيتصور الشيطان بصورة ذلك المستغاث به، ويقضي بعض حاجة ذلك المستغيث، فيظن أنه ذلك الشخص، أو أنه ملك على صورته ; وإنما هو شيطان أضله لما أشرك بالله، كما كانت الشياطين تدخل الأصنام وتكلم المشركين. ومن هؤلاء: من يتصور له الشيطان، ويقول له: أنا الخضر، وربما أخبره ببعض الأمور، وأعانه على بعض مطالبه ; ومنهم: من يطير به الجني إلى مكة أو بيت المقدس، أو غيرهما ; ومنهم: من يحمله عشية عرفة ثم يعيده من ليلته ; ومنهم: من كان يؤتى بمال مسروق سرقه الشيطان ويأتيه به ; ومنهم: من كانت تدله على المسروقات. قال رحمه الله تعالى: حتى إني أعرف من هؤلاء جماعات، يأتون إلى الشيخ نفسه الذي استغاثوا به، وقد رأوه أتاهم في الهواء فيذكرون ذلك له; وهؤلاء يأتون إلى هذا الشيخ، فتارة الجزء: 12 ¦ الصفحة: 103 يكون الشيخ نفسه لم يعلم بتلك القضية، فإن كان يحب الرياسة، أوهمهم أنه نفسه أتاهم وأعانهم. وإن كان فيه صدق مع جهل وضلال، قال: هذا ملك صوره الله على صورتي، وجعل هذا من كرامات الصالحين، وجعله عمدة لمن يستغيث بالصالحين، ويتخذهم أربابا من دون الله، وأنهم إذا استغاثوا بهم بعث الله ملائكة على صورهم تغيث المستغيثين بهم. ولهذا أعرف غير واحد منهم، ممن فيه صدق وزهد وعبادة، لما ظنوا أن هذا من كرامات الصالحين، صار أحدهم يوصي مريده، يقول: إذا كانت لأحدكم حاجة، فليستغث بي وليستنجد بي ; ويقول: أنا أفعل بعد موتي ما كنت أفعل في حياتي؛ وهو لا يعرف أن تلك شياطين تصور على صورته، لتضله وتضل أتباعه. فيحسن لهم الإشراك بالله، ودعاء غير الله، والاستغاثة بغير الله، وأنها قد تلقي في قلبه: أنا نفعل بأصحابك بعد موتك، ما كنا نفعل بهم في حياتك، فيظن هذا من خطاب إلهي ألقي إليه، فيأمر أصحابه بذلك؛ وذكر أشياء كثيرة من هذا الجنس وأعظم منه. والمقصود: أن الإنسان إذا سمع بوقوع مثل ذلك لا يستبعده، ولا يفتتن به، إذا عرف أن مثل هذه الأمور تقع لعباد الأصنام والقبور؛ والأمر كله لله، ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 104 فصل [فيما يتعين على من نصح نفسه] يتعين على من نصح نفسه، وعلم أنه مسؤول عمّا قال وفعل، ومحاسب على اعتقاده، وقوله وفعله، أن يعدّ لذلك جوابا، ويخلع ثوبي الجهل والتعصب، ويخلص القصد في طلب الحق، قال الله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا} [سورة سبأ آية: 46] . وليعلم أنه لا يخلصه إلا اتباع كتاب الله، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} [سورة الأعراف آية: 3] ، وقال تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [سورة ص آية: 29] . ولما كان قد سبق في علم الله وقضائه أنه سيقع الاختلاف بين الأمة، أمرهم وأوجب عليهم عند التنازع، الرد إلى كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [سورة النساء آية: 59] ؛ قال العلماء: الردّ إلى الله: الرد إلى كتابه، والرد إلى رسوله: الرد إليه في حياته، والرد إلى سنته بعد وفاته. ودلت الآيات على أن من لم يرد عند التنازع، إلى كتاب الله وسنة نبيه، فليس بمؤمن، لقوله تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [سورة النساء آية: 59] ؛ فهذا شرط ينتفي المشروط بانتفائه، ومحال أن يأمر الله الناس بالرد إلى ما لا يفصل النّزاع، لا سيما في الجزء: 12 ¦ الصفحة: 105 أصول الدين، التي لا يجوز فيها التقليد عند عامة العلماء. وقال الله تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [سورة النساء آية: 65] . ولما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بوقوع الاختلاف الكثير بعده بين أمته، أمرهم عند وجود الاختلاف بالتمسك بسنته، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعده، فقال صلى الله عليه وسلم: " إنه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا؛ فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ. وإياكم ومحدثات الأمور! فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة " 1. ولم يأمرنا الله ولا رسوله بالرد عند التنازع والاختلاف إلى ما عليه أكثر الناس، ولم يقل الله ولا رسوله: لينظر كل أهل زمان إلى ما عليه أكثرهم، أي: في زمانهم فيتبعونهم، ولا إلى أهل مصر معين، أو إقليم ; وإنما الواجب على الناس: الرد إلى كتاب الله، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، وما مضى عليه الصحابة رضوان الله عليهم، والتابعون لهم بإحسان. فيجب على الإنسان الالتفات إلى كتاب الله، وسنة نبيه، وطريقة أصحابه والتابعين، وأئمة الإسلام، ولا يعبأ بكثرة المخالفين بعدهم ; فإذا علم الله من العبد الصدق في طلب   1 أبو داود: السنة 4607 , والدارمي: المقدمة 95. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 106 الحق، وترك التعصب، ورغب إلى الله في سؤال هدايته الصراط المستقيم، فهو جدير بالتوفيق ; فإن على الحق نورا، لا سيما التوحيد الذي هو أصل الأصول، الذي دعت إليه الرسل من أولهم إلى آخرهم، وهو توحيد الإلهية؛ فإن أدلته وبراهينه في القرآن ظاهرة، وعامته إنما هو في تقرير هذا الأصل العظيم. ولا يتوحش الإنسان لقلة الموافقين، وكثرة المخالفين، فإن أهل الحق أقل الناس فيما مضى، وهم أقل الناس فيما بقي، لا سيما في هذه الأزمنة المتأخرة، التي صار الإسلام فيها غريبا. والحق لا يُعرف بالرجال، كما قال علي ابن أبي طالب رضي الله عنه لمن قال له: أترى أنا نرى الزبير وطلحة مخطئين، وأنت المصيب؟ فقال له علي: "ويحك يا فلان! إن الحق لا يعرف بالرجال، اعرف الحق تعرف أهله" وأيضا قال: "الحق ضالة المؤمن". وليحذر العاقل من شبهة الذين قال الله عنهم: {لَوْ كَانَ خَيْراً مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ} [سورة الأحقاف آية: 11] ، {أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا} [سورة الأنعام آية: 53] . وقد قال بعض السلف: "ما ترك أحد حقا إلا لكبر في نفسه" ومصداق ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم حين قال: " لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر " 1، ثم فسر الكبر: بأنه "بطر الحق" أي: رده، " وغمط الناس " 2 أي: احتقارهم وازدراؤهم ; ولقد أحسن القائل: وتعر من ثوبين من يلبسهما ... يلق الردى بمذمة وهوان   1 مسلم: الإيمان 91 , والترمذي: البر والصلة 1998 ,1999 , وأبو داود: اللباس 4091 , وابن ماجه: المقدمة 59 والزهد 4173 , وأحمد 1/399 ,1/412 ,1/416 ,1/451. 2 مسلم: الإيمان 91 , والترمذي: البر والصلة 1999. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 107 ثوب من الجهل المركب فوقه ... ثوب التعصب بئست الثوبان وتحل بالإنصاف أفخر حلة ... زينت بها الأعطاف والكتفان واجعل شعارك خشية الرحمن مع ... نصح الرسول فحب ذا الأمران قال ابن القيم رحمه الله تعالى: وما أحسن ما قال الحافظ أبو محمد عبد الرحمن المعروف بأبي شامة، في كتاب "الباعث على إنكار البدع والحوادث" حيث جاء الأمر بلزوم الجماعة، فالمراد به: لزوم الحق واتباعه، وإن كان المتمسك به قليلا، والمخالف له كثيرا، إلا أن الحق هو الذي كانت عليه الجماعة الأولى، من عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ولا تنظر إلى كثرة أهل الباطل بعدهم. قال عمرو بن ميمون الأودي: "صحبت معاذا، فما فارقته حتى واريته في التراب بالشام. ثم صحبت من بعده أفقه الناس: عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، فسمعته يقول: عليكم بالجماعة، فإن يد الله على الجماعة. ثم سمعته يوما من الأيام، وهو يقول: سيكون عليكم ولاة يؤخرون الصلاة عن مواقيتها، فصلوا الصلاة لميقاتها فهي الفريضة، وصلوا معهم، فإنها لكم نافلة، قال: قلت يا أصحاب محمد، ما أدري ما تحدثون؟! قال: وماذا؟ قلت: تأمرني بالجماعة، وتحضني عليها، ثم تقول: صل الصلاة وحدك وهي الفريضة، وصل مع الجماعة وهي لك نافلة. قال يا عمرو بن ميمون: قد كنت أظن أنك من أفقه أهل الجزء: 12 ¦ الصفحة: 108 هذه القرية، أتدري ما الجماعة؟ قلت: لا ; قال: إن جمهور الجماعة الذين فارقوا الجماعة. الجماعة ما وافق الحق، وإن كنت وحدك. وفي طريق آخر: فضرب على فخذي، وقال: ويحك! إن جمهور الناس فارقوا الجماعة، وإن الجماعة ما وافق طاعة الله عز وجل". قال نعيم بن حماد: "إذا فسدت الجماعة، فعليك بما كانت عليه الجماعة قبل أن يفسدوا، وإن كنت وحدك، فإنك أنت الجماعة حينئذ" ذكره البيهقي وغيره. وروى مبارك بن فضالة، عن الحسن البصري، قال: "لو أن رجلا أدرك السلف الأول، ثم بعث اليوم، ما عرف من الإسلام شيئا، قال: ووضع يده على خده، ثم قال: إلا هذه الصلاة. ثم قال: أما والله لمن عاش في هذه النكرى، ولم يدرك هذا السلف الصالح، فرأى مبتدعا يدعو إلى بدعته، ورأى صاحب دنيا يدعو إلى دنياه، فعصمه الله من ذلك، وجعل قلبه يحن إلى ذلك السلف الصالح، يسأل عن سبيلهم، ويقتص آثارهم، ويتبع سبيلهم، ليعوّض أجرا عظيما، فكذلك فكونوا إن شاء الله". وروى محمد بن وضاح، عن أبي الطفيل: أن حذيفة بن اليمان، أخذ حصاة بيضاء فوضعها في كفه، ثم قال: "إن هذا الدين قد استضاء استضاءة هذه الحصاة. ثم أخذ كفا من تراب، فجعل يذره على الحصاة حتى وارها، ثم قال: والذي نفسي الجزء: 12 ¦ الصفحة: 109 بيده، ليجيئن أقوام يدفنون الدين، كما دفنت هذه الحصاة. ولتسلكن طريق الذين كانوا قبلكم، حذو القذة بالقذة، وحذو النعل بالنعل". وقال محمد بن وضاح: الخير بعد الأنبياء ينقص، والشر يزيد، قال ابن وضاح: إنما هلكت بنو إسرائيل على يد قرائهم، وروى ابن وضاح، عن عيسى بن يونس، عن الأوزاعي، عن حسان ابن أبي جبلة عن أبي الدرداء، قال: "لو خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم عليكم اليوم، ما عرف شيئا مما كان عليه هو وأصحابه إلا الصلاة، قال الأوزاعي: فكيف لو كان اليوم؟! قال عيسى ابن يونس: فكيف لو أدرك الأوزاعي هذا الزمان"؟! وروى ابن وضاح عن الأوزاعي، قال: "قال لي شقيق أبو وائل: يا سليمان ما شبهت قراء زمانك إلا غنما رعت حمضا، فمن رآها ظن أنها سمينة، وإذا ذبحها لم يجد فيها شاة سمينة". وروى ابن وضاح عن "أبي الدرداء، قال: لو أن رجلا تعلم الإسلام وأتمه، ثم تفقده ما عرف منه شيئا". وروى ابن وضاح عن عبد الله بن المبارك، قال: "اعلم أي أخي، أن الموت اليوم كرامة لكل مسلم لقي الله على السنة" فإنا لله وإنا إليه راجعون، فإلى الله نشكو وحشتنا، وذهاب الإخوان وقلة الأعوان، وظهور البدع، وإلى الله نشكوا عظيم ما حل بهذه الأمة من ذهاب العلماء وأهل السنة، وظهور البدع، انتهى. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 110 فكيف لو رأى من تقدم ذكرهم هذه الأزمنة، التي ظهر فيها الشرك الأكبر، والأصغر، والبدع التي لا تعد ولا تحصى في الاعتقادات، والأقوال والأعمال، وظهرت جميع الفواحش في أكثر أمصار المسلمين، وضيعت الصلاة واتبعت الشهوات، وظهر مصداق قول حذيفة: "ليجيئن أقوام يدفنون الدين، كما دفنت هذه الحصاة". وأبلغ من ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: " لتتبعن سنن من كان قبلكم، حذو القذة القذة قالوا يا رسول الله: اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟ " 1 وقال: "لتأخذن هذه الأمة مأخذ الأمم قبلها، شبرا بشبر وذراعا بذراع. قالوا: فارس والروم؟ قال: فمن الناس إلا أولئك" وظهر مصداق قول النبي صلى الله عليه وسلم حقيقة: " بدأ الإسلام غريبا، وسيعود غريبا كما بدأ، فطوبى للغرباء " 2. واعتبر هذا بما عاب به سبحانه اليهود من تبديلهم، برجم الثيب الزاني بالجلد والتحميم، فال سبحانه وتعالى في شأنهم: {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا} [سورة المائدة آية: 41] ، يقولون: إن أفتاكم محمد بالجلد والتحميم فاقبلوا، وإن أفتاكم بالرجم فلا تقبلوا. وقال سبحانه عنهم: {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [سورة المائدة آية: 41] ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لما رجم الزاني: " اللهم إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه " 3. فكيف حال الذين عطلوا الحدود بالكلية؟ ثم زاد الشر إلى أن آل الأمر ببعض الولاة أنهم يضربون على البغايا الخراج، وتعدوا   1 البخاري: أحاديث الأنبياء 3456 , ومسلم: العلم 2669 , وأحمد 3/84 ,3/89. 2 مسلم: الإيمان 145 , وابن ماجه: الفتن 3986 , وأحمد 2/389. 3 مسلم: الحدود 1700 , وأبو داود: الحدود 4447 ,4448 , وابن ماجه: الحدود 2558 , وأحمد 4/286 ,4/300. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 111 حدود الله في السارق، بالصلب، والقتل، صيانة لأموالهم، ولم يعبؤوا بانتهاك حرمات مولاهم؟! فإنا لله وإنا إليه راجعون. وليجتهد المسلم في تحقيق العلم والإيمان، وليتخذ ربه هاديا ونصيرا، وحاكما ووليا، فإنه {نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [سورة الأنفال آية: 40] ، {وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً} [سورة الفرقان آية: 31] . وينبغي أن يكثر الدعاء بما رواه مسلم وغيره، عن عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قام يصلي من الليل يقول: " اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم ". اللهم إياك نعبد وإياك نستعين، اهدنا الصراط المستقيم، وصلى الله وسلم على نبينا، وعلى آله وصحبه أجمعين، صلاة وسلاما دائمين إلى يوم الدين. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 112 [جواب الشيخ أبا بطين عما يورده بعضهم أن الشيطان قد يئس أن يعبده المصلون] قال الشيخ العالم المبجل عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين، رحمه الله تعالى. بسم الله الرحمن الر حيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فقد طلب مني بعض الإخوان، أن أكتب له جوابا عما يورده بعض الناس، من قوله صلى الله عليه وسلم: " إن الشيطان قد يئس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب " 1، ويستدلون به على استحالة وقوع شيء من الشرك في جزيرة العرب، والحديث المروي " يا عباد الله احبسوا".وعما يورده بعضهم من قوله صلى الله عليه وسلم لأسامة: "أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله؟ " 2، وقوله: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله " 3؛ ويستدل بذلك على أن من قال: لا إله إلا الله لا يجوز قتاله. الجواب: أما قوله صلى الله عليه وسلم: " إن الشيطان قد يئس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب " 4، فيقال أولا: من المعلوم بالضرورة، أن الله سبحانه وتعالى بعث محمدا صلى الله عليه وسلم يدعو إلى التوحيد، وهو توحيد الألوهية، وينهى عن الشرك، وهو عبادة غير الله. وأما الشرك في الربوبية، فمن المعلوم بنصوص الكتاب أن المشركين الذين بعث إليهم رسول الله، وقاتلهم، يقرون بتوحيد الربوبية، وأن شركهم إنما هو في توحيد العبادة، وهو   1 مسلم: صفة القيامة والجنة والنار 2812 , والترمذي: البر والصلة 1937 , وأحمد 3/313 ,3/354 ,3/366 ,3/384. 2 البخاري: المغازي 4269 والديات 6872 , ومسلم: الإيمان 96 , وأحمد 5/200. 3 البخاري: الجهاد والسير 2946 , ومسلم: الإيمان 21 , والترمذي: الإيمان 2606 , والنسائي: الجهاد 3090 ,3095 وتحريم الدم 3971 ,3972 ,3974 ,3976 ,3977 ,3978 , وأبو داود: الجهاد 2640 , وابن ماجه: المقدمة 71 والفتن 3927 ,3928 , وأحمد 1/11 ,2/377 ,2/423 ,2/502 ,2/528 ,3/300 ,3/332 ,3/339 ,3/394. 4 مسلم: صفة القيامة والجنة والنار 2812 , والترمذي: البر والصلة 1937 , وأحمد 3/313 ,3/354 ,3/366 ,3/384. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 113 توحيد الألوهية، الذي هو مضمون شهادة أن لا إله إلا الله، فعبدوا من عبدوه من دون الله، ليشفعوا لهم عنده، في نصرهم، ورزقهم وغير ذلك، كما قال تعالى إخبارا عنهم: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [سورة الزمر آية: 3] ، {هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [سورة يونس آية: 18] . فبعث الله رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم ينهاهم عن هذا الشرك، ويدعوهم إلى توحيد العبادة؛ وهذه دعوة الرسل من أولهم إلى آخرهم، قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [سورة النحل آية: 36] ، وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} [سورة الأنبياء آية: 25] . وهذا الأصل هو الذي خلق الله جميع الجن والإنس لأجله، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [سورة الذاريات آية: 56] . فإذا تبين أن هذا الأصل هو أصل الأصول، علمنا يقينا أن الله سبحانه وتعالى لم يترك هذا الأمر ملتبسا؛ بل لا بد من أن يكون بينا واضحا لا لبس فيه، ولا اشتباه، لأنه أصل الدين، ومعرفته فرض على كل مكلف، ولا يجوز فيه التقليد. وحقيقة ذلك: أن الشرك هو عبادة غير الله، والعبادة هي الطاعة بفعل ما أمر الله به ورسوله، من واجب ومندوب؛ فمن أخلص ذلك لله فهو الموحد، ومن جعل شيئاً من العبادة لغير الله فهو مشرك، قال تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 114 شَيْئاً} [سورة النساء آية: 36] أي: في العبادة، وقال تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} [سورة الكهف آية: 110] . فإذا علم الإنسان حقيقة الشرك، عرف يقينا أن الشرك وقع في الجزيرة كثيرا، عند مشاهد وقبور، يمنا وحجازا، من دعاء الأموات والغائبين، والاستغاثة بهم من سؤال الحاجات، وتفريج الكربات، والتقرب إليهم بالنذور، والذبائح، وكذلك الذبح للجن والاستعاذة بهم؛ وهذا معلوم بالتواتر عند من لم يشاهد ذلك. فإذا تحقق الإنسان ذلك، علم أن قوله صلى الله عليه وسلم: " إن الشيطان قد يئس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب " 1 ليس فيه معارضة لهذا الأصل العظيم، الذي هو أصل الأصول، وليس فيه دلالة على استحالة وجود الشرك في أرض العرب. فمن استدل بهذا الحديث على استحالة وجود الشرك في أرض العرب، يقال له: بيِّن لنا الشرك الذي حرمه الله، وأخبر أنه لا يغفره فإن فسره بالشرك في توحيد الربوبية، فنصوص القرآن تبطل قوله، لأن الله سبحانه أخبر عن المشركين أنهم يقرون بتوحيد الربوبية، كما في قوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} [سورة الزخرف آية: 9] ؛ والآيات في ذلك كثيرة. وإن فسر الشرك ببعض أنواع العبادة دون بعض، فهو مكابر، ويخاف على مثله أن يكون من الذين في قلوبهم زيغ،   1 مسلم: صفة القيامة والجنة والنار 2812 , والترمذي: البر والصلة 1937 , وأحمد 3/313 ,3/354 ,3/366 ,3/384. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 115 يتركون المحكم ويتبعون المتشابه، مع أنه ليس في الحديث حجة لهم ولا شبهة ; وإنما معنى الحديث: أنه يئس أن يجتمعوا كلهم على الكفر. قال ابن رجب على هذا الحديث، المراد: أنه يئس أن تجتمع الأمة كلها على الكفر، وأشار ابن كثير إلى هذا المعنى عند تفسير قوله تعالى: {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ [سورة المائدة آية: 3] قال ابن عباس: يعني يئسوا أن تراجعوا دينهم، وكذا قال عطاء والسدي، ومقاتل. قال: وعلى هذا يرد الحديث الصحيح: " إن الشيطان قد يئس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب " 1، فأشار إلى أن معنى الحديث موافق لمعنى الآية، وأن معنى الحديث: أنه يئس أن يرجع المسلمون عن دينهم إلى الكفر. قال غير واحد من المفسرين: إن المشركين كانوا يطمعون في عود المسلمين إلى دينهم، فلما قوي الإسلام وانتشر، يئسوا من رجوعهم عن الإسلام إلى الكفر؛ وكذا معنى إياس الشيطان، لما رأى من ظهور الإسلام وانتشاره، وتمكنه من القلوب ورسوخه فيها ; وعلى هذا: فلا يدل الحديث على أن الشيطان يئس من وجود الشرك، في جزيرة العرب أبد الآبدين. ويدل لما ذكرناه: ما رواه الإمام أحمد، عن ابن عباس رضي الله عنه قال: "لما افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة، رنّ إبليس رنة اجتمعت إليه جنوده، فقال: ايئسوا أن تردوا أمة محمد إلى الشرك   1 مسلم: صفة القيامة والجنة والنار 2812 , والترمذي: البر والصلة 1937 , وأحمد 3/313 ,3/354 ,3/366 ,3/384. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 116 بعد يومكم هذا، ولكن افتنوهم في دينهم فأفشوا فيهم النوح". وأيضا: ففي الحديث نسبة الإياس إلى الشيطان مبنيا للفاعل، لم يقل أُيس بالبناء للمفعول، ولو قدر أنه يئس من عبادته في أرض العرب إياسا مستمرا، فإنما ذلك ظن منه وتخمين لا عن علم، لأنه لا يعلم الغيب، وهذا غيب لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} [سورة الجن آية: 26-27] فإنه يطلعه على ما يشاء من الغيب. وقد قال تعالى: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} [سورة لقمان آية: 34] أي: ما تكسب غدا من خير وشر؛ وهذا من مفاتيح الغيب التي لا يعلمها إلا الله، " لا يعلم ما تغيض الأرحام إلا الله، ولا يعلم ما في غد إلا الله " 1 الحديث. وكانت الشياطين والجن، في زمن سليمان بن داود عليهما السلام، يدعون علم الغيب، فلما مات سليمان، لم يعلموا بموته إلا بعد سنة، وهم في تلك السنة دائبون في التسخير والأعمال الشاقة، فلما علموا بموته؛ تبين لهم أنهم لا يعلمون الغيب. وعلمت الإنس أيضا أن الجن لا يعلمون الغيب، قال تعالى: {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ} [سورة سبأ آية: 14] .   1 البخاري: التوحيد 7379 , وأحمد 2/52 ,2/58 ,2/85 ,2/122. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 117 ونبينا صلوات الله وسلامه عليه أخبر أنه يجاء برجال من أمته يوم القيامة، فيؤخذ بهم ذات الشمال إلى النار، فيقول: أصحابي أصحابي ; فيقال له: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك ; فيكف يقال: إن الشيطان يعلم ما تستمر عليه الأمة من خير وشر، وكفر وإسلام، وهذا غيب لا يعلمه إلا الله، ومن يطلعه عليه من رسله؟ فتبين بما ذكرنا أنه لا دلالة في الحديث على استحالة وقوع الشرك، في جزيرة العرب ; ويوضح ذلك أن أكثر العرب ارتدوا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، فكثير منهم رجعوا إلى الكفر وعبادة الأوثان، وكثير صدقوا من ادعى النبوة كمسيلمة وغيره. ومن أطاع الشيطان في نوع من أنواع الكفر فقد عبده، لا تختص عبادة الشيطان بنوع الشرك، لقوله تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [سورة يس آية: 60] ، أي: لا تطيعوه فعبادته طاعته. يوضح ذلك تفسير النبي صلى الله عليه وسلم لقول الله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} [سورة التوبة آية: 31] الآية، أنه طاعتهم في التحريم والتحليل، فسمى الله ذلك شركا، وعبادة منهم للأحبار والرهبان. وأيضا: فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا تقوم الساعة حتى تعبد اللات والعزى " 1، وقال: " لا تقوم الساعة حتى تضطرب أليات نساء دوس حول ذي الخلصة " 2، وهو   1 مسلم: الفتن وأشراط الساعة 2907. 2 البخاري: الفتن 7116 , ومسلم: الفتن وأشراط الساعة 2906 , وأحمد 2/271. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 118 صنم كان لهم في الجاهلية، بعث النبي صلى الله عليه وسلم جرير بن عبد الله ليهدمها ; فتبين أن عبادة الشيطان وجدت بعد موته صلى الله عليه وسلم في جزيرة العرب، وتوجد آخر الزمان، بهذه النصوص الثابتة. وقال: صلى الله عليه وسلم "ل تتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه. قالوا: يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟ " 1، وقال: " لتأخذن هذه الأمة مأخذ الأمم قبلها، شبرا بشبر، وذراعا بذراع. قالوا: يا رسول الله، فارس والروم؟ قال: ومن الناس إلا أولئك ". فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن هذه الأمة تفعل كما فعلت الأمم قبلها، اليهود والنصارى، وفارس والروم، وأن هذه الأمة لا تقصر عما فعلت الأمم قبلها، وقال: " لا تزال طائفة من أمتي على الحق، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم، حتى يأتي أمر الله تبارك وتعالى وهم على ذلك "2. نسأل الله أن يجعلنا منهم بفضله ورحمته آمين، والله أعلم. وأما الجواب عن الحديث المروي، فيمن انفلتت دابته في السفر، أنه يقول: "يا عباد الله احبسوا! " فأجيب بأنه غير صحيح، لأنه من رواية معروف بن حسان، وهو منكر الحديث، قاله ابن عدي ; ومن المعلوم - إن كان الحديث صحيحا - أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يأمر من انفلتت دابته أن يطلب ردها، وينادي من لا يسمع ولا يقدر على ردها، بل نقطع أنه إنما أمره أن ينادي من يسمعه، وله قدرة على ذلك، كما ينادي الإنسان أصحابه   1 البخاري: أحاديث الأنبياء 3456 , ومسلم: العلم 2669 , وأحمد 3/84 ,3/89. 2 البخاري: العلم 71 وفرض الخمس 3116 والمناقب 3641 والتوحيد 7460 , وابن ماجه: المقدمة 9 , وأحمد 4/99. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 119 الذين معه في سفر، ليردوا دابته. فهذا يدل - إن صح - أن لله جنودا يسمعون ويقدرون {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [سورة المدثر آية: 31] . وروى زيادة لفظة في الحديث: "فإن لله حاضرا"، فهذا صريح في أنه إنما ينادى حاضرا يسمع؛ فكيف يستدل بذلك على جواز الاستغاثة بأهل القبور الغائبين؟! فمن استدل بهذا الحديث على دعاء الأموات، لزمه أن يقول: إن دعاء الأموات ونحوهم، إما مستحب أو مباح، لأن لفظ الحديث فليناد، وهذا أمر أقل أحواله الاستحباب والإباحة ; ومن ادعى أن الاستغاثة بالأموات والغائبين مستحب أو مباح، فقد مرق من الإسلام، والله أعلم. فإذا تحققت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يأمر من انفلتت دابته أن ينادي من لا يسمعه، ولا قدرة له على ذلك، ودل عليه قوله: "فإن لله حاضرا"، تبين لك ضلال من استدل به على دعاء الغائبين والأموات، الذين لا يسمعون ولا ينفعون ولا يضرون. وهل هذا إلا مضادة لقوله تعالى: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ} [سورة يونس آية: 106] ، وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍإِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ} [سورة فاطر آية: 13-14] الآية. وقولة تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 120 لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} [سورة الأحقاف آية: 5] . وقوله تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} [سورة الجن آية: 18] ، وقال: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ} [سورة الرعد آية: 14] الآية. فهذه الآيات وأضعاف أضعافها نص في تضليل من دعا من لا يسمع دعاءه، ولا قدرة له على نفعه ولا ضره، ولو قدر سماعه فإنه عاجز؛ فكيف تترك نصوص القرآن الواضحة، وترد لقوله: "يا عباد الله احبسوا! "، مع أنه ليس في ذلك معارضة لما دل عليه القرآن، ولا شبهة معارضة - ولله الحمد -، والله أعلم. وأما من ادعى أن من قال: لا إله إلا الله، فإنه لا يجوز قتله وإن فعل أي ذنب، ولا قتال الطائفة الممتنعة إذا قالوا هذه الكلمة، فهذا قول مخالف للكتاب والسنة، والإجماع؛ ولو طرد هذا القائل أصله، لكان كافرا بلا شك. أما الكتاب فقوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} إلى قوله: {فَإِنْ تَابُوا} [سورة التوبة آية: 5] أي: عن الشرك، {وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [سورة التوبة آية: 5] ؛ فجعل قتالهم ممدودا إلى إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، بعد الإتيان بالتوحيد ; وقال تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} [سورة البقرة آية: 193] أي: شرك، {وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [سورة الأنفال آية: 39] . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 121 وأما السنة فكثيرة جدا، منها: ما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة؛ فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم، إلا بحقها " 1. وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال: "لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم واستُخلف أبو بكر، وكفر من كفر من العرب، قال عمر لأبي بكر: كيف تقاتل الناس، وقد قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: أُمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم، إلا بحقها. فقال أبو بكر: لأقتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال؛ فوالله لو منعوني عناقا كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها ; فقال عمر: فوالله ما هو إلا أن رأيت أن الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال، فعرفت أنه الحق"؛ فقد جعل الصديق رضي الله عنه المبيح للقتال مجرد المنع، لا جحد الوجوب. وقال النووي في شرح مسلم: باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، ويؤمنوا بجميع ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، وأن من أتى بذلك عصم نفسه وماله إلا بحقها، ووكلت سريرته إلى الله، وقتال مانعي الزكاة وغيرها من حقوق الإسلام   1 البخاري: الإيمان 25 , ومسلم: الإيمان 22. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 122 واهتمام الإمام بشرائع الإسلام، ثم ساق الحديث، قال: قال الخطابي في شرح هذا الكلام كلاما حسنا، لا بد من ذكره لما فيه من الفوائد. قال رحمه الله، مما يجب تقديمه: أن يعلم أن أهل الردة كانوا صنفين: صنف ارتدوا عن الدين ونابذوا الملة، وعادوا لكفرهم، وهم الذين عنى أبو هريرة بقوله: وكفر من كفر من العرب. والصنف الآخر: فرقوا بين الصلاة والزكاة، فأقروا بالصلاة، وأنكروا فرض الزكاة ووجوب أدائها إلى الإمام. وقد كان في ضمن هؤلاء المانعين، من لا يكاد يسمح بالزكاة، ولا يمنعهما، إلا أن رؤساءهم صدوهم عن ذلك الرأي، وقبضوا على أيديهم في ذلك، كبني يربوع، فإنهم جمعوا صدقاتهم، وأرادوا أن يبعثوا بها إلى أبي بكر، فمنعهم مالك بن نويرة من ذلك وفرقها فيهم. وفي أمر هؤلاء عرض الخلاف ووقعت الشبهة عند عمر رضي الله عنه فراجع أبا بكر وناظره، واحتج عليه بقوله صلى الله عليه وسلم: " أُمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله؛ فمن قال لا إله إلا الله، فقد عصم نفسه وماله "1. وكان هذا من عمر تعلقا بظاهر الكلام، قبل أن ينظر في آخره، ويتأمل شرائطه. فقال له أبو بكر: "الزكاة حق المال"، يريد أن القضية قد تضمنت عصمة دم ومال، معلقة بإيفاء شرائطها؛ والحكم المعلق بشرطين لا يحصل بأحدهما، والآخر معدوم، ثم قايسه   1 البخاري: الزكاة 1400 واستتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم 6924 والاعتصام بالكتاب والسنة 7285 , ومسلم: الإيمان 20 , والترمذي: الإيمان 2607 , والنسائي: الزكاة 2443 والجهاد 3091 ,3092 ,3093 ,3094 وتحريم الدم 3969 ,3970 ,3971 ,3973 ,3975 , وأبو داود: الزكاة 1556 , وأحمد 1/11 ,1/19 ,2/423 ,2/528. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 123 بالصلاة ورد الزكاة إليها؛ وكان في ذلك من قوله دليل على أن قتال الممتنع من الصلاة كان إجماعا من الصحابة رضي الله عنهم، ولذلك رد المختلف فيه إلى المتفق عليه. فلما استقر عندهم صحة رأي أبي بكر رضي الله عنه، وبان لعمر صوابه تابعه على قتال القوم، وهو معنى قوله: "فلما رأيت الله شرح صدر أيي بكر للقتال، عرفت أنه الحق"، يريد انشراح صدره بالحجة التي أدلى بها، والبرهان الذي أقامه نصا ودلالة، انتهى والله أعلم. وقال النووي أيضا: قال الخطابي: ويبين لك أن حديث أبي هريرة مختصر، أن عبد الله بن عمر وأنسا، روياه بزيادة لم يذكرها أبو هريرة، ففي حديث ابن عمر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وأن يستقبلوا قبلتنا، وأن يأكلوا ذبيحتنا وأن يصلوا صلاتنا؛ فإذا فعلوا ذلك حرمت علينا دماؤهم وأموالهم، إلا بحقها، لهم ما للمسلمين، وعليهم ما على المسلمين " 1 انتهى. قلت: وقد ثبت في الطريق الثالث المذكور في الكتاب، من رواية أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله لا الله، ويؤمنوا بي وبما جئت به؛ فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها " 2. وفي استدلال أبي بكر، واعتراض عمر رضي الله عنهما   1 البخاري: الصلاة 393 , والترمذي: الإيمان 2608 , والنسائي: تحريم الدم 3966 ,3967 والإيمان وشرائعه 5003 , وأبو داود: الجهاد 2641 , وأحمد 3/199 ,3/224. 2 البخاري: الجهاد والسير 2946 , ومسلم: الإيمان 21 , والترمذي: الإيمان 2606 , والنسائي: الجهاد 3090 ,3095 وتحريم الدم 3971 ,3972 ,3974 ,3976 ,3977 ,3978 , وأبو داود: الجهاد 2640 , وابن ماجه: الفتن 3928 , وأحمد 1/11 ,2/377 ,2/423 ,2/502 ,2/528 ,3/300 ,3/332 ,3/339 ,3/394. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 124 دليل على أنهما لم يحفظا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما حفظه ابن عمر وأنس وأبو هريرة، وكان هؤلاء الثلاثة: سمعوا هذه الزيادة في روايتهم في مجلس واحد؛ فإن عمر لو سمع ذلك لما خالف، ولما كان احتج بالحديث، فإن هذه الزيادة بها حجة عليه؛ ولو سمع أبو بكر هذه الزيادة لاحتج بها، ولما كان احتج بالقياس والعموم، والله أعلم ; انتهى كلام النووي. وقال النووي في شرح مسلم أيضا: قوله: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فمن قالها عصم مني ماله ونفسه إلا بحقها، وحسابه على الله " 1. قال الخطابي: معلوم أن المراد بهذا أهل الأوثان، دون أهل الكتاب، لأنهم يقولون: لا إله إلا الله، ثم يقاتلون، ولا يرفع عنهم السيف ; قال: ومعنى حسابهم على الله أي: فيما يسرونه ويخفونه ; قال: ففيه أن من أظهر الإسلام وأسر الكفر يقبل إسلامه في الظاهر؛ وهذا قول أكثر العلماء، وذهب مالك إلى أن توبة الزنديق لا تقبل، ويحكى ذلك عن أحمد بن حنبل، هذا كلام الخطابي. وذكر القاضي عياض معنى هذا وزاد عليه وأوضحه، فقال: اختصاص عصمة المال والنفس لمن قال: لا إله إلا الله، تعبير عن الإجابة إلى الإيمان، وأن المراد مشركو العرب وأهل الأوثان، ومن لا يوحِّد، وهم أول من دعي إلى الإسلام وقوتل عليه، فأما غيرهم ممن يقر بالتوحيد، فلا يكتفى في   1 البخاري: الزكاة 1400 والجهاد والسير 2946 واستتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم 6924 والاعتصام بالكتاب والسنة 7285 , ومسلم: الإيمان 20 , والترمذي: الإيمان 2606 ,2607 , والنسائي: الزكاة 2443 والجهاد 3090 ,3091 ,3092 ,3094 ,3095 وتحريم الدم 3969 ,3970 ,3971 ,3972 ,3973 ,3974 ,3975 ,3976 ,3977 , وأبو داود: الزكاة 1556 والجهاد 2640 , وابن ماجه: المقدمة 71 والفتن 3927 , وأحمد 1/11 ,1/19 ,1/35 ,1/47 ,2/314 ,2/345 ,2/384 ,2/423 ,2/475 ,2/502 ,2/527 ,2/528. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 125 عصمته بقول: لا إله إلا الله، إذا كان يقولها في كفره، وهي من اعتقاده، فلذلك جاء في الحديث الآخر: " وأني رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة " 1. هذا كلام القاضي. قلت: ولا بد من الإيمان بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم كما جاء في الرواية الأخرى، عن أبي هريرة رضي الله عنه: " حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، ويؤمنوا بي وبما جئت به " 2 انتهى كلام النووي. ولازم قول من قال: إنه لا يجوز قتال من قال: لا إله إلا الله، تخطئة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتالهم مانعي الزكاة، وإجماعهم على قتال من لا يصلي إذا كانوا طائفة ممتنعين ; بل يلزم من ذلك تخطئة جميع الصحابة في قتال بني حنيفة، وتخطئة علي بن أبي طالب رضي الله عنه في قتال الخوارج. بل لازم ذلك رد نصوص رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل رد نصوص القرآن، كما قدمنا التي لا تحصى، ويلزم صاحب هذه المقالة الفاسدة أنه لا يجوز قتال اليهود لأنهم يقولون: لا إله إلا الله؛ فتبين بما قررناه أن صاحب هذا القول مخالف للكتاب والسنة والإجماع. ونذكر بعض ما اطلعنا عليه، من كلام فقهاء المذاهب: 3 قال الشيخ علي الأجهوري المالكي: من ترك فرضا أخره لبقاء ركعة بسجدتها من غير الضرورة، قتل بالسيف حدًّا على المشهور.   1 البخاري: الإيمان 25 , ومسلم: الإيمان 22. 2 مسلم: الإيمان 21. 3 وتقدم بعض منه في رسائل أخرى في الجزء الرابع. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 126 وقال ابن حبيب وجماعة: ظاهر المذهب: كفره، واختاره ابن عبد السلام. وقال في فضل الأذان: قال المازري: في الأذان معنيان، أحدهما: إظهار شعائر الإسلام، والتعريف بأن الدار دار إسلام، وهو فرض كفاية يقاتل أهل القرية حتى يفعلوه، إن عجز عن قهرهم على إقامته إلا بقتال ; والثاني: الدعاء إلى الصلاة والإعلام بوقتها. وقال الأبي في شرح مسلم: والمشهور أن الأذان فرض كفاية على أهل المصر، لأنه شعار الإسلام؛ فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إن لم يسمع أذانا أغار وإلا أمسك ; وقول المصنف: يقاتلون عليه، ليس القتال عليه من خصائص القول بالوجوب، لأنه نص عن عياض في قول المصنف: والوتر غير واجب، لأنهم اختلفوا في التمالي على ترك السنن، هل يقاتلون عليها؟ والصحيح قتالهم وإكراههم، لأن في التمالي على تركها إماتتها، انتهى. وقال في فضل صلاة الجماعة: صلاة الجماعة مستحبة للرجل في نفسه، فرض كفاية في الجملة، يعني على أهل المصر ; قال: ولو تركوها قوتلوا، كما تقدم، انتهى. وقال الشيخ: أحمد بن حمدان الأذرعي الشافعي، في "كتاب قوت المحتاج، في شرح المنهاج": من ترك الصلاة جاحدا وجوبها، كفر بالإجماع؛ وذلك جار في أي جحود كان مجمع عليه، معلوم من الدين بالضرورة، فإن تركها كسلا قتل الجزء: 12 ¦ الصفحة: 127 حدا على الصحيح، والمشهور. أما قتله، فلأن الله تعالى قال: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [سورة التوبة آية: 5] ، ثم قال: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [سورة التوبة آية: 5] ، فدل على أن القتل لا يرفع إلا بالإيمان، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، ولما في الصحيحين: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة؛ فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم، إلا بحقها " 1 إلى أن قال في الروضة: تارك الوضوء يقتل على الصحيح، جزم به الشيخ أبو حامد ; وفي "البيان": لو صلى عريانا مع القدرة على السترة، أو صلى الفريضة قاعدا بلا عذر، قتل، إلى أن قال: والصحيح قتله بصلاة واحدة، بشرط إخراجها عن وقت الضرورة. وقال ابن حجر الهيتمي، في "التحفة" في باب: حكم تارك الصلاة: إن ترك الصلاة جاحدا وجوبها، كفر بالإجماع، أو تركها كسلا مع اعتقاد وجوبها، قتل، كما قال تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [سورة التوبة آية: 5] ، وحديث: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله ... " 2 الحديث؛ فإنهما شرطا في الكف عن القتل والمقاتلة: الإسلام، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، لكن الزكاة يمكن الإمام أخذها ولو بالمقاتلة، ممن امتنعوا وقاتلوا، فكانت فيها على حقيقتها، بخلافها في الصلاة، فإنه لا يمكنه   1 البخاري: الإيمان 25 , ومسلم: الإيمان 22. 2 البخاري: الإيمان 25 , ومسلم: الإيمان 22. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 128 فعلها بالمقاتلة، فكانت فيها بمعنى القتل، اهـ. وأما كلام الحنابلة فصرحوا بأن أهل البلد إدا تركوا الأذان والإقامة قوتلوا، أي: قاتلهم الإمام أو نائبه حتى يفعلوهما؛ وكذا قالوا في صلاة الجماعة، يقاتل تاركها؛ وكذا قالوا في صلاة العيد، يقاتل أهل بلد تركوها؛ وكذا قالوا: بقتال مانعي الزكاة، وأن الواحد إذا امتنع من أداء الزكاة، ولم يمكن أخذها منه قهرا، قُتل بعد الاستتابة. قال شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله تعالى: كل طائفة ممتنعة عن التزام شريعة من شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة، فإنه يجب قتالهم حتى يلتزموا شرائعه، وإن كانوا مع ذلك ناطقين بالشهادتين، وملتزمين لبعض شرائعه، كما قاتل أبو بكر الصديق رضي الله عنه مانعي الزكاة؛ وعلى ذلك اتفق الفقهاء بعدهم، بعد سابقة مناظرة عمر لأبي بكر رضي الله عنهم. فاتفق الصحابة رضي الله عنهم على القتال على حقوق الإسلام، عملا بالكتاب والسنة، وكذلك ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من عشرة أوجه الحديث عن الخوارج، وأخبر أنهم شر الخلق والخليقة، مع قوله: " تحقرون صلاتكم مع صلاتهم، وصيامكم مع صيامهم " 1، فعلم أن مجرد الاعتصام بالإسلام، مع عدم التزام شرائعه، ليس بمسقط للقتال، فالقتال واجب حتى يكون الدين كله لله، وحتى لا تكون فتنة؛ فمتى كان الدين لغير الله، فالقتال واجب.   1 البخاري: فضائل القرآن 5058 , ومسلم: الزكاة 1064 , وأحمد 3/56 ,3/60 ,3/65. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 129 فأيما طائفة ممتنعة، امتنعت من بعض الصلوات المفروضات، أو الصيام، أو الحج، أو عن التزام تحريم الدماء والأموال، أو الخمر أو الزنى، أو الميسر، أو نكاح ذوات المحارم، أو عن التزام جهاد الكفار، أو ضرب الجزية على أهل الكتاب، أو غير ذلك من التزام واجبات الدين ومحرماته، التي لا عذر لأحد في جحودها، أو تركها، التي يكفر الواحد بجحودها، فإن الطائفة الممتنعة تقاتل عليها، وإن كانت مقرة بها؛ وهذا مما لا أعلم فيه خلافا بين العلماء. وإنما اختلف الفقهاء في الطائفة الممتنعة، إذا أصروا على ترك بعض السنن، كركعتي الفجر، والأذان، والإقامة، عند من لا يقول بوجوبها، ونحو ذلك من الشعائر، فهل تقاتل الطائفة الممتنعة على تركها أم لا؟ فأما الواجبات أو المحرمات المذكورة ونحوها، فلا خلاف في القتال عليها، انتهى. وأيضا: فالمقصود من لا إله إلا الله، البراءة من الشرك وعبادة غير الله ; ومشركو العرب يعرفون المراد منها، لأنهم أهل اللسان ; فإذا قال أحدهم: لا إله إلا الله، فقد تبرأ من الشرك، وعبادة غير الله، فلو قال: لا إله إلا الله، وهو مصر على عبادة غير الله، لم تعصمه هذه، لقوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} [سورة البقرة آية: 193] أي: شرك، {وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [سورة الأنفال آية: 39] وقوله: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [سورة التوبة آية: 5] إلى قوله: {فَإِنْ تَابُوا} أي: عن الشرك {وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 130 فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [سورة التوبة آية: 5] . وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " بعثت بالسيف بين يدي الساعة، حتى يعبد الله وحده لا شريك له " 1، وهذا معنى قوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ} [سورة البقرة آية: 193] أي: الطاعة والعبادة لِلَّهِ وهذا معنى لا إله إلا الله، نسأل الله أن يجعلها آخر كلامنا ; وصلى الله على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وصحبه، وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين. وقال أيضا: رحمه الله تعالى: وأما قوله صلى الله عليه وسلم: " إن الشيطان قد يئس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب "2، فقد يحتج بهذا الحديث من زعم أن هذه الأمور الشركية التي تفعل عند القبور، ومع الجن، مثل سؤالهم قضاء الحاجات، وتفريج الكربات، والاستعاذة بهم، والتقرب إليهم بالذبح لهم، والنذر لهم، وغير ذلك من أنواع العبادة، ليست عبادة لهم ولا شركا. فيقال أولا: إن النبي صلى الله عليه وسلم نسب الإياس إلى الشيطان، ولم يقل: إن الله أيسه؛ فالإياس الصائر من الشيطان لا يلزم تحقيقه واستمراره، ولكن عدو الله لما رأى ما ساءه من ظهور الإسلام في جزيرة العرب وعلوه، يئس من ترك المسلمين دينهم، الذي أكرمهم الله به، ورجوعهم إلى الشرك الأكبر؛ وهذا كما أخبر الله سبحانه عن الكفار، في قوله: {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ} [سورة المائدة آية: 3] .   1 أحمد 2/92. 2 مسلم: صفة القيامة والجنة والنار 2812 , والترمذي: البر والصلة 1937 , وأحمد 3/313 ,3/354 ,3/366 ,3/384. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 131 قال المفسرون: لما رأى الكفار ظهور الإسلام في أرض العرب وتمكنه فيها، يئسوا من رجوع المسلمين عن الإسلام إلى الكفر، قال ابن عباس وغيره من المفسرين: يئسوا أن يراجعوا دينهم، قال ابن كثير: وعلى هذا يرد الحديث الثابت في الصحيح، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن الشيطان قد يئس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، ولكن في التحريش بينهم "1، يعني أن إياس الشيطان مثل إياس الكفار، وأن الكل يئس من ارتداد المسلمين وتركهم دينهم، ولا يلزم من ذلك امتناع وجود الكفر في أرض العرب. ولهذا قال ابن رجب على الحديث: يئس أن تجتمع الأمة على الشرك الأكبر ; يوضح ذلك: ما حصل من ارتداد أكثر أهل الجزيرة بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم، وقتال الصديق والصحابة لهم، على اختلاف تنوعهم في الردة ; قال أبو هريرة: لما مات النبي صلى الله عليه وسلم وكفر من كفر من العرب ; وردة بني حنيفة مشهورة. وقول النبي صلى الله عليه وسلم: " إن الشيطان قد يئس أن يعبده المصلون "2، معناه: أنه يئس أن يطيعه المصلون في الكفر بجميع أنواعه، لأن طاعته في ذلك هي عبادته، قال تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ} [سورة يس آية: 60] . ومن استدل بالحديث على امتناع وجود كفر في جزيرة العرب، فهو ضال مضل; فماذا يقول هذا الضال في الذين قاتلهم الصديق رضي الله عنه والصحابة من العرب، وسموهم   1 مسلم: صفة القيامة والجنة والنار 2812 , والترمذي: البر والصلة 1937 , وأحمد 3/313 ,3/354 ,3/366 ,3/384. 2 مسلم: صفة القيامة والجنة والنار 2812 , والترمذي: البر والصلة 1937 , وأحمد 3/313 ,3/354 ,3/366 ,3/384. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 132 مرتدين كفارا؟! فلازم دعوى هذا الضال: أنه لم يكفر أحد من العرب بعد موته صلى الله عليه وسلم، وأن الصحابة أخطؤوا في قتالهم، والحكم عليهم بالردة. وقد ثبت في الحديث الصحيح، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا تقوم الساعة حتى تعبد اللات والعزى " 1، ومكانهما معلوم، وقال صلى الله عليه وسلم: " لا تقوم الساعة حتى تضطرب أليات نساء دوس عند ذي الخلصة "2، وهو صنم لدوس، رهط أبي هريرة، بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم جرير بن عبد الله البجلي وهدمه. وفي الحديث الصحيح من خبر الدجال: أنه لا يدخل المدينة، بل ينْزل بالسبخة، فترجف المدينة ثلاث رجفات، فيخرج منها كل كافر ومنافق؛ فأخبر أن في المدينة إذ ذاك كفارا ومنافقين. ويقال أيضا لهذا المجادل: بيّن لنا الشرك الذي حرمه الله وعظم أمره، فإنه لا يعرفه، أو يفسره بالشرك في الربوبية الذي أقر به المشركون، وحينئذ بينت له أن الشرك في الإلهية، وهو جعل شيء من العبادة لغير الله، كالسجود ودعاء الأموات والغائبين، والذبح لهم والنذر لهم؛ وهذه الأمور كانت تفعل، عند مشاهد شركية، في اليمن والحرمين، ومع الجن في نجد وغيرها من الجزيرة. أيظن هؤلاء المجادلون بالباطل أن العلماء الذين نصّوا على أن هذه الأفعال والأقوال من الشرك الأكبر، أنهم لا يعرفون معنى الحديث الذي أوردتموه؟ أو لا يعرفون الشرك؟ وهذا   1 مسلم: الفتن وأشراط الساعة 2907. 2 البخاري: الفتن 7116 , ومسلم: الفتن وأشراط الساعة 2906 , وأحمد 2/271. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 133 ظاهر - ولله الحمد -؛ ونص العلماء وحكوا الإجماع عليه، وأقاموا عليه أدلة من الكتاب والسنة، فإن كابر وعاند، فإنه لا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئا ; نسأل الله أن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، وأن يهب لنا من لدنه رحمة إنه هو الوهاب، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. [نقل أبيات من البردة والسؤال عن مستصحبها] نقل الشيخ محمد بن عبد الله بن سليم، والشيخ محمد بن عمر بن سليم، هذه الأبيات من البردة للبوصيرى، وتشطيرها لداود بن جرجيس، وأرسلاها إلى الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين، وسألاه: أيتعين نصح مستصحبها؟ أم هجره والتحذير عنه؟ يا خير من يمم العافون ساحت ... فحصلوا من نداه أوفر القس ومن رجاه فما أن خاب حيث أت ... سعيا وفوق متون الأينق الرسم ومنها أيضا: وتشطيرها لداود: فإن لي ذمة منه بتسميتي ... كاسمه ذا مقام السعود سمي شاركته بحروف الاسم حيث غدا ... محمدا وهو أوفى الخلق بالذمم إن لم تكن في معادي آخذا بيدي ... ومنقذي من عذاب الله والألم أو شافعا لي فيما جنيت غدا ... فضلا وإلا فقل يا زلة القدم حاشاه أن يحرم الراجي مكارمه ... فيرجعن منه صفر الكف ذا عدم فلا يظن به تخييب ذا أمل ... أو يرجع الجار منه غير محترم ومنها أيضا، لهما: يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به ... عند الزحام إذا ما اشتد بي ندمي الجزء: 12 ¦ الصفحة: 134 إن لم تكن لي فمن أرجوه يشفع لي ... سواك عند حلول الحادث العمم ولن يضيق رسول الله جاهك بي ... وقد وسعت به للرسل والأمم فانظر إلي بعين اللطف لا سيما ... إذا الكريم تحلى باسم منتقم فإن من جودك الدنيا وضرتها ... حاشاك تبخل عني معدن الكرم وكيف تغفل عن مثلي وتهمله ... ومن علومك علم اللوح والقلم فأجاب رحمه الله تعالى: هذه الأبيات تتضمن تنْزيل الرسول صلى الله عليه وسلم بمنْزلة رب العالمين، إذ مضمونها: أن الرسول صلى الله عليه وسلم هو المسؤول المرجو، لكشف أعظم الشدائد، وهو عذاب الآخرة، وأن الدنيا والآخرة من جوده وإفضاله، وأنه يعلم الغيب، وهذه هي خصائص الربوبية والألوهية، التي جعلتها النصارى للمسيح بن مريم. ففيه مصداق قول النبي صلى الله عليه وسلم " لتتبعن سنن من كان قبلكم "1، وهؤلاء وإن لم يقولوا إن محمدا هو الله، لكن أثبتوا له خصائص الرب الإله، تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا، فانظر قوله: إن لم تكن في معادي آخذا بيدي ... ومنقذي من عذاب الله والألم وانظر قول الله سبحانه وتعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: {قُلْ} [سورة الأنعام آية: 15] يا محمد: {إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [سورة الأنعام آية:15] . وهذا الضال يزعم أن محمدا ينقذ من شاء من عذاب الله ; وقال تعالى عن صاحب يس: {إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ} [سورة يس آية: 23] ، ووازن بينه وبين البيت المذكور.   1 البخاري: أحاديث الأنبياء 3456 , ومسلم: العلم 2669 , وأحمد 3/84 ,3/89. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 135 وقوله: أو شافعا لي ... إلخ ; فالقرآن يخبر أن من أراده الله بضر، فلا منقذ له ولا شافع، وهذا يزعم أن الرسول ينقذ من عذاب الله، ويشفع فيمن عذبه الله، فأثبت هذين الأمرين الذين نفاهما القرآن ; فأي محادّة للقرآن أعظم من ذلك؟! وقال تعالى: {يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [سورة الانفطار آية: 19] ، ونحو ذلك في القرآن كثير. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "يا بني كعب بن لؤي: أنقذوا أنفسكم من النار " 1 إلى أن قال: " يا بني عبد المطلب، أنقذوا أنفكسم من النار. يا فاطمة بنت محمد، أنقذي نفسك من النار، فإني لا أملك لكم من الله شيئا " 2. وهذا المفتري يزعم أن النبي صلى الله عليه وسلم ينقذ من عذاب الله من شاء ; فأي مشاقة لله ورسوله أعظم من هذا؟! وقال سبحانه: {قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً} [سورة الجن آية: 21] ، وقال: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرّاً وَلا نَفْعاً إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} [سورة الأعراف آية: 188] ، أي: أنا عبد ضعيف لا أملك لنفسي اجتلاب نفع، ولا دفع ضر، كالمملوك، إلا ما شاء الله مالكي من النفع لي والدفع؛ فكيف يجتمع في قلب عبد: الإيمان بما ذكرنا من الآيات، ونحوها من آي القرآن، وقوله صلى الله عليه وسلم لابنته: " أنقذي نفسك من النار فإني لا أملك لك من الله شيئا " 3، كيف يجتمع الإيمان بذلك، والإيمان بقول الضال: إن لم تكن في معادي آخذا بيدي ... ومنقذي من عذاب الله والألم ويزعم بعض المتعصبين لهم أن مرادهم بذلك طلب   1 مسلم: الإيمان 204 , والنسائي: الوصايا 3644 , وأحمد 2/360. 2 البخاري: الوصايا 2753 والمناقب 3527 , ومسلم: الإيمان 204 , والترمذي: تفسير القرآن 3185 , والنسائي: الوصايا 3644 , وأحمد 2/360 ,2/519. 3 البخاري: الوصايا 2753 , ومسلم: الإيمان 204 , والترمذي: تفسير القرآن 3185 , والنسائي: الوصايا 3644 ,3646 ,3647 , وأحمد 2/333 ,2/350 ,2/360 ,2/398 ,2/519 , والدارمي: الرقاق 2732. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 136 الشفاعة، فيقال أولا: طلب الشفاعة من النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته ممتنع شرعا وعقلا. وأيضا: فالمستشفع يقول للمستشفع به: اشفع لي، ادع الله لي ; لا يقول: أعطني، كما كان الصحابة يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم في حياته: استسق لنا، استنصر لنا ; لا يقولون: اسقنا أو أغثنا، أو انصرنا على عدونا ; فمن استشفع بالنبي صلى الله عليه وسلم أو غيره إلى الله، في جلب رزق أو دفع ضر، أو رفعه، لا يقول ارزقني أو اكشف ضري ; بل يقول: ادع الله لي. وأيضا، فقول الناظم أولا: إن لم تكن في معادي آخذا بيدي ... ومنقذي من عذاب الله والألم تم قال: أو شافعا لي ... إلخ ; فعطف الشفاعة على الأخذ باليد والإنقاذ، فالمعطوف غير المعطوف عليه، فهو يقول: إن لم يحصل منك إنقاذ بالفعل، فانزل إلى مرتبة الشفاعة، وحاشاك أن تخيب رجائي فيك؛ وقد أبطل سبحانه هذين الأمرين اللذين تعلق بهما المشركون، كما في قوله: {مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ} [سورة السجدة آية: 4] ، فالولي هو الناصر المعين بالقول ; وهذا كثير في القرآن، يقرر أنه لا ولي من دونه، ولا شفيع من دونه. وأما قوله: فإن من جودك الدنيا وضرتها ... ومن علومك علم اللوح والقلم فجعل الدنيا والآخرة من عطاء النبي صلى الله عليه وسلم وإفضاله، والجود الجزء: 12 ¦ الصفحة: 137 هو العطاء والإفضال ; فمعنى الكلام: أن الدنيا والآخرة له صلى الله عليه وسلم والله سبحانه وتعالى يقول: {وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى} [سورة الليل آية: 13] ، {فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى} [سورة النجم آية: 25] ، وأي غلو أكبر من هذا؟! وكذا قوله: ومن علومك علم اللوح والقلم ; فجعل ما جرى بالقلم السابق في اللوح المحفوظ بعض علوم محمد صلى الله عليه وسلم، والله سبحانه يقول: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [سورة الأنعام آية: 59] . ومقتضى قوله، بل صريح قوله: ومن علومك علم اللوح والقلم، أنه يجوز أن يقال: ومحمد يعلم ذلك ; وأنه يجوز أن يقال: مفاتح الغيب لا يعلمها إلا الله ومحمد ; وقال سبحانه: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [سورة النمل آية: 65] ، فيجوز عند الناظم أن يقال: لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله ومحمد صلى الله عليه وسلم، وهذا صريح كلامه، وإن تأوله بعض المتعصبين بتأويلات بعيدة، لا يحتملها اللفظ. وقد قال سبحانه لنبيه: {قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ} [سورة الأنعام آية: 50] ، وأن يقول: {وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ} [سورة الأعراف آية: 188] ، فقال صلى الله عليه وسلم: " إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن الجزء: 12 ¦ الصفحة: 138 يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له على نحو ما أسمع " 1؛ والآيات والأحاديث في هذا كثيرة، مع أن هذا لا يحتاج إلى إقامة الأدلة على بطلانه، لأنه معلوم بالاضطرار من دين الرسل كلهم أن الدنيا والآخرة لله وحده، وأنه لا يعلم الغيب إلا هو ; ولقد أحسن القائل: الحق شمس والعيون نواظر ... لكنها تخفى على العميان ويشبه قوله هذا قوله في الهمزية، في مخاطبته النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن قال: الأمان الأمان إن فؤادي ... من ذنوب أتيتهن هواء فهذه علتي وأنت طبيبي ... وليس يخفى عليك في القلب داء فانظر إلى طلبه الأمان من النبي صلى الله عليه وسلم وقوله: وليس يخفى عليك في القلب داء، يزعم أن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم علل القلوب وأدواءها، وأنه لا يخفى عليه ما في القلوب، وقد قال الله سبحانه وتعالى: {وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ} [سورة التوبة آية: 101] . وغير ذلك من أدلة الكتاب والسنة، التي تدل على أنه صلى الله عليه وسلم لا يعلم ما في القلوب، إلا ما أطلعه الله عليه، قال تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} [سورة فاطر آية: 26-27] ، أي: فإنه يطلعه على ما يشاء من غيبه؛ والله المسؤول المرجو أن يهدينا إلى صراطه المستقيم، وأن يتوفانا مسلمين غير مغيرين ولا مبدلين، وهو أرحم الراحمين.   1 البخاري: المظالم والغصب 2458 والشهادات 2680 والحيل 6967 والأحكام 7169 ,7181 ,7185 , ومسلم: الأقضية 1713 , والترمذي: الأحكام 1339 , والنسائي: آداب القضاة 5401 ,5422 , وأبو داود: الأقضية 3583 , وابن ماجه: الأحكام 2317 , وأحمد 6/203 ,6/290 ,6/307 ,6/308 ,6/320 , ومالك: الأقضية 1424. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 139 ثم كتب الشيخ لهما: بسم الله الرحمن الر حيم من عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين، إلى محمد بن عبد الله، ومحمد بن عمر آل سليم، زادهما الله علما، ووهب لنا ولهما حكما، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. والأبيات التي نقلتم كتبنا عليها، ما اتسع له المحل، وبطلان ما تضمنته ظاهر - ولله الحمد - لا يخفى إلا على من أعمى الله بصيرته، ولكن إذا تحققتم بقول الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم أن هذه الأمة تتبع اليهود والنصارى فيما أحدثوا، حذو القذة بالقذة، مع قوله صلى الله عليه وسلم: " بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ " 1، فإذا صدّق الإنسان بذلك، لم يستنكر ما حدث من الشرك والبدع، وظهور المنكرات، وتضييع شرائع الإسلام، وتعطيل حدود الله، فإذا عرف الإنسان ذلك، وعلم أنه لم يضل اليهود والنصارى إلا علماؤهم، علم أن سبب ضلال هذه الأمة علماؤهم، وفي الحديث المشهور: " علماؤهم شر من تحت أديم السماء، منهم خرجت الفتنة وفيهم تعود ". وقول القائل: لو أن هذا ما يجوز، ما خفي على فلان وفلان، فهذه شبهة باطلة ; وقد روى ابن وضاح، عن عمر رضي الله عنه قال: " أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بلحيتي - وأنا أعرف الحزن في وجهه - فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، فقلت أجل، إنا لله   1 مسلم: الإيمان 145 , وابن ماجه: الفتن 3986 , وأحمد 2/389. لا الجزء: 12 ¦ الصفحة: 140 وإنا إليه راجعون، فما ذلك يا رسول الله؟ قال: أتاني جبرائيل، فقال: إن أمتك مفتتنة بعد قليل من الدهر غير كثير، قلت: فتنة كفر؟ أم فتنة ضلالة؟ قال: كل سيكون ; قلت: وأين يأتيهم ذلك، وأنا تارك فيهم كتاب الله؟ قال بكتاب الله يضلون " أي: يتأولونه علي غير تأويله، وزاد " من قبل قرائهم وأمرائهم ". قال محمد بن وضاح: الخير بعد الأنبياء ينقص، والشر يزداد، وقال: "إنما هلك بنو إسرائيل على يد قرائهم وفقهائهم، وستهلك هذه الأمة على أيدي قرائهم وفقهائهم" قال ابن المبارك: وهل أفسد الدين إلا الملوك وأحبار سوء ورهبانها وقد أخبر الله سبحانه عن اليهود أنهم يحرفون الكلم عن مواضعه، أي: يتأولون كتاب الله على غير ما أراد الله، وقال: {وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [سورة البقرة آية: 75] ، وأخبر عنهم أنهم {يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً} [سورة النساء آية: 51] ؛ ولا بد أن يوجد في هذه الأمة من يتابعهم على ما ذمهم الله به. والإنسان إذا عرف الحق من ضده، لم يبال بمخالفة من خالف كائنا من كان، ولا يكبر في صدره مخالفة عالم ولا عابد، لأن هذا أمر لا بد منه؛ وما أخوفني على من عاش أن يرى أمورا الجزء: 12 ¦ الصفحة: 141 عظيمة لا منكر لها، والله المستعان، والاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم صدرت من كثير من المتأخرين، ممن يشار إليهم بالعلم. وقد صنف رجل - يقال له ابن البكري - كتابا في الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم، وردّ عليه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في مجلد، بيّن فيه بطلان ما ذهب إليه، وبيّن أنه من الشرك. قال الشيخ رحمه الله تعالى: وقد طاف هذا - يعني ابن البكري - على علماء مصر، فلم يوافقه منهم أحد، وطاف عليهم بجوابي الذي كتبته، وطلب منهم معارضته، فلم يعارضه أحد منهم، مع أن عند بعضهم من التعصب ما لا يخفى، ومع أن قوما كان لهم غرض وجهل بالشرع، قاموا في ذلك قياما عظيما، واستعانوا بمن له غرض من ذي سلطان، مع فرط عصبيتهم، وكثرة جمعهم، وقوة سلطانهم، ومكايدة شيطانهم. قال رحمه الله تعالى: والاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد موته، موجودة في كلام بعض الناس، مثل يحيى الصرصري، ومحمد بن النعمان، وهؤلاء لهم صلاح، لكن ليسوا من أهل العلم ; بل جروا على عادة، كعادة من يستغيث بشيخه في الشدائد، ويدعوه ; انتهى. والمقصود: أن نوع الشرك من الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم وغيره، جرى في زمان الشيخ، والشر يزيد " لا يأتي عام إلا والذي بعده شر منه " 1 والله المستعان ; وفي هذه الأزمنة يقال: العجب ممن نجا كيف نجا؟ ليس العجب ممن هلك كيف هلك؟   1 البخاري: الفتن 7068 , والترمذي: الفتن 2206 , وأحمد 3/179. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 142 وقول من يقول: استعملها من هو أعلم منا، وأعرف بكلام العرب، فبئست الحجة الواهية، والله سبحانه لم يأمرنا باتباع من رأيناه أعلم منا، وإنما أوجب علينا عند التنازع، الرد إلى كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [سورة النساء آية: 59] خاصة في أصول الدين، بأنه لا يجوز التقليد فيها بإجماع العلماء، ولأن أدلته - ولله الحمد - ظاهرة. ولم يقل الله سبحانه: إذا تنازعتم فاتبعوا ما عليه أكثر الناس، ولا ما عليه بلد من البلدان؛ وأكثر الناس اليوم خصوصا طلبة العلم، خفي عليهم الشرك. وشيخ الرجل المذكور يجوز الاستغاثة بالأموات، فكيف بالنبي صلى الله عليه وسلم؟! وكلامه صريح لا يحتمل تأويلا، كقوله: ومنقذي من عذاب الله والألم; نسأل الله السلامة. وابن عجلان أقل الأحوال هجره، وأما النصيحة فلا تفيد في مثله، وأمره هذا: إن وصل الشيخ عبد الرحمن بن حسن، أو فيصلا، أو ابن سعود الأدنى، فأخاف على نفسه، ولو كان له عقل ما أظهر مثل هذا الأمر، الذي يجر عليه شرا، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. [اعتراض بعض المبطلين على الشيخ أبا بطين والرد عليه] ثم اعترض بعض المبطلين، فرد اعتراضه، وهذا نصه: الجزء: 12 ¦ الصفحة: 143 بسم الله الرحمن الر حيم الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم تسليما. أما بعد: فإني لما كتبت كلمات يسيرة على الأبيات التي في البردة، وزيادة البغدادي المتضمنة للغلو في النبي صلى الله عليه وسلم، وبينت بعض ما اشتملت عليه من الباطل، وجد ورقة فيها اعتراض على ما كتبته، وهو اعتراض ظاهر البطلان، لكن لغلبة الجهل قد يحصل به تلبيس على الجهال. فطلب مني بعض الإخوان تعقب اعتراضات هذا المبطل، وبيان فسادها، فأجبته لما رأيت من تمكن الجهل، في قلوب أكثر الناس، خاصة والتوحيد الذي خلق الله الجن والإنس لأجله، وبه أرسل جميع الرسل، وأنزل به جميع الكتب، وهو حسبنا ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. من ذلك أني ذكرت أن ما تضمنته هذه الأبيات، وهي قوله: يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به ... سواك ................... إلى قوله: فإن من جودك الدنيا وضرتها ... ومن علومك علم اللوح والقلم الجزء: 12 ¦ الصفحة: 144 وقوله: إن لم تكن في معادي آخذا بيدي ومنقذي من عذاب الله والألم وما قبل هذه الأبيات، وما بعدها، ذكرت أن هذا يشابه غلو النصارى في المسيح عليه السلام، قال المعترض: حاشاه من ذلك ... إلخ. فنقول: مقتضى هذه الأبيات، إثبات علم الغيب للنبي صلى الله عليه وسلم، وأن الدنيا والآخرة من جوده، وتضمنت الاستغاثة به صلى الله عليه وسلم من أعظم الشدائد، ورجاه لكشفها، وهو الآخذ بيده في الآخرة، وإنقاذه من عذاب الله ; وهذه الأمور من خصائص الربوبية والألوهية، التي ادعتها النصارى في المسيح عليه السلام. وإن لم يقل هؤلاء إن محمدا هو الله، أو ابن الله، ولكن حصلت المشابهة للنصارى في الغلو الذي نهى عنه صلى الله عليه وسلم بقوله: " لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله "1، والإطراء هو المبالغة في المدح، حتى يؤول إلى أن يجعل للممدوح شيء من خصائص الربوبية والألوهية. وقول المعترض: إن مراد الناظم من هذه الأبيات طلب الشفاعة: فنقول أولا: هذه الألفاظ صريحة في الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم كقوله: يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به سواك ... إلخ. أي: وإلا فأنا هالك، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه " لا ملجأ منك إلا إليك " 2 وقوله:   1 البخاري: أحاديث الأنبياء 3445 , وأحمد 1/23 ,1/24 ,1/47 ,1/55. 2 البخاري: الوضوء 247 والدعوات 6311 ,6313 ,6315 والتوحيد 7488 , ومسلم: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار 2710 , والترمذي: الدعوات 3394 ,3574 , وأبو داود: الأدب 5046 , وابن ماجه: الدعاء 3876 , وأحمد 4/285 ,4/290 ,4/292 ,4/296 ,4/299 ,4/300 ,4/301 , والدارمي: الاستئذان 2683. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 145 إن لم تكن في معادي آخذا بيدي ... ومنقذي من عذاب الله والألم أو شافعا ... إلخ، أي: وإلا هلكت ; وأي لفظ في الاستغاثة أبلغ من هذه الألفاظ؟ وعطف الشفاعة على ما قبلها بحرف "أو" في قوله: أو شافعا لي، صريح في مغايرة ما بعدها لما قبلها، وأن المراد مما قبلها طلب الإغاثة بالفعل والقوة، فإن لم يكن فبالشفاعة. وقول المعترض يحتمل أن العطف هنا للتفسير، وهذا من جهله، فإن عطف التفسير إنما يكون بالواو، لا بغيرها من حروف العطف، ذكره ابن هشام وغيره ; ومحل عطف التفسير إذا عطف لفظا على لفظ معناهما واحد، مع اختلاف اللفظ، كما ذكره من قول الشاعر: وألفى قولها كذبا ومينا، والمين هو الكذب. وأما قول الناظم: ومنقذي من عذاب الله والألم، أو شافعا لي ... إلخ ; فمعنى الإنقاذ غير معنى الشفاعة، قال الله تعالى عن صاحب يس: {إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ} [سورة يس آية: 23] . ولم يقل أحد من المفسرين: إن عطف الإنقاذ على الشفاعة من عطف التفسير ; بل فسروا الإنقاذ بالنصر، والمظاهرة بالفعل، وفسروا الشفاعة بالمعاونة بالجاه؛ وهذا ظاهر، لكن لأجل تخبيط هذا الجاهل الأحمق، أوجب بيان جهله وغلطه. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 146 ومن كلام ابن القيم رحمه الله على هذه الآية، قال بعد كلام سبق: فإن العابد يريد من معبوده أن ينفعه وقت حاجته دائما، وإذا أرادني الرحمن الذي فطرني بضر، لم يكن لهذه الآلهة من القدرة، ما تنقذني بها من ذلك الضر، ولا من الجاه والمكانة عنده ما تشفع لي إليه، لأتخلص من ذلك الضر، فبأي وجه تستحق العبادة؟ إني إذا لفي ضلال مبين، إن عبدت من هذا شأنه ; انتهى. ونقول أيضا: أنه إذا خوطب الرسول أو غيره من الأموات والغائبين، بلفظ من ألفاظ الاستغاثة، أو طلب منه حاجة، بنحو قول: أغثني، أو أنقذني، أو خذ بيدي، أو اقض حاجتي، أو أنت حسبي، ونحو ذلك، يتخذه واسطة بينه وبين الله في ذلك. فهذا شرك العرب الذين بعث الله إليهم النبي صلى الله عليه وسلم كما وضحه الله سبحانه في كتابه في مواضع، مخبرا عنهم أنهم يقولون: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [سورة الزمر آية: 3] ، {هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [سورة يونس آية: 18] ، ولم يقولوا: إن آلهتهم تحدث شيئا، أو تدبر أمرا من دون الله ; قال تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} [سورة يونس آية: 31] الشرك في الألوهية، إذا اعترفتم بالربوبية: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} [سورة المؤمنون آية: 84-85] الآيات. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 147 والآيات في هذا كثيرة، يحتج عليهم سبحانه بإقرارهم بتوحيد الربوبية، على إشراكهم في توحيد الألوهية، كما قال سبحانه: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [سورة يوسف آية: 106] ، فسر إيمانهم في هذه الآية، بإقرارهم بتوحيد الربوبية ; وهو: أنهم إذا سئلوا من خلق السماوات والأرض؟ ومن ينزل المطر وينبت النبات، ونحوه؟ قالوا: الله ; ومع ذلك يعبدون غيره. وفسر إيمانهم في الآية: بإخلاصهم الدعاء لله في الشدائد، كما في قوله سبحانه: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [سورة العنكبوت آية: 65] ، ونحو ذلك من الآيات، ويشركون في الرخاء بدعاء غيره ; فهذه نصوص القرآن صريحة في أنهم يعترفون بتوحيد الربوبية اعترافا جازما، وأنهم ما أرادوا من آلهتهم إلا الشفاعة عند الله. وأما من ظن أن مدعوه ومسؤوله يحدث شيئا من دون الله، ويدبر أمرا من دون الله؛ فهذا شرك في توحيد الربوبية والألوهية معا، ولم يدع ذلك أحد من المشركين، الذين بعث الله إليهم محمدا صلى الله عليه وسلم، وإنما أرادوا من آلهتهم الشفاعة إلى الله، الذي بيده الضر والنفع، بجاههم ومنْزلتهم عنده، كما أخبر الله عنهم بذلك. [جواب ابن تيمية في المراد بالواسطة] وسئل شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية، رحمه الله ورضي عنه، عن رجلين تناظرا، فقال أحدهما: لا بد لنا من الجزء: 12 ¦ الصفحة: 148 واسطة بيننا وبين الله، فإنا لا نقدر عليه إلا بذلك ; فأجاب رحمه الله ... إلى أن قال: فإن أراد بالواسطة أنه لا بد من واسطة يتخذها العباد بينهم وبين الله، في جلب المنافع ودفع المضار، مثل أن يكون واسطة في رزق العباد، ونصرهم، وهداهم، يسألون ذلك ويرجعون إليه فيه، فهذا من أعظم الشرك الذي كفر الله به المشركين، حيث اتخذوا من دون الله أولياء، وشفعاء يجتلبون بهم المنافع، ويدفعون بهم المضار. لكن الشفاعة لمن يأذن الله، قال تعالى: {مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ} [سورة السجدة آية: 4] ، وقال: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ} [سورة الأنعام آية: 51] ، وقال: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سورة سبأ آية: 22-23] . وقال: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} [سورة الإسراء آية: 56-57] ، قال طائفة من السلف: كان أقوام من الكفار، يدعون المسيح وعزيرا والملائكة والأنبياء، فبين لهم أن الملائكة والأنبياء لا يملكون كشف الجزء: 12 ¦ الصفحة: 149 الضر عنهم ولا تحويله، وأنهم يتقربون إليه ويرجون رحمته، ويخافون عذابه. وقال تعالى: {وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [سورة آل عمران آية: 80] ، فبين سبحانه أن اتخاذ الملائكة والنبيين أربابا، كفر ; فمن جعل الملائكة وسائط بينه وبين الله يدعوهم، ويتوكل عليهم، ويسألهم جلب المنافع ودفع المضار، مثل أن يسألهم غفران الذنوب، وهداية القلوب، وتفريج الكربات، وسد الفاقات، فهو كافر بإجماع المسلمين ... إلى أن قال: فمن أثبت وسائط بين الله وبين خلقه، كالحجاب الذين يكونون بين الملك وبين رعيته، بحيث يكونون هم يرفعون إلى الله حوائج خلقه، وأن الله إنما يهدي عباده ويرزقهم وينصرهم بتوسطهم، بمعنى أن الخلق يسألونهم، وهم يسألون الله، كما أن الوسائط عند الملوك، يسألون الملوك حوائج الناس، لقربهم منهم، والناس يسألونهم أدبا منهم أن يباشروا سؤال الملك، أو لأن طلبهم من الوسائط أنفع لهم من طلبهم من الملك، لكونهم أقرب إلى الملك من الطالب، فمن أثبتهم وسائط على هذا الوجه، فهو مشرك يجب أن يستتاب، فإن تاب وإلا قتل. وهؤلاء شبهوا الخالق بالمخلوق، وجعلوا لله أندادا ; وفي القرآن من الرد على هؤلاء، ما لا تتسع له هذه الفتوى، فإن هذا دين المشركين عباد الأوثان ; كانوا يقولون: إنها تماثيل الأنبياء الجزء: 12 ¦ الصفحة: 150 والصالحين، وإنها وسائل يتقربون بها إلى الله، وهو من الشرك الذي أنكره الله على النصارى، حيث قال: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} [سورة التوبة آية: 31] . وقد بين الله هذا التوحيد في كتابه، وحسم مواد الإشراك به، حيث لا يخاف أحد غير الله، ولا يرجو سواه، ولا يتوكل إلا عليه، قال تعالى: {فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} [سورة المائدة آية: 44] ، وقال: {وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ} [سورة التوبة آية: 18] ، وقال: {فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [سورة آل عمران آية: 175] ، وقال: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [سورة النور آية: 52] ، فبين أن الطاعة لله والرسول، وأما الخشية والتقوى فلله وحده ; انتهى ملخصا. وقال رحمه الله في الرسالة السنية - بعد كلام سبق - فكل من غلا في نبي، أو رجل صالح، وجعل فيه نوعا من الإلهية، مثل أن يقول: كل رزق لا يرزقنيه الشيخ لا أريده. أو يقول: إذا ذبح شاة باسم سيدي، أو يعبده بالسجود له، أو لقبره، أو يدعوه، مثل أن يقول: يا سيدي فلان اغفر لي، أو ارحمني، أو انصرني، أو أغثني، أو اجبرني، أو توكلت عليك، أو أنا في حسبك، أو أنت حسبي، ونحو هذه الأقوال والأفعال، التي هي من خصائص الربوبية، التي لا تصلح إلا لله، فكل هذا شرك وضلال، يستتاب فإن تاب وإلا قتل. فإن الله سبحانه إنما أرسل الرسل وأنزل الكتب ليعبد الجزء: 12 ¦ الصفحة: 151 وحده، ولا يجعل معه إله آخر، والذين يجعلون مع الله آلهة أخرى، مثل الشمس والقمر، والمسيح وعزير والملائكة، واللات والعزى ومناة، وغير ذلك، لم يكونوا يعتقدون أنها تخلق، وتنبت النبات، وتنزل المطر. وإنما كانوا يعبدونهم، أو تماثيلهم، أو قبورهم، يقولون: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [سورة الزمر آية: 3] ، {وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [سورة يونس آية: 18] فبعث الله الرسل تنهى أن يدعى أحد من دونه، لا دعاء عبادة، ولا دعاء استغاثة ; انتهى. فليتأمل مريد نجاة نفسه، ما ذكره شيخ الإسلام رحمه الله، يتبين له حقيقة الشرك، الذي أرسل الله الرسل من أولهم إلى آخرهم، ينهون عنه، وأنه الذي يسميه بعض الناس مجازا في هذه الأزمنة تشفعا وتوسلا، وبعض الضّلاّل يسميه مجازا; يعني بذلك أن استغاثتهم بالمقبورين والغائبين، وسؤالهم قضاء حاجاتهم، وتفريج الكربات على سبيل المجاز، وأن الله هو المقصود في الحقيقة. وهذا معنى قول المشركين: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [سورة الزمر آية: 3] ، {هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [سورة يونس آية: 18] ، لأنهم لم يكونوا يعتقدون أن آلهتهم تدبر شيئا من دون الله، وإنما يستجلبون النفع، ويستدفعون الضر بجعلها وسائط بينهم وبين الله الذي بيده الضر والنفع ; ولهذا يخلصون لله الدعاء في الشدائد، لاعتقادهم أن آلهتهم الجزء: 12 ¦ الصفحة: 152 لا تغني عنهم شيئا من دون الله، وأنها لا تضر ولا تنفع. وقد لبس الشيطان على كثير من الناس، خاصة ممن ينتسب إلى طلب العلم بأن السكوت عن الكلام في هذا الباب، هو الدين والورع، فتولد من ذلك الإعراض عن الاعتناء بهذا الأمر الذي هو أصل الدين، حتى صار جاهلا به، ثم آل الأمر ببعض هؤلاء إلى استحسان الشرك، والنفرة من ذكر التوحيد. ولم يدر هذا المتورع الورع الشيطاني أن أفرض العلوم، معرفة الله سبحانه بأسمائه وصفاته، ومعرفة حقه على عباده، الذي خلق الجن والإنس لأجله، وهو توحيد الألوهية، الذي أرسل به جميع الرسل، وأنزل به جميع الكتب ; قال سبحانه: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [سورة محمد آية: 19] ، وقال: {أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ} [سورة هود آية: 14] ، أي: واعلموا أن لا إله إلا هو. وقال: {هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [سورة إبراهيم آية: 52] ، فبين سبحانه أن من الحكمة في إنزال القرآن، ليعلم الله بما فيه من الحجج والبراهين، أنه هو المستحق للألوهية وحده، ففرض على عباده العلم بأنه لا إله إلا هو وحده، وأخبر أنه ضمن كتابه من الأدلة والبراهين ما يدل على ذلك. فيتعين على كل مكلف معرفة معنى لا إله إلا الله، الذي هو الجزء: 12 ¦ الصفحة: 153 أصل الأصول، وأوجب العلوم؛ وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: " من مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله دخل الجنة " 1، فرتب دخول الجنة، على العلم بأنه لا إله إلا الله؛ وهذا يبين معنى أحاديث أخر، كقوله صلى الله عليه وسلم: " من كان آخر كلامه لا إله إلا الله، دخل الجنة " 2، و " من قال لا إله إلا الله صدقا من قلبه، دخل الجنة " 3، وغير ذلك من الأحاديث، وأن المراد من هذه الأحاديث ونحوها، العلم بأن لا إله إلا الله. وهذه الأمور التي انتشرت في أكثر الأمصار، من الاستغاثة بالمقبورين في تفريج الكربات، وسؤالهم قضاء الحاجات، والتقرب إليهم بالنذور، والذبائح، وغير ذلك من أنواع القربات، من لم يعرف أن هذا تأله لغير الله، وشرك عظيم تنفيه لا إله إلا الله، فهو لم يعلم أن لا إله إلا الله حقيقة العلم. وزعم المعترض أننا بإنكارنا ما تضمنته الأبيات المشار إليها، من الغلو فيه صلى الله عليه وسلم، متنقصون لجنابه صلوات الله وسلامه عليه؛ فهذا قوله مثل قول النصارى لما قال النبي صلى الله عليه وسلم إن عيسى عبد الله مربوب، قالوا: إنه يسب المسيح وأمه، ووشوا به عند النجاشي؛ وهذا ما يلقيه الشيطان على ألسنة المشركين قديما وحديثا، إذا قال الموحدون: إن آلهتكم باطلة، وإنها لا تستحق شيئا من العبادة، اشمأزوا من ذلك، وزعموا أن من سلبهم ذلك، فقد هضم مراتبهم، وتنقصهم. فلهم نصيب من قوله: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ   1 أحمد 1/65. 2 أبو داود: الجنائز 3116 , وأحمد 5/233 ,5/247. 3 مسلم: الصلاة 385 , وأبو داود: الصلاة 527. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 154 قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [سورة إبراهيم آية: 52] ، {ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا} [سورة غافر آية: 12] . وقد أحسن القائل، رحمه الله تعالى، وهو ابن القيم: قالوا تنقصتم رسول الله وا ... عجبا لهذا البغي والعدوان أنتم تنقصتم إله العرش والقـ ... ـرآن والمبعوث بالقرآن ونظير هذا قول أعداء المسيـ ... ـح من النصارى عابدي الصلبان إنا تنقصنا المسيح بقولنا ... عبد وذلك غاية النقصان وكذاك أشباه النصارى من غلوا ... في دينهم بالجهل والطغيان صاروا معادين الرسول ودينه ... في صورة الأحباب والإخوان فانظر إلى تبديلهم توحيده ... بالشرك والإيمان بالكفران وانظر إلى تجريده التوحيد من ... أسباب كل الشرك بالرحمن اجمع مقالتهم وما قد قاله ... واستدع بالنقاد والوزان عقل وفطرتك السليمة ثم زن ... هذا وذا لا تطغ في الميزان فهنا تعلم أيما حزبينا هو الـ ... ـمنتقص المنقوص ذو العدوان رامي البريء بدائه ومصابه ... فعل المباهت أوقح الحيوان كمعير للناس بالزغل الذي هو ... ضربه فاعجب لذا البهتان يا فرقة التنقيص بل يا أمة الـ ... ـدعوى بلا علم ولا عرفان والله ما قدمتم يوما مقا ... لته على التقليد للإنسان تبا لكم ماذا التنقص بعد ذا ... لو تعرفون العدل من نقصان الجزء: 12 ¦ الصفحة: 155 والله أمركم عجيب معجب ... ضدان فيكم ليس يتفقان تقديم آراء الرجال عليه مع هذا ... الغلو فكيف يجتمعان كفرتم من جرد التوحيد جهـ ... ـلا منكم بحقائق الإيمان لكن تجردتم لنصر الشرك والبـ ... ـدع المضلة في رضى الشيطان والله لم نقصد سوى التجريد للتـ ... ـوحيد ذاك وصية الرحمن ورضى رسول الله منا، لا غلو ... المشرك أصل عبادة الأوثان ولقد نهى ذا الخلق عن إطرائه ... فعل النصارى عابدي الصلبان ولقد نهانا أن نصير قبره ... عيدا حذار الشرك بالرحمن ودعا بأن لا يجعل القبر الذي ... قد ضمه وثنا من الأوثان فأجاب رب العالمين دعاءه ... وأحاطه بثلاثة الجدران حتى غدت أرجاؤه بدعائه ... في عزة وحماية وصيان ولقد غدا عند الوفاة مصرحا ... باللعن يصرخ فيهم بأذان أعن] الأولى جعلوا القبور مساجداً ... وهم اليهود وعابدو الصلبان والله لولا ذاك أبرز قبره ... لكنهم حجبوه بالحيطان قصدوا إلى تسنيم حجرته ليمـ ... ـتنع السجود له على الأذقان قصدوا موافقة الرسول وقصده التـ ... ـجريد للتوحيد للرحمن فلينظر المنصف وليتأمل، فالأمر كما قال رحمه الله: أمركم عجيب معجب ; وهذا حال غلاة زماننا، تشابهت قلوبهم فتشابهت أقوالهم، جمعوا بين الضدين: الغلو، والتنقص ; فجعلوا للنبي صلى الله عليه وسلم خصائص الربوبية والألوهية، بل جعلوها لمن دون الرسول، وبدَّعوا من جرد التوحيد، بل كفروهم. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 156 وضموا إلى هذا الغلو: التنقص للنبي صلى الله عليه وسلم بحيث أنهم لا يلتفتون إلى سنته، ولا يعبؤون بها إذا خالفت ما عليه مشائخهم، ويقولون: مشائخنا أعلم منا، وفرضنا التقليد ; ويعيبون على من قدم سنة النبي صلى الله عليه وسلم على من خالفها، وينسبونه إلى الجهل وتنقص العلماء ; وهم مع ذلك مخالفون لإمام المذهب الذي ينتسبون إليه، ولأتباعه من علماء مذهبه، ولسائر الأئمة في النهي عن تقليدهم. وضموا إلى ذلك موالاة أعداء أئمة المذهب الذين ينتحلونه من المعطلة، بزعمهم أنهم أهل الحق والسواد الأعظم، فجمعوا بين الغلو في أهل مذهبهم لا سيما متأخريهم، وبين تنقصهم؛ بحيث زعموا أن مخالفيهم في الأسماء والصفات والإيمان، وغير ذلك، هم أهل الحق الذين لا تجوز مخالفتهم، كما جمعوا بين الغلو والتنقص في جانب الرسول، صلوات الله وسلامه عليه. قال المعترض: وأما استدلالكم على أن النبي لا يشفع بقوله سبحانه: {مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ} [سورة السجدة آية: 4] ، قال: والآية نزلت في الكفار؛ وجميع ما في القرآن من نفي الشفاعة، فهو في حق الكفار، انتهى. أما نسبته إلينا، أنا نقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم لا يشفع، فلا يحتاج إلى جواب، لأنه يعلم هو وأصحابه أنا لا ننفي شفاعته صلى الله عليه وسلم بإذن الله ; بل هو صاحب الشفاعة العظمى، وله صلى الله عليه وسلم شفاعات الجزء: 12 ¦ الصفحة: 157 غيرها؛ والأنبياء يشفعون، والملائكة يشفعون، والمؤمنون يشفعون، لكن لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه. وسيد الشفعاء صلوات الله وسلامه عليه، لا يبدأ بالشفاعة أولا، بل يسجد لربه ويحمده بمحامد يفتحها عليه، حتى يقال له: يا محمد، ارفع رأسك وسل تعط، واشفع تشفع ; قال تعالى: {مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ} [سورة يونس آية: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [سورة البقرة آية: 255] . وهذا من عظمته سبحانه وجلاله وكبريائه، أن لا يتجاسر أحد أن يشفع عنده حتى يؤذن له؛ والقرآن صرح بنفي الشفاعة عن الكفار مطلقا، ونفاها عن غيرهم بغير إذنه؛ ونحن إنما ننفي الشفاعة الشركية التي نفاها القرآن، وهو أن أحدا يشفع عنده بغير إذنه. وأما قول هذا الضال: إن قوله سبحانه: {مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ} [سورة السجدة آية: 4] في الكفار خاصة، يعني: فلعصاة المسلمين ولي من دونه وشفيع، والولي هو الناصر، والشفيع ذو الجاه؛ وهذا القول كفر ظاهر، حيث جعل قوله سبحانه: {مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ} [سورة السجدة آية: 4] خاصا بالكفار، أي: فلغيرهم - على زعمه - ولي من دونه، وشفيع ; فأي كفر أعظم من هذا وأبين منه؟! وهذا من تحريف الكلم عن مواضعه، والله سبحانه يقول مخاطبا لجميع الناس: {مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ} [سورة السجدة آية: 4] الجزء: 12 ¦ الصفحة: 158 وقال: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ} [سورة الأنعام آية: 51] في هذا اليوم الذي لا حاكم فيه إلا الله، {لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ} [سورة الأنعام آية: 51] ، وقال: {وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ} [سورة الأنعام آية: 70] ، يخبر سبحانه أنه ليس لمن عصاه ولي ينصره من دونه ولا يشفع بغير إذنه. وزعم المعترض أن "من" في قول الناظم: من جودك الدنيا وضرتها، ومن ... إلخ: أنها لبيان الجنس، وهذا الجاهل الأحمق، يتحذلق عند أصحابه بما لا يعرفون، ليظنوا أن عنده علما، وهو لا يميز بين "من" التي لبيان الجنس والتي للتبعيض، و "من" في الموضعين للتبعيض بلا شك. والذين يتكلمون على معاني الحروف، ذكروا علامة "من" التي للتبعيض صحة حلول بعض محلها، وعلامة التي لبيان الجنس صحة حلول الذي محلها، كما في قوله: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ} [سورة الحج آية: 30] أي: فاجتنبوا الرجس الذي هو الأوثان، والتي لبيان الجنس لا يبدأ بها، ومن في هذين الموضعين لا يصح حلول الذي محلها، بل يصح حلول بعض موضعها، فالمعنى بعض جودك الدنيا وضرتها، وبعض علومك علم اللوح والقلم ; أي: فالدنيا وضرتها بعض جودك وعلم اللوح والقلم بعض علمك. والمقصود: بيان بطلان تحذلق هذا الجاهل، وإلا فكلام الجزء: 12 ¦ الصفحة: 159 الناظم باطل على كل حال ; وعلى زعم الجاهل: أنها لبيان الجنس، فالمعنى: جودك الدنيا وضرتها، وعلومك هي علم اللوح والقلم، لا تنقص عنها بل هي عينها ; وصرح المعترض بدعواه أن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم الغيب، حتى مفاتح الغيب الخمس ; والناظم آل به المبالغة في الإطراء، الذي نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هذا الغلو، والوقوع في هذه الزلقة العظيمة. ونحو ذلك قوله في الهمزية، في خطابه للنبي صلى الله عليه وسلم: الأمان الأمان إن فؤادي ... من ذنوب أتيتهن هواء فهذه علتي وأنت طبيبي ... وليس يخفى عليك في القلب داء فطلب الأمان من النبي صلى الله عليه وسلم، وشكا إليه علة قلبه ومرضه من الذنوب، فتضمن كلامه سؤاله من النبي صلى الله عليه وسلم مغفرة ذنبه، وصلاح قلبه؛ ثم صرح بأنه لا يخفى عليه في القلب داء، أي: فهو يعلم ما احتوت عليه القلوب. وقد قال الله سبحانه: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ} [سورة التوبة آية: 101] ، وقال: {وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} [سورة الأنفال آية: 60] ، وخفي عليه صلى الله عليه وسلم أمر الذين أنزل الله فيهم: {وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ} [سورة النساء آية: 107] ، الآيات حتى جاءه الوحي، وخفي عليه صلى الله عليه وسلم أمر أهل الإفك، حتى أنزل الله القرآن ببراءة أم المؤمنين رضي الله عنها؛ وهذا في حياته، فكيف بعد موته؟! وهذا يقول: وليس يخفى الجزء: 12 ¦ الصفحة: 160 عليك في القلب داء، يعنى: أنه يعلم ما في القلوب. والله سبحانه يقول: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [سورة آل عمران آية:154] ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " إنما أنا بشر، وإنكم لتختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له على نحو ما أسمع؛ فمن قضيت له بحق أخيه فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار ". ثم كابر المعترض، فصرح بقوله: إن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم الغيب حتى مفاتح الغيب الخمس، وزعم أن عامة العلماء قالوا ذلك؛ فانظر إلى هذه الجراءة العظيمة في الكذب على الله وعلى رسوله، وعلى عامة العلماء، بقوله: إن عامة العلماء قالوا: إن الله لم يتوف نبيه صلى الله عليه وسلم حتى علمه ما كان وما يكون، وعلمه كل شيء حتى الخمس. وقد قال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: {قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} [سورة الأنعام آية: 50] ، وقال: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [سورة الأعراف آية: 188] ، أي: لو كنت أعلم الغيب لكنت على خلاف ما أنا عليه من استكثار الخير، واجتناب السوء والمضار، حتى لا يمسني شيء منها، ولم أكن غالبا مرة، ومغلوبا أخرى في الحروب. وقال تعالى: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 161 إِلَّا اللَّهُ} [سورة النمل آية: 65] ، وقال: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} [سورة الأنعام آية: 59] . وعلى قول هذا الأفاك، يجوز أن يقال: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [سورة النمل آية: 65] ومحمد، {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} [سورة الأنعام آية: 59] ومحمد. وبيان ذلك: أنه لو كان أهل قرية لا يحفظ أحد منهم سورة البقرة مثلا إلا زيد ; قالوا: لا يحفظ أحد منا سورة البقرة إلا زيد، ثم علمها زيد عمراً، وقالوا: لا يحفظ أحد منا سورة البقرة إلا زيد وعمرو، كان كلاما مستقيما صحيحا؛ ما أعظم جراءة هذا الخبيث على هذه الفرية العظيمة؟! مع أن له سلف ضلال وكفر في هذه الدعوى. حكى شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله، في رده على الذي جوز الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم، وذكر عن بعض أهل زمانه: أنه جوز الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم في كل ما يستغاث فيه بالله، وصنف فيه مصنفا، وكان يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم مفاتيح الغيب التي لا يعلمها إلا الله. قلت: ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها، قالت: "من حدثكم أن محمدا يعلم ما في غد، فقد كذب، ثم قرأت {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً} [سورة لقمان آية: 34] " لفظ البخاري ; ولفظ مسلم: "من زعم أن محمدا يخبر بما في غد، فقد أعظم الفرية على الله، ثم قرأت {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً} [سورة لقمان آية: 34] "، ومرادها رضي الله عنها نفي ذلك في حياته،" الجزء: 12 ¦ الصفحة: 162 فكيف بعد الموت؟! مع أنه لا يحتاج في بيان بطلان هذا القول إلى أكثر من حكايته ; قال تعالى: {انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْماً مُبِيناً} [سورة النساء آية: 50] . وأما قول الله سبحانه: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} [سورة الجن آية: 26-27] والمعنى عند جميع المفسرين: {إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} [سورة الجن آية: 27] ، فإنه يظهره على ما يشاء من غيبه، ليكون معجزة له، وليس خاصا بنبينا عليه وعليهم الصلاة والسلام. وقول المعترض: إن الشيخ تقي الدين أثنى على الصرصري في نظمه المشهور الذي فيه التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم، يعني بالتوسل الاستغاثة، فقد كذب على الشيخ وافترى؛ وكتابه الذي صنفه في الرد على من جوز الاستغاثة به صلى الله عليه وسلم معروف موجود. قال رحمه الله: والاستغاثة به صلى الله عليه وسلم موجودة في كلام بعض الناس، مثل يحيى الصرصري، ومحمد بن النعمان؛ وهؤلاء لهم صلاح، لكن ليسوا من أهل العلم، بل جروا على عادة كعادة من يستغيث بشيخه في الشدائد ويدعوه، انتهى ; قلت: والبوصيري ليس معروفا بالعلم. قال المعترض: ومراد الناظم بقوله: إن من جودك الدنيا وضرتها، أن الله أعطاه خير الدارين، قال: وكيف ينكر تصرفه في إعطاء أحد بإذن الله تعالى؛ واستشهد لذلك بالكذب الذي عزاه لشرح الإقناع، أن النبي صلى الله عليه وسلم يقطع أرض الجنة، وأنكر الجزء: 12 ¦ الصفحة: 163 على من ينكر تصرفه صلى الله عليه وسلم بقوله: وكيف ينكر تصرفه ... إلخ ; فهذا إنكار منه على من ينكر تصرفه صلى الله عليه وسلم وتعجب منه، يقتضي إثبات التصرف له صلى الله عليه وسلم في خيري الدنيا والآخرة، بالإعطاء والمنع، وأن الله جعل له ذلك خصوصا في الآخرة، بإدخاله الجنة من يشاء. فيا سبحان الله! ما أعظم جراءة هذا على الكذب على الله تعالى!! وهذه دعوى عظيمة يطلب منه إقامة البينة على صحتها، كما قال سبحانه عن قول الذين: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ} [سورة البقرة آية: 111] أي: حجتكم وبينتكم {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [سورة البقرة آية: 23] ؛ فإن كل قول لا دليل عليه مردود على قائله ; ومن المعلوم: أنه لا دليل له على ذلك، ولا شبهة. ونصوص القرآن والسنة كثيرة، دالة على بطلان هذه الفرية العظيمة، قال تعالى: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [سورة الفاتحة آية: 4] أي: يوم الجزاء والحساب؛ وتخصيصه الملك بذلك اليوم لا ينفيه عما عداه، لأنه تقدم أول السورة أنه رب العالمين، والرب هو المالك المتصرف، وذلك عام في الدنيا والآخرة. وإنما أضيف إلى يوم الدين، لأنه لا يدعي أحد هناك شيئا، ولا يتكلم أحد إلا بإذنه، كما قال تعالى: {يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [سورة هود آية: 105] ، {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفّاً لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَاباً} [سورة النبأ آية: الجزء: 12 ¦ الصفحة: 164 38] . قال ابن عباس رضي الله عنهما: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [سورة الفاتحة آية: 4] يقول: لا يملك أحد معه في ذلك اليوم حكما، كملكهم في الدنيا". وقال تعالى: {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ} [سورة الفرقان آية: 26] وقال: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [سورة غافر آية: 16] ، وقال: {وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ} [سورة الأنعام آية: 73] ، وقال: {يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [سورة الانفطار آية: 19] . وقال: {وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ} [سورة هود آية: 123] ، أي: ليس أحد من الخلق أمر معه ذلك اليوم، مع أن الأمر كله له سبحانه، في الدنيا والآخرة، كما قال {قل إن الأمر كله لله} : [سورة آل عمران آية: 154] ؛ واختصاصه سبحانه بالتفرد بالأمر في ذلك اليوم، قال المفسرون، معناه: أنه لا يملك أحد في ذلك اليوم شيئا، كما ملكهم في الدنيا. وقال تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً} [سورة البقرة آية: 48] وقال: {يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلىً عَنْ مَوْلىً شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ} [سورة الدخان آية: 41-42] وهذا المفتري يزعم أن الله سبحانه جعل لنبيه محمدا التصرف في ذلك اليوم، فيكون شريكا له في الأمر، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا ; وقال النبي صلى الله عليه وسلم لأقرب الناس إليه عمه العباس، وعمته صفية وابنته فاطمة: " أنقذوا أنفسكم من النار، فإني لا أغني عنكم من الله شيئا " 1، وقال صلى الله عليه وسلم: " لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله. قالوا ولا أنت يا رسول   1 البخاري: الوصايا 2753 وتفسير القرآن 4771 , ومسلم: الإيمان 204 ,206 , والترمذي: تفسير القرآن 3185 , والنسائي: الوصايا 3644 ,3646 ,3647 , وأحمد 2/333 , والدارمي: الرقاق 2732. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 165 الله؟ قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمته " 1؛ والأحاديث في هذا المعنى كثيرة. وقول المعترص: ورد في الحديث: "لولا حبيبي محمد، ما خلقت سمائي ولا أرضي، ولا جنتي ولا ناري"، فيقال أولا: هذا حديث باطل؛ هؤلاء الذين صنفوا في معجزاته وفضائله صلى الله عليه وسلم، كصاحب الشفاء وغيره، أين ذهب عنهم هذا الحديث، فلم يذكروه؟ مع أنه لا حجة فيه للمبطل. ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم هو خليل الله وحبيبه، وأقرب الناس إليه وسيلة، وأعظمهم عنده منْزلة، صلوات الله وسلامه عليه، دائما إلى يوم الدين ; وقد قال الله تعالى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} [سورة آل عمران آية: 128] والله سبحانه قد بين في كتابة الحكمة من خلق السماوات والأرض وما بينهما، فقال: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً} [سورة الطلاق آية: 12] ، فأخبر سبحانه أنه إنما خلق السماوات والأرض، وما احتويا عليه من آياتة وعجائب مصنوعاته، ليستدل بذلك على كمال قدرته وسعة علمه. وقال: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [سورة هود آية: 7] ، فنبه على الحكمة في ذلك، وهو: أنه ليبلو عباده أيهم أحسن عملا، وقال: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [سورة الذاريات آية:   1 البخاري: الرقاق 6463 , ومسلم: صفة القيامة والجنة والنار 2816 , وأحمد 2/235 ,2/256 ,2/264 ,2/319 ,2/326 ,2/343 ,2/385 ,2/390 ,2/451 ,2/466 ,2/469 ,2/473 ,2/482 ,2/488 ,2/495 ,2/503 ,2/509 ,2/514 ,2/519 ,2/524 ,2/537. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 166 56] ، فأخبر سبحانه بالحكمة في خلقه الجن والإنس، وهي: أنه إنما خلقهم ليعبدوه وحده. وقال: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} [سورة النجم آية: 31] ، فأعلمنا سبحانه أنه إنما خلق هذه المخلوقات للحكم التي ذكرها، لا لأجل أحد من خلقه. وقد ذكرت في الجواب على الأبيات، بعض كلام النسفي في تفسيره، على قوله سبحانه: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} الآية [سورة الأعراف آية: 188] ، قال: هو إظهار للعبودية، وبراءة مما يختص بالربوبية من علم الغيب، أي: أنا عبد ضعيف لا أملك لنفسي اجتلاب نفع، ولا دفع ضر، كالمملوك إلا ما شاء الله مالكي، من النفع لي، ودفع الضر عني، {وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ} [سورة الأعراف آية: 188] أي: لكانت حالي على خلاف ما هي عليه من استكثار الخير، واجتناب السوء والمضار، حتى لا يمسني شيء منها، ولم أكن غالبا مرة، ومغلوبا أخرى في الحروب، انتهى. فاستعظم المعترض لفظ: أنا عبد ضعيف، وقال: ما هذه الجراءة والتنقص لجناب حبيب الملك الوهاب! فانظر إلى "الشفاء" تجده حكى كفر من قال مثل هذه الكلمة، انتهى. أقول: ما الذي منع هذا الأحمق، من نقل ما في الشفاء لأصحابه، ليتحفهم به وليحتجوا به، وهو أتحفهم وأضلهم الجزء: 12 ¦ الصفحة: 167 بالكذب الصريح، ونذكر - إن شاء الله- بعض ما ذكره صاحب الشفاء، من المبالغة في سد الذرائع إلى الغلو في النبي صلى الله عليه وسلم. ونحن نشهد الله، وملائكته وجميع خلقه أننا نعتقد أن جميع أهل السماوات والأرض عبيد له مربوبون، فقراء إليه ضعفاء لديه، لا يملكون لأنفسهم ولا لغيرهم نفعا ولا ضرا، ولا يملكون موتا ولا حياة ولا نشورا، وأنه لا غناء لأحد منهم عنه طرفة عين، قال تعالى: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً} [سورة مريم آية: 93] ، وقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [سورة فاطر آية: 15] . وقال سيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم في الدعاء المشهور: " اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس. أنت ربي ورب المستضعفين. إلى من تكلني "، ومن دعائه صلى الله عليه وسلم: " وأشهد أنك إن تكلني إلى نفسي، تكلني إلى ضيعة وعورة، وذنب وخطيئة؛ وإني لا أثق إلا برحمتك " 1. ومن دعائه: " اللهم أنت عضدي ونصيري، بك أحول وبك أصول، وبك أقاتل " 2. وفي الدعاء المأثور في عرفة: " أنا البائس الفقير المستغيث المستجير "، والبائس الذي اشتد به البؤس، وهو شدة الفقر ; وأظن في هذا الجاهل أنه لو يقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم غني عن ربه، لم يستعظم هذا القول. وذكرنا في الجواب الحديث المشهور الذي فيه: " علماؤهم شر من تحت أديم السماء، منهم خرجت الفتنة، وفيهم تعود "   1 أحمد 5/191. 2 الترمذي: الدعوات 3584 , وأبو داود: الجهاد 2632. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 168 قال المعترض: هل ورد هذا الحديث، في أهل العراق؟ فهم كفار مجوس على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، أو فيما يأتي؟ فهذا شناعة على عامة العلماء، ومنهم الإمام أحمد وأبو حنيفة ; وإن كان ورد في حق أهل الحرمين، فهذا ظاهر البطلان، إذ هي مهبط الوحي، ومنبع الإيمان. فانظر إلى هذه الوقاحة، هل قلنا إن هذا الحديث خاص ببلد معين؟! وإنما مقتضى الحديث: الإخبار بما يحدث في الأمة، من تغير الدين، وأن سبب ذلك علماء السوء، ولا يختص هذا ببلد معين؛ فمن اتصف بصفة علماء السوء الذين يلبسون الحق بالباطل، ويفترون على الله الكذب، تناوله الذم، في أي زمان ومكان. والله سبحانه لم يأمر عباده عند الاختلاف، بالرد إلى أهل بلد، ولا إلى ما عليه أكثر الناس، ولا إلى شخص غير الرسول، قال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [سورة النساء آية: 59] ، وشيء نكرة في سياق الشرط، فيعم كل شيء حصل فيه النِّزاع، من أصول الدين وفروعه؛ ثم قال: {إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [سورة النساء آية: 59] ، وهذا خطاب لجميع الناس، إلى آخر الزمان; وأجمع العلماء على أن الرد إلى الله، هو الرد إلى كتابه، والرد إلى الرسول، الرد إليه في حياته، والرد إلى سنته بعد مماته. قال ابن كثير رحمه الله، في الآية: هذا أمر من الله تعالى، الجزء: 12 ¦ الصفحة: 169 بأن كل شيء تنازع فيه المسلمون من أصول الدين وفروعه، أن يرد المتنازع فيه من ذلك، إلى الكتاب والسنة، كما قال تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [سورة الشورى آية: 10] ، فما حكم به كتاب الله وسنة نبيه، وشهدا له بالصحة فهو الحق، {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ} [سورة يونس آية: 32] . ولهذا قال: {إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [سورة النساء آية: 59] ، فدل على أن من لم يتحاكم في محل النّزاع إلى الكتاب والسنة، ولا يرجع إليهما في ذلك، فليس بمؤمن بالله واليوم الآخر ; وقوله: {ذَلِكَ خَيْرٌ} [سورة النساء آية: 59] أي: التحاكم إلى كتاب الله وسنة نبيه، والرجوع في فصل القضاء إليهما، {وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [سورة النساء آية: 59] أي: وأحسن عاقبة ومآلا، انتهى. ومن المحال أن يأمر الله سبحانه بالتحاكم إلى ما لا يفصل النِّزاع. ويحكى عن بعض الضلال، أنه يقول: نحن مقلدون، ولسنا داخلين تحت حكم هذه الآية ونحوها فيقال له: يلزمك هذا في جميع خطاب القرآن، كقوله: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [سورة الأنفال آية: 1] ، {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} [سورة الأعراف آية: 3] ، {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ} [سورة الأنعام آية: 155] ، وغير ذلك من خطاب القرآن بالأوامر والنواهي ; فمن زعم أنه ليس داخلا في ذلك ولا معنيا به، فلا شك في كفره. ومن أعظم مكائد الشيطان لكثير من الناس، خصوصا من ينتسب إلى علم: أن حال بينهم وبين تدبر القرآن وتفهمه، الجزء: 12 ¦ الصفحة: 170 خصوصا فيما تضمنه من أدلة التوحيد، وسائر أصول الدين التي لا يجوز التقليد فيها عند عامة العلماء ; فإذا علم أنه لا يجوز التقليد فيها، تعين معرفة أدلتها من الكتاب والسنة. والله سبحانه قد بين ذلك غاية البيان، والنبي صلى الله عليه وسلم بين للناس ما نزل إليهم من ربهم ; قال الله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [سورة النحل آية: 44] ، ثم الصحابة والتابعون لهم بإحسان، وأئمة الهدى بعدهم، تكلموا في ذلك بما يكفي ويشفي. قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ} [سورة آل عمران آية: 7] ، قال ابن كثير رحمه الله: يخبر سبحانه أن في القرآن آيات محكمات ; أي: بينات واضحات الدلالة، لا التباس فيها على أحد، ومنه آيات أخرى فيها اشتباه في الدلالة، على كثير من الناس، أو بعضهم، فمن رد ما اشتبه إلى الواضح منه، وحكّم محكمه على متشابهه عنده، فقد اهتدى، ومن عكس انعكس، انتهى. وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "المحكمات، قوله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} الآيات [سورة الأنعام آية: 151] . وقوله: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [سورة الإسراء آية: 23] ، وآيات بعدها"، يعني: أن هذه الآيات ونحوها من المحكم ; وقال ابن عباس أيضا: "التفسير على أربعة أنحاء: تفسير لا يعذر أحد بجهالته، وتفسير يعلمه العلماء، الجزء: 12 ¦ الصفحة: 171 وتفسير تعرفه العرب من لغاتها، وتفسير لا يعلمه إلا الله". ومن أعظم ما فتن به الشيطان في هذه الأزمنة المتأخرة أكثر العامة، بل كثيرا من ينتسب إلى علم الاغترار بالأكثر، فيقول أحدهم: هذه الأمور التي تنكرونها مما يفعل عند القبور، من دعاء أصحابها، وسؤالهم قضاء الحاجات، وتفريج الكربات والنذر، والذبائح لهم، منتشر مشتهر في أمصار المسلمين، وكذلك القصائد المتضمنة للاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم كما في البردة، ونظم الصرصري وغيرهما، متداول مستعمل لا ينكرونه، وهذا كلام فلان في قصيدته، وشرحها فلان وفلان، وتداولها العلماء ; وهذه هي الشبهة العظيمة التي قامت بقلوبهم، فلا يصغون إلا إليها، ولا يعولون إلا عليها، كأنهم لم يسمعوا بنبي مرسل ولا بكتاب منْزل. فيقال أولا: هؤلاء أصحاب موسى الكليم الذين صحبوه، فضلهم الله على عالمي زمانهم، وآتاهم الكتاب والحكمة، قد سألوا موسى أن يجعل لهم إلها، قال سبحانه: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرائيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [سورة الأعراف آية: 138] . وكذلك الذين قالوا لنبينا - من أصحابه - اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، فقال صلى الله عليه وسلم "الله أكبر! إنها السنن، قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً الجزء: 12 ¦ الصفحة: 172 كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [سورة الأعراف آية: 138] ، لتركبن سنن من كان قبلكم" 1. فهؤلاء خفي عليهم أن الذي طلبوه بقولهم: اجعل لنا ذات أنواط، أنه من التأله لغير الله، ومن الشرك الذي حرمه الله ; وكذلك قول بني إسرائيل {اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً} [سورة الأعراف آية: 138] ، خفي عليهم قبح ما طلبوه، وأنه من الشرك الذي ينهى عنه موسى عليه السلام ; فإذا كان قد خفي على المذكورين، فلا يستبعد خفاؤه على من دونهم. ويقال أيضا لمن يحتج بأكثر الناس، وأن الحق ما هم عليه خاصة: إذا كان المحتج ممن ينتسب إلى مذهب الإمام أحمد ; والحنابلة أكثر الناس في هذه الأزمان، مخالفون لما عليه الإمام أحمد وأصحابه، في كثير من صفات الرب سبحانه، منها: صفة علو الرب سبحانه فوق سماواته، واستوائه على عرشه، فأكثر الناس اليوم لا يثبتون هذه الصفة، ويبدعون من أثبتها ويضللونهم، وبعضهم يكفرهم، ويخصون الحنابلة بذلك، لأن مذهب الإمام أحمد وأصحابه: إثبات صفة علو الرب، واستوائه على عرشه حقيقة، من غير تكييف ولا تمثيل، وعلى ذلك سائر أئمة الإسلام، وكلامهم معروف في تضليل من لم يثبت هذه الصفة، وأكثرهم صرح بكفرهم. ومن ذلك: مسألة كلام الرب سبحانه، أكثر الناس اليوم يقولون: كلامه سبحانه هو المعنى النفسي، وأن حروف القرآن   1 الترمذي: الفتن 2180 , وأحمد 5/218. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 173 مخلوقة; ومذهب أحمد وأصحابه وسائر الأئمة: أن القرآن كلام الله حروفه ومعانيه، وليس شيء منه مخلوقا، ويضللون من قال بخلق الحروف؛ وخلاف الحنابلة مع هؤلاء معروف، ذكرنا هاتين المسألتين على سبيل المثال، وإلا فكثير الناس اليوم على خلاف ما عليه السلف في أكثر الصفات. وكذلك في الإيمان، فجمهور الناس في هذه الأزمان، يقولون: الإيمان هو التصديق، ويقولون: الأعمال ليست من الإيمان، وإن سميت إيمانا في بعض الأحاديث، فعلى سبيل المجاز ; ومذهب أهل السنة: أن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص ; وكثير من السلف كفروا من قال: إن الإيمان هو التصديق فقط. إذا عرف ذلك، تبين للمحتج بأكثر - إن كان على مذهب الإمام أحمد وأصحابه، وجميع أهل السنة في إثبات الصفات - أن حجته حجة داحضة واهية، وعلم أن أهل الحق هم الأقلون عددا، الأعظمون عند الله قدرا، وقد روى ابن وضاح، عن علي ابن أبي طالب رضي الله عنه قال: "تعلموا العلم تعرفوا به، واعملوا به تكونوا من أهله؛ فإنه سيأتي من بعدكم زمان ينكر فيه تسعة أعشارهم". ويشهد لذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: " تفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة" 1، وقال: " بدأ الإسلام غريبا، وسيعود غريبا كما بدأ، فطوبى للغرباء " 2.   1 أبو داود: السنة 4597 , وأحمد 4/102 , والدارمي: السير 2518. 2 مسلم: الإيمان 145 , وابن ماجه: الفتن 3986 , وأحمد 2/389. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 174 وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه لعمرو بن ميمون: "أتدري ما الجماعة؟ قلت: لا ; قال: إن جمهور الجماعة الذين فارقوا الجماعة ; الجماعة ما وافق الحق وإن كنت وحدك ; وفي طريق أخرى: إن جمهور الناس فارقوا الجماعة، وإن الجماعة ما وافق طاعة الله عز وجل". والله سبحانه علم ما يحدث في الأمة من الاختلاف والتنازع، وأوجب عليهم عند التنازع، الرد إلى كتابه وسنة نبيه، فقال: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [سورة النساء آية: 59] ، والنبي صلى الله عليه وسلم أمر الأمة عند الاختلاف، بالرد إلى سنته، وسنة الخلفاء الراشدين من بعده، فقال: " إنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا؛ فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهدين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ " 1. وقول بعض الناس: لو كان ما تقولون حقا، لكان غيركم أولى به منكم، يشابه قول الكفار: {لَوْ كَانَ خَيْراً مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ} [سورة الأحقاف آية: 11] ، {أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا} [سورة الأنعام آية: 53] فقال الله تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} [سورة الأنعام آية: 53] ، وقال سبحانه: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} [سورة القصص آية: 68] ، وقال: {وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ} [سورة البقرة آية: 105] . والميزان العدل هو: الكتاب والسنة، وعليه تعرض أقوال   1 أبو داود: السنة 4607 , والدارمي: المقدمة 95. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 175 الناس وأعمالهم، فما شهد له بالصحة فهو الحق، وماذا بعد الحق إلا الضلال. ونحن نتحقق: أن في أمصار المسلمين كثيرا ينكرون هذه الأمور الشركية، كما قد سمعنا من بعض من لقينا، وبلغنا عن بعض من لم نلق، لكن صارت الغلبة لضدهم، فإنا لله وإنا إليه راجعون. وأما قول المعترض: لو أن عبارات العلماء، مثل البيضاوي والقسطلاني وغيرهما، تجدي لديكم شيئا لذكرناها، ولكنها تمحى بلفظة واحدة، وهي أنهم كفار، انتهى. فهلا ذكر لأصحابه من كلام من ذكر، وغيرهم ما ينشطهم؟ وهو قد غرهم بما افتراه من الكذب على الله، وعلى رسوله، وعلى علماء الأمة؛ فما الذي يمنعه من ذكر الصدق لهم، ليزدادوا يقينا في باطلهم؟! وأما افتراؤه علينا أننا نكفر علماء المسلمين فهو قد افترى على الله الكذب، وعلى رسوله، وقد قال الله تعالى: {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ} [سورة النحل آية: 105] . ونحن ندعوا للمسلمين عموما ولعلمائهم خصوصا، فنقول: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [سورة الحشر آية: 10] ، ومع ذلك نقول كما أوصونا به: كل يؤخذ من قوله ويترك، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولهم زلات ; وفي الحديث المشهور: " اتقوا زلة العالم ". الجزء: 12 ¦ الصفحة: 176 فإذا تبين لنا زلة من أحد منهم، لم نتابعه عليها وندعوا له ; وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما: "أخشى أن تنزل عليكم حجارة من السماء، أقول: قال الله ورسوله، وتقولون: قال أبو بكر وعمر". وقال أحمد بن حنبل رحمه الله: عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته، يذهبون إلى رأي سفيان، والله تعالى يقول: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [سورة النور آية: 63] ، أتدري ما الفتنة؟ الفتنة: الشرك؛ لعله إذا رد بعض قوله أن يقع ما قلبه شيء من الزيغ فيهلك، انتهى. وليعلم أننا لا نجترئ على تكفير من وجدنا في كلامه ألفاظا شركية، كصاحب البردة وأمثاله ; وهذه زلات عظيمة ربما لو نبهوا عليها لتنبهوا، ولا نسب الأموات وقد أفضوا إلى ما قدموا ; ونسأل الله أن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، وأن يهب لنا من لدنه رحمة إنه هو الوهاب. وأنكر المعترض قولنا: إن طلب الدعاء من النبي صلى الله عليه وسلم ممتنع عقلا وشرعا، فقال: ومن أين لكم هذا الامتناع؟ وما دليله من العقل والسماع؟ جوابه: أما امتناعه عقلا: فلأن النبي صلى الله عليه وسلم ميت، قال الله تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [سورة الزمر آية: 30] ، وقال أبو بكر رضي الله عنه: "من كان يعبد محمدا فإن محمدا بشر قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت ; وقال: أما الموتة التي الجزء: 12 ¦ الصفحة: 177 كتبت عليك فقد متّها، ولن يجمع الله عليك موتتين". ومقتضى قول من يقول: إنه صلى الله عليه وسلم حي في قبره، كحياته حين كان على وجه الأرض، أن الله يجمع عليه موتتين، لأنه قد قام الدليل القاطع أنه عند النفخ في الصور، لا يبقى أحد حيا؛ والعقل الصحيح يمنع طلب الدعاء من الميت، ولم يرد حديث صحيح بأنه صلى الله عليه وسلم حي في قبره ; لكن نقطع أن الأنبياء أعلى رتبة من الشهداء؛ وقد أخبر الله عن الشهداء: أنهم أحياء عند ربهم يرزقون ; فالأنبياء أولى بذلك، قال تعالى: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [سورة آل عمران آية: 169] ؛ ومع ذلك فالشهداء داخلون تحت قوله سبحانه: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [سورة آل عمران آية: 185] ؛ وقوله: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [سورة الزمر آية: 30] ، فهذا الموت المثبت غير الموت المنفي. فالموت المثبت هو فراق الروح البدن، والمنفي زوال الحياة بالجملة عن الروح والبدن ; فلو جاء إنسان إلى الشهيد بعد خروج روحه، وهو على وجه الأرض، لا يتحرك ولا ينطق، يطلب منه أن يدعو الله، لأنكر ذلك ذوو الفطرة السليمة، والعقل الصحيح ; فكيف إذا صار في بطن الأرض؟ فهو في تلك الحالتين، حي حياة الله أعلم بحقيقتها، مع القطع بأنها ليست كحياته لما كان على وجه الأرض قبل القتل. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 178 وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أن أرواح الشهداء في أجواف طير خضر، تأوي إلى قناديل معلقة بالعرش، تسرح حيث شاءت من الجنة، وهم مع ذلك أحياء ; وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة، حتى يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثه. وفي سنن أبي داود عنه صلى الله عليه وسلم: " ما من مسلم يسلم علي، إلا رد الله علي روحي، حتى أرد عليه السلام "1، فهذا يدل على أن روحه صلى الله عليه وسلم ليست في جسده دائما ; بل هي في أعلى عليين، ولها اتصال بجسده أحيانا، الله أعلم بحقيقته. وليس ذلك الرد - أعني: رد الروح - خاصا به صلى الله عليه وسلم؛ بل ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ما من مسلم يمر بقبر أخيه، كان يعرفه في الدنيا، فسلم عليه، إلا رد الله عليه روحه، حتى يرد عليه السلام " هذا وروحه في الجنة، كما تقدم في الحديث ; فأرواح الشهداء، بل وعامة المؤمنين في الجنة، ولها اتصال بأجسادهم في بعض الأحيان، لا يعلم صفته إلا الله؛ وأمر البرزخ وأحكامه على خلاف ما يشاهد في الدنيا. وأما امتناع طلب الدعاء منه بعد موته شرعا؛ فلأن الصحابة رضي الله عنهم، وهم أعلم بالله وبرسوله ممن بعدهم، لا يأتون إلى قبره صلى الله عليه وسلم يطلبون منه أن يدعو لهم، ويستسقي لهم، ويستنصر لهم، لعلمهم أن هذا ممتنع بعد موته ; ولم يأت أحد منهم يستفتيه في قبره، في مسائل كثيرة أشكلت عليهم. قال عمر رضي الله عنه:"ثلاث وددت أني سألت رسول الله   1 أبو داود: المناسك 2041 , وأحمد 2/527. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 179 صلى الله عليه وسلم عنها"، واستسقى بالعباس ولم يأت إلى قبره صلى الله عليه وسلم ليستسقي لهم ; وكان الناس يجيئون إلى أم المؤمنين عائشة يستفتونها عند قبره صلى الله عليه وسلم، وهو مع ذلك يسمعهم، ويجيبهم لو سألوه على مقتضى زعم الغلاة، هذا من المحال ; بل نهوا عن تحري دعاء الله عند قبره صلى الله عليه وسلم. ولما رأى علي بن الحسين رحمه الله رجلا، كان يجيء إلى فرجة، كانت عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم فيدخل فيها فيدعو، فنهاه، وقال: "ألا أحدثكم حديثا سمعته من أبي عن جدي، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: لا تتخذوا قبري 1 عيدا، ولا بيوتكم قبورا، فإن تسليمكم يبلغني أينما كنتم " فرأي علي بن الحسين رحمه الله: أن ذلك من اتخاذه عيدا. وروى سهل بن أبي سهيل، قال: "رآني الحسن بن الحسين ابن علي بن أبي طالب رضي الله عنه عند القبر، فناداني، وهو في بيت فاطمة يتعشى فقال: هلم إلى العشاء ; فقلت: لا أريده ; فقال: ما لي رأيتك عند القبر؟ فقلت: سلمت على النبي صلى الله عليه وسلم. فقال: إذا دخلت المسجد فسلم ; ثم قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا تتخذوا قبري عيدا، ولا تتخذوا بيوتكم قبورا. لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد. وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث ما كنتم، ما أنتم ومن بالأندلس إلا سواء " 2") .   1 وفي رواية "بيتي" أنظر الرد على الأخنائي. 2 أبو داود: المناسك 2042 , وأحمد 2/367. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 180 قال شيخ الإسلام، رحمه الله: فهذا علي بن الحسين، أفضل أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم من التابعين، نهى ذلك الرجل أن يتحرى الدعاء عند قبره صلى الله عليه وسلم، واستدل بالحديث الذي سمعه من أبيه الحسين، عن جده علي، وهو أعلم بمعناه من غيره ; فبين: أن قصده للدعاء ونحوه، اتخاذ له عيدا، وكذلك ابن عمه الحسن بن الحسن، شيخ أهل بيته، كره أن يقصد الرجل القبر للسلام عليه ونحوه، عند غير دخول المسجد، ورأى أن ذلك من اتخاذه عيدا. فانظر هذه السنة، كيف مخرجها من أهل المدينة، وأهل البيت رضي الله عنهم الذين لهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم قرب النسب، وقرب الدار، لأنهم إلى ذلك أحوج من غيرهم، فكانوا له أضبط. قال رحمه الله: ولقد جرد السلف الصالح التوحيد، وحموا جانبه، حتى كرهوا قصد دعاء الله عند قبره صلى الله عليه وسلم فكيف بدعائه نفسه؟! وكان أحدهم إذا سلم على النبي صلى الله عليه وسلم وأراد أن يدعو الله، استقبل القبلة وجعل ظهره إلى جدار القبر. ونص على ذلك الأئمة الأربعة: أنه يستقبل القبلة إذا سلم على النبي صلى الله عليه وسلم وأراد أن يدعو الله، لأن الدعاء عبادة ; وفي الترمذي وغيره " الدعاء هو العبادة " 1؛ فجرد السلف العبادة لله، ولم يفعلوا عند القبور إلا ما أذن فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم من السلام على أصحابها، والاستغفار لهم، والترحم عليهم.   1 الترمذي: الدعوات 3372 , وأبو داود: الصلاة 1479 , وابن ماجه: الدعاء 3828 , وأحمد 4/267 ,4/271 ,4/276. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 181 وما أحسن ما قال مالك بن أنس رحمه الله: لن يصلح آخر هذه الأمة، إلا ما أصلح أولها ; ولكن كلما ضعف تمسك الأمم بعهود أنبيائهم، ونقص إيمانهم، عوضوا عن ذلك بما أحدثوا من البدع والشرك. وقال شيخ الإسلام: ودعاء الميت من الشرك، سواء طلب منه أن يفعل، أو طلب منه أن يسأل الله ; وذكر القاضي عياض في "الشفاء" عن مالك رحمه الله، أنه كره أن يقال: زرنا قبر النبي صلى الله عليه وسلم: قال القاضي، والأولى عندي أن منعه وكراهة مالك له، لإضافته إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم لقوله صلى الله عليه وسلم: " اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد. اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " 1، فحمى إضافة هذا اللفظ إلى القبر، والتشبه بفعل أولئك، قطعا للذريعة وسدا للباب. وفي المبسوط عن مالك: لا أرى أن يقف عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم يدعو، ولكن يسلم ويمضي ; وقال: لا بأس لمن قدم من سفر، أو خرج إلى سفر أن يقف على قبر النبي صلى الله عليه وسلم فيصلي عليه، ويدعو له، ولأبي بكر وعمر. فقيل له: إن ناسا من أهل المدينة لا يقدمون من سفر، ولا يريدونه، يفعلون ذلك في اليوم مرة أو أكثر، وربما وقفوا في الجمعة، أو في الأيام المرة والمرتين، أو أكثر عند القبر، فيسلمون ويدعون ساعة. فقال: لم يبلغني هذا عن أحد من أهل الفقه ببلدنا، وتركه   1 أحمد 2/246. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 182 واسع، ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها، ولم يبلغنى عن أول هذه الأمة وصدرها، أنهم كانوا يفعلون ذلك، ويكره إلا لمن جاء من سفر، أو أراده، انتهى. فانظر إلى ما ذكر عن علي بن الحسين، وما روي عن الحسن بن الحسن مما قدمناه، وإلى قول الإمام مالك: يكره إلا لمن جاء من سفر، أو أراده ; هل هذا تنقص منهم له صلى الله عليه وسلم؟ أو سد للذريعة عن الغلو الذي نهى عنه صلى الله عليه وسلم؟ وفي أثناء كلام شيخ الإسلام رحمه الله، قال: وكل ما سوى الله يتلاشى عند ذكر توحيده، والنبي صلى الله عليه وسلم أعظم الناس تقريرا لما يقال على هذا الوجه، وإن كان هو المسلوب، كما قالت عائشة رضي الله عنها - لما أخبرها ببراءتها - "والله لا أقوم إليه ولا أحمده، ولا أحمد إلا الله"; وفي لفظ "بحمد الله لا بحمدك" ; فأقرها النبي صلى الله عليه وسلم وأبوها على ذلك ; لأن الله أنزل براءتها بغير فعل أحد. قال حبان، قلت لابن المبارك: إني لأستعظم هذا القول ; قال: ولت الحمد أهله ; وفي الحديث الذي رواه أحمد: اللهم إني أتوب إليك ولا أتوب إلى محمد ; قال: "عرف الحق لأهله" 1، وكان يعلم أصحابه تجريد التوحيد، فقال: " لا تقولوا: ما شاء الله وشاء محمد، ولكن قولوا: ما شاء الله، ثم شاء محم د" 2 وقال له رجل: ما شاء الله وشئت ; فقال: " أجعلتني لله ندا؟ بل ما شاء الله وحده " 3.   1 أحمد 3/435. 2 ابن ماجه: الكفارات 2118 , وأحمد 5/72 , والدارمي: الاستئذان 2699. 3 أحمد 1/224. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 183 وقال: "لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله " 1، وقال: " يا أيها الناس ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله" 2 وقال: " لا تتخذوا قبري عيدا " 3، وقال: " اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد " 4. وقد قال سبحانه: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} [سورة آل عمران آية: 128] ، وقال: {قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ} [سورة آل عمران آية: 154] ، وقال: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} [سورة الجن آية: 21-22] ، وقال: {قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً} [سورة الجن آية: 21-22] ، أي: لن أجد من دونه من ألتجئ إليه وأعتمد عليه. وقال لابنته فاطمة، وعمه العباس، وعمته صفية: "لا أملك لكم من الله شيئا " 5 وفي لفظ " لا أغني عنكم من الله شيئا" 6، فعظم ذلك على المشركين بشيوخهم وآلهتهم، وأبوا ذلك كله، وادعوا لشيوخهم ومعبوديهم خلاف هذا كله. وزعموا أن من سلبهم ذلك، فقد هضم مراتبهم، وتنقصهم ; وهم قد هضموا جناب الإلهية غاية الهضم، وتنقصوه، فلهم نصيب من قوله: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [سورة الزمر آية: 45] . ونسأل الله أن يهدينا وإخواننا صراطه المستقيم، صراط الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين   1 البخاري: أحاديث الأنبياء 3445 , وأحمد 1/23 ,1/24 ,1/47 ,1/55. 2 أحمد 3/153. 3 أبو داود: المناسك 2042 , وأحمد 2/367. 4 أحمد 2/246. 5 البخاري: الوصايا 2753 والمناقب 3527 وتفسير القرآن 4771 , ومسلم: الإيمان 204 , والترمذي: تفسير القرآن 3185 , والنسائي: الوصايا 3644 ,3646 ,3647 , وأحمد 2/350 ,2/360 ,2/398 ,2/448 ,2/519 , والدارمي: الرقاق 2732. 6 البخاري: الوصايا 2753 والمناقب 3527 وتفسير القرآن 4771 , ومسلم: الإيمان 206 , والترمذي: تفسير القرآن 3185 , والنسائي: الوصايا 3644 ,3646 ,3647 , وأحمد 2/360 ,2/398 ,2/448 ,2/519 , والدارمي: الرقاق 2732. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 184 والشهداء والصالحين وحسن أولئك وفيقا، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. [رسالة الشيخ عبد اللطيف في الرد على أوراق أرسلها الملا داود] قال الشيخ عبد اللطيف بن الشيخ عبد الرحمن بن حسن، قدس الله روحه، ونور ضريحه: بسم الله الرحمن الر حيم الحمد لله الذي يقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق، أرسل الرسل وأنزل الكتب، لتأصيل الأصول وتحقيق الحقائق، فقامت حجة الله على المكلفين من الخلائق، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة مخلص لله صادق، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، المبعوث بأحسن الملل والطرائق، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، الذين قاموا بجهاد كل كافر ومنافق. أما بعد: فقد وقفت على أوراق أرسلها الملا داود بن سليمان الجرجيس، العاني، العراقي، إلى بعض أصحابنا، فرأيت فيها من الصد عن سبيل الله، والدعوة إلى عبادة الأولياء والصالحين، ودعائهم، والحث عل قصدهم في الملمات والشدائد، والإلحاد في آيات الله، وتحريف الكلم عن مواضعه، ما لا يسع السكوت عليه. فإن الله تعالى قد بعث محمدا بالهدى ودين الحق، ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، وأمر يجهاد الكفار والمنافقين الجزء: 12 ¦ الصفحة: 185 بالحجة والبيان، كما أمر بجهادهم باليد والسنان، قال تعالى: {وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً} [سورة الفرقان آية: 52] ، وقال تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [سورة آل عمران آية: 104] . وقال تعالى: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ} [سورة الحج آية: 78] ، وقال تعالى: {فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ} [سورة هود آية: 116] . قال ابن كثير: يقول تعالى: فهلا وجد من القرون الماضية بقايا من أهل الخير ينهون عما كان يقع بينهم من الشرور والمنكرات، والفساد في الأرض؟ وقوله: {إِلَّا قَلِيلاً} [سورة هود آية: 116] أي: قد وجد منهم من هذا الضرب قليل، وهم الذين أنجاهم الله عند حلول غِيَرِه، وفجأة نقمته ; ولهذا أمر الله تعالى هذه الأمة الشريفة: أن يكون فيها من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر. وقوله: {وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ} [سورة هود آية: 116] أي: استمروا على ما هم فيه من المعاصي والمنكرات، ولم يلتفتوا إلى إنكار أولئك حتى فجأهم العذاب ; وقال أبو السعود: {أُولُو بَقِيَّةٍ} [سورة هود آية: 116] من الرأي والعقل، أولوا فضل وخير، وسميا بها، لأن الرجل إنما يستبقي مما يخرجه عادة أجوده وأفضله، ومن قولهم: في الزوايا خبايا، وفي الرجال بقايا، انتهى. وقد ينتفع بهذا من أراد الله هدايته، واستعماله فيما يرضيه، الجزء: 12 ¦ الصفحة: 186 من توحيده وطاعته، ولو سبق منه رده والصد عنه ; قال الله تعالى: {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً} [سورة الممتحنة آية:7] الآية. وما أحسن ما قيل: أبن وجه نور الحق في صدر سامع ... ودعه فنور الحق يسري ويشرق سيؤنسه يوما وينسى نفاره ... كما نسي التوثيق من هو مطلق فصل [في قول العراقي: إني وجدي ووالدي بيت علم والرد عليه] فصل قال العراقي في رسالته: اعلم: أني وجدي ووالدي بيت علم، وعقيدتنا عقيدة السلف؛ وليس الآن في بغداد من هو على مذهب الإمام أحمد غيري، وأنا تابع لأقوال الشيخين ابن تيمية وابن القيم. والجواب أن يقال: مذهبك وعقيدتك وما أنت عليه قد اشتهر، وعرف من رسائلك، وسمع منك شفاها، ونقله العدول، ولم يزل يتواتر من وقت قدومك الجبل والقصيم، واجتماعك بالشيخ عبد الله أبا بطين؛ وما وقع بينكما من المناظرة في مسمى العبادة، وغيرها، كل ذلك وصل إلينا، وتواتر لدينا، واستفاض استفاضة تورث علما ضروريا: أنك داعية إلى دعاء الصالحين والأولياء، وندائهم بالحوائج، والاستغاثة بهم في الملمات والشدائد، وأن ذلك لديك مستحب وارد، وأن من كفّر من يعبد الصالحين فهو مخطئ ضال، وأنه لا يكفر ولا يشرك إلا من دعاهم استقلالا، وزعم أنهم الفاعلون المدبرون؛ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 187 وأما على وجه الجاه والشفاعة، فذلك عندك ليس بشرك ولا كفر. كل هذا ثبت لدينا قبل هذه الرسالة الأخيرة، فلما وقفنا على ما فيها، وتأملنا خافيها وباديها، إذا هي على المذهب الذي حكينا، والطريقة التي عرفنا وروينا؛ بل فيها من الزيادة في الكذب على الله، وكتابه، والكذب على أهل العلم في نقل مذاهبهم، وتحريف كلامهم، ما لا يصدر عمن تصور الإسلام وعرفه، وآمن بالله واليوم الآخر؛ بل لا يصدر عمن له عقل يحسن أن يعيش به. فنعوذ بالله من الجهالة والعمى، والضلال عن سبيل الإيمان والهدى ; ونسبة هذا إلى الإمام أحمد وإلى الشيخين، كنسبة اليهودية والنصرانية إلى إبراهيم، أو إلى محمد صلى الله عليه وسلم، وخواص أصحابه وأهل ملته. نزلوا بمكة في قبائل هاشم ونزلت بالبيداء أبعد منْزل والمؤمن يعرف هذا بمجرد إيمانه، ولا يختص بمعرفته أولوا العلم. وأما تبرئتك نفسك من الحلف بغير الله، فمسألة الحلف لو سلمت لك البراءة منها، دون ما أنت عليه بكثير؛ فإن من استحب دعاء غير الله، وألحد في آياته، وصد عن سبيله، أعظم إثما، وأكبر جرما ممن يحلف بغيره. وأما ما زعم العراقي من أنه يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فالمعروف في عرفه هو دعاء الصالحين، ونداؤهم بالحوائج، وهذا عند الله ورسوله، وعند أولي العلم من خلقه، أكبر الكبائر على الإطلاق، كما في حديث ابن مسعود قال: " قلت يا رسول الجزء: 12 ¦ الصفحة: 188 الله، أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله ندا وهو خلقك " 1. وهذا العراقي صرح بأنه يجوز نداؤهم، أعني: نداء الأنبياء والصالحين، بل والجمادات، كما هو مشهور عنه ; لكن يسميه توسلا، خالف المشركين في التسمية، لا في الحقيقة، فيدعو الغير ويرجوه في كل مطلوب، على وجه الجاه والتسبب؛ وهذا حقيقة الشرك والتنديد، والمنكر في عرفه هو النهي عن هذا، وعن تكفير أهله. ولهذا صرح في هذه الرسالة بأنه ينصح عن تكفير هذا الضرب من الناس، ويزعم أن لهم نيات صالحة، ومقاصد صحيحة؛ فظهر أنه رأس من دعا إلى المنكر، وسعى في هدم المعروف، ومحو آثاره ; وأي معروف يبقى مع دعاء غير الله؟! وأي منكر يزجر عنه وينهى، لو كانوا يعلمون؟! قال تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} [سورة الكهف آية: 103-104] . وأصل الإسلام وقاعدته: أن لا يعبد إلا الله، وأن لا يعبد إلا بما شرع; وهذا وأمثاله من أجهل الناس بهذا الأصل، وأضلهم عن هذا السبيل ; بل هم من أعظم الناس صدا عنه وردا له، وعيبًا لأهله، والمخلص الداعي إلى توحيد الله، وإخلاص العبادة له، عندهم خارجي مبتدع، كما صرح به في رسالته الأولى، وزعم أن هذا دين الخوارج، وأن من كفر   1 البخاري: تفسير القرآن 4477 ,4761 والأدب 6001 والحدود 6811 والديات 6861 والتوحيد 7520 ,7532 , ومسلم: الإيمان 86 , والترمذي: تفسير القرآن 3182 ,3183 , والنسائي: تحريم الدم 4013 ,4014 ,4015 , وأبو داود: الطلاق 2310 , وأحمد 1/380 ,1/431 ,1/434 ,1/462 ,1/464. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 189 بدعاء غير الله، فهو ممن يكفّر أهل القبلة بالذنوب ; وأكثر هؤلاء لا يقتصرون على نسبة أهل التوحيد إلى الخوارج والمبتدعة، بل يصرحون بتكفيرهم، واستحلال دمائهم وأموالهم، والله المستعان. قال العراقي: ولكنا لا نكفر الناس بهذه الأشياء، لأنا اطلعنا على كتاب الله وسنة رسوله، وكذا وكذا. فيقال: أبعد الخلق عن كتاب الله وسنة رسوله، هم أهل الاعتقادات الباطلة، وأهل الغلو في الأنبياء والأولياء والصالحين؛ وهم أضل خلق الله عما جاءت به الرسل، ونزلت به الكتب، وإن ورثوا الكتاب ودرسوه؛ فإن الوراثة والدراسة والاطلاع نوع، والعلم به والإيمان والعمل، ومعرفة حقائقه ونصوصه نوع آخر. قال تعالى: {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً} [سورة الأنعام آية: 25] الآية، وقال: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً} [سورة الجمعة آية: 5] الآية. وفي الحديث الذي في وصف الخوارج "يقرؤون القرآن، لا يجاوز حناجرهم؛ هم شر قتلى تحت أديم السماء"، فالعلم والكتاب إذا لم يخلص إلى القلوب، فهو حجة على ابن آدم. ويقال: كتاب الله وسنة رسوله، وأقوال أهل العلم، صريحة متوافرة متظاهرة، على تكفير من دعا غير الله، وناداه بما لا يقدر عليه إلا الله، قال تعالى: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا الجزء: 12 ¦ الصفحة: 190 لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ} [سورة يونس آية: 106] ، وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً} [سورة الإسراء آية: 56] الآية. والقرآن كله دال على هذا المعنى، مقرر له، وإن اختلفت الطرق والأوجه في بيانه والتنبيه عليه؛ فكيف ينسب جواز دعاء غير الله، وعدم تكفير فاعله إلى القرآن، أو إلى السنة؟! وهل يقول هذا من يعرف ما جاءت به الرسل، ويتصوره، فضلا عمن يؤمن به؟! والمشركون الأولون يعترفون للرسل وأتباعهم أنهم دعاة إلى التوحيد، وإخلاص العبادة والدعاء لله، وإنما نازعوا في تصديقهم وقبول ما جاؤوا به. وهذا الذي يزعم أنه اطلع على كتاب الله، لم يعرف منه ما عرفه أولئك المشركون ; فالإسلام في هذه الأوقات أغرب منه في أول ظهوره، والدعوة إليه، مع كثرة من يقرأ القرآن، وينسخه ويطبع المصاحف وكتب العلم؛ فسبحان من قلوب العباد بيده، يصرفها بقدرته وحكمته، ويدبرها بعلمه ومشيئته. شعر: ومن العجائب والعجائب جمة ... قرب الدواء وما إليه وصول كالعيس في البيداء يقتلها الظما ... والماء فوق ظهورها محمول وما أحسن ما قال مجاهد، رحمه الله، في قول الله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} [سورة الأنفال آية: 24] قال: حتى يتركه لا يعقل. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 191 وأما قوله: إن الشيخ أحمد بن تيمية، وتلميذه ابن قيم الجوزية، لا يكفران أحدا من أهل القبلة. فيقال: لو عرف هذا، من أهل القبلة في هذا الموضع، ومن المراد بهذه العبارة، لما أوردها هنا محتجا بها، على دعاء غير الله، وعدم تكفير فاعله؟! ومن أعرض عن كلام أهل العلم، ورأى أن من صلى، وقال: لا إله إلا الله، فهو من أهل القبلة، وإن ظهر منه من الشرك والترك لدين الإسلام ما ظهر، فقد نادى على نفسه بالجهالة والضلالة، وكشف عن حاصله من العلم والدين، بهذه المقالة. وقد أنكر الإمام أحمد رحمه الله، قول القائل: لا نكفر أهل الذنوب ; وهذا يزعم أنه على مذهب الإمام أحمد ; ومقصود من قالها: إنما هو البراءة من مذهب الخوارج الذين يكفرون بمجرد الذنوب، وهذا وضع كلامهم في غير موضعه، وأزال بهجته، لأنه تأوله في أهل الشرك ودعاء الصالحين، فالتبس عليه الأمر، ولم يعرف مراد من قال هذا من السلف. وهذا الفهم الفاسد مردود بكتاب الله وسنة رسوله، وبإجماع أهل العلم ; وقد عقد الفقهاء من أرباب المذاهب، بابا مستقلا في هذه المسألة، وذكروا حكم المرتد من أهل القبلة، وقرروا من المكفرات أشياء كثيرة دون ما نحن فيه، وجزموا بأن العصمة بالتزام الإسلام ومبانيه، ودعائمه العظام; لا بمجرد القول والصلاة، مع الإصرار على المنافي ; وهذا يعرفه صغار الجزء: 12 ¦ الصفحة: 192 الطلبة، وهو مذكور في المختصرات من كتب الحنابلة وغيرهم ; فهذا لم يعرف ما عرفه صبيان المدارس والمكاتب، فالدعوى عريضة، والعجز ظاهر. وأعجب من هذا، أنه يقول في رسالته: إني رأيت لمن يدعو الصالحين والأولياء، ويناديهم في حاجاته، أدلة صحيحة، ونيات صالحة، ما تخرج عن التوحيد، لأن المقصود التسبب والوسائل لا الاستقلال ; هذا كلامه؛ ومن بلغت به الجهالة والعماية إلى هذه الغاية، فقد استحكم على قلبه الضلال والفساد، ولم يعرف ما دعت إليه الرسل، وسائر الأمم والعباد. ومن له أدنى نهمة في العلم، والتفات إلى ما جاءت به الرسل، يعرف أن المشركين من كل أمة في كل قرن، ما قصدوا من معبوداتهم وآلهتهم التي عبدوها مع الله، إلا التسبب والتوسل والتشفع، ليس إلا ; ولم يدّعوا الاستقلال والتصرف لأحد من دون الله، ولا قاله أحد منهم سوى فرعون، والذي حاج إبراهيم في ربه. وقد قال تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً} [سورة النمل آية: 14] ؛ فهم في الباطن يعلمون أن ذلك لله وحده، قال تعالى في بيان قصدهم ومرادهم بدعاء غيره: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ} [سورة يونس آية: 18] الآية، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} الجزء: 12 ¦ الصفحة: 193 [سورة الزمر آية: 3] . وقال تعالى: {فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَاناً آلِهَةً} [سورة الأحقاف آية: 28] ، وقال: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ} [سورة الزمر آية: 43] ، وقال: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} [سورة البقرة آية: 165] ، فأخبر تعالى أنهم تعلقوا على آلهتهم، ودعوهم مع الله للشفاعة، والتقريب إلى الله، بالجاه والمنْزلة، وأحبوهم مع الله محبة تأله وتعبد، لنيل أغراضهم الفاسدة، ولم يريدوا منهم تدبيرا ولا تأثيرا، ولا شركة ولا استقلالا. يوضحه قوله تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [سورة يونس آية: 31] إلى قوله: {أَفَلا تَتَّقُونَ} وقوله: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا} [سورة المؤمنون آية: 84] إلى قوله: {فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} [سورة المؤمنون آية: 89] ، وقوله {أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَاراً} [سورة النمل آية: 61] إلى قوله {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [سورة البقرة آية: 111] . فتأمل هذه الآيات، وما فيها من الحجج والبيانات، تطلعك على جهل هذا العراقي وأمثاله، وأنهم ما عرفوا شرك المشركين، وما كانوا عليه من القصد والدين، ولم يعرفوا ما كان عليه أنبياء الله وأتباعهم من توحيد رب العالمين. وتأمل كيف استدل سبحانه وتعالى على توحيد إلهيته، ووجوب عبادته وحده لا شريك له، بما أقر به الخصم واعترف به، من توحيد ربوبيته واستقلاله بالملك والخلق، والتأثير الجزء: 12 ¦ الصفحة: 194 والتدبير؛ وهذه عادة القرآن دائما، يعرج على هذه الحجة، لأنها من أكبر الحجج، وأوضحها وأدلها على المقصود ; فسبحان من جعل كلامه في أعلى طبقات البلاغة والفصاحة، والجلالة والفخامة، والدلالة والظهور ; فأي شبهة بعد هذا تبقى للمماحل المغرور؟! واعلم: أن دعاء الأموات والغائبين ليس بسبب لما يقصده المشرك ويريده ; بل هو سبب لنقيض قصده وحرمانه، وهلاكه في الدنيا والآخرة ; قال تعالى: {يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُ وَمَا لا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ} [سورة الحج آية: 12-13] لأنه في الحقيقة إنما عبد الشيطان، ودعاه وأطاعه فيما يأمر به، ولذلك تتبرأ الملائكة والصالحون ممن دعاهم، وصرف لهم شيئا من العبادة. وأيضا: فليس كل سبب يباح ; بل من الأسباب ما هو محرم، وما هو كفر، كالسحر والتكهن ; والغبي يظن أن الدليل يسلم له، إذا أراد السبب لا الاستقلال ; وعباد الكواكب وأصحاب النيرنجيات، ومخاطبات النجوم يرون أنها أسباب، ووسائل نافعة، ويظنونها كالأسباب العادية 1 وعباد القبور والأنفس المفارقة، يرون أن تعلق قلب الزائر، وروحه بروح   1 وانظر صفحة: 346 من اقتضاء الصراط المستقيم حول هذه الأمور التي يظن أن لها تأثيرا ... إلخ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 195 المزور، سبب لنيل مقصوده، وتحصيل نصيب مما يفيض على روح ذلك المزور، كما ذكره الفارابي وغيره من عباد الكواكب والأنفس المفارقة ; وقد قال بعض السلف: ما عبدت الشمس والقمر، إلا بالمقاييس. فصل [في ذكر ما استدل به على جواز دعاء الصالحين والرد عليه] قال العراقي: ومن الأدلة على جواز دعاء الصالحين وندائهم ما ذكر الله عن نبيه سليمان، وقوله لآصف، وقد طلب منه ما لا يقدر عليه إلا الله. فنقول: {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} [سورة النور آية: 16] ، {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا} [سورة البقرة آية: 102] . وقصة آصف من أدلة التوحيد، وآصف توسل إلى الله بتوحيده وإلهيته، وكرر ذلك في دعائه ; وقد قيل: إنه يعرف الاسم الأعظم، فهو طالب من الله راغب إليه سائل له، وسليمان عليه السلام آمر ليس بسائل ولا طالب ; وفرق بين الأمر والمسألة، ومن لم يفرق بين الأمرين، ولم يدر حكم المسألتين، فليرجع إلى وراء، وليقتبس نورا من كلام أئمة العلم والهدى. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب: " لا تنسنا يا أخي من صالح دعائك " 1، وهذا من جنس الأسباب العادية؛ فإن الرجل إذا كان معروفا بالصلاح، وإجابة الدعاء، فطلب منه الدعاء أو أمر به، فدعا الله فاستجيب له، لا يكون هو الفاعل للاستجابة، وليس المطلوب منه ما يختص بالله من الفعل، وإنما يطلب منه   1 الترمذي: الدعوات 3562 , وأبو داود: الصلاة 1498 , وابن ماجه: المناسك 2894. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 196 ما يختص به من الدعاء، والتضرع؛ فالآية من أدلة التوحيد، وصرف الوجوه إلى الله، وإقبال القلوب عليه. فإن آصف توسل إلى الله بتوحيده وربوبيته، وقصده وحده، ولم يقصد سليمان ولا غيره، مع أن سليمان أفضل منه لنبوته ; وفيها: أن الأنبياء لا يسألون ولا يقصدون ; بل ربما صار حصول مقصودهم، ونيل مطلوبهم، على يد من هو دونهم من المؤمنين ; وإن أعظم الوسائل، وأشرف المقاصد، هو: توحيد الله بعبادته، ودعائه وحده لا شريك له، كما فعل آصف. وفيها: براءة أولياء الله من الحول والقوة، كما دلت عليه القصة، فإنه توضأ وصلى ودعا، فقال في دعائه: يا ذا الجلال والإكرام، قاله مجاهد. وقال الزيادي: يا إلهنا وإله كل شيء إلها واحدا، لا إله إلا أنت، ائتني بعرشها، فأي شبهة تبقى مع هذا؟! وأي حجة فيه على أن غير الله يدعى؟! ثم أخذ العراقي في هذيان وإسهاب، حاصله: أن السبب لا يفعل، وأن الله هو الفاعل؛ ومراده بهذا أن دعاء الأموات والغائبين، من الأولياء والصالحين، يجوز ويسوغ، إذا اعتقد أن الله هو الفاعل؛ وقد مر رد هذا، وتقرير جهل قائله، ومفارقته لما عليه أهل الإسلام وقد تقدم أن أصل الإسلام وقاعدته، هي: عبادة الله وحده لا شريك له، وإفراده بالقصد والطلب، وأن توحيد الربوبية، واعتقاد الفاعلية له تعالى، لا يكفي في السعاد والنجاة، الجزء: 12 ¦ الصفحة: 197 ولا يكون به الرجل مسلما، حتى يعبد الله وحده، ويتبرأ مما سواه من الأنداد والآلهة. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لوفد عبد القيس: " آمركم بأربع، وأنهاكم عن أربع: آمركم بالإيمان بالله وحده، أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟ شهادة أن لا إله إلا الله " 1. وهذا ظاهر بحمد الله، وإن خفي على خفافيش البصائر، الذين لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجؤوا إلى ركن وثيق، فهاموا من الجهل والضلال، في كل فج عميق، مع انتسابهم إلى العلوم والدفاتر، وتقدمهم في المجالس والمحاضر. لا عيب في القوم من طول ومن قصر ... جسم البغال وأحلام العصافير فصل [في خلق أفعال العباد وما يريد بها والجواب عن ذلك] قال العراقي: فعند أهل السنة أفعال العبد مخلوقة لله ; وعند المعتزلة: أن المخلوق خالق لأفعاله، ومع هذا فأهل السنة لا يكفرونهم، انتهى. قلت: يريد العراقي، أن مسألة الأموات والغائبين، ودعائهم في الحوائج والشدائد، مبنية على هذه المسألة، وأن أهل السنة يثبتون ذلك لمن اعتقد أن الله خالق أفعال العباد، وأن من أنكر دعاء الصالحين ونداءهم، فهو من المعتزلة، لأن إنكاره مبني على اعتقاده أن العبد خالق لأفعال نفسه. والجواب أن يقال: أما هذه المسألة، أعني: خلق أفعال   1 البخاري: مواقيت الصلاة 523 , ومسلم: الإيمان 17 , والترمذي: الإيمان 2611 , والنسائي: الإيمان وشرائعه 5031 والأشربة 5692 , وأبو داود: الأشربة 3692 , وأحمد 1/361. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 198 العباد، فأهل السنة قائلون بها، لدلالة الكتاب والسنة، والأدلة العقلية والنقلية، قال تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [سورة الصافات آية: 96] ؛ وقد انعقد الإجماع على هذا. ثم حدث قول القدرية النفاة، في أواخر عصر الصحابة، وأول من اشتهر عنه ذلك: غيلان القدري، ومعبد الجهني. فأما غيلان: فكان في زمن هشام بن عبد الملك، فناظره الأوزاعي إمام أهل الشام في زمانه، وألزمه الحجة، وحكم بكفره؛ وقتله هشام ; ومعبد الجهني: قتله الحجاج بن يوسف ; وأكثر السلف والأئمة يكفرونه بهذه المقالة، كما هو معروف في محله، وقد قال الإمام أحمد: ناظروهم بالعلم، فإد أقروا به خصموا ; وإن أنكروا كفروا. وقد حكى الإجماع على كفر من أنكر العلم: شمس الدين ابن قيم الجوزية، وناهيك به علما واطلاعا؛ فنسبته عدم التكفير إلى أهل السنة كذب، جره عدم الحياء ; ثم أي حجة في هذا، على أن الأولياء والصالحين يدعون، بما لا يقدر عليه إلا الله؟! فمسألة خلق الأفعال، لا تلازم بينها وبين دعاء الأولياء والصالحين بوجه ما، وإنما أتي هذا من جهة ظنه، أن من قال: بأن الله يخلق أفعال العباد، يباح له دعاء الصالحين ; ومن قال: إن العبد يخلق أفعال نفسه، يحرم عليه ذلك، هذا ظن الأحمق، لم يفرق بين مذهب المعتزلة، والقدرية، ودين الجزء: 12 ¦ الصفحة: 199 المشركين من العرب والصائبين. ويذكر أن بعض الأغبياء شكا رجلا إلى أمير من الأمراء، فقال: إنه مرجئ خارجي، رافضي ناصبي، يسب معاوية بن الخطاب، الذي قتل علي بن العاص ; فقال له الوالي: لا أدري على أي شيء من هذا أحسدك؟ على علمك بالمقالات، أو على معرفتك بالأنساب. قال العراقي: وكان أحمد يصلي خلفهم، وكل السلف. والجواب أن يقال: سبحان الله! ما أقبح الوقاحة والجراءة، والتمادي في الكذب على الله، وعلى أولى العلم من خلقه!! ما صلى الإمام أحمد خلف قدري قط ; بل أفتى بعض أهل الحديث بمجلسه: أنه لا يصلى خلفهم، فاستحسنه واستصوبه، والمعروف من مذهبه: أن الصلاة لا تصح خلف فاسق باعتقاده، أو فعله. وقد كذب هذا بانتسابه إليه، والحكم عليه بالصلاة خلف القدرية، وأكثر أهل السنة لا يرون الصلاة خلفهم، كما ذكره صاحب كشف الغمة ; وبعض العلماء يقول: مسألة صلاة الجمعة والجماعة، مبنية على مسألة القول بالتكفير وعدمه، ويرى الصلاة خلف من لم يكفر ببدعته، إذا احتيج إلى ذلك فما حكاه هذا عن أهل السنة، كذب لا مرية فيه، والصواب التفصيل عند بعضهم، والمنع مطلقا عند آخرين. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 200 فصل [في قول العراقي: وهذا من باب الكرامة] قال العراقي: وهذا من باب الكرامة، وتكلم في إثبات الكرامة، وأنها تكون بعد الموت، واستدل بقولة تعالى عن الملائكة: {نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [سورة فصلت آية: 31] ؛ ومراد العراقي: أن دعاء الصالحين والاستشفاع بهم وطلب ما لا يقدر عليه إلا الله منهم، من جنس الكرامة المثبتة التي أثبتها أهل السنة. وهذه طامة عظيمة، وغاية في الجهالة والسفاهة، بل هي من جنس احتجاج النصارى على دعاء المسيح وأمه وعبادتهما، ظنوا أن ما حصل للمسيح ولأمه عليهما السلام، من الكرامات والمعجزات، يبيح لهم دعاءهما وعبادتهما؛ وإذا خاطبت النصراني، سرد عليك من المعجزات والكرامات التي أعطيها المسيح، واحتج بها على دعواه. وعباد القبور يحتجون في هذا الباب، بما لم يثبت؛ وما ثبت فأكثره دون ما أعطيه المسيح; ومع ذلك، فالاحتجاج به على دعائهم، من جنس حجج النصارى، لا يدل على المدعى; بل غايته أن يدل على علو الدرجة، وصدق الرسالة، أو ثبوت الولاية، إذا اقترن به عمل صالح. وأما الاستدلال بذلك على أنه يدعى ويرجى، ويشفع وينفع، فهذا من دين النصارى والصائبة، وعباد الأصنام; وهذه الشبهة هي التي أوقعت في الشرك جمهور المشركين; الجزء: 12 ¦ الصفحة: 201 فإن أصل عبادة الأصنام، هو التعلق على الصالحين، وتصوير صورهم وتماثيلهم; بل عباد الكواكب، دعاهم إلى عبادتها: ما أودع الله فيها من الحكم، والمنافع التي ظهرت آثارها في هذا العالم، كما يعرفه من عرف مذاهب القوم. وطرد الدليل الذي استدل به العراقي، أن يقال بدعاء كل ذي كرامة ومزية، إذا اعتقد أن الفاعل هو الله، ولا يتوجه الإنكار على النصارى، في قولهم: يا عيسى افعل كذا، يا روح القدس، أعطني كذا، يا والدة المسيح اشفعي لنا إلى الإله، لأنه من أولي العزم، ومن أكابر أهل الكرامات; والمسلم إذا تصور هذا، ظهر له ما فيه من الجهل والضلال، بمجرد الفطرة ومعرفة الإسلام. وأما من رزق الفهم فيما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ووفق للاستدلال بآيات الله ومخلوقاته التي نصبها شاهدة ودالة على توحيده في ربوبيته وإلهيته، فذلك أكمل إيمانا وأتم علما وإيقانا، يرى كفر من تعلق على غير الله، ودعاه فيما يختص بالله، من أوضح الواضحات، وأبين البينات. قال تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [سورة الشورى آية: 9] ، استدل بعموم قدرته وإيجاده، وإحيائه الموتى، على وجوب توليه بعبادته وحده لا شريك له; والقرآن والسنة يدلان على هذا، ويقررانه بأنواع الدلالات، وألطف التقريرات. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 202 والآية التي استدل بها، ليس فيها ما يدل على دعواه; بل فيها ما يبطلها ويدحضها; فإن أول الآية نص على وجوب التوحيد، وإفراد الله بالعبادة، والاستقامة عل ذلك، بالتزام حقوقه وواجباته; وتنزل الملائكة، ومخاطبتهم للمؤمنين بهذا الخطاب، وتوليهم له، لا يدل على أنه يفعل ويشفع، وإنما يدل على كرامته وعلو درجته، ونيل مشتهاه ومدعاه في دار الكرامة. فأين في هذا ما يدل على أنه يدعى في حياته أو بعد مماته؟! وفي الحديث: " من قال في القرآن برأيه، فليتبوأ مقعده من النار " 1، وفي رواية "بغير علم"، وهذا الجاهل يتخبط في الاستدلال بآيات الله، ويحملها على غير محملها، ويتأولها على غير تأويلها، بل على نقيضه وضده؛ فسبحان من طبع على قلبه! وقد استدل بعض من يدعي العلم، على مسألة تصرف الأولياء، وأنهم يدعون، بقوله تعالى: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [سورة آل عمران آية: 169] ، فقال بعض عوام المسلمين: إن كانت القراءة رضي الله عنه {يَرْزُقُون} بفتح الياء فذاك متجه، وإلا فالآية حجة عليك. قال في الفتاوى البزازية من كتب الحنفية، قال علماؤنا: من قال أرواح المشائخ حاضرة تعلم، يكفر; انتهى. فإن أراد علماء الشريعة، فهو حكاية للإجماع، والإجماع على هذا يعلم بالضرورة من دين الإسلام، وهذا أحد الطرق التي يعرف بها الإجماع.   1 الترمذي: تفسير القرآن 2951 , وأحمد 1/233 ,1/269. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 203 وقال الشيخ صنع الله الحلبي الحنفي، في رسالته في الرد على من زعم: أن الأولياء يدعون، ويتصرفون، على أن ذلك كرامة; قال: وهذا كلام فيه تفريط وإفراط; بل فيه الهلاك الأبدي، والعذاب السرمدي، لما فيه من روائح الشرك المحقق، ومصادمة الكتاب العزيز المصدق، ومخالفة عقائد الأئمة، وما اجتمعت عليه الأمة; والمقصود: أنه حكى إجماع الأمة على كفر من زعم ذلك. فصل واستدل العراقي على دعاء الصالحين، وندائهم بالحوائج، بقوله تعالى: {فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً} [سورة النازعات آية: 5] ، وذكر عن البيضاوي: أنها أرواح الموتى. والجواب أن يقال: قد حكى البيضاوي أقوالا على هذه الآية، وقدم: أنها الملائكة، وحكى أنها النجوم، وحكى أنها خيل الغزاة، وحكى أنها أنفس الغزاة; وعلى زعم هذا وطرد دليله: كل ما ذكر يدعى مع الله، حتى خيل الغزاة; والبيضاوي لا يقول: بدعاء أحد مع الله; بل ذكر في تفسيره مواضع يعز استقصاؤها، في المنع من ذلك وتحريمه. ثم هذا القول الذي قاله العراقي: رجوع إلى عبادة الملائكة والنجوم، والأنفس المفارقة، وهذا حقيقة دين الصائبة; أوقع العراقي فيه ظنه أن العبادة لا تكون عبادة وشركا، إلا إذا اعتقد التأثير من دون الله; وهذا الشرط هو الذي أوقعه فيما الجزء: 12 ¦ الصفحة: 204 وقع فيه، من تجويز عبادة الملائكة، والنجوم والأنفس المفارقة; وهذه المسألة غلط فيها كثير من الضالين، مع أن الله تعالى وضحها في كتابه، توضيحا كافيا شافيا; وقد تقدم بعض ذلك قريبا. والشرك جعْل شريك لله تعالى فيما يستحقه، ويختص به من العبادة الباطنة والظاهرة، كالحب والخضوع، والتعظيم والخوف والرجاء والإنابة، والتوكل والنسك والطاعة، ونحو ذلك من العبادات; فمتى أشرك مع الله غيره في شيء من ذلك، فهو مشرك بربه، قد عدل به سواه، وجعل له ندا من خلقه، ولا يشترط في ذلك أن يعتقد له شركة في الربوبية، أو استقلالا بشيء منها. والعجب كل العجب أن مثل هؤلاء يقرؤون كتاب الله ويتعبدون بتلاوته، وربما عرفوا شيئا من قواعد العربية، وهم في هذا الباب: من أضل خلق الله وأبعدهم عن فهم وحيه وتنْزيله; ومن الأسباب المانعة عن فهم كتاب الله: أنهم ظنوا أن ما حكى الله عن المشركين، وما حكم عليهم به، ووصفهم به، خاص بقوم مضوا، وأناس سلفوا وانقرضوا، لم يعقبوا وارثا. وربما سمع بعضهم قول من يقول من المفسرين: هذه نزلت في عباد الأصنام، هذه في النصارى، هذه في الصائبة، فيظن الغمر أن ذلك مختص بهم، وأن الحكم لا يتعداهم; وهذا من أكبر الأسباب التي تحول بين العبد وبين فهم القرآن والسنة. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 205 ثم اعلم: أن قول البيضاوي هنا، قولا لا يلتفت إليه، ولا يعول في الدليل عليه، لأنه صدر عمن لا يرضى، ولا يؤتم به في هذا الشأن، ولا يقتدى، ولم يقله أحد من أئمة التفسير والهدى; بل قد صرحوا بخلافه، كما يعرفه أولو الأحلام والنهى، ونبهوا على أن أصل الشرك، هو سؤال أرواح الموتى; والبيضاوي وأمثاله: إنما يؤخذ عنهم ما شهدت له الأدلة الشرعية، وجرى على القوانين المرضية التي يتلقاها أهل العلم والإيمان، من أحكام السنة والقرآن. وقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ذهاب الإسلام من ثلاثة: "زلة عالم، وجدال منافق بالقرآن، وحكم الأئمة المضلين"، هذا لو سلمنا ثبوت العلم، لمن يحكي مثل هذه الأقوال، وإلا فأين العنقاء لتطلب؟ وأين السمندل ليجلب؟ وأهل التحقيق من المفسرين: على أن المراد بهذه الآية، هم الملائكة، فإسناد التدبير إليهم كإسناد النزع والنشط، والتقسيم والزجر، كما في قوله: {فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْراً} [سورة الذاريات آية: 4] ، وقوله: {فَالزَّاجِرَاتِ زَجْراً فَالتَّالِيَاتِ ذِكْراً} [سورة الصافات آية: 2-3] ، وليس في هذه الآيات الكريمات ما يدل على دعاء الملائكة وعبادتهم، فإنهم رسل مأمورون مدبرون، كما أن إبلاغ الرسالة من الرسول البشري، لا يدل على دعائه ولا يقتضيه، فكذلك الملائكة، لأنهم رسل بالأوامر الكونية والشرعية. والقدرة والتدبير، وتسخير المخلوقات، كل ذلك لله وحده; الجزء: 12 ¦ الصفحة: 206 وهو من أدلة توحيده وإلهيته، وصرف الوجوه إليه، والإعراض عما سواه، قال تعالى في حق الملائكة: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} إلى قوله: {كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} [سورة الأنبياء آية: 26-29] . وقال في شأن جبرائيل وغيره من الملائكة: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً} [سورة مريم آية: 64] ؛ فتأمل ما في هذا القول من كمال العبودية، ومتابعة الأمر، والبراءة من الملكة والحول والقوة، والاعتراف له تعالى بذلك; فاستدل بعموم الربوبية، ثم قال: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً} [سورة مريم آية: 64] ثناء عليه تعالى بإثبات العلم، ونفي ما يضاده أو ينافي كماله. قال تعالى في حق المسيح: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} [سورة النساء آية: 172] ؛ الآية والمقصود: أن تسخير الملائكة وتدبيرها وإرسالها، من أدلة إلهيته تعالى، واستحقاقه لأن يعبد وحده لا شريك له. ومن العجب: أن هذا العراقي زعم أن للأرواح تدبيرا وتأثيرا في العالم، مستدلا بعبارة رآها في كتاب الروح؛ وهذا غلط فاحش وخطأ واضح؛ فإن ما ذكره العلامة ابن القيم، ليس فيه أنها تدبر وتتصرف، وتجيب من دعاها; وليس فيه إلا مجرد الحكاية: أن روح النبي صلى الله عليه وسلم وبعض أصحابه قد رآها بعض الناس عند القتال، وأنها هزمت أهل الشرك، وليس الجزء: 12 ¦ الصفحة: 207 فيه أنها تدبر وتتصرف؛ وهذه الرؤيا والقضية الجزئية لا دلالة فيها، علي ما زعمه العراقي بوجه من الوجوه. وأبلغ من هذا قوله تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [سورة الأنفال آية: 9-10] ، فانظر هذه الآية الكريمة، وما فيها من قطع التعلق والالتفات إلى غير الله، مع أن المدد بالملائكة، وقتالهم مشهود محسوس متواتر؛ ولو قال إنسان بجواز دعاء الملائكة وطلب ذلك منهم، والاستغاثة بهم عند الشدائد والحرب، لكان ذلك كفرا، ورجوعا إلى عبادة الملائكة، والأنفس المفارقة. ومن نظر في كلام هذا الرجل، عرف أنه أجنبي عن العلم، لم يعرف ما جاءت به الرسل، ونزلت به الكتب، وكيف كان الشرك في الأمم، وإلا فأي تلازم بين ما ذكره، وما أخبر الله به عن مدده بالملائكة، وبين دعائهم والاستغاثة بهم، والاستعانة، والإنابة، في كشف الشدائد والمهمات؟! والرجل وجد مادة وكتبا شتت فهمه، وحيرت عقله، أراد الاستغناء بها فلم تزده إلا عمى وجهلا، فأضاف إلى ذلك الجرأة في الكذب على الله، وعلى رسله، وعلى أولي العلم من خلقه، كما كذب على الشيخ ابن تيمية، وتلميذه ابن قيم الجوزية، وزعم أنهما قالا: الأرواح تدبر وتتصرف بعد الموت. والشيخ رحمه الله نص على أن القول بمثل هذا من أقوال الجزء: 12 ¦ الصفحة: 208 الفلاسفة والصابئة; قال رحمه الله: من قال: إن أرواح الموتى تجيب من دعاها، فهذا يشبه قول من يقول: الأرواح بعد المفارقة تجتمع هي والأرواح الزائرة، فيقوى تأثيرها; وهذه المعاني ذكرها طائفة من الفلاسفة، ومن أخذ عنهم، كابن سينا وأبي حامد وغيرهما; وهذه الأحوال، هي من أصول الشرك، وعبادة الأصنام; وهي من المقاييس التى قال بعض السلف: ما عبدت الشمس والقمر إلا بالمقاييس. وقال أيضا رحمه الله - في الكلام على رؤساء المتكلمين -: وقد رأيت في مصنفاتهم، في عبادة الملائكة، وعبادة الأنفس المفارقة أنفس الملائكة وغيرهم، ما هو أصل الشرك. وقال العلامة ابن القيم رحمه الله في "مدارجه": ومن أنواعه - أي: الشرك الأكبر -: طلب الحوائج من الموتى، والاستغاثة بهم، والتوجه إليهم، وهذا أصل شرك العالم; فإن الميت قد انقطع عمله وهو لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا، فضلا عمن استغاث به، أو سأله أن يشفع له عند الله. [فصل فيما استدل به العراقي على أن أرواح الصالحين تدعى وتدبر] قال العراقي في استدلاله، على أن أرواح الصالحين تدعى وتدبر: ومن الآيات التي تدل على ذلك، قوله تعالى: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهَانَ رَبِّهِ} [سورة يوسف آية: 24] ، قال المفسرون - منهم البغوي -: رأى يعقوب عاضا على أنملته، يقول: إياك وإياها! فلم يفعل؛ فكان يوسف في مصر، ويعقوب في الجزء: 12 ¦ الصفحة: 209 الشام، فهذا نوع من الكرامة، وهي سبب، والقدرة لله. قلت: يريد العراقي أن مثل هذا يدل على جواز دعاء الصالحين، وندائهم بالحوائج في الغيبة وبعد الممات، لأن هذا كرامة، والكرامة: يدعى صاحبها وينادى. والجواب أن يقال: عبادة الله وحده لا شريك له، وإفراده بالدعاء والطلب فيما لا يقدر عليه إلا هو، دلت على وجوبها الكتب السماوية، واتفقت عليها الدعوة الرسالية، وهي أصل الدين وقاعدته، لا يعتريها نسخ ولا تخصيص. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} [سورة فاطر آية: 3] ، وقال تعالى: {أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ} [سورة الملك آية: 20-21] وقال تعالى: {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [سورة العنكبوت آية: 17] . فتأمل هذه الآيات ونظائرها، وانظر ما دلت عليه، من اختصاصه تعالى بالخلق والرزق، اللذين هما أصل المخلوقات وقوامها، وانظر كيف استدل بها على وجوب عبادته وطاعته والإيمان به؛ وهل يعارض هذا الأصل بمثل هذه الأوهام الضالة، من شم رائحة العلم، ودرى ما الناس فيه من أمر دينهم؟ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 210 فإن كنت لا تدري فتلك مصيبة ... وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم هذا لو سلم أن الكرامات سبب، وأن هذا المثال فيه إثبات الكرامة، فكيف والأمر بخلاف ذلك، بإجماع أهل العلم؟! والمقدمتان كاذبتان، لأن الكرامة فعل الله تعالى لا فعل للولي فيها، ولا قدرة له عليها ولا تأثير، وكل من يذكر تعريف الكرامة وحدها، يقول: هي خرق الله العادة لوليه، لحكمة ومصلحة تعود عليه أو على غيره. وعلى هذا التعريف، لا فعل للولي فيها ولا إرادة، فمن أين يؤخذ أنها سبب يقتضي دعاء من قامت به أو فعلت له؟ ومن أي وجه دلت الكرامة على هذا؟ وأفضل الناس الرسل، والملائكة من أفضل خلق الله، ولهم من المعجزات والكرامات والمقامات ما ليس لغيرهم. قد جاء عيسى بن مريم بما هو من أفضل المعجزات والكرامات، يخلق من الطين كهيئة الطير، فينفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله ويبرئ الأكمه والأبرص، ويحيي الموتى بإذن الله، وينبئهم من الغيب ما يأكلون وما يدخرون. وقد أنكر تعالى على من قصده ودعاه في حاجاته وملماته، وأخبر أن فاعل ذلك كافر بربه، ضال بعبادة غيره; وقال تعالى: {وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً} [سورة آل عمران آية: 80] الآية، والأرباب هم المعبودون المدعوون، وسيأتي تحقيق هذا. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 211 وقال تعالى فيمن عبدوا المسيح: {قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [سورة المائدة آية: 76] وسيأتيك أن الدعاء والنداء بما لا يقدر عليه إلا الله، داخل في مسمى العبادة، فتنبه! فأخبر تعالى عن المسيح أنه لا يملك لمن دعاه نفعا ولا ضرا، وإن قل كما يفيده التنكير، وأبطل عبادته وأنكرها أشد الإنكار، ومعجزاته أوضح من الشمس وسط النهار; وقد تقدم أن هذه الشبهة هي التي تعلق بها النصارى في دعائه ودعاء أمه. ثم اعلم: أن الآية ليس فيها ما يدل على كرامة يعقوب عليه السلام، إلا حفظه في عقبه، وصيانة ولده; فإن الله يحفظ الرجل الصالح في نفسه وأهله وولده، كما في حديث ابن عباس: " احفظ الله يحفظك " 1، وليس ذلك من جهه المثال وتخصيصه، فإن هذا لا يفيد الكرامة ولا يفهمها; وقد تمثل جبرائيل في صورة دحية الكلبي، وكثيرا ما يتمثل الملك في صورة البشر. والذي رآه يوسف هو المثال، لا نفس يعقوب وذاته، كما فهمه الغبي، فإن هذا لا يدل عليه كلامهم أصلا; وكرامات يعقوب عليه السلام أجل من ذلك وأعظم; وقد يمثل للإنسان من يحب ويأنس به، أو من يجله ويهابه لمصلحة تعود عليه، لا على نفس صاحب المثال; ولذلك نظائر وأشباه في اليقظة والمنام، يعرفها أولو العلم والأفهام.   1 الترمذي: صفة القيامة والرقائق والورع 2516 , وأحمد 1/293 ,1/303 ,1/307. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 212 تنبيه [ليست الكرامة من لوازم المنْزلة وعلو الدرجة] ليست الكرامة من لوازم المنْزلة وعلو الدرجة؛ مشى قوم فوق البحار، ومات عطشا من هو أفضل منهم وأقوى إيمانا; وقد كثرت في القرن الثاني والثالث، وفي القرن الأول من هو أفضل وأجل، ممن وقعت له هذه الخوارق؛ وبسط هذا له محل، والقصد إبطال كلام هذا الضال. ويقال له: أكثر المفسرين على غير هذا; فمنهم من قال: إن هم يوسف من جنس الخطرات، والواردات التي لا تستقر، وليست بعزم، فتركها والإعراض عنها حسنة، كما دل عليه حديث: " إذا هم العبد بالسيئة فلم يفعلها كتبت له حسنة " 1. ومنهم من قال: البرهان المشار إليه، هو قوله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى} [سورة الإسراء آية: 32] ، رأى الآية مكتوبة في السقف. ومنهم من قال: رأى ثلاث آيات هي البرهان. ومنهم من قال: لم يهم يوسف بسوء، لوجوب عصمته حتى قبل النبوة. وقوله: {وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهَانَ رَبِّهِ} [سورة يوسف آية: 24] معلق على عدم الرؤية وقد ثبتت، فلا هم; تقول: هلك زيد لولا عمرو، وهذا معنى ما قال بعضهم: في الكلام تقديم وتأخير، والتقدير لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ هم بها; وهذا يذهب إليه من يقول: بعصمة الأنبياء قبل النبوة; وهو الراجح عند من اعتمد أقوالهم هذا العراقي، فيما وصل إلينا في مسألة علم الغيب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا خالفه ظنا منه أن   1 البخاري: الرقاق 6491 , ومسلم: الإيمان 131 , وأحمد 1/279 , والدارمي: الرقاق 2786. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 213 إثبات الكرامة، يقتضي إباحة الدعاء مع الله؛ قال بعض السلف: أنت عند الطاعة قدري، وعند المعصية جبري; أي مذهب وافق هواك تمذهبت به. ومن العجب أن يقول في هذه الرسالة: سلوني سلوني إن أشكل عليكم شيء; وعندي من النسخ وعندي كذا وكذا، ويطري نفسه إطراء لا يصدر عمن له دين وعقل، أو دراية بشيء من الآداب، والنقل، حتى أنشد في مدح نفسه، قول الشاعر سلي إن جهلت الناس عنا وعنهم ... فليس سواء عالم وجهول وما أحسن ما قيل: إني سألت ولكن لم أجد أحدا ... أثنى عليك ومدح النفس تضليل ومثل هذا لا يحسن ممن له علم وفضل، أو أدب ينتفع به وعقل، فكيف بمن لا يعلم حقيقة الإسلام؟ ولم يعرف منه ما عرفه آحاد العوام؟! وقد اعترض بعض الجهال على شيخ الإسلام، في بعض تقاريره، فأخطأ الإصابة، ولم يتأدب بحضرة تلك العصابة، وقال له الشيخ: لا أدب ولا فضيلة، وأنى لمثل هذا بالفضل والأدب، وقد عدم العلم الذي هو أصل الفضائل والرتب. فقر الجهول بلا علم إلى أدب ... فقر الحمار بلا رأس إلى رسن وهذه الدعوى الكاذبة، يمكن كل أحد أن يدعيها، ولكن الجزء: 12 ¦ الصفحة: 214 هيهات هيهات، قد حيل بين النفوس الجاهلة وبين أمانيها، لقول أصدق الورى، ومن لا ينطق عن الهوى: " لو يعطى الناس بدعواهم، لادعى رجال دماء قوم وأموالهم " 1 الحديث. والله يعلم أني ما رأيت لهذا إصابة قط فيما يدعيه وينفرد به، حتى إنه قال في بدء رسالته وخطبته، في وصف الأرواح: فما تعارف منها في الأزل ائتلف; فزاد في الحديث قوله: في الأزل، وهي زيادة تدل على جهله وكثافة فهمه، فإن الأزل لا وجود للأرواح فيه، فضلا عن أن تتعارف، لأنه اسم لما قبل إيجاد المخلوقات. [فصل في طلب الشفاعة من الرسول بعد موته عند زيارته] قال: وقد أجمع الحنابلة وغيرهم، على طلب الشفاعة من الرسول بعد موته عند زيارته. والجواب أن يقال: هذه دعوى عريضة كبيرة، لا تصدر إلا عن اطلاع كلي، وإحاطة تامة بأقوال أهل العلم، أو عن وقاحة كلية وتهور في الكذب، وإيغال في الافتراء. ومن المعلوم ضرورة، عند من نظر في كلام هذا من أهل العلم: أنه ليس من القسم الأول، بل هو ممن يجهل الضروريات الإسلامية، والبديهيات الإيمانية اليقينية، مما لا يخفى على عامة المسلمين; فكيف له بمعرفة الإجماع في هذه المسألة؟! والمدعي يطالب بتصحيح دعواه.   1 البخاري: تفسير القرآن 4552 , ومسلم: الأقضية 1711 , والنسائي: آداب القضاة 5425 , وابن ماجه: الأحكام 2321 , وأحمد 1/351 ,1/363. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 215 ولكن نتنزل مع هذا، ونكتفي منه بتصحيح ذلك عن واحد فقط، ممن يحتج به من أئمة العلم والفتوى، من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو من بعدهم من التابعين وتابعي التابعين، أو الأئمة الأربعة، أو أصحاب الوجوه والترجيحات في مذاهبهم. وأما من لا يحتج به من الخلوف الذين يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فهؤلاء ليسوا بحجة ولا يرجع إليهم بالاتفاق; والآثار والأحاديث دلت على عيبهم وذمهم بما أحدثوه في دين الله، من الأقوال والأفعال، كما في حديث العرباض بن سارية، وغيره من الأحاديث. وما علمت أحدا من أهل العلم وأئمة الفتوى قال هذا، لا من الصحابة ولا من غيرهم; بل حكى الشيخ الإمام أحمد بن عبد الحليم: الإجماع على المنع من دعائه صلى الله عليه وسلم والطلب منه، وقرر أن هذا من شعب الشرك الظاهرة، وسيأتيك بسط كلامه. وذكر الحنابلة كصاحب الفروع والإقناع وغيرهم، حتى أصحاب المختصرات أن المسلم عند القبر لا يستقبله عند الدعاء، ولا يدعو الله عنده، وهذا منهم صيانة للتوحيد. وأبو حنيفة قال: لا يستقبله عند السلام عليه صلى الله عليه وسلم بل يستقبل القبلة، حكاه شيخ الإسلام; وقد كره مالك للرجل أن يدعو عند القبر الشريف - على صاحبه أفضل الصلاة والسلام -، وذكر أنه يستقبل القبلة عند الدعاء، كما ذكره في المبسوط الجزء: 12 ¦ الصفحة: 216 وغيره من كتب المالكية; وفي منسك الإمام أحمد مثل هذا; بل كرهوا للرجل من أهل المدينة أن يأتي القبر الشريف كلما دخل المسجد، لأنه محدث لم يفعله أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال مالك: ولن يصلح آخر هذه الأمة، إلا ما أصلح أولها. وأما من قدم من سفر، أو أراده من أهل المدينة، فرخصوا له في إتيان القبر الشريف للسلام، لأن ابن عمر كان يفعله; قال ابن أخيه عبيد الله بن عمر بن عاصم: لم يفعله أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ابن عمر; وعبيد الله المصغر، من أفضل آل عمر، ومن أعيان وقته ثقة وزهدا وعلما. وأما دعاؤه وطلب الشفاعة منه صلى الله عليه وسلم بعد موته، فهم مجمعون على المنع منه؛ ولم ينقل عن أحد من أئمة المسلمين لا الأئمة الأربعة، ولا غيرهم ما يقتضي الجواز والإباحة. قال شيخ الإسلام أبو العباس رحمه الله، والطلب من النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته، وفي مغيبه، ليس مشروعا قط; ولكن كثيرا من الناس يدعو الموتى والغائبين من الشيوخ وغيرهم، فتتمثل له الشياطين، وتقضي بعض مآربه لتضلهم عن سبيل الله، كما تفعل الشياطين بعباد الأصنام وعباد الشمس والقمر، تخاطبهم وتتراءى لهم؛ وهذا كثير يوجد في زماننا، وغير زماننا، انتهى. وقال الشيخ رحمه الله: وكان الصحابة والتابعون لما كانت الحجرة النبوية منفصلة عن المسجد، إلى زمن الوليد بن عبد الملك، الجزء: 12 ¦ الصفحة: 217 لا يدخل أحد إليها، لا لصلاة هناك، ولا لتمسح بالقبر، ولا دعاء هناك، بل هذا جميعه إنما يفعل بالمسجد; وكان السلف إذا سلموا على النبي صلى الله عليه وسلم وأرادوا الدعاء، دعوا مستقبلي القبلة، لم يستقبلوا القبر. وأما وقوف المسلم عليه، فقال أبو حنيفة: ليستقبلوا القبلة أيضا، لا يستقبلوا القبر; وقال أكثر الأئمة: بل ليستقبلوا القبر عند السلام عليه خاصة، ولم يقل أحد من الأئمة أنه يستقبل القبر عند الدعاء، أي: الدعاء الذي يقصده لنفسه، إلا في حكاية مكذوبة تروى عن مالك، ومذهبه بخلافها؛ واتفق الأئمة على أنه لا يمس قبر النبي صلى الله عليه وسلم ولا يقبله; وهذا كله محافظة على التوحيد، فإن من أصول الشرك بالله اتخاذ القبور مساجد. قال طائفة من السلف، في قوله تعالى: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ} [سورة نوح آية: 23] الآية: هؤلاء كانوا قوما صالحين في قوم نوح، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوروا تماثيلهم، ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم; وقد ذكر بعض هذا البخاري في صحيحه، لما ذكر قول ابن عباس; وذكره ابن جرير وغيره عن غير واحد من السلف; وذكره وثيمه وغيره في قصص الأنبياء من عدة طرق. انتهى. وقال الحافظ محمد بن عبد الهادي - من أكابر الحنابلة وعلمائهم -: والسلف كلهم متفقون على أن الزائر لا يسأله الجزء: 12 ¦ الصفحة: 218 شيئا -يعني النبي صلى الله عليه وسلم - ولا يطلب منه ما يطلب منه في حياته، ويطلب منه يوم القيامة، لا شفاعة ولا استغفارا. وقال أيضا: والحكاية التي تنسب إلى مالك مع أبي جعفر المنصور، كذب عند أهل المعرفة بالنقل والتصحيح، انتهى. ومذهب مالك رحمه الله، المعروف عند أصحابه، يخالف هذه الحكاية المكذوبة، ويردها; قال القاضي عياض: قال مالك في المبسوط: لا أرى أن يقف عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم يدعو; ولكن يسلم ويمضي. وقال القاضي إسماعيل في المبسوط: قال مالك: لا أرى أن يقف الرجل عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم ويدعو; ولكن يسلم على النبي، وعلى أبي بكر، وعمر، ثم يمضي. ولما نقل ابن وهب عن مالك أنه يدعو النبي صلى الله عليه وسلم عند القبر، حمله أكابر أصحابة على الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وابن عبد البر يقول: لفظ الرواية على ما ذكره ابن القاسم والقعنبي وغيرهما: يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم هذا لفظ مالك. وقال بعض المالكية: المراد بالدعاء السلام، بدليل أنه ذكر في رواية ابن وهب نفسه، يقول: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله; وقد تقدم مذهب الحنابلة وأبي حنيفة. وإذا كان هذا ممنوعا مع أنه دعاء لله، فما ظنك بدعاء الرسول نفسه، وطلب الشفاعة منه صلى الله عليه وسلم؟! فالأول منع منه، لأنه وسيلة وذريعة إلى هذا المحذور، الذي هو السؤال لغير الله، وقصده في الحاجات، ولم يكن في عهد السلف شيء من هذا; وإنما الجزء: 12 ¦ الصفحة: 219 حدث أوائله ومباديه بعد القرون المفضلة، وأنكرها أهل العلم والإيمان، محافظة منهم على السنة، وحماية لجناب التوحيد، وطاعة لله ورسوله، وسدا لذرائع الشرك ووسائله. وقد روى الضياء في المختارة، عن الحسن بن الحسن أنه رأى رجلا يجيء إلى فرجة عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم فنهاه عن ذلك; قال: ألا أخبركم بحديث سمعته من أبي عن جدي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا تتخذوا قبري عيدا، ولا بيوتكم قبورا، وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث ما كنتم "1، وروى أيضا عن علي بن الحسين زين العابدين. وهذان الإمامان، هما أفضل أهل البيت في زمانهما; وقد روي هذا الحديث عن أبي هريرة، في سنن أبي داود بلفظ: " لا تجعلوا بيوتكم قبورا، ولا قبري عيدا " 2 الحديث. فانظر هذه السنة المأخوذة عن أقرب الناس من رسول الله صلى الله عليه وسلم نسبا ودارا وتأمل ما دلت عليه من الحكم والفوائد; من ذلك نهيه عن اتخاذ قبره عيدا; والعيد: ما يعتاد مجيئه في وقت مخصوص; وتأمل حكمة ذلك ومقصوده، وما فهمه السلف من النهي عن التردد إلى القبر الشريف كلما دخل المسجد. وفيه: أن الصلاة والسلام يبلغه وإن بعد المسلم; وفيه: أن الذي يجب له صلى الله عليه وسلم من التوقير والتكريم، والصلاة والتسليم مطلوب في كل مكان، وعلى أي حال; وذلك أكمل وأتم ممن يعتاد ذلك عند مجيئه إلى القبر، أو يزيد بالغلو والإطراء فإذا   1 أبو داود: المناسك 2042 , وأحمد 2/367. 2 أبو داود: المناسك 2042 , وأحمد 2/284 ,2/337 ,2/367 ,2/378 ,2/388. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 220 بعد عنه فهو من أشد الناس معصية وجفاء. وفيه: حماية أصل الدين وقاعدته، بصرف الوجوه إلى الله، وإنابة القلوب إليه واعتمادها عليه; ورعاية هذا الأصل من أهم أصول الشريعة، ومدارك الأحكام; وسؤال المخلوق، وصرف الوجه إليه بالمسألة، والطلب في الأمور الكلية العامة، يعود على هذا الأصل بالهدم والقلع; فمن عرف هذا حق المعرفة، ونظر في أدلته وأصوله، تبين له علم السلف، ودقة نظرهم وحسن سياستهم للناس، بما يصلح دينهم ودنياهم. وقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم اليهود والنصارى، على اتخاذ قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد; وذكر أبو بكر الإمام الأثرم وغيره، من أئمة الحنابلة أن العلة في ذلك، كون الصلاة ونحوها من العبادات عند القبور، وسيلة وذريعة إلى تعظيم أربابها، بما لم يشرع من الغلو، والدعاء وعبادتها مع الله; فكيف والحالة هذه، يقال بجواز طلب الشفاعة من الرسول صلى الله عليه وسلم؟ أو أن ذلك مجمع عليه، كما زعمه هذا المفتري الجاهل بالله تعالى، ومعرفة حقه وحق رسله؟! فنعوذ بالله من الخذلان. والعلم يدخل قلب كل موفق ... من غير بواب ولا استئذان ويرده المحروم من خذلانه ... لاتشقنا اللهم بالخذلان الجزء: 12 ¦ الصفحة: 221 فصل [في قول العراقي: والمقصود أن تكفير الناس بمجرد فهم واحد لم يفهمه النبي] قال العراقي: والمقصود أن تكفير الناس بمجرد فهم واحد من كتاب الله، لم يفهمه النبي صلى الله عليه وسلم كقوله: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} [سورة فاطر آية: 13] ، وهذه الآية صحيحة، ولكن هذا الفهم باطل، لأن الدعاء المذكور هو السجود على أنها أرباب، وهي الأصنام، وهم كانوا يعبدونها على أنها أرباب لهم، وهي أخشاب وأحجار لا تملك شيئا. فالذي يستدل بهذه الآية، يقال له: أين مذكور تفسير هذه الآية: أن المراد بها الأنبياء، والشهداء، والأولياء الذين يناديهم المسلم نداء لا عبادة؟ فإن هذا لم يذكر قط في تفسير، ولا في حديث، ولا في أقوال السلف. نعم: ذكره الشيخ تقي الدين، وقال إنه من باب الزجر والتغليظ والإشارة، لا من باب الحكم على المسلم بالردة، فله أكثر من مائة عبارة تنفي ذلك; والدعاء ليس في كل مكان يراد به العبادة، قال تعالى: {فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ} [سورة العلق آية: 17-18] ، أيقال: إن الله تعالى عبد الزبانية، لأنه دعاهم؟ انتهى كلامه. وإنما سقناه بحروفه ليعلم المؤمن قدر ما أنعم الله عليه به، من نعمة الإسلام، وما اختصه به من الكرامة ورفع المقام، وليعتبر بما يراه من حال هولاء الضالين، كيف تلاعب بهم الشيطان، وأوصلهم إلى غاية من الجهل والضلال، حجبهم الجزء: 12 ¦ الصفحة: 222 بها عن معرفة الله، ودينه وحقه على عبيده، وعن معرفة رسله ومعرفة حقهم، وما يجب لهم، وما يستحيل، وأوهمهم مع ذلك أنهم من أهل العلم بشرعه ودينه، في التحريم والتحليل; وهم كما ترى ليس معهم من الإسلام أصل ولا خبر، ولم يقعوا من ذلك على عين ولا أثر. فإن حاصل ما قرره هنا: أن الله تعالى لم يحرم عبادة الأنبياء والملائكة، والصالحين ودعاءهم، وإنما حرم اعتقاد الاستقلال من دونه، واعتقاد الربوبية فيها، وأن العبادة هي السجود فقط، مع اعتقاد أنها أرباب، وهي الأصنام والأخشاب والأحجار، لا تملك شيئا، وأن النداء يجوز لأنه ليس بعبادة، وأنه لم يذكر قط كون النداء عبادة وما ذكره الشيخ تقي الدين هو من باب الزجر والإشارة، وله أكثر من مائة عبارة، تنفي كون نداء الأنبياء والصالحين عبادة، ومن فهم من كلام الله تحريم دعاء الصالحين، فهو مخطئ ضال، منفرد بهذا الفهم؛ هذا حاصل كلامه. فيا ويحه ما أكبر زلته؟! وما أغلظ كفره، وما أشد عداوته لما جاءت به الرسل، واتفقت عليه دعوتهم؟! وهذا النوع هم أعوان إبليس وأنصاره، في كل زمان ومكان، ظهروا للناس في ثياب القراء والعلماء، وهم من أجهل من تحت أديم السماء. يا فرقة ما خان دين محمد ... وجنى عليه وماله إلا هي وفي كلام هذا من الكذب على الله، والكذب على رسوله، الجزء: 12 ¦ الصفحة: 223 وعلى أولي العلم من ورثته، والقول عليه بغير علم، وتحريف الكلم عن مواضعه، والكذب على اللغة والشرع، ما يعز استيفاء الكلام عليه واستقصاؤه. فقوله: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفهم من هذه الآية ونحوها تكفير من دعا الأنبياء والصالحين، كذب على الرسول، ونسبة ما لا يليق بآحاد المؤمنين إليه، وهل وقعت الخصومة وجرد السيف، ودعا من دعا من أهل الكتاب إلى المباهلة، وأمر بقتالهم حتى يسلموا أو يعطوا الجزية، إلا لأجل عبادة الأنبياء والصالحين ودعائهم؟ وهل صورت الأصنام وعبدت، إلا باعتبار من هي على صورته وتمثاله، من الأنبياء والملائكة والصالحين؟ والآيات التى يعبر فيها بالموصول وصلته، كقوله: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} [سورة فاطر آية: 13] ونحوها من الآيات، كقوله تعالى: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ} [سورة يونس آية: 106] ، {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ} [سورة الإسراء آية: 56] . فهذه الموصولات في كلام الله وكلام رسوله، واقعة على كل مدعو ومعبود، نبيا أو ملكا أو صالحا، إنسيا أو جنيا، حجرا أو شجرا، متناولة لذلك بأصل الوضع; فإن الصلة كاشفة ومبينة للمراد، وهي واقعة على كل مدعو من غير تخصيص، وهي أبلغ وأدل وأشمل من الأعلام الشخصية والجنسية؛ وهذا هو الوجه في إيثارها على الأعلام، وشرط الصلة أن تكون الجزء: 12 ¦ الصفحة: 224 معهودة عند المخاطب، تقول: جاء الذي قام أبوه لمن يعهد قيام الأب، ويجهل النسبة بينه وبين من جاء. والمعهود عند كل من يعقل من أصناف بني آدم أن الأنبياء والملائكة والصالحين، قد عبدوا مع الله، وقصدهم المشركون بالدعاء في حاجاتهم وملماتهم، كما جرى لليهود والنصارى في عبادة الأنبياء والأحبار والرهبان; وكما جرى لقوم نوح في ود وسواع، ويغوث ويعوق ونسر. وكما جرى للعرب في عبادة الملائكة، واللات، وهو رجل صالح كان يلت السويق للحاج؛ وهذا أوضح من أن يحتاج لتقرير، وأظهر من أن يتوقف على كشف وتفسير، فإن العربي سليم الذوق والفطرة يعرف بعربيته وفطرته; وجميع المفسرين يقررون هذا بضروب من العبارات والتقريرات، ويفهمها الذكي; ومن خص الأصنام في بعض المواضع، فهو لا يمنع أنها عبدت باعتبار من هي على صورته؛ وقد ذكر هذا ابن كثير في تفسيره، وذكره غيره من أهل العلم. وقد كذب هذا عليهم، ونسبهم إلى الجهل، كما كذب على الله ورسوله; قال تعالى: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ} [سورة الزمر آية: 60] ، وأيضا: فقد قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [سورة الأنبياء آية: 25] ؛ فإن نازع هذا في عموم النفي، فهو على مذهب من قال: الجزء: 12 ¦ الصفحة: 225 {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [سورة ص آية: 5] ، وإن سلم العموم، وزعم أن دعاء الصالحين ونداءهم، ليس بعبادة ولا دعاء، فقد خرج عن المعقول والمنقول، وأتى بجهالة حمقى، خرج بها عما قاله جميع أئمة العلم والهدى. وقوله تعالى عن نبيه يوسف: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [سورة يوسف آية: 39] هي من هذا الباب؛ فإن تفرق الآلهة والأرباب، يصدق بعبادة الأنبياء والصالحين؛ ومن نازع في هذا فليس من جملة العقلاء، ولا ممن يعرف الضروريات التي يعرفها الحمقاء، هذا لو لم يرد في عبادة الأنبياء والصالحين والملائكة نصوص خاصة. وقد جاء في ذلك ما فيه الهدى والشفاء، قال تعالى: {وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [سورة آل عمران آية:80] ، والأرباب هنا: هم الآلهة المعبودة، فإن الرب وضع للمعبود، كما وضع للمالك والمربي والخالق، وليس هذا من المشترك ولا من المتواطئ، بل هو من استعمال اللفظ في حقيقته اللغوية والشرعية. وبهذا يستبين لك خطأ العراقي في قوله: على أنها أرباب; فإنه يريد بهذا القيد أنها لا تكون عبادة إلا مع اعتقاد التدبير والتأثير لها، كما تقدم عنه صريحا; وقال تعالى فيمن عبد الصالحين بطاعتهم من دون الله، وغلا في الأنبياء: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} [سورة التوبة آية:31] ، الآية الجزء: 12 ¦ الصفحة: 226 فسرها النبي صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم: بطاعتهم في التحليل والتحريم، المخالف لأحكام الله تعالى. وقال تعالى فيمن عبد الصالحين: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً} [سورة الإسراء آية: 56] الآية، وهذه فيمن عبد الصالحين من الجن والإنس، والملائكة، كما فسرها بذلك غير واحد من السلف، ويدل عليه قوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} [سورة الإسراء آية: 57] ، وقد وصفهم بأنهم لا يملكون كشف الضر، ولا تحويله من حال إلى حال، وإن قل، كما يفيده النكرة في سياق النفي، فبطل دعاؤهم بما لا يقدر عليه إلا الله. وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ} [سورة سبأ آية: 57] الآية، نفى أن يكون لهؤلاء المدعوين ملك في السماوات والأرض، ولو قل، كمثقال ذرة؛ وهذا هو الذي يعبر عنه بالاستقلال. ونفى أن يكون لهم فيهما شرك ولو قل، كما يفيده قوله: {مِنْ شِرْكٍ} [سورة سبأ آية: 22] فإنه يفيد استغراق النفي. ونفى أن يكون له منهم من ظهير يعاونه ويوازره، وإذا بطل الملك والشركة والمعاونة، لم يبق سوى الشفاعة، فنفاها بقوله {وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سورة سبأ آية: 23] ؛ فإن هذا يفيد إبطال الشفاعة التي ظنها المشرك، ودعا غير الله لأجلها، وقد دل القرآن على نفيها في مواضع. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 227 والشفاعة المثبتة التي دل عليها الاستثناء، وجاءت بها الأحاديث النبوية، نوع آخر غير ما ظنه المشركون; وحقيقتها: أن الله تعالى إذا أراد رحمة عبده ونجاته، أذن لمن شاء في الشفاعة رحمة للمشفوع فيه، وكرامة للشافع، وقيدت الشفاعة المثبتة بقيود: منها: إذنه تعالى للشافع. ونكتة هذا القيد وسره صرف الوجوه إلى الله، وإسلامها له، وعدم التعلق على غيره لأجل الشفاعة، ولذلك يساق هذا بعد ذكر التوحيد، وما يدل على وجوب عبادة الله وحده؛ وهذا الموضع لم يفهمه كثير من الناس، ظنوا أن الاستثناء يفيد إثبات الشفاعة مطلقا، وطلبها من غير الله، فعادوا إلى ما ظنه المشركون وقصدوه، قال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [سورة يونس آية: 18] . ومنها: أنه لا يشفع أحد إلا فيمن رضي الله قوله وعمله، قال تعالى: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [سورة النجم آية: 26] ، وقال تعالى: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [سورة الأنبياء آية: 28] ؛ ومن الآيات الخاصة بمن يدعو الملائكة وأمثالهم، قوله تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ} [سورة سبأ آية: 40] الآية، وقال تعالى في شأن المسيح: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [سورة المائدة آية: 116] . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 228 فتأمل ما فيها من العلوم، إن كنت من ذوي الألباب والفهوم; منها: أن اتخاذ الأنبياء والصالحين آلهة شرك، ينبغي تنْزيه الرب تعالى عنه; وفيها براءة أولياء الله ممن أشرك بهم. وفيها: أن الرسل ما أمرت الخلق إلا بما أرسلوا به من عبادة الله وحده. وفيها برهان ما جاءت به الرسل من الأمر بالعبادة، وأن الرب الذي عمت ربوبيته جميع خلقه، هو المستحق أن يعبد، وأن العبد المربوب ولو علت درجته، كعيسى وغيره من الرسل والملائكة، لا يكون شريكا لربه ومالكه، {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ} [سورة الروم آية: 28] الآية. والقرآن كله يدل على هذا، ولكن من عادة القرآن مراعاة ما تقتضيه الحال، فيطنب في محل الإطناب، ويوجز في محل الإيجاز؛ والبلاغة مطابقة الكلام لمقتضى الحال. فظهر: أن آية سورة فاطر التي أوردها، دالة على ما دل عليه سائر الآيات، وأن فيها من العموم المستفاد من الصلة، ما لا يتأتى معه التخصيص، وأن ما تقدم من الآيات دال على ذلك، يعضد مفهوم من أوردها في المنع من دعاء الصالحين. فصل وقول العراقي: هذه الآية صحيحة لكن الفهم باطل، مما يدل على جهله المركب، وكثافة فهمه؛ فإن القرآن أغنى وأعلى وأجل وأعظم، من أن يعبر عنه بهذه العبارة، أو يقسم إلى صحيح وغيره، وإنما تستعمل هذه العبارة فيما يقبل القسمة الجزء: 12 ¦ الصفحة: 229 من الأحاديث، لأنها تنقسم إلى صحيح وحسن، وضعيف وموضوع، ولا يصحح إلا من يضعف، ولا يحسن إلا من يقبح. وقد أنكر أبو حنيفة على رجل صار يحسن ما يسمع منه من الروايات، وزجره عن ذلك، وقال: إنما يحسن من يقبح; هذا في السنة ونحوها، فكيف بالقرآن الذي هو كله حق وهدى؟ {تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [سورة فصلت آية: 42] . وقوله: إن الدعاء هو السجود في هذه الآية، وإن نداء الصالحين ليس بعبادة، إلى آخر عبارته، فهذا الكلام نشأ عن جهله باللغة والشرع، وما جاءت به الأنبياء، فإن العبادة تتضمن غاية الخضوع والذل؛ ومنه طريق معبد، إذا كان مذللا قد وطئته الأقدام، هذا أصلها في اللغة. وأما في الشرع، فهي: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه، من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة; قاله شيخ الإسلام; وقال بعضهم: هي ما أمر به شرعا من غير اقتضاء عقلي، ولا اطراد عرفي; وقال بعضهم: هي فعل ما أمر الله به ورسوله، وترك ما نهى الله عنه ورسوله، ابتغاء وجه الله والدار الآخرة. فدخل في هذه التعاريف والحدود: جميع أنواع العبادات، فلا يقصد بها غير الله، ولا تصرف لسواه; وهذا الغبي لم يعرف من أفرادها غير السجود. ودعاء المسألة من أفضل أنواعها وأجلها، كما في حديث النعمان بن بشير: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " الدعاء هو العبادة" 1.   1 الترمذي: الدعوات 3372 , وأبو داود: الصلاة 1479 , وابن ماجه: الدعاء 3828 , وأحمد 4/267 ,4/271 ,4/276. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 230 والحصر يقتضي الاختصاص الدعائي، والتمييز على سائر العبادات; قال بعض الشراح، هو كقوله: " الحج عرفة" 1، أي: ركن العبادة الأعظم هو الدعاء. وفي حديث أنس: " الدعاء مخ العبادة " 2 ومخ الشيء خالصه ولبه، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "الدعاء سلاح المؤمن وعماد الدين "، والعماد والعمود ما يقوم به الشيء، ويعتمد عليه جعله عمادا، لأنه لا يقوم إلا به. وأنت ترى كل العبادات الباطنة والظاهرة دالة على الطلب والمسألة، على اختلاف المطلوب والمسؤول، وكان هذا هو الوجه في التعبير بالدعاء دون العبادة، في أكثر موارد القرآن والسنة. ويشهد لهذا قوله صلى الله عليه وسلم: "أفضل الدعاء يوم عرفة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير". وقد سئل ابن عيينة عن معناه، فأنشد قول أمية في عبد الله بن جدعان: أأذكر حاجتي أم قد كفاني ... حياؤك إن شيمتك الحياء قال في القاموس: الدعاء هو الرغبة إلى الله، انتهى; وقال الحسين بن محمد النعمي: الدعاء في الأصل موضوع لأن يكون من فقير عاجز خاضع لغني قادر عزيز قاهر، انتهى; والدعاء يرد في الكتاب والسنة بمعنى الطلب والمسألة، بامتثال الأمر واجتناب النهي; ويرد بمعنى المسألة والطلب بالصيغة القولية.   1 الترمذي: الحج 889 , والنسائي: مناسك الحج 3016 , وأبو داود: المناسك 1949 , وابن ماجه: المناسك 3015 , وأحمد 4/309 ,4/335 , والدارمي: المناسك 1887. 2 الترمذي: الدعوات 3371. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 231 وقد فسر قوله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [سورة غافر آية: 60] الآية بدعاء العبادة، وبدعاء المسألة، والقولان معروفان، والآية تشمل النوعين، قاله شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره، وذكر أنهما متلازمان؛ فكل عابد سائل، وكل سائل عابد. وقال رحمه الله: والدعاء والدعوة في القرآن يتناول معنيين، دعاء العبادة، ودعاء المسألة وساق جملة من الآيات. ثم قال: ولفظ الصلاة في اللغة بمعنى الدعاء، وسميت به لتضمنها معنى الدعاء، دعاء العبادة، والمسألة; ثم قال: فأحد الاسمين يتناول الآخر عند تجرده عنه، ولكن إذا جمع بينهما فيراد بالسائل من يطلب بصيغة السؤال، ويراد بالعابد من يطلب ذلك بامتثال الأمر، وإن لم يكن في ذلك صيغة سؤال، وسمى الذكر دعاء لما فيه من التعريض بالمسألة. قال: وهذه الصيغة صيغة الطلب والاستدعاء، إذا كانت مما لا يحتاج إليه الطالب، أو ممن يقدر على قهر المطلوب منه ونحو ذلك، فإنها تقال على وجه الأمر، إما لما في ذلك من حاجة الطالب، وإما لما فيه من نفع المطلوب منه؛ وأما إذا كانت من الفقير من كل وجه للغني من كل وجه، فإنها سؤال محض بتذلل وافتقار، انتهى. قلت: وقد نص على ما ذكره الشيخ من الفرق علماء المعاني، صاحب المفتاح وغيره، وفرقوا في الصيغة الواحدة نظرا للمخاطب، والمخاطب بكسر الطاء، فقالوا: هي من الجزء: 12 ¦ الصفحة: 232 الأعلى أمر، ومن المساوي التماس، ومن دونه مسألة وطلب. وقد فسر قوله تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً} [سورة الأعراف آية:55] بدعاء المسألة، قاله العلامة ابن القيم; وقال: إنه في هذه الآية أظهر، وذكر أن استعمال الدعاء في العبادة والمسألة من استعمال اللفظ في حقيقته الواحدة، ليس من المشترك، ولا المتواطئ ولا المجاز. وقوله تعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ} [سورة الإسراء آية: 67] ظاهر في دعاء المسألة، لمناسبة الحال والواقع; وفي حديث عكرمة بن أبي جهل، لما فر يوم الفتح إلى السيف، وركب البحر، جاءتهم ريح عاصف، وظنوا الهلكة أخلصوا الدعاء لله، وصاروا يتواصون بذلك; ويقول بعضهم لبعض: لا ينجي في مثل هذا إلا الله. فقال عكرمة: إن كان لا ينجي في الشدة إلا هو تعالى، فكذلك لا ينجي في الرخاء إلا هو; وقال: لئن أنجاني الله لأرجعن إلى محمد، ولأضعن يدي في يده، فكان ذلك، وأسلم وحسن إسلامه رضي الله تعالى عنه; والقصة معروفة عند أهل العلم. وفي الحديث: " دعوة أخي ذي النون، ما دعا بها مكروب إلا فرّج الله عنه "، سماها دعوة، وهي سؤال وطلب، وتوسل بالتوحيد; والعراقي يقول: لا تسمى دعاء، وإنما هي نداء; وهذا رد على رسول الله وتكذيب بآيات الله، وقول على الله بغير علم. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 233 وفي السنن من حديث حصين بن عبيد الخزاعي: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له حين أسلم: " كم كنت تعبد؟ قال: سبعة: واحد في السماء، وستة في الأرض; قال فمن الذي تعد لرغبتك ورهبتك؟ قال الذي في السماء ". ومن هذا الباب: قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [سورة الأنعام آية: 40] الآية؛ وهذا الدعاء ظاهر في دعاء المسألة حال الشدة والضرورة; وقال تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [سورة العنكبوت آية: 65] الآية. وما زال أهل العلم يستدلون بالآيات التي فيها الأمر بدعاء الله، والنهي عن دعاء غيره، على المنع من مسألة المخلوق ودعائه بما لا يقدر عليه إلا الله؛ وكتبهم مشحونة بذلك، لا سيما، شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم، اللذين يزعم هذا العراقي أنه على طريقتهما. أيها المدعي سليمى سفاها ... لست منها ولا قلامة ظفر إنما أنت من سليمى كواو ... ألحقت في الهجاء ظلما بعمرو يوضح هذا: أن ما لا يقدر عليه من الأمور العامة الكلية، كهداية القلوب، ومغفرة الذنوب، والنصر على الأعداء، وطلب الرزق من غير جهة معينة، والفوز بالجنة، والإنقاذ من النار، ونحو ذلك غاية في القصد والإرادة، فسؤاله وطلبه، غاية في السؤال والطلب. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 234 وفي ذلك من الذل وإظهار الفاقة والعبودية، ما لا ينبغي أن يكون لمخلوق، أو يقصد به غير الله؛ وهذا أحد الوجوه في الفرق بين دعاء المخلوق، فيما يقدر عليه من الأسباب العادية الجزئية، وبين ما تقدم، مع أن سؤال المخلوق قد يحرم مطلقا. ومسألة المخلوق في الأصل محرمة وإنما أبيحت للضرورة، قال تعالى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [سورة الشرح آية: 7-8] . وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه بايع نفرا من أصحابه، أن لا يسألوا الناس شيئا، فكان أحدهم يسقط السوط من يده، فلا يقول لأحد: ناولنيه. وقد اشتهر عنه صلى الله عليه وسلم أنه منع من تعليق الأوتار والتمائم، وأمر بقطعها، وبعث رسوله بذلك، كما في السنن وغيرها; وقال: " من تعلق شيئا وكل إليه " 1؛ بل نهى عن قول الرجل: ما شاء الله وشئت; وقال لمن قال له ذلك: "أجعلتني لله ندا؟ "، ومنع من التبرك بالأشجار والأحجار. وقال لأبي واقد الليثي وأصحابه من مسلمة الفتح، لما قالوا له: اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط: " قلتم والذي نفسي بيده، كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اجعل لنا إلها كما لهم آلهة " 2. ونهى عن الصلاة عند القبور، وإن لم يقصدها المصلي، ولعن من فعل ذلك، وأخبر أنهم شرار الخلق عند الله، ونهى عن الذبح لله في مكان يذبح فيه لغيره، حسما لمادة الشرك،   1 الترمذي: الطب 2072. 2 الترمذي: الفتن 2180 , وأحمد 5/218. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 235 وقطعا لوسائله وسدا لذرائعه، وحماية للتوحيد وصيانة لجنابه. فمن المستحيل شرعا وفطرة وعقلا: أن تأتي هذه الشريعة المطهرة الكاملة، بإباحة دعاء الموتى والغائبين، والاستغاثة بهم في المهمات والملمات، كقول النصراني: يا والدة المسيح اشفعي لنا إلى الإله; أو يا عيسى أعطني كذا وافعل بي كذا. وكذلك قول القائل: يا علي أو يا حسين، أو يا عباس، أو يا عبد القادر، أو يا عيدروس، أو يا بدوي، أو فلان وفلان، أعطني كذا، أو أجرني من كذا، أو أنا في حسبك أو نحو ذلك، من الألفاظ الشركية التي تتضمن العدل بالله، والتسوية به تعالى وتقدس؛ فهذا لا تأتي شريعة ولا رسالة بإباحته قط، بل هو من شعب الشرك الظاهرة الموجبة للخلود في النار، ومقت العزيز الغفار، وقد نص على ذلك مشائخ الإسلام، حتى ذكره ابن حجر في الأعلام مقررا له: وتأويل الجاهلين، والميل إلى شبه المبطلين، هو الذي أوقع هؤلاء وأسلافهم الماضين، من أهل الكتاب والأميين، في الشرك بالله رب العالمين; فبعضهم يستدل على شركه بالمعجزات والكرامات، وبعضهم برؤيا المنامات، وبعضهم بالقياس على السوالف والعادات، وبعضهم بقول من يحسن به الظن. وكل هذه الأشياء ليست من الشرع في شيء، وعند رهبان النصارى، وعباد الصليب، والكواكب، من هذا الضرب الجزء: 12 ¦ الصفحة: 236 شيء كثير، وبعضهم أحذق من هذا العراقي وأمثاله، الذين لم يفهموا من العبادة سوى السجود، ولم يجدوا في معلومهم سواه. فأين الحب والخضوع، والتوكل والإنابة والخوف، والرجاء والرغب والرهب، والطاعة والتقوى، ونحو ذلك من أنواع العبادة الباطنة والظاهرة؟! فكل هذا عند العراقي يصرف لغير الله، ولا يكون عبادة، لأن العبادة السجود فقط. بل عبارته تفهم أن السجود لا يحرم إلا على من زعم الاستقلال؛ وقد رأينا كثيرا من المشركين، ولم نر مثل هذا الرجل في جهله ومجازفته وبلادته؛ ولولا ما نقصده من انتفاع من اطلع على هذه الرسالة، لم نتعرض لرد شيء من كلامه، لظهور بطلانه. ويزيد هذا ظهورا، ما جاء في الحديث من قوله: " من سأل الناس وله ما يغنيه، جاءت مسألته خدوشا أو خموشا في وجهه يوم القيامة " 1، وقوله: " لا تزال المسألة بأحدكم، حتى يلق الله وليس على وجهه مزعة لحم " 2 وقوله: " من نزلت به فاقة، فأنزلها بالناس لم تسد فاقته، ومن أنزلها بالله أوشك له بالغنى، أو بموت عاجل أو غنى عاجل " 3. وقوله: " لا تحل المسألة إلا لثلاثة، لذي غرم مفظع، أو فقر مدقع، أو دم موجع " 4، هذا في سؤال الخلق ما يقدرون عليه من الأسباب العادية الجزئية، فكيف ترى بما لا يقدر عليه إلا الله، من الأمور العامة الكلية؟! وعلى زعم هذا العراقي، لا يكره   1 الترمذي: الزكاة 650 , والنسائي: الزكاة 2592 , وأبو داود: الزكاة 1626 , وابن ماجه: الزكاة 1840 , وأحمد 1/388 ,1/441. 2 البخاري: الزكاة 1475 , ومسلم: الزكاة 1040 , والنسائي: الزكاة 2585 , وأحمد 2/15 ,2/88. 3 أبو داود: الزكاة 1645. 4 أبو داود: الزكاة 1641 , وابن ماجه: التجارات 2198 , وأحمد 3/126. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 237 شيء من ذلك، ولا يمنع منه لمن قصد الصالحين ودعاهم!! وقولة: على أنها أرباب، يريد به ما مر من أن دعاءها ومسألتها بطريق السبب والشفاعة لا يضر; وقد تقدم رد هذا بما يغني عن إعادته؛ وقد علق الحكم بالكفر، وإباحة الدم والمال، بنفس الشرك وعبادة غير الله، قال تعالى: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ} [سورة التوبة آية: 36] ، وقال: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} [سورة البقرة آية: 193] ، والفتنة الشرك; وقال تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} [سورة المائدة آية: 72] الآية، وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [سورة النساء آية: 48] . ومن المشتهر عندهم: أن تعليق الحكم بالمشتق يؤذن بالعلة; وهذا الأحمق زاد قيدا، فقال: لا يشرك إلا من قصد واعتقد الاستقلال من دون الله; وفي تلبية المشركين في الجاهلية: لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك، فهؤلاء لم يدعوا الاستقلال، وعلى زعم هذا ليسوا بمشركين!!. وقوله: وهذا نداء لا دعاء، من أدل الأشياء على جهله، وعدم ممارسته لشيء من العلم; وإن قال: فإن النداء هو رفع الصوت بالدعاء، أو الأمر أو النهي، ويقابله: النجاء، الذي هو المسارة وخفض الصوت، هذا بإجماع أهل اللغة، كما حكاه ابن القيم في نونيته، وشيخ الإسلام في تسعينيته، وليس قسيما للدعاء كما ظنه الغبي، قال تعالى: {وَيَوْمَ يَقُولُ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 238 نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ} [سورة الكهف آية: 52] ، الآية ما فعلوه هو عين ما أمروا به، وكفى بهذه الآية حجة على إبطال قوله. وقال تعالى: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ} [سورة الكهف آية: 52] ، {وَنُوحاً إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ} [سورة الكهف آية: 52] ، {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ} [سورة الأنبياء آية: 87] ، وقال تعالى: {ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ} [سورة مريم آية: 2-3] . وسمي هذا النداء دعاء في كتابه العزيز، قال عن نوح عليه السلام: {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ} [سورة القمر آية: 10] ، وقال: {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ} [سورة آل عمران آية: 38] . وفي الحديث: " دعوت أخي ذي النون ما دعا بها مكروب إلا فرج الله عنه ". وفيه أيضا: " لولا دعوة أخينا سليمان لأصبح موثقا " 1، يعني الشيطان الذي تفلت عليه صلى الله عليه وسلم، وفيه: " ألا أنبئكم بأول أمري وآخره، دعوة أبي إبراهيم وبشارة عيسى " 2. يشير بدعوة سليمان إلى قوله: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} [سورة ص آية: 35] ، الآية وبدعوة إبراهيم إلى قوله تعالى: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ} [سورة البقرة آية: 129] الآية، فسمى هذه المسألة دعوة، والتاء فيها للوحدة. وقال معاذ رضي الله تعالى عنه، في الطاعون: "إنه ليس برجز، إنه دعوة نبيكم; وموت الصالحين قبلكم، ورحمة ربكم";   1 مسلم: المساجد ومواضع الصلاة 542 , والنسائي: السهو 1215. 2 أحمد 4/127. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 239 يشير إلى قولة: " اللهم اجعل فناء أمتي بالطعن والطاعون " 1. فانظر هذه النصوص، وما أفادت من إطلاق اسم الدعاء على المسألة والطلب؛ وقد تقدم بعض هذا، وكرر تتميما للفائدة، وربما جر شأن شؤونا. وأما قول العراقي: إن الشيخ ذكر هذا على سبيل التغليظ والزجر، وله مائة عبارة تنفي ذلك وتخالفه. فيكفي من هذا العراقي أن يصحح دعواه بعبارة واحدة، ولا نكلفه تصحيح المائة، لأنه أعجز وأقل؛ وقد تقدم التنبيه على كذبه ومجازفته، وأنه وجد كتبا وموادا شتّتت فهمه، وحجبت إدراكه وعلمه، فلم يزدد بها إلا حيرة وشكا; وما أحسن ما قيل: جهد المغفل في الزمان مضيع ... وإن ارتضى استاذه وزمانه كالثور في الدولاب يسعى وهو لا ... يدرى الطريق فلا يزل مكانه وعبارات الشيخ في هذا الباب، أعنى إنكار الشرك وتكفير أهله، والحكم عليهم بما حكم الله به ورسوله في الدنيا والآخرة، موجود مشهور، لو تتبعناه لعز حصره واستقصاؤه، ولكن نشير لبعضه إلى ما وراءه. قال رحمه الله: وما علمت عالما نازع في أن الاستغاثة بالنبي أو غيره فيما لا يقدر عليه إلا الله، لا تجوز; قال: وعلو درجته صلى الله عليه وسلم بعد الموت لا تقتضي أن يسأل، كما لا تقتضي أن يُستفتى؛ ولا يمكن أحد أن يذكر دليلا شرعيا، على أن سؤال   1 أحمد 3/437. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 240 الموتى من الأنبياء والصالحين وغيرهم مشروع، بل الأدلة على تحريم ذلك كثيرة. وقال رحمه الله: من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم، ويتوكل عليهم، ويسألهم، كفر إجماعا. قال البهوتي في شرحه على هذا الموضع: لأنه فعل عباد الأصنام، قائلين: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [سورة الزمر آية: 3] . وقال رحمه الله - بعد أن سرد جملة من الآيات -: وتفصيل القول: أن مطلوب العبد إن كان من الأمور التي لا يقدر عليها إلا الله سبحانه وتعالى، مثل: أن يطلب شفاء مريض من الآدميين والبهائم، ووفاء دينه من غير جهة معينة، أو عافية أهله، أو ما به من بلاء الدنيا والآخرة، وانتصاره على عدوه، وهداية قلبه، وغفران ذنبه، أو دخول الجنة ونجاته من النار، أو أن يتعلم القرآن أو العلم، أو أن يصلح قلبه، أو يحسن خلقه ويزكي نفسه، وأمثال ذلك، فهذه الأمور لا يجوز أن تطلب إلا من الله تعالى؛ ولا يجوز أن يقال لملك ولا نبي، ولا شيخ سواء كان حيا أو ميتا: اغفر ذنبي، ولا انصرني على عدوي، ولا اشف مريضي، ولا عافني وعاف أهلي ودوابي، وما أشبه ذلك. ومن سأل ذلك مخلوقا كائنا من كان، فهو مشرك بربه، من المشركين الذين يعبدون الملائكة، والتماثيل التي يصورونها على صورهم، ومن جنس دعاء النصارى المسيح وأمه; قال الجزء: 12 ¦ الصفحة: 241 الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ} [سورة المائدة آية: 116] الآية، وقال تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} [سورة التوبة آية: 31] . الآية وقال رحمه الله: وكثير من الناس يقع في الشرك والإفك، جهلا وضلالا من المشركين وأهل الكتاب وأهل البدع; والله سبحانه وتعالى قد أرسل جميع رسله، وأنزل جميع كتبه، بأن لا يعبد إلا الله وحده لا شريك له، لا يعبد معه لا ملك ولا نبي ولا صالح، ولا تماثيلهم ولا قبورهم، ولا شمس ولا قمر، ولا كوكب، ولا ما صنع من التماثيل لأجلهم، ولا شيئا من الأشياء. وبين أن كل ما يعبد من دونه، فإنه يضر ولا ينفع، وإن كان ملكا أو نبيا، وأن عبادته كفر، قال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً} إلى قوله: {مَحْذُوراً} [سورة الإسراء آية: 56-57] ؛ بين سبحانه: أن كل ما يدعى من دونه من الملائكة والجن والإنس، لا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا، وأن هؤلاء المدعوين من الملائكة والأنبياء يتقربون إلى الله، ويرجونه ويخافونه; وكذلك كان قوم من الإنس يعبدون رجالا من الجن، فآمنت الجن المعبودون، وبقي عابدوهم يعبدونهم، كما ذكر ذلك ابن مسعود. وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 242 مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} [سورة سبأ آية: 22] إلى قوله: {وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سورة سبأ آية: 23] ؛ بين سبحانه أن كل ما يدعى من دونه من الملائكة والبشر وغيرهم ليس لهم مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ولا لهم نصيب فيهما، وليس لله ظهير يعاونه من خلقه. وهذه الأقسام الثلاثة، هي التي تحصل مع المخلوقين: إما أن يكون لغيره ملك دونه، أو أن يكون شريكا له، أو يكون معينا وظهيرا له؛ والرب تعالى ليس من خلقه مالك، ولا شريك، ولا ظهير له; فلم يبق إلا الشفاعة، وهو دعاء الشافع وسؤاله الله في المشفوع له، فقال: {وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سورة سبأ آية: 23] . ثم إنه خص بالذكر الملائكة والأنبياء، في قوله: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ} [سورة آل عمران آية: 79] إلى قوله: {بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [سورة آل عمران آية: 80] ، بين أن اتخاذهم أربابا كفر. وقال تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} [سورة المائدة آية: 17] إلى قوله: {وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [سورة المائدة آية: 76] ، وقد بين: أن من دعا المسيح وغيره، فقد دعا ما لا يملك له ضرا ولا نفعا. وقال لخاتم الرسل: {قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ} [سورة الأنعام آية: 50] ، وقال: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 243 الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ} [سورة الأعراف آية: 188] ، الآية وقال: {قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً} [سورة الجن آية: 21] . وقال: {لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِين َلَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} [سورة آل آية: 127-128] الآية، وقال {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [سورة القصص آية: 56] ، وقال: {إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ} [سورة النحل آية: 37] . انتهى. وكلامه من هذا المعنى يعز حصره أو يتعذر، وكذلك صاحبه شمس الدين بن القيم، كلامه في هذا الباب أشهر من أن يذكر، وأكثر من أن يحصر، إلا بكلفة ومشقة; وتقدم 1 قوله في المدارج. وقال أبو الوفاء بن عقيل: لما صعبت التكاليف على الجهال والطغام، عدلوا عن أوضاع الشرع إلى تعظيم أوضاع وضعوها هم لأنفسهم، فسهلت عليهم، إذ لم يدخلوا بها تحت غيرهم; وهم عندي كفار بهذه الأوضاع، مثل خطاب الموتى بالحوائج، ودس الرقاع في قبورهم; فيها: يا مولاي افعل بي كذا وكذا وتعليق الستور على القبور، اقتداء بمن عبد اللات والعزى; والويل عندهم لمن لم يقبل مشهد الكف، أو لم يعقد على قبره أو قبر أبيه بالآجر، ولم يقل الحمالون على جنازته: أبو بكر وعمر، انتهى. والمقصود: أن النصوص بهذا المعنى كثيرة شهيرة; والعاقل   1 في صفحة 209. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 244 يسير فينظر؛ ويكفي المؤمن أن دعاء الموتى والغائبين، لا يعرف عن أحد من أهل العلم والإيمان، الذين لهم لسان صدق في الأمة، ولم تأت به شريعة من الشرائع; بل المنقول عن جميع الأنبياء يرده ويبطله; فإن الله حكى أدعيتهم وتوجهاتهم، وما قالوه وأمروا به، وندب عباده إلى الاقتداء بهم، فقال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [سورة الأنعام آية: 90] . وقد أجمع المسلمون على ذم البدع وعيبها، قال تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [سورة الشورى آية: 21] ، وقال تعالى {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [سورة الأحقاف آية: 4] . وفي حديث العرباض بن سارية: " إنه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا؛ فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ. وإياكم ومحدثات الأمور! فإن كل بدعة ضلالة " 1. وهذا الوجه كاف في الجواب، للاتفاق على وجوب الاعتصام بالكتاب والسنة. فصل [دعاء الصالحين والتوجه بهم إلى الله] قال العراقي: والأصل في ذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} [سورة المائدة آية: 35] الآية. قلت: يريد العراقي أن الآية أصل في دعاء الصالحين، والتوجه بهم إلى الله وجعلهم وسائط بين العباد وبين الله،   1 أبو داود: السنة 4607 , والدارمي: المقدمة 95. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 245 ووسائل إليه في قضاء حاجاتهم وتفريج كرباتهم. والجواب: أن هذا القول صدر عن جهل بمسمى الوسيلة شرعا، فإن الوسيلة في شرع الله الذي شرعه على ألسن جميع رسله، هي: عبادته وحده لا شريك له، والإيمان به وبرسله، والأعمال الصالحة التي يحبها الله ويرضاها، كما في البخاري وغيره، من حديث الثلاثة الذين انطبقت عليهم الصخرة في غار، فتوسلوا إلى الله تعالى بأعمالهم الصالحة، من البر والعفة والأمانة. وكذلك ما شرع من واجب أو مستحب، قال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} [سورة الإسراء آية: 57] ، وابتغاؤها بالقيام بما أمر به وأحبه، ورضيه من الأعمال الصالحة. وأما دعاء غير الله فليس وسيلة شرعية، بل هو وسيلة أهل الشرك والجاهلية من أعداء الرسل، في كل زمان ومكان؛ والله لا يأمر بالشرك ولا يرضاه {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [سورة الأعراف آية: 29] . فكيف يتوسل إليه بالشرك به الذي هو أظلم الظلم، وضد القسط، والذي يمنع من إقامة الوجوه له عند المساجد. وهو -أي: الشرك- حقيقة التوسل الذي قصده المشركون، قال الله تعالى: {فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَاناً آلِهَةً} [سورة الأحقاف آية: 28] ، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 246 أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [سورة الزمر آية: 3] ، فهذا قد يسمى توسلا. فإن لفظ التوسل صار مشتركا، فيطلق شرعا على ما يقرب إلى الله من الأعمال الصالحة التي يحبها الرب ويرضاها، ويطلق على التوسل بذوات الصالحين، ودعائهم واستغفارهم، ويطلق في عرف عباد القبور، على التوجه إلى الصالحين، ودعائهم مع الله في الحاجات والملمات؛ والمراد بالآية هو الأول، عند أهل العلم والمفسرين. وأما التوسل بذوات الأنبياء والصالحين بدون طاعتهم، وبدون استغفارهم، فهذا لم يشرع ولا أصل له؛ فإن التوسل بالأنبياء مع معصيتهم، ومخالفتهم في الدين والملة، قد دلت آية سورة التحريم على المنع منه، وعدم الانتفاع بالتعلق والقرابة والنسب، والتوسل بذلك لمن لم يؤمن بما جاؤوا به من الهدى ودين الحق. وكذلك في الحديث: لما أنزل عليه قوله: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [سورة الشعراء آية: 214] ، قال: " يا معشر قريش، اشتروا أنفسكم. لا أغني عنكم من الله شيئا " 1. وأكبر من هذا: من يدعوهم ويستغيث بهم، ويتقرب إليهم بعبادتهم، على أنها وسيلة له وشفعاء، فإن هذا هو عين الشرك الذي ذمه القرآن وعابه، وإن سمي توسلا. وأما ما ذكره بعد هذا الكلام، من نسبة الذي ينهى عن   1 البخاري: الوصايا 2753 , ومسلم: الإيمان 206 , والنسائي: الوصايا 3646 ,3647 , وأحمد 2/350 ,2/398 ,2/448 , والدارمي: الرقاق 2732. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 247 دعاء غير الله إلى الجهل، وعدم الفهم، فهذا يتناول كل من نهى عن دعاء الأنبياء والصالحين; ومعلوم: أن الرسل نهت عن دعاء غير الله، بما لا يقدر عليه إلا الله، بل وفيما لا تدعو إليه حاجة ولا ضرورة، من جنس المسألة; فلازم كلامه: مسبة الأنبياء وأتباعهم إلى يوم القيامة; فنعوذ بالله من حال أهل الجهالة والسفاهة. فصل [الحلف بغير الله] قال العراقي: إنكم تكفّرون بالحلف بغير الله، ويكفر به السابقون من أهل بلدكم، وهو ليس بشرك ولا كفر; بل: هو مكروه كراهة تنْزيه، للأدلة على ذلك، ولأنه قد ورد أن النبي قال لبعض أصحابه: "لا وأبيك". ولأن الترمذي ترجم على هذه المسألة بالكراهة، وساق حديث ابن عمر: " من حلف بغير الله فقد أشرك " 1، وأن هذا يدل على الكراهة، للترجمة، ولأنه ساق الرواية الأخرى عن ابن عمر: " من حلف بغير الله فقد كفر " 2. وقال بعد: هذا محمول على التغليظ والزجر، كالرياء الذي فسر به قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً} [سورة الكهف آية: 110] . والجواب أن يقال: في هذا الكلام من الجهل والخلط، ما يتنَزه عنه العاقل فضلا عن العالم; من ذلك، أنه قال: الحلف بغير الله ليس بشرك ولا كفر، ثم ساق حديث ابن عمر: " من حلف بغير الله فقد أشرك " 3، ثم قادته المقادير إلى أن نطق بالرواية   1 الترمذي: النذور والأيمان 1535 , وأبو داود: الأيمان والنذور 3251 , وأحمد 2/34 ,2/69 ,2/86 ,2/125. 2 الترمذي: النذور والأيمان 1535 , وأبو داود: الأيمان والنذور 3251 , وأحمد 2/34 ,2/69 ,2/86 ,2/125. 3 الترمذي: النذور والأيمان 1535 , وأبو داود: الأيمان والنذور 3251 , وأحمد 2/34 ,2/69 ,2/86 ,2/125. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 248 الأخرى: " من حلف بغير الله فقد كفر " 1 فقف، وتأمل هذه العبر. ثم استدل: بأن الترمذي ترجم بالكراهة، وهو أول من يخالف الترمذي في أكثر ما في سننه، مع أنه لم يفهم كلام الترمذي، ولا حام حول مراده. ويقال: مسألة الحلف بغير الله، تظاهرت وتواترت النصوص النبوية بالنهي عنها، ودلت على أنه شرك لا يحل، ولا يجوز، كما ذكره أصحاب الكتب الستة، وأهل المساند من حديث أبي هريرة، وعمر وابنه، وابن مسعود وغيرهم، وإنما ساق الترمذي حديث ابن عمر; والترمذي رحمه الله أثبت أنه شرك، وجعله كالرياء. والرياء شرك بالنص والإجماع، وهو من الكبائر، إلا أنه ليس مما ينقل عن الملة ويوجب الردة، للآيات والأحاديث; وكلام الترمذي يدل على هذا، وقد جعله مثل الرياء، وقاسه عليه في الحكم، وحمله على هذا المحمل. والتأويل: أن الرواية الأخرى التي خرجها عن ابن عمر، فيها تكفير من حلف بغير الله، والحكم بأنه كفر; وأراد الترمذي: أن هذا الكفر ليس هو مما يخرج عن الملة، كالشرك الأكبر، بل كفر دون كفر، وشرك دون شرك، وظلم دون ظلم، كما قاله البخاري في صحيحه، وتسميته هذا كفرا من باب التغليظ، هذا مراده رحمه الله; وأما كونه شركا محرما، فلم ينفه الترمذي، ولم يتعرض له بتأويل; بل أثبته وقال به، لأنه جعله مثل الرياء.   1 الترمذي: النذور والأيمان 1535 , وأبو داود: الأيمان والنذور 3251 , وأحمد 2/34 ,2/69 ,2/86 ,2/125. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 249 وهذا الجاهل اغتر بكونه ترجم بالكراهة، والكراهة في عرف هذا الرجل: إنما تطلق على التنْزيه، هذا وجه ضلالة; ولم يدر أن إطلاقها على كراهة التنْزيه عرف حادث; وأن الكراهة في عرف الكتاب والسنة، وقدماء الأمة، تطلق على التحريم. قال تعالى: بعد أن ذكر المحرمات المتفق عليها في جميع الكتب السماوية: {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً} [سورة الإسراء آية: 38] ، وفي الحديث: " إن الله يكره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال وإضاعة المال " 1 وأظن هذا يحمل كل ما تقدم على كراهة التنْزيه. قال الترمذي رحمه الله: باب كراهة الحلف بغير الله، وساق بسنده حديث ابن عمر: " من حلف بغير الله فقد أشرك" 2، وسكت الترمذي على هذا، ولم يتعقبه بتأويل; ثم قال: باب، وساق بسنده الرواية الأخرى عن ابن عمر: " من حلف بغير الله فقد كفر " 3، وتأول لفظة كفر بأنها على وجه الزجر والتغليط، لأن الحلف بغير الله لا ينقل عن الملة، بل هو كالرياء في عدم الردة، وإن كان شركا. إذا عرفت هذا فالعراقي دلس، وجعل البابين بابا واحدا، وجعل كلام الترمذي في تأويله لفظة كفر راجعا إلى كلا البابين، وأن الحلف مكروه كراهة تنْزيه; والترمذي لم يتعرض لكونها للتنْزيه.   1 البخاري: في الاستقراض وأداء الديون والحجر والتفليس 2408 , ومسلم: الأقضية 593 , وأحمد 4/246 ,4/249. 2 الترمذي: النذور والأيمان 1535 , وأبو داود: الأيمان والنذور 3251 , وأحمد 2/34 ,2/69 ,2/86 ,2/125. 3 الترمذي: النذور والأيمان 1535 , وأبو داود: الأيمان والنذور 3251 , وأحمد 2/34 ,2/69 ,2/86 ,2/125. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 250 وأما قوله: إنكم تكفرون به، وترون أنه كفر، فهو كذب بحت، وفرية ظاهرة; ما قال أحد ممن يعتد به عندنا: إنه كفر مخرج عن الملة; وقد يطلق العالم والمفتي ما أطلقه الرسول صلى الله عليه وسلم في مثل هذا، ويقف حيث وقف; ومن أنكر هذا الإطلاق، فقد أنكر على الرسول صلى الله عليه وسلم على أن ابن قيم الجوزية قال: قد يكون ذلك شركا أكبر، بحسب ما قام بقلب قائله; وقاله القاضي عياض من المالكية، وهذا ظاهر لا يخفى إذا قصد تعظيم من حلف به، كتعظيم الله. أما استدلال هذا العراقي على عدم التحريم، بقوله صلى الله عليه وسلم: " من حلف باللات والعزى، فليقل: لا إله إلا الله " 1، فهذا الاستدلال والفهم ليس بشيء; والحديث دليل على التحريم; والاستدلال به عليه هو عين الفقه عن الله ورسوله، لأنه أمر من حلف بغير الله أن يكفر بتجديد الإسلام، والإتيان بكلمة الإخلاص، التي تضمنت البراءة من الشرك، وإثبات التوحيد. وقد قال لقريش وغيرهم من عباد الأصنام: " قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا " 2 وقال لعمه: " قل: لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله" 3، فإذا كان ذاك يدل على الكراهة، فهذا أيضا إنما يدل عليها؛ فسبحان من حال بين قلوب هؤلاء، وبين الفقه عنه، ومعرفة المراد من كلامه وكلام رسوله. وفي الحديث: إن حسنة التوحيد تمحو الشرك وتكفره، فإن الإسلام يجب ما قبله قال ابن مسعود: "لأن أحلف بالله   1 البخاري: تفسير القرآن 4860 والأدب 6107 والاستئذان 6301 والأيمان والنذور 6650 , ومسلم: الأيمان 1647 , والترمذي: النذور والأيمان 1545 , والنسائي: الأيمان والنذور 3775 , وأبو داود: الأيمان والنذور 3247 , وابن ماجه: الكفارات 2096 , وأحمد 2/309. 2 البخاري: تفسير القرآن 4675 , ومسلم: الإيمان 24 , والنسائي: الجنائز 2035 , وأحمد 5/433. 3 البخاري: الجنائز 1360 , ومسلم: الإيمان 24 , والنسائي: الجنائز 2035 , وأحمد 5/433. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 251 كاذبا، أحب إلى من أن أحلف بغيره صادقا". قال شيخ الإسلام ابن تيمية قدس سره، بعد أن ذكر تحريم الحلف، واستدل له: ومعنى قول ابن مسعود: إن حسنة التوحيد أعظم من حسنة الصدق، وسيئة الشرك أعظم من سيئة الكذب، مع أن الكذب محرم بالإجماع. وأما ما حكاه عن شيخنا الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله، أنه قال في مختصر الإنصاف: ويكره الحلف بغير الله، وأن الشيخ استدل للكراهة. فلا يخفى أن العراقي دلس هنا ولبس، فأسقط من العبارة كلام ابن عبد البر، وحكاية الإجماع على التحريم؛ هذا تدليسه. وأما تلبيسه، فإن الشيخ قال بعد ذلك: وقيل: يجوز; فأخره، وحكاه بصيغة التمريض، وذكر أن القائل استدل لهذا، بأن الله أقسم بمخلوقاته، وبقوله: " أفلح وأبيه إن صدق " 1، وبقوله في حديث أبي العشراء: " أما وأبيك لو طعنت في فخذها أجزأك " 2، ثم تعقب الشيخ هذا، وذكر: أن أحمد لم يثبت حديث أبي العشراء، واستدل بقوله: " إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت " 3، وبحديث ابن عمر: " من حلف بغير الله فقد أشرك " 4 وقرر الشيخ أدلة التحريم. والشيخ رحمه الله، في كتاب التوحيد، استدل على هذه المسألة، بقوله تعالى: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [سورة البقرة آية: 22] ، وترجم بالآية على هذه المسألة، وساق حديث   1 البخاري: الإيمان 46 والصوم 1891 والشهادات 2678 والحيل 6956 , ومسلم: الإيمان 11 , والنسائي: الصلاة 458 والصيام 2090 والإيمان وشرائعه 5028 , وأبو داود: الصلاة 391 والأيمان والنذور 3252 , وأحمد 1/162 , ومالك: النداء للصلاة 425 , والدارمي: الصلاة 1578. 2 الترمذي: الأطعمة 1481 , والنسائي: الضحايا 4408 , وأبو داود: الضحايا 2825 , وابن ماجه: الذبائح 3184 , وأحمد 4/334 , والدارمي: الأضاحي 1972. 3 البخاري: الأيمان والنذور 6646 , ومسلم: الأيمان 1646 , والترمذي: النذور والأيمان 1533 ,1534 , والنسائي: الأيمان والنذور 3766 ,3767 ,3768 , وأبو داود: الأيمان والنذور 3249 , وابن ماجه: الكفارات 2094 , وأحمد 2/7 ,2/8 ,2/11 , ومالك: النذور والأيمان 1037 , والدارمي: النذور والأيمان 2341. 4 الترمذي: النذور والأيمان 1535 , وأبو داود: الأيمان والنذور 3251 , وأحمد 2/69 ,2/86 ,2/125. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 252 ابن عمر، وما روي عن ابن عباس، ومنه "والله وحياتك". وأما الجواب عن قوله: "أفلح وأبيه" وقوله: "أما وأبيك" فلأهل العلم عنه أجوبة معروفة في محلها; منها: أن هذا ليس من جنس اليمين المقصودة، بل هو مما جرى على ألسنتهم من غير قصد، مثل قوله: "تربت يداك"، "ثكلتك أمك"، "ويح عمار" وهذا الجواب ذكره كثير من الناس; وقيل: إن ذلك منسوخ; واستدل القائل لهذا القول، بما لا يمكن أمثال هذا العراقي نقضه; وبعضهم تكلم في السند، ولم يثبت هذا، كما تقدم عن أحمد في حديث أبي العشراء. وهذا آخر ما أوردناه; والحمد لله حمدا كثيرا، كما ينبغي لكرم وجهه، وعز جلاله، وعظيم سلطانه; وصلى الله على عبده ورسوله محمد النبي الأمي، وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 253 [الرد على كراسة أنشأها الصحاف لعيب الموحدين ومدح شيوخه المارقين] وله أيضا، أسكنه الله الفردوس الأعلى: بسم الله الرحمن الر حيم الحمد لله نحمده ونستعينه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أرسله بين يدي الساعة بشيرا ونذيرا {وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً} [سورة الأحزاب آية: 46] . أما بعد: فإن بعض الإخوان ناولني كراسة أنشأها عبد اللطيف بن عبد المحسن الصحاف، فيها تعرض لعيب الموحدين، وذم لما هم عليه من الملة والدين، ومدح لبعض شيوخه المارقين، وأنهم من جلة العلماء العاملين، الذين لهم لسان صدق في الآخرين; وفيها غير ذلك مما هو مستبين للواقفين عليها والناظرين. وقد طلب مني من ناولنيها أن أكتب شيئا في بيان ما تضمنته من الأباطيل، مع الاختصار، وترك البسط والتطويل، إلا لإيراد حجة، أو كشف دليل؛ فأسأل الله الإعانة على ذلك، والهداية إلى ما هنالك. فأما المقدمة التي قدمها الصحاف أمام مقصوده، وجعلها طالعة نثره وعقوده، ففيها من الدلالة على جهلة وقصوره، ما يعرف بأول نظر في جمعه ومسطوره، من ذلك أنه يصف بالعلم الجزء: 12 ¦ الصفحة: 254 من ليس من أهله، ويكذب على المعصوم في عزوه ونقله، يحتج في فضل العلم بالضعيف الموضوع، لجهله بما صح من المرسل والمرفوع. ليست له ملكة في نقد الثابت من المصنوع، يتأول كل حاذق فقيه عند سماع خلطه وما يبديه، حديث عبد الله بن عمرو في قبض العلم ورياسة الغمر. وكلامه من أظهر الأدلة على ما قلناه، عند كل من وقف عليه من أهل الفقه عن الله، فلذلك اكتفينا بالإشارة عن بسط القول والعبارة. فأما قوله في المقدمة التي مدح بها أشياخه المذكورين في رسالته: "علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل" وقوله: "نظرك إلى وجه العالم، خير لك من ألف فرس تتصدق بها في سبيل الله; وسلامك على العالم، خير لك من عبادة ألف سنة" كذلك قوله: "إن العالم أو المتعلم إذا مر على قرية فإن الله يرفع العذاب عن مقبرة تلك القرية أربعين صباحا" وقوله "إن الله يغفر للعالم أربعين ذنبا قبل أن يغفر للجاهل". فهذه الآثار ونحوها ليست بشيء عند أهل العلم بالحديث، ولا يحتج بها ويعول عليها من له أدنى تمييز وممارسة; وإنما يلتفت إليها، ويحكيها أهل الجهالة والسفاهة، من القصاصين والكذابين; وأما أهل العلم والدين، فبمجرد النظر إليها، والوقوف عليها، يعرفون أنها من الأخبار الموضوعة المكذوبة، التي لا تروج إلا على سفهاء الأحلام، وأشباه الأنعام. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 255 وقد ورد في فضل العلم والعلماء، من الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية ما ينيف على مائة وخمسين دليلا، كما قرره صاحب مفتاح دار السعادة، وقد مر صلى الله عليه وسلم في رهط من أصحابه، وهم سادات العلماء والمتعلمين، على قبرين يعذبان، فشق جريدة ووضعها عليهما، وقال: " لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا " 1، ولم يقل: لمروري ومرور أصحابي عليهما يخفف عنهما، كما زعمه هذا الجاهل. وكأي من قرية عذبت وأتاها أمر الله بغتة، وأنبياؤهم وعلماؤهم قبل ذلك يدعونهم، وهم ينظرون إلى وجوههم ويخاطبونهم، ويسمعون كلامهم، فما أغنى عنهم ذلك، إذ لم يؤمنوا بآيات الله، وأصابهم من العذاب ها أصابهم; وكان الأولى بهذا الرجل أن لا يخوض فيما لا يدريه، وأن يعطي القوس باريه: لا يعرف الشوق إلا من يكابده ... ولا الصبابة إلا من يعانيها وأما قوله: إن في الحديث: "أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم"، فهذا الحديث لم يثبته الحفاظ من أهل العلم، بل ذكروا أنه موضوع. قال ابن عبد البر، إمام المغرب في وقته، وحامل لواء المالكية في زمانه: حدثنا محمد بن إبراهيم بن سعد، أبا عبد الله بن مفرج حدثه، قال: حدثنا محمد بن أيوب الصموت، قال: قال لنا البزاز: وأما ما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم: أصحابي كالنجوم; فهذا الكلام لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم.   1 البخاري: الوضوء 218 , ومسلم: الطهارة 292 , والنسائي: الطهارة 31 والجنائز 2068 , وأبو داود: الطهارة 20 , وأحمد 1/225. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 256 وقال ابن القيم الجوزية -بعد أن ذكر طرق هذا الحديث-: لا يثبت شيء منه; ثم قال ما معناه: إن الأخذ بعمومه يقتضي أن الاهتداء يحصل بالاقتداء بكل صحابي، ولو تخالفت أقوالهم وتباينت آراؤهم، وأن الشخص مخير بين الأخذ بالقول وضده. فيخير في مسألة الجد والإخوة، بين مذهب أبي بكر ومن خالفه، وفي مسألة جعل الطلاق الثلاث واحدة، بين رأي عمر وغيره، وفي مسألة المتوفى عنها زوجها، وبين الاعتداد بالوضع، وتربص أقصى الأجلين، وفي مسألة استرقاق المرتدات، بين مذهب أبي بكر وعمر؛ ويخير في بيع أمهات الأولاد، بين مذهب من يقول: بجوازه كعلي، ومن يقول بمنعه كعمر ومن وافقه. وبالجملة: فإطلاق هذا يوجب أن الاهتداء يحصل بأحد الضدين، ولا نعلم قائلا به من أهل العلم والإيمان; والحق واحد في نفسه لا يتعدد، وقد قال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [سورة النساء آية: 59] ، والخطاب عام لجميع الأمة الصحابة وغيرهم. وهي نص في أن الاهتداء لا يحصل مع النّزاع والاختلاف، إلا بالرد إلى الله والرسول، لا الاقتداء بأحد من الخلق، كائنا من كان؛ وأما مع عدم النص المخالف، فالاقتداء بمن هدى الله من النبيين هو الواجب، كما قال: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [سورة الأنعام آية: 90] . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 257 وأما ثناء الصحاف، على مشائخه الستة الذين سماهم، وادعى أنهم من أهل العلم والفضل، وقدمهم على من سواهم، فيقال له: هذه الدعوى، وهذا الثناء، هو بحسب ما عندك وما ظهر لك. ومن تجاوزت به الغفلة والجهالة، إلى أن يجعل عباد الله الموحدين من أهل الضلالة، الذين يكفّرون أهل لا إله إلا الله، ويجعل عبّاد الأولياء والصالحين الذين يفزعون إليهم بالدعوة من دون رب العالمين، هم أهل لا إله إلا الله، كيف يعرف العلم والإيمان؟! أو يرجع إليه في تحقيق هذا الشأن؟! شعرا: ما أنت بالحكم الترضى حكومته ولا الأصيل ولا ذي الرأي والجدل وشهادة من لا يعرف العلم أو النحو، أو الهندسة أو الطب مثلا لشخص، بأنه عالم أو نحوي أو مهندس، أو طبيب، شهادة زور، وقول بلا علم; وفي المثل: لا يعرف الفضل إلا ذووه، ولو عرف هذا الرجل الفضل وأهله، والعلم ومحله، لأحجم عن هذا الهذيان; وقد نقل لنا عن بعض هؤلاء الستة، الذين سماهم واختارهم، ما يقتضي - إن صح - بأنه من المعطلة الضالين. ويقال أيضا: هذه الدعوى قد ادعاها كل أحد لشيخه ومتبوعه، فادعتها الجهمية والقدرية، والخوارج والمعتزلة، والروافض والنصيرية، ونحوهم من كل مبتدع ضال; فكل أحد يدعي أن شيخه وإمامه أولى بالعلم والإيمان من خصومه; والدعاوي المجردة لسنا منها في شيء. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 258 وقد قال تعالى: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [سورة البقرة آية: 111-112] . فإسلام الوجه لله هو عبادته، والكفر بعبادة من سواه، وهذا معنى شهادة أن لا إله إلا الله؛ وهذه الكلمة تتضمن العلم والعمل مع القول، فلا يكتفي ببعض ذلك; بل لا بد من العلم والعمل والشهادة. وأما الإحسان، فهو: أن تعبد الله بما شرع، لا بالأهواء والبدع; وهذا هو حقيقة شهادة: أن محمدا رسول الله، فإنها تقتضي وتتضمن وجوب متابعته، وتحريم معصيته، وأن السير إلى الله من طريقه ومحجته؛ هذا هو حقيقة اتباع الرسول، والشهادة له بالرسالة; والدين كله يدخل في هذه الجملة الشريفة، وبسط الكلام عليها يستدعي أسفارا. والسؤال الذي أجاب عنه هذا الرجل في رسالته، يلزم المفتي ويجب عليه التفصيل في جوابه، ولا يجوز له إطلاق القول لأن الحكم يختلف باختلاف الحال; وإطلاق القول بتكفير كل صالح من صلحاء الأمة من غير تعيين، يدخل فيه كل موصوف بهذه الصفة، من حين مبعثه صلى الله عليه وسلم إلى يوم الدين؛ وما أظن هذا يقع من عاقل يتصور ما يقول، مسلما كان أو كافرا، سنيا كان أو بدعيا، الجزء: 12 ¦ الصفحة: 259 لأن الكافر لا يرى الحكم والإسلام، إذ هي أحكام شرعية لا يقول بها إلا أهل الشريعة; وأما المسلم فلا يتصور أن يكفر صلحاء أهل ملته ودينه؛ وكذلك السني والبدعي، كل منهما يدعي موالاة صلحاء الأمة، ويرى أنهم هم أسلافه وأئمته، وكل طائفة تدعي موالاة الصلحاء، والبراءة من الفساق ونحوهم. وأما إن كان قصد السائل: من يكفر معينا من هذه الأمة، فعليه أن يعبر بغير هذه العبارة الموهمة; والمجيب عليه أن يستفصل، لأن ترك الاستفصال فيه إيهام; ولا شك أن تكفير بعض صلحاء الأمة ممكن الوقوع; بل قد وقع من الخوارج وغيرهم من أهل البدع. فيقال حينئذ: إن كان المكفر لبعض صلحاء الأمة متأولا مخطئا، وهو ممن يسوغ له التأويل، فهذا وأمثاله ممن رفع عنه الحرج والتأثيم، لاجتهاده، وبذل وسعه، كما في قصة حاطب بن أبي بلتعة؛ فإن عمر رضي الله عنه وصفه بالنفاق، واستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتله، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم " وما يدريك أن الله اطلع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم " 1. ومع ذلك فلم يعنف عمر على قوله لحاطب: إنه قد نافق; وقد قال الله تعالى: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [سورة البقرة آية: 286] ؛ وقد ثبت أن الرب تبارك وتعالى قال بعد نزول هذه الآية، وقراءة المؤمنين لها: " قد فعلت ".   1 البخاري: الجهاد والسير 3007 ,3081 والمغازي 3983 ,4274 وتفسير القرآن 4890 , ومسلم: فضائل الصحابة 2494 , والترمذي: تفسير القرآن 3305 , وأبو داود: الجهاد 2650 , وأحمد 1/79. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 260 وأما إن كان المكفر لأحد من هذه الأمة، يستند في تكفيره له إلى نص وبرهان، من كتاب الله وسنة نبيه، وقد رأى كفرا بواحا، كالشرك بالله، وعبادة ما سواه، والاستهزاء به تعالى أو بآياته أو رسله، أو تكذيبهم، أو كراهة ما أنزل الله من الهدى ودين الحق، أو جحد صفات الله تعالى ونعوت جلاله، ونحو ذلك، فالمكفر بهذا وأمثاله، مصيب مأجور، مطيع لله ورسوله. قال الله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ} [سورة النحل آية:36] ، فمن لم يكن من أهل عبادة الله تعالى وإثبات صفات كماله ونعوت جلاله، مؤمنا بما جاءت به رسله، مجتنبا لكل طاغوت يدعو إلى خلاف ما جاءت به الرسل، فهو ممن حقت عليه الضلالة، وليس ممن هدى الله للإيمان به، وبما جاءت به الرسل عنه. والتكفير بترك هذه الأصول وعدم الإيمان بها، من أعظم دعائم الدين؛ يعرفه كل من كانت له نهمة، في معرفة دين الإسلام. وغالب ما في القرآن إنما هو في إثبات ربوبيته تعالى، وصفات كماله، ونعوت جلاله، ووجوب عبادته وحده لا شريك له، وما أعد لأوليائه، الذين أجابوا رسله في الدار الآخرة، وما أعد لأعدائه الذين كفروا به وبرسله، واتخذوا من دونه الآلهة والأرباب؛ وهذا بين بحمد الله. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 261 وقد يصدر التكفير لصلحاء الأمة، من أعداء الله ورسوله، أهل الإشراك به والإلحاد في أسمائه؛ فهؤلاء يكفرون المؤمنين بمحض الإيمان، وتجريد التوحيد، ويعيبون أهل الإسلام، ويذمونهم على إخلاص الدين، وتجريد المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ بل قد يقاتلونهم على ذلك، ويستحلون دماءهم وأموالهم، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ} [سورة البروج آية: 10] . فمن كفّر المسلمين أهل التوحيد، أو فتنهم بالقتال أو التعذيب، فهو من شر أصناف الكفار، ومن {الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِجَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ} [سورة إبراهيم آية: 28-29.] . وفي الحديث " من قال لأخيه: يا كافر، فقد باء بها أحدهما " 1. وأما من أطلق لسانه بالتكفير، لمجرد عداوة، أو هوى، أو لمخالفة في المذهب، كما يقع لكثير من الجهال، فهذا من الخطأ البين. والتجاسر على التكفير أو التفسيق والتضليل، لا يسوغ إلا لمن رأى كفرا بواحا، عنده فيه من الله برهان; والمخالفة في المسائل الاجتهادية التي قد يخفى الحكم فيها على كثير من الناس، لا تقتضي كفرا ولا فسقا; وقد يكون الحكم فيها قطعيا جليا عند بعض الناس، وعند آخرين يكون الحكم فيها مشتبها خفيا; والله لا يكلف نفسا إلا وسعها.   1 البخاري: الأدب 6104 , ومسلم: الإيمان 60 , والترمذي: الإيمان 2637 , وأبو داود: السنة 4687 , وأحمد 2/112 , ومالك: الجامع 1844. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 262 والواجب على كل أحد أن يتقي الله ما استطاع; وما يظهر لخواص الناس من الفهوم والعلوم، لا يجب على من خفيت عليه، عند العجز عن معرفتها; والتقليد ليس بواجب، بل غايته أن يسوغ عند الحاجة; وقد قرر بعض مشائخ الإسلام أن الشرائع لا تلزم إلا بعد البلوغ وقيام الحجة; ولا يحل لأحد أن يكفّر أو يفسّق بمجرد المخالفة للرأي والمذهب. وبقي قسم خامس، وهم الذين يكفرون بما دون الشرك من الذنوب، كالسرقة، والزنى وشرب الخمر; وهؤلاء هم الخوارج، وهم عند أهل السنة ضلاّل مبتدعة، قاتلهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن الحديث قد صح بالأمر بقتالهم والترغيب فيه، وفيه: أنهم يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم. وقد غلط كثير من المشركين في هذه الأعصار، وظنوا أن من كفر من تلفظ بالشهادتين، فهو من الخوارج; وليس كذلك، بل التلفظ بالشهادتين لا يكون مانعا من التكفير إلا لمن عرف معناهما، وعمل بمقتضاهما، وأخلص العبادة لله، ولم يشرك به سواه؛ فهذا تنفعه الشهادتان. وأما من قالهما ولم يحصل منه انقياد لمقتضاهما، بل أشرك بالله، واتخذ الوسائط والشفعاء من دون الله، وطلب منهم ما لا يقدر عليه إلا الله، وقرب لهم القرابين، وفعل لهم ما يفعله أهل الجاهلية من المشركين، فهذا لا تنفعه الشهادتان; بل هو كاذب في شهادته، كما قال تعالى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قالوا الجزء: 12 ¦ الصفحة: 263 نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [سورة المنافقون آية: 1] . ومعنى شهادة أن لا إله إلا الله، هو: عبادة الله، وترك عبادة ما سواه؛ فمن استكبر عن عبادته ولم يعبده، فليس ممن يشهد أن لا إله إلا الله، ومن عبده وعبد معه غيره، فليس هو ممن يشهد أن لا إله إلا الله. وأما قول السائل في سؤاله: ويعتقد أن أهل "القسم" كلهم كفار معطلون، كاليهود والنصارى، ومن لم يكفرهم فهو كافر; وإذا لقيه أحد من المسلمين وسلم عليه، قال: عليكم، إلى آخر ما قال. فاعلم: أن أهل "القسم" يخفى حالهم علينا، ولا ندري ما هم عليه من الدين؛ وفيما تقدم من التفصيل كفاية، فالمكفر لهم لا يخرج عن الأقسام المتقدمة، والصحاف قد خلط هنا، وأطال الهذيان; وزعم أن من كفرهم يكفر، ولا يصلى خلفه. وقد عرفت أن المسألة فيها تفصيل، كما قدمناه، وبه يعرف حكم الصلاة خلفه، وأنها لا تصح خلف من أشرك بالله، أو جحد أسماءه وصفاته لكفره؛ وأهم شروط الصلاة والإمامة، هو: الإسلام، معرفته والعمل به; ومن كفّر المشركين ومقتهم، وأخلص دينه لله، فلم يعبد سواه، فهو أفضل الأئمة وأحقهم بالإمامة، لأن التكفير بالشرك والتعطيل، هو أهم ما يجب من الكفر بالطاغوت. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 264 وأما من كفّر من ليس من أهل الكفر، لكنه متأول يسوغ تأويله، فهو أيضا من الأئمة المرضيين، إذا تمت له شروط الإمامة، وخطؤه مغفور له بنص الحديث; وأما من يكفر لهوى أو عصبية، أو لمخالفة في المذاهب، أو لأنه يرى رأي الخوارج، فهو فاسق لا يصلى خلفه إذا أمكنت الصلاة مع غيره، إلا إن كان ذا سلطان تخشى سطوته، فيصلى خلفه، كما يصلى خلف أئمة الظلم والجور. إذا عرفت هذا، فاعلم: أن الصحاف ذكر في جوابه ما لا يتعلق بالسؤال، كمسبته وعيبه من يعيب مشائخه، الذين ذكرهم، وترضى عنهم، كابن كمال، وعبد الله البصري، وحسين الدوسري، وغيرهم ممن ذكر، وحكمه على من عابهم أنه من الجهال المبتدعة، أكلة الحرام، الذين لا هم لهم في الدين، وأنهم ممن قال فيهم صاحب الزبد: وعالم بعلمه لم يعملن معذب من قبل عباد الوثن وأن همهم في جمع الدرهم والدينار، يعملون في تحصيلها أنواع الحيل، بالليل والنهار؛ فهذا الكلام مجرد دعوى، ومسبة ينَزه العاقل نفسه عن مثلها. ويكفي في ردها منعها وتكذيبها. ويمكن خصم الصحاف أن يقابلها ويعارضها بما هو محق فيه، كقوله: بل أنتم أهل الجهل بما بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه، لم تعرفوه بما وصف به نفسه، وبما وصفته به رسله من صفات الكمال، ونعوت الجلال; ولكنكم أخذتم الجزء: 12 ¦ الصفحة: 265 العقيدة عن أفراخ الفلاسفة واليونان، الذين هم من أعظم الخلق مناقضة لما نطق به القرآن، وما وصف به الرب نفسه في كتابه العزيز. وكذلك أنتم في باب معرفة حق الله وتوحيده، من أضل الناس وأجهلهم، تجعلون عبادة غير الله ودعاءه، والاستغاثة والاستعاذة به، والنذر له، والحب مع الله، توسلا بالصالحين، وتشفعا بهم؛ وقد صرح بهذا أشياخ هذا الصحاف وأشياعه، وكتبوا به إلينا، وإلى شيخنا رحمه الله تعالى. وعندهم أن الإنسان لا يكفر، ولا يكون مشركا إلا إذا اعتقد التأثير له من دون الله; ولم يفقهوا أن الله حكى عن المشركين في غير موضع من كتابه: أنهم يعترفون له بأنه هو المختص بالإيجاد والتأثير والتدبير، وأن غيره لا يستقل بشيء من ذلك، ولا يشاركه فيه; وحكى عن المشركين أنهم ما قصدوا بعبادة من سواه، إلا القربان والشفاعة، كما ذكر ذلك في غير موضع من كتابه. قال تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} [سورة إبراهيم آية: 28-29.] ، وقال: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ قُلْ مَنْ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 266 بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} [سورة المؤمنون آية: 84-85-86-87-88-89] . ومثل هذا كثير في القرآن، يخبر فيه تعالى أن المشركين يعترفون بأن الله هو المتفرد بالإيجاد، والتأثير والتدبير. وقال تعالى في صفة شرك المشركين، وبيان قصدهم: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [سورة يونس آية: 18] ، وقال: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [سورة الزمر آية: 3] ، وقال: {فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَاناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [سورة الأحقاف آية: 28] . فأبيتم هذا كله، وقلتم هذا دين الوهابية، ونعم هو ديننا بحمد الله، ورضي الله عن الشافعي، إذ يقول: يا راكبا قف بالمحصب من منى ... واهتف بقاعد خيفها والناهض إن كان رفضا حب آل محمد ... فليشهد الثقلان أنى رافضي فصل قال الصحاف: وأنهم إذا سمعوا من يذكر الله جهرا بأنواع الأذكار، ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم جهرا، خصوصا على المنار، كما يفعله سائر أهل الأمصار، أنكروا ذلك، ونفروا عنه وفروا; فيقال: أما ذكر الله جهرا بأنواع الأذكار، فلا نعلم أحدا من المسلمين بحمد الله تعالى ينكره، أو ينفر عنه؛ وإطلاق هذه الجزء: 12 ¦ الصفحة: 267 العبارة من الكذب البين، والبهت الظاهر الذي لا يمتري فيه من عرف حال من يشير إليهم هذا الرجل. وليس هذا بعجيب من جرأته وظلمه، وقد قال تعالى: {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [سورة النحل آية: 105] . نعم قد أنكروا ما يفعله كثير من جهلة أهل الطرائق المبتدعة، من الاجتماعات على السماع الشيطاني، وقيامهم بين يدي المنشد يميلون ويرقصون. وبعضهم يذكر الله بمجرد الاسم الظاهر، أو المضمر، ويزعم أن هذا هو ذكر الخواص أهل المعرفة والتحقيق؛ فهؤلاء مبتدعة ضلال، وما فعلوه ليس بذكر شرعي، بل هو دين مبتدع غير مرضي، قال الله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [سورة الشورى آية: 21] . وقال تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [سورة الجاثية آية: 18] ، وفي الحديث "إن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة "1. وكل عالم يعرف أن هذا السماع الشيطاني مبتدع، لم يحدث إلا بعد القرون المفضلة؛ وقد أنكره عامة أئمة الإسلام، وأشدهم في ذلك أتباع الإمام مالك بن أنس، الذي ينتسب هذا الرجل إلى مذهبه; وكفى به جهلا وضلالا أن يعيب ما عليه قدماء أئمته، وفضلاؤهم، ونصوصهم موجودة بأيدينا، في   1 مسلم: الجمعة 867 , والنسائي: صلاة العيدين 1578 , وابن ماجه: المقدمة 45 , وأحمد 3/310 ,3/319 ,3/371 , والدارمي: المقدمة 206. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 268 إنكار هذا السماع الشيطاني، وتضليل فاعله وتفسيقه. وقد صنف ابن قيم الجوزية، في هذا الذكر المبتدع، كتابا مستقلا، قرر فيه مذاهب الأئمة في حكم هذا السماع، وأنه محرم لا يجوز. وإن كان قصد هذا المعترض خصوص رفع الصوت، بالصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الأذان، كما يفعله أهل الأمصار، فقد صدق في حكاية إنكار هذا منهم، والنهي عنه؛ وهم لا ينازعون في مشروعية الصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم سرا وجهرا، بل يستحبونها، ويوجبونها في الصلاة، ويرون أنها من جملة الأركان فيها، لكنهم يرون أن ما يفعله أهل الأمصار على المنابر بعد الأذان، مبتدع محدث، في القرن الخامس والسادس; وسبب إحداثه رؤيا رآها بعض ملوك مصر، على ما ذكره بعض المؤرخين; وقد أنكره بعض الأئمة، وقالوا: هو بدعة لم يفعله صلى الله عليه وسلم مع التمكن من فعله، ولم يفعله أحد من أئمة الهدى بعده، ولا غيرهم من أهل القرون المفضلة. وقد أُمرنا بالاتباع ونُهينا عن الابتداع، قال ابن مسعود: "اتبعوا ولا تبتدعوا ومن كان منكم مستنا فعليه بأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، أبر هذه الأمة قلوبا، وأعمقها علما، وأقلها تكلفا، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه، والقيام بدينه، فاعرفوا لهم حقهم، وتمسكوا بما استطعتم من أخلاقهم"، أو كما قال. وقد تقدم من الآيات والأحاديث، ما يدل لقوله ويشهد الجزء: 12 ¦ الصفحة: 269 له، وكتب قدماء أهل المذاهب الأربعة، وجمهور متأخريهم، ليس فيها استحباب هذا، ولا الأمر به; بل فيها ما يدل على منعه، وأن الواجب هو ما شرعه الله ورسوله. قالوا: وأما الصلاة والسلام عليه سرا بعد الأذان، وسؤال الله له الوسيلة والفضيلة، فهذا مشروع، قد ورد به الخبر، وصح به الأثر، وليس مع من خالفهم من الأدلة، ما يجب المصير إليه؛ وإنما يعيب على من منع البدع، واختار السنن أهل الجهالة والسفاهة الذين {وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ} [سورة إبراهيم آية: 3] . ثم إن هذا المفتري الصحاف، أطلق لسانه بالمسبة، وأطال في ذلك {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} [سورة الشعراء آية: 227] ؛ وقد قيل في المثل، وقال العي: أنا ذاهب إلى المغرب، فقالت الحماقة: وأنا معك. وقد ذكر في جوابه من الحشو والكلام الذي لا يقتضيه المقام، ما يدل على قصوره وعجزه وعدم ممارسته لصناعة العلم، كما ذكر قضيته مع راشد بن عيسى في مسألة الهبة، واختلافهما في لزومها، ومسألة العقد على اليتيمة. فلقد أبدى بذلك ما خفي من جهله، ورب كلمة تقول: دعني; وكلامهم في الهبة ولزومها، كلام غير محقق، والناس مختلفون في الهبة ولزومها، هل هو بالعقد فقط، أو لا بد من القبض؟ وعن بعضهم ما يقتضي التفرقة بين المكيل والموزون الجزء: 12 ¦ الصفحة: 270 وغيرهما، واختلف الناس أيضا: هل تبطل بالموت قبل القبض أو لا؟ واختلف القائلون باشتراط القبض، هل يشترط فيما وهبه لزوجته، أو لا يشترط؟ وأدلة هذه الأقوال، ومآخذها، والرد على المخالف، مبسوط في المطولات، ولا غرض لنا في ذكره; وإنما قصدنا: أن حكم هذا الصحاف على أحد الأقوال بالصحة، مع قصوره عن معرفتها، ومعرفة أدلتها؛ والتزامه التقليد، حكم باطل لا يجوز، وما للأعمى ونقد الدراهم! وحكمه على الذي أفتى بخلاف قوله: بأنه ضال عن سبيل الرشاد، حكم باطل، أوجبه ما بينهما من التنافس والعناد. ومثل هذه المسائل الاجتهادية لا يجوز لأحد أن ينكر فيها على خصمه بمجرد التقليد، وحكاية فروع المذهب; بل لا بد من الدليل على ذلك، من كتاب أو سنة أو إجماع، أو قياس صحيح; ومن كلام شيخ الإسلام: من ترك الدليل ضل السبيل. وجميع ما ذكره إنما هو مجرد نقل لأقوال بعض المالكية، كالشيخ خليل، وعبد الباقي، وابن عرفة وأمثالهم; وتقليد هؤلاء إنما يسوغ عند الضرورة، والمقلد لهم ولغيرهم، ليس من أهل العلم بالإجماع، كما حكاه ابن عبد البر إمام المالكية، عمن يحفظ قوله من أهل العلم. فكيف - والحال هذه - يحكم هذا الجاهل، الذي ليس هو من أهل العلم عند أئمة مذهبه وغيرهم، بصحة جوابه، وفساد الجزء: 12 ¦ الصفحة: 271 قول خصمه وضلاله؛ وهل يعلم هذا إلا بالنص، من كلام الله، أو كلام رسوله، أو إجماع الأمة؛ فما للمقلد والحكم بالصحة والصواب، وقد جهل نصوص السنة والكتاب، ومن تشبع بما لم يعط، كان كلابس ثوبي زور. وقوله: فلا شك أن الطاعن في أهل القسم من أهل النار بعيد عن الهدى، وأنه لا يفلح أبدا في الدنيا خاسر أي خاسر، وفي الآخرة إلى النار صائر، إلى آخر عبارته; فهذا الكلام لا يصدر عن عاقل يعرف ما خرج من بين شفيته، نعوذ بالله من الجهل المردي، والهوى المعمي. وهذه المسبة والحكم على المخالف في هذه المسألة بالنار، مما تقشعر منه جلود الذين آمنوا؛ وما أشبهها بأخلاق أهل المجون، وأصحاب الوقاحة والجنون. وكان ينبغي لنا أن نعد هذه الفتوى من جملة هذيان الضالين، وأن نكف القلم عن إجابة هذا النوع من المفترين، ولكن الضرورة اقتضت؛ فلا إله إلا الله، ما أشد غربة الدين، وما أقل العارفين له والمميزين؟! كيف يقر مثل هذا بين ظهراني من له عقل يميز به الخبيث من الطيب، ويفرق به بين الآجن والصيب، وأصحاب رسول الله، لم يكفروا من كفرهم من الخوارج الحرورية; وقد "سئل علي رضي الله عنه فقيل له: أكفّارٌ هم؟ فقال: من الكفر فروا". وفي الحديث: "أن رجلا فيمن قبلنا، رأى من يعمل بالمعاصي فاستعظم ذلك، وقال: والله لن يغفر الله لفلان; فقال الله: من ذا الذي يتألى عليّ أن لا أغفر لفلان؟ إني قد غفرت له ". الجزء: 12 ¦ الصفحة: 272 وأما قوله: ومن تسمى بالإسلام، وأحب محمدا سيد الأنام، وأحب أصحابه الكرام، واتبع العلماء الأعلام، لا يكفر أحدا من سائر المسلمين، فضلا عن هداتهم في الدين، اللهم إلا أن يكون من الغلاة الذين أسقطوا حرمة لا إله إلا الله، وسوّل لهم الشيطان وأملى لهم، حيث استباحوا دماء المسلمين، إلى آخر رسالته. فيقال في جوابه: هذا الجاهل يظن أن من أشرك بالله، واتخذ من الأنداد والآلهة، ودعاهم مع الله لتفريج الكربات، وإغاثة اللهفات، يحكم عليه - والحال هذه- بأنه من المسلمين، لأنه يتلفظ بالشهادتين، ومناقضتها لا تضره، ولا توجب عنده كفره؛ فمن كفره فهو من الغلاة الذين أسقطوا حرمة لا إله إلا الله؛ وهذا القول مخالف لكتاب الله، وسنة رسوله، وإجماع الأمة. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: من جعل بينه وبين الله وسائط، يدعوهم ويسألهم، ويتوكل عليهم، كفر إجماعا، انتهى. ومجرد التلفظ من غير التزام لما دلت عليه كلمة الشهادة، لا يجدي شيئا؛ والمنافقون يقولونها، وهم في الدرك الأسفل من النار; نعم إذا قالها المشرك ولم يتبين منه ما يخالفها، فهو ممن يكف عنه بمجرد القول، ويحكم بإسلامه. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 273 وأما إذا تبين منه وتكرر عدم التزام ما دلت عليه، من الإيمان بالله وتوحيده، والكفر بما يعبد من دونه، فهذا لا يحكم له بالإسلام، ولا كرامة له؛ ونصوص الكتاب والسنة، وإجماع الأمة يدل على هذا. فمن تسمى بالإسلام حقيقة، وأحب محمدا واقتدى به في الطريقة، وأحب أصحابه الكرام، ومن تبعهم من علماء الشريعة، يجزم ولا يتوقف بكفر من سوّى بالله غيره، ودعا معه سواه من الأنداد والآلهة؛ ولكن هذا الصحاف يغلط في مسمى الإسلام، ولا يعرف حقيقته; وكلامه يحتمل أنه قصد الخوارج الذين يكفّرون بما دون الشرك من الذنوب، وحينئذ يكون له وجه، ولكنه احتمال بعيد، والظاهر الأول. وقد ابتلي بهذه الشبهة، وضل بها كثير من الناس، وظنوا أن مجرد التكلم بالشهادتين مانع من الكفر، وقد قال تعالى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [سورة المؤمنون آية: 117] ، فكفره بدعاء غيره تعالى. وقال تعالى: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ} [سورة يونس آية: 106] ، وقال تعالى: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ} [سورة الرعد آية: 14] . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 274 فالتكفير بدعاء غير الله، هو نص كتاب الله؛ وفي الحديث " من مات وهو يدعو لله ندا دخل النار " 1، وفي الحديث أيضا: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها " 2، وفي رواية: " إلا بحق الإسلام " 3. وأعظم حق الإسلام وأصله الأصيل، هو: عبادة الله وحده، والكفر بما يعبد من دونه؛ وهذا هو الذي دلت عليه كلمة الإخلاص، فمن قالها وعبد غير الله، واستكبر عن عبادة الله، فهو مكذب لنفسه، شاهد عليها بالكفر والإشراك. وقد عقد كل طائفة من أتباع الأئمة، في كتب الفقه بابا مستقلا في حكم المرتد، وذكروا أشياء كثيرة يكفر بها الإنسان، ولو كان يشهد أن لا إله إلا الله. وقد قال تعالى في النفر الذين قالوا في غزوة تبوك بعض القول الذي فيه ذم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من أصحابه: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [سورة التوبة آية: 65-66] ، فكفّرهم بعد إيمانهم بالاستهزاء، ولو كان على وجه المزح واللعب، ولم يمنع ذلك قولهم: لا إله إلا الله. وكذلك إجماع الأمة على كفر من صدق مسيلمة الكذاب، ولو شهد أن لا إله إلا الله؛ وقد كفّر الصحابة أهل مسجد بالكوفة، بكلمة ذكرت عنهم في احتمال صدق مسيلمة، ولم   1 البخاري: تفسير القرآن 4497 , وأحمد 1/374 ,1/407 ,1/425 ,1/462 ,1/464. 2 الترمذي: تفسير القرآن 3341 , وأحمد 3/295 ,3/300 ,3/332 ,3/394. 3 البخاري: الإيمان 25 , ومسلم: الإيمان 22. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 275 يلتفت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أنهم يشهدون أن لا إله إلا الله، لأنه قد وجد منهم ما ينافيها ويناقضها، {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [سورة النور آية: 40] . وبالجملة: فالذي يقوم بحرمة لا إله إلا الله، هم الذين جاهدوا الناس عليها، ودعوهم إلى التزامها، علما وعملا، كما هي طريقة رسل الله وأنبيائه، ومن تبعهم بإحسان، كشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى. وأما من أباح الشرك بالله، وعبادة غيره، وتولى المشركين وذب عنهم، وعادى الموحدين وتبرأ منهم، فهو الذي أسقط حرمة لا إله إلا الله، ولم يعظمها ولا قام بحقها، ولو زعم أنه من أهلها القائمين بحرمتها. وأما ما ساقه هذا الصحاف من كلام شيخه حسين الدوسري، فالخصم يعارضه ويمنعه; وما ذكره ليس بحمد الله من أوصاف أهل التوحيد، ولكنه وصف أهل الشرك والتنديد؛ والذي أنكر الطاعة وعصى ربه في كل ساعة، واتبع هوى نفسه الخداعة، وشذ عن السنة وفارق الجماعة، ووافق المشبهة وأهل الإضاعة، هو: من كانت طريقته عبادة غير الله، والاستغاثة بغير مولاه، وصرف الوجه لغير من خلقه وسواه، وتعبد بغير الذي شرعه الله، على لسان عبده الذي اصطفاه، من أهل التعطيل والتضليل، والإلحاد والتمثيل، الذين اختلفوا في الكتاب، وخالفوا الكتاب، وضلوا عن الصواب. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 276 وأما قول الصحاف نقلا عن شيخه الدوسري: أما كفروا العلماء؟ أما سفكوا الدماء؟ أما استحلوا المحرمات؟ أما روعوا المسلمين والمسلمات؟ أما أسخطوا رب السماوات؟ أما رجفوا أهل الحرم؟ أما تجاسروا على حجرة النبي صلى الله عليه وسلم؟ فلا أفلح من ظلم. فالجواب عن هذا، أن يقال: كل عاقل يعرف سيرة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى، يعلم أنه من أعظم الناس إجلالا للعلم والعلماء، ومن أشد الناس نهيا عن تكفيرهم وتنقصهم، وأذيتهم. بل هو ممن يدين بتوقيرهم وإكرامهم، والذب عنهم، والأمر بسلوك سبيلهم، عملا بقوله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [سورة التوبة آية: 71] الآية، وبقوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ} [سورة الحشر آية: 10] الآية. وبقوله تعالى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [سورة يونس آية: 62-63] ، فالإيمان والتقوى هما أصل العلم بالله وبدينه وشرعه، فكيف يظن بمسلم فضلا عن شيخ الإسلام أنه يكفر العلماء؟! سبحانك هذا بهتان عظيم! والشيخ رحمه الله، لم يكفّر إلا من كفّره الله ورسوله، وأجمعت الأمة على كفره، كمن اتخذ الآلهة والأنداد لرب الجزء: 12 ¦ الصفحة: 277 العالمين، ولم يلتزم ما جاءت به الرسل من الإسلام والدين، أو جحد ما نطق به الكتاب المبين، من صفات الكمال ونعوت الجلال لرب العالمين. وكذلك من نصب نفسه لنصرة الشرك والمشركين، وزعم أنه توسل بالأنبياء والصالحين، وأنه مما يسوغ في الشرع والدين; فالشيخ وغيره من جميع المسلمين يعلمون أن هذا من أعظم الكفر وأفحشه; ولكن هذا الجاهل يظن أن من زعم أنه يعرف شيئا من أحكام الفروع، وتسمى بالعلم وانتسب إليه، يصير بذلك من العلماء، ولو فعل ما فعل. ولم يدر هذا الجاهل أن الله كفّر علماء أهل الكتاب، والتوراة والإنجيل بأيديهم، وكفّرهم رسوله لما أبوا أن يؤمنوا بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من الهدى ودين الحق؛ ولا ضير على الشيخ بمسبة هؤلاء الجهال، وله أسوة بمن مضى من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم من أهل الإيمان والاهتداء. قال الشافعي رحمه الله: ما أرى الناس ابتلوا بسب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ليزيدهم الله بذلك ثوابا عند انقطاع أعمالهم; وما أحسن ما قيل شعرا: قدمت لله ما قدمت من عمل ... وما عليك بهم ذموك أو شكروا عليك في البحث أن تبدي غوامضه ... وما عليك إذا لم تفهم البقر وقد اعترضت اليهود والنصارى، على عبد الله ورسوله، بالقتال وسفك الدماء، وسبي الذرية، وقالوا: إنما يفعل هذا الجزء: 12 ¦ الصفحة: 278 الملوك المسلطون؛ وحكايتهم في ذلك معروفة، مشهورة عند أهل العلم، ويكفي في ذلك قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} [سورة النساء آية: 51] الآية. وأما قوله: أما رجفوا أهل الحرم، فلا يخفى أن الذي جرى في الحرمين، في أتباع الشيخ محمد بن عبد الوهاب، هو: هدم القباب التي أسست على معصية الله ورسوله، وصارت من أعظم وسائل الشرك وذرائعه، وكسروا آلات التنباك، وسائر المنكرات، وألزموا الناس المحافظة على الصلوات في الجماعات، ونهوا عن لبس الحرير، وألزموهم بتعلم أصول الدين، والالتفاف إلى ما في الكتاب والسنة، من أدلة التوحيد وبراهينه. وقرروا الكتب المصنفة في عقائد السلف، أهل السنة والجماعة، في باب معرفة الله بصفات كماله، ونعوت جلاله، وقرروا إثبات ذلك، من غير تحريف ولا تعطيل، ولا تشبيه ولا تمثيل، وأنكروا على من قال بقول الجهمية في ذلك، وبدعوه وفسقوه؛ فإن كان هذا إرجافا للحرم فحبذا هو، وما أحسن ما قيل: وعيرني الواشون أني أحبها ... وتلك شكاة ظاهر عنك عارها وقد أمر الله تعالى من خاض في مثل هذا أن يتكلم بعلم وعدل، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} الآية الجزء: 12 ¦ الصفحة: 279 [سورة النساء آية: 135] ، وهذا الرجل كلامه جهل محض، وجور ظاهر، وأصله الذي يرجع إليه هو الانتصار للنفس والهوى، لا لنصر الحق والهدى. وأما التجاسر على حجرة النبى صلى الله عليه وسلم، فكأنه يشير به إلى المال الذي استخرجه الأمير سعود من الحجرة الشريفة، وصرفه في أهل المدينة ومصالح الحرم، وهو رحمه الله لم يفعل هذا، إلا بعد أن أفتاه علماء المدينة، من الحنفية، والمالكية، والشافعية والحنبلية. فاتفقت فتواهم على أنه يتعين ويجب على ولي الأمر إخراج المال الذي في الحجرة، وصرفه في حاجة أهل المدينة، وجيران الحرم، لأن المعلوم السلطاني قد منع في تلك السنة، واشتدت الحاجة والضرورة إلى استخراج هذا المال وإنفاقه؛ ولا حاجة لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى إبقائه في حجرته وكنْزه لديه. وقد حرم كنْز الذهب والفضة، وأمر بالإنفاق في سبيل الله، لا سيما إذا كان المكنوز مستحقا لفقراء المسلمين، وذوي الحاجة منهم، كالذي بأيدي الملوك والسلاطين، فلا شك أن استخراجها على هذا الوجه، وصرفها في مصارفها الشرعية، أحب إلى الله ورسوله من إبقائها واكتنازها؛ وأي فائدة في إبقائها عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأهل المدينة في أشد الحاجة والضرورة إليها. وتعظيم الرسول وتوقيره، إنما هو في اتباع أمره، والتزام دينه وهديه. فإن كان عند من أنكر علينا دليل شرعي يقتضي الجزء: 12 ¦ الصفحة: 280 تحريم صرفها في مصالح المسلمين، فليذكره لنا. ولم يضع هذا المال أحد من علماء الدين الذين يرجع إليهم، وليس عند هؤلاء إلا اتباع عادة أسلافهم ومشائخهم؛ يعرف هذا من ناظرهم ومارسهم، ودعواهم عريضة، وعجزهم ظاهر. وقد أطال هذا الصحاف فيما نقله عن شيخه حسين الدوسري، وأكثر فيه من النصيحة، ولا بأس بالنصائح، لمن أراد الحق وتوخاه، ونهى عما يسخطه الرب ولا يرضاه، ولم يلحد في أسمائه ولم يعبد سواه؛ فهذا هو الصادق في نصحه، وقوله الذي أبداه. بخلاف من توهم الأمر على خلاف ما هو عليه، ولبس الحق بالباطل لديه، واعتقد أن المجاهد لإعلاء كلمة الله، يشار بالذم إليه، فعمل مثل هذا {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [سورة النور آية: 39-40] . نسأل الله تعالى أن يمن علينا بالهداية إلى صراطه المستقيم، والفوز لديه بجنات النعيم. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 281 [رسالة من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى عثمان القاضي، وما بلغه عنه عند قدوم داود العراقي إليه] وله أيضا، رحمه الله تعالى: بسم الله الرحمن الر حيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى جناب المكرم، عثمان بن محمد القاضي، وفقه الله لاجتناب المساخط واتباع المراضي، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: بلغنا عنك من عبد الله بن عبد العزيز، كلام حسن، عند قدوم داود العراقي إليكم; وقبله أعرف منك بصيرة في بعض الأمور، ويعجبني كلامك في أشياء من الدين، تلتبس على أكثر الناس، ورجوت لك النجاة من هذه الفتن، بما كنت أسمعه منك {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [سورة يوسف آية: 21] . فاعلم: أنه لما وقع في آخر هذه الأمة، ما أخبر به نبيها صلى الله عليه وسلم من اتباع سنن من قبلها، من أهل الكتاب، وفارس والروم، وتزايدت تلك السنن، حتى وقع الغلو في الدين، وعبدت قبور الأولياء والصالحين، وجعلت أوثانا تقصد من دون الله رب العالمين، عظمها قوم لم يعرفوا حقيقة الإسلام، ولم يشموا رائحة العلم، ولم يحصلوا على شيء من رائحة النبوة، ولم يفقهوا شيئا من أخبار الأمم قبلهم، وكيف كان بدء أمرهم وشركهم، ومنتهى نحلتهم وحقيقة طريقتهم، وهذا الذي عابه القرآن عليهم وذمه.. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 282 وتلطف الشيطان في كيد هؤلاء الغلاة في قبور الصالحين، بأن دس عليهم تغيير الأسماء والحدود الشرعية، والألفاظ اللغوية، فسموا الشرك وعبادة الصالحين توسلا ونداء، وحسن اعتقاد في الأولياء، وتشفعا بهم، واستظهارا بأرواحهم الشريفة; فاستجاب له صبيان العقول، وخفافيش البصائر، وداروا مع الأسماء، ولم يقفوا مع الحقائق. فعادت عبادة الأولياء والصالحين، ودعاء الأوثان والشياطين، كما كانت قبل النبوة، وفي زمان الفترة حذو النعل بالنعل، وحذو القذة بالقذة، وهذا من أعلام النبوة، كما ذكره غير واحد، ولم يزل ذلك في ظهور وازدياد حتى عم ضرره، وبلغ شرره الحاضر والباد. ففي كل إقليم، وكل مدينة وقرية، ممن ينتسب إلى الإسلام، ولائج يدعونهم مع الله، ويلتمسون بدعائهم قرب الرب ورضاه، يفزعون إليهم في الشدائد والمهمات، ويلوذون بهم في النوائب والحاجات، وبعضهم لا يرد على خاطره، ولا يلم بباله دعاء الله تعالى، في شيء من ذلك، إلا استشعاره حصول مقصوده، ونجاح مطلوبه، من جهة الأولياء والأنداد. وقد رأينا وسمعنا من ذلك ما يعز حصره واستقصاؤه، ولو كان يخفى لعرجنا على ذكره وتفصيله، ولكنه أشهر من الشمس في نحر الظهيره. إذا عرفت هذا وتحققته، فاعلم: أن الله أطلع شمس الجزء: 12 ¦ الصفحة: 283 الإيمان به وتوحيده، في آخر هذه الأزمان، على يد من أقامه في هذه البلاد النجدية، داعيا إليه على بصيرة، مذكرا به آمرا بتوحيده وإخلاص الدين له، ورد العباد إلى فاطرهم وبارئهم وإلههم الحق، الذي لا إله غيره، ولا رب سواه، ينهى عن الشرك به وصرف شيء من العبادة إلى غيره، وابتداع دين لم يأذن به، ولا سلطان، ولا حجة على مشروعيته. واستدل لذلك، وقرر وألف، وصنف وحرر، وناظر المبطلين، ونازع الغلاة والمارقين، حتى ظهر دين الله على كل دين؛ فتنازع المخالفون أمره، وجحدوا برهان صدقه; فقوم قالوا: هذا مذهب الخوارج المارقين; وطائفة قالت: هو مذهب خامس لا أصل له في الدين; وآخرون قالوا: هو يكفر أهل الإسلام; وصنف نسبوه إلى استحلال الدماء والأموال الحرام; ومنهم من عابه بوطنه، وأنه دار مسيلمة الكذاب. وكل هذه الأقاويل لا تروج على من عرف أصل الإسلام، وحقيقة الشرك وعبادة الأصنام، وإنما يحتج بها قوم عزبت عنهم الأصول والحقائق، ووقفوا مع الرسوم والعادات، في تلك المناهج والطرائق، و {قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ} [سورة المائدة آية: 104] ؛ فهم من شأنه في أمر مريج، وما ذاك إلا أنه أشرقت له شموس النبوة فقصدها; وظهرت له حقائق الوحي والتنْزيل، فآمن بها واعتقدها، وترك رسوم الخلق لم يعبأ بها، ورفض تلك العوائد الجزء: 12 ¦ الصفحة: 284 والطرائق الضالة إلى أهلها. واترك رسوم الخلق لا تعبأ بها ... في السعد ما يغنيك عن دبران وقد صنف بعض علماء المشركين في الرد عليه، ودفع ما قرره ودعا إليه، واستهوتهم الشياطين، حتى سعوا في آيات الله معاجزين، وقد بدد الله شملهم، وتمزقوا - أيادي سبأ - وذهبت أباطليهم وأراجيفهم حتى صارت هباء. نعم بقيت من تلك الشبه بقية، بيدي قوم ليس لهم في الإسلام قدم، ولا بالإيمان درية، يتخافتون بينهم ما تضمنته من الشبهة الشركية، ويتواصون بكتمانها كما تكتم كتب التنجيم والكتب السحرية، حتى أتيح لهم رجل من أهل العراق، فألقيت إليه تلك الكتب، فاستعان بها على إظهار أباطيله، وتسطير إلحاده وأساطيره; وزاد على ما في تلك المصنفات، وأباح لغير الله أكثر العبادات. بل زعم: أن للأولياء تدبيرا وتصريفا مع الله، وأجاز أن يكل الله أمور ملكه وعباده، إلى الأولياء والأنبياء، ويفوض إليهم تدبير العالم، وهذا موجود عندنا بنص رسائله; وشبه على الجهال الذين أعمى الله بصائرهم، أتباع كل ناعق، الذين لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجؤوا إلى ركن وثيق، من الإيمان والفهم، بشبهات ضالة. كقوله: إن دعاء الأموات ونحوه لا يسمى دعاء، وإنما هو نداء، وأن العبادة التي صرفت لأهل القبور، لا تسمى عبادة الجزء: 12 ¦ الصفحة: 285 ولا شركا، إلا إذا اعتقد التأثير لأربابها من دون الله تعالى. وقوله: من قال: لا إله إلا الله، واستقبل القبلة، فهو مسلم، وإن لم يرغب عن ملة عباد القبور، الذين يدعونها مع الله؛ ويكذب على أهل العلم من الحنابلة وغيرهم، ويزعم أنهم قالوا وأجمعوا على استحباب دعاء الرسول بعد موته صلى الله عليه وسلم. ويلحد في آيات الله، وأحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم، ونصوص أهل العلم، ويخرجها عن موضوعها، ويتعمد الكذب على الله وعلى رسوله، وعلى العلماء؛ يعرف ذلك من كلامه من له أدنى نهمة في العلم، والتفات إلى ما جاءت به الرسل; ولا يروج باطله إلا على قوم لا شعور لهم بشيء من ذلك; عمدتهم في الدين النظر إلى الصور، وتقليد أهلها. ومن شبهاته، قوله في بعض الآيات: هذه نزلت فيمن يعبد الأصنام; هذه نزلت في أبي جهل; هذه نزلت في فلان وفلان; يريد - قاتله الله - تعطيل القرآن، عن أن يتناول أمثالهم وأشباههم، ممن يعبد غير الله، ويعدل بربه. ويزعم أن قوله تعالى: {وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} [سورة النساء آية: 51] دليل على استحباب دعاء الصالحين مع الله; ويظن أن الشرك الذي جاءت الرسل بتحريمه، هو الوسيلة إلى الله، ويحتج على ذلك بما يمج سماعه، ويستوحش منه عوام السلمين بمجرد الفطرة. فسبحان من أضله وأعماه، {كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [سورة يونس آية: 33] . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 286 وهذا الرجل يأنس إلى بلدتكم، ويعتاد المجيء إليها، وله من ملئها وأكابرها من يعظمه ويواليه وينصره؛ وفي هذا من المشاقة والمراغمة ما يوجب الدمار والبوار، ولا تقال معه للمجرم العثار; والواجب علينا وعليك نصحهم، وتذكيرهم بأيام الله فيهم، فقد رأيتم وجربتم، وسمعتم من ذلك ما يطول شرحه، ولا يفيد في هذه الرسالة ذكره، شعرا: إذا أنت لم يهديك عقلك فانتسب ... لعلك تهديك القرون الأوائل فإن لم تجد من دون عدنان والدا ... ودون معد فلتزعك العواذل وما أحسن قول أخي بني قريظة: أفي كل موطن لا تعقلون؟ ويلزمك تعطي ابن جليدان هذه الرسالة، يقرؤها في مساجد عنيزة، وينصحهم عما يوجب الفرقة والاختلاف، ويزرع العداوة والبغضاء، والله يهدي من يشاء من عباده إلى صراط مستقيم. والإمام فيصل أخبرني أنه كتب فيما مضى أنه لا يقدم القصيم، والذين عزموه اكتبوا أسماءهم نعرضهم على الإمام، ويعرفهم المسلمون، ويحذرهم المؤمنون. والسلام. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 287 [رسالة من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى أهل عنيزة] وله أيضا رحمه الله تعالى: بسم الله الرحمن الر حيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى من يصل إليه هذا الكتاب، من أهل عنيزة: سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: يجرى عندكم أمور يتألم منها المؤمنون، ويرتاح لها المنافقون؛ ولا بد من النصيحة معذرة إلى الله تعالى، وطلبا لرضاه، وإلا فالحجة قد قامت، وجمهوركم يتجشم ما يأتي، لأسباب لا تخفى; من ذلك قصد المشاقة والمعاندة، بإكرام داود العراقي، مع اشتهاره بعداوة التوحيد وأهله، والتصريح بإباحة دعاء الصالحين، والحث عليه، وغير ذلك مما يطول عده. ولا بد من تقديم مقدمة ينتفع بها الواقف على هذا; فنقول: لما وقع في آخر هذه الأمة، ما أخبر به نبينا صلى الله عليه وسلم من اتباع سنن من قبلنا من أهل الكتاب، وفارس والروم، وتزايدت تلك الفتن، حتى وقع الغلو في الدين، وعبدت قبور الأولياء والصالحين، وجعلت أوثانا تقصد من دون الله رب العالمين; عظمها قوم لم يعرفوا حقيقة الإسلام، ولم يشموا رائحة العلم، ولم يحصلوا على شيء من نور النبوة، ولم يفقهوا شيئا من أخبار الأمم قبلهم، وكيف كان بدء شركهم ومنتهى نحلتهم، وحقيقتهم وطريقتهم، وما هذا الذي عابه القرآن عليهم وذمهم. وتلطف الشيطان في كيد هؤلاء الغلاة في قبور الصالحين، بأن دس عليهم تغيير الأسماء والحدود الشرعية، والألفاظ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 288 اللغوية، فسمى الشرك وعبادة الصالحين توسلا ونداء، وحسن اعتقاد في الأولياء، وتشفعا بهم، واستظهارا بأرواحهم الشريفة؛ فاستجاب له صبيان العقول، وخفافيش البصائر، وداروا مع الأسماء ولم يقفوا مع الحقائق؛ فعادت عبادة الأولياء والصالحين، ودعاء الأوثان والشياطين، كما كانت قبل النبوة، وفي أزمان الفترة حذو النعل بالنعل، وحذو القذة بالقذة؛ وهذا من أعلام النبوة، كما ذكره غير واحد. ولم يزل ذلك في ظهور وازدياد، حتى عم ضرره، وبلغ شرره الحاضر والباد؛ ففي كل إقليم، وكل مدينة وقرية، ممن ينتسب إلى الإسلام، ولائج يدعونهم مع الله، ويلتمسون بدعائهم قرب الرب ورضاه، يفزعون إليهم في المهمات والشدائد، ويلوذون بهم في النوائب، والحاجات، وبعضهم لا يرد على خاطره، ولا يلم بباله دعاء الله تعالى في شيء من ذلك، لاستشعاره حصول مقصوده ونجاح مطلوبه، من جهة الأولياء والأنداد; وقد رأينا وسمعنا من ذلك ما يعز حصره واستقصاؤه، ولو كان يخفى لعرجنا على ذكره وتفصيله، ولكنه أشهر من الشمس في نحر الظهيرة. إذا عرف هذا وتحقق، فاعلموا أن الله أطلع شمس الإيمان به وتوحيده، في آخر هذه الأزمان، على يد من أقامة الله في هذه البلاد النجدية، داعيا إليه على بصيرة، مذكرا به، آمرا بتوحيده وإخلاص الدين له، ورد العباد إلى فاطرهم وبارئهم وإلههم الحق الذي لا إله غيره ولا رب سواه، ينهى عن الجزء: 12 ¦ الصفحة: 289 الشرك به، وصرف شيء من العبادات إلى غيره، وابتداع دين لم يأذن به الله، ولا سلطان ولا حجة على مشروعيته. واستدل على ذلك وقرر وصنف وحرر، وناظر المبطلين، ونازع الغلاة والمارقين، حتى ظهر دين الله على كل دين، فتنازع المخالفون أمره، وجحدوا برهان صدقه; فقوم قالوا: هذا مذهب الخوارج المارقين; وطائفة قالت: هو مذهب خامس لا أصل له في الدين; وآخرون قالوا: هو يكفر أهل الإسلام; وصنف نسبوه إلى استحلال الدماء والأموال الحرام; ومنهم من عابه بوطنه، وأنه دار مسيلمة الكذاب. وكل هذه الأقاويل لا تروج على من عرف أصل الإسلام، وحقيقة الشرك وعبادة الأصنام؛ وإنما يحتج بها قوم عزبت عنهم الأصول والحقائق، ووقفوا مع الرسوم والعادات، في تلك المناهج والطرائق، و {قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ} [سورة المائدة آية: 104] . فهم من شأنه في أمر مريج، وما ذاك إلا أنه قد أشرقت له شموس النبوة فقصدها; وظهرت له حقائق الوحي والتنْزيل فآمن بها، واعتقدها، وترك رسوم الخلق لم يعبأ بها، ورفض تلك العوائد والطرائق الضالة لأهلها. واترك رسوم الخلق لا تعبأ بها في السعد ما يغنيك عن دبران وقد صنف بعض علماء المشركين في الرد عليه، ودفع ما قرره ودعا إليه، واستهوتهم الشياطين، حتى سعوا في آيات الجزء: 12 ¦ الصفحة: 290 الله معاجزين، وقد بدد الله شملهم، فتمزقوا - أيادي سبأ - وذهبت أباطيلهم وأراجيفهم، حتى صارت هباء; نعم بقيت لتلك الشبهة بقية، بأيدي قوم ليس لهم في الإسلام قدم، ولا بالإيمان درية، يتخافتون بينهم ما تضمنته تلك الكتب من الشبه الشركية، ويتواصون بكتمانها، كما تكتم كتب التنجيم والكتب السحرية. حتى أتيح لهم هذا الرجل من أهل العراق، فألقيت إليه تلك الكتب، فاستعان بها على إظهار أباطيله، وتسطير إلحاده وأساطيره، وزاد على ما في تلك المصنفات، وأباح لغير الله أكثر العبادات; بل زعم أن للأولياء تدبيرا وتصرفا مع الله، وأجاز أن يكل الله أمور ملكه وعباده، إلى الأولياء والأنبياء، ويفوض إليهم تدبير العالم، وهذا موجود عندنا بنص رسائله. وشبه على الجهال الذين أعمى الله بصائرهم، أتباع كل ناعق، الذين لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجؤوا إلى ركن وثيق من الإيمان والفهم، بشبهات ضالة، كقوله: إن دعاء الموتى ونحوه لا يسمى دعاء إنما هو نداء، وأن العبادات التي صرفت لأهل القبور، لا تسمى عبادة ولا شركا، إلا إذا اعتقد التأثير لأربابها من دون الله. وقوله: من قال لا إله إلا الله، واستقبل القبلة فهو مسلم، وإن لم يرغب عن ملة عباد القبور، الذين يدعونها مع الله، ويكذب على أهل العلم من الحنابلة وغيرهم; ويزعم أنهم قالوا وأجمعوا على استحباب دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم بعد موته، الجزء: 12 ¦ الصفحة: 291 ويلحد في آيات الله وأحاديث رسول الله، ونصوص أهل العلم، ويتعمد الكذب على الله وعلى رسوله، وعلى العلماء؛ يعرف ذلك من كلامه من له أدنى نهمة في العلم، والتفات إلى ما جاءت به الرسل، ولا يروج باطله إلا على قوم لا شعور لهم بشيء من ذلك، عمدتهم في الدين النظر إلى الصور وتقليد أهلها. ومن شبهاته: قوله في بعض الآيات: هذه نزلت فيمن يعبد الأصنام; هذه نزلت في أبي جهل; هذه نزلت في فلان وفلان; يريد - قاتله الله - تعطيل القرآن عن أن يتناول أمثالهم، وأشباههم ممن يعبد غير الله، ويعدل بربه، ويزعم أن قوله تعالى: {وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} [سورة المائدة آية: 35] دليل على استحباب دعاء الصالحين مع الله، ويظن أن الشرك الذي جاءت الرسل بتحريمه، هو الوسيلة إلى الله، ويحتج على ذلك بما يمج سماعه، ويستوحش منه عوام المسلمين بمجرد الفطرة، فسبحان من أضله وأعماه، {كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [سورة يونس آية: 33] . وهذا الرجل يأنس إلى بلدتكم، ويعتاد المجيء إليها، وله من ملئها وأكابرها من يعظمه ويواليه وينصره، ويأخذ عنه ما تقدم من الشبه وأمثالها. ولذلك أسباب، منها: البغضاء ومتابعة الهوى، وعدم قبول ما من الله به من النور والهدى، حيث عرف من جهة العارض; وتأملوا قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 292 تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ} [سورة إبراهيم آية: 28-29-30] . وقد أجمع العلماء أن نعمة الله المقصودة هنا، هي بعث محمد صلى الله عليه وسلم بالهدى، ودين الحق، اللذين أصلهما وأساسهما: عبادة الله وحده لا شريك له، وخلع ما سواه من الآلهة والأنداد; والكفر بهذه النعمة، هو ردها وجحودها، واختيار دعاء الصالحين، والتعليق على الأولياء والمقربين. فرحم الله امرءا تفكر في هذا، وبحث عن كلام المفسرين من أئمة الدين، وعلم أنه ملاق ربه الذي عنده الجنة والنار. ثم فيما أجرى الله عليكم من العبر والعضات، ما ينبه من كان له قلب، أو فيه أدنى حياة، قال تعالى لنبيه موسى عليه السلام: {وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ} [سورة إبراهيم آية: 5] . وجماعتكم أعيا المسلمين داؤهم، وعز ما عليه انتقالهم؛ وما أحسن ما قال أخو بني قريظة لقومه: أفي كل موطن لا تعقلون؟ {وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} [سورة الأحزاب آية: 4] ، وصلى الله على محمد. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 293 [رسالة من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى عثمان بن منصور بأنه وصل إليه منه خطان] وله أيضا عفا الله عنه. بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الشيخ عثمان بن منصور، أنقذه الله من طوارق الفتن والشرور، ورفع همته عن سفاسف الأمور، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، على ما ألبسنا من ملابس فضله التي لا تخلعها الأنداد، وأستزيده من بره، التي ليس لها انقضاء ولا نفاد. أما بعد: فقد وصل إلينا منك خطان، فأولهما صادف حين الاشتغال بلقى الأحبة والآل، وأما الثاني فبعد أن ألقيت عصا الترحال، وارتاح من ألم شوقه القلب والبال. فبمجرد الوقوف على خطك ومطالعة نقشك، ووشيك، بحثت عن الوجه الذي تدلي به علينا، وعن حقيقة المعنى الذي تشير به إلينا، وما هو اللائق في إجابة أمثالك، وهل يحسن بنا النسج على منوالك، أو نقتصر على موجب: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ} [سورة النساء آية: 86] ؛ إذ ليس وراءها مزية دينية شرعية، لأكون على بصيرة من أمري، ومعرفة للحقائق قبل اقتداح زندي. فاخبرني الثقة بالجرح والتعديل، الخبير بما قد شاع عنك من القيل: أن صاحب الخط ينتمي إلى ممارسة العلوم، المنقول منها والمفهوم، غير أنه قد نسب عنه هفوات، إن صحت فهي من عظائم المعضلات، ولم نقف لها على تصحيح يعتمد، ولم نلتفت إلى البحث في متنها والسند، اكتفاء بإعراضه عن الابتهاج الجزء: 12 ¦ الصفحة: 294 بهذه الدعوة، ولهذا الأصل والمذاكرة، واستغناء بعدم التفاته إلى المواخاة في الله والموازرة; بل كل الناس لديه إخوان، والضدان عنده يجتمعان، يصاحب أولياء الأوثان، كما يصاحب عابدي الرحمن، ويأنس بالمنقلب على عقبه، كما يأنس بالثابت على الإيمان، مع أنه قد شرح التوحيد وادعى الإتيان بكل معنى موجز سديد. يوما بحزوى ويوما بالعقيق ... وبال عذيب يوما ويوما بالخليصاء وتارة تنتحي نجدا وآونة ... شعب الغوير وطورا قصر تيماء فهو وإن ينتسب إلى الحق، فقد والى من خرج عنه وعق; فقلت له: إيه من رجل لو استقام! وصارم لولا ما عراه من الانثلام! لكني أعلم أن للعلم بركات، وللملك لمات، فأرجو أن يقوده العلم إلى ثمراته، وأن يحول بينه وبين الشيطان وخطواته. {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [سورة الحديد آية: 17] . والقلب بين أصبعين من أصابع الرحمن، كما رواه المحدثون من الأعيان، فلعل ميت رجائنا يحييه من يحيي عظام الميت وهي رميم؛ ولهذا أشرت إلى الشيخ الوالد أعز الله قدره، ورفع بوارثة النبيين مجده وفخره، بأن يرد لك الجواب، ويعلمك بالخطب أتى من أي باب، طمعا في الأوبة والفلاح، وحرصا على سلوك سبل الهداية والصلاح، لئلا تتوهم غير ذلك من الأسباب التي تنقل عنك، من الاستطالة في الأعراض والاغتياب. إذ هي لا يلتفت إليها المؤمن العاقل، ولا يأخذ بها إلا غر الجزء: 12 ¦ الصفحة: 295 مماحل; وهي باقية ليوم ترجعون فيه إلى الله، ويجزي كل قائل بما زوره وافتراه; ولعل الله أن يمن برجوعك إلى الحق بعد الشرود، وأن يقضي بصحبتك على توحيد ربنا المعبود فإني أسر بذلك، وأتأسف على تنكب أمثالك؛ والله يقول الحق وهو يهدي السبيل، وصلى الله على محمد. [رسالة من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى عبد العزيز بن إبراهيم] وقال أيضا رحمه الله تعالى: بسم الله الرحمن الر حيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأخ المكرم عبد العزيز بن إبراهيم بن عبد اللطيف، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فنحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو على عافيته، جعلنا الله وإياك من أهل العافية في الدنيا والآخرة؛ وتذكر أن بعض الناس ينكر ما نسب إلى ابن منصور، من عداوة الدين، وموالاة المشركين، ومسبة أئمة المسلمين، وجعلهم من الخوارج المارقين; وهذا أظهر شيء عند من عرف حال هذا الرجل وجالسه، ونظر في كلامه؛ فإنه يبديه كثيرا لجلسائه، ويذكره في رسائله ومصنفاته، وهوامشه التي يعلق. والرجل فيه رعونة تمنعه من المداراة والتقية، حتى كتابه الذي يزعم أنه شرح على التوحيد، رأيت فيه من الدواهي والمنكرات، ما لا يحصيه إلا الله؛ من ذلك قوله في الكلام على قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [سورة الذاريات آية: 56] ، أن ابن العربي المالكي، قال: العبادة هي موافقة القضاء والقدر; وابن عباس يقول: كفر الكافر تسبيح; هذا رأيته الجزء: 12 ¦ الصفحة: 296 بخط ابن نصر الله من أهل بلده، في كلامه على كتاب التوحيد. ولهذه نظائر وأخوات، لا يعرفها إلا من وقف على كلامه من طلبة العلم؛ ونبرأ إلى الله أن نبهت مسلما، وأن نفتري عليه ونؤذيه بغير ما اكتسب; وإنما يظن بهذا حزب الشيطان وجنده من الجاهلين، الذين لم يستضيئوا بنور العلم. وكتابه الذي وقفنا عليه في هذه الأيام بخط يده، نظر فيه من يعرفه يقينا، من أهل سدير: عبد العزيز بن عيبان وغيره، وعلي بن عيسى من أهل الوشم، وكثير من طلبة العلم; والعامة شهدوا بأنه خطه بيده; ومسبته فيه للتوحيد ومن جاء به، حشو بالزنبيل، وتصريحه بتزكيته أهل الأمصار، ممن عبد القباب والصالحين، وجعلهم خير أمة أخرجت للناس; والشيخ واتباعه على إفراد الله بالعبادة، عنده خوارج من أهل النهروان. ويصرح بأن الشيخ ضال مضل، وأنه أجهل من أبي جهل بمعنى لا إله إلا الله، وأنه ضل في تخطئته صاحب البردة، وأن دعاء الرسول وطلب الشفاعة منه بعد موته جائز، وأن الله ابتلى أهل نجد بهذا الرجل; بل ابتلى به جزيرة العرب; وأنه لم يتخرج على العلماء، وأن أهل الأمصار يبنون المساجد والمنار، وأنه أخذ بلدان المسلمين بيت مال له ولعياله، وأنه أتى الأمة من الباب الضيق، وهو: تكفيرها; ولم يأتها من الباب الواسع. ورد مسائل في كشف الشبهة، ومسائل في كتاب التوحيد، ومن الستة المواضع التي تكلم الشيخ عليها من السيرة; وأتى بجهالات وضلالات، ووقاحة ومسبة، لا تصدر ممن يؤمن بالله واليوم الآخر. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 297 ومن كذب بهذا النقل، فهو مكابر معاند، جاحد للحسيات والمتواترات; والغالب أن هذه المكابرة، لا تقع من محب لما جاء به الشيخ، من توحيد الله ودينه; وإنما يذهب إليها من في قلبه مرض، يتوصل بهذه المكابرة، والمباهتة، إلى رد التوحيد وبغضه وبغض أهله؛ وأكثر هذا الصنف، ليس لهم التفات إلى ما جاءت به الرسل; والغالب عليهم هو الغفلة عن ذلك، والإعراض عنه. وقد قال تعالى: {فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى} [سورة النجم آية: 29-30] . واقرأ هذه الرسالة على من ارتاب في أمره، وماحل وجادل في دين الله. والله يقول الحق وهو يهدي السبيل، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. [الجواب المنثور في الرد على ابن منصور وكشف حاله] وقال أيضا الشيخ عبد اللطيف، قدس الله روحه 1 بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيد المرسلين محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وسلم تسليما كثيرا. أما بعد: فاعلم أيها الناظر إلى ما علقته في هذه الأوراق، في كشف حال أهل الشقاق والنفاق، أن عثمان بن منصور،   1 يسمى بالجواب المنثور, في الرد على ابن منصور, وسمي بذلك لما يأتي من الرد المنظوم صفحة: 333-336. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 298 بعد مجيئه من البصرة والزبير، وطول إقامته عند مشائخه: ابن سند وابن جديد وابن سلوم، أقبل إلى نجد، فكرهه من كرهه من المسلمين، واغتر به من اغتر به، من المقدمين، لانتسابه إلى العلم، وصار الأئمة يستعملونه في بعض البلاد، لا سيما في سدير; فصار قاضيا به، ومتوليا أمورهم، في الحكم بينهم، والإفتاء، وغير ذلك. فصار يظهر منه في تلك الحال كراهة التوحيد، ومن قام به ودعا إليه، ويكتب فيهم ما ورد في الخوارج، لزعمه أنهم خرجوا من الإسلام والسنة، لقبولهم دعوة شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، إلى إخلاص العبادة لله وحده لا شريك له، وخالفوا المشركين، وإنكار ما وقع من الشرك الذي عمت به البلوى، في القرى والأمصار، من عبادة أرباب القبور والطواغيت، والأحجار والأشجار. فنَزل أهل الشرك وعباد الأوثان، منْزلة الصحابة رضي الله عنهم، حيث كفرتهم الخوارج بما شجر بينهم، ونزل أهل التوحيد الداعين إلى الإخلاص والتجريد، وإنكار الشرك الأكبر، والغلو والتنديد، منْزلة من خرج على المسلمين، بالقتال والتكفير. ويظهر منه لبعض الخاصة، من عداوته شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، ما يبوح لهم به؛ وفي أعيان المسلمين من يصدق ذلك، وفيهم من لا يصدق. فلما توفي وعرضت كتبه للبيع، وجد فيها من الطعن على الجزء: 12 ¦ الصفحة: 299 شيخ الإسلام بدعوته إلى دين الإسلام، وتأييده لمن عارض هذه الدعوة، في الشبهات والترهات، وأبلغ في الثناء والتمجيد والتأييد، لمن قام في نصرة الشرك بالله، وأن ما وقع من الشرك من الاستغاثة بالأموات والغائبين، أنه مما يحبه الله ويرضاه!! وله منظومة: في هذا المعنى 1 بالغ فيها من المدح لداود، على ما كتبه من الشبهات والخيالات والضلالات، وجدت في كتبه بخطه; ووجدنا من اعتراضه على شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، ورده عليه فيما كتبه، في تحريم موادة المشركين، وحاصله: إنكار وجود الشرك، وأن ما ذكرته أيها الشيخ، لا يوجد في الأمة من تحرم موادته أصلا. فكابر الواقع الذي يشهد به كل أحد، ولا ينكر وجوده وعموم البلوى به، إلا بعض الأفراد الذين طبع الله على قلوبهم، وصاروا دعاة إلى النار، يستحسنون كل شرك وقبيح، وينكرون كل ما هو حق وصحيح. ثم إنه أتانا من رجل من بريدة نسخة لابن منصور - خطه بيده - أكثر فيها السباب لشيخ الإسلام، والاعتراض عليه فيما دعا إليه من دين المرسلين، الذي افترضه الله على الخلق أجمعين; وهو: إخلاص الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة، للكبير المتعال، وإنكار ما ينافي ذلك من الشرك والضلال. فرحم الله شيخ الإسلام، فلقد أنقذ الله به من الهلاك   1 تأتي في صفحة: 331 - 333. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 300 الخلق الكثير، والجم الغفير، وأطبق على الثناء عليه بمقامه هذا جميع أهل نجد، والحجاز وتهامة وعمان، وكثير من علماء الحرمين، ومصر والعراق والشام؛ حتى من أهل المغرب، وبلاد الروم، كلهم أو غالبهم بين من يثني على صاحب هذه الدعوة ويدعو له، ومن ليس كذلك، فلا يظهر منه إنكار. وكثير منهم عاداه في أول هذه الدعوة، ثم رجع واعترف ; فلله الحمد على دعوته إلى هذا التوحيد، وتأييده بالنصر والظهور، على من ناوأه وناوأ أتباعه، وما ناوأهم أحد إلا وينقلب مدحورا مكسورا، إلى غير ذلك مما يطول عده، من الآيات التي جرت برهانا لصحة هذا الدين، الذي اتفقت عليه في دعوة المرسلين ; فهذا هو الذي أوجب عداوته لشيخ الإسلام رحمه الله تعالى، فسلك مسلك أشياخه الثلاثة، في عداوة التوحيد ومن دعا إليه. ولله در العلامة ابن القيم، رحمه الله تعالى حيث يقول: فلا بد لكل نعمة من حاسد، ولكل حق من جاحد ومعاند ; ثم ذكر جنس هؤلاء الجاحدين المعاندين، فقال رحمه الله تعالى: اللهم فعياذا بك ممن قصر في الحق اتباعه، وطالت في الجهل وأذى عبادك باعه؛ فهو لجهله يرى الإحسان إساءة، والسنة ذراعة والعرف نكرا، والظلمة نورا ويجزي بالحسنة سيئة كاملة، وبالسيئة الواحدة عشرا. قد اتخذ بطر الحق وغمط الناس سلما إلى ما يحبه من الباطل الجزء: 12 ¦ الصفحة: 301 ويرضاه، ولا يعرف من المعروف، ولا ينكر من المنكر إلا ما وافق إرادته أو خالف هواه، يستطيل على أولياء الرسل وحزبه بأصغريه، ويجالس أهل الغي والجهالة، ويزاحمهم بركبتيه. قد ارتوى من ماء آجن وتضلع، واستشرف إلى وراثة الأنبياء وتطلع، يركض في ميدان جهل مع الجاهلين، ويبرز عليهم الجهالة فيظن أنه من السابقين، وهو عند الله ورسوله والمؤمنين، عن تلك الوراثة النبوية بمعزل. وعياذا بك ممن جعل الملامة بضاعته، والعذل نصيحته، فهو دائما يبدي في الملامة، ويعيد ويكرر على العذل، فلا يفيد ولا يستفيد؛ بل عياذا بك من عدو في صورة ناصح، وولي في مسلاخ بعيد كاشح، يجعل عداوته وأذاه حذارا وإشفاقا، وتنفيره وتخذيله إسعافا وإرفاقا. وإذا كانت العين لا تكاد إلا على أمثالهم تفتح، والميزان بهم يخف ولا يرجح، فما أحرى اللبيب بأن لا يعيرهم من قلبه جزءا من الالتفات، ويسافر في طريق مقصده بينهم سفره إلى الأحياء بين الأموات وما أحسن ما قال القائل: وفي الموت قبل الموت موت لأهله ... وأجسامهم قبل القبور قبور وأرواحهم في وحشة من جسومهم ... وليس لهم حتى النشور نشور اللهم فلك الحمد وإليك المشتكى، وأنت المستعان وبك المستغاث، وعليك التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بك، وأنت حسبنا ونعم الوكيل، انتهى كلامه رحمه الله. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 302 وعلى هذا، يكون هذا الرجل عدوا لمن قام بالتوحيد، لانطباق هذه الأوصاف عليه، ومرجعها عند التأمل إليه. وقد ابتلي شيخنا رحمه الله في ابتداء دعوته، بأناس هذا وصفهم، فمنهم من رجع، ومنهم من هلك؛ ولله الحمد والمنة على ظهور هذا الدين، وانتفاع الخلق بهذه الدعوة، وتأييد من قام بها، ودعا إليها من المسلمين. وبقي هذا الرجل مضمرا لعداوة هذا الدين، ولمن أقر بأنه هو الحق المبين؛ فأصل عقيدته على أصل هو أفسد الأصول، وأبعدها عن المنقول والمعقول، لتضمنه الطعن والتكذيب مما أخبر به النبي الرسول، مما لا بد أن يقع في هذه الأمة، مع إلحاده في مدلول الآيات المحكمات، في بيان الشرك بأنواعه، وإيضاحه، وبيان التوحيد الذي لا يقبل الله من أحد دينا سواه. فاعتقد هذا الرجل البليد، الذي صار في معتقده بين الناس كالفريد، في شدة عداوته التوحيد، فصرح بأنه لا يوجد في هذه الأمة من ينكر عليه، ولا من يهاجر عنه من أهل الشرك، حتى من كان يعبد القبور والمشاهد، ولا من هو متميز ببيان الإسلام والدعوة إليه يهاجر إليه؛ وهذا جهل عظيم وضلال مبين. وفيما اعترض به على شيخنا محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى: أنه يكفر الأمة بالعموم، وهذا من أعظم البهتان؛ فإن الأمة فيها خير القرون الثلاثة، من الذين هم على الإسلام والإيمان، ونقلوا شرائع الإسلام، وصنفوا في العلوم الجزء: 12 ¦ الصفحة: 303 النافعة والأحكام، وأخذت عنهم العلوم الشرعية، والدعوة إلى الملة الإسلامية، وفيهم أصحاب رسول الله وهم الخلق الكثير، والجم الغفير. وتبعهم على ذلك التابعون، فأظهر الله بهم نور الإسلام، وأطفأ بهم الظلم والظلام؛ فأصبحت أعلام الإسلام بهم ظاهرة، وأحكام الشريعة بهم متداولة متكاثرة، فإذا ظهرت فيهم بدعة أنكروها، وإذا استبانت لهم سنة أظهروها. وقد قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [سورة آل عمران آية: 110] ، فصاروا خير أمة بثلاثة شروط: الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والإيمان بالله، وأساسه: إخلاص العبادة لله، والبراءة من عبادة كل ما يعبد من دون الله؛ وهذا الوصف معظم أهله مضوا في خير القرون. ثم وقع في الأمة بعدها ما وقع، من الشرك والبدع، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الأمة بعد القرون الثلاثة، سيحدث فيها من التفرق والاختلاف، ما قد حدث، فوقع من ذلك ما هو كعين اليقين، كما قد اعترف به العلماء، عصرا بعد عصر يزداد ظهورا ويستبين، حتى استحكمت غربة الإسلام، واستبدل الأكثر الباطل بالحق، والحرام بالحلال. وقد أنكر علماء السنة ما حدث من الشرك والبدع والضلالات، منهم: أبو الوفاء بن عقيل، وأبو شامة، وابن الجزء: 12 ¦ الصفحة: 304 وضاح، وصنع الله الحلبي، وغير هؤلاء من علماء السنة، عرفوا ما وقع في الأمة من الشرك، وأنكروه؛ فما زال في الأمة من يدعو إلى التوحيد، وينكر ما وقع من هذا الشرك. فإذا كان الشرك والكفر قد وقع في خير القرون، فلا بد أن يقع أكثر منه في شرها، فلا تغفل عما وقع من العرب، بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم من خروج الأكثر من باب الإسلام، فجاهدهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم حتى دخلوا من الباب الذي خرجوا منه، وقتل من قتل منهم على ردته وكفره. وبنو حنيفة لما صدقوا مسيلمة الكذاب، في زعمه أنه نبي، فقاتلهم خالد بن الوليد رضي الله عنه بالصحابة ومن أسلم معه من العرب، واستشهد من استشهد من المسلمين، منهم زيد بن الخطاب، وثابت بن قيس، وسالم مولى أبي حذيفة رضي الله عنهم. وبنو حنيفة من هذه الأمة بلا ريب وإن كفروا، وقتل مسيلمة ومحكم بن الطفيل، وصالح مجاعة خالدا على بقية بني حنيفة، فأسلموا. ثم إن الله تعالى جمع أصحاب رسوله وكل من دخل في الإسلام، على جهاد فارس والروم؛ فأول من جاهد الفرس خالد بن الوليد، بعد قتال بني حنيفة ; وأما الروم فأمر على الجنود التي بعثت إليهم يزيد بن أبي سفيان، وأبا عبيدة بن الجراح، فما زالوا يجاهدون حتى فتح الله الشام ومصر والعراق، وما يليها، على المسلمين، وغنمهم خزائن كسرى وقيصر. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 305 فما زال الأمر كذلك في خلافة عمر وعثمان، حتى جرى على عثمان في خلافته، ما هو مذكور في السير والتاريخ. والمقصود: بيان كثرة أهل الإيمان، وظهور الإسلام، في تلك القرون المفضلة; فسبحان الله! أيجوز لأحد أن يكفر الأمة، وقد فضلهم الله تعالى بالإسلام والإيمان؟ ! نسبه هذا إلى شيخ الإسلام، الجواب عنه، أن نقول: سبحانك هذا بهتان عظيم! وأما دعوى هذا المفتري أن هذه الأمة لها حكم الإسلام، ولا يوجد فيها ما ينافيه، وليس فيها من تحرم موادته وموالاته لكفره وشركه، فمقتضى هذا القول نبذ الإسلام وراء الظهر، والإيمان بالطاغوت، والاختلاق المخالف للكتاب والسنة وإجماع الأمة، فإنه - والحالة هذه - قد عمي قلبه عن تصور الحق على ما هو عليه، وتصور الباطل على ما هو عليه، ولم يصدق بما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من وقوع الشرك في هذه الأمة؛ فانقلب تصوره، وعاد الضرر عليه، فتعين رد قوله هذا جملة. فنبتدئ ذلك بذكر ابتداء دعوة النبي صلى الله عليه وسلم. فنقول: بعث الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق، ليظهره على الدين كله ; فدعا قريشا والعرب إلى ما بعثه الله به، من إخلاص العبادة لله وحده لا شريك له وترك ما كان يعبد من دون الله، من شجر أو حجر أو ميت، حتى الأنبياء والملائكة، كما دلت عليه الآيات المحكمات. فما أجابه إلى ما دعا إليه ابتداء أحد من قومه، سوى أبي بكر الصديق، وخديجة أم المؤمنين، وبلال بن أبي رباح، وعلي الجزء: 12 ¦ الصفحة: 306 ابن أيي طالب - وكان إذ ذاك صبيا - كما دل على ذلك حديث: عمرو بن عبسة لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره: "أن الله أرسله بكسر الأصنام، وصلة الأرحام، وأن يوحد الله لا يشرك به شيء ; قال من معك على هذا؟ قال: حر وعبد" 1 ومعه يومئذ أبو بكر وبلال، فهذا حاله صلى الله عليه وسلم في مبدإ دعوته. وكان يعرض نفسه على القبائل فيقول: "من يمنعني من أذى قومي؟ "، فلم يجبه إلى ذلك أحد في ابتداء دعوته، وعرض نفسه على أهل الطائف: ابن عبد ياليل، ومن معه من كبارهم، فأغلظوا له القول، ورموه بالحجارة، حتى أدموا قدميه وعقبيه، صلوات الله وسلامه عليه، وفي ذلك يقول أبو قيس صرمة بن أبي قيس: ثوى في قريش بضع عشرة حجة ... يذكر لو يلقى حبيبا مواتيا ويعرض في أهل المواسم نفسه ... فلم ير من يؤوي ولم ير داعيا إلى آخر الأبيات. وقد قال فيما صح عنه صلى الله عليه وسلم: " بدأ الإسلام غريبا، وسيعود غريبا كما بدأ، فطوبى للغرباء، الذين يصلحون إذا فسد الناس، أو يصلحون ما أفسد الناس " 2، وأخبر أنهم النُّزاع من القبائل، وأن من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم؛ وكل هذا قد وقع بعد القرون المفضلة بلا ريب، كما سيأتي. والغربة: إنما هي في معرفة ما دعا إليه من التوحيد، والنهي عن ما يضاده من الشرك ; وهذا قد صار مجهولا عند أكثر   1 مسلم: صلاة المسافرين وقصرها 832 , وأحمد 4/112. 2 مسلم: الإيمان 145 , وابن ماجه: الفتن 3986 , وأحمد 2/389. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 307 الأمة، حتى من ينتسب إلى العلم، من المتكلمين وأتباعهم ; فلهذا وقع كثير منهم في الشرك، فعاد الإسلام في هذه الأمة غريبا كما بدأ، لعموم البلوى بالشرك، وظهوره في المشارق والمغارب، وبناء المساجد على القبور والمشاهد، وعبادتها بكل ما يعبد به الله من أنواع العبادة. وهذا لا يقدر أحد على إنكاره، وأنه وقع في الأمة بعد القرون المفضلة، وعمت به البلوى؛ فظن الأكثر أن التوحيد إنما هو توحيد الربوبية، الذي أقر به المشركون، كما في قوله: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} إلى قوله {تُسْحَرُونَ} [سورة المؤمنون آية: 84-89] ، وقوله: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ} إلى قوله: {أَفَلا تَتَّقُونَ} [سورة يونس آية:31] ، وهذا هو الذي عند الأشعري وغيره من أمثاله. وأما توحيد الإلهية، الذي جحده مشركو قريش والعرب ابتداء، فما عرفوا التوحيد، وهو الذي دعت إليه الرسل من أولهم إلى آخرهم، فلهذا وقع الأكثر في الشرك الأكبر المنافي لهذا التوحيد، بدعوتهم الأموات في الرغبات والرهبات، والاستغاثة بهم في المهمات؛ فإذا لم ينكر العلماء هذا الشرك، ولا عرفوا الإخلاص الذي هو الدين، الذي شرعه الله للأنبياء والمرسلين، وقعوا في الشرك، وتبعهم على ذلك الخلق الكثير والجم الغفير. وقد صنفت المصنفات في جواز هذا الشرك، كما ذكره الجزء: 12 ¦ الصفحة: 308 شيخ الإسلام عن جماعة ممن ينتسب إلى العلم، كأبي معشر البلخي، والفخر الرازي، وثابت بن قرة، ومحمد بن النعمان، وابن البكري، وابن الأخنائي وغيرهم، فلم ينكر هذا الشرك الذي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه يقع في أمته إلا الفرقة الناجية، وهم الأقلون عددا، الأعظمون قدرا عند الله وسنذكر بعضهم إن شاء الله تعالى. وقد ذكر العلماء المصنفون، في دلائل النبوة ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من وقوع الشرك في هذه الأمة، وما تبعوا فيه اليهود والنصارى، وعدوا ذلك من المعجزات، ودلائل النبوة، كالحافظ الذهبي وغيره، وهو كذلك. ولا ينكر ما وقع في هذه الأمة من غربة الإسلام، وما حدث من الشرك والبدع، والجهل العظيم، إلا جاهل مغفل منكوس القلب، لا يتصور الأمور على ما هي عليه؛ وهذا كثير في الأمة، كما ذكر جنسه أبو الوفاء ابن عقيل، وأبو شامة وابن وضاح، وصنع الله الحلبي، والمقريزي وغيرهم. وقد ذكره في كتبه شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله تعالى، فقال: وقد غلط في مسمى التوحيد طوائف من أهل النظر والكلام، ومن أهل الإرادة والعبادة، حتى قلبوا حقيقته ; وكل طائفة تسمي بدعتها توحيدا، كالجهمية، والمعتزلة، والفلاسفة، وأهل الوحدة، وغيرهم من أهل البدع، كما هو موجود في مصنفاتهم، انتهى. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 309 وهذه الطائفة وفق الله شيخهم الذي دعاهم لما اختلف فيه من الحق، فعرف التوحيد الذي غلطت الطوائف في مسماه، وهو أن لا يعبد إلا الله، وأن لا يعبد إلا بما شرع، وأنكر ما ينافيه من الشرك في العبادة، الذي عمت به البلوى في جميع الأقطار. ولهذا خصهم الله تعالى دون غيرهم من الناس، بالاسم الذي يسمي الله به المؤمنين من هذه الأمة، فلا ينصرف ذكر المسلمين إلا إليهم، من غير مواطأة ولا اصطلاح ; وإنما هو إلهام من الله تعالى، يجرى لهم على لسان الموافق والمخالف، وذلك من جملة ما يتبين به أنهم أهل الحق، فلا يوجد عندهم وثن يعبد، ولا معبود يقصد بالعبادة، إلا الله تعالى. وقد كان أهل نجد وغيرهم قبل هذه الدعوة كغيرهم، يعبدون القبور والأشجار والأحجار والجن; ما من قرية إلا إذا اشتكى فيهم أحد، تقربوا للجن بالذبح لهم، ولا ينكر ذلك أحد منهم، بل كان من يستفتى منهم يأمرهم بذلك، والبدع فيهم أكثر؛ فبعد هذه الدعوة، زالت تلك الأمور رأسا، فلم يبق منها شيء؛ وكفى بهذا برهانا على صحة هذا الدين الذي أقامهم الله بالدعوة إليه، والجهاد عليه؛ فلا ينكر ما ذكرناه منهم إلا مباهت ضال مضل. ونذكر ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم مما وقع في هذه الأمة عموما وخصوصا، من الشرك في العبادة، فمن ذلك: ما في حديث ثوبان، وهو عند مسلم وأبي داود وغيرهما، وفيه: " وإنما أخاف الجزء: 12 ¦ الصفحة: 310 على أمتي الأئمة المضلين؛ ولا تقوم الساعة حتى يلحق قبائل من أمتي بالمشركين، وحتى يعبد فئة من أمتي الأوثان. وإنه سيكون في أمتي كذابون ثلاثون، كلهم يزعم أنه نبي، وأنا خاتم النبيين لا نبي بعدي. ولا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة، لا يضرهم من خذلهم، حتى يأتي أمر الله عز وجل " 1. وعن معاوية بن أبي سفيان، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن أهل الكتاب افترقوا في دينهم، على ثنتين وسبعين ملة، وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين ملة، كلها في النار إلا واحدة " 2 أخرجه أبو داود، وأخرجه الإمام محمد بن نصر في " كتاب الاعتصام " من طرق، وذكر العماد ابن كثير: أن هذا الحديث يروى من طرق كثيرة، تدل على صحته. فتأمل قوله: " كلها في النار إلا واحدة " 3. وكل هذا الفرق وجدت في هذه الأمة، ولله در الشاطبي حيث يقول: وهذا زمان الصبر من لك بالتي كقبض على جمر فتنجو من البلا فإذا كان هذا في زمن الشاطبي، في حدود القرن السادس، فما ازداد الإسلام بعده إلا غربة، كما في حديث أنس: "لا يأتي على الناس زمان، إلا والذي بعده شر منه، حتى تلقوا ربكم "، سمعته من نبيكم صلى الله عليه وسلم، فوقع من الغربة ما يحكي ويشبه ما وقع للنبي صلى الله عليه وسلم في أول دعوته، حتى إن من دعا إلى التوحيد، رمي بقوس العداوة؛ فجعلوا التوحيد عندهم أنكر المنكرات، وعبادة القبور من القربات، وهذا غاية الغربة ونهاية الكربة.   1 الترمذي: الفتن 2229 , وأبو داود: الفتن والملاحم 4252 , وابن ماجه: الفتن 3952 , وأحمد 5/278 ,5/284 , والدارمي: المقدمة 209. 2 أبو داود: السنة 4597 , وأحمد 4/102. 3 ابن ماجه: الفتن 3993 , وأحمد 3/120. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 311 وقد ذكرت فيما كتبه قبل هذه، بعدما حدث من البدع في هذه الأمة كبدعة الرافضة، وما أحدثوا من البناء على القبور وتعظيمها، وبناء المشاهد، والسفر إلى عبادتها، وبذل الأموال في عمارتها، وما يتقربون به إلى سدنتها، والمجاورين لها، كما جرى من بني بويه أهل المشرق بعد القرون المفضلة، وما جرى من بني عبيد القداح بمصر، من عبادتهم لمشهد الحسين؛ زعموا أنهم أتوا برأس الحسين من عسقلان، وبنوا عليه مسجدا عظيما معروفا بالقاهرة، وأجروا له الأوقاف، وصار عندهم أعظم مسجد بالقاهرة، وما كانوا يفعلونه من عبادة أحمد البدوي وما يقع في مولده من فنون الشرك الأكبر، والفساد من بناء المساجد على قبور أهل البيت، والغلو فيها وعبادتها، وكما يفعلون عند قبر الست زينب، والست نفيسة، وغير ذلك مما يطول عده، من الأوثان التي كانوا يعبدونها من دون الله ; وما كان يفعل عند قبر عبد القادر ببغداد وغيره، وما ذكره أبو شامة عن أهل الشام، وكل بلد قد امتلأت شركا، اللهم إلا أن يوجد من ينكر ذلك في نفسه، مما لا يطلع عليه إلا الله. فمن الله تعالى بقيام من دعا إلى التوحيد، الذي اندرس وعفت آثاره، وأنكر الشرك الذي عم البلاد وطار غباره، وهو شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى؛ فإن الطائفة لم تزل في هذه الأمة على الإسلام والسنة، لكن تقل تارة وتكثر أخرى. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 312 وما سمعنا بعد شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم والحافظ ابن عبد الهادي، وأصحابهم، ومن أخذ عنهم، كابن رجب، ومن في طبقتهم من أهل السنة، ممن اشتهر عنهم إنكار الشرك الذي عمت البلوى بوقوعه في هذه الأمة، فإنهم أبطلوا ما أبداه أهل الشرك من الشبهات، وبينوا إلحادهم في معنى الآيات المحكمات، وضلالهم عن التوحيد الذي بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه. فبقيت مصنفاتهم في ذلك سلاحا للموحدين، على هؤلاء المشركين الملحدين، لكنها قبل ظهور شيخنا، رحمه الله تعالى، بهذه الدعوة، كانت مهجورة لا يلتفت إليها، ولا ينظر إلى ما فيها من الحجة والبيان، والدليل والبرهان، فلعموم الجهل أنزلوها منْزلة كتب البدع عند أهل السنة. فلما من الله على شيخنا، رحمه الله بهذه الدعوة، صارت تلك الكتب مشهورة، وظهرت أنوار الحق، وزالت ظلمات الشرك بالحجج والبراهين، وطلب أهل التوحيد أدلته في مظانها، من كتب العلماء الأعلام، كتفسير أبى جعفر بن جرير، رحمه الله، وتفسير العماد بن كثير، وأمثالهما. ففيها من بيان التوحيد، ونفي الشرك ما يشفي العليل ويروي الغليل، مما لا يجهله إلا من عميت بصيرته، وفسدت سريرته، وأشرب الشرك في قلبه، كأمثاله ممن مضى من أعداء الرسل، الذين كذبوهم، مع ظهور الآيات، والبراهين الجزء: 12 ¦ الصفحة: 313 والمعجزات ; قال تعالى: {وَمَا تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ} [سورة يونس آية: 101] . فيجب على من عرف حقيقة التوحيد الذي بعث الله به رسله، وأنكر ما ينافيه من الشرك، وعادى في الله ووالى فيه أن يشكر الله على هذه النعمة، خصوصا إن تدبر ما في القرآن، من بيان ما جرى من الأمم المكذبة للرسل، وما جرى في هذه الأمة مما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بوقوعه، من الشرك والضلال، وما جرى على النبي صلى الله عليه وسلم في ابتداء دعوته. فيا لها نعمة ما أجلها لمن عرف قدرها، ورعاها حق رعايتها، وأحبها وسر بها، ولزم العمل بها وذكرها. {وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [سورة هود آية: 88] والحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، غير مكفي ولا مكفور، ولا مودع، ولا مستغنى عنه، ربنا، وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا. وقد ذكر العلامة ابن القيم، رحمه الله تعالى، حال من حرم الهدى لجهله وإعراضه، وعدم قبوله لما أنزل الله تعالى في كتابه من الهدى والعلم، فقال - بعد كلام له سبق -: والمقصود: أن الإنسان إذا لم يكن له علم بما يصلحه في معاشه ومعاده، كان الحيوان البهيم خيرا منه، لسلامته في المعاد مما يهلكه، دون الإنسان الجاهل. ومن جهل هذا الرجل، وشدة ضلاله أنه لما ذكر قول الجزء: 12 ¦ الصفحة: 314 شيخنا، رحمه الله تعالى، على قوله صلى الله عليه وسلم: " من قال: لا إله إلا الله، وكفر بما يعبد من دون الله " 1 إلى آخره، قال شيخنا: فإنه لم يجعل التلفظ بها عاصما للدم والمال، بل ولا معرفة معناها مع لفظها، بل ولا الإقرار بذلك، بل ولا كونه لا يدعو إلا الله وحده، بل لا يحرم ماله ودمه، حتى يضيف إلى ذلك الكفر بما يعبد من دون الله، فإن شك أو تردد لم يحرم دمه وماله ; فقال هذا المخذول الضال: واغوثاه من هذا الكلام!!. فالجواب، أن نقول: إن من له أدنى مسكة من عقل، يعلم أن هذا الكلام هو معنى كلمة الإخلاص، مطابقة ووضعا؛ فإن الكلمة دلت بوضعها على شيئين، نفي الإلهية عما سوى الله تعالى، نفيا عاما في حق كل معبود سوى الله، وهذا هو الركن الأول من ركني كلمة الإخلاص; الركن الثاني، قوله: إلا الله، فهو المخصوص بالإلهية دون كل ما سواه. والركن الأول هو الذي منع مشركي قريش والعرب من التلفظ بها، لأنهم أهل اللغة، ويعرفون مدلول الكلام ; فلو تكلموا بها للزمهم أن يتركوا عبادة ما كانوا يعبدونه من الأصنام والأوثان، فتركوا التلفظ بما يلزمهم به من ترك دينهم، فلم ينفوا الإلهية عما كانوا يعبدونه من دون الله، فلذلك تركوا التلفظ بها. وأما مشركو آخر هذه الأمة، فجهلوا معناها فتلفظوا بها، مع عدم نفيهم لما نفته من الشرك بعبادة الأوثان والأصنام،   1 مسلم: الإيمان 23 , وأحمد 3/472 ,6/394. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 315 الذي عمت به البلوى في هذه الأعصار والأمصار؛ ولا ينكر وقوعه إلا من أعمى الله قلبه، وأطفى نور بصيرته بالكلية. وكلام شيخنا هذا في معناها كلام بليغ حسن فصيح مبين، ظاهر، مستوف للمعنى الذي دلت عليه كلمة الإخلاص بكماله؛ وهو معلوم من الدين بالضرووة، وهو أصدق الكلام في معنى الكلمة مع اختصاره، وقد ذكر من معناها فيه، ما ذكره بعض العلماء في جزء، كابن رجب وغيره. ومن المعلوم: أنه لو شك فيما نفتة لا إله إلا الله، من إلهية غير الله، أو تردد، لم يكن نافيا لما نفته، كما قال تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ} [سورة البقرة آية: 256] الآية؛ بين تعالى أنه لم يستمسك بلا إله إلا الله، إلا إذا كفر بالطاغوت، وهو ما زينه الشيطان من عبادة غير الله، كما ذكره ابن كثير وغيره من المفسرين؛ ونظائرها في القرآن كثير، كقوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [سورة الإسراء آية: 23] ، وغير ذلك من الآيات المحكمات. وغاية هذا الرجل: أنه أنكر المعقول والمنقول، ولم يعرف التوحيد الذي بعث الله به كل نبي وكل رسول، ويظن أن التوحيد هو نصرة الشرك والضلال، واعتقاد صحة ما عليه الطغام والجهال، ومن ضل من أرباب البدع والضلال؛ فلا ينكر وقوع ذلك إلا من أشرب قلبه الباطل، فلم يجد الحق فيه مساغا; ولهذا أنكر أصدق الكلام وأبينه، الذي فيه معنى كلمة الإسلام الجزء: 12 ¦ الصفحة: 316 بالمطابقة التي هي أبلغ من دلالة التضمن والالتزام. فحاصل أمره: مخالفة المنقول والمعقول، وعدم قبول ما أخبره به النبي الرسول، ولو عقل لكفاه ما أسنده جابر بن عبد الله ورواه، حيث قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الناس دخلوا في دين الله أفواجا، وسيخرجون منه أفواجا " 1 رواه الإمام أحمد، ونقله العماد ابن كثير، على قوله: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [سورة النصر آية: 1] إلى آخر السورة. فكابر هذا وماحل، وكذب الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: لم يخرج من الإسلام أحد ; وقال في شرحه: وكفر الكافر تسبيح ; فجعل الكفر كالإيمان، ولم يعتقد كونهما نقيضين. فسبحان من طبع على قلوب من شاء بعلمه وحكمته، ووفق لمعرفة دينه من شاء من عباده، بفضله ورحمته، فالحمد لله الذي جعل نار أعداء الشيخ في هذه الدعوة رمادا، وجعل كفرهم بغيا وعنادا. قال العلامة ابن القيم، رحمه الله تعالى: قال محمد بن الفضل الصوفي الزاهد: ذهاب الإسلام على يد أربعة أصناف من الناس: صنف لا يعملون بما يعلمون، وصنف يعملون بما لا يعلمون، وصنف لا يتعلمون ولا يعلمون، وصنف يمنعون الناس من التعلم. قلت: الصنف الأول: من له علم بلا عمل، فإنه أضر شيء على العامة، فإنه حجة لهم في كل نقيضة ومحنة ; الثاني:   1 أحمد 3/343. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 317 العابد الجاهل، فإن الناس يحسنون به الظن، لعبادته وصلاحه، فيقتدون به على جهله ; وهذان الصنفان هما اللذان ذكرهما بعض السلف، في قوله: احذروا فتنة العالم الفاجر، والعابد الجاهل، فإن فتنتهما فتنة لكل مفتون، فالناس إنما يقتدون بعلمائهم وعبادهم ; فإذا كان العلماء فجرة، والعباد جهلة، عمت المصيبة، وعظمت الفتنة على الخاصة والعامة. الصنف الرابع: نواب إبليس في الأرض، وهم الذين يثبطون الناس عن طلب العلم، والتفقه في الدين، فهؤلاء أضر عليهم من شياطين الجن، فإنهم يحولون بين القلب وبين هدى الله وطريقه ; فهؤلاء الأربعة الأصناف، الذين ذكرهم هذا العالم، رحمه الله، كلهم على شفا جرف هار وعلى سبيل هلكة. وما يلقى العالم الداعي إلى الله ورسوله ما يلقاه من الأذى والمحاربة، إلا على أيديهم، والله يستعمل من يشاء في سخطه، كما يستعمل من يشاء في مرضاته، إنه خبير بصير؛ ولا ينكشف سر هذه الطوائف، وطرائقهم إلا بالعلم، فعاد الخير بحذافيره إلى العلم وموجبه، والشر بحذافيره إلى الجهل وموجبه، انتهى. قلت: والبصير يعلم أن ابن منصور، أشبه بالآخرين من هذه الأربعة بلا ريب، فإنه بالغ في نصرة الشرك وعداوة التوحيد، بالزور والبهتان، بكل ما أمكنه من الطغيان؛ فمن ذلك اعتذاره عن صاحب البردة، في أبياته الشركية، وهي قوله: الجزء: 12 ¦ الصفحة: 318 يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به ... سواك .............. فقصر اللياذ في ذلك اليوم، الذي قال الله فيه: {يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [سورة الانفطار آية: 19] ، وقال: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ} [سورة غافر آية: 16] ، وقال: {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفّاً لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَاباً} [سورة النبأ آية: 38] ، فلم يعلق رغبته ورهبته في ذلك اليوم، بمن له الملك كله. بل علقه على النبي صلى الله عليه وسلم الذي لا يشفع إلا إذا أذن له في الشفاعة، في خصوص أهل الإخلاص، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر: أنه " يأتي فيسجد لربه، ويحمده بمحامد يفتحها عليه، لا يبدأ بالشفاعة أولا، ثم يقال له: ارفع رأسك، وقل يسمع، وسل تعطه. قال: فيحد لي حدا فأدخلهم الجنة " 1. فأخبر أن الله هو الذي يحد له، فنسب الحد إليه تعالى؛ فإذا شفع في إراحة الخلق من ذلك الموقف العظيم للحساب، شفع لأهل الإخلاص في دخول الجنة، وهم الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، وهم الذين تركوا ما يكره من الأسباب، اعتماداً على الله وتوكلا عليه، فببعدهم عن الشرك استوجبوا الشفاعة لهم بدخول الجنة التي قد وعدهم بدخولها. ثم بعد ذلك يشفع فيمن أذن الله له أن يشفع فيه، من أهل التوحيد، ممن عليه سيئات، وذلك مقيد بإذن الله ورضاه، كما قال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [سورة البقرة آية: 255] .   1 البخاري: التوحيد 7510 , ومسلم: الإيمان 193 , وابن ماجه: الزهد 4312 , وأحمد 3/116 ,3/144 ,3/244 ,3/247 , والدارمي: المقدمة 52. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 319 وقال تعالى: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [سورة الأنبياء آية: 28.] . وما لا يرضاه الله سبحانه، ولا يأذن فيه، فهو منتف، كما نفاه القرآن، كما قال تعالى: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ} [سورة الأنعام آية: 51] . وصاحب الأبيات لم يجعله في نظمه شفيعا، بل لاذ به من دون الله، واللياذ والعياذ عبادة، لأن العياذ من الشرك، واللياذ لطلب الخير، والعائذ واللائذ، كل منهما داع راج، وراغب، وهذا إذا صرفه لغير الله، فقد صرف العبادة لغير من يستحقها، وكذلك قوله: فإن من جودك الدنيا وضرتها ... ومن علومك علم اللوح والقلم وكل هذا من خصائص الربوبية، لا يصلح منه شيء لملك مقرب، ولا نبي مرسل، فضلا عن غيرهما، ولا يصلح إلا لله. فسبحان الله! كيف تعظم هذه الأبيات وتقبل وهى منافية للتوحيد؟! وقد قال تعالى: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ} [سورة الرعد آية: 14] وقال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً} [سورة الجن آية: 20] . والنبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنه إنما يدعو ربه وحده، فكيف يجوز أن يعامل بما لم يشرعه، ولا يرضاه؟! بل اشتد نهيه عما هو دون ذلك بأضعاف، كقوله: "لا تطروني"، وقوله لمن قال: ما شاء الله وشئت: "أجعلتني لله ندا؟ بل ما شاء الله وحده " 1. فتبين أن صاحب البردة قد جعل لله ندا في عبادته، في   1 أحمد 6/371. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 320 تعلق قلبه ورغبته ورهبته بغيره؛ وهذا واضح بحمد الله لمن له بصيرة، ونهمة في معرفة ما بعث الله به رسوله، ودعا إليه من التوحيد والنهي عن الشرك. ثم إن ابن منصور، قال قولا أبعد شيء من المعقول، تمويها على الطغام، وتضليلا للعوام، الذين لا يميزون ما فسد من الكلام، فقال: إن محمد بن عبد الوهاب، لم يعرف من معنى لا إله إلا الله، ما عرفه أبو جهل. قلت: وهذا بعينه هو وصف القائل، لا يعدوه بلا ريب، كما قيل: رمتني بدائها وانسلت. وأما من عرف منها ما عرفه أبو بكر الصديق، والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، من معرفة معنى الكلمة نفيا وإثباتا، والقيام بها عملا وجهادا، فشيخنا رحمه الله تعالى قد كمل هذا المقام، الذي وفق الله له سادات الصحابة الكرام، ومن تبعهم من هذه الأمة، ممن دان بالإيمان والإسلام، ودعا إلى ما دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وشهد لله بما شهد به لنفسه، في قوله: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ} [سورة آل عمران آية: 18] ، وأنكر دين أبي جهل أشد الإنكار، وجاهد الناس على تركه، كما جاهدهم سيد المرسلين. وأما دين أبي جهل، فقد بينه الله في كتابه، فقال تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ} [سورة الصافات الجزء: 12 ¦ الصفحة: 321 آية: 35] الآية، وأبوا أن يتركوا ما نفته لا إله إلا الله، من ترك عبادة الآلهة، ونصروها حتى أثخنهم الله، فقال تعالى عنهم، لما دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم إلي هذه الكلمة، نفيا وإثباتا: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً} إلى قوله: {لَشَيْءٌ يُرَادُ} [سورة ص آية: 5، 6] . وهذه هي طريقة ابن منصور، بل هم أعلم منه بالمعنى، وإن وافقهم في الاعتقاد، حيث لم ينكر ما كان يفعله المشركون في هذه الأزمنة، من بناء المشاهد بأسماء الأموات، وعبادة من بنيت باسمه، وكذلك بناء المساجد على القبور، وعبادتها بالتضرع إليها، وإنزال الحوائج بها، رغبة ورهبة، وخوفا ورجاء، وتوجها إليها بالوجه واللسان والأركان. فنصر ابن منصور من قال: إنها تدعى وترجى، في كل ما يستغاث به الله، واعتقد أن أهل هذه الأوثان وعبادها، من جملة المسلمين، لأنهم يصلون ويؤذنون، وقد قال تعالى: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [سورة الأنعام آية: 88] . فلم ينفعهم عمل مع الشرك، لكنه لم يعتقده شركا ; وهذا بعينه هو الشرك الذي اعتقده أبو جهل وأمثاله، فعبدوا اللات والعزى، ومناة وهبل، وعبدوا الملائكة أيضا والصالحين، {وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [سورة يونس آية: 18] . وهؤلاء المشركون الذي يعتقد إسلامهم، لم يقتصروا على مقالة أبي جهل في شركه، باتخاذ الأموات والغائبين شفعاء، بل أخلصوا لهم الدعاء، والافتقار والتذلل، والخضوع والتعظيم، الجزء: 12 ¦ الصفحة: 322 حتى إنه لو قيل لأحدهم على دعوى عليه: احلف بالله، سارع إلى الحلف، وأما من يدعوه من الأموات، فلا يتجاسر على الحلف به، وهو كاذب تعظيما له. والمراد: أنهم كانوا يفعلون مع أهل الضرائح أعظم مما كانوا يفعلونه في المساجد ; فلو قيل لهم: لا يدعى إلا الله، ولا يرجى غيره، لشتموا القائل وضربوه، أو قتلوه. فهذا الرجل قد أنكر على شيخنا رحمه الله، ما أنكره أبو جهل وأصحابه على النبي صلى الله عليه وسلم سواء بسواء، ويقول: هؤلاء مسلمون، دعهم يشركون فقد أصابوا في شركهم، وأخطأنا في الإنكار عليهم؛ وهذا هو قول كفار العرب بعينه. والحمد لله الذي أظهر به نور التوحيد، وأطفأ به من الشرك كثيرا، في جزيرة العرب وغيرها، وأقر عين أهل التوحيد بظهوره، كما أقر عين نبينا بظهوره في حياته. فلله الحمد والمجد والثناء، لا نحصي ثناء عليه، كما أثنى هو على نفسه. ومن عمي بصره بالكلية، لم ير للشمس نورا، وكذلك من عميت بصيرته لا يرى الحق، ولا يرى له ظهورا؛ فمن وجد خيرا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه. اللهم إنا نسألك الاستقامة والثبات، إلى أن نلقاك بالتوحيد الذي هو أساس الإسلام، ورضيته لنا دينا، وقد أكملته بفضلك وإحسانك، لمن وفقته للعلم بما أنزلته في كتابك، وما سنه رسولك. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 323 وتحقيق ما ذكرناه في هذا التعليق، وتقريره، يتبين ويظهر مما ذكره العلامة ابن القيم، رحمه الله، وشيخه شيخ الإسلام ابن تيمية: قال العلامة ابن القيم، رحمه الله، في "إغاثة اللهفان": وما زال الشيطان يوحي إلى عباد القبور، ويلقي إليهم أن البناء والعكوف عليها، من محبة أصحاب القبور، من الأنبياء والصالحين، وأن الدعاء عندها مستجاب. ثم ينقلهم من هذه المرتبة إلى الدعاء به، والإقسام على الله به، فإن شأن الله أعظم من أن يقسم أو يسأل بأحد من خلقه. فإذا تقرر ذلك عندهم، نقلهم منه إلى دعائه وعبادته، وسؤاله الشفاعة من دون الله، واتخاذ قبره وثنا تعلق عليه الستور، والقناديل ويطاف به ويستلم ويحج إليه، ويذبح عنده. فإذا تقرر ذلك عندهم، نقلهم منه إلى دعاء الناس إلى عبادته، واتخاذه عيدا ومنسكا، ورأوا أن ذلك أنفع لهم في دنياهم وأخراهم. وكل هذا مما قد علم بالاضطرار، من دين الإسلام: أنه مضاد لما بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم من تجريد التوحيد أن لا يعبد إلا الله. فإذا تقرر ذلك عندهم، نقلهم منه إلى أن من نهى عن ذلك، فقد تنقص أهل الرتب العالية، وحطهم من منْزلتهم، وزعم أنه لا حرمة لهم ولا قدر، وغضب المشركون، واشمأزت قلوبهم، كما قال تعالى: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 324 يَسْتَبْشِرُونَ} [سورة الزمر آية: 45] . وسرى ذلك في نفوس كثير من الجهال والطغام، وكثير ممن ينتسب إلى العلم والدين، حتى عادَوْا أهل التوحيد، ورموهم بالعظائم ونفروا الناس عنهم، ووالوا أهل الشرك وعظموهم، وزعموا أنهم أولياء الله وأنصار دينه ورسوله، ويأبى الله ذلك؛ {وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ} [سورة الأنفال آية: 34] . انتهى. قلت: فتبين من كلامه أن هذه الأمور، قد وقعت في زمنه رحمه الله تعالى، فلا يجحد وقوع هذا في الأمة، إلا معاند مكابر، معاد لله ولرسوله. وقال شيخ الإسلام، رحمه الله تعالى: والذي يجري عند المشاهد من جنس ما يجري عند الأصنام؛ وقد ثبت من الطرق المتعددة أن ما يشرك به من دون الله، من صنم ووثن أو قبر، قد يكون عنده شياطين تضل من أشرك به، وأن تلك الشياطين يقضون بعض أغراضهم، إنما يقضونها إذا حصل منهم الشرك، والمعاصي ; ومنهم من يأمر الداعي أن يسجد له، وقد ينهاه عما أمره الله به من التوحيد والإخلاص. وقد وقع في هذا النوع كثير من الشيوخ الذين لهم نصيب من الدين والزهد والعبادة، لعدم علمهم بحقيقة الدين الذي بعث الله به رسله، طمعت فيهم الشياطين حتى أوقعوهم فيما يخالف الكتاب والسنة. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 325 قلت: وهذا الذي ذكره شيخ الإسلام رحمه الله تعالى، قد عمت به البلوى قبل ظهور هذا الشيخ بلا ريب، فبلغ من التوحيد وبما وقع من الشرك في هذه الأمة أن أنكروا التوحيد ونصروا الشرك، مثل ما ظهر من حال عثمان بن منصور كما ترى في مبالغته في إنكار الدعوة إلى التوحيد، ونصرته لأهل الشرك على شركهم. نعوذ بالله من زيغ القلوب، ورين الذنوب على القلوب. {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [سورة آل عمران آية: 8] وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا. وقد جازف في عداوته لشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله، وبالغ في الكذب والزور، وذكر عنه رحمه الله ضد ما كان متصفا به، من كمال العلم والفهم، والقوة في أمر الله، ومعاني كلام الله وكلام رسوله، واشتغاله بعلم التفسير والحديث، واعتماده على ما صح وثبت واشتهر، فصار علما لأهل الإسلام والإيمان، يرجع إليه في معاني السنة والقرآن ; فقال هذا العدو البغيض من الأكاذيب الكبار ما يكذبه كل عاقل مختار من صديق وعدو بعيدا كان أو جارا. فقال - وحسيبه الله -: وكفى أنه لم يأخذ ما ذهب إليه عن العلماء، ولم يجلس عند عالم يتعلم منه، وأن أباه نهاه عما بدر منه من ترهات، وقال: ويل للناس منك! وأن أهل البصرة الجزء: 12 ¦ الصفحة: 326 أخرجوه، ثم نهاه أخوه، وأن أتباعه لو طلبت منهم طريقا يتصل بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم لم يجدوها، وأنهم لم يعرفوا ذلك، وأنهم يأخذون عن: حدثني قلبي عن ربي، ونحو هذه الأكاذيب؛ فلو ناقشناه عن جميع ما قال، لاستدعى تطويلا، ولكنا نذكر ما لا بد منه. فأما قوله: وأن أباه نهاه عما بدر منه من ترهاته، فما أعظم هذه الكلمة في حق هذا الكذوب! من تسميته ما دعا إليه من دعوة الرسل ترهات. الله أكبر! ما أعظمها من زلة وما أكبرها من ضلة! وأما قوله: إنهم يأخذون عن حدثني قلبي عن ربي، فما أكذبه! فإنما يأخذون بحمد الله من الآيات المحكمات، وأحاديث الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى، وهذا لا ريب فيه بحمد الله؛ وهو إنما يحدثه قلبه عن إبليس وجنوده، زين له عداوة التوحيد، ومحبة الشرك والتنديد، ورد الحق بما أمكنه، ونصرة الباطل بالكذب والبهتان، على أهل العلم والإيمان. وأما قوله: إنه لم يأخذ ما ذهب إليه عن العلماء، فذلك {فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [سورة الحديد آية: 21] ؛ وكثير من العلماء والمجتهدين لم يأخذوا كل علومهم عمن رووا عنهم، وأكثر علومهم مما يفتح الله عليهم، من الفهم في كتاب الله، وسنة رسوله. فكم من عالم يختار خلاف الجزء: 12 ¦ الصفحة: 327 ما اختاره شيخه، وكثير من العلماء يكون أفضل في العلوم من شيوخه، هذا أمر معلوم لا ينكر. وأما قوله: ولم يجلس عند عالم، فهذا من جملة أكاذيبه، وما يدريك يا ابن منصور عن حاله وعمن أخذ عنه؟ وقد ذكرنا رحلته في طلب العلم إلى البصرة، ثم إلى الأحساء، ثم إلى المدينة المنورة، وجلوسه، وما يورده عليهم فيما خالفت فيه مذاهبهم أهل السنة والجماعة، وحدث رحمه الله تعالى: أنه لم يجد أحدا على مذهب الإمام أحمد في هذه الأماكن، إلا عبد الله بن فيروز في الأحساء ; وأخذ علم الحديث عن علماء المدينة كمحمد حياة السندي، وكان يروي كتب الحديث عنه وعن غيره. ولا ينازع في رسوخه في فنون العلم، وما دل عليه الكتاب والسنة، إلا عدو مماحل، يحكي عن الأحوال بأضدادها ; ولشيخنا رحمه الله كتب تنبئ عن رسوخه في العلم، كاستنباطه على القرآن، وكتاب التوحيد الذي لم يسبقه إلى مثله أحد؛ فلو أن بعض العلماء الراسخين، رام أن يجمع ما أودعه شيخنا في هذا الكتاب من الأحاديث، والآثار، من الصحاح والسنن، والمسانيد وغيرها، لأعجزه ذلك مع حسن الاستدلال، والتراجم. وقد بلغت رسائله في التوحيد إلى الأمصار، وردوده على من عارضه من الأشرار، فتلقاها العلماء بالقبول والتسليم الجزء: 12 ¦ الصفحة: 328 لصحتها، وحسن وضعها، فصارت تباع بغالي الأثمان، في مصر والشام وغيرها؛ وهذا مما لا يجهله من عرفه. وأما قوله: وإن أباه قد نهاه، فهذا من جملة أكاذيبه، فلو كان قد نهاه لكان العيب في ذلك على الناهي لا على المنهي، لأنه لم يقل لهم إلا: اعبدوا ربكم، أطيعوا ربكم. وكذب على أهل البصرة بقوله: أخرجوه قاتله الله، {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ} [سورة النحل آية:105] . وقد نهاه عن ذلك من هو أعظم من أبيه، كأكابر علماء الأحساء وغيرها، فما زاده نهيهم إلا ظهورا لما نهوه عنه، وجهلا لهم في الدين الذي رضية لهم ربهم. وأما قوله: ثم نهاه أخوه; فلم يحك هذا على وجهه، بل أدرجه في الكذب ; فإن أخاه سليمان تابعه على هذا الدين عددا من الأعوام والسنين، فاتفق له بعد ذلك ما أوجب فتنته ; ولأن أهل حريملاء الذين كان إماما لهم استفزهم الشيطان بكراهتهم للجهاد، لما طلب منهم أن يجاهدوا من أنكر التوحيد، فتابعهم سليمان على فتنتهم فشرد إلى مجمعة سدير. وبعد هذا، أقر واعترف، واستعظم ما بدر منه من العداوة والجهل بالتوحيد ; فإنهم قد وقفوا له على رسائل في حال فتنته تنبئ عن ارتيابه، ثم آل أمره إلى التوبة، وكتب في ذلك رسالة ذكرناها بلفظها، في ردنا على ابن منصور، وقد شهد له بأنه دعا إلى الحق، ونهى عن الباطل الخلق الكثير، والجم الغفير الجزء: 12 ¦ الصفحة: 329 من العلماء والعقلاء، مما لا يتسع هذا المختصر لعدهم، لكن نذكر بعضهم على وجه التمثيل منهم محمد بن إسماعيل، وأولاده وأصحابه. وأشعاره ومصنفاته في هذا موجودة ; ومنهم النعيمي، رد على من تعرض هذا الشيخ برد حسن، أبلغ فيه ونصح ; ومنهم أبو بكر حسين بن غنام عالم الأحساء؛ وفي الشام جماعة، ومصر جماعة، وفي العراق كذلك؛ ووصلت دعوته إلى الهند والصومال، والأفغان، حتى بلاد الروم والمغرب، وكثير من الناس أقبلوا على قبول هذه الدعوة. وأنت يا ابن منصور أدبرت على قرب الدار، والأمر أظهر من أن يومى إليه ويشار {وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ} [سورة الرعد آية: 42] . فاعتبر يا من نصح نفسه ما جرى على الرسل ممن كذبهم، فرموهم بالجنون والسحر والكهانة، كما قال تعالى: {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} [سورة الذاريات آية: 52] ، وقالوا: {إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} [سورة النحل آية: 103] ، وقالوا: {أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [سورة الفرقان آية: 5] ، إلى غير ذلك من آي القرآن المبين. فلا تخلو الأمة من أمثال هؤلاء المكذبين، الذين دفعوا الحق بالباطل والزور، {وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} [سورة البقرة آية: 210] ، و {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [سورة الأنعام آية: 1] . وصلى الجزء: 12 ¦ الصفحة: 330 الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا. ولما وصل إلى نجد "مصنف" داود بن جرجيس، في تقرير استحباب دعاء الصالحين من أهل القبور، والاستغاثة بهم، وما اشتمل عليه من الشبه والضلالات، التي يسميها بزعمه حججا وبينات، يرد بها ما دل على عبادة الله وحده لا شريك له، وتجريد التوحيد له، ويسب أهل الإسلام وعلماءهم؛ وقد ملأ مصنفه من الإلحاد والتحريف، والحكايات الضالة، التي هي نوع حكايات النصارى وجهالهم، ومن جنس ما يحتج به الجاهلية من مشركي العرب، إلى غير ذلك من أباطيله. وقد رد عليه من انتصب لنصر المرسلين، وبيان تحريف الضالين، وانتحال المبطلين، منهم الشيخ: عبد الرحمن بن حسن، وابنه الشيخ عبد اللطيف، وغيرهما، مطولا ومختصرا ; فأرغم الله به أنوف المنافقين، وغصت به حلوق الضالين. أنشأ عثمان بن منصور منظومة ضالة، أثنى فيها على هذا الملحد، ومدح طريقته والتوجد على لقائه، وحثه وتحريضه على مسبة أهل الإسلام وعلمائهم، والرد عليهم، وتسميتهم خوارج وجبرية، وهذا نصها، قال: خليلاي هلا تنظراني لحاجة ... أقيما فواقا من نهار كما البدر حتى تنقضي الحاجات مني رسالة ... إلى الجسر من بغداد بالود واليسر لرد رسوم يستضاء بضوئها ... تفوح عبيرا من أصداغها الشقر بها بينات واضحات من الهدى ... تحطم منهاج الخوارج الصغر الجزء: 12 ¦ الصفحة: 331 وتفصح عن عوب الطغام بمازق ... من الجيش فرسان الدلائل كالبحر أتينا بها نحت الحديد بمبرد ... على جاهل يهذي بقول ولا يدري يؤول آيات الكتاب على الذي ... ينادون بالإخلاص والعمل البر تشعشع أنوارا من الوحي رائقا ... مطرزة بالوشي سابغة الأزر ومنبعها بيت النبوة يا لها ... صواعق رعد تقذف بالصخر تأملتها سبرا لها فوجدتها ... جواهر وحي صافية الدر تبارك ربى ما أجل متونها ... وأرصفها رصفا بقاصمة الظهر تدمدم جرف الزيغ من بعد ما علا ... وتدحض جور الخارجي والجبر فضيفتها مني قريضا مروق ... على أنها الحسناء واضحة الثغر عليها من الوحي المبين دلائل ... يقصر عنها كل مبتدع غمر يضل ضلال العادلين عن الهدى ... فغم بها غم المعذب في القبر فمني سلام رائق ما سرى الصبا ... وما هبت النكباء أو غنت القمر وما هطلت وبل السحاب وما زها ... من النبت زهو القحوياني بالقطر وما ضحكت زهر الرياض بنورها ... وما هزت الحسناء عطفا لها تجري وما نفحت عود الخزامى بأجرع ... من الطل مغمور الأجارع والخمر على سيد السادات روحي ومهجتي ... مثير غرام الود قابل العذر سمي نبي الله داود ليتني ... تمليت منه الأنس في ساعة العمر إلى جده جرجيس بالأصل ينتمي ... لبنت رسول الله عالية الخدر من الخل عثمان التميمي قريضها ... على نقض زيغ من طغام أصدى وكر سرت من ربى نجد تجر ثيابها ... مغطرفة الأرداف كالنقا المثري الجزء: 12 ¦ الصفحة: 332 بأزكى صلاة للنبي مضاعف ... مع الآل والأصحاب ذي العز والفخر فدم واستقم ما عشت قامعا ... لشيعة جند النهروان ذوي الغدر 1 فرد عليه علماء نجد، منهم الشيخ: عبد الرحمن بن حسن وتقدم. 2 وهذا جواب الشيخ: عبد اللطيف بن الشيخ عبد الرحمن، رحمهم الله: على وجهها الموسوم بالشوم والغدر ... شمائل زيغ لا تزال مدى الدهر فإن سودتها كف بغي وغادر ... فأقلامنا بالرد أنهارها تجري رسالة مختال تجر ذيولها ... إلى مهمه قفر من العلم والذكر هدية عثمان إلى شر صاحب ... إلى الجسر من بغداد بالود واليسر مؤيدة حزب الضلال وشيعة ... إلى درك النيران أعمالها تسري بها من صريح الإفك أخبث مورد ... وإن ظنها الجهال من خالص التبر رأيت بها ما يستباح بمثله ... على ناظم سل المهند والسمر 3 فتعسا لها منظومة ما أضلها ... وأبعدها عن منهج الرشد والبر أيوصف بالإيمان يا عابد الهوى ... دعاة إلى باب الجحيم وما تدري فما أحوج الإنسان في أمر دينه ... إلى ناصح والصمت أجدر بالحر أترضى بأن يدعى حسين وخالد ... وزيد وما يدعى مع الله في العسر وتنصر قوما يعدلون بربهم ... مجاهرة في كل بر وفي بحر   1 "ن" لشيعة نجد والنهروان والجبر. 2 في الجزء الحادي عشر ص: 512 - 533, وص 55 و 576. 3 "ن" المهندة البتر. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 333 ترى كل موتور ينادي وليجه ... ويسأل ما لا يستطاع من الأمر يرون صوابا من سفاهة رأيهم ... مناشدة الأموات من ساكني القبر إذا شب حرب لا ينادى وليدها ... ودارت على كره بقاصمة الظهر وفر على أعقابه كل فارس ... وضاقت بها في حجرها ربة الخدر وإن غشيهم موج من اليم زاخر ... وجاشت على علاتها أنة الصدر فما يرتجى في كشف ذاك وحله ... سوى مشهد بألطف في ساحة القبر وما تربة الجيلي إلا مناتهم ... ومعقلهم في كل كرب وفي يسر ينادونه سرا على بعد داره ... أغثنا أغثنا بالإجابة والنصر ويرجونه في كل أمر وحادث ... على أنه كنْز المواهب والذخر وإخوانهم في الغي أضحى مقيلهم ... ومجمعهم عند المشاهد في مصر بدف ومزمار ونغمة شادن ... مع الرقص بالأرداف في الصحو والسكر وإن شئت أصل الدين تلقاه عندهم ... لأربابهم تحت الصفائح والصخر دعاء وذبح واستغاثة عابد ... وإخبات ذي فقر وإلحاح ذي عسر وفي كل مصر مثل مصر وما الذي ... ذكرت بأقصى ما لدى القوم من كفر أما جعلوا أمر التصاريف ينتهي ... إلى سبعة جحدا لما خط في الذكر وهذا لعمري في الضلالة غاية ... ومن دونها قول المثلث في السبر فأين خطاب الأنبياء وقومهم ... وما قد جرى في معرض الأمر والنذر وأين تقارير الجهابذة الأولى ... لنا نقلوا نص الشريعة كالدر وأين إلى أين الذهاب وكلما ... على ظهرها يأتيك بالخبر الخبر حنانيك رب العرش من أن يغرني ... كما غرهم ضرب من الزور والهذر الجزء: 12 ¦ الصفحة: 334 وأين تصانيف المذاهب والذي ... تقرر في أبوابها واضح السطر يعدون كفرا دون ذا ولديهم ... من الله برهان يلوح بلا نكر على الرغم من أنف المكارم والعلا ... يهاجي إمام الدين نادرة العصر فيا ويحه إن لم يباشره رحمة ... وعفوا وإلا فالمصير إلى حر تراه لأهل الحق أضحى معاديا ... على غير ذنب أحدثوه ولا غدر سوى منهج قد أوضحوه وقرروا ... أدلته بالنص والسنن الغر وقولهم للخلق نصحا ورحمة ... أنيبوا إلى رب السماوات بالشكر ولا تعبدوا غير المهيمن إنه ... مليك جليل قد تفرد بالأمر فإن كان هذا عنده الزيغ والهوى ... ودين فريق النهرواني والجبري فما صدقت تلك الدعاوى وعودها ... وقد خاب مسعاها فوا ضيعة العمر على هضبات الشعب من أيمن الحمى ... سلام مشوق لا على جانب الجسر كروض كساه الوبل وشيا ملونا ... يباكره سحا وأمطاره تجري ترى ظبيات القاع في ظل نبته ... يروعها نفح الشمال إذا تسري كأن مرور الريح من فوق زهره ... صرير سهام نبلها أبدا يفري ففي روضها والشعب أشلاء عالم ... أضاءت له الأخرى بكوكبها الدر وقد كان منهاج الشريعة طامسا ... وأعلام أصل الدين في ساحة الجر فجرد عزما لا يضاهى بمثله ... وقام قيام الليث في عزمة الصقر فزالت بهذا الشيخ عنها غياهب ... وعادت كما قد كان في سالف العصر تجر به نجد ذيول افتخارها ... إلى منهل صاف من الشرك والكفر عليه من المولى الكريم تحية ... يباشره روح الرياحين والزهر الجزء: 12 ¦ الصفحة: 335 وخير صلاة الله ثم سلامه ... على سيد السادات خاتمة الشعر ورد عليه أيضا الشيخ: ابن مشرف وغيره [رسالة من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى محمد بن عمير في بيان ما تضمنه كتاب جلاء الغمة] وله أيضا رحمه الله: بسم الله الرحمن لرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى محمد بن عمير، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: وصلتنا خطوطك ومنظومتك، والله سبحانه وتعالى المسؤول أن يمن علينا وعليك بمعرفة الحق بدليله، والدعوة إلى الله وإلى سبيله، وتعرف أنا رأينا من أجناس المعاندين، وأعيان المشركين خلقا كثيرا، ولم ير مثل هذا المفتون في جهله وضلالته، وشناعة معتقده ومقالته. وقد رأيت كتابه الذي سماه "جلاء الغمة"، ورأيت حشوه من مسبة دين الله، والصد عن سبيله، والكذب على الله وعلى رسوله، وعلى أولي العلم من خلقه، وأئمة الهدى، ما لم نر مثله للمويس، وابن فيروز، والقباني وأمثالهم ممن تجرد لعداوة الدين، ومسبة مشايخ المسلمين. فابتدأ مصنفه بمسبة الشيخ، وأن الله ابتلى به أهل نجد، وجزيرة العرب، وأنه كفر الأمة عامها وخاصها، وجعل من يبني المساجد ويرفع المنار مشركين أصليين، وأن قوله يتناقض، وأنه أخذ أموال المسلمين، وجعلها فيئا له ولعياله، وأن الجزء: 12 ¦ الصفحة: 336 خطاب النبي صلى الله عليه وسلم وخطاب الموتى، بطلب الشفاعة وغيرها من المطالب، ليس بشرك؛ ويستدل على ذلك بأحاديث موضوعة، وحكايات مكذوبة. ويزعم أن من له الشفاعة يوم القيامة، يجوز دعاؤه وطلبه في هذه الحياة الدنيا، ويسوغ التوجه إليه، وأن صاحب البردة قد أحسن وأصاب، ويستدل من جهله على ذلك بأنه رواها عن فلان وفلتان، وهيان بن بيان، وابن حجر وابن حيان، ونحو ذلك من طوائف الشيطان، ويرد بمثل هذا نصوص السنة والقرآن، نعوذ بالله من الجهل والحمق والخذلان؛ وكأن الرجل من رجال الجاهلية الأولى، لم يأنس بشيء مما جاءت به الأنبياء، ولم يدر ما كان عليه السلف الصالح والأولياء. ويحتج على بطلان دعوة شيخنا بأن بلاده بلاد مسيلمة الكذاب، ولم يدر أنه عاب بذلك أهل الإسلام، ممن سكن مصر والشام والعراق، والحرمين وسائر البلاد الإسلامية، التي سكنها من نازع الله في الربوبية والإلهية. فيا ويحه إن لم تداركه توبة ... لسوف يرى للمجرمين مرافقا وله من ركاكة القول، وفهاهة الخطاب، وعدم المعرفة بقواعد الإعراب، ما يوجب تشبيهه بسائمة الأنعام، وثور الدولاب وقد حررت إليك بهذه البطاقة، لتقرأها على الخاصة والجماعة، وتنذر من سمع شيئا من مقالته، أن يغتر بجهالته وضلالته؛ {وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} [سورة الأحزاب آية: 4] . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 337 [رسالة من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى محمد بن عمير يعاتبه فيما بلغه عنه] وله أيضا: صب الله عليه من شآبيب بره ووالى: بسم الله الرحمن الر حيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن إلى عبد الله بن عمير، سلام على عباد الله الصالحين. وبعد: فقد بلغنا ما أنت عليه، أنت ومن غرك وأغواك من مسبة مشايخ المسلمين، والقدح فيما هم عليه من العقيدة والدين، ونسبتهم إلى تكفير المؤمنين والمسلمين. وقد عرفت أني لما أتيتكم عام أربع وستين، بلغني أنك على طريقة من ينتسب إلى الأشعري، من تلامذة الجهمية الذين جحدوا علوه تعالى على خلقه، واستواءه على عرشه، وزعموا أن كتابه الكريم الذي نزل به جبرائيل، على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم عبارة أو حكاية عما في نفس الباري، لا أنه تكلم به حقيقة وسمع كلامه الروح الأمين، وكذلك بقية الصفات التي ذهب الأشاعرة فيها، إلى خلاف ما كان عليه سلف الأمة وأئمتها. ونقل عنك ما كنت تنتحله، من تصحيح العقود الباطلة في الإجارات، وشافهتك في البحث عن بعض ذلك، فاعتذرت وتنصلت وطلبت الكف عن هذه المادة، وأنك لا تعود إلى شيء من ذلك، فجريت معك بالسيرة الشرعية، في الكف عمن أظهر الخير والتزمه، وترك السرائر إلى الله الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 338 وقد بلغنا عنك، بعد ذلك أنك أبديت لأخدانك وجلسائك شيئا مما تقدمت الإشارة إليه، من السباب والقدح، لا سيما إذا خلوت بمن يعظمك، ويعتقد فيك، من أسافل الناس، وسقطهم الذين لا رغبة لهم فيما جاءت به الرسل، من معرفة الله، ومعرفة دينه وحقه، وما شرع من حقوق عباده المؤمنين. وقد عرفت يا عبد الله أن من باح بمثل هذا، وأظهر ما انطوى عليه من سوء المعتقد، وطعن في شيء من مباني الإسلام، وأصول الإيمان، فدمه هدر، وقتله حتم. وقد حكى ابن القيم رحمه الله تعالى، عن خمسمائة إمام من أئمة الإسلام، ومفاتيه العظام: أنهم كفروا من أنكر الاستواء، وزعم أنه بمعنى الاستيلاء، ومن جملتهم إمامك الشافعي رحمه الله، وجملة من أشياخه، كمالك وعبد الرحمن بن مهدي، والسفيانين، ومن أصحابه، أبو يعقوب البويطي والمزني، وبعدهم إمام الأئمة ابن خزيمة الشافعي، وابن سريج وخلق كثير. وقولنا: إمامك الشافعي مجاراة للنسبة ومجرد الدعوى، وإلا فنحن نعلم أنك بمعزل عن طريقته في الأصول، وكثير من الفروع، كما هو معروف عند أهل العلم والمعرفة. وأما تكفير من أجاز دعاء غير الله، والتوكل على سواه، واتخاذ الوسائط بين العباد وبين الله في قضاء حاجاتهم، وتفريج كرباتهم، وإغاثة لهفاتهم، وغير ذلك من أنواع عباداتهم، الجزء: 12 ¦ الصفحة: 339 فكلامهم فيه، وفي تكفير من فعله أكثر من أن يحاط به ويختصر; وقد حكى الإجماع عليه غير واحد ممن يقتدى به، ويرجع إليه من مشايخ الإسلام وأئمته الكرام. ونحن قد جرينا على سنتهم في ذلك، وسلكنا مناهجهم فيما هنالك، لم نكفر أحدا إلا من كفره الله ورسوله، وتواترت نصوص أهل العلم على تكفيره، ممن أشرك بالله وعدل به سواه ; أو عطل صفات كماله، ونعوت جلاله، أو زعم أن لأرواح المشايخ والصالحين تصرفا وتدبيرا مع الله؛ تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا. وقد رأيت ورقة، فيها الطعن على من دعا الناس إلى توحيد الله، وما دلت عليه كلمة الإخلاص من الإيمان به، والكفر بالطواغيت، وبعبادة سواه تعالى. وفيها ذم من قرر للناس أن دعاء مثل علي والحسين والعباس، وعبد القادر وغيرهم، ممن يدعى مع الله، هو الشرك الأكبر البواح الجلي، الذي لا يغفر إلا بالتوبة، والتزام الإسلام. وقرر أن هذا ونحوه هو ما كانت عليه العرب، في عبادتها الملائكة والأوثان والأصنام، قبل ظهور الإيمان والإسلام. وفي ورقة المشبه المبطل: أنكم كفرتم خير أمة أخرجت للناس، وقصده هؤلاء المشركون؛ وزعم أنهم هم الأمة الوسط، وأنهم صفوف أهل الجنة، وأنهم عتقاء الله في شهر الصيام، وأن من كفرهم فقد كفر أمة محمد، لأنهم يتكلمون بالشهادتين. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 340 وهذا الكلام من أوضح الأدلة وأبينها على ضلال مبديه، وسفاهة ملقيه، وأنه أضل من الأنعام ; ويكفي في رده مجرد حكايته، فإن الفطر السليمة تقضي بردّه وبطلانه، والأدلة من الكتاب والسنة والإجماع: تدل على أن قائله عدو للنصوص، والفطر، والعقل، والنظر. ولا يبعد أنه تلقّاه عن مثلك، ووصل إليه من أبناء جنسك، وما أظن اجتماعك بهذا الضرب من الناس، إلا على هذا وجنسه، من الشبهات، والجهالات التى حاصلها: القدح في أصول الإيمان، وعيب أهله وذمهم، و {لِكُلِّ نَبَأٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} [سورة الأنعام آية: 67] . وهذه الشبهة، يعرف فسادها كل من كانت له ممارسة في العلم، وإن قلت ; فإن لفظ الأمة مفرد مضاف، يقع على المستجيب المهتدي، ويقع أيضا على المكذب المعاند ; فالأول كقوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [سورة آل عمران آية: 110] . وقوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} [سورة البقرة آية: 143] . وقوله: {وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} [سورة الأعراف آية: 181] . وفي الحديث: " أنتم توفون سبعين أمة، أنتم خيرها وأكرمها على الله " 1، وفيه: " إن أهل الجنة مائة وعشرون صفا، هذه الأمة منها ثمان ون " 2 فهذا ونحوه يطلق، ويراد به المؤمنون والمسلمون. وقد يطلق هذا اللفظ، ويتناول المكذبين والضالين، كما   1 ابن ماجه: الزهد 4288 , وأحمد 4/447. 2 الترمذي: صفة الجنة 2546 , وابن ماجه: الزهد 4289 , وأحمد 5/347 , والدارمي: الرقاق 2835. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 341 في قوله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ} [سورة النحل آية: 36] ، فأطلق الأمة على الفريقين، وتناول لفظها الحزبين، وكذلك قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ} [سورة فاطر آية: 24] ، وقع الاسم على من أجاب النذير ومن عصاه. وقوله في خصوص هذه الأمة: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً?يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً} [سورة النساء آية: 41-42] ؛ فالإشارة في الآية إلى هذه الأمة، وقد نص على أن منهم من كفر وعصى. وكذلك قوله تعالى: {وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} [سورة النحل آية: 84] ، وقوله: {وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً عَلَى هَؤُلاءِ} [سورة النحل آية: 89] ، وقوله: {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} الآيتين [سورة الجاثية آية: 28] ؛ فانظر إلى ما دلت عليه الآيات من التقسيم، إن كنت ذا عقل سليم. وفي الحديث: " افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على ثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة؛ كلها في النار إلا واحدة " 1. وفي الحديث   1 الترمذي: الإيمان 2640 , وأبو داود: السنة 4596 , وابن ماجه: الفتن 3991 , وأحمد 2/332. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 342 " والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة، يهودي ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به، إلا كان من أصحاب النار " 1، وفيه: " القدرية مجوس هذه الأمة " 2، وخرج ابن ماجه عن ابن عباس وجابر: " صنفان من أمتي، ليس لهما في الإسلام نصيب: المرجئة والقدرية " 3. إذا عرفت هذا، فاعلم أن نفس الآية الكريمة، التي يوردها المبطل، وهي قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [سورة آل عمران آية: 110] ، فيها الدليل الكافي، والبرهان الشافي، على إبطال قول المشبه المرتاب، ورد شبهته. فإن الخطاب في هذه الآية مخصوص بأهل الإيمان، الذي أصله ورأسه معرفة الله وتوحيده، وإخلاص العبادة له، وهو الذي دلت عليه كلمة الإخلاص؛ ومن عدا هؤلاء ليس بداخل في أصل الخطاب، بل هو ساقط من أول رتب الأعداد، كما لا يخفى إلا على من طبع الله على قلبه. الثاني: أنه ذكر العلة والمقتضى، بقوله: {تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [سورة آل عمران آية: 110] ؛ وتعليق الحكم بالمشتق يؤذن بالعلة، وأحق الناس بهذا الوصف وأولاهم به: من دعا إلى توحيد الله، وخلع ما سواه من الأنداد والآلهة ; وقرر أن دعاء عبد القادر وأمثاله، هو الشرك الأكبر، الذي يحول بين العبد وبين الإسلام والإيمان، وأن أهله ممن عدل بالله، وسوى برب العالمين سواه. بل قد وصلوا في عبادتهم المشايخ والأولياء، إلى غاية ما   1 مسلم: الإيمان 153 , وأحمد 2/317 ,2/350. 2 أحمد 2/86. 3 الترمذي: القدر 2149. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 343 وصل إليها مشركو العرب، كما يعرف ذلك من عرف الإسلام، وما كانت عليه الجاهلية قبل ظهوره؛ فمقت هؤلاء المشركين، وعيبهم، وذمهم، وتكفيرهم، والبراءة منهم، هو حقيقة الدين، والوسيلة العظمى إلى رب العالمين ; ولا طيب لحياة مسلم وعيشه، إلا بجهاد هؤلاء ومراغمتهم، وتكفيرهم، والتقرب إلى الله بذلك، واحتسابه لديه، {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُون إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [سورة الشعراء آية: 88-89] . فهذا المقام الشريف، والوصف المنيف، هو الذي أنكرتموه، واستحللتم به أعراض المسلمين، ورميتموهم لأجله بالعظائم؛ وإلى الله نمضي جميعا، وعنده تنكشف السرائر، وتبدو مخبآت الضمائر، ويعلم من عادى حزبه وأولياءه، ووالى حربه وأعداءه، ماذا جنى على نفسه؟ وأي الفريقين أولى به؟ وأي الدارين أليق به؟ فالمرء مع من أحب ونصر ووالى، شاء أم أبى. وهل حدث الشرك في الأرض، إلا برأي أمثال هؤلاء المخالفين، الذين يظهرون للناس في زي العلماء، وملابس الصلحاء، وهم من أبعد خلق الله عما جاءت به الرسل، من توحيده ومعرفته، والدعاء إلى سبيله؛ بل هم جند محضرون للقباب وعابديها، وقد عقدوا الهدنة والمواخاة بينهم وبين من عبد الأنبياء والمشايخ. وأوهموهم أنهم إذا أتوا بلفظ الشهادتين، واستقبلوا القبلة، لا يضرهم مع ذلك شرك ولا تعطيل، وأنهم هم الجزء: 12 ¦ الصفحة: 344 المسلمون، وهم خير أمة أخرجت للناس، وهم صفوف أهل الجنة؛ فاغتروا بهذا القول منهم، وغلوا في شركهم وضلالهم، حتى جعلوا لمعبوديهم التصرف، والتدبير، والتأثير، من دون الله رب العالمين. فهل ترى يا ذا العقل السليم، أضل وأجهل ممن هذا شأنه، وهذه طريقته وعقيدته؟! وإن كان في هذه المظاهر الظاهرة، والرسوم الشائعة، معدود من أهل العلم بالشرع والإسلام، فهو والله أضل من سائمة الأنعام. وأهل العلم والإيمان، لا يختلفون في أن من صدر منه قول أو فعل يقتضي كفره، أو شركه، أو فسقه، أنه يحكم عليه بمقتضى ذلك، وإن كان ممن يقر بالشهادتين، ويأتي ببعض الأركان؛ وإنما يكف عن الكافر الأصلي إذا أتى بهما، ولم يتبين منه خلافهما ومناقضتهما، وهذا لا يخفى على صغار الطلبة. وقد ذكروه في المختصرات من كل مذهب، وهو في مواضع من كتاب الروض، الذي تزعم أنك تقريه وتدري ما فيه، ولكن الأمر كما قال تعالى: {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً} الآية [سورة المائدة آية: 41] . بل قد ذكروا أن من أنكر فرعا مجمعا عليه، كتوريث البنت والجد، أنه يكفر بذلك، ولا يكون من خير أمة أخرجت للناس؛ وهذا منصوص في كتب الشافعية وغيرهم، فكيف ترى يا هذا فيمن أنكر التوحيد، الذي هو حق الله على العبيد، الجزء: 12 ¦ الصفحة: 345 ودان بمحض الشرك والتنديد؟ فقاتل الله الجهل، ماذا يفعل بأهله! الثالث، قوله تعالى: {وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [سورة آل عمران آية: 110] ؛ وأصل الإيمان بالله، هو عبادته وحده لا شريك له، وقد فسره النبي صلى الله عليه وسلم بذلك في حديث وفد عبد القيس؛ هذا هو الإيمان الذي اختص به المؤمنون، وجحده المشركون، وفيه وقع النّزاع، وله شرع الجهاد وانقسم العباد. وقد ابتليت أنت بأمور، أوجبت لك الجهل بأصل الإسلام، وعدم الرغبة في البحث عن قواعده ومبانيه العظام ; من ذلك أنك تبعت مشايخ الطوائف، الذين جعلتموهم من خير أمة أخرجت للناس، في طلب العلم والأخذ به، وهم قد خفي عليهم معنى كلمة الإخلاص، التي هي أصل الدين، وما دلت عليه من وجوب عبادة الله رب العالمين، والبراءة من دين الجهلة المشركين. وأكثرهم يقر أن معناها: إثبات قدرته على الاختراع، ونفي ذلك عما سوى الله ; والإله عندهم هو القادر على الاختراع. وبعضهم يرى أن الفناء في توحيد الربوبية هو الغاية التي شمر إليها السالكون ; وبعضهم قرر أن معناها: أنه تعالى هو الغني عما سواه المفتقر إليه كل ما عداه، كما يذكر عن السنوسي، صاحب الكبرى في العقائد المبتدعة. وهذه المعاني ليست هي المقصود بالوضع والأصالة، من الجزء: 12 ¦ الصفحة: 346 هذه الكلمة الشريفة، التي هي الفارقة بين المسلم والكافر ; وأكثر الكفار لا ينازعون في قدرة الرب وغناه، وإنما المقصود بالوضع: نفي الإلهية عن غيره، واستحقاق العبادة وإثباتها له تعالى، على أكمل الوجوه وأتمها، كما يعلم من كتب اللغة والتفسير، وكلام أئمة العلم، الذين إليهم المرجع في هذا الشأن. والمعنى الأول لازم للمعنى المراد لا ينفك عنه، لأنه المقصود بالوضع والأصالة، فإن المستحق لأن يعبد ويعظم، ويقصد دون غيره، لا بد أن يكون قادرا غنيا، ومن عداه فقير محتاج لا قدرة له؛ فبهذا السبب خفي عليك ما هو واضح في نفسه، ولولا حجاب التقليد، وحسن الظن بهؤلاء الطوائف، لاتضح الحكم لديك، ولم يخف أمره عليك. ومنها: أنك رغبت عن الطريقة الشرعية، والحجة الواضحة السوية، وأخذت عن حسين النقشبندي طريقة مبتدعة وعبادة مخترعة، لا أصل لها في شريعة محمد صلى الله عليه وسلم، وأنت ظننتها الغاية المقصودة، والدرة المفقودة ; وهي: البدع المضلة، الخارجة عن المنهاج والملة. وقد نص العلماء الأعلام على دخولها فيما حذر عنه نبينا، عليه أفضل الصلاة والسلام، في غير ما حديث، كحديث العرباض بن سارية، وحديث ابن مسعود، وحديث حذيفة وغيرهم؛ وقد اشتملت هذه الطريقة على خلوات، ورياضات، مخالفة لواضع الأخبار والآيات. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 347 قال تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [سورة الشورى آية: 21] ، وقال تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} [سورة الأعراف آية: 3] . ومن المعروف، عند أهل العلم والتجربة أن المعني بهذه الخلوات والرياضات المبتدعة، يحصل له تنَزل شيطاني وخطاب شيطاني؛ وبعضهم تطير بهم الشياطين من مكان إلى مكان، ومن بلد إلى بلد ; ومن طلب التنْزيل الرحماني الإلهي الرباني، من غير طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم يبتلى بالتنْزيل الشيطاني. وبعض هؤلاء يقول: ذكر العامة: لا إله إلا الله، وذكر الخاصة الله الله ; وذكر خاصة الخاصة: هو هو ; وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " أفضل الكلام بعد القرآن أربع: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر " 1. والاسم المفرد مظهرا أو مضمرا، ليس بذكر ولا كلام، ولم يرد ما يدل على مشروعيته. وعمدتهم فى ذلك طلب تفريج الخاطر من الواردات، وجمع القلب حتى تستعد النفس لما ينْزل عليها؛ وقد خفي على هؤلاء المبتدعة أن الوارد الشرعي الديني ممنوع ومحظور على من لم يأت من الباب النبوي، والطريق المحمدي، وأن السنة كسفينة نوح، من ركبها نجا، ومن تخلف عنها هلك. وقد دل الكتاب والسنة على أن التحصن من الشيطان، لا يحصل إلا بذكر الله، وعدم فراغ الذهن والقلب من ذلك،   1 أحمد 4/36. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 348 قال تعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} الآية [سورة الزخرف آية: 36] ، وفي حديث يحيى بن زكريا: " وآمركم بذكر الله، فإن مثل ذلك كمثل رجل جد العدو في طلبه، فأوى إلى حصن حصين " 1. وبعضهم آل الأمر به إلى القول، بأن النبوة مكتسبة، وأنه قد حصل له مثل ما حصل للأنبياء وأعظم ; وهذه الكفريات سببها: الخروج عما شرعه الله ورسوله، ومن ابتلي بشيء منها، فإنه من العلم والهدى بحسب ما فيه؛ ولولا الامتحان والابتلاء، لما سارعت وهرولت إلى هذا النقشبندي، مع خلعه لربقة الإسلام، وتركه لما عليه العلماء الأعلام. ثم ابتليت بسميه، مع ما هو عليه من الريب، في هذه الدعوة الإسلامية، التي من الله بها في هذه الأزمان، التي هي أشبه بأيام الفترات، لبعد العهد، وغربة الدين ; والذباب يأبى إلا السقوط على العذرة، وقد ابتليت وابتلي صاحبك بعيب أهلها وذمهم، وموالاة أعدائهم، الذين هم ما بين جهمي، أو رافضي، أو من عباد القبور. وغرك بما يعده ويمنيه، من نيل رتبة القضاء ; ودون عليان القتادة والخرط ; المسلمون في حرج من كون مثلك يؤم في المساجد، وينتصب في المدارس، فكيف بالقضاء ونحوه؟! يأبى الله ذلك والمؤمنون، وإن مناك به الجهلة المبطلون. واعلم: أن إمامنا - وفقه الله - على طريقة أسلافه وأعمامه،   1 الترمذي: الأمثال 2863. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 349 في الدعوة الإسلامية، وحماية هذا الدين، وأخشى إن كثر فيك القول، وظهر له منك ما أشرنا إليه، من الجنف والعول، أن يسلك بك مسلك من سلف، من أشرار الأحساء، الذين لم يقبلوا ما من الله به من النور والهدى، فأوقع بهم الإمام سعود من بأسه، ما خمدت به نار الفتنة والجحود. كأني بكم والليت آخر قولكم ... ألا ليتنا كنا إذا الليت لا يغني فصل 1 وأما طعنكم على الشيخ المكرم، بأنه قبل جوائز ابن ثنيان، وأنه بنى بيت الشيخ من أموال محرمة، فهذا القول منكم مبني على ما في أول هذه الورقة، من الطعن في العقيدة، وأنهم كفروا خير أمة أخرجت للناس، واستباحوا دماءهم وأموالهم، وجعلوها بيت مال بغير حق شرعي، كما فعل الخوارج المعتدون؛ هذه عقيدتكم، وطريقتكم التي أنتم عليها، في أمر هذه الدعوة الإسلامية. وقد أظهره الله، وأبدى ضغينتكم، وكشف لعباده سريرتكم، قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ} [سورة محمد آية: 30] . وهذا تصريح منكم يعرفه كل عاقل ; والإمام وغيره من ذوي الألباب، يعرفون هذا من نفس خطابكم، أن تخصيص ابن ثنيان تستر، وخوف من السيف، وإلا فهم عندكم على طريقة واحدة، ومذهب واحد.   1 وتقدم بعضه في الجزء التاسع ص 321 - 323. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 350 فقد كنت تخفي حب سمراء حقبة ... فبح الآن منها بالذي أنت بائح ولو حقق الأمر، لم يوجد عندكم فارق بين ابن ثنيان وغيره ; إذا عرف هذا، فلو سلم تسليما صناعيا أن قصدكم الأموال المغصوبة، فوجودها في بيت المال لا يقتضي التحريم على من لم يعلم عين ذلك، ولم يميز لديه، والمسؤول عن التخليط ولي الأمر، لا من أخذ منه، إذا لم يعلم عين المغصوب ; وقد ذكر ذلك أئمتكم من الشافعية، وغيرهم من أهل العلم ; بل ذكر ابن عبد البر، إمام المالكية في وقته: أنه لا يعرف تحريم أموال السلاطين، عن أحد ممن يقتدى به من أهل العلم. وقال في رسالته - لمن أنكر عليه ذلك -: قل لمن ينكر أكلي لطعام الأمراء ... أنت من جهلك عندي بمحل السفهاء فإن الاقتداء بالسلف الماضين هو ملاك الدين. ثم قال بعد ذلك: ومن حكي عنه تركها، كأحمد وابن المبارك وسفيان وأمثالهم، فذاك من باب الزهد في المباحات، وهجر التوسعات، لا اعتقاد التحريم، إلى أن قال: وقد قال عثمان رضي الله عنه: (جوائز السلطان لحم ظبي ذكي) ، وقال ابن مسعود - لما سئل عن طعام من لا يجتنب الربا في مكسبه -: (لك المهنأ، وعليه المأثم، ما لم تعلم الشيء بعينه حراما) ، وحكي عن أحمد رحمه الله: جوائز السلطان أحب إلينا من صلة الإخوان، لأن الإخوان يمنون، والسلطان لا يمن، قال: وكان ابن عمر يقبل جوائز صهره المختار، وكان المختار الجزء: 12 ¦ الصفحة: 351 غير المختار. حكى هذا عنه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وناهيك به حفظا وأمانة، عند الكلام على حديث: " إذا دخل أحدكم بيت أخيه، فأطعمه من طعامه، وسقاه من شرابه، فليأكل من طعامه، وليشرب من شرابه ولا يسأل عنه " 1، والحديث معروف في السنن، قال الحافظ الذهبي: قيل لعبد الله بن عثمان بن خثيم: ما كان معاش عطاء؟ قال: صلة الإخوان ونيل السلطان ; وهذا مشهور بين أهل العلم ; وقد قال صالح بن أحمد لأبيه - لما ترك الأكل مما بيد ولده من أموال الخلفاء -:أحرام هي يا أبت؟ قال متى بلغك أن أباك حرمها؟ وأما إذا علم الإنسان، عين المال المحرم، لغصب أو غيره، فلا يحل له الأكل بالاتفاق؛ والمشتبه الذي ندب إلى تركه: هو ما لم يعلم حله ولا تحريمه ; وأما إذا امتاز بحال، وعرف الحكم، فهو لاحق بالبين لا الاشتباه; وفي دخول أموال السلاطين في المشتبه بحث جيد، لا يخاطب به إلا من سلمت في السلف الصالح سريرته، وحسنت في المسلمين عقيدته ; والمرتاب يصان عنه العلم، ولا يخاطب إلا بما يزجره ويردعه. وقد قبل صلى الله عليه وسلم الهدايا من المقوقس، وصاحب دومة الجندل وغيرهما ; وهو صلى الله عليه وسلم لا يقبل إلا طيبا، ولا يأكل إلا طيبا ; وأموال الكفار لا يبيحها الغصب لمثل المقوقس ; وإنما تباح وتملك بالقهر والغلبة والاستيلاء للمسلمين ; وهذا كله منا على   1 أحمد 2/399. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 352 سبيل التنَزل والمجاراة ; وإلا فنحن نعلم أنكم لا تذكرون هذا إلا على سبيل العيب، والمذمة والغيبة، لا عن ورع فيكم، ولا عن تحر للصواب وطلب للفقه لديكم. بل أنتم، كما قال تعالى: {وَتَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْأِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [سورة المائدة آية: 62-63] . وقد اشتهر أنكم في المزاحمة على الأموال المحرمة، أحمق من نعجة على حوض؛ وغالب ما في أيديكم من الأوقاف والريع، والمال، إنما وصل إليكم من جهة من لا يعرف الدعوة الإسلامية، وليست لهم ولاية شرعية، كرؤساء الأحساء - قبل المسلمين - من آل حميد، والأتراك وتجار البحر، الذين لا يحرمون ما حرم الله ورسوله، ولا يدينون دين الحق، فكيف تلمزون بأمراء المسلمين، وهذا حالكم، وهذه مآكلكم؟!. وما فرض من ذلك على الوجه الشرعي، فهو لا يباح، إلا لمن قام في وظيفة التدريس والإمامة بما شرع الله ورسوله، من دعاء الخلق إلى توحيده، ونهيهم عن الشرك، واتخاذ الأنداد معه، وقرر ما تعرف الرب به إلى عباده، من صفات كماله ونعوت جلاله، وأظهر مسبة من جحدها وألحد فيها، ونفى عن كتاب الله تحريف المبطلين، وتأويل الجاهلين وزيغ الزائغين، وجرد المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يتخذ من دون الله ولا رسوله الجزء: 12 ¦ الصفحة: 353 ولا المؤمنين وليجة. ومن لم يكن هكذا، فهو غاش للمسلمين غير ناصح لهم، متشبع بما لم يعط، كلابس ثوبي زور في انتصابه في المدارس والمساجد ; والعلم: معرفة الهدى بدليله، وإدراك الحكم على ما هو عليه في نفس الأمر ليس إلا. وأما التزيي بالملابس، والتحلي بالمظاهر، والانتصاب في المدارس، من غير غيرة لدين الله، ولا نصرة لأوليائه، ولا مراغمة لأعدائه، ولا دعوة إلى سبيله، فما ذاك إلا حرفة الفارغين البطالين، الذين صحبوا الأماني، وقنعوا من الخلاق بالخسيس الفاني؛ وهذا لا يفيد إيمان الرجل، فضلا عن كونه عالما، فلا يباح - والحالة هذه - لمن كان هكذا، أن يحوز أوقافا قصد بها التقرب إلى الله، والإعانة على إظهار دينه، والتماس مرضاته، والدعوة إلى سبيله. ومن أكل منها وهو مجانب لهذه الأوصاف، فقد أكل ما لا يحل له، وما لا يستحقه؛ وهذا يستفاد من قول الفقهاء: يشترط أن يكون الوقف على جهة بر، ولا يستحقه إلا من كان من أهل تلك الجهة ; وفي الحديث: " إن هذا المال حلوة خضرة، فمن أخذه بحقه بورك له فيه، ورب متخوض في مال الله بغير حق، ليس له يوم القيامة إلا النار " 1. والأوقاف من مال الله؛ ولهذا عزل الخليفة المتوكل كل من يتهم بشيء من بدعة الجهمية، عن المساجد والقضاء،   1 البخاري: الزكاة 1472 , ومسلم: الزكاة 1035 , والترمذي: صفة القيامة والرقائق والورع 2463 , والنسائي: الزكاة 2531 ,2601 ,2602 ,2603 , وأحمد 3/434 , والدارمي: الزكاة 1650 والرقاق 2750. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 354 وغيره من الوظائف الدينية، وذلك بأمر من الإمام أحمد رحمه الله؛ فإنه رحمه الله توجه إليه الفتح ابن خاقان - وزير المتوكل - بورقة فيها أسماء القضاة والأئمة، فقرأها الفتح على الإمام، فأمر بعزل من يعرف منه شيء من ذلك، أو يتهم به، فعزل خلق كثير، وهو عند المسلمين في ذلك بار راشد متبع لأمر الله ورسوله. فصل ما جاء في رؤيا الطفيل: (أنه مر على نفر من اليهود، فقال لهم: إنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون: عزير ابن الله، فقالوا: وأنتم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون: ما شاء الله وشاء محمد ; ومر على ملإ من النصارى، فقال: إنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون: المسيح ابن الله ; فقالوا: وأنتم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون: والكعبة) . فأخبر الطفيل برؤياه رسول الله صلى الله عليه وسلم فنهى الناس عن هذه الأقوال، وقرر حكم هذه الرؤيا ; والغرض منها هاهنا: ذكر المشابهة بينكم وبينهم في إدراك الخفي مما زعمتموه عيبا، مع العمى والجهل بما أنتم عليه، فاعجب لها من نادرة! قال حسان: تعدون قتلا في الحرام عظيمة ... وأعظم من ذا لو يرى الرشد راشد صدودكمو عن مسجد الله أهله ... وإخراجكم من كان لله ساجد الجزء: 12 ¦ الصفحة: 355 تنبيه طول المعاشرة، وكثرة المخالطة لها تأثير ظاهر، وفعل بين في الأخلاق والطباع والشيم، والعقائد والديانات، كما هو مشاهد محسوس، حتى إن الإنسان قد يسري إليه ما جبل بعض الحيوانات عليه، كما يشير إليه قوله صلى الله عليه وسلم: " الغلظة في الفدادين، أهل الوبر والشعر، والسكينة في أهل الغنم ". ولا يخفى ما أنتم عليه، من كثرة المعاشرة، وطول المزاولة لجيرانكم، الذين ابتلوا بشتم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وخيار هذه الأمة، حتى رموهم بما يستحى من ذكره، وكثرة ثنائهم، وموالاتهم، للزنادقة والكفار، من أعداء هذه الملة؛ ولعل ما جاء عنكم من الذم والقيل، هو من ذلك القبيل ; شعرا: لما رأت أختها بالأمس قد خربت ... كان الخراب لها أعدى من الجرب وأما عمى بصائركم، عما من الله به على هذا الشيخ من النعم الباطنة والظاهرة، وكونه نصب نفسه - بحمد الله ومنته - لحماية هذا الدين، والذب عنه، ومراغمة أعدائه فقام في وجوه من أجاز دعاء غير الله، والاعتماد عليه، والتوكل على غيره، وذم من حسن حالهم وذب عنهم، وتصدى للرد عليه، وتجهيله وتضليله. وقام في وجوه أهل البدع المنكرة، كالجهمية والأشاعرة، والسالمية والكرامية، وقمعهم الله به؛ وصاروا في بلدتكم الجزء: 12 ¦ الصفحة: 356 يستترون، وكذلك أهل الموالد والأعياد الجاهلية، كبتهم الله بما أبداه، وقرره من عيبهم وتضليلهم. وقد من الله عليه بنشر العلم، وانتفع الناس به، بعد ما كاد أن يعدم في البلاد النجدية، بعد المحنة المصرية، فجدد الله به آثار سلفه الصالح ; وجمهور من له معرفة بالعلم، وما جاءت به الرسل، من أهل هذه البلاد النجدية، إنما تخرج عليه وسمع منه، وتربى بين يديه؛ ومن لم يحط بهذا فهو دون غيره، كما لا يخفى على عارف؛ والمنصف من الأعداء يعترف بهذا. وقد عرف العامة والخاصة مناصحته لولاة الأمور، وحثهم على ما ينتفعون به في الدنيا والآخرة، من تحكيم كتاب الله، والجهاد لأعداء كلمته، ونصحهم عن الإصغاء إلى أهل الريب والشك في الدعوة الإسلامية، والحقائق التوحيدية، الذين يبغونها عوجا، ولا يحبون ظهور هذا الدين وعلوه ; فهو قد نصح ولاة الأمر عنهم، وكبت الله بسببه وأخزى منهم عددا كثيرا. وهو قائم على قضاة تلك البلاد، في النظر في أحكامهم، يرد كثيرا مما أجمع على بطلانه منها، وينقضها بالقانون الشرعي، والمنهاج المرعي؛ وهذا مشهور لا ينكره إلا مكابر ; شعرا: وما ضر عين الشمس إن كان ناظرا ... إليها عيون لم تزل دهرها عميا وقد عرف من كان له فضل وعلم أن كلام أمثالكم، وبهت أشباهكم، مما يدل على فضله وجلالته، وهيبته وفطانته، وأن الجزء: 12 ¦ الصفحة: 357 ذلك مما يزيده الله به رفعة وشرفا، في الدنيا والآخرة، ويوجب - إن شاء الله - حسن العاقبة. قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْأِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْأِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [سورة النور آية: 11] ، وقال تعالى: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [سورة آل عمران آية: 186] . ومما يستحسن لشيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه، قوله شعرا: لو لم يكن لي في القلوب مهابة ... لم تكثر الأعداء في وتقدح كالليث لما هيب خط له الزبى ... وعوت لهيبته الكلاب النبح وقال أبو الطيب: يرمونني شزر العيون لأنني ... غلست في طلب العلا وتصبحوا وقال: وإذا أتتك مذمتي من ناقص ... فهي الشهادة لي بأني فاضل وقد أنطق الله ألسن المسلمين بالثناء والدعاء لهذا الشيخ، ونرجو أن الله يقبل شهادتهم، ويجيب لهم دعوتهم، ويقيل عثرته وعثرتهم ; اللهم اغفر لنا ما لا يعلمون، واجعلنا خيرا مما يظنون ; والمغرور من اغتر بثناء الناس عليه، ولم يعرف حقيقة ما منه وما لديه؛ لكن الغرض تعريفك أن كلامك زاده الله به رفعة وشرفا. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 358 كم كان في نكث أسباب العهود بها ... إلى المخدرة العذراء من سبب وأما من بهته فقد أصبح بين أهل الإسلام والكمال، كقبر أبي رغال، مرجوما بشهب المذمة والمقال، معدودا في زمرة أهل الغي والضلال. ما يبلغ الأعداء من جاهل ... ما يبلغ الجاهل من نفسه عجيبة: عبتم على الشيخ حرثه، وطلبه الرزق باتخاذه النخيل والزروع، مع أن هذا هو حرفة السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، جمهورهم أهل نخيل وحروث؛ ولما فتح الله خيبر اقتسموها وعاملوا أهلها عليها، وصار لرسول الله صلى الله عليه وسلم سهمه المعروف. ولما أجلى عمر رضي الله عنه اليهود، تولى المسلمون العمل فيها بأنفسهم، وهذا معدود من مناقبهم. لم يذهبوا إلى ما ذهبت إليه اليهود والنصارى، ومن شابههم من هذه الأمة، من الأكل بدينهم، وجعله آلة يكتسب بها الدنيا، ويحتال بها على أكل الحبوس والأوقاف؛ وكثير من علمائكم جزم بأن الحرث أفضل المكاسب ; ونصوصهم موجودة عندكم ; ولكن الهوى والعداوة أدياكم إلى أن جعلتم المناقب مثالب. ولا ذنب للشيخ عندكم يقتضي هذا ويوجبه، لم يحل بينكم وبين مآكلكم ورياساتكم، ولكن يدعوكم إلى الرغبة في الدين، الجزء: 12 ¦ الصفحة: 359 ونشره في بلاد المسلمين، وترك شبه المرتابين والضالين، والرغبة عن تقليد المشايخ الماضين، شعرا: أصبحت بين معاشر هجروا الهدى ... وتقبلوا الأخلاق من أسلافهم قوم أحاول رشدهم وكأنما ... حاولت نتف الشعر من آنافهم فصل بلغنا عن خدنك ومن يلوذ بك أنهم انكروا على الإمام بناء المسجد الجامع ; فقيل لهم: إنه قد بناه سعود رحمه الله أولا ; فقالوا: هذا من باب قوله تعالى: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [سورة الزخرف آية: 23] ، وقالوا: ومن يصلي في هذا، وقد بني من مال حاله كيت وكيت ; وهذا يدل على ما قلناه: أن اعتقادكم في الإمام، مثل اعتقادكم في ابن ثنيان، سواء بسواء. ومهما تكن عند امرئ من خليقة ... وإن خالها تخفى على الناس تعلم وهذا ثابت بنقل العدد الكثير من أهل نجد وأهل الأحساء، وإنكاره مكابرة ورد للواضحات ; وقد علم: أن الاقتداء بأهل الدين، في البر والخير، والعمل الصالح، كبناء المساجد، ورفع شأنها، من آكد ما شرع، ومن أفضل ما سعي فيه ووضع ; والاستدلال عليه بقوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [سورة الأنعام آية: 90] أقرب للصواب. والله أسأل أن ينصر دينه، ويعلي كلمته، ويحسن العاقبة الجزء: 12 ¦ الصفحة: 360 لعباده المؤمنين، وأوليائه المتقين، إنه ولي ذلك كله، وهو القادر على كل شيء، وصلى الله على محمد، وآله وصحبه وسلم. [جوابا من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى أبي بكر بن محمد لرسالة أساء فيها بذكر أمور يحصل منها نفور] وقال أيضا الشيخ: عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن، قدس الله روحه، ما نصه: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي افترض تغيير المنكر باليد واللسان والجنان، وأخذ الميثاق على ورثة الرسل بالبلاغ والبيان، وأن لا يداهنوا في دين الله مغرورا بحبائل الشيطان، وأن لا يركنوا إلى مفتون بزخارف الهذيان، وإن ظن أنه من أهل البصيرة والإيمان، والصلاة والسلام على سيد من جاهد في ذات الله، وإمام من حارب كل من استعبده صنمه أو جاهه أو هواه. من الفقير إلى الله سبحانه: عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الشيخ أبي بكر بن محمد، جمعنا الله وإياه على الطاعة، وجنبنا سبل الفتنة والشناعة، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أما بعد: فقد وصلت إلي رسالتك إلى شيخنا الوالد حفظه الله، ومتعنا والمسلمين بحياته، وقد أحسنت فيها بذكر المعتقد وبيانه، وأنك اقتديت فيه بكلام أئمة الدين، كالإمام أبي حنيفة وغيره من السلف الماضين؛ وهذا هو القصد منكم، وقد أشرت به إليك وقت اجتماعنا. إذ بذكرك معتقدك وتقريره، والتبري من أهل البدع، الجزء: 12 ¦ الصفحة: 361 كالجهمية والمعتزلة، والأشعرية والكرامية، والماتريدية، يحصل لنا نحن وإياك اتفاق الكلمة، وصلاح الطوية، نسأل الله أن يمن بذلك ; لكنك أسأت بذكر أمور، يحصل لنا منها نفور واشمئزاز؛ وهذه معاكسة ظاهرة، لما أشرت به إليك شفاها، ومتابعة لغرض نفسي شيطاني، لا لقصد شرعي إيماني. من ذلك: أنك لما ذكرت أن الرسالة ليست لك، بل لبعض أسلافك من علماء الأحساء، وأنه كان أشعري الاعتقاد، اعترفت، وصرحت بأنك نقلتها لبعض الإخوان بخطك; وهذا فيه ما لا يخفى من التهمة القوية، حيث أثبتها بخطك، وأشعتها في قومك ورهطك، غير ملتفت لرد ما فيها من الزور والبهتان، والمخالفة لصريح السنة والقرآن. وقوله فيها: إن الله لا داخل العالم ولا خارجه، وإن آيات الصفات وأحاديثها من المتشابه، وغير ذلك مما ساق من خرافاته، وما نمق من غلطاته ووهلاته; وأنت مع ذلك لم تتحاش من نقلها وإهدائها إلى الإخوان؛ وكذلك سميت هذا الرجل وعددته - مع ما ارتكبه - من علماء المسلمين؛ وما هكذا المعروف من هدى أهل العلم والإيمان، فإنهم لا يكتبون الضلال والباطل والزور، إلا لرده، ودفعه في نفس ذلك المزبور؛ وأنت قد خالفت هديهم، وخرجت عن طريقتهم، ومن سلك مسالك التهم، فلا يلومن من أساء به الظن. ثم إن خط الرجل حجة عليه; ودعواه أنه ناقل، دعوى الجزء: 12 ¦ الصفحة: 362 تفتقر إلى إثبات ودليل، فلا غرو أن حكم شيخنا الوالد بخطك عليك، وأشار برد أباطيله إليك؛ وقد ذكرت أنك كنت متأسيا حال النقل، بما في الفقه الأكبر لأبي حنيفة، في العقيدة السليمة الحميدة، وعسى الله أن يحقق ذلك. وعلى تسليمه، كيف ساغ لك أن تكتب ضدها، ولا تبين ما فيه؟ ولو أخذت بواجب أمر الفرقان، وتخلقت بخلق أهل الإيمان، المذكور في قوله سبحانه: {وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً} [سورة الفرقان آية: 72] لما وجه الوالد ولا غيره إليك ردا ولا ملاما، ولكن عرضت نفسك للبلاء فاستهدف. ومن ذلك قولك: قد تمادى بنا الكلام، حتى خرجنا عن المقام، تشبيها لأولي الأفهام، ودفعا للكثير من الأوهام، وهذا تصريح منك: بأن أخذك بخطك من باب الوهم؛ ومن المعلوم: أنه لم يكن مما يفيد اليقين والثبوت، فأقل أحواله تنْزيلا: أن يكون من باب الفراسة، والحكم بالقرائن القوية. ومن زعم أن الحكم بها من باب الأوهام، فسفسطته وجدله مما لا يحتاج برهانه وتقريره بسط كلام. ولا يشك من له أدنى مسكة من عقل أن من اعتنى بنسخ كتب الزندقة والتعطيل، والتجهم، مع دعواه أنه لا يعتقدها، فهو مخبول العقل، ليس عنده من وازع الدين ما يقتضي تركها؛ هذا لو سلمنا هذه الدعوى، وتركنا الأدلة والقرائن على الجزء: 12 ¦ الصفحة: 363 استحسانها واعتقادها. وأدهى من هذا وأمر، وأوضح منه: من نظر في خطك، واعتبر أنك تقول: إنه لم يظهر لك في حال نقلك لتلك الرسالة، من نفي إثبات الصفات، المؤدي إلى التعطيل، ما فهمه شيخنا الوالد حفظه الله، فإن كنت لا تفهم من قول هذا الرجل في ربه: إنه لا داخل العالم، ولا خارجه ولا فوقه، وأن ما دل على حقائق صفات الله سبحانه، ونعوت جلاله، من الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، معدود عند السلف من المتشابه، ونحو ذلك من كلامه. فإن كنت لا تفهم من هذا نفيا ولا تعطيلا، فلتبك عقلك النوائح ; أين أولو البصائر والأفهام؟ أين المناضلون عن ملة الإسلام؟ ما هذه إلا مكابرة جلية، وسفسطة جدليه ; فإن صبيان المكاتب، فضلا عن أولي العلم والمراتب، يعلمون أن هذه العبارة صريحة في التعطيل، غير محتملة للتصحيح والتأويل. وقد كنت أظن بك دون هذه المكابرة، وأحسب أنك ترعوي عند المحاقة والمخابرة، لا سيما بعد اطلاعك على هذا الرد النفيس، وما تضمنه من براهين الإثبات والتقديس، فخلت أن همتك ترتفع به إلى فوق، وأنك لا ترضى سبيل الميل والعوق، وأن أفراخ اليونان لا تعوقك عن الوصول، وأن أسلاف القوم لا يصدونك عن سنن الرسول، لكن كما قيل: خفافيش أعشاها النهار بضوئه ... ووافقها قطع من الليل مظلم الجزء: 12 ¦ الصفحة: 364 وقولك إن المفاهيم تتفق وتختلف، جوابه: أن الاتفاق والاختلاف، إنما يقع عند ذوي البصيرة والعقول، والأفهام السليمة، في غير صرائح العبارات، ومنطوقها، وفي غير الدلالة المطابقة ; ولا يمتري عاقل فضلا عن عالم أن الذي خالف فهمك فهم شيخنا فيه، صريحه ومنطوقه يرد زعمك وينافيه. ثم إنك ادعيت أولا أنك سليم العقيدة، موافق لما في الفقه الأكبر لأبي حنيفة، ولما عليه الأئمة الذين حكيت أقوالهم، وهذا حسن جيد، لكن يعكر عليك ويناقضه، قولك بعد: لكني وقفت بعد ذلك على كلام لبعض العلماء، ينافي بعض ما فيها، فملت إليه، وعولت عليه، لكونه أقرب للسلامة، وأشبه بهدى أهل الاستقامة؛ وهذا تصريح منك بالميل إلى خلافها، والتعويل على سواها بعد اعتقادها، وهو مخالف ومناقض لكلامك الأول، حيث زعمت أنك كنت في حال نقلها، متأسيا بما في الفقه الأكبر. ثم يا هذا، قد استدللت على رجوعك بقضية عمر في المشتركة، وبما صح من رجوع كثير من أئمة الاجتهاد عن أقوال ظهر لهم الحق في خلافها، والرجوع إلى الحق أولى وأحق، لكن لا يخفى أن رجوعهم من اجتهاد إلى اجتهاد، بخلاف من رجع من ذنب يأثم به، ولا يؤجر عليه ; بل غايته بعد التوبة أن يغفر ; ولذلك قالوا بصحة الاجتهاد الأول. فإن قلت: الشبه ليس من كل الوجوه، بل من حيث الجزء: 12 ¦ الصفحة: 365 الرجوع إلى الحق، قلت: لأي شيء عدلت عن قوله: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً} [سورة الزمر آية: 53] ؟؛ والعدول عن الدليل الصريح المطابق من كل الوجوه، يقدح في فهم الرجل وتأليفه. ثم إنك تقول: اعلم أني بحمد الله غير مستنكف عن قبول الحق، ولا مستكبر، ولا مستحقر ; وأقول: أي كبر أعظم وأدهى من أنفة الرجل أن يدعى إلى الله ظاهرا، ويرد قوله الذي قد شاع ونسخ جهارا؟! ويعد هو ذنوبه وخطاياه من باب الاجتهاد؟! وقد أعرضنا عن غير ذلك من علامات بطر الحق. وأما كون شيخنا الوالد صرح باسمك في الرياض، فهو منه اهتمام بالواجب الشرعي، فإن الرجل إذا خيف أن يفتن به الجهال، ومن لا تمييز عندهم في نقد أقاويل الرجال، فحينئذ يتعين الإعلان بالإنكار، والدعوة إلى الله في السر والجهار، ليعرف الباطل فيجتنب، وتهجر مواقع التهم والريب ; ولو طالعت كتب الجرح والتعديل، وما قاله أئمة التحقيق والتأصيل، فيمن اتهم بشيء يقدح فيه، أو يحط من رتبة ما يحدث به ويرويه، لرأيت من ذلك عجبا، ولعرفت أن سعي الشيخ محمود قولا وسببا. ثم إنك تذكر أن الرد صار للعوام والطغام، سلما للوقيعة في أعراض علماء الإسلام، وفي هذا من تزكية نفسك، والتنويه بذكرها ما لا يخفى، وما أظن عالما يقول: أنا عالم; وقد قال الجزء: 12 ¦ الصفحة: 366 عمر رضي الله عنه: "من قال: أنا عالم فهو جاهل، ومن قال: أنا مؤمن فهو كافر ; ومن قال: أنا في الجنة فهو في النار". انتهى. والعالم من يخشى الله، وهذا مأخوذ من قوله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [سورة فاطر آية: 28] ؛ فإن الآية تقتضي حصر العلماء في أهل الخشية، كما تقتضي حصر الخشية في العلماء. وحقيقة العلم: هو ما جاءت به الرسل، من معرفة الله سبحانه بصفات الكمال، ونعوت الجلال، إثباتا لا تعطيلا، وتنْزيها لا تمثيلا؛ وذلك يقتضي من إسلام الوجه له، والتبتل إليه وحده لا شريك له، حبا وإجلالا وتعظيما، وذلا وإخلاصا وانقيادا، وهو محسن في ذلك بعدم الانحراف عما جاءت به الرسل، طاعة لهم وتكريما; وهذا أيضا يقتضي العلم بالأوامر الشرعية، لأن الجاهل لا يحسن السير؛ ولا بد في العلم بهذا من النفوذ إلى ما جاءت به الرسل، فيعرف الحكم من دليله. وأما غير ذلك من أنواع العلوم، التي أحدثت بعد خير القرون، في العقائد والعبادة بما لم يشرع، كما عليه كثير ممن يدعي العلم، في باب معرفة الله سبحانه وتعالى، فإنهم أخذوا العقيدة في هذا الباب، عن أهل القوانين الكلامية، كالجهمية وغيرهم، ممن خرج عن العقائد السلفية، وكما عليه كثير من أهل الطرق والتصوف، فإنهم أحدثوا من التعبد بالذوق والهوى، ما لم ترد به هذه الشريعة. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 367 وكذلك من اقتصر على تقليد المتأخرين في الأحكام، ولم يلتفت إلى أخذ الحكم من هدي سيد الأنام، فهذا ونحوه وإن جاز لهم التقليد، فليسوا من أهل العلم بالإجماع، كما حكاه الحافظ ابن عبد البر رحمه الله. وبالجملة: فلو عرفت حقيقة العلم، لأحجمت عن عد نفسك من أهله، ولأيقنت أن من ابتغى معرفة الله سبحانه وتعالى مما نصبه مشايخ اليونان، والفلاسفة من الأدلة العقلية، والموازين الكلامية، أو أخذ عن تلامذتهم الذين نشؤوا على ملتهم، ودانوا ببدعتهم، ولم يلتفت إلى ما جاء به الوحيان، من الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، زعما منه بأنها ظواهر لفظية، ومجازات لغوية، وأن قانون المنطق هو القواطع العقلية، والبراهين الجلية، وأن ما جاءت به الكتب، وأخبرت به الرسل، من صفات الله معدود من متشابه الكلام، مصروف عن حقيقته عند ذوي البصائر والأفهام فنفى لذلك صفات الكمال، وأغرب في سلب نعوت الجلال، وأضاف إلى ذلك تقليد مشايخه في الأحكام والفروع، فلم يأخذ من هدي الرسول العلم المتبوع، فهذا ونحوه من أضل الناس وأبعدهم عن هدي المرسلين، فضلا عن أن يكون من علماء المسلمين. وإن انضم إلى ذلك الضلال عن معرفة توحيد العبادة الذي هو فعل العبد وعمله وكسبه، فاتخذ الآلهة من دون الله الجزء: 12 ¦ الصفحة: 368 أربابا، فأحبهم كحب الله، وذل وخضع، واستغاث واستعان، وذبح لغير الله القربان، وحلف تعظيما وتفخيما، ورجاء أن يكون الند له شفيعا وعوينا، فهناك تشتد الرزية وتعظم البلية، ويعلم أن هؤلاء الضرب من الناس بينهم وبين الإسلام أبعد بون، وأن الأمر كما قيل: نزلوا بمكة من قبائل هاشم ... ونزلت بالبيداء أبعد منْزل والمقام يستدعي أكثر من هذا، ولكن العاقل يسير فينظر؛ والسلف قد أنكروا على من سماهم علماء، فما بالك فيمن سمى نفسه عالما، وتشبع بما لم يعط، نعوذ بالله من الخذلان. هذا وفي رسالتك شيء من الهمز، والتصنع، والمداهنة والغش، والحقد والمشاحنة وعدم التثبت، وأن الأولى الإسرار إليك، وترك ما كتبته، وكذلك في تسميته من خاض في هذا عواما، أهل لغو بالفضول، ما لا يخفى على أرباب العقول. ولو شئت أن أبين لك من الأولى بذلك كله، فأقيم لك البراهين على أنك متصف به لفعلت، وسجلت وحررت وحققت، ولكن سأترك ذلك ليوم تبدو فيه السرائر، ويظهر الله مكنون الضمائر؛ ولو صرحت بما في نفسك من الرد وسجلت، وناضلت لكان أليق بك، فإن من أظهر ما في نفسه حري بالرجوع إلى الحق، بخلاف من كتم وداهن، كما قيل: فلست أرى إلا عدوا محاربا ... أو آخر خير منه عند المحارب وكان قصدي منك أيها الشيخ أن تكتب ما تعتقده، الجزء: 12 ¦ الصفحة: 369 وتدع التزكية والعتاب، وتطرح كل شك وارتياب، فإن ذلك أجمع للقلوب، وأقرب للاتفاق؛ والله يقول الحق وهو يهدي السبيل، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. [رسالة إلى علي بن سليمان ووصوله إلى بلاد فارس] وله أيضا رحمه الله، وعفا عنه بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الابن: علي بن حمد بن سلمان، سلمه الله تعالى، وزينه بزينة الإيمان، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فأحمد إليك الله على إنعامه، والخط وصل، وما ذكرت صار معلوما ; فأما رغبتك عن البلدة، التي تظهر فيها أعلام الكفر والشركيات، وتهدم قواعد الإسلام والتوحيد، ويرفع فيها إلى غير أحكام القرآن المجيد، فقد أحسنت فيما فعلت، والهجرة ركن من أركان الدين؛ نسأل الله أن يكتب لك أجر المخلصين الصادقين. وأما وصولك إلى بلدة فارس، فالذي رأيتهم ينتسبون إلى متابعة الشيخ محمد، رحمة الله عليه، فهم كما في خطك، لكن فيهم جهال، لا يعرفون ما كان الشيخ عليه وأمثاله، من أئمة الهدى، وفيهم من بدعة المعتزلة والخوارج، ولا معرفة لهم بالعقائد والنحل، واختلاف الناس ; والزمان زمان فترة، يشبه زمن الجاهلية، وإن كانت الكتب موجودة، فهي لا تغني ما لم يساعدهم التوفيق، وتؤخذ المعاني والحدود والأحكام، الجزء: 12 ¦ الصفحة: 370 من عالم رباني، كما قيل: والجهل داء قاتل وشفاؤه ... أمران في التركيب متفقان نص من القرآن أو من سنة ... وطبيب ذاك العالم الرباني والكتب السماوية بأيدي أهل الكتاب، وقد صار منهم ما صار، وأسباب الجهل والهلاك قد توافرت جدا ; وقد قال بعض الأفاضل، منذ زمان: ليس العجب ممن هلك كيف هلك؟ إنما العجب ممن نجا كيف نجا؟ وهؤلاء الذين ذكرتهم من أهل فارس، وذكرت عنهم العقائد الخبيثة، ليسوا بعرب يفهمون الأوضاع العربية، والحقائق الشرعية، والحدود الدينية، ولا يرجعون إلى نص من كتاب ولا سنة، وإنما هو تقليد لمن يحسنون به الظن، من غير فهم ولا بصيرة، قال الحسن البصري في أمثالهم من المعتزلة من العجم: إن عجمتهم قصرت بهم عن إدراك المعاني الشرعية، والحقائق الإيمانية. وكذلك لما ناظر عمرو بن العلاء عمرو بن عبيد، من رؤوس المعتزلة، وجده لا يفرق بين الوعد والوعيد ; فقال: من العجمة أتيت ; وأما عبد الرحمن البهمني، فهو على ما نقلت عنه في غاية الجهالة والضلالة، وله من طريقة غلاة الجهمية نصيب وافر، وله من الاعتزال ومن نحلة الخوارج نصيب. وكلام أهل الإسلام وأئمة العلم، في الجهمية والمعتزلة والخوارج، مشهور ; فأما جهم بن صفوان: فطريقته في الجزء: 12 ¦ الصفحة: 371 التعطيل، ونفي العلو والاستواء، والكلام وسائر الصفات، قد أخذها عن الجعد بن درهم؛ والجعد أخذها بالواسطة عن لبيد بن الأعصم اليهودي، الذي صنع السحر لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وكانوا يخفون مقالتهم. ومن أظهر شيئا من ذلك قتل، كما صنع خالد بن عبد الله القسري أمير واسط بالجعد بن درهم، فإنه ضحى به يوم العيد ; وقال على المنبر: "أيها الناس ضحوا، تقبل الله ضحاياكم؛ فإني مضح بالجعد بن درهم؛ إنه يزعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا، ولم يكلم موسى تكليما، تعالى الله عما يقول الجعد علوا كبيرا" ثم نزل فذبحه. والجهم قتل أيضا لما ظهرت مقالته. ثم لما كان في زمن الخليفة المأمون العباسي، ظهرت في الناس تلك المقالات، بواسطة بعض الوزراء والأمراء، وكثر الخوض، فصاح بهم أهل الإسلام من كل ناحية، وبدعوهم وفسقوهم وكفروهم ; وقال ابن المبارك الإمام الجليل من أكابر أهل السنة: "من لم يعرف أن الله فوق عرشه، بائن من خلقه، فهو كافر يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، ولا يدفن في مقابر المسلمين، ولا مقابر أهل الذمة، لئلا يتأذى به أهل الذمة من اليهود والنصارى". وقال الفضيل بن عياض، ويوسف بن أسباط: "الجهمية ليست من الثلاث والسبعين فرقة، التي افترقت إليها هذه الأمة"، يعني أنهم لا يدخلون في أهل القبلة. وقد صنفت التصانيف، الجزء: 12 ¦ الصفحة: 372 وجمعت النصوص والآثار، في الرد عليهم وتكفيرهم، وأنهم خالفوا المعقول والمنقول، وأن قولهم يؤول إلى أنهم لا يثبتون ربا يعبد، ولا إلها يصلى له ويسجد، وإنما هو تعطيل محض؛ ولذلك كفروهم، قال العلامة ابن القيم، في الكافية الشافية: ولقد تقلد كفرهم خمسون في عشر من العلماء في البلدان يعني: أن خمسمائة عالم أئمة مشاهير، جزموا بكفرهم ونصوا عليه ; وحججهم وشبهاتهم واهية داحضة، لا تروج على من شم رائحة الإسلام؛ قال بعض العلماء: أهل البدع لهم نصوص يدلون بها، فقد اشتبه عليهم معناها، ولم يهتدوا فيها، إلا الجهمية، فليس معهم شيء مما جاءت به الرسل، ونزلت به الكتب ; انتهى. والقرآن والسنة كلها رد عليهم ; قال بعض أصحاب الإمام الشافعي، رحمه الله تعالى: في القرآن ألف دليل على علو الله على خلقه، وأنه فوق العرش، وذكر ابن القيم رحمه الله طرفا صالحا في نونيته من ذلك ; وأما نصوص السنة، وكلام أهل العلم، فلا يحصيها ويحيط بها إلا الله. ويكفي المؤمن أن يعلم: أن كل من عرف الله بصفات جلاله، ونعوت كماله، وتبين له شيء من ربوبيته وأفعاله، يعلم ويتيقن: أنه هو العلي الأعلى الذي على عرشه استوى، وعلى الملك احتوى، وأنه القاهر فوق عباده، وأنه يدبر الأمر من السماء الى الأرض ; ولا يشك في ذلك إلا من اجتالته الجزء: 12 ¦ الصفحة: 373 الشياطين عن الفطرة التي فطر الله الناس عليها. والكلام يستدعي بسطا طويلا؛ فعليك بكتب أهل السنة، واحذر كتب المبتدعة، فإنهم قد سودوها بالشبهات، والجهالات التي تلقوها عن أسلافهم وشيعهم. وأما دعواهم أن النبي صلى الله عليه وسلم حي في قبره، فإن أرادوا الحياة الدنيوية، فالنصوص والآثار والإجماع والحس يكذبه، قال الله تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [سورة الزمر آية: 30] ، وقال تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} [سورة الأنبياء آية: 34] . وقد قام أبو بكر في الناس يوم مات النبي صلى الله عليه وسلم وقال: "أما بعد: فمن كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، وتلا هذه الآية: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً} [سورة آل عمران آية: 144] ". وأما إن أراد الحياة البرزخية، كحياة الشهداء فللأنبياء منها أفضلها وأكملها، ولنبينا محمد صلى الله عليه وسلم منها الحظ الوافر، والنصيب الأكمل ; ولكنها لا تنفي الموت، ولا تمنع إطلاقه على النبي والشهيد; وأمر البرزخ لا يعلمه ولا يحيط به إلا الله تعالى الذي خلقه وقدره؛ والواجب علينا: الإيمان بما جاءت به الرسل، ولا نتكلف ولا نقول بغير علم؛ والحياة الأخروية بعد البعث والنشور أكمل مما قبلها، وأتم للسعداء والأشقياء. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 374 وأما دعواه أن العبادة هي السجود فقط، فهذا ليس بغريب عن مثل هذا الملحد؛ والنصوص القرآنية والأحاديث النبوية، قد فصلت أنواع العبادة تفصيلا، وقسمتها تقسيما، ونوعتها تنويعا، قال تعالى: {الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} [سورة البقرة آية: 1-2] إلى قوله: {أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [سورة البقرة آية: 5] ؛ وهل المهتدون والمفلحون إلا خواص عباد الله. وقال تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} [سورة البقرة آية: 177] إلى قوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [سورة البقرة آية: 177] ، فخصهم بالصدق والتقوى، وحصرها فيهم، لأن ما ذكر: رأس العبادة ; والإيمان: متضمن لما لم يذكر، مستلزم له، فلهذا حسن الحصر. وقال تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} [سورة البقرة آية: 83] إلى قوله: {وَآتُوا الزَّكَاةَ} [سورة البقرة آية: 43] ، فبدأ بذكر العبادة المجملة، ثم خص بعض الأفراد، تنبيها على الاهتمام، وأنها من أصول الدين، ولئلا يتوهم السامع أن العبادة تخص بنوع دون ما ذكر، في قوله: {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ} [سورة الأعراف آية: 170] ؛ ومعلوم أن إقام الصلاة داخل فيما قبله، لأنه آكد الأركان الإسلامية بعد الشهادتين، وكذلك قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [سورة الفاتحة آية: 5] ؛ والاستعانة عبادة بالإجماع، وعطفها على ما قبلها الجزء: 12 ¦ الصفحة: 375 اهتماما بالوسيلة، وتنبيها على التوكل. وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ} [سورة النحل آية: 90] إلى قوله: {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [سورة الأنعام آية: 152] ؛ والعدل تدخل فيه، الواجبات كلها، والإحسان تدخل فيه نوافل الطاعات، وإيتاء ذي القربى يدخل فيه حقوق الأرحام، ونحوها من العبادات المتعدية، والنهي عن الفحشاء والمنكر، يدخل فيه ما نهى الله عنه، من ظاهر الإثم وباطنه، وتركه من أجل العبادات، والبغي من أكبر السيئات، وتركه من أهم الطاعات؛ فهذا كله داخل في العبادة بالإجماع. وقال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [سورة الإسراء آية: 23] ، إلى قوله: {وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً} [سورة الإسراء آية: 39] ، فابتدأ الآية بالأمر بعبادته وحده لا شريك له، وعطف بقية العبادة المذكورة اهتماما بها، وتنويها بشأنها؛ ولا قائل أن ما ذكر ليس بعبادة ; بل أهل اللغة، وأهل الشرع، من المفسرين وغيرهم مجمعون على أن ما أمر الله به في هذه الآيات، من أفضل ما يتقرب به العبد من القرب والعبادات، وما علمت أحدا من أهل العلم واللغة ينازع في ذلك؛ ولكن القوم - كما تقدم - عجم أو مولدون. قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ} [سورة البينة آية: 5] ، فعطف إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة على ما قبله، وإن كان يدخل فيه عند الجزء: 12 ¦ الصفحة: 376 الإطلاق، تنبيها على ما تقدم من الاهتمام والحض، على ما ذكر في حديث جبرائيل المشهور في الكتب الستة وغيرها: " أن جبرئيل أتى النبي صلى الله عليه وسلم في صورة رجل وهو جالس في أصحابه. فقال له: ما الإسلام؟ قال: الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا. قال: صدقت، قال: ما الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت، وبالقدر خيره وشره، قال: صدقت; قال: فما الإحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك ... ثم قال: هذا جبرائيل أتاكم ليعلمكم أمر دينكم " 1 فجعل ذلك كله هو الدين. والدين بمعنى العبادة، بدليل قوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [سورة البينة آية: 5] ، وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " الإيمان بضع وسبعون شعبة: أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق " 2، ومن قال: ليست هذه الشعبة عبادة، فهو من أشر الدواب، وأجهل الحيوان. وقد حصر النبي صلى الله عليه وسلم العبادة في بعض أفرادها، كما في حديث النعمان بن بشير، أنه قال: " الدعاء هو العبادة " 3، وفي حديث أنس " الدعاء مخ العبادة " 4 وكقوله: " الدعاء سلاح المؤمن وعماد الدين "؛ وكل ما ورد من فضائل الأعمال،   1 البخاري: الإيمان 50 , ومسلم: الإيمان 9 ,10 , والنسائي: الإيمان وشرائعه 4991 , وابن ماجه: المقدمة 64 , وأحمد 2/426. 2 البخاري: الإيمان 9 , ومسلم: الإيمان 35 , والترمذي: الإيمان 2614 , والنسائي: الإيمان وشرائعه 5005 , وأبو داود: السنة 4676 , وابن ماجه: المقدمة 57 , وأحمد 2/414 ,2/445. 3 الترمذي: تفسير القرآن 2969 , وابن ماجه: الدعاء 3828. 4 الترمذي: الدعوات 3371. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 377 وأنواع الذكر داخل في مسمى العبادة ; وقد جمع ابن السني، والنسائي في عمل اليوم والليلة من ذلك طرفا، يبين أن العبادة في أصل اللغة بمعنى الذل والخضوع، كما قال بعضهم 1: تباري عتاقا ناجيات وأتبعت ... وظيفا وظيفا فوق مَوْر معبّد أي: طريق مذلل قد ذللته الأقدام، مأخوذ من معنى الذل والخضوع، يقال: دنته فدان، أي: ذللته فذل؛ وفي الاصطلاح الشرعي يدخل فيه كل ما يحبه الله ويرضاه، من الأعمال الباطنة والظاهرة، الخاصة والمتعدية، البدنية والمالية ; ولذلك عرفها الفقهاء بأنها: ما أمر الله به شرعا، من غير اطراد عرفي ولا اقتضاء عقلي. إذا عرف هذا، فالتقوى والعبادة والدين، إذا أفردت ولم تقترن بغيرها، دخل فيها مجموع الدين وسائر العبادات، وإذا اقترنت بغيرها، فسر كل واحد بما يخصه، كالإيمان والعمل الصالح، والإسلام والإيمان، وصدق الحديث، وكالإيمان والصبر، وكالعبادة والاستعانة، وكالتقوى وابتغاء الوسيلة. فيفسر كل بما يناسبه ويخصه، كما في سورة الأحزاب {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ   1 هو طرفة بن العبد البكري, يشير به إلى ناقته, وأنها تباري الكرام من الإبل وهن مسرعات في السير, تتبع وظيف رجلها وظيف يدها ... إلخ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 378 وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ} [سورة الأحزاب آية: 35] ، ففسر كل اسم بما يخصه مع الاقتران. وإذا أطلق اسم العبادة، كما في قوله: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ} [سورة الفرقان آية: 63] ، واسم الأبرار، واسم الإيمان، واسم الإسلام، في مقام المدح والثناء، دخل فيه الدين كله؛ فمن عرف هذا، تبين له اصطلاح القرآن والسنة، وعرف أن هؤلاء المبتدعة، من أجهل الناس، بحدود ما أنزل الله على رسوله. والصلاة نفسها تشتمل على أقوال وأفعال غير السجود، وكلها عبادة بإجماع المسلمين، فالقراءة عبادة، والقيام عبادة، والركوع عبادة، والرفع منه عبادة، والسجود عبادة، والجلوس عبادة، والأذكار المشروعة في تلك المواطن عبادة، والتكبير عبادة، والتسليم عبادة. وأما قوله: إن قبر الولي أفضل من الحجر الأسود، فهذا من جنس ما قبله في الفساد والضلال، فالحجر الأسود يمين الله في أرضه، من صافحه واستلمه فكأنما بايع ربه، قال تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدىً لِلْعَالَمِينَ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} [سورة آل عمران آية: 96-97] ؛ ولم يرد في قبور الأولياء، ما يدل على مثل ذلك، فضلا عن أن يكون أفضل منه. والحج ركن من أركان الإسلام، والطواف بالبيت أحد أركان الحج، والركن الذي فيه الحجر الأسود أفضل أركان الجزء: 12 ¦ الصفحة: 379 البيت، والطواف به من أفضل العبادات وأوجبها. والطواف بالقبور واستلامها، والعكوف عندها، من أوضاع المشركين والجاهلية، وفيه مضاهاة لما يفعله اليهود والنصارى، عند قبور أحبارهم ورهبانهم؛ وأفضل القبور على الإطلاق قبره صلى الله عليه وسلم، ولا يشرع تقبيله واستلامه بالإجماع ; بل ولا يشرع الدعاء عنده، فلا يشبه بيت المخلوق ببيت الخالق، وبيت العبد ببيت الرب. وبالجملة: فهذا القول قول شنيع، لا مستند له ولا دليل عليه، وتقبيل الحجر الأسود مشروع، وكذا استلامه باليد، فإن استلمه بالمحجن ونحوه لعذر، فقد صح "أن النبي صلى الله عليه وسلم أشار إلى الحجر الأسود واستلمه بمحجن كان في يده " 1. وأما قوله: إنكم تعتقدون العلو، فنعم نعتقده، ونشهد الله عليه، وكل مسلم عرف الله بأسمائه وصفاته يعتقد أنه هو العلي الأعلى، الذي على العرش استوى، وعلى الملك احتوى، هذا نص القرآن ; وقد قال تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ} [سورة هود آية: 17] . وأول من أنكر العلو فرعون، إذ قال: {يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ?أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِباً} [سورة غافر آية: 36-37] ؛كذب موسى فيما جاء به من الله، أن الله هو العلي الأعلى، وأنه فوق عباده مستو على عرشه.   1 البخاري: الحج 1608 ,1612 ,1613 ,1632 والطلاق 5293 , ومسلم: الحج 1272 , والترمذي: الحج 865 , والنسائي: المساجد 713 ومناسك الحج 2954 , وأبو داود: المناسك 1877 ,1881 , وابن ماجه: المناسك 2948 , وأحمد 1/237 ,1/248 ,1/304 , والدارمي: المناسك 1845. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 380 وأما الآية الكريمة التي احتج بها هذا الضال، فلم يعرف معناها، ولم يدر المراد منها؛ وأهل التفسير متفقون على أن المراد، بقوله: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ} [سورة الزخرف آية: 84] ، أنه معبود في السماء، ومعبود في الأرض، لأنه الإله المعبود، كما في قوله: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ} [سورة الأنعام آية: 3] ، وقال تعالى: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً} [سورة مريم آية: 93] . والحلولية من غلاة الجهمية يرون أنه حال بذاته في كل مكان، لم ينَزهوه عن شيء، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا. وأما حديث: " أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد " 1 فهو حديث صحيح جليل، مثل قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} [سورة الإسراء آية: 57] ، فالقرب في هذا ونحوه، أضيف إلى العبد; والقلب إذا أناب إلى الله وأخلص في عبادته، وصدق في معاملته، كان له من القرب بحسب صدقه وإخلاصه، ورتبته من الإيمان، فترتفع عنه حجب الشهوات والشبهات، وينقشع عنه ليلها وظلامها، وهذا المعنى حق لا يشك فيه. ويضاف القرب إلى الله تعالى، كما في قوله: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [سورة البقرة آية:   1 مسلم: الصلاة 482 , والنسائي: التطبيق 1137 , وأبو داود: الصلاة 875 , وأحمد 2/421. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 381 186] ؛ فهذا قرب خاص للسائلين والداعين؛ وقد يقرب من عباده، ومن القلوب الطيبة كيف يشاء، لكنه قرب خاص، ليس كما يظنه الجهمي، من أن ذاته تحل في المخلوقات. فهو سبحانه ليس كمثله شيء في صفاته، وكمال عظمته وقدرته، ينزل إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر، وهو مستو على عرشه، عال فوق خلقه، لا تحيط به المخلوقات، ولا تحتوي عليه الكائنات، ويدنو عشية عرفة، فيباهي ملائكته بأهل الموقف؛ ومع ذلك، فصفة العلو والاستواء ثابتة في تلك الحال، لا يخلو العرش منه، ولا يعلم قدر عظمته إلا هو جل ثناؤه، وتقدست أسماؤه. وقد يكون المؤمن المخلص القريب من الله في مكان، معه من هو ملعون مطرود عن رحمة الله، وهما في مكان واحد، كما جرى لموسى وفرعون؛ فالقرب الذي وردت به الأحاديث، وصرحت به النصوص، حجة على الجهمي المعطل، القائل: بأن الله في كل مكان، تعالى الله وتقدس. فهؤلاء الجهال خاضوا فيما قصرت عقولهم وأفهاههم عن إدراك معناه وما يراد به، فصاروا في بحر الشبهات غرقى، لا يعرفون لهم ربا، ولا يستدلون بصفة من صفاته على معرفة كماله وجلاله. وقد بلغ الرسول صلى الله عليه وسلم ما أنزل إليه من ربه، قراءة على الناس، وأكثره في معرفة الرب وصفاته، وربوبيته وتوحيده ; الجزء: 12 ¦ الصفحة: 382 سمعه منهم قرويهم وبدويهم، خاصهم وعامهم، عربهم وعجمهم، ولم يشكل على أحد منهم ذلك، ولا يشك فيه. بل آمنوا به وعرفوا المراد منه، ومضت القرون الثلاثة على إثبات ذلك والإيمان به، وتلقي معناه عن الصادق المصدوق، الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، وإن جحد بعض المنافقين، فهو مدحور مقهور، حتى حدث ما حدث في آخر القرن الثالث وما بعده. وأما دعواه أن الأولياء يقدرون على خلق ولد من غير أب، فهذه طامة كبرى، وردة صريحة، وتكذيب لجميع الكتب السماوية، ورد على كل رسول، ومخالفة لإجماع الأمم المنتسبين إلى الرسل والكتب السماوية، فإنهم مجمعون على أن الله هو الخالق وحده، وغيره مخلوق. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [سورة فاطر آية: 3] ، وقال تعالى: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} [سورة الأنعام آية: 102] ، وقال تعالى: {أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ} [سورة الأعراف آية: 191] ؛ ولو كان لغير الله شركة فى الخلق والتأثير، لكان له شركة في الربوبية والإلهية. وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا الجزء: 12 ¦ الصفحة: 383 مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} الآية [سورة سبأ آية: 22-23] . فنفى سبحانه عن غيره أن يكون له ملك في السماوات والأرض، ولو قل، كمثقال ذرة ; ونفى الشركة أيضا في القليل والكثير ; ونفى أن يكون له ظهير وعوين يعاونه في خلق أو تدبير؛ فإنه الغني بذاته عن كل ما سواه، والخلق بأسرهم فقراء إليه؛ ثم نفى الشفاعة إلا لمن أذن له ; قال بعض السلف: هذه الآية تقطع عروق شجرة الشرك من أصلها. ومعلوم: أن من يخلق له ملك ما خلقه، فلو كان ثم خالق غير الله تعددت الأرباب والآلهة، قال تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} [سورة الأنبياء آية: 22] ، وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ} [سورة آل عمران آية: 6] ، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [سورة البقرة آية: 21] . فعيسى داخل في عموم هذه الآيات، ولم يخالف في ذلك إلا من ضل من النصارى، قال تعالى في خصوص عيسى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [سورة آل عمران آية: 59] ، فكان عيسى بكن كما كان آدم. وقال تعالى: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [سورة المائدة آية: 116] إلى قوله: {مَا قُلْتُ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 384 لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} [سورة المائدة آية: 117] ؛ فاعترف أن الله ربه وخالقه ومعبوده. فكفى بهذه النصوص ردا على من أشرك بالله، وجعل معه خالقا آخر. وما احتج به الملحد، من قوله تعالى حاكيا عن جبرئيل، أنه (قال) لمريم: {إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيّاً} [سورة مريم آية: 19] ، فيقال: قراءة البصريين (ليهب لك) بالياء، وهي: تفسير للقراءة الأخرى، وعلى القراءة الأخرى نسب الهبة إليه، بسبب نفخ الروح في درعها؛ والسبب يضاف إليه الفعل، كما جزم به البيضاوي وغيره في هذه الآية، والله سبحانه وتعالى: ينفذ أمره الكوني على يد من يشاء من ملائكته. وربما نسب الفعل إليهم، كما قال تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} [سورة الزمر آية: 42] ، وقال تعالى في موضع آخر: {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ} [سورة الأنفال آية: 50] ، وقال تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ} [سورة الأنعام آية: 61] ، فأضافه إليهم لأنهم موكلون بقبض الأرواح ; ولما كانوا لا يستقلون بشيء من دونه، ولا يفعلون إلا بمشيئته وحوله وقوته، صرح بهذا المعنى في الآية الأولى، فقال: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} [سورة الزمر آية: 42] ، وأبلغ من هذا: أنه نسب إليهم التدبير، في قوله: {فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً} [سورة النازعات آية: 5] لأنهم رسل بأمره الكوني. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 385 وأخبر بأنه المدبر الفاعل المختار، في غير آية من كتاب الله، كقوله تعالى: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ} [سورة السجدة آية: 5] ، وقوله: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ} [سورة يونس آية: 3] ، وقوله: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [سورة يونس آية: 31] إلى قوله: {وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ} [سورة يونس آية: 31] ، إلى غير ذلك من الآيات الدالات على اختصاصه تعالى بالتدبير والإيجاد. وفي الحديث القدسي: "ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي؟ فليخلقوا ذرة أو ليخلقوا شعيرة" وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ} [سورة الحج آية: 73] . وأكابر الخلق كالملائكة والأنبياء لم يدع أحد منهم أنه إله، وأنه يخلق، كما قال تعالى في حق الملائكة: {بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} [سورة الأنبياء آية: 26-27-28-29] ، وقال تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 386 إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [سورة آل عمران آية: 79-80] ، فأخبر أن اتخاذهم أربابا كفر بعد الإسلام. وأيضا: فآخر الآية، وهو قوله تعالى: {قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً} [سورة مريم آية: 21] ، وهو الذي قدره وقضاه؛ كل هذا يرد على المبطل. فتفطن - هداك الله - للأدلة على تفرده سبحانه بالخلق والإيجاد والتدبير، لا يحيط بها إلا الله سبحانه، وله في كل شيء آية تدل على أنه واحد. وأما كونهم لا يشهدون الجمعة والجماعة، ولا يسلمون ولا يردون السلام، فهم بذلك مخالفون لأهل السنة والجماعة من سلف الأمة وأئمتها ; ولو وجد في الإمام من الفجور ما لا يخرجه عن الإسلام، فأهل السنة يصلون خلف أهل الأهواء، إذا تعذرت الجمعة خلف غيرهم؛ وإن كانوا يرون كفر من لا يوافقهم على أهوائهم، فهم من جنس الخوارج الذين وردت فيهم الأحاديث الصحيحة، بأنهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، وأنهم كلاب أهل النار. وصلى الله على سيد ولد آدم، وعلى آله وأصحابه، الذين جاهدوا في الله حق جهاده، آمين، والحمد لله على التمام وحسن الختام. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 387 وقال الشيخ: عبد اللطيف بن الشيخ عبد الرحمن بن حسن، رحمه الله تعالى، ردا على البولاقي: تبسم وجه النصر في طالع السعد ... وأشرق نور الحق من كوكب الرشد وأيد نظم للأمير محمد ... فأدبر نحس للطوالع بالصد وخر على الأذقان من صنع ماهر ... بناء بناه الناكبون عن القصد وولى على الأعقاب أفجر عائب ... يرى نفسه فردا أشد من الأسد جهول ببولاق المعرة جهله ... صريح ينادي بالتهافت في العقد يحوم مع الغربان يطلب رشده ... وقد ضل من كان الغراب له يهدي وقد جئت من رد عليه بمنطق ... عميم فخذ بالعلم عن كل مستهد وألق سماعا للجواب ولا تكن ... جهولا يروم الباب من جانب السد فأما تمني الشيخ في النظم قربهم ... على أنه كفؤ المخالف والضد فتلك أماني الجبان فإنه ... إذا ما خلا سل المهند عن غمد وإن كشفت عن ساقها الحرب خلته ... نعامة طير تحذر الصوت من بعد ووالله لو أن الديار تقاربت ... عرفت قصورا أمنك في العلم والرشد وعدت حسير الطرف عودة خاسئ ... يرى مغنما أن لا يقاد إلى القد ومنعك إنكار الطوائف قوله ... مكابرة لو يعلم الحق من يبدي فكم لامهم في نصرة الدين لائم ... كمثلك جهلا بالمحجة والقصد ودعواك أن القوم قالوا لمذنب ... بشيء من المكروه أسلم كمرتد وتكفيرهم من لا يجيب دعاءهم ... وإطلاق كفر المذنبين مع الصد فذا فرية لا يمتري فيه عاقل ... ولكنه الإفلاس يدعوك للجحد الجزء: 12 ¦ الصفحة: 388 وأن من ملوك القوم من صد فرقة ... عن البيت روما للصيانة عن جهدي فقد قام أهل العلم بالغزو جهرة ... وما صدهم أخذ الجوائز كالضد وقولك في شرك المشاهد آية ... على الجهل ذي التركيب بالحق والرشد وها هو ما قد قال فيكم مشاهد ... وقيدك بالأرباب في الشرك لا يجدي ففي لفظة الرب اشتراك مقرر ... فسل عنه أهلا للإصابة من نجد فمنه مليك خالق ومدبر ... كذا السيد المعبود والمنعم المسدي فأي المعاني قد أردت فإنني ... مشوق بتوضيح الأدلة من مهدي فإن كنت تنفي نوع ذلك كله ... لغير إله الحق في سائر البلد ولكنكم عند القبور دعاكم ... تحري بقاع الصالحين ذوي المجد فذا ظاهر البطلان يعلم رده ... على أنه زور من الفعل في النقد فما شرع الله العبادة عندها ... ولكن بيوت الله من كل مسجد أما صرح المختار عند مماته ... بلعن البغاة الساجدين لدى اللحد وإن كان معنى القيد أن دعاءها ... لمعتقد التأثير للواحد الفرد وذبحا ونذرا عندها واستغاثة ... تسوغ لمطلوب من الميت للرفد وهذا الذي تعني وخدنك قاله ... كأشياعه حرب الرسول ذوي الجحد تبصر تجد قبل الحواميم رده ... وبعد الطوال السبع والحق مستبد وأين أبو جهل وأجلاف قومه ... من القول بالتأثير يا شيخ للند ولكنهم ضلوا بوهم شفاعة ... دهاك بها أشقى البرية ذو الطرد وما قيل في المختار من بعد بعثه ... وفعل مع العباس وابن الأسود الجزء: 12 ¦ الصفحة: 389 فذاك دليل صادم لمقالكم ... ولكنكم عن فهم ذا الحق في بعد فأين سؤال العبد ما لا يطيقه ... من السؤال في الميسور من طاقة العبد ولو كان ما قد قيل حقا وجائزا ... لما عدل الفاروق للعم في الجهد ولكن ذا ينفي الذي قد زعمتم ... وبالعلم حزنا رتبة الفضل والمجد وزعمك أنه ليس يقضي بهدمها ... لديك غلو الزائغين عن الرشد وقيدك منع الرفع في الوقف زلة ... لشيخ مضى من قبل في غابر العهد وأغرب من ذا في الضلالة قائس ... على خوخة الصديق ذي السبق للحمد تروم به رفع القباب معمما ... بوقف وملك في المقابر واللحد فأبد موازين الأصول وزن بها ... إذا رمت تحقيق المسائل في الرد وأظهر لنا شرط القياس لديهم ... لتعرف بالمقياس يا واحد البلد فخوخة صديق سبيل لمسجد ... به اختص أولى الصحب بالفخر والمجد وأما قباب السوء فهي ذرائع ... إلى الشرك بالمعبود والجعل للند فهل يستوي حكم القباب وخوخة ... وما اشتركا في جامع عندهم مجد وفي مسلم أن الرسول مصرح ... بهدم القبور المشرفات وبالهد وذا مبطل حكم القياس وإن جرى ... على شرطه المعروف والمنع مستبد وإطلاق ذم المحدثات حديثه ... شهير لدى أهل الدراية والرشد وقد قلت فيه إنه لضلالة ... جزاؤك في ذا الصفع بالنعل والجلد وما قلت في المفعول بعد نبينا ... من القتل للزنديق والزيد في الحد وإرث ذوي الأرحام مع جمع مصحف ... وعول بميراث وكالحكم بالرد الجزء: 12 ¦ الصفحة: 390 فذا داخل في الدين ليس بمحدث ... بنص رسول الله أفصح من يهدي وترغيبنا في الاجتهاد هداية ... عن السلف الأعلام من كل مستهد فأحمد والنعمان قالا ومالك ... وقول ابن إدريس يقرره المهدي وإيجاب تقليد الأئمة ما له ... دليل يفيد الحق صرفا لدى النقد وكم رد أصحاب الأئمة عنهم ... مذاهب يدريها الخبير بما أبدي وما قال في حق الإمام ابن ثابت ... مقالا يبيح العيب فضلا عن الهندي ولكنه يحكى الذي شاع عندهم ... من القول في المنبوذ فاعلمه للفرد وما فاه في حب سواه بسوءة ... سوى أنهم كالناس في الحل والعقد وفي المنع للتقليد فاعلمه للذي ... تمكن في المنقول والأخذ والرد وهذا مقال ليس فيه قباحة ... ولكنكم في الزور أول من يبدي وما قال في حرق الدلائل قولة ... تقابل بالتصفيق والرقص كالقرد سوى أنه لما رأى أن جلها ... أحاديث وضع تستبين لذي النقد رأى حرقها خوفا على أهل درسها ... من الكذب الموعود مبديه بالصفد وقد صح في شأن الصلاة كفاية ... من الآي والأخبار في خير مسند وأعجب شيء أن عددت لقهوة ... مع الحرب بالبارود في بدع الضد وقد كان في الإعراض ستر جهالة ... غدوت بها من أشهر الناس في البلد فما بدع في الدين تلك وإنما ... يراد بها الأحداث من قرب العبد وبعد فما مقدار شخص سوى الذي ... يفيد من التحقيق في ساحة الرد الجزء: 12 ¦ الصفحة: 391 وها ما نهى عنه النبي وذمه ... وحقا من الدين الحنيفي في بعد لديكم شهير في الأصول وغيرها ... كمذهب جهم والمريسي والجعد وذبك عن منشي الفصوص جهالة ... بما قرر الأعلام واسطة العقد أليس الذي قد قال شر مقالة ... تزيد على قول المثلث في العد وما هكذا شطح التصوف والتي ... تقال من الزلات للعالم المهدي ولكنه كفر الفلاسفة الأولى ... أباحوا حمى التوحيد في وحدة الجحد وهبه كما قد قلت أن مقاله ... تجارى عليه الملحدون ذوو الطرد فنحن أردنا قائل الزور والذي ... على أثره يسعى ويغرب في اللد وهل عالم يخشى الإله منبها ... على زيغها أهل الجهالة في الجد ولستم بجمهور لأمة أحمد ... ولكن غثاء زائغون عن الورد وقولك في الأخرى مقالة غابر ... من الناس نحن الهود في جنة الخلد وما تلك بالدعوى وبالشطح والمنى ... ولكن بفضل الله تقسم للجند فخذها نبالا من حنيف موحد ... تمزق من سوء العقيدة ما يردي منزهة عن ذكر ليلى وقدها ... وعن وصل هند والرباب وعن دعد وعن وصف آرام نشرن ذوائبا ... مطيبة الأطراف بالمسك والورد ولكنها تحمي حمى خير معشر ... شموس الهدى أهل الإصابة من نجد ذوائب مجد من كرام قبائل ... مطهرة الأنساب عالية المجد وصل إلهي كل آن وساعة ... على السيد المختار من كل مستهد مع الآل والأصحاب والتابع الذي ... على نهجهم يسعى إلى الله بالحمد الجزء: 12 ¦ الصفحة: 392 [رسالة للشيخ إسحاق لما سأله عبد الله آل أحمد عن حكم بلدان المشركين والسفر إليها] قال الشيخ إسحاق بن الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمهم الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله ; الحمد لله الذي رضي لنا الإسلام دينا، ونصب الأدلة على صحته وبينها تبيينا، وأعان من أراد هدايته على طاعته، وكفى بربك هاديا ومعينا. من إسحاق بن عبد الرحمن بن حسن، إلى الأخ المكرم: عبد الله آل أحمد، وفقنا الله وإياه لسلوك الطريق الأحمد. أما بعد: فقد كتبت تسألني عن الصواب عندنا، في حكم بلدان المشركين، وهل يجوز السفر إليها لمن أظهر دينه؟ وما إظهار الدين الذي تبرأ به الذمة؟ وأرسلت إلي بما أملاه بعض المنتسبين في إباحة ذلك، وأنه صار عندكم مانع ومجيز، ونعوذ بالله من التفرق والاختلاف. وليس هذا بمستغرب في هذا الزمان، الذى ضعف فيه الإسلام والإيمان، وعظمت فيه الفتنة بعباد الأوثان، ومن على سبيلهم من كل منافق شيطان، حتى بلغت الشبهات من أكثر الناس كل مبلغ، فهم كما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه لكميل بن زياد: "والناس ثلاثة: فعالم رباني، ومتعلم على سبيل النجاة، وهمج رعاع، أتباع كل ناعق، يميلون مع كل صائح، لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجؤوا إلى ركن وثيق، الجزء: 12 ¦ الصفحة: 393 أو حامل حق لا بصيرة له في إحيائه، ينقدح الشك في قلبه بأول عارض من شبهة، لا يدري أين الحق، إن قال أخطأ، وإن أخطأ لم يدر، مشغوف بما لا يدري حقيقته، فهو فتنة بمن فتن به" إلى آخر كلامه هذا. والمسألة المذكورة ظاهرة - بحمد الله -، لا تخفى على من عرف أصل دين الإسلام ومبانيه، وما تضمنته شهادة أن لا إله إلا الله، أو تقتضيه ; ولأئمة هذه الدعوة في ذلك ما يشفي العليل، ويروي الغليل، مستدلين له من السمع، بما لو جمع لقارب حد التواتر المعنوي ; وهو ما حصل العلم عنده، مع ما علمتم من حالهم لما ابتلى الله بتلك العساكر المصرية. فمن حاد عن طريقهم وتخلف عن رفيقهم، فلسوء حظه في الدين، ولجناية منه على نفسه; والعجب ممن التمس الترجيح منا، وكلام هؤلاء الأئمة موجود بين يديه؛ ونحن لم نصل إلى ساحل ما حققوه وقرروه، ولم نبلغ شأوهم في ميدان ما وضحوه وحرروه، بل نحن معهم كما قيل: أما الخيام فإنها كخيامهم ... وأرى نساء الحي غير نسائها ولمثلي خاصة أن يتوقى الأجوبة عن المسائل، اكتفاء بمشائخي الأفاضل، وإخواني الأماثل; لكني لحسن ظني، وبعد السائل، أسعفك بمطلوبك، لأن للسائل حقا وإن جاء على فرس ;وإني أتوسل إلى الله بأسمائه الحسنى، وصفاته العلى أن يجمعنا على كلمة الإسلام، ويلم بها شعثنا، ويجودها الجزء: 12 ¦ الصفحة: 394 في قلوبنا حتى نلاقي الحمام. هذا واعلم: أنه بعد التسليم لحكم السنة والقرآن، ووجوب الرد إليهما على كل فرد من أفراد نوع هذا الإنسان، فقد أجمع علماء السنة أنه إذا تواطأ الكتاب والسنة وصريح العقل على إثبات حكم، فلا يمكن أن يعارض ثبوته بدليل صحيح صريح البتة. بل إن كان المعارض سمعيا كان كذبا قطعا، أو كان المعارض به أخطأ في فهمه، أو عقليا فكذلك. إذا تقرر هذا الأصل، فالسؤال عن حكم الدار، ليترتب عليه ما زعم المجيز فاسد الاعتبار، من وجهين. الأول: أن أهل العلم رتبوا حكم الهجرة، على وجود الشرك، والبدع، والمعاصي، لمن لا يستطيع إنكارها. ومن المعلوم بالضرورة: أن الشرك بالأموات والغائبين، والتعلق على الأنبياء والصالحين، بل: على المجاذيب والمجانين، قد ظهر في ديارهم شعاره، وتطاير فيها شراره، وثار فيها قتامه وغباره، وعدم فيها للتوحيد أعوانه وأنصاره، مع ما هم عليه من البدع في العبادات والاعتقادات، وأصناف المعاصي التي تشيب اللمم والنواصي. فالسؤال عن الدار: هل هي دار إسلام أم لا؟ بمعنى أن المقيم فيها، كالمقيم في بلد سالمة من ذلك، خطأ ظاهر ; وقد تقرر في عبارات أئمتنا الحنابلة وغيرهم: أنهم يوجبون الهجرة الجزء: 12 ¦ الصفحة: 395 بمشاهدة ما هو دون ذلك، حتى من بلد تظهر فيها عقائد أهل البدع، كالمعتزلة والخوارج والروافض. وقد حكى ابن العربي المالكي، عن ابن القاسم، قال: سمعت مالكا يقول: لا يحل لأحد أن يقيم بأرض يُسب فيها السلف ; وقال في "الإقناع وشرحه" - لما ذكرها -: فيخرج منها وجوبا، إن عجز عن إظهار مذهب أهل السنة فيها، فعلق الحكم بالوصف الذي هو وجود البدع، والمعاصي، لمن لا يستطيع إنكارها، لا بالدار. وإذا كان من المعلوم: أن مصر دار إسلام، فتحها عمرو بن العاص، زمن الخليفة الراشد عمر رضي الله عنه، فأين إجماع الناس على أنها دار حرب، أيام بني عبيد القداح؟! وكذلك جزيرة العرب أيام الردة، مع أن الدار دار إسلام، لا دار كافر أصلي بالإجماع. لكن لما قام بهم الوصف الذي يبيح الدم والمال، لم يكن لتسميتها دار إسلام حكم ; وصار الحكم لهذا الوصف الطارئ، تعريف على محل طاهر تلوث به المحل؛ وللشيء حكم نظيره، فكيف بما هو أقبح وأشد؟! فبطل ما طرده المجيز من التعلق باسم الدار. أما تعريف الدار من حيثية الأحكام المرتبة عليها، فإن كان المستولى عليها هو الكافر الأصلي، فيتعلق به أحكام يخالف فيها المرتد، كحكم اللقيط والأموال وغيرهما؛ وعلى هذا تفاريع الجزء: 12 ¦ الصفحة: 396 ذكرها الفقهاء، وجعل بعضهم الدار ضابطا لأشياء نوزع في بعضها. قال في التنقيح: فإن وجد اللقيط في بلد كفار حرب، لا مسلم فيه، أو فيه مسلم، كتاجر وأسير، فكافر رقيق، أي: اللقيط; فإن كثر المسلمون فمسلم؛ ومثله ما صرح به الحنابلة وغيرهم: أن البلدة التي تجري عليها أحكام الكفر، ولا تظهر فيها أحكام الإسلام بلدة كفر. وما حكاه ابن مفلح، عن الشيخ تقي الدين: أن البلدة التي تظهر فيها أحكام الكفر وأحكام الإسلام، لا تعطى حكم الإسلام من كل وجه، ولا حكم الكفر من كل وجه؛ وهو الذي عنى الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين. فإنه لما سأله الوالد - قدس الله روحه - عن حكم ما باعوه، أو وهبوه، مما استولوا عليه في نجد؟ أجاب: بأنهم مرتدون، دارهم دار إسلام، والمرتد لا يملك عند جمهور العلماء ; ونص كلامه: فهؤلاء العدو الذين استولوا على نجد، من حكمنا بكفره منهم، فحكمه حكم المرتدين، لا الأصليين، لأن دارهم دار إسلام، وحكم الإسلام غالب عليها ; هذا حاصل كلامه، وهو عندنا بخطه. ومعناه: أن الإسلام غالب عليها، بمعنى: أنا نغلب جانب الإسلام فيما استولوا عليه، فلا يملكون والحالة هذه لأنهم مرتدون، والمرتد لا يملك مال المسلم؛ فأخذ الناقل الجزء: 12 ¦ الصفحة: 397 بمطلق كلامه، ولم يفهم أصل المأخذ، فأين حكم الهجرة وفراق المشركين، المنوط بسماع الشرك والبدع، والمعاصي، ممن لا يستطيع تغييرها، من هذا، لو كانوا يعلمون؟! يوضحه: أن متأخري الشافعية، صرحوا به; قال ابن حجر، في شرح المنهاج: والظاهر أن بلد الإسلام التي استولوا عليها، لها حكم بلد الكفر، انتهى؛ فسماها دار إسلام نظرا إلى الأصل، وأعطى الطارئ حكمه. الوجه الثاني: أن المجيز علق حكم إباحة الإقامة فيما نقلت عنه، بما إذا لم يمنعوك عن واجبات دينك، مصرحا بأنها هي النطق بالشهادتين، والصلاة، والعبادات البدنية، التي يوافقك عليها المشرك في هذا الزمان; فإذا كان كذلك فالمدعى أوسع من الدليل. إذ عدم المنع من العبادات البدنية، والدعاء بداعي الفلاح موجود في أكثر أقطار الأرض، فالسؤال مطرح من أصله؛ ولعل السائل جعله بئرا في الطريق، وعلى نفسها تجني براقش، وعلينا أن نقول الحق، لا تأخذنا في الله لومة لائم، وهذا جوابنا على المسألة الأولى. وأما المسألة الثانية، وهي: ما إظهار الدين؟ فالجواب - وبالله التوفيق -: أن إظهار الدين على الوجه المطلوب شرعا، تباح به الإقامة بقيد أمن الفتنة، ولا تعارض نصوص الهجرة المنوطة بمجرد المساكنة، إذ هي الأصل; الجزء: 12 ¦ الصفحة: 398 وإبطال دليل الإباحة، ودليل التحريم، ممتنع قطعا ; فيتعين الجمع بما تقرر في الأصول، من أن العام يبنى على الخاص ولا يعارضه. وإذا كان كذلك، فلا بد من ذكر طرف منها قبل الكلام عليها. فأقول: قد دل الكتاب والسنة والإجماع، مع صريح العقل، وأصل الوضع على وجوب الهجرة من دار الشرك والمعاصي، وتحريم الإقامة فيها. أما الكتاب، فقد قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} الآيتين [سورة النساء آية: 97] ، وهذه الآية نص في وجوب الهجرة، بإجماع المفسرين ; وفيها ترتب الوعيد على مجرد المقام مع المشرك ; والقرآن إذا أناط الحكم بعلة أو وصف، فصرفه عنه من التأويل الذي رده السلف ; وقد ذم الله من أعرض عنه، فكيف بمن عارضه؟! وقد قال تعالى: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} [سورة العنكبوت آية: 56] ، قال أبو جعفر بن جرير، رحمه الله تعالى: يقول الله تعالى للمؤمنين من عباده: يا عبادي الذين وحدوني، وآمنوا برسولي، إن أرضي واسعة، لم تضق عليكم، فتقيموا بموضع منها لا يحل لكم المقام فيه؛ ولكن إذا عمل بمكان منها بمعاصي الله، فلم تقدروا على تغييره، فاهربوا منه. وساق بسنده عن سعيد بن جبير، في قوله تعالى: {إِنَّ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 399 أَرْضِي وَاسِعَةٌ} [سورة العنكبوت آية: 56] ، قال: إذا عمل فيها بالمعاصي، فاخرج منها ; وساق من طريق وكيع عن سعيد بن جبير مثله أيضا ; وعن عطاء: "إذا مررتم بالمعاصي، فاهربوا"، وعنه: مجانبة أهل المعاصي; وعن مجاهد في قوله: {إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ} [سورة العنكبوت آية: 56] ، قال: فهاجروا وجاهدوا، وذكر عن آخرين إن ما خرج: من أرضي من الرزق واسع لكم، ورجح الأول. وقال محيي السنة البغوي رحمه الله، في تفسيره: وهذه الآية نزلت في قوم تخلفوا عن الهجرة بمكة، وقالوا: نخشى إن هاجرنا من الجوع وضيق المعيشة؛ وساق كلام سعيد بن جبير وغيره، ثم قال: "ويجب على كل من كان ببلد يعمل فيها بالمعاصي، ولا يمكنه تغييرها، الهجرة إلى حيث تتهيأ له العبادة،". انتهى. فسمى تغيير المعاصي عبادة، يجب على المسلم الهجرة إذا لم تتهيأ له، وأطلق العبادة عليها من إطلاق الشيء وإرادة معظمه؛ والمعصية إذا أطلقت وأفردت لا في مقابلة ما هو أعلى، فهي عامة كما قرره شيخ الإسلام في "كتاب الإيمان"، وقرره غيره. وقال تعالى: {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ} الآية [سورة النساء آية: 100] ، ومعنى الآية: أن المهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مكانا يسكن فيه، على رغم أنف قومه الذين هاجرهم، ويجد سعة في البلاد وقيل: في الرزق، وقيل: الجزء: 12 ¦ الصفحة: 400 في إظهار الدين، أو في تبديل الخوف بالأمن، أو من الضلال إلى الهدى; فهذا تفسير التابعين ومن بعدهم، وهو الذي فهم علماء التفسير. فمن غلب الحقائق وجعلها نصا في عدم وجوب الهجرة، على من لم يمنع من عبادة ربه، التي هي فى زعمه: الصلاة، وما يتعلق بالبدن، وحمل إظهار الدين على ذلك، وفهم من قوله تعالى: {فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} [سورة العنكبوت آية: 56] ، أي: في كل مكان من دار إسلام أو كفر، فقد عكس القضية وأخطا في فهمه. والحق: أن الحكم فيها منوط بمجرد المقام مع المشركين ومشاهدة المحرمات، قال ابن كثير رحمه الله تعالى، في تفسيره على قوله تعالى: {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ} [سورة الكهف آية: 16] : وإذ فارقتموهم وخالفتموهم بأديانكم، في عبادتهم غير الله، ففارقوهم أيضا بأبدانكم؛ فحينئذ هربوا إلى الكهف. وقال في تفسير آية النساء، لما ذكر أقوال السلف في سبب نزولها: فهذه الآية عامة في كل من أقام بين ظهراني المشركين، وهو قادر على الهجرة، وليس متمكنا من إقامة الدين، فهو ظالم لنفسه، مرتكب حراما بالإجماع، وبنص هذه الآية، حيث يقول: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} [سورة النساء آية: 97] ، أي: بترك الهجرة {قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ} [سورة النساء آية: 97] ، أي: لم مكثتم ها هنا، وتركتم الهجرة؟ {قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ} الآية [سورة النساء آية: 97] . انتهى. وقال الحنفي، في تفسيره: وأمر الهجرة حتم، ولا توسعة الجزء: 12 ¦ الصفحة: 401 في تركها، حتى إن من تبين اضطراراه - يعني من هو مستضعف - حقه أن يقول: عسى الله أن يعفو عني، فكيف بغيره؟ انتهى ملخصا. قلت: واستثناء المستضعفين في هذه الآية، يبطل دعوى من قصر إظهار الدين على مجرد العبادة، لأنه إذا حمل على ذلك، فقد تساوى المستثنى والمستنى منه، إذ هو مناط الرخصة في زعم المجيز؛ ولا يتصور في المستضعف أنه يترك عبادة ربه، فما فائدة تعلق الوعيد بالقادر على الهجرة، دون من لم يقدر؟ وقد علم أن الاستثناء معيار العموم. فإن قلت: الفائدة فيه أمن الفتنة، وتكثير سواد المسلمين، والجهاد معهم، قلنا: هذا من فوائد الهجرة، لكن قصرها عليه من القصور، لأن مثل هذا، وإن كان مأمورا به، فلا يحتمل هذا الوعيد الشديد. وقد تكون أسباب الحكم الواحد متعددة، وبعضها أعظم من بعض، كما قال تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ} الآية [سورة المائدة آية: 91] ، فهذه أسباب المنع، وكل سبب منها مستقل بالحكم. وقد تحتم المنع من هذا المحرم إلى قيام الساعة، وإن لم توجد الأسباب؛ فلو ادعى أحد أن الخمر لا يسكره، ولا يصده عن طاعة الله، ولا يوقع عداوة، فإنه لا يسلم له ذلك; فعلم الجزء: 12 ¦ الصفحة: 402 أنه لا مفهوم للفظ "الفتنة" لتحتم المنع المنوط بسماع الشرك، في الآيات المحكمات، وفي حديث من لا ينطق عن الهوى. فمن حمل الآيات والأحاديث، على من فتنه المشركون خاصة، فقد قصر; بل أمن الفتنة قيد إباحة الإقامة لمن أظهر دينه، وصرح بمخالفة ما هم عليه؛ والتنصيص على بعض أفراد العام، معروف في تفسير السلف، لا يقتصر عليه إلا جاهل. ولما ذكر الحافظ بن حجر، خصوص السبب، قال: وكذلك المفارقة بسبب فيه صالحه، كالفرار من دار الكفر، وساق كلاما حسنا، ورد على الطيبي قوله: فانقطعت الأولى وبقيت الأخريان، حماية لجناب النصوص. وقال الحافظ بن رجب، في شرح الأربعين: فمن هاجر إلى دار الإسلام، حماية لله ورسوله، ورغبة في تعلم دين الإسلام، وإظهارا لدينه، حيث يعجز عنه في دار الشرك، فهو المهاجر حقا، انتهى كلامه. والدين كلمة جامعة لخصال الخير، أعلاها وأغلاها التوحيد ولوازمه; فمن قصره على العبادات التي يوافق فيها المشرك، بل يواليك عليها، فقد أخطأ. وأما الأحاديث فكثيرة جدا، منها: ما رواه أبو داود والحاكم، عن سمرة مرفوعا: " من جامع المشرك أو سكن معه فهو مثله "1، ولفظ الحاكم "وساكنهم أو جامعهم فليس منا" وقال: صحيح على شرط البخاري.   1 أبو داود: الجهاد 2787. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 403 ومنها: ما رواه أبو داود والنسائي، والترمذي عن جرير بن عبد الله مرفوعا: " أنا بريء من مسلم يقيم بين ظهراني المشركين، لا تراءى ناراهما " 1 رواه ابن ماجه أيضا، ورجال إسناده ثقات، وهو إن صح مرسلا، فهو حجة من وجوه متعدده، يعرفها علماء أصول الحديث; منها: أن المرسل إذا اعتضد بشاهد واحد، فهو حجة. وقد اعتضد هذا الحديث بأكثر من عشرين شاهدا، وتشهد له الآيات المحكمات، مع الكليات من الشرع، وأصول يسلمها أهل العلم; ومنها: حديث جرير الذي رواه النسائي وغيره: (أنه بايع النبي صلى الله عليه وسلم أن يعبد الله، ويقيم الصلاة، ويؤتي الزكاة، ويفارق المشركين) ; وفي لفظ: (وعلى فراق المشركين) ; ولو لم يكن إلا هذا الحديث لكفى، لتأخر إسلام جرير. ومنها: ما روى الطبراني والبيهقي، عن جرير موفوعا: "من أقام مع المشركين فقد برئت منه الذمة"، قال المناوي: حديث حسن، يقصر عن رتبة الصحيح، وصححه بعضهم. ومنها: ما رواه النسائي وغيره، من حديث بهز بن حكيم، عن أبيه عن جده مرفوعا: " لا يقبل الله من مشرك عملا بعد ما أسلم، أو يفارق المشركين " 2. ومنها: ما رواه النسائي وغيره، عن أبي سعيد رضي الله عنه مرفوعا: " لا تنقطع الهجرة ما قوتل الكفار " 3، وفي معناه حديث معاوية: " لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة " 4 الحديث،   1 الترمذي: السير 1604 , والنسائي: القسامة 4780 , وأبو داود: الجهاد 2645. 2 النسائي: الزكاة 2568. 3 النسائي: البيعة 4172. 4 أبو داود: الجهاد 2479 , وأحمد 4/99 , والدارمي: السير 2513. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 404 وما رواه سعيد بن منصور وغيره: " لا تنقطع الهجرة ما كان الجهاد " 1. ففي هذه الأحاديث مع تباين مخارجها، واختلاف طرقها، هيئة اجتماعية يقطع معها بهذا الحكم العظيم، الذي هو من أعظم مصالح الشريعة. قال أبو عبد الله الحليمي في المجالس، وهو من أجل علماء الشافعية، وأئمة الحديث في وقته، وهو في طبقة الحاكم، لما ذكر بقاء الهجرة، قال: إنها انتقال من الكفر إلى الإيمان، ومن دار الحرب إلى دار الإسلام، ومن السيئات إلى الحسنات، وهذه الأشياء باقية ما بقى التكليف. وقال الحافظ ابن حجر في الفتح: وقد أفصح ابن عمر بالمراد، فيما ذكره الإسماعيلي، بلفظ: (انقطعت الهجرة بعد الفتح إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تنقطع ما قوتل الكفار) ، أي: ما دام في الدنيا دار كفر، انتهى. وكلام أئمة المذهب في ذلك في غاية الوضوح والقوة، قال في الشرح الكبير: وحكم الهجرة باق لا ينقطع إلى يوم القيامة، لحديث معاوية، وما رواه سعيد بن منصور وغيره، مع إطلاق الآيات، والأخبار الدالة عليها، وتحقق المعنى المقتضي لها في كل زمان ومكان. وأما الإجماع على تحريم الإقامة بين ظهراني المشركين، فحكاه الحافظ بن كثير، ولم ينازع في ذلك أحد فيما نعلم، وقد   1 أحمد 4/62. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 405 تقدم، وقال ابن هبيرة في الإفصاح: واتفقوا، يعني: الأربعة على وجوب الهجرة من ديار الكفار إن قدر على ذلك. وأما ما يدل على ذلك لغة ووضعا، فأصل الهجرة: الترك، والهجرة إلى الشيء الانتقال من غيره إليه، ويؤخذ من لفظ العداوة، لأنها وضعت للمجانبة والمباينة; لأن أصل العداوة: أن تكون في عدوة، والعدو في أخرى; وأصل البراءة: الفراق والمباينة أيضا، مأخوذ من براه إذا قطعه; قال الحافظ في الفتح: والعداوة تجر إلى البغضاء، انتهى. فعلم: أن العداوة سبب للبغضاء ووسيلة; وبغض الكافر مشروط في الإيمان، محبوب إلى الرحمن، فكانت مطلوبة، لأن وسيلة المطلوب المحبوب مطلوبة محبوبة، فاتفق الشرع والوضع على هذه الشعبة، التي هي من أعظم شعب الإيمان. وأما وجوب الهجرة، وفراق المشركين عقلا، فلأن الحب أصل كل عمل من حق وباطل؛ ومن علامة صدق المحبة: موافقة المحبوب فيما أحب وكره، ولا تتحقق المحبة إلا بذلك؛ ومحال أن توجد المحبة مع ملاءمة أعداء المحبوب، هذا مما لا تقتضيه المحبة؛ فكيف إذا كان قد حذرك من عدوه الذي قد طرده عن بابه، وأبعده عن جنابه، واشترطه عليك في عهده إليك، هذا والله مما لا يسمح به المحب، ولا يتصوره العاقل. متى صدقت محبة من يراني ... من الأعداء في أمر فظيع فتسمح أذنه بسماع شتمي ... وتسمح عينه لي بالدموع الجزء: 12 ¦ الصفحة: 406 إذا تقرر ذلك، فالكلام على إظهار الدين الذي هو مقصود السؤال، والذي قد وقع فيه الإشكال في مقامين: الأول: وهو أعلاها، الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة؛ وقد تقدم بعض التنبيه عليه، فيما نقله ابن جرير وغيره من السلف، ويأتيك له مزيد بسط، في كلام الحنابلة والشافعية وغيرهم، وإليه يومئ كلام الماوردي رحمه الله. الثاني: الامتياز عن عبادة الأوثان والأصنام، وتصريح المسلم بما هو عليه من دين الإسلام، والبعد عن الشرك ووسائله، وهو دون الأول. فاصغ سمعك لبرهان هذين المقامين، لعل الله أن ينفعك به. واعلم: أن الدين كلمة جامعة لخصال الخير، وأعلاها التوحيد، كما تقدم؛ وهو على القلب بالاعتقاد، والصدق والمحبة، وعلى اللسان بتقريره وتحقيقه والدعوة إليه واللهجة به، وعلى الجوارح بالعمل بمقتضاه، والسعي في وسائله والبعد عن مضاده. قال الوالد رحمه الله، في رسالته لأهل الأحساء: فإن الإنسان لا يصلح له إسلام ولا إيمان، إلا بمعرفة هذا التوحيد، وقبوله، ومحبته، والدعوة إليه، وتطلب أدلته، واستحضارها ذهنا وقولا وطلبا ورغبة; انتهى بحروفه. وقد أوضح ذلك القرآن أي إيضاح، وضمن لمن قام به ودعا إليه، وصبر عليه، السعادة والفلاح; قال تعالى: {وَأَنْ أَقِمْ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 407 وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [سورة يونس آية: 105] ، وقال تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ} [سورة الشورى آية: 13] . فقوله تعالى: {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ} [سورة الشورى آية: 13] أمر عام، وقد اقتبسه العماد ابن كثير فيما تقدم من قوله: وليس متمكنا من إقامة الدين. وقال تعالى: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَالْعَصْرِ إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْر إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [سورة العصر آية: 1-2-3] ؛ فأقسم سبحانه بالعصر - وهو الزمن أو الوقت - على خسران جميع هذا النوع الإنساني، إلا من استثنى، وهم الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وتواصوا بالحق، بأن دعوا إليه وصبروا على الأذى فيه؛ وهذا أصل الأصول، وهو طريق الرسول; والصلاة وسائر العبادات فروعه. وقال تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [سورة الممتحنة آية: 4] . ففي هذه الآية أعظم دلالة: على أعلى مقامات إظهار الدين، لأن الله بين هذا الحكم العميم، وأكد هذا المشهد العظيم، الجزء: 12 ¦ الصفحة: 408 الذي هو مشهد الأسوة بالأنبياء والرسل، معبرا بصيغة الماضي، وبقد التحقيقية الدالة على لزوبه، ولزومه على البرية، ووصفه بالحسن، وضد الحسن القبيح; وأزال دعوى الخصومة بقوله: {وَالَّذِينَ مَعَهُ} [سورة الممتحنة آية: 4] ، ترغيبا في معية أوليائه. ثم صرح: بأنها هي القول باللسان، مع العداوة، والبغضاء; خلافا لمن قال: أبغضهم بقلبي، وأتبرأ من العابد والمعبود جميعا; وقدّم البراءة من العابد، تنويهاً بشناعة فعله، ثم أعادها بلفظ آخر أعم من البراءة، وهو قوله: {كَفَرْنَا بِكُمْ} [سورة الممتحنة آية: 4] ، أي: جحدناكم، وأنكرنا ما أنتم عليه; وكشف الشبهة بقوله: {وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ} [سورة الممتحنة آية: 4] . ومعنى: {وَبَدَا} [سورة الممتحنة آية: 4] ، ظهر؛ وقرن بين العداوة والبغضاء إشارة إلى المباعدة والمفارقة، بالباطن والظاهر معا، وأكد العداوة، وأيدها بقوله: {أَبَداً} [سورة الممتحنة آية: 4] ، معبرا بالظرف الزماني المستقبل المستمر، إلى غاية وهي الإيمان، وأتى بحتى الغائية، الدالة على مغايرة ما قبلها لما بعدها، المعنى: إن لم تؤمنوا فالعداوة باقية. وقال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ?لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} [سورة الكافرون آية: 1-2] ، إلى أخر السورة، أمر الله تعالى نبيه أن يخاطبهم بأنهم كافرون، وأن يخبرهم أنه لا يعبد ما يعبدون، أي: أنه بريء من دينهم; ويخبرهم أنهم لا يعبدون ما يعبد، أي: أنهم بريئون من التوحيد. وقال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي الجزء: 12 ¦ الصفحة: 409 يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [سورة يونس آية: 104-105] . والآيات في بيان الدعوة إلى الله، ومباينة المشركين، والبعد عنهم، وجهادهم بالحجة واللسان، والسيف والسنان، كثيرة جدا؛ وهذا المقام العظيم، للنفس فيه مغالطات، وللشيطان فيه ركضات، قد غلط فيه أكثر الناس، وأشكل أمره حتى على العباس. فتدبر القرآن إن رمت الهدى ... فالعلم تحت تدبر القرآن قال العلامة ابن القيم، رحمه الله تعالى، على قوله: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ?وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [سورة الزخرف آية: 26-27-28] أي: هذه الموالاة لله، والمعادة التي هي معنى شهادة أن لا إله إلا الله، باقية في عقبه، يتوارثها الأنبياء وأتباعهم إلى يوم القيامة، انتهى ملخصا. وهو من تفسير الشيء بلازمه؛ والمعاداة والموالاة، من باب المفاعلة الدالة على المشاركة، كالمبايعة والمقاتلة والمعاهدة; المعنى: أن كلا منهما أظهر العداوة للآخر، واشتركا فيها، لأن الاشتراك هو الأصل، كما هو معلوم عن علماء الصرف، وليس مع المنازع ما يدفع هذه الآيات المحكمات، والقواطع البينات، إلا دعوى الخصوصية، وأنى له ذلك؟! وقد قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 410 بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [سورة آل عمران آية: 110] ، وقال تعالى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [سورة الأعراف آية: 165] . وفي الحديث الصحيح: " لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم، إلى يوم القيامة " 1. وقد هاجر جعفر وأصحابه إلى الحبشة؛ وتسمى هجرة الانتقال عن دار الخوف، وصبروا على الغربة وفراق الوطن، ومجاورة غير الشكل، وما ذاك إلا لأجل هذه البراءة، والتصريح بما هم عليه من الدين. "ولما قالت قريش لابن الدغنة، بعد إرجاعه أبا بكر إلى مكة، وإجارته إياه: مره أن يعبد ربه بداره ولا يستعلن، فإنا نخشى أن يفتن نساءنا وأبناءنا، أبى إلا الاستعلان بالقرآن، ونبذ إلى ابن الدغنة ذمته، ورضي بجوار الله. ولم يزل على ذلك إلى أن هاجر" والقصة مشهورة مبسوطة في دواوين الإسلام. فمن كان بهذه المثابة، داعيا إلى الله، ناهيا عن المنكر، أو مصرحا بما هو عليه، بحيث أن يرجى بإقامته هداية غيره، فمقامه - والحالة هذه – جائز؛ وقد نوزع الماوردي، في إطلاق الأفضلية في حقه، فإنه قال الشوكاني لما ذكره: ولا يخفى ما في هذا الرأي، من المصادمة لأحاديث الباب ويأتيك باقي   1 البخاري: المناقب 3641 , ومسلم: الإمارة 1037. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 411 الكلام عليه، في الجواب عن المعارضة، إن شاء الله تعالى. وقال ابن القيم، رحمه الله في "البدائع" على قوله: {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [سورة آل عمران آية: 28] إلى قوله: {إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} [سورة آل عمران آية: 28] : ومعلوم أن التقاة ليست بموالاة، ولكن لما نهاهم عن موالاة الكفار، اقتضى ذلك معاداتهم والبراءة منهم، ومجاهرتهم بالعداوة في كل حال، إلا إذا خافوا من شرهم، فأباح لهم التقية، وليست التقية موالاة لهم، فهو إخراج من متوهم غير مراد، انتهى كلامه. فانظر إلى قوله: والبراءة منهم، ومجاهرتهم بالعداوة في كل حال، وأن الاستثناء منقطع، وعليه فالتقية ليست من الركون، ولا حجة فيها لمفتون، بل هي إباحة عارضة لا تكون إلا مع خوف القتل، كما قاله أكثر المفسرين، وعن سعيد بن جبير: (لا تكون التقية في سلم إنما هي في الحرب) . وقد بنى العلامة ابن قدامة، وابن أبي عمر وغيرهما، كالحافظ وغيره حكم الإباحة على مقدمتين: إظهار الدين، وأداء الواجبات; والحكم إذا علق بوصفين لم يتم بدونهما، خصوصا إذا أعيدت الأداة، وتكررت الصيغة; وقد أعيدت الأداة وتكررت، وأعيدت الصيغة هنا، حيث قالوا: ولا يمكنه إظهار دينه، ولا يمكنه إقامة واجبات دينه، وهذا يدل على أن لكل جملة معنى غير الذي للأخرى. ولو كان إظهار الدين هو أداء الواجبات البدنية فقط - كما الجزء: 12 ¦ الصفحة: 412 فهم المجيز - لما طابق مقتضى الحال، وحاشا الأئمة من ذلك; فالفهم فاسد والمحصل كاسد; نعم: لو سلمنا أن إظهار الدين هو أداء الواجب، فأوجب الواجبات: التوحيد وما تضمنه، وهو أوجب من الصلاة وغيرها؛ وهو الذي ما زالت الخصومة فيه، وهذا اللفظ يصدق عليه. فإظهاره هو الإعلان بمباينة المعتقد، والبعد عن ضده، دع الدعوة إليه فإنه أمر وراء ذلك؛ فلو استقل الحكم بما زعمه المجيز - هداه الله - من أن العلة عدم المنع من العبادة، لبقيت نصوص الشارع عديمة الفائدة، لأنه لا يمنع أحد من فعل العبادات الخاصة في أكثر البلاد، فبطل ما زعمه وسقط ما فهمه. قال شيخنا العلامة عبد اللطيف، رحمه الله، في بعض رسائله: قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله، في المواضع التي نقلها من السيرة: فإنه لا يستقيم للإنسان إسلام - ولو وحد الله وترك الشرك - إلا بعداوة المشركين، والتصريح لهم بالعداوة والبغضاء. قال: فانظر إلى تصريح الشيخ، بأن الإسلام لا يستقيم إلا بالتصريح لهم بالعداوة والبغضاء، وأين التصريح من هؤلاء المسافرين؟! والأدلة من الكتاب والسنة ظاهرة متواترة على ما ذكره الشيخ، وهو موافق لكلام المتأخرين في إباحة السفر لمن أظهر دينه، ولكن الشأن كل الشأن في إظهار الدين؛ وهل اشتدت العداوة بينه صلى الله عليه وسلم وبين قريش، إلا لما كافحهم بسبب دينهم، وتسفيه أحلامهم، وعيب آلهتهم. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 413 وأي رجل تراه يعمل المطي جادا في السفر إليهم واللحاق بهم، حصل منه أو نقل عنه ما هو دون هذا الواجب؟! والمعروف المشتهر عنهم ترك ذلك كله بالكلية، والإعراض عنه، واستعمال التقية والمداهنة؛ وشواهد هذا كثيرة، إلى أن قال: حتى ذكر جمع بتحريم القدوم إلى بلد تظهر فيها عقائد المبتدعة، كالخوارج والمعتزلة والرافضة، إلا لمن عرف دينه في هذه المسائل، وعرف أدلته وأظهره عند الخصم، انتهى كلامه. فانظر إلى قوله: وأنه لا يستقيم الإسلام إلا بالتصريح بالعداوة، يعني: أن الإسلام ناقص وصاحبه معرض للوعيد; وانظر إلى قوله: والأدلة عليه من الكتاب والسنة متواترة، أي: على وجوب التصريح، وإلا فالعداوة لا يخلو منها من يؤمن بالله ورسوله، ففرق بين العداوة وإظهار العداوة؛ ومن هنا غلط من غلظ حجاب طبعه ولم يعرف المفهوم من التخاطب ووضعه. وكلام الشيخ هذا، هو صريح كلام السلف قديما وحديثا، كما قدمنا لك عن سعيد بن جبير، وعطاء ومجاهد، ومن بعدهم؛ وقد مر بك صريحا في كلام ابن القيم، رحمه الله وغيره، وفي قصة خالد مع مجاعة، حين أسره دلالة ظاهرة، فإنه قال له: قد أسلمت وبايعت النبي صلى الله عليه وسلم وأنا اليوم على ما كنت عليه أمس، فإن يكن كذابا خرج فينا، فإن الله يقول: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [سورة الأنعام آية: 164] . وقول خالد له: "تركت اليوم ما كنت عليه أمس، وكان الجزء: 12 ¦ الصفحة: 414 سكوتك إقرارا له، فهلا أبديت عذرا وتكلمت فيمن تكلم؟ فقد تكلم فلان وفلان; فإن قلت: أخاف قومي فهلا عمدت إلي أو بعثت إلي رسولا، فخصمه خالد، فطلب العفو فعفا عن دمه"، والقصة مشهورة. قال الإمام الحافظ أبو بكر البيهقي في شعب الإيمان، ما نصه: فالظاهر منها، أي: من الهجرة هو الفرار بالجسد من الفتن، لقوله صلى الله عليه وسلم "أنا بريء من أهل ملتين تتراءى ناراهما"، فتبرأ النبي صلى الله عليه وسلم منهم، لتخلف شعبة الهجرة عنهم، إذ هي من أعظم شعب الإيمان، ولقوله صلى الله عليه وسلم وقد ذكر الفتن: " لا يسلم لذي دين دينه، إلا من فر من شاهق إلى شاهق "، وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} الآيتين [سورة النساء آية: 97] . وفي البخاري: والفرار من الفتن من الإيمان، فما كان من الإيمان فهو من شعبه بلا شك؛ فالفرار ظاهر من بين ظهراني المشركين، واجب على كل مسلم، وكذلك كل موضع يخاف فيه من الفتنة في الدين من ظهور بدعة، أو ما يجر إلى كفره في أي بلد كان من بلاد المسلمين، فالهجرة منها واجبة إلى أرض الله الواسعة. وكلام أبي عبد الله الحليمي في هذا المقام واضح، فإنه قال: وكل بلد ظهر فيها الفساد، وكانت أيدي المفسدين أعلى من أيدي أهل الصلاح، وغلب الجهل، وسمعت الأهواء فيهم، الجزء: 12 ¦ الصفحة: 415 وضعف أهل الحق عن مقاومتهم، واضطروا إلى كتمان الحق، خوفا على أنفسهم من الإعلان، فهو كمكة قبل الفتح في وجوب الهجرة منها، لعدم القدرة عليها؛ ومن لم يهاجر فهو من السَّمحَاء بدينه. وقال: ومن الشح بالدين أن يهاجر المسلم من موضع لا يمكنه أن يوفي الدين فيه حقوقه إلى موضع يمكنه فيه ذلك؛ فإن أقام بدار الجهالة ذليلا مستضعفا، مع إمكان انتقاله عنها، فقد ترك فرضا في قول كثير من العلماء، لقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} الآيتين [سورة النساء آية: 97] ؛ لا يقال ليس في الآية تصريح بذكر المؤمنين، فيجوز أن يكون المراد بها الكافر، لأنا نقول: ذكر العفو عمن استثنى يرد ذلك، فإن الله لا يعفو عن الكافرين، وإن عزم على الإيمان ما لم يؤمن، انتهى. وهو صريح في بيان المقصود; بهذا كله تعرف أن من عبر من أهل العلم بأمن الفتنة، أو القدرة على أداء الواجبات، أو إطلاق لفظ العبادة، فكلامه مجمل، يرد إلى صريح الظاهر الذي قد قال به السلف الصالح من سلف هذه الأمة وأئمتها، ممن قدمنا ذكرهم وغيرهم. وقد ذكر صاحب المعتمد - وهو من أجلاء الشافعية - أن الهجرة كما تجب من دار الشرك، تجب من بلد إسلام أظهر بها حقا، أي: واجبا ولم يقبل منه، ولا قدرة له على إظهاره; وهو موافق لقول البغوي الذي قدمنا: يجب على من كان ببلد الجزء: 12 ¦ الصفحة: 416 يعمل فيها بالمعاصي، ولا يمكنه تغييرها، الهجرة إلى حيث تتهيأ له العبادة، نقله عنهما ابن حجر في شرح المنهاج. وقال به جمع من الشراح، منهم: الأذرعي والزركشي، وأقروه؛ ومن متأخريهم البلقيني، ذكر ابن حجر أنه صرح به، وبأن شرط ذلك: أن يقدر على الانتقال إلى بلد سالمة من ذلك; فإظهار الدين هو ما صرح به هؤلاء الأئمة، وكلامهم لا يختلف فيه; والقول بأن الشارع رتب الوعيد على مجرد المساكنة والمجامعة، هو الذي يعطيه ظاهر الدليل، وقد قال به طائفة من أهل العلم; والقول بأن إظهار الدين يبيح الإقامة، رخصة; ومن الجناية على الشرع: أن تفسر هذه الرخصة بما يوافق الرأي والهوى، ثم يدفع به في نحر النصوص الواضحة البينة; وأما متأخرو الحنابلة فكلامهم في الباب أشهر من نار على علم. قال في الإقناع وشرحه: وتجب الهجرة على من يعجز عن إظهار دينه بدار الحرب، وهو ما يغلب عليها حكم الكفر، زاد جماعة وجزم في المنتهى أو بلد بغاة، أو بدع مضلة، كالرافضة والخوارج، فيخرج منها إلى دار أهل السنة وجوبا، إن عجز عن إظهار مذهب أهل السنة فيها. فعلم: أن إظهار الدين في عبارة الموفق ومن قبله ومن بعده من الأصحاب، هو: إظهار التوحيد الذي هو إفراد الله بالعبادة، في بلد يخفى فيه، بل يجعل ضده هو الدين؛ ومن تكلم به هو الوهابي الخارجي، صاحب المذهب الخامس، الذي يكفر الأمة. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 417 وقال الشيخ العلامة، حمد بن عتيق: وأما مسألة إظهار الدين، فكثير من الناس قد ظن أنه إذا قدر أن يتلفظ بالشهادتين، وأن يصلي الصلاة ولا يرد عن المساجد، فقد أظهر دينه، وإن كان ببلد المشركين؛ وقد غلط في ذلك أقبح الغلط. قال: ولا يكون المسلم مظهرا للدين، حتى يخالف كل طائفة بما اشتهر عنها، ويصرح لها بعداوته؛ فمن كان كفره بالشرك فإظهار الدين له، أن يصرح بالتوحيد والنهي عن الشرك، والتحذير منه؛ ومن كان كفره بجحد الرسالة، فإظهار الدين عنده التصريح عنده، بأن محمدا رسول الله؛ ومن كان كفره بترك الصلاة، فإظهار الدين عنده بفعل الصلاة. ومن كان كفره بموالاة المشركين، والدخول في طاعتهم، فإظهار الدين التصريح بعداوته وبراءته منه، ومن المشركين.. إلى آخر كلامه رحمه الله تعالى; وقد مر لك هذا صريحا في كلام الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، في المواضع التي نقلها من السيرة، وسماه العلامة عبد اللطيف واجبا، قال فيه: وأي رجل نقل عنه، ما هو دون هذا الواجب؟! فالحاصل هو ما قدمناه من أن إظهار الدين الذي تبرأ به الذمة، هو الامتياز عن عباد الأوثان بإظهار المعتقد، والتصريح بما هو عليه، والبعد عن الشرك، ووسائله؛ فمن كان بهذه المثابة إن عرف الدين بدليله، وأمن الفتنة، جاز له الإقامة، والله أعلم. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 418 بقي مسألة العاجز عن الهجرة ما يصنع؟ قال الوالد رحمه الله، لما سئل عنه: وأما إذا كان الموحد بين ظهراني أناس من المبتدعة والمشركين، ويعجز عن الهجرة، فعليه بتقوى الله، ويعتزلهم ما استطاع، ويعمل بما وجب عليه في نفسه، ومع من يوافقه على دينه، وعليهم أن يصبروا على أذى من يؤذيهم في الدين؛ ومن قدر على الهجرة وجبت عليه، وبالله التوفيق؛ انتهى جوابه، وبه انتهى الجواب عن المسألة، وبالله التوفيق. وأما المسألة الثالثة، وهي مسألة السفر إلى أوطانهم، ففرع عما تقدم، فمن حرم الإقامة بين أظهرهم إلا بشروطها حرم السفر، ولكن ليس كمن أقام بين ظهراني المشركين، يشهد ما هم عليه من الكفر الجلي البواح، والحكم بالقوانين، ورد الأحكام الشرعية، وغير ذلك مما لا يحصى، بل لكل درجات مما عملوا؛ فذنب المسافرين أخف من ذنب المقيمين، وذنب المقيمين فقط، أخف من ذنب من تولاهم بالمحبة والنصرة والطاعة، مما هو بنص القرآن مناف للإيمان. قال في الإقناع وشرحه: وتكره التجارة والسفر إلى أرض العدو، وبلاد الكفر مطلقا، أي: مع الأمن والخوف، وإلى بلاد الخوارج، والروافض، والبغاة والبدع المضلة، لأن الهجرة منها لو كان فيها، مستحبة إن قدر على إظهار دينه، وإن عجز عن إظهاره فيها حرم سفره إليها; انتهى بلفظه. وقد علمت معنى إظهار الدين فيما مر من كلامهم، وقد الجزء: 12 ¦ الصفحة: 419 جعلوا هنا حكم المسافر حكم المقيم صريحا، موافقين للسلف في ذلك، فجزاهم الله عن الإسلام خيرا. قال الشيخ عبد اللطيف في بعض رسائله: ولا بد في إباحة السفر إلى بلاد المشركين، من أمن الفتنة؛ فإن خاف بإظهار الدين الفتنة بقهرهم وسلطانهم، أو شبهات زخرفهم وأقوالهم، لم يبح له القدوم إليهم والمخاطرة بدينه. ولما اعترض ابن منصور على إمام الدعوة، قدس الله روحه، بأنه يمنع السفر إلى جميع بلاد الإسلام، قال عبد اللطيف، رحمه الله، في جوابه: يطالب أولا بتصحيح هذا، فإن صح فللسلف فيه كلام معروف، في السفر إلى ما يظهر فيه شيء من شعائر الكفر والفسوق، لمن لم يقدر على إظهار دينه، وللقادر أيضا، كما يعرفه أهل العلم والفقه. وقد منعوا من السفر إلى بلاد تظهر فيها البدع، لمن خشي الفتنة، فكيف ببلد يدعى فيها غير الله، ويستغاث بسواه، ويتوكل على ما عبد معه من الآلهة؟ فماذا على شيخنا رحمه الله لو حمى الحمى، وسد الذريعة، وقطع الوسيلة لا سيما في زمن فشا فيه الجهل، وقبض العلم، وبعد العهد بآثار النبوة، وجاءت قرون لا يعرفون أصل الإسلام ومبانيه العظام؟ وأكثرهم يظن أن الإسلام هو التوسل بدعاء الصالحين، وقصدهم في الملمات والحوائج، وأن من أنكر جاء بمذهب خامس لا يعرف قبله؛ فإن كان الحال هكذا، فأي مانع من الجزء: 12 ¦ الصفحة: 420 قوله - يعني الشيخ محمدا رحمه الله تعالى -، وأي دليل يجيز السفر ويبيحه مطلقا؟ هذا لا يقوله إلا جاهل بأصل الشريعة ومدارك الأحكام، انتهى كلامه رحمه الله. ونحن نقول كما قال هذا الإمام: بأنه لا ينكر على منكر السفر والحالة هذه إلا جاهل، أو صاحب هوى، وأنه قد ورث هذا المعترض في أغلوطاته؛ ومن تشبه بقوم فهو منهم. ولما سئل العلامة: سليمان بن عبد الله عن السفر إلى بلاد المشركين، أجاب: بأنه إن كان يقدر على إظهار دينه، وإظهار الدين هو الذي قدمنا لك مرارا، ولا يوالي المشركين، جاز له ذلك، فقد سافر بعض الصحابة رضي الله عنهم كأبي بكر وغيره; وإن كان لا يقدر على إظهار دينه، ولا على معاداتهم، لم يجز له؛ نص على ذلك العلماء، وعليه تحمل الأحاديث التي تدل على النهي، لأن الله تعالى أوجب على الإنسان العمل بالتوحيد، وفرض عليه عداوة المشركين، فما كان ذريعة وسببا إلى إسقاط ذلك منع منه، وقد يجر إلى موالاتهم وموافقتهم وإرضائهم كما هو الواقع من كثير ممن يسافر من فساق المسلمين انتهى بلفظه. وقال شيخ الإسلام، في "اقتضاء الصراط المستقيمط فإن استقراء الشريعة في مواردها ومصادرها، دال على أن ما أفضى إلى الكفر غالبا حرم، وما أفضى إليه على وجه خفي حرم، انتهى. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 421 فظهر لك من كلام هؤلاء الأئمة ما يكفي ويشفي، إذ هم أئمة الإسلام، ومصابيح الظلام؛ فانظر إلى عمن تأخذ دينك، ولا تغتر بمن مال معه العامة عن غير فقه ولا ورع، ولا من قابله بزائد على ما أمر الله به وشرع. فإذا تبين لك ما قدمناه، تبين لك جهل من قال: أعطونا دليلا ولو من تاريخ، أننا نقول إذا سافرنا: يا كفار; ولو زال حجاب الدنيا وشهواتها عنه، واتقى الله وحلت الغيرة الإيمانية لله ولدينه من قلبه محل سويداه، لعرف: أن الكتاب والسنة وصريح العقل، مع من أمر بالإغلاظ على المشركين، وحذر عنهم العامة المساكين، إلا لمن ليس في سفره مضرة على الدين؛ وذلك إلا ما شاء الله، قد تعذر، وصار كالكبريت الأحمر. ولما عظمت غربة الإسلام، ولاذ أكثر المتفقهة بالأوهام، جعلوا يؤسسون عقد المصالحة بين أهل الإسلام، وضدهم اللئام، وليت شعري إلى أي شيء قاموا به من عداوة المشركين؟ وأي ثغر رابطوا فيه ولو ساعة لنصر الدين؟ لقد والله نسجت على الدين عناكب النسيان، وسمح دونه بكثرة الهذيان، وعد عند الأكثرين في خبر كان. فنعوذ بالله من الخذلان، ومن نزغات الشيطان؛ هذا وأنا لا أعرف عين من نسبت إليه هذا الأمر، ولا أدري أهو من أهل الغمر، أو من أهل الغمر؟! لكني أقول: من هذا الذي يرد ما قرره علماء الدين؟ ومن جعل الله دعوتهم رجومًا للشياطين، الجزء: 12 ¦ الصفحة: 422 بأقوال منبوذة بالعراء، مطروحة من وراء وراء وهذا القول كاف لمن وفق للإنصاف، وبالله التوفيق، وهو الهادي لأقوم طريق. فإن قلت: قد أرخيت عنان القلم في هذا الباب، وأطنبت في هذه المسائل بعض الإطناب، فأجب عن المعارضة، وإن خرج بنا عن قانون الجواب، لشدة الحاجة إلى كشف هذا الحجاب. قلت: الجواب عن المعارضة، وإن كان يستفاد مما تقدم لمن جعل الله له نورا، هو من وجهين: مجمل، ومفصل. أما المجمل: فإنه لو كان مع المجيز نص في محل النّزاع، وأنى له ذلك، فقد تقرر في الأصول: أنه لا تعارض بين نصين، ولا بين نص وظاهر، ولا بين مجمل ومفصل; لأن التعارض بين النصين محال قطعا، لأن السنة لا تتناقض ولا تتعارض، ولو صح، لأنه قد يكون صحيحا لا صريحا، فيقدم النص الذي لا يحتمل إلا مدلولا واحدا، ويحمل عليه ما عداه. وقد صرح أئمة الأصول بأن ما احتمل معنيين، وكان أحدهما أظهر، فدلالته ظنية، ولا يعارض متحد المعنى إجماعا، بل يطلب التوفيق; ثم لو كان كلاهما متحد المعنى في المقابلة، ولا سبيل إلى نسخ ولا جمع، فالتوقف إلى أن يظهر الترجيح، أو تحف القرائن، كالحظر مثلا، فإنه مقدم على الإباحة، خصوصا إذا صار أظهر في سد المفاسد، لأن الشرع جاء بالمصالح المحضة. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 423 ثم إن القضايا العينية مقصورة على مواردها، لا يقاس عليها، ولا تعارض النصوص بوجه عند الأصوليين; ثم لو كان المعارض مساويا، فقد قرروا أن المساوي مدفوع، فكيف بما هو دونه؟ قال الرصفي في آداب البحث: فإن يكن مساويا فيدفع وإن يكن أخص ليس ينفع وكل ما ذكرنا يجري في مسألتنا عند التأمل والتفصيل؛ فليعرض المجيز بضاعته على هذا الأصل، الذي يسلمه أئمة النقل، وإن لم يتخلص منه فلا يدعي ما ليس له، وليتعلم ثم ليتكلم. وليته جمع بين النصوص المتقدمة، وبين ما يستدل به، ولم يضرب الصريح الصحيح بتلك المحتملات، وأعطى كل ذي حق حقه، فلم ينف وجوب الهجرة عن كل أحد، وقوفا مع المنع، ولم يوجب الهجرة على كل أحد، وقوفا مع الرخصة بشروطها، فإنه خير من الإطلاق المتكرر في عباراته، وأحسن عاقبة وأخف ضررا. وأما الجواب المفصل: فقوله عن المانع: أنه استدل بعمومات أحاديث مع ما فيها، قول ساقط لا يعول عليه، ولا سبقه إليه أحد ممن يعتد بقوله ويرجع إليه; ولعمر الله، لئن كان الرد والقبول بمجرد الهوى، وما لا يلائم الغرض، يقال: هو عمومات وأحاديث فيها ما فيها، فإن الخصم لا يعجز عن مثل هذه الكلمات، فلا يثبت له حجة بشيء منها أصلا. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 424 وإن كان الرد ليس بالهوى، بل بالعلم واعتبار شروطه عند أهله، فلا بد من الاتفاق أولا على الشروط، ثم اتباعها حيث وجدت، وحينئذ فأقول: لا جرم أن المانع معه النصوص القاطعة، والحجج الساطعة التي لا تحتمل غير مدلول واحد، بخلاف ما مع المجيز، فإنها أخبار خاصة لا تعارض العلم المطلق المستغرق لما صلح له، بل لا يعمل بها إلا إذا سلمت عن معارض. وأما إذا كان العمل بها يفضي إلى ترك المحكم البين، فيتعين الجمع كما قدمنا؛ ودعواهم أنها عمومات خطأ بين، لأن العمومات عند أهل العلم هي دعوى تناول اللفظ العام للمحكم الخاص، والمنازع لا يسلم ذلك. وأما اللفظ العام الكلي المستغرق لما صلح له، الصادق على كل فرد من أفراد الجنس، كالإنسان مثلا، والمنوط بالوصف كالإسلام مثلا، أو الشرك، فهو من الكليات المطلقة؛ ومن زعم أنه يعارض بالمحتمل أو بالمجمل، أو بالقضايا العينية فهو أضل من حمار أهله. أما المتعلق بالشخص فهو محل نظر، فإذا لم يعارض بما هو أولى منه، فهو عام ويقال فيه: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب؛ وقد رجح عمومه بحديث: "حكمي على الواحد حكمي على الجماعة" وفيه نزاع ذكره في المحصول وغيره; قال في جمع الجوامع، في وجوب الترجيح: ويرجح بما فيه تهديد، الجزء: 12 ¦ الصفحة: 425 وما كان عموما مطلقا على ذي السبب إلا في السبب. وقد وردت بحمد الله نصوص القرآن والسنة في إثبات هذا الحكم العام، المتعلق بكل فرد من أفراد جنسه، فعكس هذا الزاعم القضية، فجعل المتشابه دليلا قاطعا، والمحكم الذي هو عام الخطاب، المنوط بالأوصاف المطابق لمدلوله، جعله من العمومات التي يضعفها أهل العلم، إذا عارضها ما هو أقوى منها. فالله المستعان! ومن لم يفرق بين العام المطلق المطابق لمدلوله، وبين المحكم الذي يدعي أن العمومات تتناوله، فهو حاطب ليل وحاطم سيل. قال العلامة الشيخ عبد اللطيف رحمه الله: ثم إن النصوص الواردة في وجوب الهجرة، والمنع من الإقامة بدار الشرك، نصوص عامة مطلقة، وأدلة قاطعة محققة; ومن قال بالتخصيص والتقييد لها، إنما يستدل بقضايا عينية خاصة، وأدلة جزئية لا عموم لها عند جمهور الأصوليين، بل هي في نفسها محتملة للتخصيص والتقييد، ومن قال بالرخصة لا ينازع في عموم الأدلة، الموجبة للهجرة من المجامعة والمساكنة ... إلى آخر كلامه فراجعه. فإذا علمت أن الشيخ ومن قبله سلفا وخلفا، ممن قد قدمنا لك ذكرهم، وغيرهم، فهموا من النصوص أنها أدلة قاطعة، والمعارض لها قابل للتخصيص والتقييد، تبين لك الجزء: 12 ¦ الصفحة: 426 خطأ المجيز في تمريضه أدلة المانع، لأن كل مخالف للشرع معه من الشبهات، ومحتملات الدليل التي ساء فيها فهمه ولم يوفق للتوفيق بينها وبين مقابلها، أضعاف أضعاف ما مع هؤلاء؛ فيلزم منا نتوقى رد أباطيله نظرا إلى ملفق دليله؛ كلا، بل نعلم سوء فهمه قبل النظر في وهمه لما تمسكنا به من هذا الأصل الأصيل، وهو: أن السنة يصدق بعضها بعضا، والبدعة ينقض بعضها بعضا. وأما قوله: فيها ما فيها، يعني حجة المانع، فمن أين علم أن فيها ما فيها؟ وهو ما رواها ولا اطلع ولا دراها؛ هذا والله سطوة على النصوص، وكأنه قصد حديث قيس بن أبي حازم، وحديث سمرة، وتقدم لك ما يعضدهما من الأحاديث المشتهرة. ولو لم يكن إلا حديث جرير المتقدم، وقد تأخر إسلام جرير من مبايعة النبي صلى الله عليه وسلم على أن يعبد الله ويقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ويفارق المشركين، لكان كافيا؛ وقد روى البخاري في صحيحه أنه يعمل بالآخر فالآخر من أمره صلى الله عليه وسلم، قال في "مرقاة الوصول إلى علم الأصول": والحديث إذا تلقته الأمة بالقبول، وكان راويه عدلا وله شاهد، فهو كالمتواتر في أنه يحتج به، انتهى. وحكى النووي في شرح المهذب: أن الشافعي يحتج بالمرسل إذا اعتضد بشاهد واحد؛ وهو من أعظم الأئمة توقفا فيه، الجزء: 12 ¦ الصفحة: 427 وعن المالكيين والكوفيين يقبل مطلقا؛ وقد اعتضد هذا بأكثر من عشرين شاهدا، مع الآيات المحكمات والكليات من الشرع، كما قدمنا لك: منها وجوب عداوة المشركين، والعداوة تقتضي البعد والمفارقة، ومنها القاعدة الكلية والأصل العظيم، وهو سد الذرائع المفضية إلى أشد المفاسد، إذ الوسائل لها حكم الغايات؛ وقد تقدمت الإشارة إلى هذا كله. ومنها: أن ما كان في أمر الوعد والوعيد، فالصحابة والتابعون لا يطلقونه مرفوعا، إلا مع الجزم بصحته، فإن قيس بن أبي حازم مخضرم، ويقال له رواية، روى عن العشرة المبشرة، فعلى هذا: إما أن يكون من كبار التابعين، وهو المعتبر عند الشافعي، وغيره، وإما أن يكون صحابيا روايته مرسلة، مرسل صحابي له حكم المرفوع، لأن الصحابة كلهم عدول؛ وقد رجح جمع من المحدثين وصله عن جرير، وأصله في صحيح مسلم، هذا لو لم يكن إلا هو في هذا الباب. فقول المجيز: إن المانعين استدلوا بأحاديث فيها ما فيها، مجرد هذيان لا طائل تحته، ولو لم يكن مع المانعين إلا مجرد المنع المترجح بتحقق المفسدة لكفى، لما في آداب البحث: أنه يقدم دليل الحظر على دليل الإباحة عند التعارض، إلا في أشياء ذكروها، الأصل فيها البراءة، كالعقود، أو حسية كالأطعمة. وأما قوله: البلاد بلاد إسلام، لأن شعائر الإسلام ظاهرة فيها، من غير ذمة من المشركين ولا جوار; ولهذا إذا كانت الجزء: 12 ¦ الصفحة: 428 الغلبة لأهل الإسلام، صارت دار إسلام، فكلام متناقض لفظا؛ وقد تقدم التنبيه على ما مر فيه من الوهم معنى. وقوله: من غير ذمة ولا جوار، فأظنه لاحظ ظلم الأموال والأبدان، لأن حب الدنيا قد غلب على النفوس، والمصيبة فيها هي المصيبة العظمى عندهم؛ فإذا كان هذا هو المرام، فهو موجود في جميع الممالك، وللنصارى لعنهم الله في ذلك الحظ الأوفر. وأما ظلم الأديان والخفارة فيها، فلا يعرفها إلا من نور الله بصيرته، وكان من الأشحاء بدينه؛ وأي خفارة وذلة أعظم من كون الإنسان يسمع ويرى الكفر البواح في المساء والصباح؟ ولو أظهر أن هذا هو فعل المشركين لقتلوه أو أخرجوه. ومن العقوبات القدرية على القلوب: عدم الإحساس بالشر، وهي آلام وجودية يضرب بها القلب، تنقطع بها مواد حياته وصلاحه، وإذا انقطعت عنه حصل له أضدادها بلا شك؛ وعقوبة القلب أشد من عقوبة البدن، فلذلك يصير المعروف منكرا، والمنكر معروفا. وهل يشك أحد أن المقيم هناك لا يسعه إلا الحكومة الضالة، وأن مولوده يكون في القرعة، وأن جبايات أمواله ومعشراته لهم، وغير ذلك من البلايا التي كلما ازداد مكوثه ازداد تحكما عليه في قلبه وقالبه؛ فمن ادعى غير ذلك فهو مباهت، ومن له مشاركة فيما قرره المحققون، علم أن البلد بلد شرك، وأن الغلبة فيها للشرك وأهله، وأن الحق مع من حكم النصوص الجزء: 12 ¦ الصفحة: 429 القاضية بالمنع، وقال العدل وقام بالشرع. وأما ما نقله عن الشيخ عبد الله بأن بلدهم بلد إسلام، فقد قدمنا أنه لا يدل على ما قصدوا؛ والشيخ درج على ما درج عليه الرعيل الأول من نصر التوحيد والرد على من ناوأه من أهل الشرك والتنديد، وكلامه مجمل على أنها ليست بلاد كافر أصلي، يترتب عليها ما يترتب عليه، وهو الذي يفهم من كلام الأصحاب وغيرهم؛ لكن أتظنه يشك في كفر من تظاهر بدعاء الصالحين وعبادتهم، بالاستعانة والاستغاثة والذبح والنذر والتوكل وغير ذلك، على أنهم وسائط بينهم وبين الله في الحاجات والملمات؟. وقد قرر شيخ الإسلام ابن تيمية، قدس الله روحه، وغيره من الأئمة: أن هذا هو الكفر الصريح، وهو دين المشركين وفعل الجاهلين الضالين؛ وهؤلاء زادوا عليهم، بأن طلبوا الحاجات منهم استقلالا كما شاهدناه؛ فظهر لك أن قول المجيز: البلد بلد إسلام، تمهيدا لجواز الإقامة فيها، خطأ لا يتابع عليه، كما تقدم لك مرارا: أن الشارع أناط الحكم بمشاهدة الكفر والمعاصي، لمن لا يستطيع إنكارها. وما أحسن ما قيل: العلم بالرأي إجمال ومغلطة ... والعلم بالنص تحقيق وتفصيل وقد تقدم لك أن المدعى أعم من كون البلد بلد إسلام، أو بلد كفر إذا كان العلة عدم المنع من العبادة، وأن السؤال الجزء: 12 ¦ الصفحة: 430 ملغى من أصله، فلا حاجة إلى فتوى أبا بطين وغيره. وأما دعواه: أن إظهار الدين إذا لم يمنعوك عن واجبات دينك، أي: من الصلاة والعبادة الخاصة، مستدلا بما رواه البخاري: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من آمن بالله ورسوله، وأقام الصلاة، وصام رمضان، كان حقا على الله أن يدخله الجنة، هاجر أو جلس في أرضه التي ولد فيها " 1، وحديث صاحب الخضرمة. فجوابه أن يقال: أولا: ليس في الحديثين دلالة على أن البلد بلد شرك، غاية ما فيها إثبات الإيمان لمن أسلم ومات في بلده. الثاني: أنهما يدلان على كمال الإيمان، فهما على حد قوله: " وإن زنى وإن سرق " 2، ونحن نقول: بموجبه، فمن أقام في بلاد الشرك مع القدرة على الخروج منها شحا بالوطن، أو غير ذلك من الأعذار، فهو مرتكب كبيرة، فيقال: هو مؤمن ناقص الإيمان. الثالث: أن الاستدلال بهما وما في معناهما، خروج عن المقصود، إذ هي فيمن أسلم في بلده، أما الذهاب إلى أوطانهم اختيارا، واللحاق بهم استقرارا، فلا تدل عليه بوجه من الوجوه؛ إذ الاستدلال بالنصوص فرع ثبوتها أولا، ثم مطابقتها للمستدل عليه معنى، كما هو مقرر في مواضعه؛ وإذا كان من آمن ولم يهاجر من الأعراب ناقصا، فكيف بمن آمن ولم يهاجر من بلدان المشركين.   1 البخاري: التوحيد 7423 , وأحمد 2/335. 2 البخاري: الجنائز 1237 , ومسلم: الإيمان 94 , والترمذي: الإيمان 2644 , وأحمد 5/159. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 431 قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: في اقتضاء الصراط المستقيم - لما ذكر النهي عن مشابهة المشركين -: وقريب من هذا: مخالفة من لم يكمل دينه من الأعراب، لأن كمال الدين بالهجرة، فكان من آمن ولم يهاجر من الأعراب ونحوهم ناقصا. الرابع: أن قوله: هاجر أو جلس، هو معنى قوله: جاهد أو جلس; يدل على ذلك: ما رواه النسائي وغيره، عن أبي الدرداء مرفوعا: " من أقام الصلاة وآتى الزكاة، ومات لا يشرك بالله شيئا، كان حقا على الله أن يغفر له، هاجر أو مات في مولده " 1، فقلنا يا رسول الله: أفلا نخبر الناس فيستبشروا، فقال: " إن للجنة مائة درجة، بين كل درجتين كما بين السماء والأرض، أعدها الله للمجاهدين في سبيله " 2 الحديث، ثم قال النسائي بعده: ما لمن آمن وهاجر وجاهد؟ يعني من الأجر. فدل على أن الهجرة هناك بمعنى الجهاد، وقد جاء في رواية البخاري بلفظ:" جاهد في سبيل الله أو جلس " 3، وترجم له في الجهاد لأنها تطلق أيضا ويراد بها الجهاد، كما روى أحمد عن عمرو بن عبسة رضي الله عنه مرفوعا: "أي الهجرة أفضل؟ قال: الجهاد". فتبين على كلا التقديرين أن المقصود إثبات الإيمان لمن أسلم ولم يهاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يجاهد، وإن انتفى كماله; فمن أين له: أن الحديث يدل على جواز الإقامة بين ظهراني المشركين؟ ومن درأ بمثل هذه المحتملات في نحر ما تقدم من   1النسائي: الجهاد 3132. 2 النسائي: الجهاد 3132. 3 البخاري: الجهاد والسير 2790. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 432 النصوص الصريحة الصحيحة، كحديث حكيم بن حزام مرفوعا: " لا يقبل الله من مسلم عملا بعد ما أسلم، أو يفارق المشركين " 1 رواه النسائي، وحديث أبي مالك الأشجعي مرفوعا: " وأنا آمركم بخمس الله أمرني بهن " 2، وذكر الهجرة رواه أحمد وغيره، وما في معناها، فليس بمنصف. الخامس - وهو من أظهرها -: أن الاحتجاج بمثل هذه الأحاديث المطلقة، ولو بلغت حد التواتر، يستدعي بطلان حكم النصوص المصرحة بفراق المشركين، كما هنا، وكما في حديث نهيك الآتي. 3": وعلى زيال المشركين"، فيحمل المطلق مما احتج به المجيز، ولو صح وتعدد على هذا المقيد من مفهوم الوصف المانع من الإقامة؛ فبزوال هذا المانع الذي تسبب عنه الحكم بفراق الوطن يوجد المقتضي، وإلا فلا، وهذا ظاهر بحمد الله، يتعين المصير إليه توفيقا بين النصوص، إذ لا مجال للرأي في مثل هذا، مع وجود الأخبار الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم. ومما يدل على أن من أسلم ولم يهاجر، يكون كأعراب المسلمين - وتسمى منازله داره - حديث بريدة رضي الله عنه مرفوعا: " ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين، وأعلمهم أنهم إن فعلوا ذلك أن لهم ما للمهاجرين، وعليهم ما على المهاجرين " 4، وفي بعض ألفاظه: "فإن أبوا واختاروا دارهم، فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين، يجري عليهم حكم الله الذي يجري   1 النسائي: الزكاة 2568. 2 الترمذي: الأمثال 2863 , وأحمد 4/130 ,4/202. 3 في صفحة: 436, 437. 4 مسلم: الجهاد والسير 1731 , والترمذي: السير 1617 , وأبو داود: الجهاد 2612 , وابن ماجه: الجهاد 2858 , وأحمد 5/352 ,5/358. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 433 على المؤمنين " 1 الحديث، إلا في حق الأعرابي الذي أذن له النبي صلى الله عليه وسلم في ترك الهجرة، في قوله: " اعمل من وراء البحار " 2 يعني: القرى " فإن الله لن يترك من عملك شيئا " 3 أي: لا يحرم أجر الهجرة ولا تنقص، لما علم النبي صلى الله عليه وسلم من قلة صبره على سكنى المدينة، {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً} [سورة الأحزاب آية: 43] . وكذلك أذن لأسلم - القبيلة المعروفة - فيما رواه الإمام أحمد وغيره: عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ابدوا يا أسلم " 4، قالوا يا رسول الله: إنا نخاف أن يقدح في هجرتنا، قال: " أنتم مهاجرون حيث كنتم" 5، ومعناه: أن تكونوا في البادية وهم في إذنه صلى الله عليه وسلم لا من سواهم، لأن من أذن له النبي صلى الله عليه وسلم بذلك له حكم المهاجرين، لأن مفهوم الإذن لهم، عدم الإذن لغيرهم. وأما الأعراب، فالأمر في حقهم أخف، وليس لهم فضل المهاجرين لضعف إسلامهم، وسرعة ميلهم مع الباطل، يدل عليه ما رواه النسائي: أخبرنا أحمد بن عبد الله بن الحكم، قال: حدثنا محمد بن جعفر قال: حدثنا شعبة عن عمرو بن مرة عن عبد الله بن الحارث عن أبي كثير عن عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" الهجرة هجرتان: هجرة الحاضر، وهجرة البادية; فأما البادي فيجيب إذا دعي، ويطيع إذا أمر; وأما الحاضر فهو من أعظمها بلية وأعظمها أجرا" 6. وأما ما رواه النسائي أيضا بسنده، عن فضالة بن عبيد:   1 مسلم: الجهاد والسير 1731 , وأبو داود: الجهاد 2612 , وابن ماجه: الجهاد 2858 , وأحمد 5/352 ,5/358. 2 البخاري: الزكاة 1452 , ومسلم: الإمارة 1865 , والنسائي: البيعة 4164 , وأبو داود: الجهاد 2477 , وأحمد 3/14 ,3/64. 3 البخاري: الزكاة 1452 , ومسلم: الإمارة 1865 , والنسائي: البيعة 4164 , وأبو داود: الجهاد 2477 , وأحمد 3/14 ,3/64. 4 أحمد 3/361. 5 أحمد 4/55. 6 النسائي: البيعة 4165. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 434 أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " أنا زعيم والزعيم الحميل لمن آمن بي وأسلم وهاجر ببيت في وسط الجنة، وبيت في أعلى غرف الجنة " 1 الحديثين; فتبين أن المقصود: إثبات الإيمان لمن لم يهاجر ولم يجاهد بعد ما أسلم، وأن من جاهد وهاجر فقد كمل إيمانه؛ فأي دليل فيه على جواز الإقامة بين ظهراني المشركين؟! وإذا كان المرتد بعد هجرته أعرابيا ملعونا من أجل خوف الجفا ونسيان العلم، ولمصالح الإسلام، كما رواه الطبراني من حديث جابر بن سمرة، مرفوعا: "لعن الله من بدا بعد هجرته إلا في الفتنة"، وما رواه النسائي عن عبد الله بن مسعود مرفوعا: " لعن الله آكل الربا وموكله " 2 الحديث، وفيه "والمرتد بعد هجرته أعرابيا"، قال ابن الأثير في النهاية: كان من رجع بعد هجرته إلى موضعه من غير عذر يعدونه كالمرتد، انتهى من الفتح. ومثله: ما رواه البخاري عن سلمة بن الأكوع، أنه لما دخل على الحجاج، قال: يا ابن الأكوع ارتددت على عقبيك، تعربت؟ قال: لا، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن لي في البدو؛ فإذا كان كذلك فهو يدل بالفحوى على البعد عن المشركين لمن أسلم، أما من كان مسلما ثم لحق بهم، واختارهم من غير مصلحة في الدين، فيطالب هذا بدليله، ولو من كلام إمام يعتد به، وإلا فقد قدمنا لك أن الاستدلال بمثل هذه المحتملات خروج عن المقصود.   1 النسائي: الجهاد 3133. 2 النسائي: الزينة 5103. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 435 وأما حديث الأعرابي فقد تقدمت الإشارة إليه، وأنه من القضايا العينية المتعلقة بالأشخاص والأحوال والأزمان. قال القرطبي على حديث الأعرابي: يحتمل أن يكون ذلك خاصا بهذا الأعرابي لما علم من حاله، وضعفه عن المقام بالمدينة، أشفق عليه صلى الله عليه وسلم وكان بالمؤمنين رحيما، انتهى. ومن المعلوم: أن هذه القضية إن كانت بعد الفتح، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري وغيره، لما فتح مكة:" لا هجرة بعد الفتح " 1، فعلم أنه قبل الفتح، والهجرة واجبة إليه بالإجماع؛ ولم يفهم أحد أن قصة هذا الأعرابي أبطلت حكم الهجرة، وإن كانت بعد الفتح، فالجواب عنها هو الجواب عن الحديثين قبلها. ووجه آخر، وهو: أن لأول الإسلام من اللين والهوادة ما ليس لآخره؛ وقد تقدم لك حديث جرير، ومعاهدته النبي صلى الله عليه وسلم على مفارقة المشركين، وقد تأخر إسلامه. وبالجملة: فليس في حديث الأعرابي ولا غيره من الأحاديث - ولو كانت صحيحة - ما يدل على مساكنة مشرك البتة، بل هي صريحة في سكنى البادية لمن أسلم ولم يهاجر، ولم يقل له النبي صلى الله عليه وسلم اعمل في القرى، لأن القرى إذ ذاك لم تكن بلاد إسلام، ولكن قال له: اعمل من وراء القرى، أي: اعبد الله، وحل منها حيث شئت، وأنت على هجرتك، رفقا به. وأما حديث نهيك بن عاصم، فإنه لا يدل على أن   1 البخاري: الجهاد والسير 2783 , ومسلم: الإمارة 1353 , والترمذي: السير 1590 , والنسائي: البيعة 4170 , وأبو داود: الجهاد 2480 , وأحمد 1/226 ,1/355 , والدارمي: السير 2512. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 436 الرسول صلى الله عليه وسلم أذن له في مساكنة مشرك، بل أذن له في سكنى البادية فقط، وأن يحل حيث شاء ولا يجني إلا على نفسه؛ وقد أشار إلى ذلك، ما رواه البخاري عن الصعب بن جثامة مرفوعا:"لا حجر إلا لله ورسوله " 1. هذا معنى حديث نهيك وما في معناه من الأخبار، أن أهل الجاهلية كان لهم حدود حجر، يمنعون منه من شاؤوا، وقد أبدل الله ذلك بالإسلام، لأن الإسلام يقتضي السلامة، ويأمن به كل أحد. ولما ساق العلامة ابن القيم القصة بطولها وفي آخرها: قلت: يا رسول الله: على ما أبايعك؟ فبسط النبي صلى الله عليه وسلم يده، وقال: " على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة وزيال المشركين، وأن لا تشرك بالله شيئا، قلت يا رسول الله: وإن لنا ما بين المشرق والمغرب؟ فقبض النبي صلى الله عليه وسلم يده، وظن أني مشترط ما لم يعطه، قال: قلت نحل منها حيث شئنا، ولا يجني امرؤ إلا على نفسه " 2. قال في الكلام عليه، وقوله في عقد البيعة: " وزيال المشرك " 3 أي: مفارقته ومعاداته، فلا تجاوره ولا تواله، كما في حديث السنن " لا تراءى ناراهما " 4 انتهى كلام ابن القيم بحروفه. وقوله في الحديث: "نحل منها حيث شئنا" 5 مع قوله: "وزيال المشركين" بالميم، يبين لك مراد الشارع. فانظر إلى هذا المجيز - عافانا الله - يحتج بما هو حجة عليه، ويقول ذكره ابن القيم في الهدى؛ وأما استدلاله بقصة هجرة الحبشة، فهو من إحدى الرزايا، وعكس القضايا، ولا أعلم أحدا سبقه   1 البخاري: المساقاة 2370 , وأبو داود: الخراج والإمارة والفيء 3083 , وأحمد 4/38 ,4/71 ,4/73. 2 أحمد 4/13. 3 أحمد 4/13. 4 الترمذي: السير 1604 , والنسائي: القسامة 4780 , وأبو داود: الجهاد 2645. 5 أحمد 4/13. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 437 إليه، إلا بعض من اعترض على إمام الدعوة. وقوله: إنهم هاجروا ليأمنوا لا ليفتتنوا، مجرد تمويه، صدر ممن لم يعرف قدر الشرك، الذي هو أعظم هضم لجناب الربوبية، وإبطال لما دعت إليه الرسل، من توحيد الإلهية؛ فأين الأمان واستقرار الجنان، لمن يشاهد عبادة الأوثان، ومسبة الديان، في كل حال وأوان؟! ومن استدل بقصة الهجرة على هذا، فتصوره فاسد، وذهنه كاسد، إذ كل من عقل عن الله شرعه، وسبر أحوال الصحابة وما هم عليه، من نصر الدين وزيال المشركين، علم قطعا أن هجرة الحبشة حجة عظيمة في وجوب الهجرة؛ وهو من باب ارتكاب أدنى المفسدتين لدفع أعلاهما، وإطلاق لفظ الهجرة عليها كاف في المطلوب على قدر الوسع، وإن لم يتم المقصود كله، كما أن النبي صلى الله عليه وسلم في ابتداء دعوته أمر بالإعراض، ثم أمر بالصدع، ثم أمر بالجهاد. وظهور الدين يطلق ويراد به ظهوره بالقهر والغلبة والجهاد، وهذا قد تأخر، ويطلق ويراد به ظهوره وشهرته، وعدم منع الداخل فيه؛ وهذا قد حصل بأرض الحبشة، وتسمى هجرة وانتقال، كما حكاه النووي في شرح الأربعين له. وحكاه مجتهد عصره إبراهيم بن حسن الكردي، عن الحافظ بن حجر، أنه قال: وقعت الهجرة في الإسلام على وجهين: الجزء: 12 ¦ الصفحة: 438 الأول: الانتقال عن دار الخوف إلى دار الأمن كما في هجرة الحبشة، وابتداء الهجرة من مكة إلى المدينة. الثاني: الهجرة من دار الكفر إلى دار الإيمان، وذلك بعد أن استقر النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وهاجر إليه من أمكنه ذلك من المسلمين، وكانت الهجرة إذ ذاك تختص بالانتقال إلى المدينة إلى أن فتحت مكة، وانقطع الاختصاص، وبقي عموم الانتقال من دار الكفر لمن قدر عليه باقيا، انتهى. وذكر عن الأسيوطي: أن الهجرة ثمانية أقسام: الهجرة الأولى: إلى الحبشة، عندما آذى الكفار الصحابة، أذن لهم النبي صلى الله عليه وسلم فيها إلى أرض الحبشة; وأذن لهم مرة ثانية وهي الثانية الثالثة: من مكة إلى المدينة; الرابعة: هجرة القبائل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لتعلم الشرائع، ثم يرجعون إلى قومهم لينذروهم. الخامسة: هجرة من أسلم من مكة، ليأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم. السادسة: هجرة من كان مقيما بدار الكفر، ولا يقدر على إظهار الدين، فإنه يجب عليه أن يهاجر إلى بلد الإسلام؛ هذا لفظ الأسيوطي، في المنتهى، واقتصرنا على المقصود منه، وقد صرح بذلك أصحابنا; وقريب منه لفظ النووي في شرحه لأربعينه. ولما قرر هذا المقام من سطعت - بحمد الله - للدين أنواره وطلعت ببرهان دعوته شموسه وأقماره، وتضاحكت في الجزء: 12 ¦ الصفحة: 439 عرصات المجد كمائمه وأزهاره، اعترضه من اشترى الضلالة بالهدى، وتحول عن السلامة إلى الردى، إن لم يتداركه الله برحمته، فقال: قال محمد ابن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى، في مواضعه التي كتبها على السيرة: اعلم أن الإنسان لا يستقيم له إسلام ولو وحد الله، إلا بعداوة المشركين، والتصريح لهم بالعداوة والبغضاء. قال المعترض: فظاهر كلامه أن النجاشي كافر، حيث لم يصرح بعداوة قومه، وكذلك جعفر وأصحابه كفار بهذه العبارة، إلى آخر كلامه، الذي لا يصدر ممن شم للعلم النافع رائحة، أو له في واديه غادية ورائحة. وقد أجابه من أجاد وأفاد، ووفق في كلامه لنهج السداد، شيخنا العلامة: عبد اللطيف - بعد ما ساق شبهته - بما ملخصه: وقد ثبت أن النجاشي صرح بعداوتهم والبراءة من مذهبهم، وراغمهم، زيادة على التصريح بالعداوة; وقال: "وإن نخرتم" لما صرح بعبودية عيسى عليه السلام، حيث قرأ عليه جعفر صدر سورة مريم، وما فيها من ذكر عيسى; فقال النجاشي: والله ما زاد عيسى على هذا ... إلى آخره. فأي عداوة؟ وأي تصريح أعظم من هذا؟ ومع ذلك نصر المهاجرين ومكنهم من بلاده; وقال: اذهبوا فأنتم سيوم بأرضي، من سبكم ندم، ومن ظلمكم غرم; فصرح بأنه يعاقب من سب دينهم، وسفه رأيهم فيه، وهذا قدر زائد على التصريح الجزء: 12 ¦ الصفحة: 440 بعداوتهم، ولا يقول: إن جعفر أو أصحابه يكتمون دينهم بأرض الحبشة، ولا يصرحون بعداوة الكفار المشركين إلا جاهل. وهل ترك جعفر وأصحابه بلادهم وأرض قومهم، واختاروا بلاد الحبشة إلا لأجل التصريح بعداوة المشركين، والبراءة منهم جهارا، في المذهب والدين، ولولا ذلك لما احتاجوا للهجرة، واختاروا الغربة، ولكن ذلك في ذات الإله، والمعاداة لأجله؛ وهذا ظاهر لا يحتاج إلى تقرير، لولا غلبة الجهل، انتهى باختصار. قال الشيخ الوالد قدس الله روحه - في رد ما اعترضه: - أما قوله: ظاهر هذا أن النجاشي كافر إلى آخره. فجوابه من وجوه، الأول: أنه لا اعتراض على حكم القرآن. الثاني: أن المهاجرين إلى أرض الحبشة هاجروا، ليأمنوا على دينهم حيث لم يوجد بلد ولا قبيلة يأمنون فيها غير الحبشة؛ قلت: وذلك بأمره صلى الله عليه وسلم لما بلغه من حسن جوار النجاشي ما بلغه قال الوالد، رحمه الله تعالى: ثم هذا في أول الدعوة قبل أن تفرض الفرائض، وتنَزل الآيات في بيان الأحكام، وأعظم الفرائض بعد التوحيد الصلاة، ولم تفرض إذ ذاك إلا بعد العشر، وكذلك أحكام الهجرة والجهاد، إلى أن قال: الثالث: أن النجاشي وطائفة من قومه أسلموا، فلهم حكم الظهور، وذلك معروف في السير والتفاسير؛ فإذا ظهر الجزء: 12 ¦ الصفحة: 441 الإسلام في بلد لم تحرم الإقامة بها، على من صان دينه وأظهره، وكذلك جعفر وأصحابه صانهم الله بما جرى لهم من النجاشي، فإنه قال: من سبكم غرم، فمن تبعهم في تلك البلاد قبلوا منه، وأظهروا دينهم على رغم من كرهه، فالآية لا تناولهم، فأين هذا ممن يواد المشركين، ويظهر لهم المحبة والمعاشرة؟! فهذا الذي لا يبقى معه إيمان، انتهى كلامه رحمه الله. ولما ساق رحمه الله في رده على صاحب الخرج، قصة النجاشي وما قال لعمرو بن العاص رسول قريش قال: وقد أنزل الله في النجاشي وأصحابه قرآنا، وأثنى عليهم، فلا يجوز أن يحتج على جواز الإقامة مع أهل الباطل وموالاتهم والطمأنينة بهجرة الصحابة، وفرارهم بدينهم، لئلا يفتنهم المشركون عنه. وكل أحد يفهم من هذه القصة أنها حجة عظيمة على من ترك الهجرة من وجوه، لا تخفى على من له أدنى معرفة وفهم حتى البليد، ولا يقدر مكابر أن يحتج بحجة هي بعينها عليه، اللهم إلا من ابتلي بسوء الفهم، وفساد التصور. انتهى كلامه، من خطه رحمه الله. فبطلت الشبهة من أصلها لأن الإنسان إذا أظهر الإسلام ببلد، لم تحرم الإقامة بها لمن فعل، كما فعل جعفر وأصحابه، لأنهم الجزء: 12 ¦ الصفحة: 442 أظهروا دينهم في بلد من يعتقد مباينة الإسلام لدينه، وهم أقرب مودة من المشركين بنص القرآن؛ أفيجعل حكمهم حكم من لو علم منك المباينة في الاعتقاد، لجعل توحيد الله عين الكفر والخروج؟ وأقل أحواله الحكم عليك بالطرد والخروج؟ فالله المستعان. وبالجملة: فالبلد إذا كانت بهذه المثابة، والإسلام بها يظهر، وواليها عضد لأهل الإسلام، يوافقهم عليه، ويقرهم، ويقول لجنده ما قال النجاشي، فلا يمنع أحد؛ فإن كان التوحيد هو أصل الأصول، وأوجب الواجبات، يجوز إخفاؤه للمصالح الدنيوية، وتسمى سائر العبادات التي هي فروعه إظهار الدين، فما فائدة العلم؟! قال ابن القيم رحمه الله في قصة هجرة الحبشة، قال السهيلي: وفيه من الفقه: الخروج من الوطن وإن كان الوطن مكة على فضلها، إذا كان الخروج فرارا بالدين، وإن لم يكن إلى أرض الإسلام؛ فإن الحبشة كانوا نصارى، يعبدون المسيح، ويقولون: هو ابن الله، وسموا بهذه الهجرة مهاجرين. وهم أصحاب الهجرتين، الذين أثنى الله عليهم، وهم قد خرجوا من بلد الله الحرام، إلى بلد الكفر، لما كان ذلك احتياطا على دينهم، وأن يخلي بينهم وبين عبادة ربهم يذكرونه آمنين؛ وهذا حكم مستمر، متى غلب المنكر على بلد، وأوذي على الحق مؤمن، ورأى الباطل قاهرا للحق، ورجا أن يكون الجزء: 12 ¦ الصفحة: 443 في بلد آخر، أي بلد كان، يبين فيه دينه، ويظهر عبادة ربه، فإن الخروج على هذا الوجه، حتم على كل مؤمن؛ وهذه الهجرة لا تنقطع إلى يوم القيامة {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [سورة البقرة آية: 115] . انتهى كلام السهيلي. فانظر إلى قوله: إذا كان الخروج فرارا بالدين، وقوله: فأثنى الله عليهم لما كان فعلهم احتياطا على دينهم، وقوله: يذكرونه آمنين، أي: يفردونه ظاهرا بين من لا يفرده كالنصارى، بخلاف من يوافق على التهليل كاليهود، فلا يكفي إلا التصريح بالرسالة، كما تقدم. وقوله: هذا حكم مستمر، متى غلب المنكر على بلد، وأوذي على الحق مؤمن، ورأى الباطل قاهرا للحق، ورجا أن يكون في بلد، أي بلد كان يبين فيه دينه؟ فما هذا الدين؟ أتظنه من العام الذي أريد به الخصوص؟ كلا! ثم ما هذا الاحتياط يرحمك الله؟ أتظنه في الذهاب إلى بلد المشركين؟ لما أوذيت على الحق في بلد المسلمين؟ ورأيت الباطل قاهرا للحق؟ فما أعظم جناية المجيز لو أخذناه بلازم قوله؟ الله كبر، ماذا يفعل الجهل بأهله، مهلا عن الله مهلا! وأما ما نقله عن شيخ الإسلام في الأسير، إذا لم يمنعوه عن واجبات دينه، فلا يدل على ما قصدوا بوجه من الوجوه، لأن كلام الشيخ ليس بظاهر في أن الدين هو مجرد العبادة فقط، وليس بظاهر أيضا في أن أهل أوثان لا يرضون منه الجزء: 12 ¦ الصفحة: 444 بالتوحيد، فيحتمل أنهم نصارى، يكفي في إظهار الدين عندهم الشهادتان والصلاة. ثانيا: أنه قد علم من حال شيخ الإسلام بالضرورة، ما يرد هذا الزعم؛ فإن لشيخ الإسلام من تعظيم النصوص، والذب عنها، ونصر الدين باليد واللسان، والحث على قطع المسالمة بين أولياء الرحمن، وأولياء الشيطان، ما هو معروف من حاله، ومقاله. وقد نقل عنه شيخنا، العلامة عبد اللطيف: أن آيات الوعيد في موالاة المشركين، دالة على انتفاء الإيمان الواجب، عمن واد من حاد الله ورسوله، وأن معاداتهم وبغضهم والبعد عنهم، من واجبات الدين، فيحمل محتمل كلامه على صريحه; وإذا كان الحنابلة صرحوا بأنه لا يتزوج الأسير في أرض العدو، معللين بأنه ربما صار على دينهم، قالوا: وكذلك التاجر، لأنه لا يأمن أن تأتي امرأته بولد، فينشأ على دينهم؛ قالوا: فتزويجه تعريض لهذا الفساد العظيم. وهذا كلام المغني مع المتن، قال: مسألة: ولا يتزوج في أرض العدو، إلا أن تغلب عليه الشهوة، فيتزوج مسلمة ويعزل عنها، قال الشارح بعد كلام: وسئل الإمام أحمد عن أسير أسرت معه امرأته، أيطؤها؟ فقال: كيف يطؤها؟ ولعلها تعلق بولد فيكون معهم؛ وإذا كان كذلك بطل ما فهموه من محتمل كلام الشيخ وغيره. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 445 وإذا كانت محتملات النصوص، وإن صحت ترد إلى صريحها، فكيف بأقوال هي مقابلة - بحمد الله - بأصرح منها من كلام السلف من أن إظهار الدين هو إظهار المعتقد، وإنكار المنكر؟ فتبقى النصوص لا معارض لها بحمد الله. ولما احتج بعضهم بقول مالك رضي الله عنه فيمن لم يدر: أطلق واحدة أم ثلاثا، إنها ثلاث احتياطا، قال ابن القيم: فنعم، هذا قول مالك رضي الله عنه فكان ماذا حجته هو على الشافعي، وأبي حنيفة، وأحمد رضي الله عنهم، وعلى كل من خالفه، في هذه المسألة، حتى يجب عليهم أن يتركوا قولهم لقوله؟ انتهى; وعلى التنَزل: فهذا جوابنا على كل ما احتج به المخالف. وأما الاستدلال بقصة العباس، ونعيم بن عبد الله بن النحام، على مجرد الإقامة في بلاد المشركين، فمن الجهل الصرف؛ والقصتان حجة عليه لا له، من وجوه: منها: ما في قصة نعيم، من "أن بني عدي قالوا له، لما أراد أن يهاجر: أقم عندنا، وأنت على دينك، واكفنا ما كنت تكفينا؛ فتخلف عن الهجرة مدة من أجل ذلك، ثم هاجر; وقال للنبي صلى الله عليه وسلم: قومي ثبطوني عن الهجرة وطاعة الله"، وهذه تركها صاحبك، وهو من الخيانة في النقل; إذ هي ترد شبهته، لأن من المعلوم أن منعه ممن يريد أذاه، لا يكون إلا على المباينة في الدين، وإلا فمن سكت لا يؤذى. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 446 وفي بعض ألفاظ القصة: أقم عندنا على أي دين شئت، ذكره ابن الأثير في "جامع الأصول"، فهو ظاهر في أنه صرح بدينه، الذي هو مباينة دين قريش، لأنه قد أسلم قديما زمان إسلام عمر، وكان يخفي إسلامه، فلما أراد الهجرة التزموا له أن يمنعوه ممن يؤذيه، فأقام مظهرا لدينه، ومع ذلك فقد تأسف على التثبط عن الهجرة إلى الله ورسوله، لقوله: قومي ثبطوني عن الهجرة، فكان مثبطا عن هذا الواجب؛ لو تم لهذا المجيز الاستدلال به، فلا حجة فيه أيضا. ثم لو كان مأذونا له من النبي صلى الله عليه وسلم على طريق التنَزل، صار من القضايا العينية الخاصة، لأن الإذن لإنسان يدل على المنع، لولا الإذن، عند أهل المعاني، كما أذن للأعرابي، وكما أذن لأسلم بقوله: " ابدوا يا أسلم، وأنتم على هجرتكم " 1. وللشارع أن يخص من شاء بما شاء، ومثله العباس، فإنه كان مأذونا له؛ فهو مخصوص من المنع، لأن في إقامته مصلحة للمسلمين؛ فلما ذكر ابن حجر حجة المنع قال: ويستثنى من ذلك، من كان في إقامته مصلحة للمسلمين، لأنه روي "أن العباس أسلم قديما، واستمر إسلامه إلى هجرته، يكتب بأخبارهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وكان يحب القدوم إليه، فكان يكتب له أن مقامك في مكة خير". قال ابن حجر بعده: ولم يثبت ذلك، فإن لم يثبت له من النبي صلى الله عليه وسلم إذن، فلا حجة فيه أيضا، لأنه قبل الهجرة جارية   1 أحمد 3/361. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 447 عليه أحكامهم، وقد تثبط قبل بدر عن الهجرة، وخرج مع المشركين، فأسره المسلمون وافتدى، كما هو مشهور في السير، فيكون مثبطا كما ثبط نعيم رضي الله عنهما؛ فلا حجة فيه، كما أنه لا حجة في خروجه، في صف المشركين يوم بدر. والصحيح: أن العباس كان يظهر إسلامه بعد بدر، لأنه ثبت أنه "لما أخبره الحجاج بن علاط، في مقدمه على قريش: أن النبي صلى الله عليه وسلم فتح خيبر، وكان الحجاج قد أظهر لقريش خلاف ذلك، لإذن النبي صلى الله عليه وسلم فيه; فلما ذهب الحجاج، قام العباس في أنديتهم مصرحا: أن الله قد أعز دينه، ونصر رسوله"، وفي هذا أعظم إغاظة للمشركين؛ فبطل الاحتجاج بالقصتين على كلا التقديرين، وانحلت هذه الشبهة من أصلها. وأما قوله عن ابن العربي: إن الهجرة فرضت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم واستمرت بعده لمن خاف على نفسه، فجوابه من وجوه: الأول: أنا قدمنا له، أنه حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، فالاستدلال به استدلال بالمفهوم؛ وهو ضعيف إذا خالف النص، كيف وهو محتمل عبارة لا حجة فيها; الثاني: أن عبارة النووي عنه ترد هذا، فإنه قال في شرح الأربعين له: قال ابن العربي: قسم العلماء رحمهم الله الذهاب في الأرض طلبا وهربا. فالأول: ينقسم إلى ستة أقسام: الأول: الخروج من دار الحرب إلى دار الإسلام، وهي باقية إلى يوم القيامة؛ والتي الجزء: 12 ¦ الصفحة: 448 انقطعت بالفتح، في قوله صلى الله عليه وسلم: " لا هجرة بعد الفتح " 1 هي القصد إلى رسول الله. الثاني: الخروج من أرض البدع، وذكر قول ابن القاسم عن مالك المتقدم؛ فوازن بين هذا، وبين مجمل عبارة نقلت عنه، لا صراحة فيها. الثالث: أن خوفه على نفسه مع إظهار الدين، أقرب الاحتمالين، لموافقة قول سلفه. وأما قوله: قال الخطابي: الحكمة في وجوب الهجرة على من أسلم، ليسلم من أذى الكفار، فإنهم كانوا يعذبون من أسلم، ليرجع عن دينه، فلم أقف عليه من كلام الخطابي، بل هو من قول الحافظ؛ وكلام الخطابي قبله بيسير، وهو في الفتح فراجعه. ثم هو من تفسير الشيء ببعض أفراده، وقد علل بعضهم: أنها إنما فرضت، لتكثير سواد المسلمين; وبعضهم علل بتعليم شرائع الدين، وبعضهم بخوف الفتنة، وقد قدمنا: أن الحكم الواحد تتعد أسبابه. قال شيخ الإسلام ابن تيمية، قدس الله روحه: والسلف رضي الله عنهم يذكرون في تفسيرهم جنس المراد بالآية، على نوع التمثيل، ليس مرادهم تخصيص نوع دون نوع، انتهى. وقال الصنعاني، رحمه الله: والعلة المنصوصة لا تقتضي الحصر قيدا فيها عند الأصوليين؛ وقد تقدم لك مررا، ما يدل   1 البخاري: الجهاد والسير 2783 , ومسلم: الإمارة 1353 , والترمذي: السير 1590 , والنسائي: البيعة 4170 , وأبو داود: الجهاد 2480 , وأحمد 1/226 ,1/355. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 449 على أن خوف الفتنة بالدعوة إلى الله وإظهار الدين، إذ لا فتنة تتوقع للساكت حتى في بلاد الروم; أفلا يستحي العاقل من حمل عبارات العلماء على مجرد فهمه، من أن فعل العبادات، غير المعتقد، هو إظهار الدين؟! فالله المستعان. ولو سلم هذا لانحلت عروة شعبة الهجرة من أصلها، ولما أطلق الماوردي ما هو مسلم في الجملة، من أن من رجا دخول غيره في الإسلام جاز له ذلك، أنكر عليه هذا الإطلاق ونوزع فيه، كما تقدم. وأما نقله عن الماوردي والحافظ، كلاهما على قول عائشة: (لا هجرة اليوم، كان المؤمن يفر بدينه إلى الله ورسوله، مخافة أن يفتن عليه، فأما اليوم فقد أظهر الله الإسلام) ، فكلام عائشة صريح في أن العلة التي من أجلها كان المؤمن يفر بدينه زالت بظهور الإسلام، ونحن نقول بموجب ذلك; ومفهوم الحافظ ليس هو مقتضى كلام عائشة، إن كان على ما زعم المجيز مع أنه لمجرد العبارة، وفي النقل تصرف مخل، لا ينبغي لطالب العلم; وأنا أسوق لك العبارة من أصلها، لتعلم أن هذا العلم دين. قال الحافظ: إشارة عائشة إلى بيان مشروعية الهجرة، وأن سببها خوف الفتنة، والحكم يدور مع علته، فمقتضاه أن من قدر على عبادة ربه، في أي موضع كان اتفق، لم تجب عليه الهجرة; ومن ثم قال الماوردي: إذا قدر على إظهار دينه، في بلد من بلاد الكفر، فقد صارت البلد به دار إسلام، انتهى كلام الحافظ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 450 فأسقط المجيز قوله: ومن ثم، ولعله ذهول، وهي تدل: على أن عبارة الحافظ تنبني على ذلك، وأن الماوردي فهم كما فهم، لأن معنى: ومن ثم، أي: ومن هذه الحيثية، فعلم أنه لاحظ ذلك المعنى الذي قصده الماوردي من جواز الإقامة لمن أظهر دينه، ورجا إسلام غيره، مع أن كلام الحافظ يشعر بتمريض إطلاق الماوردي الأفضلية؛ وقد قدمنا لك الكلام عليه، وأنه لم يسلم للماوردي ما أطلق، فكذلك لا يسلم للحافظ لو قدر أنه يوافقه، مع أن عبارته محتملة غير صريحة؛ إذ العبادة لفظ عام، لا يحمل على ما زعموا إلا بقرينة، على ما قاله علماء البيان، ولا قرينة حينئذ؛ فحمله، وكذلك حمل ما قبله وما بعده، من مطلق عبارات العلماء، على ما يشهد له البرهان من قول الشارع، أولى، لوجوب الرد إليه عند التنازع. وأما نقله عن الحافظ، وابن قدامة، من أن إظهار الدين أداء الواجبات، فقد تقدم لك ما يدل على أنه لا يتم له الاستدلال به على كل تقدير، لأنهم في عباراتهم غايروا بين الجملتين، فقالوا: لا يمكنه إظهار دينه، ولا يمكنه أداء واجباته، وأعادوا الجملة ثانيا، فصار هذا الحكم مركبا من جزئين، ولا يصح بدونهما، فظهر أن إظهار الدين هو إظهار المعتقد. قال شيخ الإسلام: والأمر المركب من أجزاء، تكون الهيئة الاجتماعية، مبنية على تلك الأجزاء، مركبة منها، لأن الجزء: 12 ¦ الصفحة: 451 إعادة الأداة عند أهل المعاني، من باب التأسيس لا من باب التأكيد؛ وأظنه لا يفرق بين النوعين كما أنه لم يعرف الفرق بين العام المطلق المستغرق لأفراده، وبين العمومات المتناولة للشيء، وليس ببدع، إذ الدعاوي قد كثرت، ولو كان ثم خلاف لنبه عليه المتأخرون، لأنهم صرحوا بالمراد، كما تقدم. وأما نقله عن الحافظ: أنه إذا لم يكن إمام وجب على المسلمين ... إلخ، فجوابه: أن نصب الإمام حجة ظاهرة في التماس الحوزة، والحوزة لا تكون إلا تنفيذ الأمر والنهي، ومعناه أنهم يجعلون إماما وقاضيا، يقضي بحكم القرآن، فما هذا الإمام؟ وما هذه الحوزة إذا لم تنفذ شيئا؟! فما وجه المأخذ؟ وأين مطابقته للإقامة بين ظهراني المشركين، لمسلم لا يستطيع إظهار ما هو عليه من الدين؟!. وقوله: وكلام العلماء يطول، مجرد تهويل لا يعبأ به؛ وإذا كان هذا غاية بضاعته فلو شاء لنقل مجلدات. وقد قدمنا لك أول الجواب كلام ابن القيم أنه إذا تواطأ الكتاب والسنة على حكم، فلا يمكن أن يعارض، فلعل الله أن ينفعك به، فإنه أصل يزيل عنك شبهات كثيرة، وليس الشأن في كثرة التسويد; بل الشأن كل الشأن في فهم النصوص، ورد محتملاتها إلى صريحها. ولما رأى بعض المغاربة كلاما أعجبه، قال: وليس الفقيه من يحفظ عددا كثيرا من العلم، وإنما الفقيه من يعرف مواقع الجزء: 12 ¦ الصفحة: 452 الخطاب ومدلولات الألفاظ، ومن ظن ذلك، فقد عرض له ما يعرض لمن ظن: أن الخفاف هو الذي عنده الخفاف الكثيرة، لا الذي يقدر على عملها، فقد يأتيه إنسان بقدم ليس في خفافه ما يوافقها، فيلجأ به إلى صانع الخفاف، فيصنع له قدر ما يوافقه. وأما احتجاجه بسفر أبي بكر، فمن أعظم الجهل، لأنه قد قام بقلوب أصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم من الغيرة لله ولدينه وعداوة أعدائه، وإزهاق النفوس في مرضاته، ومفارقة الآباء والإخوان والعشيرة، ما هو معروف، لا يخفى إلا على من أراد لبس الحق بالباطل. هذا سعد رضي الله عنه لما قدم مكة كافح أمية، وتوعده بما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من قتله، وهو نازل عليه، فأغاظه ولم يبال به. وهذه أخت عمر رضي الله عنه لما قال لها: أريني هذا الكتاب، قالت: إنه لا يمسه إلا المطهرون، ولم توافقه، وقد أدمى رأسها، ومع ذلك، قالت: كان ذلك - تعني الإسلام - على رغم أنفك; وكذلك أم حبيبة بنت أبي سفيان، طوت فراش النبي صلى الله عليه وسلم عن أبيها، فقال: بنية، أرغبت بي عن هذا الفراش، أو رغبت به عني؟ قالت: (بل هو فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنت رجل مشرك، نجس، فلا أحب أن تجلس عليه) ; ومثل هذا كثير من أقوالهم وأفعالهم، رضي الله عنه وأرضاهم. والمقصود: أن لهم من الغيرة ما هو معلوم، ومصالح سفرهم للدين، والدعوة إليه ظاهرة، وحججهم على أعدائه الجزء: 12 ¦ الصفحة: 453 قائمة قاهرة؛ ومن استدل بهذا على ما يصدر من أهل الزمان، فهو المكابر لا محالة، وهو كمن يستدل بجواز القبلة في نهار رمضان، على جواز الوطء فيه. والحاصل: أن المسلم لا يكون مظهرا لدينه، سواء كان مسافرا أو مقيما، حتى يخالف كل طائفة بما اشتهر عنها، وهو الذي يفهم من كلام السلف. أما قول: يا كافر! وقولك: أوجدنا عليه دليلا، ولو من تاريخ، أو غيره، فهذا لفظ لا يقول به أحد، ولا نعلم أحدا قال باشتراطه، لأنه مما لا مصلحة فيه حتى لو الداعي إلى الدين. فإن الله قال لموسى وهارون، في حق من ادعى الربوبية: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [سورة طه آية: 44] ، بل يكتفي من ذلك بإظهار التوحيد، وإنكار الشرك والبراءة منهم، والتصريح لهم بذلك؛ والله أعلم. ولا بد من عودة يقتضيها المقام، أعرج فيها على بعض عبارات أئمة هذه الدعوة، أختم بها هذا الجواب، وإن كنت قد ذكرت شيئا منها فيما تقدم، وقد يستلذ المعاد، كما قيل: ردد كلامك ما أمللت مستمعا ... ومن يمل من الأنفاس ترديدا وفي أجوبة أولاد الشيخ، لما سئلوا: هل يجوز للإنسان أن يسافر إلى بلد الكفار، وشعائر الشرك ظاهرة، لأجل التجارة أم لا؟ الجواب عن هذه المسألة، هو الجواب عن التي قبلها الجزء: 12 ¦ الصفحة: 454 سواء، ولا فرق في ذلك، بين دار الحرب والصلح، فكل بلد لا يقدر المسلم على إظهار دينه فيها، لا يجوز السفر إليها. وقال السائل أيضا: وهل يفرق بين المدة القريبة، مثل شهر أو شهرين، وبين المدة البعيدة؟ الجواب: أنه لا فرق بين المدة القريبة والبعيدة، فكل بلد لا يقدر المسلم على إظهار دينه فيها ولا على عدم موالاة المشركين، لا يجوز له المقام فيها، ولا يوما واحدا، إذا كان يقدر على الخروج منها، انتهى. وفي أجوبة أخرى لهم: ما قولكم في رجل دخل في هذا الدين وأحبه، ويحب من دخل فيه، ويبغض الشرك؛ وأهله يصرحون بعداوة الإسلام، ويقاتلون أهله؛ ويتعذر بأن ترك الوطن يشق عليه، ولم يهاجر عنهم بهذه الأعذار، فهل يكون مسلما هذا؟ أم كافرا؟ الجواب: أما الرجل الذي عرف التوحيد وآمن به، وأحبه وأحب أهله، وعرف الشرك وأبغضه وأبغض أهله، ولكن أهل بلده على الكفر والشرك، ولم يهاجر، فهذا فيه تفصيل; فإن كان يقدر على إظهار دينه عندهم، ويتبرأ منهم، ومما هم عليه من الدين، ويظهر لهم كفرهم وعداوته لهم، ولا يفتنونه عن دينه، لأجل عشيرة، أو مال أو غير ذلك، فهذا لا يحكم بكفره. ولكنه إذا قدر على الهجرة ولم يهاجر ومات بين أظهر المشركين، فنخاف أن يكون قد دخل في أهل هذه الآية: {إِنَّ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 455 الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} الآيتين [سورة النساء آية: 97] ، فلم يعذر الله إلا من لم يستطع حيلة ولم يهتد سبيلا; ولكن قل من يوجد اليوم من هو كذلك، إلى آخر المسألة؛ وهذا جواب الشيخ حسين، والشيخ عبد الله بن الشيخ محمد ابن عبد الوهاب، رحمهم الله وعفا عنهم، وقد فهموا من إطلاق النصوص المنع من المساكنة مطلقا. ونحن نقول بالرخصة لمن أظهر دينه، بتصريح أو امتياز يرجى به إسلام غيره، كما قدمنا لك عن السلف؛ لكن هذه الرخصة قد قيدت بأمن الفتنة، وأنت خبير بأن أكثر المسافرين في هذا الزمان، لا يعرفون ما حرم الله تعالى، من موالاة أعدائه وأقسامها، وما يكفر به المسلم، وما لا يكفر به وما يحفظ الدين؛ بل هم إلى موالاة المشركين أسرع من السيل إلى منحدره؛ فأين من يعرف أدلته ويظهره عند الخصم إذا ابتلي فيه؟ بل غالبهم - إلا من شاء الله - يفتتن عند أول شبهة تعرض له؛ وهذا كلام أئمة هذه الدعوة، ومن أنكره، فإنما أنكر في الحقيقة عليهم، وإن تعامى عنهم وجعله في معاصريه. وإذا كان الشيخ وأتباعه إلى يومنا هذا يقولون بموجب هذه النصوص التي قدمناها، ويوالون عليها ويعادون، فالآن يسأل ضرورة: هل هم فيما قرروه، على نهج قويم وصراط مستقيم، أو هم ممن لم يفهم درك المعاني، ولم يعرف أصولها الجزء: 12 ¦ الصفحة: 456 والمباني؟ فليكشف عن النقاب، وليبين وجه الخطأ بفصل الخطاب. وأما المغالطات والتلبيس فلا حاجة لنا به، ولا نقبل لمجرد النقل الذي وضع في غير موضعه، لكن على قانون البحث بأن تكون المعارضة بمساو في الصحة، أو نص في الحكم لا يحتمل إلا مدلولا واحدا؛ وحاشا أن يجد ذلك، لأنا لو ذهبنا مع المحتملات والمجاملات، والقضايا العينية المتعلقة بالأشخاص، أو الأزمان، أو الأحوال، لم يبق في الأرض سنة يعمل بها. ولا شك أن عقد مناظرة في مثل هذا الأصل الأصيل، ترفع إلى علماء الإسلام، ومن لهم البصيرة والعناية بهذا المقام، وتصير مثله بصاحبها على ممر الأيام، نوع جنون وبرسام؛ فاعرف أخي الحق بدليله، واترك المراء فيه، فإن المراء علامة الحرمان، قال حبر الأمة رضي الله عنه: (المراء لا تفهم حكمته، ولا تؤمن غائلته) . قال ابن القيم رحمه الله: وحقيقة التعظيم للأمر والنهي أن لا يعارضا بترخص جاف، ولا يعارضا بتشديد غال، ولا يحملا على علة توهن الانقياد؛ فإن المقصود: هو الصراط المستقيم الموصل إلى الله عز وجل؛ وما أمر الله عز وجل بأمر إلا وللشيطان فيه نزغتان: إما تقصير وتفريط، وإما إفراط وغلو، فلا يبالي بما ظفر من العبد من الخطتين. انتهى. وما أقرب كلا الخطتين فيمن تمكن منه الشيطان، وتولاه وطلب الجزء: 12 ¦ الصفحة: 457 العلم لغير الله وما كان كذلك، فهذه عقباه. ولفقيه زمانه الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين، في رسالته إلى آل سليم، كلام يناسب ذكره هنا; قال: وقد أخبر الله عن اليهود أنهم يحرفون الكلم عن مواضعه، أي: يتأولون كتاب الله على غير ما أراد، قال تعالى: {وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [سورة البقرة آية: 75] . وأخبر عنهم أنهم {يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً} [سورة النساء آية: 51] ، ولا بد أن يوجد من هذه الأمة، من يتابعهم على ما ذمهم الله به. والإنسان إذا عرف الحق وضده، لم يبال بمخالفة من خالف، كائنا من كان، ولا يكبر في صدره مخالفة عالم، ولا عابد; وما أخوفني على من عاش أن يرى أمورا كثيرة لا منكر لها. ثم ذكر الشرك، وذكر ما ابتلي به شيخ الإسلام من علماء وقته; قال: وأكثر الناس اليوم - خصوصا طلبة العلم - خفي عليهم الشرك، انتهى من رسالته المشهورة. والفائدة: معرفة أن هذا الإمام له اليد الطولى في معرفة أصول الدين وفروعه، والحمية الإيمانية لله ولرسوله، وصدق الفراسة في التواء غصن الدين وذبوله. وهذا آخر ما أوردناه زائدا على السؤال، حملني عليه النصح للمسلمين، والشفقة بأهل الدين، لما اشتدت غربة الإسلام، الجزء: 12 ¦ الصفحة: 458 وأعرض المنتسب عما يجب عليه من القيام، ومال إلى ما مالت إليه العوام، منشدا ما قاله بعض العلماء الأعلام: قدمت لله ما قدمت من عمل ... وما عليك بهم ذموك أو شكروا وأسأل الله العظيم أن يثبتنا على الدين القويم، والصراط المستقيم، وأن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا؛ والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على أشرف المرسلين، محمد وآله وصحبه أجمعين. [تقريظات علماء عصر الشيخ إسحاق] تقريظات علماء عصره: قال الشيخ حمد بن عبد العزيز: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله مبطل كيد الكائدين، ومقيم حجته على الطغاة والمعاندين، الذي وهب ما يشاء لمن يشاء من نصر الحق والدين، وتحقيق ما أخبر به صلى الله عليه وسلم حيث يقول: "يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين". هذا وما ضمنه الشيخ إسحاق بن عبد الرحمن هذه الأوراق وأملاه، هو الحق في هذه المسائل المهمة، التي ظاهر من ألقاها الاسترشاد، وحقيقته المشاقة والمراء والجدال والعناد؛ فأفاد وأجاد في تقرير الحق ونفي ما يضاده، مما تفوه به هؤلاء الحمقى والجهال، الذين حقيقة أمرهم الترويج والتلبيس على العامة والجهال، فلهم حظ من قوله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 459 بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} [سورة النساء آية: 115] . وقوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ} [سورة آل عمران آية: 7] . وصح عن عائشة رضي الله عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا رأيتم الذين يتبعون المتشابه، فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم " 1. فنسأل الله العظيم أن يهدينا وسائر الإخوان صراطه المستقيم، وأن يجنبنا وإياهم طريق المغضوب عليهم والضالين، وهو حسبنا ونعم الوكيل. وممن قرظ على هذا الكتاب أيضا: إمام عصره، الشيخ العالم العلامة: عبد الله بن عبد اللطيف، والشيخ العلامة: حسن بن حسين، والشيخ عبد العزيز بن محمد، والشيخ محمد بن محمود، والشيخ إبراهيم بن عبد الملك، والشيخ سعد بن عتيق رحمهم الله تعالى، وعفا عنا وعنهم بمنه وكرمه، إنه قريب مجيب. وقال أيضا الشيخ إسحاق بن الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمهم الله تعالى: نصول بالله في نحر امرئ دانا ... بالشرك أبدى لدين الله كفرانا رجس ببغداد أملى من زخارفه ... سفاسطا قد حوت زورا وبهتانا مخلطا ليس يدري حين أنشدها ... ماذا بمرصدها إذ كان وسنانا أبدى معارضة الأكفاء من سفه ... ما كان كفوًا لهم فازداد خذلانا جاءت سهام ذوي الإسلام نافذة ... فهدمت لذوي الإشراك بنيانا   1 البخاري: تفسير القرآن 4547 , ومسلم: العلم 2665 , والترمذي: تفسير القرآن 2993 ,2994 , وأبو داود: السنة 4598 , وابن ماجه: المقدمة 47 , وأحمد 6/124 ,6/132 ,6/256 , والدارمي: المقدمة 145. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 460 كم من صريع غدا من وقع أسهمهم ... تحت الحضيض ينادي الويل خسرانا فالحمد لله جاءتكم كتائبهم ... تشفي العليل وتهدي الحق حيرانا فيها حتوفكمو يا شيعة ألفت ... دين ابن جرجيس عدوانا وطغيانا وحكمة الله يا أعمى البصيرة في ... خلق الخليقة تكفي فيه بطلانا فالحق ما وافق النص الصريح ولن ... يعلوه باطلكم لو صيغ أوزانا لكن من ضعفت أنوار فطرته ... يبقى على الريب سل مولاك إيقانا واحذر أولي الزيغ إن الله بينهم ... في صدر سورة ذكرى آل عمرانا واسأل خؤونا يسمى بالأمين وقد ... عادى الأمين ووالى عنه شيطانا قل ما تحاول والإسلام قد ثبتت ... أطنابه وقتام الشرك قد بانا يا رافلا في ثياب الجهل مفتخرا ... وشاربا من كؤوس الغي نشوانا نصرت والله أعداء الرسول وقد ... عاديت من أسسوا للدين أركانا فأبرزوا للعدى مزبور زخرفه ... وقرروا أنه قد كان فتانا لو كان متبعا أقوالهم لرأى ... جعل الوسائط إشراكا وكفرانا لأنهم قد حكوا إجماع مذهبهم ... في كفر من جعل الأنداد أعوانا ومنهم من حكى الإجماع قاطبة ... فأين تذهب يا من كان سكرانا من قال ما يشتهي لا يكذبن على ... أئمة بينوا الأحكام تبيانا فأخسأ أمين فإن الحق أسهمه ... قد غادرت قبلك المخذول دحلانا لا بد من عصبة بالحق ظاهرة ... ينفون عن سنة المعصوم ما شانا غضبت من حجة لله قد ظهرت ... من عصبة ثابتي الأقدام إيمانا هلا غضبت لشرع الله إذ طمست ... أعلامه في بلاد الله أزمانا الجزء: 12 ¦ الصفحة: 461 قد بدلوا واجب التأذين تصدية ... وبدلوا الوحي بالقانون كفرانا يا أمة خالفوا نص الرسول لقد ... أغويتمو همجا في الناس عميانا لقبتمو عندهم أهل الرشاد بما ... نفرتموهم به زورا وبهتانا حذرتموهم وقلتم إنهم نفر ... تنقصوا أولياء الله عدوانا وأنكروا للكرامات التي جعلت ... فيهم وقد عمموا بالكفر من كانا صلى إلى قبلة الله التي نصبت ... فكنتمو لهمو في الشر أعوانا والله ما كفروا يا من قضى شططا ... إلا الذي بصريح الشرك قد دانا إن كان قد عرف التوحيد ثم أتى ... بضده لو يصلي الخمس إدمانا وقلتمو يهنكم أن النداء أتى ... إباحة والدعا قد كان كفرانا حتى غدا كلهم يدعو وليجته ... وهو الندا كان عند القوم ديدانا هذا لعمري صريح الشرك غايته ... والله إنهما في النهي سيانا قد جاء في مريم والأنبياء وفي ... ص الذي يكشف التلبيس تبيانا وفي الحديث أخي ذي النون دعوته ... أن الإله سوى من عم إحسانا وكنت شددت إنكارا عليه به ... أين الدراية ما أعماك إنسانا أما الزيارة فالتحقيق أنهمو ... قد أنكروا ما فشا في الناس ذا الآنا وهي التي القصد منها أن يزور لكي ... يأتي النبي والولي يدعوه لهفانا يقول يا سيدي اشفع لي وخذ بيدي ... يوم الجزاء وقد يدعون شيطانا كم قد تمثل والله الخبيث لهم ... في صورة الصالح المقبور أحيانا فنال مقصوده منهم وطلبته ... حتى امتلت مدن الإسلام أوثانا الجزء: 12 ¦ الصفحة: 462 وقد نهى المصطفى عن ذا وبينه ... نهيا تأكد منه اللعن قد كانا عند السياق وقد والله شدده ... يا ويل من خالف المعصوم عدوانا ما صح أن الذي يأتيه يسأله ... بل يقصدون صلاة ثم إتيانا إلى الضريح لتسليم عليه وذا ... فعل الصحابة أزكى الناس إيمانا في قولك الحق ما أفتى الإمام به ... بئس الإمام إذًا ذاك الذي هانا والباطل المحض ما أفتى الخبيث به ... عقلا وشرعا وإجماعا وقرآنا وذاك من وضر الشرك الذي استعرت ... نيرانه فيك يا من صد حرمانا نصرت خبا لئيما قد خسرت به ... إن لم تتب تصل يوم الحشر نيرانا والله ما كان ذا علم فتنسبه ... للعلم بل كان في بغداد فتانا قد كان داعية للشرك مبتدعا ... محرفا قصده إطفاء ما بانا من دعوة ظهرت في الأرض واشتهرت ... بها اضمحلت رسوم الشرك إعلانا لما علته سيوف الحق حين جنى ... على الشريعة في صلح به خانا وعارض البينات الواضحات بما ... يمجه سمع عبد حاز عرفانا منتك نفسك إقداما لنصرته ... فابرز تجد من ذوي الإسلام شجعانا مثل الضياغم في غيل الغياظ لها ... صولات صدق تذيق الذعر من دانا كالعالم الفاضل النحرير قدوتنا ... عبد اللطيف حباه الله رضوانا والسيدين الألوسيين من هجرا ... في الله من عبد الأنداد إيمانا في الانتصار وفي ردي أبي حسن ... ما يجعل الراسخ الإيمان جذلانا فإنهم حين ما بانت زخارفه ... جالوا عليه بوحي الله فرسانا فأبطلوا كل ما أبداه من شبه ... ظل الجهول به في الأرض حيرانا الجزء: 12 ¦ الصفحة: 463 قد قال إني وآبائي حنابلة ... بحور علم وما بغداد لولانا ما زان داود بغدادا وساكنها ... إن لم يشن ساكني بغداد ما زانا لما رأوه انتمى في زور باطله ... إلى الحنابلة اختاروه ميزانا فألزموه الذي كان ادعاه إذًا ... فكان ما يدعي الزنديق بهتانا هذا الذي قاله عبد اللطيف فإن ... أبدى الذي خالف المنصوص عرفانا فإنما طاعة الوحيين مذهبنا ... بحمد من أنزل القرآن تبيانا رجوتمو بالأحاديث التي وضعت ... بوضعها صرح الحفاظ إتقانا فاسأل أمين فما الشرك الذي تركوا ... إن كان هذا مباحا عندهم زانا وإن ذا الرد أخطا حين أنكره ... على المبهرج داود بن سلمانا فإن يقل سبب قلنا نعم سبب ... يهدي إلى النار هاتوا فيه برهانا بأنه كان في شرع الرسول وعن ... خير القرون فما يهدون سلطانا وأنه ما نهى عن ذاك سيدنا ... إلا الذي قصد التأثير إتيانا من جهله أنه ظن الكرامة لا ... تكون في صالح إلا وقد كانا في المستغاث به من دون خالقه ... هذا الذي نده قد جاء عصيانا أهلا لأن يرتجى أو يستغاث به ... من دون خالقه سبحان مولانا إلهنا خالق الأكوان من عدم ... مسدي الفضائل إنعاما وإحسانا وهذه حجج والله واهية ... ما أنزل الله بالإشراك سلطانا تبا له من وضيع قبثر فلقد ... والله أصخى عن الإيمان آذانا لقد تربى رضيع الشرك من صغر ... فأنكر الأخنع التوحيد خذلانا الجزء: 12 ¦ الصفحة: 464 إن الصحابة أخفوا قبر من عرفوا ... خوفا على الناس من أمر وقد هانا على النفوس وزادوا الشر واقترفوا ... من بعد خير الورى في الأرض أديانا وذاك مصداق ما قال الرسول فلا ... تعجب فما خافه المعصوم قد آنا عليه منا صلاة الله دائمة ... ما رجَّع الطير عالي الدوح ألحانا وما همى المزن أو هب النسيم وما ... هدت عصابة أهل الدين أوثانا والآل والصحب ثم التابعين لهم ... من أسسوا للهدى في الأرض أركانا وقال الشيخ العلامة: إبراهيم بن الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن، رحمهم الله، ذبا عن الدين المتين أن يضام، وحمية لجناب الإسلام والمسلمين أن يعروه اهتضام، مجيبا لمن لا يطابق اسمه مسماه، المتكلم بالقحة والزور، فيما نماه: أمين بن حنش البغدادي، لا زال ممقوتا فيما تقول، في كل مجمع ونادي. الحمد لله حمدا أستزيد به ... فضل الإله وأرجو منه رضوانا وأستعين به في رد خاطئة ... من العراق أتت بغيا وعدوانا من جاهل عارض الحق المتين بما ... هدى به سفها تيها وطغيانا فدم ببغداد وغد لا خلاق له ... خب لئيم حليف الشر مذ كانا قد عاب أهل الهدى من غير ما سبب ... وقام يعمر للإشراك بنيانا وظل يمدح ما أبداه طاغية ... مؤسسا لصريح الكفر أركانا بقوله الحق ما أفتى الإمام به ... يعني بذلك داود الذي خانا والشرك لا شك ما أفتى اللئيم به ... أعني به الفدم داود بن سلمانا الجزء: 12 ¦ الصفحة: 465 الجاهل المارق المغبون صفقته ... والمغوي الناقص المملوء طغيانا من الأراذل ممن ليس يردعهم ... عن حومة الكفر والإشراك من كانا من الدعاة إلى طرق الضلال وذا ... لا شك فيه لدى من حاز عرفانا من الطغام وشر الناس قاطبة ... هداهم لسبيل الكفر طغيانا والسائرين على نهج الردى وعلى ... طرائق الشر إخوانا وأعوانا قد كان والله لا علم ولا ورع ... بل كان أجهل خلق الله إنسانا فضل من بقريظ الشعر يمدحه ... مصوبا للذي أبداه طغيانا كخائن ابن حنيش حين قرر ما ... أبدى من الكفر في صلح به خانا فليس بالعالم المرضي مقالته ... ولا الأصيل ولا من نال إتقانا حتى يقرر ما جاء الخبيث به ... من السفاسف إشراكا وكفرانا إن كان إلا غويا خالعا عفنا ... وزائغا حائدا بل كان ديصانا يا من تهور فيما قد أتى سفها ... ولم يبال بقول الزور مجانا بشراك بالخزي يا أشقى الورى فلقد ... أبديت عمري من الكفران ألوانا وفهت بالزور فيما قلت مجتريا ... فما أمين ولكن كنت خوانا فيما تقولته يا ذا الخؤون على ... شمس الهدى كذبا بغيا وعدوانا والشيخ منه برئ لم يقله ولم ... يفه به أبدا بل كان بهتانا والله ما كان عن جهل عبارته ... لكنه العلم إيضاحا وتبيانا وقد غدا قاطع الإجماع حجته ... والراجحات من الأقوال برهانا فما يكفر كل الناس قاطبة ... ولا يجهلهم يا شر من كانا ولا يكفر أهل القبلة الفضلا ... لا بل يكفر من بالشرك قد دانا الجزء: 12 ¦ الصفحة: 466 من كان يصرف للمخلوق دعوته ... وكان يندب للأموات أحيانا يدعوهمو باعتقاد منه أنهمو ... يفرجون عن المكروب أحزانا وما تنقص خير المرسلين ولم ... يبح له حرمة ترجى ولا شانا بل كان يرعى حقوق المصطفى وكذا ... للأمر منه والنهي الذي بانا يرعى لحرمته يقضي بسنته ... يدعو لأمته بالخير إحسانا لكنه لا يرى أن تجعلوه له ... شركا مع الله جل الله مولانا ما ذاك حق له والله حذرنا ... عن ذا يقينا بذكرى آل عمرانا كذا الشفاعة منه ليس يحرمها ... إلا جهول بمحض الشرك قد دانا كمثلكم يا ذوي داود إنكمو ... جعلتمو أولياء الله أوثانا تنسون خالقكم في كل حادثة ... وتذهبون إلى الأموات سرعانا هذا لديكم شهيرا ليس ينكره ... يا أغلف القلب إلا جاحدا بانا هذا هو الشرك قد أعليت ذروته ... وسوف تصبح يوم الدين ندمانا كذا النداء عبادات أما لك من ... وقف على واضح القرآن إمعانا فيه الدعا والندا لا فرق بينهما ... حقا بهذا كتاب الله أنبانا في الأنبياء كذا في مريم ذكرا ... وجاء لفظ الدعا في آل عمرانا في تلو ياسين نادى نوح مرسله ... كذاك في اقتربت منه الدعا كانا كذاك ذو النون نادى عند شدته ... سماه طه دعاء جاء تبيانا وآية هي في الكفار قد نزلت ... تأتي يقينا على من جاء كفرانا من كان يقصر آيات الكتاب على ... أسباب إنزالها قد نال خسرانا فالاعتبار عموم اللفظ قال بذا ... من شاد للملة السمحاء أركانا الجزء: 12 ¦ الصفحة: 467 همو الهداة الأولى نص الرسول على ... تفضيلهم زمنا علما وعرفانا كذاك متبع طرق الهداة على ... قواعد الشرع إسلاما وإيمانا فهو المراد بآيات مبشرة ... من الإله أتت عفوا وغفرانا والمشرك الكافر الزنديق إن له ... عند الإله غداة الحشر نيرانا وليس ننكر أسبابا مؤثرة ... والله خالقها سبحان مولانا والاعتماد على الأسباب منقصة ... لأنه من قسيم الشرك قد بانا فمن يلاحظ للأسباب يفردها ... من دون خالقها قد نال خذلانا ومن يعطل أسبابا وينكرها ... قد خالف الشرع والمعقول طغيانا أما الخوارق للعادات فهي إذا ... لا تقتضي الفضل إطلاقا لمن كانا أكل من أحدث الله الحكيم له ... كرامة منه إنعاما وإحسانا أهل بأن يرتجى أو يستعان به ... أو يطلب القطر عند الجدب أحيانا هذا ضلال مبين واضح أبدا ... لا بل هو الشرك بالمعبود عدوانا كذا الزيارة تحقيق فما شرعت ... إلا لتذكير إخوان لإخوانا نص الرسول على هذا وبينه ... ونسأل الله للمقبول غفرانا وفي زيارة خير الخلق قد ذكرت ... آثار أبطلها من حاز عرفانا وليس فيها صحيح مسندا أبدا ... حتى نسلم للمنصوص إذعانا لكنما عندنا حقا زيارته ... من غير ما شد رحل للنبي كانا إلا لمسجده حالا فذا وردت ... به الأحاديث لكن كنت سكرانا وما سوى ذاك من فعل الذين عصوا ... فليس حقا ولكن كان عصيانا هذا الذي قاله عبد اللطيف إذًا ... ولم يكن يمنع المشروع بل كانا الجزء: 12 ¦ الصفحة: 468 مستمسكا بصحيح النقل متبعا ... خير القرون الأولى دانوا بما دانا ينفي عن الحق ما أبداه مبتدع ... أضحى بما قاله في الدين جذلانا يرديه تحت حضيض الأرض يطرحه ... بأسهم الحق إيضاحا وتبيانا يحمي طريق رسول الله عن شبه ... وعن ضلال بذا التأسيس أتيانا عن ذاك أفصح مصباح له ولقد ... أعلى بذلك للتوحيد بنيانا إذا تأمل ذو الإنصاف أسطره ... يقضي له عجبا حفظا وإتقانا يرى أدلته في ذاك واضحة ... من الصحاح أحاديثا وقرآنا يهتز منها ذوو الإسلام من طرب ... وتترك المشرك الزنديق حيرانا لا غرو مما هذى هذا الغبى به ... إن كان غيظا على الإسلام ملآنا فمفرط الحسد المردي دعاك إلى ... ما قلته كذبا بغيا وطغيانا لما رأيت سيوف الحق بارقة ... في سوح بغداد أبديت الذي كانا فالحمد لله لا والله ما أحد ... يرى الذي قلته إلا وقد هانا هذا وقد قال فيما قال مقتديا ... وأقبح القول ما قد قيل عدوانا لو كان كفوا له أو من يقارنه ... أو من يقاربه يا ليت لو كانا لكنت أبرز ما قد كنت أكتمه ... ولا أبالي بمن قد عز أو هانا فليت شعري أكان الوغد يظهر ما ... أجنه من خبيث القول كتمانا إذا نعد له والله أجوبة ... مثل الصواعق آيات وقرآنا من كل أروع شهم القلب فكرته ... تريك فصلا وإيضاحا وتبيانا حتى نغادره في قعر مظلمة ... يهوي حسيرا كسيرا نال خذلانا ما ضر أفق السما نبح الكلاب كذا ... ما ضر أهل الهدى من سب أو شانا الجزء: 12 ¦ الصفحة: 469 فالحمد لله حمدا لا انقطاع له ... جار على مرّ ما يبقى وما كانا لا فاز بالأمن عبد مشركا أبدا ... وسوف يجني غداة الحشر خسرانا ولا غدا بجزيل الأمن مبتهجا ... عن الإله ولا أعطاه رضوانا هذا جوابك يا هذا موازنة ... فالحر ما دين إنصافا به دانا ثم الصلاة على المعصوم سيدنا ... أزكى البرية بل أعلاهمو شانا والآل والصحب ما هب النسيم وما ... مس الحجيج لبيت الله أركانا [رسالة الشيخ حمد بن عتيق إلى حسين المخضوب جوابا لما ذكره من فقدان الإخوان] وقال الشيخ حمد بن عتيق رحمه الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم من حمد بن عتيق إلى الأخ المكرم، الشيخ عبد الله بن حسين المخضوب، وفقني الله وإياه للعلم والعمل، بالسنة والكتاب، وأزال عنا وعنه الحجب والارتياب، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وما ذكرت من فقد الإخوان، فهو وصمة على الدين والإيمان، ويدل على أن ما أخبر به الصادق قد آن؛ وقد قال صلى الله عليه وسلم: " إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من الناس، وإنما يقبض العلم بقبض العلماء؛ حتى إذا لم يبق عالما، اتخذ الناس رؤوسا جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا " 1، وقال صلى الله عليه وسلم "لا تقوم الساعة حتى يرفع العلم، ويوضع الجهل " 2، في أحاديث كثيرة في هذا المعنى، وقد أخبر به الصادق المصدوق. وبعد ذلك قد بلغني عنك ما أساءني، وعسى أن يكون كذبا، وهو أنك تنكر على من اشترى من أموال أهل الأحساء   1 البخاري: العلم 100 , ومسلم: العلم 2673 , والترمذي: العلم 2652 , وابن ماجه: المقدمة 52 , وأحمد 2/162 ,2/190 ,2/203 , والدارمي: المقدمة 239. 2 البخاري: الحدود 6808 , والترمذي: الفتن 2205 , وأحمد 3/98. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 470 التي تؤخذ منهم قهرا، فإن كان صدقا، فلا أدري ما الذي عرض لك؟ والذي عندنا: أنه لا ينكر مثل هذا، إلا من يعتقد معتقد أهل الضلال القائلين: إن من قال: لا إله إلا الله، لا يكفر، وأن ما عليه أكثر الخلق من فعل الشرك وتوابعه، والرضى بذلك وعدم إنكاره، لا يخرج من الإسلام. وبذلك عارضوا الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله، في أصل هذه الدعوة؛ ومن له مشاركة فيما قرره المحققون، قد اطلع على أن البلد، إذا ظهر فيها الشرك، وأعلنت فيها المحرمات، وعطلت فيها معالم الدين، تكون بلاد كفر، تغنم أموال أهلها، وتستباح دماؤهم. وقد زاد أهل هذا البلد، في إظهار المسبة له ولدينه، ووضعوا قوانين ينفذونها في الرعية، مخالفة لكتاب الله وسنة نبيه؛ وقد علمت أن هذه كافية وحدها، في إخراج من أتى بها من الإسلام; هذا ونحن نقول: قد يوجد فيها من لا يحكم بكفره في الباطن، من مستضعف ونحوه، وأما في الظاهر فالأمر - ولله الحمد - واضح. ويكفيك ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم في مكة، مع أن فيهم مستضعفين، وكذلك ما فعله أصحابه بكثير ممن ارتد عن الإسلام، من استباحة الدم والمال والسبي؛ وكل عاقل وعالم يعلم أن ما أتى به هؤلاء، من الكفر والردة، أقبح وأفحش، وأكثر مما فعله أولئك؛ فارجع البصر في نصوص الكتاب والسنة، وفي الجزء: 12 ¦ الصفحة: 471 سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، تجدها بيضاء نقية، لا يزيغ عنها إلا هالك؛ تحر فيما ذكر العلماء، وارغب إلى الله في هداية القلب، وإزالة الشبهة، وما كنت أظن أن هذا يصدر من مثلك، ولا تغتر بما عليه الجهال، وما يقوله أهل الشبهات. فإنه قد بلغني أن بعض الناس يقول: إن في الأحساء من هو مظهر دينه، لأنه لا يرد عن المساجد والصلاة، وأن هذا عندهم هو إظهار الدين، وهذه زلة فاحشة، غايتها: أن أهل بغداد وأهل بنبي وأهل مصر، قد أظهر من هو عندهم دينه، فإنهم لا يمنعون من صلى، ولا يردون عن المساجد. فيا عباد الله أين عقولكم؟ فإن النّزاع بيننا وبين هؤلاء، ليس هو في الصلاة، وإنما هو في تقرير التوحيد والأمر به، وتقبيح الشرك والنهي عنه، والتصريح بذلك، كما قال إمام الدعوة النجدية: أصل دين الإسلام وقاعدته أمران: الأمر الأول: الأمر بعبادة الله وحده لا شريك له، والتحريض على ذلك، والموالاة فيه، وتكفير من تركه. الأمر الثاني: الإنذار عن الشرك في عبادة الله وحده لا شريك له، والتغليظ في ذلك، والمعاداة فيه، وتكفير من فعله. هذا هو إظهار الدين يا عبد الله بن حسين. تأمل أرشدك الله، مثل قوله في السورة المكية: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} [سورة الكافرون آية: 1-2] ، إلى آخر السورة، فهل وصل إلى قلبك أن الله أمره أن يخاطبهم بأنهم كافرون، ويخبرهم الجزء: 12 ¦ الصفحة: 472 بأنه لا يعبد ما يعبدون، أي: أنه بريء من دينهم، ويخبرهم أنهم لا يعبدون ما يعبد، أي: أنهم بريئون من التوحيد، ولهذا ختمها بقوله {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [سورة الكافرون آية: 6] ، فهذا يتضمن براءته من دينهم وبراءتهم من دينه. وتأمل قوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [سورة يونس آية: 104-105] ؛ فهل سمعت الله أمره أن يقول لهم: إني بريء من دينهم؟ وأنه أمره أن يكون من المؤمنين الذين هم أعداؤهم؟ ونهاه أن يكون من المشركين الذين هم أولياؤهم وحزبهم؟! وفي القرآن آيات كثيرة مثل ما ذكر الله عن خليله إبراهيم إمام الحنفاء {وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ} الآيتين [سورة الممتحنة آية: 4] ؛ فأمرنا الله بالتأسي بهم قولا وفعلا. والقصد تنبيهك، خوفا من الوفاة على غير طائل من الدين؛ أعاذنا الله وإياك من مضلات الفتن؛ والله أعلم، وصلى الله على محمد وصحبه وسلم. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 473 [ورود رسالة من فارس فيها أربع مسائل والجواب عنها] وقال بعضهم وقيل: إنه الشيخ محمد بن سلطان، رحمه الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله عظيم الشأن، دائم الإحسان، الغني القوي السلطان، الأول ولا زمان، الآخر الباقي فليس بعده إنس ولا جان، الذي كتب آيات التوحيد والإيمان، بقلوب أهل التصديق، لما أوقد مصابيح التوفيق، فردا وإجمالا. لا يمثل للعيان، ولا يخيل للجنان، أخرج ذرية آدم بقدرته وحكمته، فقسمهم إلى ذي حظ وحرمان؛ فكم من حقير رفع، وكم من عزيز هان، صفى أسرار قوم، وكدر أسرار آخرين وأشان. فأهل الكدر يتعارفون، وأهل الصفا يتهادون، ويتداعون كالإخوان، ويحذر بعضهم بعضا مواطن الغفلة والخسران، كما أمرهم بذلك خالق الخلق ومكون الأكوان، فقال في محكم القرآن: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [سورة المائدة آية: 2] ، فسبحان من أظهر أسرار البيان، في تعليم تعظيم: {الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الْأِنْسَانَ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} [سورة الرحمن آية: 1-2-3-4] . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة أحقق بها حقائق الإيمان. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، الذي بعثه داعيا إلى الله، وأرسله بالدين القويم ليظهره على سائر الأديان، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه، والتابعين لهم بإحسان وسلم تسليما. أما بعد: فورد على بعض إخواننا من فارس "ورقة" فيها الجزء: 12 ¦ الصفحة: 474 كلام طويل، كل عاقل يرى الإعراض عنه، لأن أكثره لغو وهذيان، وتخليط أباطيل، يموه صاحبه بباطله على العميان؛ فرد أخونا على هذا المبطل ردا بسيطا، جزاه الله بالإحسان؛ ولكن أحببنا إعانة أخينا، امتثالا لقوله: " والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه " 1. وإن كنا لسنا من أهل هذا الشأن. فقال هذا المبطل كلاما، كما قدمنا: أنه لغو وهذيان، ولكن ملخصه، وحاصله أربع مسائل: المسألة الأولى: تعطيل صفات ربنا الديان، وذاته تعالى وتقدس عظيم الشأن. المسألة الثانية: تحليل الشرك وعبادة الأوثان، وجواز صرف الدعاء للأحياء والأموات، من الإنس والجان ; ويستدل هذا الجاهل المغرور، بعمومات كالسراب الذي بقيعة يحسبه ماء الظمآن. المسألة الثالثة: إثبات الشفاعة الشركية التي نفاها القرآن. المسألة الرابعة: استحسان البدع المضلة، والمحدثات التي حذر منها النبي صلى الله عليه وسلم في آخر الزمان. فالجواب، نقول: يا معلم إبراهيم علمني، وإلى طريق الحق فهمني، أوجب الله على عباده اتباع ما أنزل عليهم في كتابه، وما جاءهم به رسوله، قال تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} [سورة الأعراف آية: 3] . وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [سورة آل عمران آية: 31] . وقال تعالى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى} [سورة طه آية: 123] .   1 مسلم: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار 2699 , والترمذي: القراءات 2945 , وابن ماجه: المقدمة 225 , وأحمد 2/252. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 475 وذم الله من أعرض عن كتابه وما جاء به رسوله صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً} [سورة طه آية: 124] . وقال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا} الآية [سورة السجدة آية: 22] . وقال تعالى: {فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ} [سورة النجم آية: 29-30] . وقال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} الآية [سورة الكهف آية: 57] . والآيات في ذلك كثيرة معلومة. فإذا فهمت أن الله أوجب على عباده اتباع كتابه الذي جعله تبيانا لكل شيء، وهدى ورحمة، وطاعة رسوله الذي بعثه ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، فقال تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [سورة المائدة آية: 92] . وقال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [سورة النساء آية: 80] . وقال صلى الله عليه وسلم " لو كان موسى حيا، ما وسعه إلا اتباعي " 1 الحديث. فإذا عرفت وجوب ذلك، فأوجب الله أيضا على العباد: أن يردوا ما تنازعوا فيه واختلفوا فيه، إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. قال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} الآية [سورة النساء آية: 59] . وقال تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} الآية، [سورة البقرة آية: 213] . وقال تعالى: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي   1 أحمد 3/338 , والدارمي: المقدمة 435. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 476 اخْتَلَفُوا فِيهِ} الآية [سورة النحل آية: 64] . وقال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} الآية [سورة النساء آية: 65] . وقال صلى الله عليه وسلم لأصحابه: " تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا، كتاب الله " 1 وقال صلى الله عليه وسلم " تركتم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك ". فإذا عرفت هذه المقدمة - وهي الأصول الثلاثة - الاتباع، وتحريم الإعراض، ووجوب رد ما تنازعوا فيه، إلى ما أنزل إليهم من ربهم، وما جاء به نبيهم من السنة، وما عليه سلف الأمة. فالجواب: أن هذه البدعة بدعة الجهمية، ومقالتهم في الصفات، إنما حدثت في أواخر عصر التابعين، ومأخوذة عن تلامذة اليهود والمشركين، وضلال الصابئين؛ وأول من حفظت عنه هذه المقالة: الجعد بن درهم، وأخذها عنه الجهم بن صفوان، فنسبت مقالة الجهمية إليه. وقد قيل: إن الجعد أخذ هذه المقالة عن أبان بن سمعان، وأخذها أبان عن طالوت - وما اختلفوا فيه -، وطالوت عن لبيد اليهودي، الذي سحر النبي صلى الله عليه وسلم؛ ومستندهم في ذلك قول الأخطل، كافر نصراني; فإذا عرفت: أن أصل هذه المقالة - التحريف التعطيل - مأخوذة عمن ذكرنا: تلامذة الصابئين، والمشركين، واليهود، فكيف تطيب نفس مؤمن، بل نفس عاقل أن يأخذ سبيل هؤلاء المغضوب عليهم والضالين، ويدع   1 الترمذي: المناقب 3788 , وأحمد 3/14 ,3/17 ,3/26 ,3/59. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 477 سبيل الذين أنعم الله عليهم، من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين؟! فإذا عرفت أن مضمون مقالتهم هذه، واتباعهم سبيل الجهمية والمعتزلة، مضمونه: أن كتاب الله لا يهتدى به في معرفة الله، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم معزول عن التعليم، والإخبار بصفات الله الذي أرسله، وأن الناس عند التنازع لا يردون ما تنازعوا فيه إلى الله ورسوله، وإلى طريقة السلف؛ بل يردون عند التنازع إلى طريقة طواغيت الفلاسفة، والمجوس واليهود. وقد أنكر الله على من أراد أن يتحاكم إليهم، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [سورة النساء آية: 60-61-62] ؛ فإن هؤلاء إذا دعوا إلى ما أنزل الله في الكتاب، وإلى الرسول بعد وفاته، وهو الدعاء إلى سنته، أعرضوا عن ذلك، وقالوا: إنما قصدنا وما أردنا بذلك إلا إحسانا علما وعملا؛ ثم ضربوا للكتب الإلهية أنواع التحريف والتبديل، وأصناف المجاز والتأويل، ولا أبقوا العقول على ما فطرها الله عليه، مضاهاة للكثير من اليهود والصابئين، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: " لتركبن سنن الجزء: 12 ¦ الصفحة: 478 من كان قبلكم " 1 الحديث. ولكن قام برد هذه البدع أصحاب الكتاب، والآثار المأخوذة عن سيد المرسلين، وهم أهل القرآن والحديث، الباحثون في كل باب في العلم، من الصحابة والتابعين، من السابقين الأولين، الذين أخبر بهم النبي صلى الله عليه وسلم حيث يقول: "يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين". وكانوا هم أئمة الإسلام، الذين هم قدوة المؤمنين، بحيث كان أرباب هذه البدع في أيامهم أصاغر مغموصين. واعلم: أن الضلال والتهوك إنما استولى على كثير من المتأخرين، لنبذهم كتاب الله وراء ظهورهم، وإعراضهم عما بعث الله به محمدا صلى الله عليه وسلم من البينات والهدى، وتركهم البحث عن طريقة السابقين والتابعين، والأئمة الأربعة عليهم رضوان الله أجمعين، وأن ما أصف: فرع هؤلاء. وإذا كان ذلك كذلك، فهذا كتاب الله من أوله إلى آخره، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم من أولها إلى آخرها، ثم عامة كلام الصحابة والتابعين، ثم كلام سائر الأئمة مملوء بما هو، إما نص شاهر، أو لفظ ظاهر: أن الله هو العلي الأعلى، وهو فوق كل شيء، وهو عال على كل شيء، وأنه استوى على العرش. مثل قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [سورة طه آية: 5] . ومثل قوله: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ}   1 الترمذي: الفتن 2180 , وأحمد 5/218. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 479 [سورة فاطر آية: 10] . وقوله: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [سورة آل عمران آية: 55] ، {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً} [سورة الملك آية: 16-17] ، {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} [سورة النساء آية: 158] ، {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [سورة المعارج آية: 4] ، {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ} [سورة السجدة آية: 5] . وقوله في الملائكة: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} [سورة النحل آية: 50] ، {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} [سورة الأنعام آية: 18] ، {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [سورة الأعراف آية: 54] ، في ستة مواضع {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [سورة طه آية: 5] ، {يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى} [سورة غافر آية: 36-37] ، {تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [سورة فصلت آية: 42] ، {مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} [سورة الأنعام آية: 114] ، {تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [سورة فصلت آية: 2] ، مما لا يكاد يحصى إلا بكلفة. مثل قصة معراج الرسول صلى الله عليه وسلم إلى ربه، ونزول الملائكة من عند الله، وصعودها إليه، وقوله عليه السلام في الملائكة الذين " يتعاقبون فيكم بالليل والنهار، فيعرج الذين باتوا فيكم إلى ربهم، فيسألهم وهو أعلم بهم " 1. وفي الصحيحين في حديث الخوارج: " ألا تأمنوني؟ وأنا أمين من في السماء، يأتيني خبر   1 البخاري: مواقيت الصلاة 555 , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة 632 , والنسائي: الصلاة 485 , وأحمد 2/257 ,2/312 ,2/344 ,2/396 ,2/486 , ومالك: النداء للصلاة 413. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 480 السماء صباحا ومساء " 1. وفي حديث الرقية، الذي رواه أبو داود وغيره، وفي حديث الأوعال: " والعرش فوق ذلك، والله فوق العرش، وهو يعلم ما أنتم عليه " 2 كما رواه أحمد وأبو داود، وغيرهما، وفي حديث الجارية، وقوله في الحديث الصحيح: " إن الله لما خلق الخلق كتب في كتاب، فهو موضوع عنده فوق العرش: إن رحمتي سبقت غضب ي" 3، وقوله في حديث قبض الروح التي يعرج بها إلى السماء. وكذلك في حديث أبي موسى الأشعري، الذي في صحيح مسلم، وأمثال ذلك مما لا يحصيه إلا الله، مما هو أبلغ; تواترت اللفظية والمعنوية، التي تورث علما يقينا من أنفع العلوم الضرورية، عن الرسول صلى الله عليه وسلم المبلغ عن الله بإثبات صفات الذي أرسله، من العلو والكلام إلى غير ذلك، كما فطر الله على ذلك جميع الخلق، عربهم وعجمهم، إلا من اجتالته الشياطين، ثم في ذلك عن السلف من الأقوال، ما لو جمع لبلغ مئين ألوفا. وهذا وأمثاله كما قدمنا، يعلم البصير العاقل: أنهم مستحقون ما قاله الشافعي، رضي الله عنه حيث قال: حكمي في أهل الكلام، أن يُضربوا بالجريد والنعال ويطاف بهم في القبائل والعشائر، ويقال هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة، وأقبل على الكلام، إلى غير ذلك من ذم أهل الكلام، وأنهم مبتدعة، كما قُتل الجعد، والجهم بن صفوان، وغيرهما.   1 البخاري: المغازي 4351 , ومسلم: الزكاة 1064 , وأحمد 3/4. 2 أحمد 2/197. 3 البخاري: بدء الخلق 3194 والتوحيد 7404 ,7422 ,7453 ,7553 ,7554 , ومسلم: التوبة 2751 , والترمذي: الدعوات 3543 , وابن ماجه: المقدمة 189 والزهد 4295 , وأحمد 2/257 ,2/259 ,2/313 ,2/358 ,2/381 ,2/397 ,2/433 ,2/466. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 481 وأما مذهب السلف في ذلك، واعتقادهم: فيثبتون للرب ما أثبته لنفسه، وأثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم من الصفات العلى، والأسماء الحسنى، كما قال بعضهم يروي ذلك عن مالك، رحمه الله، وعليه السلف، كما قال ربيعة وابن عيينة، وغيرهما من أهل العلم بالقبول، لما سئل عن الاستواء: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والسؤال عنه بدعة، والإيمان به واجب. وروي عن بعضهم مثل ذلك، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [سورة الشورى آية: 11] . وقال تعالى: {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} [سورة طه آية: 110] ، فالممثل يعبد صنما، والمعطل يعبد عدما، والموحد يعبد إلها أحدا صمدا {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [سورة الإخلاص آية: 3-4] . وقال تعالى: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ} [سورة الصافات آية: 180-181-182] ، في تبليغهم ما أرسلوا به، {وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [سورة الأنعام آية: 45] . وأما قولك: "في" تقع ظرفية، فهي تقع ظرفية، وتقع بمعنى الاستعلاء، كما قال تعالى: {فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} [سورة التوبة آية: 2] . وقال، إخبارا عن فرعون: {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [سورة طه آية: 71] ، و {فِي الْأَرْضِ} [سورة البقرة آية: 11] ، أي على الأرض; وهذا مفهوم معهود في خطاب القرآن، فقوله: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [سورة الملك آية: 16] ، بمعنى الاستعلاء، أي: من على السماء. ولكن قال تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} [سورة آل عمران آية: 7] ، مرض الجزء: 12 ¦ الصفحة: 482 {فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} الآية [سورة آل عمران آية: 7] . وفي الحديث عن عائشة رضي الله عنها، عنه عليه السلام: " إذا رأيتم الذين يتبعون المتشابه ويتركون المحكم، فأولئك الذين سمى الله، فاحذروهم " 1. فصل وأما المسألة الثانية، وهو قوله: إنكم تنكرون الاعتقاد في الأولياء ودعاءهم عند المهمات والاستشفاع بهم. فالجواب: أن هذا هو الشرك الأكبر المحرم، الذي لا يغفره الله، وحرم الجنة على فاعله، كما قال تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} [سورة المائدة آية: 72] . وهذا هو شرك المشركين، قال تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [سورة الزمر آية: 3] . وقوله: {هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [سورة يونس آية: 18] . وهذا أيضا هو اعتقاد قوم نوح، كما قيل عنهم: ما عظم أولنا هؤلاء، إلا وهم يرجون شفاعتهم عند الله; فعبدوهم بذلك. وهذا الاعتقاد هو شرك الأولين أيضا؛ فبعث الله الرسل تدعوهم إلى التوحيد، وتخبرهم أن هذا هو الشرك الأكبر، كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [سورة الأنبياء آية: 25] .   1 البخاري: تفسير القرآن 4547 , ومسلم: العلم 2665 , والترمذي: تفسير القرآن 2994 , وأبو داود: السنة 4598 , وابن ماجه: المقدمة 47 , وأحمد 6/48 ,6/124 ,6/132 ,6/256 , والدارمي: المقدمة 145. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 483 وكما ذكر الله في دعوتهم قومهم: {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ} [سورة المؤمنون آية: 32] . وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [سورة النحل آية: 36] . فإذا عرفت فرضية التوحيد والأمر به، فاعرف أن الله حرم الشرك، كما قال تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} [سورة الأنعام آية: 151] . وقال تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} [سورة النساء آية: 36] . وقال تعالى إخبارا عن عظم الشرك، وبطلان عمل صاحبه، لما ذكر الأنبياء قال: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [سورة الأنعام آية: 88] . وقال في نبيه محمد صلى الله عليه وسلم {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [سورة الزمر آية: 65-66] . وأخبر جل وعلا أنه لا يغفره، كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [سورة النساء آية: 48] ، وأخبر أنه حرم الجنة على فاعله، كما قال تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} [سورة المائدة آية: 72] ، وأخبر أنه لا تنفعهم شفاعة الشافعين، فقال تعالى في حق نبيه: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} الآية، [سورة التوبة آية: 113] . فإذا كان هذا عظم الذنب العظيم، وعظم جرم فاعله، فكيف يليق بمن له أدنى عقل وفقه يبيحه للناس، ويدعو إليه؟! الجزء: 12 ¦ الصفحة: 484 ولكن نقول: سبحان من طبع على قلوب أعدائه. فإن قال هذا الجاهل: الاعتقاد في الأولياء ودعاؤهم، والاستشفاع والتوسل بهم، ليس بشرك. فيقال: أوجب الله علينا أن نرد ما اختلفنا فيه، وما وقع فيه النّزاع، إلى كتابه وسنة رسوله، كما قدمنا، فإنه قال: {لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} [سورة البقرة آية: 213] . وقال: {لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ} [سورة النحل آية: 64] . وقال: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} الآية [سورة النساء آية: 59] . فنقول: ورد في القرآن العزيز، نفي ما أثبت اتخاذه مع الله، كذلك ورد نفي الشفيع والولي من دون الله، واتخاذ الأنداد معه أيضا، قال تعالى: {مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ} [سورة السجدة آية: 4] . وقال تعالى: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ} [سورة الأنعام آية: 51] . وخاطب الله من زعم ذلك واعتقده بالكفر، قال تعالى: {أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلاً} [سورة الكهف آية: 102] ، إلى قوله: {وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُواً} [سورة الكهف آية: 106] ، كذلك قول الله تعالى: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [سورة البقرة آية: 22] . وقال تعالى: {وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَاداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 485 أَصْحَابِ النَّارِ} [سورة الزمر آية: 8] . وفي الحديث الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم لما سئل: " أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله ندا وهو خلقك " 1. وأما الكلام على الدعاء، فالدعاء من أجل الطاعات وأعظم العبادات، وصرفه لغير الله من أعظم المنكرات، وقد بين الله في كتابه العزيز، خصوصا، فيه: الآيات المحكمات; ولم يكثر الله في نوع من أنواع العبادة في كتابه أعظم من الدعاء، كالسجود لغير الله، فذكر الذبح في موضعين، وذكر أنواع العبادة كذلك; وأما الدعاء فذكره في نحو ثلاثمائة موضع على أنواع. تارة يذكره على صيغة الأمر به، كما قال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} [سورة غافر آية: 60] ، سماه الله عبادة، فلأجل ذلك قرن الأمر به الأمر بالإخلاص أيضا، كما قال تعالى: {فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [سورة غافر آية: 65] . وقال تعالى: {وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} [سورة الأعراف آية: 29] ؛ فأمر، وأكد بأن يكونوا في دعائه مخلصين، كذلك قال تعالى: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [سورة غافر آية: 14] ، فأخبر أن لا يكره دعاءه، والإخلاص له في عبادته، إلا من كان صفته الكفر. وقال تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ} [سورة العنكبوت آية: 65-66] ، فدلت هذه الآية الكريمة   1 البخاري: تفسير القرآن 4477 , ومسلم: الإيمان 86 , والترمذي: تفسير القرآن 3182 , والنسائي: تحريم الدم 4013 , وأبو داود: الطلاق 2310 , وأحمد 1/434. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 486 على فوائد: منها: أن الدعاء هو أصل التوحيد، والشرك والعبادة، حيث ذكر لما دعوه مخلصين له العبادة في ذلك. الفائدة الثانية: أنه الشرك إذا صرف لغير الله; الفائدة الثالثة: أنه كفرهم على ذلك حيث قال: {لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ} الآية [سورة النحل آية: 55] . النوع الثاني: ذكره بصيغة النهي، كما قال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} [سورة الجن آية: 18] ؛ وذكر ذلك باسم النكرة: قوله {أَحَداً} نافية، لا نبي ولا ولي ولا ملك; وقال تعالى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [سورة المؤمنون آية: 117] . وتارة يقع مع النهي الوعيد، قال تعالى: {فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ} [سورة الشعراء آية: 213] . وقال تعالى: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ} [سورة يونس آية: 106] . فإذا كان إمام الحنفاء وأعظمهم توحيدا لله - وهو معصوم - لو يدعو من دون الله أحدا لكان من الظالمين، ومن المعذبين. وتارة يقع الإخبار بأن المدعو إله، كما قال تعالى: {وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} الآية [سورة القصص آية: 88] . وقال تعالى إخبارا عن أهل الكهف: {لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهاً لَقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً} [سورة الكهف آية: 14] . وفي حديث أبي واقد الليثي {اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً} [سورة الأعراف آية: 138] إلى غير ذلك. النوع الثالث: يقع في الخطاب، بمعنى الإنكار على الداعي، الجزء: 12 ¦ الصفحة: 487 كقوله: {قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا} [سورة الأنعام آية: 71] إلى قوله: {وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [سورة الأنعام آية: 71] . وكما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ} [سورة الأعراف آية: 194] إلى قوله: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ} [سورة الأعراف آية: 197] . وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ} [سورة الحج آية: 73] . وقال تعالى: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ} [سورة الرعد آية: 14] إلى قوله: {وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ} [سورة الرعد آية: 14] . النوع الرابع: يقع بمعنى الإخبار، والاستخبار، كما قال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [سورة الأحقاف آية: 4] . وقال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً فَهُمْ عَلَى بَيِّنَتٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلَّا غُرُوراً} [سورة فاطر آية: 40] . وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ} الآية [سورة الأعراف آية: 195] . النوع الخامس: يقع بالأمر الذي بصيغة النهي والإنكار، قال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 488 مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ} [سورة سبأ آية: 22] إلى قوله: {وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سورة سبأ آية: 23] . وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً} [سورة الإسراء آية: 56] . النوع السادس: - وهو المقصود بالجواب - أن الدعاء هو العبادة، وأن صرفه لغير الله شرك، قال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [سورة الأحقاف آية: 5-6] . وقال تعالى: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [سورة فاطر آية: 13-14] سمى الله ذلك شركا. وقال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} الآية [سورة الأحقاف آية: 4] . ومما يؤيد ذلك: أن من دعا غير الله فهو عابد له بمجرد الدعاء، كما قال تعالى إخبارا عن إبراهيم عليه السلام: {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيّاً فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} الآية [سورة مريم آية: 48-49] ، والآيات في ذلك أكثر من أن تحصر. وكذلك الأحاديث عنه صلى الله عليه وسلم مثل قوله: " الدعاء مخ العبادة " 1، ومخ الشيء خالصه أي خالصها، وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث   1 الترمذي: الدعوات 3371. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 489 الآخر: " الدعاء هو العبادة " 1 أي معظم العبادة ليس نفيا لغيره من أنواعها، كقوله صلى الله عليه وسلم: " الحج عرفة " 2 أي: معظم الحج عرفة. فتبين بهذين الحديثين: أن من دعا الله، فقد صرف معظم العبادة، ومخها وخالصها لله، ومن دعا غير الله، فقد صرف معظم العبادة، ومخها وخالصها لغير الله، سواء كان المدعو نبيا أو ملكا، أو وليا، شاء أم أبى; ومما يؤيد ذلك: أن الدعاء معظم كل عبادة، كما في الصلاة، وكما في الحج، وكذلك سائر الأركان، كالصيام، والقيام، وسائر العبادات. ثم هو الدعاء أيضا، فمعظم العبادة وأنواعها تبعا له، كالتذلل; لأن العبادة في اللغة: الذل، يقال: طريق معبد أي مذلل، وهو كمال الخضوع، مع المحبة والرجاء، والخوف والرغبة والرهبة، فهذه الأنواع معظم العبادة، وهي تبع له. قال تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً} الآية [سورة السجدة آية: 16] . وقال تعالى: {وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [سورة الأنبياء آية: 90] . وقال تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً} [سورة الأعراف آية: 55] إلى قوله: {خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [سورة الأعراف آية: 56] . فإذا فهمت: أنه معظم العبادة ومخها، فنهى الله عباده أن يشركوا به في عبادته أحدا، قال تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} [سورة الكهف آية   1 الترمذي: تفسير القرآن 2969 , وابن ماجه: الدعاء 3828. 2 الترمذي: الحج 889 , والنسائي: مناسك الحج 3016 , وأبو داود: المناسك 1949 , وابن ماجه: المناسك 3015 , وأحمد 4/335. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 490 : 110] . وقال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً} [سورة الجن آية: 20] ، ورد نكرة في سياق النفي، فقوله: {أَحَداً} يتضمن نفي كل أحد، لا نبي ولا ولي ولا غيرهما; وإنما ذكرنا على الدعاء إشارة، لإكثار الله في كتابه وسنة رسوله، ذلك خشية الإطالة، والله المستعان. فإذا عرفت ما تقدم على المسألتين من الجواب، على سبيل الإيجاز والاختصار، فعليك أيضا بمعرفة آية من كتاب الله، وما بعدها من الآيات، وما فيها من الدلالة على الأصول - كما قدمنا - وهي: قوله تعالى، لما أخبر عن الكفار ومقالتهم حين اعترفوا: {رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ} [سورة غافر آية: 11] ، فأخبر سبحانه بعد ذلك رادا عليهم، ومخبرا لهم: أن أعظم ما اقترفوه، وأكبر ما ارتكبوه، قوله: {ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ} [سورة غافر آية: 12] . فدلت الآية الكريمة على أصول: الأصل الأول: على أن معظم عبادة الله وحده لا شريك له، الدعاء، لقوله تعالى: {إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ} [سورة غافر آية: 12] ، وكذلك ذكر الشرك بعده، وأنهم مؤمنون بالشرك به، ولم يذكر الله ذلك إلا في سياق الدعاء، وأن هذا هو أعظم ذنوبهم، وهذا هو عين مجادلة هذا الجاهل، ومذهبه وأتباعه، أعاذنا الله من الإيمان بالباطل. الأصل الثاني: قوله تعالى: {فَالْحُكْمُ لِلَّهِ} [سورة غافر آية: 12] أي: الحكم الجزء: 12 ¦ الصفحة: 491 القدري، والكوني، والشرعي له، أي: لا يحكم، ولا يشرع، ولا يقضي إلا هو. {الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سورة غافر آية: 12] , وهذا الأصل الثالث: إثبات الصفات، لأنه أثبت له جل وعلا العلو، وأنه الكبير؛ وهذا كثير في القرآن يجمع بين هذين الوصفين، كما قال تعالى: {الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ} [سورة الرعد آية: 9] . وتارة يجمع بين العلي والعظيم، كما في آية الكرسي; فيا سبحان الله! ماذا حُرمه المعرضون؟ فكيف وقد قال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [سورة المائدة آية: 44] . فلما أثبت له جل وعلا هذين الوصفين العظيمين، قال في غير هذا الموضع مخبرا: {هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} [سورة الحديد آية: 9] . وقال: {وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ} [سورة غافر آية: 13] ، فأرشد سبحانه: أن العلي الكبير، الذي له الحكم أنزل على عبده محمد صلى الله عليه وسلم آيات بينات. وهذا الأصل الرابع على أن القرآن مُنَزَّلٌ من عند الله، منه بدأ وإليه يعود، وأنه آيات بينات، وهذا كقوله تعالى: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} [سورة هود آية: 1-2] . وهذا الأصل الخامس، وهو أن القرآن أنزل محكما مفصلا من لدن حكيم خبير، وأن زبدة ما جاء فيه: {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} [سورة هود آية: 2] ؛ وهو أيضا دال على إثبات أصول الإيمان، بسياق هذه الجزء: 12 ¦ الصفحة: 492 الآيات، الإيمان بالله، والإيمان بالكتاب، والإيمان بالرسول لقوله: {يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ} [سورة الحديد آية: 9] ، ثم أخبر أنه لا يتذكر إلا من ينيب. الأصل السادس: بعد ما ذم الله الكفار المشركين على شركهم، وإنكارهم توحيده ودعاءه بالإخلاص، قال آمرا لعباده المؤمنين: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [سورة غافر آية: 14] ، وذلك بعد ذكره أنه أنزل كتابه، وأرسل رسوله، فبدأ بهذا الأصل العظيم، كقوله فيما تقدم: {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} [سورة هود آية: 2] ، فأمر بدعائه، وأمر أن يكونوا فيه مخلصين. ثم أخبر عن هذه الصفة العظيمة، أنه {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ} [سورة غافر آية: 15] . وهذا الأصل السابع، وهذا كقوله: {ذِي الْمَعَارِجِ تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [سورة المعارج آية: 3-4] . وإنما ذكرت إشارات، على ما تضمنته الآيات المحكمات. ثم ذكر اليوم الآخر، وما يقع فيه إلى قوله: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [سورة غافر آية: 16] ؛ فهو موصوف أيضا بهاتين الصفتين العظيمتين: الوحدانية والقهر، في ذلك اليوم وغيره، فهو واحد لا شريك له في ربوبيته وإلهيته، وواحد في ذاته وصفاته، لا مثل له ولا كفو له، ولا شبيه له ولا نظير له، تعالى وتقدس عما يقول الظالمون علوا كبيرا؛ وهاتان الصفتان يجمع بينهما في مواضع من كتابه; وتارة يقرن بين القهر والفوقية، كما قال تعالى: {وَهُوَ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 493 الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [سورة الأنعام آية: 18] . والإيمان باليوم الآخر هو من أصول الإيمان أيضا؛ ثم ذكر أهوال يوم القيامة، وما ينفع فيه، ثم أخبر أن الظالمين في ذلك اليوم ما لهم من حميم ولا شفيع يطاع، وهذا الأصل الثامن: نفي الشفاعة الشركية; ثم أخبر عن عدله، وأنه يقضي بالحق، وأن الذين يدعون من دونه لا يقضون بشيء، وقوله: {مِنْ دُونِهِ} [سورة الأعراف آية: 197] ، تعم من سواه، ثم ذكر صفاته أنه {هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [سورة الإسراء آية: 1] . ولما سئل بعض العلماء عن الصفات، قال: آمنت بالله، وبما جاء عن الله على مراد الله، وآمنت برسول الله، وبما جاء عن رسول الله، على مراد رسول الله، من غير تكييف ولا تمثيل، ولا تحريف ولا تعطيل. فصل وأما الجواب على المسألة الثالثة، وهي قوله في الشفاعة الشركية، وما استدل به عليها من العموم، فنقول: انقسم الناس فيها ثلاث طوائف، فنفاها المعتزلة والخوارج، وأثبتوا نصوص الوعيد في أهل الكبائر من المسلمين، ونفوا رحمة أرحم الراحمين، وشفاعة الشافعين، وأثبتوا خلود الموحدين في العذاب من المذنبين. وغلا فيها طائفة، وجعلوها هي القصد الأعظم، وتطلب الجزء: 12 ¦ الصفحة: 494 من المخلوقين، حتى عند الحاجات، ودفع المهمات؛ يطلبها الطالب في كل وقت وحين، حتى سلكوا في ذلك مذهب المشركين، من الأولين والآخرين. وتوسطت فيها طائفة، فسلكوا فيها سبيل السابقين الأولين، فأثبتوا ما أثبته الكتاب من البيان في ذلك والتبيين، وسنة سيد المرسلين، ونفوا ما نفياه؛ فكانوا بذلك من الموحدين، وكانوا وسطا بين الغالين والجافين. فالشفاعة المثبتة، لا بد فيها من شرطين، كما بين الله ذلك في الكتاب المبين، وكما سنبينه إن شاء الله تعالى. قال الله تعالى رادا على المشركين: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً} الآية [سورة الزمر آية: 44] . وقال تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ} [سورة البقرة آية: 48] ، في الموضعين. وقال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [سورة البقرة آية: 254] ، وهذا يحمل على الشفاعة الشركية، كما أنكر الله عليهم ذلك حيث قالوا: {هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [سورة يونس آية: 18] ، إلى قوله: {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [سورة يونس آية: 18] كما قدمنا. وأما الشفاعة التي أثبتها القرآن، وأثبتتها السنة، فنثبتها، قال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [سورة البقرة آية: الجزء: 12 ¦ الصفحة: 495 255] . وقال تعالى: {وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ} [سورة سبأ آية: 23] . وقال تعالى: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [سورة الأنبياء آية: 28] . وقال تعالى: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [سورة النجم آية: 26] . فتبين: أن الشفاعة المثبتة، لا بد فيها من شرطين: الإذن من الله للشافع، والرضى عن المشفوع فيه، كما بين ذلك، وكما دلت عليه السنة; وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم " من أسعد الناس بشفاعتك يا رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: من قال لا إله إلا الله خالصا من ق لبه" 1، والخالص ضد المشوب، وهو التوحيد الخالص، العاري من الشرك والبدع. والشفاعة من خصائص نبينا محمد صلى الله عليه وسلم كما في حديث الشفاعة الطويل: " ثم يقال: ارفع رأسك، وقل يسمع " 2 الحديث، فدل على الإذن من الله له بذلك; وفي بعض ألفاظ الحديث الواردة: " هي لمن مات لا يشرك بالله شيئا " 3؛ ويؤيد ذلك قوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً} [سورة طه آية: 109] . وأما الشفاعة الشركية، فنفاها القرآن كما قدمنا؛ ويعضد له أيضا قوله: {وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ} الآية [سورة الزخرف آية: 86] . والخصومة بين الرسل وأممهم فيها، كما جرى للنبي صلى الله عليه وسلم   1 البخاري: العلم 99 , وأحمد 2/373. 2 مسلم: الإيمان 193 , وأحمد 3/247. 3 مسلم: الإيمان 199 , والترمذي: الدعوات 3602 , وابن ماجه: الزهد 4307 , وأحمد 2/426. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 496 مع قومه، حين تلا سورة النجم، وألقى الشيطان عليه في تلاوته: تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتها لترتجى; فلما بلغ السجدة سجد صلى الله عليه وسلم، وسجد المشركون معه كما ذكره المفسرون وأهل السير، حتى إن شيخا رفع كفا من حصى فسجد عليه، حتى إنه أظهر أن محمدا وافقه قومه قريش. وبلغ الخبر الحبشة والمهاجرين، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فحزن، وخاف من الله خوفا عظيما، حتى أنزل الله {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ} [سورة الحج آية: 52] إلى قوله: {وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} الآية [سورة الحج آية: 53] . فالشفاعة المثبتة: أن تطلبها ممن حقيقتها هي له، كقولك: اللهم شفع فِيّ نبيك، ومن شئت من خلقك. اللهم ارزقني شفاعة نبيك يوم القيامة، وأمثال ذلك. وأما طلب الشفاعة من المخلوقين، وصرف ياء النداء المعهودة في الخطاب تطلبه الشفاعة، أو تستغيث به، فقد صرفت الدعاء للمدعو الذي هو نفس العبادة ومخها، وخالصها، كما قدمنا أنه معظم العبادة، وأنواع العبادة تبع له. قال تعالى عن زكريا: {إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيّاً} [سورة مريم آية: 3] إلى قوله: {وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّاً} [سورة مريم آية: 4] . وقال تعالى: {وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ} [سورة الصافات آية: 75] . وقال تعالى: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ} [سورة الأنبياء آية: 83] . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 497 وقال تعالى: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ} الآية [سورة الأنبياء آية: 87] ؛ سمى النداء دعاء، والدعاء نداء، كما تقدم، وقال تعالى: {فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} [سورة الجن آية: 18] {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ} [سورة الرعد آية: 14] . وقد تقدم في بيان ذلك ما فيه كفاية عن إعادته هنا، ولكن ما يتذكر إلا من ينيب. ومن عرف ما ابتلي به كثير من المشركين والمبتدعين، من الزخارف، والتزيين، في تحسين دين المشركين، وتعطيل صفات رب العالمين، معنى ولفظا، وإبراما ونقضا، عرف ضروريته إلى الدعاء المروي عن سيد المرسلين، فيما روت عنه عائشة رضي الله عنها: " اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل " 1 إلى قوله: "اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك؛ إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم " 2. وفي دعاء الخليل: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَام رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ} الآية [سورة إبراهيم آية: 35-36] . فرع: قال تعالى منكرا على من عدل عن الكتاب والسنة: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ} الآية [سورة العنكبوت آية: 51] . وقال ذاما لمن اتبع الظن، الذي يسمونه المعقول اليوم: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} [سورة النجم آية: 23] .   1 مسلم: صلاة المسافرين وقصرها 770 , والترمذي: الدعوات 3420 , وأبو داود: الصلاة 767 , وأحمد 6/156. 2 مسلم: صلاة المسافرين وقصرها 770 , والترمذي: الدعوات 3420 , وأبو داود: الصلاة 767 , وأحمد 6/156. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 498 وقال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} الآية [سورة الأنعام آية: 153] . وقال تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [سورة القصص آية: 50] . وأمره الله تعالى، أن يقول: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [سورة الأنعام آية: 19] ، "ومَنْ" تفيد العموم إلى يوم القيامة. وقال تعالى: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً} [سورة الأنعام آية: 114] . وما أحسن ما أخبر الله به عن الجن إذ سمعوه، قال مخبرا عنهم: {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ} [سورة الجن آية: 1-2] ، فعرفوا أن الهدى إلى الرشد فيه؛ ثم ذكروا أنه أفادهم أصلين عظيمين: {فَآمَنَّا بِهِ} [سورة الجن آية: 2] ، استلزم ذلك الإيمان بجميع ما فيه. الأصل الثاني: قولهم: {وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَداً} [سورة الجن آية: 2] ، لا نبيا مرسلا ولا ملكا مقربا. فأين هذا ممن هدم هذه الأصول الثلاثة، الذين مدح الله المتصفين بهم، عند مجرد سماعهم كلامه، بخلاف من قدمنا مقالته - والعياذ بالله -. قال تعالى: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمىً أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} [سورة فصلت آية: 44] . وأما الكلام على حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، فاعتقادنا في ذلك الجزء: 12 ¦ الصفحة: 499 اعتقاد سلف الأمة ومتقدميها، وهم الأسوة وسط، أخذوا ذلك من الكتاب، ومشكاة النبوة؛ وهو أنه صلى الله عليه وسلم قبض ودفن، وزالت عنه الحياة الدنيوية، كما قال أبو بكر رضي الله عنه - حين قبله – (ما أطيبك حيا وميتا ... ) إلخ. وأما حياة البرزخ، فهو حي الحياة البرزخية، وكذلك الشهداء أيضا أحياء، كما نص على ذلك الكتاب والسنة; ولحوم الأنبياء لا تأكلها الأرض; ويبلغه التسليم ممن سلم عليه. فلو كان حيا حياة دنيوية، فما يقال في وقعة الحرة، وما جرى فيها من القتل والسبي، أفلا نهاهم؟ ولا جاء أحد من أصحابه يرفع الأمر إليه، لعلمهم بذلك، كما صرح به القرآن {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [سورة الزمر آية: 30] ، وله من الحرمة كما له في حياته، والآثار والأخبار يطول تتبعها في ذلك، وإنما ذكرنا إشارة. وأما الاستغاثة به فنهى عنها صلى الله عليه وسلم في حياته، قال: " إنه لا يستغاث بي، وإنما يستغاث بالله عز وجل " الحديث; وكذلك إنكاره تعالى على الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات، وذكر مقالتهم إلى قوله: {إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} [سورة التوبة آية: 59] ، ولم يقل ورسوله، أفردوا الرغبة له تعالى; وأنكر صلى الله عليه وسلم على من قال: " ما شاء الله وشئت; قال: أجعلتني لله ندا؟ "1 الحديث، فنعوذ بالله أن نكون كالنصارى، حيث لم يقبلوا ما قال لهم نبيهم فيه: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي   1 أحمد 6/371. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 500 بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} [سورة المائدة آية: 117] . وأما نسبته آدم والأنبياء من بعده إلى الشرك، فنقول: سبحانك هذا بهتان عظيم! ولم يسبقه إلى ذلك يهودي ولا نصراني، فضلا عن المنتسبين، ولكن كما قال تعالى: {وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولاً} [سورة الفرقان آية: 29] . فصل وأما الجواب عن المسألة الرابعة - أعني البدع - واستدلاله عليها، فنقول: أكمل الله الدين وأتم النعمة على عباده، كما قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} الآية [سورة المائدة آية: 3] . ونزلت بعد حجة لوداع، بعدما أكملت الفرائض وتم الدين، كما صرح بذلك أهل التفسير. وقال صلى الله عليه وسلم لأصحابه: " اتبعوا ولا تبتدعوا، فقد كُفيتم " 1 الحديث 2. وقال صلى الله عليه وسلم: في حديث عائشة رضي الله عنها، الذي ذكره العلماء، أنه ثلث الدين: " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" 3، وفي لفظ "من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد " 4. وهذا أمر منه صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الصحيح الصريح: أن كل عمل من أعمال البر، ووجوه القرب، كالصلاة والدعاء، والقراءة، إذا لم يكن مأمورا به وبوقته وفعله، فهو رد.   1 الدارمي: المقدمة 205. 2 وقيل إنه من قول ابن مسعود رضي الله عنه. 3 مسلم: الأقضية 1718 , وابن ماجه: المقدمة 14 , وأحمد 6/270. 4 مسلم: الأقضية 1718 , وأحمد 6/180 ,6/256. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 501 وكذلك في حديث العرباض بن سارية، قال فيه صلى الله عليه وسلم: " فإنه مَنْ يعشْ منكم فسيرى اختلافا كثيرا " 1، ثم أمر وأوصى عند الاختلاف: " فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي " 2، ثم أكد الأمر باللزوم: " عضوا عليها بالنواجذ"، ثم نهى عن المحدثات في الدين، فقال: "وإياكم ومحدثات الأمور! " ثم أخبر "أن كل محدثة بدعة "، ثم أخبر عن الأمر المشكل، استحسان البدع، فقال: "وكل بدعة ضلالة " الحديث. وقال في صفة الفرقة الناجية من الفرق: " ما كنت عليه اليوم وأصحابي " 3. ولما رأى ابن مسعود من يفعل ما لم يكن على عهدهم، قال: "لقد جئتم بدعة ظلماء، أو قد سبقتم أصحاب محمد فضلا؟ " فكل ما أشكل عليك، اعرضه على طريقة محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فإن خالفهم فاطرحه كائنا من كان، لقوله صلى الله عليه وسلم: " من رغب عن سنتي فليس مني " 4. والإخلاص والمتابعة شرطان في العمل، كما ذكر عن العلماء؛ وكانوا ينهون عن الحدث في الدين، كما ذكر عن حذيفة، وأُبَي، والفضيل بن عياض، والحسن البصري وغيرهم، وكما قال ابن عباس رضي الله عنهما؛ وتتبع ذلك يطول; وأما فعل معاذ فهي قضية عين، كما ذكر ذلك الفقهاء، رحمهم الله. وأما استدلال بعض الجهال بذلك على أنه يزيد في العبادة فرضا سادسا، فهذا ما قال به أحد؛ بل نهى عنه العلماء، وأن من اعتقد ذلك يستتاب؛ فكيف يلزم العباد ما لم يلزمهم الله ورسوله؟   1 الترمذي: العلم 2676 , وأبو داود: السنة 4607 , وابن ماجه: المقدمة 44 , وأحمد 4/126 , والدارمي: المقدمة 95. 2 الترمذي: العلم 2676 , وأبو داود: السنة 4607 , وابن ماجه: المقدمة 44 , وأحمد 4/126 , والدارمي: المقدمة 95. 3 الترمذي: الإيمان 2641. 4 البخاري: النكاح 5063 , ومسلم: النكاح 1401 , والنسائي: النكاح 3217 , وأحمد 3/241 ,3/259 ,3/285. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 502 وأما كلام آخر، مثل مدحه شيخه وهذيان قاله، فقد مدح الله المعرضين عن مثل ذلك، قال تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} [سورة المؤمنون آية: 3] . وقال: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ} [سورة القصص آية: 55] . آخره والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين. [رسالة الشيخ سليمان بن سمحان في الرد على بشرف نزيل البحرين] قال الشيخ: سليمان بن سمحان، رحمه الله: بسم الله الرحمن الر حيم الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إله الأولين والآخرين، وقيوم السماوات والأرض; وأشهد أن محمدا عبده ورسوله إمام المتقين، وقائد الغر المحجلين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين، وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين. أما بعد: فإنه بلغني أن الرجل المسمى: بشرف - نزيل البحرين - لما سمع بما كتبته من الرد على بابصيل المكي، فيما افتراه هو وشيخه أحمد بن زيني دحلان، على الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى، من الأكاذيب المخترعة الخاسرة، والتزويرات المبتدعة الجائرة، ومن الله بالرد عليهما فيما افترياه، ولفقاه من الشبهات، وإبطال ما سفسطا به من التمويهات والخرافات، الجزء: 12 ¦ الصفحة: 503 أخذته الحمية لأخدانه، واحتملته العصبية القبلية لإخوانه، حين شرق بما سمع في الرد عليهما من الحق، والتحقيق، الذي هو على أهدى سنن، وأقوم طريق، ولله في ذلك المنة، وله الحمد. فقام فانتصر لأنداده، فقال في خطبته يوم الجمعة، وبعدها في يوم العيد على المنبر، بعد ما أثنى على الأئمة الأربعة، وذكر شيئا من مناقبهم، قال: فهم أئمتنا، فإنا بهم مقتدون، ولهم مقلدون; ومن طرف هذه الكتب التي دارت في بلدكم هذه، أن الذي ألفها سالك فيها مسالك الفرقة الضالة المضلة، الكافرة الخارجية الشيطانية، المجسمة المبتدعة الوهابية، وأنه مؤول فيها الاستواء بالاستقرار - قاتله الله -، والله تعالى خال عن الجهات الست، وأنه منكر فيها زيارة رسول الله صلى الله عليه وسلم. فمن عنده منها شيء فليأتنا به سريعا، ولا تحدثوا فيها تحريفا ولا تمزيقا، لأن فيها آيات قرآنية، وأحاديث من الصحاح نبوية، أراد بها مؤلفها التلبيس والتشبيه على العوام الطغام، الجهال الشرذمة القليلة الذميمة; فنقول: يا عباد الله، وعليكم بطريقة الأشعرية، والماتريدية ; هذا لفظه الذي نقل إلينا بحروفه. فلما تأملت ما نقل إلينا من كلامه، وعرفت قصده في مرامه، فإذا هو عن معرفة العلوم الشرعية، والاعتقادات السلفية بمكان بعيد، قد انهمك والعياذ بالله في مهامه الغي، الجزء: 12 ¦ الصفحة: 504 وانحسر في فلوات البغي، فما على جهله وهوسه من مزيد؛ وعرفت أنه لم يأنس بشيء من العلوم، ولا دراية لديه بالمنطوق منها والمفهوم، وأنه ليس بكفء أن يجاب، بأزيد مما ذكرته من الخطاب، لأنه ليس من أهل العلم، ولا ممن عرف بالدراية والرواية والفهم. فلأجل ذلك رددت عليه بهذه القصيدة، واتبعتها بذكر انموذج من العقيدة، وبما كان عليه إمام هذه الدعوة، مما درج عليه أهل التحقيق والصفوة من عقيدة السلف الأبرار، والأئمة الأخيار، خصوصا الأئمة الأربعة، الذين يزعم أنه يقلدهم ويقتدي بهم، ويحض على ذلك، وذكرت شيئا قليلا من كلام الأئمة، ليتبين لكل منصف ممن أراد الحق وطلبه، تزوير هذا المفتري وكذبه. وأن هؤلاء الجهلة الصعافقة، الحيارى المفتونين، قد ركبوا غارب الزور والبهتان، وتعاونوا على الإثم والعدوان، وأنهم في سكرتهم يعمهون، وفي فلوات الغي ومهامه البغي يهيمون، وأنهم فيما يقولونه وينقلونه إلا ما شاء الله قد اقترحوا كذبا وزورا {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} [سورة الفرقان آية: 23] . والمقصود بما نقله عن الأئمة الأعلام، وأذكره في هذه الأوراق من ذلك المرام، إنما أقصد به من يطلب الحق، مع من كان وأينما كان، ولا يتعصب للباطل وأهله بكل إمكان؛ وأما الجزء: 12 ¦ الصفحة: 505 هؤلاء الصعالكة الغافلون، الذين هم في غمرة ساهون، وعماية في الدعوى عما عليه أهل الحق وكلمة التقوى، فهم لا يرعوون إلى ما فيه نجاتهم وسلامتهم من الغواية، ولا يقبلون هذا الحق ولو جاءتهم كل آية; والله المسؤول المرجو الإجابة أن يجزل لنا بفضله ورحمته الإثابة، وأن يمدنا فيما نقوله ونعتقده بالإصابة. وهذا هو الجواب، ومن الله استمد الصواب: الحمد لله حمدا دائما وكفى ... حمدا كثيرا فكم أعطى وكم لطفا ثم الصلاة على المعصوم سيدنا ... أوفى البرية بل أزكاهم شرفا والآل والصحب ثم التابعين لهم ... والتابعين على منهاج من سلفا وبعد فاعلم بأن القول أحسنه ... ما وافق الحق حتما واقتضى النصفا وقد أتانا من البحرين معضلة ... مقالة قالها من جانب الشرفا يدعونه شرفا جهلا بحالته ... ولو دروا لدعوه بينهم سرفا والله ما كان ذا علم وذا شرف ... كلا ولا كان فيما قاله الظرفا مهذبا فطنا أو بلتعا لسنا ... بل كان فدما أفينا جانفا حلفا أغراه قوم طغاة لا خلاق لهم ... فوازروه فأبدى جهله السرفا لو كان يدري به عيسى ويعرفه ... حق الدراية أبدى اللهف والأسفا أو كان يعلم أن الوغد داعية ... إلى الضلال لأضحى واجلا وجفا فإنه كان جهميا أخا بدع ... يدعو إلى الكفر والإشراك دون خفا والله لو كان يدري عن جهالته ... لم يرض أن يرتقي فوق الذرى شرفا وأن يصلي إماما بالورى سفها ... يا ويحه من إمام قد أتى جنفا فالفدم ليس له علم ومعرفة ... بل قال بالجهل لما أن طغى فهفا الجزء: 12 ¦ الصفحة: 506 بل كان بالجهل معروفا ومتصفا ... بالمنكرات التي تهفو بمن شرفا يحكيه أهل التقى والصدق حيث غدا ... للزور مقترفا بالإفك متصفا لو لم يكن جاهلا ما قال من عمه ... مقالة قالها لما علا الشرفا في يوم عيد وقبل العيد في جمع ... ما قال ذلك فيما ينقلون خفا يحذر الناس كي لا يسمعوا كتبا ... تدعو إلى الله من قد ند وانصرفا تدعو إلى الحق والتوحيد ليس إلى ... أوضاع جهم وتأويلات من صدفا ولا إلى الكفر والإشراك حيث غلا ... في الصالحين أناس فيهم شغفا فيهن نور الهدى كالشمس شارقة ... ما شابها الزور يوما أو أتت جنفا تحمى حمى معشر بالحق قد صدعوا ... عن إفك قوم طغام قد أتوا سرفا كما تعيب أناسا قد بغوا وطغوا ... لم يعرفوا الحق لما أن بدا وضفا والله ما كان فيها من سفاسفهم ... ومن ضلالاتهم ما يوجب التلفا والله ما كان فيها من شقاشقهم ... ومن جهالاتهم ما يوجب الأنفا بل كان فيهن إثبات العلو له ... سبحانه وتعالى مثل ما وصفا بالقدر والقهر والذات التي ارتفعت ... عن كفر من رام تعطيلا لها فنفا على السماوات فوق العرش مرتفعا ... مباينا لجميع الخلق متصفا بكل أوصافه العليا التي كملت ... وليس هذا بحمد الله فيه خفا فلم نؤول كما قد قاله عمها ... ونتبع الجهم فيما قال وانصرفا ولم نجسم كما قالوا بزعمهم ... بل نثبت الفوق والأوصاف والشرفا إن المجسمة الضُّلاّل ليس لهم ... في غيهم من دليل يوجب النصفا بل يزعمون بأن الله خالقنا ... جسم تعالى إلهي ما بذا اتصفا والمصطفى لم يقل هذا وصحبته ... والآل يوما ومن بالعلم قد عرفا الجزء: 12 ¦ الصفحة: 507 والله ما قال منا واحد أبدا ... بأنه كان جسما إن ذا لجفا كما يقول هشام إذ يقول له ... سبحانه وفرة تبا لمن جنفا فلا نقول بهذا القول نثبته ... أو نبتغي النفي فالقولان قد نسفا بل نثبت الذات والأوصاف كاملة ... كما به الله والمعصوم قد وصفا ولم نشبه كأهل الزيغ حين بغوا ... واستبدلوا بضياء الحق ما انخسفا إن المشبهة الضلال حيث غلوا ... قد شبهوا ربهم لما أتوا سرفا بخلقه في مقالات لها ابتدعوا ... راموا بذلك إثباتا فصار سفا ولم نعطل كجهم والذين على ... منواله نسجوا ممن طغى فهفا فإنهم زعموا أن لا إله لهم ... على السماوات فوق العرش قد عرفا فليس داخل ذي الأكوان خالقهم ... أيضا ولا خارجا منها فوالهفا كلا ولا هو أيضا تحتها أبدا ... ولا مباينها من فوقها فنفا ولا محايث بل لا يمنة أبدا ... ولا شمالا لقد جاؤوا بذا جنفا ولا أماما ولا خلفا فقد كفروا ... بالله خالقهم جحدا له سرفا هذا هو العدم المحض الذي عرفت ... كل الخلائق إلا من هفا وجفا ونحن لم نعد آيات مبينة ... ونص ما قاله المعصوم حيث شفا إن الإله له الأوصاف كاملة ... حقيقة بمعانيها كما وصفا فإن يكن وصفنا لله خالقنا ... بكل أوصافه لم نبتدع جنفا كفرا وجهلا وتجسيما ومنقصة ... فليشهدوا أننا قلناه غير خفا وأن ذلك دين الله قال به ... من كان بالعلم والإنصاف متصفا كمالك وابن إدريس وثالثهم ... أعني ابن حنبل والنعمان من شرفا الجزء: 12 ¦ الصفحة: 508 وكالبخاري ويحيى والذين مضوا ... كابن المبارك وابن الماجشون قفا ومسلم والعقيلي في عقائدهم ... والتابعين لهم ممن سما وصفا وكل أهل الحديث العاملين به ... العالمين بما قد قاله الحنفا وكل حبر فقيه عالم ثقة ... يدري الحقائق لا يبغى لها خلفا على الصراط السوي المستقيم مضوا ... ما خالفوا من لهم في الدين قد سلفا إلا أناسا إلى جهم قد انتسبوا ... ما منهم بالهدى من كان متصفا كانوا لبشر وجهم في عقائدهم ... من أعظم الناس فيما أحدثا كلفا أو آخرين أولي علم ومعرفة ... لكن دهاهم من التأويل ما صرفا وأحسنوا الظن فيما قلدوه عمى ... عن رؤية الحق لما أن بدا وضفا ظنوه لله تنْزيها وما صدقوا ... لما اجتروا ونفوا أوصافه سرفا والله ما لأبي بكر ولا عمر ... ولا لعثمان من قد أكملوا الشرفا ولا علي ولا للتابعين لهم ... كانوا لهم تبعا في الدين حيث صفا فصل والاستواء فمعقول حقيقته ... لا يمتري فيه إلا بعض من خلفا من الأشاعر الغالين أو فرق ... من شيعة الجهم ممن ضل وانحرفا والكيف من ذاك مجهول وممتنع ... فاربأ بنفسك عن تكييف ما سجفا لكنما السلف الأبرار قد ذكروا ... تفسير معنى استوى قولا شفى وكفى ففسروا ذاك باستقراره وكذا ... بالارتفاع وباستعلائه شرفا وبالصعود على العرش العظيم فخذ ... تفسير أعلم خلق الله من سلفا حكاه عنهم وفي التفسير قرره ... حقا أبو جعفر ما قال ذاك خفا الجزء: 12 ¦ الصفحة: 509 أعني إمام الورى دينا ومعرفة ... محمد بن جرير من كفى وشفا وبعده الحبر والبحر الخضم حكى ... في كتبه ذاك واستقصى لها طرفا من كان بالعلم والإنصاف متصفا ... وللهدى من أعادي الدين منتصفا أعني به الحجة ابن القيم الثقة ... الحبر الإمام ومن بالعلم قد عرفا وليس تفسيرهم معنى استوى بعلا ... أو استقر على تفسير من سلفا معناه تكييف ما لا نستطيع له ... إدراك كنه وذا تأويل من جنفا لكنما ذاك معقول حقيقته ... والكيف قد كان مجهولا كما وصفا وليس يلزم من لفظ استقر بأن ... يكون جسما كما قد قال من صدفا فاترك أقاويل جهم والذين غووا ... واستحدثوا بدعا صاروا بها هدفا يرميهم بالهدى والعلم من حسنت ... في الدين منهم مساع عند من عرفا وأنت سوف ترى من شؤم بدعتكم ... ما قد يسيء وما تلقى به الدنفا فقل لطاغية البحرين أبد لنا ... علما مبينا عن الأمجاد كان شفا إن الذي أثبت الأوصاف كاملة ... حقائقا ومعان قد أتى سرفا مجسم خارجي قد أتى بدعا ... إن كنت ويحك ذا علم بمن سلفا وما يقولونه في الله خالقهم ... والله ما منهم من يبتغي الجنفا وقل لطاغية البحرين هات لنا ... على ابتداعك نصا وافق النصفا عن الأئمة أو عن عالم ثقة ... من صحبهم حيث كانوا كلهم حنفا دع من نحا نحو جهم في ضلالته ... لكن عن السادة الأمجاد من خلفا ومن على نهجهم قد كان متبعا ... ممن نحا نحوهم في دينهم وقفا والله ما كنت فيما قلت مقتديا ... أو المقلد فيما وافقوا السلفا الجزء: 12 ¦ الصفحة: 510 لكن بجهم وبشر كنت مقتديا ... مقلدا لهما فيما بدا وخفا ومن نحا نحو جهم من أشاعرة ... والماتريدية الضلال من عرفا بالابتداع وبالأهواء حيث غلوا ... في الدين واتبعوا الجهمي حيث هفا فانظر بعلم أهاتان الفرقتان على ... نهج الرسول النبي المجتبى شرفا أو صحبه بعده والتابعين لهم ... أو الأئمة من كانوا لنا سلفا أم أنت في غمرة عن نهج سنتهم ... للماتريدية الغالين منصرفا والأشعرية أعني من بغوا وغلوا ... في الدين منهم بما قد خالفوا الحنفا تحض أتباعك الغوغا وتندبهم ... إلى اتباع غواة قد أتوا جنفا تبا وسحقا لمن يدعو إلى بدع ... تدعو الى النار من يهفو ومن زهفا لو كان يعلم هذا الوغد حيث غوى ... ما قد جناه لأبدى اللهف والأسفا وسوف يلقى غدا إن لم يتب ندما ... وغبّ ما قد جنى من شؤم ما اقترفا يذم أهل التقى والدين من سفه ... ومن شقاوته لما ارتضى السرفا يذم من أظهر التوحيد وانتشرت ... أنواره وعلت من بعد ما انخسفا والناس في ظلمة من قبل دعوته ... لا يعرفون من الإسلام ما انكشفا وبان بل ظهرت أعلامه وعلت ... لله در إمام أظهر الشرفا والناس في غمرة في الجهل قد غرقوا ... وفي الضلالة هاموا فوا لهفا على أناس وأقوام قد انهمكوا ... لم يعرفوا الحق لما أن بدا وضفا والله لو كان يدري عن جهالته ... ما فاه بالزور يوما أو به هتفا والله لو كان يدري عن غباوته ... ما اعتاض عن ساطع التوحيد ما انعسفا والله لو كان يدري عن حماقته ... لم ينتصب جهرة بين الورى هدفا الجزء: 12 ¦ الصفحة: 511 بل سولت نفسه أمرا ففاه به ... وقام منتصرا للكفر منتصفا كقول هذا الغوي المفتري كذبا ... إنا خوارج هل يدري وهل عرفا ما قالت الفئة البعدى التي مرقت ... لما غلت وتعدت طورها سرفا أم كان فدما جهولا كاذبا أشرا ... ما نال علما ولا حلما ولا شرفا إن الخوارج قوم كفّروا سفها ... من قد أتى بذنوب هفوة وجفا فكفرت أمة التوحيد من عمه ... عن رؤية الحق إذ لم تعرف النصفا وخلدت في لظى بل أنكرت سفها ... شفاعة المصطفى ويل لمن صدفا والحق كالشمس لا تخفى دلائله ... إلا على جاهل بالعلم ما اتصفا لكننا نحن كفّرنا الذين غلوا ... في الدين وانتحلوا الإشراك والسرفا وأشركوا الأنبياء والصالحين ومن ... يدعونه غير ربي جهرة وخفا فيما به الله مختص وليس له ... في ذاك شرك فهل كنا وهم ألفا إن كان تكفير من يدعو وليجته ... مع المهيمن من يدعونه الحنفا رأي الخوارج كالقوم الذين غلوا ... في الدين وانتحلوا الإشراك والجنفا فقد كفانا العنا من رد شهبته ... إذ كان ليس بذي علم ولا عرفا ولا اعتنى بعلوم الناس حيث غدوا ... في دينهم شيعا قد خالفوا السلفا وإن أمتنا حقا قد افترقت ... سبعين زادت ثلاثا ليس فيه خفا وإنها كلها في النار داخلة ... إلا من استن بالمعصوم والخلفا والآل والصحب حقا وهي واحدة ... قد صح هذا عن المعصوم من شرفا الجزء: 12 ¦ الصفحة: 512 فصل وقول هذا الغوي المبتغي جنفا ... من قول أهل الردى ممن بغى وهفا والله خال عن الست الجهات فذا ... قول يقول به من للإله نفا أما الجهات التي ستا لها ذكروا ... فالله بالفوق منها كان متصفا وسائر الخمس لم يوصف بها فإذا ... عنها ننْزهه إذ نتبع الصحفا لكنما علمه سبحانه أبدا ... لم يخل منه مكان عند من عرفا وهذه لفظة بدعية خرجت ... من ضئضئ الجهم في من ضل وانحرفا ما قال ذاك أبو بكر ولا عمر ... ولا الصحابة من كانوا لنا سلفا ولا الأئمة يوما في عقائدهم ... لكنهم قلدوا الجهمي حيث هفا لا يعبدون إلها واحدا صمدا ... فوق السماوات بالفوقية اتصفا لا يعبدون سوى المعدوم حيث نفوا ... ربا على العرش باستعلائه عرفا ففخرنا بعروج المصطفى عنت ... إن لم يكن ربنا بالفوق متصفا فمن بنى هذه السبع الطباق ومن ... علا العرش واستعلى كما وصفا فرفعنا لأكف نحوه سفه ... إن لم يكن فوقنا يا من بغوا جنفا وبالضرورة والمعقول في فطن ... حتى البهائم ترنوا نحوه الطرفا يا أمة لعبت بالدين وانحرفت ... عن منهج السنة الغراء والخلفا والآل والصحب ثم التابعين لهم ... وعن أئمتنا الأمجاد والحنفا لقد ضللتم وأضللتم بزخرفكم ... قوما طغاما بما لفقتم خرفا سفا سطا وأكاذيبا مزخرفة ... يدري بها كل من يدري ومن عرفا الجزء: 12 ¦ الصفحة: 513 فصل وقول هذا الغوي المفتري كذبا ... المرتدي برداء الزور غير خفا وأنه منكر فيها زيارته ... يعني بذاك رسول الله من شرفا فهذه فرية منهم ومعضلة ... لسنا نقول بقول قد حوى الجنفا بل إنها من خصال الخير فاضلة ... نرجو بها عند معبود الورى زلفا وتلك من فاضل الأعمال إن صدرت ... ولم يشبْها غلو منهمُ وجفا لكننا نمنع الشد الذي وردت ... فيه الأحاديث بالمنع الذي وصفا فلا نشد رحالا في زيارته ... بل نقصد المسجد المخصوص من عرفا وخص بالفضل من أجل الصلاة به ... ومن هناك نزور المصطفى زلفا نزوره لو على الأجفان من وله ... ونسكب الدمع من أجفاننا شغفا منكسين رؤوسا عند موقفنا ... مستحضرين هناك القدر والشرفا كأنما المصطفى حي نشاهده ... نغض صوتا وطرفا أن نجيء جفا مستقبلين له عند السلام له ... ولا نمس له قبرا ولا شرفا ولا نطوف به سبعا نشبهه ... بالبيت أو نمسح الأركان والزلفا وننثني بعد هذا نحو قبلتنا ... ندعو الإله كما يدعونه الحنفا وندعُ للمصطفى المعصوم سيدنا ... لا ندعُه كالذي يدعونه هرفا ومرة بالتياع واحتراق جوى ... في كل ذلك قد يدعونه لهفا ويطلبون من المعصوم ينقذهم ... من العذاب وأن يرخي لهم كنفا وأن يجيرهمُ من كل معضلة ... ويكشف السوء واللأواء والقشفا وكل ذلك شرك لا خفاء به ... يدري ويعرفه أهل التقى الحنفا الجزء: 12 ¦ الصفحة: 514 وقد رووا ثم أخبارا ملفقة ... موضوعة من رواها كلهم ضعفا فلا تكن رافعا رأسا بها أبدا ... فإنها لا تفيد المبتغي النصفا كقولهم في حديث لا ثبات له ... ولا غناء به في قول من عرفا معناه من حج ثم انصاع منصرفا ... ولم يزرني فهذا قد عصى وجفا وقولهم في حديث لا ثبات له ... معناه إذ لم يكن في النظم مؤتلفا من زارني بعد موتي وافدا وجبت ... له الشفاعة مني من عرى وحفا وحر نار تلظى والحساب ومن ... هول هناك يقول المرء وا لهفا ذكرت ذلك بالمعنى الذي قصدوا ... من لفظه ذلك الموضوع حيث هفا فإن يكن عندكم علم ومعرفة ... يخالف الحق مما خط أو وصفا فأبرز ورد ترى والله أجوبة ... مثل الصواعق تردي من غلا وجفا وتنصر الحق والتوحيد حيث علت ... منه المعالم في الآفاق والسدفا وتقمع الأحمق الزنديق عن زهف ... يعلو بذلك أو يبدي به زخفا فمن أراد نزالا منكم فغدا ... نلقى على قلبه من ردنا رضفا ومن يكن مبغضا أو كارها فإذا ... نعلي على قلبه الأوصاب والطخفا والحمد لله حمدا دائما أبدا ... مباركا فيه كم أعطى وكم لطفا ثم الصلاة على المعصوم سيدنا ... والآل والصحب من قد أكملوا الشرفا ما انهل ودق وماض البرق في سحب ... أو ناح طير على الأغصان أو هتفا الجزء: 12 ¦ الصفحة: 515 فصل ونذكر ههنا: ما قاله الإمام أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، في معنى الاستواء، وأنه العلو والارتفاع، قال رحمه الله تعالى: الاستواء في كلام العرب منصرف على وجوه: منها: انتهاء شباب الرجل وقوته; فيقال إذا صار ذلك: قد استوى الرجل; ومنها: استقامة ما كان فيه أود من الأمور والأسباب، يقال منه: استوى لفلان أمره إذا استقام له بعد أود، من قول الطرماح بن حكيم: طال على رسم مهده أبده ... وعفى واستوى به بلده يعني استقام به، ومنها: الإقبال على الشيء بالفعل، كما يقال: استوى فلان على فلان بما يكرهه ويسوؤه، بعد الإحسان إليه; ومنها: الاحتياز والاحتواء، كقولهم: استوى فلان على المملكة، بمعنى احتوى عليها وحازها; ومنها: العلو والارتفاع، كقول القائل: استوى فلان على سريره، يعني به علوه عليه، وأولى المعاني بقول الله جل ثناؤه: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ} [سورة البقرة آية: 29] علا عليهن وارتفع، فدبرهن بقدرته، وخلقهن سبع سماوات. والعجب ممن أنكر المعنى المفهوم من كلام العرب، في تأويل قول الله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} [سورة البقرة آية: 29] ، الذي هو بمعنى العلو والارتفاع، هربا عند نفسه، من أن يلزمه بزعمه، إذا تأوله بمعناه المفهوم، كذلك أن يكون إنما علا وارتفع، بعد الجزء: 12 ¦ الصفحة: 516 أن كان تحتها، إلى أن تأوله بالمجهول من تأويله، المستكره. ثم لم ينجح مما هرب منه، فيقال: زعمت أن تأويل قوله: {اسْتَوَى} [سورة البقرة آية: 29] أقبل، أو كان مدبرا عن السماء فأقبل إليها؛ فإن زعم أن ذلك ليس بإقبال فعل، ولكنه إقبال تدبير، قيل له: فكذلك قيل: علا عليا، علو ملك وسلطان، لا علو انتقال وزوال، ثم لن يقول في شيء من ذلك قولا، إلا لزم في الآخر مثله. ولولا أنا كرهنا إطالة الكتاب بما ليس من جنسه، لأثبتنا عند فساد قول كل قائل في ذلك، قولا لأهل الحق فيه مخالفا؛ وفيما بينا منه ما يشرف بذي الفهم، على ما فيه الكفاية، إن شاء الله تعالى; انتهى: كلام الإمام محمد بن جرير، رحمه الله تعالى. وأما تفسيره: بالاستقرار، وبالصعود، والارتفاع، والعلو، فقد ذكره ابن القيم، رحمه الله تعالى، في الكافية الشافية، وذكر الإجماع عليه عن علماء أهل السنة، الذين هم القدوة وبهم الأسوة، فقال رحمه الله تعالى: هذا وسادس عشرها إجماع أهـ ... ـل العلم أعني حجة الأزمان من كل صاحب سنة شهدت له ... أهل الحديث وعسكر القرآن لا عبرة بمخالف لهم ولو ... كانوا عديد الشاء والبعران إن الذي فوق السماوات العلى ... والعرش وهو مباين الأكوان هو ربنا سبحانه وبحمده ... حقا على العرش استوى الرحمن الجزء: 12 ¦ الصفحة: 517 فاسمع لذا أقوالهم واشهد عليـ ... ـهم بعدها بالكفر والإيمان واقرأ تفاسير الأئمة ذاكري الـ ... إسناد فهي هداية الحيران وانظر إلى قول ابن عباس بتفـ ... ـسير استوى إن كنت ذا عرفان وانظر إلى أصحابه من بعده ... كمجاهد ومقاتل حبران وانظر إلى الكلبي أيضا والذي ... قد قاله من غير ما نكران وكذا رفيع التابعي أجلهم ... ذاك الرياحي العظيم الشان كم صاحب ألقى إليه علمه ... فلذاك ما اختلفت عليه اثنان فليهن من قد سبه إذ لم يوا ... فق قوله تحريف ذي البهتان فلهم عبارات عليها أربع ... قد حصلت للفارس الطعان وهي استقر وقد علا وكذلك ار ... تفع الذي ما فيه من نكران وكذاك قد صعد الذي هو رابع ... وأبو عبيدة صاحب الشيبان يختار هذا القول في تفسيره ... أدرى من الجهمي بالقرآن والأشعري يقول تفسير استوى ... بحقيقة استولى من البهتان هو قول أهل الاعتزال وقول أتـ ... ـباع لجهم وهو ذو بطلان في كتبه قد قال ذا من موجز ... وإبانة ومقالة ببيان وكذلك البغوي أيضا قد حكا ... عنهم بمعالم القرآن وانظر كلام إمامنا هو مالك قد ... صح عنه قول ذي إتقان في الاستواء وأنه المعلوم لـ ... ـكن كيفه خاف على الأذهان وروى ابن نافع الصدوق سماعه ... منه على التحقيق والإتقان الله حقا في السماء وعلمه ... سبحانه حقا بكل مكان فانظر إلى التفريق بين الذات والمـ ... ـعلوم عم جميع ذي الأكوان الجزء: 12 ¦ الصفحة: 518 ذا ثابت عن مالك من رده ... فلسوف يلقى مالكا بهوان وكذاك قال الترمذي بجامع ... عن بعض أهل العلم والإيمان الله فوق العرش لكن علمه ... مع خلقه تفسير ذي إيمان وكذاك أوزاعيهم أيضا حكى ... عن سائر العلماء في البلدان من قرنه والتابعين جميعهم ... متوافرين وهم أولو العرفان إيمانهم بعلوه سبحانه ... فوق العباد وفوق ذي الأكوان وكذاك قال الشافعي حكاه عنه ... البيهقي وشيخه الرباني حقا قضى الله الخلافة ربنا ... فوق السماء لأصدق العبدان حب الرسول وقائم من بعده ... بالحق لا فشل ولا متوان فانظر إلى المقضي فى ذي الأرض ... لكن في السماء قضاء ذي السلطان وقضاؤه وصف له لم ينفصل ... عنه وهذا واضح البرهان وكذلك النعمان قال وبعده ... يعقوب والألفاظ للنعمان من لم يقر بعرشه سبحانه ... فوق السماء وفوق كل مكان ويقر أن الله فوق العرش لا ... يخفى عليه هواجس الأذهان فهو الذي لا شك في تكفيره ... لله درك من إمام زمان هذا الذي في الفقه الأكبر عندهم ... وله شروح عدة لبيان وانظر مقالة أحمد ونصوصه ... في ذاك تلقاها بلا حسبان فجميعها قد صرحت بعلوه ... وبالاستوا والفوق للرحمن وله نصوص واردات لم تقع ... لسواه من فرسان هذا الشأن إذا كان ممتحنا بأعداء الحدـ ... ـث وشيعة التعطيل والكفران وإذا أردت نصوصه فانظر إلى ... ما قد حكى الخلال ذو الإتقان الجزء: 12 ¦ الصفحة: 519 وكذاك إسحاق الإمام فإنه ... قد قال ما فيه هدى الحيران وابن المبارك قال قولا شافيا ... إنكاره علم على البهتان قالوا له ما ذاك نعرف ربنا ... حقا به لنكون ذا إيمان فأجاب نعرفه بوصف علوه ... فوق السماء مباين الأكوان وبأنه سبحانه حقا على الـ ... ـعرش الرفيع فجل ذو السلطان وهو الذي قد شجع ابن خزيمة إذ ... سل سيف الحق والعرفان وقضى بقتل المنكرين علوه ... بعد استتابتهم من الكفران وبأنهم يلقون بعد القتل فو ... ق مزابل الميتات والأنتان فشفى الإمام العالم الحبر الذي ... يدعى إمام أئمة الأزمان ولقد حكاه الحاكم العدل الرضى ... في كتبه عنه بلا نكران وحكى ابن عبد البر في تمهيده ... وكتاب الاستذكار غير جبان إجماع أهل العلم أن الله فو ... ق العرش بالإيضاح والبرهان وأتى هناك بما شفى أهل الهدى ... لكنه مرض على العميان وكذا على الأشعري فإنه ... في كتبه قد جاء بالإحسان من موجز وإبانة ومقالة ... ورسائل للثغر ذات بيان وأتى بتقرير استواء الرب فو ... ق العرش بالإيضاح والبرهان وأتى بتقرير العلو بأحسن التـ ... ـقرير فانظر كتبه بعيان والله ما قال المجسم مثل ما ... قد قاله ذا العالم الرباني فارموه ويحكمو بما ترموا به ... هذا المجسم يا أولى العدوان أولا فقولوا إن ثم حزازة ... وتنفس الصعداء من حران فسلوا الإله شفاء ذا الداء العضا ... ل مجانب الإسلام والإيمان الجزء: 12 ¦ الصفحة: 520 وانظر إلى حرب وإجماع حكى ... لله درك من فتى كرمان وانظر إلى قول ابن وهب أوحد الـ ... ـعلماء مثل الشمس في الميزان وانظر إلى ما قال عبد الله في ... تلك الرسالة مفصحا ببيان من أنه سبحانه وبحمده ... بالذات فوق العرش والأكوان وانظر إلى ما قاله الكرخي في ... شرح لتصنيف امرئ رباني وانظر إلى الأصل الذي هو شرحه ... فهما الهدى لملدد حيران وانظر إلى تفسير عبد ما الذي ... فيه من الآثار في ذا الشان وانظر إلى تفسير ذاك الفاضل الثبـ ... ـت الرضي المتضلع الرباني ذاك الإمام ابن الإمام وشيخه ... وأبوه سفيان فرازيان وانظر إلى النسائي في تفسيره ... هو عندنا سفر جليل معان واقرأ كتاب العرش للعبسي وهـ ... ـو محمد المولود من عثمان واقرأ لمسند عمه ومصنف ... أتراهما نجمين بل شمسان واقرأ كتاب الاستقامة للرضي ... ذاك ابن أصرم حافظ رباني واقرأ كتاب الحافظ الثقة الرضي ... في السنة العليا فتى الشيباني ذاك ابن أحمد أوحد الحفاظ قد ... شهدت له الحفاظ بالإتقان واقرأ كتاب الأثرم العدل الرضي ... في السنة الأولى إمام زمان وكذا الإمام ابن الإمام المرتضى ... حقا أبا داود ذي العرفان تصنيفه نظما ونثرا واضح ... في السنة المثلى هما نجمان واقرأ كتاب السنة الأولى الذي ... أبداه مضطلع من الإيمان ذاك النبيل ابن النبيل كتابه ... أيضا نبيل واضح البرهان الجزء: 12 ¦ الصفحة: 521 وانظر إلى قول ابن اسباط الرضي ... وانظر إلى قول الرضي سفيان وانظر إلى قول ابن زيد ذاك حمـ ... ـاد وحماد الإمام الثاني وانظر إلى ما قاله علم الهدى ... عثمان ذاك الدارمي الرباني في نقضه والرد يا لهما كتا ... با سنة وهما لنا علمان هدمت قواعد فرقة جهمية ... خرت سقوفهم على الحيطان وانظر إلى ما في صحيح محمد ... ذاك البخاري العظيم الشأن من رده ما قاله الجهمي بالنـ ... ـقل الصحيح الواضح البرهان وانظر إلى تلك التراجم ما الذي ... في ضمنها إن كنت ذا عرفان وانظر الى ما قاله الطبري في الشـ ... ـرح الذي هو عندكم سفران أعني الفقيه الشافعي اللالكا ... ئي المسدد ناصر الإيمان وانظر إلى ما قاله علم الهدى التيـ ... ـمي في إيضاحه وبيان ذاك الذي هو صاحب الترغيب والتـ ... ـرهيب ممدوح بكل لسان وانظر إلى ما قاله في السنة الـ ... ـكبرى سليمان هو الطبراني وانظر إلى ما قاله شيخ الهدى ... يدعى بطلمنكيهم ذو شان وانظر إلى قول الطحاوي الرضي ... وأجره من تحريف ذي بهتان وكذلك القاضي أبو بكر هو ابـ ... ـن الباقلاني قائد الفرسان قد قال في تمهيده ورسائل ... والشرح ما فيه جلي بيان في بعضها حقا على العرش استوى ... لكنه استولى على الأكوان وأتى بتقرير العلو إبطال الـ ... ـلام التي زيدت على القرآن من أوجه شتى وذا في كتبه ... باد لمن كانت له عينان الجزء: 12 ¦ الصفحة: 522 وانظر إلى قول ابن كلاب وما ... يقضي به لمعطل الرحمن اخرج من العقل الصحيح ونقله ... من قال قول الزور والبهتان ليس الإله بداخل في خلقه ... أو خارج عن جملة الأكوان وانظر إلى ما قاله الطبري في التـ ... ـفسير والتهذيب قول معان وانظر إلى ما قاله في سورة ال ... أعراف مع طه ومع سبحان وانظر إلى ما قاله البغوي في ... تفسيره والشرح بالإحسان في سورة الأعراف عند الاستوا ... فيها وفي الأولى من القرآن وانظر إلى ما قاله ذو سنة ... وقراءة ذاك الإمام الداني وكذاك سنة الأصبهاني أي هو الشـ ... ـيخ الرضي المستل من حيان وانظر إلى ما قاله علم الهدى ... أعني أبا الخير الرضي النعمان وكتابه في الفقه وهو بيانه ... يبدي مكانته من الإيمان وانظر إلى السنن التي قد صنف ... العلماء بالآثار والقرآن زادت على المائتين منها مفردا ... أوفى من الخمسين في الحسبان منها لأحمد عدة موجودة ... فينا رسائله إلى الإخوان واللاء في ضمن التصانيف التي ... شهرت ولم تحتج إلى حسبان فكثيرة جدا فمن يك راغبا ... فيها يجد فيها هدى الحيران أصحابها هم حافظو الإسلام لا ... أصحاب جهم حافظو الكفران وهم النجوم لكل عبد سائر ... يبغي الإله وجنة الحيوان وسواهم والله قطاع الطـ ... ـريق أئمة تدعو إلى النيران ما في الذين حكيت عنهم آنفا ... من حنبلي واحد بضمان بل كلهم والله شيعة أحمد ... فأصوله وأصولهم سيان الجزء: 12 ¦ الصفحة: 523 وبذاك في كتب لهم قد صرحوا ... وأخو العماية ما له عينان أتظنهم لفظية جهلية ... مثل الحمير تقاد بالأرسان حاشاهم من ذاك بل والله هم ... أهل العقول وصحة الأذهان وانظر إلى تقريره لعلوه ... بالنقل والمعقول والبرهان عقلان عقل بالنصوص مؤيد ... ومؤيد بالمنطق اليونان والله ما استويا ولن يتلاقيا ... حتى تشيب مفارق الغربان أفتقذفون أولاء بل أضعافهم ... من سادة العلماء كل زمان بالجهل والتشبيه والتجسيم والتبـ ... ـديع والتعطيل والبهتان يا قومنا الله في إسلامكم ... لا تفسدوه لنخوة الشيطان يا قومنا اعتبروا بمصرع من خلا ... من قبلكم في هذه الأزمان لم يغن عنهم كذبهم ومحالهم ... وقتالهم بالزور والبهتان كلا ولا التدليس والتلبيس عنـ ... ـد الناس والحكام والسلطان وبدا لهم عند انكشاف غطائهم ... ما لم يكن للقوم في حسبان وبدا لهم عند انكشاف حقائق الإ ... يمان أنهم على البطلان ما عندهم والله غير شكاية ... فأتوا بعلم وانطقوا ببيان ما يشتكي إلا الذي هو عاجز ... فاشكوا لنعذركم إلى القرآن ثم اسمعوا ماذا الذي يقضي لكم ... وعليكم فالحق في القرآن لبّسْتُمُ معنى النصوص وقولنا ... فغدا لكم في الحق تلبيسان من حرف النص الصريح فكيف لا ... يأتي بتحريف على إنسان الجزء: 12 ¦ الصفحة: 524 يا قوم والله العظيم أسأتم ... بأئمة الإسلام ظن الشاني ما ذنبهم ونبيهم قد قال ما ... قالوا كذاك منْزل القرآن ما الذنب إلا للنصوص لديكم ... إذ جسمت بل شبهت صنفان ما ذنب من قد قال ما نطقت به ... من غير تحريف ولا عدوان هذا كما قال الخبيث لصحبه ... كلب الروافض أخبث الحيوان لما أفاضوا في حديث الرفض عنـ ... ـد القبر لا يخشون من إنسان يا قوم أصل بلائكم ومصابكم ... من صاحب القبر الذي تريان كم قدم ابن أبي قحافة بل غدا ... يثني عليه ثناء ذي شكران ويقول في مرض الوفاة يؤمكم ... بعدي أبو بكر بلا روغان ويظل يمنع من إقامة غيره ... حتى يرى في صورة الغضبان ويقول لو كنت الخليل لواحد ... في الناس كان هو الخليل الداني لكنه الأخ والرفيق وصاحبي ... وله علينا منة الإحسان ويقول للصديق يوم الغار لا ... تحزن فنحن ثلاثة لا اثنان الله ثالثنا وتلك فضيلة ... ما حازها إلا فتى عثمان يا قوم ما ذنب النواصب بعد ذا ... لم يدهكم إلا كبير الشان فتفرقت تلك الروافض كلهم ... قد أطبقت أسنانه الشفتان وكذلك الجهمي ذاك رضيعهم ... فهما رضيعا كفرهم بلبان ثوبان قد نسجا على المنوال يا ... عريان لا تلبس فما ثوبان والله شر منهما، فهما على ... أهل الضلالة والشقا علمان الجزء: 12 ¦ الصفحة: 525 فصل إذا تأملت هذا وعرفت أنه إجماع أهل العلم الذين هم الحجة، وهم القدوة وبهم الأسوة، فمن المحال أن يكون من بعدهم من الخالفين المحجوبين الناقصين المسبوقين، الحيارى المتهوكين المخالفين لطريقة السلف، أعلم وأحكم من هؤلاء السابقين الذين هم ورثة الأنبياء وخلفاء الرسل وأعلام الهدى، ومصابيح الدجى، الذين بهم قام الكتاب وبه قاموا، وبهم نطق الكتاب وبه نطقوا، الذين وهبهم الله من العلم والحكمة ما برزوا به على سائر أتباع الأنبياء، فضلا عن سائر الأمم الذين لا كتاب لهم، وأحاطوا من حقائق المعارف وبواطن الحقائق بما لو جمعت حكمة غيرهم إليها لاستحى من يطلب المقابلة. فإذا عرفت هذا تبين لك أن هذا الضال المضل إنما سلك مسلك هؤلاء المتأخرين الحيارى المتهوكين، الذين أخذوا عقائدهم عن أفراخ المتفلسفة وأتباع الهند واليونان، وورثة المجوس والمشركين، وضلال اليهود والنصارى والصابئين، وأشكالهم وأشباههم من المتكلمين الذين كثر في باب الدين اضطرابهم، وغلظ عن معرفة الله حجابهم. وتبين لك أيضا أن شيخ الإسلام، وعلم الهداة الأعلام، الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله، كان على طريقة السلف الماضين، والأئمة المهتدين، فيما يقولونه ويعتقدونه؛ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 526 ولكن هذا الرجل من أعداء الله، الذين قاموا في عداوة هذا الدين ومن قام به، واتبع {أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [سورة المائدة آية: 77] ، لأنهم -، والعياذ بالله - قد انهمكوا في الشبهات، وتلقوها عن أهل الجهل والضلالات، فانقلبت لديهم الحقائق والتبست عليهم المعارف بالشقاشق. وهذا الضرب من الناس - والعياذ بالله - إن أنصفتهم لم يقبل طبعهم الإنصاف، وإن طلبته منهم فأين الثريا من يد الملتمس؛ قد انتكست قلوبهم، وعمى عليهم مطلوبهم، رضوا بالأماني وابتلوا بالحظوظ، وحصلوا على الحرمان، وخاضوا بزعمهم بحار العلم لكن بالدعاوي الباطلة وشقاشق الهذيان. ولا والله ابتلت من وشله أقدامهم، ولا زكت به قلوبهم وأحلامهم، أتعبوا نفوسهم وحيروا من اقتدى بهم من الناس، فبقوا في حيرة وتشكيك والتباس، وضيعوا الأصول فحرموا الوصول؛ وما أحسن ما قال قتادة في مثل هؤلاء: والله ما آسى عليهم، ولكن آسى على من أهلكوا. إذا تم هذا واستبان تبين لكل منصف عدوان هؤلاء الضلال وبهتهم، وأنهم إنما أخذوا بأقوال قوم، قد شرقوا بهذه الدعوة المحمدية، فأخذوا ينفرون الناس ويصدونهم عن دين الله ورسوله بالترهات الباطلة، والتمويهات العاطلة. فإن أردت الوقوف على حقيقة ما عليه شيخ الإسلام، الجزء: 12 ¦ الصفحة: 527 وعلم الهداة الأعلام، وما كان عليه الفضلاء النبلاء من أصحابه وتلامذته، فهذا كلام شيخنا: الشيخ عبد اللطيف رحمه الله، تقف عليه، إن شاء الله تعالى، وبه الكفاية، قال رحمه الله تعالى: فصل 1 ونقصّ عليك شيئا من سيرة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ونذكر طرفا من أخباره وأحواله، ليعلم الناظر فيه حقيقة أمره، فلا يروج عليه تشنيع من استحوذ عليه الشيطان، وأغواه، وبالغ في كفره واستهواه، فنقول: قد عرف واشتهر واستفاض من تقارير الشيخ ومراسلاته، ومصنفاته المسموعة المقروءة عليه، وما ثبت بخطه وعرف واشتهر من أمره، ودعوته، وما عليه الفضلاء النبلاء من أصحابه وتلامذته، أنه على ما كان عليه السلف الصالح، وأئمة الدين أهل الفقه والفتوى، في باب معرفة الله وإثبات صفات كماله، ونعوت جلاله التي نطق بها الكتاب العزيز، وصحت بها الأخبار النبوية، وتلقاها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقبول والتسليم، يثبتونها ويؤمنون بها ويمرونها كما جاءت، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل.   1 وتقدم جله في رسالة الشيخ إسحاق صفحة 516-535/ ج1, وانظر إن شئت منهاج التأسيس والتقديس صفحة 56-68 الطبعة الثانية. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 528 وقد درج على هذا من بعدهم من التابعين وتابعيهم، من أهل العلم والإيمان وسلف الأمة وأئمتها، كسعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، والقاسم بن محمد، وسالم بن عبد الله، وطلحة بن عبيد الله، وسليمان بن يسار وأمثالهم. ومن الطبقة الأولى: كمجاهد بن جبر، وعطاء بن أبي رباح، والحسن البصري، وابن سيرين، وعامر الشعبي، وجنادة بن أبي أمية، وحسان بن عطية، وأمثالهم. ومن الطبقة الثانية: علي بن الحسين، وعمر بن عبد العزيز، ومحمد بن مسلم الزهري، ومالك بن أنس، وابن أبي ذئب، وابن الماجشون، وكحماد بن سلمة، وحماد بن زيد، والفضيل بن عياض، وعبد الله بن المبارك، وأبي حنيفة النعمان بن ثابت، ومحمد بن إدريس، وإسحاق بن إبراهيم، وأحمد بن حنبل، ومحمد بن إسماعيل البخاري، ومسلم بن الحجاج القشيري، وإخوانهم وأمثالهم، ونظائرهم من أهل الفقه والأثر، في كل مصر وعصر. وأما توحيد العبادة والإلهية، فلا خلاف بين أهل الإسلام، فيما قاله الشيخ وثبت عنه، من المعتقد الذي دعا إليه؛ يوضح ذلك أن أصل الإسلام وقاعدته: شهادة أن لا إله إلا الله؛ وهي أصل الإيمان بالله وحده، وهي أفضل شعب الإيمان، وهذا الأصل لا بد فيه من العلم والعمل والإقرار، بإجماع المسلمين. ومدلوله: وجوب عبادة الله وحده لا شريك له، والبراءة الجزء: 12 ¦ الصفحة: 529 من عبادة ما سواه، كائنا من كان؛ وهذا هو الحكمة التي خلقت لها الإنس والجن، وأرسلت لها الرسل، وأنزلت بها الكتب؛ وهي تتضمن كمال الذل والحب، وتتضمن كمال الطاعة والتعظيم، هذا ودين الإسلام، الذي لا يقبل الله دينا غيره، لا من الأولين ولا من الآخرين. فإن جميع الأنبياء على دين الإسلام، وهو يتضمن الاستسلام لله وحده، {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [سورة النحل آية: 36.] . وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [سورة الأنبياء آية: 25] . وقال تعالى عن الخليل: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [سورة الزخرف آية: 26-27-28] . وقال تعالى عنه: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} [سورة الشعراء آية: 75-76-77] . وقال تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [سورة الممتحنة آية: 4] . وقال تعالى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} [سورة الزخرف آية: 45] . وذكر الجزء: 12 ¦ الصفحة: 530 عن رسله نوح، وهود وصالح وشعيب، وغيرهم أنهم قالوا لقومهم: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [سورة الأعراف آية: 59] . وقال عن أهل الكهف: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدىً وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهاً لَقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاًهَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً} [سورة الكهف آية: 13-14-15] . وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [سورة النساء آية: 48] ، في موضعين. قال رحمه الله: والشرك المراد بهذه الآيات ونحوها، يدخل فيه شرك عباد القبور، وعباد الأنبياء والملائكة والصالحين؛ فإن هذا هو شرك جاهلية العرب، الذين بعث فيهم عبد الله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم فإنهم كانوا يدعونها، ويلتجئون إليها، ويسألونها على وجه التوسل بجاهها وشفاعتها، لتقربهم إلى الله. كما حكى الله ذلك عنهم في مواضع من كتابه، كقوله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} الآية [سورة يونس آية: 18] . وقال تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} الجزء: 12 ¦ الصفحة: 531 [سورة الزمر آية: 3] . وقال تعالى: {فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَاناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [سورة الأحقاف آية: 28] . قال رحمه الله: ومعلوم أن المشركين لم يزعموا أن الأنبياء، والأولياء والصالحين، والملائكة، شاركوا الله في خلق السماوات والأرض، أو استقلوا بشيء من التدبير والتأثير والإيجاد، ولو في خلق ذرة من الذرات، قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} [سورة الزمر آية: 38] . فهم معترفون بهذا مقرون به لا ينازعون فيه، ولذلك حسن موقع الاستفهام، وقامت الحجة بما أقروا به من هذه الجمل، وبطلت عبادة من لا يكشف الضر ولا يمسك الرحمة; ولا يخفى ما في التنكير من العموم والشمول، المتناول لأقل شيء وأدناه من ضر أو رحمة. وقال تعالى: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [سورة المؤمنون آية: 84] إلى قوله: {فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} [سورة المؤمنون آية: 89] . وقال تعالى {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [سورة يوسف آية: 106] ، ذكر فيه السلف، كابن عباس وغيره، إيمانهم هنا بما أقروا به، من ربوبيته وملكه، وفسر شركهم بعبادة غيره. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 532 قال رحمه الله تعالى: وقد بين القرآن في غير موضع، أن من المشركين من أشرك بالملائكة، ومنهم من أشرك بالأنبياء والصالحين، ومنهم من أشرك بالأصنام؛ وقد رد عليهم جميعهم، وكفر كل أصنافهم، كما قال تعالى: {وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [سورة آل عمران آية: 80] . وقال تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} ، الآية [سورة التوبة آية: 31] . وقال: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ} الآية [سورة النساء آية: 172] ؛ ونحو ذلك في القرآن كثير; وبه يعلم المؤمن أن عبادة الأنبياء والصالحين، كعبادة الكواكب والأصنام، من حيث الشرك والكفر بعبادة غير الله. قال رحمه الله تعالى: وهذه العبادات التي صرفها المشركون لآلهتهم، هي أفعال العبد الصادرة منه، كالحب والخضوع والإنابة والتوكل، والدعاء والاستعانة والاستغاثة، والخوف والرجاء والنسك والتقوى، والطواف ببيته رغبة ورجاء، وتعلق القلوب والآمال بفيضه ومدده، وإحسانه وكرمه. فهذه الأنواع أشرف أنواع العبادة وأجلها; بل هي لب سائر الأعمال الإسلامية وخلاصتها، وكل عمل يخلو منها، فهو خداج مردود على صاحبه؛ وإنما أشرك وكفر من كفر من الجزء: 12 ¦ الصفحة: 533 المشركين، بقصد غير الله بهذا، وتأليهه لذلك. قال تعالى: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [سورة النحل آية: 17] . وقال تعالى: {أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ} [سورة الأنبياء آية: 43] . وقال تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ} الآية [سورة الفرقان آية: 3] . وحكى عن أهل النار أنهم يقولون لآلهتهم التي عبدوها مع الله: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [سورة الشعراء آية: 97-98] ؛ ومعلوم أنهم ما سووهم به في الخلق والتدبير والتأثير، وإنما كانت التسوية في الحب والخضوع، والتعظيم والدعاء، ونحو ذلك من العبادات. قال رحمه الله: فجنس هؤلاء المشركين وأمثالهم، ممن يعبد الأولياء والصالحين، نحكم بأنهم مشركون، ونرى كفرهم إذا قامت عليهم الحجة الرسالية؛ وما عدا هذا من الذنوب التي دونه في الرتبة والمفسدة، لا نكفر بها، ولا نحكم على أحد من أهل القبلة، الذين باينوا عباد الأوثان والأصنام والقبور، بمجرد ذنب ارتكبوه، وعظيم جرم اجترحوه. وغلاة الجهمية والقدرية والرافضة ونحوهم ممن كفرهم السلف، لا نخرج فيهم عن أقوال أئمة الهدى والفتوى من سلف هذه الأمة، ونبرأ إلى الله مما أتت به الخوارج، وقالته في أهل الذنوب من المسلمين. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 534 قال رحمه الله: ومجرد الإتيان بلفظ الشهادة، من غير علم بمعناها، ولا عمل بمقتضاها، لا يكون به المكلف مسلما; بل هو حجة على ابن آدم، خلافا لمن زعم أن الإيمان مجرد الإقرار، كالكرامية، ومجرد التصديق كالجهمية. وقد أكذب الله المنافقين فيما أتوا به وزعموه من الشهادة، وأسجل على كذبهم، مع أنهم أتوا بألفاظ مؤكدة بأنواع من التأكيدات، قال تعالى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [سورة المنافقون آية: 1] . فأكدوا بلفظ الشهادة و (إِنَّّّّّّّّ) المؤكدة، واللام والجملة الإسمية، فأكذبهم، وأكد تكذيبهم بمثل ما أكدوا به شهادتهم سواء بسواء، وزاد التصريح باللقب الشنيع، والعلم البشع الفظيع; وبهذا تعلم أن مسمى الإيمان لا بد فيه من الصدق والعمل. ومن شهد أن لا إله إلا الله وعبد غيره، فلا شهادة له، وإن صلى وزكى وصام، وأتى بشيء من أعمال الإسلام؛ قال تعالى لمن آمن ببعض الكتاب، ورد بعضا: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} الآية [سورة البقرة آية: 85] . وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً} الآية [سورة النساء آية:-151 150] . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 535 وقال تعالى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ} الآية [سورة المؤمنون آية: 117] . والكفر نوعان: مطلق، ومقيد. فالمطلق: أن يكفر بجميع ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، والمقيد: أن يكفر ببعض ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم؛ حتى إن بعض العلماء، كفر من أنكر فرعا مجمعا عليه، كتوريث الجد أو الأخت، وإن صلى وصام؛ فكيف بمن يدعو الصالحين، ويصرف لهم خالص العبادة ولبها؟! وهذا مذكور في المختصرات من كتب المذاهب الأربعة; بل كفروا ببعض الألفاظ التي تجري على ألسن بعض الجهال، وإن صلى وصام، من جرت على لسانه. قال رحمه الله: والصحابة كفّروا من منع الزكاة، وقاتلوهم، مع إقرارهم بالشهادتين، والإتيان بالصلاة، والصوم والحج. قال رحمه الله: وأجمعت الأمة على كفر بني عبيد القداح مع أنهم يتكلمون بالشهادتين، ويبنون المساجد في قاهرة مصر وغيرها، وذكر أن ابن الجوزي صنف كتابا في وجوب غزوهم وقتالهم، سماه: "النصر على مصر". قال: وهذا يعرفه من له أدنى إلمام بشيء من العلم والدين، فتسمية عباد القبور مسلمين، لأنهم يصلون ويصومون، ويؤمنون بالبعث، مجرد تعمية على العوام وتلبيس، لينفق شركهم، ويقال بإسلامهم وإيمانهم، ويأبى الله ذلك ورسوله والمؤمنون. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 536 وأما مسائل القدر والجبر، والإرجاء، والإمامة والتشيع، ونحو ذلك من المقالات والنحل، فهو أيضا فيها على ما كان عليه السلف الصالح، وأئمة الهدى والدين، يبرأ إلى الله مما قالته القدرية النفاة، والقدرية المجبرة، وما قالته المرجئة والرافضة، وما عليه غلاة الشيعة والناصبة. ويوالي جميع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويكف عما شجر بينهم، ويرى أنهم أحق الناس بالعفو عما يصدر منهم، وأنهم أقرب الخلق إلى مغفرة الله وإحسانه، لفضائلهم وسوابقهم وجهادهم، وما جرى على أيديهم من فتح القلوب بالعلم النافع، والعمل الصالح، وفتح البلاد، ومحو آثار الشرك، وعبادة الأوثان والنيران، والأصنام والكواكب، ونحو ذلك مما عبده جهال الأنام. ويرى البراءة مما عليه الرافضة، وأنهم سفهاء الأحلام، ويرى أن أفضل الأمة بعد نبيها: أبو بكر، فعمر، فعثمان، فعلي، رضي الله عنهم أجمعين. ويعتقد: أن القرآن الذي نزل به الروح الأمين، على قلب سيد المرسلين، وخاتم النبيين، كلام الله غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود، ويبرأ من رأي الجهمية، القائلين بخلق القرآن، ويحكي تكفيرهم عن جمهور السلف، أهل العلم والإيمان. ويبرأ من رأي الكلابية، أتباع عبد الله بن سعيد بن كلاب، القائلين بأن كلام الله هو المعنى القائم بنفس الباري، وأن ما الجزء: 12 ¦ الصفحة: 537 نزل به جبرائيل حكاية أو عبارة عن المعنى النفسي; ويقول: هذا من قول الجهمية; وأول من قسم هذا التقسيم هو ابن كلاب، وأخذ عنه الأشعري وغيره كالقلانسي. ويخالف الجهمية، في كل ما قالوه، وابتدعوه في دين الله، ولا يرى ما ابتدعه الصوفية من البدع والطرائق المخالفة لهدي رسول الله وسنته، في العبادات والخلوات، والأذكار المخالفة للمشروع. ولا يرى ترك السنن والأخبار النبوية لرأي فقيه، ومذهب عالم خالف ذلك باجتهاده؛ بل: السنة أجل في صدره وأعظم عنده، من أن تترك لقول أحد كائنا من كان; قال عمر بن عبد العزيز: "لا رأي لأحد في سنة سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم"؛ نعم عند الضرورة وعدم الأهلية، والمعرفة بالسنن والأخبار، وقواعد الاستنباط والاستظهار، يصار إلى التقليد، لا مطلقا، بل فيما يتعسر ويخفى. ولا يرى إيجاب ما قاله المجتهد، إلا بدليل تقوم به الحجة من الكتاب والسنة، خلافا لغلاة المقلدين; ويوالي الأئمة الأربعة، ويرى فضلهم وإمامتهم، وأنهم في الفضل والفضائل في غاية رتبة، يقصر عنها المتطاول; ويوالي كافة أهل الإسلام وعلمائهم من أهل الحديث والفقه والتفسير، وأهل الزهد والعبادة. ويرى المنع من الانفراد عن أئمة الدين، من السلف الجزء: 12 ¦ الصفحة: 538 الماضين، برأي مبتدع، أو قول مخترع، فلا يحدث في الدين ما ليس له أصل يتبع، وما ليس من أقوال أهل العلم والأثر. ويؤمن بما نطق به الكتاب، وصحت به الأخبار، وجاء الوعيد عليه، من تحريم دماء المسلمين، وأموالهم وأعراضهم، ولا يبيح من ذلك إلا ما أباحه الشرع، وأهدره الرسول صلى الله عليه وسلم. ومن نسب إليه خلاف هذا، فقد كذب وافترى، وقال ما ليس له به علم، وسيجزيه الله ما وعد به أمثاله، من المفترين. وأبدى رحمه الله من التقارير المفيدة، والأبحاث الفريدة، على كلمة الإخلاص والتوحيد: شهادة أن لا إله إلا الله، ما دل عليه الكتاب المصدق، والإجماع المستنير المحقق، من نفي استحقاق العبادة والإلهية عما سوى الله، وإثبات ذلك لله سبحانه، على وجه الكمال، المنافي لكليات الشرك وجزئياته، وأن هذا هو معناها وصفا ومطابقة، خلافا لمن زعم غير ذلك من المتكلمين، كمن يفسر ذلك بالقدرة على الاختراع، أو بأنه تعالى غني عما سواه، مفتقر إليه كل ما عداه؛ فإن هذا لازم المعنى، إذ الإله لا يكون إلا قادرا غنيا عما سواه، وأما كون هذا هو المعنى المقصود بالوضع، فليس كذلك؛ والمتكلمون خفي عليهم هذا، وظنوا أن تحقيق توحيد الربوبية والقدرة، هو الغاية المقصودة، والفناء فيه هو تحقيق التوحيد، وليس الأمر كذلك. بل هذا لا يكفي في الإيمان، وأصل الإسلام، إلا إذا الجزء: 12 ¦ الصفحة: 539 أضيف إليه واقترن به توحيد الإلهية، وإفراد الله بالعبادة، والحب والخضوع والتعظيم، والإنابة والتوكل والخوف والرجاء، وطاعة الله، وطاعة رسوله؛ هذا أصل الإسلام وقاعدته. والتوحيد الأول، توحيد الربوبية والخلق والإيجاد، وهو الذي بني عليه توحيد العمل والإرادة؛ وهو دليله الأكبر، وأصله الأعظم، كما قال تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [سورة البقرة آية: 163] إلى آخر الآيات. قال العلامة ابن القيم، رحمه الله تعالى: إن كان ربك واحدا سبحانه ... فاخصصه بالتوحيد مع إحسان أو كان ربك واحدا أنشاك لم ... يشركه إذ أنشاك رب ثان فكذاك أيضا وحده فاعبده لا ... تعبد سواه يا أخا العرفان وهذه الجملة منقولة عن السلف، والأئمة من المفسرين، وغيرهم من أهل اللغة، إجمالا وتفصيلا. وقد قرر رحمه الله، على شهادة أن محمدا رسول الله، من بيان ما تستلزمه هذه الشهادة، وتستدعيه وتقتضيه، من تجريد المتابعة، والقيام بالحقوق النبوية، من الحب والتوقير، والنصرة والمتابعة والطاعة، وتقديم سنته صلى الله عليه وسلم على كل سنة وقول، والوقوف معها حيث ما وقفت، والانتهاء حيث انتهت، في أصول الدين وفروعه، باطنة وظاهرة، خفية وجلية، كلية وجزئية، ما ظهر به فضله، وتأكد علمه ونبله، وأنه سباق غايات، وصاحب آيات، لا يشق غباره، ولا تدرك في البحث الجزء: 12 ¦ الصفحة: 540 والإفادة آثاره، وأن أعداءه ومنازعيه، وخصومه في الفضل وشائبيه، يصدق عليهم المثل السائر، بين أهل المحابر والدفاتر، شعرا: حسدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيه ... فالقوم أعداء له وخصوم كضرائر الحسناء قلن لوجهها ... حسدا وبغيا إنه لذميم وله رحمه الله، من المناقب والمآثر، ما لا يخفى على أهل الفضل والبصائر; ومما اختصه الله به من الكرامة: تسلط أعداء الدين، وخصوم عباد الله المؤمنين على مسبته، والتعرض لبهته وعيبه; قال الشافعي رحمه الله: ما أرى الناس ابتلوا بشتم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ليزيدهم الله بذلك ثوابا عند انقطاع أعمالهم. وأفضل الأمة بعد نبيها: أبو بكر وعمر، وقد ابتليا من طعن أهل الجهالة، والسفاهة بما لا يخفى؛ وما حكيناه عن الشيخ، حكاه أهل المقالات، عن أهل السنة والجماعة مفصلا، وهذه عبارة أبي الحسن الأشعري، في كتابه: "مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين". قال أبو الحسن الأشعري: جملة ما عليه أصحاب الحديث، وأهل السنة: الإقرار بالله وملائكته وكتبه ورسله، وما جاء من عند الله، وما رواه الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يردون من ذلك شيئا، والله تعالى إله واحد، فرد صمد، لم يتخذ صاحبة ولا ولدا، وأن محمدا عبده ورسوله، وأن الجنة حق، وأن الجزء: 12 ¦ الصفحة: 541 النار حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور، وأن الله تعالى على عرشه، كما قال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [سورة طه آية: 5] ، وأن له يدين بلا كيف، كما قال: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [سورة ص آية: 75] ، وكما قال: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [سورة المائدة آية: 64] ، وأن له عينين بلا كيف، وأن له وجها جل ذكره، كما قال تعالى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ} [سورة الرحمن آية: 27] ، وأن أسماء الله تعالى لا يقال إنها غير الله، كما قالت المعتزلة والخوارج. وأقروا: أن لله تعالى علما، كما قال تعالى: {أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ} [سورة النساء آية: 166] ، وكما قال: {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ} [سورة فاطر آية: 11] ، وأثبتوا السمع والبصر، ولم ينفوا ذلك كما نفتة المعتزلة، وأثبتوا لله القوة، كما قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} [سورة فصلت آية: 15] . وقالوا: إنه لا يكون في الأرض من خير ولا شر إلا ما شاء الله، وأن الأشياء تكون بمشيئة الله تعالى كما قال تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [سورة الإنسان آية: 30] ، وكما قال المسلمون: ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن; وقالوا: إن أحدا لا يستطيع أن يفعل شيئا قبل أن يفعله الله، أو يكون أحد يقدر على أن يخرج عن علم الله، وأن يفعل شيئا علم الله أنه لا يفعله. وأقروا: أنه لا خالق إلا الله، وأن أعمال العباد يخلقها الجزء: 12 ¦ الصفحة: 542 الله، وأن العباد لا يقدرون أن يخلقوا شيئا، وأن الله تعالى وفق المؤمنين لطاعته، وخذل الكافرين بمعصيته، ولطف بالمؤمنين ونظر لهم وأصلحهم وهداهم، ولم يلطف بالكافرين ولا أصلحهم ولا هداهم، ولو أصلحهم لكانوا صالحين، ولو هداهم لكانوا مهتدين. وأن الله تعالى يقدر أن يصلح الكافرين ويلطف بهم، حتى يكونوا مؤمنين، ولكنه أراد أن يكونوا كافرين كما علم، وخذلهم وأضلهم وطبع على قلوبهم، وأن الخير والشر بقضاء الله وقدره. ويؤمنون بقضاء الله وقدره، خيره وشره، حلوه ومره، ويؤمنون أنهم لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا، إلا ما شاء الله، كما قال; ويلجئون أمرهم إلى الله، ويثبتون الحاجة إلى الله في كل وقت، والفقر إلى الله في كل حال. ويقولون: إن القرآن كلام الله غير مخلوق، والكلام في الوقف، واللفظ؛ من قال: باللفظ، أو بالوقف، فهو مبتدع عندهم؛ لا يقال: اللفظ بالقرآن مخلوق، ولا يقال: غير مخلوق. ويقولون: إن الله تعالى يُرى بالأبصار يوم القيامة، كما يُرى القمر ليلة البدر، ويراه المؤمنون، ولا يراه الكافرون، لأنهم عن الله محجوبون، قال الله تعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [سورة المطففين آية: 15] ، وأن موسى سأل الله سبحانه الجزء: 12 ¦ الصفحة: 543 الرؤية في الدنيا، وأن الله تجلى للجبل فجعله دكا، فأعلمه بذلك أنه لا يراه في الدنيا، بل يراه في الآخرة. ولم يكفّروا أحدا من أهل القبلة بذنب يرتكبه، كنحو الزنى والسرقة، وما أشبه ذلك من الكبائر؛ وهم بما معهم من الإيمان مؤمنون، وإن ارتكبوا الكبائر. والإيمان عندهم، هو: الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله، وبالقدر خيره وشره، وحلوه ومره، وأن ما أخطأهم لم يكن ليصيبهم، وأن ما أصابهم لم يكن ليخطئهم; والإسلام، هو: أن يشهد أن لا إله إلا الله، على ما جاء في الحديث. والإسلام عندهم غير الإيمان; ويقرون بأن الله مقلب القلوب. ويقرون بشفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنها لأهل الكبائر من أمته، وبعذاب القبر، وأن الحوض حق، والمحاسبة من الله للعباد حق، والوقوف بين يدي الله حق; ويقرون: بأن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، ولا يقولون مخلوق ولا غير مخلوق، ويقولون: أسماء الله هي الله. ولا يشهدون على أحد من أهل الكبائر بالنار، ولا يحكمون بالجنة لأحد من الموحدين، حتى يكون الله تعالى أنزلهم حيث شاء، ويقولون: أمرهم إلى الله إن شاء عذبهم، وإن شاء غفر لهم; ويؤمنون بأن الله تعالى يخرج قوما من الموحدين من النار، على ما جاءت به الروايات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وينكرون: الجدل والمراء في الدين، والخصومة في القدر، الجزء: 12 ¦ الصفحة: 544 والمناظرة فيما يتناظر فيه أهل الجدل، ويتنازعون فيه من دينهم، بالتسليم للروايات الصحيحة، ولما جاءت به الآثار التي رواها الثقات، عدل عن عدل حتى ينتهي ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يقولون: كيف، ولا لم، لأن ذلك بدعة. ويقولون: إن الله لم يأمر بالشر بل نهى عنه، وأمر بالخير ولم يرض بالشر، وإن كان مريدا له، ويعرفون حق السلف الذين اختارهم الله تعالى لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم ويأخذون بفضائلهم، ويمسكون عما شجر بينهم، صغيرهم وكبيرهم. ويقدمون أبا بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم عليا رضي الله عنهم; ويقرون أنهم الخلفاء الراشدون المهديون، وأنهم أفضل الناس كلهم بعد النبي صلى الله عليه وسلم، ويصدقون بالأحاديث التي جاءت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أن الله ينْزل إلى سماء الدنيا، فيقول: هل من مستغفر؟ " 1 كما جاء في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. ويأخذون بالكتاب والسنة، كما قال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [سورة النساء آية: 59] ، ويرون اتباع من سلف من أئمة الدين، ولا يبتدعون في دينهم ما لم يأذن به الله; ويقرون: أن الله تعالى يجيء يوم القيامة، كما قال تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} [سورة الفجر آية: 22] ، وأن الله تعالى يقرب من خلقه كيف شاء، كما قال تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [سورة ق آية: 16] . ويرون العيد والجمعة والجماعةخلف كل إمام، بر   1 أحمد 4/81 , والدارمي: الصلاة 1480. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 545 أو فاجر، ويثبتون المسح على الخفين سنة، ويرونه في الحضر والسفر; ويثبتون فرض الجهاد للمشركين، منذ بعث الله نبيه صلى الله عليه وسلم إلى آخر عصابة تقاتل الدجال؛ وبعد ذلك، يرون الدعاء لأئمة المسلمين بالصلاح، وأنه لا يخرج عليهم بالسيف، وأن لا يقاتلوا في الفتنة، ويصدقون بخروج الدجال، وأن عيسى بن مريم يقتله. ويؤمنون بمنكر ونكير، والمعراج، والرؤيا في المنام، وأن الدعاء لموتى المسلمين، والصدقة عنهم بعد موتهم، تصل إليهم; ويصدقون بأن في الدنيا سحرة، وأن الساحر كافر، كما قال الله تعالى، وأن السحر كائن موجود في الدنيا; ويرون الصلاة على كل من مات من أهل القبلة، مؤمنهم وفاجرهم. ويقرون: أن الجنة والنار مخلوقتان، وأن من مات بأجله، وكذلك من قُتل بأجله، وأن الأرزاق من قبل الله تعالى، يرزقها عباده، حلالا كانت أو حراما، وأن الشيطان يوسوس للإنسان ويشككه، ويخطيه، وأن الصالحين قد يجوز أن يخصهم الله تعالى بآيات تظهر عليهم، وأن السنة لا تنسخ القرآن، وأن الأطفال أمرهم إلى الله، إن شاء عذبهم وإن شاء فعل بهم ما أراد، وأن الله عالم ما العباد عاملون، وكتب أن ذلك يكون، وأن الأمور بيد الله تعالى. ويرون الصبر على حكم الله، والأخذ بما أمر الله به، والانتهاء عما نهى الله عنه، وإخلاص العمل والنصيحة للمسلمين; الجزء: 12 ¦ الصفحة: 546 ويدينون بعبادة الله في العابدين، والنصيحة لجميع المسلمين، واجتناب الكبائر، والزنى، وقول الزور، والمعصية، والفخر، والكبر والإزراء على الناس والعجب. ويرون مجانبة كل داع إلى بدعة، والتشاغل بقراءة القرآن، وكتابة الآثار، والنظر في الفقه، مع التواضع والاستكانة، وحسن الخلق وبذل المعروف، وكف الأذى، وترك الغيبة والنميمة والسعاية، وتفقد المأكل والمشرب. فهذه جملة ما يأمرون به، ويعتقدونه ويرونه؛ وبكل ما ذكرنا من قولهم نقول، وإليه نذهب، وما توفيقنا إلا بالله، وهو حسبنا ونعم الوكيل. انتهى ما ذكره شيخنا، الشيخ عبد اللطيف، رحمه الله تعالى، وعفا عنه. فإذا عرفت هذا وتحققته، وعلمت أنه لم يخرج رحمه الله عن طريقة السلف، وما درج عليه العلماء الأمناء بعدهم، على ما يعتقدونه ويقولونه، بل كان على ما كانوا عليه، من تقرير توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات، وتجريد متابعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقديم قوله على قول كل أحد، كائنا من كان، وأنه كان على ما كانوا عليه، من مكارم الأخلاق، ومحاسن الأعمال، والأمر بالصبر على البلاء، والشكر عند الرخاء، والرضى بمر القضاء، وحسن الجوار، والإحسان إلى الأيتام والمساكين وابن السبيل، والنهي عن الفخر والخيلاء والبغي، الجزء: 12 ¦ الصفحة: 547 والاستطالة على الخلق بحق أو بغير حق، ويأمر بمعالي الأخلاق وينهى عن سفسافها، ويأمر بالجهاد على ما أمر الله به ورسوله، والانتهاء عما نهى الله عنه، بالحجة واللسان، والسيف والسنان. وأنه ييرأ إلى الله تعالى، من جميع من خالف أهل الحق، من جميع الفرق الذين خرجت بهم الأهواء وتشعبت، وفرقوا دينهم {وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [سورة الروم آية: 32] ، وأصول هذه الفرق: ست فرق: الروافض، والخوارج، والمرجئة، والجهمية، والقدرية، والجبرية، وكل فرقة من هذه الفرق تشعبت، على ما ذكره أهل العلم، على اختلاف نحلهم ومللهم، وتشعب آرائهم وأهوائهم. فإذا تحققت ذلك، تبين لك: أن هذا الملحد المفتري الضال، ممن نكب عن طريقة السلف الصالح، وصدف عنها، واتبع غير سبيل المؤمنين، ومن يتبع غير سبيل المؤمنين يوله الله ما تولى، ويصله جهنم وساءت مصيرا. وقد اشتهر وظهر من شأن الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى، من الدعوة إلى الله، والنهي عن الشرك في العبادة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، واتباع سبيل المؤمنين، من سلف هذه الأمة وأئمتها، ما شاع وذاع، وملأ الأسماع، انتفع بدعوته الخلق الكثير، والجم الغفير؛ فرحمه الله من إمام، ما أحسن أثره على الناس، وما أسوأ أثر الناس عليه. وما أحسن ما قاله الإمام العالم الرباني: محمد بن أحمد الجزء: 12 ¦ الصفحة: 548 الحفظي اليمني، رحمه الله، في أرجوزة له، ذكر فيها أمر هذه الدعوة، وما حصل في ضمنها من إظهار الدين، ونشره في البلاد والعباد، ونشر أعلام الجهاد، فقال رحمه الله: الحمد حقا مستحقا أبدا ... لله رب العالمين سرمدا أحمده مهللا مسجلا ... محوقلا محيعلا محسبلا مصليا على الرسول الشارع ... وآله وصحبه والتابعي في البدء والختم وأما بعد ... فهذه منظومة تعد حركني لنظمها الخير الذي ... قد جاءنا في آخر العصر القذي لما دعا الداعي من المشارق ... بأمر رب العالمين الخالق وبعث الله لنا مجددا ... من أرض نجد عالما مجتهدا شيخ الهدى محمد المحمدي ... الحنبلي الأثري الأحمدي فقام والشرك الصريح قد سرى ... بين الورى وقد طغى واعتكرا لا يعرفون الدين والتهليلا ... وطرق الإسلام والسبيلا إلا أساميها وباقي الرسم ... والأرض لا تخلو من أهل العلم وكل حزب فلهم وليجة ... يدعونه في الضيق للتفريجة وملة الإسلام والأحكام ... في غربة وأهلها أيتام دعا إلى الله وبالتهليلة ... يصرخ بين أظهر القبيلة مستضعفا وما له مناصر ... ولا له معاون موازر في ذلة وقلة وفي يده ... مهفة تغنيه عن مهنده كأنها ريح الصبا في الرعب ... والحق يعلو بجنود الرب الجزء: 12 ¦ الصفحة: 549 قد أذكرتني درة لعمر ... وضرب موسى بالعصى للحجر ولم يزل يدعو إلى دين النبي ... ليس إلى نفس دعا أو مذهب يعلم الناس معاني أشهد ... أن لا إله غير فرد يعبد محمد نبيه وعبده ... رسوله إليكم وقصده أن تعبدوه وحده لا تشركوا ... شيئا به والابتداع فاتركوا ومن دعا دون الإله أحدا ... أشرك بالله ولو محمدا إن قلتمو نعبدهمو للقربة ... أو للشفاعات فتلك الكذبة فربنا يقول في كتابه ... هذا هو الشرك بلا تشابه هذي معاني دعوة الشيخ لمن ... عاصره فاستكبروا عن السنن فانقسم الناس فمنهم شارد ... مخاصم محارب معاند ما بين خفاش وبين جعل ... شاهت وجوه أهل هذا المثل والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وآله وصحبه وسلم. آخر الجزء الثاني عشر ويليه الجزء الثالث عشر: "كتاب التفسير" إن شاء الله تعالى الجزء: 12 ¦ الصفحة: 550 المجلد الثالث عشر: (تفسير واستنباط لسور وآيات من القرآن الكريم) كتاب تفسير القرآن * ... كتاب تفسير القرآن قال شيخ الإسلام، علم الهداة الأعلام، الشيح: محمد بن عبد الوهاب، أجزل الله له الأجر والثواب، وأسكنه الجنة بغير حساب. بسم الله الرحمن الر حيم باب فضائل تلاوة القرآن وتعلمه وتعليمه وقول الله عز وجل: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [سورة المجادلة آية: 11] ، وقوله تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ} [سورة آل عمران آية: 79] . وعن عائشة رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن ويتتعتع 1 فيه وهو عليه شاق له أجران "أخرجاه ; وللبخاري عن عثمان رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " خيركم من تعلم القرآن وعلمه " 2.   1 التتعتع: التردد في الكلام عيا وصعوبة. 2 البخاري: فضائل القرآن (5027) ، والترمذي: فضائل القرآن (2907، 2908) ، وأبو داود: الصلاة (1452) ، وابن ماجه: المقدمة (211) ، وأحمد (1/58) ، والدارمي: فضائل القرآن (3338) . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 5 ولمسلم عن أبي أمامة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " اقرؤوا القرآن، فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه، اقرؤوا الزهراوين: البقرة وسورة آل عمران، فإنهما يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان، أو كأنهما غيايتان 1، أو كأنهما فرقان من طير صواف، يحاجان لصاحبهما ; اقرؤوا سورة البقرة، فإن أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا تستطيعها البطلة ". وله عن النواس بن سمعان، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " يؤتى بالقرآن يوم القيامة، وأهله الذين كانوا يعملون به، يقدمه سورة البقرة وآل عمران" 2، وضرب لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أمثال ما نسيتهن بعد، قال: "كأنهما غمامتان، أو ظلتان سوداوان بينهما شرق 3، أو كأنهما فرقان من طير صواف، يحاجان عن صاحبهما ". وعن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" من قرأ حرفا من كتاب الله فله حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول (الم) حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف " 4 رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح ; وله وصححه عن عبد الله بن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يقال   1 الغياية ما أظللك من فوقك. 2 مسلم: صلاة المسافرين وقصرها (805) ، والترمذي: فضائل القرآن (2883) ، وأحمد (4/183) . 3 أي: ضياء ونور. 4 الترمذي: فضائل القرآن (2910) . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 6 لصاحب القرآن: اقرأ وارتق، ورتل كما كنت ترتل في الدنيا، فإن منزلتك عند آخر آية " 1. ولأحمد نحوه من حديث أبي سعيد: " ويصعد بكل آية درجة، حتى يقرأ آخر شيء منه " 2، ولأحمد أيضا عن بريدة مرفوعا: " تعلموا سورة البقرة " 3 فذكر مثل ما تقدم في الصحيح، في البقرة وآل عمران. وفيه: " وإن القرآن يلقى صاحبه يوم القيامة، حين ينشق عنه قبره، كالرجل الشاحب، فيقول له: هل تعرفني؟ فيقول له: ما أعرفك، فيقول: أنا صاحبك القرآن، الذي أظمأتك في الهواجر، وأسهرت ليلك، وإن كل تاجر من وراء تجارته، وإنك اليوم من وراء كل تجارة، فيعطى الملك بيمينه، والخلد بشماله، ويوضع على رأسه تاج الوقار، ويكسى والداه حلتان لا يقوم لهما أهل الدنيا، فيقولان بم كسينا هذا؟ فيقال: بأخذ ولدكما القرآن ; ثم يقال: اقرأ واصعد في درج الجنة وغرفها، فهو في صعود ما دام يقرأ هَذًّا كان أو ترتيلا " 4. وعن أنس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " أهل القرآن هم أهل الله وخاصته " 5 رواه أحمد والنسائي. باب ما جاء في تقديم أهل القرآن وإكرامهم كان القراء أصحاب مجلس عمر، كهولا كانوا أو شبانا. وعن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " يؤم القوم   1 الترمذي: فضائل القرآن (2914) ، وأبو داود: الصلاة (1464) . 2 ابن ماجه: الأدب (3780) ، وأحمد (3/40) . 3 أحمد (5/348) ، والدارمي: فضائل القرآن (3391) . 4 ابن ماجه: الأدب (3781) ، وأحمد (5/348) ، والدارمي: فضائل القرآن (3391) . 5 ابن ماجه: المقدمة (215) ، وأحمد (3/127) . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 7 أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء، فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء، فأقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواء، فأقدمهم سنا " 1. وفي رواية: " سلما، ولا يؤمّنّ الرجلُ الرجلَ في سلطانه، ولا يقعد في بيته على تكرمته إلا بإذنه " 2 رواه مسلم. وللبخاري عن جابر: أنه صلى الله عليه وسلم كان يجمع بين الرجلين من قتلى أحد، ثم يقول: "أيهما أكثر أخذا للقرآن؟ " 3 فإذا أشير إلى أحدهما قدمه في اللحد. وعن أبي موسى، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن من إجلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم، وحامل القرآن غير الغالي فيه والجافي عنه، وإكرام ذي السلطان " 4 حديث حسن رواه أبو داود. باب وجوب تعلم القرآن وتفهمه واستماعه والتغليظ على من ترك ذلك وقول الله تعالى: {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً} [سورة الأنعام آية: 25] ، وقال تعالى: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ} [سورة الأنفال آية: 22] ، وقوله: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً} [سورة طه آية: 124] . عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم، كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا، فكان   1 مسلم: المساجد ومواضع الصلاة (673) ، والترمذي: الصلاة (235) ، وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (980) ، وأحمد (4/117، 4/121، 5/272) . 2 مسلم: المساجد ومواضع الصلاة (673) . 3 البخاري: الجنائز (1343) ، والترمذي: الجنائز (1036) ، والنسائي: الجنائز (1955) ، وأبو داود: الجنائز (3138) . 4 أبو داود: الأدب (4843) . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 8 منها نقية قبلت الماء، فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس، فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصاب منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله، ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلّم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا، ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به " 1 أخرجاه. وعن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ارحموا تُرحموا، واغفروا يغفر الله لكم، ويل لأقماع القول، ويل للمصرين الذين يصرون على ما فعلوا وهم يعلمون " 2 رواه أحمد. باب الخوف على من لم يفهم القرآن أن يكون من المنافقين وقوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ} [سورة محمد آية: 16] الآية، وقوله عز وجل: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا} [سورة الأعراف آية: 179] الآية. عن أسماء: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إنكم تفتنون في قبوركم كفتنة الدجال أو قريبا من فتنة الدجال، يؤتى أحدكم، فيقال: ما علمك بهذا الرجل؟ فأما المؤمن فيقول: هو محمد رسول الله، جاءنا بالبينات والهدى، فأجبنا وآمنا واتبعنا ; فيقال: نم صالحا، فقد علمنا إنك لمؤمن ; وأما المنافق   1 البخاري: العلم (79) ، ومسلم: الفضائل (2282) ، وأحمد (4/399) . 2 أحمد (2/165) . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 9 والمرتاب، فيقول: لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئا فقلته " 1 أخرجاه. وفي حديث البراء في الصحيح: "إن المؤمن يقول: هو رسول الله، ويقال له: فما علمك؟ فيقول: قرأت كتاب الله فآمنت به وصدقت 2". باب قول الله تعالى: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ} [سورة البقرة آية: 78] الآية وقوله: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً} [سورة الجمعة آية: 5] الآية. عن أبي الدرداء قال: " كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فشخص بصره إلى السماء فقال: هذا أوان يختلس العلم من الناس حتى لا يقدرون على شيء منه، فقال زياد بن لبيد: كيف يختلس منا وقد قرأنا القرآن؟ فوالله لنقرئنه نساءنا وأبناءنا، فقال: ثكلتك أمك يا زياد، إن كنت لأعدك من فقهاء أهل المدينة، هذه التوراة والإنجيل عند اليهود والنصارى، فماذا تغني عنهم؟ " رواه الترمذي وقال: حسن غريب. وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنزل   1 البخاري: العلم (86) ، ومسلم: الكسوف (905) ، وأحمد (6/345) ، ومالك: النداء للصلاة (447) . 2 وانظر الحديث بطوله في تفسير ابن كثير آية 27 من سورة إبراهيم. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 10 عليه: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} [سورة البقرة آية: 164] إلى قوله: {سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [سورة آل عمران آية: 191] قال: "ويل لمن قرأ هذه الآية ولم يتفكر فيها" رواه ابن حبان في صحيحه. باب إثم من فجر بالقرآن وقوله تعالى: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ} [سورة البقرة آية: 26] ، وقوله: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [سورة المائدة آية: 44] ، وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً} [سورة البقرة آية: 174] الآية. وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " يخرج في هذه الأمة " 1 ولم يقل منها " قوم تحقرون صلاتكم مع صلاتهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم وحلوقهم، يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية، فينظر إلى نصله، إلى رصافه، فيتمارى في فوقه، هل علق به من الدم شيء؟ " 2 أخرجاه وفي رواية: " يقرؤون القرآن رطبا ". وكان ابن عمر يراهم شرار الخلق، وقال: إنهم انطلقوا إلى آيات نزلت في الكفار، فجعلوها على المؤمنين ; وللترمذي وحسنه، عن أبي هريرة مرفوعا: "من سئل عن علم فكتمه، ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار " 3.   1 البخاري: استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم (6931) ، ومسلم: الزكاة (1064) . 2 البخاري: استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم (6931) ، ومسلم: الزكاة (1064) ، وأحمد (3/60، 3/65) . 3 الترمذي: العلم (2649) ، وأبو داود: العلم (3658) ، وأحمد (2/344) . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 11 باب إثم من راءى بالقرآن عن أبي هريرة، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه: رجل استشهد، فأتي به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت، قال: كذبت، ولكنك قاتلت لأن يقال: جريء، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار. ورجل تعلم العلم وعلّمه وقرأ القرآن، فأتي به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعلمته، وقرأت فيك القرآن، فقال: كذبت ولكنك تعلمت العلم ليقال: عالم، وقرأت القرآن ليقال: هو قارئ، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار. ورجل وسع الله عليه وأعطاه من أصناف المال كله، فأتي به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيه إلا أنفقت فيه لك، قال: كذبت ولكنك فعلت ليقال: هو جواد، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه، ثم ألقي في النار " 1 رواه مسلم.   1 مسلم: الإمارة (1905) ، والترمذي: الزهد (2382) ، والنسائي: الجهاد (3137) ، وأحمد (2/321) . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 12 باب إثم من تأكل بالقرآن عن جابر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " اقرؤوا القرآن وابتغوا به وجه الله عز وجل قبل أن يأتي قوم يقيمونه إقامة القدح، يستعجلونه ولا يتأجلونه " 1 رواه أبو داود، وله معناه من حديث سهل بن سعد. وعن عمران: أنه مر برجل يقرأ على قوم، فلما فرغ سأله ; فقال عمران: إنا لله وإنا إليه راجعون، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من قرأ القرآن فليسأل الله تبارك وتعالى، فإنه سيجيء قوم يقرؤون القرآن يسألون به الناس " 2 رواه أحمد والترمذي.   1 أبو داود: الصلاة (830) ، وأحمد (3/357) . 2 الترمذي: فضائل القرآن (2917) ، وأحمد (4/432) . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 13 باب الجفاء عن القرآن عن سمرة بن جندب في حديث الرؤيا الطويل، مرفوعا، قال: " أتاني الليلة اثنان فذهبا بي، قالا: انطلق، وإني انطلقت معهما، وإنا أتينا على رجل مضطجع، وإذا آخر قائم عليه بصخرة، وإذا هو يهوي بالصخرة على رأسه فيثلغ رأسه، فيتدهده الحجر هاهنا، فيتبع الحجر فيأخذه، فلا يرجع إليه حتى يصح رأسه كما كان. ثم يعود عليه فيفعل به مثل ما فعل في المرة الأولى، فقلت لهما: سبحان الله ما هذا؟ ! قالا: هذا رجل علمه الله القرآن فنام عنه بالليل، ولم يعمل فيه بالنهار، يفعل به إلى يوم القيامة " 1 وفي رواية: " الذي يأخذ القرآن فيرفضه، وينام عن الصلاة المكتوبة " 2 رواه البخاري. ولمسلم عن أبي موسى أنه قال لقراء البصرة: "اتلوه ولا يطولن عليكم الأمد فتقسو قلوبكم كما قست قلوب من كان قبلكم"، وعن ابن مسعود قال: " إن بني إسرائيل لما طال عليهم الأمد فقست قلوبهم، اخترعوا كتابا من عند أنفسهم استحلته ألسنتهم، وكان الحق يحول بينهم وبين كثير من شهواتهم، حتى نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم".   1 البخاري: التعبير (7047) ، وأحمد (5/14) . 2 البخاري: التعبير (7047) . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 14 باب من ابتغى الهدى من غير القرآن وقول الله عز وجل {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} [سورة الزخرف آية: 36] الآيتين، وقوله: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ} [سورة النحل آية: 89] الآية. وعن زيد بن أرقم قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيبا بماء يدعى "خما"، فحمد الله وأثنى عليه، ووعظ وذكر، ثم قال: " أما بعد أيها الناس، إنما أنا بشر مثلكم يوشك أن يأتيني رسول من ربي فأجيب، وأنا تارك فيكم ثقلين: أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به " 1 فحث على كتاب الله ورغب فيه، قال: " وأهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي " 2 وفي لفظ " أحدهما هو كتاب الله، حبل من الله، من تبعه كان على الهدى، ومن تركه كان على الضلالة " 3 رواه مسلم. وله عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا خطب، يقول: " أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة " 4. وعن سعد بن مالك قال: "نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن، فتلاه عليهم زمانا، فقالوا يا رسول الله: لو قصصت علينا؟ فأنزل الله عز وجل {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ} آية [سورة يونس: 1] الآية.   1 مسلم: فضائل الصحابة (2408) ، وأحمد (4/366) ، والدارمي: فضائل القرآن (3316) . 2 مسلم: فضائل الصحابة (2408) ، وأحمد (4/366) ، والدارمي: فضائل القرآن (3316) . 3 مسلم: فضائل الصحابة (2408) . 4 مسلم: الجمعة (867) ، والنسائي: صلاة العيدين (1578) ، وابن ماجه: المقدمة (45) ، وأحمد (3/371) . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 15 فتلاه عليهم زمانا"، رواه ابن أبي الدنيا بإسناد حسن. وله عن المسعودي عن القاسم: "أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ملوا ملة، فقالوا: حدثنا يا رسول الله، فنَزلت: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً} [سورة الزمر آية: 23] ثم ملوا ملة، فقالوا: حدثنا يا رسول الله، فأنزل الله عز وجل: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ [سورة الحديد آية: 16] " ورواه عبيد عن بعض التابعين، وفيه: "فإن طلبوا الحديث دلهم على القرآن". وكان معاذ بن جبل، يقول في مجلسه كل يوم - قل ما يخطئه أن يقول ذلك -: "الله حكم قسط، هلك المرتابون، إن وراءكم فتنا يكثر فيها المال، ويفتح فيها القرآن حتى يقرأه المؤمن والمنافق، والمرأة والصبي، فيوشك أحدهم أن يقول: قد قرأت القرآن فما أظن أن يتبعوني حتى أبتدع لهم غيره ; فإياكم وما ابتدع! فكل بدعة ضلالة، وإياكم وزيغه الحكيم، وان المنافق قد يقول كلمة الحق، فتلقوا الحق ممن جاء به ; فإن على الحق نورا"، الحديث رواه أبو داود. وروى البيهقي عن عروة بن الزبير: أن عمر أراد أن يكتب السنن، فاستشار الصحابة، فأشاروا عليه بذلك، ثم استخار الله شهرا، ثم قال: "إني ذكرت قوما كانوا قبلكم، كتبوا كتبا فأكبوا عليها، وتركوا كتاب الله، وإني والله لا ألبس كتاب الله بشيء أبدا". الجزء: 13 ¦ الصفحة: 16 باب الغلو في القرآن فيه: حديث الخوارج المتقدم ; وفي الصحيح عن عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم:" ألم أخبر أنك تصوم الدهر، وتقرأ القرآن كل ليلة؟ قلت: بلى يا رسول الله، ولم أرد بذلك إلا الخير; قال: فصم صوم داود، فإنه كان أعبد الناس، واقرأ القرآن كل شهر. قلت: يا رسول الله إني أطيق أفضل من ذلك، قال: فاقرأه في كل عشر. قلت: يا نبي الله إني أطيق أفضل من ذلك; قال: فاقرأه في كل سبع ولا تزد على ذلك " 1. ولمسلم عن ابن مسعود: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " هلك المتنطعون " 2، ولأحمد عن عبد الرحمن بن شبل مرفوعا: " اقرؤوا القرآن ولا تغلوا فيه، ولا تجفوا عنه، ولا تأكلوا به، ولا تستكثروا به " 3. وعن أبي رافع، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته، يأتيه الأمر من أمري، مما أمرت به أو نهيت عنه، فيقول: لا أدري، ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه " 4 رواه أبو داود والترمذي.   1 البخاري: الجمعة (1153) والصوم (1975، 1976، 1979) وأحاديث الأنبياء (3418، 3419) وفضائل القرآن (5052) والأدب (6134) ، ومسلم: الصيام (1159) ، والنسائي: الصيام (2389، 2392، 2393، 2397، 2400، 2401، 2403) ، وأبو داود: الصوم (2427) ، وأحمد (2/158، 2/163، 2/187، 2/188، 2/189، 2/198، 2/199، 2/200. 2 مسلم: العلم (2670) ، وأبو داود: السنة (4608) ، وأحمد (1/386) . 3 أحمد (3/428) . 4 الترمذي: العلم (2663) ، وأبو داود: السنة (4605) ، وابن ماجه: المقدمة (13) . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 17 باب ما جاء في اتباع المتشابه في الصحيح عن عائشة رضي الله عنها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [سورة آل عمران آية: 7] فقال: " إذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه، فأولئك الذين سمى الله، فاحذروهم" 1 وقال عمر: "يهدم الإسلام زلة عالم، وجدال منافق بالقرآن، وحكم الأئمة المضلين"; ولما سأل صبيغ عمر عن " الذاريات " وأشباهها ضربه عمر، والقصة مشهورة. باب وعيد من قال في القرآن برأيه وبما لا يعلم وقول الله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [سورة الأعراف آية: 33] إلى قوله: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} ، وعن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من قال في القرآن برأيه " 2، وفي رواية " من غير علم، فليتبوأ مقعده من النار " 3 رواه الترمذي وحسنه ; وعن جندب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" من قال في القرآن برأيه فأصاب، فقد أخطأ " 4 رواه أبو داود والترمذي وقال: غريب.   1 البخاري: تفسير القرآن (4547) ، ومسلم: العلم (2665) ، وأبو داود: السنة (4598) ، وأحمد (6/256) . 2 الترمذي: تفسير القرآن (2951) . 3 الترمذي: تفسير القرآن (2950) ، وأحمد (1/233، 1/269) . 4 الترمذي: تفسير القرآن (2951) . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 18 باب ما جاء في الجدال في القرآن قال أبو العالية: آيتان ما أشدهما على من يجادل في القرآن، قوله تعالى: {مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} [سورة غافر آية: 4] ، وقوله: {وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} [سورة البقرة آية: 176] . عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "جدال في القرآن كفر" 1 رواه أحمد وأبو داود، وإسناده جيد ; وفي حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قوما يتمارون في القرآن، فقال: " إنما هلك من كان قبلكم باختلافهم في الكتاب " 2. باب ما جاء في الاختلاف في القرآن في لفظه أو معناه وقول الله عز وجل {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ} [سورة هود آية: 118-119] الآية، وقوله: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} [سورة البقرة آية: 213] الآية، وفي الصحيح عن ابن مسعود قال: سمعت رجلا يقرأ آية سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ خلافها، فأخذت بيده، فانطلقت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له، فعرف في وجهه الكراهة، فقال: " كلاكما محسن فلا تختلفوا، فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا " 3. وفيه أيضا عن ابن عمر، قال: هجّرت إلى النبي صلى الله عليه وسلم   1 أبو داود: السنة (4603) ، وأحمد (2/258) . 2 مسلم: العلم (2666) . 3 البخاري: الخصومات (2410) ، وأحمد (1/393) . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 19 وسمعت أصوات رجلين اختلفا في آية، فخرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرف في وجهه الغضب، فقال: " إنما هلك من كان قبلكم باختلافهم في الكتاب " 1. وفي المسند عنه، من حديث عمرو بن شعيب، قال: كنا جلوسا بباب النبي صلى الله عليه وسلم فقال بعضهم: لم يقل الله كذا وكذا، وقال بعضهم: لم يقل الله كذا وكذا ; فخرج كأنما فقئ في وجهه حب الرمان، فقال: "أبهذا أمرتم أو بهذا بعثتم؟ أن تضربوا كتاب الله بعضه ببعض؟ إنما ضلت الأمم قبلكم في مثل هذا، إنكم لم تؤمروا بهذا، فانظروا الذي أمرتم به فاعملوا به، والذي نهيتم عنه فانتهوا عنه " 2. وفي رواية: "خرج وهم يتنازعون في القدر" 3 وكذا رواه الترمذي من حديث أبي هريرة، وفيه: " خرج ونحن نتنازع في القدرة " 4 وقال: حسن. باب إذا اختلفتم فقوموا في الصحيح عن جندب، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " اقرؤوا القرآن ما ائتلفت قلوبكم، فإذا اختلفت فقوموا عنه " 5. ولهما عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في مرضه: " ائتوني بكتاب أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده" 6 قال: فقال عمر: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد غلبه الوجع، وإن عندنا كتاب الله حسبنا ; وقال بعضهم: بل ائتوا بكتاب، فاختلفوا ; فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "قوموا عني، ولا ينبغي عند نبي تنازع " 7.   1 مسلم: العلم (2666) . 2 أحمد (2/195) . 3 أحمد (2/195) . 4 الترمذي: القدر (2133) . 5 البخاري: فضائل القرآن (5060) ، ومسلم: العلم (2667) ، وأحمد (4/313) ، والدارمي: فضائل القرآن (3359، 3360، 3361) . 6 البخاري: العلم (114) ، ومسلم: الوصية (1637) ، وأحمد (1/324) . 7 البخاري: الجهاد والسير (3053) ، ومسلم: الوصية (1637) ، وأحمد (1/222) . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 20 ولمسلم عن ابن مسعود: أنه قرأ سورة يوسف، فقال رجل ما هكذا أنزلت، فقال: "أتكذب بالكتاب؟! ?". باب قول الله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا} [سورة الكهف آية: 57] الآية قال النبي صلى الله عليه وسلم " الكبر بطر الحق وغمط الناس " 1، وروي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: " من أكبر الذنوب عند الله، أن يقول العبد اتق الله، فيقول عليك بنفسك ". وفي الصحيح عن أبي واقد الليثي قال: " إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بينما هو جالس في المسجد والناس معه، إذ أقبل ثلاثة نفر، فأقبل اثنان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وذهب واحد، قال: فوقفا على رسول الله، فأما أحدهما فرأى فرجة في الحلقة فجلس، وأما الآخر فجلس خلفهم، وأما الثالث فأدبر ذاهبا. فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ألا أخبركم عن النفر الثلاثة؟ أما أحدهم فأوى إلى الله فآواه الله، وأما الآخر فاستحيا فاستحيا الله منه، وأما الآخر فأعرض فاعرض الله عنه " 2. وقال قتادة في قوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [سورة لقمان آية: 6] الآية:   1 مسلم: الإيمان (91) . 2 البخاري: العلم (66) ، ومسلم: السلام (2176) ، والترمذي: الاستئذان والآداب (2724) ، وأحمد (5/219) ، ومالك: الجامع (1791) . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 21 لعله أن لا يكون أنفق مالا، وبحسب امرىء من الضلالة أن يختار حديث الباطل على حديث الحق. باب ما جاء في التغني بالقرآن عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ما أذن الله لشيء إذنه لنبي يتغنى بالقرآن " 1، وفي رواية: " لنبي حسن الصوت بالقرآن يجهر به " أخرجاه، وعن أبي لبابة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ليس منا من لم يتغن بالقرآن " 2 رواه أبو داود بسند جيد، والله سبحانه وتعالى أعلم، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.   1 البخاري: فضائل القرآن (5024) ، ومسلم: صلاة المسافرين وقصرها (792) ، والنسائي: الافتتاح (1017، 1018) ، وأبو داود: الصلاة (1473) ، وأحمد (2/271، 2/284، 2/450) ، والدارمي: فضائل القرآن (3490، 3491، 3497) . 2 أبو داود: الصلاة (1471) . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 22 [ فضل حفظ القرآن ] وسئل الشيخ: محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله، عن فضل حفظ القرآن. فأجاب: أما ما ورد في الفضل في حفظ القرآن، هل المراد حفظه مع فهمه؟ فلا يحضرني جواب يفصل المسألة، ولكن حفظه مع عدم الفهم لا يوجد في زمن النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء، إلا أشياء خاصة لا عامة، وأظنه لو وجد في زمانهم لاشتهر، كشهرة الرجل الذي يسمى عندنا: "حمار الفروع" لما ذكر أنه يحفظ الفروع ولا يفهمه ; وقد قال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً} [سورة الجمعة آية: 5] الآية. ذكر ابن القيم رحمه الله تعالى: أن هذه الآية ولو نزلت في أهل التوراة، فالقرآن كذلك لا فرق بينهما، وكذلك ذم الجزء: 13 ¦ الصفحة: 22 القراء الذين يقرؤون بلا فهم معنى، وفيهم قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ} [سورة البقرة آية: 78] ، أي: تلاوة بلا فهم ; والمراد من إنزال القرآن: فهم معانيه والعمل، لا مجرد التلاوة. 1. وقال ابنه الشيخ عبد الله: ثم إنا نستعين على فهم الكتاب بالتفاسير المتداولة المعتبرة، ومن أجلها لدينا: تفسير ابن جرير، ومختصره لابن   1 آخر ما وجد. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 23 [ما في تفسير محمد صديق من بعض عبارات المتكلمين] قال الشيخ حمد بن عتيق، رحمه الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم من حمد بن عتيق، إلى الإمام المعظم، والشريف المقدم1 محمد، الملقب: صديق، زاده الله من التحقيق ; وأجاره في ماله من عذاب الحريق، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: وصل إلينا التفسير 2 فرأينا أمرا عجيبا، ما كنا نظن أن الزمان يسمح بمثله، في عصرنا وما قرب منه، لما   1 نعته بالشريف، لأنه ينتمي إلى الحسين بن علي بن أبي طالب. 2 تفسيره المسمى "فتح البيان في مقاصد القرآن". الجزء: 13 ¦ الصفحة: 23 في التفاسير التي تصل إلينا من التحريف، والخروج عن طريقة الاستقامة، وحمل كتاب الله على غير مراد الله، وركوب التعاسيف في حمله على المذاهب الباطلة، وجعله آلة لذلك. فلما نظرنا في ذلك التفسير، تبين لنا حسن قصد منشئه، وسلامة عقيدته، وبعده عن تعمد مذهب غير ما عليه السلف الكرام، فعلمنا أن ذلك من قبيل قوله: {وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً} [سورة الكهف آية: 65] ، والحمد لله رب العالمين. وهذا التفسير العظيم وصل إلينا في شعبان، سنة سبع وتسعين ومائتين وألف، فنظرت فيه في هذا الشهر، وفي شوال، فتجهز الناس للحج، ولم أتمكن إلا من مطالعة بعضه، ومع ذلك وقفت فيه على مواضع تحتاج إلى تحقيق، وظننت أن لذلك سببين. أحدهما: أنه لم يحصل منكم إمعان نظر، في هذا الكتاب بعد تمامه، والغالب على من صنف الكتاب كثرة ترداده، وإبقاؤه في يده سنين يبديه ويعيده، ويمحو ويثبت، ويبدل العبارات، حتى يغلب على ظنه الصحة، ولعل الأصحاب عاجلوك بتلقيه قبل ذلك. والثاني: أن ظاهر الصنيع، أنك أحسنت الظن ببعض المتكلمين، وأخذت من عباراتهم، بعضا بلفظه، وبعضا بمعناه، فدخل عليك شيء من ذلك، لم تمعن النظر فيها ; ولهم عبارات مزخرفة تتضمن الداء العضال، وما دخل عليك من ذلك مغفور إن شاء الله، بحسن القصد واعتماد الحق، الجزء: 13 ¦ الصفحة: 24 وتحري الصدق والعدل، وهو قليل بالنسبة إلى ما وقع فيه كثير ممن صنف في التفسير وغيره، وإذا نظر السني المنصف، في كثير من التفاسير، وشروح الحديث، وجد ما قلته وما هو أكفر منه. وقد سلكتم في هذا التفسير في مواضع منه، مسلك أهل التأويل، مع أنه قد وصل إلينا لكم رسالة في ذم التأويل مختصرة، وهي كافية ومطلعة على أن ما وقع في التفسير صدر من غير تأمل، وأنه من ذلك القبيل، وكذلك في التفسير من مخالفة أهل التأويل ما يدل على ذلك. وأنا اجتريت عليك، وإن كان مثلي لا ينبغي له ذلك ; لأنه غلب على ظني إصغاؤك إلى التنبيه، ولأن من أخلاق أئمة الدين قبول التنبيه والمذاكرة، وذم الكبر، وإن كان القائل غير أهل ; ولأنه بلغني عن بعض من اجتمع بك، أنك تحب الاجتماع بأهل العلم، وتحرص على ذلك، وتقبل العلم، ولو ممن هو دونك بكثير، فرجوت أن ذلك عنوان التوفيق ; جعلك الله كذلك وخيرا من ذلك. واعلم أرشدك الله أن الذي جرينا عليه، أنه إذا وصل إلينا شيء من المصنفات في التفسير، وشرح الحديث، اختبرنا واعتبرنا معتقده في العلو والصفات والأفعال، فوجدنا الغالب على كثير من المتأخرين أو أكثرهم مذهب الأشاعرة الذي حاصله نفي العلو، وتأويل الآيات في هذا الجزء: 13 ¦ الصفحة: 25 الباب، بالتأويلات الموروثة عن بشر المريسي وأضرابه من أهل البدع والضلال ; ومن نظر في شرح البخاري ومسلم ونحوهما، وجد ذلك فيها. وأما ما صنفوا في الأصول والعقائد، فالأمر فيه ظاهر لذوي الألباب ; فمن رزقه الله بصيرة ونورا، وأمعن النظر فيما قالوه، وعرضه على ما جاء عن الله ورسوله، وما عليه أهل السنة المحضة، تبين له المنافاة بينهما، وعرف ذلك كما يعرف الفرق بين الليل والنهار؛ فأعرض عما قالوه، وأقبل على الكتاب والسنة، وما عليه سلف الأمة وأئمتها، ففيه الشفاء والمقنع ; وبعض المصنفين يذكر ما عليه السلف، وما عليه المتكلمون، ويختاره ويقرره. فلما اعتبرنا هذا التفسير، وجدناك وافقتهم في ذكر المذهبين ; وخالفتهم في اختيار ما عليه السلف تقرره، وليتك اقتصرت على ذلك، ولم تكبر حجم هذا الكتاب بمذهب أهل البدع، فإنه لا خير في أكثره. وقد يكون لكم من القصد، نظير ما بلغني عن الشوكاني رحمه الله، لما قيل له: لأي شيء تذكر كلام الزيدية، في هذا الشرح؟ قال ما معناه: لا آمن الإعراض عن الكتاب، ورجوت أن ذكر ذلك أدعى إلى قبوله وتلقيه. وقد قيض الله لكتب أهل السنة المحضة من يتلقاها، ويعتني بها، ويظهرها مع ما فيها من الرد على أهل البدع وعيبهم، وتكفير بعض دعاتهم وغلاتهم، فإن الله ضمن لهذا الجزء: 13 ¦ الصفحة: 26 الدين أن يظهره على الدين كله. والمقصود: أن في هذا التفسير مواضع تحتاج إلى تحقيق، ونذكر لك بعض ذلك. فمنه: أني نظرت في الكلام على آيات الاستواء، فرأيتك أطلت الكلام في بعض المواضع، بذكر كلام المبتدعة النفاة، كما تقدم. ومنه: أن في الكلام بعض تعارض، كقولكم في آية يونس: وظاهر الآية يدل على أنه سبحانه إنما استوى على العرش بعد خلق السماوات والأرض; لأن كلمة ثم للتراخي; ثم قلتم في سورة الرعد، وثم هنا لمجرد العطف لا للترتيب، لأن الاستواء عليه غير مرتب على رفع السماوات ; وكذلك قلتم في سورة السجدة: وليست ثم للترتيب، بل بمعنى الواو. فالنظر في هذا من وجهين; أحدهما: أن ظاهره التعارض; الثاني: أن القول بأن ثم لمجرد العطف لا للترتيب في هذه الآيات، إنما يقوله من فسر الاستواء بالقهر والغلبة، وعدم الترتيب ظاهر على قولهم. وأما السلف وأئمة السنة وأهل التحقيق، فقد جعلوا اطراد الآيات في جميع المواضع، دليلا على ثبوت الترتيب; وردوا به على نفاة الاستواء، وأبطلوا به تأويلاتهم، كما هو معروف مقرر في كلام شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره; فانظر من أين دخلت عليك هذه العبارات، وقد رأيت للرازي عبارة الجزء: 13 ¦ الصفحة: 27 في التفسير تفهم ذلك، فلعلك بنيت على قوله. وهذا الرجل وإن كان يلقب بالفخر، فله كلام في العقائد قد زل فيه زلة عظيمة، وآخر أمره الحيرة ; نرجو أنه تاب من ذلك، ومات على السنة، فلا تغتر بأمثال هؤلاء. قال شيخ الإسلام رحمه الله: في المحصل، وسائر كتب الكلام المختلف أهلها، مثل كتب الرازي وأمثاله، وكتب المعتزلة والشيعة والفلاسفة ; ونحو هؤلاء، لا يوجد فيها ما بعث الله به رسله، في أصول الدين، بل وجد فيها حق ملبوس بباطل، انتهى من منهاج السنة. قال: وقد قال بعض العلماء في المحصل: محصل في أصول الدين حاصله ... أصل الضلالات والشرك المبين وما من بعد تحصيله جهل بلا دين ... فيه فأكثره وحي الشياطين وهذا من أجل كتبه، فكيف تسمح نفس عاقل أن يعتمد على قول مثل هؤلاء؟ !. ومن ذلك أنكم قلتم في سورة يونس أيضا: استوى على العرش، استواء يليق به، وهذه طريقة السلف المفوضين، وقد تقدس الديان عن المكان، والمعبود عن الحدود، انتهى. فإن كان المراد بالتفويض ما يقوله بعض النفاة، وينسبونه إلى السلف; وهو أنهم يمرون الألفاظ ويؤمنون بها، من غير أن يعتقدوا لها معان تليق بالله; أو أنهم الجزء: 13 ¦ الصفحة: 28 لا يعرفون معانيها، فهذا كذب على السلف من النفاة. وإذا قال السلف: أمروها كما جاءت بلا كيف، فإنما نفوا حقيقة الصفة ; ولو كانوا قد آمنوا باللفظ المجرد، من غير فهم لمعناه على ما يليق بالله، لما قالوا: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول ; وأمروها كما جاءت بلا كيف، فإن الاستواء لا يكون حينئذ معلوما، بل مجهولا بمنْزلة حروف المعجم. وأيضا فإنه لا يحتاج إلى نفي علم الكيفية إذا لم يفهم من اللفظ معنى ; وإنما يحتاج إلى نفي علم الكيفية إذا ثبتت الصفات ; هذا كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، ولا نشك أن هذا اعتقادك ; ولكن المراد: أنه دخل عليك بعض الألفاظ من كلام أهل البدع، لم تتصور مرادهم، فانتبه لمثل ذلك. وأما قول القائل: يتقدس الديان عن المكان، فهذا لم ينطق السلف فيه بنفي ولا إثبات، وهو من عبارات المتكلمين، ومرادهم به نفي علو الله على خلقه ; لأن لفظ المكان فيه إجمال يحتمل الحق والباطل، كلفظ الجهة ونحوه، والكلام في ذلك معروف في كتب شيخ الإسلام وابن القيم، فارجع إلى ذلك تجده، ولا نطيل به. وحسب العبد الاقتصار في هذا الباب على ما ورد في الكتاب والسنة، كما قال الإمام أحمد: لا يوصف الله إلا بما الجزء: 13 ¦ الصفحة: 29 وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله، لا يتجاوز القرآن والحديث. ومن ذلك ما ذكرتم، عند قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} [سورة البقرة آية: 29] وقد قيل: إن خلق جرم الأرض متقدم على السماء، ودحوها متأخر، وقد ذكر هذا جماعة من أهل العلم، وهذا جمع جيد يجب المصير إليه. وفي حم السجدة، الجواب: أن الخلق ليس عبارة عن الإيجاد والتكوين فقط، بل عبارة عن التقدير أيضا ; والمعنى: قضى أن يحدث الأرض في يومين، بعد إحداث السماء ; والجواب المشهور: أنه خلق الأرض أولا، ثم خلق السماء بعدها، ثم دحا الأرض ومدها ; والأول أولى، ففي هذا نوع تعارض. ومن ذلك قولكم في الكلام على البسملة: والرحمة إرادة الخير والإحسان لأهله ; وقيل: ترك عقوبة من يستحق العقاب، وإسداء الخير والإحسان إلى من لا يستحقه، فهو على الأول صفة ذات ; وعلى الثاني صفة فعل، انتهى. وهذا هو التأويل المعروف عن بعض أهل البدع، يردون هذه الصفات إلى الإرادة، فرارا مما فهموه، حيث قالوا: إن الرحمة رقة في القلب لا يصلح نسبتها إلى الله تعالى ; فقال لهم أهل السنة: هذه رحمة المخلوق، ورحمة الرب تليق بجلاله، لا يعلم كيف هي إلا هو. ويلزمهم في الإرادة نظير ما فروا منه في الرحمة ; فإن الجزء: 13 ¦ الصفحة: 30 الإرادة هي ميل القلب، فإما أن تثبت إرادة تليق بالرب تعالى، وهو الحق في جميع الصفات، وإما أن تقابل بالتأويل وهو الباطل؛ والآفة دخلت على النفاة، من جهة أنهم لم يفهموا من صفات الرب إلا ما يليق بالمخلوق، فذهبوا لينفوا ذلك، ويقابلوه بالتأويلات. قال شيخ الإسلام: إنهم شبهوا أولا فعطلوا آخرا، وأهل السنة والجماعة أثبتوا لله جميع الصفات على ما يليق بجلاله، ونفوا عنه مشابهة المخلوقين، فسلموا من التشبيه والتعطيل. ومن ذلك: أنكم أكثرتم في هذا التفسير من حمل بعض الآيات على المجاز وأنواعه، وقد علمتم أن تقسيم الكلام إلى حقيقة ومجاز، حدث بعد القرون المفضلة، ولم يتكلم الرب به ولا رسوله، ولا أصحابه ولا التابعون لهم بإحسان. والذي تكلم به من أهل اللغة، يقول في بعض الآيات: وهذا من مجاز اللغة ; ومراده: أن هذا مما يجوز في اللغة، لم يرد هذا التقسيم الحادث، ولا خطر بباله، لا سيما وقد قالوا: إن المجاز يصح نفيه، فكيف يليق حمل الآيات القرآنية على مثل ذلك؟ !. وقد أتى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتاب الإيمان الكبير، بما كفى وشفى، وذكر الآيات التي استدلوا بها، وبعض الأمثلة التي ذكروها ; وأجاب عن ذلك بما إذا طالعه المنصف، عرف الصواب. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 31 ومن قواعده: أن المجاز لا يدخل في النصوص، ولا يهولنك إطباق المتأخرين عليه، فإنهم قد أطبقوا على ما هو شر منه، والعاقل يعرف الرجال بالحق، لا الحق بالرجال. ومن عرف غربة الإسلام والسنة، لم يغتر بأقوال الناس وإن كثرت ; والله يقول: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [سورة الأنعام آية: 116] الآية، ومن أبلغ الناس بحثا في المعاني، الزمخشري، وله في تفسيره مواضع حسنة. ولكنه معروف بالاعتزال ونفي الصفات، والتكلف في التأويلات الفاسدة، والحكم على الله بالشريعة الباطلة، مع ما هو عليه من مسبة السلف وذمهم، والتنقص بهم، وفي تفسيره عقارب لا يعرفها إلا الخواص من أهل السنة. وقد قال فيه بعض العلماء: ولكنه فيه مقال لقائل ... وزلات سوء قد أخذن المخانقا ويسهب في المعنى القليل إشارة ... بتكثير ألفاظ تسمى الشقاشقا ويقول فيها الله ما ليس قائلا ... وكان مجافي الخطابة وامقا ويشتم أعلام الأئمة ضلة ... ولا سيما إن أولجوه المضائقا لئن لم تداركه من الله رحمة ... لسوف يرى للكافرين مرافقا والمقصود: أن الاعتماد على أقوال مثل هؤلاء، لا يليق بالمحقق، لا سيما فيما يتعلق بمعرفة الله وتوحيده، وأنت ترى مثل محمد بن جرير الطبري رحمه الله، وأقرانه ومن الجزء: 13 ¦ الصفحة: 32 قبله، ومن يقربه في أزمانه لم يعرج على هذه الأمور، وكذلك المحققون من المتأخرين كابن كثير ونحوه، وكما هو المأثور عن السلف رحمهم الله، وما استنبطوا منه. فنسأل الله تعالى أن يلحقنا بآثار الموحدين، وأن يحشرنا في زمرة أهل السنة والجماعة بمنه وكرمه، والله أعلم. [استفتاء علماء نجد وغيرهم عما نقل من تفسير ثناء الله الهندي وجوابهم] وقال الشيخ محمد بن الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن، والشيخ محمد بن الشيخ إبراهيم بن الشيخ عبد اللطيف وفقهما الله تعالى، جوابا لعلماء الهند، ما نصه: بسم الله الرحمن الر حيم الحمد لله ناصر الحق ورافعه، وخاذل الباطل وواضعه، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة من صدق إسراره إعلانه، وواطأ جنانه لسانه ; ونشهد أن محمدا عبده ورسوله، الذي أطلع الله ببعثته صبح الإسلام وأبانه ; ومحق برسالته حالك ليل الشرك وأهانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ما غردت قمرية ببانة، وسلم تسليما كثيرا. أما بعد: فقد وقفنا على الكتاب الذي أرسله أبو يحيى محمد شريف الكهريالوي، وأصحابه من أهل الحديث الشريف، من أهل الهند، إلى إمام المسلمين، ورافع ألوية الدين: عبد العزيز بن عبد الرحمن آل فيصل آل سعود، لا زال للدين ناصرا ; ولأعداء الملة المحمدية كاسرا. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 33 يطلبون منه استفتاء علماء نجد وغيرهم، فيما شجر بينهم وبين أبي الوفاء ثناء الله، ليرشدوا إلى الصواب في تلك المسائل، التي أخذوها على ثناء الله، وانتقدوها من تفسيره، وتصفحنا النقول التي نقلت من تفسير ثناء الله، بمرسوم عبد الله كميريوري، من مضافات أوتر. فنقول وبالله التوفيق: هذه المواضع المنقولة من تفسير أبي الوفاء ثناء الله، جمهورها، بل كلها خطأ، إلا مواضع يسيرة، ننبه عليها إن شاء الله تعالى ; وأعظمها وأكبرها: ما يتعلق بصفات الله تعالى، كإنكاره حقيقة الاستواء، بتفسيره إياه بالاستيلاء ; أو تنفيذ الأحكام والتدبير، فإنه خطأ وضلال، بل دخول فيما عليه أهل التحريف والتعطيل، من الجهمية والمعتزلة، ونحوهم ممن ضل عن سواء السبيل، وهو خلاف ما عليه أهل السنة. فإن الذي عليه أهل السنة والجماعة قاطبة، وقولهم الشامل في هذا الباب: أنهم يصفون الله سبحانه وتعالى بما وصف به نفسه في كتابه، ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، ووصفه به السابقون الأولون، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، لا يتجاوزون القرآن والحديث. وهذا كتاب الله من أوله إلى آخره ; وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم من أولها إلى آخرها، ثم عامة كلام الصحابة والتابعين، ثم كلام سائر الأئمة، مملوء بما هو إما نص وإما ظاهر، في أن الله الجزء: 13 ¦ الصفحة: 34 سبحانه هو العلي الأعلى، وهو فوق كل شيء، وهو عال على كل شيء، وأنه فوق العرش، وأنه فوق السماء. مثل قوله: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [سورة فاطر آية: 10] ، {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [سورة آل عمران آية: 55] ، {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ} [سورة الملك آية: 16-17] ، {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} [سورة النساء آية: 158] {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [سورة المعارج آية: 4] ، {يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ} [سورة السجدة آية: 5] ، {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} [سورة النحل آية: 50] ، {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [سورة الأعراف آية: 54] ، في ستة مواضع {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [سورة طه آية: 5] ، {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِباً} [سورة غافر آية: 36-37] {تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [سورة فصلت آية: 42] ، {مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ} [سورة الأنعام آية: 114] ، إلى أمثال ذلك مما لا يكاد يحصى إلا بكلفة. وفي الأحاديث الصحاح والحسان ما لا يحصى إلا بكلفة، مثل قصة معراج الرسول صلى الله عليه وسلم إلى ربه، ونزول الملائكة من عند الله، وصعودها إليه، وقوله في الملائكة الجزء: 13 ¦ الصفحة: 35 الذين " يتعاقبون فيكم بالليل والنهار، فيعرج الذين باتوا فيكم إلى ربهم، فيسألهم وهو أعلم بهم " 1. وفي الصحيح في حديث: " ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء؟ "2 إلى غير ذلك مما هو من أبلغ المتواترات اللفظية والمعنوية، التي تورث علما يقينيا من أبلغ العلوم الضرورية، أن الرسول المبلغ عن الله ألقى إلى أمته المدعوين أن الله سبحانه على العرش، وأنه فوق السماء، كما فطر على ذلك جميع الأمم عربهم وعجمهم، في الجاهلية والإسلام، إلا من اجتالته الشياطين عن فطرته. ثم عن السلف في ذلك من الأقوال ما لو جمع لبلغ مئين ألوف، ولم يقل أحد منهم قط: إن الاستواء بمعنى الاستيلاء، أو تنفيذ الأحكام والتدبير. والذين أولوا الاستواء بالاستيلاء، إنما حملهم على ذلك سوء أفهامهم ; حيث لم يفهموا من ذلك إلا التشبيه، ظنا منهم أن استواءه تعالى على العرش من جنس استواء المخلوق على ما يستوى عليه من الفلك وبهيمة الأنعام. وخفي عليهم: أن استواء الله سبحانه وتعالى على العرش من جنس سائر الصفات الواردة في الكتاب والسنة، كوجوده تبارك وتعالى وعلمه وحياته وغير ذلك؛ فكما أن إثبات وجوده تعالى وعلمه وحياته لا يلزم منه مماثلة خلقه في الوجود والعلم والحياة، بل وجوده تعالى وعلمه وحياته   1 البخاري: مواقيت الصلاة (555) ، ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (632) ، والنسائي: الصلاة (485) ، وأحمد (2/257، 2/312، 2/344، 2/396، 2/486) ، ومالك: النداء للصلاة (413) . 2 البخاري: المغازي (4351) ، ومسلم: الزكاة (1064) ، وأحمد (3/4) . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 36 تليق به وتناسبه وتختص به، فكذلك القول في الاستواء وسائر الصفات. وهذا المحذور الذي زعموه وفروا من أجله من إثبات الاستواء، يلزمهم نظيره فيما ذهبوا إليه من الاستيلاء، أو تنفيذ الأمر والتدبير ; فإنهم إن أثبتوا الاستيلاء من جنس استيلاء المخلوقين وقعوا في نفس ما فروا منه ; وإن قالوا: استيلاء يليق بجلال الله وعظمته، فلأي شيء لم يثبتوا الاستواء ويقولوا استواء يليق بجلاله وعظمته؟ حتى يكونوا قد صدقوا الكتاب والسنة، ووافقوا في الاعتقاد ما أجمعت علية الأمة. ولم يفهم أحد من سلف الأمة وأئمتها من قوله تعالى: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ} [سورة الفرقان آية: 2] ، وقوله تعالى: {يُدَبِّرُ الأَمْرَ} [سورة يونس آية:3] ما يدل على أن الاستواء بمعنى الاستيلاء بوجه من الوجوه. ويقرب من هذا تفسيره العرش في قوله: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} [سورة هود آية: 7] وغيرها من الآيات التي ذكر بالملك والحكومة. وتفسيره قوله: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ} [سورة الحاقة آية: 17] بأن ذلك كناية عن عظمة كبريائه، فإن هذا إنكار لحقيقة العرش، وإنكار لحملته، ودخول في مسالك المبتدعة المنكرين للصفات، فإنهم إنما أنكروه تذرعا إلى إنكار علو الله سبحانه على خلقه، واستوائه على عرشه. والنصوص من الكتاب والسنة ظاهرة جلية، في إثبات الجزء: 13 ¦ الصفحة: 37 العرش ; وهو إجماع أهل السنة والجماعة، كما دلت عليه هذه الآيات الكريمات، وقوله تعالى: {وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ} [سورة الزمر آية: 75] وقوله تعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ} [سورة غافر آية: 7] ، وقال صلى الله عليه وسلم في الفردوس: " إنها أعلى الجنة، ووسط الجنة، وسقفها عرش الرحمن " 1. وقال صلى الله عليه وسلم " إن الله كتب في كتاب - فهو موضوع عنده فوق العرش -: إن رحمتي تغلب غضبي " 2، وقال صلى الله عليه وسلم: " إن الناس يصعقون يوم القيامة، فأكون أول من يرفع رأسه، فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة العرش" 3 الحديث ; إلى غير ذلك مما أفاد العلم الضروري، بوجود العرش الذي هو السرير، كما هو المعروف في لغة العرب، وهو الذي فهمه الصحابة عن نبيهم صلى الله عليه وسلم، وتلقاه عنهم أهل العلم؛ وعقائد أهل السنة تنادي بذلك. وكثير منهم يعقد لذلك بابا، ويقول: باب إثبات العرش، ويذكر فيه النصوص الواردة من الكتاب والسنة. والاستدلال على أن العرش ليس هو المعروف عند سلف الأمة وأئمتها بقوله تعالى: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ} [سورة غافر آية: 16] أظهر في البطلان من أن يحتاج إلى تعريف. وكذلك تفسيره الكتاب المذكور في قوله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [سورة الأنعام آية: 38] ونظائرها، بعلم الله، فجهل وضلال، ولا يتمشى هذا إلا على أصول   1 الترمذي: صفة الجنة (2529) ، وأحمد (5/240) . 2 البخاري: بدء الخلق (3194) ، ومسلم: التوبة (2751) ، والترمذي: الدعوات (3543) ، وابن ماجه: الزهد (4295) ، وأحمد (2/257، 2/259، 2/313، 2/358، 2/397، 2/433، 2/466) . 3 البخاري: التوحيد (7428) . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 38 القدرية المنكرين للقدر السابق ; وأما أهل السنة والجماعة فهم برآء إلى الله تبارك وتعالى، من هذا المذهب الباطل. ونصوص الكتاب والسنة - في إثبات اللوح المحفوظ، والكتاب السابق، الذي كتبت فيه المقادير، وإثبات القلم، وأن الله تعالى لما خلقه قال له: اكتب، فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة - أشهر من أن ينبه عليها. وهكذا قوله في قوله تعالى: {أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} [سورة يس آية: 12] في صحف أعمال، هو غلط كالذي قبله، وليس في قوله: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ} [سورة الأنعام آية: 59] التي استدل بها، ما ينافي إثبات اللوح المحفوظ، والكتاب السابق المذكور في تلك الآيات. ونظير ذلك استدلاله بقوله تعالى: {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ} [سورة القمر آية: 52] ، بل هذه الآية نظير الآيات الأول في إثبات الكتاب السابق، وكاستدلاله أيضا بقوله تعالى: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ} [سورة البقرة آية: 255] وغيرها، كل ذلك لا ينافي ما تقرر فيما تقدم، بإجماع أهل العلم من المفسرين وغيرهم. ومما يدخل في أنواع أهل البدع - كالمنكرين الصفات - تفسيره الكتابة في قوله: {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} [سورة الأعراف آية: 145] بالأمر بكتابة الأحكام، فإنه من تأويل آيات الصفات، وتحريفها عن ظاهرها الذي أريد منها ; وفي الجزء: 13 ¦ الصفحة: 39 الحديث: " إن الله خلق آدم بيده، وكتب التوراة بيده " الحديث. ومثله أيضا قوله: إن السدرة التي في قوله تعالى: {عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى} [سورة النجم آية: 14] ليست سدرة حقيقة، والمراد بالمنتهى منتهى مراتب كمال الإنسان، فإنه من أقوال منكري علو الله تبارك وتعالى، وهو خروج عن ظاهر الآية، وخلاف ما دلت عليه أحاديث الإسراء التي فيها التصريح بالمراد من الآية، وأن ذلك كله حقيقة. وأما تفسيره قوله تعالى: {وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ} [سورة الأعراف آية: 160] بإرسال السماء عليهم مدرارا، فهو خلاف ما عليه المفسرون ; والصواب الموافق للحق ما قاله في الطبع الثاني، بقوله في التيه: لدفع الشمس، إلا أنه لم يصرح بالمراد بالغمام ; وقال أيضا في آخر ذلك: لأن بني إسرائيل أقاموا في التيه أربعين سنة في الشمس، فلم يصنع حينئذ شيئا، ورجع التفسير إلى ما في الطبع الأول. وأما تفسيره قوله تعالى: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ} [سورة البقرة آية: 59] بقوله: أي: خالفوا ما أمروا به من التوكل والاستغفار ; فلا ريب أن التفسير الصحيح في ذلك هو ما دلت عليه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من أنهم دخلوا يزحفون على استاههم، وقالوا: حبة في شعرة، كما في الصحيح عن أبي هريرة مرفوعا وغيره. لكن إن أراد أن التوكل داخل في الأمر بالدخول سجدا الجزء: 13 ¦ الصفحة: 40 من طريق اللزوم، فهو صحيح، وكذلك الاستغفار الذي ذكره، هو داخل في الحديث ; لكن قوله في الطبع الثاني: أو دخلوا يزحفون على استاههم إلى آخره، يشعر بالمغايرة، ولا مغايرة على التوجيه السابق. وأما تفسيره الرجز المذكور في قوله: {فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً} [سورة البقرة آية: 59] بقوله: أي حرمناهم بفسقهم، فغلط ; وذكر الحافظ ابن كثير في تفسيره عن الضحاك عن ابن عباس: كل رجز في القرآن المراد به العذاب ; قال: وهكذا روي عن مجاهد وأبى مالك، والسدي والحسن وقتادة أنه العذاب. وقال أبو العالية: الرجز الغضب، وقال الشعبي: الرجز إما الطاعون وإما البرد، إلى أن قال: وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج، وذكر سنده إلى سعد بن مالك، وأسامة بن زيد وخزيمة بن ثابت، قالوا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " الطاعون رجز عذاب، عذب به من كان قبلكم " 1، وهكذا رواه النسائي من حديث سفيان به ; وقوله {فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ} [سورة المائدة آية: 26] غير خاف عدم دلالته على أن المراد بالرجز التحريم المذكور، فهذا شيء وذاك شيء آخر. وأما تفسيره قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [سورة البقرة آية: 187] بقوله، أي: ابتداء لا بعد المنع، وقوله: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ} [سورة البقرة آية: 187] أي:   1 البخاري: أحاديث الأنبياء (3473) ، ومسلم: السلام (2218) ، والترمذي: الجنائز (1065) ، وأحمد (5/213) ، ومالك: الجامع (1656) . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 41 تنقصون حظوظ أنفسكم بالمجانبة عن النساء، فهو خلاف ما دلت عليه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإن السنة دلت على منع الصائم أولا من النساء ليلة الصيام، ثم أباح الله ذلك وأنزل قوله: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ} [سورة البقرة آية: 187] الآية السابقة، كما في صحيح البخاري من حديث البراء بن عازب، قال: لما نزل صوم شهر رمضان، كانوا لا يقربون النساء رمضان كله، الحديث. فهذا ظاهر في أن الحل المذكور في قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ} أنه من بعد منع، وظاهر في معنى قوله تعالى: {تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ} أي: بالجماع ليلة الصيام، ليس معناه تنقصون حظوظ أنفسكم بالمجانبة عن النساء. وأما تفسيره قوله تعالى: {فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ} [سورة البقرة آية: 260] بقوله: أملها، أي: اجعلها مائلة إليك، بحيث إذا تركتها تميل إليك، {ثُمَّ} بعد ميلانها إليك تعودها، و {اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً} أي: واحدا واحدا، فهو إنكار لما ذكره المفسرون من ذبح تلك الطير وتقطيعهن، وخروج عما دلت عليه الآية الكريمة من الآية الباهرة الدالة على قدرة الله تعالى على إحياء الموتى. قال ابن كثير رحمه الله تعالى: {فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ} : قطعهن، قاله ابن عباس وعكرمة وسعيد بن جبير، وأبو مالك وأبو الأسود الدؤلي، ووهب بن منبه، والحسن والسدي وغيرهم. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 42 وقال العوفي عن ابن عباس: {فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ} [سورة البقرة آية: 260] : أوثقهن، فلما أوثقهن ذبحهن، ثم جعل على كل جبل منهن جزءا ; فذكروا: أنه عمد إلى أربعة من الطير فذبحهن، ثم قطعهن، ونتف ريشهن، ومزقهن ; وخلط بعضهن ببعض، ثم جزأهن أجزاء، وجعل على كل جبل منهن جزءا، قيل: أربعة أجبل، وقيل سبعة. وقال ابن عباس: وأخذ رؤوسهن بيده، ثم أمره الله عز وجل أن يدعوهن، فدعاهن كما أمره الله، فجعل ينظر إلى الريش يطير إلى الريش، والدم إلى الدم، واللحم إلى اللحم، والأجزاء من كل طائر يتصل بعضها إلى بعض، حتى قام كل طائر على حدته. وأتينه يمشين سعيا، ليكون أبلغ له في الرؤية التي سألها، وجعل كل طائر يجيء ليأخذ رأسه الذي في يد إبراهيم عليه السلام، فإذا قدم له غير رأسه يأباه، فإذا قدم إليه رأسه تركب مع بقية جسده، بحول الله وقوته. انتهى. وأما قوله: إن آية: {الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ} [سورة الأنفال آية: 66] ليست بمنسوخة ; لأن كون الحكم مشروطا بشرط لا يوجد ينافي النسخ، فهو خلاف ما عليه أئمة التفسير، كابن عباس رضي الله عنهما وغيره ; وقول من قال: ليست بمنسوخة من أهل العلم لا ينافي ذلك، إذ هو مبني على خلاف في حد النسخ، لا على الوجه الذي ذكره. ونظير هذا إنكاره النسخ في قوله: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 43 أَيْمَانُكُمْ} [سورة النساء آية: 33] ، وزعمه أن المراد الزوج والزوجة، فإنه غلط خلاف ما جاءت به الآثار ونقل عن أئمة التفسير. وأما تفسيره قوله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [سورة يونس آية: 26] بقوله: على قدر أعمالهم، ويشمل رؤية الله تعالى، فهذا تفسير حسن، ولا ينافي ما جاء في السنة من تفسير الزيادة بالنظر إلى وجه الله تعالى. قال الحافظ ابن كثير: يخبر تعالى أن لمن أحسن العمل في الدنيا بالإيمان والعمل الصالح، الحسنى في الدار الآخرة، كقوله تعالى: {هَلْ جَزَاءُ الأِحْسَانِ إِلاَّ الأِحْسَانُ} [سورة الرحمن آية: 60] ، وقوله تعالى: {وَزِيَادَةٌ} هي تضعيف ثواب الأعمال، بالحسنة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، وزيادة على ذلك أيضا، ويشمل ما يعطيهم الله في الجنان من القصور والحور، والرضى عنهم، وما أخفاه لهم من قرة أعين. وأفضل من ذلك وأعلاه: النظر إلى وجهه الكريم، فإنه زيادة أعظم من جميع ما أعطوه، لا يستحقونها بعملهم، بل بفضله ورحمته ; ثم ذكر أحاديث النظر إلى وجه الله وأقوال الصحابة. وقوله في قول الله تعالى: {فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا} [سورة الحجر آية: 74] أي: أسقطنا سقف بيوتهم عليهم، هذا من الخطأ الواضح، فإنه خلاف ظاهر اللفظ، وخلاف ما عليه الجزء: 13 ¦ الصفحة: 44 المفسرون، فإن قوم لوط - والعياذ بالله - قلبت ديارهم عليهم، فجعل عاليها سافلها. وأما قوله في قوله تعالى: {يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا} [سورة آل عمران آية: 37] إلى آخره: كانت عليها السلام تنسب ما كان عندها إلى الله، لقوله: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [سورة النحل آية: 53] فليس فيه دليل على أن مريم الصديقة كان يأتيها فاكهة الصيف في الشتاء، وفاكهة الشتاء في الصيف. فمن المعلوم أن أئمة التفسير، كمجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير، وأبي الشعثاء وإبراهيم النخعي والضحاك والسدي، وقتادة والربيع بن أنس، وعطية العوفي وغيرهم، أدرى بمعاني كتاب الله ; وقد جاء عنهم: أنها - عليها السلام - تؤتى بفاكهة الصيف في الشتاء، وفاكهة الشتاء في الصيف ; وإثبات كرامات الأولياء من أصول أهل السنة والجماعة. وأما تفسيره النار في قوله تعالى: {بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ} [سورة آل عمران آية: 183] بقوله، أي: يحرقه الكاهن بالنار، والعجب ممن قيد النار بالسماوي! ليت شعري، من أين أخذ هذا التفسير؟ ! فيقال: ليس ذلك بتقييد، بل تفسير، والألف واللام في النار للعهد الذهني، فيكون المراد: النار المتعارفة بينهم، وجاء عن أئمة التفسير تفسيرها بالنار التي تنزل من السماء. قال ابن كثير: يقول تعالى تكذيبا لهؤلاء، الذين زعموا الجزء: 13 ¦ الصفحة: 45 أن الله عهد إليهم في كتبهم أن لا يؤمنوا لرسول حتى يكون من معجزاته: أن من تصدق بصدقة من أمته فتقبل منه أن تنزل نار من السماء تأكلها، قاله ابن عباس والحسن وغيرهما. انتهى. ومما يشهد لذلك ويدل على صحة نزول جنس النار السماوية، الأحاديث الدالة على أن الغنائم فيمن قبل هذه الأمة تنزل عليها نار من السماء فتأكلها، وهذا نظير تفسيره قوله تعالى، {فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ} [سورة المائدة آية: 27] أنهما اطلعا بواسطة آدم، أن تقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر. فإنه قد جاءت الآثار هنا: أن هابيل قرب جذعة ; وقابيل: قرب حزمة سنبل، فوجد فيها سنبلة عظيمة ففركها، فنَزلت النار فأكلت قربان هابيل، كما في تفسير ابن جرير، وابن كثير والبغوي وغيرها من التفاسير. وأما تفسيره قوله تعالى: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا} [سورة الأنعام آية: 158] أنه يوم الموت، فإن الذي دلت عليه الأحاديث كحديث أبي هريرة وأبي ذر اللذين في الصحيحين وغيرهما، وحديث حذيفة عند ابن مردويه، وحديث أبي سعيد عند الترمذي، وحديث صفوان بن عسال، وحديث عبد الله بن مغفل وغيرها، أن المراد بالآيات في قوله تعالى: {أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} [سورة الأنعام آية: 158] : الآيات العظام التي قرب قيام الساعة، التي هي من أشراطها، كطلوع الجزء: 13 ¦ الصفحة: 46 الشمس من مغربها وغير ذلك مما ثبت في الأحاديث. وليس ذلك هو المذكور في قوله تعالى: {يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ} [سورة الفرقان آية: 22] فإن ذلك يوم الاحتضار، كما في تفسير ابن كثير وغيره. وأما تفسيره الوزن في قوله تعالى: {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ} [سورة الأعراف آية: 8] أي: مقدار الأعمال بأي وجه كان ; وتفسيره خفة الموازين بحبوط الأعمال، فهذا إنكار لحقيقة وزن الأعمال الذي دل عليه الكتاب العزيز وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأما تفسيره قوله تعالى: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا} [سورة يوسف آية: 26] بقوله: أي: أظهر رأيه، إلى آخره، فليس خطأ محضا، بل هو مبني على أحد القولين في ذلك الشاهد. قال ابن كثير: واختلف في هذا الشاهد، هل هو صغير أو كبير على قولين لعلماء السلف: أحدهما أنه كبير، ذكره ابن عباس والثوري، وابن إسحاق وغيرهم. ثم قال: وقال العوفي عن ابن عباس: كان صبيا في المهد; وكذا روي عن أبي هريرة وهلال بن يساف، والحسن وسعيد بن جبير، والضحاك بن مزاحم، أنه كان صبيا في الدار، واختاره ابن جرير، وروى فيه حديثا مرفوعا عن ابن عباس، وقال: تكلم أربعة وهم صغار، فذكر فيهم شاهد يوسف. انتهى. لكن هذا القول الثاني أظهر للحديث. وأما تفسير قوله تعالى: {ظِلاًّ ظَلِيلاً} [سورة النساء آية: 57] ، الجزء: 13 ¦ الصفحة: 47 وقوله: {وَظِلٍّ مَمْدُودٍ} [سورة الواقعة آية: 30] بالنعماء دون حقيقة الظل، فهو ظن منه أن الظل متوقف على الشمس، وليس الأمر كذلك، وليس في نفي الشمس المذكورة في قوله تعالى: {لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً} [سورة الإنسان آية: 13] ما ينافي الظل; نعم: الظل الموقوف على الشمس منفي، ولا يلزم من نفيه نفي ظل آخر غير موقوف على الشمس. وأما قوله في آية: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ} [سورة إبراهيم آية: 27] أي: ببركة التوحيد في الحياة الدنيا، لا يزيغون بإغواء المغوي، وفي الآخرة بعد الموت من القبر إلى المحشر، فليس فيه ما ينافي ما وردت به الأخبار، على أن ذلك هو التثبيت عند السؤال في القبر، لكن ينبغي الاقتصار على ما جاءت به السنة، فإن فيه غنية وكفاية. وأما قوله في: {إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً} [سورة الإسراء آية: 78] أي: ينبغي أن يشهدها المؤمنون ; فهو خلاف ما دلت عليه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من أن المراد هو ملائكة الليل والنهار، أو شهود الله وملائكته، إلا أن يراد بذلك تنبيه الآية وإشارتها. وأما تفسيره قوله تعالى: {فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً} [سورة الكهف آية: 61] بقوله: شقا، كما يسبح الحوت سبحا طبيعيا، وقوله: {عَجَباً} [سورة الكهف آية:63] : تعجب يوشع من سرعته، وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً} [سورة مريم آية: 96] أي: بينهم يوم الجزء: 13 ¦ الصفحة: 48 القيامة، ففي ما جاء من السنة في تفسير هذه الآيات غنية في رد ما ذكره، والأحاديث في ذلك معروفة. وأما تفسيره تسبيح الجبال والطير بتذكيره ذلك، فقد رجع عنه في الطبع الثاني، بقوله: تسبيحا مناسبا بشأنها ; فلا مطعن عليه في ذلك حينئذ. وأما قوله، في قوله تعالى: {وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ} [سورة سبأ آية: 10] أي: علمناه إلانة الحديد، فهو خلاف ظاهر الآية، وما نقل عن أئمة التفسير ; وإلانة الحديد لون، وتعليمه صنعة لبوس لون آخر. وأما تفسيره قوله تعالى: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [سورة الصافات آية: 107] بأن إبراهيم أمر بأن يذبح الكبش، فكان ظاهره: أنه لم يفد بكبش منزل من السماء ; وهذا خلاف ما ثبت عن ابن عباس وغيره، من أنه فدي بكبش قد رعى في الجنة أربعين خريفا. وأما تفسيره قوله تعالى: {الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ} [سورة الفرقان آية: 34] بقوله: أي: يسحبون ويجرونـ وقوله تعالى: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ} [سورة الدخان آية: 29] بقوله: أي: لم يترحم عليهم أحد من أهل السماء، ولا من أهل الأرض. وقوله تعالى: {وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ} [سورة النمل آية: 82] بقوله: أي قامت عليهم الساعة ; وقوله تعالى: {دَابَّةً} بقوله: أن نبعث نبيهم يشهد عليهم، فهذا غلط وخلاف الجزء: 13 ¦ الصفحة: 49 قوله صلى الله عليه وسلم عندما سئل عن ذلك: " إن الذي أمشاه على رجليه قادر أن يمشيه على وجهه " 1، وخلاف ما روى أبو العالية الموصلي، عن أنس مرفوعا: " ما من عبد إلا وله في السماء بابان، باب يخرج منه رزقه، وباب يدخل منه عمله وكلامه، فإذا مات فقداه وبكيا عليه.. ." 2 الحديث. والأحاديث في الدابة وخروجها قرب قيام الساعة مشهورة، كما روى أحمد ومسلم وأهل السنن - واللفظ لأحمد - عن حذيفة بن أسيد الغفاري مرفوعا: "لا تقوم الساعة حتى تروا عشر آيات: طلوع الشمس من مغربها، والدخان، والدابة ... " 3 الحديث. وروى مسلم من حديث عبد الله بن عمر، وقال: حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا لم أنسه بعد، سمعته يقول: " إن أول الآيات خروجا: طلوع الشمس من مغربها، وخروج الدابة على الناس ضحى ... " 4 الحديث، وغيرهما من الأحاديث. وأما قوله في الطبع الثاني: {وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ} [سورة النمل آية: 82] أي: إذا شارفت الساعة عليهم بظهور علاماتها، {أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الأَرْضِ} [سورة النمل آية: 82] أية دابة، ومن أية أرض تخرج، فهذا كان رجوعا عن قوله الأول، ولكن فيه شيء. وأما تفسيره البيت المعمور بالمساجد، فهو خلاف ما عليه المفسرون، من أنه البيت الذي في السماء، المذكور في   1 البخاري: تفسير القرآن (4760) ، ومسلم: صفة القيامة والجنة والنار (2806) ، وأحمد (3/167، 3/229) . 2 الترمذي: تفسير القرآن (3255) . 3 مسلم: الفتن وأشراط الساعة (2901) ، والترمذي: الفتن (2183) ، وأبو داود: الملاحم (4311) ، وابن ماجه: الفتن (4055) ، وأحمد (4/6، 4/7) . 4 مسلم: الفتن وأشراط الساعة (2941) ، وأبو داود: الملاحم (4310) ، وابن ماجه: الفتن (4069) ، وأحمد (2/201) . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 50 أحاديث الإسراء، كما في الصحيحين، من قوله صلى الله عليه وسلم: " ثم رفع بي إلى البيت المعمور ... " 1 الحديث، وغيره من الأحاديث ; والله الموفق. وليعلم: أن قد تركنا التنبيه على بعض الآيات التي استشهد بها على بعض ما فسر به، لوضوح عدم دلالتها على مراده، وأنا لم ننبه على تلك الغلطات، إلا نصحا لله ولرسوله، ولكتابه، وللمسلمين، وأنه ينبغي لإخواننا أهل الحديث الهنديين، أن لا يكون قصدهم ذلك، وأن يدعوا هذا الرجل ويعاملوه باللين، لعل الله أن يمن عليه بالرجوع، فإن أصر فلا أسف عليه، ويصير حكمه حكم أمثاله المصرين على البدع، والتحريف لنصوص القرآن، لا سيما نصوص صفات الله، والله أعلم، وصلى الله على محمد. [رسالة إلى ثناء الله الهندي تتعلق بعدم رجوعه عما انتقد في تفسيره] ثم كتبا إلى الشيخ المذكور ما نصه: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين. وصلاته وسلامه على نبيه الأمين، وعلى آله وأصحابه والتابعين. من محمد بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن آل الشيخ، ومحمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف آل الشيخ، إلى الأخ أبي الوفاء ثناء الله الهندي، منحنا الله وإياه مزيد الدراية، وجنبنا وإياه طرق الزيغ والغواية، اللهم آمين، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.   1 البخاري: بدء الخلق (3207) ، ومسلم: الإيمان (164) ، والنسائي: الصلاة (448) ، وأحمد (4/207) . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 51 أما بعد: فالحامل على هذا الكتاب، إهداء السلام إلى حضرتكم، ثم تعريفكم أنه قد صار عندنا من المعلوم، رجوعكم بعد أعوام، عن الأمور التي أخذت عليكم، وانتقدت من تفسيركم، فشكرنا لكم ذلك، ودعونا لكم. لكن وقفنا أثناء هذا العام، في ذي القعدة سنة 1350 هجرية، على كتاب أرسله أهل الحديث من أهل الهند، إلى الإمام عبد العزيز بن عبد الرحمن آل فيصل آل سعود، ذكروا فيه عدم رجوعكم، وإصراركم على تلك الأمور التي انتقدت من تفسيركم، وبطي كتابهم نصوص العبارات التي انتقدت، وطلبوا الإرشاد إلى الصواب في ذلك. فلم يسعنا إلا النطق بالصواب، وبيان الصحيح منها من السقيم، نصحا للخلق، وقياما بما تعبدنا به من بيان الحق، وإرشادا لكم خصوصا، رجاء أن ينفعكم الله بذلك، فتتركوا ما سلكتموه من تلك المسالك; وغير خاف عليكم أن كل ذي دين وإنصاف، أبعد شيء عن الأنفة والاستنكار، ومن أحب الناس إليه، من يعرفه عيبه ويوقفه عليه. وليكن منكم على بال، قول إمام دار الهجرة، مالك بن أنس رحمه الله: ليس منا إلا راد ومردود عليه، إلا صاحب هذا القبر - يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم - ولتحضرك قصة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين نهى في خطبته عن المغالاة في مهور النساء، فقالت له امرأة: يا أمير المؤمنين، ألم يقل الله تعالى: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً} الجزء: 13 ¦ الصفحة: 52 [سورة النساء آية: 20] فقال رضي الله عنه: أصابت امرأة، وأخطأ عمر. ولم يزل أهل العلم يبينون غلطات من غلط ويردونها، حتى إن بعضهم يرد ذلك، ولو بعد توبة من حدث عنه، خوفا أن يغتر بتلك المقالة ; كما رد موفق الدين ابن قدامة الحنبلي غلطات أبي الوفاء ابن عقيل بعدما تاب منها. والذي نوصيك به وأنفسنا تقوى الله عز وجل ومراقبته في السر والعلانية، والتوبة إلى الله من تلك الورطات، والرجوع إلى الحق بكتابة في ذلك، حتى يشتهر ذلك عنك ; ويحصل الاتفاق بينك وبين أهل الحديث من الهند وغيرهم. ونوصيك أيضا: بالإكباب على كتب أهل السنة وتفاسيرهم، كالأمهات الست وغيرها من كتب الحديث، وتفسير ابن جرير وابن كثير والبغوي، وغيرها من تفاسير السلف من أهل السنة، الذين لا تروج عليهم أحداثات المحدثين، وتأويلات الجاهلين. جعلنا الله وإياك هادين مهتدين، غير ضالين ولا مضلين، سلما لأوليائه، حربا لأعدائه، نحب بحبه من أحبه، ونعادي بعداوته من خالف أمره، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. [أسئلة عن القرآن والأخذ منه والاجتماع لأجل القراءة] [معنى حديث "القرآن ماحل مصدق"] سئل الشيخ: علي بن الشيخ محمد، رحمهما الله تعالى، عن قوله: "القرآن ماحل مصدق" ما معناه؟ . فأجاب: مسألتك التي سألت عنها الشيخ، وهي قوله: "القرآن ماحل مصدق" بالحاء، والماحل: نقال العلوم، الجزء: 13 ¦ الصفحة: 53 فالقرآن ماحل مصدق، أي: ناقل مصدق، لأنه نقل إلينا أخبار من قبلنا. سئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن، عن حديث: "خذ من القرآن ما شئت لما شئت". فأجاب: ليس هذا بحديث، ولا يصح أن ينسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم. سئل الشيخ: عبد الله بن الشيخ محمد، رحمهما الله، عن الاجتماع في رمضان لأجل قراءة القرآن، مع التدبر؟ فأجاب: لا بأس بذلك; بل ورد الحث عليه فيما رواه مسلم في صحيحه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ما جلس قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا غشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده " 1 أو كما قال صلى الله عليه وسلم. سئل الشيخ: سعيد بن حجي، عن الكلام عند تلاوة القرآن؟ فأجاب: قال النووي رحمه الله في كتاب " التبيان ": ويتأكد الأمر باحترام القرآن من أمور; منها: اجتناب الضحك واللغط والحديث في خلال القرآن، إلا كلام يضطر إليه، وليمتثل أمر الله تعالى، قال الله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} [سورة الأعراف آية: 204] أي: اسكتوا {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [سورة آل عمران آية: 132] ، وعن ابن عمر: أنه كان إذا قرأ القرآن لا يتكلم، حتى يفرغ مما أراد أن يقرأ.   1 مسلم: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2699) ، والترمذي: القراءات (2945) ، وأبو داود: الصلاة (1455) ، وابن ماجه: المقدمة (225) ، وأحمد (2/252) . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 54 [معنى تنكيس السور وحكمه] سئل الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين، عن تنكيس السور؟ فأجاب: أما صورة تنكيس السور، فمثل أن يقرأ سورة آل عمران قبل سورة البقرة ; وأما تنكيس الآيات، فمثل أن يقول في قراءة: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} {إِلَهِ النَّاسِ} {مَلِكِ النَّاسِ} [سورة الناس آية: 2] . [حكم قراءة القرآن بالألحان] وسئل عن قراءة القرآن بالألحان؟ فاجاب: أما قراءة القرآن بالألحان فكرهها العلماء، وقال أحمد ومالك: هي بدعة ; وقال أحمد: يحسن صوته بالقرآن. وقال الشيخ تقي الدين: التلحين الذي يشبه الغناء مكروه، والألحان التي كره العلماء قراءة القرآن بها هي التي تتضمن قصر الحرف الممدود، ومد المقصور، وتحريك الساكن، وتسكين المتحرك، ونحو ذلك ; يفعلون ذلك لموافقة نغمات الأغاني المطربة. ولها عند أهلها أسماء كالبريطي والرومي، والمكي، والإسكندراني ; والمصري، والديباجي، والياقوتي، أسماء مبتدعة ما أنزل الله بها من سلطان، فإن حصل من ذلك تغيير نظم القرآن، كجعل الحركات حروفا، فهو حرام. وسأل رجل الإمام أحمد عن ذلك، فقال للسائل: ما اسمك؟ قال: محمد ; قال: ما يسرك أن يقال: يامو حامد. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 55 وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "اقرؤوا القرآن بلحن العرب وأصواتها، وإياكم ولحون أهل الكتاب، وأهل الفسوق، فإنه سيجيء أقوام يرجعون بالقرآن، كترجيع الغناء والرهبانية، لا يجاوز حناجرهم ". وأما تحسين الصوت بالقرآن على غير الوجه المكروه، فمندوب إليه ; قال الإمام أحمد: يحسن صوته بالقرآن ; وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي حسن الصوت، يتغنى بالقرآن يجهر به " 1، وفي حديث آخر: " زينوا القرآن بأصواتكم " 2 وفي حديث آخر: "حسن الصوت زينة القرآن" ومما قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي موسى: " لو رأيتني أستمع لقراءتك البارحة " فقال أبو موسى: لو علمت أنك تستمع لحبرته لك تحبيرا، أي: حسنته. [حكم من يقرأ القرآن ويتتعتع فيه] سئل الشيخ: عبد الله بن عبد العزيز العنقري، عن الذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه، هل يدخل في الوعيد الوارد فيمن زاد في القرآن؟ فأجاب: لو قلنا بهذا لانسد باب تعلم القرآن ; وهذا من خرافات الجهال ; بل قد ثبت في الحديث المتفق على صحته، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من قرأ القرآن وهو ماهر فيه فهو مع السفرة الكرام البررة، ومن قرأ وهو يتتعتع فيه، وهو عليه شاق " وفي رواية " شديد، فله أجران " والزيادة في القرآن الموجبة للعنة، هي التي يتعمدها   1 مسلم: صلاة المسافرين وقصرها (792) ، والنسائي: الافتتاح (1017) ، وأبو داود: الصلاة (1473) ، وأحمد (2/450) ، والدارمي: الصلاة (1488) وفضائل القرآن (3497) . 2 النسائي: الافتتاح (1015) ، وأبو داود: الصلاة (1468) ، وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1342) ، وأحمد (4/283، 4/304) ، والدارمي: فضائل القرآن (3500) . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 56 الإنسان، وأما الحديث المسؤول عنه: من قرأ القرآن برأيه، فلا نعلمه حديثا ; والذي يقرأ برأيه هو الذي يحدث قرآنا من عنده ; ولفظ الحديث الصحيح: " من قال في القرآن برأيه ... " 1 الحديث. [حكم قراءة الفاتحة كلما أراد قراءة القرآن] . سئل الشيخ: عبد اللطيف بن عبد الرحمن، عن قراءة الفاتحة كلما أراد القراءة؟ فأجاب: وأما الابتداء بفاتحة الكتاب، كلما أراد تلاوة القرآن، فلا أرى الإنكار على من فعل ذلك، لما ثبت في الحديث الصحيح، من قصة الأنصاري الذي كان يقرأ سورة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [سورة الإخلاص آية: 1] في كل ركعة يكررها إذا أراد القراءة بغيرها، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " سلوه لم فعل ذلك؟ " فقال: إني أحبها; لأن فيها صفة الرحمن، فقال النبي صلى الله عليه وسلم "أخبروه أن الله يحبه "2. فمن قرأ فاتحة الكتاب أو غيرها بقصد يضاهي هذا ويشابهه، فلا حرج عليه; وأما إن قرأها قبل كل قراءة معتقدا أن الله أمر بذلك، أو أن الرسول صلى الله عليه وسلم سنه، فهذا يعرف بالسنة ويخبر بها، وأنها إنما ابتدأ بها القراءة في الصلاة، لا في سائر أحوال التلاوة. [ما قاله الشيخ محمد بن عبد الوهاب في الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم] قال الشيخ: محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى: مما ذكر في الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم: فأما الشيطان الإنسي فالمصانعة تدفع شره، وأما الشيطان الجني، فلا يدفعه غير الاستعاذة بالذي خلقه.   1 الترمذي: تفسير القرآن (2951) . 2 البخاري: التوحيد (7375) ، ومسلم: صلاة المسافرين وقصرها (813) . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 57 وجمع الله بينهما في ثلاث آيات، قوله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [سورة الأعراف آية: 199-200] الثانية: في سورة {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [سورة المؤمنون آية: 1] في قوله تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ} [سورة المؤمنون آية: 96-97] الثالثة: في حم السجدة، قوله تعالى: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [سورة فصلت آية: 34-35-36] . [قول الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن في البسملة] قال الشيخ: عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن، رحمهم الله في: {بسم الله الرحمن الرحيم} [سورة الفاتحة آية: 1] في أربعة مواضع، تدل على وجوب توحيد الله وعبادته، وحده لا شريك له. الأول: في متعلق الباء إذا قدر متأخرا، فإنه يفيد الحصر والاختصاص، وتقديره: {بسم الله} أؤلف لا بسم غيره، لأن المشركين يستعينون بأسماء آلهتهم، كالمسيح ومريم، واللات والعزى، ونحو ذلك، والموحد يخص الله سبحانه ويفرده باستعانته، كما يخصه ويفرده بركوعه الجزء: 13 ¦ الصفحة: 58 وسجوده، وغير ذلك من عباداته. والموضع الثاني في اسمه {الله} فإنه دال على أنه سبحانه المستحق لأن يعبد، وحده لا شريك له، بما دل عليه من المعنى الموضوع له، وهو علميته على ذي الألوهية والعبودية على خلقه أجمعين، كما فسره به حبر الأمة ابن عباس ; وكلام غيره يدل على ذلك أيضا. والموضع الثالث: في صفته تعالى بـ {الرحمن} فإنه صفة ذات، دلت على أنه تعالى اتصف بغاية الرحمة ومنتهاها، ومن هذا صفته وهذه رحمته، فقصد غيره وعبادة سواه ورجاؤه، من أضل الضلال وأبطل الباطل، وأسفه السفه. وهكذا الاستدلال بجميع صفات الكمال، كالعلم والقدرة، وغير ذلك. الموضع الرابع: في اسمه {الرحيم} فإن معناه: الذي أوصل ويوصل إلى عباده غاية الرحمة ومنتهاها، وكل ما في الموجودات من أنواع النعيم والهداية والخيرات، فمن رحمته وفضله وإحسانه ; فمن هذا فضله بعبيده، وهذه رحمته لهم، هو الذي يستحق ويجب أن يعبد ويقصد، ويرجى ويناب إليه ; والعدول إلى غيره ضلال بعيد، وجهل عظيم، وشرك وخيم {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [سورة الأنعام آية: 1] . ومن تأمل ما في الكتاب والسنة، من صفات الكمال ونعوت الجلال، فتح له باب عظيم في معرفة الله وحقه، الجزء: 13 ¦ الصفحة: 59 ووجوب توحيده، تعالى وتقدس عن أن يكون له شريك. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 60 سورة الفاتحة قال شيخ الإسلام: محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله ورضي عنه بمنه وكرمه: اعلم أرشدك الله لطاعته، وأحاطك بحياطته، وتولاك في الدنيا والآخرة: أن مقصود الصلاة وروحها ولبها، هو إقبال القلب على الله تعالى فيها، فإذا صليت بلا قلب فهي كالجسد الذي لا روح فيه. ويدل على هذا قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} [سورة الماعون آية: 4-5] ، ففسر السهو بالسهو عن وقتها - أي إضاعته -، والسهو عن ما يجب فيها، والسهو عن حضور القلب. ويدل على ذلك الحديث الذي في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " تلك صلاة المنافق، تلك صلاة المنافق، تلك صلاة المنافق، يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني شيطان، قام فنقر أربعا، لا يذكر الله فيها إلا قليلا " 1 فوصفه بإضاعة الوقت، بقوله: " يرقب الشمس " 2 وبإضاعة الأركان بذكره النقر، وبإضاعة حضور القلب بقوله: " لا يذكر الله فيها إلا قليلا " 3.   1 مسلم: المساجد ومواضع الصلاة (622) ، والترمذي: الصلاة (160) ، والنسائي: المواقيت (511) ، وأبو داود: الصلاة (413) ، وأحمد (3/102، 3/149، 3/185) ، ومالك: النداء للصلاة (512) . 2 مسلم: المساجد ومواضع الصلاة (622) ، والترمذي: الصلاة (160) . 3 مسلم: المساجد ومواضع الصلاة (622) ، والترمذي: الصلاة (160) . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 60 إذا فهمت ذلك، فافهم نوعا واحدا من الصلاة، وهو قراءة الفاتحة، لعل الله أن يجعل صلاتك في الصلوات المقبولة المضاعفة، المكفرة للذنوب. ومن أحسن ما يفتح لك الباب في فهم الفاتحة، حديث أبي هريرة الذي في صحيح مسلم، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " يقول الله تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل. فإذا قال العبد: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [سورة الفاتحة آية:1] قال الله: حمدني عبدي، فإذا قال: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [سورة الفاتحة آية:2.] قال الله: أثنى علي عبدي، فإذا قال: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [سورة الفاتحة آية:3] قال الله: مجدني عبدي، فإذا قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [سورة الفاتحة آية:4] قال الله: هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل، فإذا قال: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [سورة الفاتحة آية:5] قال الله: هذا لعبدي، ولعبدي ما سأل "1 انتهى الحديث. فإذا تأمل العبد هذا، وعلم أنها نصفان: نصف لله، وهو أولها إلى قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [سورة الفاتحة آية: 6 – 7] ونصف للعبد دعاء يدعو به لنفسه ; وتأمل أن الذي علمه هذا هو الله تعالى، وأمره أن يدعو به، ويكرره في كل ركعة، وأنه سبحانه من فضله وكرمه ضمن إجابة هذا الدعاء إذا دعاه بإخلاص وحضور قلب، تبين له ما أضاع أكثر الناس. قد هيؤوك لأمر لو فطنت له ... فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل   1 مسلم: الصلاة (395) ، والترمذي: تفسير القرآن (2953) ، وأحمد (2/241، 2/285، 2/460) ، ومالك: النداء للصلاة (189) . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 61 وها أنا أذكر لك بعض معاني هذه السورة العظيمة، لعلك تصلي بحضور قلب، ويعلم قلبك ما نطق به لسانك; لأن ما نطق به اللسان ولم يعقد عليه القلب ليس بعمل صالح، كما قال تعالى: {يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} [سورة الفتح آية: 11] وأبدأ بمعنى الاستعاذة، ثم البسملة، على طريق الاختصار والإيجاز. فمعنى: "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم": ألوذ بالله وأعتصم بالله، وأستجير بجنابه من شر هذا العدو، أن يضرني في ديني أو دنياي، أو يصدني عن فعل ما أمرت به، أو يحثني على فعل ما نهيت عنه، لأنه أحرص ما يكون على العبد، إذا أراد عمل الخير، من صلاة أو قراءة أو غير ذلك، وذلك أنه لا حيلة لك في دفعه إلا بالاستعاذة بالله، لقوله تعالى: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ} [سورة الأعراف آية: 27] ؛ فإذا طلبت من الله أن يعيذك منه، واعتصمت به، كان هذا سببا في حضور القلب. فاعرف معنى هذه الكلمة، ولا تقلها باللسان فقط، كما عليه أكثر الناس. وأما البسملة: فمعناها: أدخل في هذا الأمر من قراءة أو دعاء أو غير ذلك {بِسْمِ اللَّهِ} ، لا بحولي ولا بقوتي، بل أفعل هذا الأمر مستعينا بالله، متبركا باسمه تبارك وتعالى، هذا في كل أمر تسمي في أوله، من أمر الدين أو أمر الدنيا. فإذا أحضرت في نفسك: أن دخولك في القراءة بالله، الجزء: 13 ¦ الصفحة: 62 مستعينا به، متبرئا من الحول والقوة، كان هذا أكبر الأسباب في حضور القلب، وطرد الموانع من كل خير. {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [سورة الفاتحة آية: 1] : اسمان مشتقان من الرحمة، أحدهما أبلغ من الآخر، مثل: العلام والعليم ; قال ابن عباس: "هما اسمان رقيقان، أحدهما أرق من الآخر"، أي: أكثر من الآخر رحمة. وأما الفاتحة، فهي سبع آيات: ثلاث ونصف لله، وثلاث ونصف للعبد ; فأولها: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [سورة الفاتحة آية: 2] . فاعلم أن الحمد هو الثناء باللسان على الجميل الاختياري، فأخرج بقوله: الثناء باللسان، الثناء بالفعل الذي يسمى لسان الحال، فذلك من نوع الشكر. وقوله: على الجميل الاختياري، أي: الذي يفعله الإنسان بإرادته، وأما الجميل الذي لا صنع له فيه، مثل الجمال ونحوه، فالثناء به يسمى مدحا لا حمدا. والفرق بين الحمد والشكر: أن الحمد يتضمن المدح والثناء على المحمود بذكر محاسنه، سواء أكان إحسانا إلى الحامد أو لم يكن، والشكر لا يكون إلا على إحسان المشكور، فمن هذا الوجه الحمد أعم من الشكر; لأنه يكون على المحاسن والإحسان; فإن الله يحمد على ما له من الأسماء الحسنى، وما خلقه في الآخرة والأولى. ولهذا قال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً} [سورة الإسراء آية: 111] الآية، وقال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 63 وَالْأَرْضَ} [سورة الأنعام آية: 1] ، إلى غير ذلك من الآيات. وأما الشكر: فإنه لا يكون إلا على الإنعام ; فهو أخص من الحمد من هذا الوجه ; لكنه يكون بالقلب واليد واللسان، ولهذا قال تعالى: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْراً} [سورة سبأ آية: 13] ، والحمد إنما يكون بالقلب واللسان، فمن هذا الوجه الشكر أعم من جهة أنواعه، والحمد أعم من جهة أسبابه. والألف واللام في قوله: {الْحَمْدُ} للاستغراق، أي: جميع أنواع الحمد لله لا لغيره، فأما الذي لا صنع للخلق فيه، مثل خلق الإنسان، وخلق السمع والبصر، والسماء والأرض، والأرزاق، وغير ذلك فواضح. وأما ما يحمد عليه المخلوق، مثل ما يثنى به على الصالحين والأنبياء والمرسلين، وعلى من فعل معروفا، خصوصا إن أسداه إليك، فهذا كله لله أيضا، بمعنى أنه خلق ذلك الفاعل، وأعطاه ما فعل به ذلك، وحببه إليه وقواه عليه، وغير ذلك من إفضال الله الذي لو يختل بعضها، لم يحمد ذلك المحمود، فصار الحمد كله لله بهذا الاعتبار. وأما قوله: {لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [سورة الفاتحة آية: 2] فالله عَلَم على ربنا تبارك وتعالى، ومعناه: الإله، أي: المعبود، لقوله: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ} [سورة الأنعام آية: 3] أي: المعبود في السماوات، والمعبود في الأرض {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ} [سورة مريم آية: 93] الآيتين. وأما الرب، فمعناه: المالك المتصرف، وأما الجزء: 13 ¦ الصفحة: 64 {الْعَالَمِينَ} فهو اسم لكل ما سوى الله تبارك وتعالى؛ فكل ما سواه من ملك ونبي، وإنسي وجني وغير ذلك، مربوب مقهور يتصرف فيه، فقير محتاج، كلهم صامدون إلى واحد لا شريك له في ذلك، وهو الغني الصمد. "" وذكر بعد ذلك: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [سورة الفاتحة آية: 4] ، وفي قراءة أخرى {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} فذكر في أول هذه السورة، التي هي أول المصحف، الألوهية والربوبية والملك ; كما ذكره في آخر سورة في المصحف {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ مَلِكِ النَّاسِ إِلَهِ النَّاسِ} [سورة الناس آية: 1-2-3] : فهذه ثلاثة أوصاف لربنا تبارك وتعالى، ذكرها مجموعة في موضع واحد في أول القرآن ; ثم ذكرها مجموعة في موضع واحد، في آخر ما يطرق سمعك من القرآن، فينبغي لمن نصح نفسه أن يعتني بهذا الموضع، ويبذل جهده في البحث عنه، ويعلم أن العليم الخبير، لم يجمع بينهما في أول القرآن، ثم في آخره إلا لما يعلم من شدة حاجة العباد إلى معرفتها، ومعرفة الفرق بين هذه الصفات ; فكل صفة لها معنى غير معنى الصفة الأخرى، كما يقال: محمد رسول الله، وخاتم النبيين، وسيد ولد آدم، فكل وصف له معنى غير ذلك الوصف الآخر. إذا عرفت: أن معنى "الله" هو الإله، وعرفت أن الإله هو المعبود، ثم دعوت الله، أو ذبحت له، أو نذرت له، الجزء: 13 ¦ الصفحة: 65 فقد عرفت أنه الله، فإن دعوت مخلوقا طيبا أو خبيثا، أو ذبحت له أو نذرت له، فقد زعمت أنه هو الله. فمن عرف أنه قد جعل شمسان، أو تاجا برهة من عمره هو الله، عرف ما عرفت بنو إسرائيل لما عبدوا العجل، فلما تبين لهم ارتاعوا، وقالوا ما ذكر الله عنهم: {وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [سورة الأعراف آية: 149] . وأما "الرب" فمعناه: المالك المتصرف ; فالله تعالى مالك كل شيء، وهو المتصرف فيه، وهذا حق، ولكن أقر به عباد الأصنام الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما ذكر الله عنهم في القرآن في غير موضع، كقوله تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [سورة يونس آية: 31] إلى قوله: {فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} [سورة يونس آية: 31] . فمن دعا الله في تفريج كربته وقضاء حاجته، ثم دعا مخلوقا في ذلك، خصوصا إن اقترن بدعائه نسبة نفسه إلى عبوديته، مثل قوله في دعائه: فلان عبدك ; أو قول: عبد علي، أو عبد النبي أو الزبير، فقد أقر له بالربوبية. وفي دعائه عليا أو الزبير، بدعائه الله تبارك وتعالى وإقراره له بالعبودية، ليأتي له بخير أو ليصرف عنه شرا مع تسمية نفسه عبدا له، قد أقر له بالربوبية، ولم يقر لله بأنه رب العالمين كلهم، بل جحد بعض ربوبيته. فرحم الله عبدا نصح نفسه، وتفطن لهذه المهمات، الجزء: 13 ¦ الصفحة: 66 وسأل عن كلام أهل العلم، وهم أهل الصراط المستقيم، هل فسروا السورة بهذا أم لا؟ وأما " الملك " فيأتي الكلام عليه ; وذلك أن قوله: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [سورة الفاتحة آية: 4] وفي القراءة الأخرى {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} فمعناه عند جميع المفسرين كلهم، فسره الله في قوله: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [سورة الإنفطار آية: 17-18-19] فمن عرف تفسير هذه الآية، وعرف تخصيص الملك بذلك اليوم، مع أنه سبحانه مالك كل شيء ذلك اليوم وغيره، عرف أن التخصيص لهذه المسألة الكبيرة العظيمة، التي بسبب معرفتها دخل الجنة من دخلها، وبسبب الجهل بها دخل النار من دخلها. فيا لها من مسألة لو رحل الرجل فيها أكثر من عشرين سنة لم يوفها حقها، فأين هذا المعنى والإيمان بما صرح به القرآن، مع قوله صلى الله صلى الله عليه وسلم " يا فاطمة بنت محمد لا أغني عنك من الله شيئا "1 من قول صاحب البردة؟ ولن يضيق رسول الله جاهك بي ... إذا الكريم تحلى باسم منتقم فإن لي ذمة منه بتسميتي ... محمدا وهو أوفى الخلق بالذمم إن لم تكن في معادي آخذا بيدي ... فضلا وإلا فقل يا زلة القدم فليتأمل: من نصح نفسه هذه الأبيات ومعناها، ومن فتن بها من العباد، وممن يدعي أنه من العلماء، واختاروا   1 البخاري: الوصايا (2753) ، ومسلم: الإيمان (206) ، والنسائي: الوصايا (3646، 3647) ، وأحمد (2/448، 2/519) ، والدارمي: الرقاق (2732) . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 67 تلاوتها على تلاوة القرآن ; هل يجتمع في قلب عبد التصديق بهذه الأبيات والتصديق بقوله: {يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [سورة الانفطار آية: 19] وقوله " يا فاطمة بنت محمد لا أغني عنك من الله شيئا" 1؟ لا والله! لا والله! لا والله! إلا كما يجتمع في قلبه أن موسى صادق، وأن فرعون صادق، وأن محمدا صادق على الحق، وأن أبا جهل صادق على الحق. لا والله ما استويا ولن يتلاقيا ... حتى تشيب مفارق الغربان فمن عرف هذه المسألة وعرف البردة، ومن فتن بها عرف غربة الإسلام، وعرف أن العداوة واستحلال دمائنا وأموالنا ونسائنا ليس عند التكفير والقتال، بل هم الذين بدؤونا بالتكفير والقتال، بل عند قوله: {فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} [سورة الجن آية: 18] ، وعند قوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} [سورة الإسراء آية: 57] ، وقوله: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ} [سورة الرعد آية: 14] . فهذا بعض المعاني في قوله: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [سورة الفاتحة آية: 4] بإجماع المفسرين كلهم، وقد فسرها الله سبحانه في سورة {إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ} [سورة الانفطار آية: 1] كما قدمت لك. واعلم أرشدك الله   1 البخاري: الوصايا (2753) ، ومسلم: الإيمان (206) ، والنسائي: الوصايا (3646، 3647) ، وأحمد (2/448، 2/519) ، والدارمي: الرقاق (2732) . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 68 أن الحق لا يتبين إلا، بالباطل، كما قيل 1: ............ ... وبضدها تتبين الأشياء فتأمل ما ذكرت لك: ساعة بعد ساعة، ويوما بعد يوم، وشهرا بعد شهر، وسنة بعد سنة، لعلك أن تعرف ملة أبيك إبراهيم ودين نبيك فتحشر معهما ; ولا تصد عن الحوض يوم الدين، كما يصد عنه من صد عن طريقهما. ولعلك أن تمر على الصراط يوم القيامة، ولا تزل عنه كما زل عن صراطهما المستقيم في الدنيا من زل، فعليك بإدامة دعاء الفاتحة، مع حضور قلب، وخوف وتضرع. وأما قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [سورة الفاتحة آية: 5] ، فالعبادة: كمال المحبة، وكمال الخضوع والخوف والذل ; وقدم المفعول وهو إياك، وكرر للاهتمام والحصر، أي: لا نعبد إلا إياك، ولا نتوكل إلا عليك، وهذا هو كمال الطاعة؛ والدين كله يرجع إلى هذين المعنيين: فالأول: التبرؤ من الشرك، والثاني: التبرؤ من الحول والقوة، فقوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [سورة الفاتحة آية: 5] أي: إياك نوحد ; ومعناه: أنك تعاهد ربك أن لا تشرك به في عبادته أحدا، لا ملكا ولا نبيا، ولا غيرهما، كما قال للصحابة: {وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [سورة آل عمران آية: 80] .   1 أي: في ديوان المتنبي. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 69 فتأمل هذه الآية، واعرف ما ذكرت لك في الربوبية، أنها التي نسبت إلى "تاج" و "محمد بن شمسان"؛ فإذا كان الصحابة لو يفعلونها مع الرسل كفروا بعد إسلامهم، فكيف بمن فعلها في "تاج" وأمثاله؟ ! وقوله: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [سورة الفاتحة آية: 5] هذا فيه أمران، أحدهما: سؤال الإعانة، وهو التوكل، والتبري من الحول والقوة ; وأيضا: طلب الإعانة من الله كما مر أنها من نصف العبد. وأما قوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [سورة الفاتحة آية: 6] فهذا هو الدعاء الصريح الذي هو حظ العبد من الله، وهو التضرع إليه والإلحاح عليه أن يرزقه هذا الطلب العظيم الذي لم يعط أحد في الدنيا والآخرة أفضل منه، كما من الله على رسوله صلى الله عليه وسلم بعد الفتح بقوله: {وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً} [سورة الفتح آية: 2] ، والهداية هاهنا: التوفيق والإرشاد. وليتأمل العبد ضرورته إلى هذه المسألة، فإن الهداية إلى ذلك تتضمن العلم، والعمل الصالح، على وجه الاستقامة والكمال، والثبات على ذلك إلى أن يلقى الله. والصراط: الطريق الواضح، والمستقيم: الذي لا عوج فيه ; والمراد بذلك: الدين الذي أنزله الله على رسوله صلى الله عليه وسلم، وهو {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [سورة الفاتحة آية: 7] ، وهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وأنت دائما في كل ركعة تسأل الله أن يهديك إلى طريقهم. وعليك من الفرائض أن تصدق الله أنه هو المستقيم، الجزء: 13 ¦ الصفحة: 70 وكل ما خالفه من طريق أو علم أو عبادة فليس بمستقيم، بل معوج؛ وهذه أول الواجبات من هذه الآية، وهو اعتقاد ذلك بالقلب. وليحذر المؤمن من خدع الشيطان، وهو اعتقاد ذلك مجملا، وتركه مفصلا; فإن أكفر الناس من المرتدين يعتقدون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحق، وأن ما خالفه باطل; فإذا جاء بما لا تهوى أنفسهم، فكما قال تعالى: {فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ} [سورة المائدة آية: 70] . وأما قوله: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [سورة الفاتحة آية: 7] ، فالمغضوب عليهم هم: العلماء الذين لم يعملوا بعلمهم، والضالون: العاملون بلا علم، فالأول صفة اليهود، والثاني صفة النصارى. وكثير من الناس إذا رأى في التفسير أن اليهود مغضوب عليهم، وأن النصارى ضالون، ظن الجاهل أن ذلك مخصوص بهم، وهو يقر أن ربه فارض عليه أن يدعو بهذا الدعاء، ويتعوذ من طريق أهل هذه الصفات. فيا سبحان الله! كيف يعلمه الله ويختار له ويفرض عليه أن يدعو به دائما، مع أنه لا حذر عليه منه، ولا يتصور أنه يفعله؟ ! هذا من ظن السوء بالله ; والله أعلم. هذا آخر الفاتحة. وأما "آمين" فليست من الفاتحة، ولكنها تأمين على الدعاء، معناها: اللهم استجب ; فالواجب تعليم الجاهل، الجزء: 13 ¦ الصفحة: 71 لئلا يظن أنها من كلام الله ; والله أعلم. [مسائل مستنبطة من سورة الفاتحة] وهذه مسائل مستنبطة من سورة الفاتحة; استنبطها شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى. الأولى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [سورة الفاتحة آية: 5] فيها التوحيد. الثانية: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [سورة الفاتحة آية: 6] فيها المتابعة. الثالثة: أركان الدين الحب والرجاء والخوف، فالحب في الأولى، والرجا في الثانية، والخوف في الثالثة. الرابعة: هلاك الأكثر في الجهل بالآية الأولى، أعني: استغراق الحمد، واستغراق ربوبية العالمين. الخامسة: أول المنعم عليهم، وأول المغضوب عليهم، والضالين. السادسة: ظهور الكرم والحمد في ذكر المنعم عليهم. السابعة: ظهور القدرة والمجد في ذكر المغضوب عليهم والضالين. الثامنة: دعاء الفاتحة، مع قوله: لا يستجاب الدعاء من قلب غافل. التاسعة. قوله {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [سورة الفاتحة آية: 7] فيه حجة الإجماع. العاشرة: ما في الجملة من هلاك الإنسان إذا وكل إلى نفسه. الحادية عشر: ما فيها من النص على التوكل. الثانية عشر: ما فيها من التنبيه على بطلان الشرك. الثالثة عشر: التنبيه على بطلان البدع. الرابعة عشر: آيات الفاتحة، كل آية منها لو يعلمها الإنسان صار فقيها، وكل آية أفرد معناها بالتصانيف، والله سبحانه وتعالى أعلم. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 72 وله أيضا، رحمه الله تعالى: بسم الله الرحمن الر حيم {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [سورة الفاتحة آية: 2-3-4] وتضمنت ثلاث الآيات ثلاث مسائل: الآية الأولى: فيها المحبة ; لأن الله منعم، والمنعم يحب على قدر إنعامه ; والمحبة تنقسم إلى أربعة أنواع: محبة شركية، وهي محبة الذين قال الله فيهم: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} [سورة البقرة آية: 165] إلى قوله: {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [سورة البقرة آية: 167] . المحبة الثانية: حب الباطل وأهله، وبغض الحق وأهله ; وهذه صفة المنافقين ; والمحبة الثالثة: طبيعية، وهي محبة المال والولد، فإذا لم تشغل عن طاعة الله، ولم تعن على محارم الله، فهي مباحة. والمحبة الرابعة: حب أهل التوحيد، وبغض أهل الشرك، وهي أوثق عرى الإيمان، وأعظم ما يعبد بها الإنسان ربه. الآية الثانية: فيها الرجاء ; والآية الثالثة فيها الخوف ; {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [سورة الفاتحة آية: 5] أي: أعبدك يا رب بما مضى بهذه الثلاث، بمحبتك ورجائك وخوفك ; هذه الثلاث أركان العبادة، وصرفها لغير الله شرك. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 73 وفي هذه الثلاث الرد على من تعلق بواحدة منها، كمن تعلق بالمحبة وحدها، أو تعلق بالرجاء وحده، أو تعلق بالخوف وحده، فمن صرف منها شيئا لغير الله فهو مشرك. وفيها من الفوائد: الرد على ثلاث الطوائف التي كل طائفة تعلق بواحدة منها، كمن عبد الله بالمحبة وحدها، وكذلك من عبد الله بالرجاء وحده كالمرجئة، وكذلك من عبد الله بالخوف وحده كالخوارج. وأما {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [سورة الفاتحة آية: 5] ففيها توحيد الألوهية، وتوحيد الربوبية {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [سورة الفاتحة آية: 5] فيها توحيد الألوهية، {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [سورة الفاتحة آية: 5] فيها توحيد الربوبية، {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [سورة الفاتحة آية: 6] فيها الرد على المبتدعين. وأما الآيتان الأخيرتان، ففيها من الفوائد: ذكر أحوال الناس، قسمهم الله ثلاثة أصناف: منعم عليه، ومغضوب عليه، وضال; فالمغضوب عليهم أهل علم ليس معه عمل; والضالين: أهل عبادة ليس معها علم; وإن كان سبب النّزول في اليهود والنصارى، فهي لكل من اتصف بذلك; والنوع الثالث: من اتصف بالعلم والعمل، وهم المنعم عليهم. وفيها من الفوائد: التبرؤ من الحول والقوة، لأنه منعم عليك ; وكذلك فيها: معرفة الله على التمام، ونفي النقائص عنه تبارك وتعالى ; وفيها: معرفة الإنسان نفسه، ومعرفة ربه، فإنه إذا كان رب فلا بد من مربوب، وإذا كان هنا عبد فلا بد من معبود. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 74 وإذا كان هنا هاد فلا بد من مهدي; وإذا كان هنا منعم عليه فلا بد من منعم، وإذا كان هنا مغضوب عليه فلا بد من غاضب; وإذا كان هنا ضال فلا بد من مضل ; فهذه السورة تضمنت الألوهية، والربوبية، ونفي النقائص عن الله ; وتضمنت معرفة العبادة وأركانها، والله أعلم. وله أيضا، رحمه الله تعالى: 1 الخوف منه، إذا عرفت أنه لا بد أن يدين الناس بأعمالهم خيرها وشرها {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [سورة الزلزلة آية: 7-8] ، وأفادك أيضا أعظم الفوائد، وهي التوحيد، إذا عرفت أن ذلك اليوم {لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [سورة الانفطار آية: 19] . وأما الكلمة الرابعة: فأولها، وهو قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [سورة الفاتحة آية: 5] : معاهدة منك لربك عز وجل أنك لا تشرك بعبادته أحدا، لا ملكا مقربا ولا نبيا مرسلا، ولا غيرهما، وآخرها، وهو قوله: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [سورة الفاتحة آية: 5] : سؤال منك لمولاك سبحانه أن يعينك على أمور دينك ودنياك، ولا يكلك إلى نفسك، ولا إلى أحد من خلقه، وإخبار منك أنك لا تستعين إلا به تبارك وتعالى.   1 بياض بالأصول، ويفهم من السياق أنه من أول تفسير سورة الفاتحة، وأنه في المعنى قريبا مما تقدم. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 75 وفي الآية الخامسة، والسادسة، والسابعة، وهي قوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [سورة الفاتحة آية: 6] إلى آخرها، تسأله تعالى أن يهديك إلى طريق الجنة، الذي لا اعوجاج فيه، الذي نصبه طريقا إليها، لا طريق لها إلا هو، وهو التوحيد والبراءة من الشرك وتوابعه، وذلك مع أداء الفرائض وترك المحارم. والسادسة، وهي قوله: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [سورة الفاتحة آية: 7] تبين أن الطريق الذي طلبت من مولاك أن يهديك إليه، هو طريق النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، الجامع لمعرفة الحق والعمل به. ثم تبين ذلك وتوضح بالآية السابعة {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [سورة الفاتحة آية: 7] : فالمغضوب عليهم، الذين وهبهم الله الفهم فعرفوا الحق من الباطل، لكن لم يعملوا، والضالون هم الذين عملوا وطلبوا الطريق، لكن بجهل. فإذا سلم العبد من آفة الجهل، وصار من أهل المعرفة ; ثم سلم من آفة الفسق وعمل بما أمره الله به، صار من الذين أنعم الله عليهم، من أهل الصراط المستقيم. وهذا الدعاء جامع لخيري الدنيا والآخرة ; أما جمعه لخير الآخرة فواضح. وأما جمعه لخير الدنيا، فلأن الله تعالى يقول: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [سورة الأعراف آية: 96] ، والإيمان والتقوى هو الصراط المستقيم، فقد أخبر أن ذلك سبب لفتح بركات السماء والأرض، هذا في الرزق. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 76 وأما في النصر، فقد قال تعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [سورة المنافقون آية: 8] فأخبر الله أن العزة تحصل بالإيمان وهو الصراط المستقيم، فإذا حصل العز والنصر، وحصل فتح بركات السماء والأرض، فهذا خير الدنيا، والله أعلم. [معنى أعوذ بالله من الشيطان الرجيم] وقال الشيخ: عبد الرحمن بن حسن، رحمه الله تعالى: بسم الله الرحمن الر حيم وبه نستعين. معنى: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم أي: أستجير بجناب الله من الشيطان أن يضرني في ديني أو دنياي ; أو يصدني عن فعل ما أمرت به، أو يحثني على فعل ما نهيت عنه. والاستعاذة هي الالتجاء إلى الله والالتصاق بجنابه من شر كل ذي شر؛ والعياذ يكون لدفع الشر، واللياذ لطلب الخير. و"الشيطان" في لغة العرب، مشتق من شطن إذا بعد، فهو بعيد بطبعه عن طباع البشر، وبعيد بفسقه عن كل خير. و "الرجيم" فعيل بمعنى مفعول، أي: بعد عن الخير كله. {بسم الله الرحمن الرحيم} فالمشروع ذكر اسم الله تبركا وتيمنا، واستعانة على الإتمام والتقبل. {اللَّهِ} علم على الرب تبارك وتعالى ; ويقال: إنه الجزء: 13 ¦ الصفحة: 77 الاسم الأعظم، لأنه يوصف بجميع الصفات. [جواب العلامة ابن القيم لقول من قال أن لفظ (الله) غير مشتق] قال العلامة ابن القيم - جوابا لقول من قال {الله} غير مشتق -: إن أريد بالاشتقاق أنه مشتق من أصل آخر، فهو باطل ; وإنما أرادوا أنه دال على صفة له تعالى، وهي الإلهية، كسائر أسمائه الحسنى، كالعليم والقدير؛ فإن هذه الأسماء مشتقة من مصادرها، فما كان جوابكم عن هذه الأسماء، فهو جواب القائلين باشتقاق اسم الله. ثم الجواب عن الجميع: أنا لا نعني أسماء الاشتقاق; لأنها ملاقية لمصادرها في اللفظ والمعنى، ولا أنها متولدة منها تولد الفرع من أصله، ولا محذور في اشتقاق أسماء الله تعالى بهذا المعنى. وقال الكسائي والفراء: أصله "الإله"، حذفوا الهمزة وأدغموا اللام في اللام، فصارتا في اللفظ لاما واحدة مشددة مفخمة، وهذا هو الذي ذكره أبو جعفر ابن جرير في تفسيره ; وهو قول سيبويه وأكثر أصحابه. وذكر ابن جرير قول ابن عباس في معنى هذا الاسم، الله ذو الألوهية والعبودية على خلقه أجمعين ; فإن قال لنا قائل: وما دل على أن الإلهية هي العبادة، وأن الإله هو المعبود، وأن له أصلا في "فعل" و "يفعل"، وذكر بيت رؤبة بن العجاج:. لله در الغانيات المدّه ... سبحن واسترجعن من تألُّه يعنى: من تعبد وطلب الله بعمل ; ولا شك أن التأله الجزء: 13 ¦ الصفحة: 78 التفعّل، من أله يأله، وقد جاء منه مصدر يدل على أن العرب قد نطقت منه بفعل يفعل بغير زيادة، وذلك ما حدثنا به سفيان عن وكيع، ساق السند إلى ابن عباس: "أنه قرأ: {وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ} [سورة الأعراف آية: 127] قال: عبادتك، ويقول: إنه كان يُعبد ولا يَعبد". {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [سورة الفاتحة آية: 2] اسمان مشتقان من الرحمة على وجه المبالغة، ورحمان أشد مبالغة من رحيم، وفي الأثر عن عيسى أنه قال: الرحمن رحمن الدنيا، والرحيم رحيم الآخرة. وقال ابن القيم: الرحمن دال على الصفة القائمة به ; والرحيم دال على تعلقها بالمرحوم ; فإذا أردت فهم هذا، فتأمل قوله: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً} [سورة الأحزاب آية: 43] ، {إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [سورة التوبة آية: 117] ، ولم يجئ رحمن بهم، فالرحمن اسمه ووصفه، فمن حيث هو صفة جرى تابعا لاسم الله، ومن حيث هو اسم، ورد في القرآن غير تابع، بل ورود الاسم العلم كقوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [سورة طه آية: 5] . انتهى ملخصا. {الْحَمْدُ لِلَّهِ} ومعناه: الثناء بالكلام على الجميل على وجه التعظيم، فمورده اللسان والقلب، والشكر يكون باللسان والجنان والأركان، فهو أعم من الحمد متعلقا وأخص سببا; لأنه يكون في مقابلة النعمة وغيرها، فبينهما عموم وخصوص الجزء: 13 ¦ الصفحة: 79 وجهي، يجتمعان في مادة ; وينفرد كل واحد عن الآخر في مادة. والألف واللام في الحمد لاستغراق أجناس الحمد وأفراده لله تعالى، فلا يصلح منه شيء لغير الله، كما قال تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [سورة النحل آية: 53] . والرب هو المالك المتصرف، ويطلق على السيد وعلى المعبود، كما قال تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} [سورة التوبة آية: 31] ، وكل ذلك صحيح. {الْعَالَمِينَ} : جمع عالم، وهو: كل موجود سوى الله تعالى ; والعوالم: أصناف المخلوقات في السماوات، وفي البر والبحر، وكل قرن وجيل يسمى عالما أيضا، والعالم مشتق من العلامة ; لأنه علم دال على وجود خالقه وصانعه، ووحدانيته، قال ابن المعتز: فيا عجبا كيف يعصى الإله ... أم كيف يجحده الجاحد وفي كل شيء له آية ... تدل على أنه واحد {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [سورة الفاتحة آية: 1] تقدم الكلام عليه في البسملة. {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [سورة الفاتحة آية: 4] قرأ بعض القراء: {ملك} وقرأ آخرون: {مَالِكِ} وكلاهما صحيح متواتر في السبع، وتخصيص الملك بيوم الدين لا ينفيه عما عداه; لأنه قد تقدم الإخبار بأنه رب العالمين ; وذلك عام في الدنيا والآخرة. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 80 وإنما أضيف إلى يوم الدين ; لأنه لا يدعي أحد هناك شيئا، فلا يتكلم أحد إلا بإذنه، كما قال تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفّاً لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ} [سورة النبأ آية: 38] الآية. و {يَوْمِ الدِّينِ} : يوم الحساب للخلائق، وهو يوم القيامة، يدينهم بأعمالهم، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، إلا من عفا عنه، قاله ابن عباس وغيره من الصحابة والتابعين والسلف ; والملك في الحقيقة هو لله تعالى، قال تعالى: {لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [سورة الطلاق آية: 12] ، {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [سورة البقرة آية: 107] ، {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [سورة الفاتحة آية: 5] : العبادة في الشرع عبارة عما يجمع كمال المحبة، وكمال الخضوع والخوف; قال شيخ الإسلام، رحمه الله: العبادة أن يوافق العبد ربه فيما يحبه ويرضاه، ويحب في الله ويبغض في الله. قال العماد ابن كثير: وقدم المفعول وهو إياك، وكرر للاهتمام والحصر، أي: لا نعبد إلا إياك، ولا نتوكل إلا عليك، وهذا كمال الطاعة ; والدين كله يرجع إلى هذين المعنيين. وهذا كما قال بعض السلف: الفاتحة سر القرآن، وسرها هذه الكلمة: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [سورة الفاتحة آية: 5] : فالأول تبرؤ من الشرك، والثاني تبرؤ من الحول والقوة؛ وهذا في غير آية الجزء: 13 ¦ الصفحة: 81 من القرآن، كما قال تعالى: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [سورة هود آية: 123] . وتحول الكلام من الغيبة إلى المواجهة بكاف الخطاب، وهو مناسب ; لأنه لما أثنى على الله تعالى فكأنه قرب وحضر بين يدي الله تعالى، فلهذا قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [سورة الفاتحة آية: 5] كما تقدم الثناء على المسؤول تبارك وتعالى، ناسب أن يعقب بالسؤال، كما قال: " فنصفها لي، ونصفها لعبدي، ولعبدي ما سأل " وهذا أكمل أحوال السائل: أن يمدح مسؤوله، ثم يسأله حاجته وحاجة إخوانه المؤمنين، بقوله: {اهْدِنَا} لأنه أنجح وأجمع للإجابة، ولهذا أرشد الله تعالى إليه; لأنه الأكمل ; والهداية ها هنا: الإرشاد والتوفيق. قال العلامة ابن القيم: وكذلك اشتدت حاجة العبد بل ضرورته إلى أن يسأل الله أن يهديه الصراط المستقيم، فليس العبد أحوج منه إلى هذه الدعوة، وليس شيء أنفع له منها، فإن الصراط المستقيم يتضمن علوما وإرادات وأعمالا، ومدارك ظاهرة وباطنة تجري عليه كل وقت. فتفاصيل الصراط المستقيم قد يعلمها العبد وقد لا يعلمها ; وقد يكون ما لا يعلمه أكثر مما يعلمه؛ وما يعلمه قد يقدر عليه وقد لا يقدر عليه، وهو من الصراط المستقيم وإن عجز عنه. وما يقدر عليه قد تريده نفسه وقد لا تريده، كسلا الجزء: 13 ¦ الصفحة: 82 وتهاونا، لقيام مانع وغير ذلك ; وما يريده قد يفعله وقد لا يفعله، وما يفعله قد يقوم فيه بشروط الإخلاص وقد لا يقوم فيه. وما يقوم فيه بشروط الإخلاص قد يقوم فيه بكمال المتابعة وقد لا يقوم، وما يقوم فيه بالمتابعة قد يثبت عليه وقد يصرف قلبه عنه؛ هذا كله واقع سار في الخلق فمستقل ومستكثر، ليس في طباع الخلق الهداية إلى ذلك، بل متى نظر إلى طباعه حيل بينه وبين ذلك كله. فالرب تبارك وتعالى على صراط مستقيم في قضائه وقدره، ونهيه وأمره; ونصب لعباده من أمره صراطا مستقيما، ودعاهم جميعا إليه حجة منه وعدلا، وهدى من شاء منهم إلى سلوكه نعمة منه وفضلا، ولم يخرج بهذا العدل وهذا الفضل عن صراطه المستقيم الذي هو عليه، ثم صرف عنه في الدنيا، وأقام عليه من أقامه في الدنيا. فإذا كان يوم القيامة نصب لخلقه صراطا مستقيما يوصلهم إلى جنته، وجعل نور المؤمنين به، وبرسوله وما جاء به، الذي كان في قلوبهم في الدنيا، نورا يسعى بين أيديهم وبأيمانهم في ظلمة الحشر، وحفظ عليهم الإيمان حتى لقوه ; وأطفأ نور المنافقين أحوج ما كانوا إليه في الدنيا، وأقام أعمال العصاة بجنبتي الصراط كلاليب وحسكا تخطفهم، كما خطفتهم في الدنيا عن الاستقامة عليه، وجعل الجزء: 13 ¦ الصفحة: 83 قوة سيرهم وسرعتهم على قدر قوة سيرهم وسرعتهم إليه في الدنيا. {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [سورة الفاتحة آية: 7] المنعم عليهم هم: كل من عرف الحق واتبعه، فهو منعم عليه، ومن لم يعرفه فهو ضال، ومن عرفه وآثر غيره فهو مغضوب عليه. ولهذا كان النصارى أخص بالضلال لأنهم أمة جهل، واليهود أخص بالغضب لأنهم أمة عناد، ومؤمنو هذه الأمة هم المنعم عليهم. وفي المسند والترمذي من حديث عدي بن حاتم، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " اليهود مغضوب عليهم، والنصارى ضالون " 1 وقال سفيان بن عيينة: من فسد من علمائنا ففيه شبه من اليهود، ومن فسد من عبادنا ففيه شبه من النصارى. وأما حقيقة الصراط المستقيم، فقال ابن القيم رحمه الله تعالى: ولنذكر في الصراط المستقيم قولا وجيزا، فإن الناس قد تنوعت عباراتهم عنه، بحسب صفاته ومتعلقاته ; وحقيقته شيء واحد، وهو طريق الله الذي نصبه لعباده موصلا إليه، ولا طريق لهم إليه سواه. بل الطرق كلها مسدودة على الخلق، إلا طريقه الذي نصبه على ألسن رسله، وجعله موصلا لعباده إليه ; وهو: إفراده بالعبودية، وإفراد رسوله بالطاعة، فلا يشرك به أحدا في عبوديته، ولا يشرك برسوله أحدا في طاعته.   1 الترمذي: تفسير القرآن (2954) ، وأحمد (4/378) . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 84 فيجرد التوحيد لله ; ويجرد متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم وهذا مضمون شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله. فأي شيء فسر به الصراط المستقيم، فهو داخل في هذين الأصلين. ونكتة ذلك: أن تحبه بقلبك، وترضيه بجهدك كله ; فلا يكون في قلبك موضع إلا معمورا بحبه، ولا يكون لك إرادة إلا متعلقة بمرضاته. فالأول: يحصل بتحقيق شهادة أن لا إله إلا الله ; والثاني: يحصل بتحقيق شهادة أن محمدا رسول الله ; وهذا هو الهدى ودين الحق، وهو معرفة الحق والعمل به، وهو معرفة ما بعث الله به رسله والقيام به، وقل ما شئت من العبارات التي هذا أحسنها وقطب رحاها، انتهى 1. وأما "آمين" فهي طابع الدعاء ومعناها: اللهم استجب ; وليست من الفاتحة، والله أعلم. وقد اشتملت هذه السورة الكريمة، وهي سبع آيات، على حمد الله وتمجيده، والثناء عليه، بذكر أسمائه الحسنى المستلزمة لصفاته العلى، وعلى ذكر المعاد وهو يوم الدين، وعلى إرشاد عباده إلى سؤاله والتضرع إليه، والتبري من حولهم وقوتهم، وإلى إخلاص العبادة له، وتوحيده بالإلهية، وتنْزيهه أن يكون له شريك، أو نظير أو مماثل،   1 من بدائع الفوائد صفحة 40، 41/ج/2 لابن القيم رحمه الله. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 85 وإلى سؤالهم إياه الهداية إلى الصراط المستقيم، وهو الدين القويم، وتثبيتهم عليه حتى يفضي بهم ذلك إلى جواز الصراط الحسي يوم القيامة، المفضي بهم إلى جنات النعيم، في جوار النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. واشتملت على الترغيب في الأعمال الصالحة ليكونوا مع أهلها يوم القيامة، والتحذير من مسالك الباطل لئلا يحشر مع سالكيها يوم القيامة، وهم المغضوب عليهم والضالون، والله أعلم. [التأمين بعد الفاتحة] سئل الشيخ: عبد الله بن الشيخ محمد، عن التأمين بعد الفاتحة؟ فأجاب: وأما التأمين بعد الفاتحة، فثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إذا قال الإمام {وَلا الضَّالِّينَ} 1 فقولوا: آمين، فإن الملائكة في السماء تقول: آمين، فمن وافق قوله قول الملائكة، غفر له ما تقدم من ذنبه " ويسن للإمام والمأمومين أن يقولوها جهرا.   1 البخاري: تفسير القرآن (4475) ، ومسلم: الصلاة (410) ، والترمذي: الصلاة (250) ، والنسائي: الافتتاح (927، 928، 929) ، وأبو داود: الصلاة (935، 936) ، وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (851) ، وأحمد (2/233، 2/270، 2/449، 2/459) ، ومالك: النداء للصلاة (195، 196، 197) ، والدارمي: الصلاة (1246) . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 86 سورة البقرة قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله. المستفاد من سورة البقرة. فيه مسائل: الأولى: {ذلك الكتاب} معنى هذا الرجل، ولا ينفي أن غيره ليس هو رجل، لكنه للكمال. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 86 الثانية: نفي الشك مثل القمر ليلة ثالثة. الثالثة: أن الهداية بالكتاب للمتقين خاصة. هذا فيه كشف شبهك الأولى: أن الذي لا يتبعه ليس هو من المتقين، فهذا يبين قول الشياطين 1: القرآن لا يفسر، وهذا الكتاب مثل المطر للأرض; فالأرض الطيبة تنتفع به، والأرض الخبيثة لا ينفعها. وذكر في التقوى ثلاث مراتب: الأولى: تجنب الشرك. الثانية: اجتناب المحرمات وأداء الفرائض. الثالثة: لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به، حذرا مما به البأس ; قال قتادة: هم الذين نعتهم الله، بقوله: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [سورة البقرة آية: 3] الآية والتي بعدها، وقوله: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [سورة البقرة آية: 3] فيه خمس عبارات ; فعن أبي العالية: يؤمنون بالله إلخ. الثانية: غيب القرآن مثل قوله: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً} [سورة الطلاق آية: 2] ، وكقوله: {وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [سورة الصافات آية: 173] ، وهذا شيء يذكره الله تعالى، وأسبابه مختلفة، ويقع مثل ما ذكره الله ; وتعرفها بمبدأ حال النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ; وما وقع في هذا الزمان. الثالثة: ما أتى عن الله، وهو الوحيان. 2   1 المراد شياطين الإنس، طوائف ممن يدعي العلم. 2 الوحيان هما: الكتاب والسنة، وقد اختلف العلماء في السنة، هل جميعها وحي أم لا؟. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 87 الرابعة: بغيب الإسلام احتراز عن كلام أهل الكتاب، لا تجعله مثل شرع الرسول، وما ذكر في الجبت والطاغوت، فهو من باب أولى. الخامسة: الإيمان بالقدر ; وكل هذا من الإيمان بالغيب، والإيمان به واجب {وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} : عامة لجميع النفقات، لكن أعلاها الزكاة، وذكر أن وزنة 1 من الزكاة خير من أربعين غيرها. {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} [سورة البقرة آية: 3] إلخ، وهذا من عطف الخاص على العام ; وهو نوعان: الأول: كونه منهم. الثانية: خوف الزلق، والزلق: أن ترد شيئا مما أنزل على الأنبياء المتقدمين، أو شيئا من الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم إذا لم يكن على هواك، خصوصا إذا كان لك منازع وبان الحق مع خصمك. فالإيمان: أنك تصرح بالإذعان والانقياد، وهذا واقع {وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [سورة البقرة آية: 4] والإيقان بالآخرة، يستلزم الاستعداد لها بالأعمال {أُولَئِكَ} يعني المتصفين بما تقدم {عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [سورة البقرة آية: 5] علق الهداية والفلاح، بالاتصاف بما تقدم. وقال رحمه الله تعالى: قال شيخ الإسلام رحمه الله   1 الوزنة: عيار للوزن، معروف في نجد، يساوي أقة وخمسا تقريبا. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 88 تعالى، في تفسير آيات أشكلت، حتى لا يوجد في طائفة من كتب التفسير، إلا ما هو خطأ، منها قوله تعالى: {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ} [سورة البقرة آية: 81] الآية ; ذكر: أن المشهور أن السيئة: الشرك ; وقيل: الكبيرة يموت عليها، قاله عكرمة ; وقال مجاهد: هي الذنوب تحيط بالقلب. قلت: الصواب: ذكر أقوال السلف، وإن كان فيها ضعيف، فالحجة تبين ضعفه، فلا يعدل عن ذكر أقوالهم لموافقتها قول طائفة من المبتدعة، وهم ينقلون عن بعض السلف أن هذه الآية أخطأ فيها الكاتب، كما قيل في غيرها. ومن أنكر شيئا من القرآن بعد تواتره استتيب، فإن تاب وإلا قتل، وأما قبل تواتره عنده فلا يستتاب، لكن يبين له؛ وكذلك الأقوال التي جاءت الأحاديث بخلافها، فقها وتصوفا واعتقادا، وغير ذلك. وقول مجاهد في الآية صحيح، كما في الحديث الصحيح: " إذا أذنب العبد نكت في قلبه نكتة سوداء " 1 إلى آخره، والذي يغشى القلب يسمى: رينا وطبعا وختما وقفلا ونحو ذلك، فهذا ما أصر عليه. وإحاطة الخطيئة إحداقها به، فلا يمكنه الخروج، وهذا هو البسل بما كسبت نفسه، أي تحبس عما فيه نجاتها في الدارين، فإن المعاصي قيد وحبس لصاحبها عن الجولان في فضاء التوحيد، وعن جني ثمار الأعمال الصالحة.   1 الترمذي: تفسير القرآن (3334) ، وابن ماجه: الزهد (4244) ، وأحمد (2/297) . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 89 ومن المنتسبين إلى السنة، من يقول: إن صاحب الكبيرة يعذب مطلقا ; والأكثرون على خلافه، وأن الله سبحانه يزن الحسنات والسيئات ; وعلى هذا دل الكتاب والسنة، وهو معنى الوزن، لكن تفسير السيئة بالشرك هو الأظهر ; لأنه سبحانه غاير بين المكسوب والمحيط، فلو كانا واحدا لم يغاير، والمشرك له خطايا غير الشرك أحاطت به ; لأنه لم يتب منها. وأيضا، قوله: {سَيِّئَةً} نكرة، وليس المراد جنس السيئات بالاتفاق، وأيضا: لفظ السيئة، قد جاء في غير موضع مرادا به الشرك، وقوله: {سَيِّئَةً} أي: حالا سيئة ; أو مكانة سيئة ونحو ذلك، كما في قوله: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً} [سورة البقرة آية: 201] أي: حالا حسنة تعم الخير كله، وهذا اللفظ يكون صفة، وقد ينقل من الوصفية إلى الاسمية، ويستعمل لازما ومتعديا، يقال: ساء هذا الأمر، أي: قبح ; ويقال: ساءني هذا. قال ابن عباس، في قوله: {وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا} [سورة يونس آية: 27] أي: "عملوا الشرك; لأنه وصفهم بهذا فقط، ولو آمنوا لكان لهم حسنات وسيئات"، وكذا لما قال: {كَسَبَ سَيِّئَةً} لم يذكر حسنة. وقوله: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى} [سورة يونس آية: 26] أي فعلوا الحسن، وهو ما أمر به، كذلك السيئة تتناول المحظور، فيدخل فيها الشرك. ومنها قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا} [سورة البقرة آية: 62] الآية. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 90 يبين سبحانه وصف أهل السعادة من الأولين والآخرين، وهو الذي يدل عليه اللفظ ويعرف به معناه من غير تناقض، ومناسبة لما قبلها وما بعدها، وهو المعروف عن السلف. ويدل عليه ما ذكروه من سبب نزولها بالأسانيد الثابتة، عن سفيان عن ابن أبي نجيح عن مجاهد، قال سلمان: "سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن أهل دين كنت معهم، فذكر من عبادتهم، فنَزلت الآية ولم يذكر فيه أنهم من أهل النار"، كما روي بأسانيد ضعيفة، وهذا هو الصحيح كما في مسلم: " إلا بقايا من أهل الكتاب " 1. والنبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يجيب بما لا علم عنده، وقد ثبت أنه أثنى على من مات في زمن الفترة، كزيد بن عمرو، وغيره، ولم يذكر ابن أبي حاتم خلافا عن السلف، لكن ذكر عن ابن عباس، ثم أنزل الله: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً} [سورة آل عمران آية: 85] الآية، ومراده: أن الله يبين أنه لا يقبل إلا الإسلام من الأولين والآخرين ; وكثير من السلف، يريد بلفظ النسخ: رفع ما يظن أن الآية دالة عليه. فإن من المعلوم أن من كذب رسولا واحدا فهو كافر، فلا يتناوله قوله: {مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} [سورة البقرة آية: 62] الآية. وظن بعض الناس أن الآية في من بعث إليهم محمد خاصة، فغلطوا، ثم افترقوا على أقوال متناقضة، اهـ.   1 مسلم: الجنة وصفة نعيمها وأهلها (2865) ، وأحمد (4/162) . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 91 [ذكر المسائل المستنبطة من قوله تعالى {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} ] وقال أيضا الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى: قوله تعالى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} [سورة البقرة آية: 102] إلى قوله: {أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [سورة البقرة آية: 102] فيه مسائل. الأولى: كون أناس من أهل الكتاب إذا وقعت المسألة وأرادوا إقامة الدليل عليها، تركوا كتاب الله كأنهم لا يعلمون، واحتجوا بما في الكتب الباطلة. الثانية: أن من العجب احتجاجهم بذلك على رسول من الرسل. الثالثة: أن الكلام يدل على أنهم يعلمون، لقوله: {كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [سورة البقرة آية: 101] . الرابعة: أن المسائل الباطلة قد تنسب إلى الأنبياء كذبا عليهم. الخامسة: أن الكتب الباطلة قد تضاف إلى بعض الصديقين. السادسة: أن ذلك مما تتلو الشياطين على زمان الأنبياء، كما وقع أشياء في زمن النبي صلى الله عليه وسلم. السابعة: أن الشياطين مزجت به الحق في زمن سليمان. الثامنة: بيان ضلال من ضل ممن يدعي العلم في شأن سليمان، ممن نسب ذلك إليه واستحسنه ; أو قدح في سليمان، كما ضل أناس كثير في علي لما قتل عثمان. التاسعة: أن من فعل السحر كفر، ولو عرف أنه باطل. العاشرة: أن الشياطين يعلمونه الناس. الحادية الجزء: 13 ¦ الصفحة: 92 عشر: أن العبد لو بلغ ما بلغ في العلم والعمل، فلا يأمن مكر الله. الثانية عشر: لا ينبغي له التعرض للفتن وثوقا بنفسه ; بل يسأل الله العافية. الثالثة عشر: سعة علم الله ومغفرته ورحمته. الرابعة عشر: يجعل بعض نظره إلى القضاء والقدر. الخامسة عشر: أن النساء من أكبر الفتن. السادسة عشر: أن طاعة الهوى جماع الشر، كما أن مخالفته جماع الخير. السابعة عشر: أن الشرك أكبر مما يخطر بالبال. الثامنة عشر: أن التلفظ بالشرك بكلمة واحدة، لا يشترط في كفر من تكلم بها عقيدة القلب، ولا عدم الكراهة للشرك. التاسعة عشر: أن المتكلم لا يعذر، ولو أراد أن يقضي به غرضا مهما. العشرون: أن قتل النفس أعظم من الزنا. الحادية والعشرون: أن المعاصي بريد الكفر. الثانية والعشرون: أن بعضها يجر إلى بعض. الثالثة والعشرون: أن عقوبة المعصية قد تكون أكبر مما يظن العالم. الرابعة والعشرون: أن قبول التوبة بلا عذاب لا يحصل لكل أحد، بل هو فضل من الله. الخامسة والعشرون: أن من النعم تعذيب العبد بذنبه في الدنيا. السادسة والعشرون: حسن الظن بالله. السابعة والعشرون: القاعدة التي هي خاصية العقل، وهو ارتكاب أدنى الشرين لدفع أعلاهما، وتفويت أدنى الجزء: 13 ¦ الصفحة: 93 الخيرين لتحصيل أعلاهما. الثامنة والعشرون: أن السحر نوعان. التاسعة والعشرون: أن له تأثيرا، لقوله: {يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} [سورة البقرة آية: 102] . الثلاثون: الإرشاد إلى التوكل، بكونه لا يضر أحدا إلا بإذن الله. الحادية والثلاثون: أن في من يدعي العلم من اختار كتب السحر على كتاب الله. الثانية والثلاثون: أنهم يعارضون به كتاب الله. الثالثة والثلاثون: أن اتباع كتاب غير كتاب الله ضلال. الرابعة والثلاثون: لا تأمن الكتب، ولا ممن ينتسب إلى العلم على دينك. الخامسة والثلاثون: أن فساد العلماء يفسد الرعية. السادسة والثلاثون: أن السحر وقع في زمن خلافة النبوة، حتى إن عمر وغيره أمر بقتل الساحر ولم يستتبه، كما استتاب المرتد. السابعة والثلاثون: أن الحسد سبب لرد كتاب الله. الثامنة والثلاثون: أن الحاسد قد يبغض الناصح، ويسعى في قتله. التاسعة والثلاثون: أن الحسد يحمله على رد حظه من الله في الدنيا والآخرة. الأربعون: أنه من أخلاق اليهود. الحادية والأربعون: أن المحسود يرفعه الله على الحاسد. الثانية والأربعون: أن بالطاعة خير الدنيا والآخرة، وبالمعصية العكس. الثالثة والأربعون: أن في من ينتسب إلى العلم من يختار الكفر على الإيمان، مع علمه أن من اختاره لا حظ له الجزء: 13 ¦ الصفحة: 94 في الآخرة. الرابعة والأربعون: أن الإنسان يجتمع فيه الضدان، يعلم ولا يعمل. الخامسة والأربعون: بيان غبنهم، والتسجيل على فرط جهلهم في هذا الشرط. السادسة والأربعون: أن السبب في هذا الشرك، اشتراء شيء خسيس تافه من الدنيا. السابعة والأربعون: أنهم لمحبتهم ما هم عليه من الجاهلية وغرامهم به، نبذوا كتاب الله الذي عندهم وراء ظهورهم، كأنهم لا يعرفونه. الثامنة والأربعون: أن الذي حملهم على هذه العظائم، أنه أتاهم أمر من الله موافق لدينهم، لكن مخالف لعادتهم الجاهلية. التاسعة والأربعون: الفرق بين المعجزات والكرامات ; وبين ما يفعله الشياطين تشبها بذلك وتشبيها. الخمسون: التنبيه على قول الصحابي: "أو يأتي الخير بالشر؟ ?" وجوابه صلى الله عليه وسلم. الحادية والخمسون: أنه لا ينبغي للإنسان أن ينكر ما لم يحط به علمه، فقد ضل بالتكذيب بهذه القصة فئام من الناس، لظنهم أنها تخالف ما علموه من الحق ; وتكلم بسببها ناس في نبي الله سليمان بن داود عليه السلام. [ذكر المسائل المستنبطة من قوله تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ} ] وقوله تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 95 مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [سورة البقرة آية: 109] . فيه مسائل: الأولى: كون أناس ينتسبون إلى العلم والدين يجري منهم هذا عمدا، جراءة على الله، وما أكثر من ينكر هذا. الثانية: التنبيه على كثرة هذا الصنف. الثالثة: كون المنتسب إلى العلم يتمنى إضلال غيره إذا عجز عنه. الرابعة: أن سبب هذا الأمر الغريب هو الحسد، لا خوف مضرة ولا طلب مصلحة. الخامسة: أن المنتسب إلى العقل والعلم قد يسعى فيما يعلم أنه مصلحة لدنياه ليزيله، وفيما يعلم أنه مضرة لدنياه ليأتي به ; فإنهم يعلمون أن زوال المفاسد، وحصول المصالح في هذا الدين، وكانوا يستفتحون به قبل مجيئه على من ظلمهم ; فلما جاءهم حملهم الحسد على ما ذكر. السادسة: أن الحسد قد يكون سببا للكفر، كما وقع لهؤلاء ولإبليس. السابعة: ذكر العفو الذي هو من أسباب العز وقهر الخصم، كما ورد في الحديث. الثامنة: الرفق في الأمر وفعله بالتدريج، كما فعل عمر بن عبد العزيز. التاسعة: أنه سبحانه يمهل ولا يهمل. العاشرة: الإشعار بالنسخ قبل وقوعه. الحادية عشر: تسلية المظلوم المحسود. الثانية عشر: التنبيه على العلة. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 96 الثالثة عشر: أن الظالم الحاسد يذله الله، كما جرى لهؤلاء إلى يوم القيامة. وقوله: {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [سورة البقرة آية: 109] فيه: الرابعة عشر: وهي الاستدلال بالصفات على الأفعال. والخامسة عشر: وهي الاستدلال بالقدرة على ما لا يظن وقوعه. والسادسة عشر: وهي الاستدلال بها على جعل العفو سببا لعز العافي، وذلة المعفو عنه، عكس ما يظن الأكثر. وأما الاستدلال بها على ما كذب به الجهال استبعادا، مثل عذاب القبر وغيره، أو مثل الصراط والميزان وغيرهما، أو ما يجري في الدنيا من تبديل الأحوال من الغنى إلى الفقر وضده ; ومن الذل إلى العز وضده ; فأكثر من أن يحصر، ولكن من أحسن ما فيها المسألة: السابعة عشر: وهي: تنبيه أعلم الناس على أشكل المسائل، بقوله: {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [سورة البقرة آية: 109] . والله سبحانه وتعالى أعلم ; وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا، كلما ذكره الذاكرون وغفل عن ذكره الغافلون. [ذكر المسائل المستنبطة من قوله تعالى: {قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ} ] وقال: ذكر بعض ما في قوله تعالى: {قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ} [سورة البقرة آية: 139] إلى قوله: {يَعْلَمُونَ} من بيان الحق وإبطال الباطل. الأولى: إذا كانت المحاجة في الله سبحانه من أقرب ما يكون إليه من المختلفين في مسألة التوحيد، وبيان ذلك الجزء: 13 ¦ الصفحة: 97 بمعرفة الله تعالى فيما اجتمعنا وإياكم عليه، ومعرفة حالنا وحالكم في المسألة. وذلك أنا مجمعون على استوائنا وإياكم في العبودية، بخلاف ملوك الدنيا، فإن بعض الناس يكون أقرب إليهم من بعض بالقرابة وغيرها. ونحن مجمعون أيضا أنه لا يظلم أحدا من عبيده، بل كل نفس {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [سورة البقرة آية: 286] بخلاف ملوك الدنيا فإنهم يأخذون مال هذا ويعطونه هذا. فإذا كان الأمر كذلك، فكيف تدعون أنكم أولى بالله منا، ونحن له مخلصون وأنتم به مشركون؟ وكيف يظن به أنه يساوي بين من قصده وحده لا شريك له، ومن قصد غيره وأعرض عنه؟ وهل يظن عاقل أو سفيه برجل من بني آدم - خصوصا إذا كان كريما - أن من قصده وضاف عنده يكرهه ولا يضيفه، ويخص بالرضى والكرامة والضيافة من أعرض عنه وضاف عند غيره، مع استواء الجميع في القرب منه والبعد؟ هذا لا يظن في الآدمي، فكيف يظن برب العالمين؟! فتبين بقضية العقل أن ما جاءت به الرسل من الإخلاص هو الموافق للعقل، وما فعل المشركون هو العجاب المخالف للعقل، فيا لها من حجة ما أعظمها وأبينها! لكن لمن فهمها كما ينبغي. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 98 [ذكر بعض ما في قوله تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} ] وقال الشيخ رحمه الله: ذكر بعض ما في قوله تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} [سورة البقرة آية: 124] إلى الجزء. ففي الآية الأولى مسائل: الأولى: معرفة أنه تعالى حكيم لا يضع الأشياء إلا في مواضعها; لأنه ما جعله إماما إلا بعد ما أتم ما ابتلاه به; وسئل بعضهم: أيما الابتلاء أو التمكين؟ فقال: الابتلاء ثم التمكين. الثانية: إذا كان يبتلي الأنبياء هل يفعلونه أم لا، فكيف بغيرهم؟ الثالثة: الثناء على إبراهيم بأنه أتم الكلمات التي ابتلاه بها ; وقيل: إن الله لم يبتل أحدا بهذا الدين فأتمه إلا إبراهيم، ولهذا قال: {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} [سورة النجم آية: 37] . الرابعة: أنه سبحانه جازاه على ذلك بأمور: منها: أنه جعله للناس إماما ; ولما علم - عليه السلام - كبر هذه العطية، سألها للذرية: وهي الخامسة. السادسة: أن الله أجابه أن هذه المرتبة لا ينالها ظالم، ولو من ذرية الأنبياء. السابعة: أن هذا يدل على أن الإمامة في الدين تحصل لغير الظالم، فليست بمختصة. الثامنة: معرفة قدر هذه المرتبة التي أكرم بها، وهي: الإمامة في الدين. وأما الآية الثانية، ففيها مسائل: الأولى: كونه سبحانه جعل البيت الذي بناه إبراهيم مثابة، مع المشاق العظيمة، وذلك من الآيات. الثانية: أنه الجزء: 13 ¦ الصفحة: 99 جعله أمنا عند الكفار، وذلك من أعجب الآيات. الثالثة: أمره أن يتخذ من مقام إبراهيم مصلى، وهذا من الخصائص، فيتفطن المؤمن لشبهة المبتدعة; لأنه لا يجوز أن يتخذ من مقام غيره مصلى. الرابعة: أن فيها الرد على أهل الكتاب الذين لا يعظمونه، مع ما فيه من الآيات، ومع ما عندهم من العلم بذلك. وقال أيضا في قوله: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} [سورة البقرة آية: 124] : فإن الكلمات تطلق ويراد بها الكلمات القدرية، كقوله: {وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ} [سورة التحريم آية: 12] ، وتطلق ويراد بها الشرعية، كقوله: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} [سورة البقرة آية: 124] . قال: وأما الآية الثالثة، ففيها مسائل: الأولى: ذكره أنه عهد إلى إبراهيم وإسماعيل أن يطهراه لهذه الطائفة، ولذلك أنزل الله {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} [سورة التوبة آية: 28] الثانية: أن فيها الرد على أهل الكتاب والمشركين. الثالثة: العجب العجاب معاكستهم هذا الأمر، فلا يردون عنه إلا الطائفة المأمور بتطهيره لهم. الرابعة. أنه نعتهم بالطواف والركوع والسجود والعكوف، فدل على أن نفس العكوف فيه عبادة. الخامسة: أن التقدم عند الله بالأعمال الصالحة لا بالنسب، فأمره بتطهيره الجزء: 13 ¦ الصفحة: 100 لهم وإن لم يكونوا من ذريته، وأمره بطرد ذريته عنه إذا لم يكونوا كذلك. وقال أيضا: قال ابن أبي حاتم: وروي عن عبيد بن عمير، وأبي العالية ومجاهد وقتادة: {أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ} [سورة البقرة آية: 125] : لاقوا بلا إله إلا الله من أشرك. وأما الآية الرابعة، ففيها مسائل: الأولى: دعوة إبراهيم أن يجعله آمنا، ولا يناقض تحريمه يوم خلق الله السماوات والأرض. الثانية: دعوة إبراهيم للبلد وأهله بالأمن والرزق. الثالثة: الآية العظيمة في إجابة هذه الدعوة. الرابعة: تخصيصه بها من آمن بالله واليوم الآخر. الخامسة: قوله: {وَمَنْ كَفَرَ} ، فلما دعا بأمر الدين منع الله الظالم من ذريته، ولما خص بالأمر الآخر من آمن قال الله: {وَمَنْ كَفَرَ} ، وذلك للفرق بين الدارين. السادسة: أنه لما أخبر أن ذلك للمؤمن وغيره، فقد يتوهم منه كرامة الجميع، فأخبر أنه لو عم العاصي فيه بالأمن والرزق فإنه يضطره إلى عذاب النار. السابعة: أن المجاورة عنده كما أنها تنفع المطيع، فهي تضر العاصي، لقوله: {ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ} [سورة البقرة آية: 126] ، ولذلك انتقل ابن عباس منها إلى الطائف. وأما الآية الخامسة، ففيها مسائل: الجزء: 13 ¦ الصفحة: 101 الأولى: التصريح بأن الاثنين بنياه. الثانية: جلال الله وعظمته في قلوب الذين يعرفونه لدعوتهما بالقبول، وكان بعض السلف لما قرأها جعل يبكي، ويقول: ما بال خليل الله يرفع قواعد بيت الله، ويخاف أن لا يقبله؟ الثالثة: توسلهما بالصفات. الرابعة: طلبهما أن يرزقهما الله الإسلام، وهما هما ; والغفلة عن هذه الكلمة من العجائب. الخامسة: إشراكهما في الدعوة بعض الذرية، ففيها رغوب المؤمن وحرصه على صلاح ذريته. السادسة: طلبهما أن يعلمهما المناسك، ففيها حرصهما على العمل بالنص مع عصمتهما. السابعة: طلبهما أن يتوب عليهما وهما هما ; ففيها خوفهما من الذنوب. الثامنة: التوسل بالصفات. التاسعة: التعليل بكونه (التواب الرحيم) ولولا ذلك لاستحقا العقوبة. العاشرة: الرد على المشركين وأهل الكتاب. الحادية عشر: أن دعوتهما بهذه النعمة التي هي أعظم النعم للذرية، جعلها الذرية من أعظم المصائب. وأما الآية السادسة، ففيها مسائل: الأولى: دعوتهما للذرية ببعثة الرسول، فكانت عندهم أعظم البلاء مع دعواهم أنهم على ملتهما. الثانية: أنهما أرادا بذلك أن يعلمهم الكتاب والحكمة، ويتلو عليهم الآيات ويزكيهم ; قيل: إن استماع التلاوة والتزكي بها فرض عين ; الجزء: 13 ¦ الصفحة: 102 وأما الكتاب والحكمة ففرض كفاية. الثالثة: أن نسبة الزكاة إلى السبب لا بأس بها، مع أن المزكي في الحقيقة هو الله وحده. الرابعة. التوسل بالصفات. وأما الآية السابعة، فهي من جوامع الكلم، وأظهر البراهين، فنذكر شيئا من ذلك: الأولى: أنه بين أن ملة إبراهيم هي الإسلام، ومنه تعظيم البيت وحجه ; ومع إقرار علماء أهل الكتاب بذلك يرغبون عنه ; وهذه مسألة مهمة، يدل عليه، قوله: " ومن رغب عن سنتي فليس مني " 1. الثانية: أن أكثر الناس رغبوا عن اسم الإسلام، وعندهم لا فضيلة فيه، ولا بد عندهم من نسبة دين خاصة. الثالثة: أعجب من ذلك أنهم لا يعرفون معنى الإسلام، وعندهم لا فضيلة فيه؛ بل هذا عندهم صورة لا معنى لها. الرابعة: أعجب من الجميع أنهم إذا بين لهم معناه اشتد إنكارهم لذلك، مع قراءة هذه الآية وأمثالها. الخامسة: التي سبق الكلام لأجلها أنك إذا عرفت ملته فالواجب الاتباع، لا مجرد الإقرار مع الرغوب عنها. السادسة: أن من فعل ذلك لم يضر إلا نفسه. السابعة: أن ذلك في غاية الجهل والسفه الواضح، مع ادعائهم الكمال في العلم، كيف يطلب أفضل من طريقه، والله سبحانه هو الذي اصطفاه، ووعده في الآخرة ما وعده بسبب طريقه؟!   1 البخاري: النكاح (5063) ، ومسلم: النكاح (1401) ، والنسائي: النكاح (3217) ، وأحمد (3/241، 3/259، 3/285) . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 103 وأما الآية الثامنة، ففيها مسائل: الأولى: أن مسألة الإسلام، الذي هو سبب الكلام والخصومة، أن الله سبحانه هو الذي أمره بذلك. الثانية: أنه استجاب لله فيما أمره، فقال: {أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [سورة البقرة آية: 131] . الثالثة: وصفه ربه سبحانه بما يوضح المسألة، وهو الربوبية للعالم كله، فانظر رحمك الله تعالى إلى هذا التقرير والثناء، والتوضيح للإسلام، مع حقارته وإنكاره عند من يقرأ هذه الآيات وما بعدها. وأما الآية التاسعة: ففيها العجب العجاب: الأولى: أن الله سبحانه ذكر أن إبراهيم وصى بالإسلام ابنيه وهما هما. الثانية: أن يعقوب وصى بها بنيه وهم هم. الثالثة: تحريضه الذرية على ذلك، بأن الله الذي اختاره لهم، فلا ترغبوا عن اختيار الله. الرابعة: أنه مع هذا التقرير الواضح عند من يدعي كمال العلم ويدعي اتباع الملة، أحقر الطرائق ولا مدح فيه، ولا يصير من المسكوت عنه إلا من رغب عنه إلى اسم غيره، وإلا من اقتصر عليه اتخذوه هزوا، فاعتقدوا غاية جهله، بل أفتوا بكفره وقتله. والخامسة: قوله: {فَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [سورة البقرة آية: 132] فحرضهم على لزوم ذلك إلى الممات، وعدم الزيادة عليه، لما في طبع الإنسان من طلب الزيادة، خصوصا مع طول الأمل. وأما الآية العاشرة: ففيها مسائل: الجزء: 13 ¦ الصفحة: 104 الأولى: وصية يعقوب عند الموت، ولم يكتف بما تقدم. الثانية: لبنيه وهم هم. الثالثة: أنه لشدة التحريض وكبر الأمر عنده، أخرجه مخرج السؤال. الرابعة: أنه قال: {من بعدي} لأن الغالب أن الأتباع بعد موت كبيرهم ينقصون. الخامسة: جوابهم له {نَعْبُدُ إِلَهَكَ} الآية، لأن في هذا معنى الحجة، وظهور الأمر أن من اتبع الصالحين يسلك طريقهم ; وأما كونه يترك طريقهم بزعمه أنه اتباع لهم، فهذا خلاف العقل. السادسة: قولهم: {إِلَهًا وَاحِدًا} يعنون للخلائق كلهم، لكن متبع مهتد وضال. السابعة: إخباره لهم بلزومهم الإسلام بعد موته. الثامنة: ذكرهم له أن ذلك الإسلام لله وحده لا شريك له، ليس لك ولا لآبائك منه شيء. التاسعة: أن العم أب; لأن إسماعيل عمه، لكن مع التغليب. العاشرة: أن ذلك من أوضح الحجج على ذريتهم، مع إقرارهم بذلك، ومع هذا يزعمون أنهم على ملتهم، مع تركها وشدة العداوة لمن اتبعها. الحادية عشر: أن فيها ردا عليهم في المسألة الخاصة، وهي: اتخاذ الأحبار والرهبان أربابا. وأما الآية الحادية عشر: ففيها مسائل: الأولى: المسألة التي ضل بها كثير، وهي: ظنهم أن صلاح آبائهم ينفعهم. الثانية: البيان أن الذي ينفع الإنسان الجزء: 13 ¦ الصفحة: 105 عمله. الثالثة: أن الذي يضره عمله، ولا يضره معصية أبيه وابنه. وأما الآية الثانية عشر: ففيها مسائل، وهي من جوامع الكلم أيضا: الأولى: أن من دعا إلى أي ملة كانت، وهي من الملل الممدوحة السالم أهلها، قيل له: بل ملة إبراهيم؛ لأنها إن كانت باطلة فواضح، وإن كانت صحيحة فملة إبراهيم أفضل، كما قال صلى الله عليه وسلم:" أحب الأديان إلى الله الحنيفية السمحة ". الثانية: وهي مما ينبغي التفطن لها، أنه سبحانه وصفها بأن إبراهيم حنيفا بريئا من المشركين، وذلك لأن كلا يدعيها، فمن صدق قوله بالفعل، وإلا فهو كاذب. الثالثة: أن الحنيف معناه: المائل عن كل دين سوى دين الإسلام لله. الرابعة: أن من الناس من يدعي أنه لا يشرك، وأنه مخلص، ولكن لا يتبرأ من المشركين؛ وملة إبراهيم الجمع بين النوعين. وأما الآية الثالثة عشر: ففيها مسائل: الأولى: أمر الله سبحانه، أن نقول ما ذكر في الآية، وليس هذا إظهار العمل الذي إخفاؤه أفضل. الثانية: الإيمان بجميع المنزل. الثالثة: عدم التفريق بينهم. الرابعة: التصريح بالإسلام. الخامسة: التصريح بإخلاص ذلك لله، وليس هذا من الثناء على النفس ; بل من بيان الدين الذي أنت الجزء: 13 ¦ الصفحة: 106 عليه، ولهذا قال بعض السلف: ينبغي لكل أحد أن يعلم هذه الآية أهل بيته وخدمه. وأما الآية الرابعةعشر: ففيها مسائل:. الأولى: قوله: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا} [سورة البقرة آية: 137] فيها التصريح أن الإيمان هو العمل. الثانية: أن هذا الكلام في غاية إنصاف الخصم. الثالثة: أن الذي لا ينقاد له، ليس داؤه داء جهالة بل مشاقّة. الرابعة: أنك إذا أنصفته وأصر فهو سبب الانتقام لله منه. الخامسة: الاستدلال بالصفات. وأما الآية الخامسة عشر: ففيها مسائل:. الأولى: قوله: {صِبْغَةَ اللَّهِ} أي: دين الله، فدل على أن ذلك هو العمل. الثانية: الدلالة الواضحة، وهو أنه لا أحسن من الدين الذي تولى الله بيانه والأمر به. الثالثة: أنكم أيها الخصوم إن افتخرتم بإسلامكم للأنبياء والصالحين، فإسلامنا لله وحده ; ومعنى ذلك: لزوم هذا الدين الذي تولى الله بيانه. وأما الآية السادسةعشر: ففيها مسائل: الأولى: أمر الله لنا أن نحاجهم بهذه الحجة القاطعة، فإذا كان الله رب الجميع، وأيضا أنه بإقراركم أنه عدل لا يظلم، بل كل عامل فعمله له، وافترقنا في كوننا قاصدينه مخلصين له الدين، وأنتم قصدتم غيره ; فكيف يساوي بيننا وبينكم، أو يخص بكرامته من أعرض عنه دون من قصده؟ هذا لا يدخل عقل عاقل. الثانية: أن الخصوم محاجتهم في الله لا الجزء: 13 ¦ الصفحة: 107 في غيره، مع فعلهم هذا في هذه الخصومة. وأما الآية السابعة عشر: ففيها مسائل: الأولى: إن كانت الخصومة في الصالحين، ودعواهم أنهم على طريقهم، فهم لا يقدرون أن يدعوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه على طريقتهم ; بل يصرحون أنهم على غيرها، ولكن يعتذرون أنهم لا يقدرون عليها، فكيف هذا التناقض؟! يدعون أنهم تابعوهم مع تحريمهم اتباعهم، وزعمهم أن أحدا لا يقدر عليه. الثانية: قوله: {أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ} [سورة البقرة آية: 140] فهذه لا يقدر أحد أن يعارضها، فإذا سلمها وسلم لك أن العلم الذي أنزله الله، ليس هو لعدم القدرة، فهذا الذي عليه غيره، وهذا إلزام لا محيد عنه. الثالثة: أن منهم من يعرف الحق ويكتمه خوفا من الناس، مع كونه لا ينكره، فلا أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله، فكيف بمن جمع مع الكتمان دفعها وسبها وتكفير من آمن بها. الرابعة: الوعيد بقوله: {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [سورة البقرة آية: 74] . والله أعلم. [ما يستفاد من قوله تعالى: {أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ} ] وقال أيضا رحمه الله تعالى: وأما قوله: {أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ} [سورة البقرة آية: 140] الآية فهذه حجة أخرى ; وبيانها: أنا إذا أجمعنا على الإمام والأئمة أنهم ومن الجزء: 13 ¦ الصفحة: 108 اتبعهم على الحق، ومن خالفهم فهو على الباطل، فهذه أيضا مثل التي قبلها. فإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه والأئمة بعدهم قد أجمعنا أنهم ومن اتبعهم على الحق، ومن خالفهم فهو على الباطل ; فنقول: هذه المسألة التي اختلفنا وإياكم فيها، هل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه على قولنا أو على قولكم؟ . فإذا أقروا أن دعاء أهل القبور، والبناء عليها، وجعل الأوقاف والسدنة عليها، من دين الجاهلية، فلما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك كله، وهدم البناء الذي جعلته الجاهلية على القبور، ونهى عن دعاء الصالحين، وعن التعلق عليهم، وأمر بإخلاص الدعوة لله وأمر بإخلاص الاستعانة لله. وبلغنا عن الله أنه يقول: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} [سورة الجن آية: 18] ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعون وأتباعهم، والأئمة وأصحابهم على ذلك، ولم يحدث هذا إلا بعد ذلك، أعني: دعاء غير الله والبناء على القبور، وما يتبع ذلك من المنكرات. فكيف تقرون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، والأئمة بعدهم على ما نحن عليه، ثم تنكرونه أعظم من إنكار دين اليهود والنصارى، مع إقراركم أنه الدين الذي عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه والأئمة؟ ! أم كيف تنصرون الشرك وما يتبعه من المنكرات، وتبذلون في نصره النفس والمال، مع إقراركم أنه دين الجاهلية المشركين؟ هذا هو الشيء الجزء: 13 ¦ الصفحة: 109 العجاب، لا جعل الآلهة إلها واحدا، يا أعداء الله لو كنتم تعقلون!! وليس هذا في هذه المسألة وحدها، بل كل مسألة اختلفنا وإياهم فيها، وأقروا أن ما نحن عليه هو الذي عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ; فهذه الخصومة فيها واقعة فاصلة لها. فإن أقروا بذلك لكن زعموا أن الناس أحدثوا أمورا تقتضي حسن ما هم عليه، كقولهم: هذه بدعة حسنة، فيها من المصالح كذا وكذا ; وفي تركها من المفاسد كذا وكذا ; فيجاوبون بالمسألة الثالثة، وهي قوله: {أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ} [سورة البقرة آية: 140] ، فإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بإقراركم أوصانا بقوله: " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور! فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة " 1، فقد أقررتم أنه أمر بلزوم ما أمرتم بتركه، وأنه نهى عما أمرتم بفعله. مع إقراركم أنه أوصى بهذه الوصية، عند وقوع الاختلاف في أمته، مع إقراركم أنه لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى، فالله سبحانه قد علم ما يحدث في خلقه إلى يوم القيامة، ومع هذا أمر بطاعة رسوله الذي أقررتم به، وأنتم تشهدون أنه قاله. فإذا بان لك أن الأولى في الأمر بالإخلاص والنهي عن الشرك، وأن الثانية في الأمر بلزوم السنة، والنهي عن البدعة، بان لك أن هذا هو تقرير القاعدتين اللتين عليهما   1 أبو داود: السنة (4607) ، والدارمي: المقدمة (95) . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 110 مدار الدين، وهما: لا يعبد إلا الله ; والثانية: لا يعبد إلا بما شرع، فالأولى قوله: " إنما الأعمال بالنيات " 1 والثانية قوله: " من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد " 2. فإذا كان المحاج لا يقر ببعض ذلك، بل أنكر شيئا من تفاصيل ما ذكرنا، فهي المسألة الرابعة، وهو قوله: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ} [سورة البقرة آية: 140] ، فإذا كان هذا في الكاتم مع المحبة وتمني ظهوره، ولكن أحب الدنيا عليه، فكيف بالكاتم المبغض؟ . فإن كان يدعي أنه لم يفعل ذلك، وأنه تابع لهذا الحق ولكن يكتم إيمانه، كمؤمن آل فرعون، مع معرفتك أنه كاذب، فهي المسألة الخامسة، وهي أن تقول له: {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [سورة البقرة آية: 74] . فإن أقر بهذا كله، ولكنه استروح إلى أنه من ذرية رسول الله، أو أنهم جيرانه، أو غير ذلك من الأسباب، مثل مدحه الإمام الذي ينتسب إليه أو أصحابه، فهي المسألة السادسة، وهي قوله: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [سورة البقرة آية: 134] . وقال الشيخ سليمان بن سحمان: قال ابن القيم رحمه الله في الصواعق: الوجه الثامن عشر: أن تفسير وجه الله بقبلة الله، وإن قاله بعض السلف كمجاهد وتبعه الشافعي، فإنما قالوه في موضع واحد لا غير،   1 البخاري: الأيمان والنذور (6689) والحيل (6953) ، ومسلم: الإمارة (1907) ، والترمذي: فضائل الجهاد (1647) ، والنسائي: الطلاق (3437) والأيمان والنذور (3794) ، وأبو داود: الطلاق (2201) ، وابن ماجه: الزهد (4227) ، وأحمد (1/43) . 2 مسلم: الأقضية (1718) ، وأحمد (6/180، 6/256) . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 111 وهو قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [سورة البقرة آية: 115] . إلى أن قال: على أن الصحيح في قوله: {فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [سورة البقرة آية: 115] أنه كسائر الآيات التي ذكر فيها الوجه ; فإنه قد اطرد مجيئه في القرآن والسنة مضافا إلى الرب تعالى على طريقة واحدة ومعنى واحد، فليس فيه معنيان مختلفان في جميع المواضع، غير الموضع الذي ذكر في سورة البقرة، وهو قوله: {فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [سورة البقرة آية: 115] ، وهذا لا يتيقن حمله على القبلة والجهة، ولا يمتنع أن يراد به وجه الرب حقيقة، فحمله على موارده ونظائره كلها أولى؛ يوضحه الوجه التاسع عشر: أنه لا يعرف إطلاق وجه الله على القبلة لغة ولا شرعا ولا عرفا؛ بل القبلة لها اسم يخصها، والوجه له اسم يخصه، فلا يدخل أحدهما على الآخر، ولا يستعار اسمه له; نعم القبلة تسمى وجهة كما قال تعالى: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا} [سورة البقرة آية: 148] ، وقد تسمى جهة وأصلها وجهة، إلى أن قال: وأما تسميتها وجها فلا عهد به، فكيف إذا أضيف إلى الله تعالى، مع أنه لا يعرف تسمية القبلة وجهة الله في شيء من الكلام، مع أنها تسمى وجهة، فكيف يطلق عليها وجه الله، ولا يعرف تسميتها وجها؟ ! وأيضا فمن المعلوم أن قبلة الله التي نصبها لعباده هي قبلة واحدة، وهي القبلة التي أمر الله عباده أن يتوجهوا إليها الجزء: 13 ¦ الصفحة: 112 حيث كانوا، لا كل جهة يولي الرجل وجهه إليها، فإنه يولي وجهه إلى المشرق والمغرب والشمال وما بين ذلك، وليست تلك الجهات قبلة لله، فكيف يقال: أي وجهة وجهتموها واستقبلتموها، فهي قبلة الله؟ فإن قيل: هذا عند اشتباه القبلة على المصلي، وعند صلاة النافلة في السفر ; قيل: اللفظ لا إشعار له بذلك البتة، بل هو عام مطلق في الحضر والسفر، وحال العلم والاشتباه والقدرة والعجز، إلى أن قال: وحمل الآية على استقبال المسافر في التنفل على الراحلة، أو على حال الغيم ونحوه، بعيد جدا عن ظاهر الآية وإطلاقها وعمومها وما قصد بها، فإن (أين) من أدوات العموم، وقد أكد عمومها بما أراده لتحقيق العموم، كقوله: {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ} [سورة البقرة آية: 144] والآية صريحة في أنه أينما ولى العبد فثم وجه الله من حضر أو سفر، في صلاة أو غير صلاة ; وذلك أن الآية لا تعرض فيها للقبلة ولا لحكم الاستقبال، بل سياقها لمعنى آخر، وهو بيان عظمة الرب تعالى وسعته، وأنه أكبر من كل شيء وأعظم منه، وأنه محيط بالعالم العلوي والسفلي. فذكر في أول الآية إحاطة ملكه في قوله: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} [سورة البقرة آية: 115] منبها بذلك على ملكه لما بينهما، ثم ذكر عظمته سبحانه، وأنه أكبر وأعظم من كل شيء، فأينما ولى العبد الجزء: 13 ¦ الصفحة: 113 وجهه فثم وجه الله، ثم ختم باسمين دالين على السعة والإحاطة، فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [سورة البقرة آية: 115] فذكر اسمه الواسع عقب قوله: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [سورة البقرة آية: 115] كالتفسير والبيان والتقرير له، فتأمله. ثم ذكر كلاما طويلا في تقرير هذا المعنى، وبيان عظمة الرب، وبيان سعة علمه وملكه وحلمه ; ثم قال في الوجه الحادي والعشرين: أنه لو كان المراد بوجه الله قبلة الله، لكان قد أضاف إلى نفسه القبل كلها إلى أن قال: يوضحه الوجه الثالث والعشرون: أنه لو أريد بالوجه الجهة والقبلة لكان وجه الكلام أن يقال: فأينما تولوا فهو وجه الله، لأنه إذا كان المراد بالوجه الجهة، فهي التي تولي نفسها ; وإنما يقال، ثم كذا إذا كان هناك أمران، كقوله تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً} [سورة الإنسان آية: 20] ، فالنعيم والملك تم; لأنه نفس الظرف؛ والوجه لو كان المراد به الجهة نفسها لم يكن ظرفا لنفسها، فإن الشيء لا يكون ظرفا لنفسه ; فتأمله، إلى أن قال: الوجه السادس والعشرون: أنك إذا تأملت الأحاديث، وجدتها مفسرة للآية مشتقة منها، كقوله صلى الله عليه وسلم: " إذا قام أحدكم إلى الصلاة، فإنما يستقبل ربه "1 وذكر الأحاديث. وقال أيضا - في ذكر أقوال المعطلين - إنه على المجاز لا على الحقيقة، إنه ثوابه وجزاؤه ; ثم قال: قال عثمان بن   1 أحمد (3/24) . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 114 سعيد الدارمي، وقد حكى قول بشر المريسي، أنه قال في قول النبي: " إذا قام العبد يصلي، أقبل الله عليه بوجهه " 1 يحتمل أن يقبل الله عليه بنعمته وإحسانه وأفعاله، وما أوجب للمصلي من الثواب. فقوله: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} [سورة الرحمن آية: 27] أي: ما توجه به إلى ربك من الأعمال الصالحة ; وقوله: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [سورة البقرة آية: 115] أي: قبلة الله ; قال الدارمي: لما فرغ المريسي من إنكار اليدين ونفيهما عن الله، أقبل قبل وجه الله ذي الجلال والإكرام، لينفيه عنه، إلى أن قال: واستمر الجحود به، حتى ادعى أن وجه الله الذي وصفه بأنه ذو الجلال والإكرام، مخلوق ; لأنه ادعى أنه أعمال مخلوقة يتوجه بها إليه، وثواب وإنعام مخلوق يثيب به العامل، وزعم: أنه قبلة الله، وقبلة الله لا شك مخلوقة ; ثم ساق الكلام في الرد عليه، والقول بأن لفظ الوجه مجاز، باطل. انتهى. [مواعظ القرآن] وقال عبد الله بن الشيخ محمد: وما ذكرت من حال الموعظة فلا أرى أعظم من مواعظ القرآن، قد ذكر أن رجلا طلب من أخ له موعظة، فسأله: هل أنت تقرأ القرآن؟ فقال. نعم ; فقال: إن لم يعظك القرآن ما وعظك غيره. ولكن آية قرأت على الشيخ في سورة البقرة ; قوله تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} [سورة البقرة آية: 213] إلى قوله {وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [سورة البقرة آية: 213] وتكلم عليها كلاما   1 ابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1023) . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 115 حسنا، أحببت أن أنقله لكم، بسبب عظم فائدته، وما أحسن ما قال أبو العالية، قال: وفي هذه الآية مخرج من الشبهات والضلالات والفتن. وصفة كلامه في المذاكرة. الأولى: قوله: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} [سورة البقرة آية: 213] يعني على الإسلام، ثم اختلفوا بعد ذلك كما في بعض القراءات " كان الناس أمة واحدة ثم اختلفوا ". الثانية: كونه سبحانه أرسل الرسل. الثالثة: الحكمة في إرسالهم، كما قال تعالى: {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [سورة النساء آية: 165] . الرابعة: إنزال الكتب. الخامسة: كونه بالحق، فيها علم من أعلام النبوة. السادسة: الحكمة في إنزاله الكتاب، فذكر المراد في إنزاله، وهو: الحكم بين الناس عند الاختلاف ; فما أعظم هذه الحكمة، وما أكبر فائدتها لمن فهمها، وما أكثر الجهل بها خصوصا للذين يدعون العلم، وهم من أبعد الناس عنه؛ ولا يعرف ذلك إلا من تأمل أصولهم وفتاويهم الباطلة. السابعة: قوله: {وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ} [سورة البقرة آية: 213] كما قال الشاعر: عثا بها يا ابن الندى تسيارها وهذه من آيات الخوف، وفيها عدم الوثوق بنفسك وبغيرك، خصوصا إذا عرفت أن الذين أوتوه هم الذين اختلفوا فيه، وعرفت قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 116 كَثِيراً مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ} [سورة التوبة آية: 34] الآية. الثامنة: اختلافهم في ذلك ليس هو لعدم العلم، بل من بعدما جاءتهم البينات. التاسعة: كونه بغيا بينهم. العاشرة: قوله: {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا} [سورة البقرة آية: 213] فيها معنى قوله: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْأِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ} [سورة الحجرات آية: 7] . الحادية عشر: التنبيه على ثمرة ما هداهم إليه من الاختلاف، وذلك قوله: {من الحق} . الثانية عشر: قوله: {وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [سورة البقرة آية: 213] . فإذا أشكلت عليك مسألة الهداية والإضلال، وأردت ما يزيل هذا الإشكال، فاعرف المسألة الثالثة عشر، وهي مسألة علم الله، ومعرفتها من أجل العلوم وأنفعها، وذلك قوله: {بإذنه} وبالله التوفيق. وقال أيضا الشيخ محمد، قدس الله روحه، في الدرس من الفقه بعد الآية، وقوله: تعدون قتلا في الحرام عظيمة ... وأعظم منه لو يرى الرشد راشد صدودكمو عما يقول محمد ... وكفر به والله راء وشاهد وإخراجكم من مسجد الله أهله ... لئلا يرى لله في البيت ساجد فإني وإن عنفتموني بقتله ... وأرجف بالإسلام باغ وحاسد سقينا من ابن الحضرمي رماحنا ... بنخلة لما أوقد الحرب واقد وفي القصة من الفقه: معرفة الأشهر الحرم، والبلد الحرام، ما لا يوجد. وفيها: ما كان في الجاهلية من بقايا دين إبراهيم ما لا يوجد مثله اليوم. وفيها: أن من الكبائر الجزء: 13 ¦ الصفحة: 117 كبير وأكبر. وفيها: أن الصد عن سبيل الله أكبر من الكبائر. وفيها: أن الكفر بالله نوع آخر غير الصد. وفيها: بيان الرب الرحيم أن القتل لو كان شديدا فالشرك أشد منه. وفيها: بيان مطلب عدو الدين وما يرضيه منك. وقال أيضا: وأما قوله: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى} [سورة البقرة آية: 260] ، فمن أعظم الأدلة على تفاوت الإيمان ومراتبه، حتى الأنبياء عليهم السلام، فهذا طلب الطمأنينة مع كونه مؤمنا، فإذا كان محتاجا إلى الأدلة التي توجب له الطمأنينة، فكيف بغيره؟ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: " نحن أحق بالشك من إبراهيم عليه السلام " 1. وأما قوله في كلام البقرة والذئب: " آمنت به أنا وأبو بكر وعمر" 2 رضي الله عنهما، وليسا في ذلك المكان؛ هذا من الإيمان بالغيب المخالف للمشاهدة; وذلك أن الناس يشاهدون البهائم لا تتكلم، فلما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن هذا جرى فيما مضى، تعجبوا من ذلك مع إيمانهم، فقال: "آمنت به أنا وأبو بكر وعمر " 3. فلما ذكرهما في المقام العظيم الذي طلب إبراهيم في مثله العيان ليطمئن قلبه، مع كونهما ليسا في المجلس، دل على أن إيمانهما أفضل من إيمان غيرهما، خصوصا لما قرنهما بإيمانه صلى الله عليه وسلم، ومع هذا فأمور الإيمان من الأمور البينة، لكن لعلكم تفهمون منها شيئا، إذا قرأتم كتاب الإيمان، والله أعلم.   1 البخاري: أحاديث الأنبياء (3372) ، ومسلم: الإيمان (151) ، وابن ماجه: الفتن (4026) . 2 البخاري: المزارعة (2324) ، ومسلم: فضائل الصحابة (2388) ، والترمذي: المناقب (3695) ، وأحمد (2/245، 2/382) . 3 البخاري: المزارعة (2324) ، ومسلم: فضائل الصحابة (2388) ، والترمذي: المناقب (3695) ، وأحمد (2/245، 2/382) . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 118 وقال أيضا الشيخ: محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى: فصل [فيما اشتملت عليه سورة البقرة من تقرير أصول العلم] قد ذكرت في مواضع ما اشتملت عليه سورة البقرة، من تقرير أصول العلم، وقواعد الدين، أن الله افتتحها بذكر الكتاب الهادي للمتقين ; فوصف حال أهل الهدى، ثم الكافرين، ثم المنافقين، فهذه جمل خبرية. ثم ذكر الجمل الطلبية فدعا الناس إلى عبادته وحده، ثم ذكر الدلائل على ذلك من فرش الأرض وبناء السماء، وإنزال الماء وإخراج الثمار رزقا للعباد، ثم قرر الرسالة وذكر الوعد والوعيد، ثم ذكر مبدأ النبوة والهدى، وما بثه في العالم من الخلق والأمر، ثم ذكر تعليم آدم الأسماء، وإسجاد الملائكة له لما شرف به من العلم. فإن هذا تقرير لجنس ما بعث به محمدا صلى الله عليه وسلم من الهدى ودين الحق، فقص جنس دعوة الأنبياء. ثم انتقل إلى خطاب بني إسرائيل، وقصة موسى معهم، وضمن ذلك تقرير نبوته، إذ هو قرين محمد صلى الله عليه وسلم، فذكر آدم الذي هو أول، وموسى الذي هو نظيره، وهما اللذان احتجا، وموسى قتل نفسا فغفر له، وآدم أكل من الشجرة فتاب عليه. وكان في قصة موسى رد على الصابئة ونحوهم ممن يقر بجنس النبوات ولا يوجب اتباع ما جاؤوا به، وقد الجزء: 13 ¦ الصفحة: 119 يتأولون أخبار الأنبياء. وفيها رد على أهل الكتاب بما تضمنه ذلك من الأمر بالإيمان بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم وتقرير نبوته. وذكر حال من عدل عن النبوات إلى السحر ; وذكر النسخ الذي ينكره بعضهم ; وذكر النصارى وأن الأمتين لن يرضوا حتى يتبع ملتهم ; كل هذا في تقرير أصول الدين من الوحدانية والرسالة. ثم أخذ سبحانه في بيان شرائع الإسلام المبني على ملة إبراهيم، فذكر إبراهيم الذي هو إمام الناس، وبناءه البيت الذي بتعظيمه تميز الإسلام عما سواه، وذكر استقباله وقرر ذلك، فإنه شعار الملة الفارقة بين أهلها وغيرهم، ولهذا يقال: أهل القبلة، كما قال: " من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا، فهو المسلم "1. وذكر من المناسك ما يختص بالمكان، وذلك أن الحج له مكان وزمان ; والعمرة لها المكان فقط، والعكوف والركوع والسجود شرع فيه، ولا يقيد به ولا بمكان ولا زمان; لكن الصلاة تتقيد باستقباله، فذكر سبحانه هذه الأنواع الخمسة، من العكوف، والصلاة، والطواف، والعمرة، والحج؛ والطواف يختص بالمكان فقط. ثم أتبع ذلك بما يتعلق بالبيت من الطواف بين الجبلين، وأنه لا جناح فيه، جوابا لما كان عليه الأنصار في الجاهلية من كراهة الطواف بهما لأجل إهلالهم لمناة ; وجوابا لقوم   1 البخاري: الصلاة (391) ، والنسائي: الإيمان وشرائعه (4997) . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 120 توقفوا عن الطواف بهما، وجاء ذكر الطواف بعد ذكر العبادات المتعلقة بالبيت. بل وبالقلوب والأبدان والأموال، بعدما أمروا به من الاستعانة بالصبر والصلاة، اللذين لا يقوم الدين إلا بهما؛ وكان ذلك مفتاح الجهاد المؤسس على الصبر ; لأن ذلك من تمام أمر البيت، لأن أهل الملل يخالفون فيه، فلا يقوم أمر البيت إلا بالجهاد عنه. وذكر الصبر على المشروع والمقدور، وبين ما أنعم به على هذه الأمة من البشرى للصابرين، فإنها أعطيت ما لم تعطه الأمم قبلها، فكان ذلك من خصائصها وشعائرها، كالعبادات المتعلقة بالبيت. ولهذا يقرن بين الحج والجهاد لدخول كل منهما في سبيل الله ; فأما الجهاد فهو أعظم سبيل الله، بالنص والإجماع في الأصح، كما قال: "الحج من سبيل الله" وبين أن هذا معروف عند أهل الكتاب، بذمه لكاتم العلم. ثم ذكر أنه لا يقبل دينا غير ذلك، ففي أولها {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً} [سورة البقرة آية: 22] ، وفي أثنائها: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً} [سورة البقرة آية: 165] . فالأولى نهي عام ; والثانية نهي خاص؛ وذكر بعد البيت، لينهى عن قصد الأنداد المضاهية له ولبيته، من الأصنام والمقابر ونحو ذلك، ووحد نفسه قبل ذلك، وأنه {لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [سورة البقرة آية: 163] الجزء: 13 ¦ الصفحة: 121 ثم ذكر ما يتعلق بتوحيده من الآيات، ثم ذكر الحلال والحرام، وأطلق الأمر في المطاعم; لأن الرسول صلى الله عليه وسلم بعث بالحنيفية وشعارها وهو البيت؛ وذكر سماحتها في الأموال المباحة، وفي الدماء بما شرعه من القصاص ومن أخذ الدية. ثم ذكر العبادات المتعلقة بالزمان، فذكر الوصية المتعلقة بالموت، ثم الصيام المتعلق برمضان، وما يتصل به من الاعتكاف، ذكره في عبادات المكان وعبادات الزمان، فإنه يختص بالمسجد الحرام، والصلاة تشرع في جميع الأرض، والعكوف بينهما. ثم أتبع ذلك بالنهي عن أكل الأموال بالباطل، وذلك أن المحرم نوعان: نوع لعينه كالميتة، ونوع لكسبه كالربا والمغصوب، فأتبع المنع الثابت بالمحرم الثابت تحريمه لعينه، وذكر في أثناء عبادات الزمان المنتقل الحرام. ولهذا أتبعه بقوله: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ} [سورة البقرة آية: 189] الآية، وهي أعلام العبادات الزمنية؛ وأخبر أنه جعلها مواقيت للناس في أمر دينهم ودنياهم; وللحج; لأن البيت تحجه الملائكة والجن، فكان هذا نصا في أن الحج موقت بالهلالي الزماني، كما أنه موقت بالبيت المكاني. ولهذا ذكر بعد هذا من أحكام الحج ما يختص بالزمان مع المكان، من إتمام الحج والعمرة ; وذكر المحصر، وذكر تقديم الإحلال المتعلق بالمال وهو الهدي، عن الإحلال الجزء: 13 ¦ الصفحة: 122 المتعلق بالنفس وهو الحلق ; لأن المتحلل يخرج من إحرامه فيحل بالأسهل فالأسهل، ولهذا كان آخر ما يحل عنه الوطء، فإنه أعظم المحظورات، ولا يفسد النسك بمحظور سواه. وذكر التمتع بالعمرة إلى الحج لتعلقه بالزمان مع المكان، فإنه لا يكون متمتعا حتى يحرم بالعمرة في أشهر الحج، وحتى لا يكون أهله حاضري المسجد الحرام، وهو الأفقي، فإنه الذي يظهر التمتع في حقه لترفهه بسقوط أحد السفرين عنه؛ أما الذي هو حاضر، فسيان عنده، تمتع أو اعتمر قبل أشهر الحج. ثم ذكر وقت الحج وأنه أشهر معلومات، وذكر الإحرام والوقوف بعرفة ومزدلفة، فإن هذه تختص بزمان ومكان، ولهذا قال: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ} [سورة البقرة آية: 197] ولم يقل والعمرة لأنها تفرض كل وقت. ولا ريب أن السنة فرض الحج في أشهره، ومن فرض قبل خالف السنة; فإما أن يلزمه ما التزمه كالنذر، إذ ليس فيه نقض للمشروع، وليس كمن صلى قبل الوقت، وإما أن يلزم الإحرام ويسقط الحج ويكون معتمرا، وهذان قولان مشهوران. ثم أمر عند قضاء المناسك بذكره ; وقضاؤها - والله أعلم - هو قضاء التفث والإحلال. ولهذا قال بعد ذلك: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} [سورة البقرة آية: 203] هو أيضا من العبادات الزمانية الجزء: 13 ¦ الصفحة: 123 المكانية، وهو ذكر الله مع رمي الجمار ومع الصلوات، ودل على أنه مكاني قوله: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ} [سورة البقرة آية: 203] الآية. وإنما يكون التعجيل والتأخير بالخروج من المكان، ولهذا تضاف هذه الأيام إلى مكانها فيقال: أيام منى، وإلى عملها فيقال أيام التشريق، كما يقال: ليلة جمع، وليلة مزدلفة ; ويوم عرفة، ويوم الحج الأكبر، ويوم العيد، ويوم الجمعة، فتضاف إلى الأعمال وأماكن الأعمال، إذ الزمان تابع للحركة والحركة تابعة للمكان. فتدبر تناسب القرآن وارتباط بعضه ببعض، وكيف ذكر أحكام الحج فيها في موضعين: موضع ذكر فيه بيته وما يتعلق بمكانه ; وموضع ذكر فيه الأهلة فذكر ما يتعلق بزمانه. وذكر أيضا القتال في المسجد الحرام، والمقاصة في الشهر الحرام، لأن ذلك مما يتعلق بالزمان المتعلق بالمكان، ولهذا قرن سبحانه ذكر كون الأهلة مواقيت للناس والحج. وذكر أن البر ليس أن يشقي الرجل نفسه، ويفعل ما لا فائدة فيه، من كونه يبرز للسماء فلا يستظل بسقف بيته حتى إذا أراد دخول بيته لا يأتيه إلا من ظهره، فأخبر أن الهلال الذي جعل ميقاتا للحج شرع مثل هذا، وإنما تضمن شرع التقوى. ثم ذكر بعد ذلك أحكام النكاح والوالدات، وما يتعلق بالأموال، والصدقات والربا والديون وغير ذلك. ثم ختمها الجزء: 13 ¦ الصفحة: 124 بالدعاء العظيم المتضمن وضع الآصار والأغلال، والعفو والمغفرة والرحمة، وطلب النصر على القوم الكافرين الذين هم أعداء ما شرعه من الدين في كتابه المبين. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 125 سورة آل عمران وسئل أيضا الشيخ: محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى، عن قوله عز وجل: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [سورة آل عمران آية: 18] إلى قوله سبحانه: {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [سورة آل عمران آية: 6] ما معنى هذا التكرار؟ هل هو تأكيد أم غير ذلك؟ فأجاب: وأما قوله: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [سورة آل عمران آية: 18] فذكروا في تفسيرها (مسائل) : الأولى: إعلام بأن الله سبحانه شهد بهذا، وكذلك كل عالم يشهد به، وليس هذا ثناء على نفسه مجردا، بل هو قيام بالقسط؛ وأما الكلمة الثانية فهي: تعليم وإرشاد ; والله أعلم. [شروط الإسلام التي يصير بها الإنسان مسلما] وسئل الشيخ عبد الله عن قوله تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الأِسْلامِ دِيناً} [سورة آل عمران آية: 85] ، وعن شروط الإسلام التي يصير بها الإنسان مسلما، هل هي غير ما أثبت للناس رسول الله صلى الله عليه وسلم في زمانه، وسماهم به مسلمين؟ أم غير ذلك؟ . فأجاب: الإسلام وشروطه ما بينه الله في كتابه، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، وتوفى الله رسوله وأصحابه عليه في حياته، وفي زمن خلفائه الراشدين المهديين، رضي الله عنهم، وما حدث بعد ذلك فليس من الدين، الجزء: 13 ¦ الصفحة: 125 بل كان بدعة وضلالة، كما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة " 1، وهذا مجمع عليه عند جميع الأمة، ولكن الشأن في تحقيق القول بالعمل. فإن من الناس من يزعم أنه مسلم يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وهو كافر مشرك بالله، مكذب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، كما أن اليهود يزعمون أنهم مسلمون على الحق وكذلك النصارى، وهم كافرون بالله ورسوله. فمن أراد الله هدايته ووفقه للعمل بكتابه وسنة رسوله باتباع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل البيت وغيرهم، فهذا هو العصمة والنجاة; كما كان العلماء رضي الله عنهم يقولون: السنة سفينة نوح، من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق، والله أعلم. [سبب نزول قوله تعالى " {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ} ] وقال الشيخ: محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله، في قوله تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ} [سورة آل عمران آية: 79] الآيتين. إذا عرفت أن سبب نزولها قول أهل الكتاب: نحن مسلمون نعبد الله، إلا إن كنت تريد أن نعبدك; عرفت أنها من أوضح ما في القرآن من تقرير الإخلاص والبراءة من   1 أبو داود: السنة (4607) ، والدارمي: المقدمة (95) . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 126 الشرك، ومن أعظم ما يبين لك طريق الأئمة المهديين من الأئمة المضلين. وذلك أن الله وصف أئمة الهدى بالنفي والإثبات، فنفى عنهم أن يأمروا أتباعهم بالشرك بهم، أو بالشرك بالملائكة والأنبياء، وهم أصلح المخلوقات؛ وأثبت أنهم يأمرون أتباعهم أن يصيروا ربانيين، فإذا كان من أنزله الله بهذه المنْزلة، لا يتصور أن يأمر أتباعه بالشرك به ولا بغيره من الأنبياء والملائكة، فغيرهم أظهر وأظهر. وإذا كان الأمر الذي يأمرهم به كونهم ربانيين، تبين طريقة الأنبياء وأتباعهم، من طريقة أئمة الضلال وأتباعهم، ومعرفة الإخلاص والشرك، ومعرفة أئمة الهدى، وأئمة الضلال، أفضل ما حصل المؤمن. لكن فيه من البيان قول اليهود: إلا إن كنت تريد أن نعبدك، كما عبدت النصارى عيسى، وقول النصارى: تريد ذلك، أي: إلا إن كنت تريد أن نعبدك، كما عبدت اليهود عزيرا، أن عبادة غير الله من أنكر المنكرات ببديهة العقل، ولكن الهوى يعمي ويصم. وفيه: معرفة الإنسان بعيب عدوه، ولا يعرف ما فيه من ذلك العيب بعينه، ولو كان فيه منه أضعافا مضاعفة. وفيه: ما على من قرأ القرآن من الحق من تعلم معانيه، وفيه: أن عليه أن يعمل به. وفيه: أن يكون ربانيا. وفيه: أن ذلك بسبب درس الجزء: 13 ¦ الصفحة: 127 الكتاب وعلمه وتعليمه. وفيه: أن المسلم إذا أشرك بالأنبياء والصالحين كفر بعد إسلامه. وفيه: معرفة أعداء رسول الله صلى الله عليه وسلم بما هو عليه من العدل والتواضع، كيف يتفوهون له بهذا الكلام، وهم تحت يده محتاجون له. وفيه: أن من أشرك بشيء فقد اتخذه ربا. وفيه: أن قوله في القرآن: {مِنْ دُونِ اللَّهِ} [سورة البقرة آية: 23] ليس كما يقول الجاهلون ; لأن أهل الكتاب لا يتركون عبادات الله. وقوله عز وجل: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ} [سورة آل عمران آية: 81] الآيتين: فيه: ما هو من أبين الآيات للخاص والعام، وكونه صلى الله عليه وسلم مذكورا مبشرا به في كتب الأنبياء. وفيه: حجة على أن دعوته عامة في الظاهر والباطن. وفيه: أن الإيمان به لا يكفي عن نصرته، بل لا بد من هذا وهذا. وفيه: أخذه تعالى الميثاق على الأنبياء بذلك، دليل على شدته إلا على من يسره الله عليه. وفيه: أن من آتاه الله الكتاب والحكمة أحق بالانقياد للحق إذا جاء به من بعده، بخلاف ما عرف من حال الأكثر من ظنهم أنه لو اتبعه غيرهم فهو نقص في حقهم. وفيه: مزيد التأكيد بقوله: {أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي} [سورة آل عمران آية: 81] وفيه إشهادهم مع شهادته سبحانه. وفيه: أن من تولى بعد ذلك فجرمه أكبر. وفيه: أن الآخر مصدق لما معهم لا مخالف له. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 128 فإذا كان هذا في أهل الملل، فكيف بأهل الملة الواحدة إذا ضلوا، ثم جاءهم من يرشدهم إلى دينهم الذي أنزل الله عليهم، وهو الذي ينتحلونه ; فإن تولوا بعد معرفته فأولئك هم الفاسقون. فإن جمعوا مع التولي تكذيبه، فإن جمعوا مع التكذيب الاستهزاء، فإن جمعوا مع ذلك عداوته الشديدة، فإن أضافوا إلى ذلك تكفير من صدق كتابهم ونبيهم واستحلال دمه وماله، فإن أضافوا إلى ذلك كله اتباع دين المشركين أعداء نبيهم، ونصروه بما قدروا عليه، وبذلوا النفس والأموال في نصرته، وعداوة دين نبيهم وإزالته من الأرض حتى لا يذكر فيها. فالله المستعان. وسئل عن قوله تعالى: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} [سورة آل عمران آية: 97] هل المراد منه - عند الموت - من الكفر، عند عرض الأديان؟ أم المراد منه: أنه إذا أحدث حدثا لا يقص منه ما دام في الحرم؟. فأجاب: التفسير المعروف في أن الله جعل الحرم بلدا آمنا قدرا وشرعا; فكانوا في الجاهلية يسفك بعضهم دم بعض خارج الحرم، فإذا دخل الحرم صافى الرجل قاتل أبيه لم يهجه، وحرمته في الإسلام كذلك أو أشد. لكن إذا أصاب رجل حدا خارج الحرم ثم لجأ إليه، فهل يكون آمنا لا يقام عليه فيه الحد أم لا؟ . فيه نزاع، وأكثر السلف على أنه يكون آمنا، كما نقل عن ابن عمر وابن عباس الجزء: 13 ¦ الصفحة: 129 وغيرهما، وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد وغيرهما، وقد استدلوا بهذه الآية، وبقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: " إنها لم تحل لأحد قبلي، ولا تحل لأحد بعدي ". "" [المسائل المستنبطة من قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} ] قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى: ومن قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ [سورة آل عمران آية: 100] إلى قوله {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعَالَمِينَ} [سورة آل عمران آية: 108] . الأولى: سبب النّزول يدل على شدة الحاجة لها، فإذا احتاجوا فكيف بغيرهم؟ ! الثانية: الخوف على مثلهم الردة بذلك، فكيف بمن دونهم؟ ! . الثالثة: أن فيمن أوتي الكتاب من يدعو إلى الردة، مثلما أن فيهم من يدعو إلى الله. الرابعة: التصريح بأن ذلك بعد الإيمان. الخامسة: لطف الله تعالى بعبده بدعوتهم بهذا الوصف. السادسة: استبعاد الكفر ممن تتلى عليهم آيات الله وفيهم رسوله، فإذا مضت الثانية فالأولى باقية. السابعة: أن آيات الله لا نظير لها في دفع الشر في سائر الكلام، كما أن رسوله لا نظير له في سائر الأشخاص في دفع ذلك. الثامنة: الرد على أعداء الله الذين يزعمون أن القرآن لا يفهم معناه. التاسعة: أن الاعتصام بحبل الله جامع. العاشرة: أن الطرق فيها المعوج وفيها المستقيم. الحادية عشر: ذكر حق تقاته. الثانية عشر: لطافة الخطاب. الثالثة عشر: لزوم الجزء: 13 ¦ الصفحة: 130 الإسلام إلى الممات. الرابعة عشر: فيه التنبيه على قوله: " لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض " 1 لأن ذلك سبب النّزول. الخامسة عشر: كون الإسلام طاعة الرسول ومعصية أولئك. السادسة عشر: خوفك من الردة وإن كنت من الصالحين. السابعة عشر: ذكر الاعتصام بحبل الله، وهو القرآن ; ففيه دليل على أنه عصمة. الثامنة عشر: الأمر بالاجتماع على ذلك. التاسعة عشر: تأكيده ما تقدم بالنهي عن الافتراق، وفيه تذكيرهم بالنعمة التي هم فيها بعد تلك البلية. العشرون: تذكيرهم بالنعمة العظمى وهي: إنقاذهم من النار بعد أن كانوا على شفا حفرة منها. الحادية والعشرون: ذكره هذا البيان الواضح في آياته. الثانية والعشرون: أن الفائدة في تعليم العلم تذكر المتعلم واهتداؤه. الثالثة والعشرون: ذكر الأمر بطائفة متجردة للدعوة إلى الخير، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. الرابعة والعشرون: تخصيصها بالفلاح. الخامسة والعشرون: نهيهم عن مشابهة الذين تفرقوا واختلفوا من بعد مجيء الآيات. السادسة والعشرون: فيه دليل على أن الله ذكر لنا من البينات، في دواء هذا الداء، ما فيه الشفاء. السابعة والعشرون: وعيد من ارتكب هذا المنهي عنه بالعذاب الأليم. الثامنة والعشرون: بياض الوجوه وسوادها.   1 البخاري: العلم (121) ، ومسلم: الإيمان (65) ، والنسائي: تحريم الدم (4131) ، وابن ماجه: الفتن (3942) ، وأحمد (4/358، 4/363، 4/366) ، والدارمي: المناسك (1921) . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 131 التاسعة والعشرون: أن الذين اسودت وجوههم، الذين كفروا بعد إيمانهم، ففيه أن الواقعة كفر بعد الإيمان أو تجر إليه. الثلاثون: الوعد الجزيل لمن سلم من ذلك. الحادية والثلاثون: التذكر أن هذه النصائح والمواعظ هي آيات الله. الثانية والثلاثون: أنه سبحانه يتلوها على رسوله لأجلنا. الثالثة والثلاثون: تذكرنا بأن تلك التلاوة بالحق. الرابعة والثلاثون: الاعتذار بأنه لا يريد ظلم أحد من العالمين. الخامسة والثلاثون: تذكيرنا بأن له ما في السماوات وما في الأرض. السادسة والثلاثون: تذكيرنا بالرجوع إليه. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 132 سورة النساء وقال الشيخ محمد رحمه الله: قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: قوله: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [سورة النساء آية: 79] الآية، بعد قوله: {كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [سورة النساء آية: 78] ، لو اقتصر على الجمع أعرض العاصي عن ذم نفسه، والتوبة من الذنب والاستعاذة من شره، وقام بقلبه حجة إبليس، فلم تزده إلا طردا كما زادت المشركين ضلالا، حين قالوا: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا} [ سورة الأنعام آية: 148] ؛ ولو اقتصر على الفرق لغابوا عن التوحيد، والإيمان بالقدر، واللجأ إلى الله في الهداية، كما في خطبته صلى الله عليه وسلم: " الحمد لله نستعينه ونستغفره " 1 يشكره ويستعينه على طاعته،   1 النسائي: الجمعة (1404) ، وأبو داود: النكاح (2118) ، وأحمد (1/392، 1/432) ، والدارمي: النكاح (2202) . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 132 ويستغفره من معصيته، ويحمده على إحسانه، ثم قال: " ونعوذ بالله من شرور أنفسنا " 1 إلى آخره لما استغفر من المعاصي استعاذه من الذنوب التي لم تقع. ثم قال: "ومن سيئات أعمالنا" أي: ومن عقوباتها، ثم قال: "من يهد الله فلا مضل له" إلخ: شهادة بأنه المتفرد في خلقه، ففيه إثبات القضاء الذي هو نظام التوحيد؛ هذا كله مقدمة بين يدي الشهادتين ; فإنما يتحققان بحمد الله وإعانته، واستغفاره واللجأ إليه، والإيمان بأقداره؛ فهذه الخطبة عقد نظام الإسلام والإيمان. وكون الحسنات من الله، والسيئات من النفس، له وجوه: الأول: أن النعم تقع بلا كسب. الثاني: أن عمل الحسنات من إحسان الله إلى عبده؛ فخلق الحياة، وأرسل الرسل، وحبب إليهم الإيمان. وإذا تدبرت هذا، شكرت الله فزادك، وإذا علمت أن الشر لا يحصل إلا من نفسك تبت فزال. الثالث: أن الحسنة تضاعف. الرابع: أن الحسنة يحبها ويرضاها، فيحب أن ينعم ويحب أن يطاع، ولهذا تأدب العارفون فأضافوا النعم إليه، والشر إلى محله، كما قال إمام الحنفاء: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ} [سورة الشعراء آية: 78] إلى قوله {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [سورة الشعراء آية: 80] . الخامس: أن الحسنة مضافة إليه لأنه أحسن بها بكل اعتبار، وأما السيئة فما قدرها إلا لحكمة. السادس: أن   1 النسائي: الجمعة (1404) ، وأبو داود: النكاح (2118) ، وأحمد (1/392، 1/432) ، والدارمي: النكاح (2202) . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 133 الحسنات أمور وجودية متعلقة بالرحمة والحكمة; لأنها إما فعل مأمور أو ترك محظور؛ والترك أمر وجودي، فتركه لما عرف أنه ذنب وكراهته له ومنع نفسه منه أمور وجودية، وإنما يثاب على الترك على هذا الوجه. وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم البغض في الله من أوثق عرى الإيمان، وهو أصل الترك ; وجعل المنع لله من كمال الإيمان ; وهو أصل الترك؛ وكذلك براءة الخليل من قومه المشركين ومعبوديهم ليست تركا محضا، بل صادرا عن بغض وعداوة؛ وأما السيئات فمنشؤها الظلم والجهل، وفي الحقيقة كلها ترجع إلى الجهل، وإلا فلو تم العلم بها لم يفعلها، فإن هذا خاصة العقل ; وقد يغفل عن هذا كله بقوة وارد الشهوة؛ والغفلة والشهوة أصل الشر، كما قال تعالى: {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} [سورة الكهف آية: 28] الآية. السابع: أن ابتلاءه له بالذنوب عقوبة له على عدم فعل ما خلق له وفطر عليه. الثامن: أن ما يصيبه من الخير والنعم لا تنحصر أسبابه من إنعام الله عليه ; فيرجع في ذلك إلى الله ولا يرجو إلا هو، فهو يستحق الشكر التام الذي لا يستحقه غيره، وإنما يستحق من الشكر جزاء على ما يسره الله على يديه، ولكن لا يبلغ أن يشكر بمعصية الله، فإنه المنعم بما لا يقدر عليه مخلوق، ونعم المخلوق منه أيضا، وجزاؤه على الشكر والكفر لا يقدر أحد على مثله. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 134 فإذا عرف أن {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ} [سورة فاطر آية: 2] صار توكله ورجاؤه إلى الله وحده. وإذا عرف ما يستحقه من الشكر الذي يستحقه، صار ... 1 له والشر انحصر سببه في النفس، فعلم من أين يؤتى، فتاب واستعان بالله. كما قال بعض السلف: لا يرجون عبد إلا ربه، ولا يخاف إلا ذنبه. وقد تقدم قول السلف - ابن عباس وغيره - إن ما أصابهم يوم أحد مطلقا كان بذنوبهم لم يستثن أحد، وهذا من فوائد تخصيص الخطاب، لئلا يظن أنه عام مخصوص. التاسع: أن السيئة إذا كانت من النفس، والسيئة خبيثة كما قال تعالى: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ} [سورة النور آية: 26] الآية قال جمهور السلف: الكلمات الخبيثات للخبيثين، وقال: {وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ} [سورة إبراهيم آية: 26] ، وقال: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [سورة فاطر آية: 10] ، والأقوال والأفعال صفات بالقائل الفاعل، فإذا اتصفت النفس بالخبث، فمحلها ما يناسبها. فمن أراد أن يجعل الحيات يعاشرن الناس كالسنانير لم يصلح ; بل إذا كان في النفس خبث طهرت حتى تصلح للجنة، كما في حديث أبي سعيد الذي في الصحيح، وفيه " حتى إذا هذبوا ونقوا، أذن لهم في دخول الجنة " 2.   1 بياض. 2 البخاري: الرقاق (6535) ، وأحمد (3/13، 3/63، 3/74) . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 135 فإذا علم الإنسان أن السيئة من نفسه، لم يطمع في السعادة التامة، مع ما فيه من الشر ; بل علم تحقيق قوله: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ} [سورة النساء آية: 123] ، {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ} [سورة الزلزلة آية: 7] إلخ، وعلم أن الرب عليم حليم عدل، وأفعاله على قانون العدل والإحسان كما في الصحيح: " يمين الله ملأى " إلى قوله: " والقسط بيده الأخرى "، وعلم فساد قول الجهمية، الذين يجعلون الثواب والعقاب بلا حكمة ولا عدل، إلى أن قال: ومن سلك مسلكهم غايته إذا عظم الأمر والنهي أن يقول كما نقل عن الشاذلي: يكون الجمع في قلبك مشهودا، والفرق على لسانك موجودا، كما يوجد في كلامه وكلام غيره أقوال وأدعية تستلزم تعطيل الأمر والنهي، مما يوجب أن يجوز عنده {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ} [سورة ص آية: 28] . ويدعون بأدعية فيها اعتداء، كما في: " حزب الشاذلي "؛ وآخرون من عوامهم، يجوزون أن يكرم الله بكرامات الأولياء لمن هو فاجر أو كافر، ويقولون: هذه موهبة، ويظنونها من الكرامات، وهي من الأحوال الشيطانية، التي يكون مثلها للسحرة والكهان، كما قال تعالى: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ} [سورة البقرة آية: 101] إلى قوله: {هَارُوت وَمَاروت} وصح قوله: " لتتبعنّ سنن من كان قبلكم " 1،   1 البخاري: الاعتصام بالكتاب والسنة (7320) ، وابن ماجه: الفتن (3994) ، وأحمد (2/327) . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 136 فعدل كثير من المنتسبين إلى الإسلام، إلى أن نبذ القرآن وراء ظهره، واتبع ما تتلو الشياطين، فلا يعظم أمر القرآن ونهيه، ولا يوالي من أمر القرآن بموالاته، ولا يعادي من أمر القرآن بمعاداته، بل يعظم من يأتي ببعض الخوارق. ثم منهم من يعرف أنه من الشياطين، لكن يعظم لهواه، ويفضله على طريقة القرآن، وهؤلاء كفار، قال الله تعالى فيهم: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} [سورة النساء آية: 51] . وفي قوله تعالى: {مِن نَّفْسِك} من الفوائد أن العبد لا يطمئن إلى نفسه; ولا يشتغل بملام الناس وذمهم ; بل يسأل الله أن يعينه على طاعته ; ولهذا كان أنفع الدعاء وأعظمه دعاء الفاتحة. وهو محتاج إلى الهدى كل لحظة. ويدخل فيه من أنواع الحاجات ما لا يمكن حصره، ويبينه أن الله سبحانه لم يقص علينا في القرآن قصة إلا لنعتبر ; وإنما يكون الاعتبار إذا قسنا الثاني بالأول. فلولا أن في النفوس ما في نفوس المكذبين للرسل، لم يكن بنا حاجة إلى الاعتبار بمن لا نشبهه قط، ولكن الأمر كما قال تعالى: {مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ} [سورة فصلت آية: 43] . وقوله: {أَتَوَاصَوْا بِهِ} [سورة الذاريات آية: 53] ، وقوله: {تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ} [سورة البقرة آية: 118] ، ولهذا في الحديث: الجزء: 13 ¦ الصفحة: 137 " لتسلكن سنن من كان قبلكم "، وقد بين القرآن أن السيئات من النفس. وأعظم السيئات جحود الخالق والشرك به، وطلب أن يكون شريكا له، وكلا هذين وقع. قال بعضهم: ما من نفس إلا وفيها من نفس فرعون، وذلك أن الإنسان إذا اعتبر وتعرف أحوال الناس، أي من يبغض نظيره وأتباعه حسدا، كما فعلت اليهود لما بعث الله من يدعو إلى مثل ما دعا إليه موسى، ولهذا أخبر عنهم بنظير ما أخبر به عن فرعون. قال الشيخ محمد رحمه الله في قوله: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ} [سورة النساء آية: 26] : هذا في مقابلة الجهل والضلال ; والبيان ضد الجهل ; والهدى ضد الضلال؛ وقوله: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ} [سورة النساء آية: 27] في مقابلة الإفراط؛ وقوله: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} [سورة النساء آية: 28] في مقابلة الضعف. وذكر في تفسير الآية: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} [سورة النساء آية: 97] إلى قوله: {غَفُوراً رَحِيماً} [سورة النساء آية: 23] : إذا كانت نازلة في أناس من السابقين الأولين الذين ما يبلغ مد أحدهم ولا نصيفه، ولكن ما هاجروا بسبب أن أهلهم حبسوهم أولا وآخرا رفضوا ... 1، وخرجوا مع الكفار يوم بدر، ويودون نصر المسلمين،   1 بياض. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 138 ويرفعون عنهم الرمي، فلما جرى عليهم ما جرى شق على المسلمين، وقالوا: قتلنا إخواننا فأنزل الله الآية. وقيل لهم: {فيم كنتم} من أي الطائفتين؟ وتعذروا أنهم مستضعفون وعذرهم، دليل على أنهم برحوا يدعون أنهم على الدين. وقيل لهم: {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً} [سورة النساء آية: 97] الآية، يعني ما لكم عذر، {إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً} [سورة النساء آية: 98] هذا مما يزيل عن الإنسان إشكالات كثيرة واقعة، أن من أحب الدين أنه صاحب دين حتى يتوصل أن الذي لا يسبه يمدح. قال أيضا: شيخ الإسلام. في تفسير آيات أشكلت، ومنها قوله تعالى: {وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ} [سورة المائدة آية:60] : والصواب عطفه على قوله: {مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ} : فعل ماض معطوف على ما قبله من الأفعال الماضية، والفاعل: الله مظهرا أو مضمرا، وهذا الفعل اسم من عبد الطاغوت، وهو الضمير في عبد، ولم يعد حرف (من) لأن هذه الأفعال لصنف واحد وهم اليهود. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 139 سورة الأنعام وقال الشيخ محمد أيضا رحمه الله تعالى: وأما قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ َلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ} [سورة الأنعام آية: 40] . فيها من المسائل: الأولى: أمره سبحانه وتعالى بمحاجتهم بهذه الحجة الواضحة للجاهل والبليد، لكن بشرط التفكر والتأمل، فيا سبحان الله! ما أقطعها من حجة! وكيف يخالف من أقر بها؟! الثانية: إذا تحققت معنى هذا الكلام، مع ذكر الله تعالى له في مواضع من كتابه، عرفت الشرك الأكبر وعبادة الأوثان. وقول بعض أئمة المشركين: إن الذي يفعل في زماننا شرك، لكنه شرك أصغر، في غاية الفساد. فلو نقدر أن في هذا أصغر أو أكبر، لكان فعل أهل مكة مع العزى، وفعل أهل الطائف مع اللات، وفعل أهل المدينة مع مناة، هو الأصغر، وفعل هؤلاء هو الأكبر؛ ولا يستريب في هذا عاقل، إلا إن طبع الله على قلبه. الثالثة: أن إجابة دعاء مثل هؤلاء، وكشف الضر عنهم، لا يدل على محبته لهم، ولا أن ذلك كرامة ; وأنت الجزء: 13 ¦ الصفحة: 140 تفهم لو يجري شيء من هذا في زماننا، على يدي بعض الناس، ما يظن فيه من يدعي العلم، مع قراءتهم هذا ليلا ونهارا. الرابعة: معرفة العلم النافع، والعمل الذي لا ينفع؛ فمع معرفتهم أنه لا يكشفه إلا الله، ومع معرفتهم بعجز معبوداتهم، ونسيانهم إياها ذلك الوقت، يعادون الله هذه المعاداة، ويوالون آلهتهم تلك الموالاة، قال تعالى: {أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ} [سورة النحل آية: 72] . وأما قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ} [سورة الأنعام آية: 42] إلى قوله: {وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [سورة الأنعام آية: 45] ففيها مسائل: الأولى: ذكر سنته سبحانه في خلقه. الثانية: أن ذلك تسليط البأساء وهو: القحط والمجاعة، والضراء وهي: الأمراض. الثالثة: أن الله سبحانه أخبرنا بمراده أنه سلط ذلك عليهم ليتوبوا فيحصلون سعادة الدنيا والآخرة، وليس مراده تعذيبهم على عظم جهالتهم وعتوهم، كيف لم يتضرعوا لما جاءهم ذلك؟ يعرفك أن هذا من أعظم الجهالة والعتو. الرابعة: ذكر السبب الذي منعهم من ذلك مع اقتضاء العقل والطبع له، وهو قسوة القلب، وكون عدوهم زين لهم ما أغضب الله عليهم، فلم يعرفوا قبحها، بل استحسنوها. الخامسة: أنهم لما فعلوا هذه العظيمة فتحت عليهم أبواب كل شيء، فيا لها من مسألة! الجزء: 13 ¦ الصفحة: 141 السادسة: أنهم استبشروا بعذابهم، كما استبشر قوم لوط بمجيء أضيافه. السابعة: أنه لم يأخذهم حتى وقع الفرح. الثامنة: أن ذلك الأخذ بغتة. التاسعة: أنه بعد تلك النعمة. العاشرة: أنه سبحانه المحمود على إنعامه على أوليائه ونصرهم. وأما قوله تعالى: {قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ} [سورة الأنعام آية: 50] إلى قوله: {وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} [سورة الأنعام آية: 55] ففيها مسائل: الأولى: أمر الله سبحانه رسوله أن يخبرهم، بأنه بريء ممن ادعى خزائن الله. الثانية: إخبارهم البراءة ممن ادعى علم الغيب. الثالثة: إخبارهم بالبراءة من دعوى أنه ملك؛ وأنت ترى من ينتسب إلى العلم، كيف اعتقاده في هذه المسائل المعاكسة؟ . الرابعة: اقتصاره على ما يوحى إليه، واليوم عند أكثر الناس هو هو. الخامسة: أن الذي يقتصر على الوحي هو البصير، وضده الأعمى؛ ومن يدعي العلم بالعكس في هذه المسألة، والتي قبلها، ولست أعني العمل، بل عقيدة القلب. السادسة: حثه سبحانه على التفكر الذي هو باب العلم، كما حث عليه سبحانه في غير موضع. السابعة: الإنذار الخاص لهذه الطائفة المنعوتة بهذين الوصفين. الثامنة: أن من فقدهما لم تنفعه النذارة. التاسعة: فائدة الإنذار وثمرته، واحتياج هذه الطائفة له. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 142 العاشرة: النهي عن طرد المتصفين بما ذكر. الحادية عشر: عظم شأن صلاة العصر والصبح. الثانية عشر: عظمة الإخلاص. الثالثة عشر: كون الأمر اليسير كثيرا كبيرا مع الإخلاص. الرابعة عشر: ذكر القاعدة الكلية المأخوذة منها هذه الجزئية وهي: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [سورة الأنعام آية: 164] . الخامسة عشر: أن طردهم يخاف أن يوصل الرجل الصالح إلى درجة الظالمين، ففيه التحذير من أذاء الصالحين. السادسة عشر: حسن النية في ذلك ليس عذرا. السابعة عشر: أن منعهم الجلوس مع العظماء في مجلس العلم هو الطرد المذكور. الثامنة عشر: ذكر فتنته سبحانه بعض خلقه ببعض. التاسعة عشر: ذكر بعض الحكمة في ذلك. العشرون: أن من ذلك رفعة من لا يظن الناس فيه ذلك. الحادية والعشرون: أن الدين إن صح فهو المنة العظيمة، التي لا تساويها منن الدنيا. الثانية والعشرون: أن من الفتنة حرمانه سبحانه من لا يظن الناس أنه يحرمه. الثالثة والعشرون: المسألة العظيمة الكبيرة، وهي الاستدلال بصفات الله على ما أشكل عليك من القدرة; لأنه سبحانه رد عليهم ما وقع في أنفسهم من استبعاد كون الله حرمهم، وخص هؤلاء بالكرامة. الرابعة والعشرون: جلالة هذه المسألة، وهي مسألة الجزء: 13 ¦ الصفحة: 143 علم الله; لأنه سبحانه رد بها على الملائكة لما قالوا: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} [سورة البقرة آية: 30] الآية، ورد بها على الكفار الجهال في هذه الآية كما ترى. الخامسة والعشرون: أنه متقرر عند الكفار عبدة الأوثان منكري البعث، أن الله سبحانه حكيم يضع الأشياء في مواضعها، والأشعرية يزعمون أنه لا يفعل شيئا لشيء. [الجواب عن تفسير قوله تعالى: {لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ} ] سئل الشيخ: عبد اللطيف بن عبد الرحمن، عن قول الشارح الشيخ سليمان على آية الأنعام، وأن قوله: {لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ} [سورة الأنعام آية: 51] نصب على الحال. فأجاب: هذا عليه غير واحد من المفسرين، قال الجلال: وجملة النفي حال من ضمير {يحشروا} وهي محل الخوف ; وقال البيضاوي: {لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ} [سورة الأنعام آية: 51] في موضع الحال من يحشروا، فإن الخوف هو الحشر على هذه الحالة، وقد سبقهم إلى هذا الزَّجَّاجُ، وابن كثير حل المعنى ولم يتعرض لإعرابه، ويظهر مراده من تقرير كلامه. قال وقوله: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ} [سورة الأنعام آية: 51] الآية أي: أنذر بهذا القرآن يا محمد {الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ} [سورة المؤمنون آية: 57] الذين {وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ} [سورة الرعد آية: 21] ، {الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ} [سورة الأنعام آية: 51] أي: يوم القيامة، الجزء: 13 ¦ الصفحة: 144 {ليس لهم} أي: يومئذ {مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ} [سورة الأنعام آية: 51] أي في التقريب له، ولا شفيع فيهم من عذابه ; أن مرادهم: {لعلهم يتقون} أي: أنذر هذا اليوم الذي لا حاكم فيه إلا الله عز وجل {لعلهم يتقون} : يعملون في هذه الدار عملا ينجيهم الله به يوم القيامة من عذابه، ويضاعف لهم الجزاء من ثوابه. انتهى. وهو يشير إلى جواز جعلهم صفة لمخلوق دل عليه السياق ; والعائد في الجملة الوصفية يكفي تقريره، كقوله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً} [سورة البقرة آية: 48] ، والبغوي لم يتعرض لتقدير شيء. وبهذا يظهر الجواب عن قولك: ما يقال في تقريره؟ فإن الله أمر رسوله أن ينذر بالقرآن عباده المؤمنين الذين يؤمنون بلقائه، ويخافون فيه سوء الحساب، في يوم لا ولي لهم فيه ولا شفيع من دونه، لعلهم يتقون ذلك بفعل ما أمروا به وترك ما نهوا عنه. وعلى الأول يخافون الحشر وسوء الحساب، في حال تخليهم وانفرادهم عن الأولياء والشفعاء، وخصوا بذلك لأنهم هم المنتفعون بالإنذار، المتقون عذاب ذلك اليوم وعقابه، بخلاف من تعلق على الأولياء والشفعاء، واعتمد عليهم في نجاته، فإنه غير خائف ولا متق، لسكون جأشه واطمئنان قلبه بوليه وشفيعه، والله الهادي الموفق. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 145 قال الشيخ: محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله: قوله تعالى: {قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ} [سورة الأنعام آية: 71] إلى قوله {وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} [سورة الأنعام آية: 73] . فيه مسائل: تجاوب بها من أشار عليك بشيء تصير به مرتدا: الأولى: {أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا} [سورة الأنعام آية: 71] ، يعني: كيف تدبر عن هذا وتقبل على هذا؟ . الثانية: {وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ} [سورة الأنعام آية: 71] ، كيف إذا تصور التائه في المهامه التي تهلك إذا هدي إلى الطريق، ورأى بلده ينحرف على أثره في المهلكة؟ الثالثة: مشابهة من استجاب إلى الغيلان إذا دعته، مع علمه بأنها ستهلكه. الرابعة: إذا زعم الداعي أنه ناصح مرشد للهدى - مع علمك أنه مضاد لهدى الله - قولك: {إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى} [سورة الأنعام آية: 71] . الخامسة: إجابتك إياه أني مأمور بالإسلام لرب العالمين، كيف أوافقك على التبرؤ من ذلك؟ ! السادسة: أني مأمور بإقام الصلاة، ولا يمكنني إقامتها الجزء: 13 ¦ الصفحة: 146 فيما تدعوني إليه. السابعة: أني مأمور بمخافة الله واتقائه، وأنت تدعوني إلى ترك ذلك. الثامنة: أنك تأمرني بمقاطعة ومعاداة من ليس لي عنه ملاذ. التاسعة: أن المسألة التي تدعوني إلى تركها هي التي لأجل فعلها خلقت السماوات والأرض. العاشرة: أن الذي تدعوني إلى التهاون بأمره والاستهزاء به، لا بد من يوم يقول له فيه: كن فيكون، مع عظم شأن ذلك اليوم. الحادية عشر: أن {قوله الحق} لا خلاف فيه، وقد قال فيما تأمرني به من الوعيد ما قال، وفيما تنهاني عنه من الوعد ما قال. الثانية عشر: أن الملك كله له يوم ينفخ في الصور، فكيف تؤثر عليه مالا أو حالا أو جاها أو غير ذلك؟ الثالثة عشر: أنه عالم السر وأخفى، فكيف لي بفعل ما تأمرني به وهو لا يخفى عليه؟ ! الرابعة عشر: أنه الحكيم الخبير، فلا يتصور أنه يشتبه عليه من يعصيه بمن يطيعه، ولا يتصور أنه يجعل من أطاعه كمن عصاه; لأنه الحكيم الخبير يضع الأشياء في مواضعها. والله أعلم. ونقل عنه أيضا: وأما قوله تعالى: {أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا} [سورة الأنعام آية: 71] إلى قوله {وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} [سورة الأنعام آية: 18] ، ففيه أربعة عشر جوابا لمن أشار عليك، بموافقة السواد الأعظم على الباطل، لأجل ما فيه من مصالح الدنيا والهرب من مضارها؛ ولكن ينبغي أن الجزء: 13 ¦ الصفحة: 147 تعرف أولا: أن الكلام مأمور به مؤمن فقيه. فالأول: أن تجيبه بقوله: {أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا} [سورة الأنعام آية: 71] ، وهذا تصوره كاف في فساده. الثاني: {وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ} [سورة الأنعام آية: 71] ، وهذا أيضا كذلك. الثالث: هذا المثل الذي هو أبلغ ما يرغبك في الثبات، ويبغض إليك موافقته. الرابع: قولك له: إذا زعم أن الهدى في موافقة فلان وفلان بدليل الأكثر، فتجيبه بقولك: {إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى} [سورة البقرة آية: 120] . الخامس: أن تجيبه بقوله. {وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [سورة الأنعام آية: 71] ، فإذا أمرتني بالإسلام لفلان وفلان، فالله أمرني بما لا أحسن منه. السادس: أن تقول وأمرنا بإقامة الصلوات، وهذه خصلة مسلمة لا جدال فيها، ولا يقيمها إلا الذي أمرتني بتركهم؛ والذين أمرتني بموافقتهم لا يقيمونها. السابع: أنا مأمورون بتقوى الله، وأنت تأمرني بتقوى الناس. الثامن: أن هذا الذي أمرتني بترك أمره {وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [سورة الأنعام آية: 72] ، كما قال السحرة لفرعون لما دعاهم إلى ذلك: {إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقلِبُونَ} [سورة الأعراف آية: 125] . التاسع: أنه {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ} [سورة الأنعام آية: 73] ، وهذا مقتضى ما نهيتني عنه، والذي تأمرني به يقتضي أنه خلقها باطلا. العاشر: أن هذا الذي تأمرني بترك أمره، إليه حشر هذا الخلق العظيم، ما دونه إلا قوله: {كُنْ فَيَكُونُ} [سورة البقرة آية: 117] . الحادي عشر: أن هذا الذي أمرتني بترك أمره {قوله الجزء: 13 ¦ الصفحة: 148 الحق} . وقد قال ما لا يخفى عليك، ووعد عليه بالخلود في النعيم، ونهى عما أمرتني به، وتوعد عليه بالخلود في الجحيم؛ وهو لا يقول إلا الحق. فكيف مع هذا أطيعك؟ ! الثاني عشر: أن {له الملك يوم ينفخ في الصور} فإذا أقررت بذلك اليوم، وأن عذابه ونعيمه دائمان، فما ترجو من الشفاعات كلها باطلة ذلك اليوم. وقد بين تعالى معنى ملكه لذلك اليوم في آخر الانفطار. الثالث عشر: أنه {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} [سورة الأنعام آية: 73] ، فلا يمكن التلبيس عليه، بخلاف المخلوق ولو أنه نبي. الرابع عشر: أنه {وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} [سورة الأنعام آية: 18] ، فلا يجعل من اتبع أمره ولو خالف الناس، كمن ضيع أمره موافقة للناس، حاشاه من ذلك؛ ولهذا يقول الموحدون يوم القيامة - إذا قيل لهم: قد ذهب الناس -: فارقناهم في الدنيا أحوج ما كنا إليهم ... إلى آخره. والله أعلم. وقال أيضا: قال شيخ الإسلام: قوله: {قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا ب} [سورة الأنعام آية: 71] الآية، يريد هؤلاء المنحرفون أن يفعلوا بالمؤمنين، فيدعون من دون الله ما لا ينفع ولا يضر؛ ويريدون أن يرتد المؤمنون على أعقابهم عن الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله، ويصيرون حائرين كالذي استهوته الشياطين في الأرض حيران. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 149 [المسائل المستنبطة من قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ} ] وقال الشيخ محمد رحمه الله: ومن قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ} [سورة الأنعام آية: 74] إلى قوله: {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ} [سورة الأنعام آية: 90] . الأولى: قوله: {أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً} [سورة الأنعام آية: 74] : السؤال عن معنى الآلهة، فإنها جمع إله، وهو أعلى الغايات عند المسلم والكافر، فكيف يتخذ جمادا؟ ! وهذا أعجب وأبعد عن العقل من جعل الحمار قاضيا ; لأن الحيوان أكمل من الجماد فإذا كان هذا من خشب أو حجر لم يعص الله، فكيف بمن اتخذ فاسقا إلها؟ ! مثل نمرود، وفرعون. فإن كان اتخذه بعد موته فأعجب وأعجب. الثانية: القدح في حجتهم لأنها السواد الأعظم، ليس لهم حجة إلا هي، فيدل على الرسوخ في مخالفتهم بالأدلة اليقينية لقوله: {إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} . الثالثة: قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [سورة الأنعام آية: 75] ، فإن ذلك من أعظم الأدلة على المسألة ببديهة العقل، لأن من رأى نخلا كثيرا لا يتخالجه شك أن المدبر له ليس نخلة واحدة منه، فكيف بملكوت السماوات والأرض. الرابعة: أن هذا النفي إنما نفي لأجل الإثبات. الخامسة: {وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} ، فلم يكمل غيره حتى كمل. السادسة: عظم مرتبة اليقين عند الله، لجعله التعليم علة لإيصاله إليه. السابعة: براءته من شركهم، نفى أولا الجزء: 13 ¦ الصفحة: 150 كونها لا تستحق ; ونفى ثانيا عن نفسه الالتفات إليها. الثامنة: نفى النقائص عن ربه. التاسعة: ذكر توجهه الذي هو العمل. العاشرة: ذكر الدليل الذي دله على النفي والإثبات. الحادية عشر: تحقيقه ذلك بكونه حنيفا، وهذه المسألة التي قال الله في ضدها: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [سورة يوسف آية: 106] . الثانية عشر: تصريحه لهم بما ذكر، ولم يدار مع كثرتهم ووحدته. الثالثة عشر: تصريحه بالبراءة منهم، بقوله: {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [سورة الأنعام آية: 79] . الرابعة عشر: قوله: {وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ} [سورة الأنعام آية: 80] ، ولم يذكر حجتهم; لأن كلامه كاف عن كل ما يقولون. الخامسة عشر: أنهم لما خصموا رجعوا إلى التخويف لفعل أمثالهم، فذكر أنه لا يخاف إلا الله ; لتفرده بالضر والنفع، لخلاف آلهتهم، فذكر النفي والإثبات. السادسة عشر: سعة القدرة ; وهاتان هما اللتان خلق العالم العلوي والسفلي لأجل معرفتنا لهما. السابعة عشر: أن من ادعى معرفتهما وأشكل عليه التوحيد فعجب، ولذلك قال: {أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ} [سورة الأنعام آية: 50] ؟. الثامنة عشر: قوله: {وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ} [سورة الأنعام آية: 81] إلى آخره، يدل على أنها حجة عقلية تعرفها عقولهم. التاسعة عشر: قوله: {إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [سورة البقرة آية: 184] يدل على أن من أشكلت عليه هذه الحجة فليس له علم. العشرون: البشارة العظيمة، والخوف الكثير في الجزء: 13 ¦ الصفحة: 151 فصل الله هذه الخصومة إذا عرف ما جرى للصحابة، وما فسرها لهم به النبي صلى الله عليه وسلم. الحادية والعشرون: تعظيمه سبحانه هذه الحجة بإضافتها إلى نفسه، وأنه الذي أعطاها إبراهيم - عليه السلام - عليهم. الثانية والعشرون: أن العلم بدلائل التوحيد وبطلان الشبه فيه، يرفع الله به المؤمن درجات. الثالثة والعشرون: معرفة أن الرب تبارك وتعالى حكيم يضع الأشياء في مواضعها. الرابعة والعشرون: كونه عليما بمن هو أهل لها، كما قال تعالى: {وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا} [سورة الفتح آية: 26] . الخامسة والعشرون: ذكر نعمته على إبراهيم بالذرية التي أنعم عليهم بالهداية. السادسة والعشرودن: أن العلم والهداية أفضل النعم، لقوله: {وَنُوحاً هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ} [سورة الأنعام آية: 84] . السابعة والعشرون: هداية المذكورين، أصولهم وفروعهم، ومن في درجتهم. الثامنة والعشرون: ذكره الذي هداهم الله إليه، وهو الصراط المستقيم، وهو المقصود من القصة. التاسعة والعشرون: التنبيه على الاستقامة. الثلاثون: القاعدة الكلية أن هذا الطريق هو هدى الله، ليس للجنة طريق إلا هو. الحادية والثلاثون: التنبيه على أن الهداية إليه بمشيئته، ليظهر العجب وتشكر النعمة. الثانية والثلاثون: العظيمة التي لم يعرفها أكثر من يدعي الدين، وهي مسألة تكفير من أشرك وحبوط عمله، ولو كان من أعبد الناس وأزهدهم. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 152 الثالثة والثلاثون: ذكره أنه أعطاهم ثلاثة أشياء: الكتاب، والحكم، والنبوة؛ فلا يرغب عن طريقهم إلا من سفه نفسه. الرابعة والثلاثون: ما في قوله: {فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ} [سورة الأنعام آية: 89] إلى آخره، من العبر، والتحريض على الحرص على طلب العلم من طريقهم، وما فيه من النفور من الجهل وتقسيمه. الخامسة والثلاثون: قوله: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [سورة الأنعام آية: 90] أن دينهم واحد، وأن شرعهم شرع لنا. السادسة والثلاثون: النهي عن البدع، فإن في التحريض عليه نهيا عن ضده. السابعة والثلاثون: كون النذير البشير، مع مقاساة الشدائد في ذلك، لم يطلب منا أجرا عليه. الثامنة والثلاثون: كونه ذكرى، ففيه الرد على من يقرأ بلا تدبر. التاسعة والثلاثون: قوله: {للعالمين} فيه تكذيب من قال: لا يعرفه إلا المجتهد. الأربعون: الحصر فيما ذكر. والله سبحانه أعلم. وقال: قال شيخ الإسلام: هذه تفسير آيات أشكلت حتى لا يوجد في طائفة من كتب التفسير إلا ما هو خطأ: منها: قوله تعالى: {وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ} [سورة الأنعام آية: 109] والآية بعدها، أشكلت قراءة الفتح على كثير، بسبب أنهم ظنوا أن الآية بعدها جملة مبتدأة. وليس كذلك، لكنها داخلة في خبر (أن) . والمعنى: إذا كنتم لا تشعرون أنها إذا جاءت لا يؤمنون، الجزء: 13 ¦ الصفحة: 153 وأنا أفعل بهم هذا، لم يكن قسمهم صدقا، بل قد يكون كذبا، وهو ظاهر الكلام المعروف: أنها " أن " المصدرية، ولو كان: {ونقلب} إلى آخره كلاما مبتدأ، لزم أن كل من جاءته آية، قلب فؤاده، وليس كذلك، بل قد يؤمن كثير منهم. ومنها قوله: {وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ} [سورة يونس آية: 66] ، ظن طائفة أن (ما) نافية، وهو خطأ، بل هي استفهام، فإنهم يدعون معه شركاء، كما أخبر عنهم في غير موضع، فالشركاء يوصفون في القرآن بأنهم يدعون، لا أنهم يتبعون، وإنما يتبع الأئمة. ولهذا قال: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ} [سورة الأنعام آية: 116] ، ولو أراد النفي، لقال: إن يتبعون إلا من ليس شركاء، بل بين أن المشرك لا علم معه، إن هو إلا الظن والخرص، كقوله: {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ} [سورة الذاريات آية: 10] . [حكم ما ذبح لغير الله متقربا إليه] وقال أيضا شيخ الإسلام، الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله: الأولى: ما ذبح لغير الله متقربا إليه يحرم ; وإن قال فيه: بسم الله، كما يفعله طائفة من منافقي هذه الأمة، يتقربون للكواكب ; وإن كان هؤلاء مرتدين لا تباح ذبيحتهم بحال، لكن يجتمع في الذبيحة مانعان. ومن هذا ما يفعله الجاهلون بمكة شرفها الله من الذبح للجن، ولهذا روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه "نهى عن ذبائح الجن"، وأيضا ما رواه أبو داود في سننه عن ابن عباس قال: الجزء: 13 ¦ الصفحة: 154 "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن معاقرة الأعراب، فقال: إني أخاف أن تكون مما أهل لغير الله به ". وعن عبد الله بن الجارود، قال سمعت الجارود، قال: "كان من بني رباح رجل - يقال لى سحية بن وثيل - شاعر نافر أبا الفرزدق الشاعر بماء بظهر الكوفة، على أن يعقر هذا مائة من إبله إذا وردت الماء. فلما وردت الإبل، قاما إليها بأسيافهما، فجعلا ينسفان عراقيبها. فخرج الناس على الحمير والبغال، يريدون اللحم، وعلي رضي الله عنه بالكوفة. فخرج على بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم البيضاء، وهو ينادي: يا أيها الناس لا تأكلوا من لحومها، فإنها أهل بها لغير الله"، فهؤلاء الصحابة قد فسروا ما قصد بذبحه غير الله. وقال أيضا، رحمه الله تعالى: ذكر ثلاث مسائل: الأولى: من ذبح لغير الله فهو مرتد، فيحصل في الذبيحة مانعان. الثانية: أن ما ذبح لقربان لا يجوز الأكل منه، وإن ذكر اسم الله فيه، بخلاف ما ذبح للحم. الثالثة: أن معاقرة الأعراب مما أهل به لغير الله، كما ذكر عن علي رضي الله عنه. وذكر في قول الله تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيباً فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا} [سورة الأنعام آية: 136] ، فأعظم الفوائد: كون الجاهلية يجعلون لله نصيبا. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 155 والذي ذكر: أن القبيلة اسمهم خولان، وهم حاضرة وبادية، ولهم صنم، ويجعلون لله بيدرا ولآلهتهم بيدرا، وما طارت به الهواء من الذي لله على الذي للآلهة تركوه، وقالوا: الله غني وهم فقراء، وقال الله تعالى: {سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [سورة الأنعام آية: 136] . وأما أهل زماننا فهم أفضح الزكاة 1 وما كان واجبا عليهم لا يلتفتون له، وأما الذي للشيطان فيحملون قناطير الحديد. وكون أهل الخرج يقولون: يوم البركات تجعل بيدرا، والنذور بيدرا، وكون العلماء يتمنون هذا. [تفسير قوله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} ] سأل بعضهم، عن قوله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [سورة الأنعام آية: 141] ، فأجاب: وأما ما ذكرت من قول الله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [سورة الأنعام آية: 141] ، قال بعضهم: في الزكاة المفروضة، ثم رواه أنس بن مالك. وكذا قال ابن المسيب. وقال العوفي عن ابن عباس، وذلك أن الرجل إذا زرع فكان يوم حصاده، لم يخرج منه شيئا، فقال الله: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [سورة الأنعام آية: 141] إلى آخره. وقال الحسن: وهي الصدقة من الحب والثمار، وقاله قتادة وغير واحد. وقال آخرون: هي شيء آخر سوى الزكاة، قال أشعث عن ابن سيرين ونافع، عن ابن عمر في الآية: "كانوا يعطون   1 كذا بالأصل. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 156 شيئا سوى الزكاة"، وعن عطاء: "يعطى من حضر يومئذ ما تيسر، وليست الزكاة". "" وقال ابن المبارك: عن سالم عن سعيد بن جبير {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [سورة الأنعام آية: 141] قال: "هذا قبل الزكاة، للمساكين القبضة ; والضغث لعلف الدابة" ; وفي حديث ابن لهيعة عن دارج، عن أبي الهيثم، عن سعيد مرفوعا، في الآية قال: "ما سقط من السنبل" وقال آخرون: "هذا شيء كان واجبا، ثم نسخه الله بالعشر، ونصف العشرة" حكاه ابن جرير عن ابن عباس، وابن الحنفية، وإبراهيم وغيرهم، واختاره - يعني ابن جرير -. وقد ذم الله سبحانه الذين يصرمون ولا يتصدقون كما ذكره في سورة نون ; انتهى النقل من تفسير ابن كثير. فقد علمت كلامهم على الآية، ونقل ابن جرير عن ابن عباس وابن الحنفية وإبراهيم، وهو اختياره: أنها منسوخة، يعني بآية الزكاة. وأما الاستحباب فلا يخفى، وإنما اختلافهم في الوجوب، فلا ينبغي لمن أعطاه مولاه نعمة أن لا يؤدي حقها، والمال يعتريه حقوق كثيرة غير الزكاة، والله أعلم. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 157 سورة الأعراف قال الشيخ: محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى: مسائل في سورة الأعراف: الآية الأولى: 1 فيها: وصفه بأنه كتاب. الثانية: كونه منزل إلى النبي صلى الله عليه وسلم. الثالثة: النهي عن الحرج. الرابعة: فاء التفريع. الخامسة: ذكر الحكمة في ذلك، وهي الإنذار العام، والذكرى الخاصة. الآية الثانية: فيها: الأمر باتباعه. الثانية: التحريض على ذلك ; بأنه منزل إلينا من ربنا. الثالثة: النهي عن اتباع ما سواه. الرابعة: أنه لا بد من هذا وهذا. الخامسة: ذكر أن التذكر منا قليل. الآية الثالثة: ذكر عقوبات من لم يفعل. الثانية: أن ذلك كثير. الثالثة: أن البأس جاءهم وقت الغفلة. الآية الرابعة: فيها: ذكر إقرارهم بالظلم عند نزوله. الثانية: أن ذلك الإقرار ليس لهم دعوى غيره. الآية الخامسة: فيها: أنه لما ذكر عقوبة الدنيا توعد بالحساب. الثانية: أن الحساب متوقف على الرسالة. الثالثة: أنه عام حتى المرسلين. وفي الآية السادسة: أنه يقص عليهم ما فعلوا بعلمه. الثانية: أنه شهيد على الجزئيات.   1 أي باعتبار ما فسره رحمه الله، وإلا فهي الآية الثانية، وهكذا بقية الآيات الآتية. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 158 وفي الآية السابعة والثامنة: الوعيد بالميزان. الثانية: أنه الحق لتقطع الأطماع. الثالثة: أن الفلاح بسبب ثقله. الرابعة: إن الخسارة بسبب خفته. الخامسة: ذكر سبب الخفة. الآية التاسعة: فيها: ذكر نعمته بالتمكين في الأرض. الثانية: ذكر نعمته بما فيها من المعايش. الثالثة: ذكر قلة شكرهم. وفي الآية العاشرة: ذكر نعمة الخلق. الثانية: ذكر نعمة التصوير. الثالثة: ذكر نعمة أمر الملائكة بالسجود لأبينا آدم. الرابعة: أنهم امتثلوا كلهم. الخامسة: إلا بإبليس. الآية الحادية عشر: فيها: سؤال الله إياه عن علة الامتناع. الثانية: تعظيم الفعل بقوله: {إذ أمرتك} . الثالثة: أن الاستدلال بالعموم صحيح. الرابعة: جواب إبليس أن ذلك لأجل كونه خيرا منه; لأن الفاضل لا يفعله مع المفضول. الخامسة: الاستدلال على فضيلته عليه بالأصل. السادسة: أن أصل الأبوين مما ذكر. الآية الثانية عشر: فيها: أن كثيرا من شبه أهل الباطل لا يخاض معهم في حلها، بل جوابهم العقوبة. الثانية: قوله: {فاهبط منها} . الثالثة: ذكر العلة. الرابعة: ذكر فاء التفريع. الخامسة: قوله: {فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ} [سورة الأعراف آية: 13] . السادسة: تغليظ شأن الكبر. السابعة: معاقبة العاصي بضد قصده. الثامنة: تغليظ رد النص بالرأي. وفي الآية الثالثة عشر والرابعة عشر: سؤاله النظرة. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 159 ولم ينزع إلى التوبة. الثانية: ليزداد معصية. الثالثة: النظر إلى عجيب القدر، كيف صدر هذا منه مع علمه وعبادته؟ . الرابعة: علمه بالبعث وذكره في ذلك الموطن. الخامسة: أن إجابة دعاء الداعي في بعض الأحيان، لا يدل على الكرامة. السادسة: أنه قد يكون نقمة. السابعة: أن طول العمر قد يكون نقمة. الآية الخامسة عشر والسادسة عشر: فيهما الإيمان بالقدر. الثانية: أن الاحتجاج به على المعاصي من طريقة إبليس. الثالثة: ذكر تجرده لهذا الأمر بذكر القعود. الرابعة: أنه قاعد على صراط الله المستقيم. الخامسة: تفصيله ما أراد فعله، أنه يأتي من الجهات كلها. السادسة: أن القوة على فعل القبيح والتمدح بذلك من فعله. السابعة: أن الفاسق قد يعطى من الذكاء ما يصير به من أهل الفراسة. الثامنة: ما في هذا السياق من تقبيح المعصية. التاسعة: ما فيه من تقبيح ترك الشكر. العاشرة: أن الاعتراض على الحكمة بمثل هذا من فعله. الحادية عشر: لو وقع المحذور، فالاعتراض به على الحكمة من فعله. السابعة عشر: إجابته بهذا الجواب. الثانية: أنه خرج في هذه الحال ضد ما طلب. الثالثة ; وعيد من اتبعه بالنار. الرابعة: أنها لا تملأ إلا بهم، ففيه الرد على من زعم أن أطفال المشركين منهم. الخامسة: امتلاؤها مع ما ذكر من عظمتها. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 160 الثامنة عشر: ما ذكر من إكرام آدم وزوجته. الثانية: إباحته لها جميع ما في الجنة إلا شجرة واحدة. الثالثة: تأكيد النهي. الرابعة: ظلم دون ظلم. وفي التاسعة عشر، والعشرين، والحادية والعشرين: ذكر وسوسته لهما. الثانية: ذكر غرضه في ذلك. الثالثة: ذكر تعليله النهي بضده. الرابعة: ذكر حلفه الفاجر. الخامسة: ذكر تدليه إياهما بالغرور. السادسة: أنهما لما فعلا بانت لهما العاقبة. السابعة: رحمة الله بعبده فيما حجره عليه، وأنه لم ينهه إلا عما يضره. الثامنة: أن بدو العورة مستقبح شرعا وعقلا. التاسعة: تكليم الله لهما. العاشرة: أنه ذكر لهما أنه نصحهما عن الأمرين. الآية الثانية والعشرين: وفي الآية الثانية والعشرين: أن الاعتراف بالذنب هو الصواب، وهو من أسباب السلامة. الثانية: الاستغفار. الثالثة: المبالغة فيه. الرابعة: أن العاصي لم يظلم إلا نفسه. وفي الآية الثالثة والعشرين: أمره لهم بالهبوط. الثانية: إخباره بعداوة بعضهم لبعض. الثالثة: إخباره لهما بما لهم في الأرض. الرابعة: مضرة المعصية ولو تاب فاعلها منها. الخامسة: الرد على من قال بالعصمة. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 161 [ما يستفاد من قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ} ] وقال أيضا رحمه الله تعالى: وأما قوله: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ} [سورة الأعراف آية: 11] إلى آخر القصة. قال ابن القيم قال ابن عباس: " {ولقد خلقناكم} يعني آدم {ثم صورناكم} لذريته"، ومثال هذا ما قاله مجاهد: {خلقناكم} يعني آدم و {صورناكم} يعني في ظهر آدم، وفي الحديث المعروف أنه أخرجهم من ظهر آدم في صورة الذر، ونظيره {فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ} [سورة الحج آية: 5] والله سبحانه يخاطب الموجودين، والمراد آباؤهم، كقوله: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} [سورة البقرة آية: 55] وغير ذلك من الآيات. وقد يستطرد سبحانه من الشخص إلى النوع، كقوله: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الأِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ} [سورة المؤمنون آية: 12-13] إلى آخره، فالمخلوق من سلالة آدم، ومن نطفة ذريته، وقيل إن: {صورناكم} لآدم أيضا، وقوله تعالى: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} [سورة الحجر آية: 29] فأضاف النفخ إلى نفسه. وفي الصحيح - في حديث الشفاعة -: "فيقولون أنت آدم، خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه، وأسجد لك ملائكته، وعلمك أسماء كل شيء" فذكروا له أربع خصائص، فالمنفوخ منه الروح المضافة إلى الله، إضافة تخصيص وتشريف، والله هو الذي نفخ في طينته من تلك الجزء: 13 ¦ الصفحة: 162 الروح ; هذا الذي دل عليه النص. وأما كون النفخة مباشرة منه سبحانه كما خلقه بيده، أو أنها بأمره، كقوله في مريم: {فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا} [سورة الأنبياء آية: 91] مع قوله: {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا} [سورة مريم آية: 17] إلى آخره فهذا يحتاج إلى دليل، فإنه أضاف النفخ إلى مريم لكونه بأمره ; وإلى الملك لكونه المباشر للنفخ. وفي القصة فوائد عظيمة، وعبر لمن اعتبر بها: منها: أن خلق آدم من تراب من أبين الأدلة على المعاد، كما استدل عليه سبحانه في غير موضع، وعلى قدرته سبحانه وعظمته ورحمته وعقوبته، وهيبته وإنعامه وكرمه، وغير ذلك من صفاته ; ومنها: أنها من أدلة الرسل عامة، ومن أدلة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم خاصة ; ومنها: الدلالة على الملائكة وعلى بعض صفاتهم ; ومنها: الدلالة على القدر خيره وشره؛ فقد اشتملت على أصول الإيمان الستة في حديث جبريل. ومنها - وهي أعظمها -: أنها تفيد الخوف العظيم الدائم في القلب ; وأن المؤمن لا يأمن حتى تأتيه الملائكة عند الموت تبشره، وذلك من قصة إبليس وما كان فيه أولا من العبادة والطاعة، ففي ذلك شيء من تأويل قوله صلى الله عليه وسلم: "إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة، حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع" إلى آخره. ومنها: أن لا يأمن عاقبة الذنب، ولو كان قبله طاعات كثيرة، وهو ذنب واحد، فكيف إذا كانت الذنوب بعدد رمل الجزء: 13 ¦ الصفحة: 163 عالج؟ ! ومن هذا قول بعض السلف: نضحك ولعل الله اطلع على بعض أعمالنا، فقال: اذهبوا فلا أقبل منكم عملا، أو كلاما هذا معناه. وأبلغ منه قوله صلى الله عليه وسلم: " إن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله، لا يلقي لها بالا، ما يظن أن تبلغ ما بلغت، يكتب الله له بها سخطه إلى يوم يلقاه " قال علقمة: كم من كلام منعنيه حديث بلال، يعني هذا. ومنها: أنها تخلع من القلب داء العجب، الذي هو أشد من الكبائر. ومنها - وهي من أعظمها -: أنها تعرف المؤمن شيئا من كبرياء الله وعظمته وجبروته ; ولا يدلي عليه، ولو بلغ في الطاعة ما بلغ. وقد وقع في هذه الورطة كثير من العباد فمستقل ومستكثر. ومنها: التحذير من معارضة القدر بالرأي، لقوله. {أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ} [سورة الإسراء آية: 62] ؛ وهذه بلية عظيمة لا يتخلص منها إلا من عصمه الله، لكن مقل ومكثر. ومنها - وهي من أعظمها -: تأدب المؤمن من معارضة أمر الله ورسوله بالرأي، كما استدل بها السلف على هذا الأمر، ولا يتخلص من هذا إلا من سبقت له من الله الحسنى. ومنها: عدم الاحتجاج بالقدر عند المعصية، لقوله: {رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي} [سورة الحجر آية: 39] ، بل يقول كقول أبيه: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا} [سورة الأعراف آية: 23] الآية. ومنها: معرفة قدر المتكبر عند الله، خصوصا مع الجزء: 13 ¦ الصفحة: 164 قوله: {فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا} [سورة الأعراف آية: 13] . ومنها: الفخر بالأصل، وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم التشديد في ذلك; والفخر منهي عنه مطلقا، ولو كان بحق، فكيف إذا كان بباطل؟ ومنها: الشهادة لما كان عليه السلف، أن البدعة أكبر من الكبائر ; لأن معصية اللعين كانت بسبب الشبهة، ومعصية آدم بسبب الشهوة. ومنها: عدم الاغترار بالعلم ; فإن اللعين كان من أعلم الخلق، فكان من أمره ما كان. ومنها: عدم الاغترار بالرتبة والمنْزلة، فإنه كان له منْزلة رفيعة، وكذلك بلعام وغيره ممن له علم ورتبة ثم سلب ذلك، ومنها: معرفة العداوة التي بين آدم وذريته، وبين إبليس وذريته، وأن هذا سببا لما طرد عدو الله، ولعن بسبب آدم لما لم يخضع. وهذ المعرفة مما يغرس في القلب محبة الرب جل جلاله، ويدعوه إلى طاعته وإلى شدة مخالفة الشيطان ; لأنه سبحانه ما طرد إبليس ولعنه وجعله بهذه المنْزلة الوضيعة بعد تلك المنْزلة الرفيعة، إلا لأنه لم يخضع بالسجود لأبينا آدم، فليس من الإنصاف والعدل موالاته، وعصيان المنعم جل جلاله، كما ذكر هذه الفائدة بقوله: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً} [سورة الكهف آية: 50] . ومنها: معرفة شدة عداوة عدو الله لنا، وحرصه على الجزء: 13 ¦ الصفحة: 165 إغوائنا بكل طريق، فيعتد المؤمن لهذا الحرب عدته، ولا يعلم قوة عدوه وضعفه عن محاربته إلا بمعونة الله، كما قال قتادة: "إن عدوا يرانا هو وقبيله من حيث لا نراهم، إنه لشديد المؤونة إلا من عصمه الله، وقد ذكر الله عداوته في القرآن في غير موضع، وأمرنا باتخاذه عدوا". ومنها - وهي من أعظمها - معرفة الطرق التي يأتينا منها عدو الله، كما ذكر الله تعالى عنه في القصة، أنه قال: {لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [سورة الأعراف آية: 16-17] ، وإنما تعرف عظمة هذه الفائدة بمعرفة شيء من معاني هذا الكلام، قال جمهور المفسرين: انتصب صراط بحذف "على" التقدير لأقعدن لهم على صراطك. قال ابن القيم: والظاهر أن الفعل مضمر، فإن القاعد على الشيء ملازم له، فكأنه قال: لألزمنه ولأرصدنه، ونحو ذلك. قال ابن عباس: "دينك الواضح {مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ} [سورة الأعراف آية: 17] يعني الدنيا والآخرة {ومن خلفهم} يعني الآخرة والدنيا {وعن أيمانهم} قال ابن عباس: "أشبه عليهم أمر دينهم"، وعنه أيضا: "من قبل الحسنات"; وقوله: {وعن شمائلهم} الباطل أرغبهم فيه"، قال الحسن: "السيئات يحثهم عليها ويزينها في أعينهم". قال قتادة: "أتاك الشيطان يا ابن آدم من كل وجه، إلا أنه لم يأتك من فوقك، ولم يستطع أن يحول بينك وبين رحمة الله" وهو يوافق قول من ذكر هذه الأوجه، للمبالغة في الجزء: 13 ¦ الصفحة: 166 التوكيد، أيضا: أتصرف لهم في الإضلال من جميع جهاتهم، ولا يناقض ما ذكر السلف، فإن ذلك على جهة التمثيل، فالسبل التي للإنسان أربعة فقط. فإنه تارة يأخذ على جهة شماله، وتارة على يمينه، وتارة أمامه، وتارة يرجع خلفه، فأي سبيل من هذه سلكها وجد الشيطان عليها راصدا له، فإن سلكها في طاعة ثبطه، وإن سلكها بالمعصية حداه ; وأنا أمثل لك مثالا واحدا لما ذكر السلف، وهو: أن العدو الذي من بني آدم إذا أراد أن يمكر بك، لم يستطع أن يمكر إلا في بعض الأشياء وهي الأشياء الغامضة، والأشياء التي ليست بعالية. فلو أراد أن يمكر بك في أمر واضح بين، مثل التردي من جبل أو بئر وأنت ترى ذلك، لم يستطع، خصوصا إذا عرفت أنه قد مكر بك مرات متعددة، ولو أراد ليمكر بك لتتزوج عجوزا شوهاء وأنت تراها، لم يستطع ذلك. وأنت ترى اللعين - أعاذنا الله منه - يأتي الآدمي في أشياء واضحة بينة أنها من محارم الله، فيحمله عليها حتى يفعلها، ويزينها في عينه حتى يفرح بها، ويزعم أن فيها مصلحة ويذم من خالفه ; كما قال تعالى: {لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا} [سورة آل عمران آية: 188] الآية، وقوله: {وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [سورة البقرة آية: 42] ، وقوله: {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ} [سورة البقرة آية: 102] ، وهذا معنى قول الجزء: 13 ¦ الصفحة: 167 من قال: {من بين أيديهم} من قبل الدنيا فإنهم يعرفونها وعيوبها ومجمعون على ذمها، ثم مع هذا لأجلها قطعوا أرحامهم، وسفكوا دماءهم، وفعلوا ما فعلوا، وهذا معنى قول مجاهد: {من بين أيديهم} من حيث يبصرون. فهو لم يقنع بإتيانه إياهم من الجهة التي يجهلون أنها معصية، مثل ما فسر به مجاهد {من خلفهم} قال: "من حيث لا يبصرون، ولا من جهة الغيب"، كما قال فيها بعضهم، الآخرة أشككهم فيها، لم يقنع بذلك عدو الله، حتى أتاهم في الأمور التي يعرفونها عيانا أنها النافعة وضدها الضار، وفي الأمور التي يعرفون أنها سيئات وضدها حسنات، ومع هذا فأطاعوه في ذلك، إلا من شاء الله منهم، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [سورة سبأ آية: 20] . وقال تعالى، حكاية عنه: {وَقَالَ لأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} [سورة النساء آية: 118-119] الآية. قال الضحاك: مفروضا معلوما، وحقيقة الفرض التقدير، والمعنى: أن من اتبعه فهو نصيبه المفروض فالناس قسمان: نصيب الشيطان ومفروضه، وحزب الله وأولياؤه. قوله: {ولأضلنهم} يعني عن الحق، {ولأمنينهم} قال ابن عباس: "تسويف التوبة وتأخيرها" وقال الزجاج: أجمع الجزء: 13 ¦ الصفحة: 168 لهم مع الإضلال أن أوهمهم أنهم ينالون مع ذلك. حظهم من الآخرة، وقوله: {وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ} [سورة النساء آية: 119] البتك القطع. وهو ههنا قطع آذان البحيرة. وقوله: {وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} [سورة النساء آية: 119] قال ابن عباس: "دين الله"، وقاله ابن المسيب والحسن وإبراهيم وغيرهم ومعنى ذلك: أن الله فطر عباده على الفطرة وهي الإسلام كما قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [سورة الروم آية: 30] الآية. وفي الصحيح: "ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه ... " الحديث، فجمع صلى الله عليه وسلم بين الأمرين: تغيير الفطرة بالتهويد وغيره، وتغيير الخلقة بالجدع؛ وهما اللذان أخبر إبليس أنه لا بد أن يغيرهما. ثم قال تعالى: {يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ} [سورة النساء آية: 120] فوعده ما يصل إلى قلب الإنسان، نحو: سيطول عمرك وتنال من الدنيا وتعلو، والدنيا دول وستكون لك، ويطول أمله، ويعده الحسنى على شركه ومعاصيه، ويمنيه الأماني الكاذبة على اختلاف وجوهها؛ فالوعد فى الخير، والتمنية في الطلب والإرادة. ومنها: أن معرفة هذه القصة تزرع في قلب المؤمن حب الله تعالى الذي هو أعظم النعم على الإطلاق وذلك من صنعه سبحانه بالإنسان وتشريفه; وتفضيله إياه على - الملائكة، وفعله بإبليس ما فعل لما أبى أن يسجد له، وخلقه إياه بيده، ونفخه فيه من روحه; وإسكانه جنته. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 169 وقد خاطب الله سبحانه بني إسرائيل الموجودين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم بما فعل مع آبائهم، وذكرهم بذلك واستدعاهم به، وذكرهم أنه فعله بهم، كقوله: {وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} [سورة البقرة آية: 50] وغير ذلك. وذكر النعم التي هي أصل الشكر الذي هو الدين؛ لأن شكرها مبني على معرفتها وذكرها، فمعرفة النعم من الشكر، بل هي أم الشكر، كما في الحديث: " من أسدى إليه معروف فذكره فقد شكره، فإن كتم فقد كفره " هذا في الأشياء التي تصدر من بني آدم، فكيف بنعم المنعم على الحقيقة والكمال؟ واجتمع الصحابة يوما في دار يتذاكرون ما من الله عليهم به، من بعثة محمد صلى الله عليه وسلم وجلس الفضيل وابن أبي ليلى يتذاكرون. ومنها: أن التأويل الفاسد في رد النصوص ليس عذرا لصاحبه، كما أنه سبحانه لم يعذر إبليس في شبهته التي ألقاها، كما لم يعذر من خالف النصوص متأولا مخطئا، بل كان ذلك التأويل زيادة في كفره. ومنها: أن مثل هذا التأويل ليس على أهل الحق أن يناظروا صاحبه، ويبينوا له الحق، كما يفعلون مع المخطئ المتأول ; بل يبادر إلى عقوبته بالعقوبة التي يستحقها بقدر الجزء: 13 ¦ الصفحة: 170 ذنبه ; وإلا أعرض عنه إن لم يقدر عليه ; كما كان السلف الصالح يفعلون هذا وهذا. فإنه سبحانه لما أبدى له إبليس شبهته فعل به ما فعل ولما عتب على الملائكة في قيلهم، أبدى لهم شيئا من حكمته وتابوا. وقد وقعت هذه الثلاث لرسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوته التي فتح الله فيها مكة، فإنه لما أعطى المؤلفة قلوبهم ووجدت عليه الأنصار عاتبهم واعتذروا وقبل عذرهم، وبين لهم شيئا من الحكمة. ولما قال له ذلك الرجل العابد: اعدل، قال له كلاما غليظا، واستأذنه بعض الصحابة في قتله ولم ينكر عليه; لكن ترك قتله لعذر ذكره، ولما فعل خالد بن الوليد ببني جذيمة ما فعل، رد عليهم ما أخذ منهم ووداهم، ولا نعلم أنه عاتب خالدا ولا منعه ذلك من تأميره على الناس. ومنها: أن الشبهة إذا كانت واضحة البطلان لا عذر لصاحبها، فإن الخوض معه في إبطالها تضييع للزمان، وإتعاب للحيوان، مع أن ذلك لا يردعه عن بدعته، وكان السلف لا يخوضون مع أهل الباطل في رد باطلهم، كما عليه المتأخرون، بل يعاقبونهم إن قدروا، وإلا أعرضوا عنهم، وقال أحمد لمن أراد أن يرد عليهم: اتق الله ولا تنصب نفسك لهذا، فإن جاءك مسترشد فأرشده وهو سبحانه لما قال اللعين: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ} [سورة ص آية: 76] {قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ} [سورة ص آية: 77] ، ولما قالت الجزء: 13 ¦ الصفحة: 171 الملائكة ما قالت {قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [سورة البقرة آية: 30] ثم بين لهم ما بين حتى أذعنوا. ومنها: معرفة قدر الإخلاص عند الله، وحماية الله لأهله، لقول اللعين: {إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [سورة الحجر آية: 40] ، فعرف عدو الله أنه لا سبيل له على أهل الإخلاص. ومنها: أن كشف العورة مستقر قبحه في الفطر والعقول، لقوله: {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا} [سورة الأعراف آية: 20] ، وقد سماه الله فاحشة. ومنها: أنه لا ينبغي للمؤمن أن يغتر بالفجرة، بل يكون على حذر منهم، ولو قالوا ما قالوا، خصوصا أولياء الشيطان، الذين تسبق شهادة أحدهم يمينه، ويمينه شهادته، فإن اللعين حلف {إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ} [سورة الأعراف آية: 21] . ومنها: أن زخرفة القول قد تخرج الباطل في صورة الحق، كما في الحديث: "إن من البيان لسحرا" فإن اللعين زخرف قوله بأنواع، منها: تسمية الشجرة شجرة الخلد. ومنها: تأكيد قوله: {إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ} [سورة الأعراف آية: 21] وغير ذلك مما ذكر في القصة، فينبغي للمؤمن أن يكون من زخرف القول على حذر، ولا يقنع بظاهره حتى يعجم العود. ومنها: أن في القصة شاهدا لما ذكر في الحديث: "إن من العلم جهلا" أي: من بعض العلم ما العلم به جهل، الجزء: 13 ¦ الصفحة: 172 والجهل به هو العلم ; فإن اللعين من أعلم الخلق بأنواع الحيل التي لا يعرفها آدم، مع أن الله علمه الأسماء كلها، فكان ذلك العلم من إبليس هو الجهل، وفي الحديث: "إن الفاجر خب لئيم، وإن المؤمن غر كريم"، وأبلغ من ذلك وأعم منه قول الملائكة: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا} [سورة البقرة آية: 30] فقيل لهم ما قيل وعوتبوا، فكانت توبتهم أن قالوا: {سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا} [سورة البقرة آية: 32] ، فكان كمالهم ورجوعهم عن العتب، وكمال علمهم أن أقروا على أنفسهم بالجهل، إلا ما علمهم سبحانه، ففي هذه القصة شاهد للقاعدة الكبرى في الشريعة المنبه عليها في مواضع، منها قوله صلى الله عليه وسلم: " وسكت عن أشياء رحمة لكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها ". ومنها: أنه لا ينبغي للمؤمن أن يغتر بخوارق العادة، إذا لم يكن مع صاحبها استقامة على أمر الله، فإن اللعين أنظره الله تعالى، ولم يكن ذلك إلا إهانة له وشقاء له، وحكمة بالغة يعلمها الحكيم الخبير، فينبغى للمؤمن أن يميز بين الكرامات وغيرها، ويعلم أن الكرامة هي لزوم الاستقامة. ومنها: أن الأمور التي يحرص عليها أهل الدنيا قد تكون عقوبة ومحنة، والجاهل يظنها نعمة، مثل المال والجاه وطول العمر ; فإن الله أعطى اللعين من النظرة ما أعطاه. ومنها: أن يعلم المؤمن أن الذنوب كثيرة، ولا نجاة له منها إلا بمعونة الله وعفوه، وأن كثيرا منها قد لا يعلمه من الجزء: 13 ¦ الصفحة: 173 نفسه، فإن أكثر الكبائر القلبية مثل الرياء والكبر والحسد وترك التوكل والإخلاص وغير ذلك، قد يتلطخ بها الرجل وهو لا يشعر، ولعله يتورع عن بعض الصغائر الظاهرة، وهو في غفلة عن هذه العظائم. ومنها: أن يعرف قدر معصية الحسد، وكيف آل باللعين حسده إلى أن فعل به ما فعل. ومنها - وهو من أحسنها -: أن يعرف صحة ما ذكر عن بعض السلف: أن من لم يجاهد في سبيل الله، ابتلي بالجهاد في سبيل الشيطان، ومن بخل بإنفاقه المال في طاعة الله، ابتلي بإنفاقه في المعاصي وفيما لا ينفعه، ومن لم يمش في طاعة الله خطوات، مشى في معصية الشيطان أميالا 1 وأشباه ذلك. والدليل من القصة أبلغ من هذا بكثير، فإن اللعين أبى أن يسجد لزعمه أن ذلك نقص في حقه، ثم صار بعد ذلك يكدح جهده في القيادة والدياثة وأنواع الرذائل. ومنها: أن في القصة معنى قوله صلى الله عليه وسلم " كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه " 2 إلى آخره. ومن ذلك قوله حكاية عن إبليس: {وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} [سورة النساء آية: 119] ، فإنهم ذكروا في معناه، أي: آمرهم بتغيير خلق الله، وهي فطرته التي فطر عباده عليها وهي الإسلام لله وحده لا شريك له.   1 كالحسد والكبر والإباء. 2 البخاري: الجنائز (1385) ، ومسلم: القدر (2658) ، وأحمد (2/233، 2/393) . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 174 ومنها: أن فيها معنى القاعدة الكبرى في الشريعة، المذكورة في مواضع، منها: قول النبي صلى الله عليه وسلم " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ر د"1 وهي من قوله: {وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ} [سورة النساء آية: 119] ، فإنهم ذكروا أن معناه: قطع آذان البحيرة تقربا إلى الله، على عادات الجاهلية. ومنها: أنها تفيد المعنى العظيم المذكور في قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} [سورة الأنفال آية: 24] ، وما في معناه من النصوص، وذلك مستفاد من صنع اللعين ; فإنه مع علمه بجبروت الله وأليم عذابه، وأنه لا محيص عنه، ويعرف من الأمور ما لا يعرفه كثير من أهل العلم، ومع ذلك لم يتب ولم يرجع، بل أصر وعاند وطلب النظرة لأجل المعصية مع علمه بعقابه وعدم مصلحته من فعله؛ وهذا باب عظيم من معرفة الرب وقدرته، وتقليبه القلوب كيف يشاء، وتيسيره كل عبد لما خلق له فيفعله باختياره. ومنها: أن الله سبحانه قد يعاقب العبد إذا غضب عليه، بعقوبات باطنة في دينه وقلبه، لا يعرفها الناس، مع إمداده إياه في الدنيا، كما قال تعالى. {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ} [سورة التوبة آية: 77] كما فعل إبليس. ومنها: أن فيها شهادة لما ذكر عن بعض السلف، أن من عقوبة السيئة السيئة بعدها. ومنها: أنها تفيد القاعدة المعروفة أن الجزاء من   1 مسلم: الأقضية (1718) ، وابن ماجه: المقدمة (14) ، وأحمد (6/270) . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 175 جنس العمل، وذلك أنه قصد الترفع، فقيل له: {فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ} [سورة الأعراف آية: 13] ، فقصد العز فأذله الله بأنواع من الذل. ومنها: الشهادة لصحة الكلام المذكور عن بعض السلف، في قوله: والله إن معالجة التقي التقوى أهون من معالجة غير التقي الناس، وقول من قال: مصانعة وجه واحد، أهون من مصانعة ألف وجه. وبيان ذلك: أن اللعين لما تخيل أن عليه من أمر الله شيئا من النقص، فلو قدم طاعة الله وآثرها على هواه وسجد لآدم، فلو قدر أن ما تخيله صحيح وأن ذلك غضاضة عليه، لكان في جنب ما أتاه من الشر والهوان والصغار جزءا يسيرا، فالله المستعان، فكيف ولو فعل ذلك لكان فيه شرفه وسعادته، كما هو عادة الله في خلقه أن من تواضع لله رفعه. ومنها: أن الفاجر قد يعطيه الله سبحانه كثيرا من القوى والإدراكات في العلوم والأعمال، حتى في صحة الفراسة، كما ذكر عن اللعين حين تفرس فيهم أنه يغويهم إلا المخلصين، فصدق الله فراسته في قوله: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [سورة سبأ آية: 20] . فإن قيل في الحديث: " اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله " 1 فلا يناقض ما ذكرناه، بل يدل على أن المؤمن أتم في هذه الخصلة من غيره وأصدق، كما كان في العلم والإيمان والأعمال والحلم والصبر وغير ذلك، ولو كان   1 الترمذي: تفسير القرآن (3127) . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 176 للفجار شيء من ذلك. ومنها: الشهادة للقاعدة المعروفة في الشريعة، أن كل عمل لا يقصد به وجه الله فهو باطل، لاستثنائه المخلصين. ومنها: الشهادة للقاعدة الثانية وهي: أن كل عمل على غير اتباع الرسول غير مقبول، لقوله في القصة: {اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً} [سورة البقرة آية: 38] الآية، فقسم الناس إلى قسمين: إلى أهل الجنة وهم الذين اتبعوا الهدى المنزل من الله، وأهل الشقاق والضلال وهم من أعرض عنه؛ فانتظمت هذه القصة لهاتين الآيتين العظيمتين، اللتين هما أكبر قواعد الشريعة على الإطلاق. القاعدة الأولى فيها حديث عائشة: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد " 1. وقال أيضا: المسائل التي ذكر في قصة إبليس وآدم. الأولى: أن هذين: واحد من خيار الملائكة، وآدم نبي، وكل منهما ما عصى غير مرة، فآدم أكل الحرام، وإبليس امتنع عن السجود وتكبر. والإنسان كم يقع منه في اليوم من مرة؟ فإن وقعت من غيرك ما استنكرتها، ولا تجسر تصلي وراء رجل أكل الحرام إلا مال اليتيم، فهو عندك خفيف والسبب العادة ; وأما ذنب إبليس فلا يستنكر، وأكثر ما يقع الكبر من الرؤساء بعلم أو غيره. الثانية: كون الإنسان يفتخر بنسبه، وهو علة إبليس. الثالثة: كون الإنسان يدعو بطول العمر ; ولو كان فيه زيادة   1 مسلم: الأقضية (1718) ، وابن ماجه: المقدمة (14) ، وأحمد (6/270) . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 177 ما أعطيه إبليس؛ وآدم لم يعطه. وذكر في قوله: {إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [سورة الأعراف آية: 30] الآية، لو تصورها في حالة الدنيا، لو يجيء رجل من الأحساء من أهل الدرعية ومعه مال، وإذا أقبل على البلاد، وإذا جمع ابن دواس وجمع أهل الدرعية، وكونه يذهب إلى ابن دواس. 1 وقال رحمه الله تعالى: الخامسة والعشرون: فيها: تذكيره ما يواري السوءات. الثانية: تذكيره بإنزال الريش. الثالثة: تذكيره بإنزال لباس التقوى. الرابعة: إخباره بخير اللباسين. الخامسة: ذكره أن ذلك من آياته. السادسة: ذكره الحكمة في ذلك. السادسة والعشرون: إخباره وإنذاره عن فتنة الشيطان. الثانية: تمثيله بما لا يستطيع أحد دفعه. الثالثة: ما جرى في طاعته من التعب العاجل. الرابعة: نزعه عنهما لباسهما. الخامسة: مراده في ذلك. السادسة: تنبيهنا على هذا المهم، وهو كونهم يروننا ولا نراهم. السابعة: القاعدة الكلية، وهي من مسائل الصفات. السابعة والعشرون: فيها: إنكاره عليهم هذه الفاحشة. الثانية: الرد على من أنكر التحسين والتقبيح العقلي. الثالثة: إنكار حجتهم الأولى والثانية. الرابعة: أمره بالقول الذي فيه تنْزيه الله عن ذلك. الخامسة: اشتمال هذا الكلام على ما لا   1 أي: وهو عدوه. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 178 يحصى من المسائل. السادسة: أن من معرفة الله نفي ما لا يجوز عليه. السابعة: إنكاره عليهم القول عليه بلا علم. الثامنة والعشرون والتاسعة والعشرون: الأولى: أمره أن نقول هذا الإثبات. الثانية: الاستدلال بالصفات على الأفعال. الثالثة: الاستدلال بالعموم. الرابعة: ذكر أمره بالعدل. الخامسة: إقامة الوجه عند كل مسجد. السادسة: دعوته بالإخلاص. السابعة: ذكر المعاد. الثامنة: الاستدلال عليه بالمبدأ. التاسعة: ذكر الإيمان بالقدر بذكر الهداية والإضلال. العاشرة: الإشارة إلى سبب الأمرين. الحادية عشر: ذكر الأمر العظيم، وهي: اتخاذهم الشياطين أولياء. الثانية عشر: ذكر حسبانهم أنهم مهتدون. الثالثة عشر: أن ذلك ليس عذرا. الثلاثون: الأولى: ذكر الأمر بأخذ الزينة عند كل مسجد. الثانية: ذكر الأكل والشرب. الثالثة: ذكر النهي عن السرف. الرابعة: ذكره أنه {لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} . وقال أيضا: وقوله عز وجل: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [سورة الأعراف آية: 28] إلى قوله: {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} [سورة الأعراف آية: 30] . هذه الآية ذكرها الله سبحانه بعدما رد على الكفار عبادات يتقربون بها إليه ولم يشرعها ; منها: أنهم إذا حجوا طافوا الجزء: 13 ¦ الصفحة: 179 بالبيت عراة، يقولون: الثياب التي عصينا الله فيها لا نطوف فيها ; فقال الله ردا عليهم: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [سورة الأعراف آية: 28] . والفاحشة في هذا الموضع إخراج العورة للعبادة، مثل ما يفعل كثير من الناس، يكشف عورته للاستنجاء وغيره ينظره، يريد بالاستنجاء في هذه الحالة التقرب إلى الله. فلما رد عليهم الباطل أخبرهم بالحق الذي شرعه، فقال: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ} [سورة الأعراف آية: 29] وهو: العدل، {وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [سورة الأعراف آية: 29] وهو: إقامة الصلاة بحقوقها. {وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [سورة الأعراف آية: 29] يقول: ادعوه بهذا الشرط، {فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} [سورة الجن آية: 18] يقول: الأمور التي تعبدوني بها لم آمركم بها، والأمور التي آمركم بها لا تفعلونها ; فالظلم والبغي ضد القسط، وهو جاهكم وسمتكم الذي تبذلون فيه الأعمار والأموال، وإقامة الوجه عند كل مسجد لا تفعلونها، بل إن فعلتم صليتم صلاة لا تجزئ، والإخلاص منكر عندكم، ودينكم الذي ترجون به الثواب هو الشرك. إذا فهمت هذا فتأمل أحوال من تعرف ونزل هذه الآية على أحوالهم ترى العجب. ثم قال: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} [سورة الأعراف آية: 29] أي: لا بد أن يخلقكم للبعث كما بدأ خلقكم من نطفة ; ثم قال: {فَرِيقاً هَدَى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ} [سورة الأعراف آية: 30] فهذا القدر يهدي من يشاء ويضل الجزء: 13 ¦ الصفحة: 180 من يشاء: فجمع في هذه الآية: الإيمان بالله، والإيمان باليوم الآخر، والإيمان بالشرع، والإيمان بالقدر. وذكر فيها تفصيل الشرع الذي أمر به، وذكر حال من عكس الأمر فجعل المنكر معروفا والمعروف منكرا. ثم ختم الآية بهذه المسألة العظيمة، وهي {إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} [سورة الأعراف آية: 30] ، فلا أجهل ممن هرب عن طاعة الله واختار طاعة الشيطان، ومع هذا يحسب أنه مهتد مع هذا الضلال الذي لا ضلال فوقه، والله أعلم. وقال أيضا رحمه الله: الحادية والثلاثون: الإنكار على من حرم الزينة. الثانية: إضافتها إلى الله، الثالثة تنبيهه على العمل، بقوله: {من الرزق} . الرابعة: أمره أن نقول هذا القول. الخامسة: ذكر تفصيل الآيات. السادسة: ذكر أهل هذا التفصيل. الثانية والثلاثون: أمره أن نقول هذا القول. الثانية: حصر المحرمات فيما ذكر. الثالثة: تحريم الفواحش. الرابعة: تحريم الإثم والبغي بغير الحق. الخامسة: تحريم الشرك. السادسة: ذكر هذا القيد العظيم. السابعة: تحريم القول على الله بلا علم. سئل الشيخ: عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين، رحمه الله، عن قوله تعالى: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [سورة الأعراف آية: 54] : قال سفيان: فرق الله بين الخلق والأمر الجزء: 13 ¦ الصفحة: 181 فمن جمع بينهما فقد كفر، ما صفة الجمع؟ . فأجاب: وأما قول سفيان في قوله: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [سورة الأعراف آية: 54] ، فمراده بذلك الرد على من يقول إن كلام الله مخلوق ; يقول: إن الله سبحانه وتعالى عطف الأمر على الخلق، وأمره هو كلامه. فمن قال: إن كلام الله مخلوق فقد جعل أمره مخلوقا، فجمع بين الخلق والأمر ; والله سبحانه قد فرق بينهما بعطف الأمر على الخلق، فالمعطوف غير المعطوف عليه. والمراد بسفيان، هو: سفيان بن عيينة الإمام المعروف، رحمه الله تعالى. هذا كلام الشيخ ابن القيم 1 اختصره الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمهما الله تعالى، على قوله عز وجل: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [سورة الأعراف آية: 55-56] : جمعت هذه الآية آداب نوعي الدعاء، دعاء العبادة، ودعاء المسألة. فإن الدعاء في القرآن يراد به هذا تارة، وهذا تارة، ويراد به مجموعهما; وهما متلازمان ; فإن دعاء المسألة طلب ما ينفع وطلب كشف ما يضر، ومن يملك الضر والنفع فهو المعبود ; ولهذا أنكر تعالى على من عبد من لا يملك ضرا   1 انظر صفحة 2-18/ج/3 من بدائع الفوائد. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 182 ولا نفعا؛ فهو سبحانه يدعى للضر والنفع: دعاء المسألة، ويدعى خوفا ورجاء: دعاء العبادة. فاعلم أن النوعين متلازمان. وعلى هذا فقوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} [سورة البقرة آية: 186] الآية، وكذلك قوله: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [سورة غافر آية: 60] ، وقوله: {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي} [سورة الفرقان آية: 77] الآية، وقوله: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [سورة غافر آية: 14] هو دعاء العبادة. وقول الخليل عليه السلام: {إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ} [سورة إبراهيم آية: 39] ، فالمراد: سمع الإجابة لا سمع العام، وهو يتناول النوعين. وسمع الرب إجابته للطلب وإثابته على العبادة، وأما قول زكريا: {وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّاً} [سورة مريم آية: 4] فقد قيل: إنه دعاء المسألة، والمعنى: أنك عودتني الإجابة ولم تشقني بالحرمان، فهو توسل إليه بإحسانه الماضي. وقوله: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيّاً مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [سورة الإسراء آية: 110] ، فالمشهور: أنه دعاء المسألة، وهو سبب النّزول، قال ابن عباس: "سمع المشركون النبي صلى الله عليه وسلم يقول: يا رحمن يا رحيم، فقالوا: هذا يزعم أنه يدعو إلها وهو يدعو إلهين ; فأنزل الله هذه الآية". وأما قوله: {إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ} [سورة الطور آية: 28] الآية، فهو دعاء العبادة; والمعنى: إنا كنا نخلص له العبادة، ولهذا الجزء: 13 ¦ الصفحة: 183 وقاهم عذاب السموم، لا بمجرد السؤال، فإنه سبحانه يسأله من في السماوات والأرض ; وأما قوله: {ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ} [سورة القصص آية: 64] الآية، فهذا دعاء المسألة، يبكتهم، ويخبرهم يوم القيامة. فقوله: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً} [سورة الأعراف آية: 55] يتناول نوعي الدعاء، لكنه ظاهر في دعاء المسألة، متضمن دعاء العبادة، ولهذا أمر بإخفائه، قال الحسن: "بين دعوة السر ودعوة العلانية سبعون ضعفا". وإن الله تعالى ذكر عبدا صالحا ورضي بفعله، فقال: {إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيّاً} ، [سورة مريم آية: 3] وقال تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً} [سورة الأعراف آية: 205] الآية، فأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يذكره في نفسه. فذكر التضرع في الآيتين، وهو التذلل والتمسكن والانكسار، وهو روح الدعاء والذكر؛ وخص الدعاء بالخفية لحكم كثيرة؛ وخص الذكر بالخيفة لحاجة الذكر إلى الخوف، فإن الذكر يثمر المحبة، والمحبة إن لم يقترن بها الخوف ضرت صاحبها. ولهذا قال بعض السلف: "من عبد الله بالحب وحده فهو زنديق، ومن عبده بالخوف وحده فهو حروري، ومن عبده بالرجاء وحده فهو مرجئ، ومن عبده بالجميع فهو مؤمن". وفي آية الذكر قال: {في نفسك} فلم يحتج أن يقول: خفية، وقال في آية الدعاء: {وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً} [سورة الأعراف آية: 56] فلم يحتج أن يقول خيفة ; وذكر الطمع في آية الدعاء الذي هو الجزء: 13 ¦ الصفحة: 184 الرجاء ; لأن الدعاء مبني عليه. وقوله تعالى: {إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} والاعتداء في الدعاء أنواع، منها: أن يسأل غير الله أو يدعو معه غيره. ومنها: أن يسأله ما لا يجوز، أو ما لا يليق به، مثل العصمة. ومنها: رفع الصوت بالدعاء. والآية أعم من هذا، وإن كان الاعتداء في الدعاء من جملة الاعتداء. ومن العدوان: أن يسأل غيره متضرعا، كالمدل على ربه. ومنها: أن يعبده بما لا يشرعه ; وذكر هذا بعد قوله: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً} [سورة الأعراف آية: 55] دليل على أن من لم يدعه تضرعا وخفية، فهو من المعتدين. وقوله: {وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا} [سورة الأعراف آية: 56] ، قال بعض السلف: بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم والفساد قد ملأ الأرض، فأصلح الله فسادها؛ فمن دعا إلى غير ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم فقد أفسد في الأرض بعد إصلاحها; وقوله: {وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً} [سورة الأعراف آية: 56] ذكر الدعاء ثانيا لما ذكر معه من الخوف والطمع. وقوله: {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [سورة الأعراف آية: 56] فيه تنبيه على أن فعل هذا المأمور به هو الإحسان المطلوب منكم، ومطلوبكم أنتم من الله رحمته، وهي قريب من المحسنين الذين دعوه تضرعا وخفية وخوفا وطمعا، ومفهومه أن رحمة الله بعيد من غير المحسنين. والإحسان هاهنا هو فعل المأمور به، سواء كان إلى الناس أو إلى نفسه، فأعظم الإحسان الإيمان والتوحيد، الجزء: 13 ¦ الصفحة: 185 والتوكل على الله، وأن يعبده كأنه يراه إجلالا ومهابة، وقد قال تعالى: {هَلْ جَزَاءُ الأِحْسَانِ إِلاَّ الأِحْسَانُ} [سورة الرحمن آية: 60] ، وقال ابن عباس: "هل جزاء من قال لا إله إلا الله، وعمل بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم إلا الجنة". [ما يستفاد من قوله تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ} ] وقال أيضا الشيخ محمد بن عبد الوهاب، قدس الله روحه ونور ضريحه: قوله تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ} [سورة الأعراف آية: 59] الآيات فيه مسائل: الأولى: شيء من تفصيل قوله: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً} [سورة النحل آية: 36] . الثانية: معنى قوله: "وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة". الثالثة: الملاطفة في الدعوة إلى الله، لقوله: {يا قوم} أضافهم إلى نفسه. الرابعة: التى أرسلت الرسل وخلقت الخلق لأجلها. الخامسة: تفسير الآية. السادسة: دعاؤهم بالرغبة. السابعة: دعاؤهم بالتخويف. الثامنة: جواب الملأ لهذا الكلام بهذه الجهالة. التاسعة: كون أهل الباطل ينسبون أهل الحق إلى الجهالة بل إلى السفاهة، بل إلى السحر، بل إلى الجنون. العاشرة: حسن جوابه لهم، ومقابلة الإساءة بالتي هي أحسن. الحادية عشر: تعريفهم بأنهم إنما ردوا وعصوا رب العالمين. الثانية عشر: تعريفهم بما فيه من الخصال التي لا غناء لهم عنها. الثالثة عشر: تعريفهم أن تلك الخصال لا تقتضي الجزء: 13 ¦ الصفحة: 186 الحسد، بل تقتضي المحبة والانقياد. الرابعة عشر: لما عرفهم أن الرسالة التي أتتهم منه، وعظهم بأنه رب العالمين. الخامسة عشر: تعريفهم أن هذا الذي استغربوا ونسبوا من قاله إلى الجهالة والجنون، هو الواجب في العقل، وهو أيضا حظهم ونصيبهم من الله; لأنه سبب الرحمة؛ ففي هذا الكلام من أوله إلى آخره من تحقيق الحق، وذكر أدلته العقلية على تحقيقه، وإبطال الباطل، وذكر الأدلة العقلية على بطلانه، ما لا يخفى على من له بصيرة. السادسة عشر: ذكر أنهم كذبوه مع هذا البيان، ففصل الله الخصومة بما ذكر أنه فعل بالفريقين. السابعة عشر: ذكر أن ذلك السبب التكذيب بآياته، فدل على أنه أتاهم بآيات الله. الثامنة عشر: أن السبب في ذلك التكذيب هو العمى والجهالة، فهي وصفهم لا وصف خصومهم. وأما قصة عاد 1؛ فنذكر ما فيها من الزوائد خاصة: الأولى: تبيين أن أعظم التقوى اتقاء الشرك. الثانية: وصفه الملأ منهم بالكفر. الثالثة: وصفهم نبيهم بالسفاهة التي هي أبلغ من الجهل. الرابعة: وصفهم إياه بالكذب. الخامسة: استعطافه إياهم بأمانته. السادسة: وعظه إياهم بتلك الآية الواضحة العظيمة. السابعة: فيه ما يدل على أنهم يعلمون ذلك، لقوله:   1 أي: في الأعراف من آية 65-72. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 187 {واذكروا} . الثامنة: وعظه إياهم بتذكيرهم نعمة الله باستخلافهم في الأرض بعد قوم نوح. التاسعة: وعظه بزيادة النعمة على أهل زمانهم بزيادتهم في الخلق بسطة. العاشرة: ذكر أن ذلك لا يدل على الكرامة، بل قد يكون السبب للإهانة. الحادية عشر: ذكر أن هذا الذي كرهوه هذه الكراهة هو سبب فلاحهم. الثانية عشر: ذكر ما أجابوه به عن هذا الكلام الذي هو في غاية الحسن. الثالثة عشر: ذكر أن هذا الخلاف بينه وبينهم في توحيد العبادة، لا في أصل العبادة. الرابعة عشر: ذكر أن عمدتهم اتباع السواد الأعظم. الخامسة عشر: زيادة العتو بقوله: {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا} . السادسة عشر: ذكر أن الصدق ممدوح عندهم، وكذلك الكذب مذموم عندهم. السابعة عشر: ذكر المسألة المهمة، وهي إنكاره عليهم الاعتماد على ذلك الدليل، مع كونه لم ينْزل فيه نص من الله. الثامنة عشر: كونه بين لهم كبر جهالتهم كيف تجاسروا على الجدال بذلك. التاسعة عشر: معرفة الأشياء التي لا حقيقة لها من الحقائق. العشرون: كون الشيء معمولا به قرنا بعد قرن من غير نكير، لا يدل على صحته. الحادية والعشرون: أمره إياهم بانتظار الوعيد،. الثانية والعشرون: إخباره بانتظارهم الوعد. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 188 وأما قصة ثمود 1 فنذكر ما فيها من الزوائد على القصتين أيضا: الأولى: وعظه إياهم بالآية العظيمة. الثانية: استعطافهم بذكر ربوبية من جاءت منه لهم. الثالثة: ذكر إضافة الناقة إلى الله. الرابعة: تفسير البينة بهذا. الخامسة: تخصيص الله إياهم بناقته. السادسة: العجب العجاب من كراهتهم الأمر المطلوب منهم، وهو كف الأذى عن ناقة الله التي فيها من نعم الدين والدنيا لمن قبلها ما لا يظنه الظانون. السابعة: أنه مع هذا توعدهم بالوعيد الشديد إن لم يكفوا عنها الأذى. الثامنة: تذكيرهم بنعمة الله عليهم بالقصور في السهل. التاسعة: نعمة الله عليهم في هذه القوة العظيمة، وهي قدرتهم على نحت الجبال بيوتا. العاشرة: تذكيرهم بنعم الله، فدل على أنهم يعرفون ذلك. الحادية عشر: وعظه إياهم أن الذي ينهاهم عنه هو الفساد في الأرض، وهو قبيح بإجماع العقلاء. الثانية عشر: ذكر قبح جوابهم لهذه الموعظة البليغة، التي جمعت لهم خير الدنيا والآخرة، وحذرتهم من عقوبة الدنيا والآخرة. الثالثة عشر: نعته الملأ منهم بالكبر. الرابعة عشر: أن الذين استجابوا للحق هم الضعفاء ; وأما الملأ المستكبرون فهذا جوابهم وفعلهم. الخامسة عشر: جمعهم بين هذه الثلاث: عقر الناقة،   1 أي: في الأعراف من آية 73-97. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 189 والعتو عن أمر ربهم، وقولهم لرسولهم هذا. السادسة عشر: ذكر قولهم: {إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} فلم يذكر إنكارهم الرسل من حيث الجملة. السابعة عشر: ذكر توليه عنهم لما وقع عليهم ما استعجلوا به. الثامنة عشر: ذكره أنه لم يبق من الحرص على دنياهم وعلى آخرتهم ممكنا. التاسعة عشر: ذكر أن العلة في عدم القبول عدم المحبة للناصح، لا عدم البيان. وأما قصة لوط 1 فنذكر أيضا ما فيها من الزيادة على القصص الثلاث: الأولى: التصريح أن هذا الفعل لم يفعل قبلهم. الثانية: موعظة نبيهم بذلك ; فدل على أنه متقرر عندهم أن أول من ابتدع القبيح ليس كغيره، الثالثة: تعظيم هذه الفاحشة بمخاطبتهم بالاستفهام. الرابعة: تغليظها بالألف واللام ; فدل على الفرق بينها وبين الزنا لقوله: {إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً} . الخامسة: تنبيههم على مخالفة العقول والشهوات، لقوله: {لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ} [سورة الأعراف آية: 81] ، فتتركون موضع الشهوة مع حسنه عقلا ونقلا، وتستبدلون به غير المشتهى مع قبحه عقلا ونقلا. السادسة: تنبيههم على العلة أنها ليست للشهوة بل للسرف. السابعة: هذا الجواب العجاب تلك النصيحة   1 أي: في الأعراف من آية 80-84. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 190 والبيان بأدلة العقل والنقل. الثامنة: إقرارهم أن آل لوط الطيبون، وأنهم الأخابث. التاسعة: تصريحهم أن هذا هو الذي نقموا عليهم وجعلوه سببا لإخراجهم من البلد. العاشرة: ما في إهلاك امرأته من الدلالة على التوحيد ; والدلالة على أن من أحب قوما حشر معهم، وإن لم يعمل عملهم. الحادية عشر: ذكر الأمر بالنظر في عاقبة المجرمين. [تفسير الإمام ابن تيمية لآيات أشكلت في سورة الأعراف] وقال أيضا الشيخ محمد بن عبد الوهاب: قال شيخ الإسلام في تفسير آيات أشكلت: ومنها {لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ} [سورة الأعراف آية: 88] الآية وما في معناها: التحقيق أن الله سبحانه إنما يصطفي لرسالته من كان خيار قومه حتى في النسب، كما في حديث هرقل، ومن نشأ بين قوم مشركين جهال لم يكن عليه نقص إذا كان على مثل دينهم، إذا كان معروفا بالصدق والأمانة، وفعل ما يعرفون وجوبه، وترك ما يعرفون قبحه. قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [سورة الإسراء آية: 15] فلم يكن هؤلاء مستوجبين العذاب، وليس في هذا ما ينفر عن القبول منهم، ولهذا لم يذكره أحد من المشركين قادحا؛ وقد اتفقوا على جواز بعثة رسول لا يعرف ما جاءت به الرسل قبله من النبوة والشرائع ; وأن من لم يقر بذلك بعد الرسالة فهو كافر. والرسل قبل الوحي لا تعلمه فضلا عن أن تقر به، قال تعالى: {يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ} [سورة النحل آية: 2] الجزء: 13 ¦ الصفحة: 191 وقال: {يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ} [سورة غافر آية: 15] . فجعل إنذارهم بالتوحيد كالإنذار بيوم التلاق، كلاهما عرفوه بالوحي ; وما ذكر أنه صلى الله عليه وسلم بغضت إليه الأوثان لا يجب أن يكون لكل نبي، فإنه سيد ولد آدم. والرسول الذي نشأ بين أهل الكفر الذين لا نبوة لهم، يكون أكمل من غيره، من جهة تأييد الله له بالعلم والهدى، وبالنصر والقهر، كما كان نوح وإبراهيم، ولهذا يضيف الله الأمر إليهما في مثل قوله: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرَاهِيمَ} [سورة الحديد آية: 26] الآية، {ِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ} [سورة آل عمران آية: 33] الآية. وذلك أن نوحا أول رسول بعث إلى المشركين ; وكان مبدأ شركهم من تعظيم الموتى الصالحين، وقوم إبراهيم مبدؤه من عبادة الكواكب؛ ذاك الشرك الأرضي، وهذا السماوي؛ ولهذا سد صلى الله عليه وسلم ذريعة هذا وهذا. [تفسير قوله تعالى: {قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ} ] سئل الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن عن قوله تعالى: {قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} [سورة الأعراف آية: 88] وهم لم يدخلوا فيها؟ ! . فأجاب: اعلم أن هذه المسألة شاعت وذاعت، واشتهرت وانتشرت، والخلاف فيها قديم بين أهل السنة والمعتزلة، وبين أهل السنة بعضهم لبعض، والذي روى ابن أبي حاتم عن عطية عن ابن عباس: "كانت الرسل والمؤمنون الجزء: 13 ¦ الصفحة: 192 يستضعفهم قومهم ويقهرونهم، ويدعونهم إلى العودة في ملتهم، فأبى الله لرسله والمؤمنين أن يعودوا في ملتهم ملة الكفر، وأمرهم أن يتوكلوا عليه". وقد رواه السدي عن أشياخه، وتأوله عطية على أنه العود إلى السكوت، كما كانت الرسل قبل الرسالة، وأنهم كانوا أغفالا قبل النبوة، أي: لا علم لهم بما جاءهم من عند الله ; قال: وذلك عند الكفار عود في ملتهم، وهذا الذي رأيته منصوصا عن مفسري السلف. وأما من بعدهم كابن الأنباري والزجاج، وابن الجوزي والثعلبي والبغوي، فهؤلاء يؤولون ذلك على معنى: لتصيرن ولتدخلن، وجعلوه بمعنى الابتداء لا بمعنى الرجوع إلى شيء قد كان، وأنشدوا على ذلك ما اشتهر عنهم في تفاسيرهم، كقول الشاعر:. فإن تكن الأيام أحسن مرة ... إلي لقد عادت لهن ذنوب وكقوله: وماالمرء إلا كالشهاب وضوئه ... يحوررمادا بعد ما كان ساطعا وقول أمية:. تلك المكارم لا قعبان من لبن ... شيبا بماء فعادا بعد أبوالا وأمثال ذلك مما يدل على الابتداء، وبعضهم أبقاه على معناه ; وقال: هو للتغليب; لأن قومهم كانوا في ملة الكفر، فغلب الجمع على الواحد، لكن تعقب ذلك شيخ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 193 الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، فقال: وأما التغليب فلا يتأتى في سورة إبراهيم. وأما جعلها بمعنى الابتداء والصيرورة، فالذي في الآيات الكريمة، عود مقيد بالعود في ملتهم، فهو كقول النبي صلى الله عليه وسلم: " العائد في هبته كالعائد في قيئه " وقوله: "وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه " وقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ} فالعود في مثل هذا الموضع عود مقيد صريح بالعود إلى أمر كان عليه الرسل وأتباعهم لا يحتمل غير ذلك. ولا يقال: إن العود في مثل هذا يكون عودا مبتدأ، وما ذكر من الشواهد أفعال مطلقة، ليس فيها أنه عاد لكذا، ولا عاد فيه ; قال: ولهذا يسمى المرتد عن الإسلام مرتدا، وإن كان ولد على الإسلام، ولم يكن كافرا عند عامة العلماء. قال: وأما قولهم: إن شعيبا والرسل ما كانوا في ملتهم قط وهي ملة الكفر، فهذا فيه نزاع مشهور، وبكل حال: فهو خبر يحتاج إلى دليل عقلي، وليس في أدلة الكتاب والسنة والإجماع ما يخبر بذلك؛ وأما العقل ففيه نزاع، والذي تظاهرت عليه السنة أنه ليس في العقل ما يمنع ذلك. قال: وقال أبو بكر الخطيب البغدادي: وقال كثير منهم ومن أصحابنا وأهل الحق: إنه لا يمتنع بعثة من كان كافرا، الجزء: 13 ¦ الصفحة: 194 أو مصيبا الكبائر قبل بعثته، قال: ولا شيء عندنا يمنع من ذلك، على ما نبين القول فيه، ثم ذكر الخطيب الخلاف في إصابته الذنوب بعد البعثة، وأطال الكلام، ثم قال. فصل [في حكم بعثة من كان مصيبا للكفر والكبائر قبل الرسالة] في جواز بعثة من كان مصيبا للكفر والكبائر قبل الرسالة، قال: والذي يدل على ذلك أمور: أحدها: أن إرسال الرسول، وظهور الأعلام عليه، اقتضى ودل لا محالة على إيمانه وصدقه، وطهارة سريرته وكمال علمه، ومعرفته بالله، وأنه مؤد عنه دون غيره; لأنه إنما يظهر الأعلام ليستدل بها على صدقه فيما يدعيه من الرسالة، فإذا كان بدلالة ظهورها عليه إلى هذه الحال، من الطهارة والنّزاهة والإقلاع عما كان عليه لا يمنع بعثته، والتزام توقيره وتعظيمه، وإن وجد منه ضد ذلك قبل الرسالة، وأطال الكلام. ثم قال شيخ الإسلام: تحقيق القول في ذلك: أن الله سبحانه إنما يصطفي لرسالته من كان خيار قومه، كما قال تعالى: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [سورة الأنعام آية: 124] ، وقال الله تعالى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ} [سورة الحج آية: 75] . وقال: ومن نشأ بين قوم مشركين جهالا لم يكن عليه نقص ولا غضاضة إذا كان على مثل دينهم، إذا كان عندهم معروفا بالصدق والأمانة، وفعل ما يعرفون وجوبه واجتناب ما يعرفون قبحه. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 195 وقد قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [سورة الإسراء آية: 15] ولم يكن هؤلاء مستوجبين العذاب قبل الرسالة، إذا كان لا هو ولا هم يعلمون ما أرسل به، وفرق بين من يرتكب ما لم يعلم قبحه، وبين من يفعل ما لا يعرف، فإن هذا الثاني لا يذمونه ولا يعيبونه عليه ولا يكون ما فعله مما هم عليه منفرا عنه، بخلاف الأول؛ ولهذا لم يكن في أنبياء بني إسرائيل من كان معروفا بشرك، فإنهم نشؤوا على شريعة التوراة، إنما ذكر هذا فيمن كان قبلهم. وأما ما ذكره سبحانه في قصة شعيب والأنبياء، فليس في هذا ما ينفر أحدا عن القبول منهم؛ وكذلك الصحابة الذين آمنوا بالرسول صلى الله عليه وسلم بعد جاهليتهم، وكان فيهم من كان محمود الطريقة قبل الإسلام، كأبي بكر الصديق رضي الله عنه فإنه لم يزل معروفا بالصدق والأمانة، ومكارم الأخلاق، لم يكن فيه قبل الإسلام ما يعيبونه به، والجاهلية كانت مشتركة فيهم كلهم. وقد تبين أن ما أخبر عنه قبل النبوة في القرآن من أمر الأنبياء، ليس فيه ما ينفر أحدا عن تصديقهم، ولا يوجب طعن قومهم ; ولهذا لم يكن يذكر عن أحد من المشركين عد هذا قادحا في نبوته، ولو كانوا يرونه عيبا لعابوه، ولقالوا: كنتم أنتم أيضا على الحالة المذمومة، ولو ذكروا للرسل هذا، لقالوا: كنا كغيرنا لم نعرف إلا ما أوحي به إلينا. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 196 ولكنهم قالوا: {إِنْ أَنْتُمْ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا} ، فقالت الرسل: {إِنْ نَحْنُ إِلا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [سورة إبراهيم آية: 11] . قال: وقد اتفقوا كلهم على جواز بعثة رسول لم يعرف ما جاءت به الرسل قبله، من أمور النبوة والشرائع؛ ومن لم يقر بهذا الرسول بعد الرسالة فهو كافر، والرسل قبل الوحي قد كانت لا تعلم هذا فضلا عن أن تقر به; فعلم أن عدم هذا العلم والإيمان لا يقدح في نبوتهم ; بل الله إذا نبأهم علمهم ما لم يكونوا يعلمون. قلت: وقوله: وقد اتفقوا كلهم يعني أهل السنة والمعتزلة. ثم قال: قال تعالى: {يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [سورة غافر آية: 15] ، وقال تعالى: {يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ} [سورة النحل آية: 2] فجعل إنذارهم بعبادته وحده كإنذار يوم التلاق، كلاهما عرفوه بالوحي؛ واستدل على هذا بآيات إلى أن قال: وقد تنازع الناس في نبينا محمد صلى الله عليه وسلم قبل النبوة، وفي معاني بعض هذه الآيات في قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} [سورة يوسف آية: 3] ، وفي قوله: {مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الأِيمَانُ} [سورة الشورى آية: 52] ، وقوله: {وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى} [سورة الضحى آية: 7] . وما تنازعوا في معنى آية الأعراف، وآية إبراهيم، فقال الجزء: 13 ¦ الصفحة: 197 قوم: لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم على دين قومه، ولا كان يأكل ذبائحهم؛ وهذا هو المنقول عن أحمد قال: من زعم أنه على دين قومه فهو قول سوء، أليس كان لا يأكل ما ذبح على النصب؟ ثم قال الشيخ: ولعل أحمد قال: أليس كان لا يعبد الأصنام؟ فغلط الناقل عنه، فإن هذا قد جاء في الآثار أنه كان لا يعبد الأصنام. وأما كونه لايأكل ذبائحهم، فهذا لا يعلم أنه جاء به أثر ; وأحمد من أعلم الناس بالآثار، قال: والشرك حرم من حين أرسل الرسل ; وأما تحريم ما ذبح على النصب، فإنه ما ذكر إلا في سورة المائدة ; وقد ذكر في السور المكية كالأنعام والنحل تحريم ما أهل به لغير الله، وتحريم هذا إنما عرف من القرآن. وقبل القرآن لم يكن يعرف تحريم هذا بخلاف الشرك. ثم ذكر الفرق بين ما ذبحوه للحم، وبين ما ذبحوه للنصب على جهة القربة للأوثان، قال: فهذا من جنس الشرك، لا يقال قط في شريعة بحلها، كما كانوا يتزوجون المشركات أولا. قال: والقول الثاني: إطلاق القول بأنه صلى الله عليه وسلم كان على دين قومه، وفسر ذلك بما كان عليه من بقايا دين إبراهيم، لا بالموافقة لهم على شركهم، وذكروا أشياء مما كانوا عليه من بقايا الحنيفية، كالحج والختان وتحريم الأمهات والبنات، الجزء: 13 ¦ الصفحة: 198 والأخوات والعمات والخالات. قال الشيخ: وهؤلاء إن أرادوا أن هذا الجنس مختص بالحنفاء، لا يحج يهودي ولا نصراني، لا في الجاهلية ولا في الإسلام، فهو من لوازم الحنيفية، كما أنه لم يكن مسلما إلا من آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم، وأما قبل محمد صلى الله عليه وسلم فكان بنو إسرائيل على ملة إبراهيم، وكان الحج مستحبا قبل محمد صلى الله عليه وسلم، لم يكن مفروضا، ولهذا حج موسى ويونس وغيرهما من الأنبياء. ثم قال: ولكن تحريم المحرمات لا يشاركهم فيه أهل الكتاب، والختان يشاركهم فيه اليهود، وأطال في الرد والنقل عن ابن قتيبة، وذكر كلام ابن عطية في قوله: {وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى} [سورة الضحى آية: 7] أنه أعانه وأقامه على غير الطريق التي كان عليها، هذا قول الحسن والضحاك. قال: والضلال يختلف، فمنه القريب ومنه البعيد، وكون الإنسان واقفا لا يميز، بين المهيع، ضلال قريب; لأنه لم يتمسك بطريقة ضالة، بل كان يرتاد وينظر. قال: والمنقول أنه كان عليه السلام قبل النبوة يبغض عبادة الأصنام، ولكن لم يكن ينهى عنها نهيا عاما، وإنما كان ينهى خواصه، وساق ما رواه أبو يعلى الموصلي، وفيه: فأتى النبي فطاف بالبيت، وبين الصفا والمروة، وكان عند الصفا والمروة صنمان من نحاس، أحدهما إساف والآخر نائلة. وكان المشركون إذا طافوا تمسحوا بهما، فقال النبي صلى الله عليه وسلم الجزء: 13 ¦ الصفحة: 199 لزيد: " لا تمسحهما فإنهما رجس فقلت في نفسي: لأمسنهما حتى أنظر ما يقول، فمسستهما، فقال: يا زيد ألم تنه؟ " وقال أبو عبد الله المقدسي: هذا حديث حسن له شاهد في الصحيح، والحديث معروف قد اختصره البيهقي وزاد فيه. قال زيد بن حارثة: "والذي أكره وأنزل عليه الكتاب، ما استلم صنما قط، حتى أكرمه الله بالذي أكرمه"، وفي قصة بحيرا الراهب حين حلف باللات والعزى، فقال النبي: "لاتسألن باللات والعزى، فوالله ما أبغضت بغضهما شيئا قط". وكان الله قد نزهه عن أعمال الجاهلية، فلم يكن يشهد مجامع لهوهم، وكان إذا هموا بشيء من ذلك، ضرب الله على أذنه فأنامه. وقد روى البيهقي وغيره في ذلك آثارا، وقد كانت قريش يكشفون عوراتهم لحمل حجر ونحوه، فينزهه الله عن ذلك، كما في الصحيحين من قول جابر، وفي مسند أحمد زيادة: "فنودي لا تكشفن عورتك، فألقى الحجر ولبس ثوبه"، وكانوا يسمونه الصادق الأمين، وكان الله عز وجل قد صانه عن قبائحهم، ولم يعرف منه قط كذبة ولا خيانة، ولا فاحشة، ولا ظلم قبل النبوة، بل شهد مع عمومته حلف المطيبين على نصرة المظلومين. وأما الإقرار بالصانع وعبادته، والإقرار بأن السماوات والأرض مخلوقة له محدثة بعد أن لم تكن، وأنه لا خالق غيره، فهذا كان عامتهم يعرفونه ويقرون به ; فكيف لا يعرفه الجزء: 13 ¦ الصفحة: 200 هو ويقر به؟ وذكر الشيخ بعض علامات النبوة وتغير العالم بمولده. ثم قال: لكن هذا لا يجب أن يكون مثله لكل نبي، فإنه أفضل الأنبياء، وهو سيد ولد آدم; والله سبحانه إذا أهل عبدا لأعلى المنازل والمراتب رباه على قدر تلك المرتبة; فلا يلزم إذا عصم نبيا أن يكون معصوما قبل النبوة من كبائر الإثم والفواحش، صغيرها وكبيرها; ولا يكون كل نبي كذلك. ولا يلزم إذا كان الله بغض إليه شرك قومه قبل النبوة، أن يكون كل نبي كذلك، كما عرف من حال نبينا صلى الله عليه وسلم؛ وفضائله لا تناقض ما روي من أخبار غيره إذا كان كذلك، ولا يمنع كونه نبيا، لأن الله فضل بعض النبيين على بعض، كما فضلهم بالشرائع والكتب والأمم؛ وهذا أصل يجب اعتباره. وقد أخبر الله أن لوطا كان من أمة إبراهيم، وممن آمن له أن الله أرسله; والرسول الذي نشأ بين أهل الكفر الذين لا نبوة لهم، ثم يبعثه الله فيهم، يكون أكمل وأعظم ممن كان من قوم لا يعرفونه; فإنه يكون بتأييد الله له أعظم من جهة تأييده بالعلم والهدى، ومن جهة تأييده بالنصر والقهر. قلت: وبهذا يظهر اختلاف درجات الأنبياء والرسل، وعدم الاحتجاج إلى التكلف في الجواب عن مثل آية إبراهيم الجزء: 13 ¦ الصفحة: 201 ونحوها، وأن قصارى ما يقال في مثل قوله لنبينا: {وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى} [سورة الضحى آية: 7] ، وقوله: {مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الأِيمَانُ} [سورة الشورى آية: 52] هو عدم العلم بما جاء من النبوة والرسالة، وتفاصيل ما تضمن من الأحكام الشرعية والأصول الإيمانية. وهذا غاية ما تيسر لنا في هذا المقام الضنك الذي أحجم عنه فحول الرجال وأهل الفضائل والكمال، ونستغفر الله من التجاسر والوثوب على الكلام في مثل هذا المبحث الذي زلت فيه أقدام، وضلت فيه أفهام واضطربت فيه أقوال الأئمة الأعلام. قال الشيخ سليمان بن سحمان: قال ابن القيم رحمه الله - بعد كلام طويل - على قوله: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ} [سورة الأعراف آية: 172] ذكر في الوجه العاشر، قال: ومن أبينها ما أشهد به كل واحد على نفسه، من أنه ربه وخالقه ومبدعه، وأنه مربوب مصنوع مخلوق، حادث بعد أن لم يكن، إلى أن قال: وهذا الإقرار والشهادة فطرة فطروا عليها، ليست بمكتسبة; وهذه الآية وهي قوله: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [سورة الأعراف آية: 172] مطابقة لقول النبي صلى الله عليه وسلم: " كل مولود يولد على الفطرة " 1، ولقوله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً   1 البخاري: الجنائز (1385) ، ومسلم: القدر (2658) ، وأحمد (2/233، 2/393) . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 202 فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} [سورة الروم آية: 30] . والمقصود: أن الحديث وهو: " كل مولود يولد على الفطرة " 1 مطابق للآية التي قبله والآية التي بعده، فالفطرة التي في الحديث هي التي في الآية، كما ذكر ابن القيم؛ فصح أن تفسير السلف للفطرة هو المطابق للحديث. وأما كون المولود لا يصح منه إسلام إلا بشعور، فقال في الرد على ابن حزم، وذكر كلاما طويلا قال في آخره: وأيضا فإنها لو كانت موجودة قبل البدن لكانت حية عالمة ناطقة عاقلة، فلما تعلقت بالبدن سلبت ذلك كله، ثم حدث لها الشعور والعلم والعقل شيئا فشيئا. وهذا لو كان، لكان من أعجب الأمور أن تكون الروح كاملة عاقلة، ثم تعود ناقصة ضعيفة جاهلة، ثم تعود بعد ذلك إلى عقلها وقوتها، فأين في العقل والنقل والفطرة ما يدل على هذا، وقد قال تعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [سورة النحل آية: 78] ؟ فهذا الحال الذي أخرجنا عليها حالنا الأصلية، والعلم والعقل والمعرفة والقوة طارئ علينا، حادث فينا بعد أن لم نكن، ولم نعلم قبل ذلك شيئا البتة، إذ لم يكن لنا وجود نعلم ونعقل به.   1 البخاري: الجنائز (1385) ، ومسلم: القدر (2658) ، وأحمد (2/233، 2/393) . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 203 [ما يستفاد من قوله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا} ] قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى: وقوله عز وجل: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا} [سورة الأعراف آية: 175] فيه مسائل: الأولى: معرفة أن لا إله إلا الله، كما في قصة آدم وإبليس، ويعرف ذلك من عرف أسباب الشرك: وهو الغلو في الصالحين، والجهل بعظمة الله. الثانية: معرفة أن محمدا رسول الله، يعرفه من عرف عداوة علماء أهل الكتاب له. الثالثة: معرفة الدين الصحيح والدين الباطل، لأنها نزلت في إبطال دينهم الذي نصروا، وتأييد دينه الذي أنكروا. الرابعة: معرفة عداوة الشيطان ومعرفة حيله. الخامسة: أن من انسلخ من الآيات أدركه الشيطان، ومن لم ينسلخ منها حمته منه، ثم صار أكثر من ينتسب إلى العلم يظن العكس. السادسة: خوف الخاتمة كما في حديث ابن مسعود. السابعة: عدم الاغترار بغزارة العلم. الثامنة: عدم الاغترار بصلاح العمل. التاسعة: عدم الاغترار بالكرامات وإجابة الدعاء. العاشرة: أن الانسلاخ لا يشترط فيه الجهل بالحق أو بغضه. الحادية عشر: أن من أخلد إلى الأرض واتبع هواه، فلو عرف الحق وأحبه 1 وعرف الباطل وأبغضه.   1 لعله فقد انسلخ، ولو عرف إلخ ... الجزء: 13 ¦ الصفحة: 204 الثانية عشر: معرفة الفتنة وأنه لا بد منها; فليتأهب وليسأل الله العافية، لقوله: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [سورة العنكبوت آية: 2] الآيتين. الثالثة عشر: عدم أمن مكر الله. الرابعة عشر: عقوبة العاصي في دينه ودنياه. الخامسة عشر: ذكر مشيئة الله، وذكر السبب من العبد. السادسة عشر: أن محبة الدنيا تكون سببا لردة العالم عن الإسلام. السابعة عشر: تمثيل هذا العالم بالكلب في اللهث على كل حال. الثامنة عشر: أن هذا مثل لكل من كذب بآيات الله، فليس مختصا. التاسعة عشر: ذكر كونه سبحانه أمر بقص القصص على عباده. العشرون: ذكر الحكمة في الأمر به. الحادية والعشرون: قوله: {سَاءَ مَثَلًا} كقوله: {بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ} سئل الشيخ سليمان بن الشيخ عبد الله بن محمد رحمهم الله عن قوله: {فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا} [سورة الأعراف آية: 190] ،قال قتادة: "شركاء في طاعته، ولم تكن في عبادته" وفي تفسير معنى آيات العبادة يفسرونها بالطاعة، وهنا فرق بينهما. فأجاب: اعلم أن الكلام يختلف باختلاف الأحوال والمقامات، والاجتماع والافتراق، والإجمال والتفصيل، فتفسير قتادة في هذه الآية: أن المراد بهما على كثير من كلام المفسرين آدم وحواء، فناسب تفسيرها بالطاعة، لأنها طاعة الجزء: 13 ¦ الصفحة: 205 للشيطان في تسمية الولد بعبد الحارث، وهو معصية من المعاصي. والصحيح من أقوال العلماء أن المعاصي الصغار تقع من الأنبياء، لكنهم يتوبون منها ولا يصرون عليها، وأما تفسيرهم الآيات التي فيها العبادة بالطاعة، فمعلوم أن العبادة إذا أطلقت دخلت فيها الطاعة وترك المعصية، ولأن العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من القول والعمل، وترك المعاصي من الكبائر والصغائر. لكن المعاصي تنقسم إلى كفر وشرك، وإلى كبائر دون الكفر والشرك، وإلى صغائر دون الكبائر; فإذا أطلقت العبادة دخل فيها جميع طاعة الله ورسوله، وإذا فرق بينهما فسرت العبادة بإخلاص العبادة لله وحده لا شريك له، وترك عبادة ما سواه، وفسرت الطاعة بجميع الدين كله، والله أعلم. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 206 سورة الأنفال قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ: وقد جاءت المذاكرة، في قوله الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً} [سورة الأنفال آية: 29] الآية: وأصل التقوى ما يقر في القلب من خشية الله، وخوفه وهيبته وإجلاله وتعظيمه؛ وأساس التقوى ورأسها وأساس العلم ورأسه، وبه يحصل معرفة الصواب من الخطأ، فيقبل الحق تاما علما وعملا، ويدفع الباطل دفعا قويا ممتنعا عن المداهنة أبيا. والقلب الذي ليس كذلك ينقلب عن الحق انقلابا ظاهرا، يدركه أهل البصائر، وهذه الفائدة من بعض فوائد الجزء: 13 ¦ الصفحة: 206 هذه الآية، وقد تفاوتت مراتب الناس في هذا المعنى تفاوتا بينا; وهم في ذلك على طبقات في القوة والضعف وما بين ذلك، فتأمل هذه العبارة والذكي تكفيه الإشارة، والله أعلم. [ما يستفاد من قوله تعالى: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ} . قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى: وأما قصة بدر ففي الدرس الأول من الفقه ما ابتلى الله به أهل الحق من قوة عدوهم وضعفهم، وفيه: تفسير قوله: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ} [سورة آل آية: 123] ، وفيه: أن النصر ليس بالقوة والكثرة. وفيه: وجوب الجهاد مع الضعف، ولو تعاقب العدد على البعير الواحد. وفيه: استخلاف صاحب العمل على عمله إذا سافر. وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصنع الألوية والرايات. وفيه: تقديم الطلائع. وفيه ما كان عليه أعداء الدين من قوة الرأي والحزم. وفيه: الأمر الجليل وهو: النهي عن مشابهتهم في خروجهم بطرا ورئاء الناس. وفيه: تفسير قوله: {وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً} [سورة الأنفال آية: 42] . وفيه: ما كان عليه صلى الله عليه وسلم من قوة القلب والشجاعة، حيث اختار المسير إليهم على هذه الحال، وكره الرجوع. وفيه: ما كان عليه الصحابة- من قوة الإيمان والانقياد للرسول - المهاجرون والأنصار. وفيه: إزالة الشبهة في بيعة العقبة، وهي من أكبر المسائل. وفيه: من آياته صلى الله عليه وسلم أنه بشرهم أن الله وعده إحدى الطائفتين، وكان كما قال. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 207 وفي الدرس الثاني: أن الرجل الجليل في العلم والعمل قد يغلط في مسائل لا يعذر فيها. وفيه: كراهة الكفار من بني هاشم لقريش، ومحبتهم للنبي صلى الله عليه وسلم. وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم يشاور أصحابه. وفيه: أنه يرجع إلى رأي بعضهم بعدما يفعل العمل. وفيه: تفسير قوله: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} [سورة الأنفال آية: 11] الآية. وفيه: آية عظيمة له صلى الله عليه وسلم حيث أراهم مصارع القوم. وفيه: قتال الملائكة معه. وفيه: دعاؤه صلى الله عليه وسلم الذي فيه عبرة لصاحب الحرب والكرب. وفيه: تفسير قوله: {مُرْدِفِينَ} وفيه: كونه صلى الله عليه وسلم إذا كربه أمر صلى. وفيه: معنى قوله: {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} [سورة الأنفال آية: 42] كون تلك الوقعة عرف المسلم والكافر بها الحق، كون المسلمين ثلاثمائة وأربعة عشر، والكفار جموع، وعدا عليهم المسلمون مثل ما يعدو الغزو الكثير على أهل الثنتين. 1. وفيه: الآية العظيمة، وهو ما وقع بين علي وحمزة وعبيدة; وبين عتبة وابنه وشيبة، وكلهم بنو عبد مناف، وأنزل الله فيهم: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} [سورة الحج آية: 19] .   1 يعني أهل المطيتين. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 208 سورة يونس سئل الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن، رحمهم الله، عن قوله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ} [سورة يونس آية: 18] ، وقال السائل: والرب تبارك وتعالى لا يخفى عليه شيء، وقد قال: {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ} [سورة العنكبوت آية: 42] . فأجاب: كلا الآيتين الكريمتين على عمومهما وإطلاقهما يصدق بعضها بعضا؛ فأما آية يونس ففيها الإخبار بنفي ما ادعاه المشركون، وزعموه من وجود شفيع يشفع بدون إذنه تبارك وتعالى، وأن هذا لا يعلم الله وجوده لا في السماوات ولا في الأرض، بل مجرد زعم وافتراء، وما لا يعلم وجوده مستحيل الوجود منفي غاية النفي; فالآية رد على المشركين الذين تعلقوا على الشركاء والأنداد، بقصد الشفاعة عند الله والتقرب إليه. وأما آية العنكبوت ففيها إثبات علمه سبحانه لكل مدعو ومعبود من أي شيء كان، ولا يخفى عليه خافية; ولا يعزب عنه مثقال ذرة. ففي الأولى نفي العلم بوجود ما لا وجود له بحال، والآية الثانية فيها إثبات العلم بوجود ما عبدوه ودعوه مع الله، من الآلهة التي لا تضر ولا تنفع. قال ابن جرير رحمه الله، في الكلام على آية يونس: الجزء: 13 ¦ الصفحة: 209 يقول تعالى ذكره: ويعبد هؤلاء المشركون الذين وصفت صفتهم، الذي لا يضرهم شيئا، ولا ينفعهم في الدنيا ولا في الآخرة، وذلك هؤلاء الآلهة والأصنام، التي كانوا يعبدونها رجاء شفاعتهم عند الله. قال تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: {قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ} [سورة يونس آية: 18] ، يقول: أتخبرون الله بما لا يشفع في السماوات ولا في الأرض؟ وذلك أن الآلهة لا تشفع لهم عند الله في السماوات ولا في الأرض. وكان المشركون يزعمون أنها تشفع لهم عند الله، فقال الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل لهم: أتخبرون الله بما لا يشفع في السماوات ولا في الأرض يشفع لكم فيها؟ وذلك باطل لا يعلم حقيقته وصحته، بل يعلم أن ذلك خلاف ما تقولون، وأنها لا تشفع لأحد ولا تنفع ولا تضر. انتهى. وحاصله: أن النفي واقع على ما اعتقدوه وظنوه من وجود شفيع يشفع وينفع. ويقرب إلى الله؛ وذلك الظن والاعتقاد وهم وخيال باطل لا وجود له; وبنحو ذلك قال ابن كثير، حيث يقول: ينكر تعالى على المشركين الذين عبدوا مع الله غيره، ظانين أن تلك الآلهة تنفعهم شفاعتها عند الله، وأخبر أنها لا تنفع ولا تضر، ولا تملك شيئا، ولا يقع شيء مما يزعمون فيها، ولا يكون هذا أبدا. ولهذا قال تعالى: {قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ} [سورة يونس آية: 18] أي: أتخبرونه بما لا وجود له الجزء: 13 ¦ الصفحة: 210 أصلا، وهو كون الأصنام شفعاءهم عند الله، إذ لو كان ذلك لعلمه علام الغيوب. وفيه: تقريع لهم وتهكم بهم، وبما يدعون من المحال، الذي لا يكاد يدخل تحت الصحة والإمكان; وقوله: {فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ} [سورة يونس آية: 18] : حال من العائد المحذوف في يعلم، مؤكدة للنفي؛ لأن ما لا يوجد فيها فهو منتف عادة. انتهى. وقال العلامة ابن القيم، رحمه الله، في الكلام على هذه الآية: هذا نفي لما ادعاه المشركون من الشفعاء، كنفي علم الرب تعالى بهم المستلزم لنفي المعلوم; ولا يمكن أعداء الله المكابرة، وأن يقولوا: قد علم الله وجود ذلك، لأنه تعالى إنما يعلم وجود ما أوجده وكونه، ويعلم أن سيوجد ما يريد إيجاده، فهو يعلم نفسه وصفاته، ومخلوقاته التي دخلت في الوجود وانقطعت، والتي دخلت في الوجود وبقيت، والتي لم توجد بعد. وأما وجود شيء آخر غير مخلوق له ولا مربوب، فالرب تعالى لا يعلمه، لأنه مستحيل في نفسه، فهو سبحانه يعلمه مستحيلا لا يعلمه واقعا، ولو علمه واقعا لكان العلم به عين الجهل، وذلك من أعظم المحال؛ فكذلك حجج الرب تبارك وتعالى على بطلان ما نسبه إليه أعداؤه المفترون، التي هي كالضريع الذي لا يسمن ولا يغني من جوع؛ فإذا وازنت بينهما ظهرت لك المفاضلة إن كنت بصيرا، {ومن كان الجزء: 13 ¦ الصفحة: 211 في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا} انتهى. وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: قال شيخ الإسلام رحمه الله: قوله تعالى: {أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلا أَنْ يُهْدَى} [سورة يونس آية: 35] : الذي يهدي إلى الحق مطلقا هو الله سبحانه وتعالى، والذي لا يهدي إلا أن يهدى صفة كل مخلوق، وهذا هو المقصود بالآية، فإنه افتتح الآيات بقوله: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ} [سورة يونس آية:31] الآية. وسئل أيضا الشيخ: عبد اللطيف بن عبد الرحمن، عن قوله تعالى: {وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ} [سورة يونس آية: 66] الآية. فأجاب: قد أشكل معناها على كثير من المفسرين، فزعموا أن المعنى نفى اتباعهم شركاء، فجعلوا {مَا} نافية، وشركاء مفعول يتبع، أي: لم يتبعوا في الحقيقة شركاء، بل هم عباد مخلوقون مربوبون، والله هو الإله الحق لا شريك له. وأما ابن جرير رحمه الله، فقرر: أن {مَا} في هذا المحل استفهامية لا نافية، قال رحمه الله: ومعنى الكلام: أي شيء يتبع من يقول لله شركاء في سلطانه وملكه كاذبا؟ والله المتفرد بملك كل شيء في سماء كان أو أرض. {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاّ الظَّنَّ} يقول: ما يتبعون في قيلهم ذلك إلا الظن، يقول: إلا الشك، لا اليقين {وَإِنْ هُمْ إِلا يَخْرُصُونَ} انتهى. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 212 وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ظن طائفة أن مَا ها هنا نافية، وقالوا: ما يدعون من دون الله شركاء في الحقيقة، بل هم غير شركاء، وهذا خطأ؛ ولكن مَا ها هنا حرف استفهام، والمعنى وأي شيء يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلا يَخْرُصُونَ} [سورة يونس آية: 66] . فشركاء مفعول يدعون لا مفعول يتبع، فإن المشركين يدعون من دون الله شركاء، كما أخبر عنهم بذلك في غير موضع، فالشركاء موصوفون في القرآن بأنهم يدعون من دون الله، ولم يوصفوا بأنهم يتبعون، فإنما يتبع الأئمة الذين كانوا يدعون هذه الآية. ولهذا قال بعدها: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ} ولو أراد أنهم ما يتبعون في الحقيقة شركاء لقال: إن يتبعون إلا من ليسوا بشركاء؛ بل هو استفهام يبين أن المشركين الذين دعوا من دون الله شركاء، ما اتبعوا إلا الظن، ما اتبعوا علما، فإن المشرك لا يكون معه علم مطابق، وهو فيه ما يتبع إلا الظن، وهو الخرص والحزر، وهو كذب وافتراء كقوله: {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ} [سورة الذاريات آية: 10] . [ما يستفاد من قوله تعالى {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي} ] قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى: قوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِين?وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا الجزء: 13 ¦ الصفحة: 213 لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ} [سورة يونس آية: 104-106] . فيه ثماني حالات: الأولى: ترك عبادة غير الله مطلقا، ولو حاوله أبوه وأمه بالطمع الجليل والإخافة الثقيلة، كما جرى لسعد مع أمه. الحال الثانية: أن كثيرا من الناس إذا عرف الشرك وأبغضه وتركه، لا يفطن لما يريد الله من قلبه من إجلاله وإعظامه وهيبته; فذكر هذه الحال بقوله: {وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ} [سورة يونس آية: 104] . الحال الثالثة: إن قدرنا أنه ظن وجود الشرك والفعل منه، فلا بد من تصريحه منه بأنه من هذه الطائفة; ولو لم يقض هذا الغرض إلا بالهرب عن بلاد كثير من الطواغيت الذين لا يبلغون الغاية في العداوة، حتى يصرح بأنه من هذه الطائفة المحاربة لهم. الحال الرابعة: إن قدرنا أنه ظن وجود هذه الثلاث، فقد لا يبلغ الجد في العمل بالدين; والجد والصدق هو إقامة الوجه للدين. الحال الخامسة: إن قدرنا أنه ظن وجود الحالات الأربع، فلا بد له من مذهب ينتسب إليه، فأمر أن يكون مذهبه الحنيفية، وترك كل مذهب سواها ولو كان صحيحا، ففي الحنيفية عنه غنية. الحال السادسة: أنا إن قدرنا أنه ظن وجود الحالات الخمس، فلا بد أن يتبرأ من المشركين، فلا يكثر سوادهم. الحال السابعة: أنا إن قدرنا أنه ظن وجود الحالات الست، الجزء: 13 ¦ الصفحة: 214 فقد يدعو من قلبه نبيا أو غيره لشيء من مقاصده، ولو كان دينا يظن أنه إن نطق بذلك من غير قلبه لأجل كذا وكذا، خصوصا عند الخوف، أنه لا يدخل في هذا الحال. الحال الثامنة: إن ظن سلامته من ذلك كله، ولكن غيره من إخوانه فعله خوفا أو لغرض من الأغراض، هل يصدق الله أن هذا - ولو كان أصلح الناس - قد صار من الظالمين؟ أو يقول: كيف أكفره وهو يحب الدين ويبغض الشرك؟! وما أعز من يتخلص من هذا! بل ما أعز من يفهمه وإن لم يعمل به! بل ما أعز من لا يظنه جنونا! والله أعلم. سئل الشيخ حسن بن حسين، عن قول جده في ثماني الحالات، كما جرى لسعد مع أمه، ما الذي جرى لسعد مع أمه؟ فاجاب: هو سعد بن أبي وقاص، أحد العشرة المبشرين رضي الله عنهم، وأمه حمنة بنت أبي سفيان بن أبي أمية، وقصته معروفة، قال الحافظ الطبراني: حدثنا أحمد بن أيوب بن راشد، حدثنا مسلمة بن علقمة عن داود بن أبي هند، عن سعد رضي الله عنه قال: "كنت بارا بوالدتي، فقالت لي أمي: ما هذا الذي أراك قد أحدثت؟ لتدعن دينك هذا، أو لا آكل ولا أشرب، ولا أستظل، حتى أموت يا سعد، فتعير بي، ويقال: قاتل أمه. فقلت: لا تفعلي يا أمه، فإني لا أدع ديني هذا لشيء. فمكثت يوما وليلة لم تأكل ولم تشرب ولم تستظل، فأصبحت الجزء: 13 ¦ الصفحة: 215 وقد اشتد جهدها، فمكثت يوما آخر وليلة لا تأكل، فأصبحت وقد اشتد جهدها; فقلت: يا أمه، والله لو كان لك مائة نفس، فخرجت نفسا نفسا، ما تركت ديني هذا لشيء; فإن شئت فكلي، وإن شئت فلا تأكلي. فأكلت". ورواه مسلم في صحيحه، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وزهير بن حرب، حدثنا الحسن بن موسى، حدثنا زهير، حدثنا سماك بن حرب، حدثني مصعب بن سعيد عن أبيه، فذكره بنحو هذا السياق; وفيه: "فكانوا إذا أرادوا أن يطعموها شجروا فاها بعصا، ثم أوجروها; فنَزلت {وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً} [سورة الأحقاف آية: 15] الآية". الجزء: 13 ¦ الصفحة: 216 سورة هود [ذكر ما في سورة هود من العلوم] قال الشيخ: محمد بن عبد الوهاب، أجزل الله له الأجر والثواب: ذكر: ما في سورة هود من العلوم: الأولى: علم معرفة الله: ذكر أنه حكيم. الثانية: أنه خبير. الثالثة: أنه قدير. الرابعة: أنه ذكر شيئا من تفصيل العلم في قوله: {أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ} [سورة هود آية: 5] الآية. الخامسة: ذكر شيء من تفاصيل القدر، في قوله: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ} [سورة هود آية:6] الآية. السادسة: خلق السماوات والأرض في ستة أيام. السابعة: كون عرشه على الماء. الثامنة: ذكر شيء من تفصيل الحكمة في قوله: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} الجزء: 13 ¦ الصفحة: 216 [سورة الملك آية: 7] . التاسعة: كونه وكيلا على كل شيء. الثاني: الإيمان باليوم الآخر: وذكر أنه إليه المرجع. الثانية: {وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ} [سورة هود آية: 7] . الثالثة: ذكر الجنة والنار. الرابعة: ذكر العرض عليه. الخامسة: كلام الأشهاد. السادسة: ضل عنهم افتراؤهم. السابعة: كونهم الأخسرون في الآخرة. الثالث: تقرير الرسالة: ذكر أولا المسألة الكبرى. الثانية: أنه نذير من الله وبشير لنا. الثالثة: تقرير صحة رسالته، باعتراضهم بقولهم: إنها {سِحْرٌ مُبِينٌ} مع موافقتها للعقل. الرابعة: تقريرها بقولهم: {لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ} [سورة هود آية: 12] . الخامسة: تقريرها بمعرفة العلماء بها. السادسة: تقريرها بالتحدي. السابعة: تقريرها بأنها الحق من الله. الرابع: ذكر الوعد والوعيد، وذكر المتاع الحسن لمن قبله. الثانية: ذكر عذاب اليوم الكبير لمن أبى. الثالثة: {يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ} [سورة هود آية: 8] الرابعة: وعيد من أراد الدنيا. الخامسة: وعيد من افترى عليه. السادسة: وعد المؤمنين المخبتين. السابعة: وعيد من استهزأ بالقرآن. الخامس: ذكر الأمر والنهي، فذكر النهي عن الشرك، والأمر بالإخلاص. الثانية: الأمر بالاستغفار والتوبة. الثالثة: الأمر بالمضي على أمر الله وإن اعترضوا بالشبهة الجزء: 13 ¦ الصفحة: 217 الفاسدة. الرابعة: أمره بالتحدي. الخامسة: نهيه عن المرية فيه. السادس: أمور مدحها لنفعلها: منها الصبر. الثانية: عمل الصالحات. الثالثة: مدح العلم الصادر عن اليقين. الرابعة: مدح معرفة القرآن. الخامسة: ذكر نتيجة الأمرين. السادسة: الإيمان الإخبات إلى الله. السابع: أمور كرهها، ذكرها لتترك: منها التولي. الثانية: ثني الصدر. الثالثة: الاعتراض على الحق الصريح، بالجهل الصريح. الرابعة: استبطاء وعيد الله. الخامسة: كون الإنسان يؤوسا عند الضراء. السادسة: كونه كفورا عندها. السابعة: كونه فرحا عند النعماء. الثامنة: فخورا عندها ولو كانت بعد ضراء، والتي قبلها ولو كانت بعد سراء. التاسعة: نتيجة معرفة الآية. العاشرة: فائدة النتيجة. الحادية عشر: كونه يريد الدنيا. الثانية عشر: كونه يفتري على الله الكذب. الثالثة عشر: من المكروه الصد عن سبيل الله. الرابعة عشر: بغي العوج لها. الثامن: المنثور1: ذكر أن الأكثر لا يؤمنون. الثانية: ذكر مثل المؤمنين. الثالثة: ذكر مثل الكافرين. الرابعة: التنبيه على التذكير بالحالين. الخامسة: كونهم لا يستطيعون   1 أي: من العلوم في مواضع من صدر هذه السورة. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 218 السمع. السادسة: الفرق بين العالم والجاهل. السابعة: كون عرشه على الماء. الثامنة: من الوعد {أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} [سورة هود آية: 11] . [ما يستفاد من قوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا} وقال أيضا الشيخ محمد رحمه الله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [سورة هود آية: 15-16] : قد ذكر عن السلف من أهل العلم فيها أنواع مما يفعل الناس اليوم ولا يعرفون معناه. الأول: من ذلك العمل الصالح الذي يفعل كثير من الناس ابتغاء وجه الله، من صدقة وصلة وإحسان إلى الناس، ونحو ذلك; وكذلك ترك ظلم، أو كلام في عرض، ونحو ذلك مما يفعله الإنسان أو يتركه خالصا لله، لكنه لا يريد ثوابه في الآخرة؛ إنما يريد أن الله يجازيه بحفظ ماله وتنميته، وحفظ أهله وعياله، وإدامة النعمة عليهم ونحو ذلك؛ ولا همة له في طلب الجنة، ولا الهرب من النار. فهذا يعطى ثواب عمله في الدنيا، وليس له في الآخرة نصيب. وهذا النوع ذكر عن ابن عباس في تفسير الآية، وقد غلط بعض مشائخنا بسبب عبارة في شرح الإقناع، في أول باب النية، لما قسم الإخلاص مراتب، وذكر هذا منها، ظن أنه يسميه إخلاصا مدحا له، وليس كذلك; وإنما أراد أنه الجزء: 13 ¦ الصفحة: 219 لا يسمى رياء، وإلا فهو عمل حابط في الآخرة. والنوع الثاني: وهو أكبر من الأول وأخوف، وهو الذي ذكر مجاهد أن الآية نزلت فيه، وهو أن يعمل أعمالا صالحة ونيته رئاء الناس، لا طلب ثواب الآخرة; وهو يظهر أنه أراد وجه الله، وإنما صلى، أو صام، أو تصدق، أو طلب العلم، لأجل أن الناس يمدحونه ويجل في أعينهم، فإن الجاه من أعظم أنواع الدنيا. "ولما ذكر لمعاوية حديث أبي هريرة، في الثلاثة الذين هم أول من تسعر بهم النار، وهم: الذي تعلم العلم ليقال عالم حتى قيل، وتصدق ليقال جواد، وجاهد ليقال شجاع، بكى معاوية بكاء شديدا، ثم قرأ هذه الآية". النوع الثالث: أن يعمل الأعمال الصالحة، ومقصده بها مالا، مثل أن يحج لمال يأخذه لا لله، أو يهاجر لدنيا يصيبها، أو امرأة ينكحها، أو يجاهد لأجل المغنم، فقد ذكر هذا النوع أيضا في تفسير هذه الآية، كما في الصحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة" إلخ. وكما يتعلم العلم لأجل مدرسة أهله، أو مكسبهم أو رياستهم، أو يقرأ القرآن ويواظب على الصلاة، لأجل وظيفة المسجد، كما هو واقع كثيرا; وهؤلاء أعقل من الذين قبلهم، لأنهم عملوا لمصلحة يحصلونها; والذين قبلهم الجزء: 13 ¦ الصفحة: 220 عملوا لأجل المدح والجلالة في أعين الناس، ولا يحصل لهم طائل. والنوع الأول أعقل من هؤلاء كلهم، لأنهم عملوا لله وحده لا شريك له، لكن لم يطلبوا منه الخير العظيم وهو الجنة، ولم يهربوا من الشر العظيم وهو العذاب في الآخرة. النوع الرابع: أن يعمل الإنسان بطاعة الله، مخلصا في ذلك لله وحده لا شريك له، لكنه على عمل يكفره كفرا يخرجه عن الإسلام، مثل اليهود والنصارى إذا عبدوا الله وتصدقوا أو صاموا ابتغاء وجه الله والدار الآخرة. ومثل كثير من هذه الأمة الذين فيهم شرك أكبر أو كفر أكبر، يخرجهم عن الإسلام بالكلية، إذا أطاعوا الله طاعة خالصة يريدون بها ثواب الله في الدار الآخرة، لكنهم على أعمال تخرجهم من الإسلام وتمنع قبول أعمالهم؛ فهذا النوع أيضا قد ذكر في الآية عن أنس بن مالك وغيره؛ وكان السلف يخافون منه. قال بعضهم: لو أعلم أن الله تقبل مني سجدة واحدة لتمنيت الموت، لأن الله يقول: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [سورة المائدة آية: 27] . فهذا قصد وجه الله والدار الآخرة، لكن فيه من حب الدنيا والرياسة والمال ما حمله على ترك كثير من أمر الله ورسوله، أو أكثره، فصارت الدنيا أكبر قصده. فلذلك قيل قصد الدنيا، وصار ذلك القليل كأنه لم الجزء: 13 ¦ الصفحة: 221 يكن، كقوله صلى الله عليه وسلم: " صل فإنك لم تصل ". والأول أطاع الله ابتغاء وجهه، لكن أراد من الله الثواب في الدنيا; وخاف على الحظ والعيال، مثل ما يقول الفسقة، فصح أن يقال: قصد الدنيا. والثاني والثالث واضح. لكن بقي أن يقال: إذا عمل الرجل الصلوات الخمس والزكاة والصوم والحج ابتغاء وجه الله، طالبا ثواب الآخرة، ثم بعد ذلك عمل أعمالا كثيرة أو قليلة قاصدا بها الدنيا، مثل أن يحج فرضه لله، ثم يحج بعده لأجل الدنيا، كما هو الواقع كثيرا. فالجواب: أن هذا عمل للدنيا والآخرة، ولا ندري ما يفعل الله في خلقه; والظاهر: أن الحسنات والسيئات تدافع، وهو لما غلب عليه منهما; وقد قال بعضهم: إن القرآن كثيرا ما يذكر أهل الجنة الخلص، وأهل النار الخلص، ويسكت عن صاحب الشائبتين، وهو هذا وأمثاله; ولهذا خاف السلف من حبوط الأعمال. وأما الفرق بين الحبوط والبطلان، فلا أعلم بينهما فرقا بينا، والله أعلم. [المسائل المستنبطة من قوله تعالى: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ} ] وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى: قوله عز وجل لما ذكر قصة نوح: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} [سورة هود آية: 49] : إذا تأمل الإنسان حاله أولاً، وما تعلم من العلوم من أهله، ثم تفكر في هذه القصة، هل علم منها زيادة على ما عنده أو لا؟ عرف مسائل: الجزء: 13 ¦ الصفحة: 222 الأولى: عظمة الشرك، ولو قصد صاحبه التقرب إلى الله، وذلك مما فعل الله بأهل الأرض لما عبدوا ودا وسواعا ويغوث ويعوق ونسرا. الثانية: شدة بطش الله وعقوبته، حيث أرسل الطوفان فأهلك الطيور والدواب وغير ذلك. الثالثة: معرفة آيات رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث وافق ما قصه مع كونه لم يعلم. الرابعة: التحقيق يكون المخلوق ليس له من الأمر شيء، ولو كان نبيا مرسلا، بسبب ما فيها من قصة ابن نوح. الخامسة: تبيين الله الحجج الباطلة والتحذير منها; مع أنها عندنا أوهام، وعند أكثر الناس حجج صحيحة. السادسة: تبرؤ الرسل من دعوى أن عندهم خزائن الله وعلم الغيب، مع أن الطواغيت في زمننا ادعوا ذلك، وصدقوا وعبدوا لأجل ذلك. السابعة: التحذير من استحقار الفقراء والضعفاء، لقوله: {وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ} [سورة هود آية: 31] ، مع أنه سائغ ممن يدعي العلم، ويستحسنه الناس منهم. الثامنة: وهي من أعظم الفوائد: التحذير من الشبهة التي أدخلت أكثر الناس النار، وهي السواد الأعظم، والنفرة من القليل، لقوله: {وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلا قَلِيلٌ} [سورة هود آية: 40] . التاسعة: معرفة شيء من عظمة الله في تأديبه الرسل، لما قال لنوح: {إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [سورة هود آية: الجزء: 13 ¦ الصفحة: 223 46] . العاشرة: وهي من أهمها: أن فيها شاهدا لقول الحسن: نضحك ولعل الله اطلع على بعض أعمالنا، وقال: لا أغفر لكم، وذلك من قوله: {أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاّ مَنْ قَدْ آمَنَ} [سورة هود آية: 36] مع سخريتهم منه. الحادية عشر: التحذير من اتباع رؤساء الدنيا، وقبول حججهم، لقوله: {فَقَالَ الْمَلأ} . وهم الأشراف والرؤساء. الثانية عشر: بيان الله تعالى لتلك الحجج، فقولهم: {مَا نَرَاكَ إِلاّ بَشَراً مِثْلَنَا} فيه القياس الفاسد، وقولهم: {وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا} احتجاج بما ليس حجة. وقولهم: {بَادِيَ الرَّأْيِ} أي: ليسوا بأهل دقة نظر في أمور الدنيا، احتجاج بما ليس بحجة; وقولهم: {وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ} احتجاج برأيهم، وهو من أفسد الحجج; وقولهم: {بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ} احتجاج بالظن. الثالثة عشر: أنهم لم يصرحوا بأن هذا الذي عليه نوح وأتباعه أمر الله، ثم جاهروا بعصيانه، قالوا: {بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ} [سورة هود آية: 27] وقالوا: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لأَنْزَلَ مَلائِكَةً} [سورة المؤمنون آية: 24] وغير ذلك; وأنت ترى الذين يكونون من أهل العلم والعبادة، كيف يقرون ويجاهرون بالكفر {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} [سورة الزخرف آية: 37] . [ما يستفاد من قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} ] قال بعض تلامذة الشيخ: هذه صفة مذاكرة جرت عند الشيخ محمد رحمه الله تعالى، سأله الإمام عبد العزيز بن الجزء: 13 ¦ الصفحة: 224 محمد بن سعود رحمه الله، عن هذه الآيات من آخر هود، من قوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} [سورة هود آية: 110] إلى آخرها، وتكلم عليها كلاما حسنا، أحببت أن أنقله لكم. ومحصل الكلام: أنه تكلم على صورة الاختلاف الذي ذمه الله في الكتاب، أنه مثل كون الخوارج يستدلون بآيات على كفر العاصي، كقوله: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [سورة المائدة آية: 44] الآية، {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [سورة الأنعام آية: 57] ، {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [سورة الأنعام آية: 121] ، ويعرضون عن الآيات التي فيها عدم كفره، أو يتأولونها. وعكسهم المرجئة: يستدلون بالآيات التي فيها أن من آمن دخل الجنة كقوله: {أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} [سورة الحديد آية: 21] ، والإيمان عندهم مجرد التصديق فقط، ويعرضون عن الآيات المصرحة بأن الأعمال من الإيمان كقوله: {وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} [سورة النور آية: 47] ، وقوله: {ِإنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [سورة الأنفال آية: 2] ، وما لا يحصى إلا بكلفة، وأمثالهم من أهل البدع كالجهمية، والأشعرية. وذكر أن الله عظم هذاالأمر بقوله: {وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} [سورة يونس آية: 19] ، فلولا أن الله سبق منه كلام بتأخير العذاب، لكان الحكمة تقتضي تعجيل العذاب، بسبب كبر ذنبهم. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 225 وقوله: {وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ} [سورة هود آية: 110] ، ذكر رحمه الله: أن هذه مشكلة عليَّ، ولا فهمت كلام أهل التفسير فيها، لو كان الرجل يوهم عليها لأجل أن التوراة عند بني إسرائيل مثل القرآن عندنا، يشهدون أنها كلام الله، وليس عندهم في هذا شك; ولا أدري ما هذا الشك. وقوله: {وَإِنَّ كُلاً لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ} [سورة هود آية: 111] الآية، ذكر سبحانه أنه سيجازى كلا بعمله، وأنه خبير بأعمالهم دقيقها وجليلها، فلما كان الإنسان إذا عرف عيب غيره، الغالب عليه أنه يذمه ويشتغل به وينسى عيب نفسه، قال تعالى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ} [سورة هود آية: 112] الآية، وذكر أن هذه من آيات الخوف. ثم قال تعالى: {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} [سورة هود آية: 113] الآية: بعض الكفار قد يكون فيه أخلاق، مثل حاتم وعبد المطلب، فإن كان كفره بالله وإشراكه لا يشينه عندك ويغطي محاسنه، فهو من الركون إليهم، كما قال أبو العالية في الآية: لا ترضوا بأعمالهم، انتهى. مثل كون المرأة إذا كانت زانية فسدت عند الناس، ولو كان فيها أخلاق حسنة، وفيها جمال وبنت رجال، وهذا العيب يغطي محاسنها كلها عند الناس; والإنسان قد يكون له قريب، أو رجل ينفعه، فتوعد على الركون إليهم بالنار مع أنه يقع عندنا، ولا يستنكر ولا ينتقد على فاعله. وقوله: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ} [سورة هود آية: الجزء: 13 ¦ الصفحة: 226 114] الآية: إذا عرفت سبب نزولها، عرفت الجهل الكثير في أكثر الناس، وعرفت أنها من عجائب القرآن، إذا جمعت بينها وبين ما ذكر الله قبلها في الركون، وتوعده عليه بالنار; فعظم الله أمر الركون؛ وأمره عندنا يسير هين، ولا يعاب على فاعله. وفعل هذا الرجل الذي ذكر أنها نزلت فيه، لو يفعله عندنا رجل جيد عاب 1 عند الناس ولو تاب؛ فينبغي للإنسان أن يعظم ما عظم الله ورسوله، ولو كان عند الناس أمره هينا. وأيضا يعرف المؤمن عظم شأن الصلوات الخمس عند الله. وقوله: {وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [سورة هود آية: 115] : لما كان ما تقدم من الأمر والنهي خلاف طبع الإنسان، ذكر أنه لا يقدر على ذلك إلا بالصبر ورجاء ما عند الله. وقوله: {فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ} [سورة هود آية: 116] الآية: لولا بمعنى: هلا، وهذه الآية يستدل بها العلماء على أن الدين غريب، لأن هذه الأمة تفعل ما فعلت الأمم قبلها، وقوله: {وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا} [سورة هود آية: 116] الآيتين لما كان الإنسان يتباعد هذا، ويقول: كيف أن العلماء لا يأمرون بالمعروف، ولا ينهون عن المنكر، فذكر سبحانه أن الآفة استحباب الدنيا على الآخرة،   1 كذا بالأصل. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 227 واتباع ما أترفوا فيه; فالعلماء لهم مدارس ومواكل، ولو يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر قطعت مواكلهم، فآفتهم ليست عدم العلم، بل ما ذكر الله. وذكر أن ملكا من الملوك أراد أن يأمر بشيء في رعيته على خلاف الشرع، فجمع العلماء والفقهاء من أهل بلده يشاورهم، فلم يقولوا شيئا وسكتوا، فتبين منهم رجل وأنكر عليه، وقال: هذا لا يجوز، فقال الملك: اقطعوا علائق هذا المتفقه; فقالوا: إنه يأكل من غزل أمه; قال: فلذلك اجترأ علينا. وقوله: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} [سورة هود آية: 118] : ذكر سبحانه: أن المعرضين عن كتاب الله هم أهل الاختلاف إلى يوم القيامة; ولا يتصور أنهم يجتمعون على دين واحد، ولو كانوا علماء أذكياء كأهل الكلام، يتناقضون ويختلفون في دينهم أعظم تناقض واختلاف; وقد سمعتم من ذلك شيئا; وأهل السنة هم أهل الجماعة، ودينهم دين واحد من أولهم إلى آخرهم; وهذا مما يبين لك شيئا من قدرة الله عز وجل. وقوله: {وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [سورة هود آية: 119] فيها ثلاثة أقوال، ومعناها واحد: فمن قال: إنهم خلقوا للاختلاف; ومن قال: خلقوا للرحمة; ومن قال: خلقوا لهذا وهذا; ومعناها واحد. وقوله: {وَكُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ} [سورة هود آية: 120] الآية، في هذا دليل على عدم معرفة أكثر القراء الجزء: 13 ¦ الصفحة: 228 بالقرآن، إذا كان في قصص الرسل، ما يثبت به فؤاده صلى الله عليه وسلم فكيف بغيره؟. وقوله: {وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ} [سورة هود آية: 121] ، قيل في هذه السورة; وهذه السورة لها شأن عند السلف; {وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ} [سورة هود آية: 122] الآيتين: فهم ينتظرون زواله، وهو ينتظر زوالهم؛ وهذه لها أشباه; وقوله: {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [سورة هود آية: 123] الآية، مثل قوله: {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [سورة الحجرات آية: 18] ، {وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ} [سورة هود آية: 123] الآية: تقتضي عبادة الله والتوكل عليه; وهذا يجمع الدين كله، كقوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [سورة الفاتحة آية: 5] ، والله أعلم، وصلى الله على محمد. [تفسير قوله تعالى {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} سئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن، رحمه الله تعالى، عن معنى قوله تعالى: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [سورة هود آية: 118-119] : قال أبو البقاء: الاستثناء من ضمير الفاعل في {وَلا يَزَالُونَ} وهو الواو، وقوله: {وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} أي: للرحمة، فاسم الإشارة راجع إلى الرحمة، لأنه أقرب مذكور، قوله: {وَلِذَلِكَ} أي: للرحمة {خَلَقَهُمْ} . قلت: وهذا الذي عليه أكثر المفسرين; قال ابن جرير ما معناه: اسم الإشارة راجع للاختلاف، أي: مختلفين، وهو ضعيف عند المحققين من المفسرين، كشيخ الإسلام ابن تيمية، وأبي البقاء وغيرهما. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 229 وروي عن طاووس: "أن رجلين اختصما إليه فأكثروا، فقال طاووس: اختلفتما وأكثرتما، فقال أحد الرجلين: لذلك خلقنا، فقال طاووس: كذبت أليس يقول: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} قال: لم يخلقهم ليختلفوا، ولكن خلقهم للجماعة والرحمة" وقال ابن عباس: "للرحمة خلقهم، ولم يخلقهم للعذاب"; وكذا قال مجاهد والضحاك وقتادة. وعلى هذا الإشكال، فيكون كقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ} [سورة الذاريات آية: 56] ، قال العماد ابن كثير، رحمه الله: ويدل على ذلك قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [سورة البقرة آية: 185] ، {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً} [سورة النساء آية: 27] . وأما قوله: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ} [سورة الذاريات آية: 56] فاللام للتعليل بلا ريب، وهو قول أهل السنة والجماعة قديما وحديثا; فدلت الآية على أن حكمة الرب في خلقه الثقلين ليعبدوه وحده. فإنه ربهم وخالقهم ومليكهم، وهم تحت قهره وقدرته، وهو المنعم عليهم وحده، فوجب لذلك وغيره من صفات الله وعظمته أن يكون هو معبدوهم وحده دون كل ما سواه، كما قال تعالى: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [سورة النحل آية: 17] ، وقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 230 الَّذِي خلقكم} . إلى آخر الآيات. [سورة البقرة آية: 21 - 24] والمراد بالحكمة في هذه الآية: الدينية الشرعية; لكن من الناس من وافق هذه الحكمة بإرادته وعلمه وعمله، ومنهم من خرج عنها لعدم قبوله لما أراده الله به، وذلك بقضاء الرب وقدره، لعلمه السابق في خلقه. لأنه تعالى يعلم ما هم عاملون قبل خلقه لهم، وهو الذي يهدي من يشاء بفضله وإحسانه، ويضل من يشاء بعدله وقدرته ومشيئته; فالأول: فضله. والثاني: عدله; قال الله تعالى: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ [سورة الزخرف آية: 76] . وقد مكن عباده بأسباب يقتدر بها العبد على طاعة ربه، كما قال تعالى: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [سورة الإسراء آية: 36] وأرسل الرسل مبشرين ومنذرين، ليخرج الناس من الظلمات إلى النور {فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ} [سورة النحل آية: 36] كما قال تعالى: {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [سورة النساء آية: 165] . ونظير هذه الآية، قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} [سورة النساء آية: 64] ، فمنهم من أطاع ومنهم من عصى; فالفضل فضله تعالى، والحجة له بالبيان والفطرة والعقول، والعلم الذي أنزل في كتبه وعلى ألسن رسله، وبالله التوفيق. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 231 وعلى العبد أن يتسبب بالإقبال على ذلك، وطلب ما يحبه منه ويرضاه، ويترك ما يسخطه ويأباه، وأن يكون ذلك هو أهم الأشياء لديه، {وَمَا تَوْفِيقِي إِلاّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [سورة هود آية: 88] . وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "اللهم إني أسألك الثبات في الأمر، والعزيمة على الرشد" فالمراد بالأمر الأمر الديني الشرعي، فيسأل الله تعالى الثبات عليه، بتحصيل أسبابها، فمنها معرفة الهدف بدليله، وذلك عن يقين وحسن قبول، وانقياد ومحبة، وصبر وخشية الله وخوف منه، ونحو ذلك؛ فإن الطباع البشرية تصرف القلب عن الثبات في الأمر الشرعي الديني، فيخالفه هواه. واتباع الهوى له أسباب كثيرة، لا يدفعها عن العبد إلا قوة داعي الإيمان بالله ورسله، وتدبر كتابه، وعدم الإعراض عنه إلى غيره، قال الله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} [سورة الكهف آية: 57] ونحو ذلك في عدة مواضع من القرآن، يحذر تعالى عباده عن الإعراض، لأنه يمنع العبد من الخير كله، ويوقعه في الشر كله، ويجمع على العبد شرور نفسه وسيئات أعماله. نسأل الله العفو والعافية، في الدنيا والآخرة; فمن أعظم أسباب الثبات، محبة الهدى والرغبة فيه، وطلبه بجهده، لما تقدم، والضد بالضد. وأما قوله: "والعزيمة على الرشد"، فالعبد محتاج إلى الجزء: 13 ¦ الصفحة: 232 ذلك أيضا بمعرفة ما يصلحه، في معاشه ومعاده والعزيمة عليه؛ ولكن الناس اختلفوا في هذا كما اختلفوا فيما قبله، فقد يعرف رشده وقد لا يعرفه، والذي يعرفه قد يعزم عليه وقد لا يعزم، فحصل التفاوت؛ فالخير لا يحصل إلا بطلب وعمل، واستعانة بالله على ذلك، وافتقار إليه وإنابة إليه وتوكل عليه؛ ومن ضيع أسباب الثبات ضاع، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 233 سورة يوسف ذكر ما ذكر الشيخ محمد رحمه الله، على سورة يوسف من المسائل: {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} [سورة يوسف آية: 1-3] : روى ابن جرير عن سعد بن أبي وقاص قال: "أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم القرآن فتلاه زمانا، فقالوا: يا رسول الله لو حدثتنا،" فنَزل: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ} [سورة الزمر آية: 23] الآية. وله عن عون بن عبد الله قال: "مل الصحابة ملة، فقالوا: يا رسول الله، حدثنا فنزل: {اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ} ، ثم ملوا ملة، فقالوا: يا رسول، حدثنا ما فوق الحديث، ودون القرآن - يعنون القصص -، فأنزل الله أول هذه السورة، إلى قوله: {لَمِنَ الْغَافِلِينَ} ". ومما يدل على ان القرآن كاف عما سواه من الكتب: الجزء: 13 ¦ الصفحة: 233 " أن عمر أتى النبي صلى الله عليه وسلم بكتاب فقرأ عليه فغضب، فقال: أمتهوكون فيها يا ابن الخطاب؟ والذي نفسي بيده، لقد جئتكم بها بيضاء نقية، لا تسألوهم عن شيء فيخبروكم بحق فتكذبونه، أو بباطل فتصدقونه، والذي نفسي بيده، لو كان موسى حيا ما وسعه إلا اتباعي " رواه أحمد. وفي لفظ: " أنه استكتب جوامع من التوراة، وقال: ألا أعرضها عليك؟ وفيه: لو أصبح فيكم موسى حيا، ثم اتبعتموه وتركتموني لضللتم، إنكم حظي من الأمم، وأنا حظكم من النبيين ". وقد انتفع عمر بهذا، فقال للذي نسخ كتاب دانيال: "امحه بالحميم والصوف الأبيض، وقرأ عليه أول هذه السورة، وقال: لئن، بلغني أنك قرأته، أو أقرأته أحدا من الناس، لأنهكنك عقوبة". والمراد بأحسن القصص القرآن، لا قصة يوسف وحدها، وقوله: {تِلْكَ} أي: هذه {آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} الواضح الذي يوضح الأشياء المبهمة، وقوله: {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} أي: تفهمون معانيه; والقصص: مصدر قص الحديث يقصه قصصا، أي: بإيحائنا إليك هذا القرآن. وقوله: {لَمِنَ الْغَافِلِينَ} أي: الجاهلين به، وهذا مما يبين جلالة القرآن، لأن فيه دلالة على أن علمه صلى الله عليه وسلم من القرآن; وفيه دلالة على جلالة الله وقدرته، ودلالة على عظيم نعمته على نبيه صلى الله عليه وسلم؛ وفيه دلالة على كذب من ادعى أن غيره من الكتب أوضح منه. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 234 قوله عز وجل {إِذْ قَالَ يُوسُفُ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ قَالَ يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدا {سورة يوسف آية: 4-5] أبوه يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليه السلام; والكواكب عبارة عن إخوته، والشمس والقمر عبارة عن أبيه وأمه. ووقع تفسيرها بعد أربعين سنة، وقيل ثمانين، حين رفع أبويه على العرش، وخروا له سجدا، ولما كان تعبيرها خضوعهم له، خشي إن حدثهم أن يحسدوه، فيبغون له الغوائل; وثبت: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر من رأى ما يحب أن يحدث به، ولا يحدث إلا من يحب; وإذا رأى ما يكره فليتحول إلى جنبه الآخر، ويتفل عن يساره ثلاثا، ويتعوذ بالله من شرها فإنها لا تضره ". وفيها: عدم الوثوق بنفسك وبغيرك; قيل للحسن أيحسد المؤمن؟ قال: "أنسيت إخوة يوسف؟ " وفيها: التنبيه على السبب، وهو عداوة الشيطان للإنسان. وفيها: كتمان النعمة ما لم يؤمر بإظهارها. وفيها: كتمان السر. قوله: {وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [سورة يوسف آية: 6] أي: كما اختارك لهذه الرؤيا، كذلك يختارك الجزء: 13 ¦ الصفحة: 235 لنبوته {وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ (، قال مجاهد وغيره: عبارة الرؤيا. {وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ} بإرسالك {كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْل ُ (، وقوله: {إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [سورة يوسف آية: 6] أي: عليم بمن يصلح للاجتباء، حكيم يضع الأشياء في مواضعها; وهذا من أنفع العلوم، يعني: معرفة الله تعالى؛ ولا يعتني به إلا من عرف قدره. وفيها: البشارة بالخير، وأنه ليس من مدح الإنسان المنهي عنه. وفيها: تولية النعمة مسديها سبحانه وتعالى. وفيها: سؤال الله تعالى تمام النعمة، وأن علم التعبير علم صحيح يمن الله به على من يشاء من عباده. وقوله عز وجل {لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ قْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ} [سورة يوسف آية: 7-10] . يعني: أن في ذلك عبرا وفوائد لمن يسأل; فإنه خبر يستحق السؤال {إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ} شقيقه، {وَنَحْنُ عُصْبَةٌ} أي: جماعة; وقوله: {فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} أي: تقديمهما علينا; وقوله: {أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا} أي: ألقوه في أرض بعيدة {يَخْلُ لَكُمْ} وحدكم {وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 236 بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ} [سورة يوسف آية: 9] أي; تتوبون. وقوله: {فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ} أي: أسفله. {يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ} أي: المارة من المسافرين. {إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ} أي: إن كنتم عازمين على ما تقولون; قال ابن إسحاق: لقد اجتمعوا على أمر عظيم، يغفر الله لهم {وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} . وفيها مسائل: منها: ما نبه الله تعالى عليه أن هذه القصة فيها عبر؛ قال بعضهم: فيها أكثر من ألف مسألة; وفيها: أن الذي ينتفع بالعلم، هو الذي يهتم به ويسأل عنه; وأعظم ما فيها تقرير الشهادتين بالأدلة الواضحة. وفيها: أن الوالد يعدل بين الأولاد، لئلا تقع بينهم القطيعة، وأن ذلك ليس مختصا بالمال. وفيها: غلط العالم في الأمر الواضح; وتغليطه من لا ينبغي تغليطه، لقولهم: {وَنَحْنُ عُصْبَةٌ} الآية. وفيها: أن الإنسان لا يغتر بالشيطان، إذا زين له المعصية ومناه التوبة. وفيها: شاهد للمثل المعروف: بعض الشر أهون من بعض. وفيها: شاهد لقوله: " أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل؛ يبتلى الرجل على قدر دينه " 1. وسيأتي بعض ما فيها من المسائل في مواضعه إن شاء الله تعالى. {قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [سورة يوسف آية: 11-12] ، قال ابن عباس وغيره:" {يَرْتَعْ   1 الترمذي: كتاب الزهد (2398) ، ومسند أحمد (1/172) ، ومسند الدارمي: كتاب الرقاق (2783) . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 237 وَيَلْعَبْ} : يسع وينبسط"، وفي قراءة: {نرتع ونلعب} فيه الرخصة في بعض اللعب خصوصا للصغار، وفيه التحفظ على الأولاد، وفيه إرسالهم مع الأمناء الناصحين، وفيه عدم الاغترار بحسن الكلام. قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخَاسِرُونَ [سورة يوسف آية: 13-14] ، قال: إنه ليشق علي مفارقته وقت ذهابكم به، لفرط محبته {وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ} [سورة يوسف آية: 13] أي: تشتغلون عنه برميكم ورعيكم، فأخذوها منه، وجعلوها عذرهم; ومن الأمثال: البلاء موكل بالمنطق. وفيه: أنه لم يتهمهم بما أرادوا، ولكن خاف من التقصير في حفظه. {قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ} [سورة يوسف آية: 14] أي: إن عدا عليه فأكله ونحن جماعة، إنا إذا لعاجزون; فيه: الذم لمن ترك الحزم؛ وفيه: أن العجز هلكة. {فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [سورة يوسف آية: 15] هذا فيه تعظيم لما فعلوا أنهم اتفقوا على إلقائه في الجب، وقد أخذوه من أبيه بذلك الكلام; وقوله: {وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ} قيل: كان قد أدرك، وقيل: أوحى إليه كما أوحى إلى عيسى ويحيى. وقوله: {وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} أي: "لا يشعرون بأنك الجزء: 13 ¦ الصفحة: 238 يوسف"، كذا روي عن ابن عباس، وقيل: لا يشعرون بإيحائنا ذلك إليه، وفيه: جواز الذنوب على الصالحين; وفيه: رجاء رحمة الله; وفيه: أن لله سبحانه وقت البلاء نعما عظيمة; وفيه: أن الماكر يصير وبال مكره عليه، ولكن لا يشعر ولو شعر لما فعل. {وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ (قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِين َوَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [سورة يوسف آية: 16-18] . لما رجعوا إليه باكين إظهارا للحزن على يوسف، اعتذروا باستباقهم وهو الترامي {قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ (. وقوله: {عِنْدَ مَتَاعِنَا} أي: ثيابنا وأمتعتنا; وقوله: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا} أي: لست بمصدقنا ولو كنا صادقين عندك، فكيف مع التهمة؟ وقوله: {بِدَمٍ كَذِبٍ} : نسوا أن يخرقوا القميص، فعرف كذبهم; قوله: {سَوَّلَتْ} أي: زينت أو سهلت; والصبر الجميل الذي لا شكوى معه، وقوله: {تَصِفُونَ} أي: تذكرون. وفيه من الفوائد: عدم الاعتذار ببكاء الخصم، وعدم الاغترار بزخرف القول، وما يجعل الله على الباطل من العلامات، وفيه: الاستدلال بالقرائن; وفيه: ما ينبغي الجزء: 13 ¦ الصفحة: 239 استعماله عند المصائب، وهو الصبر الجميل، والاستعانة بالله؛ وأن التكلم بذلك حسن. {وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ} [سورة يوسف آية: 19-20] السيارة: الرفقة السائرون، والوارد: الذي يرد الماء يستسقي للقوم، وقوله: {وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً} أي: أظهروا أنهم أخذوه بضاعة من أهل الماء. وقوله: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ} أي: باعوه في مصر بثمن قليل، لأنهم لم يعلموا حاله; وفيه من الفوائد: أن الله يبتلي أحب الناس إليه بمثل هذا البلاء العظيم عليه وعلى أبيه; ومن ذلك البلاء: أنه سلط عليه من يبيعه بيع العبد. وفيه: أنه لا ينبغي للعاقل أن يستحقر أحدا، فقد يكون زاهدا فيه وهو لا يعلم. {وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [سورة يوسف آية: 21] قال ابن مسعود: "أفرس الناس ثلاثة: العزيز حيث تفرس في يوسف; والمرأة حين قالت: يا أبت استأجره؛ وأبو بكر في عمر". وقوله: {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ} أي: كما أنجيناه من كيد إخوته، ومن الجب، وجعلناه عند من يكرمه، مكنا له. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 240 {وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ} أي: إنما فعلنا ذلك لحكمة، وهي: إعطاؤنا إياه العلم والعمل. وقوله: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ} أي: الذي يجري ما أراد، لا ما أراد العباد، كما لم يعمل كيدهم في يوسف; وقوله: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [سورة يوسف آية: 21] ما أعظمها من فائدة لمن فهمها! {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِين} [سورة يوسف آية: 22] : تقول العرب: بلغ أشده، أي: منتهى شبابه، قيل: الحلم; وقيل: أكثر من ذلك. قوله: {آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا} (: العلم: معرفة الأشياء، والحكم: العمل به، وإصابة الحق. وقوله: {وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} يعني أن هذا ليس مختصا بيوسف، بل الله سبحانه يجازي المحسنين بخير الدنيا والآخرة، ومن ذلك أنه يجازي المحسنين بإعطائه العلم والحكمة. {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [سورة يوسف آية: 23] : فيه مسائل: الأولى: قوله: {إِنَّهُ رَبِّي} أن هذا جائز في شريعتهم، بخلاف شريعتنا، لأنها لو كانت سمحة في العمل فهي حنيفية في التوحيد. الثانية: مراعاة حق المخلوق. الثالثة: شكر نعمة المخلوق، لقوله: {أَحْسَنَ مَثْوَايَ} . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 241 الرابعة: القاعدة الكلية {إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} . الخامسة: التنبيه على عدم مخالطة الخدم للنساء، خصوصا إذا كان في الخادم داعية. السادسة: معرفة كمال يوسف عليه السلام، فإن صبره لا يعرف له نظير. السابعة: براءته صلى الله عليه وسلم من الحول والقوة، لقوله: {مَعَاذَ اللَّهِ (: أعوذ بالله، {إِنَّهُ رَبِّي} أي: سيدي {أَحْسَنَ مَثْوَايَ} أي: أكرمني. الثامنة: أن الاعتذار بحق المخلوق لا بأس به; ولو كان في القضية حق الله; ومعنى: {هَيْتَ لَكَ} أي: أقبل. {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [سورة يوسف آية: 24] : فيه مسائل: الأولى: أن الهم الذي لا يقترن به عمل ولا قول، لا يعد ذنبا، كما في الحديث "إن الله تجاوز لهذه الأمة عما حدثت به أنفسها ما لم تكلم أو تعمل". الثانية: أن الذي صرفه عن ذلك، فضل تفضل الله عليه به تلك الساعة، غير إيمانه الأول؛ وهذه من أعظم ما يعرف الإنسان نفسه. الثالثة: أن هذا الفضل سببه ما تقدم له من العمل الصالح، فمن ثواب العمل حفظ الله للعبد، كما في قوله: "احفظ الله يحفظك". الرابعة: معرفة قدر الإخلاص، حيث أثنى الله على يوسف أنه من أهله. الخامسة: السابقة التي الجزء: 13 ¦ الصفحة: 242 سبقت من الله، كما قال أبو عثمان: لأنا بأول هذا الأمر أفرح مني بآخره. السادسة: أن العباد المضافين إليه، غير الذين قال فيهم: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً} [سورة مريم آية: 93] . السابعة: صرف الله عنه السوء والفحشاء، فيه رد على ما ذكر بعض المفسرين. الثامنة: أن الصارف له آية من آيات الله أراه إياها. التاسعة: عطف الفحشاء على السوء، قيل: إن السوء الذنوب كلها. {وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلاّ أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [سورة يوسف آية: 25] : تبادرا إلى الباب، إن سبق يوسف خرج، وإن سبقته أغلقت الباب لئلا يخرج، وقوله: {مِنْ دُبُرٍ} أي: من خلف. {وَأَلْفَيَا} أي: وجدا; سيدها، أي: زوجها، {لَدَى الْبَابِ} أي: عنده. فيها مسائل: الأولى: حرصه عليه السلام على البعد عن الذنب، كما حرصت على الفعل. الثانية: لطف الله تعالى في تيسيره شق القميص من دبر. الثالثة: كشف الله ستر العاصي فيما يستبعد. الرابعة: شدة مكر النساء، كيف قويت على هذا في هذا الموضع. الخامسة: التحرز من تظلم الشخص، فربما أنه هو الظالم; والدواء: التأني وعدم العجلة. السادسة: تسمية الزوج سيدا في كتاب الله. السابعة: ما عليه الكفار من الجزء: 13 ¦ الصفحة: 243 استعظام الفاحشة. الثامنة: الغيرة على الأهل. {قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ وإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [سورة يوسف آية: 26-27] قوله: {مِنْ أَهْلِهَا} أي من أقاربها، وإن كان مع زوجها. فيه مسائل: الأولى: القيام بالقسط في الشهادة، قد يكون من الكفار، والعجب أنه في مثل هذه الحادثة. الثانية: أن الشاهد إذا كان من قرابات المشهود عليه، فهو أبلغ. الثالثة: الحكم بالدلالات والقرائن. الرابعة: ذكر الله تعالى ذلك على سبيل التصويب، فيفيد قبول الحق ممن أتى به كائنا من كان. الخامسة: أن مثل هذه القرينة يصح الحكم بها. السادسة: ألطافه تبارك وتعالى في البلوى. السابعة: أن ذكر الخصم مثل هذا عن صاحبه، لا يذم بل يحمد. {فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ} [سورة يوسف آية: 28] . فيه مسائل: الأولى: كون زوجها قبل الحق وصار مع يوسف عليها. الثانية: قلة الغيرة على أهله. الثالثة: أن قوله هذه القضية الجزئية، خارجة عن قضايا كلية. الرابعة: عظمة كيد النساء، وذكره تعالى ذلك غير منكر له، مع قول الجزء: 13 ¦ الصفحة: 244 النبي صلى الله عليه وسلم:" إنكن لأنتن صواحب يوسف ". الخامسة: أنه لم يحكم عليها إلا بعد ما رأى القد. السادسة: أمره ليوسف بكتمان السر، مع ما أنزله الله في ذلك من التغليظ إلا بأربعة شهداء. السابعة: أمره لها بالاستغفار من الذنب، مع عدم الإسلام. الثامنة: حكمه عليها أنها صارت من هؤلاء المذمومين عندهم. {وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبّاً إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [سورة يوسف آية: 30] : قوله: {فَتَاهَا} أي: عبدها، وقوله: {شَغَفَهَا} الشغاف داخل القلب، أي: دخل حبه في داخل قلبها. فيه مسائل: الأولى: أن هذا قبيح في عرفهن، ولو لم يكن مسلمات. الثانية: حب المرأة حبا عظيما من هو دون مرتبتها مما يعينه. الثالثة: أنها لم تكتم بل سعت في طلب الفاحشة بالمراودة. الرابعة: أن هذا من مثلها ضلال مبين عندهن. {فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَراً إِنْ هَذَا إِلاّ مَلَكٌ كَرِيمٌ} [سورة يوسف آية: 31] . فيه مسائل: الأولى: بيان كمال عقلها الذي ينقص عنه أكثر عقول الرجال. الثانية: ما أعطي يوسف عليه السلام، من جمال الصورة التي تبهر الناظر. الثالثة: غيبة عقولهن الجزء: 13 ¦ الصفحة: 245 وعدم إحساسهن بقطع أيديهن، وهذه من أعجب ما سمع. الرابعة: معرفتهن بالملائكة. الخامسة: جلالة الملائكة عندهن، وأنهم أكمل من البشر. السادسة: معنى {حَاشَ لِلَّهِ} في هذا المقام. السابعة: وصفهن الملك بالكرامة. {قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلِيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ} [سورة يوسف آية: 32] . فيه مسائل: الأولى: إظهار عذرها لما أصابهن ما ذكر. الثانية: إقرارها أنها ستعود. الثالثة: كما أخبرتهن بجماله الظاهر بالحسن، أخبرتهن بجماله الباطن بالعفة. الرابعة: إخبارها أنها لا صبر لها عنه، فإن لم يفعل سعت في سجنه ومهونته. الخامسة: معنى {استعصم} امتنع وأبى. {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [سورة يوسف آية: 33] . فيه مسائل: الأولى: فضيلة يوسف عليه السلام، كيف اختار السجن على ما ذكر، مع قوة الدواعي وصرف الموانع، ولا يعرف لأحد نظير هذا. الثانية: التصريح بأن النسوة دعونه من غير امرأة العزيز. الثالثة: معرفته عليه السلام بنفسه وبربه; وأن القوة التي فيه لا تنفع إلا أن أمده الله بمدد منه. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 246 الرابعة: أن هذا الكلام دعاء ولو كان بهذه الصيغة. الخامسة: أن الله سبحانه ذكر أنه استجاب دعاءه، فدعاؤه عليه السلام سبب لصرف ذلك عنه. السادسة: ختمه سبحانه ما ذكر بوصف نفسه بأنه السميع العليم. السابعة: استفتاحه الدعاء بربه، وقوله تعالى: {فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ} . الثامنة: إثبات المكر أولا والكيد بعده لهن. {ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ} [سورة يوسف آية: 35] : الآية قيل: سبب ذلك أن الحديث شاع في الناس، فأرادوا سجنه إظهارا للناس أنه المذنب {إِلَى حِينٍ} قيل: إلى أن تسكن القضية. فيه مسائل: الأولى: أنهم تمالؤوا على ذلك، ليس رأيا لزوجها خاصة. الثانية: أن تلك الحيلة لم تنفع، بل أظهر الله ما يكرهونه على الرغم منهم. الثالثة: ابتلاء الله أحب الخلق إليه وهم الأنبياء، بالسجن. الرابعة: أن السبب الذي أظهروا أكبر بلية من السجن، عند أهل المروءات. الخامسة: أن رؤية الآيات، والقطع على المسألة، لا يستلزم اتباع الحق وترك الباطل. {وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [سورة يوسف آية: 36] . فيه مسائل، ونذكر القصة قبل ذلك. قيل: إن الملك بلغه أن الخباز يريد أن يسمه، وأن الجزء: 13 ¦ الصفحة: 247 صاحب شرابه مالأه على ذلك، فحبسهما جميعا، وذلك قوله: {دَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ} [سورة يوسف آية: 36] ، فقال الساقي: {إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً} [سورة يوسف آية: 36] أي: أعصر عنبا خمرا، وقال صاحب الطعام: {إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ} [سورة يوسف آية: 36] بتفسيره {إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} تأتي الأفعال الجميلة; وقيل: ممن يحسن تعبير الرؤيا. فيه مسائل: الأولى عبارة الرؤيا علم صحيح، ذكره الله في القرآن; ولأجل ذلك قيل: لا يعبر الرؤيا إلا من هو من أهل العلم بتأويلها، لأنها من أقسام الوحي. الثانية: تعبير أكل الطير من الخبز الذي فوق رأس الرجل بما ذكر. الثالثة: تعبير عصير الخمر بسلامة الذي رآه ورجوعه إلى مرتبته. الرابعة: فيه دلالة على قوله صلى الله عليه وسلم: " إذا رأى أحدكم ما يكره فلا يذكرها "، وقوله: "الرؤيا على رجل طائر ما لم تعبر، فإذا عبرت وقعت". الخامسة: أن التأويل في كلام الله ولغة العرب، غير التأويل في عرف المتأخرين، ومعناه ما يؤول الأمر إليه. السادسة: أنه لا ينبغي للإنسان أن يسأل عن مسائل العلم، إلا من رآه يحسن ذلك. {َقالَ لا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُون َوَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ يَا الجزء: 13 ¦ الصفحة: 248 صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاّ أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاّّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاّ تَعْبُدُوا إِلاّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [سورة يوسف آية: 37-40] . يقول عليه السلام: إني عليم بتعبير الرؤيا هذه وغيرها، فـ {لا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ} [سورة يوسف آية: 37] قبل إتيانه، فكيف بغير ذلك؟ ففيه مسائل: الأولى: ذكر العالم أنه من أهل العلم عند الحاجة، ولا يكون من تزكية النفس. الثانية; إضافة هذه النعمة العظيمة إلى معطيها سبحانه وتعالى، لا إلى فهم الإنسان واجتهاده. الثالثة: ذكر سبب إكرام الله له بهذا الفضل، وهو الترك والفعل: فترك الشرك الذي هو مسلك الجاهلين، واتبع التوحيد الذي هو سبيل أهل العلم، من الأنبياء وأتباعهم. الرابعة: ذكره أنه من هؤلاء الأكرمين، فانتسب إلى البيت الذي هو أشرف بيوت أهل الأرض؛ وهذا جائز على غير سبيل الافتخار، خصوصا عند الحاجة. الخامسة: أنه صرح لهم بأنهم إبراهيم وإسحاق ويعقوب. السادسة: أن الجد يسمى أبا، كما ذكر ابن عباس، واحتج بالآية على زيد بن ثابت. السابعة: قوله: {مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} الجزء: 13 ¦ الصفحة: 249 [سورة يوسف آية: 38] : قيل معناه: أن الله عصمنا؛ وهذه الفائدة من أكبر الفوائد وأنفعها لمن عقلها، والجهل بها أضر الأشياء وأخطرها. الثامنة: قوله: {مِنْ شَيْءٍ} عام كل ما سوى الله؛ وهذه المسألة هي التي غلط فيها أذكياء العالم وعقلاء بني آدم، كما قال تعالى: {كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} [سورة الشورى آية: 13] . التاسعة: ذكر سبب معرفتهم بالمسألة، وعلمهم بها، وثباتهم عليها; وهو مجرد فضل الله فقط عليهم. العاشرة: أن فضله سبحانه ليس مخصوصا بنا، بل عام للناس كلهم، لكن منهم من قبله ومنهم من رده، وذلك أنه أعطى الفطر ثم العقول، ثم بعث الرسل وأنزل الكتب. الحادية عشر: إزالة الشبهة عن المسألة التي هي أكبر الشبه; وذلك أن الله إذا تفضل بهذا كله، خصوصا البيان، فما بال الأكثر لم يفهم ولم يتبع؟ فما أكثر الجاهلين بهذا! وما أكثر الشاكين فيه! فقد ذكر تعالى أن السبب: أن جمهور النار لم يشكر؛ فأما من عرف النعمة فلم يلتفت إليها فلا إشكال فيه، وأما من لم يعرف فذلك لإعراضه، ومن أعرض فلم يطلب معرفة دينه فلم يشكر. الثانية عشر: دعوته إياهما عليه السلام إلى التوحيد في تلك الحال، فلم تشغله عن النصيحة والدعوة إلى الله، فدعاهما أولا بالعقل، ثم بالنقل، وهي: الثالثة عشر، الرابعة عشر: قوله: {أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 250 الْقَهَّارُ} [سورة يوسف آية: 39] : فهذه حجة عقلية، شرحها في قوله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً} [سورة الزمر آية: 29] الآية. الخامسة عشر: أن الذي في الجانب الآخر، هو الذي جبلت القلوب، وأقرت الفطر أنه ليس له كفو. السادسة عشر: أنه هو القهار، مع كونه واحدا، وما سواه لا يحصيهم إلا هو، فهذه قوته; وهذا عجزهم فكيف يعدل به واحد منهم أو عشرة أو مائة؟ ! . السابعة عشر: بيان بطلان ما عبدوا من دونه، بأنها أسماء لا حقيقة لها. الثامنة عشر: التنبيه على بطلانها بكونها بدعة ابتدعها من قبلكم فتبعتموهم. التاسعة عشر: بيان الواجب على العبد في الأديان، السؤال عما أمر الله به ونهى عنه، وهو السلطان المنزل من السماء؛ لا يعبد بالظن وما تهوى الأنفس. العشرون: القاعدة الكلية التي تفرع عنها تلك الجزئية، وهي: أن أحكام الدنيا إلى الله، لا إلى آراء الرجال، كما قال تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [سورة الشورى آية: 10] . الحادية والعشرون: إذا ثبت أن الحكم له وحده، دون الظن وما تهوى الأنفس، فإنه سبحانه حكم بأن العبادة كلها محصورة عليه، ليس لأحد من أهل السماء وأهل الأرض منها شيء. الثانية والعشرون: أن هذه المسألة هي الدين القيم، وكل ما خالفها أو ليس منها فليس بقيم، بل أعوج; فعلامة الجزء: 13 ¦ الصفحة: 251 الحق: أن العقول السليمة تعرف اعوجاجه بالفطرة; ومع هذا أنزل الله السلطان من السماء، بتحقيق هذا والإلزام به، وتبطيل ذلك، وتغليظ الوعيد عليه. الثالثة والعشرون: المسألة الكبيرة العظيمة، التي لو تجعلها نصب عينيك ليلا ونهارا، لم يكن كثيرا، وأيضا تبين لك كثيرا من المسائل التي أشكلت على الناس، وهي: أن الله بين لنا بيانا واضحا، أن الأكثر والجمهور الذين يضيقون الديار، ويغلون الأسعار، من أهل الكتاب والأميين، لا يعلمون هذه المسألة، مع إيضاحها بالعقل والنقل والفطرة، والآيات النفسية والأفقية. الرابعة والعشرون: أنه ينبغي للعالم إذا سأله العامي عما لا يحتاج إليه، أو سأله عما غيره أهم منه، أن يفتح له بابا إلى المهم. الخامسة والعشرون: أنك لا تحقر عن التعليم من تظنه أبعد الناس عنه، ولا تستبعد فضل الله، فإن الرجلين من خدام الملوك الكفرة، بخلاف من يقول: ليس هذا بأهل للعلم; تعليمه إضاعة للعلم. وقال رحمه الله، على قوله حكاية عن يوسف: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ} [سورة يوسف آية: 39] الآية، دعاهم يوسف عليه السلام إلى التوحيد بأنواع من الأدلة. أحدها: أنه ذكر أن هذا العلم الذي تميز به عليهما وعلى غيرهما أنه من تعليم ربه إياه، فالذي يعطي ويمنع، هو الذي يستحق العبادة. الثاني: أنه حكيم يضع العطاء مواضعه، الجزء: 13 ¦ الصفحة: 252 فشرفني بسبب ترك الشرك وفعل التوحيد. الثالث: أن ذلك الفعل والترك، هو ملة الأنبياء. الرابع: أن الشرك لم يرخص فيه لأحد من الأنبياء، كما قد يرخص في غيره. الخامس: أنه منفي عما سوى الله، فليس يصح منه شيء لغيره، ولو علت درجته. السادس: أن الهداية إلى ذلك مجرد منة الله على العبد، وهو أفضل النعم. السابع: أن الله إذا يسر لك المعلم لذلك، فهو من فضله عليك. الثامن: أن الإسلام واتباع ملة الأنبياء، هو العلم بذلك والعمل به، لا مجرد العلم. التاسع: أنه ذكر لهم ما يحرضهم على القبول، وهو: أن الداعي من أهل ذلك البيت. العاشر: أن مع هذا البيان الواضح، أكثر الناس لا يشكر. ثم قرره بالأدلة العقلية، وذلك من وجوه: الأول: أن الله خير من المخلوق. الثاني: أنه واحد، وأولئك أرباب متفرقون. الثالث: أنه قهار وهم عاجزون. الرابع: العجب العجاب إعراضكم عنه، وإقبالكم على أسماء لا حقيقة لها. الخامس: أن تلك الأسماء، أنتم ابتدعتموها. السادس: نفي الأدلة عنها، وهي: إنزال الله الحجة بذلك. السابع: تقرير القاعدة الكلية، أن أمر التشريع إلى الله، لا إلى غيره. الثامن: إثبات أن الذي له الحكم، حكم بهذا وألزم به، واختص به عن جميع ما سواه. التاسع: أن هذا هو الدين الصحيح فقط. العاشر: أنه مع الجزء: 13 ¦ الصفحة: 253 وضوحه بالنقل والعقل وغير ذلك، لا يعلمه إلا القليل. وأما الآية التي بعدها، ففيها مسائل: الأولى: التنبيه على الحكمة فيما تقدم. الثانية: أن الإسلام بعض الإيمان. الثالثة: أن هذه الدعوة فيها من الحسن والوضوح، أمر لا يتولى عنه إلا المشاق. الرابعة: الوعيد لمن فعل. الخامسة: أن ملاطفة الخصم، والدخول معه فيما لعلك تكرهه، قد يكون سببا لهدايته. السادسة: أن ذلك قد يكون سببا لنصرك عليه إن لم يهتد. السابعة: أنه سبب لكفاية الله إياك أمره. الثامنة: أن المثل هو الشيء بعينه. التاسعة: ختم ما تقدم بالصفات. وأما التي بعدها، ففيها مسائل: الأولى: إضافة الصبغة إلى الله. الثانية: أن صبغتة لا أحسن منها. الثالثة: أن ذلك لا يستلزم التشبيه. الرابعة: ما فيه من البرهان الواضح. الخامسة: ما فيه من إزالة الشبه الفواضح. السادسة: أن هذا من القول الذي أمرنا به. السابعة: ذكر العبادة بعد ذكر الإسلام. الثامنة: إخلاصها. وأما التي بعدها، ففيها مسائل: الأولى: الأمر بقول ماذا لهم. الثانية: أن الكفار يدعون التقرب إلى الله بما هو أقبح شيء. الثالثة: أنهم يعتقدون في أحسن الأشياء أنها قبيحة، لا يتقرب بها إليه. الرابعة: الرجوع إلى العقل الصريح، الذي لا يجادل فيه إلا مكابر; وهو أنا إذا تساوينا في هذه الحجة في الأوليين، واختلفنا في الثالثة، فكيف الجزء: 13 ¦ الصفحة: 254 يشكل عليكم؟ أو كيف تجسرون على المكابرة؟ . الخامسة: الإتيان باستفهام الإنكار. وقال أيضا: قال شيخ الإسلام، قوله: {إِنْ هِيَ إِلاّ أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ} [سورة النجم آية: 23] إلخ: أخبر أنهم ابتدعوا أسماء لا حقيقة لها، فيعبدون أسماء لا مسميات; لأنه ليس في المسميات من الألوهية ولا العزة والتقدير شيء، ولم ينزل الله بهذه الأسماء سلطانا. وقال رحمه الله تعالى: قوله تعالى: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا الآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ} [سورة يوسف آية: 41] : سبق ما في هذا من المسائل. لكن فيه ما لم يذكر، منها: أن المفتي يجوز له أو يستحب أن يفتى السائل بما لا يحتاج إليه. ومنها: أنه يجيب السائل بما يسوؤه إذا كانت الحال تقتضيه. ومنها: تأكيد الفتيا بما يسوء، بما ذكر من قضاء الله على ذلك. {وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ} [سورة يوسف آية: 42] يعني: قال يوسف للساقي الذي ظن نجاته; قيل: الظن هنا هو اليقين; وقوله: {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} أي: الملك. {فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ} أي: أنسى الشيطان يوسف ذكر الله; والبضع: ما بين الثلاث إلى التسع. فيه مسائل: الأولى: أن الرب كما يطلق على المالك، الجزء: 13 ¦ الصفحة: 255 يطلق على المخدوم. الثانية: أن مثل هذا مما يعاقب به الأنبياء، مع كونه جائزا لغيرهم. الثالثة: أن المقرب قد يؤاخذ بما لا يؤاخذ به من دونه. الرابعة: أن الشيطان قد يتوصل إلى الأنبياء بمثل هذا. الخامسة: أن ترك هذا القول والاستغناء بالله، من التوكل. السادسة: أن من المقامات ما يحسن من شخص، ويلام في تركه ويذم من شخص آخر، كما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أراد الاقتداء به في الوصال، وقال: " إني لست كهيئتكم ". السابعة: أن هذا من أبين أدلة التوحيد لمن عرف أسباب الشرك بالمقربين، وهو أبلغ من قوله صلى الله عليه وسلم: " يا فاطمة بنت محمد، لا أغني عنك من الله شيئا " وتمامها بمعرفة الثامنة: وهي أن الله عاقبه باللبث في السجن هذه المدة الطويلة، مع أن لبث الإنسان فيه سنة واحدة من العذاب الأليم، فكيف بشاب ابن نعمة؟. {وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيا تَعْبُرُونَ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلامِ بِعَالِمِينَ وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي الجزء: 13 ¦ الصفحة: 256 أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلاّ قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاّ قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ} [سورة يوسف آية: 43-49] . فيه مسائل: الأولى: تسمية الله ذلك الرجل بالملك. الثانية: أن الذي سأله عنه هو البقر، والسنابل. الثالثة: أنه استفتى الملأ وهم الأشراف، ولكن بشرط إن كان عندهم علم. الرابعة: جوابهم بقولهم: {أضغاث أحلام} [سورة يوسف آية: 44] يدل على: أن مما يراه النائم فيه رؤيا حق، وفيه أضغاث أحلام باطلة; وقد صح بذلك الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم. الخامسة: إقرارهم بعدم العلم بالتعبير، ولم يأنفوا مع أنهم الملأ. السادسة: كلام الساقي وحذقه: كونه قطع أنها رؤيا، وأن عند يوسف تعبيرها. السابعة: قوله: {وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ} [سورة يوسف آية: 45] أي: دهر; فيه: أن الدهر يسمى أمة. الثامنة: أنه لم يذهب مع تحققه ما طلب الملك، إلا بعد الاستئذان. التاسعة: قوله: {يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ} [سورة يوسف آية: 46] يدل على أنه يعرف معنى الصديقية; وأنه عرف اتصاف يوسف بذلك. العاشرة: أنه ذكر ليوسف العلة، وهي: علم الناس بما أشكل عليهم. الحادية عشر: أنه عبر البقر السمان بالسنين المخصبة، والبقر العجاف بالسنين المجدبة، وأكلها السمان كون غلة الجزء: 13 ¦ الصفحة: 257 السنين المخصبة يأكلها الناس في السنين المجدبة، وكذلك السنابل الخضر واليابسات، قيل: إنه رأى سبع سنابل خضر قد انعقد حبها، وسبعا أخر يابسات قد استحصدت، فالتوت اليابسات على الخضر حتى غلبن عليهن. الثانية عشر: أنه أجاب السائل بأكثر مما سأله عنه، خلافا لمن جعل هذا من عدم الأدب. الثالثة عشر: كرمه وطيب أخلاقه عليه السلام، كما قال بعض السلف: لو كنت المسؤول، ما أجبتهم إلا بكذا وكذا. الرابعة عشر: معرفته عليه السلام بأمور الدنيا، وأن الحب إذا كان في سنبله لم تأته الآفة ولو لبث سنين. الخامسة عشر: أنه أمرهم بتدبير المعيشة لأجل السنين الجدب، ولا يأكلون إلا قليلا. السادسة عشر: أنه فهم من الرؤيا أن الخصب يأتي بعد سبع سنين. السابعة عشر: ادخار الطعام للحاجة، وأنه لا يصير من الاحتكار المذموم؛ وكان صلى الله عليه وسلم يدخر لأهله قوت سنة. الثامنة عشر: النصيحة ولو لغير المسلمين، كما قال صلى الله عليه وسلم: "في كل كبد رطبة أجر"، وأما المسلم فنصحه من الفرائض. التاسعة عشر: أن الرؤيا الصحيحة، قد تكون من كافر، كما استدل بها البخاري في صحيحه. العشرون: الفرق بين الحلم والرؤيا كما قال: " الرؤيا من الله، والحلم من الشيطان ". الجزء: 13 ¦ الصفحة: 258 الحادية والعشرون: التعبير عن الماضي بالمضارع; والعجاف ضد السمان; والملأ كبار القوم ورؤوسهم، و {أَضْغَاثُ أَحْلامٍ} : أخلاط وأباطيل. {وَادَّكَرَ} تذكر شأن يوسف {دَأَبًا:} .متوالية {تُحْصِنُونَ (: تخزنون. {يَعْصِرُونَ} قيل: من العنب عصيرا، ومن الزيتون زيتا، ومن السمسم دهنا، للخصب الذي أتاهم. {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاّ مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} [سورة يوسف آية: 50-53] . فيه مسائل: الأولى: أمر الملك بالإتيان به، ليأخذ عنه مشافهة، وكذلك يفعل العقلاء والسفهاء، في الأمر الذي يهتمون به. الثانية: أن طلب العلم الذي يزحزح عن النار ويدخل الجنة، أحق بالحرص من جميع المهمات. الثالثة: هذا الأمر العظيم الذي لم يسمع بمثله، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: " لو لبثت في السجن ما لبث يوسف لأجبت الداعي ". الرابعة: قوله: {ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ} . الخامسة: قوله: {النِّسْوَةِ} قيل: لم يفرد امرأة العزيز، الجزء: 13 ¦ الصفحة: 259 أدبا وحفظا لحق الصحبة. السادسة: قوله في هذا الموطن: {رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ} [سورة يوسف آية: 50] . السابعة: قوله: {حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ} فيه رد لبعض الأقوال التي قيلت في الهم. الثامنة: قوله: {الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ} . التاسعة: {ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ} هذا علة لما جرى، سواء كان رد الرسول أو إقرارها; فإن كان الأول، فالضمير للعزيز زوج المرأة; وإن كان الثاني فالضمير ليوسف. العاشرة: رد هذه المسألة الجزئية إلى القاعدة الكلية، وهي: {وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ} أي: لا يرشد كيد من خان أمانته، قيل: يفتضح في العاقبة. الحادية عشر: قوله: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي} ما أجلها من مسألة، وما أصعب فهمها! سواء كان هذا من كلام امرأة العزيز، أو من كلام يوسف عليه السلام. الثانية عشر: رد هذه المسألة الجزئية إلى القاعدة الكلية، وهي: أن هذا حال النفس. الثالثة عشر: الاستثناء من ذلك، وهو من رحمه الله فأجاره من شر نفسه، كذلك ما أجلها من مسألة لمن فهمها! الرابعة عشر: رد هذه المسألة الجزئية إلى القاعدة الكلية، وهي: {إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} قوله: {فاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ} قيل معناه: اسأله أن يكشف عن الخبر حتى يعلم الحقيقة، ففيه المسألة. الخامسة عشر: وهي حرص المخلص لله على براءة الجزء: 13 ¦ الصفحة: 260 عرضه عند الناس، وأن ذلك لا يناقض الإخلاص، بل قد يكون واجبا، ولم يعتب عليه في هذا كما عتب عليه، في قوله: {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} قيل: إن {ما} في هذا الموضع بمعنى "عن" قوله: {مَا بَالُ} ما شأن النسوة {ما خطبكن} ما أمركن وقصتكن؟ قوله: {حَصْحَصَ الْحَقُّ} ظهر وتبين {الآنَ} أي هذا الوقت. {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ، قال اجعلني على خزائن الارض إني حفيظ عليم} [سورة يوسف آية: 54-55] . فيه مسائل: الأولى: {أستخلصه لنفسي} أي: أجعله خالصا لي دون غيري، كما يقال: الرفيق قبل الطريق; وكما قال: "لينظر أحدكم من يخالل". الثانية: وهي أعجب، قوله: {فلما كلمه} وبيانه: لما دخل بعض العلماء على بعض الملوك، وكان دميما فضحك الملك من دمامته، فذكر له هذه الآية، واستحسن الملك جوابه، ومعنى هذا: أن الملك لم يتمكن من قلبه، لما رأى جمال صورته; بل لأجل علمه الذي تبين له لما كلمه. الثالثة: قوله: {إنك اليوم لدينا} أي: عندنا {مكين} أي: مكنتك من ملكي تصرف فيه {أمين} أي: عرفت صحة أمانتك، فأمنتك على ما تحت يدي؛ وهذا معنى قول أبي العباس: الولاية لها ركنان: القوة والأمانة، كما في الآية الجزء: 13 ¦ الصفحة: 261 الأخرى: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} . الرابعة: قوله: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ} هذا فيه طلب الولاية، كما قال عمر بن الخطاب لبعض الصحابة، لما عرض عليه ولاية فأبى، فقال: "طلبها من هو خير منك" يعني يوسف عليه السلام; ولا يخالف هذا ما ورد من النهي عن طلب الإمارة، لأن هذا في غير شدة الحاجة، كما أن خالدا لما أخذ الراية يوم مؤتة من غير إمرة، مدح على ذلك. الخامسة: قوله: {إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} فليس هذا مما نهي عنه من تزكية النفس; بل يذكر الإنسان ما فيه من الفضائل عند الحاجة، إذا لم يقصد التزكية، كما ورد عن جماعة من الصحابة. قوله: {خَزَائِنِ الْأَرْضِ} أي: أرض مصر; وقوله: {إِنِّي حَفِيظٌ} أي: أحفظ ما وليتني عليه {عَلِيمٌ} بأمره وحسابه واستخراجه. {وكذلك مكنا ليوسف في الارض يتبوأ منها حيث يشاء نصيب برحمتنا من نشاء ولا نضيع أجر المحسنين، ولأجر الآخرة خير للذين آمنوا وكانوا يتقون} [سورة يوسف آية: 56-57] . فيه مسائل: الأولى: قوله {وكذلك مكنا ليوسف في الارض} قيل معنى ذلك: كما أنعمنا عليه بنعم الدين، أنعمنا عليه بنعم الدنيا. الثانية: أن ذلك تمكينه في أرض مصر، الجزء: 13 ¦ الصفحة: 262 يحل وينزل منها ما أراد، بعد ذلك الحبس الضيق. الثالثة: تسمية الله سبحانه ذلك رحمة، في قوله: {نصيب برحمتنا من نشاء} وهذه من أشكل المسائل على أكثر الناس؛ بعضهم يظن أن هذا كله نقص، أو مذموم، وأن التجرد من المال مطلقا هو الصواب; وبعض يظن أن عطاء الدنيا يدل على رضى الله، وكلاهما على غير الصواب; وذلك: أن من أنعم الله عليه بولاية أو مال، فجعلها طريقا إلى طاعة الله فهو ممدوح، وهو أحد الرجلين الذين يغبطهم المؤمن; وإن كان غير هذا فلا. الرابعة: أن هذه الأمور وإن جلت وصارت أعلى المراتب، وأصعبها طريقا، فتحصيلها مردود إلى محض المشيئة، لا إلى الأسباب. الخامسة: رد هذه المسألة الجزئية، إلى القاعدة الكلية، وهي: {إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلا} . السادسة: أن من عدم إضاعته، أنه يعجل في الدنيا بعضه لمن أراد الله، كما قال تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ} . السابعة: أن الأجر الثاني لمن أحسن، خير من ملك يوسف وسليمان بن داود. الثامنة: قوله: {لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (: فالإيمان يدخل فيه الدين كله; وأيضا يدخل كله في التقوى; وأما إذا فرق بينهما كما هنا، فالإيمان الأمور الباطنة، والتقوى الجزء: 13 ¦ الصفحة: 263 الأمور الظاهرة; وإذا قلت: الإيمان فعل الواجبات، والتقوى ترك المحرمات، فقد أصبت. {وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ} [سورة يوسف آية: 58-61] . قيل: لما اطمأن يوسف في ملكه، ومضت السنون المخصبة ودخلت السنون المجدبة، وأصاب الشام من القحط ما أصاب غيرهم، فأرسل يعقوب بنيه إلى مصر، وأمسك بنيامين عنده. {فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ} قيل: كان بين دخولهم عليه وإلقائه في الجب أربعون سنة، فلذلك لم يعرفوه. فقال: أخبروني ما أمركم؟ فقالوا: نحن قوم من أرض كنعان، جئنا نمتار طعاما، قال: كم أنتم؟ قالوا عشرة، قال: أخبروني خبركم؟ قالوا: إنا إخوة بنو رجل صديق، وإنا كنا اثني عشر، فذهب أخ لنا معنا في البرية فهلك فيها، وكان أحب إلى أبينا منا. فقال: فإلى من يسكن أبوكم بعده؟ قالوا: أخ لنا أصغر منه، فذلك قوله: {وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ} يقال: جهزت القوم إذا هيأت لهم جهاز السفر; وحمل لكل رجل منهم بعيرا، وقال: {أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 264 الْمُنْزِلِينَ} المضيفين; قيل: إنه أحسن ضيافتهم، ثم أوعدهم على ترك الإتيان بالأخ، فقال: {فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ} . وقوله: {وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ} [سورة يوسف آية: 62] إلى قوله: {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} الرحل: كل ما يعد للرحيل، من وعاء المتاع، ومركب للبعير، وحلس وغير ذلك; قيل مراده: أنهم يعرفون كرمه، فيحملهم على العود; وقيل: خاف أن لا يكون عندهم ما يرجعون به. فيه مسائل: الأولى: كون القحط عم البلاد، لم يكن على مصر خاصة. الثانية: إنكارهم إياه، ومعرفته لهم. الثالثة: حيلته في التوصل إلى إتيان أخيه. الرابعة: كونه ما فعل معهم حثهم على الإتيان به. الخامسة: أن هذا ليس من تزكية النفس المذموم. السادسة: أن هذا ليس من المن والأذى المذموم. السابعة: أن قوله: {فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ} ليس من منع المضطر المذموم. الثامنة: ما صنع الله له من إذلالهم بين يديه، وذلك أنه وعدوه أنهم يراودون أباه، وأكدوا ذلك له بالعزم على الفعل. التاسعة: أمره الفتيان بجعل بضاعتهم في رحالهم، والحكمة في ذلك: أنهم إذا رجعوا إلى أهلهم، وفتحوا المتاع، ووجدوها ردت إليهم، رجعوا. {فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 265 فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاّ كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [سورة يوسف آية: 63-64] . فيه مسائل: الأولى: أنهم وفوا ليوسف بما وعدوه. الثانية: أنهم ذكروا لأبيهم ما يقتضي الإجابة، وهو منع الكيل. الثالثة: أن هذا مما يدل على أنهم لا غناء لهم عن التردد إلى الميرة. الرابعة: أنهم وعدوه حفظه، وأكدوه بإن واللام. الخامسة: جوابه عليه السلام لهم، فيدل على قوله: " لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين ". السادسة: أن من أساء فعله ساء الظن فيه، ولو لم يكن كذلك. السابعة: أنهم لما ذكروا له أنهم يحفظونه أكدوا، فأجابهم بقوله: {فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا} . الثامنة: أنه أجابهم أيضا بكون الله أرحم الراحمين. التاسعة: ذكرك للممنوع سبب منعك إياه. العاشرة: أنه فعلكم، كقوله: {قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} . {وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا} [سورة يوسف آية: 65] إلى قوله: {قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} [سورة يوسف آية: 66] . فيه مسائل: الأولى: استعطاف الممتنع بالخصال التي توجب إجابته. الثانية: أنهم لم يعلموا أنها ردت إليهم، حتى وصلوا إلى أهلهم وفتحوا المتاع. الثالثة: ذكرهم له الجزء: 13 ¦ الصفحة: 266 حاجة الضعفاء والذرية إلى الكيل. الرابعة: أنهم يزدادون حملا آخر على ما أتوا به. الخامسة: ذكرهم الثناء على يوسف، بأن الحمل عليه يسير لكرمه، مع شدة حاجتنا إليه وغلاء ثمنه. السادسة: أنه عليه السلام لما ذكروا له ذلك رجع عن رأيه الأول، ورأى إجابتهم. السابعة: أنه شرط عليهم هذا الشرط الثقيل. الثامنة: أنهم أعطوه إياه على ثقله. التاسعة: أنهم لما آتوه الموثق، وعظهم وأكده عليهم، بقوله: {قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيل} . العاشرة: أن هذا يدل على أنهم في جوع وضراء عظيمة، وهم أكرم أهل الأرض على الله، وابتلاهم بذلك لا لهوانهم عليه. وقوله: {مَا نَقُولُ} قيل: أي شيء نريد، وقد ردت بضاعتنا؟ {وَنَمِيرُ أَهْلَنَا} أي: نأت لهم بالطعام، يقال: مار أهله إذا أتاهم بطعام، قوله: {إِلاّ أَنْ يُحَاطَ} أي: يأتيكم أمر يهلككم. {وَقَالَ يَا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ} [سورة يوسف آية: 67] إلى قوله: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [سورة يوسف آية: 68] . فيه مسائل: الأولى: خوفه عليهم من العين. الثانية: أمره لهم بالسبب الذي يمنع، ونهيهم عما قد يكون سببا لوقوعها. الثالثة: أنه مع فعل السبب تبرأ من الالتفات إليه. الرابعة: أنه دلهم على عدم الالتفات إلى التهمة. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 267 الخامسة: أنه دلهم على التوكل على الله. السادسة: أنه أخبرهم أنه توكل عليه وحده لا شريك له، لا على علمه وفطنته; ولا على السبب الذي أمرهم به. السابعة: أنه أخبرهم أن توكل المتوكلين كلهم على الله، فمن توكل على غيره فليس منهم. الثامنة: خبره تعالى أنهم قبلوا وصية أبيهم وعملوا بها، فتفرقوا على الأبواب لما أرادوا دخول البلد. التاسعة: أن ذلك لا يغني عنهم شيئا من الله لو يريد بهم شيئا. العاشرة: الاستثناء، وهو: أن ذلك التعليم من الرجل الحكيم المصيب، وقبول المنصوح وعمله بالنصيحة التي هي سبب، لو أراد الله أن العين تصيبهم أصابتهم ولو تفرقوا على الأبواب، حضا للعباد على الاعتماد عليه لا على الأسباب. الحادية عشر: ثناؤه على يعقوب بأنه ذو علم لما علمناه، قيل معناه: عامل بما علمه; وهو يدل على أن العلم الذي لا يثمر العمل لا يسمى علما. الثانية عشر: ذكره أن {أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} . {وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ} [سورة يوسف آية: 69] الآية قيل: إنه قال لهم: يصير كل اثنين جميعا، فبقي أخاه وحده فآواه إليه، فقال له: {إني أناأخوك} [سورة يوسف آية: 69] قيل: إنه أخبره الخبر; وقيل: المراد أخوة المحبة. {فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ} الجزء: 13 ¦ الصفحة: 268 إلى قوله: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [سورة يوسف آية: 70-76] . فيه مسائل: الأولى: كونه عليه السلام احتال بهذه الحيلة; ولا حجة في هذا لأهل الحيل الربوية، لأن ذلك مما أذن الله فيه ليوسف عليه السلام; وإلا لو يفعل ذلك الآن رجل مع أبيه وإخوته حرم إجماعا. الثانية: قوله: {أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ} [سورة يوسف آية: 70] المنادي بصوت رفيع يسمى مؤذنا; قوله: {إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ} [سورة يوسف آية: 70] قيل: فيه جواز المعاريض، إن أراد بذلك أنهم سرقوه من أبيه، فإنه لم يقل سرقتم الصواع. الثالثة: قوله: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ} [سورة يوسف آية: 72] : فيه جواز بذل الأجرة لمن جاء بالسرقة. الرابعة: وهي قوله: {وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [سورة يوسف آية: 72] : استدل به على صحة الضمان ولزومه. الخامسة: قوله: {تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأَرْضِ} [سورة يوسف آية: 73] فيه جواز الحلف على مثل هذا، مع أن العلم في القلب، لكن بعض ما في القلب يعرف بالقرائن، أي: ما جئنا بهذا; وما هذا بفعلنا; وما يصلح منا، ولسنا أهلا له. السادسة: أن السرقة ونحوها من الفساد في الأرض; قوله: {فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ} [سورة يوسف آية: 74] قيل في شرعهم: استعباد السارق هو لهم كالقطع في شرعنا، فلهذا {قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ} [سورة يوسف آية: 75] . السابعة: بداءته بأوعيتهم إبعادا عن تهمته، وذلك من كيد الله له. الثامنة: قوله: {مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 269 الْمَلِكِ} [سورة يوسف آية: 76] . أي: حكمه على السارق غير ذلك، ولكن الله دبر ما جرى نصرة ليوسف؛ لأنهم ظلموه، فكاد له كما كادوا أباهم. التاسعة: قوله: {إِلاّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [سورة يوسف آية: 76] أي: ما جرى على ألسنتهم من ذلك القول الذي حكموا به على أنفسهم، فأخذه بفتياهم، وذلك من مشيئة الله. العاشرة: كونه سبحانه فاوت بين عباده تفاوتا عظيما، حتى الأنبياء، ورفع بعضهم فوق بعضهم درجات. الحادية عشر: التنبيه على أن ذلك لا يكون إلا بمشيئة الله. الثانية عشر: أن رفع الدرجات الذي ينافس فيه، هو رفعها بالعلم. الثالثة عشر: أنه ذكر أن كل عالم فوقه أعلم منه، حتى ينتهي العلم إلى الله سبحانه. {قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ} [سورة يوسف آية: 77] إلى قوله: {تَصِفُونَ} : فيه مسائل: الأولى: إبطال قياس التشبيه. الثانية: أن تعيير غيرك بذنب قد فعلت أكبر منه غير صواب، كما في قوله: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ} [سورة البقرة آية: 217] الآية. الثالثة: كون المظلوم المرمى بشيء خفي، يتعزى بعلم الله تعالى. {قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ} [سورة يوسف آية: 78] إلى قوله: {إِنَّا إِذاً لَظَالِمُونَ} [سورة يوسف آية: 79] . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 270 فيه مسائل: الأولى: بيان مبالغتهم في حفظ أخيهم. الثانية: جواب يوسف يدل على أن السرقة تثبت بوجود المسروق عند الرجل. الثالثة: أن من وجب عليه الحد، لو بذل غيره نفسه عنه، لم يحل. الرابعة: أن الرجل يثبت أنه ظالم بفعلة واحدة. الخامسة: أنهم عرفوا فيه من العدل والإحسان، ما فهموا أنه من المحسنين. السادسة: استشفاعك على غيرك بما فيه من الخصال الحميدة. السابعة: المعاريض، فإنه عليه السلام لم يقل إنه سارق. الثامنة: إبطال استدلال أهل الحيل المحرمة، فإن هذا يدل على أنه إنما أخذه برضاه، أو بوحي خاص. التاسعة: أن المظلوم يجوز له أن يعامل من ظلمه بما لا يحل أن يعامل به غيره. العاشرة: أن هذا يدل على أن أهل مصر لم يعرفوا يعقوب معرفة تامة. {فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيّاً قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} [سورة يوسف آية: 83] . فيه مسائل: الأولى: أنهم بالغوا حتى استيأسوا منه. الثانية: ثقل الأمر عليهم، كما فعل كبيرهم. الثالثة: أنه ذكر أنه على هذه الحال، إلى أن يأذن له أبوه، أو يحكم الله له; فإنه سبحانه يحكم لك أو عليك. الرابعة: رد هذه المسألة الجزئية، إلى القاعدة الكلية، وهي: معرفة أن الله خير الحاكمين. الخامسة: الشهادة على الجزء: 13 ¦ الصفحة: 271 الرجل بالسرقة، إذا وجد المسروق عنده. السادسة: أن هذه شهادة بعلم، مع كونهم ما علموا إلا القرينة. السابعة: الاعتذار بعدم علم الغيب. الثامنة: الرجوع إلى الجيران، وأهل الخبرة في الأمور الخفية. التاسعة: تسميته المدينة قرية. العاشرة: اتهام المتهمين، كما ذكر النعمان بن بشير. الحادية عشر: التعزي بالعزم على الصبر الجميل، عند توالي المصائب. الثانية عشر: الرجوع إلى الله في تفريج الكرب. الثالثة عشر: رد هذه المسألة الجزئية، إلى القاعدة الكلية، وهي قوله: {إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} . {وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ} [سورة يوسف آية: 84] إلى قوله: {وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [سورة يوسف آية: 86] : فيه مسائل: الأولى: التولي عن مثل هؤلاء، كما قال: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ} [سورة الصافات آية: 174] . الثانية: قوله: {يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ} [سورة يوسف آية: 84] أن الكلام إذا لم يكن فيه جزع، لم يناف الشكوى. الثالثة: ذكر الله تعالى كبر مصيبته: أنه ابيضت عيناه من البكاء، وابتلي بسنين كثيرة. الرابعة: العبرة فيما ذكر، كما قال الحسن: لقد ابتلي بهذا تلك المدة الطويلة; وإنه لأكرم أهل الأرض على الله. الخامسة: تسمية البكاء حزنا، لأنه نشأ عنه. السادسة: وصفه بأنه كظيم، أي: أنه كاظم لحرارة المصيبة لا يشكو. السابعة: معاتبتهم له على الحزن، مع مصيبة طال العهد بها. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 272 الثامنة: جوابه لهم عليه السلام، وهو يدل على أن الشكوى إلى الله لا تنافي الصبر، بل هي ممدوحة، كما ذكر عن أيوب. التاسعة: إخبار الرجل بنيتة الصالحة، إذا احتاج أو انتفع السامع، ولا محذور في ذلك. العاشرة: قوله: {وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [سورة يوسف آية: 86] كيف صار هذا جوابا لهم. الحادية عشر: قيل معناه: أعلم من صفات الله ورحمته ولطفه ما لا تعلمون; وقيل: إن يوسف لم يمت. الثانية عشر: أن هذا في مثل هذا المقام ليس من الفخر، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: " أنا سيد ولد آدم ولا فخر" 1. {يَابَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ} [سورة يوسف آية: 87] الآية. فيه مسائل: الأولى: أمره لهم بالتحسس عن يوسف، مع استبعادهم ذلك; والتحسس: البحث والطلب. الثانية: نهيهم عن اليأس من روح الله. الثالثة: وهي العظيمة، أنه قد يقع اليأس من روح الله في مثل هذه القضية. الرابعة: إخباره بقدر هذا الذنب، بأنه لا يصدر من مسلم، بل لا يكون إلا من كافر. وروح الله: رحمة الله. {فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ} [سورة يوسف آية: 88] إلى قوله: {وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ} سورة يوسف آية: 93] . فيه مسائل: الأولى: قولهم {مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ} أن الإخبار بالحال من غير شكوى لا يذم. الثانية: ما ابتلى الله به أهل هذا البيت من الجوع المضر، وهم أكرم أهل الأرض   1 ابن ماجه: الزهد (4308) . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 273 على الله. الثالثة: ذكرهم قدر السلعة التي معهم أنها ناقصة رديئة، وليس هذا من ازدراء النعمة المذموم. الرابعة: سؤالهم عند الحاجة، فيدل على أن مثل هذه الحال لا يذم. الخامسة: سؤالهم الصدقة، فيدل على أنها غير محرمة عليهم. السادسة: رد هذه المسألة الجزئية إلى القاعدة الكلية، وهي: السابعة: {إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ} . الثامنة: قوله: {هَلْ عَلِمْتُمْ} الآية، يدل على أن مثل هذا التقريع ليس بمذموم. التاسعة: أنه عليه السلام ذكر في التقريع ما يهونه عليهم. العاشرة: استثباتهم أنه يوسف مع رؤيتهم له، وذلك لاستبعادهم ذلك. الحادية عشر: قوله: {أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي (: يدل على أنهم فعلوا مع أخيه ما لا يحسن. الثانية عشر: وهي قوله: {قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا (: إسناد النعمة إلى مسديها في مثل هذا الموطن. الثالثة عشر: رد هذه المسألة الجزئية إلى القاعدة الكلية، وهي قوله: {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} . الرابعة عشر: الجمع بين التقوى والإيمان، ومعرفة الإيمان، ومعرفة الفرق بينهما. الخامسة عشر: أن من جمع بينهما فهو من المحسنين. السادسة عشر: قوله: {تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا} الآية; أقروا باثنتين: بفعل الله مع يوسف، وفعلهم من أنفسهم. السابعة عشر: انتصار الله له هذا الانتصار العظيم. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 274 الثامنة عشر: إذلاله إياهم هذا الإذلال العجيب. التاسعة عشر: قوله: {لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ} أي: لا تعيير عليكم، يعني: إني عفوت، ومن عفوي أني لا أذكر لكم ذنبكم بعد اليوم. العشرون: استغفاره لهم، لما غفر لهم حقه، سأل الله لهم المغفرة. الحادية والعشرون: رد هذه المسألة الجزئية إلى القاعدة الكلية، وهي: الثانية والعشرون. الثالثة والعشرون: تصديق القلب بأن الله أرحم الراحمين. الرابعة والعشرون: أن الذي خافوا منه، واشتد عليهم حتى فعلوا بأخيهم وأبيهم ما فعلوا، وظنوا أنه عليهم مضرة كبيرة، وهو كون يوسف أرفع منهم، صار أكبر المصالح لهم في دنياهم وفي دينهم، يبينه: الخامسة والعشرون: وهي قوله: {اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا} الآية، ذكر أنه قميص هبط به جبريل على إبراهيم حين ألقي في النار، فلما ولد إسحاق جعله عليه، فجعله إسحاق على يعقوب، وجعله يعقوب على يوسف، ونسيه إخوته لما ألقوه في الجب، فأمرهم أن يذهبوا به فيلقونه على وجه يعقوب، ليرتد إليه بصره. السادسة والعشرون: ما جعله الله من الأسباب الباطنة في بعض مخلوقاته. السابعة والعشرون: أن التبرك بذلك، وإمساكه، والتداوي به، ليس من الشرك، كما كانوا يفعلون، ويتبركون بآثار رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل ذلك حسن مطلوب. الثامنة والعشرون: أنه أمرهم بالإتيان بأهلهم الجزء: 13 ¦ الصفحة: 275 كلهم، والانتقال عنده، فأعطاهم الله هذا الخير، والفرج من الشدة، بسبب ارتفاعه الذي كرهوه كراهية شديدة. وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ} [سورة يوسف آية: 94] إلى قوله: {ِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [سورة يوسف آية: 98] . فيه مسائل: الأولى: كونه أدرك الريح من مكان بعيد. الثانية: أنه عرف أنه ريح يوسف، قيل: إنه عرف ريح القميص، وأنه ليس إلا مع يوسف. الثالثة: قوله: {لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ} والفند: ذهاب العقل; ففيه الإخبار بما تعلم أن المخبر يكذبك، إذا كان في ذلك مصلحة. الرابعة: قولهم: {تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ} [سورة يوسف آية: 95] لا ينبغي لمن حدث بغريب أن يغضب، إذا كذب أو شتم. الخامسة: الآية في رد بصره عليه بسبب إلقاء القميص. السادسة: تقريره لهم ما أنكروا من تفاصيل القاعدة الكلية. السابعة: طلبهم الاستغفار من المظلوم. الثامنة: عفو المظلوم، ودعاؤه لمن طلب ذلك منه. التاسعة: الاعتراف منهم بالذنب. العاشرة: رد المسألة الجزئية إلى القاعدة الكلية. {فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ} [سورة يوسف آية: 99] إلى قوله: {وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [سورة يوسف آية: 101] فيه مسائل: الأولى: أنهم لما دخلوا على يوسف آوى إليه أبويه كما آوى إليه أخاه، يدل على أنه لم يفعل ذلك الجزء: 13 ¦ الصفحة: 276 بإخوته. الثانية: قوله لهم: {أدخلوا مصر} [سورة يوسف آية: 99] الآية. الثالثة: تعليقه ذلك بالمشيئة. الرابعة: رفع أبويه على العرش. الخامسة: سجودهم كلهم له. السادسة: قوله لأبيه: {هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيايَ مِنْ قَبْلُ} [سورة يوسف آية: 100] . السابعة: شكر نعمة الله عليه، حيث جعلها حقا. الثامنة: شكر نعمة الله في إخراجه من السجن. التاسعة: شكر نعمة الله في إتيانه بأهله من البدو. العاشرة: شكر نعمة الله أنه بعدما نزغ الشيطان بينهم، صير الله العاقبة إلى خير، ولم يضرهم نزغ الشيطان. الحادية عشر: رد هذه المسألة الجزئية إلى القاعدة الكلية، وهي: أن ربه تبارك وتعالى لطيف لما يشاء، فلذلك أجرى ما أجرى. الثانية عشر، والثالثة عشر: رد ذلك إلى القاعدة الكلية أيضا، وهي: {إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [سورة يوسف آية: 100] وهي: الرابعة عشر، الخامسة عشر: كرمه عليه السلام، في قوله: {أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ} [سورة يوسف آية: 100] ، ولم يقل من الجب. السادسة عشر: كرمه في قوله: {نَزَغَ} ولم يقل: بعدما ظلموني. السابعة عشر: أن إخراج الله الآدمي من البدو نعمة تشكر; ففيه فضل الحاضرة على البادية. الثامنة عشر: دعاؤه بهذا الدعاء، وهو في غاية نعيم الدنيا. التاسعة عشر: شكر نعمة الملك. العشرون: شكر نعمة التعبير. الحادية والعشرون: ثناؤه على ربه بأنه فاطر الجزء: 13 ¦ الصفحة: 277 السماوات والأرض. الثانية والعشرون: إقراره لله بكونه وليه في الدنيا والآخرة. الثالثة والعشرون: توسله بذلك كله إلى هذه الحاجة، وهي: وفاته على الإسلام وإلحاقه بالصالحين. قوله: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ} [سورة يوسف آية: 102] إلى قوله: {وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [سورة يوسف آية: 107] . فيه مسائل: الأولى: تنبيه الله على آية الرسالة، بأن هذه القضية غيب لا يتوصل إليه الرسول إلا بالوحي، لكونه لا يقرأ ولا يخط، ولا أخذ عن عالم. الثانية: تقريره هذه الحجة، بقوله: {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ} لأن هذا لا سبيل إلى العلم به إلا بالوحي، أو بحضوره. الثالثة: أن مكرهم خفي، لو حضرهم أحد لخفي عليه. الرابعة: ذكره سبحانه حقيقة الحال، أن الأكثر لا يقبلون الحق، ولو تبين لهم بالأدلة. الخامسة: ذكر حرصه صلى الله عليه وسلم على إيمان الناس. السادسة: أنه لا مانع مع هذا البيان، مثل سؤال الأجر. السابعة: أنه ذكر لهم مع شدة كراهتهم له، كما كره الإخوة ارتفاع يوسف. الثامنة: أن الذي أتاهم من الآيات ليست هذه وحدها، بل كم وكم من آية من الآيات السماوية والأرضية يمرون عليها ويعرضون عن الانتفاع بها، وليس في هذا قصور في البيان، فإنه مشاهد، بل القلوب غير قابلة. التاسعة: الجزء: 13 ¦ الصفحة: 278 المسألة العظيمة، وهي: إخباره تبارك وتعالى أن أكثر هذا الخلق لو آمن أفسد إيمانه بالشرك، فهذه فساد القوة العملية؛ والتي قبلها فساد القوة العلمية. العاشرة: التنبيه على الاحتراز من اجتماع الإيمان مع الشرك المفسد له، خصوصا لما ذكر أن هذا حال الجمهور. الحادية عشر: احتقارهم هذا العصيان العظيم، كيف أمنوا عقوبة الدنيا؟ ! وهو يدل على جهالة من أمن ذلك. الثانية عشر: كيف أمنوا أن تأتيهم الساعة بغتة وهم لا يشعرون؟ !. {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [سورة يوسف آية: 108] إلى قوله: {أَفَلا تَعْقِلُونَ} [سورة يوسف آية: 109] . فيه مسائل: الأولى: أمره سبحانه نبيه بإخبار الناس بدينه مجملا. الثانية: أن هذا أيضا سبيل من اتبعه. الثالثة: أن ذلك هو الدعوة إلى الله وحده لا شريك له. الرابعة: أن ذلك هو الدعوة إلى الله على بصيرة، خلافا لمن اتبع الحق ودعا إلى الله على غير بصيرة. الخامسة: أن دينه الذي أنكره الأكثر، هو تنْزيه الله من السوء، والإنكار في ذلك. السادسة: أن الذي حملهم على إنكاره كونه غريبا مخالفا لما عليه السواد الأعظم، وذلك لا يوجب رده، لأن اتباع الحق إذا ظهر هو الحق، وإذا ظهر الباطل لم يزينه فعل الأكثر له، مثل الربا والكذب والخيانة. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 279 السابعة: رد شبهتهم في كونه بشرا، وذا واضح، لأنهم إن كانوا ممن يقر بالرسالة في الجملة كأهل الكتاب والمشركين، فواضح، وإن أنكروها كالمجوس، فالنكال الذي أوقع الله بمن خالف الرسل، الذي سمعوه وشاهدوه، حجة عليهم. الثامنة: الرد عليهم في قولهم: {لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ} [سورة البقرة آية: 118] أو نحو ذلك; لأن الرسل ما أتوا الأمم إلا بالوحي. التاسعة: أنهم كلهم رجال; ففيه الرد على من يزعم أن في الجن رسلا، أو في النساء. العاشرة: قوله {مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} ففيه: الرد على من انتقص أهل القرى; أو فضل البدو، أو ساواهم بهم. الحادية عشر: استجهال الله إياهم، حيث لم يسيروا في الأرض، فيعتبروا بمن قبلهم; فدل على أن فهم ذلك مقدور لهم. الثانية عشر: إخبار أن ما يعطي الله من أطاع الرسل خيرا مما أعطى يوسف وسليمان وأيوب، وغيرهم، من حسن عاقبة الطاعة. الثالثة عشر: أن سنة الله في الرسل ومن اتبعهم، وسنته فيمن خالفهم، في الدنيا قبل الآخرة، من أظهر البينات للكفار الجهال؛ فمن لم يفهمها يقال له: كيف زال عقلك؟ !. {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا} [سورة يوسف آية: 110] إلى آخر السورة. فيه مسائل: الأولى: تأخير النصر على الرسل، حتى الجزء: 13 ¦ الصفحة: 280 استبطؤوا، ولا يعجل الله لعجلة أحد. الثانية: إذا عرف أن هذه سنة، فكيف يستعجل من يزعم أنه متبع لهم؟ كما قال صلى الله عليه وسلم:" يستجاب لأحدكم ما لم يعجل ". الثالثة: أن ما يقع في القلب من خواطر الشيطان لا يضر، بل هو صريح الإيمان، إذا كان مع الكراهة. الرابعة: أن العادة أن الشدة إذا تمت وتضايقت جدا، فهو من علامات حضور الفرج. الخامسة: أنه سبحانه ينجي من يشاء، ولو كان مع المهلكين في المكان. السادسة: أنه إذا جاء أمر الله، لم يقدر على دفعه أحد من أهل السماء، ولا من أهل الأرض. السابعة: أنه سبحانه لا يظلم أحدا، وأن ذلك بسبب إجرامهم. الثامنة: الثناء على قصص الرسل، وأن فيه عبرة. التاسعة: أن ما يفهم هذه العبرة - مع وضوحها - إلا أولو الألباب. العاشرة: تعريضه سبحانه بالأحاديث المفتراة، وإقبال الأكثر عليها، واشتراء الكتب المصنفة فيها بغالي الأثمان، وتكبر من اشتغل بها، وظنه أنه أفضل ممن لم يشتغل بها، وزعمه أنها من العلوم الجليلة، ومع هذا معرض عن قصص الأنبياء مستحقر له، زاعم أنه علم العوام الجهال. الحادية عشر: أن من أكبر آياته تصديقه لما بين يديه من العلوم، التي جاءت بها الرسل، التي هي العلم النافع في الحقيقة. الثانية عشر: أن هذا فيه تفصيل كل شيء يحتاج إليه، ففيه العلم النافع، وفيه الإحاطة بالعلوم الكثيرة، ومع الجزء: 13 ¦ الصفحة: 281 هذا يفصلها، أي: يبينها. الثالثة عشر: أنه هدى يعتصم به من الضلالة. الرابعة عشر: أنه رحمة يعتصم به من الهلكة، فلا يضل من اتبعه ولا يشقى. الخامسة عشر: أن هذا ليس لكل أحد، بل لقوم مخصوصين. السادسة عشر: أن سبب ذلك الإيمان، ففيه شاهد لقوله: "من عمل بما علم، أورثه الله علم ما لم يعلم". الجزء: 13 ¦ الصفحة: 282 [ومن سورة إبراهيم ] قال الشيخ محمد رحمه الله تعالى، وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً} [سورة إبراهيم آية: 24] الآية: فالكلمة الطيبة التوحيد، وهي كالشجرة، والأعمال ثمارها في كل وقت؛ وكذلك السيئة، هي العمل لغير الله، وهذا هو الشرك; فإن الإنسان حارث همام، لا بد له من عمل، ولا بد له من مقصود يعمل لأجله، وإن عمل له ولغيره فهو مشرك; والذنوب من الشرك، فإنها طاعة للشيطان. قال تعالى: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ} [سورة إبراهيم آية: 22] إلى قوله: {إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ} [سورة إبراهيم آية: 22] الآية، وقال تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ} [سورة يس آية: 60] الآية، والحديث: "ومن شر الشيطان وشركه" لكن إن كان موحدا وفعل بعض الذنوب، نقص توحيده كما الجزء: 13 ¦ الصفحة: 282 قال: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن " إلخ، ومن ليس بمؤمن فليس بمخلص. وفي الحديث: " تعس عبد الدينار " إلخ; وحديث أبي بكر: " اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم " إلخ، لكن إذا لم يعدل بالله غيره فيحبه مثل حب الله، بل الله أحب إليه، وأخوف عنده، وأرجى من كل مخلوق، فقد خلص من الشرك الأكبر. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 283 [مسائل مستنبطة من سورة الحجر ] وقال أيضا الشيخ محمد، قدس الله روحه: هذه مسائل مستنبطة من سورة الحجر. الآية الأولى: فيها الترغيب في القرآن، بجمعه بين الوصفين. الثانية: وصفه بالبيان. الثالثة: معنى الكتاب المعرف بالألف واللام. الرابعة: معنى القرآن. الآية الثانية: فيها الرد على الخوارج. الثانية: الرد على المعتزلة. الثالثة: النظر في العواقب. الرابعة: عدم الاغترار بالحال الحاضرة. الخامسة: إثبات عذاب القبر. الآية الثالثة: تعزية المؤمن عما هم فيه من النعيم. الثانية: أن الاغترار بذلك من وصف الكفار. الثالثة: أن الأمل سبب ترك الخير. الرابعة: أن ذلك من وصفهم. الخامسة: الوعيد الشديد. الآية الرابعة: فيها الآية العظيمة الباهرة، وهي: إهلاك القرى المكذبة. الثانية: أن ذلك الأجل لا يتقدم، ولا يستعجل الله لعجلة أحد. الثالثة: التعزية. الرابعة: أنه إذا الجزء: 13 ¦ الصفحة: 283 جاء لا يؤخر لحظة، ففيه الوعيد. الآية الخامسة والآيتان بعدها: فيها أن الذكر هو القرآن. الثانية: كلامهم على سبيل الاستهزاء. الثالثة: وصفهم أكمل الناس عقلا - عندهم - بالجنون. الرابعة: أن الذي دلهم على جنونه، عدم إتيانه بالملائكة. الخامسة: عدم تصريحهم بالمعاتبة، بل تعللوا بتكذيبه. السادسة: أنه سبحانه لا ينزل الملائكة لمثل ذلك. السابعة: أنه لا ينزلهم إلا بالحق. الثامنة: أنهم سألوه شيئا لو أجابهم إليه هلكوا. التاسعة: فيها تأكيد الضمير المتصل بالمنفصل. العاشرة: أن الذكر هو القرآن. الحادية عشر: حفظ الله إياه عن شياطين الجن والإنس. الثانية عشر: كون ذلك الحفظ آية كافية عن إنزال الملائكة. الآية الثامنة وثلاث بعدها: فيها أن الرسالة عمت بني آدم. الثانية: هذا الخبر العجب، مع انقيادهم للكذابين. الثالثة: لم يكفهم الامتناع والتكذيب حتى استهزؤوا. الرابعة: أن ذلك بسبب إجرامهم. الخامسة: الإيمان بالقدر. السادسة: أن العقوبة بالذنب تكون بذنب أكبر منه. السابعة: ذكر الآية الكبرى، وهي إهلاك أمم لا يحصيهم إلا الله. الثامنة: أن مع هذا الأمر القاطع لم ينتفع به أمة واحدة. التاسعة: خبر الصادق أنهم لو جاءتهم آية ملجئة لم يؤمنوا. العاشرة: مع هذا العتو العظيم، يعتذرون الجزء: 13 ¦ الصفحة: 284 تسكرا وسحرا، ولم يصرحوا بأنه الحق، ولكنه باطل. الآية الثانية عشر، وأربع بعدها: فيها ما جعل الله في البروج من الآيات، سواء قيل: إنها النجوم أو الكبار منها. الثانية: تزيين السماء. الثالثة: حفظها من الشياطين. الرابعة: ذكر الاستراق. الخامسة: ذكر عقوبته. السادسة: مد الأرض. السابعة: الرواسي. الثامنة: إنبات النبات. التاسعة: كثرته وكونه من كل شيء. العاشرة: كونه موزونا. الحادية عشر: ذكر المعايش. الثانية عشر: ذكر الأنعام. الثالثة عشر: كوننا لا نرزقهم مع كونهم لنا. السابعة عشر: فيها أن كل شيء خزائنه عنده. الثانية: إنزاله بقدر معلوم. الثامنة عشر، وثلاث بعدها: فيها ذكر إنعامه بإرسال الرياح. الثانية: أنها تلقح السحاب والشجر. الثالثة: إنزال الماء من السماء. الرابعة: تسهيل تناوله. الخامسة: عجزهم عن خزانته. السادسة: تفرده بالإحياء والإماتة. السابعة: أنه الوارث. الثامنة: علمه بالمستقدم والمستأخر، في الزمان وفي الطاعة. التاسعة: تفرده بحشر الجميع. العاشرة: ذكر حكمه وعلمه مع ذلك. الثانية والعشرون، وتسع عشرة آية بعدها: فيها ذكر المادة التي خلق منها آدم. الثانية: ذكر المادة التي خلق منها إبليس. الثالثة: إخبار الله للملائكة بمادته وأنه بشر. الرابعة: أنه سواه. الخامسة: أنه نفخ فيه من روحه. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 285 السادسة: أن السجدة لآدم. السابعة: أنها سجدة وقوع. الثامنة: أنهم سجدوا كلهم، لم يستثن إلا إبليس. التاسعة: الدليل على شدة عيبه أنه لم يدخل مع هذا الجمع، ولم يتخلف إلا هو. العاشرة: أن اسمه إبليس من ذلك الوقت. الحادية عشر: تخلف الإنسان عن العمل الصالح وحده أكبر، لقوله: {مَا لَكَ أَلاّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ} [سورة الحجر آية: 32] . الثانية عشر: تعذره بأصله وبكونه بشر. الثالثة عشر: علم الملائكة بالبعث قبل خلق بني آدم. الرابعة عشر: لا يسمى المسلم من أتباعه ولو عصى، لقوله: {إِلاّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ} [سورة الحجر آية: 42] . الخامسة عشر: كل من اتبعه فهو غاو. السادسة عشر: التنويه بآدم قبل خلقه. السابعة عشر: وقوع ما أخبر الله به من قوله: {إِلَى يَوْمِ الدِّينِ} لأنه لم يتب. الثامنة عشر: كونه رجيم. التاسعة عشر: كونه من ساكني الجنة. العشرون: خلق الجنة والنار قبل ذلك الوقت. الثانية والأربعون، وخمس بعدها: فيها وعد أهل التقوى. الثانية: ما يقال لهم عند دخولها. الثالثة: أن الغل الذي بينهم لا يخرج من التقوى. الرابعة: أن من نعيم أهل الجنة الأخوة الصافية. الخامسة: التنبيه على أكبر عيوب الدنيا، وهو النصب والإخراج. السادسة: أمره رسوله بتعليم عباده بهذه المسألة. السابعة: أنه صلى الله عليه وسلم أخبرهم أن المؤمن لو يعلم ما عنده من الجزء: 13 ¦ الصفحة: 286 العقوبة ... إلى آخره. الثامنة: أن المغفرة والرحمة وصف بها نفسه، وأما العذاب الأليم فوصف به عذابه. التاسعة: تأكيد الضمير المتصل بالمنفصل، وتعريف العذاب. العاشرة: وجوب تعلم هذه المسألة على المؤمن. الثامنة والأربعون، وثلاثون آية بعدها: فيها أمره رسوله بتعليم عباده بالقصة، فدل على شدة حاجتهم إليها. الثانية: تسمية الملائكة أضيافا. الثالثة: تشريف إبراهيم عليه السلام بضيافتهم. الرابعة: قولهم: {سَلامًا} استدل به على إجزائه في السلام. الخامسة: جواز مخاطبة الأضياف بمثل هذا عند الحاجة. السادسة: أن مثل هذا الخوف لا يذم. السابعة: البشارة بالغلام، وبكونه عليهم. الثامنة: أن استبعاد مثل هذا ليس من القنوط. التاسعة: أنه مظنة القنوط، لقوله: {فَلا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ} [سورة الحجر آية: 55] . العاشرة: مثل هذا لا يخرج من التوكل. الحادية عشر: لا يخرج من معرفة قدرة الله. الثانية عشر: معرفة كبر القنوط. الثالثة عشر: معرفته - عليه السلام - أن البشارة ليست حاجتهم وحدها. الرابعة عشر: معرفة نقمة الله ممن خالف الرسل. الخامسة عشر: معرفة التوحيد من قصة امرأة لوط. السادسة عشر: لم يعرفهم لوط أول مرة. السابعة عشر: معرفه جواز قول مثل هذا للأضياف عند الحاجة، الثامنة الجزء: 13 ¦ الصفحة: 287 عشر: معرفة أنه خوفهم عقوبة الدنيا، لقوله: {بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ} [سورة الحجر آية: 63] . التاسعة عشر: معرفة أن التأكيد وتكرير المسألة على الطالب، ليس نقصا في حقه، لقوله بعده: {وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} [سورة الحجر آية: 64] . العشرون: أن اليقين يتفاضل حتى في حق الأنبياء، يوضحه ما تقدم من قولهم: {بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ} الآية. الحادية والعشرون: معرفة الأمر بالهجرة. الثانية والعشرون: تفضيله عليه السلام بالهجرة مرتين. الثالثة والعشرودن: معرفة أنهم أمروا بها إلى مكان معين. الرابعة والعشرون: معرفة قدر كونه آخر الرفقة في السفر، كما كان صلى الله عليه وسلم يتخلف في آخرهم. الخامسة والعشرون: عدم الرأفة على أعداء الله، لقوله: {وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ} . السادسة والعشرون: معرفة إخباره أن هذا قضي فلا مراجعة فيه، كما أخبر إبراهيم عليه السلام. السابعة والعشرون: معرفة قرب وقته. الثامنة والعشرون: معرفة الأمر العظيم، وهو فرح الإنسان بما لعله هلاكه. التاسعة والعشرون: قوله: {إِنَّ هَؤُلاءِ ضَيْفِي} إلخ، يدل على توقيرهم إياه، يوضحه قولهم: {أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ} . الثلاثون: أن طلب الستر وخوف الفضيحة من أعمال الأنبياء. الحادية والثلاثون: كونك تأمر بالتقوى ولو أفجر الناس. الثانية والثلاثون: خوف الخزي. الثالثة والثلاثون: شدة مدافعته عن ضيفه بعرض بناته. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 288 الرابعة والثلاثون: كرامة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقسم بحياته. الخامسة والثلاثون: تأمل ما أخبر الله به من سكر الشهوة. السادسة والثلاثون: الجمع بين قلبها وإمطار الحجارة. السابعة والثلاثون: معرفة تنبيه الله على هذه الآية. الثامنة والثلاثون: تخصيص المتوسمين. التاسعة والثلاثون: توضيح الآية بكونها على الطريق. الأربعون: إقامتها. الحادية والأربعون: تخصيص المؤمنين بالآية. الثانية والأربعون: توضيح الآية بكونها على الطريق الواضح. الثالثة والأربعون: الآية في أصحاب الأيكة. الرابعة والأربعون: ذكر السبب، وأنه ظلمهم. الخامسة والأربعون: ذنب أصحاب الحجر. السادسة والأربعون: أن من كذب رسولا، فقد كذب الرسل. السابعة والأربعون: ذكر إنعامه عليهم بالآيات. الثامنة والأربعون: ذكر ما عاملوها به من الإعراض. التاسعة والأربعون: ما أعطوا من القوى، حتى نحتوا الجبال بيوتا. الخمسون: أمنهم. الحادية والخمسون: ذكر عقوبتهم، وهي أخذ الصيحة صباحا. الثانية والخمسون: ذكر أن ذلك العطاء الذي غرهم، ما أغنى عنهم وقت البلاء، كما أغنت الأعمال الصالحة عن أهلها. السبعون، وسبع بعدها: فيها التنبيه على تنْزيهه عن مضاد الحكمة. الثانية: كونه ما خلق ذلك إلا بالحق; ففيه إثبات الحكمة. الثالثة: أن من الحكمة في ذلك الإيمان به الجزء: 13 ¦ الصفحة: 289 وتوحيده. الرابعة: الإيمان بإتيان الساعة. الخامسة: أن العلم بإتيانها، فيه تعزية للمظلوم. السادسة: أن العلم بكونه الخلاق العليم، فيه تعزية أيضا. السابعة: أن فيه الوعيد للظالم. الثامنة: المنة بإتيان السبع المثاني والقرآن العظيم، وفيه التعزي عما أصابه به وعما صرف عنه. التاسعة: نهيه عن مد العين إلى دنياهم. العاشرة: كون ذلك من نتائج ذلك الإيتاء. الحادية عشر: نهيه عن الحزن عليهم ولو كان الملأ. الثانية عشر: أمره بخفض الجناح لمن آمن; ولو كان عندهم حقيرا. الثالثة عشر: قوله لهم: {إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ} وما في هذه الكلمة من التأكيد. الرابعة عشر: ذكر آياته في انتقامه منهم. الخامسة عشر: رجاء المؤمن إذا نظر إلى ذلك. السادسة عشر: وصفهم بالاقتسام، ففيه جدهم في الباطل. السابعة عشر: وصفهم القرآن بهذه الصفة، ففيه شدة الجراءة، وفيه وضوح ضلالهم. الثامنة عشر: الإقسام على هذا الأمر العظيم. التاسعة عشر: معرفة أن لا إله إلا الله عمل به. العشرون: أن ذلك شرع للكل. الثمانون، وأربع بعدها إلى آخر السورة: فيها أن الصدع فيه زيادة على الإنذار. الثانية: أنها ناسخة. الثالثة: جمعه بين ذلك وبين الإعراض عنهم. الرابعة: ذكر الآية في الجزء: 13 ¦ الصفحة: 290 تلك الكفاية. الخامسة: في ذلك تشجيع على الصدع والتوكل. السادسة: وصفهم بالاستهزاء بما لا يستهزأ به. السابعة: وصفهم بالشرك. الثامنة: ذكر أنهم يجعلون مع الله إلها، فلم يتركوا. التاسعة: تقبيح ذلك في جعلهم معه ذلك كائنا من كان. العاشرة: الوعيد. الحادية عشر: لا يناقضه الإمهال لقوله: {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} . الثانية عشر: تعزيته بعلم الله. الثالثة عشر: تنبيهه على الدواء. الرابعة عشر: أن ذلك بالجمع بين التسبيح والحمد. الخامسة عشر: تنبيهه على السجود، أنه مع ما تقدم هو الدواء. السادسة عشر: التحريض على ذلك، بتذكر عباد الله الساجدين، وكونه منهم. السابعة عشر: ختم السورة بهذه المسألة الكبيرة. وتكلم أيضا الشيخ محمد رحمه الله، على قصة إبليس، فقال: عن أبي موسى، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض، فجاء بنو آدم على قدر الأرض؛ جاء منهم الأحمر، والأبيض، والأسود، وبين ذلك، والحزن، والخبيث، والطيب ". وقوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الأِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ} [سورة الحجر آية: 26] قال ابن عباس في رواية الوالبي: "الصلصال الطين اليابس;" وفي رواية: "الذي إذا نقر صوت; والحمأ الطين الأسود المتغير اللون" والمسنون: الجزء: 13 ¦ الصفحة: 291 المتغير الرائحة، يقال: سن الماء فهو مسنون إذا تغير; وقال سيبويه: المسنون: المصور على صورة ومثال. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 292 سورة النحل وقال أيضا الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى: بسم الله الرحمن الر حيم قوله {َتَى أَمْرُ اللَّهِ} [سورة النحل آية: 1] أي الذي يفصل بين المؤمنين والمشركين، فسر بالنصر في الدنيا، وبالقيامة، ففيها: الأولى: إتيانه سبحانه بصيغة الماضي، للتحقيق والبشارة والنذارة. الثانية: النهي عن الاستعجال به. الثالثة: تسبيحه نفسه، وتعاليه عن شركهم، ففيه التنبيه على عظمة قبحه لكونه مسبة له. الثانية: الأولى: فيها تنزيله الملائكة. الثانية: تسمية المنزل روحا، لكونه يحيي القلوب. الثالتة: أن ذلك الروح من أمره. الرابعة: أن التخصيص بمن ينزل عليه بمشيئته، لا بالاقتراح. الخامسة: أن المخصوص بذلك من جملة عباده. السادسة: ذكر الحكمة في هذا، وهو: إنذار الخلق عن الشرك. السابعة: أنه إذا ثبت ذلك فخصوه بالتقوى، لكونه المتفرد بالضر والنفع. الثالثة: الأولى: فيها الاستدلال بخلق السماوات والأرض. الثانية: أنه بالحق. الثالثة: ذكر تعاليه عن شركهم، ذكره الجزء: 13 ¦ الصفحة: 292 عند بدء الخلق، وعند الوعد بالفصل. الرابعة: الأولى: فيها الاستدلال بخلق الإنسان: ذكر أولا الخلق العام، ثم الخاص. الثانية: كونه من نطفة. الثالثة: صيرورته إلى هذا الحال، بعد تلك الحال، وهو تفضيله بالعقل والبيان. الرابعة: على تفسير مجاهد ذكر هذا الكفر، بعد ما أعطاه من النعمة، وبين له من القدرة. الخامسة: والآيتان بعدها: الأولى: فيها الاستدلال بخلق الأنعام على اختلافها. الثانية: أن ذلك لنا. الثالثة: التنبيه على ما فيها من المصالح. منها: الدفء، والأكل، والجمال، وحمل الأثقال إلى ما ذكره، وغير ذلك من المنافع. الرابعة: التنبيه على رأفته ورحمته بنا. الثامنة: الأولى: ذكر الخيل والبغال والحمير في الاستدلال. الثانية: ذكر نعمته أن الحكمة في ذلك لركوبنا. الثالثة: زينة لنا. الرابعة: التنبيه على خلق ما لا نعلم. التاسعة: الأولى: فيها أن السبيل منها قاصد. الثانية: أنه يوصل إلى الله. الثالثة: أن منها جائرا، فينزل على الطلب والنظر. الرابعة: ذكر القدرة بعد ما ذكر الشرع. العاشرة: الأولى: فيها الاستدلال بإنزال المطر. الثانية: على أن غيره لا يقدر عليه. الثالثة: التنبيه على النعمة، بقوله: {لَكُمُ} . الرابعة: ما يحصل به من الشراب والمرعى. الخامسة: إنبات الزرع والأشجار الخاصة. السادسة: من كل الثمرات. السابعة: أن ذلك الإنبات لنا. الثامنة: ذكره أن في هذا لآيات. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 293 التاسعة: كونها مخصوصة بالمتفكرين. الحادية عشر: الأولى: الاستدلال بخلق الليل والنهار والعلويات. الثانية: أن تسخيرها لنا. الثالثة: قوله: {مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ} . الرابعة: ذكر الآيات في ذلك. الخامسة: أنها مخصوصة بالذين يعقلون. الثانية عشر: الأولى: الاستدلال بخلق ما في الأرض لنا على اختلافه وكثرته. الثانية: ذكر النعمة في كونه لنا. الثالثة: ذكر الآيات في ذلك. الرابعة: تخصيص المتفكرين بفهمها. الثالثة عشر: الأولى: تسخير البحر. الثانية: أنه الذي فعله لا غيره. الثالثة: التنبيه على ما فيه من مصلحتنا، من أكل اللحم الطري، واستخراج الحلية ولبسها، وجريان الفلك فيه والابتغاء من فضله. الرابعة: أن الحكمة في ذلك ليستخرج منكم الشكر في هذه الأمور التي فيها الآيات والنعم. الرابعة عشر: الأولى: الاستدلال بخلق الجبال. الثانية: ذكر الحكمة. الثالثة: ذكر الأنهار. الرابعة: ذكر السبل. الخامسة: ذكر الحكمة، وهي الاهتداء. السادسة: ذكر الحكمة الثانية وهي العلامات، فالجبال علامات النهار; ثم ذكر حكمة ثالثة، وهي الاهتداء بالنجوم في الليل. الخامسة عشر: لأولى: ذكر الدليل القاطع البديهي الفطري الضروري. الثانية: دعاؤهم إلى التذكر. الثالثة: أتى باستفهام الإنكار، ولكن لتأمل التذكر ما هو، لقوله: {وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلاّ مَنْ يُنِيبُ} . الرابعة: دعاؤهم إلى الطاعة بذكر نعمه، وأنها الجزء: 13 ¦ الصفحة: 294 على الإجمال، وأنها لا تحصى. الخامسة: ختمه الآية بالاسمين. السادسة عشر: الأولى: ذكر سعة علمه، وإحاطته بالسر والجهر. الثانية: أن الذين يدعون غيره ليس لهم قدرة ولا لهم علم، فلا يخلقون شيئا، ولا يدرون متى يبعثون. الثالثة: أنهم أموات غير أحياء. السابعة عشر: الأولى: ذكر توحيد الإلهية. الثانية: أنه مع تكاثر هذه الأدلة ووضوحها، أنكرته قلوب هؤلاء. الثالثة: أن سببه عدم الإيمان بالآخرة، لا خفاء الأدلة. الرابعة: أن الشرك وعدم الإيمان بالآخرة متلازمان. الخامسة: أنهم مع هذا الجهل العظيم، الذي لا أخسر منه، متكبرون. السادسة: جمعوا بين الإنكار والاستكبار. السابعة: ذكر علمه سرهم وعلانيتهم، وهو صريح في الوعيد. الثامنة: كونه لا يحب المستكبرين. الثامنة عشر: الأولى: ذكر وصفهم أعظم نعمة جاءتهم من الله. الثانية: إقرارهم بالربوبية. الثالثة: ذكر عاقبة ذلك. الرابعة: ذكر حملهم أوزار من أضلوا. الخامسة: أنهم جهال، ولو ظن الأتباع غيره. السادسة: تهويل ذكر الجزاء. التاسعة عشر، وأربع آيات بعدها: الأولى: ذكر ما فعل بمن قبلهم لما مكروا. الثانية: أنه أتاه من القواعد. الثالثة: أنهم خر عليهم الذي بنوا. الرابعة: أن الخرور من فوقهم. الخامسة: إتيان العذاب من طرق لم يعلموا بها،. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 295 السادسة: الخزى يوم القيامة. السابعة: هذا العذاب الشديد. الثامنة: ما فيه من قبح الشرك. التاسعة: ما فيه من فتنة المشرك بالشرك. العاشرة: مشاقتهم الله وأولياءه. الحادية عشر: ذكره أن ذلك لأجل الشركاء. الثانية عشر: ما فيه من تعزية المؤمن وتبشيره. الثالثة عشر: شرف العلم في الآخرة. الرابعة عشر: جمعه بين الخزي والسوء. الخامسة عشر: كونه على من كفر. السادسة عشر: ذكره موتهم على هذه الحال. السابعة عشر: كونهم ما ظلموا إلا أنفسهم. الثامنة عشر: كون ملك الموت له أعوان يتوفون. التاسعة عشر: كونهم ألقوا له حين لا ينفعهم. العشرون: تفسير ذلك بقولهم: {مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ} . الحادية والعشرون: جوابهم. الثانية والعشرون: عقابهم. الثالثة والعشرون: هؤلاء أهل الأبواب. الرابعة والعشرون: عظمة الكبر عند الله. الرابعة والعشرون، وآيتان بعدها: الأولى: قول المتقين في المنزل. الثانية: الوعد بحسنة الدنيا. الثالثة: أن حسنات الآخرة خير. الرابعة: أنها دار المتقين. الخامسة: وصفها بهذه الصفات العظيمة. السادسة: أن الجزاء بهذا مما يوصف الله به في حق المتقين. السابعة: وصفهم بحالهم عند الوفاة، وما يقال لهم. السابعة والعشرون، وآية بعدها: الأولى: الموعظة عن الجزء: 13 ¦ الصفحة: 296 التسويف. الثانية: الفرق بين إتيان الملائكة أو أمر الله. الثالثة: أن هذا كفعل من قبلهم. الرابعة: تنْزيهه سبحانة عن الظلم. الخامسة: إثبات ظلمهم لأنفسهم. السادسة: أن علمهم هو الذي أصابهم. السابعة: كون الذي استهزؤوا به حاق بهم. التاسعة والعشرون: الأولى: أن الاحتجاج بالقدر من كلام الكفار. الثانية: اعترافهم أنهم يعبدون من دونه، مع قولهم هؤلاء شفعاؤنا عنده. الثالثة: اعترافهم أنهم يحرمون من دونه، مع زعمهم أنهم يتقربون إليه. الرابعة: ذكره سبحانه أن هذا كفعل المتقدمين. الخامسة: ذكره الواجب على الرسل. الثلاثون: الأولى: عموم الرسالة لكل أمة. الثانية: أن كل أمة لها رسول يخصها. الثالثة: أن بعثة الكل لأجل هاتين الكلمتين. الرابعة: أنه لا بد مع الإثبات من النفي. الخامسة: ذكر حسن الأولى بالإضافة إليه. السادسة: ذكر قبح الشرك، وحسن النهي عنه. السابعة: أنهم افترقوا. الثامنة: أن من أعطي خيرا فالله أعطاه. التاسعة: أن الضلالة حقت على الضالين. العاشرة: ذكر الأمر بالسير في الأرض لأجل النظر في عاقبتهم. الحادية عشر: ذكر أن حرص الرسول لا يجدي على من أضل الله. الثانية عشر: ما لهم من ناصرين. الحادية والثلاثون: الأولى: كونهم يقسمون بالله. الثانية: أن الجزء: 13 ¦ الصفحة: 297 القسم بالله عندهم أجل من القسم بالآلهة. الثالثة: اجتهادهم في اليمين على ما لا يعلمون. الرابعة: كون هذا على نفي ما قامت الأدلة الواضحة على ثبوته. الخامسة: تأليهم على الله أن لا يفعل. السادسة: رده عليهم بقوله: {بَلَى} . السابعة: أنه لا يخلف الميعاد. الثامنة: أنه جعل ذلك حقا عليه. التاسعة: إخباره أن السواد الأعظم لا يعلمون. العاشرة: ذكره الحكمة في ذلك، وهي: تبيينه لهم ما اختلفوا فيه; ومعرفة الكافرين أنهم أهل الكذب، لا خصومهم. الحادية عشر: ذكره تعظيم قدرته وأنها على غير القياس، وهم نفوا لما نظروا إلى عظمة الأمر، ولم يعرفوا عظمة الله. السادسة والثلاثون: الأولى: ذكر الهجرة. الثانية: ذكر نية أهلها. الثالثة: ذكر الظلم الذي أصابهم وصبروا. الرابعة: الوعد بحسنة الدنيا. الخامسة: أن أجر الآخرة أعظم. السادسة: أن هذا الخير العظيم لا يعلمه الأكثر، ولو علموه لاستبقوا إليه. السابعة: وصفهم بالصبر. الثامنة: وصفهم بالتوكل. السابعة والثلاثون: الأولى: ذكر الحجة الدامغة لإنكارهم لإرسال البشر، مع تسليمهم بنبوة المتقدمين. الثانية: أن الإرسال بالوحي. الثالثة: أن هذا مسلم عند كل من عرف العلم النازل من الله. الرابعة: تنبيه الجاهل أنه لا يعذر، لأنه يمكنه السؤال. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 298 الخامسة: أن كل الرسل رجال، لا جني فيهم ولا أنثى. السادسة: أن كل رسول لا يرسل إلا ببينات. السابعة: لا يرسل إلا ومعه كتاب. الثامنة: ذكر الحكمة في إنزال القرآن على محمد، وأنها لبيان المنزل، ولتفكرهم. التاسعة: تسميته الذكر. الثامنة والثلاثون: الأولى: ذكر مكر السيئات. الثانية: أنهم مستحقون لتعجيل العقوبة. الثالثة: كيف أمنوا ذلك. الرابعة: ذكر أنواع العذاب الأربعة. الخامسة: أنهم لا يعجزون بعد ذكر الثالث. السادسة: ذكر الرأفة والرحمة بعد الرابع. التاسعة والثلاثون، والآيتان بعدها: الأولى: فيها ذكر الآية التي في المخلوق. الثانية: تقرير عدم رؤيتهم ذلك مع وضوحه. الثالثة: تفيؤ الظلال يمينا وشمالا. الرابعة: سجودهم لله. الخامسة: حال الدخول. السادسة: ذكر جميع دواب السماء والأرض. السابعة: سجود جميع الملائكة. الثامنة: عدم استكبارهم مع شرفهم. التاسعة: مع ذلك خوفهم منه. العاشرة: ذكر الفوقية. الحادية عشر: ذكر كونهم مع ذلك الخوف، كاملي الانقياد فيما أمروا به. الثانية والأربعون، وآية بعدها: الأولى: فيها النهي عن اتخاذ إلهين. الثانية: بيان أن الإله واحد. الثالثة: بيان أن من لوازم ذلك إفراده بالرهبة. الرابعة: الاستدلال على ذلك بملك السماوات والأرض. الخامسة: الاستدلال بأن دينه الجزء: 13 ¦ الصفحة: 299 واصب. السادسة: الإنكار عليهم في تقوى غيره مع هذه الأدلة. الرابعة والأربعون، وآيتان بعدها: الأولى: فيها التذكير بأن كل ما بنا من نعمة فهو المتفرد بها. الثانية: اللجأ إليه وحده إذا نزل الضر بالجأر. الثالثة: فعلهم القبيح بعد كشفه وبعد الإخلاص. الرابعة: ذكر عاقبة فعلهم أنه الكفر بالنعم. الخامسة: ذكر العاقبة الثانية: وهي التمتع. السادسة: الوعيد. السابعة والأربعون: الأولى: جعلهم حقا من الذي أعطاهم الله لغيره. الثانية: أنهم لا يعلمون. الثالثة: الوعيد. الرابعة: أنه بالقسم. الثامنة والأربعون: الأولى: جعلهم لله الأوكس. الثانية: جعلهم لأنفسهم الأعلى. الثالثة: إذا بشروا بما جعلوا لله، جرى منهم ما ذكر. الرابعة: أنه لشدته يتوارى. الخامسة: أنه يتردد هل يمسكه على هون أم يدسه. السادسة: التسجيل على سوء هذا الحكم. الخمسون: الأولى: ذكر مثل السوء لمن لا يؤمن بالآخرة. الثانية: إثبات المثل الأعلى لله سبحانه. الثالثة: ذكر عزته. الرابعة: ذكر حكمته. الحادية والخمسون: الأولى: ذكر حلمه. الثانية: ذكر استحقاقهم. الثالثة: إهلاك من لا ذنب له بسبب كبر الجريمة. الرابعة: ذكر أنه مع ذلك لا يهمل. الخامسة: أن التأخير إلى أجل مسمى. السادسة: أنه إذا جاء لا يستأخرون ساعة، السابعة: أنهم لا يستقدمون قبله. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 300 الثانية والخمسون: الأولى: ذكر فعلهم العجيب. الثانية: ذكر اغترارهم مع ذلك. الثالثة: ذكر الصواب فيما يستحقون. الرابعة: أنهم مفرطون. الثالثة والخمسون: الأولى: القسم. الثانية: ذكر أنه أرشدهم إلى ما ينفعهم. الثالثة: ذكر السبب الذي صدهم. الرابعة: ذكر ثمرة اليوم. الخامسة: الوعيد بغيره. الرابعة والخمسون: الأولى: ذكر الحكم في إنزال الكتاب عليه. الثانية: الحصر في ذلك. الثالثة: أنها ثلاثة أنواع: الأول عام، والثاني والثالث خاص. الرابعة: ذكر سبب الخصوص. الخامسة والخمسون: الأولى: ذكر الآية الشهيرة. الثانية: أن فيها آية، الثالثة: لقوم مخصوصين. الرابعة: أنهم أهل السمع. السادسة والخمسون: الأولى: ذكر الآية في الإنعام باللبن. الثانية: تفصيل الإنعام. السابعة والخمسون: الأولى: ذكر ثمرات النوعين. الثانية: اتخاذ النوعين منها. الثالثة: ذكر الآية التي في ذلك. الرابعة: أنها لأهل العقل خاصة. الثامنة والخمسون: الأولى: ذكر أن الإلهام من أقسام الوحي. الثانية: إلهامها اتخاذ تلك البيوت من تلك الأمكنة. الثالثة: إلهامها مأكولها، الرابعة: سلوك سبل ربها. الخامسة: كونها ذللا، السادسة: خروج ذلك الشراب من بطونها. السابعة: اختلاف ألوانه، الثامنة: ما فيه من الشفاء. التاسعة: الآية التي فيه. العاشرة: كونها للمتفكرين. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 301 التاسعة والخمسون: الأولى: الآية في خلقهم. الثانية: توفيهم. الثالثة: رد من شاء إلى أرذل العمر. الرابعة: لكيلا يعلم من بعد علم شيئا. الخامسة: علمه. السادسة: قدرته. الستون: الأولى: تفضيلهم في الرزق. الثانية: أن المفضلين لا يرضون لأنفسهم بهذا، خصوصا مع التساوي. الثالثة: استفهام الإنكار. الحادية والستون: الأولى: جعل الأزواج من الأنفس. الثانية: جعل منها بنين. الثالثة: حفدة، الرابعة: الرزق من الطيبات. الخامسة: استفهام الإنكار في هذا الأمر الباهر. الثانية والستون: الأولى: عبادة من لا يملك نفعا. الثانية: أنهم لا يستطيعون. الثالثة: النهي عن ضرب المثل له. الرابعة: التنبيه على علمه وجهلهم. الثالثة والستون، والتي بعدها: فيهما المثلان العظيمان القاطعان. الخامسة والستون: الأولى: ذكره تفرده بعلم الغيب. الثانية: ذكر أمر الآخرة. الثالثة: ذكر قدرته على كل شيء، فلا تستبعد شيئا. السادسة والستون: الأولى: ذكر إخراجنا من البطون هكذا. الثانية: وهب الآيات. الثالثة: ذكر مراده في ذلك. السابعة والستون: الأولى: ذكر آيات الطير. الثانية: كيف لم يفهموها؟ الثالثة: أن فيها آيات. الرابعة: لقوم مخصوصين. الثامنة والستون: الأولى: ذكر السكن من البيوت. الثانية: جعل البيوت من جلود الأنعام. الثالثة: استخفافها الجزء: 13 ¦ الصفحة: 302 ظعنا وإقامة. الرابعة: من الأصواف والأوبار أثاثا. الخامسة: المتاع إلى حين. التاسعة والستون: الأولى: ذكر الظلال مما خلق. الثانية: الأكنان من الجبال. الثالثة: سرابيل الحر. الرابعة: سرابيل البأس. الخامسة: إتمام النعمة. السادسة: الحكمة في ذلك. السبعون، والتي بعدها: الأولى: ذكر الوعيد. الثانية: التعزية. الثالثة: التعليم أن ذلك ليس عليه. الرابعة: ذكر ما عليه. الخامسة: نعمته بالبيان. السادسة: العجب العجاب، وهو: جمعهم بين الضدين. السابعة: أن أكثرهم عدم القوة العملية. الحادية والسبعون، وآيتان بعدها: الأولى ذكر بعثه الشهداء. الثانية: أنه من كل أمة شهيدا. الثالثة: تخلف أسباب النجاة في الدنيا، وهو الأذن والاستعتاب. الرابعة: تخلف التخفيف والإنظار. الرابعة والسبعون: الأولى: قول المشركين لشركائهم. الثانية: معرفة أنهم يدعون من دونه. الثالثة: تكذيب معبوديهم لهم. الرابعة: إلقاء السلم إلى الله حينئذ. الخامسة: زوال الافتراء. الخامسة والسبعون: الأولى: من جمع الكفر والصد، جمع له ما ذكر. الثانية: ذكر الحكمة. السادسة والسبعون: الأولى: ذكر بعث الشهيد في كل أمة من أنفسهم. الثانية: بعثته صلى الله عليه وسلم على أمته. الثالثة: تنْزيل الكتاب عليه. الرابعة: بيانه لكل الجزء: 13 ¦ الصفحة: 303 شيء. الخامسة: كونه هدى. السادسة: كونه رحمة. السابعة: كونه بشرى لقوم مخصوصين. الثامنة: الثناء على الإسلام. السابعة والسبعون: الأولى: الأمر بالعدل. الثانية: الأمر بالإحسان. الثالثة: الأمر بإيتاء ذي القربى. الرابعة: النهي عن الفحشاء. الخامسة: النهي عن المنكر. السادسة: النهي عن البغي. السابعة: ذكر أن الأمر والنهي موعظة. الثامنة. ذكر الحكمة في ذلك. التاسعة: أن التذكير مستلزم العمل. الثامنة والسبعون: الأولى الأمر بالوفاء بالعهد. الثانية: نسبته إلى الله، الثالثة: النهي عن نقض الأيمان بعد توكيدها. الرابعة: التنبيه على قبح ذلك، بجعلهم الله كفيلا عليهم. الخامسة: الموعظة بعلمه بأعمالهم. التاسعة والسبعون، وأربع بعدها: الأولى نهيه عن مشابهة الخرقاء. الثانية: تبيين ذلك باتخاذ الأيمان دخلا بينهم. الثالثة: أنه لأجل كون أمة أربى من أمة. الرابعة: ذكر أن ذلك اختبارا منه سبحانه. الخامسة: وعظهم بالبيان، للاختلاف ذلك اليوم. السادسة: أنه لو شاء لجعلهم أمة واحدة. السابعة: بيان المشيئة. الثامنة: الرد على القدرية. التاسعة: الرد على الجبرية. العاشرة: توعده بسؤالهم. الحادية عشر: نهيه عن اتخاذها دخلا. الثانية عشر: ذكر العقوبة. الثالثة عشر: أنها نوعان. الرابعة عشر: أن ذلك مما صدوا عن سبيله. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 304 الخامسة عشر: ذكر العذاب المهين. السادسة عشر: نهيهم عن الاشتراء بالعهد ثمنا قليلا. السابعة عشر: ذكره بعض الخيرية، وهو نفاد هذا وبقاء هذا. العشرون: وعد الصابرين. الحادية والعشرون: أن ذلك بأحسن أعمالهم. الرابعة والثمانون: الأولى إلزام العمل الإيمان وبالعكس. الثانية: ذكر الجزاء بالحياة الطيبة، وما بعدها أكبر، وهو: جزاؤهم بأحسن أعمالهم. الثالثة: أنه عام لمن فعل، ذكرا كان أو أنثى. الرابعة: التنبيه على طيب الحياة. الخامسة والثمانون وآيتان بعدها: الأولى: الأمر بالاستعاذة من الشيطان عند القراءة. الثانية: أن القراءة غير المقروء، الثالثة: التنبيه على التوحيد. الرابعة: الإخبار أنه لا سلطان له على هؤلاء. الخامسة: عطف التوكل على الإيمان مع أنه منه. السادسة: أن نفي سلطانه عنهم لا ينافي فعلهم الأسباب، مثل الاستعاذة. السابعة: إثبات سلطانه على هؤلاء. الثامنة: عطف توليهم على شركهم. الثامنة والثمانون: الأولى ذكر النسخ. الثانية: ذكر الفتنة به، الثالثة: جوابهم. الرابعة: سببه عدم العلم. الخامسة: أن روح القدس جبرائيل. السادسة: أنه من ربك. السابعة: أنه لا ينافي كون الله نزله. الثامنة: أنه الحق. التاسعة: ذكر الحكمة، وهي: تثبيت هؤلاء. العاشرة: ذكر الحكمة الأخرى، أنه هدى لهؤلاء. الحادية عشر: ذكر الحكمة الأخرى، أنه بشرى لهم. الثانية عشر: مدح الإسلام. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 305 التاسعة والثمانون: الأولى: ذكر إفكهم. الثانية: ذكر علمه به. الثالثة: بيان فساد إفكهم بأوضح حجة. الرابعة: الرد على الأشعرية. الخامسة: الرد على من زعم أنه لا يمكن معرفته. التسعون: الأولى ذكر عقوبة من لم يؤمن بآيات الله. الثانية: أن ذلك منعهم الخير الذي هو الهداية، وإيصال الشر وهو العذاب. الثالثة: أن الهداية نعمة منه. الحادية والتسعون: الأولى: تعظيم أمر الكذب، بكونه ينافي الإيمان. الثانية: أن الإيمان بآيات الله يستلزم العمل، ومنه ترك الكذب. الثالثة: حصر الكذب فيمن لم يؤمن بآيات الله. الثانية والتسعون، وأربع بعدها: الأولى: ذكر تعظيم الكفر بعد الإيمان. الثانية: استثناء المكره المطمئن. الثالثة: أن الرخصة لمن جمع بينهما، بخلاف المكره فقط. الرابعة: أن الردة المذكورة كلام أو فعل من غير اعتقاد. الخامسة: أنها تكون مع شدة المعرفة بالدين. السادسة: أنها تكون مع شدة المعرفة بالباطل. السابعة: أنها تكون مع محبة الدين. الثامنة: أنها تكون مع بغض الباطل. التاسعة: أنها تكون مع شدة الخوف. العاشرة: تكون أيضا مع شدة حاجته لما بذل له، أو لما يرجوه. الحادية عشر: كون من فعل ذلك كفر، ولو كان أفضل الأولياء. الثانية عشر: يكفر بذلك ولو كان ببلد المشركين تحت أيديهم. الثالثة عشر: من فعل ذلك فقد شرح بالكفر صدرا ولو كره ذلك، لأنه لم يستثن إلا من الجزء: 13 ¦ الصفحة: 306 ذكر. الرابعة عشر: فيه أنه يتصور أنه مؤمن ولم يطمئن. الخامسة عشر: ذكر العقوبة، وهي نوعان. السادسة عشر: وهي استحباب الدنيا على الآخرة، لا مجرد الاعتقاد أو الشك. السابعة عشر: ذكر السبب الآخر، وهو من الصفات. الثامنة عشر: أن سبب فعلهم الطبع المذكور. التاسعة عشر: ذكر حصر الغفلة فيهم. العشرون: حصر الخسران في الآخرة فيهم. الحادية والعشرون: ذكر قبول توبة هؤلاء. الثانية والعشرون: ذكر صفة توبتهم، وهي: الهجرة والجهاد والصبر. الثالثة والعشرون: أن المغفرة لما صدر منهم من الأعمال المذكورة. السابعة والتسعون: الأولى. تعظيم ذلك اليوم. الثانية: ذكر الأمر الهائل في كل نفس. الثالثة: كشف الشبهة بقوله: {عن نفسها} . الرابعة: توفية كل نفس عملها. الخامسة: نفي الظلم ولو عن الأشرار. الثامنة والتسعون والتي بعدها: الأولى: ذكر ما أعطى القرية. الثانية: الفرق بين الأمان والطمأنينة. الثالثة: إتيان الرزق لها رغدا. الرابعة: من كل مكان. الخامسة. أن النعمة بما خرق العادة أظهر. السادسة: أن ترك الشكر، له عقوبة عاجلة. السابعة: أن العقوبة تأتي من حيث لا يحتسب. الثامنة: ذكر الجمع بين هاتين العقوبتين. التاسعة: أن ذلك لباس. العاشرة: كونه بصنيعهم. الحادية عشر: كون النعمة أتتهم ولم يطلبوها. الثانية عشر: كونه منهم. الثالثة الجزء: 13 ¦ الصفحة: 307 عشر: تكذيبه مع هذا. الرابعة عشر: كون العذاب أخذهم بهذا السبب. الخامسة عشر: كونهم في تلك الحالة الظالمين. المائة: الأولى: قاعدة الشريعة: أن الأصل الحل. الثانية: أمره يالشكر. الثالثة: تنبيهه على ذكر الغلو. الرابعة: أن كل حلال فهو طيب. الخامسة: الشكر للنعمة من الفرائض، لكونه من شروط العبادة الخاصة. الحادية بعد المائة، الأولى: ذكر تحريم الأربع. الثانية: ذكر (إنما) التي تفيد الحصرة. الثالثة: الرخصة للمضطر. الرابعة: شروط ذلك. الخامسة: ختم الحكم بالصفتين. الثانية بعد المائة: الأولى: نهيه عن التحليل والتحريم بلا علم. الثانية: أن ذلك وصف السنة بالكذب. الثالثة: لام كي في قوله: {لتفتروا} . الرابعة: وعيد الفاعل. الخامسة. إزالة الشبهة بقوله: {مَتَاعٌ قَلِيلٌ} . الثالثة بعد المائة: الأولى: تحريمه على اليهود ما ذكر. الثانية: أنه سبب ظلمهم. الثالثة. تسمية ما حرم عليهم طيبات. الرابعة: تنْزيه نفسه عن الظلم. الخامسة. إثبات الظلم على من ظلم نفسه. الرابعة بعد المائة: الأولى: ذكر توبته عن العاصين. الثانية: قوله: {بجهالة} . الثالثة: ذكره الإصلاح مع التوبة. الرابعة: ذكر الربوبية في أول الكلام وآخره. الخامسة: ختم الحكم. الخامسة بعد المائة وثلاث بعدها: الأولى: ذكر تعظيمه الجزء: 13 ¦ الصفحة: 308 إبراهيم بما لا يعلم له نظير، الثانية. كونه أمة. الثالثة: قنوته. الرابعة: كونه حنيفا. الخامسة: تنْزيهه عن هذه الطائفة. السادسة: كونه شاكرا. السابعة: كونه اجتباه. الثامنة: هداه إلى صراط مستقيم. التاسعة. إعطاؤه في الدنيا حسنة. العاشرة: كونه في الآخرة مع هذه الطائفة. الحادية عشر. كون سيد المرسلين مأمورا باتباع ملته. التاسعة بعد المائة: ذكر فرض السبت عليهم. الثانية: ذكر الحصر بإنما. الثالثة: ذكر اختلافهم فيه. الرابعة: ذكر الوعيد. الخامسة: ذكر فصل جميع الاختلاف في ذلك اليوم. العاشرة بعد المائة: كونه مأمورا بالدعوة إلى سبيل ربه لا غير. الثانية: كونه بالحكمة. الثالثة: كونه بالموعظة الحسنة. الرابعة: المجادلة بالتي هي أحسن. الخامسة: تعزية المؤمن بعلمه سبحانه، بالمهتدي والضال. الحادية عشر بعد المائة: ذكر العدل حتى في حق الكفار. الثانية: ذكر أن الصبر أفضل ولو على الكفار. الثانية عشر بعد المائة، والتي بعدها: الأمر بالصبر. الثانية: لا يكون إلا بالله. الثالثة: نهيه عن الحزن عليهم. الرابعة: نهيه عن الضيق من مكرهم. الخامسة: تنبيهه أن الله مع الذين جمعوا بين الوصفين. وقال أيضا، رحمه الله تعالى: السادسة: قوله عز وجل في حق إبليس: {إِنَّمَا الجزء: 13 ¦ الصفحة: 309 سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} [سورة النحل آية: 100] . مع قوله في الآية الأخرى، إخبارا عن اللعين، أنه قال: {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلاّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي} [سورة إبراهيم آية: 22] ما معنى السلطان المثبت في الآية الأولى؟ والسلطان المنفي في الثانية؟ . فأجاب: أنه عنى بالسلطان المثبت هن: الولاية والاستيلاء على القلب، بحيث يكون في طاعته دائما؛ وهذا بخلاف الآية الأخرى، وهي قوله: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إ} [سورة الحجر آية: 42] قال أهل المعاني: يعني أن عبادي المنقادين لأمري {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [سورة الحجر آية: 42] فلا تقوى قلوبهم، لتصدهم عن ذكري. وقد سئل سفيان بن عيينة عن معنى قوله تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [سورة الحجر آية: 42] "تلقيهم في ذنب يضيق عنه عفوي; وهذه الإضافة للتشريك، لأن الله هداهم واجتباهم، وإلا الكل عبيد لله الصالح والطالح، لكن أولئك اختاروا طاعة إبليس على طاعة ربهم، وانقادوا له، فاستولى على قلوبهم" وأما معنى قوله، في الآية الأخرى: {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلاّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي} [سورة إبراهيم آية: 22] معناه أني لم يكن لي عليكم قهر وغلبة، فهذا استثناء منقطع، لكن دعوتكم من غير حجة على دعواي، ولا ولاية قهر وغلبة مني إليكم. {فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ} [سورة إبراهيم آية: 22] في طواعيتها وانقيادها إلي، من غير حجة ولا غلبة. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 310 وقال رحمه الله: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} [سورة النحل آية: 120] لئلا يستوحش سالك الطريق من قلة السالكين، {قَانِتًا لِلَّهِ} لا للملوك ولا للتجار المترفين، {حنيفا} لا يميل يمينا ولا شمالا، كفعل العلماء المفتونين {وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [سورة النحل آية: 120] خلافا لمن كثر سوادهم، وزعم أنه من المسلمين. {شَاكِراً لأَنْعُمِهِ} [سورة النحل آية: 121] ليس كمن نسي النعم، ونسبها إلى نفسه، فصار من المتكبرين {ِ اجْتَبَاهُ} [سورة النحل آية: 121] ليعلم أنه المتفرد بالفضل والتمكين {وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [سورة النحل آية: 121] لتعرف الاستقامة من الاعوجاج عن الحق المبين {وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً} [سورة النحل آية: 122] ليعلم أن الدنيا مع الآخرة في اتباع الدين {وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} [سورة النحل آية: 122] ترغيبا في زمرة الصالحين. ثم ختم هذا الثناء العظيم بالأمر الكبير والعصمة والقاعدة الكلية; فقال: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [سورة النحل آية: 123] تبيينا للناجين من الهالكين، وفرقانا بين المحققين والمبطلين، وبين الموحدين من المشركين. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 311 سورة الإسراء وسئل بعضهم: عن قول عائشة رضي الله عنها، في هذه الآية: {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً} [سورة الإسراء آية: 110] :"نزلت في الدعاء". ما معنى تنْزيل لفظ الآية على دعاء الله، مع أن إخفاء الدعاء أفضل؟ والذي نفهم في معنى الآية كلام ابن عباس: "أنها نزلت في قراءة النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة بأصحابه، فإذا سمع ذلك المشركون سبوا القرآن، وسبوا من أنزله ... الحديث". فأجاب: كلام ابن عباس رضي الله عنهما، هو الذي عليه جمهور العلماء، أن النّزول كان بسبب جهر النبي صلى الله عليه وسلم بقراءته في صلاته، فنهاه الله بهذه الآية عن الجهر بالقراءة في صلاته، لئلا يسمعه كفار قريش، فيسبون القرآن ومن أنزله، ومن جاء به، ولا يخافت به مخافتة لا يسمع بها نفسه، بل يكون بين ذلك بحيث يسمع نفسه، هكذا قال ابن عباس، وموافقوه من العلماء. وقالت عائشة، رضي الله عنها إنها نزلت في الدعاء، الذي هو الصلاة اللغوية لا الشرعية، وهذا الدعاء داخل في الشرعية، ولكن لم تنزل هذه الآية إلا بسبب الدعاء، فلا يجهر به جهرا مسمعا خارجا عن العادة، ولا يخافت به مخافتة لا يسمعه نفسه; بل يكون بين ذلك; وكلا المعنيين حق، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسمع بالقراءة، حتى نهاه الله عن السماع الجهري. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 312 وكذلك دعاء الله سبحانه وتعالى، لا يجهر به جهرا مسمعا; بل يخفيه إخفاء بحيث يسمع نفسه كبقية الذكر الذي في الصلاة وغيرها، وليس المقصود من فضيلة إخفاء الدعاء أنه لا يسمع نفسه; هذا المعنى لم يعنه أحد. وقد قال تعالى في الذكر، الذي هو أعم من القرآن والدعاء وغيرهما: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ} [سورة الأعراف آية: 205] ، قال العلماء: معناه: سرا بحيث تسمع نفسك {تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ} [سورة الأعراف آية: 205] فدلنا ذلك على أن الأمر في الدعاء الوسط، وهو بقدر ما يسمع الداعي نفسه، ما لم يكن الداعي إماما قانتا، والمأموم خلفه، فإنه يجهر بحيث يسمع من خلفه، كما جاء فيه الأثر. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 313 سورة الكهف قال الشيخ: محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى: ومن أول سورة الكهف، ذكر ابن عباس أن سبب نزولها:"أن قريشا بعثت النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط إلى أحبار يهود المدينة، فقالوا: سلوهم عن محمد، وصفوا لهم صفته، فإنهم أهل الكتاب الأول، ففعلوا. فقالوا: سلوه عن ثلاث، فإن أخبركم بهن فهو نبي مرسل، وإلا فهو متقول: سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الجزء: 13 ¦ الصفحة: 313 الأول، ما أمرهم؟ فإن لهم حديثا عجيبا. وسلوه عن طواف بلغ مشارق الأرض ومغاربها. وسلوه عن الروح. فأقبلا، فقالا: جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمد، فسألوه عن الثلاث، فقال: أخبركم، ولم يستثن. فمكث خمس عشرة ليلة لا يأتيه جبرائيل، فشق ذلك عليه، حتى جاءه بالسورة فيه المعاتبة على حزنه عليهم، وخبر مسائلهم" ففي الآية الأولى مسائل: الأولى: حمده نفسه على إنزال الكتاب، الذي هو أكره شيء أتاهم في أنفسهم; مع كونه أجل ما أعطاهم من النعم. الثانية: أن الإنزال على عبده، ففيه: إبطال مذهب النصارى والمشركين; وفيه: نعمته عليهم، حيث أنزل على رجل منهم. الثالثة: أنه أنزله معتدلا لا اعوجاج فيه; ففيه: معنى قوله: وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ} [سورة المؤمنون آية: 71] . الرابعة: أن الأعداء والمشبهين لا يجدون فيه مغمزا، بل ليس فيه إلا ما يكسرهم. وقوله: {لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ [سورة الكهف آية: 2] ذكر الفائدة في إنزاله، فذكر ثلاثا: الأولى: لينذر عذاب الله، فيصير سببا للسلامة منه. الثانية: بشارة من انقاد له بالحظ المذكور. الثالثة: الإنذار عن الكلمة العظمى التي تفوه بها من تفوه، تقربا إلى الله بتعظيم الصالحين. الرابعة: الدليل على أن كلامهم لم يصدر عن علم، الجزء: 13 ¦ الصفحة: 314 لا منهم ولا ممن قبلهم. الخامسة: تعظيم الكلمة، كما قال تعالى: {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ} [سورة مريم آية: 90] . السادسة: أن الكذب يسمى كذبا، ويسمى صاحبه كاذبا، ولو ظن أنه صادق، ويصير من أكبر الكذابين المفترين. وقوله: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ} [سورة الكهف آية: 6] أي: قاتلها أسفا على هلكتهم، ففيه: ما عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشفقة عليهم، وتسلية الله سبحانه له. وقوله: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا} [سورة الكهف آية: 7] فيه مسائل: الأولى: التسلية للمؤمن عمن أدبر. الثانية: أن حكمة الله التزيين، ليبين الأحسن عملا من غيره. الثالثة: أن جميعها يصير {صَعِيداً جُرُزاً} [سورة الكهف آية: 8] أي: لا نبت فيه. وقوله: {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً} [سورة الكهف آية: 9] يعني: أن قصتهم مع كونها عجيبة، فيها مسائل جليلة، أعظمها: الدلالة على التوحيد، وبطلان الشرك; والدلالة على نبوته صلى الله عليه وسلم ومن قبله; والدلالة على اليوم الآخر. ففي الآيات المشاهدة من خلق السماوات والأرض، وغير ذلك مما هو أعجب وأدل على المراد من قصتهم، مع إعراضهم عن ذلك؛ فأما دلالتها على التوحيد وبطلان الشرك فواضح، وأما دلالتها على النبوات فكذلك، كما جعلها أحبار يهود آية لنبوته. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 315 وأما دلالتها على اليوم الآخر، فمن طول مكثهم لم يتغيروا، كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا} [سورة الكهف آية: 21] ، وقوله: {إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ} [سورة الكهف آية: 10] الآية، فيه مسائل: الأولى: كونهم فعلوا ذلك عند الفتنة، وهذا هو الصواب عند وقوع الفتن، الفرار منها. الثانية: قولهم: {رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً} [سورة الكهف آية: 10] من عندك، لا نحصلها بأعمالنا، ولا بحيلنا. الثالثة: قولهم: {وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً} [سورة الكهف آية: 10] طلبوا من الله أن يجعل لهم من ذلك العمل رشدا، مع كونه عملا صالحا، فما أكثر ما يقصر الإنسان فيه، أو يرجع على عقبيه، أو يثمر له العجب والكبر، وفي الحديث: " وما قضيت لي من قضاء، فاجعل عاقبته رشدا " 1. وقوله تعالى: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدىً} [سورة الكهف آية: 13] إلى قوله: {مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً} [سورة الكهف آية: 16] فيه مسائل. الأولى: من آيات النبوة، وإليه الإشارة بقوله: {بالحق} . الثانية: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ} وهم الشبان، وهم أقبل للحق من الشيوخ، عكس ما يظن الأكثر. الثالثة: قوله: {آمَنُوا بِرَبِّهِمْ} فلم يسبقوا إلا بالإيمان بالله. الرابعة: ما في الإضافة إلى ربهم من تقرير التوحيد. الخامسة: في قوله: {وَزِدْنَاهُمْ هُدىً} [سورة الكهف آية: 13] أن من ثواب   1 أحمد (6/146) . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 316 الحسنة الحسنة بعدها، ومن عمل بما يعلم، أورثه الله تعالى علم ما لم يعلم. السادسة: أن المؤمن أحوج شيء إلى أن يربط الله على قلبه، ولولا ذلك الربط افتتنوا. السابعة: قولهم: {رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [سورة الكهف آية: 14] فهذه الربوبية هي الألوهية. الثامنة: المسألة الكبرى، أن من ذبح لغير الله أو دعا غيره فقد كذب بقول: لا إله إلا الله، وقد دعا إلهين اثنين، واتخذ ربين. التاسعة: المسألة العظيمة المشكلة على أكثر الناس، أنه إذا وافقهم بلسانه، مع كونه مؤمنا حقا، كارها لموافقتهم، فقد كذب في قوله لا إله إلا الله، واتخذ إلهين اثنين; وما أكثر الجهل بهذه، والتي قبلها! العاشرة: أن ذلك لو يصدر منهم، أعني: موافقة الحاكم فيما أراد من ظاهرهم، مع كراهتهم لذلك، فهو قوله: {شططا} والشطط: الكفر. الحادية عشر: قوله: {لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ} [سورة الكهف آية: 15] فهذه المسألة مفتاح العلم، وما أكبر فائدتها لمن فهمها! الثانية عشر: قوله: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً} [سورة الكهف آية: 15] ففيه: أن مثل هذا من افتراء الكذب على الله، وأنه أعظم أنواع الظلم، ولو كان صاحبه لا يدري، بل قصد رضى الله. الثالثة عشر: قوله: {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلاّ اللَّهَ [سورة الكهف آية: 16] فيه اعتزال أهل الشرك، واعتزال معبوديهم، وأن ذلك لا يجرك إلى ترك ما معهم من الحق، كما قال تعالى: الجزء: 13 ¦ الصفحة: 317 {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاّ تَعْدِلُوا} [سورة المائدة آية: 8] . الرابعة عشر: قوله: {فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ} [سورة الكهف آية: 16] فيه شدة صلابتهم في دينهم، حيث عزموا على ترك الرياسة العظيمة، والنعمة العظيمة، واستبدلوا بها كهفا في رأس جبل. الخامسة عشرة: حسن ظنهم بالله، ومعرفتهم ثمرة الطاعة، ولو كان مباديها ذهاب الدنيا، حيث قالوا: {يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً} [سورة الكهف آية: 16] . السادسة عشر: الدليل على الكلام المشهور أن التعب يثمر الراحة، والراحة تثمر التعب. السابعة عشر: عدم الاغترار بصورة العمل الصالح، فرب عمل صالح في الظاهر لا يثمر خيرات، أو عمل صالح يهيئ لصاحبه مرفقا. وقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ} [سورة الكهف آية: 19] فيه مسائل: الأولى: كما أماتهم لحكمة، بعثهم لحكمة. الثانية: أن الصواب في المسائل المشكلة عدم الجزم بشيء، بل قول: الله أعلم، فالجهل بها هو العلم. الثالثة: التورع في المأكل. الرابعة: كتمان السر. الخامسه: المسألة العظيمة، وهي قوله: إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً} [سورة الكهف آية: 20] : عرفوا أنه لا بد من أحد الأمرين; إما الرجم، وإما الإعادة في الملة، فإن وافقوا على الثانية لم يفلحوا أبدا، ولو كان في قلوبهم محبة الدين وبغض الكفر. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 318 وقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ} [سورة الكهف آية: 21] الآية فيه مسائل: الأولى: أن الإعثار عليهم لحكمة. الثانية: معرفة المؤمن إذا أعثر عليه {أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا} كما رد سبحانه موسى إلى أمه، لتعلم أن وعد الله حق؛ فتأمل هذا العلم ما هو. الثالثة: أن الساعة آتية لا ريب فيها لما وقع بينهم النّزاع; وذلك أن بعض الناس يزعم أن البعث للأرواح خاصة، فأعثر عليهم ليكون دليلا على بعث الأجساد. الرابعة: أن الذين غلبوا على أمرهم قالوا: لنتخذن عليهم مسجدا. فإذا تأملت ما قالوا، وأن الذي حملهم عليه محبة الصالحين، ثم ذكرت قوله صلى الله عليه وسلم " أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح أو العبد الصالح، بنوا على قبره مسجدا، وصوروا فيه تلك الصور. أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة " 1 عرفت الأمر. وقوله: {سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ} [سورة الكهف آية: 22] الآية فيه مسائل: الأولى: الإخبار بالغيب. الثانية: بيان الجهل والباطل بالتناقض. الثالثة: الإنكار على المتكلم بلا علم. الرابعة: إسناد الأمر في هذه المسائل إلى علم الله سبحانه. الخامسة: الرد على أهل الباطل بالإسناد إليه. السادسة: أن من العلماء من يعرف عدتهم لكنهم قليل.   1 البخاري: الصلاة (434) ، ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (528) ، والنسائي: المساجد (704) ، وأحمد (6/51) . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 319 السابعة: النهي عن المراء في شأنهم. الثامنة: الاستثناء. التاسعة: النهي عن استفتاء أحد من هؤلاء فيهم. وقوله: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً، إلا أن يشاء الله} [سورة الكهف آية: 23-24] فيه مسائل: الأولى: النهي عن مثل هذا الكلام. الثانية: الرخصة مع الاستثناء. الثالثة: الأمر بذكر الله عند النسيان. الرابعة: أن الاستثناء يقع في مثل هذا. الخامسة: هذا الدعاء عند النسيان، إن صح التفسير بذلك. وقوله: وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ} سورة الكهف آية: 25] إلى آخر الكلام فيه مسائل: الأولى: النص على مدة لبثهم. الثانية: الرد على المخالف، بقوله: {اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا} [سورة الكهف آية: 26] . الثالثة: الرد عليه بقوله: {لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [سورة الكهف آية: 26] . الرابعة: الرد عليه بقوله: {أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ} [سورة الكهف آية: 26] . الخامسة: قوله: {مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ} [سورة الكهف آية: 26] . السادسة: كونه: {لا يشرك في حكمه أحدا} [سورة الكهف آية: 26] . السابعة: النهي عن إشراك مخلوق في حكم الله، على قراءة الجزم. الثامنة: الحث على تلاوة الوحي، وإن عارضه لشبهة أو شهوة. التاسعة: تقريره ذلك بقوله: {لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} [سورة الكهف آية: 27] . العاشرة: تقرير ذلك بقوله: {وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً} [سورة الكهف آية: 27] . الحادية عشر: الكبيرة، وهي: أمره نبيه أن يصبر نفسه مع من ذكر. الثانية عشر: أنه لا يضر المؤمن كراهة نفسه لذلك إذا جاهدها. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 320 الثالثة عشر: أن بلوغهم هذه المرتبة، بسبب فعلهم ما ذكر. الرابعة عشر: أن صلاة البردين بالإخلاص توصل إلى المراتب العالية. الخامسة عشر: فيه قوله: " رب أشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبه له، لو أقسم على الله لأبره " 1. السادسة عشر: النهي عن طلوع العين عنهم، إرادة لمجالسة الأجلاء. السابعة عشر: المسألة الكبرى، وهي: اختلاف أمر الدنيا والآخرة عند الله. الثامنة عشر: أنه لما ذكر المحثوث على مجالستهم، ذكر ضدهم. التاسعة عشر: نهيه عن طاعة الضد. العشرون: سبب ذلك. الحادية والعشرون: ذكر الخصال الثلاث، إغفال القلب عن ذكر الله، واتباع الهوى، وانفراط الأمر. الثانية والعشرون: إثبات القدر، وهو الإغفال. الثالثة والعشرون: لا يخرجه من الذم أن قلبه يفهم غير ذلك فهما جيدا. الرابعة والعشرون: قوله: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ} [سورة الكهف آية: 29] الآية. وقال في قوله: {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [سورة الكهف آية: 49] تنْزيهه عن الفقر والحاجة، والجهل والخساسة، ولكونه الغني القوي. الثانية: كونه سبحانه هو الحكيم لنَزاهته عن الجهل والنقص، ولكونه القدوس السلام. وفي قصة موسى والخضر عليهما السلام مسائل: فالأولى: ما يتعلق بجلال الله وعظمته، وفيه مسائل:   1 الترمذي: المناقب (3854) . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 321 الأولى: معرفة سعة العلم، لقوله: "ما نقص علمي وعلمك" وهذا من أعظم ما سمعنا من عظمة الله. الثانية: الأدب مع الله، لقوله: "فعتب الله عليه". الثالثة: الأدب معه أيضا في قوله: {فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} [سورة الكهف آية: 79] وقوله: {فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا} [سورة الكهف آية: 82] . الرابعة: معرفة أنواع سعة جود الله تعالى، ومن ذلك العلم اللدني. الخامسة: الأدب معه تعالى، بمعرفة أن له أسرارا في خلقه تخفى على الأنبياء، فلا ينبغي الغفلة عن هذه المهمة. السادسة: الأدب معه في تعليق الوعد بمشيئة الله، مع العزم. السابعة: معرفة شيء من عظيم قدرة الله: من إحياء الموتى، وجعله سبيل الحوت في الماء طريقا، وغير ذلك، ومعرفة هذه مع الأولى هما اللتان خلق العالم العلوي والسفلي لأجل معرفتنا بهما. الثاني: ما يتعلق في أحوال الأنبياء، وفيه مسائل. الأولى: أن النبي يجوز عليه الخطأ. الثانية: أنه يجوز عليه النسيان. الثالثة: فضيلة نبينا صلى الله عليه وسلم بعموم الرسالة، لقوله: "موسى بني إسرائيل". الرابعة: ما جبل عليه موسى عليه السلام من الشدة في أمر الله. الخامسة: أنه لا ينكر إصابة الشيطان للأنبياء بما لا يقدح في النبوة، لقوله: {نسيا حوتهما} مع قوله: {وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلاّ الشَّيْطَانُ} [سورة الكهف آية: 63] . السادسة: ما عليه الإنسان من البشرية، ولو كان نبيا، وذلك من أدلة التوحيد، وذلك من الجزء: 13 ¦ الصفحة: 322 وجوه: منها قوله: {اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا} [سورة الكهف آية: 77] . الثالث: مسائل الأصول، وفيه مسائل، أعظمها التوحيد، ولكن سبق آنفا، فنقول: الأولى: الدليل على اليوم الآخر، لأن من أعظم الدلالة: إحياء الموتى في دار الدنيا. الثانية: إثبات كرامات الأولياء، على القول بعدم نبوة الخضر. الثالثة: أنه قد يكون عند غير النبي من العلم ما ليس عند النبي. الرابعة: إذا احتمل اللفظ معاني، فأظهرها أولاها، كما قال الشافعي. الخامسة: إثبات الصفات، كما هو مذهب السلف. الرابع. ما فيها من التفسير: الأولى: أن المذكور هو الخضر، لا كما قال الحر بن قيس. الثانية: أن موسى هو المشهور عليه السلام، خلافا لنوف 1. الثالثة: أن النبي صلى الله عليه وسلم فسر لهم ألفاظ القرآن كما بلغها. الرابعة: أن قوله: {أَلَمْ أَقُلْ لَكَ} أبلغ من قوله: (ألم أقل) . الخامسة: أن قوله: {يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً} [سورة الكهف آية: 79] المراد سفينة سالمة من العيب السادسة: أن غداهما هو الحوت. السابعة: أن قوله: {عجبا} أي: لموسى وفتاه. الثامنة:   1 ابن فضالة البكالي. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 323 أنه لا يجوز تفسير القرآن بما يؤخذ من الإسرائيليات، وإن وقع فيه من وقع. التاسعة: أن السلف يشددون في ذلك تشديدا عظيما، لقوله كذب عدو الله. العاشرة: أن الوعد على العمل الصالح ليس مختصا بالآخرة; بل يدخل فيه أمور الدنيا، حتى في الذرية بعد موت العامل. الخامس: آداب العالم والمتعلم، ففيه مسائل: الأولى: تسمية التلميذ الخادم: فتى. الثانية: أن تلك الخدمة مما يرفع الله بها، كما رفع يوشع. الثالثة: تعلم العالم ممن دونه. الرابعة: اتخاذ ذلك نعمة يبادر إليها، لا نقمة يبغضها. الخامسة: التعلم بعد الرياسة. السادسة: الرحلة في طلب العلم. السابعة: رحلة الفاضل إلى المفضول. الثامنة: ركوب البحر لطلب العلم. التاسعة: شروط الشيخ على المتعلم. العاشرة: التزام المتعلم للشروط. الحادية عشر: الاعتذار بالنسيان. الثانية عشر: قبول الاعتذار. الثالثة عشر: أدب المتعلم، لقوله: {هَلْ أَتَّبِعُكَ} إلى آخره. الرابعة عشر: قبول نصيحة الشيخ لعلمه منك ما لا تعلمه من نفسك، وإن كنت أفضل منه. الخامسة عشر: أن من المسائل ما لا يجوز السؤال عنه. السادسة عشر: أن من المسائل ما لا ينبغي للمسؤول أن يجيب عنها. السابعة عشر: إعفاء المعلم مما يكره. الثامنة الجزء: 13 ¦ الصفحة: 324 عشر: مفارقة المتعلم إذا خالف الشرط. التاسعة عشر: احتمال المشاق في طلب العلم، لقوله: {لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَباً} [سورة الكهف آية: 62] . السادس: ما فيها من مسائل الفقه: فالأولى: عمل الإنسان في مال الغير بغير إذنه، إذا خاف عليه الهلاك. الثانية: ليس من شروط الجواز خوف الهلاك، بل قد يجوز للإصلاح، لقصة الجدار. الثالثة: أنه ليس من شروط المسكين في الزكاة أنه لا مال له. الرابعة: أنه استدل بها على أنه أحسن حالا من الفقير. الخامسة: أنه لا بأس بالسؤال في بعض الأحوال، لقوله: {اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا} [سورة الكهف آية: 77] . السادسة: أن من لم يعط يتعز بهذه القصة، وكم ممن هان على الناس وهو جليل عند الله، وقد قيل: فإن رددت فما في الرد منقصة عليك قد رد موسى قبل والخضر السابعة: أن الإجازة تجوز بغير بعض الشروط التي شرط بعض الفقهاء. الثامنة: أنه يجوز أخذ الأجرة على العمل الذي لا يكلف، خلاف ما توهمه بعضهم. التاسعة: الترحم على الأنبياء، وأنه لا ينقص من قدرهم، بل هو من السنة. العاشرة: أن تمني العلم ليس من التمني المذموم. الحادية عشر: أن السلام ليس من خصائص هذه الأمة. الثانية عشر: كيف الجواب إذا سئل أي الناس أعلم. الثالثة عشر: الجزء: 13 ¦ الصفحة: 325 خطأ من قال بخلو الأرض من مجتهد. الرابعة عشر: التعزي باختيار الله، وحسن الظن فيما تكره النفوس. الخامسة عشر: الخوف من مكر الله عند النعم. السادسة عشر: أن قوله: {لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَباً} [سورة الكهف آية: 62] لا يعد من الشكوى. السابعة عشرة: الفرق بين المسألة المأمور بها والمنهي عنها، وإن كان معذورا بل مأجورا. الثامنة عشر: سفر الاثنين من غير ثالث للحاجة. التاسعة عشر: أن الخضر معروف عندهم في ذلك الزمان، لقوله: "لما عرفوه حملوه بغير نول" 1. العشرون: أن احتمال المنة في مثل هذا لا بأس به. الحادية والعشرون: شكره نعمة الخلق. السابع: المنثور والجامع: الأولى: القصة بجملتها من أعجب ما سمع، ولا يعرف في نوعها مثلها. الثانية: عين الحياة وما لله من الأسرار في بعض المخلوقات. الثالثة: ما ابتلي به موسى عليه السلام مما لا يحتمل، مع وعده الصبر، وتعليقه بالمشيئة. الرابعة: نسيان الفتى الحوت في ذلك اليوم وتلك الليلة وبعض اليوم الثاني، مع أنه لم يكلف إلا ذلك، ومع أنه زادهما يحمل على الظهر. الخامسة: الآية العظيمة في الماء   1 النول: جعل السفينة وثمن ركوبها. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 326 لما صار طاقا، 1 حتى قيل: إن هذا لم يقع إلا له منذ خلقت الدنيا. السادسة: أن الشيطان يتسلط تسلطا لا يعرف، لكونه تسلط على يوشع بالنسيان العجيب. السابعة: الفرق بين العبودية الخاصة والعبودية العامة. الثامنة: الرد على منكري الأسباب، لأنه سبحانه قادر على إنجاء السفينة، وتثبيت أبوي الغلام، وإخراج أهل الكنْز له بدون ما جرى. التاسعة: الرد على من قال: إن موسى لا يجوز له السكوت عنه، لأنه اعتذر بالنسيان، ولأنه لا يعد من نفسه ترك واجب. العاشرة: الحكم بالظاهر، لقوله عليه السلام: {نَفْسًا زَكِيَّةً} . الحادية عشر: تسمية المدينة قرية. الثانية عشر: أن التأويل في كلام الله وكلام العرب غير ما يريد المتأخرون. الثالثة عشر: أن المال قد يكون رحمة وإن كان مكنوزا. الرابعة عشر: أن فائدة طلب العلم للرشد. الخامسة عشر: نصيحة العالم المتعلم إذا أراد السؤال عن ما لا يحتمله. السادسة عشر: أن ذلك الممنوع قد يكون أفضل ممن يعرف ذلك. السابعة عشر: أن الكلام قد يقتصر فيه على المتبوع، لقوله: {فانطلقا} كما في قوله: {اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعاً} [سورة البقرة آية: 38] .   1 أي: حين انجاب الماء، فصار طاقة مفتوحة ... إلخ انظر صفحة: 168/ج/1 من فتح الباري. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 327 وقوله عز وجل قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} [سورة الكهف آية: 110] . فيها خمس مسائل: الأولى: كون الله فرض على نبيه أن يخبرنا عن نفسه الخبر الذي تصديقه: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} [سورة آل عمران آية: 128] . الثانية: فرض عليه إخبارنا بتوحيد الألوهية، وإلا فتوحيد الربوبية لم ينكره الكفار الذين كذبوه وقاتلوه. الثالثة: تعظيمه بقوله {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ} [سورة الكهف آية: 110] كما تقول لمن خالفك: كلامي مع من يدعي أنه من أمة محمد صلى الله عليه وسلم. الرابعة: أن من شروط الإيمان بالله واليوم الآخر أن لا يشرك بعبادة ربه أحدا؛ ففيه التصريح بأن الشرك في العبادة ليس في الربوبية؛ وفيه الرد على من قال: أولئك يستشفعون بالأصنام، ونحن نستشفع بالصالحين، لأنه قال: {وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} [سورة الكهف آية: 110] فليس بعد هذا بيان; وافتتح الآية بذكره، براءة للنبي صلى الله عليه وسلم الذي هو أقرب الخلق إلى الله وسيلة، وختمها بقوله: {أحدا} . اعلم رحمك الله: أنه لا يعرف هذه الآية المعرفة التي تنفعه، إلا من يميز بين توحيد الربوبية وبين توحيد الألوهية تمييزا تاما; وأيضا يعرف ما عليه غالب الناس، إما طواغيت ينازعون الله في توحيد الربوبية الذي لم يصل شرك المشركين إليه، وإما مصدق لهم تابع لهم، وإما رجل شاك الجزء: 13 ¦ الصفحة: 328 لا يدري ما أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا يميز بين دين الرسول ودين النصارى، والله أعلم. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 329 سورة طه سئل رحمه الله، عن معنى هذه الآية: {قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً} [سورة طه آية: 125] . فأجاب: اعلم رحمك الله أن الله سبحانه عالم بكل شيء، يعلم ما يقع على خلقه، وأنزل هذا الكتاب المبارك الذي جعله تبيانا لكل شيء وتفصيلا لكل شيء، وجعله هدى لأهل القرن الثاني عشر ومن بعدهم، كما جعله هدى لأهل القرن الأول ومن بعدهم. ومن أعظم البيان الذي فيه: بيان جواب الحجج الصحيحة، والجواب عما يعارضها، وبيان الحجج الفاسدة ونفيها، فلا إله إلا الله، ماذا حرمه المعرضون عن كتاب الله من الهدى والعلم؟ ! ولكن لا معطي لما منع الله. وهذه التي سئلت عنها، فيها بيان بطلان شبه يحتج بها بعض أهل النفاق والريب في زماننا. وهذا في قضيتنا هذه; وبيان ذلك: أن هذه في آخر قصة آدم وإبليس، وفيها من العبر والفوائد العظيمة لذريتهما ما يجل عن الوصف. فمن ذلك: أن الله أمر إبليس بالسجود لآدم، ولو فعل لكان فيه طاعة لربه وشرف له; ولكن سولت له نفسه أن الجزء: 13 ¦ الصفحة: 329 ذلك نقص في حقه إذا خضع لواحد دونه في السن، ودونه في الأصل على زعمه، فلم يطع الأمر، واحتج على فعله بحجة وهي: أن الله خلقه من أصل خير من أصل آدم، ولا ينبغي أن الشريف يخضع لمن دونه، بل العكس. فعارض النص الصريح بفعل الله الذي هو الخلق، فكان في هذا عبرة عظيمة لمن رد شيئا من أمر الله ورسوله واحتج بما لا يجدي، فلما فعل لم يعذره الله بهذا التأويل; بل طرده، ورفع آدم وأسكنه الجنة. وكان مع عدو الله من الحذق والفطنة ودقة المعرفة ما يجل عن الوصف، فتحيل على آدم حتى ترك شيئا من أمر الله، وذلك بالأكل من الشجرة، واحتج لآدم بحجج؛ فلما أكل لم يعذره الله بتلك الحجج، بل أهبطه إلى الأرض، وأجلاه عن وطنه. ثم قال: {اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً} [سورة طه آية: 123] يقول تعالى: لما أجليتكم عن وطنكم، فإن بعد هذا الكلام، وهو أني مرسل إليكم هدى من عندي، لا أكلكم إلى رأيكم، ولا رأي علمائكم، بل أنزل ربكم العلم الواضح الذي يبين الحق من الباطل، والصحيح من الفاسد، والنافع من الضار {لِئَلاّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [سورة النساء آية: 165] ومعلوم: أن الهدى هو هذا القرآن. فمن زعم: أن القرآن لا يقدر على الهدى منه إلا من الجزء: 13 ¦ الصفحة: 330 بلغ رتبة الاجتهاد، فقد كذب الله في خبره أنه هدى؛ فإنه على هذا القول الباطل لا يكون هدى إلا في حق واحد من الآلاف المؤلفة، وأما أكثر الناس فليس هدى في حقهم؛ بل الهدى في حقهم أن كل فرقة تتبع ما وجدت عليه الآباء، فما أبطل هذا من قول! وكيف يصح لمن يدعي الإسلام: أن يظن في الله وكتابه هذا الظن؟ ولما عرف الله سبحانه أن هذه الأمة سيجري عليها ما جرى على من قبلها، من اختلافهم على أكثر من سبعين فرقة، وأن الفرق كلها تترك هدى الله، إلا فرقة واحدة، وأن الفرق كلها يقرون بأن كتاب الله هو الحق لكن يعتذرون بالعجز، وأنهم لو يتعلمون كتاب الله ويعملون به لم يفهموه لغموضه، قال: فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى} [سورة طه آية: 123] : وهذا تكذيب لهؤلاء الذين ظنوا في القرآن ظن السوء; قال ابن عباس: "تكفل الله لمن قرأ القرآن وعمل بما فيه أن لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة" وبيان هذا: أن هؤلاء يزعمون أنهم لو تركوا طريقة الآباء واقتصروا على الوحي، لم يهتدوا، بسبب أنهم لا يفهمون، كما قالوا: {قُلُوبُنَا غُلْفٌ} فرد الله عليهم بقوله: {بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ} [سورة البقرة آية: 88] فضمن لمن اتبع القرآن أنه لا يضل كما يضل من اتبع الرأي، فتجدهم في المسألة الواحدة يحكون سبعة أقوال أو ستة ليس منها قول الجزء: 13 ¦ الصفحة: 331 صحيح، والذي ذكر الله في كتابه في تلك المسألة بعينها لا يعرفونه. والحاصل، أنهم يقولون: لم نترك القرآن إلا خوفا من الخطأ، ولم نقبل على ما نحن فيه إلا للعصمة، فعكس الله كلامهم، وبين أن العصمة في اتباع القرآن إلى يوم القيامة. وأما قوله تعالى: {وَلا يَشْقَى (: فهم يزعمون أن الله يرضى بفعلهم ويثيبهم عليه في الآخرة ولو تركوه واتبعوا القرآن لغلطوا وعوقبوا، فذكر الله أن من اتبع القرآن أمن من المحذور، الذي هو الخطأ عن الطريق وهو الضلال، وأمن من عاقبته وهو الشقاء في الآخرة. ثم ذكر الفريق الآخر الذي أعرض عن القرآن، فقال: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً} [سورة طه آية: 124] : وذكر الله هو القرآن الذي بين الله فيه لخلقه ما يحب ويكره، كما قال تعالى: {َمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} [سورة الزخرف آية: 36] الآيتين. فذكر الله لمن أعرض عن القرآن، وأراد الفقه من غيره عقوبتين: إحداهما: المعيشة الضنك، وفسرها السلف بنوعين: الأول: ضنك الدنيا; وهو: أنه إن كان غنيا سلط الله عليه خوف الفقر، وتعب القلب والبدن في جمع الدنيا، حتى يأتيه الموت ولم يتهن بعيش; والثاني: الضنك في البرزخ وعذاب القبر. وفسر الضنك في الدنيا أيضا بالجهل; فإن الشك الجزء: 13 ¦ الصفحة: 332 والحيرة لها من القلق وضيق الصدر ما لها; فصار في هذا مصداق قوله في الحديث عن القرآن: " من ابتغى الهدى من غيره أضله الله " 1 عاقبهم بضد قصدهم. فإنهم قصدوا معرفة الفقه، فجازاهم بأن أضلهم; وكدر عليهم معيشتهم بعذاب قلوبهم بخوف الفقر، وقلة غناء أنفسهم، وعذاب أبدانهم بأن سلط عليهم الظلمة والغبرة; وأغرى بينهم العداوة والبغضاء؛ فإن أعظم الناس تعاديا، هؤلاء الذين ينتسبون إلى المعرفة. ثم قال: {وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} والعمى، نوعان: عمى القلب، وعمى البصر; فهذا المعرض عن القرآن، لما عميت بصيرته في الدنيا عن القرآن، جازاه الله بأن حشره يوم القيامة أعمى. قال بعض السلف: أعمى عن الحجة، لا يقدر على المجادلة بالباطل، كما كان يصنع في الدنيا. {قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً [سورة طه آية: 125] فذكر الله أنه يقال له: هذا بسبب إعراضك عن القرآن في الدنيا، وطلبك العلم من غيره. قال ابن كثير في الآية: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي} [سورة طه آية: 124] أي: خالف أمري وما أنزلته على رسولي، أعرض عنه وتناساه; وأخذ من غيره هداه، {فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً} [سورة طه آية: 124] أي: في الدنيا، فلا طمأنينة له ولا انشراح ولا تنعم; ظاهره: أن قوما أعرضوا عن الحق، وكانوا في سمعة من الدنيا، فكانت معيشتهم ضنكا؛ وذلك أنهم كانوا يرون أن الله ليس مخلفا   1 الترمذي: فضائل القرآن (2906) ، والدارمي: فضائل القرآن (3331) . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 333 لهم معاشهم، مع سوء ظنهم بالله; ثم ذكر كلاما طويلا، وذكر ما ذكرته من أنواع الضنك، والله أعلم. [جواب الشيخ إبراهيم عن رسالة عبد الله آل جريس] قال الشيخ إبراهيم بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن، رحمهم الله تعالى: بسم الله الرحمن الر حيم من إبراهيم بن عبد اللطيف، إلى الأخ المحب الشيخ: عبد الله بن على آل جريس، سلمه الله تعالى، وجعله من الدعوة إليه وحسن البيان بمقام، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فأحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو - وهو للحمد أهل، وهو على كل شيء قدير - على ما أولاه من سوابغ نعمائه، وجزيل فضله وعطائه; والخط وصل، وصلك الله بالرضى والكرامة، وسلك بنا وبك سبل البر والاستقامة، وجعلنا وإياك ممن صدق في رضاه بالله ربا، وذاق طعم الإيمان بذلك، ووجده لديه عذبا. واعلم وفقك الله، أنك في زمان كثر شوكه، وقل ثمره، وأفلت شمس الحق فيه، وكسف قمره، وغلب على الأكثر الجهل بالحقائق الإيمانية، والأصول الإسلامية، وبعد العهد بآثار النبوة والرسالة، واندرست معالم العلم، وتكلم الجاهل بمحض الجهالة، واستصوب أكثر المنتسبين ما ذهب إليه وقاله، فإنا لله وإنا إليه راجعون، وحينئذ يبكي الإسلام، الجزء: 13 ¦ الصفحة: 334 من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد. وأوصيك بتقوى الله، والتماس ما يقرب إليه، والتمسك بالأثر عند فساد الزمان، والعض بالنواجذ عليه، وإن رغب عنه الأكثرون وهجره الأحقرون. وما ذكرت مما كتبه البعض، قولة عظيمة، وزلة وخيمة، لا تصدر من ذي فطرة سليمة; بل لا تصدر ممن عرف الله تعالى، وعرف ما تفرد به من الربوبية، والملك والتدبير، وما تنزه به وتقدس من أن يحتاج إلى عوين وظهير، قال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} [سورة سبأ آية: 22] وكلام المفسرين على هذه الآية، لا يخفى على من له أدنى إلمام بطلب العلم; وتكلم عليها تقي الدين بما فيه كفاية. والغرض التنبيه على المتكلم في التعبير، وإلا ففساد هذا وقبحه من أظهر شيء في الوجود، وعوام المسلمين بحمد الله يعلمون بطلان ذلك، بمجرد الفطرة، فضلا عن ذوي العلم والفكرة; وكذلك أهل الشرك معترفون بذلك. وأما ما ذكرت من قوله في المذاكرة: أشرك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنك أنكرت عليه نسبة ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأصبت وأحسنت، لأن ذلك جهل عظيم ومقال ذميم، وإضافة مثل هذا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقول به الجزء: 13 ¦ الصفحة: 335 مسلم يعقل ما يقول، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أجل وأعظم من أن يشرك بربه تعالى وتقدس. وإنما ذلك إلقاء من الشيطان على لسانه في نفس التلاوة ولم يعلم بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أمسى وأتاه جبريل، فقال: يا محمد ما صنعت؟ لقد تلوت على الناس ما لم آتك به عن الله عز وجل. فحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم حزنا شديدا، وخاف من الله خوفا عظيما، فأنزل الله عليه آية الحج تعزية له وتسلية، وكان به رحيما فأخبره جل وعلا: أن هذا ليس خاصا به، بل كل رسول ونبي قبله {إِذَا تَمَنَّى} أي: حدث وتلا {لْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} [سورة الحج آية: 52] أي: في تلاوته; فذهب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما وجده من الخوف والحزن، هذا ملخص ما ذكره أهل التفسير. ولم يقل أحد منهم: أشرك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك لكمال معرفتهم، وعظيم علمهم; ومن عدم العلم والخشية، وتكلم بجهل وظلم، فجنايته على الإسلام كبيرة؛ وفي مثل هؤلاء، قال قتادة: "والله ما آسى عليهم، ولكن آسى على من أهلكوا". وبالجملة: فالمتكلم بهذا يحمل على الجهل، فينبغي أن يعرف بخطئه، ويبين له برفق ولين، فإن رجح وأقر فهو المطلوب، والحق ضالة المسلم أينما وجده تبعه، وإن أبى إلا المكابرة والتعصب لصحة ما قاله والمثابرة، فيجب حينئذ على من عنده علم أن يقوم لله تعالى، الجزء: 13 ¦ الصفحة: 336 ويذكر بآياته، ويتكلم بحججه وبيناته لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} [سورة الأنفال آية: 42] ؛ ولولا ما علم من تفصيل الحكم في المخطئ والجاهل، لكان لنا شأن، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 337 [ومن سورة المؤمنون ] قال الشيخ: محمد رحمه الله تعالى، قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً} [سورة المؤمنون آية: 51] الآيات. فيه مسائل: الأولى: أن الله أمر الرسل بهذا مع اختلاف أزمنتهم وأمكنتهم، فيدل على أنه من عظيم الأمور. الثانية: أن الرسل إذا أمروا بذلك، فغيرهم أولى بالحاجة إلى ذلك، فأفاد أن هذا يحتاج إليه أعلم الناس حاجة شديدة. الثالثة: إذا فرض هذا على الرسل، مع اختلاف الأزمنة والأمكنة، فكيف بأمة واحدة، نبيها واحد، وكتابها واحد. الرابعة: أن الخطاب للرسل عام للأمم، بدليل قوله: {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ} . الخامسة: الأمر بالأكل من الطيبات، ففيه رد على الغلاة الذين يمتنعون عنها؛ وفيه رد على الجفاة الذين لا يقتصرون عليها. السادسة: الأمر بإصلاح العمل مع الأكل من الطيبات، ففيه رد على ثلاث طوائف. أولهم: الآكلون من الطيبات بلا شكر، والشكر هو العمل المرضي. وثانيهم: من يعمل الجزء: 13 ¦ الصفحة: 337 العمل غير الخالص، مثل المرائي وقاصد الدنيا. وثالثهم: الذي يعمل مخلصا، لكنه على غير الأمر. السابعة: المسألة العظيمة التي سيق الكلام لأجلها؛ وهي: فرض الاجتماع في المذهب، وتحريم الافتراق، فإذا فرضه على الأنبياء مع اختلاف الأزمنة والأمكنة، فكيف بأمة واحدة، ونبيها واحد، وكتابها واحد؟ الثامنة: ذكره سبحانه فعلهم الذي صدر منهم، بعد ما عرفوا الوصية العظيمة بالاجتماع، والنهي عن الافتراق، وأنهم تقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون؛ فذكر أنهم قابلوا الوصية بعدما سمعوها بما يضادها غاية المضادة; وهو أنهم تركوا الاجتماع وتفرقوا؛ ثم بعد ذلك كل فرقة صنفت لها كتبا غير كتب الآخرين، ثم كل فرقة فرحت بما تركت من الهدى، وفرحت بما ابتدعته من الضلال، كما قيل: حلفت لنا أن لا تخون عهودها ... فكأنها حلفت لنا أن لا تفي [ما ذكره الشيخ محمد بن عبد الوهاب على سورة النور] ومن كلامه رحمه الله، على سورة النور. فيه مسائل: الأولى: حد الزانية. الثانية: النهي عن الرأفة. الثالثة: قوله: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [سورة النور آية: 2] . الرابعة: تحريم نكاح الزانية. الخامسة: ما ذكر الله في رمي المحصنات ما لم يأتوا بالبينة. السادسة: رد شهادتهم. السابعة: كون الله سبحانه استثنى التوبة والإصلاح. الثامنة: ما ذكر الله في رمي الإنسان زوجته، وفيها من الجزء: 13 ¦ الصفحة: 338 الأحكام أنها إذا لم تلاعن ترجم. التاسعة: قوله {لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ} [سورة النور آية: 11] أن ما يبتلى به الإنسان قد يكون خيرا له. العاشرة: أن هذه المسألة قد تشكل على أعلم الناس، حتى يبين له ذلك، كما أشكل على أبي بكر; وقوله: {وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ} [سورة النور آية: 11] إلى آخره; أن الإنسان يفرح بالشيء وهو شر له. الحادية عشر: حسن الظن بالمسلم إذا سمع فيه مثل هذا الكلام; وأن يقول السامع: هذا إفك مبين، ولو من توري الإنسان. الثانية عشر: ما ذكر الله من الشرط، وهي من أجل المسائل: أن لا بد من أربعة شهداء. الثالثة عشر: أنهم إن لم يأتوا بهذا الشرط، أنهم عند الله هم الكاذبون. الرابعة عشر: تعظيم هذا النوع، ولو لم يكن فيه إلا التلقي بالألسن. الخامسة عشر: أنه من القول بما ليس له به علم. السادسة عشر: أن الذنب قد يكون عند الله عظيما، ويخفى على أكثر الناس. السابعة عشر: أن الواجب عليهم، أن يقولوا: {مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا} [سورة النور آية: 16] الثامنة عشر: أن الله عظم هذه، وشرط فيها الإيمان؛ وخفي على أولئك. التاسعة عشر: أن الله توعد من أحب تشييع الفاحشة في الذين آمنوا، وإن لم يعلموا. العشرون: أنه توعده بعذاب الدنيا قبل الآخرة. الحادية والعشرون: أنه نهى عن اتباع خطوات الشيطان، فيدل على أن المحذور الذي وقعوا فيه، من خطوات الشيطان. الثانية: الجزء: 13 ¦ الصفحة: 339 والعشرون: أن {لا يأتل} أن لا يعمل معروفا في الظالم، إذا كان من أهل هذه الخصال. الثالثة والعشرون: الأمر بالعفو والصفح. الرابعة والعشرون: النهي عن رمي المحصنات، وعدها رسول الله صلى الله عليه وسلم من السبع الموبقات الخامسة والعشرون: قوله: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ} [سورة النور آية: 26] الآية، إن فسرت الخبيثات بالكلمات، كان هذا من أعظم الخوف. السادسة والعشرون: النهي عن دخول بيت الغير إلا بهذا الشرط، وهو الإذن. السابعة والعشرون: إذا كان البيت خاليا يدخل. الثامنة والعشرون: إذا قيل له ارجع، فيرجع وهو أزكى; فلا يجوز له أن يغضب، أو يظنه منقصة. التاسعة والعشرون: الرخصة في دخول البيت، إذا كان فيه متاع للمسافر. الثلاثون: الأمر بغض البصر. الحادية والثلاثون: الأمر بحفظ الفرج. الثانية والثلاثون: أمر النساء بغض البصر. الثالثة والثلاثون: أمرهن بحفظ الفرج. الرابعة والثلاثون: النهي عن إبداء الزينة، إلا للأصناف المذكورة. الخامسة والثلاثون: النهي عن الضرب بالأرجل ليسمع صوت الخلخال. السادسة والثلاثون: الأمر بالتوبة، وإن كانت عامة فهي في هذا الموضع خاصة. السابعة والثلاثون: الأمر بإنكاح الأيامي. الثامنة والثلاثون: الأمر بإنكاح الصالحين من العبيد والإماء. التاسعة والثلاثون: الأمر بموافقة العبيد في المكاتبة، إذا علمت فيه الجزء: 13 ¦ الصفحة: 340 خيرا. الأربعون: الأمر بمعاونتهم ببعض المال. الحادية والأربعون: النهي عن إكراه الفتيات على البغاء. الثانية والأربعون: إخباره سبحانه أنه غفور رحيم، من بعد إكراههن. الثالثة والأربعون: مثل النور الذي أنزله الله في قلوب العبيد بهذا المثل العظيم. الرابعة والأربعون: قوله {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ} [سورة النور آية: 36] تعظيما. الخامسة والأربعون: وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [سورة النور آية: 36] . السادسة والأربعون: قوله {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [سورة النور آية: 37] يبيعون ويشترون، لكن إذا جاء أمر الله قدموه. السابعة والأربعون: تمثيل أعمال الكافر بالسراب، الذي يحسبه الظمآن ماء. الثامنة والأربعون: ذكر المثل الثاني {أَوْ كَظُلُمَاتٍ} الآية. التاسعة والأربعون: قولهم: {آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا} [سورة النور آية: 47] ، ولم يأتوا بشروطه. الخمسون: ذكره أنهم إذا دعوا إلى الله ورسوله أعرضوا، وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين. الحادية والخمسون: ذكر الشرط في قوله: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [سورة النور آية: 51] الآية. الثانية والخمسون: ذكره النهي عن القسم، لقوله: {قُلْ لا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ} [سورة النور آية: 53] . الثالثة والخمسون: الأمر بطاعته وطاعة رسوله، ومن تولى فإنما على رسوله ما حمل وعليكم ما حملتم. الرابعة والخمسون:، قوله: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 341 تَهْتَدُوا} [سورة النور آية: 54] ، وذكر أن الهدى في طاعتة، إلى قوله: {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [سورة النور آية: 54] . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 342 [ومن سورة النمل ] قوله تعالى: {قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [سورة النمل آية: 18] : ذكر بعضهم أنها تشتمل على عشرة أحكام، أفيدونا أثابكم الله الجنة. أجاب الشيخ: سليمان بن سحمان، رحمه الله تعالى: الحمد لله وحده، قال ابن القيم رحمه الله تعالى، على هذه الآية - بعد كلام ذكره -: فاستفتحت خطابها بالنداء الذي يسمعه من خاطبته، ثم أتت بالاسم المبهم، ثم أتبعته بما بينه من اسم الجنس إرادة للعموم; ثم أمرتهم بأن يدخلوا مساكنهم، فيتحصنوا من العسكر، ثم أخبرت عن سبب هذا الدخول، وهو خشية أن يصيبهم معرة الجيش، فيحطمهم سليمان وجنوده، ثم اعتذرت عن نبي الله وجنوده بأنهم لا يشعرون بذلك ... إلى أن قال: ثم أمرتهم أن يدخلوا مساكنهم المختصة بهم; فقد عرفت النمل أن لكل طائفة منها مسكنا لا يدخل عليهم فيه سواهم. ثم قالت: قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [سورة النمل آية: 18] فجمعت بين اسمه وعينه، وعرفته بها، وعرفت جنوده وقائدها؛ ثم قالت: {وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [سورة النمل آية: 18] . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 342 فكأنها جمعت بين الاعتذار عن معرة الجيش بكونهم لا يشعرون، وبين لوم أمة النمل حيث لم يأخذوا حذرهم ويدخلوا مساكنهم؛ فهذه عشر جمل، وقد ذكرها في "مفتاح دار السعادة" على التفصيل فليراجع. والله أعلم. [تفسير الشيخ ابن تيمية لآيات أشكلت من سورة النمل] قال الشيخ: محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى. قال شيخ الإسلام، رحمه الله في تفسير آيات أشكلت: ومنها قوله: مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا} [سورة النمل آية: 89] الآية: ذكر أن المشهور عن السلف: أن الحسنة لا إله إلا الله، وأن السيئة الشرك; ثم ذكر عن السدي، قال: ذلك عند الحساب ألفي بدل; كل حسنة عشر سيئات، فإن بقيت سيئة واحدة فجزاه النار، إلا أن يغفر الله له. قلت: تضعيف الحسنة إلى عشر، وإلى سبعمائة، ثابت في الصحاح; وأن السيئة مثلها; وأن الهم بالحسنة حسنة، والهم بالسيئة لا يكتب; فأهل القول الأول قالوه لأن أعمال البر داخلة في التوحيد، فإنه عبادة لله بما أمر به، كما قال تعالى: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ} [سورة البقرة آية: 112] الآية. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 343 سورة القصص وقال أيضا: الشيخ محمد، رحمه الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم {طسم تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِنَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَأِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [سورة القصص آية: 1-3] . فيه مسائل: الأولى: التنبيه على جلالة القرآن وعظمته. الثانية: التنبيه على وضوحه; وقوله: {بِالْحَقِّ} فيه علامة النبوة. الثالثة: أن العلم بين يعرفه أهل القرآن والإيمان، وإن جهله غيرهم. وقوله: {إنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ} [سورة القصص آية: 4] إلى آخره: فيه: ذم العلو في الأرض. الثانية: ذم جعل الرعية شيعا. الثالثة: التنبيه على كبر هذا الظلم. الرابعة: التسجيل عليه أنه من هذه الطائفة; فمن أراد من الرؤساء أن يكون مثله فهذا فعله، ومن أراد اتباع الخلفاء الراشدين، فقد بان فعلهم. وقوله: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ} [سورة القصص آية: 5] إلى آخره: هذه الإرادة القدرية بخلاف قوله: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ [سورة الأحزاب آية: 33] وأمثالها، فهي: إرادة شرعية. الثانية: أن ابتلاءهم بالاستضعاف سبب المنة عليهم، الجزء: 13 ¦ الصفحة: 344 وكونهم أئمة، وكونهم الوارثين، والتمكين لهم في الأرض، وتعريف عدوهم بما يحذره، فهذه خمس فوائد نتيجة تلك البلوى. الثالثة: تبيين قدرته العظيمة لعباده. الرابعة: أن الحذر لا يفك من القدر. وقوله: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ} [سورة القصص آية: 7] إلى آخره: هذا وحي إلهام، ففيه: إثبات كرامات الأولياء. الثانية: أنها أمرت بإلقائه في اليم، وبشرت بأربع; وقوله: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ} [سورة القصص آية: 8] فيه: حكمة هذا الالتقاط. الثانية: أن الإنسان قد يختار ما يكون هلاكه فيه. الرابعة: أن ذلك القدر بسبب خطايا سابقة. وقوله: {وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ} [سورة القصص آية: 9] إلى آخره: فيه أن المرأة الصالحة قد يتزوجها رجل سوء. الثانية: قولها: {قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ} [سورة القصص آية: 9] فيه: محبة الفأل. الثالثة: ذكر الترجي. الرابعة: عدم الشعور. وقوله: {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغاً} [سورة القصص آية: 10] الآية: فيه: ما ابتليت به. الثانية: لولا منة الله عليها بالربط. الثالثة: لتكون من المؤمنين. الرابعة: أن الإيمان يزيد وينقص. وقوله: {وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ} [سورة القصص آية: 11] الآية: فيه: أن التوكل واليقين، لا ينافي السبب. الثانية: تسبب الأخت أيضا. الثالثة: عدم شعورهم، مع ذكائهم وظهور العلامات. وقوله: {وحرمنا عليه المراضع} الآية: [سورة القصص الجزء: 13 ¦ الصفحة: 345 آية: 12] هذا التحريم قدري; وأما قوله: {حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} [سورة النساء آية: 160] وأمثالها، فتحريم شرعي. الثانية: أن هذه العلامة الظاهرة في كلامها، ولم يفهموه مع فطنتهم. وقوله: {فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ} [سورة القصص آية: 13] إلى آخره فيه الرد لثلاث فوائد. الثانية: تفاوت مراتب العلم، لقوله {وَلِتَعْلَمَ} . الثالثة: أن بعض المعرفة لا يسمى علما، فيصح نفيه من وجه، وإثباته من وجه. الرابعة: المسألة العظيمة الكبيرة: تسجيل الله تبارك وتعالى على الأكثر أنهم لا يعلمون أن وعده حق. وقوله: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى} [سورة القصص آية: 14] فيه: أن ذلك الإيتاء بعد بلوغ الأشد والاستواء. الثانية: الفرق بين العلم والحكم. الثالثة: ذكره أنه يفعل ذلك بالمحسنين، كما فعل ضده مع الذين كانوا خاطئين. الرابعة: ترغيب عباده في الإحسان. الخامسة: أن من جزاء الحسنة الحسنة بعدها. السادسة: فيه سر من أسرار القدر. وقوله: {وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ} [سورة القصص آية: 15] إلى آخره فيه: أن الرجل الصالح قد يسخر له الفاجر، وينشأ في حجره. الثانية: أنه قد ييسر الله الكمال العظيم بسبب أعظم المكروهات. الثالثة: أن قتل الرجل صار ذنبا. الرابعة: نسبة ذلك إلى عمل الشيطان. الخامسة: قوله: {إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ} [سورة القصص آية: 15] . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 346 السادسة: ذكر توبته عليه السلام. السابعة: ذكر مغفرة الله له. الثامنة: ذكر سبب المغفرة. التاسعة: شكر نعمة الخلق، العاشرة: كون شكرها عدم مظاهرة المجرمين. وقوله: فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ} [سورة القصص آية: 18] إلى آخره: فيه: أن هذا الخوف غير المذموم في قوله: {َلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاّ اللَّهَ} [سورة الأحزاب آية: 39] . الثانية: أن ذلك الترقب لا يذم. الثالثة: ما جبل عليه صلى الله عليه وسلم من الشدة. الرابعة: قوله لذلك الرجل: {إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ} [سورة القصص آية: 18] أن مثل ذلك لا يذم. الخامسة: العمل بالقرائن. السادسة: الفرق بين إرادة الصلاح بالقوة، وبين إرادة الفساد في الأرض بالتجبر. وقوله: {وَجَاءَ رَجُلٌ} إلى آخره: فيه: قوة ملكهم. الثانية: ما عليه الرجل من محبة الحق وأهله. الثالثة: تأكيده عليه بالأمر بالخروج، وذكره له أنه له من الناصحين بعد النذارة. وقوله: {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ} [سورة القصص آية: 21] . فيه: أن ذلك الخوف والترقب لا يذم. الثانية: استغاثته بالله، مع فعله السبب. الثالثة: أن كراهة الموت لا تذم. الرابعة: أن الظالم يوصف بالظلم، وإن كان في تلك القضية غير ظالم. وقوله: {وَلَمَّا تَوَجَّهَ} إلى آخره: فيه: أنه توجه من غير سبب. الثانية: سؤاله الله أن يدله الطريق. الثالثة: أن عسى في هذا الموضع سؤال. وقوله: {وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ} [سورة القصص الجزء: 13 ¦ الصفحة: 347 آية: 23] إلى آخره: فيه: ما أعطى عليه السلام من القوة. الثانية: إحسانه إليهما في هذه الحال. الثالثة: مخاطبة النساء لمثله. الرابعة: ظهور النساء في خدمة أموالهن للحاجة. الخامسة: تأدبها في عدم مزاحمة الرجال. السادسة: ذكر إهماله السبب. السابعة: أن المانع له عدم القوة، لا الترتيب. الثامنة: سؤاله ربه القوت. التاسعة: تأدبه في السؤال بذكر حاله للاستعطاف. العاشرة: أن الشكوى إلى الله لا تذم. وقوله: {فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا} إلى آخره: فيه: التنبيه على الحياء. الثانية: الثناء على المرأة. الثالثة: إرسالها إلى الرجل المجهول حاله للحاجة. الرابعة: عدم إنكاره للأجرة على العمك الصالح. الخامسة: قوله: {لا تَخَفْ} لأنهم ليس لهم سلطان عليهم. السادسة: كونهم معروفين بالظلم عندهم. وقوله: {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا} [سورة القصص آية: 26] إلى آخره. فيه: أن المرأة قد تصيب وجة الرأي. الثانية: ما أعطيت من الذكاء. الثالثة: أن طاعتها في مثل هذا لا تذم. الرابعة: الولاية لها ركنان: القوة والأمانة، فالأمانة ترجع إلى خشية الله، والقوة ترجع إلى تنفيذ الحق. الخامسة: أن الاحتياط للمال لا يذم. وقوله: {قَالَ إِنِّي أُرِيدُ} إلى آخره: فيه: أن هذه الإجارة صحيحة، بخلاف قول كثير من الجزء: 13 ¦ الصفحة: 348 الفقهاء من منعهم الإجارة بالطعام والكسوة، للجهالة. الثانية: أن المنفعة يصح جعلها مهرا للمرأة، خلافا لمن منع ذلك. الثالثة: أن هذه المهنة لا نقص فيها، كيف وقد قال صلى الله عليه وسلم: " ما بعث الله نبيا إلا رعى الغنم." 1. الرابعة: أنها صفة كمال، لا يكمل الإنسان إلا بها. الخامسة: أن ذكر مثل هذا في الإجارة، وهي قوله: {أَيَّمَا الأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ} [سورة القصص آية: 28] لا يبطل الإجارة. السادسة: المسألة الكبيرة الدقيقة، وهي: قوله صلى الله عليه وسلم: "قضى أطيب الأجلين" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قال فعل. السابعة: تأكيد العقد بقوله: {وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} [سورة القصص آية: 28] . وقوله: {فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ} [سورة القصص آية: 29] ؛ فيه: أنه أقام هذه المدة، أجرته فيها طعام بطنه وعفة فرجه. الثانية: تسمية ذلك النور نارا. الثالثة: هذا الفرج بعد الشدة، الذي أفرد بالتصنيف، ولم يذكروا لهذه نظيرا ولا ما يقاربها. الرابعة: أنهم مع هذه الشدة بالبرد، ولا نار معهم. الخامسة: أنهم ضلوا الطريق. السادسة: جواز مثل هذا السفر للحاجة. السابعة: ذكر الموضع الذي ناداه منه. الثامنة: إثبات الصفات. التاسعة: الرد الواضح على الجهمية في قولهم: هذا عبارة. العاشر: تقريبه نجيا، فذكر النداء والمناجاة. الحادية   1 البخاري: الإجارة (2262) ، وابن ماجه: التجارات (2149) . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 349 عشر: اختصاص موسى بهذه المرتبة، ولذلك ذكرها إبراهيم عليه السلام، إذا طلبت منه الشفاعة الثانية عشر: كونه أمر بإلقاء العصا، فصارت آية. الثالثة عشر: كونه أمر بإدخال اليد، فتكون آية أخرى. الرابعة عشر: كونه {وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ} [سورة القصص آية: 31] . الخامسة عشر: قوله {أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ} [سورة القصص آية: 31] . السادسة عشر: تبشيره أنه من الآمنين. السابعة عشر: كونه أمر بضم جناحه من الرهب. الثامنة عشر: تسميتهما برهانان. التاسعة عشر: كونه من ربك. العشرون: كونها إلى فرعون وملئه. الحادية والعشرون: التعليل بأنهم قوم ظالمون. الثانية والعشرون: هذه العطية العظيمة، في هذه الشدة العظيمة. الثالثة والعشرون: اعتذاره بقتل النفس، والخوف منهم. الرابعة والعشرون: اعتذاره برثاثة لسانه. الخامسة والعشرون: طلبه الاعتضاد بأخيه. السادسة والعشرون: طلبه الرسالة. السابعة والعشرون: تعليله بخوف تكذيبهم. الثامنة والعشرون: إجابة الله إياه. التاسعة والعشرون: تبشيره أنه يجعل لهما سلطانا فلا يصلون إليهما. الثلاثون: تبشيره بغلبته وغلبة أتباعه. وقوله: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآياتِنَا} [سورة القصص آية: 36] إلى آخره: فيه: أنه أتاهم بآيات منسوبة إلى الله، وأنها بينات. الثانية: أنهم قابلوها بما ذكر. الثالثة: أنهم الجزء: 13 ¦ الصفحة: 350 احتجوا لقولهم فيها بعدم سماعهم بهذا في آبائهم. الرابعة: جواب موسى عليه السلام. وقوله: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ} [سورة القصص آية: 38] إلى آخره: فيه: هذا الإنكار، الذي هو غلبة الكفر. الثانية: قوله: {فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ} [سورة القصص آية: 38] كيف تصرف الله في عقول العاصين. الثالثة: استدل بها الأئمة على الجهمية. وقوله: {وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الأَرْضِ سورة القصص آية: 39] : وصفهم بأن فيهم المهلك، وأنهم عدموا المنجى، ولذلك أخذهم بما ذكر. الثانية: أمر المؤمن بالنظر في عاقبتهم. الثالثة: أنه أتى بلفظ الظالمين، ليبين أن ذلك ليس مختصا بهم. وقوله: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ} [سورة القصص آية: 41] هذا الجعل القدري; وأما قوله: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ} [سورة المائدة آية: 103] وأمثاله فهذا الجعل الشرعي. الثانية: أن معرفة هذا يوجب الحرص على النظر في الأئمة، إذا كان منهم من جعله الله يدعو إلى النار، ومنهم من قال فيه: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} [سورة الأنبياء آية: 73] . الثالثة: ذكر ما لهم في القيامة. الرابعة: ما أبقى لهم على ألسنة الناس في الدنيا. الخامسة: مآلهم في الآخرة. [الزيادة التي في سورة طه في قصة سيدنا موسى] وأما الزيادة التي في سورة (طه) 1.   1 أي: على ما في سورة القصص، من المسائل في قصة موسى وفرعون وقومه ... إلخ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 351 فالأولى: استفهام التقرير، الدال على عظمة القصة، والتحريض على فهمها. الثانية: {أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً} [سورة طه آية: 10] دليل على أنه ضل الطريق. الثالثة: أمره بخلع النعلين. الرابعة: إخباره أنه بذلك الوادي. الخامسة: الإخبار بأنه مطهر. السادسة: تبشيره بأن الله اختاره. السابعة: أمره بالاستماع. الثامنة: أن أول ذلك أكبر المسائل على الإطلاق، وهو: تفرده بالإلهية. التاسعة: أمره بلازم التوحيد; وهو: إفراده بالعبادة. العاشرة: أمره بإقامة الصلاة. الحادية عشر: تعليل ذلك. الثانية عشر: وقت الإقامة. الثالثة عشر: قوله: {إن الساعة آتية} [سورة طه آية: 15] إلى آخره لما ذكر الإيمان بالله، ذكر الإيمان باليوم الآخر. الرابعة عشر: أنه علة الإيمان بالله. الخامسة عشر: مبالغته سبحانه في إخفائها. السادسة عشر: ذكر الحكمة في إقامتها. السابعة عشر: تحذيره من صاحب السوء. وقوله: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى} [سورة طه آية: 17] إلى آخره: فيه: سؤاله عنها وهو أعلم. الثانية: جوابه عليه السلام. الثالثة: أمره بأخذها ولا يخاف، فإنه سيعيدها. الرابعة: أن ذلك من الآيات الكبرى. الخامسة: تعليله الذهاب إلى فرعون بطغيانه. السادسة: سؤاله عليه السلام. السابعة: أنه لم يسأل حل لسانه، بل عقدة منه. الثامنة: أن مراده ليفقهوا كلامه. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 352 التاسعة: أنه علل ما سأله لأجل يسبحانه كثيرا، ويذكرانه كثيرا. العاشرة: تعليله بقوله: {إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيراً} [سورة طه آية: 35] . الحادية عشر: إجابة سؤاله. الثانية عشر: ذكره منته عليه من قبل بثمانية أمور. الثالثة عشر: نهيهما أن لا ينيا في ذكره. الرابعة عشر: رفقه سبحانه ومحبته للرفق. الخامسة عشر: تعليل الرفق. السادسة عشر: الفرق بين التذكر والخشية. السابعة عشر: شكواهما إلى الله. الثامنة عشر: جواب الله لشكواهما. وقوله: {فَأْتِيَاهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ} [سورة طه آية: 47] إلى آخره: فيه: من الرفق والتلطف أمور; أحدها: {إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ} [سورة طه آية: 47] فإن أطعت ما أطعت إلا هو. الثاني: {فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرائيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ} [سورة طه آية: 47] فالمطلوب: أن يرسل جيرانه ورعيته، ولا يعذبهم. الثالث: {قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ} [سورة طه آية: 47] فربك قد قطع عذرك. الرابع: إضافته إلى الله. الخامس: {وَالسَّلامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى} [سورة طه آية: 47] أي: هذا هو الذي فيه السلامة، التي هي مطلوبة لكل أحد، خصوصا الملوك. السادس: {إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا} [سورة طه آية: 48] الآية: أي: كما دللناك على أمور السلامة، بينا لك طريق الهلاك. السابع: لم يقولا إن العذاب لك إذا توليت، بل كلام عام. الثامن: ذكر سبب العذاب. التاسع: الفرق بين التكذيب والتولي. وقوله: {قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى} [سورة طه آية: 49] إلى آخره: هذا جواب اللعين، بهذا الكلام اللين. الثانية: الجزء: 13 ¦ الصفحة: 353 جواب موسى عليه السلام، الجواب الباهر. الثالثة: التفكر في الخلق والهداية، الرابعة: جواب اللعين عن هذا. الخامسة: جواب موسى عليه السلام عن شبهته، وهي من أجل الفوائد عند المناظرة. السادسة: ذكر العلم والكتاب، ليس لخوف نسيان أو خطأ. السابعة: الاستدلال بالآيات الأرضية والسماوية. الثامنة: ذكر إسباغ نعمته. التاسعة: ذكرإن في ذلك لآيات، لكن لهذه الطائفة. العاشرة: لما ذكر الأرض ذكر ما جرى لنا، وما يجري لنا فيها. وقوله: {وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى} [سورة طه آية: 56] فيه الفرق بين التكذيب والإباء، الثانية: ما أكثر الله له ولقومه من الآيات. الثالثة: مكابرته في تسمية ذلك سحرا. الرابعة: رميه موسى بنية طلب الملك. الخامسة: معارضته آيات الله بالسحر. السادسة: اهتمامه بذلك الموعد. السابعة: ادعاء الإنصاف بقوله: {سوى} . الثامنة: إجابة موسى إياه. التاسعة: ذكر جميع كيده قبل إتيانه. العاشرة: وعظ موسى إياهم. الحادية عشر: كونه يقول: {لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً} [سورة طه آية: 61] . الثانية عشر: قوله: {وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى} سورة طه آية: 61] كلمة جامعة. الثالثة عشر: سرهم بينهم بما ظنوه في موسى الجزء: 13 ¦ الصفحة: 354 وأخيه. الرابعة عشر: اغترارهم بطريقتهم. الخامسة عشر: ذكرهم الاجتماع والإتيان صفا. السادسة عشر: قولهم: {َقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى} [سورة طه آية: 64] . السابعة عشر: ادعاؤهم الإنصاف في الخصومة. الثامنة عشر: كونه اختار إلقاءهم أولا. التاسعة عشر: هذا السحر العظيم. العشرون: أمره له بإلقاء العصا. الثالثة والعشرون: ما فعلت العصا. الرابعة والعشرون: القاعدة الكلية {إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} [سورة طه آية: 69] . الخامسة والعشرون: ما فعل السحرة من سرعة انقيادهم لما عرفوا، وفعلهم، وقولهم. السادسة والعشرون: كون الإيمان برب هارون وموسى. السابعة والعشرون: قوله لهم، وما ذكر أنه يفعل بهم. الثامنة والعشرون: جوابهم لهذا الطاغي القادر، وهي سبع جمل كل جملة مستقلة. [الزيادة التي في سورة الأعراف في قصة سيدنا موسى] وفي سورة الأعراف من الزيادة: قوله عليه السلام: {حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلاّ الْحَقَّ} [سورة الأعراف آية: 105] الآيتين. الثانية: استعظام الله سحرهم. الثالثة: قوله: {فَوَقَعَ الْحَقُّ} الآيتين. الرابعة: قوله لهم اِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ} [سورة الأعراف آية: 123] لهذا. الخامسة: قولهم: {قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقلِبُونَ} [سورة الأعراف آية: 125] . السادسة: قولهم {وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا} [سورة الأعراف آية: 126] إلى آخره. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 355 السابعة: سؤالهم الله هذه المسألة. الثامنة: كلام الملأ له. التاسعة: جوابه لهم. العاشرة: نصيحة موسى لقومه، فيها أمران، وثلاثة أخبار. الحادية عشر: ردهم على موسى. الثانية عشر: جوابهم لهم. الثالثة عشر: إخبار الله أنه أخذهم بالسنين ونقص من الثمرات. الرابعة عشر: ذكر الحكمة في ذلك. الخامسة عشر: أنهم لم يفهموا مراد الله بالحسنة والسيئة التي تأتيهم، بل عكسوا الأمر. السادسة عشر: قوله {َلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ} [سورة الأعراف آية: 131] . السابعة عشر: كون الأكثر لا يعلمون هذه المسألة. الثامنة عشر: شدة عنادهم. التاسعة عشر: ذكره إرسال الآيات عليهم. العشرون: كونهم مع ذلك استكبروا. الحادية والعشرون: قوله: {وَكَانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ} [سورة الأعراف آية: 133] . الثانية والعشرون: كلامهم لموسى لما وقع عليهم الرجز. الثالثة والعشرون: نكثهم ما قالوا. الرابعة والعشرون: قوله {فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ} بالفاء. الخامسة والعشرون: ذكره السبب. السادسة والعشرون: ذكر فضله على الضعفاء. السابعة والعشرون: أن ذلك سبب صبرهم. الثامنة والعشرون: تدمير ما صنعوا، وما كانوا يعرشون. [الزيادة التي في سورة الشعراء في قصة سيدنا موسى] وأما ما في سورة الشعراء من الزيادة: قوله: {أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً} [سورة الشعراء آية: 18] الثانية: جواب موسى عليه السلام. الثالثة: قوله: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} [سورة الشعراء آية: الجزء: 13 ¦ الصفحة: 356 23] . الرابعة: جواب موسى عليه السلام. الخامسة: قوله: {لِمَنْ حَوْلَهُ} [سورة الشعراء آية: 27] . السادسة: جواب موسى عليه السلام. السابعة: قوله: {إِنَّ رَسُولَكُمُ} [سورة الشعراء آية: 39] إلى آخره. الثامنة: جواب موسى عليه السلام. التاسعة: كونه فزع إلى القدرة لما بهرته الحجة. العاشرة: جواب موسى عليه السلام. الحادية عشر: عناده بعدما أتته الآيات. الثانية عشر: قوله: {هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ} [سورة الشعراء آية: 39] . الثالثة عشر: توسلهم بعزة فرعون. الرابعة عشر: قولهم: {لا ضَيْرَ} [سورة الشعراء آية:50] . الخامسة عشر: قولهم: {إِنَّا نَطْمَعُ} [سورة الشعراء آية:51] الآية. السادسة عشر: كونه أمره أن يسري بهم. السابعة عشر: كونه ذكر لهم أنهم متبعون. الثامنة عشر: إرساله في المدائن حاشرين. التاسعة عشر: ذكره لرعيتة لما حشرهم. العشرون: ذكره المقام والنعيم والكنوز والجنات التي سلبوا. الحادية والعشرون: كونه أورث الجميع بني إسرائيل. الثانية والعشرون: اتباعهم إياهم مشرقين. الثالثة والعشرون: قولهم: {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ} [سورة الشعراء آية: 61] . الرابعة والعشرون: جواب موسى عليه السلام لهم. الخامسة والعشرون: ذكره أنه أمره أن يضربهض الجزء: 13 ¦ الصفحة: 357 بعصاه، فكان ما كان. السابعة والعشرون: ذكره نجاة هؤلاء، وهلاك هؤلاء. الثامنة والعشرون: تنبيه العباد على فائدة القصة. التاسعة والعشرون: هذا العجب العجاب، عدم إيمان الأكثر مع ذلك. التاسعة والعشرون: ذكره نفسه. الثلاثون: أنه هو العزيز الرحيم. [الزيادة التي في سورة النمل في قصة سيدنا موسى] وأما ما في سورة النمل من الزيادة: فقوله: أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا} [سورة النمل آية: 8] . الثانية: تسبيحه نفسه في هذا المقام. الثالثة: قوله: {إِنِّي لا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ} [سورة النمل آية: 10] . الرابعة: الاستثناء. الخامسة: ذكره أن اليد في جملة تسع آيات. السادسة: جحدهم الآيات مع اليقين. السابعة: أن سببه الظلم والعلو. وأما ما في سورة يونس من الزيادة، قول موسى: {أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ} [سورة يونس آية: 77] إلى آخره. الثانية: قولهم: {لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} [سورة يونس آية: 78] . الثالثة: وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الأَرْضِ} [سورة يونس آية: 78] . الرابعة: قوله: {مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ} [سورة يونس آية: 81] . الخامسة: القاعدة الكلية إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} [سورة يونس آية: 81] . السادسة: كونه {وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ} [سورة الشورى آية: 24] . السابعة: {وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} [سورة يونس آية: 82] . الثامنة: ما آمن لموسى إلا من ذكر. التاسعة: أنه على خوف من فرعون الجزء: 13 ¦ الصفحة: 358 وملئهم. العاشرة: وصف فرعون بالعلو والإسراف. الحادية عشر: نصيحة موسى لقومه. الثانية عشر: كون التوكل من لوازم الإسلام والإيمان. الثالثة عشر: جوابهم وقبولهم النصح. الرابعة عشر: دعاؤهم وما فيه من الفوائد. الخامسة عشر: قوله: {أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُمَا} [سورة يونس آية: 87] إلى آخره. السادسة عشر: دعاء موسى، وما فيه من الفوائد. السابعة عشر: كون المؤمن داعيا. الثامنة عشر: قوله في هذا المقام: {فاستقيما} إلى آخره. التاسعة عشر: كلام فرعون عند الغرق. العشرون: ما أجيب به. الحادية والعشرون: ذكر غفلة الكثير عن آياته. [الزيادة التي في سورة هود في قصة سيدنا موسى] وفي سورة هود قوله: {وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} [سورة هود آية: 97] . الثانية: كونه يوم القيامة يقدمهم، ويوردهم النار. [الزيادة التي في سورة الإسراء في قصة سيدنا موسى] وفي سورة الإسراء: ذكر أن التسع كلها بينات. الثانية: أمره نبيه عليه السلام بسؤال بني إسرائيل. الثالثة: قول فرعون له. الرابعة: جوابه له. الخامسة: أنه عوقب بنقيض قصده. السادسة: قوله: {وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائيلَ} [سورة الإسراء آية: 104] إلى آخره. [الزيادة التي في سورة الحج في قصة سيدنا موسى] . وفي سورة الحج: {َكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ} [سورة الحج آية: 44] إلى آخره. وفي سورة الصافات: كون فعل فرعون معهم كرب عظيم. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 359 [الزيادة التي في سورة المؤمن في قصة سيدنا موسى] وفي سورة المؤمن، قوله: {بِآياتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ} [سورة غافر آية: 23] . الثانية: إلى الثلاثة. الثالثة: جوابهم له. الرابعة: ما قالوه لما جاءهم الحق من عند الله. الخامسة: أن ذلك الكيد في ضلال مبين. السادسة: قوله: {ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى} [سورة غافر آية: 26] . السابعة: قول موسى. الثامنة: كلام المؤمن وما فيه من الفوائد. التاسعة: جواب فرعون. العاشرة: قول المؤمن الثاني، وما فيه من الأصول; ووصف القيامة، وتذكيرهم برسالة يوسف، وما فعلوا. الحادية عشر: قوله: {َعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ} [سورة غافر آية: 36] إلى آخره. الثانية عشر: كون كيده في تباب. الثالثة عشر: قول المؤمن الثالث، وما فيه من المعارف. الرابعة عشر: وقاية الله له مكرهم. الخامسة عشر: كونهم يعرضون على النار. السادسة عشر: استدلال العلماء على عذاب القبر. [الزيادة التي في سورة الزخرف في قصة سيدنا موسى] وفي سورة الزخرف: مقابلتهم آيات الله بالضحك منها. الثانية قوله: {وما نريهم من آية} إلى آخره. [سورة الزخرف آية: 48] الثالثة، قوله: {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [سورة الزخرف آية: 48] . الرابعة: خطبة فرعون وما فيها من استدلاله على النفي والإثبات. الخامسة: قوله: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ} إلخ [سورة الزخرف آية: 54] . السادسة: قوله: {فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً} إلخ. [سورة الزخرف آية:56] الجزء: 13 ¦ الصفحة: 360 وفي سورة الدخان {أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ} [سورة الدخان آية: 18] . الثانية: وصفه نفسه بالأمانة لله. الثالثة: نهيه إياهم عن العلو على الله. الرابعة قوله: {َإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ} [سورة الدخان آية: 20] إلى آخره. الخامسة: قوله: {وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً} [سورة الدخان آية: 24] . السادسة: ذكر العلة في تركه رهوا. السابعة: {َمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ} [سورة الدخان آية: 29] . الثامنة: عدم الإنظار. التاسعة: ذكر أن فعله بهم عذاب مهين. [الزيادة التي في سورة المؤمنون في قصة سيدنا موسى] وفي سورة المؤمنون [الآيات: 46 – 48] :كونهم كلهم قوما عالين. الثانية: حجتهم على عدم الإيمان لهما. الثالثة: التنبيه على أنهم من جملة من أهلك، ليس مختصا بهم. [الزيادة التي في سورة الذاريات في قصة سيدنا موسى] وفي سورة الذاريات {فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ} ، الثانية قوله: {سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} [سورة الذاريات آية: 39] [الزيادة التي في سورة القمر في قصة سيدنا موسى] وفي سورة القمر [الآيات: 41 - 43] : تكذيبهم بالآيات كلها. الثانية: تكذيبهم بالنذر. الثالثة: ذكر العبرة لهذه الأمة فيهم. [الزيادة التي في سورة المزمل في قصة سيدنا موسى] وفي سورة المزمل [الآيات: 16- 18] المسألة الكبيرة لهذه الأمة. [الزيادة التي في سورة النازعات في قصة سيدنا موسى] وفي النازعات قوله: {هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى} [سورة النازعات آية: 18] إلى آخره. الثانية قوله: {ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى فَحَشَرَ فَنَادَى} [سورة النازعات آية: 22] . الثالثة: الكلمة العظيمة. الرابعة: الجمع الجزء: 13 ¦ الصفحة: 361 بين نكال الآخرة والأولى. الخامسة: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى} [سورة النازعات آية: 26] . [ما ذكره الشيخ محمد بن عبد الوهاب من المسائل في سورة القصص] وقال أيضا الشيخ محمد، رحمه الله تعالى: في سورة القصص: قوله تعالى: وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلاّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ} [سورة القصص آية: 58] : فيه: التنبيه على الاعتبار بإهلاك الله وعذابه لمن خالف أمره، مع قوتهم وكثرتهم. وفيه: عدم الاغترار بعطاء الدنيا. وفيه: كبر شؤم المعصية في المساكن. الثانية: قوله تعالى: {َمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلاّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} [سورة القصص آية: 59] : فيه: معرفة الله بالعدل والإعذار والإنذار، ولا أحد أحب إليه العذر من الله، كما قال: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [سورة الإسراء آية: 15] وفيه: الخوف من الظلم، وليس على الإنسان معرة أكبر منه. الثالثة: قوله: {وما أوتيتم من شئ فمتاع الدنيا وزينتها} [سورة القصص آية: 60] وفيه: التزهيد في الدنيا ولو عظمت عند الناس، كما زهد تعالى فيها في غير موضع من كتابه، وكما قال صلى الله عليه وسلم: " مثل الدنيا في الآخرة، كما يدخل أحدكم إصبعه في اليم، فلينظر بما يرجع به " 1. الرابعة: قوله تعالى: {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلا تَعْقِلُونَ} [سورة القصص آية: 60] : فيه: الترغيب في الآخرة، كما قال: {مَا عِنْدَكُمْ   1 مسلم: الجنة وصفة نعيمها وأهلها (2858) ، والترمذي: الزهد (2323) ، وابن ماجه: الزهد (4108) ، وأحمد (4/229، 4/230) . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 362 يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} [سورة النحل آية: 96] . وكما قال: {وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [سورة الأعلى آية: 17] فرد سبحانه على من اختار الدنيا على الآخرة بالعقل، كيف يختارون القليل الأدنى الفاني، على النعيم الأعلى الدائم، لو كانوا يعقلون؟ ولكن كما قال تعالى عن أهل النار: {َقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [سورة الملك آية: 10] . الخامسة: قوله: {فَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} [سورة القصص آية: 61] : فيه: أن من أعطي الإيمان ولو بما يكره، وليس بينه وبين الوعد إلا قليلا، وذكر قصة "مصعب"والشواهد لهذه كثيرة، مثل: لو أن رجلا يعطى في يوم ما يحب، وبعده يقتل; ورجل يحبس يوما، وبعده يعطى من النعم ما يحب، هل يستوي هذا وهذا؟ والله أعلم. وفقنا الله وإخواننا للاعتبار والإيمان. [المراد بأهل البيت في قوله تعالى "إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ"] سئل الشيخ: عبد الله بن الشيخ محمد، عن قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} [سورة الأحزاب آية: 33] ، من هم أهل البيت؟ . فأجاب: إن أهل البيت الذين حرمت عليهم الصدقة، كما تقدم عن زيد بن أرقم؛ وأولهم دخولا في هذه الآية أهل الكساء، وهم: علي وفاطمة والحسن والحسين، كما أخرج ذلك مسلم في صحيحه: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أدخل فاطمة الجزء: 13 ¦ الصفحة: 363 وعليا والحسن والحسين في مرط مرحل عليه من شعر أسود، ثم قال: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} [سورة الأحزاب آية: 33] 1"، وفي حديث أم سلمة: أنه عليه السلام، جللهم بكسائه، وقال: " اللهم هؤلاء أهل بيتي، أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا " 2 أخرجه الترمذي، وقال: حديث صحيح. والاحتجاج بذلك على عصمتهم، وتخصيص الشيعة بذلك، وكون إجماعهم حجة، ضعيف، بل باطل، لأن التخصيص بهم لا يناسب ما قبل الآية وما بعدها; والحديث يقتضي الدعاء لهم، بأن يذهب الله عنهم الرجس، ويطهرهم تطهيرا. وغاية ذلك أن يكون دعاء لهم أن يكونوا من المتقين الذين أذهب الله عنهم الرجس ; واجتناب الرجس والطهارة، مأمور بها كل المؤمنين، ويريدها سبحانه وتعالى، قال الله تعالى: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} [سورة المائدة آية: 6] ، وقال تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا [سورة التوبة آية: 103] : غاية هذا أن يكون دعاء لهم بفعل المأمور وترك المحظور. وأيضا: فالسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان، رضي الله عنهم ورضوا عنه، وأعد لهم جنات تجري من تحتها الأنهار، لا بد أن يكونوا فعلوا   1 مسلم: فضائل الصحابة (2424) ، والترمذي: الأدب (2813) ، وأبو داود: اللباس (4032) ، وأحمد (6/162) . 2 الترمذي: المناقب (3871) ، وأحمد (6/298) . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 364 المأمور، وتركوا المحظور؛ فإن هذا الرضوان وهذا الجزاء إنما ينال بذلك. وحينئذ: فيكون ذهاب الرجس عنهم، وتطهيرهم من الذنوب، بعض صفاتهم، فما دعا به النبي صلى الله عليه وسلم لأهل الكساء هو بعض ما وصف الله به السابقين الأولين; دعا لغير أهل الكساء أن يصلي الله عليهم، ودعا لأقوام كثيرين بالجنة والمغفرة، وغير ذلك مما هو أعظم من الدعاء بذلك. ولا يلزم أن يكون من دعا له بذلك أن يكون أفضل من السابقين الأولين; ولكن أهل الكساء، لما أوجب عليهم اجتناب الرجس وفعل التطهير، دعا النبي صلى الله عليه وسلم لهم بأن يعينهم على فعل ما أمرهم به، لئلا يكونوا مستحقين للذم والعقاب، ولينالوا المدح والثواب. والآية ليس فيها إخبار بطهارة أهل البيت، وذهاب الرجس عنهم، وإنما فيها الأمر لهم بما يوجب طهارتهم، وذهاب الرجس عنهم. فإن قوله: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً [سورة الأحزاب آية: 33] كقوله: {َما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} [سورة المائدة آية: 6] ، وقوله: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [سورة النساء آية: 26] . والإرادة هنا متضمنة الأمر والمحبة والرضى، ليست هي المشيئة المستلزمة لوقوع المراد ; فإنه لو كان كذلك لكان الجزء: 13 ¦ الصفحة: 365 قد طهر من أراد الله طهارته، وهذا على قول القدرية الشيعة أوجه. فإنه عندهم: أن الله يريد ما لا يكون، ويكون ما لا يريد; فقوله: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ} [سورة الأحزاب آية: 33] الآية، إذا كان هذا بفعل المأمور وترك المحظور، كان ذلك متعلقا بإرادتهم وأفعالهم؛ فإن فعلوا ما أمروا به طهروا، وإلا فلا; وهم يقولون: الله لا يخلق أفعالهم، ولا يقدر على تطهيرهم وذهاب الرجس. وأما أهل السنة والجماعة، المثبتون للقدر، فيقولون: الله قادر على ذلك، فإذا ألهمهم فعل ما أمر وترك ما حظر، حصلت الطهارة وذهاب الرجس. ومما ينبئ: أن هذا مما أمروا به، لا مما أخبر بوقوعه، ما ثبت في الصحيح: " أن النبي صلى الله عليه وسلم أدار الكساء على علي وفاطمة، وحسن وحسين، وقال: اللهم هؤلاء أهل بيتي، أذهب عنهم الرجس، وطهرهم تطهيرا ". وهو يدل على فساد قول الشيعة من وجهين; أحدهما: أنه دعا لهم بذلك، وهو دليل على أنه لم يخبر بوقوع ذلك، فإنه لو كان قد وقع لكان يثني على الله بوقوعه، ويشكره على ذلك، لا يقتصر على مجرد الدعاء به; الثاني: أن هذا يدل على أن الله قادر على إذهاب الرجس عنهم وتطهيرهم، وذلك يدل أنه خالق أفعال العباد. وأيضا: مما يدل أن الآية متضمنة الأمر والنهي الجزء: 13 ¦ الصفحة: 366 قوله في سياق الكلام: يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ} [سورة الأحزاب آية: 30] إلى قوله: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ} [سورة الأحزاب آية: 32] إلى قوله: {وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} [سورة الأحزاب آية: 33] . وهذا السياق يدل على أن ذلك أمر ونهي، ويدل على أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم من أهل بيته؛ فإن السياق إنما هو في مخاطبتهن; ويدل على أن قوله: {لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ} [سورة الأحزاب آية: 33] عمت غير الزوجة، لعلي وفاطمة وحسن وحسين؛ لأنه ذكره بصيغة التذكير، لما اجتمع المذكر والمؤنث; وهؤلاء خصوا بكونهم من أهل البيت من أزواجه، فلهذا خصهم بالدعاء لما أدخلهم في الكساء، كما كان مسجد قباء أسس على التقوى، ومسجده أيضا أسس على التقوى، وهو أكمل في ذلك؛ لأن قوله: لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ} [سورة التوبة آية: 108] بسبب مسجد قباء، فيتناول اللفظ لمسجد قباء، ولمسجده بطريق الأولى؛ فتبين بما ذكرنا أنه ليس في الآية والحديث متعلق لأعداء الله، الرافضة، والزيدية؛ فليعلم ذلك، وبالله التوفيق. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 367 [ما يستفاد من قوله تعالى {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ} ] وسئل أيضا الشيخ عبد الله بن الشيخ، عن قوله تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ [سورة الأحزاب آية: 40] هل هذه الآية قطعت كون رسول الله صلى الله عليه وسلم والدا للحسن والحسين، مع ما ورد من الأحاديث الدالة على تسميتهما ابنين له؟ فأجاب: سبب نزول الآية يزيل هذا الإشكال; وذلك أنه ذكر المفسرون: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما تزوج زينب، قال الناس: تزوج امرأة ابنه، وأنزل الله هذه الآية - يعني: زيد بن حارثة - يعني: لم يكن أبا لرجل منكم على الحقيقة، حتى يثبت بينه وبينه ما يثبت بين الأب وولده، من حرمة الصهر والنكاح. فإن قيل: قد كان له أبناء: القاسم والطيب والطاهر وإبراهيم، وقال للحسن: "إن ابني هذا سيد " 1؟ فالجواب: أنهم قد خرجوا من حكم النفي، بقوله: {من رجالكم} وهؤلاء لم يبلغوا مبلغ الرجال; وأجاب بعضهم: بأنه ليس المقصود أنه لم يكن له ولد، فيحتاج إلى الاحتجاج في أمر بنيه، بأنهم كانوا ماتوا، ولا في أمر الحسن والحسين، بأنهما كانا طفلين، وإضافة {رجالكم} إلى المخاطبين، يخرج من كان من بنية، لأنهم رجاله لا رجال المخاطبين.   1 البخاري: الصلح (2704) ، والترمذي: المناقب (3773) ، والنسائي: الجمعة (1410) ، وأبو داود: السنة (4662) ، وأحمد (5/37، 5/44، 5/49، 5/51) . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 368 [ومن سورة الزمر ] قال الشيخ: محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى: هذه مسائل مستنبطة من سورة الزمر. الآية الأولى: فيها: منّه بالكتاب. الثانية: إنزاله من السماء. الثالثة: منه سبحانه. الرابعة: ذكر عزته في هذا الموضع. الخامسة: ذكر حكمته فيه. الثانية: فيها الأولى والثانية. الثالثة: إنزاله بالحق، فيفيد الرد على أكثر الناس في مسائل كثيرة. الرابعة: تخصيصه الرسول بإنزاله، فالنعمة عليه أكبر، وعليه من الشكر أكثر؛ وكذلك من خص بما يشابه ذلك. الخامسة: نتيجة إنزاله بالحق، ونتيجة الإنعام، وهو عبادة الله بالإخلاص; وهذه الخامسة هي الدين كله; وجعلها بين الرابعة والسادسة; وهي: أن الدين الخالص لله، وغير الخالص ليس له: وهما قاعدتان عظيمتان. الثالثة: فيها إبطال اتخاذ الأولياء من دونه. الثانية: إبطال ما غرهم به الشيطان، أن قصدهم وجه الله لا غير; وما أجلها من مسألة! الثالثة: الوعيد الشديد على ذلك. الرابعة: ذكره تكفير من فعل ذلك. الخامسة: تكذيبه. السادسة: ذكره أنه لا يهدي هذا، وهي من مسائل الصفات. الرابعة: فيها نفي اتخاذ الولد على سبيل الاصطفاء. الثانية: ذكر خطئهم في القياس، لأنه لو يفعله لم يكن مما الجزء: 13 ¦ الصفحة: 369 قالوا، الثالثة: أنه مسبة لله، بقوله: {سُبْحَانَهُ} . الرابعة: ذكره الوحدانية في هذا. الخامسة: ذكره القهر فيه. السادسة: الاستدلال بالأسماء والصفات على النفي والإثبات، وهي مسألة كبيرة عظيمة. الخامسة: ذكر البراهين على ما تقدم من الدين الحق وضده: الأولى: خلق السماوات والآرض. الثانية: أنه بالحق. الثالثة: تكوير المكورين. الرابعة: تسخير النيرين. الخامسة: ذكر عزته في هذا. السادسة: ذكر مغفرته. السادسة: في البراهين أيضا: الأولى: خلقنا من نفس واحدة مع هذه الكثرة. الثانية: خلقه منها زوجها. الثالثة: إنزاله لنا من الأنعام هذه النعم العظيمة. الرابعة: خلقنا في البطون. الخامسة: أنه خلق من بعد خلق. السادسة: أنه في الظلمات الثلاث. السابعة: كلمة الإخلاص. الثامنة: التعجب من الغلط في هذا، مع كثرة هذه البراهين ووضوحها. السابعة: فيها سبع جمل كل واحدة مستقلة. الثامنة: فيها ذكر حال الإنسان مع ربه. الثانية: هذه المسألة العجيبة من حاله. الثالثة: برهان التوحيد. الرابعة: حلمه سبحانه. الخامسة: أن الكافر مقر بتوحيد الربوبية. السادسة: أنه يخلص لله وينيب في الضر. السابعة: أن الإجابة في هذا لا تدل على المحبة. الثامنة: تدل على أن الحق عليه أكبر. التاسعة: أن الذنب الجزء: 13 ¦ الصفحة: 370 بعده أكبر. العاشرة: معرفة قدر الدنيا. الحادية عشر: شدة الوعيد على هذا. الثانية عشر: أن الحجة عليه أكبر. الثالثة عشر: ما ابتدع قوم بدعة إلا نزع عنهم من السنة مثلها. الرابعة عشر: ما كفاه النسيان حتى جعل الشكر جعل الأنداد. الخامسة عشر: أمر المؤمن يعظ الفاعل. التاسعة: الأولى: الفرق الظاهر بين النائم واليقظان. الثانية: الفرق بين العالم والجاهل، والسؤال عن المسألتين سؤال تقرير. الثالثة: أن مع شدة الوضوح، لا يفطن له إلا من له لب. الرابعة: أن القنوت هو الطاعة، ليس مخصوصا بالدعاء قائما. الخامسة: أن آناء الليل ساعاته. السادسة: أحب العمل إلى الله أدومه. السابعة: الرد على من قال: ما عبدتك خوفا وطمعا. الثامنة: لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله. التاسعة: أشرف أحوال الصلاة. العاشرة: النظر في العواقب. الحادية عشر: الرجاء، لقوله: {رحمة ربه} [سورة الزمر آية:9] . الثانية عشر: أمر المؤمن أن يقول هذه الخصومة الواضحة. الثالثة عشر: مدح التذكر كالتفكر. الرابعة عشر: ليس هو التذكر في لغتنا. الخامسة عشر: أنه مقام الخاصة. العاشرة: الأولى: وعد المحسنين بتعجيل ثواب الدنيا. الثانية: بيان سهولة ما يظن صعوبته. الثالثة: ما في الجزء: 13 ¦ الصفحة: 371 إضافة الأرض إلى الله من الفوائد،. الرابعة: في ذكر سعتها. الخامسة: لا عذر للعاصي في التعلل بالوطن. السادسة: هذا الثواب الجزيل للصبر. السابعة: أن هذا من التقوى. الثامنة: أن إضافة العباد إليه، الإضافة الخاصة لا العامة. التاسعة: أن هذا من مقتضيات تلك العبودية،. العاشرة: أنه من مقتضى الإيمان. الحادية عشر: الأمر بوعظهم بهذا. الحادية عشر: الأولى: قوله للخصم واللائم، أين أمرت بهذا؟ الثانية: قوله لهما: أمرت بهذا. الثالثة: قوله لهما: إني أخاف هذا. الرابعة قوله لهما: " الله اعبد " هكذا {فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ} [سورة الزمر آية: 15] . الخامسة قوله لهما: {إِنَّ الْخَاسِرِينَ} إلخ. الثانية عشر: الأولى: تبشير الذين جمعوا بين الترك والفعل. الثانية: التنبيه على أن من شروطه أن يكون إلى الله وحده. الثالثة: الأمر بتبشير هؤلاء، ففيه قوله: " بشروا ولا تنفروا " 1. الرابعة: الاستماع ثم الاتباع. الخامسة: صفة الاتباع، ففيه قوله: "يسروا ولا تعسروا " 2. السادسة: أن فيه حسن وأحسن، خلافا لمن منعه. السابعة: الرد على طريقة الذين في قلوبهم زيغ. الثامنة: التحذير من فتنة جدال منافق بالقرآن. التاسعة: التحذير من طريقة المعرضين. العاشرة: تخصيص   1 مسلم: الجهاد والسير (1732) ، وأبو داود: الأدب (4835) ، وأحمد (4/399) . 2 مسلم: الجهاد والسير (1732) ، وأبو داود: الأدب (4835) ، وأحمد (4/399) . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 372 هؤلاء بالهداية. الحادية عشر: التحذير من العجب، لإضافة الهداية إليه. الثانية عشر: أتباع النقل هم أهل العقل، لا غيرهم. الثالثة عشر: الأولى: فيها الإيمان بالقدر. الثانية: صفة الكلام. الثالثة: تعريف الفرق بين الطائفتين بالعقل. الرابعة: تقرير التوحيد بقوله: {أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ} [سورة الزمر آية: 19] . الخامسة: تعزية المؤمن. السادسة: الوعد الذي لا نظير له في القرآن. السابعة: إضافة الوعد إلى الله. الثامنة: وصف نفسه بأنه لا يخلف الميعاد. الرابعة عشر: الدلالة الواضحة على التوحيد،. الثانية: الدلالة على سعة الجود. الثالثة: إحاطة العلم. الرابعة: القدرة التامة. الخامسة: استفهام التقرير. السادسة: مع هذا الوضوح البين، فمحجوب إلا عن أولي الألباب. الخامسة عشر: استفهام التقرير. الثانية: أنه سبحانه هو الذي يشرحه للإسلام. الثالثة: التنبيه على الأدلة العقلية، بالفرق بين العالم والجاهل، والحب والبغض. الرابعة: أن ذلك بالنور المضاف إلى ربه. الخامسة: ذكر الضد، وهم القاسية قلوبهم عن ذكر الله. السادسة: أنهم أصحاب الجهل الواضح. السادسة عشر: أنه أحسن الحديث، فمن طلب الحديث دل عليه. الثانية: أن هذا الحديث كتاب. الثالثة: أن ذلك الكتاب متشابه. الرابعة: أنه مثاني. الخامسة: تأثيره هذا الجزء: 13 ¦ الصفحة: 373 الأثر في قلوب هؤلاء وجلودهم. السادسة: الجمع بين الخوف والرجاء. السابعة: حصر الهدى فيه. الثامنة: أن ذلك الهدى مضاف إلى الله. التاسعة: أن الله سبحانه هو الذي ينفع بمشيئته وإحسانه، لا بقوة الفهم. العاشرة: إثبات القدر. الحادية عشر: فيه إشارة إلى قوله: "ألقى عليهم من نوره; فمن أصابه ذلك النور اهتدى، ومن أخطأه ضل" 1، ولو كان أفهم الناس وأحرصهم. السابعة عشر، والآيتان بعدها: اتقاء سوء العذاب بالوجه. الثانية: استفهام التقرير مع الحذف. الثالثة: أن عقوبة الشيء تسمى باسمه. الرابعة: الإخبار بعذابهم من حيث لا يشعرون، بضد من يرزقه من حيث لا يحتسب. الخامسة: التصريح بالعقوبة في الدارين. السادسة: أن العقوبة الأولى ليست من جنس عقوبة المسلم التي لا تعاد عليه. السابعة: نفي العلم عنهم. العشرون، والتي بعدها: الأولى: ما ذكر الله أنه ضرب فيه من كل مثل. الثانية: أن ذلك للناس كلهم، لا يستثنى أحد. الثالثة: أن الحكمة تذكرهم. الرابعة: أنه قرآن. الخامسة: أنه عربي. السادسة: نفي العوج عنه. السابعة: أن الحكمة حصول التقوى منهم. الثانية والعشرون، والتي بعدها: فيها: ضرب المثل الجلي في بيان التوحيد. الثانية: بيان الشرك. الثالثة: حمده   1 الترمذي: الإيمان (2642) ، وأحمد (2/176، 2/197) . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 374 نفسه على هذا البيان. الرابعة: أن الأكثر جهال، مع وضوح هذا الدليل. الرابعة والعشرون، والتي بعدها: الأولى: تسلية المحق. الثانية: وعظ المبطل. الثالثة: الاختصام فيما وقع من الاختلاف. الرابعة: أن ذلك عنده تبارك وتعالى. السادسة والعشرون: الأولى: أن الظلم يتفاوت. الثانية: أن أعظمه الكذب على الله; والتكذيب بالصدق. الثالثة: معرفة الفرق بين النوعين، وأنهما يجتمعان ويفترقان. الرابعة: أن ذلك كفر. السابعة والعشرون: الأولى: تفسير التقوى، وهذا أحسن ما فسرت به. الثانية: الإتيان بالصدق إن كان مخبرا. الثالثة: التصديق به إن كان سامعا. الثامنة والعشرون: بيان أن التقوى هي الإحسان. الثانية: أن الربوبية عامة وخاصة. الثالثة: الرد على الجبرية. الرابعة: الرد على منكري الأسباب. التاسعة والعشرون: الأولى: بيان مذهب أهل السنة. الثانية: الرد على الرافضة. الثالثة: الرد على من جعلها خاصة. الرابعة: الرد على الوعيدية من الخوارج والمعتزلة. الثلاثون: استفهام التقرير. الثانية: العبودية الخاصة هي التي معها الكفاية. الثالثة: التخويف لمن دونه من صفات هؤلاء. الرابعة: التفرد بالهداية والإضلال. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 375 الخامسة: ذكر العزة في هذا المقام. السادسة: الوصف بالانتقام فيه. الحادية والثلاثون: الأولى: بيان أن عندهم من العلم ما تقوم به الحجة. الثانية: أن المجمع عليه يدل على المختلف فيه. الثالثة: مجادلة المبطل بالحق الذي يسلمه. الرابعة: أنه تسليم لا يجحدونه، بل يقرون به للخصم. الخامسة: التعجب من الإنكار، مع هذا الإقرار. السادسة: الإلزام الذي لا محيد عنه. السابعة: أنه كاشف لشبههم. الثامنة: قوله لهم: {حَسْبِيَ اللَّهُ} . التاسعة: الإخبار بأنه حقيقة أن يتوكل عليه كل عاقل. العاشرة: كون التوكل لا يستقيم إلا خالصا. الثانية والثلاثون: الأولى: كونه مأمورا بقوله: {اعْمَلُوا} . الثانية: مخاطبتهم يا قوم. الثالثة: إخبارهم بأنه عامل بما كرهوا. الرابعة: آية النبوة، وهي إخبارهم حينئذ بهذا ثم وقع. الخامسة: ما فيه من الموعظة. السادسة: الفرق بين العذاب المخزي، والعذاب المقيم. الثالثة والثلاثون: الأولى: ذكر إنزال الكتاب عليه. الثانية: أن ذلك للناس. الثالثة: أن ذلك بالحق. الرابعة: أن من اهتدى فلنفسه. الخامسة: أن ضلاله عليها. السادسة: تعزيته أن الهدى ليس عليه. الرابعة والثلاثون: الأولى: ما ذكر من الآيات في التوفي. الثانية: أن النوم وفاة. الثالثة: ما في الإمساك الجزء: 13 ¦ الصفحة: 376 والإرسال. الرابعة: أن فيه آيات متعددة. الخامسة: أن تلك الآيات للمتفكرين. الخامسة والثلاثون: استفهام الإنكار. الثانية: الاتخاذ. الثالثة: من دونه. الرابعة: شفعاء. الخامسة: الأمر له بتبليغهم هذا الجواب. السادسة: أن ذلك تفعلون هذا، مع كونهم هكذا. السادسة والثلاثون: أن الشفاعة كلها له، ومعرفة هذه بمعرفة صفة الشفاعتين. الثانية: الأمر بتبليغهم هذه الحجة. الثالثة; الاحتجاج على ذلك بملك السماوات والأرض. الرابعة: الرجوع إليه. السابعة والثلاثون: هذه العجيبة; وهي: الاشمئزاز من هذا، والاستبشار بذلك. الثانية: أن الشرك وعدم الإيمان بالآخرة متلازمان. الثالثة: أن الثاني أصل الأول. الثامنة والثلاثون: الأمر بهذا الدعاء. الثانية: ما فيه من التسلية للمحق. الثالثة: الموعظة للمبطل. الرابعة: أن كمال الملك، وكمال العلم، يقتضي ذلك. التاسعة والثلاثون، والتي بعدها: ذكر هذا الخبر المزعج. الثانية: الإخبار بما بدا لهم، وهذه التي أبكت ابن المنكدر 1 عند الموت. الثالثة: أنهم لا يعرفون قبح أعمالهم الآن، بل لعلهم يستحسنونها. الرابعة: الإخبار بأن ما   1 هو محمد بن المنكدر التيمي، رحمه الله. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 377 احتقروه، واستهزؤوا به، صار هكذا. الخامسة: تسمية العذاب باسم سببه. السادسة: أن هذه أربع جمل، كل جملة مستقلة. الحادية والأربعون: وصف الإنسان بهذه العجيبة. الثانية: أن هذا من أبطل الباطل. الثالثة: أن الحق أن ذلك فتنة. الرابعة: التسجيل على السواد الأعظم بالجهل. الخامسة: أن الدعاء في الضرورة لا مدح فيه. السادسة: أن الإجابة فيه لا تدل على الإكرام. السابعة: أن عطاء نعمة الدنيا كذلك. الثانية والأربعون، وآيتان بعدها: كون القلوب إذا تشابهت، فالأعمال كذلك. الثانية: الاعتبار بمن تقدم. الثالثة: أن كسب غير الطاعات لا يغني من الله شيئا. الرابعة: أن ذلك الكسب قد يكون عند الناس من أعظم الفخار. الخامسة: التصريح بالقياس الجلي أن هؤلاء كمن قبلهم. السادسة: التذكير بضعفك، وقوة الطالب. السابعة: الاستدلال بالعموم. الثامنة: ذكر جهل من لم يفهم هذا الاستدلال. التاسعة: تذكير الخصم بالقاعدة المسلمة، إذا لم ... 1. العاشرة: ذكر تناقض الخصم. الحادية عشر: في قبضه وبسطه آيات متعددة. الثانية عشر: أن تلك الآيات لأهل العلم.   1 بياض بالأصول، ولعله [يذكرها] . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 378 الخامسة والأربعون: قيل إنها أرجى ما في القرآن. الثانية: فيها الرد على من استثنى بعض الكبائر. الثالثة: تعليل ذلك بالأسماء والصفات. الرابعة: النهي عن القنوط. الخامسة: أن إسراف العبد وباله على نفسه. السادسة: الفرق بين المغفرة والرحمة. السادسة والأربعون، وخمس آيات بعدها: الأمر بالإنابة. الثانية: الأمر بالإسلام. الثالثة: الفرق بينهما. الرابعة: كون الأولى بإلى، والثانية باللام. الخامسة: تفسير الآيات قبلها. السادسة: التنبيه على انتهاز الفرصة. السابعة: الوعيد الشديد. الثامنة: الأمر باتباع المنزل خاصة. التاسعة: الأمر باتباع الأحسن. العاشرة: فيه الرد على من أنكر تفاضل كلام الله. الحادية عشر: إغراء العبد بأن ذلك المنزل منزل إليه. الثانية عشر: كونه من ربه. الثالثة عشر: فيه الإنذار عن البغتة. الرابعة عشر: فيه بيان أنهم لا يشعرون بذلك. الخامسة عشر: ذكر تحسر النفس على ما كرهت الآن. السادسة عشر: معرفتها أنه تفريط في جنب الله. السابعة عشر: معرفتها بأنها سخرت مما لا يسخر منه. الثامنة عشر: عرفت أنها من هذه الطائفة. التاسعة عشر: تحسرها أن تكون من هذه الطائفة التي كرهتها، وسخرت منها. العشرون: ذكر تمني الكرة. الحادية والعشرون: رؤية العذاب حينئذ. الثانية الجزء: 13 ¦ الصفحة: 379 والعشرون: تمني الكرة لكونها من أولئك. الثالثة والعشرون: أن الإحسان هو التقوى. الرابعة والعشرون: التكذيب بالآيات. الخامسة العشرون: الاستكبار. والسادسة والعشرون: الكفران، وكونه من هذه الطائفة. السابعة والعشرون: أن المعاصي بريد الكفر، والتكذيب، والاستكبار. الثانية والخمسون: كبر الكذب على الله. الثانية: أن أصل ذلك الكبر. الثالثة: الوعيد بهذا الاستفهام. الثالثة والخمسون، وآيتان بعدها: سبب النجاة. الثانية: الفرق بين الحزن ومس السوء. الثالثة: الاستدلال بالقاعدة الكلية، وهي: خلق كل شيء على المسائل الجزئية. الرابعة: كذلك استدل بوكالته على كل شيء. الخامسة: كذلك بأن مقاليدهما له. السادسة: انحصار الخسارة في هؤلاء. السادسة والخمسون: وأربع بعدها، فيها أنواع من بطلان الشرك، وتقبيحه. الأول: استفهام الإنكار. الثاني: كيف يؤمر بهذا لغير الله. الثالث: التسجيل عليهم بالجهل. الرابع: ما جاء من السمعيات، أنه أوحى إليك بهذا الأمر العظيم. الخامس: أنه أوحاه إلى من قبلك. السادس: أن أقرب الخلائق منْزلة، لو يفعله لم يسامح. السابع: أن الجزء: 13 ¦ الصفحة: 380 الحسنات وإن كثرت إذا وجد لم يبق منها شيء. الثامن: كون ذلك المقرب لو يفعله، لم يكف بطلان عمله، بل صار من أولئك. التاسع: الأمر بإخلاص هذا النوع لمن لا يستحقه إلا هو. العاشر: أن كون العبد من الشاكرين، مستحسن عقلا وشرعا، ولا يصل إليه إلا بذلك. الحادي عشر: كون ذلك جرى لكونهم لم يعرفوا الله. الثاني عشر: تعريف عباده بعظمته بما ذكر في الأرضين السبع. الثالث عشر: تعريفهم ذلك بما ذكر في السماوات. الرابع عشر: تسبيحه نفسه عما تقربوا به إليه. الخامس عشر: تعاليه عن ذلك. السادس عشر: نسبته إليهم. الستون، وما بعدها إلى آخرها: فيها: النفخة الأولى. الثانية: صعق أهل السماوات والأرض. الثالثة: المستثنون. الرابعة: النفخة الثانية. الخامسة: إذا الفجائية. السادسة: إتيان الرب سبحانه. السابعة: إشراق الأرض بنوره. الثامنة: إضافتها إليها. التاسعة: وضع الكتاب. العاشرة: الإتيان بالنبيين. الحادية عشر: الإتيان بالشهداء. الثانية عشر: قضي بينهم بالحق. الثالثة عشر: توفية كل نفس عملها. الرابعة عشر: بيان أنه لا يقع في الخصومات شيء مما يقع في الدنيا، لكونه أعلم. الخامسة عشر: سياقة الكفار. السادسة عشر: كونهم زمرا. السابعة عشر: فتح أبوابها وقت مجيئهم. الثامنة الجزء: 13 ¦ الصفحة: 381 عشر: تقريع الخزنة لهم. التاسعة عشر: كون كل رسول يتلو الآيات. العشرون: كونه ينذر بذلك اليوم. الحادية والعشرون: كون الرسالة عمت. الثانية والعشرون: اعترافهم بقرب الفهم; وأن الذي منعهم: كون كلمة العذاب حقت على من كفر. الثالثة والعشرون: قول الخزنة: ادخلوها خالدين. الرابعة والعشرون: بيان أن التكبر سبب الكفر. الخامسة والعشرون: سوق أهل الجنة. السادسة والعشرون: كونهم زمرا. السابعة والعشرون: حذف الجواب. الثامنة والعشرون: فتح الأبواب. التاسعة والعشرون: تسليم الملائكة. الثلاثون: قولهم {طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا} . الحادية والثلاثون: الخلود. الثانية والثلاثون: قولهم {الْحَمْدُ لِلَّهِ} إلخ، حمدوا على صدق الوعد. الثالثة والثلاثون: حمدوه على أنه أورثهم الأرض. الرابعة والثلاثون: التبوؤ منها حيث شاؤوا. الخامسة والثلاثون: إثبات دخولها بالعمل. السادسة والثلاثون: أنها أجر العاملين. السابعة والثلاثون: رؤية الملائكة حافين من حول العرش. الثامنة والثلاثون: القضاء بالحق. التاسعة والثلاثون: قول الخلائق كلهم: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [سورة الزمر آية: 75] . وقال أيضا الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى: وقال مالك بن دينار، عند قوله تعالى: " {فَوَيْلٌ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 382 لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ} [سورة الزمر آية: 22] الآية، ما ضرب عبد بعقوبة أعظم من قسوة القلب، وما غضب الله على قوم إلا نزع عنهم الرحمة". وقال أيضا، الشيخ: محمد، في قوله في القرآن: {مَثَانِيَ} [سورة الزمر آية: 23] أي: يثني فيه ذكر الوعد والوعيد، والأمر والنهي، والأخبار والأحكام; وفي الحديث عن ابن مسعود، قال: "تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ} قلنا: يا رسول الله، كيف الانشراح؟ قال: إذا دخل النور القلب انشرح وانفسح قلنا يا رسول الله: ما علامة ذلك؟ قال: الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والتأهب للموت قبل نزوله". [ما قاله الشيخ ابن عبد الوهاب في معنى قوله تعالى: قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ} ] وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى: قوله تعالى: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [سورة الزمر آية: 64-65] إلى قوله تعالى: {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [سورة الزمر آية: 67] : فيه مسائل: الأولى: الجواب عن قول المشركين: هذا في الأصنام، وأما الصالحون فلا; قوله: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ} عام فيما سوى الله. الثانية: أن المسلم إذا أطاع من أشار عليه في الظاهر، الجزء: 13 ¦ الصفحة: 383 كفر، ولو كان باطنه يعتقد الإيمان؛ فإنهم لم يريدوا من النبي صلى الله عليه وسلم تغيير عقيدته; ففيه بيان لما يكثر وقوعه ممن ينتسب إلى الإسلام، في إظهار الموافقة للمشركين خوفا منهم، ويظن أنه لا يكفر إذا كان قبله كارها له. الثالثة: أن الجهل وسخافة العقل هو موافقتهم في الظاهر; وأن العقل والفهم والذكاء هو التصريح بمخالفتهم، ولو ذهب مالك، خلافا لما عليه أهل الجهل من اعتقاد أن بذل دينك لأجل مالك هو العقل، وذلك في آخر الآية {أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ} [سورة الزمر آية: 64] . أما الآية الثانية، ففيها مسائل أيضا: الأولى: شدة الحاجة إلى تعلم التوحيد، فإذا كان الأنبياء يحتاجون إلى ذلك ويحرصون عليه، فكيف بغيرهم؟ ففيها رد على الجهال الذين يعتقدون أنهم عرفوه فلا يحتاجون إلى تعلمه. الثانية: المسألة الكبرى، وهي: كشف شبهة علماء المشركين الذين يقولون: هذا شرك ولكن لا يكفر من فعله لكونه يؤدي الأركان الخمسة; فإذا كان الأنبياء لو يفعلونه كفروا، فكيف بغيرهم؟ الثالثة: أن الذي يكفر به المسلم، ليس هو عقيدة القلب خاصة، فإن هذا الذي ذكرهم الله لم يريدوا منه صلى الله عليه وسلم تغيير العقيدة كما تقدم، بل إذا أطاع المسلم من أشار عليه بموافقتهم لأجل ماله، أو بلده، أو أهله، مع كونه يعرف الجزء: 13 ¦ الصفحة: 384 كفرهم، ويبغضهم، فهذا كافر، إلا من أكره. وأما الآية الثالثة، ففي الصحيح: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأها على المنبر، وقال: " إن الله يقبض يوم القيامة الأرضين، وتكون السماوات بيمينه "، 1 ثم ذكر تمجيد الرب تبارك وتعالى نفسه، وأنه يقول: "أنا الجبار، أنا المتكبر، أنا الملك، أنا العزيز، أنا الكريم. قال ابن عمر: فرجف برسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قلنا ليخرن به" 2. وفيها: ثلاث مسائل: الأولى: التنبيه على سبب الشرك، وهو: أن المشرك ظهر له شيء من جلالة الأنبياء والصالحين، ولم يعرف الله سبحانه وتعالى; وإلا لو عرفه، لكفاه وشفاه عن المخلوق، وهذا معنى قوله: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [سورة الزمر آية: 67] الآية. المسألة الثانية: ما ذكر الله تبارك وتعالى من عظمته وجلاله أنه يوم القيامة يفعل هذا؛ وهذا قدر ما تحتمله العقول، وإلا فعظمة الله وجلاله أجل من أن يحيط بها عقل، كما قال: "ما السماوات السبع والأرضون السبع في كف الرحمن، إلا كخردلة في كف أحدكم" فمن هذا بعض عظمته وجلاله، كيف يجعل في رتبة مخلوق لا يملك لنفسة نفعا ولا ضرا؟ هذا هو أظلم الظلم، وأقبح الجهل، كما قال العبد الصالح لابنه: يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [سورة لقمان آية: 13] . الثالثة: أن آخر الآية وهو قوله: {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى   1 البخاري: التوحيد (7413) ، ومسلم: صفة القيامة والجنة والنار (2787) ، وأحمد (2/374) ، والدارمي: الرقاق (2799) . 2 ابن ماجه: المقدمة (198) والزهد (4275) ، وأحمد (2/87) . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 385 عَمَّا يُشْرِكُونَ} [سورة الزمر آية: 67] ينبهك على الحكمة في كونه سبحانه يغفر الكبائر ولا يغفر الشرك، وتزرع بغض الشرك وأهله، ومعاداتهم في قلبك. وذلك أن أكبر مسبة بعض الصحابة - مثل أبي بكر وعمر - لو يجعل في منْزلته بعض ملوك زماننا، مثل سليمان أو غيره، مع كون الكل منهم آدمي، والكل ينتسب إلى دين محمد، والكل يأتي بالشهادتين، والكل يصوم رمضان ويصلي. فإذا كان من أقبح المسبة لأبي بكر أن يسوى بينه وبين بعض الملوك في زماننا، فكيف يجعل للمخلوق من الماء المهين - ولو كان نبيا - بعض حقوق من هذا بعض عظمته وجلاله، من كونه يدعى كما يدعى، ويخاف كما يخاف، ويعتمد عليه كما يعتمد عليه؟ هذا أعظم الظلم، وأقبح المسبة لرب العالمين; وذلك معنى قوله في آخر الآية: {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [سورة الزمر آية: 67] . ولكن رحم الله تعالى من تنبه لسر الكلام، وهو المعنى الذي نزلت فيه هذه الآيات، من كون المسلم يوافقهم في شيء من دينهم الظاهر، مع كون القلب بخلاف ذلك؛ فإن هذا هو الذي أرادوا من النبي صلى الله عليه وسلم. فافهمه فهما حسنا، لعلك تعرف من دين إبراهيم عليه السلام الذي بادر أباه وقومه بالعداوة عنده، والله أعلم. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 386 [ومن سورة: الشورى] سئل الشيخ: عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمهما الله تعالى، عن قوله تعالى: قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى [ سورة الشورى آية: 23] ، من هم القربى الذي أمر بمودتهم؟ وما تشتمل عليه المودة؟. فأجاب: الآية فيها أقوال للمفسرين. أولها: ما قاله حبر الأمة وترجمان القرآن، عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: أن المراد بذلك، أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن بطن من قريش إلا له فيه قرابة، وقال: " إلا أن تصلوا ما بيني وبينكم من القرابة " 1 كما أخرجه البخاري وغيره، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس أنه سئل عن قوله: "إِلاّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى "، فقال سعيد بن جبير: "قربى آل محمد صلى الله عليه وسلم قال ابن عباس: عجلت، إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن بطن من قريش إلا كان له فيهم قرابة، فقال: إلا أن تصلوا ما بيني وبينكم من القرابة " 2، وهو قول عكرمة ومجاهد، وأبي مالك والشعبي، وغيرهم. فالمعنى: لا أسألكم مالا ولا رئاسة، ولكن أسألكم أن ترعوا حق قرابتي، وتصدقوني فيما جئتكم به، وتمسكوا عن أذيتي وأذية من تبعني. والقول الثاني، أن المعنى: إلا أن تتوددوا إلى الله بالتقرب إليه; قاله غير واحد من المفسرين عن الحسن رحمه الله، عنه.   1 البخاري: تفسير القرآن (4818) ، والترمذي: تفسير القرآن (3251) ، وأحمد (1/286) . 2 البخاري: تفسير القرآن (4818) ، والترمذي: تفسير القرآن (3251) ، وأحمد (1/229، 1/286) . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 387 والقول الثالث: أن المعنى: إلا أن تتوددوا إلى بعضكم بعضا، وتصلوا قراباتكم، قاله عبد الله بن القاسم. والقول الرابع: أن المعنى، يعني: أن تحفظوا قرابتي، وتودوني، وتصلوا رحمي، وهي رواية عن ابن عباس، وهو قول علي بن الحسين، استشهد بهذه الآية حين سيق إلى الشام أسيرا؛ وهو قول ابن جبير والسدي، وعمرو بن شعيب. وكل هذه الأقوال تحتمل هذه الآية; وأولاها بالصواب: قول ابن عباس، وعلي بن الحسين، ومن معهما من المفسرين. وأما القربى الذين أمر بمودتهم، فأحق الناس بذلك: أهل البيت: علي، وفاطمة، والحسن، والحسين، رضي الله عنهم، ويدخل فيهم جميع ولد عبد المطلب، كما قال زيد بن أرقم، حين سأله حصين: من أهل بيته؟ أليس نساؤه من أهل بيته؟ قال: "نساؤه من أهل بيته. ولكن أهل بيته من حرم الصدقة بعده; قال: ومن هم؟ قال: آل علي، وآل عقيل، وآل جعفر، وآل عباس" كما ذكره مسلم في صحيحه عنه; وأما ما تشتمل عليه مودتهم، فتشتمل على محبتهم وتوليهم، وتوقيرهم واحترامهم، وكف الأذى عنهم. قال الشيخ: عبد اللطيف بن عبد الرحمن، رحمهما الله تعالى؛ تأمل قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 388 أَمْرِنَا} [سورة الشورى آية: 52] ، كيف تجد فيها من إثبات النبوات وبراهينها، وإثبات المعاد، وإثبات الربوبية والإلهية، والرد على القدرية النفاة، والرد على القدرية المجبرة، والرد على الجهمية القائلين بخلق القرآن، واختصاص صراطه بالاستقامة دون ما سواه، وإضافته إليه. وفيها: بيان أهل الهداية والنور وإضافتهم إليه. وفيها: الإيمان باليوم الآخر. وفيها: حكمة دخول أداة التنبيه في آخر جملة. وفيها: تفسير قوله تعالى: {وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى} [سورة الضحى آية: 7] . وفيها: الرد على أهل المنطق في موضعين أو ثلاثة، وهدم أصوله. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 389 سورة الفتح قال شيخ الإسلام: محمد بن عبد الوهاب، أسكنه الله الفردوس الأعلى: ذكر بعض الفوائد التي في قصة الحديبية. منها - وهي أعظمها -: تسمية الله، لا إله إلا الله: كلمة التقوى؛ وجعلها أعداء الله كلمة الفجور. الثانية: تفسير شيء من شهادة أن محمدا رسول الله، لاستدلال أبي بكر على عمر، لما أشكل عليه مسألة من أشكل المسائل. الثالثة: عظمة أعمال القلوب عند الله; لأن أهل الشجرة لم يبلغوا ذلك إلا بما علم الله في قلوبهم. الرابعة: الخطر العظيم في أعمال القلوب، لقوله صلى الله عليه وسلم:" كادوا أن يهلكوا ". الخامسه: أنهم مع ذلك مجاهدون في الدين على زعمهم، لم الجزء: 13 ¦ الصفحة: 389 يغضبوا إلا لله، فلم تنفعهم النية الصالحة. السادسة: حاجتهم إلى المدد الجديد، فلولا أن الله أنزل السكينة عليهم، لم يقو إيمانهم على تلك الفتنة. السابعة: أن هذا من أعظم ما يعرفك حاجتك إلى الله، في تثبيت القلب على الإيمان كل وقت، بل تعرف حاجة الكمل إلى ذلك. الثامنة: أن ذلك الجهاد محسوب من الآيات، لقوله: "فعملت لذلك أعمالا". التاسعة: اجتماع الأضداد في قلوب الكمل بعض الأحيان، لقوله: "وأنا أشهد أنه رسول الله". العاشرة: أن أعلم الناس قد يفهم من النص ما لا يدل عليه، لقوله: "تحدثنا أننا نأتي البيت". الحادية عشر: معرفة أنه يتصور أن أعلم الناس وأتقاهم، قد يعصي النص الصريح، لقوله: " قوموا فانحروا " 1 فلم يفعلوا. الثانية عشر: معرفة قوله: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ} [سورة البقرة آية: 216] . الثالثة عشر: معرفة قوله: {وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ} [سورة البقرة آية: 216] . الرابعة عشر: أن ذلك الذي يحب قد تصير عاقبته بالعكس في نفس القضية. الخامسة عشر: أن المكروه قد تصير عاقبته كذلك في القضية. السادسة عشر: أن الله يبتلي بما تعجز عنه عقول أكبر العلماء. السابعة عشر: معرفة رفع الله من تواضع لأجله. الثامنة عشر: معرفة إذلال الله من تعزز بمعصيته. التاسعة عشر:   1 البخاري: الشروط (2734) ، وأبو داود: الجهاد (2765) . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 390 معرفة فضيلة التسليم للشارع فيما لم يدرك العقل. العشرون: اختلاف علم أكابر العلماء في ذلك. الحادية والعشرون: أنهم لم يصلوا إلى السلامة فضلا عن الفضائل، إلا بعفو الله. الثانية والعشرون: رأفته صلى الله عليه وسلم ورحمته، حيث لم يغضب. الثالثة والعشرون: الفرق بين ذلك وبين غضبه في فسخ العمرة. الرابعة والعشرون: ما أعطوه من قوة الإيمان، لصبر أبي جندل واحتسابه. الخامسة والعشرون: من غزارة العلم والأدب، لقصة عثمان. السادسة والعشرون، قول عمر: "أخافهم على نفسي" ليس من الخوف المذموم. السابعة والعشرون، قوله: "ليس فيها من بني عدي من يمنعني"، ليس من ترك التوكل على الله. الثامنة والعشرون: قيام المغيرة على رأسه ليس من القيام المكروه. التاسعة والعشرون: فعله بعروة بالسيف ليس مما يكره. الثلاثون: قول أبي بكر لعروة ليس من الفحش المذموم. الحادية والثلاثون، قولهم: خلأت القصوى، ليس من الخطأ المذموم. الثانية والثلاثون: مراءاتهم الكناني بالتلبية والهدي، ليس من الرياء المذموم. الثالثة والثلانون: فعلهم من النخامة والوضوء والشعر، ليس من الغلو المذموم. الرابعة والثلاثون: شكواهم قلة الماء ليس من الشكوى المذمومة. الخامسة والثلاثون: الإشارة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بغير الجزء: 13 ¦ الصفحة: 391 رأيه ليس من التقدم المذموم. السادسة والثلاثون: الانتفاع بالكفار في بعض الأمور ليس مذموما، لقصة الخزاعي. السابعة والثلاثون: الوثوق بخبر الكافر في بعض أمور المسلمين ليس مذموما. الثامنة والثلاثون: إخبار الكافر وأمره ببعض مصالحه، في مثل قوله: " نهكتهم الحرب " 1 ليس مذموما. التاسعة والثلاثون: إشارة عمر لأبي جندل في قتل أبيه ليس مذموما. الأربعون: الإشارة إلى الفرار، لمثل أبي بصير، لقوله: "ويل أمه" ليس من الخيانة. الحادية والأربعون: محاربته ومن معه لقريش، مع كونهم في الذمة لا بأس به وليس من الإخفار المذموم. الثانية والأربعون: حكم الله في عدم رد النساء، وإعطاء الزوج الصداق لا نقص فيه. الثالثة والأربعون: مراجعته صلى الله عليه وسلم في بعض المسائل، لقول عمر: أفتح هو؟ الرابعة والأربعون: قبول رأي المرأة بعض الأحيان، لا نقص فيه. الخامسة والأربعون: قد يكون رأيها هو الصواب. السادسة والأربعون: شدة الحاجة إلى المشاورة. السابعة والأربعون: الصلاة في آثار الأنبياء إذا مر، ولم يكثر منه، ليس من الغلو المذموم. الثامنة والأربعون: كون الصحابة لا يكترثون بحفظها. التاسعة والأربعون: إظهار الهيئة عند رسل الكفار، ليس من الرياء المذموم. الخمسون:   1 البخاري: الشروط (2734) . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 392 أن إظهار العمل الصالح بعض الأحيان للناس ليس مذموما، لقول عثمان لهم: لا أطوفن. الحادية الخمسون: ما أعطي الصحابة من الشدة في أمر الله، حين حرصوا على قتالهم على هذه الحالة، وصعب عليهم تركه. الثانية والخمسون: شدة كراهتهم لما ظنوا أن فيه على الملة غضاضة. الثالثة والخمسون: مبايعتهم على الموت والحالة هذه. الرابعة والخمسون: شدة تعظيمهم لنبيهم ولربهم معه. الخامسة والخمسون: ما أعطوا من دقة الفهم وغزارة العلم، وفهم أبي بكر وعثمان. السادسة والخمسون: ما فيهم من خشية الله، لقول عمر: فعملت لذلك أعمالا. السابعة والخمسون: ما أعطوا من الرجاء، لقول عمر لأبي جندل: " إن الله جاعل لك فرجا ". الثامنة والخمسون: ما أعطوا من المحبة، كما يفهم من غير موضع. التاسعة والخمسون: ما أعطوا من اليقين والثبات. الستون: إكرامه إياهم بإلزامهم بالكلمة. الحادية والستون: الثناء عليهم بكونهم أحق بها. الثانية والستون: ثناؤه عليهم بكونهم أهلها. الثالثة والستون: صدور ذلك عن علم وحكم. الرابعة والستون: ما فيها من علامات النبوة التي يطول تعدادها؛ ومن أراد ذلك فليتأمل سورة الفتح. الخامسة والستون: بيان صديقية أبي بكر رضي الله الجزء: 13 ¦ الصفحة: 393 عنه. السادسة والستون: قوة عمر رضي الله عنه. السابعة والستون: فهم علي رضي الله عنه وأدبه. الثامنة والستون: فضائل أناس منهم، كابن عمر وابن سنان وسلمة والمغيرة 1. السبعون: فضيلة هذه البيعة لقوله: "لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة " 2. الحادية والسبعون: كون خيبر لهم خاصة 3. الثالثة والسبعون: فيها شاهد لمذهب أهل السنة في السكوت عما شجر بينهم. الرابعة والسبعون: فيها شاهد لمذهبهم أيضا، وفي موالاتهم والترضي عنهم. الخامسة والسبعون: فيها شاهد أنه يغفر لهم ما لا يغفر لغيرهم، وأن أعظم ما كرهوا صار عاقبته تكفير السيئات والخلود في الجنات، وأغناهم وأغنى عيلاتهم بعد الفقر، والعز الذي لم يخطر ببال أحد. السادسة والسبعون: صلة الرحم تعم المسلم والكافر. السابعة والسبعون: أن الكافر قد يسأل المسلم ما يعظم به حرمات الله. الثامنة والسبعون: استحباب اليمين عند الحاجة، لإقسامه صلى الله عليه وسلم في هذه في غير موضع. التاسعة والسبعون: أن الرفق بالرعية والإحسان إليهم لا ينافي تحميلهم ما يكرهون   1 كذا في الأصل في الموضعين، ولعله يريد فيهما الجمع بين مسألتين، كعادته في جمع بعض المسائل. 2 الترمذي: المناقب (3860) . 3 كذا في الأصل في الموضعين، ولعله يريد فيهما الجمع بين مسألتين، كعادته في جمع بعض المسائل. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 394 عند الحاجة. الثمانون: أن موافقة الكفار على شيء من هديهم يجوز عند الحاجة. الحادية والثمانون: العبرة كون الكفار ولاة البيت، ورسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ممنوعون منه. الثانية والثمانون: العبرة في كون الكفار الذين يحجون ويعتمرون، والرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه ممنوعون عنه. الثالثة والثمانون: الإجماع على شرف العلم وذم الجهل، لقولهم: اجلس إنما أنت أعرابي. الرابعة والثمانون: الإجماع على كون أهل القرى خيرا من البادية. الخامسة والثمانون: هديهم في بدء الكتاب باسمك اللهم، بخلاف أكثر الناس اليوم. السابعة والثمانون: قولهم لو نعلم أنك رسول الله اتبعناك. الثامنة والثمانون: امتناعهم من كتب هدى المسلمين، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكتاب. التاسعة والثمانون: كون منهم قوم يتألهون. التسعون: هرب الرجل لما رأى الهدى إعظاما للمعصية. الحادية والتسعون: إنكاره عليهم، وقوله: ما على هذا وافقناكم أن يصد عن البيت. الثانية والتسعون: أن من دينهم أن لا يصد عن البيت أعدى العدو. الثالثة والتسعون: أن عداوة الدين فوق كل عداوة. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 395 الرابعة والتسعون: ما أعطوا من العقول والنهى، يفهم من كلام عروة لهم وللنبي صلى الله عليه وسلم. الخامسة والتسعون: استقباحهم القطيعة، لقوله: هل سمعت أن أحدا من العرب اجتاح أهله ... إلخ؟ ! وفعل بني أمية مع عثمان. السادسة والتسعون: ترك المسلم قتل قريبه الكافر لا ينكر، لفعل أبي جندل. السابعة والتسعون: أن قتل المسلم أباه الكافر لا نقص لفعل عمر 1. الثامنة والتسعون: فهمه صلى الله عليه وسلم من بروكها ما لم يفهموا. التاسعة والتسعون: الاستسلام للأمر، والوثوق بالله. المائة: كونه أحسنهم ظنا في عثمان. الحادية بعد المائة: حلمه صلى الله عليه وسلم لما جرى بينهم ما جرى. الثانية بعد المائة: استعمال الفأل. الثالثة بعد المائة: حسن سياسته صلى الله عليه وسلم مع المسلم والكافر، يفهم من جوابه لعمر، ومن قوله: "ابعثوا الهدي في وجهه". الرابعة بعد المائة: ما أكرمه الله تعالى به، وشرفه به على الأنبياء، من نزول أول سورة الفتح التي فيها {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ} [سورة الفتح آية: 2] . الخامسة بعد المائة: هوان الدنيا عنده. السادسة بعد المائة: تغنيه بالقرآن. السابعة بعد المائة: حاجته لنُزول السكينة. الثامنة بعد المائة: إلزام الله له كلمة التقوى. التاسعة   1 أي مع أبي جندب. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 396 بعد المائة: إزالة المشكلات عن الصحابة. العاشرة بعد المائة: سؤالهم إياه ما أشكل عليهم، من كلام الله وكلامه. الحادية عشر بعد المائة: صبره على أذى عروة، الذي لم يصبر عليه المغيرة، ولا أبو بكر. الثانية عشر بعد المائة: قوله: "دعوهم، يكون لهم بدء الغدر وثناؤه". الثالثة عشر بعد المائة: حلمه عمن أراد اغتياله غدرا. الرابعة عشر بعد المائة: عمرته في أشهر الحج. الخامسة عشر بعد المائة: جواز فسخ تسميتها إلى الجهاد. السادسة عشر بعد المائة: حسن خلقه صلى الله عليه وسلم مع أصحابه، حتى يدع رأيه لرأيهم. السابعة عشر بعد المائة: ليس ذلك من التقدم بين يديه. الثامنة عشر بعد المائة: إهداء البدن في العمرة. التاسعة عشر بعد المائة: تقليده. العشرون بعد المائة: إشعاره. الحادية والعشرون: الاشتراك فيه. الثانية والعشرون: ما يفعل المحصر. الثالثة والعشرون بعد المائة: كون الهدي أكل بأمره صلى الله عليه وسلم. الرابعة والعشرون: إهداؤه جمل أبي جهل مغايظة عليهم. الخمسة والعشرون: جواز المصالحة عشر سنين للحاجة. السادسة والعشرون: كون هذا الصلح فتحا مبينا. السابعة والعشرون: أنه عند السلف وفي القرآن، لا فتح مكة. الثامنة والعشرون بعد المائة: نفي التسوية بين من أنفق وقاتل قبله وبين غيره. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 397 التاسعة والعشرون بعد المائة: كون موضع الشجرة خفي عليهم العام الآتي. الثلاثون بعد المائة: الصلاة في الحرم للنازل في الحل. الحادية والثلاثون بعد المائة: سرعة فرج الله للمستضعفين. الثانية والثلاثون بعد المائة: كون قريش1. الثالثة والثلاثون بعد المائة: العجب دفع الله عن قريش العذاب بأبغض البغضاء إليهم، وهم المسلمون بمكة الرابعة والثلاثون بعد المائة: كبر أذى المسلم عند الله. الخامسة والثلاثون بعد المائة: لزوم الدية في قتل الخطأ. السادسة والثلاثون بعد المائة: دخول أناس الجنة بسبب أبغض الناس إليهم. السابعة والثلاثون بعد المائة: التنبيه على عدم احتقار الضعفاء. التاسعة والثلاثون بعد المائة: لعل الله يعطيك الخير ويصرف عنك السوء بسببهم. الأربعون بعد المائة: بركة الطاعة وإن كرهت.   1 كذا بالأصل، ولعله يريد يمنعونه وهو محرم. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 398 سورة الحجرات وله أيضا قدس الله روحه ونور ضريحه. بسم الله الرحمن الرحيم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا الجزء: 13 ¦ الصفحة: 398 أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} [سورة الحجرات آية: 1-2] الآية " لما قدم وفد بني تميم، قال أبو بكر: يا رسول الله أمر فلانا وقال عمر: بل فلانا; قال ما أردت إلا خلافي، قال: ما أردته; فتجادلا حتى ارتفعت أصواتهما " 1. ففيه مسائل: الأولي: الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعظيم حرمته. الثانية: إذا كان هذا التغليظ في الشيخين، فكيف بغيرهم؟ . الثالثة: اختلاف كلام المفسرين والمعنى واحد، لكن كل رجل يصف نوعا من التقدم. الرابعة: الأمر بالتقوى في هذا الموضع. الخامسة: الاستدلال بالأسماء الحسنى على المسألة. السادسة: مسألة الإحباط وتقريره. السابعة: وجوب طلب العلم، بسبب أن هذا مع كونه سببا للإحباط لا يفطن له، فكيف بما هو أغلظ منه بكثير؟ الثامنة: قوله: {وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} [سورة الحجرات آية: 2] أي: لا تدرون، فإذا كان هذا فيمن لا يدري، دل على وجوب التعلم والتحرز، وأن الإنسان لا يعذر بالجهل في كثير من الأمور. التاسعة: ما ترجم عليه البخاري، بقوله: باب خوف المؤمن ... إلخ. قوله: {إنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى} الآية: [سورة الحجرات آية: 3]   1 البخاري: المغازي (4367) ، والترمذي: تفسير القرآن (3266) ، والنسائي: آداب القضاة (5386) ، وأحمد (4/6) . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 399 فيه مسائل: الأولى: ثناء الله على أهل العمل. الثانية: أن معنى امتحنها: هيأها، فقد تبتلى بما تكره، ويكون نعمة من الله، يريد امتحان قلبك للتقوى. الثالثة: استدل بها على أن من يكف عن المعصية، مع منازعة النفس، أفضل ممن لا يشتهيها. الرابعة: وعد الله لأهل هذه الخصلة بالمغفرة والأجر العظيم، فينزل ما يكرهون ويعطيهم ما يحبون. قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ} [سورة الحجرات آية: 4] إلى قوله: {غَفُورٌ رَحِيمٌ} [سورة الحجرات آية: 5] : فيه مسائل: الأولى: ذمه لمن أساء الأدب. الثانية: ذكره أن أكثرهم لا يعقلون، مع كونهم من أعقل الناس في ظنهم. الثالثة: ذم العجلة ومدح التأني. الرابعة: رأفة الله ورحمته بالعباد ولو عصوه، لختمه الأدب بهذين الاسمين. َيا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} [سورة الحجرات آية: 6] الآية: نزلت في رجل أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن بعض المسلمين أنهم منعوا الزكاة، فهم بغزوهم؛ وكان كاذبا. فيه مسائل: الأولى: كبر بهتان المسلم عند الله، كيف فضح الله هذا بهذه الفضيحة الباقية إلى يوم القيامة، مع كونه من الصحابة. الثانية: معنى التبين وهو التثبت. الثالثة: الأمر الذي نزلت فيه الآية، وهو أمر المسلمين بعدم العجلة إذا جاءهم مثل هذا، والنهي عن العجلة. الرابعة: ذكر علة الحكم وهو الندم إذا أصابوا قوما الجزء: 13 ¦ الصفحة: 400 بجهالة. الخامسة: أن الله لم يأمر بتكذيب الفاسق، ولكن أمر بالتثبت. السادسة: استدل بها على أنه إذا عرف صدقه عمل به، لانتفاء العلة. السابعة: استدل بها على أن الخبر إذا أتى به أكثر من واحد، فليس في الآية الأمر بالتبين فيه. الثامنة: أن المؤمن يندم إذا تبين له خطؤه. التاسعة: قتال مانعي الزكاة، كما في آية السيف. العاشرة: جباية النبي صلى الله عليه وسلم الزكاة، ولم يجعلها لأهل الأموال. {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ} [سورة الحجرات آية: 7] إلى قوله: {عَلِيمٌ حَكِيمٌ (: فيه مسائل: الأولي: كيف أمرهم بالعلم بأنه رسول الله، وهم الصحابة، فما أجلها من مسألة وأدلها على مساثل كثيرة! الثانية: أنه لو يطيعهم في كثير من الأمر، جرى ما جرى وهم الصحابة، ففيها التسليم لأمر الله، ومعرفة أنه هو المصلحة، وتقديم الرأي عليه هو المضرة. الثالثة: معنى العنت: الضيق، أي: رأيكم يجر إلى الضيق عليكم. الرابعة: أن ما بكم من الخير والصواب، فليس ذلك من أنفسكم، ولو وكلتم إليها جرى ما جرى، فهو الذي حبب إليكم الإيمان، وكره إليكم ضده. الخامسة: فيه أن الأعمال من الإيمان، ففيه الرد على الأشعرية. السادسة: أن الجزء: 13 ¦ الصفحة: 401 تزيينه في القلوب نوع آخر غير المحبة. السابعة: أن الكفر نوع، والفسوق نوع، والعصيان عام في جميع المعاصي; فمن الكفر شيء لا يخرج عن الملة، كقوله: " سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر " 1، ومنه الفسوق بالكبائر، فعلمت أن ما أطلق عليه الكفر أكبر من الكبائر، ولو لم يخرج من الملة. الثامنة: قوله: أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} [سورة الحجرات آية: 7] : ففيه أمران: أحدهما: أن الرشد فعل ما ذكر وترك ما ذكر. التاسعة: أن الرشد من غير حول منهم ولا قوة. العاشرة: ذكره تعالى أن ذلك فضل منه ونعمة، فكرر الأمر لأجل كبر المسألة. الحادية عشرة: الفرق بين الفضل والنعمة. الثانية عشرة: ختم الآية بالاسمين الشريفين. الثالثة عشرة: قرنه سبحانه بين العلم والحكمة; ويوضحه المثل: ما قرن شيء إلى شيء أزين من حلم إلى علم، وما قرن شيء إلى شيء أقبح من جهل إلى خرق. الرابعة عشرة: أن نتيجة هذا الدلالة على التمسك بالوحي، والتحذير من الرأي المخالف، ولو من أعلم الناس. الخامسة عشرة: التنبيه على لطفه بنا، وأنه أرحم بنا من أنفسنا. {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [سورة الحجرات آية: 9] إلى قوله: {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [سورة الحجرات آية:10] .   1 البخاري: الإيمان (48) ، ومسلم: الإيمان (64) ، والترمذي: البر والصلة (1983) والإيمان (2635) ، والنسائي: تحريم الدم (4105، 4108، 4110، 4111، 4112) ، وابن ماجه: المقدمة (69) والفتن (3939) ، وأحمد (1/385، 1/411، 1/433، 1/454) . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 402 ومن سورة الذاريات وقال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن: وأما ما ذكرت من كلام ابن العربي المالكي في معنى قوله: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} [سورة الذاريات آية: 56] : تأملته فوجدته قد اعتمد وعول في معنى هذه الآية على كلام القدرية المجبرة، وغلط في زعمه أن معناه لبعض أهل السنة. وابن العربي إن لم يكن موافقا لهم في أصل الجبر والقول به، فقد يدخل عليهم كلامهم وكلام نظائرهم، ولا ينكره، بل يأخذ به ويقرره، إما جهلا منه بأنه مخالف لقول أهل السنة، أو تقليدا لمن يحسن به الظن، أو لأسباب أخر; وليس هذا خاصا به؛ بل قد وقع فيه كثير من أتباع الأئمة، المنتسبين إلى السنة; فإن قوله في تفسير قوله تعالى: {إِلاّ لِيَعْبُدُونِ} أي: إلا لتجري أفعالهم على مقتضى حكم المولى، وإنما يخرج فعل العبد عن حكم المولى إذا كان مغلوبا؛ والغالب لا يخرج شيء عن فعله، وهو الله وحده. انتهى. وهذا الكلام بعينه هو كلام القدرية المجبرة فيما حكاه عنهم غير واحد، وهذا التعليل هو تعليلهم بعينه. وهذا القول يقتضي أنه سبحانه خلق الشاكر ليشكر، والفاجر ليفجر، والكافر ليكفر، فما خرج أحد عما خلق له على هذا القول، لأن القدر جاء بذلك كله. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 403 والقدرية المجبرة دعاهم لهذا فيما يزعمون إبطال قول القدرية النفاة، ومصادمتهم في قولهم: إن الإرادة هي الأمر، يأمر بها الطائفتين؛ فهؤلاء عبدوه بأن أحدثوا إرادتهم وطاعتهم; وهؤلاء عصوه بأن أحدثوا إرادتهم ومعصيتهم. وحاصل قولهم: إنكار القدر، وأن الأمر أنف; فقابلهم أولئك بالقول بالجبر; وأنهم لا يخرجون من قدره وقضائه، نظرا منهم إلى أن الأمر كائن بمشيئة الله وقدره، وأنه ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن. وأنه تعالى خالق كل شيء، وربه ومليكه، ولا يكون في ملكه شيء إلا بقدرته وخلقه ومشيئته، كما قال تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [سورة القمر آية: 49] ، {مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [سورة الأنعام آية: 111] ، {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} [سورة الأنعام آية: 112] ، {وَمَا تَشَاءُونَ إِلاّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [سورة الإنسان آية: 30] ، ونحو ذلك من الآيات. ولا ريب أن هذا أصل عظيم من أصول الإيمان، لا بد منه في حصول الإيمان؛ وبإنكاره ضلت القدرية النفاة، وخالفوا جميع الصحابة وأئمة الإسلام؛ ولكن لا بد معه من الإيمان بالإرادة الشرعية الدينية التي نزلت بها الكتب السماوية، ودلت عليها النصوص النبوية. وأئمة المسلمين قد أثبتوا هذه وهذه، وذكروا الجمع بينهما; وآمنوا بكلا الأصلين، وفرقوا بين لام العلة الباعثة الفاعلة، وبين لام الغاية والصيرورة والعاقبة. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 404 والقرآن قد جاء ببيان اللامين: الأولي: في قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [سورة الذاريات آية: 56] ، {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} [سورة النساء آية: 64] ، {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [سورة البقرة آية: 185] . والثانية: في قوله تعالى: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً} [سورة القصص آية: 8] ، {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً} [سورة الأعراف آية: 179] ، {وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [سورة هود آية: 119] على أحد القولين فمن نفى الإرادة الشرعية الأمرية فهو جبري ضال مبتدع، ومن نفى الإرادة الكونية القدرية فهو قدري ضال مبتدع. ومن قال: إن العبادة في قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ} [سورة الذاريات آية: 56] بمعنى: إلا لتجري أفعالهم على مقتضى إرادتي الكونية، فقد أدخل جميع الخلق، مؤمنهم وكافرهم، برهم وفاجرهم، في هذه العبادة; وجعل عابد الأصنام والشيطان والأوثان، عابدا للرحمن، قائما بما خلق الله له الإنس والجان، لكن بمعنى جريان الإرادة القدرية الكونية عليهم، لا بمعنى الاتحاد والحلول الذي قاله صاحب الفصوص وطائفة الاتحاد الكفار. وقال قائلون بالجبر: لا شك أن الخلق يعبدون بجريان الأقدار عليهم، يريدون أن ذلك هو المقصود بالآية، الجزء: 13 ¦ الصفحة: 405 كما سيأتي في حكاية هذا عن غيرهم. والعبادة وإن كانت لغة: أقصى غاية الذل والخضوع مطلقا، كما في قوله: تباري عتاقا ناجيات وأتبعت ... وظيفا وظيفا فوق مور معبد 1 فهي في الشرع أخص من ذلك، لأنها اسم للطاعة والانقياد للأوامر الشرعية الدينية التي دعت إليها الرسل، ودلت عليها الكتب السماوية، كما فسر ابن عباس رضي الله عنهما قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} [سورة البقرة آية: 21] بتوحيده، وإخلاص العبادة له، نظرا منه إلى الحقيقة الشرعية، لا إلى أصل الأوضاع اللغوية؛ وقد اعترضه ابن جرير هنا، بأصل الوضع واللغة. والحق ما قاله ابن عباس، خلافا لابن جرير، بدليل قوله تعالى: {وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} [سورة الكافرون آية: 3] وتعليلهم ما قالوه: بأن العبد لا يخرج عن فعل المولى، إلا إذا كان المولى مغلوبا، والله تعالى هو الغالب وحده، أو نحو هذا التعليل. فهذا قد احتجوا به على القدرية النفاة، وهو احتجاج صحيح على من نفى القدر، وزعم أن العبد يخلق أفعال نفسه، لأن الله تعالى لا يعصى عنوة، بل علمه وقدرته وعزته، وحكمته وربوبيته العامة، وكلماته التامة، التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر، مانعة ومبطلة لقول القدرية النفاة.   1 وتقدم ذكر قائله ومقصوده، في صفحة 378/ج/12. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 406 فإن الصحابة قاطبة، وسائر أهل السنة والجماعة متفقون على أنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن. ويؤمنون بأن الله تبارك وتعالى عالم بجميع الكائنات قبل أن تكون كيف تكون؛ وغلاة منكري القدر قد أنكروا هذا العلم، فكفرهم بذلك الأئمة: أحمد وغيره. وأما من قال بإثبات القدر خيره وشره، حلوه ومره، فلا يلزمه ولا يرد عليه ما ورد على القدرية النفاة، من لزوم خروج العبد عن فعل المولى. وإن قال: إن العبد قد يخرج عن الإرادة الدينية الشرعية إلى ما يضادها من المعاصي والكفر والفسوق، فيكون بذلك مخالفا للأوامر الشرعية وإن كان داخلا تحت المشيئة الكونية القدرية; فالخروج عن القدر والمشيئة نوع، والخروج عن الأوامر الشرعية نوع آخر. فالأول غير ممكن لجميع المخلوقات، لجريان الأقدار عليهم طوعا وكرها; وأما الثاني فيقع من الأكثر {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [سورة يوسف آية: 103] . ولله سبحانه وتعالى في خروج الأكثر عن أمره حكمة يحبها ويرضاها، لائقة بعلمه وحكمته، وعدله وربوبيته، يستحق أن يحمد عليها. وقد رأيت لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، كلاما حسنا في معنى قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ} [سورة الذاريات آية: 56] ذكر فيه ستة أقوال: أحدها: قول نفاة الحكم كالأشاعرة ومن وافقهم، كالقاضي الجزء: 13 ¦ الصفحة: 407 أبي يعلى، وابن الزاغوني، والجويني، والباجي. وهو قول جهم بن صفوان ومن اتبعه من المجبرة القائلين بنفي الحكمة، وأنها تفضي إلى الحاجة، فنفوا أن يكون في القرآن لام كي، وقالوا: يفعل ما يشاء لا لحكمة، فأثبتوا القدرة والمشيئة، وهذا تعظيم، ونفوا الحكمة لظنهم أنها تستلزم الحاجة. الثاني. قول المعتزلة ومن وافقهم، وهو: أن الله تعالى يخلق ويأمر، لحكمة تعود إلى العباد، وهي نفعهم والإحسان إليهم؛ فلم يخلق ولم يأمر إلا لذلك، لكن قالوا بأنه يخلق من يتضرر بالخلق، فتناقضوا بذلك. ثم افترقوا على قولين: من أنكر القدر ووضع لربه شرعا بالتجويز والتعديل، وهذا هو قول القدرية; ومنهم من أقر بالقدر، وقال: حكمته خفيت علينا، وهذا قول ابن عقيل وغيره من المثبتين للقدر; فهم يوافقون المعتزلة على إثبات الحكم، وأنها ترجع إلى المخلوق، ويقرون بالقدر. الثالث: قول من أثبت حكمة تعود إلى الرب، لكن بحسب علمه، فقال: خلقهم ليعبدوه ويحمدوه، فمن وجد منه ذلك فهو مخلوق، وهم المؤمنون، ومن لم يوجد منه ذلك فليس بمخلوق له; قالوا: وهذه حكمة مقصودة، وهي واقعة، بخلاف الحكمة التي أثبتها المعتزلة، فإنهم أثبتوا حكمة هي نفع للعباد; ثم قالوا: خلق من علم أنه لا ينتفع الجزء: 13 ¦ الصفحة: 408 بالخلق، بل يتضرر، فتناقضوا، كما تقدم. ونحن أثبتنا حكمة علم أنها تقع، فوقعت، وقد يخلق ما يتضرر بالخلق لنفع الآخرين؛ وفعل الشر القليل لأجل الخير الكثير حكمة، كإنزال المطر لنفع العباد، وإن تضرر البعض. قالوا: وفي خلق الكفار وتعذيبهم اعتبار للمؤمنين وجهادهم ومصالحهم؛ وهذا اختيار القاضي أبي حازم بن القاضي أبي يعلى. قالوا: فقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ} [سورة الذاريات آية: 56] هو مخصوص بمن وقعت منه العبادة، وهذا قول طائفة من السلف والخلف، وهو قول الكرامية. وعن سعيد بن المسيب في معنى الآية قال: ما خلقت من يعبدني إلا ليعبدني، كذلك قال الضحاك والفراء وابن قتيبة; هذا خاص بأهل طاعته. قال الضحاك: هي للمؤمنين، وهذا اختيار أبي بكر بن الطيب، وأبي يعلى، وغيرهما ممن يقول: إنه لا يفعل لعلة. قالوا: - واللفظ لأبي يعلى-: هذا بمعنى الخصوص لا العموم، لأن البله والأطفال والمجانين لا يدخلون تحت الخطاب، وإن كانوا من الإنس، وكذلك الكفار، بدليل قوله تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ} [سورة الأعراف آية: 179] ؛ فمن خلق للشقاء لجهنم يخلق للعبادة. قلت: قوله: وهذا قول طائفة من السلف والخلف، الجزء: 13 ¦ الصفحة: 409 يعني: القول بالتخصيص في الآية، لا أصل القول الثالث. ثم قال شيخ الإسلام: قلت قول الكرامية ومن وافقهم، وان كان أرجح من أقوال المعتزلة، لما أثبتوه من حكمة الله؛ وقولهم في تفسير الآية، وإن وافقوا فيه بعض السلف، فهو قول ضعيف مخالف لقول الجمهور. والقول الرابع: أنه على العموم، لكن المراد بالعبادة تعبيده لهم وقهرهم، ونفوذ قدرته ومشيئته فيهم، وأنه أصارهم إلى ما خلقوا له من السعادة والشقاوة؛ وفسروا العبادة بالتعبيد القدري؛ وهذا يشبه قول من يقول من المتأخرين: أنا كافر برب يعصى؛ فإنه جعل كل ما يقع من العباد طاعة، كما قال قائلهم: أصبحت منفعلا لما يختاره ... مني ففعلي كله طاعات وأما هؤلاء: فجعلوا عبادة الله كون العباد تحت المشيئة; وكان بعض شيوخهم يقول عن إبليس: إن كان قد عصى الأمر فقد أطاع القدر والمشيئة; وما رواه ابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم، في قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ} [سورة الذاريات آية: 56] قال: "جبلهم على الشقاء والسعادة". وقال وهب: جبلهم على الطاعة وجبلهم على المعصية، وقد روي أيضا عن طائفة نحوه; وهؤلاء وإن وافقوا من قبلهم في معنى الآية، فهم – أعنى زيد بن أسلم، ووهب بن منبه - من أعظم الناس تعظيما للأمر الجزء: 13 ¦ الصفحة: 410 والنهي، والوعد والوعيد؛ وأما من قبلهم فهم إباحية، يسقطون الأمر والنهي. والقول الخامس: قول من يقول: إلا ليخضعوا لي ويذلوا; قال: ومعنى العبادة في اللغة: الذل والانقياد، وكل مخلوق من الجن والإنس خاضع لقضاء الله ومتذلل لمشيئته، لا يملك أحد لنفسه خروجا عما خلق له. وقد ذكر أبو الفرج عن ابن عباس: "إلا ليقروا بالعبادة طوعا وكرها"، قال: وبيان هذا قوله: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [سورة لقمان آية: 25] ، وهذه الآية توافق قول من قال: إلا ليعرفوني، كما سيأتي. وهؤلاء الذين أقروا بأن الله خالقهم، لم يقروا بذلك كرها، بخلاف إسلامهم وخضوعهم له، فإنه يكون كرها ; وأما نفس الإقرار، فهو فطري فطروا عليه وبذلوه طوعا. وقال السدي: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ} [سورة الذاريات آية: 56] قال: خلقهم للعبادة، ولكن العبادة عبادة تنفع؛ ومن العبادة عبادة لا تنفع {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ} [سورة لقمان آية: 25] الآية هذا منهم عبادة، وليس ينفعهم مع شركهم، وهذا المعنى صحيح. ولكن المشرك يعبد الشيطان، وما عدل به الله، وهذا ليس مراد الآية؛ فإن مجرد الإقرار بالصانع لا يسمى عبادة الله مع الشرك به، ولكن يقال كما قال تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [سورة يوسف آية: 106] . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 411 قال الشيخ: محمد بن عبد الوهاب، أجزل الله له الأجر والثواب. قوله: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [سورة المجادلة آية: 11] : خص سبحانه برفعه الأقدار والدرجات الذين أوتوا العلم والإيمان، واستشهد بهم في قوله: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ [سورة آل عمران آية: 18] . وأخبر عنهم أنهم هم الذين يرون ما أنزل إلى رسوله هو الحق، بقوله: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ} [سورة سبأ آية: 6] ، فدل على أن تعلم الحجة والقيام بها يرفع الله به درجات من يرفعها، كما قال: {نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ} [سورة الأنعام آية: 83] . وقال زيد بن أسلم: "بالعلم ترفع الأقدار والدرجات، على قدر معاملة القلوب بالعلم والإيمان; وكم من يختم القرآن في اليوم مرة أو مرتين، وآخر لا ينام الليل، وآخر لا يفطر، وغيرهم أقل عبادة منهم، وأرفع قدرا في قلوب الأمة". فهذا كرز ابن وبرة، وكهمس، وابن طارق، كانوا يختمون القرآن في الشهر تسعين مرة، وحال سعيد بن المسيب وابن سيرين والحسن وغيرهم في القلوب أرفع؛ ولذلك ترى كثيرا ممن يلبس الصوف، ويهجر الشهوات، ويتقشف، وغيره مما لا يدانيه في ذلك، الجزء: 13 ¦ الصفحة: 412 وأهل العلم والإيمان أعظم في القلوب منه وأجل عند النفوس، وما ذاك إلا لقوة المعامله الباطنة وصفائها، وخلوصها من شهوات النفوس وأكدار البشرية، وطهارتها من الذنوب التي تكدر معاملة أولئك. وإنما نالوا ذلك بقوة يقينهم بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وكمال تصديقه في قلوبهم، ووداده ومحبته، وأن يكون الدين كله لله. فإن من أرفع درجات القلوب، فرحها التام بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وابتهاجها وسرورها، كما قال تعالى: {والذين آتيناهم الكتاب يفرحون بما أنزل إليك} [سورة الرعد آية: 36] ، وقال: {قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا} [سورة يونس آية: 58] ، ففضل الله ورحمته: القرآن والإيمان. فمن فرح بأعظم مفروح بغيره، فقد فرح بأعظم مفروح به; ومن فرح بغيره، فقد ظلم نفسه، ووضع الفرح في غير موضعه. فإذا استقر في القلب، وتمكن منه العلم بكفايته لعبده، ورحمته له، وحلمه عنه، وبره به، وإحسانه إليه على الدوام، أوجب له الفرح والسرور به، أعظم من فرح كل محب بكل محبوب سواه، فلا يزال مترقيا في درجات العلوم والارتفاع بحسب رقيه في هذه المعارف، هذا في باب معرفة الأسماء والصفات. وأما في باب فهم القرآن، فهذا دائم التفكر في معانيه الجزء: 13 ¦ الصفحة: 413 والتدبر لألفاظه، واستغنائه بمعاني القرآن وحكمه، عن غيره من كلام الناس؛ وإذا سمع شيئا من كلام الناس، وعلومهم عرضه على القرآن، فإن شهد له بالتزكية والعدالة قبله، وإلا رده؛ وإن لم يشهد له بقبول ولا رد وقفه. وهمته عاكفة على مراد ربه من كلامه، ولا يجعل همته وقصده في تحصيل ما حجب به أكثر الناس من العلوم عن حقائق القرآن بالوسوسة في خروج حروف، وترقيقها وتفخيمها وإمالتها، والنطق بالمد الطويل والقصير والمتوسط وغير ذلك; فإن هذا حائل للقلوب، وقاطع لها عن فهم مراد الرب من كلامه. وكذلك شغل النطق بـ {أءنذرتهم} ووجوهها، وضم الميم من {عليهم} ، ووصلها بالوصل، وكسر الهاء وضمها ونحو ذلك، من شغل الزمان وتنقية النطق وصفاتها، معرضها عن المقصود، وكذلك مراعاة النغم وتحسين الصوت. وكذلك تتبع أوجه الإعراب، واستخراج التأويلات المستكرهة، التي هي بالألغاز والأحاجي أشبه منها بالبيان، وكذلك صرف الذهن إلى حكاية أقوال الناس، ونتائج أفكارهم. وكذلك تنزيل القرآن على قول من قلده في دينه أو مذهبه، فهو يتعسف بكل طريق، حتى يجعل القرآن تبعا لمذهبهم، وتقوية لقول إمامه، وكل محجوبون بما لديهم عن فهم مراد الله من كلامه، في كثير من ذلك أو أكثره. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 414 وكذلك ظن من ظن ممن لم يقدر القرآن حق قدره، أنه غير كاف ولا شاف، ولا هاد في معرفة التوحيد، والأسماء والصفات، وما يجب لله وما ينزه عنه; بل الكافي في ذلك عقول المتهوسين الحيارى، الذين كلامهم قد خالف صريح القرآن مخالفة ظاهرة; وهؤلاء من أغلظ الناس حجابا عن فهم كتاب الله. وقال الشيخ محمد: قال شيخ الإسلام، رحمه الله: قوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ} [سورة النساء آية: 36-37] بكل ما ينفع في الدين والدنيا، من مال أو علم أو غير ذلك، فالبخل بالعلم الذي يمنعه المختال، إما يختال فلا يطلبه، وإما يختال على بعض الناس فلا يبذله; وهذا كثيرا ما يقع، وضده التواضع في طلبه والكرم ببذله. سئل الشيخ: عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن، رحمه الله تعالى، عن قوله تعالى: {يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ} [سورة الممتحنة آية: 8] الآية. فأجاب: الذي يظهر أن هذا إخبار من الله جل ذكره لعباده المؤمنين، بأنه لم ينههم عن البر والعدل والإنصاف، ومعاملة أي كافر كان من أهل الملل إذا كان لم يقاتلهم في الدين ولم يخرجهم من ديارهم، إذ العدل والإحسان والإنصاف مطلوب محبوب شرعا; ولذا علل هذا الحكم بقوله: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [سورة الممتحنة آية: 8] . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 415 وأما قوله: {أَنْ تَبَرُّوهُمْ} فقد قال بعض المعربين: إنه من الموصول بدل اشتمال، وأن ما دخلت عليه في تأويل مصدر، والتقدير {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ} [سورة الممتحنة آية: 8] بر من لم يقاتل في الدين; ولو قال هذا البعض: إنه بدل بدء، لكان أظهر، إذ لا يظهر الاشتمال بأنواعه التسعة. هذا، والأظهر عندي أن لا بدل مطلقا، وأن الموصول معمول للمصدر المتأخر المأخوذ من أن وما دخلت عليه ; فالموصول إذا في محل نصب بالمصدر المسبوك، وتأخر العامل لا يضر، وما على البدلية، فهو في محل جر. وقوله: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [سورة الممتحنة آية: 8] أكد الجملة هنا لمناسبة مقتضى الحال، إذ المقام مظنة لغلط الأكثر، ولتوهم خلاف المراد؛ فاقتضى التأكيد، والتوفية بالأداة، كما يعلم من فن المعاني; وقوله: {فِي الدِّينِ} في سببيه كما في قوله: " دخلت النار امرأة في هرة " 1 الحديث. وسبب النّزول: ما رواه الإمام أحمد في مسنده، حدثنا أبو معاوية، حدثنا هشام بن عروة، عن فاطمة بنت المنذر، عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها، قالت: " قدمت أمي - وهي مشركة في عهد قريش إذ عاهدوا - فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله، إن أمي قدمت وهي راغبة، أفأصلها؟ قال: نعم صلي أمك " 2 وهذا الحديث أخرجه البخاري ومسلم.   1 البخاري: بدء الخلق (3318) ، ومسلم: التوبة (2619) ، وابن ماجه: الزهد (4256) ، وأحمد (2/457) . 2 البخاري: الهبة وفضلها والتحريض عليها (2620) ، ومسلم: الزكاة (1003) ، وأبو داود: الزكاة (1668) ، وأحمد (6/344) . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 416 وفي بعض الطرق: أنها جاءت لابنتها بهدية ضباب، وأقط، وسمن، فأبت أسماء أن تقبل منها وتدخل البيت، حتى سألت النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله هذه الآية. وأما قول ابن زيد وقتادة: إنها منسوخة، فلا يظهر لوجوه: منها: أن الجمع بينها وبين آية القتال ممكن غير متعذر، ودعوى النسخ يصار إليها عند التعذر، وعدم إمكان الجمع إن دل عليه دليل. ومنها: أن السنة متظاهرة بطلب الإحسان والعدل مطلقا، ولا قائل بالنسخ، لكن قد يجاب عن ابن زيد وقتادة بأن النسخ في كلاميهما بمعنى التخصيص، وهو متجه على اصطلاح بعض السلف؛ ولا شك أن القتال بالسيف وتوابعه من العقوبات; والغلظة في محلها مخصوص من هذا العموم. ووجه مناسبة الآية لما قبلها من الآي: أنه لما ذكر تعالى نهيه عباده المؤمنين، عن اتخاذ عدوه وعدوهم، أولياء يلقون إليهم بالمودة، ثم ذكر حال خليله ومن آمن معه، في قولهم وبراءتهم من قومهم المشركين، حتى يؤمنوا، وذكر أن لعباده المؤمنين أسوة حسنة، خيف أن يتوهم أحد، أو يظن أن البر والعدل داخلان في ضمن ما نهى عنه من الموالاة وأمر به من البراءة، فناسب أن يدفع هذا بقوله: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ} الآية. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 417 [تفسير شيخ الإسلام ابن تيمية لآية: بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ} قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى، قال شيخ الإسلام: هذه تفسير آيات أشكلت ومنها قوله تعالى: بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ} [سورة القلم آية: 6] حار فيها كثير، والصواب المأثور عن السلف: قال مجاهد: الشيطان، وقال الحسن: هم أولى بالشيطان من نبي الله ; فبين المراد وإن لم يتكلم على اللفظ، كعادة السلف في الاختصار من البلاغة وفهم المعنى; وقال الضحاك: المجنون فإن من كان به الشيطان ففيه الجنون. وعن الحسن: الضال، وذلك أنهم لم يريدوا بالمجنون الدي يخرق ثيابه ويهذي، بل لأن النبي صلى الله عليه وسلم خالف أهل العقل في نظرهم، كما يقال: ما لفلان عقل ; ومثل هذا رموا به أتباع الأنبياء كقوله تعالى: {وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّونَ} [سورة المطففين آية: 32] ، ومثله في هذه الأمة كثير، يسخرون من المؤمنين ; ويرمونهم بالجنون والعظائم، التي هم أولى بها منهم. قال الحسن: "لقد رأيت رجالا لو رأيتموهم لقلتم مجانين، ولو رأوكم لقالوا: هؤلاء شياطين، ولو رأوا خياركم لقالوا: هؤلاء لا خلاق لهم، ولو رأوا شراركم لقالوا: هؤلاء قوم لا يؤمنون بيوم الحساب"، وهذا كثير في كلام السلف، يصفون أهل زمانهم وما هم عليه من مخالفة من تقدم، فما الظن بأهل زماننا؟ والذين لم يفهموا هذا، قالوا: الباء زائدة، قاله ابن الجزء: 13 ¦ الصفحة: 418 قتيبة وغيره; وهذا كثير، كقوله: {سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الأَشِرُ} [سورة القمر آية: 26] ، {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ} [سورة الشعراء آية: 221] ، الآيات {قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ} [سورة هود آية: 38-39] الآيتين. [قول الشيخ ابن عبد الوهاب في السور المتواليات نوح والجن والمزمل] وقال أيضا الشيخ محمد بن عبد الوهاب، في الثلاث السور المتواليات: سورة نوح، وسورة الجن، وسورة المزمل: الأولي. قصة يغوث ويعوق، أنهم صالحون، ولا أرادوا إلا شفاعتهم ; ما عافوا دين آدم، بل يزعمون أنهم عليه; وهذا مما يعرف الإنسان بالشرك. وفي الثانية، والثالثة: الشهادتان: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، في قوله: لا تدعوا مع الله أحدا، وقوله: {لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً} [سورة الجن آية: 21] ، وشهادة أن محمدا رسول الله، في قوله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِداً عَلَيْكُمْ} [سورة المزمل آية: 15] . وهذا أول ما يجب تعلمه، لما ذكر في سورة لقمان كلام لقمان لابنه، ذكر أن قصص القرآن للناس إلى يوم القيامة، فحال المثنى عليهم لعلك تعمل مثل عملهم، والمذمومين لعلك تجتنب فعلهم. لكن ذكر أنه أطلق من الأمر والنهي، فكونه ذكر حال إبليس في الكبر، أبلغ من قوله لا تكبر، وحال آدم في الجزء: 13 ¦ الصفحة: 419 قولهما {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا} [سورة الأعراف آية: 23] فأبلغ من قولك: الإنسان لا تعذر، أقر، وهذا أصل عظيم. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 420 وقال أيضا عفا الله عنه: سورة الجن بسم الله الرحمن الرحيم روى الشيخان عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: " انطلق النبي صلى الله عليه وسلم في طائفة من أصحابه، عامدين إلى سوق عكاظ، وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء، وأرسلت عليهم الشهب، فرجعت الشياطين إلى قومهم، فقالوا: ما لكم؟ فقالوا: حيل بيننا وبين خبر السماء، وأرسلت علينا الشهب. قالوا: ما حال بينكم وبين خبر السماء، إلا شيء حدث، فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها، فانظروا ما هذا الذي حال بينكم وبين خبر السماء. فانصرف أولئك الذين توجهوا نحو تهامة، إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو بنخلة، عامدين إلى سوق عكاظ، وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر. فلما سمعوا القرآن استمعوا له، فقالوا: هذا والله الذي حال بينكم وبين خبر السماء. فهناك حين رجعوا إلى قومهم {فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً} [سورة الجن آية: 1] 1 الآية، فأنزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم: {قل أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَداً}   1 البخاري: الأذان (773) ، ومسلم: الصلاة (449) ، والترمذي: تفسير القرآن (3323) ، وأحمد (1/252) . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 420 " [سورة الجن آية: 1- 2] . يعني أنهم لما رجعوا إلى قومهم قالوا لهم هذا وقوله: {عَجَبًا} أي: بليغا في لفظه ومعناه. {أَنَّهُ اسْتَمَعَ} بالفتح لأنه نائب فاعل أوحى، و {إِنَّا سَمِعْنَا} بالكسر لأنه محكي بعد القول; وقوله: {يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ} أي: إلى الصواب وقيل: إلى التوحيد. {وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَداً} [سورة الجن آية: 3] يقول: تعالى جلال الله وعظمته وغناه، عن اتخاذ الصاحبة والولد; وذلك أنهم لما سمعوا القرآن، فهموا التوحيد وتنبهوا على الخطأ، في عدم تنْزيه الله عما لا يليق به، فاستعظموا ذلك ونزهوه عنه. وقوله: {وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطاً} [سورة الجن آية: 4] : سفيههم: إبليس، قاله مجاهد، وقيل: هو أو غيره من مردة الجن، والشطط مجاوزة الحد في الظلم أو غيره. وقوله: {وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً} [سورة الجن آية: 5] يعني: أن في ظننا أن أحدا من الثقلين لن يفترى على الله ما ليس بحق، فلسنا نصدقهم فيما أضافوا إليه من ذلك; فلما سمعنا القرآن، تبين لنا افتراؤهم. {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الأِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً} [سورة الجن آية: 6] ومعنى هذا: أن الرجل من العرب كان إذا أمسى في واد قفر، وخاف، قال: أعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه، يريد الجن وكبيرهم. فلما سمع الجزء: 13 ¦ الصفحة: 421 ذلك الجن استكبروا، وقالوا: سدنا الجن والإنس، فذلك الرهق; والرهق في كلام العرب: غشيان المحارم. {وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً} [سورة الجن آية: 7] قيل: إنه مما حكى الله عن الجن; أي: أن الإنس ظنوا كما ظننتم أن لن يبعث الله أحدا; وقيل: من كلام الله، والضمير في {وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا} للجن; والخطاب في {ظَنَنْتُمْ} للإنس. {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَصَداً} [سورة الجن آية: 8-9] يؤخذ من قوله: {مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً} [سورة الجن آية: 8] أن الحادث الملأ والكثرة، وكذلك {مَقَاعِدَ} أي: كنا نجد بعض المقاعد خالية من الحرس، والآن ملئت المقاعد كلها; ومعنى هذا: أنهم يذكرون سبب ضربهم في البلاد، حتى عثروا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعلموا أن الله أراد بهم رشدا. {وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَداً} [سورة الجن آية: 11] يقولون: منا الصالحون، ومنا قوم دون ذلك، الآية، والقدة من قد، كالقطعة من قطع، وصفت الطرائق بذلك، لدلالتها على التقطع والتفرق; قال الحسن: أمثالكم، فمنهم قدرية، ومرجئة، ورافضة; قال ابن كيسان: لكل فرقة هوى، كأهواء الناس. {وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً} الجزء: 13 ¦ الصفحة: 422 [سورة الجن آية: 12] : الظن هنا بمعنى اليقين، وهذه صفة أحوال الجن وعقائدهم، منهم أخيار وأشرار، وأنهم يعتقدون أن الله عزيز غالب لا يفوته مطلب، ولا ينجي عنه مهرب. {وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخَافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً} [سورة الجن آية: 13] يقولون: لما سمعنا القرآن آمنا به؛ وهذا يدل على أن الإيمان بالله، هو والإيمان بالقرآن متلازمان; والبخس: أن يبخس من حسناته، والرهق أن يحمل عليه ذنب غيره. {وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً} [سورة الجن آية: 14-15] القاسطون: الكافرون; يقال: قسط فهو قاسط، إذا ظلم; وأقسط فهو مقسط إذا عدل; وروي أن الحجاج قال لسعيد بن جبير: ما تقول في؟ قال: "قاسط عادل"، فقال القوم: ما أحسن ما قال! فقال الحجاج: يا جهلة إنه سماني ظالما مشركا; وتلا هذه الآية، وقوله: {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [سورة الأنعام آية: 1] . {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَاباً صَعَداً} [سورة الجن آية: 16-17] : يقول: لو استقاموا على طريقة الإسلام لوسعنا عليهم في الدنيا. وذكر الماء الغدق - وهو الكثير - لأنه سبب لسعة الجزء: 13 ¦ الصفحة: 423 الرزق {لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} أي: لنختبرهم كيف شكرهم; قال الحسن: والله إن كان أصحاب محمد كذلك، كانوا سامعين لله مطيعين لله، فلما فتحت كنوز كسرى وقيصر، وثبوا على إمامهم وقتلوه. وأخرج ابن جرير عن عمر: "حيث ما كان الماء، كان المال; وحيث ما كان المال كانت الفتنة". وقوله: {يَسْلُكْهُ عَذَاباً صَعَداً} [سورة الجن آية: 17] قال ابن عباس: "شاقا"، وأصله: أن الصعود فيه مشقة على الإنسان. {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} [سورة الجن آية: 18] قال قتادة: كان اليهود والنصارى إذا دخلوا بيعهم وكنائسهم، أشركوا بالله، فأمرنا أن نخلص لله الدعوة إذا دخلنا المساجد; وقيل: المساجد أعضاء السجود السبعة. {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً} [سورة الجن آية: 19] معناه: لما قام عبد الله يعبده، كادوا يزدحمون عليه متراكمين، تعجبا مما رأوا من عبادته، وإعجابا بما تلا من القرآن، لأنهم رأوا منه ما لم يروا مثله. وعبادة عبد الله لله ليس بأمر مستبعد عن العقل، ولا مستنكر، حتى يكونوا عليه لبدا. وقيل: لما قام عبد الله وحده مخالفا للمشركين، كادوا لتظاهرهم على عداوته، يزدحمون عليه متراكمين; وعن قتادة، قال: لما قام عبد الله للدعوة، تلبدت الإنس والجن، وتظاهروا عليه، ليبطلوا الحق الذي جاءهم به، ويطفئوا الجزء: 13 ¦ الصفحة: 424 نور الله، فأبى الله إلا أن يتم هذا الأمر، وينصره على من ناواه. {قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً} [سورة الجن آية: 20] أي: قال للمتظاهرين عليه: {إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي} أي: ما أتيتكم بأمر منكر، ولا ما يوجب إطباقكم على عداوتي، إنما التعجب ممن يدعو غير الله، ويجعل له شريكا. {قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً} [سورة الجن آية: 21] المعنى: أني لا أستطيع أن أضركم أو أن أنفعكم، إنما الضار النافع الله عز وجل. {قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً} [سورة الجن آية: 22] ومعنى الاستثناء، قيل: إنه من {لا أَمْلِكُ} أي: لا أملك إلا بلاغا من الله، و {قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي} [سورة الجن آية: 22] : جملة معترضة لتأكيد نفي الاستطاعة عن نفسه، على معنى: أن الله إن أراد به سوءا من مرض أو موت أو غيرهما، لم يصح أن يجيره منه أحد، أو يجد من دونه ملاذا يأوي إليه; والملتحد: الملتجأ، وقيل: {بَلاغًا} بدلا من {مُلْتَحَدًا} أي: لن أجد من دونه ملتجأ، إلا أن أبلغ ما أرسلني به. {حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً} [سورة الجن آية: 24-25] : كان الكفار يستضعفونه، ويستقلون أتباعه; وتغرهم قوتهم وكثرتهم {حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا الجزء: 13 ¦ الصفحة: 425 يُوعَدُونَ} [سورة الجن آية: 24] علموا كيف الحال، فقال المشركون: متى يكون هذا الموعود؟ إنكارا له. فقال: قل إنه كائن لا ريب فيه؛ وأما وقته، فلا أدري متى يكون، لأن الله لم يبينه، لما له فيه من الحكمة. لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً} [سورة الجن آية: 28] أي: ليعلم الله أن الأنبياء بلغوا الرسالات، كقوله: {حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ} [سورة محمد آية: 31] ، {وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ} [سورة الجن آية: 28] بما عند الرسل من الحكم والشرائع، {وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً} [سورة الجن آية: 28] من القطر، والرمل، وورق الأشجار، وغير ذلك، فكيف لا يحيط بما عند الرسل من وحيه؟ ! والله أعلم. وقال أيضا الشيخ: محمد، رحمه الله تعالى، على قوله تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} [سورة الجن آية: 18] : وبعد: فهذه عشر درجات: الأولي: تصديق القلب أن دعوة غير الله باطلة، وقد خالف فيها من خالف. الثانية: أنها منكر يجب فيها البغض; وقد خالف فيها من خالف. الثالثة: أنها من الكبائر والعظائم المستحقة للمقت والمفارقة؛ وقد خالف فيها من خالف. الرابعة: أن هذا هو الشرك بالله، الذي لا يغفره؛ وقد خالف فيها من خالف. الخامسة: أن المسلم إذا اعتقده، أو دان به كفر؛ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 426 وقد خالف فيها من خالف. السادسة: أن المسلم الصادق إذا تكلم به هازلا، أو خائفا، أو طامعا، كفر بذلك لعلمه; وأين ينزل القلب هذه الدرجة ويصدقه بها؟ وقد خالف فيها من خالف. السابعة: أنك تعمل معه عملك مع الكفار، من عداوة الأب والابن، وغير ذلك، وقد خالف فيها من خالف. الثامنة: أن هذا معنى لا إله إلا الله، والإله: المألوه، والإلهية عمل من الأعمال، وكونه منفيا عن غير الله، ترك من التروك. التاسعة: القتال على ذلك حتى لا تكون فتنة، ويكون الدين كله لله. العاشرة: أن الداعي لغير الله يقبل منه الجزية، كما يقبل من اليهود، ولا تنكح نساؤهم كما تنكح نساء اليهود، لأنه أغلظ كفرا؛ وكل درجة من هذه الدرجات، إذا عملت بها تخلف عنك بعض من كان معك. والله أعلم. وقوله رحمه الله، عند كل درجة: وقد خالف فيها من خالف: ناس يعتقدون أن دعوة غير الله جائزة، والرسول ومن آمن به مخالفون لهم. وناس ما يكفرون بالطاغوت، ولا يبغضونه؛ والرسول وأتباعه مخالفون لهم; بل ملة إبراهيم هي: الكفر بالطاغوت، والإيمان بالله؛ وهكذا سائر الدرجات، والله أعلم. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 427 ومن سورة الإنسان سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد، عن قوله تعالى: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ} [سورة الإنسان آية: 9] الآية، ما كان سبب نزولها، ومن نزلت فيه؟. فأجاب: قال البيضاوي في تفسيره عن ابن عباس رضي الله عنهما: "أن الحسن والحسين رضي الله عنهما، مرضا، فعادهما رسول الله صلى الله عليه وسلم في ناس، فقالوا: يا أبا الحسن، لو نذرت على ولديك. فنذر علي وفاطمة رضي الله عنهما، وجاريتهما فضة، صوم ثلاث إن بريا; فشفيا، وما معهم شيء. فاستقرض علي ثلاثة آصع من شعير، فخبزته فاطمة رضي الله عنها خمسة أقراص فوضعوه ليفطروا، فوقف عليهم مسكين فآثروه ولم يذوقوا شيئا. وكذلك اليوم الثاني والثالث، وذكر القصة فنَزل جبرائيل بهذه السورة; وقال: خذها يا محمد، هناك الله في أهل بيتك". والآية وإن نزلت بسبب من الأسباب، فهي عامة لمن فعل ذلك من المؤمنين إلى يوم القيامة، كما قال العلماء: العبرة بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 428 ومن سورة العلق والمدثر قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى: هذه مسائل مستنبطة من سورة اقرأ: الأولى: الأمر بالقراءة. الثانية: الجمع بين التوكل والسبب، خلافا لغلاة المتفقهة وغلاه المتصوفة. الثالثة: السر الذي في الإضافة، في قوله: باسم ربك، المقتضي للتوكل. الرابعة: وصفه سبحانه بالخلق، الذي هو أظهر آياته. الخامسة: ذكر خلقه الإنسان خاصة. السادسة: كونه من علق. السابعة: تكرير الأمر بالقراءة. الثامنة: الوصف بأنه الأكرم. التاسعة: ذكر التعليم بالقلم، الذي هو في المرتبة الرابعة. العاشرة: تعليم الإنسان خاصة ما لم يعلم. الحادية عشرة: أن الذكر بالقلب واللسان، أفضل من الذكر بالقلب وحده. الثانية عشرة: وصفه سبحانه بالخلق، الذي هو أظهر آياته. الثالثة عشرة: فيه معنى: اعرف نفسك تعرف ربك. الرابعة عشرة: معنى أن العلم والإيمان مكانهما، من ابتغاهما وجدهما إلى يوم القيامة. الخامسة عشرة: رجاء فضله لأجل ما تقدم من فضله. السادسة عشرة: لصفاته، لكونه الأكرم. السابعة عشرة: الجمع بين الخلق والتعليم. الثامنة عشرة: الدلالة على التوحيد. التاسعة عشرة: الدلالة على النبوة. العشرون: الرد على الجهمية. الحادية والعشرون: أن الاستحالة تطهر. الثانية والعشرون: الرد على القدرية. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 429 الثالثة والعشرون: الرد على الجبرية. الرابعة والعشرون: أن العبرة بكمال النهاية، لا بنقص البداية. الخامسة والعشرون: ذكر شرف العلم. وأما آخرها، ففيه مسائل:. الأولى: أن الغنى من أسباب الطغيان. الثانية: أنه ينشأ عن رؤية الغنى، لا عن الغنى. الثالثة: التنبيه على الفرق بين طلب العلم وطلب المال. الرابعة: أن هذا وصف الإنسان، فإن خرج عن طبعه فبفضل الله وبرحمته. الخامسة: الإيمان باليوم الآخر. السادسة: الوعظ بذلك اليوم عن الطغيان. السابعة: تسلية المطغى عليه بذلك. الثامنة: كونه إلى رب محمد، ففيه الجزاء على الأعمال. التاسعة: تقرير الشرع بالعقل، لقوله: {أَرَأَيْتَ} . العاشرة: كون ذلك النهي عن إيثار الطغيان. الحادية عشرة: تقرير ذلك بتصوير الحادثه، أنها نهي عبد صلى لربه. الثانية عشرة: التوقف عما لا يعلم، وإلا فلا يلوم إلا نفسه. الثالثة عشرة: أن ذلك عام فيمن تنكر عليه فيما يفعله، وفيما يأمر به غيره. الرابعة عشرة: الاستدلال على الناهي، واستجهاله بقوله: {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} [سورة العلق آية: 14] . الخامسة عشرة: الاستدلال بالقاعدة الكلية على المسائل الجزئية. السادسة عشرة: أن العلم بذلك ليس هو الإقرار. السابعة عشرة: أن العلم بالأسماء والصفات أجل الجزء: 13 ¦ الصفحة: 430 العلوم. الثامنة عشرة: الدلالة على التوحيد. التاسعة عشرة: الدلالة على النبوة. العشرون: أن السورة فيها ذكر الإيمان بالأصول الخمسة. الحادية والعشرون: كون العقوبة قد تعجل في الدنيا. الثانية والعشرون: ما يرجو المحق من نصر الله للضعفاء على الأقوياء. الثالثة والعشرون: أن المال والقوة قد يكون سببا لشر الدنيا والآخرة. الرابعة والعشرون: أن بعض أعداء الله قد يكشف له، فيرى بعينه من الآيات ما لا يراه المؤمن، كالسامري. الخامسة والعشرون: الجمع بين قوله {كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ} [سورة العلق آية: 16] ، فوصفه بفساد القول والعمل. السادسة والعشرون: أنه لو دعا ناديه، أو دنا من النبي صلى الله عليه وسلم لعوجل، ولكن دفع عنه ذلك، لكونه ترك بعض ما في نفسه. السابعة والعشرون: النهي عن طاعة مثل هذا. الثامنة والعشرون: أنه ختمها بالسجود، الذي هو أشرف أفعال الصلاة; وافتتحها بالقراءة التي هي أشرف أقوالها. التاسعة والعشرون: الأمر بالاقتراب من الله، ففيه معنى: " أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد " 1. الثلاثون: تسلية المحق إذا سلط عليه مثل هذا، وأمره بالصلاة. وأما قوله: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} [سورة المدثر آية: 1] الآيات، ففيه مسائل: الأولى: الدعوة إلى إلله، لا يقتصر على نفسه. الثانية: خطابه بالمدثر. الثالثة: أن الداعي يبدأ بنفسه فيصلح   1 مسلم: الصلاة (482) ، والنسائي: التطبيق (1137) ، وأبو داود: الصلاة (875) ، وأحمد (2/421) . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 431 عيوبها. الرابعة: تعظيم الله سبحانه علما وعملا. الخامسة: هجران الرجز. السادسة: قوله: {وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} [سورة المدثر آية: 6] . السابعة: قوله: {وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} [سورة المدثر آية: 7] ،فأمره بالطريق إلى القوة على ما تقدم، فهو الصبر خالصا; ففيها: آداب الداعي، لأن الخلل يدخل على رؤساء الدين من ترك هذه الوصايا، أو بعضها. فمنها: الحرص على الدنيا، فنهى عنه بقوله: {وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} [سورة المدثر آية: 6] . ومنها: عدم الجد فنبه عليه، بقوله: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} [سورة المدثر آية: 1] . ومنها: رؤية الناس فيه العيوب المنفرة لهم عن الدين، كما هو الواقعز ومنها: التقصير في تعظيم العلم الذي هو من التقصير في تعظيم الله. ومنها: عدم الصبر على مشاق الدعوة. ومنها: عدم الإخلاص. ومنها: عدم هجران الرجز، والتقصير في ذلك، وهو من أضرها على الإنسان، وهو من تطهير الثياب، لكن أفرده بالذكر كنظائره. فأول اقرأ فيه: الأمر بطلب العلم; وأول المدثر فيه: الأمر بالعمل به. الثانية: أول اقرأ فيه: معرفة الله; وأول المدثر فيه: الأدب مع الله. الثالثة: أول اقرأ فيه: الصبر. الرابعة: أول اقرأ فيه: الإخلاص والاستعانة، وأول المدثر فيه: إخلاص الصبر. الخامسة: أول اقرأ فيه: الاستعانة; وأول المدثر فيه: العبادة. السادسة: أول اقرأ فيه: فضله عليك; وأول المدثر فيه: حقه عليك. السابعة: أول اقرأ فيه: الجزء: 13 ¦ الصفحة: 432 أدب المتعلم; وأول المدثر فيه: أدب العالم. الثامنة: أول اقرأ فيه: معرفة الله، ومعرفة النفس، وأول المدثر فيه: الأمر والنهي. التاسعة: أول اقرأ فيه: معرفتك بنفسك، وبربك; وأول المدثر فيه: العمل المختص والمتعدي. العاشرة: أول اقرأ فيه: أصل الأسماء والصفات، وهما العلم والقدرة; وأول المدثر فيه: أصل الأمر والنهي، وهو الأمر بالتوحيد، والنهي عن الشرك. الحادية عشرة: في أول اقرأ ذكر القلم، الذي لا يستقيم العلم إلا به; وأول المدثر، فيه: ذكر الصبر الذي لا يستقيم العمل إلا به. الثانية عشرة: في أول اقرأ ذكر التوكل، وأنه يفتح المغلق; وأول المدثر فيه: الصبر الذي يفتحه. الثالثة عشرة: في أول اقرأ: العمل المختص; وأول المدثر فيه: العمل المتعدي. الرابعة عشرة: في اقرأ ست مسائل من الخبر; وأول المدثر ست مسائل من الإنشاء. الخامسة عشرة: في أول اقرأ: ذكر بدء الخلق، وأول المدثر: ذكر الحكمة فيه. السادسة عشرة: في أول اقرأ: ذكر أصل الإنسان; وأول المدثر فيه: كماله. السابعة عشرة: في أول اقرأ: ذكر الربوبية العامة; وأول المدثر، الربوبية الخاصة. الثامنة عشرة: في أول اقرأ شاهد لقوله: " اعقلها الجزء: 13 ¦ الصفحة: 433 واتكل "؛ وفي أول الصبر الذي هو من الإيمان بمنْزلة الرأس من الجسد. التاسعة عشرة: في أول اقرأ: ابتداء النبوة; وأول المدثر: ابتداء الرسالة. العشرون: في السورتين شاهد، لقوله: العلم قبل القول والعمل. ومن: اقرأ إلى آخره. الأولى: أن قريشا صريح آل إبراهيم، وأيضا ولاة البيت الحرام; وأيضا خصوا بنعم: منها: الرحلتان، ودفع الفيل. وأما أهل الكتاب: فأهل العلم، وذرية الأنبياء؛ وجرى من الكل على رسالة الله ما جرى. الثانية: أن هذا من الرئيسين: أبي لهب، وأبي جهل، ذكر عنهما ما ذكر. الثالثة: أن أهل الكتاب لم يتفرقوا، إلا من بعدما جاءهم العلم بغيا بينهم. الرابعة: أنهم لم يؤمروا إلا بما تعرفه العقول، وبما ينبغي للعاقل أن يلتزمه، ولا يبغي به بدلا لحسنه وسهولته. الخامسة: أن الذي استدلوا به من أشق الأشياء، وأكثرها عذابا; وينبغي للعاقل البعد عنه، لقبحه وصعوبته. السادسة: أن مع سهولة الذي تركوا وحسنه، وقبح الذي انتقلوا إليه ومشقته، أشربوه في قلوبهم، فلم ينتقلوا عنه إلا بعد كذا وكذا. السابعة: أنه سبحانه توعد بالنار الذين كفروا من أهل الكتاب ومن العامة، وقدم أهل الكتاب في الذكر. الثامنة: أن العامة أشربوا حب دينهم، وصبروا على المشقة الجزء: 13 ¦ الصفحة: 434 فيه، مع أنهم لا يعرفون جنة ولا نارا، وهذا من العجائب. التاسعة: التنبيه على كبر النعمة بإنزال الكتاب، بذكر الليلة التي أنزل فيها. العاشرة: أن له سبحانه خصائص من الأزمنة، كما له من الأمكنة. الحادية عشر: أن الأعمال تتضاعف، وإن تساوت في الظاهر بما يجل عن الوصف. الثانية عشر: عطف الروح على الملائكة. الثالثة عشر: أن خشية الله جامعة للدين كله. الرابعة عشر: النص على العبادة بالإخلاص. الخامسة عشر: ذكر الحنفاء. السادسة عشر: عطف العبادتين على ذلك. السابعة عشر: نصه أنه دين القيمة. الثامنة عشر: بيان أن من ساء عمله، شر من الجعلان ولو علم. التاسعة عشر: كون الضد خير البرية. العشرون: الآية الجامعة الفاذة. الحادية والعشرون: ذكر شيء من تفاصيل القيامة من شهادة الأرض وغير ذلك. الثانية والعشرون: معاملة الإنسان ربه، لقوله: {لَكَنُودٌ} . الثالثة والعشرون: كونه شاهدا لذلك. الرابعة والعشرون: نعته بشدة حب المال. الخامسة والعشرون: ما فيها من ذكر الحساب، والحوض، والميزان، ورؤية النار في الموقف. السادسة والعشرون: إخلاص الصلاة. السابعة والعشرون: إخلاص النحر. الثامنة والعشرون: الأمر بختم الجزء: 13 ¦ الصفحة: 435 العمل بالتسبيح والاستغفار. التاسعة والعشرون: الأمر بالتصريح للكفار بالبراءة من معبوديهم. الثلاثون: التصريح لهم ببراءتهم من عبادة الله. الحادية والثلاثون: التصريح لهم بالبراءة من معبوديهم. الثانية والثلاثون: التصريح لهم بالرضى بالله ربا، وبالإسلام دينا، ومحمد نبيا. الثالثة والثلاثون: بيان العقيدة السلفية. الرابعة والثلاثون: البراءة من عقيدة المتكلمين. الخامسة والثلاثون: الأمر بالاستعاذة مما ذكر في سورة الفلق. السادسة والثلاثون: الأمر بالاستعاذة من الشيطان. السابعة والثلاثون: التنبيه على شدة الحاجة إلى ذلك، لكونه أفرد له سورة، وختم بها المصحف. التاسعة والثلاثون: النهي عن الهمز واللمز. الأربعون: النهي عن الاغترار بالمال. الحادية والأربعون: النهي عن دع اليتيم. الثانية والأربعون: النهي عن عدم الحض على طعام المسكين. الثالثة والأربعون: النهي عن السهو عن الصلاة. الرابعة والأربعون: النهي عن الرياء. الخامسة والأربعون: النهي عن البخل. السادسة والأربعون: النهي عن شنئه صلى الله عليه وسلم. السابعة والأربعون: الاعتبار بأبي لهب، في كون المال والولد، وشرف البيت والسيادة، يعطاه من هو من أكفر الناس. الثامنة والأربعون: النهي عن حمل الحطب. التاسعة والأربعون: النهي عن النميمة. الخمسون: النهي عن الحسد. الحادية والخمسون: النهي عن النفث في العقد. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 436 الثانية والخمسون: النهي عن الوسوسة في صدور الناس. الثالثة والخمسون: الإخبار برؤية الجحيم، ثم رؤيتها. الرابعة والخمسون: السؤال عن النعيم. الخامسة والخمسون: خسران الإنسان إلا المستثنى، وفيها ذكر النار ذات اللهب، وصليها، واطلاعها على الأفئدة، وكونها مؤصدة; وفيها من الأعمال الممدوحة: الإيمان والعمل الصالح، والتواصي بالحق والتواصي بالصبر، والحث على الشكر بذكر الرحلتين. وفيها: أن النعم إذا كانت خاصة فلها شكر خاص، والحث على الاعتبار بأيام الله بقصة الفيل; وفيها من القصص: قصة الفيل والرحلتين، وقصة أبي لهب، وقصة سحر اليهود، وفيها من الوعظ العجب العجاب; وأما أدلة التوحيد ففي مواضع، وأما أدلة النبوة ففي مواضع. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 437 سورة التكاثر وقال أيضا، الشيخ: محمد بن عبد الوهاب، أسكنه الله الفردوس الأعلى: ذكر ما في سورة ألهاكم التكاثر، إلى آخر القرآن من المسائل ; أما أدلة التوحيد ففي مواضع. وأما أدلة النبوة ففي مواضع. وأما ما فيها من الأوامر: فالأولى: إخلاص الصلاة. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 437 الثانية: إخلاص النحر. الثالثة: الأمر بختم العمل بالتسبيح والاستغفار. الرابعة: الأمر بالتصريح للكفار بالبراءة من عبادة معبوداتهم. الخامسة: التصريح لهم ببراءتهم من عبادة الله. السادسة: التصريح بالبراءة من دينهم. السابعة: التصريح لهم بالرضى بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد نبيا. الثامنة: الأمر بالاستعاذة مما ذكر في سورة الفلق. التاسعة: الأمر بالاستعاذة من الشيطان. العاشرة: التنبيه على شدة الحاجة إلى ذلك، لكونه أفرد له سورة، وختم بها المصحف. الحادية عشرة: الإخبار بالعقيدة الصحيحة. الثانية عشر: البراءة من عقيدة المتكلمين. وأما النواهي: فذكرها بطريق الوعيد والذم: الأولى: كون التكاثر ألهاهم إلى الموت. الثانية: النهي عن الهمز واللمز. الثالثة: النهي عن الاغترار بالمال. الرابعة: النهي عن دع اليتيم. الخامسة: النهي عن عدم الحض على طعام المسكين. السادسة: النهي عن السهو عن الصلاة. السابعة: النهي عن الرياء. الثامنة: النهي عن البخل. التاسعة: النهي عن شنئه صلى الله عليه وسلم. العاشرة: النهي عن الاغترار بالمال والولد، لقصة أبي لهب. الحادية عشرة: النهي عن حمل الحطب. الثانية عشرة: النهي عن النفث في العقد. الثالثة عشرة: الجزء: 13 ¦ الصفحة: 438 النهي عن الحسد. الرابعة عشرة: النهي عن الوسوسة في صدور الناس. وأما ما فيها من اليوم الآخر: فالأولى: رؤية الجحيم، ثم رؤيتها عين اليقين. الثانية: ذكر الحساب على النعيم. الثالثة: خسران الإنسان إلا المستثنى. الرابعة: ذكر نار الله وصفتها. الخامسة: ذكر الحوض. وأما ما فيها من الأعمال الممدوحة: الأولى: الإيمان. الثانية: العمل الصالح. الثالثة: التواصي بالحق. الرابعة: التواصي بالصبر. الخامسة: الحث على الشكر بتذكير الرحلتين. السادسة: أن النعمة إذا كانت خاصة، فلها شكر خاص. السابعة: الحث على الاعتبار بأيام الله بقصة الفيل. الثامنة: الأمر بالشكر على دفع الشر. وأما ما فيها من القصص: فقصة الفيل، وقصة الرحلتين، وقصة أبي لهب، وقصة سحر اليهود له صلى الله عليه وسلم إن ثبت أن السورتين نزلتا في ذلك النوع; السابع: علم الوعظ; وفيها من العجب العجاب. وأما الست التي تليها، ففيها أنواع من العبر: منها: أن قريشا صريح ولد إسماعيل بن إبراهيم، وهم أيضا ولاة البيت الحرام; وأيضا خصوا بنعم، منها: الرحلتان، ودفع أهل الفيل. وأما أهل الكتاب، فأهل العلم، وذرية الأنبياء؛ فجرى من الكل على رسالة الله ما جرى. الثانية: أن هذين الرئيسين، ذكر عنهما ما ذكر. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 439 الثالثة: أن أهل الكتاب لم يتفرقوا إلا من بعد مجيء العلم، بغيا بينهم. الرابعة: أنهم لم يؤمروا إلا بما ينبغي للعاقل أن يلتزمه، لحسنه وسهولته. الخامسة: أن الذي استبدلوا به من التفرق ينبغي للعاقل البعد عنه، لقبحه وصعوبته. السادسة: أنهم لما استبدلوه أشربوه في قلوبهم، كالعجل، فلم ينفكوا عنه إلا بعد كذا وكذا. السابعة: أنه سبحانه توعد بالنار الذين كفروا من أهل الكتاب ومن العامة، وقدم أهل الكتاب في الذكر الثامنة: أن العامة أشربوا حب دينهم، وصبروا على المشقة فيه، مع أنهم لا يعرفون جنة ولا نارا، وهذا من العجائب. التاسعة: التنبيه على كبر النعم بإنزال الكتاب، فذكر الليلة التي أنزل فيها. العاشرة: أن له سبحانه خصائص من الأزمنة، كما أن له من الأمكنة. الحادية عشرة: أن الأعمال تتضاعف، وإن تساوت في الظاهر بما يجل عن الوصف. الثانية عشرة: عطف الروح على الملائكة. الثالثة عشرة: ذكر الآية الجامعة الفاذة. الرابعة عشرة: شهادة الأرض يوم القيامة بما عمل عليها. الخامسة عشرة: صدور الناس أشتاتا لرؤية أعمالهم. السادسة عشرة: ذكر معاملة الإنسان ربه في قوله: {لَكَنُودٌ} . السابعة عشرة: كونة شاهدا بذلك. الثامنة عشرة: نعتة بشدة حب المال. التاسعة عشرة: ما في القارعة من تفصيل يوم القيامة. العشرون: أن خشية الله تجمع الدين كله. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 440 [المسائل المستفادة من السبع الأواخر من القرآن] وقال أيضا: السبع الأواخر من القرآن: أولها: سورة الكوثر، فيهن مسائل: الأولى: دليل الإلهية. الخامسة: ذكر توحيد الربوبية. السادسة: فضائل النبي صلى الله عليه وسلم. السابعة: الوعيد. الثامنة: أمر الله إياه أن يختم عمله بالاستغفار. التاسعة: التغليظ على من اعترض على من دعا إلى التوحيد. العاشرة: تغليظ أمر النميمة. الحادية عشرة: أن ولد الرجل من كسبه. الثانية عشرة: تحقير أمر الدنيا. الثالثة عشرة: ما في المعوذتين من خير الدنيا والآخرة. الرابعة عشرة: أن ذلك لمن عرف معناهما، ودعا الله بقلب حاضر. الخامسة عشرة: التنبيه على شدة الخطر من الشيطان; لأن الله أفرد له سورة، وهي آخر ما يقرع سمعك من المصحف. السادسة عشرة: التنبيه على وسوسته. السابعة عشرة: التنبيه على ضعفه، بكونه خناسا. الثامنة عشرة: التنبيه على الفرق بين الرب والإله والملك. التاسعة عشرة: أمره سبحانه نبيه، لما أعطاه الكوثر، أن يخلص له هاتين العبادتين، وهما الصلاة والنحر. العشرون: التصريح للمشركين بالبراءة من دينهم. الحادية والعشرون: التصريح لهم بأنهم لا يعبدون الله، ولو كانوا من المنقطعين للعبادة. الثانية والعشرون: التصريح لهم بأنهم كافرون. الثالثة والعشرون: كون النبي صلى الله عليه وسلم مأمورا بالتعوذ بالمعوذتين لأجل حاجته إلى ذلك. الرابعة والعشرون: الجزء: 13 ¦ الصفحة: 441 التنبيه على جلال الله وعظمته، وكبر حقه على العبد، بختم النبي صلى الله عليه وسلم عمله بالاستغفار. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 442 سورة العصر سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد، رحمهما الله تعالى، عن تفسير سورة العصر؟ فأجاب: الكلام عليها طويل، لكن نذكر لك ما ذكر أهل العلم، على سبيل الاختصار. ذكروا أن العصر هو الدهر الذي خلقه الله سبحانه; والله سبحانه له أن يقسم بما شاء من خلقه; وأما المخلوق، فلا يجوز له أن يقسم إلا بالله تبارك وتعالى، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: " من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت " 1، وجواب القسم: {إِنَّ الأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [سورة العصر آية: 2] . والإنسان: اسم جنس، وهم جميع بني آدم؛ ثم استثنى فقال: {إِلاّ الَّذِينَ آمَنُوا} [سورة العصر آية: 3] بالله ورسله وكتبه واليوم الآخر، وأيقنوا بقلوبهم، وصدقوا أن ما أخبر الله في كتابه، وعلى ألسنة رسله، فهو الحق الذي لا مرية فيه، ولا شك فيه {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [سورة العصر آية: 3] أي عملوا بما شرعه في كتابه، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم بجوارحهم. ولا بد في العمل الصالح، من شرطين: الأول: أن يكون خالصا لوجه الله; الثاني: أن يكون على شريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ   1 البخاري: الشهادات (2679) ، ومسلم: الأيمان (1646) ، وأحمد (2/11) ، ومالك: النذور والأيمان (1037) ، والدارمي: النذور والأيمان (2341) . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 442 فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} [سورة الكهف آية: 110] . فقوله: {عَمَلاً صَالِحًا} هو المشروع، وقوله: {وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} هو الإخلاص الذي لوجه الله؛ فهذه مرتبتان: الأولى: الإيمان بالله ورسوله; الثانية: العمل الصالح; فهذا هو العلم بما أنزل الله والعمل به. فإذا علم الإنسان ما أنزل الله، فعليه أن يعمل به; وإذا عمل العمل الصالح، فعليه مرتبة ثالثة، وهي: التواصي بالحق، وهي أن يوصي غيره باتباع الحق، ويعلم الجهال مما علمه الله، بخلاف من قال الله فيهم: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً} [سورة البقرة آية: 174] . فإذا فعل المؤمن ما أمره الله به من التواصي بالحق، وهو الأمر بالمعروف الذي أمر الله به، والنهي عن المنكر الذي نهى الله عنه، فعليه مرتبة رابعة، وهي: الصبر على أذى الخلق وإساءتهم إليه في ذات الله تعالى، كما صبر أنبياء الله ورسله، وأهل العلم من خلقه على ذلك. فهذه أربع مراتب، إذا عمل بها الإنسان، صار من أولياء الله المتقين، وحزبه المفلحين. نسأل الله أن يرزقنا وإخواننا فهمها، والعمل بها، فذكرهن الله في هذه السورة القصيرة الألفاظ، الطويلة المعاني، كما قال الشافعي رحمه الله: لو عمل الناس بهذه السورة لكفتهم، وهو كما قال رحمه الله تعالى. لا الجزء: 13 ¦ الصفحة: 443 سورة الكوثر قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب: وهذه كلمات من كلام أبي العباس ابن تيمية، له على سورة الكوثر، لخصتها من جملة كلام له: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ} [سورة الكوثر آية: 1-3] ما أجلها وأغزر فوائدها على اختصارها، وحقيقة معناها تعلم من آخرها. فإنه سبحانه بتر شانيء رسوله صلى الله عليه وسلم من كل خير; فيبتر ذكره وأهله وماله، فيخسر ذلك في الدنيا والآخرة؛ ويبتر حياته، فلا يتزود فيها عملا صالحا لمعاده؛ ويبتر قلبه فلا يعي الخير، ولا يؤهله لمحبته والإيمان به؛ ويبتر أعماله فلا يستعمله في طاعته؛ ويبتره من الأعمال، فلا يذوق لها طعما، وإن باشرها بظاهره، فقلبه شارد عنها. وهذا جزاء من شنأ بعض ما جاء به الرسول، ورده لأجل هواه أو شيخه، أو إمامه أو أميره أو كبيره، كمن شنأ آيات الصفات وأحاديثها; وتأولها على غير مراد الله ورسوله، أو حملها على ما يوافق مذهبه، أو تمنى أن لا تكون نزلت. ومن أقوى علامات شناءتها: أنه إذا سمعها حين يستدل بها أهل السنة على ما دلت عليه من الحق، اشمأز ونفر، فأي شانئ للرسول أعظم من هذا؟ ! وكذلك أهل السماع الذين يزدحمون على سماع الغناء والدفوف، فإذا قرأ عليهم قارئ عشرا، استطالوه واستثقلوه؛ وقس على هذا سائر الطوائف في هذا الباب. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 444 وكذلك من آثر كلام الناس وعلومهم على القرآن والسنة، فلولا أنه شانئ لما جاء به الرسول لما فعل ذلك، حتى إن بعضهم لينسى القرآن بعد أن حفظه، واشتغل بقول فلان وفلان؛ وكل من شنأ، له نصيب من الانبتار. وهؤلاء لما شنؤوه، جازاهم الله بأن جعل الخير كله معاديا لهم، فبترهم منه؛ وخص نبيه بضد ذلك، وهو: أن أعطاه الكوثر، وهو الخير الكثير الذي آتاه الله إياه في الدنيا: الهدى، والنصر، والتأييد، وقرة العين، ونعم قلبه بذكره وحبه; وأعطاه في الآخرة الوسيلة والمقام المحمود، وجعله أول من يفتح له ولأمته باب الجنة، وأعطاه اللواء لواء الحمد، والحوض العظيم في موقف يوم القيامه. وقولة: {إِنَّ شَانِئَكَ} أي: مبغضك. {الأَبْتَرُ (: المقطوع النسل، الذي لا يولد له، فلا يتولد عنه خير، ولا عمل صالح، ولا منفعة فيه; وأهل السنة أحيوا بعض ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فكان لهم نصيب من قوله تعالى: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [سورة الشرح آية: 4] ؛ وأهل البدعة شنؤوا بعض ما جاء به، فكان لهم نصيب من قوله: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ} [سورة الكوثر آية: 3] . فالحذر الحذر أيها الرجل، من أن تكره شيئا مما جاء به، أو ترده لأجل هواك، أو انتصارا لمذهبك، أو لشيخك، أو لكبيرك، أو لاشتغالك بالشهوات، أو بالدنيا; فإن الله لم يوجب على أحد إلا طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، والأخذ بما جاء به، بحيث لو خالف العبد جميع الخلق واتبع الجزء: 13 ¦ الصفحة: 445 الرسول صلى الله عليه وسلم، ما سأله الله عن مخالفة أحد؛ فاعلم ذلك واسمع وأطع، واتبع; ولا تبتدع تكن ابتر مردودا عليك عملك; بل لا خير في عمل أبتر مر الاتباع، ولا خير في عامله. وقوله تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [سورة الكوثر آية: 2] : أمره الله أن يجمع بين هاتين العبادتين العظيمتين، وهما: الصلاة والنسك، الدالتان على التواضع، عكس حال أهل الكفر والنفرة، وأهل الغنى عن الله، الذين لا حاجة لهم في صلاتهم، والذين لا ينحرون له خوفا من الفقر، أو لسوء ظنهم بربهم. ولهذا جمع الله بينهما في قوله: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ} [سورة الأنعام آية: 162-163] الآية، وقوله: {وَنُسُكِي} هو: الذبيحة لله ابتغاء وجهه. والمقصود: أن الصلاة والنسك، هما أجل ما يتقرب به إلى الله; وأجل العبادات المالية النحر، وما يجتمع للعبد في الصلاة لا يجتمع له في غيرها من العبادات، كما عرفه أرباب القلوب الحية؛ وما يجتمع في النحر من حسن الظن، والوثوق بما في يد الله، أمر عجيب، إذا قارن ذلك الإيمان والإخلاص. وقد امتثل صلى الله عليه وسلم أمر ربه، فكان كثير الصلاة لربه، كثير النحر له، حتى نحر بيده في حجة الوداع ثلاثا وستين بدنة; وكان ينحر في الأعياد وغيرها; وفيها: تعريض بحال الأبتر الشانئ، الذي صلاته ونسكه لغير الله. وفيها: ترك الالتفات الجزء: 13 ¦ الصفحة: 446 إلى الناس، وإلى ما ينالك منهم، بل صل لربك وانحر. ومن فوائدها اللطيفة: الالتفات في قوله: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [سورة الكوثر آية: 2] الدالة على أن ربك مستحق لذلك، وأنت جدير بأن تعبده وتنحر له، والله أعلم. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 447 سورة الكافرون وقال أيضا الشيخ محمد: قال شيخ الإسلام، رحمه الله تعالى، في الكلام على: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [سورة الكافرون آية: 1] : قوله: {وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} [سورة الكافرون آية: 3] : نفى عنهم عبادة معبوده، لأنهم إذا أشركوا لم يكونوا عابدين معبوده. وأيضا لو عبدوا الله بما ليس هو عبادة، وقصدوا عبادة الله، معتقدين أنه هو كأصحاب العجل، والذين عبدوا عيسى والدجال، ومن عبد من هذه الأمة، فهم عند أنفسهم إنما يعبدون الله; لكن هذا المعبود ليس هو الله، وإن قصد العابد الله. وأيضا إذا وصفوه بما هو بريء منه، كالصاحبة والولد، وعبدوه كذلك، فهو بريء من هذا المعبود، فإنه ليس هو الله، كما قال صلى الله عليه وسلم: " ألا ترون كيف يصرف الله عني سب قريش؟ يسبون مذمما " 1 كذلك عبادة أمثالهم، واقعة على موصوفهم. وأيضا من لم يؤمن بما وصف به الرسول صلى الله عليه وسلم ربه،   1 البخاري: المناقب (3533) ، والنسائي: الطلاق (3438) ، وأحمد (2/244، 2/369) . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 447 فهو في الحقيقة لم يعبد ما عبده الرسول؛ وقس على هذا، فلتتأمل هذه المعاني وتهذب. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 448 ومن سورة تبت وقال أيضا الشيخ محمد رحمه الله: قال شيخ الإسلام: سورة "تَبَّت" نزلت في هذا وامرأته، وهما من أشرف بطنين في قريش، وهو عم علي، وهي عمة معاوية، واللذان تداولا الخلافة في الأمة هذان البطنان، بنو أمية وبنو هاشم. وأما أبو بكر وعمر، فمن قبيلتين أبعد عنه صلى الله عليه وسلم؛ واتفق في عهدهما ما لم يتفق بعدهما، وليس في القرآن ذم من كفر به صلى الله عليه وسلم باسمه، إلا هذا وامرأته. ففيه: أن الأنساب لا عبرة بها، بل صاحب الشرف يكون ذمه، على تخلفه عن الواجب أعظم، كما قال تعالى: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ} [سورة الأحزاب آية: 30] الآية. قال النحاس: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [سورة المسد آية: 1] دعاء عليه، {وَتب} خبر، وفي قراءة عبد الله {وقد تب} . وقوله: {وَمَا كَسَبَ} أي: ولده، فإن قوله: {وَمَا كَسَبَ} يتناوله، كما في الحديث: "ولده من كسبه"؛ واستدل بها على جواز الأكل من مال الولد; ثم أخبر أنه {سَيَصْلَى نَارًا} : أخبر بزوال الخير، وحصول الشر; والصلي: الدخول والاحتراق جميعا. وقوله: {حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} [سورة المسد آية: 4] إن كان مثلا للنميمة، لأنها الجزء: 13 ¦ الصفحة: 448 تضرم الشر، فيكون حطب القلوب; وقد يقال: ذنبها أعظم، وحمل النميمة لا يوصف بالحبل في الجيد; وإن كان وصفا لحالها في الآخرة، كما وصف بعلها: هو يصلى، وهي تحمل الحطب عليه، كما أعانت على الكفر، فيكون من حشر الأزواج. وفيه عبرة لكل متعاونين على الإثم، أو على إثم ما، أو عدوان ما، ويكون القرآن قد عم الأقسام الممكنة في الزوجين، وهي أربعة: إما كإبراهيم وامرأته، وأما هذا وامرأته، وإما فرعون وامرأته، وإما نوح وامرأته ولوط. ويستقيم أن يفسر حمل الحطب بالنميمة، بحمل الوقود في الآخرة، كقوله: "من كان له لسان" إلخ. وقال الشيخ: محمد، رحمه الله تعالى: قصة سبب نزول {تَبّتُ} إلى آخرها، فيها مسائل: الأولى: ما فيها من دلائل الإلهية. الثانية: ما فيها من دلائل النبوة. الثالثة: ما فيها من فضائل الرسول صلى الله عليه وسلم وقوله الحق الذي لا يقدر غيره بقوله. الرابعة: أن هذا هو العقل والصواب، أعني: صعود الجبل، والصياح في هذه المسألة، ولو عده أكبر الناس سفها، بل جنونا. الخامسة: شدة الخطر العظيم، فيمن عذل من فعل ذلك. السادسة: لعل الكلمة التي لا يلقي لها بالا، يكتب الله له بها سخطه إلى يوم يلقاه، ولعله يعتقدها نصيحة أو صلة رحم. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 449 السابعة: مراقبة العواقب في إعطاء الله نعم الدنيا من المال والولد، والبيت الرفيع، والرياسة. الثامنة: تعظيم أمر النميمة. التاسعة: أن الولد من الكسب; ففيه دليل على أن أطيب ما أكلتم من كسبكم. العاشرة: أن الله سبحانه لم ينزل هذا إلا مصلحة للأمة إلى يوم القيامة; والله أعلم. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 450 سورة الإخلاص وقال أيضا، رحمه الله تعالى: تفسير سورة الإخلاص، عن عبد الله بن خبيب، قال: " خرجنا في ليلة مطر وظلمة، فطلبت النبي صلى الله عليه وسلم ليصلي لنا فأدركناه، فقال: قل; فلم أقل شيئا; قال: قلت: يا رسول الله ما أقول؟ قال: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [سورة الإخلاص آية:1] 1 والمعوذتين، حين تمسي وحين تصبح، ثلاث مرات، تكفيك من كل شي " قال الترمذي: حديث حسن صحيح. والأحد: الذي لا نظير له; والصمد: الذي تصمد الخلائق كلها إليه، في جميع الحاجات; وهو الكامل في صفات السؤدد; فقوله: {أَحَدٌ} ففي النظير والأمثال، وقوله: {الصَّمَدُ} إثبات صفات الكمال، وقوله: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} [سورة الإخلاص آية: 3] نفي الصاحبة والعيال. {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [سورة الإخلاص آية: 4] نفي الشركاء لذي الجلال. وسئل الشيخ: حمد بن ناصر بن معمر، عما تضمنته سورة (الإخلاص) و {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [سورة الكافرون آية: 1] .   1 الترمذي: الدعوات (3575) ، والنسائي: الاستعاذة (5428) ، وأبو داود: الأدب (5082) ، وأحمد (5/312) . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 450 فأجاب: ما تضمنته سورة الإخلاص من التوحيد العلمي، فيذكر أهل العلم: أن سورة (الإخلاص) متضمنة للتوحيد العلمي، و {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [سورة الكافرون آية: 1] متضمنة للتوحيد العملي. فسورة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [سورة الإخلاص آية: 1] فيها توحيد الاعتقاد والمعرفة، وما يجب إثباته للرب تعالى، من الأحدية، المنافية لمطلق الشركة، والصمدية المثبتة له جميع صفات الكمال، الذي لا يلحقه نقص بوجه من الوجوه، ونفي الولد والوالد، الذي هو من لوازم الصمدية، ونفي الكفؤ المتضمن لنفي التشبيه والتمثيل. فتضمنت هذه السورة: إثبات كل كمال له، ونفي كل نقص عنه، ونفي التشبيه والمثيل، ونفي مطلق الشريك عنه؛ وهذه الأصول مجامع التوحيد العلمي الاعتقادي، الذي يباين صاحبه فرق الضلال والشرك، ولذلك كانت تعدل ثلث القرآن. وبيان ذلك: أن القرآن مداره على الخبر والإنشاء; والخبر نوعان: خبر عن الخالق سبحانه، وأسمائه وصفاته، وأحكامه، وخبر عن خلقه; فأخلصت سورة الإخلاص، للخبر عنه سبحانه، وعن أسمائه وصفاته، فعدلت ثلث القرآن; كما أخلصت سورة: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [سورة الكافرون آية: 1] لبيان الشرك العملي القصدي. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 451 سورة الفلق وقال أيضا الشيخ: محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى، تفسير سورة الفلق: بسم الله الرحمن الرحيم {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ، وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} [سورة الفلق آية: 1-5] : فمعنى أعوذ: أعتصم وألتجئ وأتحرز; وتضمنت هذه الكلمة مستعاذا به، ومستعاذا منه، ومستعيذا؛ فأما المستعاذ به، فهو الله وحده رب الفلق، الذي لا يستعاذ إلا به. وقد أخبر الله عمن استعاذ بخلقه، أن استعاذته زادته رهقا، وهو الطغيان، فقال: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الأِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً} [سورة الجن آية: 6] والفلق: بياض الصبح إذا انفلق من الليل، وهو من أعظم آيات الله الدالة على وحدانيته. وأما المستعيذ، فهو رسول الله صلى الله عليه وسلم وكل من اتبعه إلى يوم القيامة. وأما المستعاذ منه، فهو أربعة أنواع; الأول: قوله: {مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} وهذا يعم شرور الأولى والآخرة، وشرور الدين والدنيا. الثاني: قوله: {وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ} والغاسق: الليل، إذا وقب، أي: أظلم ودخل في كل شيء، الجزء: 13 ¦ الصفحة: 452 وهو محل تسلط الأرواح الخبيثة. الثالث: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} [سورة الفلق آية: 4] وهذا من شر السحر، فإن النفاثات السواحر اللاتى يعقدن الخيوط، وينفثن على كل عقدة، حتى ينعقد ما يردن من السحر; والنفاثات مؤنث، أي: الأرواح والأنفس، لأن تأثير السحر إنما هو من جهة الأنفس الخبيثة. الرابع: {وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} [سورة الفلق آية: 5] وهذا يعم إبليس وذريته، لأنهم أعظم الحساد لبني آدم أيضا، وقوله: {إذا حسد} لأن الحاسد إذا أخفى الحسد، ولم يعامل أخاه إلا بما يحبه الله، لم يضره. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 453 [تفسير سورة الناس ] وقال أيضا الشيخ محمد رحمه الله: تفسير سورة الناس: بسم الله الرحمن الرحيم وأما قوله: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [سورة الناس آية: 1] فقد تضمنت أيضا ذكر ثلاثة: الأول: الاستعاذة وقد تقدمت; الثاني: المستعاذ به; والثالث: المستعاذ منه; فأما المستعاذ به، فهو الله وحده لا شريك له، رب الناس الذي خلقهم، ورزقهم ودبرهم، وأوصل إليهم مصالحهم، ومنع عنهم مضارهم. مَلِكِ النَّاسِ} [سورة الناس آية: 2] أي: المتصرف فيهم، وهم عبيده ومماليكة، المدبر لهم، كما يشاء الذي له القدرة والسلطان الجزء: 13 ¦ الصفحة: 453 عليهم; فليس لهم ملك يهربون إليه إذا دهمهم أمر; يخفض ويرفع، ويصل ويقطع، ويعطي ويمنع. {إِلَهِ النَّاسِ} [سورة الناس آية: 3] أي: معبودهم الذي لا معبود لهم غيره، فلا يدعى ولا يرجى ولا يخلق إلا هو، فخلقهم وصورهم، وأنعم عليهم، وحماهم مما يضرهم بربوبيته، وقهرهم، وأمرهم ونهاهم، وصرفهم كما يشاء بملكه، واستعبدهم بالهيبة الجامعة لصفات الكمال كلها. وأما المستعاذ منه، فهو: الوسواس، وهو الخفي الإلقاء في النفس، إما بصوت خفي لا يسمعه إلا من ألقي إليه، وإما بصوت كما يوسوس الشيطان إلى العبد; وأما الخناس فهو الذي يخنس ويتأخر ويختفي. وأصل الخنوس: الرجوع إلى وراء؛ وهذان وصفان لموصوف محذوف، وهو الشيطان، وذلك: أن العبد إذا غفل جثم على قلبه، وبذل فيه الوساوس، التي هي أصل الشر; فإذا ذكر العبد ربه واستعاذ به خنس. قال قتادة: الخناس له خرطوم كخرطوم الكلب، فإذا ذكر العبد ربه خنس، ويقال: رأسه كرأس الحية، يضعه على ثمرة القلب، يمنيه ويحدثه; فإذا ذكر الله خنس. وجاء بناءه على الفعال، الذي يتكرر منه، فإنه كلما ذكر الله انخنس، وإذا غفل عاد. وقوله: {مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} [سورة الناس آية: 6] يعنى: أن الوسواس نوعان: إنس وجن؛ فإن الوسوسة الإلقاء الخفي، لكن إلقاء الجزء: 13 ¦ الصفحة: 454 الإنس بواسطة الأذن، والجني لا يحتاج إليها; ونظير اشتراكهما في الوسوسة، اشتراكهما في الوحي الشيطاني، في قوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} [سورة الأنعام آية: 112] . والله أعلم، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. آخر الجزء الثالث عشر؛ ويليه الجزء الرابع عشر: " كتاب النصائح" الجزء: 13 ¦ الصفحة: 455 المجلد الرابع عشر: ( كتاب النصائح ) كتاب النصائح ... كتاب النصائح [قول أبناء الشيخ ابن عبد الوهاب في النصيحة والتذكير بنعم الله، وماعليه الناس من التقصير والذنوب] قال أبناء الشيخ; محمد بن عبد الوهاب، أجزل الله لهم الأجر والثواب، آمين: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم تسليما. من إبراهيم وعبد الله وعلي: أبناء الشيخ محمد، إلى من يراه من المسلمين، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. والموجب لهذا: التذكير والنصيحة، والشفقة علينا وعليكم من عقوبة الله، وأنتم تعرفون ما من الله به علينا وعليكم من دين الإسلام، وهو أعظم نعمة أنعم الله بها على جميع المسلمين. وأكثر الناس اليوم، على الشرك، وعبادة غير الله; وأعطاكم الله في ضمن الإسلام، من النعم والنصر على الأعداء ما تعرفون، ولا يجيء أهل الإسلام شيء إلا بسبب الجزء: 14 ¦ الصفحة: 5 ذنوبهم، فإذا عرفوا الذنب وتابوا منه، نصرهم الله، وأعزهم، وكسر عدوهم، وجعل العاقبة لهم في الدنيا والآخرة، كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ} [سورة الرعد آية: 11] وقال تعالى لخيار الخلق: {أََوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [سورة آل عمران آية: 165] . وهذه الأمور: يجريها الله سبحانه وتعالى، ابتلاء وامتحانا، ليميز الخبيث من الطيب، والمؤمن من المنافق، فيجازي المؤمن بالنصر والظفر على عدوه، ويجازي المنافق والمرتاب بالعذاب والنكال، والخزي في الدنيا والآخرة; وأنتم ترون أن أغلب البلدان ما صفت وركد 1 الإسلام فيها، إلا بعد الردة، وتمييز الخبيث من الطيب. فالواجب علينا وعليكم الإقبال على الله، والتوبة والاستغفار; وكل يعرف ذنبه، ويتوب إلى الله منه، ولا يجعل الأمر في غيره، قال الله تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [سورة النور آية: 31] وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} [سورة التحريم آية: 8] . والتوبة لها شروط ; منها: الإقلاع عن الذنب،   1 أي استقر وثبت الإسلام فيها. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 6 والندم، والعزيمة ألا يعود; ونحن نخشى علينا وعليكم مما وقع من التقصير والذنوب: منها: ترك المحافظة على الصلوات الخمس، وهي عمود الإسلام، من حفظها وحافظ عليها حفظ دينه، ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع. ومنها: الغفلة عن التفقه في دين الإسلام، حتى أن من الناس من ينشأ وهو ما يعرف دين الإسلام؛ ومنهم من يدخل فيه، وهو ما يعرفه ولا يفعله، ظنا منه أن الإسلام هو العهد. ومعرفة الإسلام والعمل به، واجب على كل أحد، ولا ينفع فيه التقليد. ومنها: أن من الناس من يمنع الزكاة، والذي ما يقدر المنع يحبسها؛ والزكاة ركن من أركان الإسلام، واجب أداؤها إلى الإمام أو نائبه، على الأمر المشروع. ومنها: عدم إنكار المنكر ممن يراه، ويسكت عن إنكاره، خوفا أو هيبة من أحد من الناس، والمنكر إذا خفي لم يضر إلا صاحبه، وإذا فشا ولم ينكر ضر العامة، قال تعالي {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [سورة المائدة آية: 78 - 79] . ومنها: ظهور عقوق الوالدين، وقطيعة الرحم من كثير الجزء: 14 ¦ الصفحة: 7 من الناس، وذلك من أكبر الكبائر، كما في الحديث: ألا أخبركم بأكبر الكبائر؟ الإشراك بالله، وعقوق الوالدين 1، وفي الحديث الآخر: لا يدخل الجنة قاطع رحم 2 ومنها: ما يجري من بعض الأمراء والعامة: من الغلول من المغانم، وفيهم من يتحيل على الغلول بالشراء، ولا ينقد الثمن، وذلك حرام; قال الله تعالى: {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [سورة آل عمران آية: 161] وفي الحديث: الغلول نار وعار وشنار 3. ومنها: ظلم بعض الأمراء، يأخذ من أموال الناس بصورة الجهاد، ولا يصرفه في الجهاد، بل يأكله، وبعض الأمراء يأخذ جميع الزكاة، ولا يعطي المساكين منها شيئا، والإمام يأمره بإعطاء كل ذي حق حقة، ويعصي ويعمل على رأيه. والزكاة تولى الله قسمتها في كتابه، وجزأها ثمانية أجزاء، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا حظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب. ومن الأمراء والنظراء من يصرف الجهاد عن الأغنياء، ويجعله على الفقراء، الذين لم يجعل الله عليهم شيئاً والجهاد بالمال مقدم على الجهاد بالنفس، فمن كان له مال، وهو يقدر على الجهاد بنفسه، وجب عليه الجميع; فإن كان ما يقدر بنفسه، وجب عليه بالمال; فإن كان ما يقدر بالمال، ولا بالنفس، فالحرج مرفوع عنه.   1 البخاري: الشهادات 2654 , ومسلم: الإيمان 87 , والترمذي: البر والصلة 1901 , وأحمد 5/36 ,5/38. 2 البخاري: الأدب 5984 , ومسلم: البر والصلة والآداب 2556 , والترمذي: البر والصلة 1909 , وأبو داود: الزكاة 1696 , وأحمد 4/80 ,4/83 ,4/84. 3 ابن ماجه: الجهاد 2850 , وأحمد 5/316. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 8 قال الله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [سورة التوبة آية: 91] والإمام ينهى الأمراء عن تحميل الناس ما لا يستطيعون، ويعصونه في ذلك، وتحميل الفقير ما لم يحمله الله ذنب; ومعصية الإمام إذا نهى عن ذلك ذنب آخر. ومنها: اختلاط الجيد بالردي، وصاحب الدين بالمنافق، ولا يميز هذا من هذا، ووقع بسببه ظهور الكلام الباطل، الذي لو يظهر من أحد في أول الإسلام، أدب أدبا بليغا، وعرف أن قائله منافق، وفي وقتنا هذا يظهر ولا ينكر، إلا ما شاء الله. ومنها: الظلم والوقوع فيما حرم الله، من الدماء والأموال والأعراض، والغيبة والنميمة، وقول الزور، وبهت المسلم بما ليس فيه، وصار هذا ما يستنكر، فإذا بان كذبه وتزويره، ما سقط من العيون، والله سبحانه وتعالى حرم هذا في كتابه. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما ثبت عنه: إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا وقال تعالى {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 9 مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً} [سورة الأحزاب آية: 58] . وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} [سورة الحجرات آية: 12] . ومنها: الجسرة على ذمة المسلم، فإذا أعطى أحد من المسلمين، لا أمير ولا غيره، أحدا من الكفار ذمته، ما جاز لأحد من المسلمين يخفره، لا في دمه ولا ماله، كما جاء في الحديث: ذمة المسلمين واحدة، يسعى بها أدناهم، فمن أخفر مسلما، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفا ولا عدلا. ومن العجب: أن بعض الجهال يفعل هذا ديانة، ويظن أنه معاداة للكفار، واستحلال المحرم أعظم من ارتكابه، مع معرفة تحريمه. ومنها: أن بعض الناس يزعل 1 إذا أنكر على رجاله أو طارفته 2، إذا فعل المنكر وأنكر عليه، وهذا أمر ما يحل; بل الواجب عليه أن يغضب لله أعظم مما يغضب لنفسه; ولو أن رجاله أو طارفته، ينتهكون حرمته، غضب لنفسه، والله أحق أن يغضب له. ومنها: فعل الربا، والتحيل عليه بالبيع الفاسد، والتصحيح الباطل، مثل رد الدين على المعسر، وجعل الدين رأس مال السلم.   1 يغضب. 2 أحد أطرافه من أقاربه أو جماعته. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 10 ومنها: كونه يبيعه ويسلفه; ومنها: كونه يبيعه تمرا، أو عيشا إلى أجل، فإذا حل الأجل، أخذ منه بتلك الدراهم تمرا أو عيشا، وهذا حرام عند أكثر العلماء، لا سيما إذا قصد ذلك في ابتداء العقد، وعرف أنه لا يستوفي منه إلا بتمر أو عيش. ومنها: أنه يبيع سلعة نسيئة، ثم يشتريها منه بأقل مما باعها به نقدا; ومنها: أن يشتري طعاما، ثم يبيعه قبل قبضه، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك. ومنها: التثاقل عن الجهاد، ومعصية الإمام في ذلك وغيره؛ وقد توعد الله من تثاقل عن الجهاد، ورضي بالإخلاد إلى الأرض، بالوعيد الشديد. قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلا قَلِيل ٌإِلاّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [سورة التوبة آية: 38-39] . وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [سورة الأنفال آية: 24-25] . الجزء: 14 ¦ الصفحة: 11 قال العلماء في تفسير الآية: {لِمَا يُحْيِيكُمْ} [سورة الأنفال آية: 24] أي: لما يصلحكم، وهو: هذا الحرب الذي أعزكم الله به بعد الذلة، وقواكم به على عدوكم، بعد القهر منهم لكم، وقد فرضه الله على الناس، كما فرض الصلاة والزكاة. قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [سورة البقرة آية: 216] فإذا قام المسلمون بما أمرهم الله به، من جهاد عدوهم، بحسب استطاعتهم، فليتوكلوا على الله، ولا ينظروا إلى قوتهم وأسبابهم، ولا يركنوا إليها، فإن ذلك من الشرك الخفي، ومن أسباب إدالة العدو على المسلمين، ووهنهم عن لقاء العدو؛ لأن الله تبارك وتعالى: أمر بفعل السبب، وألا يتوكلوا إلا على الله وحده، كما قال تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [سورة المائدة آية: 23] وقال تعالى: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [سورة آل عمران آية: 160] . وقال تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ} [سورة الأنفال آية: 9-10] . الجزء: 14 ¦ الصفحة: 12 فإذا فعل المسلمون ما أمرهم الله به، وتوكلوا على الله، وحققوا توحيدهم، نصرهم الله، وأمدهم بالملائكة، كما هي عادته مع عباده المؤمنين، في كل زمان ومكان، قال الله تعالى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [سورة الصافات آية: 171-173] . وقال تعالى {وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلا نَصِيرا ًسُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} [سورة الفتح آية: 22 – 23] . ونسأل الله لنا ولكم الهدى والثبات، والعافية في الدنيا والآخرة; وصلى الله على محمد، وعلى آله وصحبه وسلم. ولهم أيضا، أسكنهم الله الفردوس الأعلى: 1. [قول أبناء الشيخ ابن عبد الوهاب في قوله تعالي وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا وما يجري من المعاملات الربوية] بسم الله الرحمن الرحيم من حسين بن الشيخ وإبراهيم وعبد الله وعلي، إلى من يصل إليه من المسلمين، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد. قال الله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} إلى قوله: وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ [سورة البقرة آية: 275 - 0276] والنبي صلى الله عليه وسلم لعن آكل الربا وموكله، وكاتبه وشاهديه ويجري   1 وتقدم بعضها في الجزء السادس في مواضع منه. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 13 عندكم معاملات يفعلها بعض الناس، وهي من المعاملات الربوية: منها: قلب الدين على المعسر، إذا حل الدين على الغريم ولم يقدر على الوفاء، أحضر طالب الدين دراهم، وأسلمها إليه في طعام في ذمته، ثم أوفاه بها في مجلس العقد، ويسمون هذا تصحيحا؛ وهو تصحيح فاسد، ليس بصحيح، فإنه لم يسلم إليه الدراهم، وإنما قلب عليه الدين الذي في ذمته لما عجز عن استيفائه، والمعسر لا يجوز قلب الدين عليه. فعليكم بتقوى الله عز وجل وحذر عقوبته، فإن هذه المعاملات تمحق المال، وتذهب بركته، وعقابه في الآخرة أعظم مما يعاقب به صاحبه في الدنيا، من عدم البركة فيه; فإذا حل الدين على المعسر، لم يجز لغريمه التحيل على قلبه عليه، بل كما قال تعالى: {فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [سورة البقرة آية: 280] . وإن كان الغريم مليا، وأراد أن يسلم إليه ويعامله، فليدفع إليه الدراهم، ويقبضها البايع، ويروح بها إلى بيته، ولا يوفيه بها في الحال؛ فإذا تملكها، وأخذت عنده يوما أو يومين، بحيث يتصرف فيها بما شاء، ثم أوفاه منها، فهذا لا بأس به إن شاء الله تعالى. وأما الاستيفاء بها في مجلس العقد، فلا ينبغي، لأنه ذريعة إلى الحيل، والحيلة كلها محرمة; وكذلك إذا حل الجزء: 14 ¦ الصفحة: 14 التمر على الكدَّاد، فلا بد من قبضه؛ بالقبض الشرعي. وأما التحيل على قلبه على صاحبه، فلا ينبغي أيضا; بل يأخذه صاحبه، ولا يبيع على الذي أوفاه منه، لا قليلا ولا كثيرا؛ فإن أحب البيع، فليبعه طعاما غير الطعام الذي قبضه منه، فتحصل المعاملة، ويحصل التنْزه والاحتياط عن الحيل التي لا يجوز تعاطيها. ومنها: ما يفعله بعض الناس، إذا كان له في ذمة رجل طعام معلوم، استوفي منه بثمرة في رؤوس النخل يأخذها خرصا، تم يبيعها، وهذا لا يجوز، نص عليه العلماء ونهوا عنه، وذكروا أن من اشترى بالكيل والوزن، لا يحصل قبضه إلا بكيله أو وزنه فإن قبضه جزافا، كان قبضا فاسدا، لا يجوز له بيعه، حتى يكال أو يوزن، لأنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: من ابتاع طعاما، فلا يبعه حتى يكتاله 1. وفي الحديث الآخر، أنه: نهى عن بيع الطعام، حتى يجري فيه الصاعان، صاع البايع وصاع المشتري 2 وفي حديث آخر، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعثمان: إذا سميت الكيل فكِلْ. ومنها: ما يفعله بعض الناس - في الأحساء أو في غيره - يشترون الطعام من أهل بيت المال، أو من غيرهم، ثم يبيعونه قبل قبضه، وهذا لا يجوز، بل ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عنه، وقال: من ابتاع طعاما، فلا يبعه حتى يقبضه.   1 مسلم: البيوع 1525 , والنسائي: البيوع 4597 , وأبو داود: البيوع 3496. 2 ابن ماجه: التجارات 2228. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 15 ومنها: ما يفعله بعض الناس، إذا كان عنده تمر قد استغنى عنه، ورأى السعر رخيصا وأراد إبداله بتمر من الثمرة المقبلة، أقرضه لمن يعطيه بدله تمرا جديدا بدل هذا، وإنما هذا بدل تمر بتمر نسيئة، وإبدال التمر بالتمر منسأ لا يجوز، بل هو ربا، ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم النهي عنه. والقرض المندوب إليه إذا كان قصد المقرض الإرفاق بالمقترض ونفعه; وأما إذا كان قصده نفع تمره بتمر آخر، فليس بقرض، وإنما هو بيع نهى عنه، لأنه بيع تمر بتمر. قال عبد الله بن عمر، رضي الله عنهما: السلف على ثلاثة أوجه سلف تسلفه تريد به وجه الله، فلك وجه الله; وسلف: تسلفه تريد به وجه صاحبك، فلك وجه صاحبك; وسلف: تسلفه لتأخذ طيبا بخبيث، فذلك الربا. ومنها: ما يفعله بعض الناس، يقرضه غريمه الدراهم أو غيرها ويتسامح عنها في الاستيفاء، فيسامحه غريمة في المبايعة إذا بايعه فلعميله بيع، ولغيره من الناس بيع أغلى منه، لأن العميل يقرضه ويسامحه في الاستيفاء، ويقول: فلان يسلف ويتسامح، ويأخذ ويخلي. ولا يعلم المتعاقدان أن هذا ربا، وأن " كل قرض جر نفعا فهو ربا " وأنه إذا زاد في السعر لأجل تأخيره بعض الدين الذي قد حل عليه، كان ما أخذه في مقابلة التأخير ربا، من جنس ربا الجاهلية الذي نزل القرآن بتحريمه. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 16 وقد ذكر العلماء: إن من كان له قرض عند رجل، أو عليه دين حال، فأهدى إليه صاحب الدين هدية قبل الوفاء، أنه لا يقبلها، بل يردها، فإن لم يفعل فليحسبها من الدين الذي له في ذمة المهدي. وقد جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: إذا أقرض أحدكم أحدا قرضا، فأهدى إليه، أو حمله على الدابة، فلا يقبله إلا أن يكون جرى بينه وبينه قبل ذلك 1. قال عبد الله بن سلام، رضي الله عنه: إذا كان لك على رجل حق فأهدى إليك حمل تبن، أو حمل شعير، أو حمل قت، فلا تأخذه فإنه ربا. ومنها: ما يفعله كثير من الناس، يبيع الطعام نساء، فإذا حل ثمنه، أخذ عنه طعاما بسعر الوقت، وقد ذكر العلماء أن هذا لا يجوز، لأنه حيلة وذريعة إلى بيع الطعام بالطعام نساء. ومنها: ما يجري في بعض البلدان، إذا حل دين السلم، باعه صاحبه على الذي هو في ذمته قبل قبضه، فيبيعه ويربح فيه، وهو لم يقبضه، فهذا لا يجوز، فإنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن بيع الطعام قبل قبضه ولا فرق بين من هو عليه، ولا غيره. وفي الحديث الآخر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن ربح ما لم يضمن 2 فإذا باع الإنسان طعاما على بائعه، فقد باعه   1 ابن ماجه: الأحكام 2432. 2 الترمذي: البيوع 1234 , والنسائي: البيوع 4631 , وأبو داود: البيوع 3504 , وابن ماجه: التجارات 2188 , وأحمد 2/174 ,2/178 ,2/205 , والدارمي: البيوع 2560. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 17 قبل قبضه، وحصل له ربح في طعام لم يدخل في ضمانه، فصار في هذا مخالفة لما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم من البيع وأخذ ربح ما لم يضمن. [مخالفة أمر الله وارتكاب ما نهى عنه في مسألة الطلاق وخروج المرأة من بيت الزوج] ومنها: ما يجري من كثير من الناس، من مخالفة أمر الله وارتكاب ما نهى عنه، فإن الله قال {يا أيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلاّ أَنْ يَأْتِينَ ِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً} [سورة الطلاق آية: 1] . فأمر تعالى: من أراد أن يطلق طلاق السنة، وذلك بأن تكون المرأة طاهرة طهرا لم يجامعها فيه، ونهى الزوج عن إخراجها من بيتها، الذي كانت فيه قبل الطلاق. وأوجب عليها أن تعتد في بيتها، ونهاها أن تخرج، فلا يجوز للزوج أن يخرجها، ولا يجوز لها أن تخرج، ولو تراضت هي والزوج على الخروج، فقال تعالى: {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ} [سورة الطلاق آية: 1] . وقال تعالى: {وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} [سورة الطلاق آية: 1] وكثير من الناس يتهاونون بهذا، مع هذا التغليظ الشديد فيه، وصار هذا عادة عند الأكثر، متى أراد الطلاق خرجت المرأة من بيت الزوج، واعتدت في بيت أهلها. فالواجب عليكم تقوى الله تعالى، بامتثال الأمر والانتهاء الجزء: 14 ¦ الصفحة: 18 عما عنه زجر، كما قال تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا} [سورة التغابن آية: 16] نسأل الله الكريم أن يهدينا وإياكم الصراط المستقيم، وأن يجنبنا وإياكم طريق المغضوب عليهم والضالين; وصلى الله على محمد وآله وصحبه الطاهرين وسلم، والسلام عليكم. وقال الإمام سعود بن عبد العزيز رحمهما الله: [الحث على قبول النصيحة وبيان ما وقع من الناس من الخلل في الصلاة والزكاة] بسم الله الرحمن الرحيم من سعود إلى من يراه من المسلمين، سلمهم الله من الآفات، ووفقنا وإياهم لفعل الطاعات، وجنبنا وإياهم فعل المحظورات، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: موجب الخط 1 النصيحة لكم، والشفقة عليكم، والعذر من الله مما يتعلق بنا من حقوقكم، وعلينا الجهد، والتوفيق بيد الله، {وَمَا تَوْفِيقِي إِلاّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [سورة هود آية: 88] والنصائح كثرت، ولا أراها تثمر في كثير من الناس. وأعظم النصائح، وأبلغ المواعظ، نصائح الرب، ومواعظه لعبيده، وتبيينه لهم سبحانه ما يصلحهم في معاشهم ومعادهم، وتحذيره لهم، ما يضرهم في دنياهم وآخرتهم، ومن سمع القرآن وقرأه، فالذي قلبه حي، كفى بالقرآن واعظا. والله سبحانه وتعالى من علينا وعليكم بدين الإسلام،   1 أي: هذه الرسالة. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 19 وكل نعمة دون نعمة دين الإسلام، وهو أعظم نعمة أنعم الله بها على العبيد; وجمع الله لكم فيه بين خير الدنيا، ورجاء ثواب الآخرة; وأعطاكم به فوق ما تؤملون، وصرف به عنكم جميع ما تكرهون; وهو المحمود على جميع الأحوال. فكونوا ممن يحدث عند النعمة شكرا، وعند المصيبة صبرا; وينفق مما أتاه الله في السراء والضراء; والشكر أعمال، كما قال تعالى: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سورة سبأ آية: 13] . وأكثر مما نخاف علينا وعليكم، عدم العمل بما نعرف، وهو المصيبة الكبرى، فلو يحصل العمل، بالشيء الذي يشهدون الناس; أن الله أوجبه، ولا يبقى تقصير إلا في الذي يجهلونه، تم الأمر، وهو مثل ما ذكر، من عمل بما علم، أورثه الله علم ما لم يعلم. والذي أوصي به نفسي، وأوصيكم به: تقوى الله في السر والعلانية، وإخلاص جميع الأعمال لله وحده لا شريك له، ومتابعة الرسول صلى الله عليه وسلم وهذان الأصلان هما جماع الدين، ولا يستقيم دين إلا عليهما، كما قال تعالى; {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} [سورة الكهف آية: 110] . وأنتم تعلمون أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضة، ومع كونه فريضة، حقق عليكم في العهد، كما قال تعالى: {فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى الجزء: 14 ¦ الصفحة: 20 بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} [سورة الفتح آية: 10] . ولو علمت أن هذا الفتور يجري منكم، ما أكدته عليكم في العهد، مع أن هذا شيء أوجبه الله، والعهد زيادة تأكيد، ولا لأحد عذر ليتعذر به من الله، إلا - والعياذ بالله - إن كان عدم ديانة، أو تغافلا من الذي فيه ديانة. والدين مثل ما قال الله جل جلاله: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [سورة الحجر آية: 99] لابد من العمل به ما دام الروح في الجسد، وهذا ظاهر، ولا أحد تغير عن حاله، بقيام في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وأنتم تعلمون أنه ليس وقتنا هذا بأحسن من وقت النبي صلى الله عليه وسلم ولا بلداننا خير من مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفهمون ما يقع فيها من العدد والأدب، فالنبي صلى الله عليه وسلم همَّ بإحراق البيوت على المتخلفين عن الصلاة مع الجماعة، وذكر صلى الله عليه وسلم أن ما منعه إلا من في البيوت من النساء والذرية. وأنتم هؤلاء ترون ما وقع من الناس من الخلل في الصلاة، من التخلف عن صلاة الجماعة، وتضييع أهل الأطراف والنخيل الصلاة، وتركهم كلا يصلي على هواه، وتأخير أكثرهم الصلاة عن وقتها، والإساءة في الصلاة، من مسابقة الإمام فيها، ونقر الصلاة. وذكر المحسن في صلاته شريك للمسيء إذا لم ينهه. وما وقع من خلل الناس في زكاتهم، ومن الناس من يخرج الجزء: 14 ¦ الصفحة: 21 زكاة لا تجزي عنه، ومنهم من يمنعها، ومنهم من يبخل ببعضها. وكذلك يذكر لنا في بعض البلدان: بخس المكاييل والموازين; وأيضا اجتماع الرديين في مقاهي ومعاشر، ولا يمنعون; وكذلك الربا في المبايعات; وأنتم تفهمون: تغليظ الرب تعالى في الربا، قال تعالى: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} [سورة البقرة آية: 276] وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَوَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [سورة البقرة آية: 278-281] . وقال تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلاّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [سورة البقرة آية: 275] . واستحل كثير من الناس الربا بشبه، وهو مثل ما ذكر: لا تستحلوا محارم الله بأدنى الحيل، ومثل ما ذكر: من استحل محرما فقد كفر، فالمستحل لهذا مخادع لله، والله الجزء: 14 ¦ الصفحة: 22 أعلى وأجل {وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [سورة البقرة آية: 9] وصور البيع، ومداخله، تشرفون عليها - إن شاء الله - بخط آل الشيخ، نحن ما نعين الناس على المبايعة بها. وأنا ملزم كل أمير، وكل مطوع، وكل صاحب دين يخاف الله ويرجوه، يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، يقوم على الناس في جميع ما ذكرنا من المسائل التي ذكر، وغيرها من جميع المنكرات. ويقومون على الناس في تعلم دينهم، وأداء ما فرض الله عليهم، وطلب العلم 1 وإلزام كل من يتخرج في طلب العلم، وتنشئة الصغار على تعلم القرآن، وكل أهل بلد يجعلون عندهم نسخة، فإذا جرى مبايعة فيشرفون عليها مطوع البلاد، ويكتب المطوع على المبايعة. وأنا آمر هؤلاء الذين معهم الورقة، يختارون من كل أهل بلد ثلاثة أهل دين، وأنا ملزمهم بتتبع التجار، والفلاح، في مسألة المبايعة، ومن فعل شيئا مما بينا في هذه الورقة، فيبينون للأمير، فإن كان الأمير ما قام وأدب، أدبت الأمير وأدبت الفاعل؛ وهذه أمور وخيمة، وخطرها كبير في الدنيا والآخرة. ولا والله حملني على هذا، إلا المشحة بكم، والخوف   1 أي: يستطيع طلب العلم. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 23 من الله عليكم وعلي; والله جل جلاله قال: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [سورة الأنفال آية: 53] ونعوذ بالله من التغيير، ونسأل الله لنا ولكم العافية. وأحاذر علينا، وعليكم من هذه الآية، التي ذكر الله سبحانه، وحذر عنها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر أنها نزلت بعد الهجرة بأربع سنين، قوله تعالى: {وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ} [سورة الحديد آية: 16] وقسوة القلب كفى بها من عقوبة، أعاذنا الله وإياكم من ذلك; وذكر: أن أبعد القلوب عن الله القلب القاسي. وأنتم ترون مثل ما قال الله جل جلاله: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [سورة البقرة آية: 155-157] . وقال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [سورة الشورى آية: 30] وقال تعالى: {أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ} [سورة التوبة آية: 126] وقال تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [سورة الأنبياء آية: 35] . قال تعالى: {فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 24 قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [سورة الأنعام آية: 43-45] فلا جعلنا الله وإياكم أمثالهم وأشباههم، أعاذنا الله وإياكم من ذلك. ومثل ما ذكر:"ما نزل بلاء إلا بذنب ولا رفع إلا بتوبة" قال الله تبارك وتعالى إخبارا عن نوح عليه السلام، قال: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً} [سورة نوح آية: 10-12] والتوبة لها شروط ثلاثة: الإقلاع من الذنب، والندم على ما فات، والعزيمة على ألا يعود، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وقال الإمام: سعود بن عبد العزيز، رحمه الله: [الحث على التوبة إلى الله والقيام بما أوجب] بسم الله الرحمن الرحيم من سعود بن عبد العزيز، إلى من يصل إليه من المسلمين، سلمهم الله تعالى من الآفات، واستعملنا وإياهم بالباقيات الصالحات، وجنبنا وإياهم فعل المحظورات، ووقانا وإياهم السيئات، آمين، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 25 وبعد، موجب الخط1: النصيحة لكم، والشفقة عليكم، والعذر من الله حيث استرعانا عليكم أنِّي أبذل لكم جهدي، في كل ما أقدر عليه خفاء وبيانا، فيما يصلح به أمر دينكم ودنياكم. والله تعالى وجل ذكره، وتقدس اسمه، وتعالى جده، ولا إله غيره من علينا وعليكم بالحنيفية ملة إبراهيم، ودين محمد، عليهما أفضل الصلاة والسلام، وأعطاكم به من جميع المنح الربانية، ما لم تظنوا، والنعم الإلهية. والله تبارك وتعالى قال: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [سورة الأنفال آية: 53] ، ونعوذ بوجه الله الكريم، وبكلمات الله التامات، من غضبه وعذابه، وأليم عقابه، ونسأله أن يهدينا صراطه المستقيم [صراط] {الذين أنعم عليهم مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيماً} [سورة النساء آية: 69-70] . وقد جاءكم نصائح كثيرة وأمر وإلزام، وأرى العمل قليلا، والمصالح عائدة لكم في الدنيا والآخرة، والمضار عائدة عليكم في الدنيا والآخرة. وأعظم ما نوصيكم به، ونرغبكم فيه: وصية الله في الأولين والآخرين، وهي معرفة هذه النعمة العظيمة، والمنحة الجسيمة، دين الإسلام الذي ليس لله دين سواه، ولا يقبل من   1 أي: هذه الرسالة. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 26 أحد دينا غيره، كما قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلامَ دِيناً} [سورة المائدة آية: 3] وقال تعالى {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [سورة آل عمران آية: 85] وكما ذكر عن عمر رضي الله عنه حيث قال: إن للإسلام فرائض وشرائع وحدودا، فمن استكملها استكمل الإيمان وقال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} [سورة البقرة آية: 208] . والدين عمل، كما ذكر: ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني، ولكن ما وقر في القلوب وصدقته الأعمال; ولا بد من العمل بالدين والصبر على الأمر والنهي إلى الممات، إن شاء الله؛ ومواعظ القرآن كثيرة كافية. ومن لا يتعظ بكلام الله لم يتعظ بغيره، ولكن أخوف ما أخاف علينا وعليكم من عدم العمل بما نعلم، ومن قسوة القلوب، ومن طول الأمل، ومثل ما ذكر عمر: إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة، إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية، وكثرت عليكم المراسلات، والأمر والإلزام، وأنا أخاف علي وعليكم خوفا شديدا، من عدم العمل، ومن ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأترك بعض الأمر، خوفا من أمر يجب عليكم، فتقع به مضرة. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 27 وأنتم خابرون 1 أني ملزم الأمير، يقوم على الناس في أمور دينهم من حيث الجملة، من تعلم وتعليم، ويقوم على الناس في قمع من جرى منه شيء يستوجب، إن كان الأدب فيه حكم شرعي أو حدٌّ، لزمه الإمضاء، وإن كان أدبا غير أدب يعهده على قدر ما يردع أرباب المعاصي. والقومة 2 على الناس في تفريق الرديين، وفي جمع الذي يدعى الدين، والقومة على الناس في أنواع التهم، والقومة على أهل مواقف التهم، والقومة عليهم في بخس المكاييل والموازين، ومن مداخلة الربا في البيوع، وبخس الزكاة، أو إعطائها من أرذل المال، وما جرى مجرى هذا. والقومة في الجهاد، من إتمام السلع، والسلاح الطيب، والرجال الطيبين، والقومة على الخيل وتمام آلاتها. وكذلك الجهاد الداخلي، من رهن الذهبة، والبناء على البلدان وغير ذلك; وأنتم خابرون أني ملزم كل من يخاف الله ويرجوه، القومة مع الأمير بهذا كله، فإن تردى الأمير، فالذي له دين يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، وينصح أميره بالقيام، فإذا ما قام الأمير، فيرفع لنا الخبر. وأنتم تفهمون أن ما يجي بني آدم نقص، ولا قحط، ولا تسلط عدو، ولا غير ذلك من أنواع العقوبات والمصائب، إلا بسبب أفعالهم، وعفو الله أكثر. وأنتم في شهر مبارك تقبل فية التوبة، وتقال فيه   1 تعلمون. 2 أي القيام. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 28 العثرات، وتجاب فيه الدعوات، ومستقبله عند انقضائه - إن شاء الله - حج وجهاد في سبيل الله; فأنتم استعينوا بالله على أنفسكم الظالمة لكم، وقلوبكم القاسية، فإن الله نعم المولى ونعم النصير، وإنا كنا لبئس العبيد {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [سورة النور آية: 31] . وقوموا بما أوجب عليكم إيمانا واحتسابا، واحذروا مخالفته، فإن مخالفتة دمار الدين، ونزول دار البوار، أعاذنا الله وإياكم من ذلك; وهذه الأمور: اختبار من الله تبارك وتعالى، كما قال تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [سورة الأنبياء آية: 35] . ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، ونسأله لنا ولكم الهداية، وبه التوفيق والحماية، عما يغضبه، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وأنتم خابرون أني قد لزمت على كل أمير ناحية، يخص على خمسة عشر، أو أكثر أو أقل، من أهل بلدانه، ويلزمهم طلب العلم، لأنه أمر ضروري. ومثل ما ذكر: إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من الناس، ولكن يقبض العلم بموت العلماء، حتى إذا لم يبق عالم، اتخذ الناس رؤوسا جهالا، فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا. ولا أعذر كل أمير ناحية، إلا عنده ناس مخصوصين، الجزء: 14 ¦ الصفحة: 29 ويلزمهم طلب العلم، ويكتب لنا أسماءهم في ورقة، ونوصلهم - إن شاء الله - ما يعاونهم على معيشتهم، ويحتسبون الثواب عند الله، كما ذكر: لأن يهدي الله بك رجلا واحدا، خير لك من حمر النعم. وأيضا للمساكين في كل بلاد معزول لهم حقهم، الذي فرض الله لهم ربع الزكاة، وألزمنا نظراءهم يشرفون على ربع الزكاة في كل بلاد، ويفرق على الفقراء والمساكين. ويذكر لنا أن بعض النظراء يحط الربع، أو شيئا منه، وفاء أو رفدا لأهل الأموال، وهذا أمر لا يحل ولا نرضى به، ولا نأذن به، لا أحد يأخذ منه شيئا، جديدة فما دونها، ولا بد منه يوحد للفقراء وللمساكين، ولا يعط منه إلا الأحوج ما يكون له، والسلام، وصلى الله على محمد، وآله وصحبه أجمعين. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 30 [التذكير بعظم نصائح الرب وأهمية الحب في الله] وله أيضا، رحمه الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي هدانا للإسلام، وأرضانا به دينا عن سائر الأديان، ورزقنا متابعة نبيه وخيرته من خلقه، محمد بن عبد الله، سيد ولد عدنان، وجعلنا نجاهد في سبيله على بصيرة، حتى يكون الدين كله لله ونطمس الأوثان، وله الحمد على ذلك حمدا كثيرا لا يحصى عده إنسان. وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له في ربوبيته وإلهيته، وصفاته التي لا يشبهه شيء من صفات الإنس والجان، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وأمينه على وحيه، وخيرته من خلقه، الذي اصطفاه واختاره على جميع كائن من كان. والحمد لله الذي هدانا لهذا، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، لقد جاءت رسل ربنا بالحق، صلوات الله وسلامه عليهم في كل وقت وزمان، وسبحان الله وبحمده عدد خلقه، وزنة عرشه، ورضى نفسه، ومداد كلماته، وملء سماواته. والله أكبر كبيرا، وأعلى قدرا وشأنا، ولا إله إلا الله مخلصين له الدين، ولو كره المشركون، من أهل الشرك والأوثان؛ واستغفر الله وأتوب إليه من جميع الذنوب، والخطأ والنسيان. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 31 من سعود بن عبد العزيز: إلى من يراه من المسلمين، سلمهم الله من الآفات، ووقاهم جميع المهلكات، وهداهم لفعل الطاعات، وجنبنا وإياهم فعل جميع المحظورات، ووسع علينا وعليهم من جميع الطيبات، وحمانا وإياهم عن الأهواء والضلالات، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: موجب الخط المحبة لكم، والشفقة عليكم، والنصح لكم، والمعذرة من الله; ووالله إني أحب لكم من الخير ما أحب لنفسي، وأكره لكم من الشر ما أكره لنفسي، وإن أعظم ما أحبه لكم، طاعة الله ورسوله، وأعظم ما أكره لكم معصية الله ورسوله، بها حصول خير الدنيا والآخرة، ومعصية الله ورسوله بها زوال الدنيا والآخرة. والله جل جلاله وتقدست أسماؤه أعظم النعم علينا وعليكم، كما قال جل من قائل: {وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} [سورة لقمان آية: 20] ولا نقدر نعد ما أنعم به من جلب كل خير، ودفع {كل شر وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [سورة إبراهيم آية: 34] وكل نعمة يجب فيها شكر، وكل شكر يحصل به المزيد وعدم الشكر يوجب ضده وكفر للنعم، ويحصل بكفر النعمة العذاب الشديد، أعاذنا الله وإياكم من ذلك. ولا ننصحكم وننصح أنفسنا بأعظم من نصائح رب السماوات والأرض، التي ذكر في كتابه، حيث قال جل من الجزء: 14 ¦ الصفحة: 32 قائل: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [سورة إبراهيم آية: 7] وقال حاكيا عن عبده موسى عليه السلام: {إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ} [سورة إبراهيم آية: 8] وقال: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [سورة الذاريات آية: 55] وقال {سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَ وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى} : [سورة الأعلى آية: 10-12] . فنذكركم ما ذكر الله به خير خلقه، بعد نبيهم صلى الله عليه وسلم حيث قال: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [سورة الأنفال آية: 26] وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [سورة آل عمران آية: 102] فذكر الآيات، إلى قوله: {وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [سورة آل عمران آية: 105] . واعلموا أن أوثق عرى الإيمان، الحب في الله والبغض في الله، وكما ورد في الحديث: من أحب في الله وأبغض في الله، وعادا في الله، ووالى في الله، فإنما تنال ولاية الله بذلك، ولن يذوق عبد طعم الإيمان، وإن كثرت صلاته وصومه، حتى يكون كذلك. وقال تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 33 وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ} سورة الممتحنة آية: 4] إلى قوله: {حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [سورة الممتحنة آية: 4] وقال تعالى {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [سورة المجادلة آية: 22] الآية وقال تعالى: {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} [سورة هود آية: 113] الآية وقال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [سورة المائدة آية: 51] الآية. واعلموا أن أعظم الخير أداء الفرائض وترك المحرمات، قال الله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ الآية، إلى قوله: لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [سورة النور آية: 55 - 56] . وفي الحديث: وما تقرب إلى عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل، حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته، ولا بد له منه. وأعظم الفرائض - بعد التوحيد - الصلوات الخمس على مواقيتها، ولا يحصى ما في القرآن من الأمر بالصلاة الجزء: 14 ¦ الصفحة: 34 والمحافظة عليها وإقامتها، فإن إقامة الصلاة غير كيفية الصلاة، قال تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [سورة البقرة آية: 43] في غير موضع من القرآن 1. وقال في الذين لم يقيموا الصلاة: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} [سورة الماعون آية: 4-5] وقال تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً إِلاّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً} [سورة مريم آية: 59-60] الآية. وللصلاة شروط، وأركان، وواجبات، وسنن، لا تتم الصلاة على المشروع إلا بها، وترون فعل كثير من الناس في الصلاة، وعدم المحافظة عليها، وتضييع الجماعة أمر عظيم، نسأل الله لنا ولكم العافية. ثم بعد الصلاة أختها وقرينتها في القرآن "الزكاة"واستحوذ الشيطان على كثير من الناس، وصار أناس كثير أهل أموال ولا يزكون، ويدعون أن ما عندهم شيء، وهم كاذبون، وقد يكون أن الله ينْزعه عنهم، ويقال وجبت، ويحرمونه في الدنيا. ويعذبون به في الآخرة، كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ   1 النساء: 76 , الحج: 78 , النور: 56 , المجادلة: 13 , المزمل: 20. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 35 بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [سورة التوبة آية: 34] . وفي الحديث: إن المال الذي لا تؤدى زكاته، يصفح صفائح من نار لصاحبه، وتمثل له شجاع أقرع، يأخذ بلهزمتيه، أو كما قال. ومن الناس من يؤدي القليل من الكثير، ومنهم من يجعل زكاته وقاية لماله، في نوائب وغيرها; وأكبر من هذا وأطم الذين يحلون ما حرم الله، بالتأويل الفاسد الذي درجهم عليه الشيطان، حتى يقعوا فيما ذكر: من استحل محرما فقد كفر، واستحلوا ما حرم الله بأدنى الحيل. والشيطان عدو بني آدم، ولا يسأم بما حصل به ورودهم النار، من [أي] باب كان، ومما أدرك الشيطان بخس المكيال والميزان؛ والله جل جلاله قال في كتابه: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ الآيات، إلى قوله: يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [سورة المطففين آية: 1- 6] . وقال تعالى عن نبيه شعيب، عليه السلام: {وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلا} [سورة هود آية: 85] الآيات وبخس المكيال أو الميزان، من فعل الأمم المعذبين. ومن ذلك: التجسس على كثير من أنواع الربا في المعاملات، وترديد الدَّين في الذمم، على الذين ليس عندهم وفاء، ويردد الدين بنفسه، زادا بزاد، وغير ذلك من أنواع الربا، ولو في المصارفة، وشراء الفضة بالفضة وغير ذلك. والله تعالى، قال: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} الجزء: 14 ¦ الصفحة: 36 [سورة البقرة آية: 276] . {وقال الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} [سورة البقرة آية: 275] : يبعثون من قبورهم مثل المجانين. وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [سورة البقرة آية: 278-279] ومن ذلك: طلب المعسر وعدم إنظاره، والله تعالى يقول: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [سورة البقرة آية: 280] ومن ذلك: مطل الغني الحق الذي عليه، لغني كان أو فقيرا، أو لأجير وغير ذلك; كما قيل: إن في إنظار المعسر أجر عظيم، ومطل الغني ظلم عظيم. ومن ذلك: حق المرأة واليتيم، فاليتيم قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} [سورة النساء آية: 10] وكثير من الناس - والعياذ بالله - ما يتورع عن مال اليتيم. وأكثر من يأكل أموال اليتامى البضعاء، جمعوا بين الخيانة في الأمانة، وأكل أموال اليتامى ظلما، وحق المرأة ما كان لها من حقوق واجبة من صداق ونفقة. وأخطر ما يكون فعل كثير من الناس، إذا أقفى 1 عن المرأة منع حقوقها، وقد يتحيل عليها بما يضيق عليها لعلها   1 تخلَّى وترك. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 37 تخلي له، وهذا أمر منكر، ولا يبرأ من حقوقها على هذه الحال إذا عضلها. قال الله تعالى: {وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ} [سورة النساء آية: 19] ، وكذلك إخراجها من البيت، إذا كانت مطلقة، قبل انقضاء عدتها، فإنه لا يحل له ولا يحل لها، قال الله تعالى {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ} [سورة الطلاق آية: 1] . ومن أكبر البلوى وأعظم الدواهي: الإعراض عن كتاب الله وسنة رسوله وعدم التعاون على البر والتقوى، وعدم إنكار المنكر، قال الله تعالى: {كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [سورة المائدة آية: 79] ، وقال تعالى: {لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الأِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [سورة المائدة آية: 63] . والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضة، وهو سبب النجاة، قال لله تعالى في الذين احتالوا على الصيد: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [سورة الأعراف آية: 165] وأنتم تعرفون مع كونه فريضة، أنه مؤكد على رقابكم بعد، لابد أن يسألكم الله عنه، فالحذر الحذر من سخط الله وسطوته. واعلموا: أن الله تبارك وتعالى يمتحن عباده، ويبلوهم بالخير والشر، كما قال تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً الجزء: 14 ¦ الصفحة: 38 وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [سورة الأنبياء آية: 35] . فالنعم غربال يختبر عباده فيها بالشكر، والمصائب غربال ويختبرنا فيها بالصبر، كما قال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ} شَكُورٍ [سورة إبراهيم آية: 5] {وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ} [سورة المؤمنون آية: 30] . فمن رزق الشكر عند الرخاء والصبر عند البلاء، فهو عنوان سعادته، ومن صار بالضد، يبغي ويبطر مع الرخاء والنعم، ويسخط ويجزع مع الامتحان والنقم، فهذا عنوان شقاوته، أعاذنا الله وإياكم من غضبه وموجبات غضبه. والله أنعم علينا وعليكم بالنعم والسعة، والنصر، والظهور، والمدافعة، كما قال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [سورة المائدة آية: 11] ولا نقدر نعد ولا نحصى كم كف الله عنا أيدي أعدائنا قديما وحديثا؟ وكل عدو يَنْوِينَا بسوء، ركسه الله على أم رأسه، ولا يبني لنا بناء كيد إلا هدمه الله من أسّه. وكل جريرة تجر على الإسلام وأهله، تصير عاقبتها خيرا للإسلام وأهله، وعزا وظهورا، وكسرا وخذلانا على من سعى فيها، كما أخبر الله بذلك في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 39 عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [سورة الأنفال آية: 36-37] . فإذا جرت هذه الأمور، صار الناس فيها درجات في الخير، ودركات في الشر، فالمؤمنون يقولون كما أخبر الله عن إخوانهم: {وَلَمَّا رَأى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاّ إِيمَاناً وَتَسْلِيماً} [سورة الأحزاب آية: 22] والمنافقون قالوا: {مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاّ غُرُوراً} [سورة الأحزاب آية: 12] وظنوا بالله ظن السوء، قال تعالى: {وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا} [سورة الأحزاب آية: 10] {الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} [سورة الفتح آية: 6] . والمصائب ما تقع إلا بالذنوب، وما يعفو الله أكثر كما قال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [سورة الشورى آية: 30] وأعظم ما تقع المصائب، والقحط، ومنع الغيث، وتسليط العدو، إذا وقع الخلل بما في هذه الورقة، من ترك الطاعات، وارتكاب المحرمات. ومن أكبر الكبائر بعد الشرك بالله عقوق الوالدين، وصار هذا المنكر العظيم اليوم ما ينكر، ولا يعرف أنه منكر، ولا يعاب فاعله؛ وهذا مما عمت به البلوى، كون المعروف يصير منكرا، والمنكر معروفا، والسنة بدعة والبدعة سنة. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 40 وهذا من علامة لبس الحق بالباطل، كما في الدعاء: اللهم أرنا الحق حقا ووفقنا لاتباعه، وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبسا علينا فنضل، واجعلنا للمتقين إماما. وفي الحديث عن عبد الله بن عمر، رضي الله عنهما، قال: كنت عاشر عشرة رهط من المهاجرين، عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبل علينا بوجهه، وقال: يا معشر المهاجرين، خمس خصال - وأعوذ بالله أن تدركوهن -: ما ظهرت الفاحشة في قوم حتى أعلنوا بها، إلا ابتلوا بالطواعين والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا. ولا نقص قوم المكيال والميزان، إلا ابتلوا بالسنين وشدة المؤونة، وجور السلطان. ولا منع قوم زكاة أموالهم؛ إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا. ولا خفر قوم العهد، إلا سلط الله عليهم عدوا من غيرهم، فأخذ بعض ما في أيديهم. وما لم تعمل أئمتهم بما أنزل الله في كتابه، إلا جعل الله بأسهم بينهم ومن أكبر الأمور: أن كثيرا من الناس برعم عليه الشيطان، وثقل عليه النفقة في طاعة الله وصدق الشيطان في وعده، والله تعالى يقول: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [سورة البقرة آية: 268] . الجزء: 14 ¦ الصفحة: 41 صلى الله عليه وسلموقال تعالى: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سورة سبأ آية: 39] وقال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [سورة البقرة آية: 261] . وقال تعالى في صفة المنافقين: {وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلاّ وَهُمْ كُسَالَى وَلا يُنْفِقُونَ إِلاّ وَهُمْ كَارِهُونَ فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُون لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ} [سورة التوبة آية: 54-57] . ووصل الحد إلى أن كثيرا من الناس ما يكفيه البخل، بل يأمر الناس به، كما قال تعالى: {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِيناً وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِيناً فَسَاءَ قَرِيناً} [سورة النساء آية: 37-38] . وصار كثير من الناس يقول: البلدان أضعفها نفقات الجهاد، وهذا القائل يخاف عليه من الكفر، فإنه رد قول الله تعالى: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} [سورة سبأ آية: 39] ولقوله: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [سورة البقرة آية: 261] الآية. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 42 ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: ما نقص مال من صدقة 1 ولا والله وبالله وتالله: ما نقص أحد بطاعة الله، ولا نقص إلا بطاعة الشيطان، ومخالفة أمر الله ورسوله، ومن ذلك كبار الناس أكثرهم ما يمشون في الجهاد في سبيل الله، وفي الجهاد فضل ما يحصى ذكر الله فيه، وذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأكثر الناس يخاف عليه من قول الله تعالى: {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً} [سورة التوبة آية: 46] الآية وأيضا أن المصيبة اليوم ما تعد ذنبا ولا تستنكر; قال تعالى: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ} [سورة آل عمران آية: 152] الآية. وكثير من الناس يجعل في نب من نبوب الإسلام، مع غزو في نحر عدو، أو ثغر من ثغور الإسلام، ويلقى في البلدان، ولا يلقى من ينكر عليه، لا أمير ولا مأمور، وهذا من أعظم الجنايات وأكبر المعاصي. قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [سورة الأنفال آية: 27] وهذا من أكبر الخيانة في الوديعة وغيرها. ومرادى بذكر هذا تبيين لكم، وتحذيركم من عقوبة الله، ومعذرة من الله واستجلاب للتوبة والاستغفار، وفي الحديث: ما نزل بلاء إلا بذنب ولا رفع إلا بتوبة. [الحث على شكر ما أنعم الله به من النصر والتأييد] وأيضا: تجددون شكر ما أنعم الله به عليكم من النصر   1 الترمذي: الزهد 2325. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 43 والتأييد، فإن الشكر يحصل به ثبوت النعم والمزيد، ودفع النقم {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [سورة النور آية: 31] . ومن الشكر: التشمير عن الساعد في جهاد أعداء الإسلام، في العسر واليسر، والمنشط والمكره، وأنتم - إن شاء الله - ماشون على بركة الله واسمه، على هلال ربيع الأول إن شاء الله، والممشى ممشى احتمال ومستنفر المسلمين، وماشين إن شاء الله. وترى الممشى يبغى من يعتد له بكل آلة، وأعظمها وأهمها الزهبة وما يحتاج إليه صاحب الحرب، من الاستعداد الذي أمر الله به، حيث قال: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [سورة الأنفال آية: 60] والبواردية يحتسبون الزهبة والفتيل; واحتسبوا الصملان والركاب الطيبة، وترى وعد التثوير عندكم سريع، إن شاء الله، وأرهوا بالعوامل: الفواريع والفؤوس، والمساحي والمحافر، تراني أرجو أننا نهدم بها الأوثان، ونبني الثغور بأوطانهم، بحول الله وقوته; والخيل قوموا عليها، ولا يقعد منها شيء، ولا يقول أحد ما درينا، أو ما لب لنا أنّها العجلة، أو ركابنا رديئة. ونسأل الله العظيم رب العرش الكريم لنا ولكم، من خير ما عنده، ونعوذ به من شر ما عندنا، ونسأله المعونة والتوفيق، لما يحب ويرضى، والسلام. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 44 [حث الإمام سعود بن عبد العزيز للإخوان من أهل الدرعية على الجهاد والأمر بالمعروف] وله أيضا: عفا الله عنه: بسم الله الرحمن الرحيم من سعود بن عبد العزيز، إلى الإخوان من أهل الدرعية، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: خصنا الله وإياكم بدين الإسلام، فصار غيركم تبعا لكم، ويقتدي بكم في أصول الدين وفروعه، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، من فرائض الدين. ولا يستقيم دين، ويعبد الله على مراده، إلا بالجهاد في سبيل الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبلادكم صارت مجمعا للناس، وامتلأت من سائر البلدان، وحدث فيها أمور يكرهها الله ورسوله، ويغضب منها الذي فيه رائحة للدين، ويخاف من اليوم الآخر. وأنتم اليوم: أسقطهم عن أنفسكم هذه الفريضة بسبب المداهنة وطلب رضى وجوه الخلق، وعدم الإيمان بالجزاء، والذي له دين ويؤمن بالله واليوم الآخر، ولو هو تحت يدي حاكم ظالم، يمنعه عن القول بالحق، وجب عليه الانتقال من بلاده، إلى بلد يقول فيها الحق ويأمر به، وينكر فيها المنكر وينهى فاعله. والعاصي إذا بان لنا أمره، أقمنا عليه الحق بحول الله وقوته، ولا نناظر وجه شريف ولا وضيع، ما دام الله مبقينا، إن شاء الله تعالى. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 45 والذي أحاذر عليكم اليوم: معصيتكم الله في عدم إنكار المنكر، وعدم الغضب لله، وعلى طول هذه المدة، ما بلغني من خاص أو عام، قام لله، أو أنكر منكرا، أو رفع لي خبرا بخلاف أحد. ولا دريتم أنكم خنتم العهد الذي أخذ منكم، وعصيتم ربكم في عدم إنكاركم المنكر؛ والعاصي عصى الله بارتكاب المعصية، والساكت عصى الله في عدم الغضب لله وعدم الإنكار عليه. ويخطر أن العاصي يعترف بالذنب ويتوب منه، والساكت ما يلب له أن هذا ذنب، وتتراكم عليه الذنوب من حيث لا يشعر، وعلقتونا بالفريضة، وأسقطتوها عن أنفسكم، ونحن نسأل الله أن يعيننا ويحتمل عنا. فيكون عندكم معلوما أن الله موجب على كل مؤمن بالله واليوم الآخر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ ولا يناظر 1 وجه خاص ولا عام; والأمر الذي تحبون رفعه إليَّ، وأدبه يصدر مني، ارفعوه إلي. وقوموا بهذه الفريضة، وأدوها على الوجه المرضي، وأنا أبغي أتتبع كل من يتهم بالدين، والذي ما يتبين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، في دقائق الأمور وجلائلها أنا أؤدبه على الخيانة بالعهد، وإسقاط هذه الفريضة. وأنتم تعوذوا بالله من الشيطان الرجيم، وتسببوا   1 أي: لا يراعي. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 46 بالأسباب التي ترضي الله عنكم، وتصير سببا لدفع العقوبات عنكم في الدنيا والآخرة. وأنا خاص على الناس، ومعين عليهم، وأنا ملزم على كل من له دين، العمل بما ذكرت; والذي يقول: ما هو من حسبة أهل الدين، ولا له نصيب من الخير، نعرف ممشاه بسكوته وعدم الإنكار، ولنا فيه رأى يدبرنا الله عليه، إن شاء الله تعالى. وأيضا: بلادكم يأتيها أفقية من كل مكان وجهة، ويروح أكثرهم، ما نعرف أن أحدا واجههم يدعوهم للإسلام، ويبين لهم التوحيد من الشرك، ويبين لهم الكفر من الإسلام، هذا - والعياذ بالله - من الحرمان، وعدم الإيمان بقوله صلى الله عليه وسلم لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم. والدعوة إلى الله واجبة على كل مسلم، قال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [سورة يوسف آية: 108] . وكل من ادعى اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم وجب عليه أن يدعو إلى ما دعا إليه صلى الله عليه وسلم والخلل في هذه المسألة خلل واضح، ولا عليه صبر، وأنا ملزم عليكم تبدلون الممشى، والكل منكم يتوب إلى الله فيما بينكم وبينه، والسلام. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 47 [الحث على شكر نعم الله والتوبة إليه والصدقة] وله: أيضا، رحمه الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم من سعود بن عبد العزيز، إلى من يراه من المسلمين، سلمهم الله من الآفات، وجنبهم فعل المحظورات، ورزقنا وإياهم فعل الطاعات، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: موجب الخط 1 المشحة بكم، والشفقة عليكم، والله تعالى أنعم علينا وعليكم بدين الإسلام، وكل نعمة تقصر دونه، وأعطاكم في ضمنه مالا بعددٍ لا بثمن، وغمركم بالنعم الجسيمة، كما قال تعالى {وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} [سورة لقمان آية: 20] . وصرف عنكم به من المحن، ما تعلمون وما لا تعلمون، فكونوا ممن يحدث عند النعمة شكرا، وعند المصيبة صبرا، ولينفق مما أتاه الله في السراء والضراء. وقيد النعم الشكر، كما قال تعالى وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ [سورة إبراهيم آية: 7] ، الآية وقال تعالى {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} : [سورة سبأ آية: 13] . والشكر سبب لثبات الموجود، وجلب للمفقود، قال تعالى {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً وَإِذاً لآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً} : [سورة النساء آية: 66-68] .   1 أي: الرسالة. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 48 وفي الحديث: إذا رأيت الله يتابع نعمه على عبد، وهو مقيم على المعاصي فإن ذلك استدراج؛ ونعوذ بالله من مكر الله، فإنه فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ [سورة الأعراف آية: 99] وقال: إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ [سورة الرعد آية: 11] وفي الحديث: ما نزل بلاء إلا بذنب، ولا رفع إلا بتوبة والله تبارك وتعالى: يُري عبيده قدرته عليهم، وعفوه عنهم، لعلهم يرجعون. والموجب لهذا: هذه الفتنة التي عمت الناس، ليريكم الله قدرته على الناس ودفعه، كما قال تعالى {أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ} : [سورة التوبة آية: 126] ، والتوبة إلى الله والاستغفار، شعار الصالحين، كما قال عن نوح عليه السلام: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً [سورة نوح آية: 10] إلى قوله: وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً [سورة نوح آية: 12] . وقسوة القلب سبب العطب والهلاك، في الدنيا والآخرة، قال تعالى {} : فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ إلى قوله: الظَّالِمُونَ [سورة الأنعام آية: 43 – 47] فلا جعلنا الله وإياكم منهم، ولا أمثالهم. والذي أوصيكم به تقوى الله في السر والعلانية، الجزء: 14 ¦ الصفحة: 49 واستحضروا فناء الدنيا، وبقاء الآخرة، واللجوء إلى الله، والفرار إليه والاستغفار والتوبة، والإقلاع عن الذنوب التي تغضب الله، باطنا وظاهرا، كما قال تعالى {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} : [سورة الذاريات آية: 50] الآية. وقدموا بين يدي توبتكم والاستغفار، صدقة لفقرائكم، يخص بها أهل المسكنة; واعلموا: أن الله الغني وأنتم الفقراء: وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ [سورة البقرة آية: 110] الآية، وافطنوا لقوله تعالى: الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ [سورة البقرة آية: 268] الآية. وقال تعالى {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} : [سورة سبأ آية: 39] الآية. وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: أنفق بلالا ولا تخش من ذي العرش إقلالا وفي الحديث الثاني، أنه: يطلع مع الشمس كل يوم ملكان، أحدهما يقول: اللهم أعط منفقا خلفا، والآخر يقول: اللهم أعط ممسكا تلفا 1 وتجزلوا فإن الله أكرم من خلقه، فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ [سورة الزلزلة آية: 7-8] وقولوا كما قال الأبوان: رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا [سورة الأعراف آية: 23] الآية. وقولوا، كما قال ذو النون عليه السلام: لا إِلَهَ إِلاّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ [سورة الأنبياء آية: 87] الآية. اللهم إنا نستغفرك ونتوب إليك، اللهم إنك عفو تحب   1 البخاري: الزكاة 1442 , ومسلم: الزكاة 1010 , وأحمد 2/347. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 50 العفو فاعف عنا، اللهم يا سميع الدعاء، ويا ذا الأيادي العُلَى، عالم السر والنجوى، إنا نلتجئ إليك، ونستغفرك ونتوب إليك، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار، والحمد لله رب العالمين. وصلى الله على محمد، وعلى آل محمد، كما صليت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، وبارك على محمد، وعلى آل محمد، كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد. وكل إمام مسجد يقرأ الكتاب على جماعته، ويكتب صدقتهم، وورقة المسجد يعطاها إمام المسجد، والسلام. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 51 [رسالة الإمام عبد الله بن سعود إلى الأمراء والمطاوعة وغيرهم في الحث على قبول النصائح وإقامة الدين] وقال الإمام: عبد الله بن سعود، رحمهما الله: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله بن سعود: إلى من يصل إليه هذا الكتاب من المسلمين، الأمراء، والمطاوعة، والذين يدعون، وعامة المسلمين، سلمهم الله تعالى من الآفات، واستعملهم بالباقيات الصالحات، آمين. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وموجب الخط: النصيحة لكم، والشفقة، وقيام الحجة عليكم، والمعذرة من الله، إذا وقفت أنا وأنتم بين يديه، في يوم تشخص فيه الأبصار. والله تبارك وتعالى من علينا وعليكم بدين الإسلام، والجهاد في آخر عمر الدنيا; وإلا غيركم، فخلّى بينه وبين عبادة الأحياء والأموات; وأنتم صانكم الله من عبادة غيره، ووفقكم لتوحيده. وفي هذه المدة كبيركم - قدس الله روحه - يعاقب عليكم الكتب والنصائح، ولا صار لها تأثير، وهذا من أعظم العقوبات عليكم، إذا ذكرتم ما تذكرتم، وإذا وعظتم ما انتفعتم. وهذه صفات من ذم الله في كتابه، كما قال تعالى: {وَإِذَا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ} [سورة الصافات آية: 13] وقال تعالى: الجزء: 14 ¦ الصفحة: 52 {سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى} [سورة الأعلى آية: 10-12] أعاذنا الله وإياكم من ذلك. ومر علينا قراءة في هذه الأيام، ونسخناها لكم، وفيها ما يعظ القلب الذي فيه حياة; فيكون لديكم معلوما أن أهم ما علينا جهاد أنفسنا، والتسبب فيما يصلح ما تحت أيدينا، ويصير سببا لزوال الباطل من أوطاننا، وهذا أوجب علينا من جهاد عدونا. وبالحاضر الذي له دين، ويؤمن بالله وباليوم الآخر، يتوب إلى الله، ويعرف أنه قد أسقط فريضة من فرائض الدين، وهي: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا لأحد حجة ولا عذر، ولا نعلم أحدا ترك شيئا من دنياه مداراة لأحد، ولا حياء من أحد. وأما الدين جعله أكثر الناس صلحة عن دنياه، وخاب وخسر من آثر دنياه على رضى مولاه; فيكون عندكم معلوما أني ملزمه وموجب على كل من يؤمن بالله واليوم الآخر: يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر. وكل بلاد فيها طائفة أهل دين: يجتمعون، ويصيرون يدا واحدة، وأميرهم ومطوعهم; والأمير يصير حربة لأهل الدين، ويشد عضدهم، ويحمي ساقتهم، ويطلق أيديهم; والمطوع يوازر الأمير، ويقوم مع أهل الدين، ويبث العلم في جماعته، ويحضهم على المذاكرة. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 53 والأمير الذي يبغي الإمارة شيخة، ولا يرضى أن غيره يأمر بالحق، وينهى عن الباطل، فذاك نعرف أنه شيخ، ومدور 1 ملك، ما هو يدور دينا وحقا، ولنا فيه أمر ثان. والذي غرضه الدين يبدل الممشى، ويصنف جماعة الدين، ويقوم حقهم، ويظهر وقارهم، ويجعلهم بطانته وأهل مجلسه ورأيه، ويبعد أرباب الفسوق والمعاصي، ويقوم عليهم بالأدب الذي يزجرهم; ونرى أكثر العيب اليوم حادثا من حاشية الأمراء، حين غفلوا عمن تحت أيديهم، وتركوهم يلعبون بأيديهم وأرجلهم في البلدان. وأهل الدين أنا مقدمهم، ومطلق أيديهم، ومانع الأمراء لا يمنعون أهل الدين عن القول بالحق والأمر به، ومن وقف في أعين أهل الدين فيحسب على الفسالة 2، لا أمير عامة ولا أمير قرية، ولا قدمنا الأمراء إلا ليقدموا الحق ويقدموا من قام به. وبلغنا الخبر أن بعض الأمراء متسلط على من يدعي الدين، بأمور ظاهرها حق، وباطنها مغشة وأدب، ولا يفعل هذا أمير مع أهل الدين، فأدعه في الإمارة يوما واحدا، فكل يأخذ حذره، ويبدل الممشى، ومضى ما فيه كفاية. ونذكركم، قوله تعالى: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ   1 أي: طالب ومستشرف. 2 أي: الرداءة والخبث. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 54 وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ [سورة الحج آية: 41] . وليس منكم أحد إلا والله سبحانه مقدره. وقال تعالى {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} : [سورة آل عمران آية: 104] ، والأحاديث في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ليست بخفية، ولا يصد عنها إلا طاعه الشيطان، واتباع الهوى. والله تعالى حذر من اتباع الهوى، ومن طاعة الشيطان، قال تعالى {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} : [سورة فاطر آية: 6] وقال تعالى {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ} : [سورة القصص آية: 50] وقال: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى [سورة النجم آية: 23] وغير ذلك من الآيات، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. [الحث على تقوى الله وأداء الفرائض والتحذير من الربا] وقال الإمام تركي بن عبد الله رحمهما الله: بسم الله الرحمن الرحيم من تركي بن عبد الله، إلى من يراه من المسلمين، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: موجب الخط إبلاغكم السلام، والسؤال عن حالكم، والشفقة عليكم، والمعذرة من الله إذ ولاني أمركم، والله المسؤول المرجو أن يتولانا وإياكم في الدنيا والآخرة، وأن يجعلنا ممن إذا أعطي شكر، وإذا ابتلي صبر، الجزء: 14 ¦ الصفحة: 55 وإذا أذنب استغفر، والله منعم يحب الشاكرين، ووعدهم على ذلك المزيد، قال تعالى {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} : [سورة إبراهيم آية: 7] . فالذي أوصيكم به تقوى الله تعالى في السر والعلانية، قال تعالى {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} : [سورة النور آية: 52] ، وجماع التقوى أداء ما افترض الله سبحانه، وترك ما حرم الله. وأعظم فرائض الله بعد التوحيد: الصلاة، لا يخفاكم ما وقع من الخلل بها، والاستخفاف بشأنها؛ وهي عمود الإسلام، الفارقة بين الكفر والإيمان، من أقامها فقد أقام دينه، ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع، وهي آخر ما وصى به النبي صلى الله عليه وسلم وهي آخر وصية كل نبي لقومه، وهي آخر ما يذهب من الدين، وهي أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة. وبعض الناس يسيء في صلاته، وأحد يتخلف عن الجماعة ويصلي وحده، أو في نخله هو ورجاله، والمسجد جار له، وفي الحديث: لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد؛ وهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يحرق على المتخلفين بيوتهم بالنار، لولا ما فيها من النساء والذرية. وقال ابن مسعود، رضي الله عنه: لقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق. وهذه أمور ما يخفى عليكم وجوبها، لكن الكبرى عدم إنكار المنكر، وتزيين الشيطان الجزء: 14 ¦ الصفحة: 56 لبعض الناس: أن كلا ذنبه على جنبه; وفي الحديث: لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يد السفيه، ولتأطرنه على الحق أطرا، أو ليعمنكم الله بعقابه وكذلك الزكاة، بعض الناس يتخفون بها - والعياذ بالله - يبخل بها، فإن أخرجها جعلها وقاية دون ماله، والله تعالى يقول: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لانْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ [سورة التوبة آية: 34-35] . وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها، إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار، فأحمي عليها في نار جهنم، فيكوى بها جنبه وجبينه وظهره، كلما بردت أعيدت، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضى بين العباد، فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار 1 ثم ذكر مانع الزكاة من الإبل والبقر والغنم. وكل مال ما يؤدي زكاته، فهو كنْز يعذب به صاحبه; والنصاب تفهمونه، وعروض التجارة، مثل الطعام الذي يدخره صاحبه، ولو الزرع مزكى، إذا مضى عليه الحول، أو ثمنه، وجبت فيها الزكاة، وكل ما أعد للتجارة يقوم عند الحول، ويزكيه صاحبه. والله تعالى يبتلي الغنى بالفقير، وأعطاكم وطلب منكم   1 مسلم: الزكاة 987 , وأبو داود: الزكاة 1658 , وأحمد 2/262 ,2/383. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 57 اليسير، فمن مكر بها فالله خير الماكرين، ومن أداها فنرجو الله أن يقبلها منه، ويخلفها عليه. وكذلك الربا تفهمون أنه من أكبر الكبائر، وأن مرتكبه محارب لله ورسوله، قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبا أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [سورة آل عمران آية: 130] وقال تعالى {لَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلاّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [سورة البقرة آية: 275] . وفي الحديث، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لعن الله آكل الربا وموكله، وكاتبه وشاهديه، وقال: هم سواء 1 فدل هذا الحديث: أن السكوت والرضا بالمعصية معصية، وأن من لم ينكر على العاصي، أو المرابي فهو مثله. وفي حديث آخر: الربا سبعون بابا، أيسرها مثل من ينكح أمه 2 وفي حديث آخر: أربعة حق على الله أن لا يدخلهم الجنة، ولا يذيقهم نعيمها: مدمن الخمر، وآكل الربا، وآكل مال اليتيم بغير حق، والعاق لوالديه وفي حديث آخر ما ظهر الربا والزنا في قرية، إلا أذن الله بهلاكها 3.   1 النسائي: الزينة 5103. 2 ابن ماجه: التجارات 2274. 3 أحمد 1/402. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 58 ومن أنواع الربا: الطعام بالطعام إلى أجل، وبيع الذهب بالفضة، والفضة بالذهب، والتفرق قبل القبض، أو بيع الملح بالطعام قبل القبض. وفي الحديث: الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، يدا بيد، وزنا بوزن، كيلا بكيل، سواء بسواء، فمن زاد أو استزاد فقد أربى، الآخذ والمعطي فيه سواء. فإذا اختلفت هذه الأجناس، فبيعوا كيف شئتم، إذا كان يدا بيد 1. ومنه: القرض الذي يجر منفعة ; وفي الحديث كل قرض جر منفعة فهو ربا. وكذلك قلب الدين بالدين على المعسر، إذا كان في ذمته دراهم، وعجز أن يوفيه، كتبها عليه سلما بطعام، وهذا يشبه ربا الجاهلية: إما أن تعطي وإما أن تربي. وكذلك بيع العينة - وهي حرام - إذا كان عند رجل سلعة، فاشتراها منه إنسان إلى أجل، ثم اشتراها صاحبها الذي باعها بنقد دون ثمنها; وأنواع الربا ما يمكن حصرها. فأنتم تَفهّموا بدقائق الربا لئلا تقعوا فيه، والجاهل يسأل العالم، والخطر عظيم في سخط الرب ويمحق المال; فأنتم استعينوا بالله، وتعاونوا على البر والتقوى، ولا تعاونوا على الإثم والعدوان.   1 مسلم: المساقاة 1587 , والترمذي: البيوع 1240 , والنسائي: البيوع 4560 ,4561 ,4562 ,4563 ,4564 , وابن ماجه: التجارات 2254 , وأحمد 5/314 , والدارمي: البيوع 2579. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 59 وكذلك المكاييل والموازين، وأنا ألزم كل أمير يحضر المكاييل، كبارها وصغارها، ويقطعونها على مكيال واحد. وكذلك الموازين الكبار والصغار، اقطعوها على ميزان واحد، وتفقدوا الناس في كل شهر، ولا يحل بخس المكيال والميزان، ولو كانت المعاملة مع ذمي، كما في الحديث: أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك. 1 وكذلك تفقد الناس عن المعاشر الفاسدة، والناس الذين يجتمعون على شرب التتن والنشوق به; وكل أهل بلد يرتبون الدرس في المجامع، فإن كانت خاربة يعمرونها، والذي يعرف بالتخلف عن مجالس الذكر يرفعونه لنا. وأنا مطلق الآمر بالمعروف، والناهي عن المنكر، وينصح أولا، ويؤدب ثانيا، ومن عارضه خاص أو عام، فأدبه الجلاء من وطنه، وهذا من ذمتي في ذمة من يخاف الله، واليوم الآخر. وأنا أشهد الله عليكم: أني بريء من ظلم من ظلمكم، وأني نصرة لكل صاحب حق، وعون لكل مظلوم {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا} [سورة آل عمران آية: 103] ، وأعزكم بعد الذلة، وجمعكم بعد الفرقة، وأمنكم بعد الخوف، وكثركم بعد القلة، وبالإسلام أعطاكم الله ما رأيتم، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، والسلام.   1 الترمذي: البيوع 1264 , وأبو داود: البيوع 3535 , والدارمي: البيوع 2597. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 60 [رسالة الشيخ عبد الرحمن بن حسن إلى الإمام فيصل بن تركي في الحث على التناصح والتذكير بنعم الله] وقال شيخ إلإسلام، الشيخ: عبد الرحمن بن حسن، رحمه الله تعالى، وعفا عنه: بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين: من عبد الرحمن بن حسن، إلى الإمام المكرم: فيصل بن تركي، سلمه الله، وهداه آمين، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: الواجب علينا وعليكم التناصح في دين الله، والتذكير بنعم الله وأيامه، فإن في ذلك من المصالح الخاصة والعامة، ما لا يحيط به إلا الله عز وجل وفي الحديث: ما نزل بلاء إلا بذنب وما رفع إلا بتوبة. ولله حق وعبودية على خلقه، بحسب وسعهم وقدرتهم، ولذلك كان على ولاة الأمور، ورؤساء الناس المطاعين فيهم، ما ليس على عامتهم وسوقتهم، وكل خير في الدنيا والآخرة إنما حصل بمتابعة الرسل، وقبول ما جاؤوا به. وكل شر في الدنيا والآخرة، إنما حدث ووقع بمعصية الله ورسله، والخروج عما جاؤوا به من النور والهدى؛ وهذه الجملة شرحها يطول، وتفاصيلها لا يعلمها إلا الله، الذي لا يعزب عن علمه {مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 61 وَلا فِي الأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلاّ ذفِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [سورة سبأ آية: 3] . والسير والاعتبار والاستقراء، والقصص والشواهد، والأمثال النقلية والعقلية، تدل على هذا وترشد إليه، وبعض الأذكياء يعرف ذلك، في نفسه وأهله وولده ودابته، قال بعضهم: إني لأعصي الله، فأعرف ذلك في خلق أهلي ودابتي. واللبيب يدرك من الأمور الجزئية والكلية، ما لا يدركه الغبي الجاهل، ويكفي المؤمن قوله تعالى {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} [سورة الانفطار آية: 13-14] فإن هذه الآية يدخل فيها كل نعيم، باطنا وظاهرا، في الدنيا والآخرة، وفي البرزخ. وقد قال تعالى: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ} [سورة النساء آية: 123] الآية، ويدخل في هذا كل شيء من المصائب، والجزاء، حتى الشوكة، والهم والحزن؛ لكن المؤمن يثاب على ذلك، ويكفر عنه بإيمانه، كما دل على ذلك الحديث. إذا عرف هذا فكثير من الناس يعرف أن المصائب والابتلاء حصل بسبب الذنوب، ويقصد الخروج منها والتوبة، ولا يوفق، نعوذ بالله من ذلك؛ وذلك لأسباب؛ منها: جهله بالذنوب ومراتبها وحالها عند الله; ومنها: جهله بالطريق التي تخلصه منها، وتنقذه من شؤمها وشرها الجزء: 14 ¦ الصفحة: 62 وتبعتها، ولا سبيل لأحد إلى معرفة ذلك، وما يخلص منه إلا من جهة الرسول صلى الله عليه وسلم ومعرفة ما جاء به من الهدى ودين الحق، إجمالا وتفصيلا. فإنه الواسطة بين العباد وبين ربهم في إبلاغ ما يحبه ويرضاه، ويريده من عباده، ويوجب السعادة والنعيم والفلاح في الدنيا والآخرة، وفي إبلاغ ما يضرهم ويسخط ربهم، ويوجب الشقاوة والعذاب الأليم في الدنيا والآخرة، فكل طريق غير طريقه مسدود على سالكيه، وكل عمل ليس عليه رسمه وتقريره، فهو رد على عامليه. وقد عرفتم - أرشدكم الله تعالى - أن الله بعث محمدا صلى الله عليه وسلم على حين فترة من الرسل، وأهل الأرض قد عمتهم الجهالة، وغلبتهم الضلالة، عربهم وعجمهم، إلا من شاء الله من بقايا أهل الكتاب. فأول دعوته صلى الله عليه وسلم ورسالته، وقاعدة نبوته: رد الخلق إلى الله، وأمرهم بعبادة الله وحده لا شريك له، وخلع ما سواه من الأنداد والآلهة، والبراءة منهم؛ وهذا هو الذي دلت عليه كلمة الإخلاص، وهو أول دعوة الرسل، وأول الواجبات والفرائض. ومكث عليه الصلاة والسلام مدة من الدهر، نحو العشر بعد النبوة، يدعو إلى هذا، ويأمر به، وينهى عن الشرك، وينذر عنه، وفرض الفرائض وبقية الأركان بعد ذلك منجما; لأن هذا هو أهم الأمور، وأوجبها على الخلق، كما الجزء: 14 ¦ الصفحة: 63 في الحديث: ر أس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله 1. وكان من هديه صلى الله عليه وسلم أن يبعث عماله، ويرسل رسائله إلى أهل الأرض، يدعوهم إلى هذا، يبدأ به قبل كل شيء؛ ولا يأمر بشيء من الأركان، إلا بعد التزامه ومعرفته، كما دل عليه حديث معاذ لما أرسله إلى اليمن، وغيره من الأحاديث. وفي أوقاتنا بعد العهد بآثار النبوة، وطال الزمان، وكاد الزمان يشبه زمن الفترة، لغلبة الجهل، وشدة الغربة; وقد من الله تعالى في هذه الأقطار بشيخ الإسلام، رحمه الله تعالى، فقام في تجريد التوحيد، وتمهيد قواعد الملة أتم قيام، حتى ظهر بحمد الله منار التوحيد والإسلام، وآزره علي ذلك من أسلافكم وأعمامكم من آزره، رحمة الله عليهم أجمعين. وبعدهم حصل من الناس ما لا يخفى من الإعراض والإهمال، وعدم الرغبة والتنافس فيما أوجبه الرب من توحيده، وفرضه على سائر عبيده، وقل الداعي إلى ذلك، والمذكر به والمعلم له في القرى والبوادي. والتغافل والتساهل في هذه الأصول العظام، التي هي آكد مباني الإسلام، يوجب للرعية أن يشب صغيرهم، ويهرم كبيرهم على حالة جاهلية، لا يعرف الأصول الإيمانية، والقواعد الإسلامية، والله سائلنا وسائلك عن ذلك كل بحسب قدرته وطوقه.   1 الترمذي: الإيمان 2616 , وأحمد 5/237. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 64 والجهل والظلم غالب على النفوس، ولها وللشيطان حظ عظيم في ذلك، والنفوس الجاهلية المعرضة عن العلم النبوي يسرع إليها الشرك والتنديد، أسرع من السيل إلى منحدره. والواجب مراعاة هذا الأصل، والقيام فيه، وبعث الدعاة إليه، وجعل أموال الله التي بأيديكم آلة له، ووقاية وحماية وإعانة؛ فإن هذا من أفرض الفرائض وألزمها، ولم تشرع الإمارة والإمامة إلا لأجل ذلك والقيام به. وبقاء الإسلام والإيمان في استقامة الولاة، والأئمة على ذلك؛ وزوال الإسلام وانقضاؤه بانحرافهم عن ذلك، وجعل الهمة والأموال والقوة مصروفة في غيره، مقصودا بها سواه، من العلو والرياسات والشهوات. وكذلك وقع في آخر بني العباس ما وقع من الخلل والزلل، واشتدت غربة الإسلام، وظهرت البدع العظام، وأظهر الكفر أعلامه وشعاره، وبنيت المساجد على القبور، وأسرجت عليها السرج، وأرخيت عليها الستور، وهتف أكثر الناس في الشدة بسكان القبور، وذبحوا لها القرابين ونذرت لها النذور. وبنيت الهياكل للنجوم، وخاطبها بالحوائج كل مشرك ظلوم؛ وسرى هذا في الناس حتى فعله من يظن أنه من الأخيار والأكياس، وكثير منهم يظن أن هذا هو الإسلام، الجزء: 14 ¦ الصفحة: 65 وأنه مما جاء به سيد الأنام، عليه أفضل الصلاة والسلام. وهل وقع ذلك وصار، على تطاول الدهور والإعصار، إلا بسبب إهمال الرؤساء والملوك الذين استكبروا في الأرض، ولم يرفعوا رأسا بما جاءت به الأنبياء، وقنعوا بمجرد الاسم والانتساب من غير حقيقة، قال الله تعالى: {وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ} [سورة غافر آية: 47] الآية. فأهم المهمات، وآكد الأصول والواجبات، النظر في هذا، وتفقد الرعية الخاصة والعامة، البادية والحاضرة، لأنك مسؤول عنهم، والسؤال أولا يقع عن الدين قبل الدنيا. وفي الحديث: كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته وفي الصحيح كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي خلفه نبي، وإنه لا نبي بعدي، وسيكون بعدي خلفاء فيكثرون. قالوا: فما تأمرنا به؟ قال: فوا ببيعة الأول فالأول، وأعطوهم حقهم، فإن الله عز وجل سائلهم عما استرعاهم عليه. ففتش عقائدهم، وانظر في توحيدهم وإسلامهم، خصوصا مثل أهل الأحساء والقطيف، فقد اشتهر عنهم ما لا يخفاك، من الغلو في أهل البيت، ومسبة أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم وعدم التزام كثير من أصول الدين وفروعه. وكونهم يسرون ذلك ويخفونه، لا يسقط عنك وجوب الجزء: 14 ¦ الصفحة: 66 الدعوة والتعليم، والنصح لله بظهور دينه، وإلزامهم به، وتعليم صغارهم وكبارهم، فإنك مسؤول عن ذلك، والحمل ثقيل، والحساب شديد. وفي الطبراني: أن عمر بن الخطاب، استعمل بشر بن عاصم على صدقات هوازن، فتخلف بشر، فلقيه عمر، فقال: ما خلفك؟ أما لنا عليك سمع وطاعة؟ قال: بلا. ولكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من ولي شيئا من أمور المسلمين، أتي به يوم القيامة، حتى يوقف على جسر جهنم، فإن كان محسنا نجا، وإن كان مسيئا انخرق به الجسر، فهوى فيه سبعين خريفا، فرجع عمر كئيبا حزينا، جعلك الله من الذين يخشون ربهم، ويخافون سوء الحساب. ومن الدعوة الواجبة، والفريضة اللازمة: جهاد من أبى أن يلتزم التوحيد ويعرفه، من البادية وغيرهم، وأكثر بادية نجد يكفي فيهم المعلم، وأما من يليهم من المشركين، مثل الظّفير وأمثالهم، فيجب جهادهم، ودعوتهم إلى الله. وقد أفلح من كان لله محياه ومماته، وخاف الله في الناس، ولم يخف الناس في الله، وفي الحديث: مثل المجاهد في سبيل الله - والله أعلم بمن يجاهد في سبيله - كمثل الصائم القائم، وتوكل الله للمجاهد في سبيله بأن توفاه أن يدخله الجنة، أو يرجعه سالما مع أجر أو غنيمة 1. وكذلك يجب على ولي الأمر أن يقوم لله على من   1 البخاري: الجهاد والسير 2787. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 67 نسب عنه طعن وقدح، في شيء من دين الله ورسوله، أو تشبيه على المسلمين في عقائدهم ودينهم، مثل من ينهى عن تكفير المشركين، ويجعلهم من خير أمة أخرجت للناس، لأنهم يدعون الإسلام، ويتكلمون بالشهادتين؛ وهذا الجنس ضررهم على الإسلام، خصوصا على العوام، ضرر عظيم يخشى منه الفتنة. وأكثر الناس لا علم له بالحجج التي تنفي شبه المشبهين، وزيغ الزايغين، بل تجده - والعياذ بالله - سلس القياد لكل من قاده أو دعاه، كما قال فيهم أمير المؤمنين، علي بن أبي طالب: لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجؤوا إلى ركن وثيق، أقرب شبها بهم الأنعام السارحة. فإذا تيسر - إن شاء الله - الاهتمام، والقيام بهذا الأصل العظيم، فينظر بعد هذا في أحوال الناس، في الصلوات الخمس المفروضات، فإنها من آكد الفروض والواجبات، وفي الحديث: أول ما تفقدون من دينكم الأمانة وآخر ما تفقدون الصلاة وكل شيء ذهب آخره لم يبق منه شيء. وقد قال تعالى {وَمَا أُمِرُوا إِلاّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [سورة البينة آية: 5] فيلزم جعل نواب، يأمرون بما أمر الله به ورسوله، من إقام الصلاة في المساجد في أوقاتها، ويؤدبون من عرف منه كسل أو ترك أو إهمال، أدبا يردع أمثاله، الجزء: 14 ¦ الصفحة: 68 وعلى أئمة المساجد تعليم ما يشترط لها، وما يجب فيها من الأعمال والأقوال. وبعد هذا يلتفت إلى النظر في الزكاة الشرعية، وواجباتها على الوجه الشرعي، من الأنعام والثمار والنقود والعروض، ويكون مع كل عامل، رجل له معرفة بالحدود الشرعية، والأحكام الزكوية؛ ويحذر من الزيادة عما شرعه الله ورسوله، فلا يؤخذ إلا ما وجبت فيه الزكاة، وتم نصابه، وحال حوله، وكثير من العمال يخرصون جميع الثمار، وإن لم تنصب، وأخذ الزكاة من شيء لم يوجبه الله ورسوله، فيه ظلم بين، وتعد ظاهر، حمانا الله وإياكم منه. وكذلك ما يتبع الزكاة من النائبة، قد أغنى الله عنها، وجعل فيما أحل غنى عما منع وحرم، ومن الواجب على ولي الأمر ترك ذلك لله، وفي بيت المال ما يكفي الضيف ونحوه، إن حصل تسديد من الله ومنّ بتوفيق من عنده. وكذلك ما يؤخذ من المسلمين في ثغر القطيف، من الأعشار لا يليق، ولا يجوز التعشير في أموال المسلمين، ويلزم ولي الأمر - أيده الله - أن يلزم التجار الزكاة الشرعية قهرا، ويدع ما لا يحل; ومن الواجب تمييز الأموال الداخلة على ولي الأمر؛ فإن الله ميزها في كتابه، وقسمها، فلا يحل تعدي ذلك وخلطها، بحيث لا يمكن تمييز الزكاة من الفيء والغنائم، فإن لهذا مصرفا، ولهذا مصرفا. ويجب على ولي الأمر صرف كل شيء في محله، الجزء: 14 ¦ الصفحة: 69 وإعطاء كل ذي حق حقه، أهل الزكاة من الزكاة، وأهل الفيء من الفيء، ويعين ذلك في الأوامر التي تصدر من الإمام لوكيل بيت المال. ويجب تفقد من في بلاد المسلمين من ذوي القربى 1، ويعطون ما فرض الله ورسوله، من الحق في الفيء والغنيمة، فإن هذا من آكد الحقوق وألزمها، لمكانهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ والمراد بهم من عرف التوحيد والتزمه. وأهل الإسلام ما صالوا على من عاداهم إلا بسيف النبوة وسلطانها، خصوصا دولتكم، فإنها ما قامت إلا بهذا الدين، وهذا أمر يعرفه كل عالم. وفي الحديث: إن هذا المال حلوة خضرة، فمن أخذه بحقه بورك له فيه، ورب متخوض في مال الله بغير حق، ليس له يوم القيامة إلا النار 2 عافانا الله وإياكم من النار، وأعمال أهل النار. وكل من أخذ ما لا يستحق، من الولاة والأمراء، والعمال، فهو غال، كما في الصحيحين عن أبي هريرة، قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر الغلول فعظمه، وعظم أمره حتى قال: لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة، على رقبته بعير له رغاء، يقول: يا رسول الله أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئا، قد بلغتك. لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة، على رقبته فرس، لها حمحمة، فيقول: يا رسول الله أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئا، قد بلغتك; لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة، على رقبته شاة لها أعار، فيقول: يا رسول الله أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئا قد بلغتك،   1 يعني: آل بيته صلى الله عليه وسلم. 2 البخاري: الزكاة 1472 , ومسلم: الزكاة 1035 , والترمذي: صفة القيامة والرقائق والورع 2463 , والنسائي: الزكاة 2531 ,2601 ,2602 ,2603 , وأحمد 3/434 , والدارمي: الزكاة 1650 والرقاق 2750. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 70 لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة، على رقبته نفس، لها صياح، فيقول: يا رسول الله أغثني، فأقول لا أملك لك شيئا قد بلغتك. لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة، على رقبته رقاع تخفق، فيقول: يا رسول الله أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئا، قد بلغتك; لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة، وعلى رقبته صامت، فيقول: يا رسول الله أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئا قد بلغتك. وأخبر صلى الله عليه وسلم أن هدايا العمال غلول، فقال: هدايا العمال غلول 1. فينبغي التفطن لهذه الأمور، لئلا يقع فيها وهو لا يدري. وكذلك ينبغي تفقد أمر الناس في الحج، والقيام على من تركه وهو يستطيعه، وهو ركن من أركان الإسلام; ويذكر عن عمر رضي الله عنه أنه قال: هممت أن أضع الجزية على من ترك الحج. وبعض السلف يكفر من تركه; وأمر الرعية بذلك، من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الذي لا يسع تركه. وكذلك القيام على الناس، ومنعهم عن التعدي في الدماء، والأموال، وقطع السبل، وهذا من الفساد في الأرض، والمحاربة لله ورسوله، فإن لم ينتهوا إلا بغزوهم،   1 أحمد 5/424. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 71 لزم الإمام أن يبعث السرايا لحربهم. ولما تعرض الفجاءة السلمي للناس، يأخذ ويقتل، من مسلم وكافر، بعث أبو بكر الصديق جيشا، فظفروا به، فأحرقه بالنار، ويذكر عن حسان أنه قال: وما الدين إلا أن تقام شريعة ... وتأمن سبل بيننا وشعاب وكذلك ما حدث من الدفنان للبادية، إذ أخذوا المسلمين، وقتلوا، لما فيه من ترك حقوق المسلمين، في الدماء والأموال، مع القدرة على استيفائه، والقيام بالعدل الذي أمر الله به ورسوله، كما قال تعالى {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً} : [سورة النساء آية: 58] ، فتأمل هذه الموعظة، وما ختمها الله به من هذين الوصفين العظيمين. وقد قال تعالى {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [سورة النساء آية: 65] ، فالواجب على من نصح نفسه ألا يحكم إلا بحكم الله ورسوله، فإن لم يفعل، وقع في خطر عظيم، من تقديم الآراء والأهواء، على شرعة الله ورسوله، قال العلامة ابن القيم، رحمه الله تعالى: والله ما خوفي الذنوب فإنها ... لعلى طريق العفو والغفران لكنما أخشى انسلاخ القلب من ... تحكيم هذا الوحي والقران ورضىً بآراء الرجال وخرصها ... لا كان ذاك بنعمة الرّحمن الجزء: 14 ¦ الصفحة: 72 ومما يجب على ولي الأمر: تفقد الناس عن الوقوع فيما نهى الله عنه ورسوله من الفواحش ما ظهر منها وما بطن، بإزالة أسبابها، وكذلك بخس الكيل والميزان والربا؛ فيجعل في ذلك من يقوم به، ممن له غيرة لدين الله وأمانة. وكذلك مخالطة الرجال للنساء، وكف النساء عن الخروج، إذا كانت المرأة تجد من يقضي حاجتها، من زوج أو قريب أو غير ذلك. وكذلك تفقد أطراف البلاد في صلاتهم وغير ذلك، مثل أهل النخيل النائية، لأنه ربما يقع فيها من فساد ما يدرى عنه، وأكثر الناس ما يبالي ولو فعل ما نهى عنه، وفي الحديث ما تركت فتنة أضر على الرجال من النساء 1. وفي الحديث أيضا: ما ظهرت الفاحشة في قوم، إلا ابتلوا بالطواعين والأمراض التي لم تكن في أسلافهم 2. نعوذ بالله من عقوبات المعاصي، ونسأله العفو والعافية في الدنيا والآخرة. وكذلك التوسع، في لبس الحرير، وما زاد على المباح، وهو ما نهى الله عنه، ونهى عنه رسوله صلى الله عليه وسلم ونص على تحريمه؛ ولا يجوز تتبع الرخص. ومن الأصول التي تدور عليها الأحكام دائما: الأعمال بالنيات، وحديث: من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد 3.   1 البخاري: النكاح 5096 , ومسلم: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار 2740 ,2741 , والترمذي: الأدب 2780 , وأحمد 5/210. 2 ابن ماجه: الفتن 4019. 3 مسلم: الأقضية 1718 , وابن ماجه: المقدمة 14 , وأحمد 6/270. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 73 وحديث إن الحلال بين، والحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات، لا يعلمها كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات اسبترأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات، وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى، يوشك أن يقع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه 1. فكل أمر ينبغي لذوي العقول: أن يتركوا ما تشابه منه، مما قد يقع فيه خلاف من بعض العلماء، فلا ينبغي أن يرخص لنفسه، في أمر قد ظهرت فيه أدلة التحريم؛ فاجتنابه من تقوى الله تعالى وخوفه، وتركه مخافة الله من الأعمال الصالحة التي تكتب له حسنات. ومما يجب النهي عنه: الإسبال، كما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الصحيح: ما أسفل من الكعبين فهو في النار 2، وفي الحديث: بينما رجل يجر إزاره خيلاء، أمر الله الأرض أن تأخذه، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة 3، وكذلك التشبه باليهود والمجوس، في ترك الشوارب، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم: بإحفائها مخالفة لليهود والمجوس، فقال صلى الله عليه وسلم احفوا الشوارب، واعفوا اللحى، خالفوا اليهود؛ والذي فيه دين ورغبة في الخير ما يرضى لنفسه أن يخالف ما أمر الله به ورسوله، ويقتدي باليهود والمجوس والمتكبرين.   1 البخاري: الإيمان 52 والبيوع 2051 , ومسلم: المساقاة 1599 , والترمذي: البيوع 1205 , والنسائي: البيوع 4453 والأشربة 5710 , وأبو داود: البيوع 3329 , وابن ماجه: الفتن 3984 , وأحمد 4/267 ,4/269 ,4/270 ,4/271 ,4/275 , والدارمي: البيوع 2531. 2 أبو داود: اللباس 4093 , وابن ماجه: اللباس 3573 , وأحمد 3/6 ,3/97. 3 البخاري: اللباس 5789 , ومسلم: اللباس والزينة 2088 , وأحمد 2/267 ,2/390 ,2/413 ,2/456 ,2/467 ,2/493. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 74 وكلماّ ما أمر الله به ورسوله، فينبغي للعبد أن يمتثل ويسمع ويطيع، لما في ذلك من المنافع الكثيرة، وما في خلافه من الإثم، قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً} [سورة الأحزاب آية: 36] . فعلى الإمام أن يأمر النواب، من رأوه تاركا للأمر أن يقوموا عليه، ويلزموه بالطاعة، حتى تظهر طاعة الله ورسوله في المسلمين؛ ويمتازون بذلك عمن خالفهم في الدين، من أهل الجفا والغلظة، والغفلة والإعراض - نسأل الله العفو والعافية - فإنها قد عمت البلوى بهذا بكثير، لما قام بقلوبهم من ضعف الإيمان، وعدم الرغبة فيه. وكذلك يجب على الإمام النظر في أمر العلم، وترغيب الناس في طلبه، وإعانة من تصدى للطلب، لقلة العلم وكثرة الجهل، وإن كان قد قام ببعض الواجب، فينبغي له أن يهتم بهذا، لفضيلة العلم، وكثرة ثواب من قام به وأعان عليه. فإن أكثر من يطلب العلم فقراء، ويحتاجون إلى الإعانة على فقرهم، لما يكون لهم فيه سعة، وطلب العلم اليوم من أفرض الفرائض، كما لا يخفى الإمام وغيره، وفي الحديث: الدنيا ملعونة ملعون ما فيها، إلا ذكر الله وما والاه، وعالما ومتعلما وهذا ما يحصل إلا باعتناء الإمام، وتأليفه للطالب. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 75 فإذا كثر العلم، وقل الجهل، حصل بسببه من الخير والحسنات ما لا يحصيه إلا الله، إن قبله. وبالغفلة عن طلب العلم، تضعف هممهم، ويقل طلبهم؛ وفي مناقب عمر بن عبد العزيز، رحمه الله تعالى أنه إذا أراد أن يحيي سنة، أخرج من العطاء مالا كثيرا، فإذا نفروا من هذا رغبوا إلى هذا، فلله دره! وما أحسن نظره لنفسه، ولمن ولاه الله عليهم؟! وهذا الذي ذكرنا من الأمور البينة التي ينبغي التنبيه عليها بخصوصها. وأما الأمور التي بين الله وبين العبد، التي فيها صلاح القلوب، ومغفرة الذنوب، من إتعاب النفس فيما يحبه الله ويرضاه، مما يقع له وعليه، فهذا باب واسع، ولا يدرك هذا إلا من جعل الله له رغبة في كتابه، ومعرفة صفة أهل الإيمان والتقوى، الذين أعد الله لهم الجنة، ويجاهد نفسه على ذلك فعلا وتركا. وعلى كل من نصح نفسه أن يحذر من كبائر الذنوب، التي هي من أعظم الذنوب، ولا يأمن مكر الله، وليكن لنفسه أشد مقتا منه لغيره، وليكن معظما للأمر والنهي، مفكرا فيما يحبه الله ويرضاه، متدبرا لكتابه، محبة لربه ورغبة في ثوابه، وخوفا من غضبه وعقابه. ومن الواجب على كل أحد أن يحب في الله، ويبغض في الله، ويعادي في الله، ويوالي في الله، ويحب أولياء الله وأهل طاعته، ويعادي أعداءه وأهل معصيته، وما توفيقي إلا الجزء: 14 ¦ الصفحة: 76 بالله، عليه توكلت وإليه أنيب، وصلى الله على محمد، وآله وصحبه وسلم. [رسالة الشيخ عبد الرحمن بن حسن إلى الإمام فيصل بن تركي في التذكير بنعمة الإسلام والحث على القيام به] وله أيضا، قدس الله روحه، ونور ضريحه: بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين، وعليه نتوكل، ونعتمد. من عبد الرحمن بن حسن، إلى إمام المسلمين، وخليفة سيد المرسلين، في إقامة العدل والدين، وهو سبيل المؤمنين، والخلفاء الراشدين، فيصل بن تركي، جعله الله في عدادهم، متبعا لسيرهم وآثارهم، آمين. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد، اعلم أن الله أنعم علينا وعليكم، وعلى كافة أهل نجد، بدين الإسلام، الذي رضيه لعباده دينا، وعرفنا ذلك بأدلته وبراهينه، دون الكثير من هذه الأمة، الذين خفى عليهم ما خلقوا له، من توحيد ربهم، الذي بعث به رسله، وأنزل به كتبه. ولا صلاح للعباد في معاشهم ومعادهم، إلا بمعرفة هذا الدين، وقبوله، والعمل به، ومحبته، واستفراغ الوسع في ذلك، علما وعملا، والدعوة إليه، والرغبة فيه، وأن يكون أكبر همِّ الإنسان ومبلغ علمه، ليحصل له النعيم المقيم الأبدي، والسرور السرمدي. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 77 وقد وقع أكثر من أنعم الله عليهم بهذه النعمة، في التفريط في شكرها، بالغفلة عنها، والتهاون بها، وعدم الرغبة فيها، والاشتغال بما يشغل عنها، من الرغبة في الدينا، والإقبال عليها، والتحدث بها، والعمل بموجبها، ما لا يخفى على ذوي البصائر. وقد ذم الله تعالى في كتابه أهل الغفلة والإعراض - أعاذنا الله وإياكم من اتباع سبيلهم - قال تعالى {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} : [سورة الأعراف آية: 179] . فعلينا وعليكم: أن نقوم على من قدرنا على القيام عليه، ببذل الجهد والاجتهاد بالنصيحة لجمع المسلمين بتذكيرهم ما أنعم الله به عليهم من الدين، وتعليمهم ما يجب عليهم تعليمه، مما فيه صلاحهم وفلاحهم ونجاحهم، وسعادتهم ونجاتهم من شرور الدنيا والآخرة. وقد قال تعالى {أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ} : [سورة التوبة آية: 126] فإذا كان هذا في أناس في عهد النبوة، والقرآن ينْزل، فمن بعدهم أحرى بأن يكونوا كذلك. فيجب على من أقدره الله من المسلمين أن يقوم الجزء: 14 ¦ الصفحة: 78 بنصيحة العباد بهذا الدين علما وعملا، ودعوة إليه، وتعلما وتعليما، ولا يخفى أن العامة تتبع الخاصة، فيما أحبوه وقالوه وعملوا به. وقد حذر الله عباده من عقوبات الدنيا والآخرة، وعن الإعراض عما خلقوا له، كما قال تعالى {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} : [سورة الذاريات آية: 50] وقال تعالى {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ} [سورة غافر آية: 18] . وقال في حق نبيه صلى الله عليه وسلم {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [سورة النور آية: 63] وعلينا: أن نحذر ونحذر عما حذرنا الله تعالى عنه، من التفريط في طاعة الله وطاعة رسوله، والقيام بدينه كما ينبغي. وبسبب الغفلة عن هذا الأمور الواجبة، وقع كثير من الناس في أشياء مما لا يحبه الله ولا يرضاه، كما لا يخفى على من نظر بنور الله; وقد قال تعالى {: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [سورة الروم آية: 41] والفساد: المعاصي، وآثارها في الأرض. لكن كما قيل: إذا كثر الإمساس، قل الإحساس، نعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، وموجبه الغفلة عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإنه لا صلاح للعباد في دينهم ودنياهم إلا بالقيام بحقه. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 79 واليوم ما في البلدان من يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، إلا على ضعف، وفي تركه الوعيد الشديد، وفعله علامة الإيمان، وهو من فروض الكفايات، إذا قام بها البعض سقط الوجوب عن الباقين، وإذا لم يحصل القيام بذلك أثموا كلهم. قال تعالى {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [سورة آل عمران آية: 104] . وقال بعض العلماء: فروض الكفاية أشد على الناس من فروض العين، لأن فرض العين تخص عقوبته تاركه، وفرض الكفاية تعم عقوبتة كل من كان له قدرة. فأوصيكم معشر الإخوان - من الخاصة والعامة - أن ترغبوا فيما رغبكم الله فيه، وأن تهتموا به كاهتمامكم لدنياكم، لتسعدوا وتسلموا وتغنموا؛ والشأن كل الشأن في الاهتمام بما يرضي الله عنكم، ويدفع الله به عنكم، عقوبات الدنيا والآخرة. وعلى الإمام - وفقه الله - أن يبعث للدين عمالا، كما يبعث للزكاة عمالا، ليعلموهم دينهم، ويأمروهم وينهوهم؛ وهذا مما يجب على الإمام، أعانه الله على ذلك، ووفقه للقيام بوظائف الدين، نصيحة لله، ولكتابه، ولرسوله، وللمسلمين، سنة الخلفاء الراشدين. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 80 وأوصيكم بالتوبة إلى الله، عما فرطتم فيه من العمل بدينه، وتعلمه وتعليمه، وتكميله؛ فإن الله تعالى أكمله لكم، وهو أعظم نعمة أنعم بها عليكم، فالله الله في الأخذ بأسباب الفلاح والنجاة! وعلى كل منكم أن يحاسب نفسه لربه، قبل القدوم عليه، والرجوع إليه؛ ولا ينفع قول إلا بعمل، ولا عمل إلا بنية وعلم. فاشكروا الله تعالى على ما أعطاكم، ومنَّ به عليكم من دين الإسلام، وما حصل به من النعم التي لا تحصى، وقد خطب نبيكم صلى الله عليه وسلم أصحابه، وأنذرهم وحذرهم، فقال: إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد. فاحذروا واحذروا فإن الأمر عظيم، قال الله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ} [سورة سبأ آية: 46] . قال بعض العلماء، في قوله: أَنْ تَقُومُوا فيه وجوب القيام لله فيما شرعه وأمر به، وقوله: لِلَّهِ فيه التنبيه على إخلاص العبد في قيامه لربه وطاعته، فجمعت هذه الآية العمل بالتوحيد وحقوقه ولوازمه، والقيام بذلك جدا واجتهادا. ويشبه هذه الآية، قوله تعالى {وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ} [سورة إبراهيم آية: 42] إلى قوله {وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 81 دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ} : [سورة إبراهيم آية: 44] . فجمع تعالى الدين كله في هاتين الكلمتين: نُجِبْ دَعْوَتَكَ فيه التوحيد، لأنه الذي دعا إليه ودعت إليه رسله; وفي قوله: وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ العمل بكتابه واتباع رسوله صلى الله عليه وسلم لأن من اتبع كتابه ورسوله فقد اتبع الرسل جميعهم. فمن عمل بهاتين الكلمتين، فيما كان طاعة لله ولرسوله، فقد فاز ونجا، وحصل ما تمناه المفرطون يوم القيامه; فالله الله في الاهتمام بهذا الشأن، والقيام به حسب الإمكان! وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب. ومما يدفع الله به العقوبات، ويزيد به الحسنات: الصدقة على الفقراء والمساكين، كما قال تعالى {وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ} : [سورة الحديد آية: 7] . وقال تعالى {وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [سورة المزمل آية: 20] وقد ورد: باكروا بالصدقة فإن البلاء لا يتخطاها والحسنة بعشر أمثالها، إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة 1 وفي الحديث اتقوا النار ولو بشق تمرة 2. والآيات والأحاديث في فضل الصدقة كثيرة، وهي من الباقيات الصالحات، وقد قال تعالى {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ   1 مسلم: الصيام 1151 , والنسائي: الصيام 2215 , وابن ماجه: الصيام 1638 , وأحمد 2/414 ,2/443 , والدارمي: الصوم 1770. 2 البخاري: الزكاة 1417 , ومسلم: الزكاة 1016 , والنسائي: الزكاة 2552. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 82 خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً} : [سورة الكهف آية: 46] . صلى الله عليه وسلمنسأل الله لنا ولكم العفو والعافية، والعون على مرضاته، فإنه ولي ذلك والقادر عليه، ولا ملجأ منه إلا إليه، بالتوبة النصوح، والإيمان والعمل الصالح، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله على محمد. [إشارة الإمام فيصل بن تركي إلى نصيحة الشيخ عبد الرحمن بن حسن في التذكير بنعمة الإسلام والقيام به] قال الإمام فيصل بن تركي، رحمه الله: بسم الله الرحمن الرحيم من فيصل بن تركي، إلى من وصلت إليه هذه النصيحة وسمعها، أن يعمك بما ذكر فيها، ولا لأحد عذر إلا من منع أو ردع، فلا يعذر حتى يبلغنا، فإذا بلغنا من منعه فهو معذور. والموجب: أن حوائج الناس ما تقف عنا; القوي يوصل حاجة الضعيف، ويعين عليه، بذكر حاله، ولا بأس في هذا، ويثاب عليه، وليكن الذي لله أعظم وألزم. فأنتم توكلوا على الله، وافعلوا ما أمركم به، وأتمروا به، وتناهوا، وليكن ذلك على علم وحلم، فإن جبنتم، فالله حسيب عليكم، وهو حسبنا ونعم الوكيل، وصلى الله على محمد. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 83 صلى الله عليه وسلم [رسالة الشيخ عبد الرحمن بن حسن إلى الإمام فيصل بن تركي يظهر فيها محبته له والشفقة عليه ومذكرا له ما كان عليه أسلافه] وله أيضا، أسكنه الله الفردوس الأعلى: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، اللهم اجعلنا هادين مهتدين، غير ضالين ولا مضلين، سلما لأوليائك، حربا لأعدائك، نحب بحبك من أحبك، ونعادي بعداوتك من خالف أمرك، اللهم هذا الدعاء وعليك الإجابة، اللهم هذا الجهد وعليك التكلان. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليما. من محبكم الداعي لكم بظهر الغيب، عبد الرحمن بن حسن، إلى الابن الإمام فيصل بن تركي، ألزمه الله كلمة التقوى، ووفقه للقيام بما هو أقوم وأقوى، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: موجب الخط أبين لك ما أنت خابر 1، من أمر دعوة الإسلام، التي منَّ الله بها في آخر هذا الزمان، بموجب النصيحة للإمام، المشوبة بالمحبة والشفقة والخوف، وكنت - والله يعلم صدقي بما قلته أني - أحبك، وأقدمك في المحبة على من مضى، من حمولتك وحمولتي. واليوم الذي أجتمع بك فيه عندي يوم سرور، ولا عندي لك مكافاة إلا بالدعاء والنصح باطنا، وأكثر من   1 أي: تعلم. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 84 يجتمع بالإمام ما يجي أمر النصيحة له على بال، وبعضهم ما يحسن النصيحة، ولا يعرف وجهها، وبعضهم غرضه دنياه، وهمته موقوفة عليها، وقد قال الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم، {وَالْعَصْرِ إِنَّ الأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلاّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [سورة العصر آية: 1-3] . ولا يسلم من الخسران إلا أهل العلم ومعرفته، وقبول الحق ومحبته والانقياد في طاعته، والعمل الصالح، والتواصي بالحق والصبر على ذلك، ومن نقص في ذلك ناله من الخسارة بحسب ذلك. ولا يخفاك أن الله من عليكم بدين الإسلام في آخر هذا الزمان، برجل واحد خالف فيه الأدنى والأقصى، والقريب والبعيد، لأنه قام في حال غربته، لما اشتدت غربة الإسلام في جميع الأماكن، والناس كلهم إلا من شاء الله، لا يعرفون معنى لا إله إلا الله. واشتد نكير الناس عليه، العامة والمطاوعة، وحذروا الملوك منه، وشنعوا عليه في التوحيد الذي بعث به رسله، وأنزل به كتبه، وخلق الجن والإنس له، وصار أقرب قريب له: ابن معمر أمير بلاده، لما عرف عداوة الناس له، أرخص له عن البلد. وصار رحمة ونعمة عظيمة لكم يا حمولة 1، وتلقاها جدك رحمه الله وأهلك وخواص; وأعانهم الله على عداوة أهل الأرض في هذا الدين، ولا عندهم أموال يبذلونها، لكن   1 أي: يا معشر الأسرة، حيث يمدح شيخ الإسلام ومن ناصره من الأئمة. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 85 بذلوا نحورهم وأنفسهم، وأرخصوها لله في طلب رضاه، والفوز بالجنة، والنجاة من النار. ولا مقصدهم إلا أن الناس يتركونهم يوحدون الله، ولا يعارضونهم عند التوحيد، ولا حصل من الشيوخ بنجد وأتباعهم، وضدهم في غاية القوة، وهم في غاية الضعف والقلة. فأيدهم الله بدينه، وكل عدو يقصدهم يكسره الله، وما زالوا كذلك حتى ملكهم الله جزيرة العرب بهذا الدين، وهم في تلك السنين معافيهم الله في أبدانهم، حتى إن الأمراض العامة لا تعرف فيهم. ولهم سيرة، أذكرها لك من غير مجازفة دائما في كل وقت، يبعثون الدعاة إلى الله، إلى كل بلدة، يجددون لهم دينهم، ويسألونهم عن ثلاثة الأصول، والقواعد، وغير ذلك من كتب الأصول، أعرف منهم نحو العشرة. منهم: عبد الله بن فاضل، وعبد الرحمن بن ذهلان، وراشد بن درعان، وعثمان بن عبد الله بن عبيكان، وحمد بن قاسم، وأحمد الوهيبي، وسليمان بن ماجد، ومحمد بن سلطان وأولاده، وحسن بن عيدان، ومحمد بن سويلم، وعبد العزيز ابن سويلم، وعثمان العود، وعبد الرحمن بن نامي، وعبد الرحمن بن خريف، وأمثال هؤلاء من لهم فقه في التوحيد، ورغبة فيه. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 86 وكل واحد من هؤلاء يروح لجهة، ومعه اثنان أو ثلاثة، ويجلس في البلد قدر شهرين، يسألهم ويعلمهم، والذي ما يعرف دينه يؤدب الأدب البليغ ما يعارض، فإذا أراد السفر استحلق أهل الدين من أهل البلد، وقال: سلموا على الكبار، ويعرف الشيخ، وعبد العزيز، وإخوانهم بأحوالهم. ويقدمونهم في بلدهم، بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبهذا صار للدين سلطان وعز، وهذا ما يفعلونه دائما مع الرعايا، وصار الذي له دين يقوم بالدين ويأمر وينهي، والذي ما له دين يتزين عند أهل الدين. وأما حالهم في بلدهم الدرعية، فبنوا مجمعا - حول مسجد البجيري - محله معروف إلى اليوم، يسع له قدر مائتي رجل، وجعلوا فيه رفا للنساء، فإذا صلوا الصبح أقبلوا لهذا المجمع، وفيه "معاميل"1 وقهوة وما نابها، مقيوم به من بيت المال. تارة يجلس فيه حسين بن الشيخ، وتارة عبد الله، وتارة علي، ويقرؤون في نسخ التوحيد، فإذ فرغ هذا الدرس، راحوا هم وغيرهم، وجلسوا عند بيت الشيخ، حتى يجيء عمك وجدك، وسعود وعياله، وآل عبد الله، ويدخلون عند الشيخ رحمهم الله. فإذا تقهووا، وذكر عمك، رحمه الله للشيخ ما عنده من خبر، أو أمر يحتاج له الشيخ ذكره له، وأخذ ما عنده من رأي ومن علم، وأرخصوا للجماعة، وقرأ ثلاثة:   1 أي: أواني شرب القهوة والشاي. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 87 عبد العزيز بن الشيخ يقرأ في تفسير ابن كثير، وعلي وعبد الله يقرآن في البخاري، وكل من عنده دراية وفهم، إذا فاضوا في الباطن صاروا حلقا، يتذاكرون درس الشيخ رحمه الله. والأجنبي الذي يبغي يركب لديرته، يصغي للمذاكرة، عارف أن أهل ديرته يسألون: إيش درس الشيخ فيه؟ وقد ذكرت لك قصة إبراهيم بن زيد، في تلك المدة، وموسى بن حجيلان، يمشي على المساجد يسألهم عن ثلاثة الأصول والقواعد. ونحن يا حمولة، لنا مجلس بين العشاءين في الباطن، يجتمعون فيه أهل البلاد، ونسأل اثنين، والذي ما يعرف دينه يضرب، فأول يجلس فيه حسين، ثم علي بن الشيخ، وجلست فيه مدة نحو سنتين أو ثلاث على هذا الترتيب، ثم حمد بن حسين، هذا بعض ما حضرناه من سيرتهم. فلما توفى الله عمك، حصل غفلة عن هذا الترتيب، لما فتح الله الدنيا، وكثرها على الناس، ووقع الإعراض عن كثير مما ذكرنا، لا كله، بل باق له بقايا، وحدث ما حدث من البلاوي بالعدو، وذا شيء أنت خابره، ورد الله لكم الكرة، أنت ووالدك رحمه الله، وعادت البلوى الأولى، وعافاك الله منها ومكنك غاية التمكين، وتسببت في حفظ أموال الناس، ورفع أيدي البوادي، وهذا عمل صالح، ومن الواجبات. ولكنك أصبحت اليوم في جيل غفلوا عن دينهم، إلا الجزء: 14 ¦ الصفحة: 88 من شاء الله، وهم الأقلون، وأقبل الناس على دنياهم، لها يوالون، وعليها يعادون; فهم وإن صلوا وصاموا، فقد أعرضوا عن التوحيد، تعلما وتعليما، وصار أكثرهم خصوصا أهل المناصب والولايات وأتباعهم، وأكثر الناس ليس له إخلاص ولا متابعة، كل يحوم إلى ما يراه ويشتهيه. وأنت اليوم جعل الله لك القدرة على تجديد هذا الدين، تولي له وتعزل له، وتغضب له، وترضى له، وتبعث الدعاة والسعاة لكل بلد، وتقدم لله وتؤخر لله وتبعد لله، لا يدخل عليك في هذا هوى أحد يخل بالإخلاص، والمتابعة. وتفهم حديث عائشة رضي الله عنها: من التمس رضى الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس، ومن التمس رضى الناس بسخط الله، سخط الله عليه وأسخط عليه الناس 1. وقد قال تعالى {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} [سورة الجاثية آية: 18-19] ونظائرها في "المائدة" و"الكهف" و"طه" و"النجم"وغيرها من القرآن. جدد هذا الدين الذي اخلولق، لما أقدرك الله على ذلك، والتمس من أهل الخير عددا يدعون إلى هذا الدين، ويذكرونه الناس، ويعلمونه الجاهل والغافل; وبالله التوفيق،   1 الترمذي: الزهد 2414. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 89 ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله على سيد المرسلين وإمام المتقين، محمد وعلى آله وصحبه، وسلم تسليما كثيرا، وأنت سالم والسلام. [رسالة الشيخ عبد الرحمن بن حسن إلى الإمام فيصل بن تركي في فتنة خالد والعسكر، والحث على تقريب من يحبهم] وله أيضا، رحمه الله: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الرحمن بن حسن، إلى الأخ المحب المكرم: فيصل بن تركي، ألهمه الله رشده، ووقاه شر نفسه، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد تعلم: أن نصيحتي لك نصيحة لله ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم; لأن بصلاحك يقوم الدين، ويصلح أكثر الناس، وفي الحديث: الدين النصيحة قالها ثلاثا; قلنا لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم 1، وقد جعل الله لأهل الإيمان نورا يمشون به في الناس. وهذه البلوى التي ابتلى الله بها أهل نجد، من فتنة خالد والعسكر 2 وقبله إبراهيم باشا; ميز الله بها أهل نجد، طيبهم وخبيثهم، وتفاوتت مراتبهم في الشر، والزيغ والفساد، وكثرت السفاهة والقسوة; ولا تخفى حالهم إلا على من لا بصيرة له، كما قال تعالى {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ   1 مسلم: الإيمان 55 , والنسائي: البيعة 4197 ,4198 , وأبو داود: الأدب 4944 , وأحمد 4/102. 2 أي: خالد بن سعود, وعسكر الترك. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 90 الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [سورة آل عمران آية: 179] . وقال تعالى {لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [سورة الأنفال آية: 37] . وقال تعالى {الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ إلى قوله: وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ} [سورة العنكبوت آية: 1 - 11] ، وهذا أمر مشاهد لمن جعل الله في قلبه نورا. وقد وسم الله المنافقين بأقوالهم وأعمالهم، وجعل الله أهل الإيمان شهداء على الناس، قال تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} [سورة التوبة آية: 105] . فيجب على من ولاه الله أمر الدين والدنيا أن لا يتهم من أقامهم الله شهداء على الناس، وهو يعلم منهم محبة الإسلام ومحبة أهله، وبغض الباطل وأهله; فكيف لا تقبل شهادة من أقامهم الرب شهداء في أرضه على أعمال خلقه، وقد قال في المؤمنين والمهاجرين {أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [سورة الأنفال آية: 72] . وقال: و {الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلاّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} [سورة الأنفال آية: 73] . ومن الفساد الكبير: - على ما ذكر العلماء - ضعف الإيمان، وقوة الباطل; وقد حذر الله نبيه صلى الله عليه وسلم من طاعة الكافرين والمنافقين، فقال تعالى {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا الجزء: 14 ¦ الصفحة: 91 تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً} [سورة الأحزاب آية: 1] . صلى الله عليه وسلمعليما بما يصلح عباده، حكيما في أقواله وأفعاله وشرعه وقدره. ولما كان التحذير: من أولئك، من أهم مقامات الدين، قال الله تعالى {لنبيه وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [سورة المائدة آية: 49] . وقال {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} [سورة الكهف آية: 28] . وقال: {فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى} [سورة طه آية: 16] . وفي الأثر: تحببوا إلى الله ببغض أهل المعاصي، وتقربوا إلى الله بالبعد عنهم، واطلبوا رضا الله بسخطهم وقال تعالى {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [سورة القلم آية: 35-36] ، {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [سورة الجاثية آية: 21] . فالمساواة بين أهل الأهواء والزيغ والمعاصي، وجعلهم في رتبة أهل الإيمان، أو فوقهم، خلاف ما أحبه الله، وأمر به عباده; وهو في نفسه فساد، وذلك سبب سخط الله، وحلول عذابه. فعليك بقرب من إذا قربتهم قربك الله وأحبك، وإذا نصرتهم نصرك الله وأيدك; واحذر أهل الباطل الذين إذا الجزء: 14 ¦ الصفحة: 92 قربتهم أبعدك الله، وأوجب لك سخطه، قال تعالى {قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً} [سورة الأحزاب آية: 17] . وفي الحديث: من التمس رضى الله بسخط الناس، كفاه الله مؤونة الناس، ومن التمس رضى الناس بسخط الله، لم يغنوا عنه من الله شيئا 1. وقد رأينا عجبا أن من التفت إلى أحد دون الله، خذله الله به، وسلطه عليه; قال العلماء رحمهم الله: قضى الله قضاء لا يرد، ولا يدفع: إن من أحب شيئا دون الله عذب به، ومن خاف شيئا دون الله سلط عليه. وأنت تجد وترى كثيرا من الناس، قدمهم ولاة الأمر في شيء من أمورهم، فتعززوا على الناس، وتجاسروا على الأهواء، ومخالفة الشرع في أقوالهم وأعمالهم فخافهم أهل الدين، فمنهم من ذل لهم واعتذر بعدم القدرة، ومنهم من استصلح دنياه خوفا من كيدهم. وأنت تجد هؤلاء إذا ظهرت حالهم كابروا العقول بزخرف من القول والكذب، واستعانوا على إفكهم بأمثالهم محافظة على العلو والفساد. فلو وفق الإمام بالاهتمام بالدين، واختار من كل جنس أتقاهم وأحبهم، وأقربهم إلى الخير، لقام بهم الدين والعدل، فإذا أشكل عليه كلام الناس، رجع إلى قوله صلى الله عليه وسلم: دع ما يريبك إلى ما لا يريبك 2   1 الترمذي: الزهد 2414 2 الترمذي: صفة القيامة الرقائق والورع 2518 , والنسائي: الأشربة 5711 , والدارمي: البيوع 2532. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 93 فإذا ارتاب من رجل، هل كان يحب ما يحبه الله؟ نظر في أولئك القوم، وسأل أهل الدين: من تعلمونه أمثل القبيلة أو الجماعة في الدين، وأولاهم بولاية الدين والدنيا؟ فإذا أرشدوه إلى من كان يصلح ذلك، قدمه فيهم. ويتعين عليه أن يسأل عنهم من لا يخفاه أحوالهم، من أهل المحلة وغيرها، فلو حصل ذلك لثبت الدين، وبثباته يثبت الملك; وباستعمال أهل النفاق والخيانة والظلم، يزول الملك، ويضعف الدين، ويسود القبيلة شرارها، ويصير على ولاة الأمر، كفعل من فعل ذلك. فالسعيد من وعظ بغيره، وبما جرى له وعليه; وأهل الدين هم أوتاد البلاد ورواسيها، فإذا قلعت وكسر، مادت وتقلبت، كما قال العلامة ابن القيم رحمه الله: ولكن رواسيها وأوتادها هُمُ فأنت إذا فعلت ما قلت لك، قام بك الدين والعدل، وصارت سنة حسنة في هذا الزمان، ونلت أجر من أقام السنة، كما في الحديث: من سن سنة حسنة، كان له أجرها وأجر " من عمل بها إلى يوم القيامة، من غير أن ينقص من أجرهم شيء" 1، فإن انعكس الأمر كما هو الواقع، كانت سنة سيئة " عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة، من غير أن ينقص من أوزارهم شيء " 2. ومن المعلوم أن النفس تميل إلى الراحة، وطلب رضى الخلق، وفي النظر فيما يرضي الله، مخالفة للخلق أو   1 مسلم: الزكاة 1017 , والترمذي: العلم 2675 , وأحمد 4/360 , والدارمي: المقدمة 512. 2 مسلم: الزكاة 1017 , والترمذي: العلم 2675 , والنسائي: الزكاة 2554 , وأحمد 4/357 ,4/358 ,4/360 , والدارمي: المقدمة 514. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 94 بعضهم، ولكن طريق الجنة حزن بربوة، واقرأ قوله تعالى: {فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [سورة آل عمران آية: 175] ، وقوله: {وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ} [سورة البقرة آية: 44] . وقوله: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [سورة هود آية: 123] . وقوله: {إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُو} ا [سورة سبأ آية: 46] . فإذا عرف أن العبد لا يأتيه ما يكره، إلا من شرور نفسه، وسيئات أعماله، وأن نواصي الخلق في قبضة الرب تبارك وتعالى، وأن قلوبهم بين إصبعين من أصابعه، أفادك القيام بدينه، والأخذ في أسباب ذلك، والحب فيه والبغض فيه، والتقرب له والإبعاد لأجله، وجعلت أفعالك تطابق أمره الشرعي الديني، وتتحرى مرضاته في كل قول وفعل، وتقديم أو تأخير، أو غير ذلك. فلو صلح تدبير الإمام فيما ولاه الله من الحاضرة، أصلح الله البوادي وغيرهم، فإن الأعمال حجة لك أو عليك; وأنت سالم والسلام، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 95 [رسالة الشيخ عبد الرحمن بن حسن إلى الإمام فيصل بن تركي يحثه فيها على العلم ويذكره بأهل العلم وحالة الناس] وله أيضا قدس الله روحه ونور ضريحه: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الرحمن بن حسن، إلى الأخ المكرم: فيصل بن تركي، سلمه الله تعالى، آمين، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: لا يخفاك أن حقك علي كبير، وأكبر منه حق الله تعالى علي وعليك، ويجب علي النصح لك وللمسلمين باطنا وظاهرا، وأنت بارك الله فيك أحسنت أحسن الله إليك، ولا لك مكافأة إلا بالدعاء والنصح باطنا وظاهرا. وأنت اليوم حاجتك إلى العلم ضرورة في خاصة نفسك، وفيما ابتليت به، من أمور الخلق، والعلم بالنظر إلى أحوال الناس، ما بقي معهم إلا رسمه، كما قال عبد العزيز ابن الماجشون - وهو من أكابر علماء القرن الثاني -: قد والله عز المسلمون، الذين يعرفون المعروف وبمعرفتهم يعرف، وينكرون المنكر وبإنكارهم ينكر. فإذا كان هذا حال القرن الثاني، فما ظنك بأهل هذه القرون، الذين عاد المعروف فيهم منكرا، والمنكر معروفا، نشأ على هذا الصغير، وهرم عليه الكبير، والبدع فشت فيمن يدعى العلم، حتى اعتقدوا في ربهم وخالقهم، ما يتقدس عنه ويتعالى، سبحان الله عما يصفون. وهذا في حق من عرفه، إذا كان حازما ناصحا لنفسه، الجزء: 14 ¦ الصفحة: 96 استيقظ في طلب ما ينجيه ويسعده، في دنياه وأخراه، من العلم النافع، والعمل الصالح، ويكون مبنى أقواله وأفعاله، على الإخلاص والمتابعة، على علم ومعرفة ويقين. فمبنى العبادة على محبة المعبود غاية المحبة، في غاية الذل والخضوع، كما قال ابن القيم رحمه الله: وعبادة الرحمن غاية حبه ... مع ذل عابده هما قطبان وعليهما فلك العبادة دائر ... ما دار حتى قامت القطبان ومداره بالأمر أمر رسوله ... لا بالهوى والنفس والشيطان فالمحب لله قلبه يخشع، وعينه تدمع; يحاسب نفسه بالإخلاص، والمتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم بفعل ما أمر به وترك ما نهى عنه، وهذا هو دليل المحبة، كما قال تعالى {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [سورة آل عمران آية: 31] . وهذا هو الصراط المستقيم، لا يعرفه السالك ولا يهتدى إليه، إلا بالكتاب والسنة، علما وعملا، ومحبة وطلبا، كما في حديث عبد الله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به ". وهذا لا يدرك إلا بالعلم النافع; والعلم النافع لا يدرك إلا بالدخول من باب التواضع، والاعتراف بالجهل والتفريط. وقد كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه يستعين على ما حمل من أمور الناس، بقرب أهل العلم الجزء: 14 ¦ الصفحة: 97 ، وتقريبهم إليه، وكان يقرب ابن عباس على صغر سنه، لعلمه بالتأويل، وقد كان وقافا عند كتاب الله تعالى. ومن سعادة العبد أن يتخذ له إخوان صدق، ممن له علم ودين، يذكرونه إذا نسي، ويعينونه إذا ذكر، كما قال بعض السلف: عليك بإخوان الصدق، تعش في أكنافهم - يعني بالعلم النافع والعمل الصالح - فإنهم زينة في الرخاء، عدة في البلاء، يأنس بهم أصحابهم في هذه الدار، وفي القبور، ويوم البعث والنشور. وهم الحجة بين يدي الله تعالى، حال العرض على الله، وهم الذين قرن الله توليهم، بتوليه وتولي رسوله، كما قال تعالى {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [سورة المائدة آية: 55-56] . وهذه أمور متلازمة، لا يكون الله تعالى وليا لعبد، حتى يكون الرسول له وليا، ويكون المؤمنون هم أولياءه، دون كل من عداهم. وقد وصى الله تعالى نبيه بالصبر معهم، فقال {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} [سورة الكهف آية: 28] . الجزء: 14 ¦ الصفحة: 98 ولهذا كان الحب في الله والبغض في الله أوثق عرى الإيمان، لما في الحديث الصحيح: أوثق عرى الإيمان، الحب في الله، والبغض في الله 1. وفي الحديث الآخر: من أحب في الله وأبغض في الله، ووالى في الله وعادى في الله، فإنما تنال ولاية الله بذلك، ولن يجد عبد طعم الإيمان، وإن كثرت صلاته وصومه، حتى يكون كذلك. وهم الذين وصى الله نبيه صلى الله عليه وسلم بأن يقول لهم إذا جاؤوه: {سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [سورة الأنعام آية: 54] . بشرهم عن ربهم بالمغفرة من ذنوبهم، إذا تابوا إليه وأنابوا، ووصاه بهم في قوله: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [سورة آل عمران آية: 159] وبه تتم مصالح الدنيا والدين; وقال: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [سورة الشعراء آية: 215] . وفي العلم: بما وصى الله به نبيه من ذلك صلاح أمر الدنيا والآخرة; فارغب وفقك الله فيما رغب الله به نبيه صلى الله عليه وسلم فيه. وأنت اليوم تستعين بكل صانع في صنعته التي يحسن، وتدور الطيب من السلع، والطيب من العلم والإيمان،   1 أبو داود: السنة 4599. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 99 والدين أنت له أحوج، من جميع ما تحتاج إليه; واختر لنفسك من تستعين به على طاعة الله، وبراءة ذمتك، بالعمل بالمشروع، في الدقيق والجليل، حتى تسلم وتغنم. وقد رؤي عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعد موته، فقال له الرائي: ما فعل الله بك؟ قال: كاد عرشي لينهد، لولا أني لقيت غفورا رحيما. فاحرص على العلم وأهل العلم، واجعل بالك لهذه الآية {وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [سورة المائدة آية: 56] فلا غلبة إلا بهذا السبب العظيم، الذي من انتظمت له هذه الثلاثة، غلب من ناوأه وعاداه، من قريب أو بعيد؛ لأنه صار مع حزب الله، لهذه الثلاثة: توليه ربه بالإخلاص، وخشيته، وطاعته، وتوليه رسوله بمحبته واتباعه، وتوليه المؤمنين بمحبته لهم وقربه منهم، ودنوهم منه، وإكرامهم، والتواضع لهم بخفض الجناح، وغير ذلك مما يجب لهم من الحقوق التي تجب لهم دون غيرهم. واطلبهم ولو في أطراف البلاد، واطلب ما عندهم مما يعينك على هذا السفر، فإن العبد في هذه الدنيا مسافر، محتاج إلى أخذ الزاد والمزاد للمعاد، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله على محمد، 1281 هـ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 100 [التناصح في دين الله تعالى، والتذكير بنعم الله وأيامه] وله أيضا قدس الله روحه: 1 بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الرحمن بن حسن، إلى من يراه من أئمة المسلمين وعامتهم، سلمهم الله تعالى، وهداهم آمين، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد، فالواجب علينا وعليكم، التناصح في دين الله تعالى، والتذكير بنعم الله وأيامه; فإن في ذلك من المصالح الخاصة والعامة، ما لا يحيط به إلا الله، وفي الحديث: ما نزل بلاء إلا بذنب، ولا رفع إلا بتوبة. وكل خير في الدنيا والآخرة إنما حصل بمتابعة الرسل، وقبول ما جاؤوا به، وكل شر في الدنيا والآخرة، إنما حصل ووقع بمعصية الله ورسله، والخروج عما جاؤوا به، وبعض الأذكياء، يعرف ذلك في نفسه وأهله وولده ودابته. قال بعضهم: إني لأعصي الله فأعرف ذلك في خلق أهلي ودابتي، ويكفي المؤمن قوله تعالى: {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} [سورة الانفطار آية: 13-14] . وقد عرفتم، أرشدكم الله تعالى: أن الله بعث محمد صلى الله عليه وسلم على حين فترة من الرسل، وأهل الأرض قد عمتهم الجهالة، وغلبت عليهم الضلالة، عربهم وعجمهم،   1 وهي قريبة في مضمونها وألفاظها من رسالته إلى الإمام فيصل بن تركي المتقدمة قريبا. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 101 إلا من شاء الله من بقايا أهل الكتاب. فأول دعوته صلى الله عليه وسلم رد الخلق إلى الله، وأمرهم بعبادة الله وحده لا شريك له، وخلع ما سواه من الأنداد والآلهة، وهذا هو الذي دلت عليه كلمة الإخلاص، وهو أول دعوة الرسل، وأول الواجبات والفرائض. وهذا هو أهم الأمور، وأوجبها على الخلق، كما في الحديث: رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله 1. وكان من هديه صلى الله عليه وسلم أن يبعث عماله ويرسل رسائله إلى أهل الأرض ويدعوهم إلى هذا، يبدأ به قبل كل شيء؛ ولا يأمر بشيء من الأركان، إلا بعد التزامه ومعرفته، كما دل عليه حديث معاذ، لما بعثه إلى اليمن، وغيره من الأحاديث. وقد حصل في الناس ما لا يخفى من الإعراض والإهمال، وعدم الرغبة والتنافس، فيما أوجبه الرب من توحيده، وفرضه على سائر عبيده؛ وقل الداعي إلى ذلك والمذكر به، والمعلم له، في القرى والبوادي. والتساهل في هذه الأمور العظام يوجب للرعية أن يشب صغيرهم ويهرم كبيرهم على حالة جاهلية؛ والله سائلنا وسائلكم عن ذلك، كل بحسب قدرته وطوقه، والواجب مراعاة هذا الأصل، والقيام فيه، وبعث الدعاة إليه، وجعل أموال الله التي بأيديكم، آلة ووقاية وحماية وإعانة.   1 الترمذي: الإيمان 2616 , وأحمد 5/231 ,5/237. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 102 وبقاء الإسلام والإيمان في استقامة الولاة والأئمة على ذلك؛ وزوال الإسلام والإيمان، وانقضاؤه: بانحرافهم عن ذلك، وجعل الهمة والأموال والقوة مصروفة في غيره، مقصود بها سواه. فأهم المهمات، وآكد الأصول والواجبات: التفكر في هذا، وتفقد الخاصة والعامة، البادية الحاضرة، وفي الحديث: كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته 1. ومن الدعوة الواجبة، والفرائض اللازمة: جهاد من أبى أن يلتزم التوحيد ويعرفه، من البادية وغيرهم; وقد أفلح من كان لله محياه ومماته، وخاف الله في الناس، ولم يخف الناس في الله. وكذلك يجب على ولي الأمر أن يقدم على من نسب عنه طعن وقدح في شيء من دين الله ورسوله، أو تشبيه على المسلمين في عقائدهم ودينهم، مثل من ينهى عن تكفير المشركين، ويجعلهم من خير أمة أخرجت للناس، لأنهم يدعون الإسلام ويتكلمون بالشهادتين. وهذا الجنس ضرره على الإسلام، خصوصا على العوام، ضرر عظيم، يخشى منه الفتنة؛ وأكثر الناس لا علم له بالحجج التي تنفي شبه المشبهين، وزيغ الزائعين بل تجده - والعياذ بالله - سلس القياد لكل من قاده أو دعاه، كما قال فيهم أمير المؤمنين، علي بن أبي طالب رضي الله عنه:   1 البخاري: النكاح 5200 , ومسلم: الإمارة 1829 , والترمذي: الجهاد 1705 , وأبو داود: الخراج والإمارة والفيء 2928 , وأحمد 2/5 ,2/54 ,2/111 ,2/121. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 103 لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجؤوا إلى ركن وثيق، أقرب شبها بهم الأنعام السارحة. فإذا تيسر لكم الاهتمام والقيام بهذا الأصل، فينظر بعد هذا في أحوال الناس، في الصلوات الخمس المفروضات، فإنها من آكد الفروض والواجبات، وفي الحديث: أول ما تفقدون من دينكم الأمانه، وآخر ما تفقدون الصلاة، وكل شيء ذهب آخره، لم يبق منه شيء. وقد قال تعالى {وَمَا أُمِرُوا إِلاّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ} [سورة البينة آية: 5] . فيلزم جعل نواب يأمرون بما أمر الله به ورسوله، من إقام الصلاة في المساجد في أوقاتها، ويؤدبون من عرف منه كسل، أو ترك أو إهمال، أدبا يردع أمثاله، وعلى أئمة المساجد: تعليم ما يشترط لها، وما يجب فيها من الأعمال والأقوال. وبعد هذا يلتفت إلى النظر في أمر الزكوات وجبايتها، على الوجه الشرعي، من الأنعام والثمار والنقود والعروض، ويكون مع كل عامل رجل له معرفة بالحدود الشرعية، والأحكام الزكوية؛ ويحذر عن الزيادة عما شرعه الله ورسوله، فلا يؤخذ إلا مما وجبت فيه الزكاة، وتم نصابه وحال حوله. وكثير من العمال يخرص جميع الثمار، وإن لم الجزء: 14 ¦ الصفحة: 104 تنصب، وأخذ الزكاة من شيء لم يوجبه الله ولا رسوله، فيه ظلم بيِّن، وتعد ظاهر، حمانا الله وإياكم منه; ومن الواجبات على ولي الأمر ترك ذلك لله، فينبغي التفطن لهذه الأمور، لئلا يقع فيها وهو لا يدري. وكذلك ينبغي تفقد أمر الناس في الحج، والقيام على من تركه وهو يستطيعه، وهو ركن من أركان الإسلام، وبعض السلف يكفر من تركه، وأمر الرعية بذلك من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وكذلك القيام على الناس، ومنعهم عن التعدي في الدماء والأموال، وقطع السبل، فهذا من الفساد في الأرض، والمحاربة لله ورسوله 1. فالواجب على من نصح نفسه ألا يحكم إلا بحكم الله ورسوله، فإن لم يفعل وقع في خطر عظيم من تقديم الآراء والأهواء على شرع الله ورسوله. ومما يجب على ولي الأمر: تفقد الناس من الوقوع فيما نهى الله عنه ورسوله من الفواحش ما ظهر منها وما بطن، بإزالة أسبابها، وكذلك بخس الكيل والميزان، والربا؛ فيجعل في ذلك من يقوم به من له غيرة لدين الله وأمانته، وكذلك مخالطة الرجال للنساء، وكف النساء من الخروج، إذا كانت المرأة تجد من يقضي حاجتها، من زوج أو قريب ونحو ذلك.   1 يشير إلى ما تقدم في قضية الدفنان في استيفاء الحق منهم انظر صفحة 70. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 105 وكذلك تفقد أطراف البلاد في صلاتهم، وغير ذلك، مثل أهل النخيل النائية، لأنه ربما يقع فيها فساد ما يدرى عنه، وأكثر الناس ما يبالي ولو فعل ما نهى عنه، وفي الحديث: ما تركت بعدي فتنة هي أضر على الرجال من النساء 1. وفي حديث آخر: ما ظهرت الفاحشة في قوم، إلا ابتلوا بالطواعين والأمراض التي لم تكن بأسلافهم الذين مضوا 2 نعوذ بالله من عقوبات المعاصي، ونسأله العفو والعافية. ومما يجب النهي عنه: الإسبال كما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في الحديث: ما أسفل من الكعبين من الإزار فهو في النار 3. وفي حديث آخر: بينما رجل يجر إزاره خيلاء، أمر الله الأرض أن تأخذه، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة 4. وكذلك التشبه باليهود والمجوس في ترك الشوارب، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإحفائها مخالفة لليهود والمجوس; فقال صلى الله عليه وسلم: حفوا الشوارب واعفوا اللحى، خالفوا اليهود. والذي فيه دين ورغبة في الخير ما يرضى لنفسه أن يخالف ما أمر الله به ورسوله، ويقتدي باليهود، والمجوس، والمتكبرين. وعلى الإمام أن يأمر النواب من رأوه تاركا للأمر أن   1 البخاري: النكاح 5096 , ومسلم: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار 2740 , والترمذي: الأدب 2780 , وابن ماجه: الفتن 3998 , وأحمد 5/210. 2 ابن ماجه: الفتن 4019. 3 البخاري: اللباس 5787 , وأحمد 2/461. 4 البخاري: اللباس 5789 , ومسلم: اللباس والزينة 2088 , وأحمد 2/267 ,2/390 ,2/413 ,2/456 ,2/467 ,2/493. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 106 يقوموا عليه، ويلزموه الطاعة حتى تظهر طاعة الله ورسوله في المسلمين، ويمتازون بذلك عمن خالفهم في الدين، من أهل الجفاء والغلظة، والغفلة والإعراض، نسأل الله العفو والعافية، فإنها قد عمت البلوى بهذا بكثير، لما قام بقلوبهم من ضعف الإيمان وعدم الرغبة فيه. وكذلك يجب على الإمام النظر في أمر العلم، وترغيب الناس في طلبه، وإعانة من تصدّى للطلبة، لقلة العلم وكثرة الجهل، وإن كان قد قام ببعض الواجب، فينبغي له أن يهتم بهذا الأمر، لفضيلة العلم، وكثرة ثواب من قام به وأعان عليه. وطلب العلم اليوم من الفرائض، كما لا يخفى على الإمام وغيره، وفي الحديث: الدنيا ملعونة ملعون ما فيها، إلا ذكر الله، وما والاه، وعالم ومتعلم 1، وهذا ما يحصل إلا باعتناء الإمام، وتأليفه للطالب؛ فإذا كثر العلم وقل الجهل، حصل بسببه من الخير والحسنات ما لا يحصيه إلا الله، إن قبله الله؛ وبالغفلة عن طلبة العلم، تضعف هممهم، ويقل طلبهم. وفي مناقب عمر بن عبد العزيز، رحمه الله: أنه إذا أراد أن يحيي سنة، أخرج من العطاء مالا كثيرا، فإذا نفروا من هذا رغبوا إلى هذا، فلله دره ما أحسن نظره لنفسه، ولمن ولاه الله عليهم!   1 الترمذي: الزهد 2322 , وابن ماجه: الزهد 4112. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 107 وعلى كل من نصح نفسه: أن يحذر من كبائر الذنوب، التي هي من أعظم الذنوب، ولا يأمن مكر الله، وليكن لنفسه أشد مقتا منه لغيره، وليكن معظما للأمر والنهي، مفكرا فيما يحبه الله ويرضاه، متدبرا لكتابه، محبة لربه ورغبة في ثوابه، وخوفا من غضبه وعقابه. ومن الواجب على كل أحد أن يحب في الله، ويبغض في الله، ويعادي في الله، ويوالي في الله، ويحب أولياء الله أهل طاعته، ويعادي أعداءه أهل معصيته، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب، وصلى الله على محمد. [الوصية بتقوى الله وذكر بعض ما ورد عن السلف في معناها] وله أيضا، صب الله عليه من شآبيب بره ووالى: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الرحمن بن حسن، إلى من يصل إليه هذا الكتاب من الإخوان، وفقنا الله وإياهم لإقامة شرائع الدين، واستعملنا فيما استعمل فيه أهل الإيمان واليقين، وجعلنا من الشاكرين لنعمة الإسلام، المثنين بها عليه، ونسأله أن يتقبلها منا، ويتمها علينا بالرغبة فيما يوجب الفوز لديه; سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أما بعد: فأوصيكم وإياي بتقوى الله تعالى في الغيب والشهادة، قال الله تعالى: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} الآية [سورة النساء آية: 131] . قال طلق بن حبيب رحمه الله: التقوى أن تعمل بطاعة الله، على الجزء: 14 ¦ الصفحة: 108 نور من الله، ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله، على نور من الله، تخاف عقاب الله. ولا وصية أعظم ولا أنفع، مما وصى الله به عباده المؤمنين، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [سورة آل عمران آية: 102-105] . وينبغي أن نشير إلى بعض ما ورد عن السلف، رحمهم الله تعالى، في معنى هذه الوصية العظيمة، المتضمنة لأصول الدين، وما يقوم به من الأعمال; عن ابن مسعود رضي الله عنه موقوفا، وروى مرفوعا، والموقوف أشهر: حَقَّ تُقَاتِهِ أن يطاع فلا يعصى، ويذكر فلا ينسى، ويشكر فلا يكفر. وأصل الإسلام وأساسه: أن ينقاد العبد لله تعالى بالقلب والأركان، مذعنا له بالتوحيد، مفردا له بالإلهية والربوبية، دون كل ما سواه، مقدما مراد ربه على كل ما تحبه نفسه وتهواه; وهذا معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: الإسلام أن تشهد أن لا الجزء: 14 ¦ الصفحة: 109 إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان وتحج البيت، إن استطعت إليه سبيلا 1 الحديث. وحبل الله: دينه الذي أمركم به، وعهده الذي عهده إليكم في كتابه، من الألفة والاجتماع على كلمة الحق، والتسليم لأمر الله، قاله أبو جعفر ابن جرير، رحمه الله تعالى، وهو جامع لكل ما ورد عن السلف في معناه، كما روى عن ابن مسعود أنه قال: حبل الله الجماعة. وعن أبي العالية: اعتصموا بالإخلاص لله وحده وعن ابن زيد، قال: حبل الله الإسلام وقيل: هو القرآن; لما روى ابن مردويه عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن هذا القرآن هو حبل الله المتين، وهو النور المبين، وهو الشفاء النافع، عصمة لمن تمسك به، ونجاة لمن اتبعه 2. ثم قال تعالى {وَلا تَفَرَّقُوا} : عن عبد الله بن مسعود أنه قال: يا أيها الناس عليكم بالطاعة والجماعة، فإنها حبل الله الذي أمر به; وأن ما تكرهون في الطاعة والجماعة، هو خير مما تحبون في الفرقة. وأخرج محمد بن نصر المروزي وغيره، من حديث عبد الله بن يحيى أبي عامر: أن معاوية رضي الله عنه قام حين صلى الظهر بمكة، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن أهل الكتاب افترقوا في دينهم على ثنتين وسبعين فرقة،   1 مسلم: الإيمان 8 , والترمذي: الإيمان 2610 , والنسائي: الإيمان وشرائعه 4990 , وأبو داود: السنة 4695 , وابن ماجه: المقدمة 63 , وأحمد 1/27 ,1/51 ,1/52 ,2/107. 2 الدارمي: فضائل القرآن 3315. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 110 وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة ـ يعني الأهواء ـ كلها في النار، إلا واحدة وهي: الجماعة. والله يا معشر العرب، إن لم تقوموا بما جاء به نبيكم صلى الله عليه وسلم، لغيركم من الناس أحرى ألا يقوم به، وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم، فكل بدعة ضلالة. ثم قال تعالى {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} [سورة آل عمران آية: 103] أي: أذكروا ما أنعم به عليكم، من الألفة والاجتماع على الإسلام، حيث كنتم أعداء على شرككم، يقتل بعضكم بعضا عصبية، في غير طاعة الله ولا طاعة رسوله، فألف الله بين قلوبكم، تواصلوا بألفة الإسلام واجتماع كلمتكم عليه; وذكر عن قتادة: كنتم تذابحون، يأكل شديدكم ضعيفكم، حتى جاء الله بالإسلام فألف به قلوبكم، فوالله الذي لا إله إلا هو إن الألفة رحمة، وإن الفرقة عذاب. وقوله: {وكنتم علي شفا حفرة من النار فأنقذكم منها} [سورة آل عمران آية: 103] يقول تعالى: وكنتم على طرف جهنم، بكفركم الذي كنتم عليه، فأنقذكم الله بالإيمان، الذي هداكم به. وذكر عن قتادة في الآية: ?كان هذا الحي من العرب أذل الناس ذلا، وأشقاه عيشا، وأبينه ضلالة، وأعراه جلودا، وأجوعه بطونا، مكفوفين على رأس حجر، بين الأسد من فارس والروم، لا والله ما في بلادهم يومئذ من شيء، يحسدون عليه; من عاش منهم عاش شقيا، ومن مات مات ردى في النار; يؤكلون ولا يأكلون. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 111 والله: ما نعلم قبيلا يومئذ من حاضر الأرض كانوا فيها أصغر حظا، وأدق شأنا منهم، حتى جاء الله بالإسلام، فورثكم به الكتاب، وأحل به دار الجهاد، ووضع لكم به الرزق، وجعلكم به ملوكا على رقاب الناس، وبالإسلام أعطى الله ما رأيتم؛ فاشكروا نعمه، فإن ربكم منعم يحب الشاكرين، وإن أهل الشكر في مزيد من الله، فتعالى ربنا وتبارك. وقوله: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [سورة آل عمران آية: 103] أي: يعرفكم في كل ذلك مواقع نعمه وصنائعه فيكم، ويبين لكم حججه في تنْزيله على رسوله صلى الله عليه وسلم لتهتدوا إلى سبيل الرشاد، وتسلكوها فلا تضلوا عنها. وقوله {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ} [سورة آل عمران آية: 104] الآية، قال ابن كثير في تفسيره: المقصود من هذه الآية: أن تكون فرقة من الأمة متصدية للقيام بأمر الله في الدعوة إلى الخير، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإن كان ذلك واجبا على كل فرد من الأمة بحسبه. كما ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فمن لم يستطع فبلسانه، فمن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيما ن 1. وفي المسند عن حذيفة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: والذي   1 مسلم: الإيمان 49 , والترمذي: الفتن 2172 , والنسائي: الإيمان وشرائعه 5008 ,5009 , وأبو داود: الصلاة 1140 والملاحم 4340 , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها 1275 والفتن 4013 , وأحمد 3/10 ,3/20 ,3/49 ,3/52 ,3/54 ,3/92. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 112 نفسي بيده، لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابا من عنده، ثم لتدعنه فلا يستجيب لكم 1. انتهى. قلت: وروى محمد بن نصر، من حديث يزيد بن مرثد مرسلا، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كل رجل من المسلمين على ثغرة من ثغر الإسلام، الله الله، لا يؤتى الإسلام من قبلك، وروى بسنده عن الحسن بن حي: إنما المسلمون إخوة، على الإسلام بمنْزلة الحصن، فإذا أحدث المسلم حدثا، ثغر في الإسلام من قبله، فإن أحدث المسلمون كلهم، فاثبت أنت على الأمر الذي لو اجتمعوا عليه، لقام الدين لله بالأمر الذي أراده من خلقه. وقوله: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [سورة آل عمران آية: 105] . قال ابن عباس في الآية: أمر الله المؤمنين بالجماعة ونهاهم عن الاختلاف والفرقة، وأخبرهم، أنه إنما هلك من كان قبلهم بالمراء، والخصومات في دين الله. قلت: فتأمل كيف نهى الله سبحانه في هذه الآيات عن التفرق في موضعين، وأخبر أنه من موجبات العذاب العظيم؛ وأرشد إلى أسباب الاجتماع على دينه وشرعه، ومن أعظمها: الاعتصام بكتابه ودينه، علما وعملا، وأداء شكره، والقيام بما فرضه على عباده من الدعوة إلى الخير، والأمر   1 أحمد 5/388. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 113 بالمعروف، والنهي عن المنكر. ومن هنا تعلم أن من أعظم الفساد: الإعراض عن كتاب الله وما بعث الله به رسوله من الهدى والعلم، واتباع الأهواء، والأراء المضلة - نعوذ بالله من ذلك - فإذا وقع ذلك ترتب عليه من أنواع الفساد ما لا يكاد يبلغه الوصف; فمن ذلك الاختلاف في الدين، والتحاسد، والتدابر، والتقاطع، فلا تكاد ترى إلا من هو معجب برأيه، متنقص لغيره، مخلد إلى الأرض عن تعلم العلم وتعليمه. فالواجب على من أعطاه الله شيئا من العلم، أن يبذله لطالبيه، وأن يقوم بما أوجب الله تعالى عليه، من النصيحة لله ولرسوله، ولكتابه، ولأئمة المسلمين، وعامتهم; وعلى الخاصة والعامة أن يعظموا كتاب ربهم، ودينه وشرعه، ويقبلوا بكليتهم على ما ينفعهم، من تعلم دينهم، وطاعة ربهم، وترك معاصيه; وأن يقوموا بما وجب عليهم مع ذلك، من الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، على علم وبصيرة; وأن يهتموا بما يصلح ذلك، من الإخلاص لله تعالى في أمور دينهم. وعلى من نصح نفسه أن يكون حذرا من الأسباب التي تضعف الإيمان، وتجلب أسباب المآثم والعصيان، من الهلع والطمع، والرضى بالدنيا والاطمئنان بها; وفي الحديث: حب الدنيا رأس كل خطيئة. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 114 وأخرج البخاري في صحيحه، وغيره، من حديث أبي سعيد: أن النبي صلى الله عليه وسلم جلس ذات يوم على المنبر، وجلسنا حوله فقال: إن مما أخاف عليكم من بعدي، ما يفتح عليكم من زهرة الدنيا وزينتها فقال رجل يا رسول الله: أفيأتي الخير بالشر؟ فسكت النبي صلى الله عليه وسلم فقيل له: ما شأنك تكلم النبي صلى الله عليه وسلم ولا يكلمك؟ فرأينا أنه ينْزل عليه. قال فمسح عنه الرحضاء، فقال: أين السائل؟ وكأنه حمده، فقال: إنه لا يأتي الخير بالشر، وإن مما ينبت الربيع ما يقتل أو يلم، إلا آكلة الخضراء أكلت، حتى إذا امتدت خاصرتاها، استقبلت عين الشمس، فثلطت وبالت ورتعت; وإن هذا المال خضرة حلوة، فنعم صاحب المسلم، ما أعطى منه المسكين، واليتيم، وابن السبيل أو كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: وإنه من يأخذه بغير حقه، كالذي يأكل ولا يشبع، فيكون شهيدا عليه يوم القيامة 1. انتهى. فهذا مثل ضربه رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين فيه أن من جمع الدنيا أو طلبها من غير حلها، وصرفها في غير حقها، صارت عليه وبالا؛ ومن أجمل في طلبها وأخذها من حلها، وأدى حق الله فيها، ولم يشتغل بها عن طاعة مولاه، فإنها تكون في حقه نعمة وعطية، ولغيره محنة وبلية. هذا وقد أعطاكم الله من أصناف نعمه ما تحبون، وصرف عنكم ما تكرهون، ابتلاء وامتحانا، لتعرفوا نعمه، وتشكروها قال تعالى {: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا}   1 البخاري: الزكاة 1465 , ومسلم: الزكاة 1052 , والنسائي: الزكاة 2581 , وابن ماجه: الفتن 3995 , وأحمد 3/7 ,3/21 ,3/91. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 115 [سورة إبراهيم آية: 34] . فانظروا رحمكم الله بماذا تقابلونها؟ أباستعمالها في طاعته ودينه ومراضيه؟ أم تجعلونها سلما إلى الإعراض عن دينه، وارتكاب معاصيه؟ من الظلم والبغي، والأشر والبطر، واللهو واللعب، وقول الزور، والسخرية، ونحو ذلك مما لا يحبه الله ولا يرضاه؟ نسأل الله السلامة من أسباب التغيير; قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ} [سورة الرعد آية: 11] . اللهم إنا نعوذ بك من زوال نعمتك، وتحول عافيتك، وفجأة نقمتك، وجميع سخطك. اللهم إنا نعوذ بك من جهد البلاء، ودرك الشقاء، وسوء القضاء، وشماتة الأعداء. الله الله عباد الله: قيدوا نعم الله بشكره، واتباع ما يرضيه; وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه; فإن الله خولكم نعمه، لتطيعوه ولا تعصوه، وتعملوا بدينه وشرعه وتعظموه، لا لتشغلوا بها عن ذلك، أو تمتهنوه; اللهم أوزعنا شكر ما أنعمت به علينا من هذه النعم الظاهرة والباطنة، واستعملنا فيما يرضيك عنا، وعافنا واعف عنا، برحمتك يا أرحم الراحمين. وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 116 صلى الله عليه وسلم [التواصي بتقوى الله تعالى وبما يرضيه سبحانه] له أيضا، حشره الله في زمرة الصديقين: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الرحمن بن حسن: إلى من يصل إليه من الإخوان، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فالذي نوصيكم به، تقوى الله تعالى، والتواصي بما يرضي الله سبحانه، من طاعته، وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، والعدل والإنصاف؛ واذكروا فناء الدنيا وزوالها، والعرض على الله، والحساب، والميزان، والجنة، والنار، يوم لا ينفع مال ولا بنون، إلا من أتى الله بقلب سليم. والباعث على هذا: أمور وقع فيها الخلل، بسبب الإقبال على الدنيا، والإعراض عن الآخرة. فمنها: التهاون بالصلاة من كثير من السفهاء، لا يبالون صلوها في جماعة أم لا; وصلاة الجماعة فرض على الأعيان، كما هو مذهب الإمام أحمد وغيره; وقال بعض العلماء هي شرط، لا تصح الصلاة إلا بها. ومر علينا عبارة في الدرس، بحضرة إخوانكم، وارتاعوا منها، وأحبوا: أنا ننبهكم عليها; وهي: أن المشهور في مذهب الإمام أحمد، أن من ترك الصلاة تهاونا وكسلا يكفر، ويقتل كفرا إذا دعي إليها فأصر. ومنها: صلاة الجمعة، نصوا على أن من تركها تهاونا الجزء: 14 ¦ الصفحة: 117 وكسلا ولو مرة واحدة، أنه يكفر; ويوجد أناس في أطراف البلدان، يتركونها مرارا، وهذا أمر عظيم، وخطره كبير، قد يكون الإنسان كافرا مرتدا، بترك فريضة، وهو لا يشعر. فاحذروا - رحمكم الله - التهاون بمثل هذه الأمور الخطيرة، التي إذا وقعت من سفيه ضرت العامة، إذا تركوه عليها وأعظم الناس خطرا في مثل هذه الأمور: الأمراء والنواب، إذا تركوا القيام بما أوجب الله عليهم، من القيام بأمر الله على الداني والقاصي، والقريب والبعيد، والعدو والصديق، كما قال تعالى {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} : [سورة النساء آية: 135] الآية. وهذا هو الواجب على ولاة الأمور، فنسأل الله لنا ولكم التوفيق. وهنا مسألة مما يتعلق بالعدل، وحقوق الخلق; وهي: أن "النوابة"التي يضعها الأمراء والنظراء ربما يقع فيها الجور، وعدم المواساة، فمن ذلك: تنويب المعسر، الذي لا يقدر على وفاء جميع ما عليه من الدين، لكون جميع ماله لا يقابل دينه، فهذا لا يجوز أخذ النائبة منه. وقد بلغني أن الشيخ محمد رحمه الله أفتى أناسا من أهل سدير وغيرهم أن هذه النوائب توضع بالقسط على الناتج; هذا إذا كانت لمصلحة الدين، كالجهاد خاصة، فتوضع بالعدل على الناتج، قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [سورة النساء آية: 58] الآية. وصلى الله على محمد. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 118 [رسالة الشيخ عبد الرحمن بن حسن إلى الشيخ عيد بن حمد يوصيه فيها بتقوى الله ولزوم العبودية لله] وله أيضا، رحمه الله: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الرحمن بن حسن، إلى الأخ الشيخ: عيد بن حمد، وفقه الله لما يحبه الله ويرضاه، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: وصل الخط أوصلك الله ما يرضيه، وإن سألت عنا، فنحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، على تمام نعمه; ونسأله تعالى أن يجعلك ممن يطيعه ويطيع رسوله، ويتبع رضوانه، ويجتنب سخطه، فإنا نحن به وله. وتعلم يا أخي أن الدين النصيحة، فأوصيك ونفسي، بتقوى الله ولزوم العبودية التي هي غاية الذل في غاية المحبة للمعبود، الذي لا يستحق العبادة إلا هو، ولا يعين على عبادة غيره؛ فعبادته أعلى الغايات، وإعانته أجل الوسائل، وهو معنى قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [سورة الفاتحة آية: 5] . قال العلامة ابن القيم رحمه الله: وقد اشتملت هذه الكلمة على نوعي التوحيد توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية; وتضمنت التعبد باسم الرب، واسم الله، فهو يعبد بالألوهية، ويستعان بربوبيته، ويهدي إلى الصراط المستقيم برحمته. انتهى. وحقيقة العبودية: الإقبال على الله، والإعراض عن كل ما الجزء: 14 ¦ الصفحة: 119 سواه، وإيثار مراد الله، على كل ما تطلبه النفوس وتهواه، كما قال تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [سورة النازعات آية: 40-41] . وقال: {وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [سورة الجاثية آية: 18] . وقال: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ} [سورة القصص آية: 50] . وفي الحديث: لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به، وهذا هو الصراط المستقيم، كما ذكره عن نبيه ورسوله عيسى عليه السلام، في مقام الدعوة إلى الإسلام: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ [سورة آل عمران آية: 50-51] . فلشدة فاقة العبد وضرورته إلى أن يهديه الله صراطه المستقيم، فرض الله عليه أن يسأله هذه الهداية، في أفضل أحواله مرارا متعددة في اليوم والليلة؛ وليس العبد في شيء أشد فاقة وحاجة منه إليها، فإنه يحتاج إليها في كل نفس وطرفة عين، وفي جميع ما يأتيه ويذره، من أمور قد أتاها على غير الهداية، فهو محتاج إلى التوبة منها. وأمور هدي إلى أصلحها دون تفصيلها، أو هدي إليها من وجه دون وجه، وهو محتاج إلى إتمام الهداية فيها; وأمور هو محتاج إلى ما يحصل له من الهداية فيها في المستقبل، مثل ما حصل له في الماضي. وأمور هو خال عن الاعتقاد فيها، هو محتاج إلى الجزء: 14 ¦ الصفحة: 120 الهداية فيها، وأمور لم يفعلها، فهو محتاج إلى فعلها على وجه الهداية; وأمور قد هدى إلى اعتقاد الحق والعمل الصواب فيها، فهو محتاج إلى الثبات عليها، إلى غير ذلك من أنواع الهداية. وبين سبحانه أن أهل هذه الهداية هم المختّصون بنعمه، دون المغضوب عليهم وهم: الذين عرفوا الحق ولم يتبعوه; ودون الضالين، وهم: الذيق عبدوا الله بغير علم; والطائفتان اشتركتا في القول على الله في خلقه وأمره وأسمائه وصفاته بغير علم، فسبيل المنعم عليهم مغاير لسبل أهل الباطل كلها، علما وعملا. [حث الإمام فيصل بن تركي على نسخها وقراءتها في المساجد مرارا] قال الإمام فيصل، رحمه الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم من فيصل بن تركي، إلى الوالد المكرم، الشيخ: جمعان بن ناصر، ومرشد، وإخوانهم أهل الوادي، وفقنا الله وإياهم لما يحبه الله ويرضاه، آمين، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: اقرؤوا النصيحة في جميع مساجد بلدان الوادي، وانسخوا منها أوراقا في كل بلاد، وكلما أخذتم شهرين، أعيدوا قراءتها; واعلموا أنه مستقبلكم عام جديد، توبوا إلى الله {وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} [سورة الحديد آية: 7] ، واجمعوا صدقة ترد على الأيتام، والأرامل، والفقراء الجزء: 14 ¦ الصفحة: 121 والمساكين، والمستحقين، والله يوفقنا وإياكم للخيرات. [رسالة الشيخ عبد الرحمن بن حسن إلى الإمام عبد الله بن فيصل يذكره بما قام به جده محمد وعمه عبد العزيز، وأنها خلافة، وما جرى في إمارة سعود] وقال أيضا الشيخ; عبد الرحمن بن حسن، رحمه الله: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الرحمن بن حسن إلى الإمام: عبد الله بن فيصل، سلمه الله تعالى وتولاه، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته; وتفهم أن الدين النصيحة، وأحق من أنصح نفسي، ثم أنت يا إمام المسلمين، ورأيت الأمر ضاع، وكثر الأعداء، واستحكمت أمورهم، وصعبت عليكم. وهنا سبب فيه ذهاب الأعداء، مع النية الصالحة، وتهتوه بالفعل، وأما القول فتذكرونه صباحا ومساء، وذلك لا يجدي شيئا; وقد بان لك ما جرى على أولئك، مع ما بينوه من هذا الدين، ومعهم حسنة تعدل ما عمل به الخلائق، فكيف بكم اليوم، جعلتموها أمور ملك، ورأيتم الخلل؟! تفهم أن أول ما قام به جدك محمد، وعبد الله، وعمك عبد العزيز أنها خلافة نبوة، يطلبون الحق ويعملون به، ويقومون ويغضبون له، ويرضون ويجاهدون، وكفاهم الله أعداءهم على قوتهم، إذا مشى العدو كسره الله، قبل أن يصل، لأنها خلافة نبوة. ولا قاموا على الناس إلا بالقرآن والعمل به، كما قال تعالى {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 122 لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى} : [سورة النور آية: 55] . صلى الله عليه وسلموأخذ عمك في الإسلام، حتى جاوز الثمانين في العمر، والإسلام في عز وظهور، وأهله يزيدون، وحصل لهم مضمون قوله: {لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ} [سورة النور آية: 55] ، وصار أهل الأمصار يخافونهم; وأراد الله سبحانه إمارة سعود بعد أبيه، يرحم الله الجميع. وأراد الله أن يغير طريقة والده الذي قبله، وبغاها ملكا، وبدأ الأمر ينقص أمر الدين، والدنيا تطغى، يشرى البيت بستمائة ريال في الدرعية، والنخلة الواحدة بستين ريالا، مائة نخلة بستة آلاف ريال، أنا الكاتب لمشتراها. وصار العاقبة: القصور التي بنيت بقناطير، والمقاصير التي تنفذ فيها الأموال العظيمة، التي تسوى ثلاثة آلاف، ما تسوف اليوم إلا جديدة، لما جرى ما جرى، من تسليط الأعداء عليهم، هذا وهم على التوحيد، لكن ما أعطوه حقه. اشتغلوا بالدنيا ونضارتها، وما فتح الله عليهم، وأعرضوا عما أوجب الله عليهم القيام به في أنفسهم وعلى الناس، فجرى ما جرى; وصار الحمولة أكثر شرائدهم الذين بقوا، آجالهم في مصر. وهذا بسبب الغفلة عما أوجب الله، لأن الله اختار لهم الجزء: 14 ¦ الصفحة: 123 أمرا عظيما، ومكنهم منه ومن الناس، لكن حصل تفريط في هذه النعمة العظيمة. والدرعية اليوم، من تدبر حالها وحللها عرف أن ما جاءهم إلا ذنوبهم، فاعتبروا يا أولي الأبصار. وهذا حقك علي؛ وأرجو أن الله يمن عليك بتوحيده، والقيام به على نفسك وعلى الناس، قريبهم وبعيدهم، ويعافيك من أهل التثبيط. والحق منصور في كل زمان ومكان، ومنصور من هو معه، سواء كان حرا أو عبدا، صغيرا أو كبيرا، وابتلاكم الله، وعرفتم العواقب، والمؤمن ما يلدغ من جحر مرتين: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلَهَ إلاّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيم} [سورة التوبة آية: 129] . ووالله ثم والله: إن لم تجعلها أمر دين، وتدعو الناس إلى ما أمرهم الله به، أن تشفق سكون قرية من قرى نجد، وأنت مطلوب، لكن إن تسلط عليك أحد، وأنت تأمر بما أمر الله به ورسوله، فالله مع المتقين. فإن كنت على هذه الحالة، فلا حول ولا قوة إلا بالله، وإنا لله وإنا إليه راجعون، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 124 [رسالة الشيخ عبد الرحمن بن حسن إلى بعض الإخوان يسأل عن حالهم ويوصيهم بتدبر أنوار الكتاب] وله أيضا رحمه الله: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الرحمن بن حسن، إلى الإخوان: صالح بن محمد الشثري، وزيد ابن محمد آل سليمان، وإخوانهم، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وموجب الخط: إبلاغكم السلام، والسؤال عن الحال، جعلنا الله وإياكم ممن عرف الحق فاتبعه، وقابل النعم بشكرها. وأوصيكم: بتدبر أنوار الكتاب، التي هي أظهر من الشمس في نحر الظهيرة، ليس دونها قتر ولا سحاب، لا سيما دلائل التوحيد، والتفكر في مدلولاته، ولوازمه وملزوماته، ومكملاته ومقتضياته، ثم التفطن فيما يناقضه وينافيه، من نواقضه ومبطلاته. فالخطر به شديد، ولا يسلم منه إلا من وفق للصبر والتأييد، والفعل الحميد، والقول السديد، وخالط قلبه آيات الوعد والوعيد، وعرف الله بأسمائه وصفاته، التي تجلو الريب، والشك عن قلب كل مريد، واعتصم بالله من كل شيطان مريد {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [سورة البروج آية: 12-16] الآيات. فقد عمت البلوى بالجهل المركب والبسيط {وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ} [سورة الأنفال آية: 47] فالله الله في التحفظ على الجزء: 14 ¦ الصفحة: 125 القلب بكثرة الاستغفار من الذنوب. جعلنا الله وإياكم ممن نجا من ظلمة الجهلة، وأخلص لله أقواله وأعماله، والسلام. [رسالة الشيخ عبد الرحمن بن حسن إلى محمد آل سليم يذكره بما أسبغ الله عليه من نعمه] وله أيضا، رحمة الله: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الرحمن بن حسن، إلى الأخ محمد بن عمر آل سليم، سلمه الله تعالى من كل آفة وأمنه من كل مخافة، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: وصل الخط وصلك الله ما يرضيه، ونحمد إليك الله على ما أسبغ من نعمه الباطنة والظاهرة، جعلنا الله وإياكم من الشاكرين الذاكرين، ونعمة الله عليكم عظيمة، حيث أقامكم في ناحية أهلها جهال بالتوحيد، ما له عندهم قدر ولا قيمة، وجعلكم تدعون إليه، وتبينونه، وتحملون الناس عليه، وجعل لكم أصحابا قابلين هذه الدعوة ومحبينها، ومعادين فيها وموالين فيها. ويا أخي هذه النعمة علينا وعليكم عظيمة، واحمدوا الله سبحانه وتعالى، وتبرؤوا من الحول والقوة، وانسبوا النعمة إلى ربكم; قال ابن القيم رحمه الله، لما ذكر حياة القلب، وصف القلب الحي بقوله: أن يكون مدركا للحق، مريدا له، مؤثرا له على غيره، والسلام; 1284 هجرية. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 126 صلى الله عليه وسلم [وصية الشيخ عبد الرحمن بن حسن بالصدق مع الله وبتعلم العلم] وله أيضا، قدس الله روحه: بسم الله الرحمن الرحيم وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، وحال الناس اليوم لا تخفاك، وأهل نجد منّ الله عليهم بنعمة التوحيد، لما يسر لهم من يدعوهم إليه، ويجاهدهم عليه؛ لكن أعرضوا في هذه الأوقات، وآثروا الدنيا على الدين، إلا من شاء الله، لكن إذا حصل في البلدان طائفة حق، يقومون به ويدعون إليه، ويستحسنون الحسن ويستقبحون القبيح، فهذه نعمة عليهم وعلى أهل بلدهم. فالذي أوصيكم به: اصدقوا مع الله، وتعلموا من العلم ما ينجيكم من شبهات أهل الشك والريب، فبالعلم واليقين تدفع الشبهات، ولله الحمد على بقاء طائفة الحق، تدعو من ضل إلى الهدى، وتصبر منهم على الأذى والسلام. [رسالة الشيخ عبد الرحمن بن حسن إلى أمراء جعلان يذكرهم بالوصايا الثلاث التي لا يتم الدين إلا بها] وله أيضا رحمه الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الرحمن بن حسن، إلى الإخوان من المسلمين الموحدين المجاهدين، أمراء جعلان، وفقنا الله وإياهم للإخلاص والصدق في الدين، وجعلنا وإياهم من حزبه المفلحين، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فاعلموا وفقنا الله وإياكم لما يحب ويرضى الجزء: 14 ¦ الصفحة: 127 من الأقوال والأفعال أن أشرف الوصايا وأجمعها، وأكملها وأنفعها، ما وصى الله به عباده المؤمنين، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [سورة آل عمران آية: 102] ، وفسره العلماء: أن يطاع فلا يعصى، وأن يذكر فلا ينسى، وأن يشكر فلا يكفر؛ ثم قال تعالى {وَلا تَمُوتُنَّ إِلاّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} وأمرهم بالمحافظة على الإسلام الذي رضيه لنا دينا، والثبات عليه والاستقامة عليه علما وعملا؛ وهذا إنما يحصل لأهل التقوى خاصة الذين أخلصوا العبادة لله، وأنكروا الشرك وأبغضوه، وعرفوا الله وأطاعوه، فاجتنبوا ما نهاهم الله عنه؛ ومن شقي في هذا وتركه، فاته من الاستقامة والمحافظة بحسب ما أضاعه من تقوى الله. وملاك هذا كله، وهو الأمر الثالث، وهو قوله: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} [سورة آل عمران آية: 103] ، فلا تحصل التقوى إلا بمعرفة ما أمرالله به، ومعرفة ما نهى عنه، ليكون العمل والتقوى على بصيرة; وبالتمسك بكتاب الله، يتبين حقيقة دين الإسلام، ليتبين ويعتقد وحقيقة ما ينافيه من الشرك، لينكر ويجتنب. فهذه ثلاث وصايا لا يتم الدين إلا بها، فالاعتصام بكتاب الله والتمسك به، ينتظم به ما قبله من الثبات على الإسلام، والاستقامة، وكذلك تقوى الله حق تقاته، لا تحصل بدون ذلك; آخر ما وجد، وصلى الله على محمد. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 128 صلى الله عليه وسلم [رسالة الشيخ عبد الرحمن بن حسن إلى أهل جعلان في حكم المعاملة بالربا] وله أيضا رحمه الله: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الرحمن بن حسن، إلى من يصل إليه من إخواننا المسلمين، من أهل جعلان، سلمهم الله، وهداهم لما يحبه ويرضاه، وجعلنا وإياهم ممن يخافه ويخشاه، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فإن الله سبحانه وتعالى حرم على عباده المعاملة بالربا، في الأخذ والعطاء، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [سورة البقرة آية: 278-279] . وقال تعالى {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلاّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} [سورة البقرة آية: 275-276] . أخبر تعالى: عن الذين يأكلون الربا في الدار الدنيا، أنهم إذا قاموا من قبورهم يوم القيامة، لا يقومون إلا كما يقوم المصروع حال صرعه وتخبط الشيطان له. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 129 وقال ابن عباس: آكل الربا يبعث يوم القيامة مجنونا يخنق، وروى ابن ماجه وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الربا سبعون حوبا، أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه. وفي الحديث الصحيح: لعن الله آكل الربا وموكله، وشاهديه، وكاتبه، وفي الحديث المتفق عليه، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا منها غائبا بناجز. وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلا بمثل، سواء بسواء، يدا بيد؛ فإذا اختلفت هذه الأجناس، فبيعوا كيف شئتم، إذا كان يدا بيد 1 رواه مسلم. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الذهب بالذهب، وزنا بوزن، مثلا بمثل; والفضة بالفضة مثلا بمثل، وزنا بوزن. فمن زاد أو استزاد فهو ربا 2 رواه مسلم. إذا عرفتم ذلك، فالذي أوجب هذه النصيحة لكم، أنه بلغنا أن فيكم من يشتري الفضة بالفضة، أو الذهب بالذهب، ويحضر بعضا ويغيب بعضا، وهذا هو الربا المنهي عنه في الحديث؛ فلا بد من التقابض في المجلس قبل التفرق، فإن   1 مسلم: المساقاة 1587 , والترمذي: البيوع 1240 , والنسائي: البيوع 4561 ,4562 ,4563 ,4564 , وأبو داود: البيوع 3349 , وابن ماجه: التجارات 2254 , وأحمد 5/314 ,5/320 , والدارمي: البيوع 2579. 2 مسلم: المساقاة 1588 , وابن ماجه: التجارات 2255. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 130 تفرقا وقد بقي شيء من أحد العوضين بطل البيع، وحرم الفعل على من فعله، وصار قد أربى. كذلك الوزن، ربما أنه ما يحصل مماثلة من جهة الغش الذي يكون في الذهب أو الفضة، فقد يكون أحد العوضين فضة صافية من الغش، والأخرى فيها غش، فلا تحصل المماثملة المشروطة في الحديث؛ والجهل بالتساوي كالعلم بالتفاضل، لأن الغش الذي فيهما، أو في أحدهما، لا يعرف قدره، فلا تحصل المماثلة، فيحرم؛ ولا يصح من هذا إلا إذا كان الذهب أو الفضة صافي من الطرفين، وحصل التساوي في الوزن، والتقابض في المجلس؛ فهذا هو الذي يصح، فإن اختل شيء من هذه الشروط، صار ربا وحرم. فاجعلوا هذه الأمور منكم على بال، وفقنا الله وإياكم لطاعته، وجنبنا معصيته، إنه ولي ذلك كله، والقادر عليه; وسلموا لنا على إخوانكم، ومن لدينا: الإمام فيصل وأولاده، وكذلك أولادنا وحمولتنا آل الشيخ بخير، وينهون السلام على الإخوان، وأنتم سالمين، والسلام، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 131 [رسالة الشيخ عبد الرحمن بن حسن إلى عبد الرحمن بن عبيد يخبره بعلمه عن الذين فضحتهم أعمالهم] وله أيضا رحمه الله: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الرحمن بن حسن، إلى الأخ عبد الرحمن بن علي بن عبيد، وفقه الله، وحفظ عليه دينه ودنياه، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فالخط وصل، وصلك الله إلى خير، وما ذكرت صار معلوما، وهؤلاء الذين {يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} [سورة الفتح آية: 11] ، قد فضحتهم أعمالهم، وكل من له بصيرة لا تخفى عليه حالهم، كما قيل: وكيف يصح في الأذهان شيء ... إذا احتاج النهار إلى دليل؟ وأما من عميت بصيرته، وفسدت سريرته، واستعبده هواه، وركن إلى دنياه، ولعب بقلبه الرياسة والجاه، وخدعته الدنيا بغرورها، وختلته بآمالها، وصار لنفسه من سعيه حظ، ولهواه نصيب، وللشيطان منه نصيب، ولأرباب الدنيا منه نصيب، ولمخدومه منه نصيب، ولمطاعه من الخلق نصيب، فإنها تتلاعب به إراداته، من كل واد من أودية الهلاك، وهو لا يشعر. فهذا كالأعمى، يتبع قائده ولا يرى الأمر على ما هو عليه، فكان عدم التصور من عدم البصيرة، وربما اعتقد النافع ضارا وبالعكس، نسأل الله العافية، وحسبنا الله ونعم الوكيل. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 132 وتأمل، قوله تعالى {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} [سورة الفرقان آية: 43-44] . وقوله: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [سورة فاطر آية: 8] . [رسالة الشيخ عبد الرحمن بن حسن إلى محمد آل سليم يروي له ما حدَّث من مشائخه ويوصيه بتقوى الله] وله أيضا، رحمه الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيد المرسلين محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وسلم تسليما كثيرا. من عبد الرحمن بن حسن، إلى الأخ: محمد بن عمر آل سليم، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: فقد طلبت مني الإجازة أن تروى عني ما رويته عن مشائخي، من أهل نجد ومصر، وقد أجزتك بما رويته عنهم بالإجازة، كالكتب الستة، والفقه في مذهب الإمام أحمد، وغير ذلك ككتب التفسير، ونحو ذلك. وعليك في ذلك تقوى الله، والتدبر والاجتهاد في معرفة المعنى، وصورة المسألة، والمطالعة على كل ما يرد عليك، واجتهد في العدل فيما وليت عليه، من أمور المسلمين، في حق القريب والبعيد، وفي حق من تحب وتكره، فما ظهر الجزء: 14 ¦ الصفحة: 133 لك معناه فقله، وما لم يظهر فكله إلى عالمه، واستعن بالله وتوكل عليه. واجتهد: في نشر التوحيد بأدلته، للخاصة والعامة، فإن أكثر الناس قد رغبوا عن هذا العلم، الذي هو شرط لصحة كل عمل يعمله الإنسان، من صلاة، وصيام، وحج، فلا يصح شيء من ذلك، إلا بمعرفة معنى الشهادتين، شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله، على يقين وإخلاص، وصدق ومحبة، وقبول وانقياد. وأن يحب في هذا التوحيد، ويوالي فيه ويعادي، وكل هذه القيود دل عليها الكتاب والسنة، فاطلب أدلتها من مظانها تجدها، وصلى الله على محمد، وآله وصحبه وسلم 9 رجب سنة 1283 هـ. [الحث على الإخلاص وتقوى الله] وقال الإمام: فيصل بن تركي، والشيخ: عبد الرحمن بن حسن، والشيخ: علي بن حسين، رحمهم الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم من فيصل بن تركي، وعبد الرحمن بن حسن، وعلي بن حسين، إلى من يصل إليه هذا الكتاب من المسلمين، وفقهم الله لتوحيده، وجعلهم من صالحي عبيده آمين. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فنوصيكم وأنفسنا بتقوى الله، فإنها وصية الله الجزء: 14 ¦ الصفحة: 134 للأولين والآخرين، وأعظم التقوى وأصلها اتقاء الشرك بالله والإخلاص له بجميع الأعمال الظاهرة والباطنة، وهو معنى كلمة الإخلاص: شهادة أن لا إله إلا الله، فإنها دلت على نفي الشرك في العبادة وتركه، والبراءة منه. ودلت أيضا على إخلاص الإلهية لله تعالى، فلا يدعى غيره، ولا يرجى سواه، ولا يتوكل إلا عليه، ولا يرغب إلا إليه، كما قال تعالى {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} : [سورة الشرح آية: 7-8] . وقال تعالى {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [سورة هود آية: 123] . وقال تعالى {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ} [سورة الرعد آية: 14] الآية. وجميع أفراد العبادة لا تصلح إلا لله تعالى، قد بينها في كتابه مجملا ومفصلا، كما قال تعالى {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ} : [سورة الزمر آية: 2] {اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [سورة الزمر آية: 66] فتقديم المعمول به يفيد الحصر والاختصاص، كما قال تعالى {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ، في الفاتحة: [سورة الفاتحة آية: 5] أي: لا نعبد غيرك، ولا نستعين إلا بك. وهذا هو الدين الذي بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه، وكل رسول يرسله الله، يقول {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} سورة الأعراف آية: 59] . وقال تعالى {وَمَا أُمِرُوا إِلاّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [سورة البينة آية: 5] الآية. وأمثال هذه الآيات في القرآن كثير، يأمر تعالى عباده أن الجزء: 14 ¦ الصفحة: 135 يخلصوا له العبادة، وينهاهم أن يقصدوا بها غيره. وإخلاص العبادة له، هو أصل الدين الذي لا يقبل الله من أحد دينا سواه، قال تعالى {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [سورة الزمر آية: 2-3] . وفي الحديث الصحيح، أنه قال: حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا 1 وقال تعالى، ناهيا لهم عن الشرك في عبادته: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ} [سورة النحل آية: 20] الآيتين. وقال تعالآمرا لهم بالتوحيد: {إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} : [سورة النحل آية: 22] . وقال تعالى {إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ} [سورة الصافات آية: 4-5ب] . هذا مضمون كلمة الإخلاص: لا إله إلا الله، نفت الشرك في الإلهية، وأثبتت توحيد الله بذلك. ومما دلت عليه هذه الكلمة: إخلاص الحب في الله تعالى، كما قال تعالى {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} : [سورة البقرة آية: 165] إلى قوله: {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [سورة البقرة آية: 167] ، فأوجب لهم بشركهم في المحبة أن خلدوا في النار، فإخلاص الموحد المحبة يقتضي الحب في الله والبغض فيه، والمعاداة والموالاة فيه، لأن العبد إذا أخلص له المحبة أحب طاعته وأهل طاعته، وأبغض معصيته ومن يعصيه؛ وعلى قدر المحبة تكون الموالاة   1 البخاري: الجهاد والسير 2856 , ومسلم: الإيمان 30 , والترمذي: الإيمان 2643 , وابن ماجه: الزهد 4296 , وأحمد 3/260 ,5/230 ,5/236 ,5/238 ,5/242. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 136 بين الموحدين، والمعاداة للمشركين الجاحدين لتوحيد رب العالمين؛ والأدلة على هذا في الكتاب والسنة كثير. فالمشرك عدو لله وعدو لأهل توحيده وطاعته، ولذلك أوجب الله تعالى على الموحدين مقاطعة المشركين وجهادهم، كقوله: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ} [سورة التوبة آية: 29] الآية. وقال تعالى {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} : [سورة التوبة آية: 5] . والآيات بالأمر بجهادهم وجهاد إخوانهم من المنافقين كثيرة، فأوجب جهادهم والبراءة منهم في أكثر سور القرآن، منطوقا ومفهوما؛ لكن لا يتفطن لهذا الأصل إلا من استنار قلبه بأنوار التوحيد، علما وعملا. وبهذا المعنى جاء الحديث: اللهم اجعلنا هداة مهتدين، غير ضالين ولا مضلين، سلما لأوليائك، حربا لأعدائك، نحب بحبك من أحبك، ونعادي بعداوتك من خالفك 1. فلا ضلال أضل، ولا ظلم أعظم، من وضع حق الله تعالى من العبادة في غير موضعه، بأن يصرف لمخلوق ميت غائب، ولا ينفع ولا يضر. قال تعالى {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} : [سورة النحل آية: 73] الآية. وقال تعالى {قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [سورة المائدة آية: 76] .   1 الترمذي: الدعوات 3419. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 137 وقال تعالى {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ} : [سورة الأنعام آية: 40-41] الآية. فمن رزق في القرآن علما وفهما، تبين له حقيقة الإسلام والإيمان. فيا من نصح نفسه، إياك إياك أن تشتغل بشهواتك ومألوفاتك عن توحيد ربك، وما يجب له عليك، من الإخلاص والطاعة، وما أوجبه لرسوله صلى الله عليه وسلم من الاقتداء به والمتابعة; فما أخسر من أخذ الجهل بدلا عن الدين، وأخذ الأماني والشك عوضا عن الإيمان واليقين! قال أبو العالية رحمه الله: تعلموا الإسلام، فإذا علمتموه فلا ترغبوا عنه. وعليكم بالصراط المستقيم، فإنه الإسلام، ولا تحرفوه يمينا وشمالا. فلقد صدق ونصح؛ فمن لم يتعلم الإسلام، ورغب عنه، أكثر التحريف والانحراف. فما أعظمها من مصيبة! وما أجدرها بالعقوبة! كما قال قتادة رحمه الله في حال من أعرض عن الدين: قد رأيتموهم والله خرجوا من الهدى إلى الضلال، ومن الجماعة إلى الفرقة، ومن الأمن إلى الخوف، ومن السنة إلى البدعة. فاستدركوا رحمكم الله ما فاتكم، وأقبلوا بقلوبكم على تعلم ما بعث الله به رسله، من توحيد ربكم. وارغبوا إليه واسألوه الثبات عليه، وأن يصرف همكم إلى العلم النافع، الجزء: 14 ¦ الصفحة: 138 والعمل الصالح. وإياكم والخلود إلى الأرض، والتمادي عن السنن والفرائض؛ فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: كل الناس يغدو، فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها 1. واعلموا رحمكم الله، أنه قد ورد في الأثر: ما نزل بلاء إلا بذنب، ولارفع إلا بتوبة وقد منع الله تعالى القطر من السماء، لما له فيه من الحكمة، ولا شك أن هذا من آثار الذنوب، وما يعفو الله عنه أكثر، وما دفع الله عنكم من العقوبات أعظم. فتوبوا إلى ربكم، كما قال تعالى {: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [سورة النور آية: 31] . وقال {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً} [سورة التحريم آية: 8ب] الآية، وائتمروا بالمعروف، وتناهوا عن المنكر، وتناصحوا في دينكم، وتحببوا إلى ربكم بالتوبة إليه، والإقبال عليه، والرغبة إليه بطاعته، واجتناب معصيته، لعل الله أن يدخلكم في رحمة منه وفضل، ويهديكم إلى صراط مستقيم، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.   1 مسلم: الطهارة 223 , والترمذي: الدعوات 3517 , وابن ماجه: الطهارة وسننها 280 , وأحمد 5/342 ,5/343 , والدارمي: الطهارة 653. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 139 [التذكير بأداء الفرائض ومن أهمها الصلوات الخمس وذكر الأدلة لها] وقال بعضهم، رحمه الله: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي شهدت وحدانيته بديع مصنوعاته، ونطقت بتسبيحه وتحميده جميع مخلوقاته، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، في ربوبيته وإلهيته، وأسمائه وصفاته. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، المصطفى من جميع برياته، الذي عرج به إليه، حتى رفعه فوق سبع سماواته، ففرض عليه خمسين صلاة، ثم شفع إلى ربه في التخفيف عن أمته، فصارت إلى خمس، وذلك من بركاته، اللهم صلّ على محمد وعلى آله، وأصحابه، وأهل موالاته. أما بعد: فإن الله جل ثناؤه، وتقدست أسماؤه إنما خلق عباده ليعبدوه بتوحيده، ويشكروه بأداء فرائضه التي افترض عليهم. ومن أفرضها: هذه الصلوات الخمس التي عظم الله شأنها في كتابه العزيز، وحض على المحافظة عليها، وأثنى على المحافظين عليها، والمقيمين لها الخاشعين فيها. فقال تعالى {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلاّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} : [سورة المؤمنون آية: 1-6] ، إلى قوله: الجزء: 14 ¦ الصفحة: 140 {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [سورة المؤمنون آية: 9-11] . وقال تعالى {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} : [سورة البقرة آية: 238] ، كما ذم في كتابه الذين يتغافلون عنها ويتكاسلون، فقال جل ذكره: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} [سورة الماعون آية: 4-5] . وقال بعد ذكر أنبيائه، وسجودهم لربهم: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً} [سورة مريم آية: 59] ، فمن حافظ عليها وأقام حدودها، فهو من المؤمنين، ومن ضيعها وتثاقل عنها، كان من الغافلين، وأدخل في مسمى المنافقين، {الذين وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاّ قَلِيلاً} [سورة النساء آية: 142] . ومن المحافظة عليها: المحافظة على أدائها، حيث ينادى لها في مساجد المسلمين، كما دل على وجوب الصلاة في الجماعة، نصوص الكتاب والسنة، وإجماع أهل التحقيق، من العلماء العارفين، قال تعالى {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [سورة البقرة آية: 43] . وقال تعالى {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 141 وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ} [سورة النساء آية: 102] . فلم يعذر تبارك وتعالى في الاجتماع لها، حال قتال المشركين. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء والفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوا. والذي نفسي بيده، لقد هممت أن آمر بحطب فيحطب، ثم آمر رجلا فيؤذن لها، ثم آمر رجلا فيصلي بالناس، ثم انطلق معي برجال معهم حزم من حطب، إلى قوم لا يشهدون الصلاة، فأحرق عليهم بيوتهم 1. وعن ابن أم مكتوم رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله: أنا ضرير شاسع الدار، وليس لي قايد يلائمني فهل تجد لي من رخصة، أن أصلي في بيتي؟ قال: هل تسمع النداء؟ قال: نعم، قال: لا أجد لك رخصة. وعن ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من سمع النداء فلم يمنعه من اتباعه عذر - قالوا: وما العذر؟ قال خوف أو مرض - لم تقبل منه الصلاة التي صلى 2. ويروى مرفوعا: لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد. وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: لقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق قد علم نفاقه، أو مريض. ولقد كان المريض يمشى به بين الرجلين حتى يأتي الصلاة وإن ;   1 البخاري: الأذان 657 , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة 651 , والترمذي: الصلاة 217 , والنسائي: الإمامة 848 , وأبو داود: الصلاة 548 ,549 , وابن ماجه: المساجد والجماعات 791 , وأحمد 2/314 ,2/319 ,2/367 ,2/376 ,2/416 ,2/472 , ومالك: النداء للصلاة 292 , والدارمي: الصلاة 1274. 2 أبو داود: الصلاة 551. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 142 رسول الله صلى الله عليه وسلم علمنا سنن الهدى، وإن من سنن الهدى: الصلاة في المسجد حيث يؤذن فيه، ولو أنكم صليتم في بيوتكم، كما يصلى هذا المتخلف في بيته، لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم. وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم تأخرا في أصحابه، فقال لهم: تقدموا وائتموا بي، وليأتم بكم من بعدكم، ولا يزال أقوام يتأخرون، حتى يؤخرهم الله عز وجل 1. وقال أبو هريرة: لأن تمتلي أذنا ابن آدم رصاصا مذابا، خير له من أن يسمع النداء فلم يجبه وقال عطاء بن أبي رباح: ليس لأحد من خلق الله في الحضر والسفر إذا سمع النداء رخصة أن يدع الصلاة وقال ابن عباس: من سمع النداء ثم لم يجب، لم يرد خيرا ولم يرد به. ويذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم من صلى في جماعة، فقد ملأ نحره عبادة. وروى أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم: من صلى أربعين يوما الصلاة في جماعة، ما يفوته منها تكبيرة الإحرام، كتب له براءتان: براءة من النفاق، وبراءة من النار. وقد ورد أنه إذا كان يوم القيامة يحشر قوم وجوههم كالكواكب الدرارى فتقول لهم الملائكة: ما أعمالكم؟ فيقولون: كنا إذا سمعنا النداء قمنا إلى الطهارة، لا يشغلنا غيرها; ثم يحشر طائفة وجوههم كالقمر، فيقولون بعد السؤال: كنا نتوضأ قبل الوقت; ثم يحشر طائفة أخرى   1 مسلم: الصلاة 438 , والنسائي: الإمامة 795 , وأبو داود: الصلاة 680 , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها 978 , وأحمد 3/34 ,3/54. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 143 وجوههم كالشمس فيقولون: كنا نسمع الأذان في المسجد; وكان بعض السلف يقول: منذ عشرين سنة ما أذن إلا وأنا بالمسجد; وفي رواية: ما فاتتني تكبيرة الإحرام خمسين سنة. فأين هذه الآثار، وأحوال السلف الصالح رضي الله عنهم، من أحوال السفهاء الغوغاء، الذين يشتغلون بسقي الحروث عن شهود الصلاة مع المسلمين في المساجد؟ والبطالين الذين يتكاسلون عنها؟ فهم نخالة في المسلمين، سقط لا خير فيهم، يصلحون أموال غيرهم بتضييع دينهم. [أجمع الوصايا وأنفعها الوصية بتقوى الله تعالى] وقال أيضا: الإمام فيصل بن تركي، رحمه الله تعالى وعفا عنه: بسم الله الرحمن الرحيم من فيصل بن تركي، إلى من يصل إليه هذا الكتاب من المسلمين، وفقهم الله تعالى بالتمسك بالدين، الذي بعث الله به جميع المرسلين، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فإن أجمع الوصايا وأنفعها، الوصية بتقوى الله تعالى، قال تعالى {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [سورة النساء آية: 131] . وتقوى الله: أن يعمل العبد بطاعة الله، على نور من الله، يرجو ثواب الله، وأن يترك معصية الله، على نور من الله، يخاف عقاب الله. ومعظم التقوى والمصحح لأعمالها توحيد الله الجزء: 14 ¦ الصفحة: 144 بالعبادة، وهو دين الرسل الذي بعثوا به إلى العالمين، وهو مبدأ دعوتهم لأممهم، وهو معنى كلمة الإخلاص، شهادة أن لا إله إلا الله، فإن مدلولها نفي الشرك في العبادة، والبراءة منه، وإخلاص العبادة لله وحده، كما قال تعالى {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [سورة الزمر آية: 2-3] . وقد بين الله سبحانه معنى هذه الكلمة، في كثير من الآيات المحكمات، قال تعالى {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ} [سورة الزخرف آية: 26] . فهذا معنى "لا إله"وقوله: إِلاّ الَّذِي فَطَرَنِي [سورة الزخرف آية: 27] ، فهو معنى "إلا الله"ثم قال تعالى: {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} [سورة الزخرف آية: 28] ، وهي: {لا إله إلا الله} . وقد عبر عنها بمعناها، من النفي والإثبات، قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [سورة البينة آية: 5] فالآيات في بيان توحيد العبادة، أكثر من أن تحصر. وهذا التوحيد هو الذي جحدته الأمم المكذبة للرسل، كما قال تعالى، عن قوم هود: {أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} [سورة الأعراف آية: 70] . وجحده مشركو العرب، ومن ضاهاهم من مشركي هذه الأمة، قال تعالى: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللَّهُ جَاءَتْهُمْ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 145 رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ} [سورة إبراهيم آية: 9] . وأما مشركوا العرب، فأخبر الله عنهم أنهم قالوا {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ وَانْطَلَقَ الْمَلأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلاّ اخْتِلاقٌ} [سورة ص آية: 5-6-7] . واحتج عليهم تعالى بما أقروا به من توحيد الربوبية، فإنه من أقوى الحجج عليهم فيما جحدوه من توحيد الإلهية، كما قال تعالى {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ} [سورة يونس آية: 31] إلى قوله: {فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} [سورة يونس آية: 31] . وأكثر الناس في هذه الأزمنة وقبلها، وقع منهم ما وقع من أولئك المشركين، وهم يقرؤون القرآن، فعموا وصموا عن هذا التوحيد وأدلته، التي هي أبين في قلب المؤمن من الشمس في وقت الظهيرة. فيا من يدعي معرفة هذا التوحيد، اعرف هذه النعمة وقدرها، فإنها أعظم نعمة أنعم الله بها على من عرفها وأحبها وقبلها، وعمل بها ولزمها; فقابلوها بالشكر، ولا تكفروها بالإعراض عنها، واحذروا أن يصدكم الشيطان عن ذلك. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 146 واعلموا أنه: قد غلط في هذا طوائف، لهم علوم وزهد، وورع وعبادة، فما حصل لهم من العلم إلا القشور، وقلدوا أسلافا {فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} [سورة المائدة آية: 77] . فيا لها من مصيبة ما أعظمها! وخسارة ما أكبرها! فلا حول ولا قوة إلا بالله. واحذروا النفوس الأمارة بالسوء، وفتنة الدنيا والهوى؛ فإن الأكثر قد افتتن بذلك، وظنوا أنهم قد سلموا وما سلموا، وتمنوا النجاة؛ والتمني رأس مال المفلس، نعوذ بالله من سخطه وعقابه. وأنت ترى أكثر الناس معبوده دنياه، لها يوالي وعليها يعادي، ولها يحب ويبغض، ويقرب ويبعد، قد اشتغل بها عما خلق لأجله، يبتهج بها ويفرح. وقد ذم الله تعالى ذلك، كما قال تعالى {إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} عند ذكره قارون {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [سورة القصص آية: 76-77] ، والصحيح: أنه الإيمان، والعمل الصالح. والإسلام والقرآن هما النعمتان العظيمتان، والفرح بهما محمود، ومحبوب إلى الله، قد أوجبه على عباده المؤمنين، كما قال تعالى {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [سورة يونس آية: 58] ، فسر الأول بالإسلام، والثاني بالقرآن. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 147 وقال بعض الصحابة: فضل الله الإسلام; ورحمته: أن جعلكم من أهله; فلا غنى لكم عن تعلم هذا التوحيد وحقوقه، من فرائض الله وواجباته، وأن يكون ذلك أكبر همكم ومحصل عملكم. ومن أهم ذلك: المحافظة على الصلوات الخمس، حيث ينادى لها، كما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعون بعدهم، ولذلك عمرت المساجد، وشرع الأذان فيها، كما قال تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [سورة البقرة آية: 238] . فلا بد في المحافظة من استكمال شروطها وأركانها وواجباتها؛ فمن حفظها حفظ دينه، ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع. والزكاة قرينة الصلاة في كتاب الله، كما سبق في الآية ونحوها، جعلها الله طهرة للأنفس والأموال، وزيادة وبركة، وحجابا من النار. فالتزموا ما شرعه الله وفرضه؛ فإن فيه صلاح قلوبكم ودينكم وأخراكم. نسأل الله التوفيق. واعلموا أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من فرائض الدين وأركانه; قال بعض السلف: أركان الإسلام عشرة: الشهادتان والصلاة والزكاة، وصوم رمضان وحج البيت، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد في سبيل الله، والجماعة، والسمع والطاعة؛ وهذه العشرة لا يقوم الإسلام حق القيام إلا بجميعها. والقرآن يرشد إلى ذلك جملة وتفصيلا، كما قال الجزء: 14 ¦ الصفحة: 148 تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [سورة آل عمران آية: 110] . وقال تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [سورة آل عمران آية: 104] . فالله الله عباد الله في مراجعة دينكم الذي نلتم به ما نلتم من النعم، وسلمتم به من النقم، وقهرتم به من قهرتم؛ فقوموا به حق القيام، وجاهدوا في الله حق جهاده، وعظموا أمره ونهيه؛ واعملوا بما شرعه الله، وتعطفوا على الفقراء والمساكين واليتامى، وآتوهم من مال الله الذي آتاكم، كما قال تعالى {جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ} [سورة الحديد آية: 7] . {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [سورة النور آية: 31] {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [سورة الحشر آية: 19-21] . فاقرؤوا هذه النصيحة في جميع البلدان، وانسخوها، وأعيدوا قراءتها في كل شهرين. واعلموا أنكم مستقبلين عاما جديدا، فتوبوا إلى الله. نسأل الله أن يوفقنا وإياكم للخير أجمعين. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 149 [الرغبة إلى الله بالدعاء والتوبة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر] وله أيضا قدس الله روحه، ونور ضريحه: بسم الله الرحمن الرحيم من فيصل بن تركي، إلى من يصل إليه هذا الكتاب من المسلمين، وفقنا الله وإياهم للتمسك بالدين، وجعلنا وإياهم من حزبه المفلحين. أما بعد: الحمد لله رب العالمين، حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، غير مكفى ولا مكفور، ولا مودع ولا مستغنى عنه ربنا، اللهم مغفرتك أوسع من ذنوبنا، ورجاؤك أرجى من أعمالنا، فاغفر لنا وارحمنا وعافنا واعف عنا. اللهم إنه روي لنا عن نبيك محمد صلى الله عليه وسلم أنه يخبر عنك، أنك قلت - وقولك الحق -: ابن آدم، إنك ما دعوتني ورجوتني، غفرت لك على ما كان منك ابن آدم، لو بلغت ذنوبك عنان السماء، ثم استغفرتني غفرت لك. ابن آدم؛ إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا، لأتيتك بقرابها مغفرة 1. اللهم اغفر لنا وللمؤمنين والمؤمنات، واكشف عنا من البلاء ما لا يكشفه غيرك. اللهم اهدنا سبل السلام، وأخرجنا من الظلمات إلى النور، وجنبنا الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وبارك لنا في أسماعنا وأبصارنا، وقواتنا ما أحييتنا. عباد الله ارغبوا إلى الله تعالى بالدعاء {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ   1 الترمذي: الدعوات 3540. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 150 جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [سورة النور آية: 31] . صلى الله عليه وسلمواجتنبوا نهيه، ففي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم1. وقد أمركم الله تعالى في كتابه بالتعاون على البر والتقوى، والأمر بالمعروف، والدعوة إلى ما يحبه الله ويرضاه; وقال تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [سورة آل عمران آية: 104] . وهذا أمر إيجاب لو تركه الناس أثموا وعوقبوا; فكونوا من ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على حذر عظيم، فقد تقاعد الأكثر عن هذين الأمرين الواجبين: الدعوة إلى دين الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فلا صلاح للخاصة والعامة في جميع القرى، إلا بطائفة حق، يدعون إلى الله، ويأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر؛ وفي ذلك صلاحهم وفلاحهم، في معاشهم ومعادهم؛ وبتركه يكثر الظلم والفساد. وأيضا فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من صفات المؤمنين، فبقوته يقوى الإيمان، وبضعفه يضعف الإيمان، قال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [سورة التوبة آية: 71] ، فذكر تعالى في هذه الآية أن   1 البخاري: الاعتصام بالكتاب والسنة 7288 , ومسلم: الحج 1337 , والنسائي: مناسك الحج 2619 , وابن ماجه: المقدمة 2 , وأحمد 2/247 ,2/258 ,2/313 ,2/355 ,2/428 ,2/456 ,2/467 ,2/482. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 151 ذلك [العمل بسببه] أعطاهم ما يحبون، ودفع عنهم ما يكرهون. وقال: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً وَإِذاً لآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً} [سورة النساء آية: 66-68] . فاستدفعوا عنكم عقوبة الغفلة بالإنابة إلى الله والتوبة النصوح. وتصدقوا، فإن الصدقة تطفئ غضب الرب، وتقي ميتة السوء، قال الله تعالى: {وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} [سورة الحديد آية: 7] . وقال تعالى: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سورة سبأ آية: 39] . وقال تعالى: {وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [سورة المزمل آية: 20ب] . وأنتم رحمكم الله من أهل كل بلد: ارغبوا إلى ربكم بطاعته، وتصدقوا، فإن أموالكم عوار، وإنما ينفح العبد منها ما قدمه لله، رغبة فيما عنده; فيا سعادة من هانت عليه الصدقة لله، يرجو بذلك رحمة الله; وباكروا بالصدقة، فإن البلاء لا يتخطاها. ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين، لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا لنكونن من الخاسرين، وصلى الله على محمد. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 152 [حث الإمام فيصل بن تركي للبعض على الصدقة] وقال أيضا، رحمه الله: بسم الله الرحمن الرحيم من فيصل بن تركى، إلى الإخوان: حمد بن حسن، وإبراهيم بن سلطان، وعبد الله بن حمد، ومحمد بن سعد، سلام عليكم، ورحمة الله وبركاته. وبعد: توكلوا على الله، تصدقوا، وحثوا الناس على الجزالة، لأن المصلحة عائدة إليهم، وتفرق على الفقراء والمساكين. نرجو الله أن يغنينا وإياكم، والسلام. [الوصية بالتعاون على البر والتقوى وتعلم دين الإسلام والإلزام بالأمر بالمعروف] وله أيضا رحمة الله: بسم الله الرحمن الرحيم من فيصل بن تركي، إلى من يراه من المسلمين، سلمهم الله تعالى، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أما بعد: فموجب الخط إبلاغكم السلام، والسؤال عن حالكم، لا زلتم بخير وعافية، والذي أوصيكم به، تقوى الله، وخشيته في الغيب والشهادة، والعمل بما يرضيه، وتجنب معاصيه، والمعاداة والموالاة فيه. قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [سورة المائدة آية: 2] . وأهم الأمور: تعلم دين الإسلام بأدلته، من الجزء: 14 ¦ الصفحة: 153 الكتاب والسنة، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وسائر فرائض الدين وواجباته. وقوام ذلك: بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، فلا بد في كل ناحية طائفة متصدية لهذا الأمر، كما قال تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [سورة آل عمران آية: 104] . وأنا ملزم كل من يخاف الله، ويرغب في الفلاح أن يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، وأن يكون عليما فيما يأمر به، عليما فيما ينهى عنه، حليما فيما يأمر به، حليما فيما ينهى عنه، رفيقا فيما يأمر به، رفيقا فيما ينهى، وألزم كل أمير يكون عونا لهم، وهم خاصته في الحقيقة، عونا له على ما حمله الله تعالى من الأمانة. ويكون لديكم معلوما أني واضع الجوائز عن المسلمين من أهل نجد، الحادر منهم والظاهر، إذا كانوا معروفين بأداء الزكاة من أموالهم الظاهرة والباطنة، وهي راجعة إليهم على الوجه المشروع، إن شاء الله. والمطلوب منكم الاستقامة على هذا الدين، والاجتماع عليه؛ وقد رأيتم ما في الجماعة من المصالح العامة والخاصة، وما في التفريق من الشر في أمر الدين والدنيا. أسأل الله تعالى أن يمن علينا وعليكم بالقبول، والعفو والعافية في الدنيا والآخرة، والسلام. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 154 [الوصية بتقوى الله مع ذكر الأدلة وتوضيح معناها والحث على إقامة الدين] وله أيضا، عفا الله عنه: بسم الله الرحمن الرحيم من فيصل بن تركي، إلى من يصل إليه هذا الكتاب من جماعة المسلمين، سلمهم الله تعالى من عقوبات الدنيا والآخرة، وألبسهم ملابس الإيمان الفاخرة، وأيدهم وعافاهم، ووفقهم وهداهم إلى صراطه المستقيم، ورزقهم الفقه في دينه القويم. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فأوصيكم وإياي بتقوى الله تعالى، في الغيب والشهادة، والسر والعلانية، فإنها وصية الله للأولين والآخرين، قال تعالى {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [سورة النساء آية: 131] . قال طلق بن حبيب رحمه الله: التقوى أن تعمل بطاعة الله على نور من الله، ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله على نور من الله، تخاف عقاب الله. ووصى عباده المؤمنين أن يتقوه، فقال: {َيا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [سورة الحديد آية: 28] . وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [سورة آل عمران آية: 102] . قال أهل العلم في معنى الآية; حق تقاته: أن يطاع فلا يعصى، الجزء: 14 ¦ الصفحة: 155 ويذكر فلا ينسى، ويشكر فلا يكفر؛ وهذا جماع الدين; وعن ابن عباس في هذه الآية {حَقَّ تُقَاتِهِ} [سورة آل عمران آية: 102] . أن يجاهد في سبيله حق جهاده، ولا يأخذه في الله لومة لائم، ويقوموا بالقسط ولو على أنفسهم وآبائهم وأبنائهم. وقوله: {وَلا تَمُوتُنَّ إِلاّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [سورة آل عمران آية: 102] ، أي: حافظوا على الإسلام في حال صحتكم وسلامتكم لتموتوا عليه؛ فإن الكريم قد أجرى عادته بكرمه أنه من عاش على شيء مات عليه، ومن مات على شيء بعث عليه؛ فعياذا بالله الكريم من خلاف ذلك. ثم قال: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} [سورة آل عمران آية: 103] ، قال أهل العلم: حبل الله القرآن، كما في حديث علي مرفوعا، في صفة القرآن: هو حبل الله المتين، وصراطه المستقيم 1. وعن ابن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن هذا القرآن هو النور المبين، وهو الشفاء النافع، عصمة لمن تمسك به، ونجاة لمن اتبعه 2. وقال بعض السلف: هو إخلاص التوحيد لله تعالى، قال أبو العالية: يقول: اعتصموا بالإخلاص لله وحده; قلت: وذلك لأن الإخلاص أعظم ما أمر الله به في كتابه، ومعنى الاعتصام التمسك بتوحيد الله، والعمل بكتابه. وقد حث الله عباده المؤمنين في هذه الآية على   1 الترمذي: فضائل القرآن 2906 , والدارمي: فضائل القرآن 3331. 2 الدارمي: فضائل القرآن 3315. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 156 الاجتماع على ذلك، فقال {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} [سورة آل عمران آية: 103] ، فأمر بالاجتماع على ذلك، ونهى عن التفرق، لما في الاجتماع من صلاح الدين والدنيا؛ وبالاجتماع على الإسلام، تحصل الألفة والعافية، والأمن والراحة؛ فإذا كان ذلك على طاعته، والعمل بكتابه، تمت النعمة. ومن أعظم أسباب حصول ذلك ما ذكره المفسرون في معنى قول الله تعالى آمرا نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول {رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَاناً نَصِيراً} [سورة الإسراء آية: 80] . قال قتادة: إن نبي الله صلى الله عليه وسلم علم أن لا طاقة له بهذا الأمر إلا بسلطان فسأل الله سلطانا نصيرا لكتاب الله، ولحدود الله، ولفرائض الله، ولإقامة دين الله. فإن السلطان رحمة من الله، جعله بين أظهر عباده، لولا ذلك لأغار بعضهم على بعض، فأكل شديدهم ضعيفهم; واختار بعض هذا القول في معنى هذه الآية، ورجحه; قال: لأنه لا بد مع الحق من قهر لمن عاداه وناوأه. واستشهد على هذا المعنى بقول الله تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [سورة الحديد آية: 25] . الجزء: 14 ¦ الصفحة: 157 ثم ذكر عباده المؤمنين ما أنعم به عليهم من جلائل النعم، فقال: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [سورة آل عمران آية: 103] ، فيا لها نعما ما أجلها وأعظمها، لمن عقلها وعرفها حق معرفتها. وكانت حالكم قبل دعوة الإسلام والجهاد والاجتماع على ذلك تشبه ما قال قتادة رحمه الله: كان هذا الحي من العرب أذل الناس ذلا، وأشقاه عيشا، وأبينه ضلالة، وأعراه جلودا، وأجوعه بطونا، مكفوفون على رأس حجر، بين الأسد من فارس والروم. لا والله ما في بلادهم يومئذ، من شيء يحسدون عليه، من عاش منهم عاش شقيا، ومن مات ردى في النار، يؤكلون ولا يأكلون. والله ما نعلم قبيلا يومئذ من حاضر الأرض، كانوا منها أصغر حظا، وأدق فيها شأنا منهم، حتى جاء الله عز وجل بالإسلام، فورثكم به الكتاب، وأحل لكم به دار الجهاد، ووسع لكم به من الرزق، وجعلكم فيه ملوكا على رقاب الناس. وبالإسلام أعطى الله ما رأيتم، فاشكروا نعمة الله، فإن ربكم منعم يحب الشاكرين، وإن أهل الشكر في مزيد الله تعالى ربنا وتبارك انتهى كلامه رحمه الله. وأنتم اليوم تتقلبون في نعم الإسلام الباطنة والظاهرة، وقد عافاكم الله تعالى مما ابتلى به كثيرا من الأمم، في دينهم الجزء: 14 ¦ الصفحة: 158 ودنياهم، فاشكروا الله تعالى على أصل هذه النعم، والجامع لها، وهو دين الإسلام، وارغبوا فيه وحافظوا على فرائضه، وتجنبوا حدوده {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [سورة المائدة آية: 2] . وقوموا بما أمركم الله به، في هذه الآية، من قوله تعالى {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [سورة آل عمران آية: 104] . وقال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [سورة آل عمران آية: 110] . وذلك من أعظم أعمال الشكر، وأعمها نفعا؛ فيه يظهر الدين، وتصلح أحوال الناس، ويعود نفعه عليهم في معاشهم ومعادهم؛ وهو من النصيحة لله ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم. فليكن ذلك همكم، وارغبوا في ذلك كما رغب فيه سلفكم الذين بهم قام الدين، وبذلك حصل لهم العز والتمكين؛ فإنهم ساروا بسيرة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد كانوا بحمد الله على الهدى المستقيم، والدين القويم. فانهضوا إلى هذه المهمات العظيمة، واحذروا مما حذركم الله عنه من الإعراض عن كتاب الله، الذي بتدبره والعمل به، سعادتكم في الدنيا والآخرة، وسلامتكم من النار، ومن المعاصي، ومن غضب الجبار، لعل الله تعالى الجزء: 14 ¦ الصفحة: 159 برحمته أن يفعل ذلك بكم، ويسكنكم دار القرار. وأنا ملزم أئمة المساجد، من أهل نجد والإحساء وغيرهم، بسؤال الخاصة والعامة عن أصل الدين كثلاثة الأصول والقواعد الأربع، فإن فيها البيان، وأصل الإسلام والإيمان. وأوصيكم بالصدقة على فقرائكم، من أهل كل بلد، كما قال تعالى: {وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [سورة البقرة آية: 110ب] ، ويحصل الخلف والبركة فيما في أيديكم، كما قال تعالى: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سورة سبأ آية: 39] ، وبها يدفع الله البلاء، كما جاء في الحديث: إنها تنفع مما نزل ومما لم ينْزل. وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بالصدقة، وتلا قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [سورة النساء آية: 1] . وفي هذه الآيات من المناسبة في الصدقة: أن أصل الغني والفقير واحد، فلا يمنع الغني أخاه الفقير مما أعطاه الله، شكرا لله على أن جعله غنيا، وجعل من هو مثله محتاجا إليه، وفيها الحث على صلة الأرحام. فتدبروا كتاب الله، وقفوا عند عجائبه ومقاصده، وحركوا به القلوب، والسلام. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 160 [ذكر ما أنعم الله به من ظهور الشيخ ابن عبد الوهاب وتلقي محمد بن سعود له] وقال الإمام: عبد الله بن فيصل، والشيخ عبد الرحمن بن حسن، وابنه الشيخ عبد اللطيف، رحمهم الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين; وصلى الله على سيد المرسلين، محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. من عبد الله بن فيصل، وعبد الرحمن بن حسن، وعبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى من يصل إليه من علماء المسلمين، وأمرائهم، وعامتهم، جعلنا الله وإياهم ممن عرف النعمة وشكرها، وصرفها في طاعة من أنعم بها ويسرها، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فالذي أوجب هذا الكتاب، ذكر ما أنعم الله به عليكم من نعمة الإسلام، الذي عرفكم به، وهداكم إليه، وتسمون به، فلا يعنى باسم المسلمين إلا أنتم; وما أعطاكم الله في هذا الدين من النعم أكثر من أن تحصى، لكن منها نعم كل واحدة منها حصولها نعمة عظيمة، لأن المعارض لها قوي جدا. أوّلها: كون الدعوة إلى دين الإسلام ما قام في بيانها والدعوة إليها إلا رجل واحد، فلما شرح الله صدره واستنار قلبه بنور الكتاب والسنة، تدبر الآيات، وطالع كتب الجزء: 14 ¦ الصفحة: 161 التفسير، وأقوال السلف في المعنى، والأحاديث الصحيحة. سافر إلى البصرة ثم إلى الإحساء والحرمين، لعله أن يجد من يساعده على ما عرف من دين الإسلام، فلم يجد أحدا; كلهم قد استحسن العوائد، وما كان عليه غالب الناس في هذه القرون المتأخرة إلى منتصف القرن الثاني عشر. ولا يعرف أن أحدا دعا فيها إلى توحيد العبادة، أو أنكر الشرك المنافي له; بل قد ظنوا جواز ذلك أو استحبابه، وذلك قد عمت به البلوى من عبادة الطواغيت، والقبور والجن، والأشجار والأحجار، في جميع القرى والأمصار، والبوادي وغيرهم، فما زالوا كذلك إلى القرن الثاني عشر. فرحم الله كثيرا من هذه الأمة بظهور شيخ الإسلام: محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله، وكان قد عزم وهو بمكة أن يصل الشام مع الحاج، فعاقه عنهم عائق، فقدم المدينة فأقام بها، ثم إن العليم الحكيم رده إلى نجد، رحمة لمن أراد أن يرحمه بمن يؤيه وينصره. وقدم على أبيه وصنوه وأهله ببلد حريملاء، فبادأهم بالدعوة إلى التوحيد ونفي الشرك، والبراءة منه ومن أهله، وبين لهم الأدلة على ذلك من الكتاب والسنة، وكلام السلف والعلماء، رحمهم الله، فقبل منه من قبل وهم الأقلون. وأما الملأ والكبراء الظلمة الفسقة، فكرهوا دعوته، فخافهم على نفسه، وأتى العيينة وأظهر الدعوة بها، وقبل منه الجزء: 14 ¦ الصفحة: 162 كثير منهم، حتى رئيسهم عثمان بن حمد بن معمر. ثم إن أهل الأحساء - وهم خاصة العلماء - أنكروا دعوته، وكتبوا شبهات تنبئ عن جهلهم وضلالهم، وأغروا به شيخ بني خالد، وكتبوا لابن معمر أنه يقتل هذا الشيخ أو يطرده، فما تحمل مخالفته فنفاه من بلده إلى الدرعية. فتلقاه محمد بن سعود، رحمه الله، بالقبول وبايعه على أن يمنعه مما يمنع منه أهله وولده، وهذه أيضا نعمة عظيمة، كون الله أتاح له من ينصره ويؤويه، والذي أقوى من ابن سعود وأكثر لم يحصل منه ذلك، وصبر محمد على عداوة الأدنى والأقصى، أهل نجد والملوك من كل جهة. وبادأهم دهام ابن دواس بالحرب، فهجم على الدرعية على غرة من أهلها، وقتل أولاد محمد، فيصل وسعود، فما زاد محمد إلا قوة وصلابة في دينه، رحمه الله، على ضعف منه وقلة في العدد والعدة، وكثرة من عددهم، وذلك من نعمة الله وآياته علينا وعليكم; فرحم الله هذا الشيخ، الذي أقامه الله مقام رسله وأنبيائه، في الدعوة إلى دينه، ورحم الله من آواه ونصره، فلله الحمد على ذلك. وفيما جرى من ابن سعود، شبه بما جرى من الأنصار في بيعة العقبة; ثم إن أهل نجد وبني خالد وأهل العراق والأشراف، والبوادي والقرى، تجردوا لعداوة هذا الشيخ، ومن آواه ونصره، وأقبلوا على حربهم بحدهم وحديدهم، وكثرة جنودهم وكيدهم. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 163 فأبطل الله كيد كل من عاداهم، وكل من رام من هؤلاء الملوك أن يطفئ هذا النور، أطفأ الله ناره وجعلها رمادا، وجعل كثيرا من أموالهم فيئا للمسلمين، وهذه عبرة عظيمة ونعمة جسيمة. ثم إن الله بفضله وإحسانه: أظهر هذا الدين في نجد، وأذل من عاداه، فعمت النعمة أهل نجد، ومن والاهم شرقا وغربا، وحفظ الله عليكم نعمة الإسلام، التي رضيها سبحانه لعباده دينا، فلم يقدر أحد أن يغيرها بقوته وقدرته. فاشكروا ربكم سبحانه، الذي حفظ عليكم دينكم، ورد لكم الكرة على من خرج عنه، وذلك بالإقبال على التوحيد، تعلما وتعليما، والأمر بما يحبه الله من طاعتة، والنهي عما نهى الله عنه من المعاصي. وفي كلام بعض العلماء ما يبين حال كثير من هذه الأمة قبل هذه الدعوة، من الشرك العظيم; فمن ذلك قول عالم صنعاء، الأمير: محمد بن إسماعيل، رحمه الله، عن شيخ الإسلام: محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله وعفا عنه: وقد جاءت الأخبار عنه بأنه ... يعيد لنا الشرع الشريف بما يبدي وينشر جهرا ما طوى كل جاهل ... ومبتدع منه فوافق ما عندي ويعمر أركان الشريعة هادما ... مشاهد ضل الناس فيها عن الرشد أعادوا بها معنى سواع ومثله ... يغوث وود بئس ذلك من ود وقد هتفوا عند الشدائد باسمها ... كما يهتف المضطر بالصمد الفرد وكم عقروا في سوحها من عقيرة ... أهلت لغير الله جهرا على عمد الجزء: 14 ¦ الصفحة: 164 وكم طائف حول القبور مقبل ... ومستلم الأركان منهن باليد ثم إن الله لما جمعكم على إمام ترضونه، وقد حصل لكم من الأمن والراحة والعافية وكف أيدي الظلمة عنكم ما لا يخفى. ثم لما تبين من خلع الطاعة، وفارق الجماعة، وسعى في الخروج إلى ما لا يحبه الله ولا يرضاه، من الفتنة في الدين، وشق عصا المسلمين، أوقع الله به وبمن جمع بأسه، وقتل أشرار من معه، وأظهر الله جماعة المسلمين وإمامهم، على كل من أفسد، من قتل في هذه الفتنة أو نهب؛ وصاروا أذلة وحفظ الله عليكم الجماعة. فالواجب علينا وعليكم التواصي بهذه النعمة العظيمة، والتنافس في هذا الدين الذي من الله به عليكم، وهو الذي بعث الله به رسله وأنزل به كتبه، وأكمله ورضيه لعباده، كما قال تعالي {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [سورة المائدة آية: 3ب] ، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ} [سورة الحشر آية: 18-20] ، فاحذروا نسيان ربكم بالإعراض عما افترضه عليكم، وأقبلوا على توحيده وطاعته، واطلبوا بذلك الجنة والنجاة من النار. والحق في ذلك: على العلماء والأمراء أعظم، لأن الجزء: 14 ¦ الصفحة: 165 العامة يتبعونهم ويتقربون إليهم بما يحبونه، ومن أحب شيئا أكثر من ذكره، فكونوا أئمة في هذا الدين الذي هو معنى لا إله إلا الله؛ وقد بين الله معناها في آيات كثيرة من كتابه، فإنها دلت على نفي الشرك، والبراءة منه وممن فعله، وإخلاص العبادة لله وحده لا شريك له، وذلك في آي كثير. فمن ذلك قوله تعالى: {وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [سورة يونس آية: 105] : فقوله {وَجْهَكَ لِلدِّينِ} [سورة يونس آية: 105] : فيه الإخلاص، وحَنِيفاً فيه ترك الشرك. وقوله {وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [سورة يونس آية: 105] ، فيه البراءة منهم ومن دينهم. قال الله تعالى {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [سورة الزمر آية: 2-3] . والآيات في معنى لا إله إلا الله، أكثر من أن تحصر، كقوله {إِنِ الْحُكْمُ إِلاّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاّ تَعْبُدُوا إِلاّ إِيَّاهُ} [سورة يوسف آية: 40] . والمراد فتح الباب لكم في معنى التوحيد، الذي فيه الفلاح والنجاة، وصلاح الدنيا والآخرة؛ فلا تنسوا ربكم، بالإعراض عن الهدى، فينسيكم أنفسكم. ومن عقوبة الإعراض عمى البصيرة في الدنيا والآخرة. ولا باق معكم من دنياكم إلا دينكم، لمن من الله عليه بحفظه، والإقبال عليه والعمل به، وأنتم تفهمون أن الدنيا ما للإنسان منها إلا ما كان لله، وغير ذلك زائل. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 166 هذا ما نوصيكم به، وندلكم عليه: عامة العلماء والأمراء خاصة; فيجب على العلماء والأمراء: أن يكونوا صدرا في هذا الدين، بالرغبة فيه والترغيب، وأن يكونوا سندا لمن أمر بالمعروف، ونهى عن المنكر، ويتفقدون أهل بلدهم، في صلاتهم، وتعليمهم دينهم، وكفهم عن السفاهة، وما يحرم عليهم، لأن الله تعالى سائلهم عنه. وبالله التوفيق، وصلى الله على سيد المرسلين محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وسلم تسليما. [الحث على معرفة دين الإسلام وقبوله والمسارعة إليه] وقال عبد الله بن فيصل، رحمه الله: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله بن فيصل، إلى من يراه من إخواننا المسلمين، أصلح الله لنا ولهم الحال والدين، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: لا يخفاكم أن أهم أمركم، وما كلفنا به من معرفة دين الإسلام، وقبوله، والمسارعة إلى العمل به؛ وهو الأصل الذي لا ينتفع بالأعمال إلا معه، ولا تصح ولا تنعقد العبادة إلا به، لأنه شرط في صحة جميع العبادات. وقد مدح الله من عباده الذين إذا مكنهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، ولله عاقبة الأمور; وذم تعالى في كتابه من فرط في هذا وأضاعه، قال تعالى بعد أن ذكر خواص أوليائه وأكابر الجزء: 14 ¦ الصفحة: 167 رسله {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً} [سورة مريم آية: 59ي] . وقد عرفتم ما حصل من التفريط والإضاعة في أصل الإسلام، حتى تلاعب الشيطان في كثير من الناس، وأخرجهم عنه بأمور وأحداث تنافي حقيقته، وتناقض مقصوده. من ذلك: ترك التمسك بما كان عليه صدر هذه الأمة وأئمتها، من إثبات صفات الكمال ونعوت الجلال التي وصف الرب بها نفسه، ووصفه بها نبيه، وتعرف بهما إلى عباده، والرغبة عن هذا إلى ما أحدثه المتكلمون ومن أخذ عنهم، من نفي حقائق الصفات، وسلب ما دلت عليه، كمن ينكر حقيقة استواء الله على عرشه، وعلوه بذاته على جميع مخلوقاته، كما أنكره جهم ومن تبعه. وكذلك: إنكار تكليمه تعالى لنبيه موسى عليه السلام، وأنه تكلم بالقرآن العظيم، وسمعه من الروح الأمين، وزعم أن القرآن الذي نزل به جبرائيل على محمد صلى الله عليه وسلم مخلوق، أو أنه عبارة عما في نفس الباري، وأن كلام الله هو المعنى القائم بنفسه. فإن هذه الأقوال تخرج بصاحبها إلى أودية الهلاك والضلال، وتحول بينه وبين الإسلام، كما قرره أكابر الأئمة من الأعلام. والواجب في هذا أن يوصف الله بما وصف به الجزء: 14 ¦ الصفحة: 168 نفسه، ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل؛ على هذا درج أئمة الإسلام، وأهل السنة والجماعة. ونبرأ إلى الله تعالى من الخروج عن سبيلهم، والرغبة عن هديهم ومنهاجهم; فمنها: الغلو في الأولياء والصالحين، ومجاوزة ما شرع في حقهم إلى رتبة وغاية لا تليق بالعباد، ولا يستحقها إلا إلله الذي له ملك السماوات والأرض، وذلك كدعاء الصالحين من الموتى والغائبين، والاستغاثة بهم في الحاجات والملمات والشدائد، ونحو ذلك من المطالب الدينية والدنيوية العاجلة والآجلة. وأصل الشرك وسبب حدوثه، هو: دعاء الأموات والغائبين، وطلب الحوائج منهم; وقد ابتلي بهذا كثير ممن يدعي الإسلام، وصرفوا للأموات خالص العبادة ولبها، ودعوهم رغبا ورهبا، وحجوا لقبورهم، وقربوا لها القرابين، وعظموها غاية التعظيم، بالنذر وعقد اليمين، وطافوا بقبورهم كما يطوف المسلم ببيت الله رب العالمين. وحصل من الخضوع والخشوع والانكسار، ما لا يحصل مثله في المساجد، وعند القيام بين أيدي العزيز الغفار، فانسلخوا بذلك من الإسلام والدين، ولم يبق معهم شيء من حقيقة أمر المسلمين، سوى مجرد القول والتلفظ بالشهادة، والله يعلم أن الأكثر كاذب فيما قال، وإن أكده وأعاده. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 169 وبعض من يعتقد في القبور، وصل غاية من الكفر والضلال ما وصل إليها جمهور المشركين الأولين والجهال، فاعتقدوا التدبير، والتعريف للموتى والصالحين، وقصدوهم على أن لهم تدبير العالم وما يجري فيه، وهذا مشهور عنهم، لا يتحاشون من إبدائه وإظهاره، لأن الشيطان أظهره في قالب الكرامة للأولياء والصالحين، وأوهمهم أنهم بذلك يصيرون لهم من المحبين والتابعين. وقد كثر هذا وابتلي به طائفة من الشيعة والرافضة الذين غلوا في أهل البيت، وتجاوزوا الحد في ذلك، حتى عبدوهم مع الله، ودعوهم لحوائجهم ونوائبهم، وتوكلوا عليهم، وسجدوا على ما ينقل من تربة بعضهم، وجعلوهم أربابا تعبد، وآلهة تقصد؛ وهذا غاية الكفر الموجب لسخط الله وغضبه والخلود في نار جهنم، في أمم قد خلت من قبل. فنعوذ بالله من ذلك، ومن الركون إلى أهل تلك الضلالات والمهالك. وأضافوا إلى ذلك مكفرات كثيرة، منها: مسبة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومسبة أم المؤمنين التي نزلت براءتها وتزكيتها في كتاب الله، من فوق سماواته، وقد قال تعالى، في الثناء على أصحاب رسوله {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ} [سورة التوبة آية: 100] . وقال تعالى {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ} [سورة الفتح آية: 18] . الجزء: 14 ¦ الصفحة: 170 إلى قوله {وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً} [سورة الفتح آية: 18] . وأبو بكر وعمر أولى الناس بذلك، ورؤساؤهم في كل خير. وعثمان بايع له رسول الله صلى الله عليه وسلم فضرب بيده اليمنى على الأخرى، وقال: هذه عن عثمان لأنه كان غائبا في بعض شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذه تزكية لعثمان، وشهادة له بحقائق الدين والإيمان؛ والله يقبل شهادة نبيه وتزكيته، ويقبلها أولو العلم من خلقه؛ وإنما يجحدها ويردها، أعداء الله ورسوله، وأعداء أوليائه المتقين. وقال تعالى {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [سورة الفتح آية: 29] الآية. وقال تعالى في خصوص الصديق {إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [سورة التوبة آية: 40] . وفي السنة من مناقب الصحابة ومآثرهم وتزكيتهم، ما لا يحصى إلا بكلفة; من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: لا تسبوا أصحابي، فإن أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه 1. وقال صلى الله عليه وسلم: إن الله اختارني، واختار أصحابي، فجعل لي منهم أظهارا وأنصارا وقال صلى الله عليه وسلم عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة 2.   1 البخاري: المناقب 3673 , ومسلم: فضائل الصحابة 2541 , والترمذي: المناقب 3861 , وأبو داود: السنة 4658 , وأحمد 3/11 ,3/54 ,3/63. 2 أبو داود: السنة 4607 , والدارمي: المقدمة 95. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 171 وقال رجل لابن عباس: أوصني; فقال: أوصيك بتقوى الله، وإياك وذكر أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فإنك لا تدري ما سبق لهم. وعن ابن مسعود، رضي الله عنه قال: إن الله نظر في قلوب العباد، فوجد قلب محمد صلى الله عليه وسلم خير قلوب العباد، فبعثه برسالته. ثم نظر في قلوب العباد، فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد، فاختارهم لصحبة نبيه، ونصرته، صلى الله عليه وسلم. وقال رضي الله عنه من كان منكم متأسيا فليتأس بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنهم كانوا أبر هذه الأمة قلوبا، وأعمقها علما، وأقلها تكلفا، وأقربها هديا، وأحسنها حالا; قوم اختارهم الله لصحبة نبيه، وإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم، واتبعوا آثارهم فإنهم كانوا على الصراط المستقيم. وقال رضي الله عنه: إنا نقتدي ولا نبتدي، ونتبع ولا نبتدع، ولن نضل ما تمسكنا بالأثر وقال رضي الله عنه إنا لغير الدجال أخوف عليكم من الدجال، أمور تكون من كبرائكم. فأيما امرأة أو رجل أدرك ذلك الزمان، فالسمت الأول، فإنا اليوم على السنة. وقال الأوزاعي: إمام أهل الشام: اصبر نفسك على السنة، واسلك سبيل سلفك الصالح، فإنه يسعك ما وسعهم، وهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم اختارهم الله له، الجزء: 14 ¦ الصفحة: 172 وبعثه فيهم وقال تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ} [سورة الفتح آية: 28] الآية. فمن أهم الواجبات الدينية والعقائد السلفية، موالاة جميع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومحبتهم، والكف عما شجر بينهم. والواجب على من نصح نفسه، وآمن بلقاء الله، وبالجنة والنار، أن يعرف دين الإسلام، وحقيقته، ويجتهد أشد الاجتهاد في الخلاص من هذه الموبقات والمكفرات العظام، التي لا يبقى معها من الإيمان والدين ما يوجب النجاة، يوم يقوم الناس لرب العالمين. ومن أهم الأمور، وآكد الأركان الإسلامية، إقامة الصلوات الخمس في أوقاتها بشروطها، وواجباتها، وإلزام الناس بذلك، وتشديد الإنكار على من أضاعها أو تركها. وأكثر السلف يرون كفر تارك الصلاة، بمجرد الترك، وكذلك سائر المباني الإسلامية، والأصول الإيمانية، التي لا يقوم الدين إلا بها، فعلى الناس كافة الأمر بها، والتعاون عليها، والنهي عن تركها، والتغليظ على تاركها. وعلى الأمراء والنواب في البلدان والقرى، تأديب التاركين، وتعزيرهم على الترك والتكاسل، وإلزام الناس بدين الله. ومن ترك الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، الجزء: 14 ¦ الصفحة: 173 من الأمراء وغيرهم، فقد ظلم نفسه، وأضاع نصيبه، وفرط في حق الله، وتعرض لسخطه، ومن الواجبات الدينية: النهي عن قربان الفواحش؛ ومن عرف من السفهاء وأولاد التجار المترفين، بالفسوق والفجور، وتعدّي الحدود الشرعية إلى خلعات الفجار، ومعاشرة الأشرار، فقد ألزمنا الأمير والنواب تعزيرهم بما يردعهم، وإلزامهم بما يصلحهم؛ وما يحتاج رفعه إلى ولي الأمر، فعليهم أن يرفعوه وينبهوا عليه. ومن الواجبات الدينية: النهي عن بخس المكاييل والموازين، وتفقد أهل الأسواق في ذلك؛ ومن ظهر منه هذا الذنب العظيم، فلا يمكن من البيع في السوق والجلوس فيه، بل يعزر تعزيرا بليغا. ومن الواجبات الدينية: نهي النساء عن مخالطة الرجال الأجانب، ومعاشرتهم في الأسواق والعيون وغير ذلك من المجامع التي يجتمعون فيها، فإن هذا وسيلة إلى وقوع الفاحشة وظهورها. وكذلك من الواجبات الشرعية: النهي عن الربا في المعاملات والمبايعات، وتأديب من فعله، وتنكيله، وطرده عن وطنه، قال الله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} إلى قوله {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [سورة البقرة آية: 278 - 279] . الجزء: 14 ¦ الصفحة: 174 وكل ما ذكر داخل في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالأِحْسَانِ} إلى قوله: {لعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [سورة النحل آية: 90] ، وصلى الله على محمد عبده ورسوله، وصحبه الطيبين الطاهرين. [الحث على لزوم الجماعة وعلى الجهاد وقبول النصيحة] وقال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن بن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، صب الله عليهم من شآبيب بره ووالى: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى من يصل إليه من المسلمين، وفقهم الله للبر والتقوى، وسلك بهم سبل الرشاد والهدى، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فقد سبق إليكم من النصائح، والتذكير بآيات الله، والحث على لزوم جماعة المسلمين، ما فيه كفاية وهداية، لمن أحيا الله قلبه، وأراد هدايته، وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: الدين النصيحة، قالها ثلاثا، قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم 1. فجعل الدين محصورا في النصيحة، لأنها تتضمن أصوله وفروعه، وقواعده المهمة، فيدخل فيها الإيمان بالله ومحبته، وخشيته والخضوع له وتعظيمه، وتعظيم أمره ونهيه، وتنْزيهه عما لا يليق بجلاله وعظمته، من تعطيل وإلحاد وشرك وتكذيب، لأن النصيحة لله خلوص الباطن والسر من الغش   1 مسلم: الإيمان 55 , والنسائي: البيعة 4197 ,4198 , وأبو داود: الأدب 4944 , وأحمد 4/102. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 175 والريب، والحقد والتكذيب، وكل ما يضاد كمال الإيمان ويعارضه. وكذلك النصيحة لكتابه، تتضمن العمل بمحكمه، والإيمان بمتشابهه، وتحليل حلاله وتحريم حرامه، والاعتبار بأمثاله، والوقوف عند عجائبه، ورد مسائل النّزاع إليه، وترك الإلحاد في ألفاظه ومعانيه. والنصح لرسوله يقتضي الإيمان به وتصديقه ومحبته، وتوقيره وتعزيره، ومتابعته، والانقياد لحكمه، والتسليم لأمره، وتقديمه على كل ما عارضه وخالفه، من هوى أو بدعة أو قول. والنصح لأئمة المسلمين: أمرهم بطاعة الله ورسوله، وطاعتهم في المعروف، ومعاونتهم على القيام بأمر الله، وترك مشاقتهم ومنازعتهم. والنصح لعامة المسلمين هو تعليمهم وإرشادهم لما فيه صلاحهم وفلاحهم، والرفق بهم، وكفهم عما فيه هلاكهم وشقاؤهم، وذهاب دينهم ودنياهم، من معصية الله ورسوله، ومخالفة أمره ومشابهة الجاهلين فيما كانوا عليه، من التفرق والاختلاف، وترك الحقوق الإسلامية. وفي الحديث: ثلاث لا يغل عليهن قلب رجل مسلم: إخلاص الدين لله، ومناصحة أئمة المسلمين، ولزوم جماعتهم، فإن دعوتهم تحيط من ورائهم 1 فأفاد أن هذه   1 ابن ماجه: المناسك 3056 , وأحمد 4/80 ,4/82 , والدارمي: المقدمة 227. لا الجزء: 14 ¦ الصفحة: 176 الثلاث لا يدعها المسلم، إلا لغل في قلبه; بل المسلم الصادق في إسلامه لا يكون إلا مخلصا دينه لله، مناصحا لإمامه، ملازما لجماعة المسلمين. وقد دل القرآن على هذا في غير موضع، كقوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [سورة آل عمران آية: 102-103] . فابتدأ الآية بالأمر بأن يتقى حق التقاة، وأمر بالتزام الإسلام، والعض عليه بالنواجذ حتى الممات، لأن قوله {ولا تَمُوتُنَّ إِلاّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [سورة آل عمران آية: 102] ، تحضيض وحث على التزامه في جميع أوقات العمر والساعات، ومن عاش على شيء مات عليه. وقد أمر بالاعتصام بحبله، وهو دينه وكتابه، أمرا عاما لجميع المكلفين، وسائر المخاطبين، لأن التقوى والتزام الإسلام يتوقف على ذلك، ولا يحصل المقصود منه إلا بالاعتصام بحبل الله، وترك التفرق والاختلاف، لما فيها من فساد الدين، وهدم أصوله وقواعده. ثم ذكرهم بنعمته عليهم، بتأليف قلوبهم، واجتماعها بعد العداوة والبغضاء؛ فإن التفرق والاختلاف عذاب وهلاك، الجزء: 14 ¦ الصفحة: 177 وشقوة في العاجل والآجل؛ والجماعة والائتلاف، رحمة وسعادة ونعيم، في العاجل والآجل. وأخبرهم أنهم كانوا على شفا حفرة من النار، بما كانوا عليه من الضلالة والجاهلية، فامتن عليهم وأنقذهم، واجتباهم وهداهم وجمع قلوبهم وشملهم بعد الفرقة والشتات، وأعزهم وأغناهم بعد الفقر والحاجات، فيا لها من نعم ما أجلها، ومواهب ما أعظمها، وأبراها لمن عقلها وشكرها. ولذلك ختم الآية بقوله: {بَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [سورة آل عمران آية: 103] ، فيه بيان الحكمة المقتضية لبيان الآيات، والتذكير بالنعم، وأن المراد بها حصول الاهتداء، وترك أسباب الشقاء والردى. وقد عرفتم ما كنتم عليه قبل هذه الدعوة الإسلامية، التي امتن الله بها على يد شيخنا رحمه الله تعالى، كنتم على جاهلية جهلاء، وضلالة عمياء، وبدعة صماء، لا شعور لكم بدينه الذي ارتضاه لنفسه، ولا دراية لكم بما يجب له من صفات كماله، وجلال قدسه، ولا معرفة لديكم بما شرعه من أمره ونهيه. كنتم على غاية من التفرق والاختلاف، فبصركم الله بهذه الدعوة المباركة من العمى، وسلك بكم سبيل السعادة والهدى، وعلمكم من دينه وشرعه ما اصطفاكم به، واختاركم على من ضل وغوى، وجمعكم بعد الفرقة، وألف الجزء: 14 ¦ الصفحة: 178 بين قلوبكم بعد العداوة والمشاقة، وأعزكم على من عاداكم بعد المسكنة والذلة. فاشكروه على هذه النعم العظيمة، بالتزام طاعته، والمسارعة إلى مرضاته ومغفرته، ولا تكونوا {الذين بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ} [سورة إبراهيم آية: 28] ، واشتروا الضلالة بالهدى، واستبدلوا السعادة بالشقاء، وتركوا البصيرة واختاروا العمى. وقد عرفتم أن الله افترض عليكم الجهاد في سبيله، وابتلاكم بأعداء دينه، ليعلم الذين صدقوا ويعلم الكاذبين، ولو شاء الله لانتصر منهم، ولكن ليبلو بعضكم ببعض. وما أجرى الله وابتلى به من الزعازع والمحن، من أكبر أسبابه، وأعظم موجباته: مخالفة الأمر الشرعي، وترك طاعة الله ورسوله والجهاد في سبيله، ولهذا يسلط العدو، وتنْزع المهابة من صدور أعدائكم، وتضربون بوطر الذلة والمهانة، كما جاءت به الآثار، وصحت به الأخبار، وشهد له النظر والاعتبار. كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 179 الْمُؤْمِنِينَ َا يا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ} إلى قوله {ظَاهِرِينَ} [سورةالصف آية: 10-14] . وفي الحديث: من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق 1. وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: إن في الجنة مائة درجة، أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله، ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض 2. فاتقوا الله عباد الله {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [سورة البقرة آية: 281] . جعلنا الله وإياكم ممن يقبل المواعظ والنصائح، ويدرأ أسباب المقت والفضائح، والسلام.   1 مسلم: الإمارة 1910 , والنسائي: الجهاد 3097 , وأبو داود: الجهاد 2502. 2 البخاري: الجهاد والسير 2790 , وأحمد 2/335 ,2/339. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 180 [رسالة الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى أهل الحوطة يذكرهم بنعمة الإسلام بسبب الشيخ ابن عبد الوهاب] وله أيضا، قدس الله روحه، ونور ضريحه 1. بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الإخوان من أهل الحوطة، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: اعلموا أن الله بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق، فالهدى هو العلم النافع، ودين الحق هو العمل الصالح، ولا يكفي أحدهما عن الآخر، في النجاة والسلامة، من الوعيد الدنيوي والأخروي. وقد من الله عليكم بدين الإسلام، واختصكم به دون كثير من الأنام، لما أتاح الله لكم شيخ الإسلام: محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى، فدعا إلى ما دعت إليه الرسل، من معرفة الله وخشيته وعبادته وحده لا شريك له، والقيام بالأركان الإسلامية، والأصول الإيمانية. فأعز الله بذلك من قبله ونصره، ورفع قدرهم وشأنهم، وجعلهم ملوكا، تهابهم الأمم، وينقاد لأمرهم جمهور العرب، باديتهم وحاضرتهم؛ ولم يزالوا كذلك قاهرين ظاهرين، حتى حدث ما حدث، ووقع ما وقع من الإعراض، والقسوة، والتمادي على معاصي الله. فسلط الله عليهم العدو، وافترقت الكلمة، وانخرم   1 وله نصيحة أخرى تقدمت في الجزء الأول لمناسبتها هناك. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 181 النظام، وعثا الفجرة اللئام، في دماء أهل الإسلام وأموالهم، وكثر الخوض، ونسي العلم، والتبس أمر التوحيد والإيمان على كثير من الخلق، وصارت فتنة عمياء صماء، لا يبصر صاحبها ولا يسمع، وما زال غمامها لم ينقشع، وليلها يحلو لك ولا يدبر، وأبناؤها بساحتكم تحاول إطفاء نور الله. فسارعوا وبادروا إلى التوبة والإقلاع والندم والاستغفار، وتعاونوا على البر والتقوى، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ} [سورة الأعراف آية: 170] . فراجعوا دينكم قبل أن يحل من أمر الله ما لا تدفعون، وينْزل من بأسه ما لاتردون {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [سورة آل عمران آية: 104] . ويجب على من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، أن يعينهم بحسب طاقته، بيده أو بلسانه؛ وهذا من أسباب بقاء التوحيد فيكم والإسلام، وحمايتكم دياركم عن عباد الأوثان والأصنام، وحفظ ما خولكم الله من سوابغ الفضل والإنعام، وكثير من الناس يحصل منهم أسباب، ووسائل وذرائع، إلى زوال النعم؛ وحلول السخط والنقم. منها: التهاون بنعمة الإسلام والتوحيد، واختلاف القلوب، والعدواة الظاهرة، وترك نصرة الإسلام والتوجع لمصابه، والإقبال على الدنيا، ونسيان الآخرة، والاستخفاف الجزء: 14 ¦ الصفحة: 182 بالأركان الإسلامية، كإضاعة الصلاة، ومنع الزكاة، وأخذها بغير حقها، وترك السمع والطاعة لولي الأمر، من الأمراء والعلماء. فهذه أسباب وعلامات على نزول العقوبة، وحلول النقمة، وانتقال النعمة، قال تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً} [سورة الإسراء آية: 16] . وبلادكم ليست على الحال الأولى في مبدإ الإسلام وبعده، والعاقل يعرف ذلك في نفسه، وأهل بلده. وقد ذم الله تعالى من قست قلوبهم، ولم يتضرعوا عند حلول بأسه وانتقامه، فقال تعالى:: {فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [سورة الأنعام آية: 43] . وذم تعالى من ليس فيهم بقية ينهون عن الفساد في الأرض، ويأخذون على أيدي السفهاء، فقال تعالى: {فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ} [سورة هود آية: 116] . يخبر تعالى أنهم اتبعوا الشهوات، وآثروا اللذات، فكانوا من جملة المجرمين. وقال تعالى:: {فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} [سورة يونس آية: 98] . فدلت هذه الآية على أن الجزء: 14 ¦ الصفحة: 183 الإيمان والعمل الصالح يكشف العذاب عند نزوله، ويمنع به المؤمن حينا من الدهر. وقد أمدكم الله بنعمه، وعمر بلدكم ومساكنكم بالإسلام، والسمع والطاعة، فاحذروا الرجوع على أعقابكم، وتبديل النعمة، قال تعالى:: {سَلْ بَنِي إِسْرائيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [سورة البقرة آية: 211] . وقال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَأٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ} إلى قوله {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} [سورة سبأ آية: 15 –19] . فتدبروا ما في هذه الآيات الكريمات، التي هي من أوضح الواضحات، وأبين الحجج والبينات، وتفطنوا فيما ذكر من الإعراض عن الشكر، وما اقتضاه من العقوبة والعذاب، وفقنا الله وإياكم لتدبر القول وحسن العمل والختام، وصلى الله على محمد. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 184 [رسالة الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى شيخ المدرسين بحرم الرسول لما شاع في البلاد من الفساد] وله أيضا، جعل الله له لسان صدق في الآخرين: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا، وجعل في كل زمان فترة من الرسل، بقايا من أهل العلم، يجددون ما اندرس من أعلام الملة والدين تجديدا. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأكبره تكبيرا، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أرسله بين يدي الساعة بشيرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، وصلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، الذين آمنوا به، وعزروه ونصروه، وسلم تسليما كثيرا. إلى جناب المفضل، والشيخ المبجل، شيخ المدرسين والمتصدرين بحرم الرسول، ومن لديه من العلماء الأفاضل الفحول، بعد إهداء السلام والتحية، لأنصار الملة الحنيفية، وحماة الشرعة المحمدية، صدرت هذه الرسالة، وسودت هذه العجالة. لما شاع في البلاد العربية، اليمنية منها والعراقية، التهامية والنجدية، وما دهم الإسلام وعراه، وأناخ بحرمه وحماه، من الخطب العظيم، والهول الجسيم، والكفر الواضح المستبين، والأمر بهدم أظهر شعار الملة والدين، وأن لا ينادى بالصلوات الخمس في أوقاتها بالتأذين. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 185 والأمر بهتك ستر حرم المسلمين، وكشف وجوههن للفجرة والفاسقين، تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدّا، وتطير قلوب أهل الإسلام إعظاما لشناعته وكفره وردا، كيف تهدم قواعد الملة والإسلام، وتظهر شعار الكفر وعبادة الأصنام، وترفع راياتها بين الأنام بالحرم والبلدة الحرام؟!. : فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ} [سورة هود آية: 116] . أما في الزوايا خبايا؟ أما للعلم والرجال بقايا؟. وقد قال صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم، لما وفد عليه بعد أن فر إلى الشام هاربا: ما يفرك؟ أتفر أن يقال: الله أكبر؟ فهل تعلم شيئا أكبر من الله؟ 1 فتعسا لها من حادثة وقضية، جاءت بهدم الإيمان والأركان الإسلامية، وقلع القواعد النبوية. يكاد لهذا المستجن بطيبة ... ينادي بأعلى الصوت يا آل هاشم وقد بلغنا عنكم ما يسر به نفوس المسلمين، من رد ذلك الإفك المبين، والواجب علينا وعليكم أعظم من ذلك، من الجد والاجتهاد في رفع أعلام أوضح الشرائع والمسالك. وقد تواترت عندنا - بحمد الله - الأخبار عن كافة العرب، من جميع الأقطار، بإنكار ذلك ورده، والحكم بأنه   1 الترمذي: تفسير القرآن 2954 , وأحمد 4/378. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 186 من أظهر شعار الكفار، ومن فعله وجب معاجلته بالحرب والدمار، والكل منهم يعاهد على أنه السابق في تلك الحلبة والمضمار. فاستعينوا بالله واصبروا، واعلموا أن أنصاركم ومددكم جميع أهل الإسلام، وذوو البصائر من أهل النخوة والإقدام. فإياكم إياكم والمداهنة، والتساهل في الجهاد والإنكار، فتزل قدم بعد ثبوتها وتهوي إلى الدرك الأسفل من النار. كفى حزنا بالدين أن حماته ... إذا خذلوه قل لنا كيف ينصر قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِين َوَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُواً وَلَعِباً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ} [سورة المائدة آية: 57-58] . فتدبروا هذه الآية الكريمة، وتفطنوا لما دلت عليه أداة الشرط، من نفي الإيمان عمن ترك التقوى، ولم يأتمر بما أمر به، ولم ينته عما نهي عنه، من موالاة أهل الكفر والردي، والعبرة بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب، كما هو متقرر عند أهل العلم والهدى. ونحن نعلم أن الله سينصر دينه، ويعلي كلمته، وأنه لا يصلح عمل المفسدين؛ ولكن نحب لكم الاعتصام بحبل الله، والدخول في جملة أنصاره،: {وَمَا النَّصْرُ إِلاّ مِنْ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 187 عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [سورة آل عمران آية: 126] . صلى الله عليه وسلموالمعهود عن الدولة العثمانية، من عهد السلطان سليم ابن السلطان بايزيد، من وقت ولايتهم على الحرمين الشريفين، من أوائل القرن العاشر إلى وقتنا، وأوائل عصرنا، هو: المبالغة في تعظيم الحرمين الشريفين، زادهما الله تشريفا وتكريما وتعظيما. فلعل هذه الحوادث، عن بعض النواب والوزراء، الذين لا خبرة لهم بسبيل الرشد والهدى، ولا علم لهم بأسباب السعادة والشقاء، وصلى الله على إمام المتقين، وعلى آله وصحبه والتابعين. [رسالة الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى عبد الرحمن الألوسي يحذره من أهل الشرك] وله أيضا رحمه الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى ذي الجناب المكرم، والفضل الباذخ المقدم، السيد عبد الرحمن الألوسي، سلك الله به سبل الاستقامة، وزينه بحلل التوفيق والكرامة، ورفعه إلى رتب السيادة والإمامة، سلام عليكم، ورحمة الله، وبركاته. أما بعد: فإنا نحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، كثير الخير، دائم المعروف على ما أولاه، من سوابغ نعمه، الباطنة والظاهرة، وما ألبسه من ملابس كرامته السنية الفاخرة، التي أعظمها وأجلها على الإطلاق، هدايته لدينه الجزء: 14 ¦ الصفحة: 188 الذي ارتضى لنفسه، واختص به أولياءه، وخاصة أهل كرامته وقدسه. مع أنه قد اطرد القياس بفساد أكثر الناس، وتركهم من الإسلام أصله الأعظم والأساس، وكثر الاشتباه في أبواب الدين والالتباس؛ وجمهورهم عكس القضية، في مسمى الملة الإسلامية، ولم يميزوا بينها وبين الملة القرشية، والسنة الجاهلية، فهم كما وصفهم الله تعالى، بقوله:: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} [سورة الفرقان آية: 44] . وكتابك الكريم وصل إلينا، وحسن موقعه لدينا، لما بلغنا عنك من إظهار الإسلام والسنة، وعيب أهل الشرك والبدعة، وطعنك على الدعاة إلى الضلال، وعيبهم بما يبدونه من سوء العمل، وشنيع المقال؛ وأن الله قمعهم بك، وقواك عليهم فأذلهم وأهانهم. فأبشر بثواب ذلك، واعتد به من أفضل أعمالك، وحسناتك، وفي الحديث: من أحيا شيئا من سنتي، كنت أنا وهو في الجنة كهاتين، وضم بين أصبعيه وفي الأثر: إن لله عند كل بدعة كيد بها الإسلام وليا لله يذب عنها، وينطق بعلاماتها، فاغتنم ذلك، وكن من صالح أهله. واحرص: أن يكون لك في ذلك جماعة وتلامذة، يقومون مقامك إن حدث بك حدث، فيكونوا أئمة بعدك، الجزء: 14 ¦ الصفحة: 189 ويجري لك مثل أجورهم إلى يوم القيامة، كما صح به الخبر فاعمل على بصيرة. وسر إلى الله بصلاح القصد والسريرة، وإياك أن يكون لك من أهل الشرك، الذين يعبدون الأولياء والصالحين، جليس أو صديق، فقد جاء الأثر: من جالس صاحب بدعة، نزعت منه العصمة، ووكل إلى نفسه. ومن مشى إلى صاحب بدعة، مشى في هدم الإسلام، وهذا في بدع لا تخرج عن الملة، فكيف بالشرك الذي يتضمن العدل والتسوية برب العالمين؟!. بل يتضمن مسبته تعالى وتقدس، فسبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين. هذا وشيخنا الوالد المكرم، والإمام الفاضل المقدم، يبلغانك السلام، والسلام على من لديك من الإخوان في الله، المحبين لجلاله، ورحمة الله وبركاته. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 190 صلى الله عليه وسلم [رسالة الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الإمام فيصل بن تركي يذكره بنعمة الله على خلقه وهي بعثة سيدنا محمد] وله أيضا، رحمه الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الإمام المكرم: فيصل بن تركي، وفقه الله لقبول النصائح، وجنبه أسباب الندم والفضائح، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فلا يخفى عليك أن الله تعالى ما أنعم على خلقه نعمة أجل وأعظم، من نعمته ببعثة عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم؛ فإن الله بعثه وأهل الأرض، عربهم وعجمهم، كتابيهم وأميهم، قرويهم وبدويهم، جهال ضلال، على غير هدي ولا دين يرتضى، إلا من شاء الله من غير أهل الكتاب. فصدع بما أوحي إليه وأمر بتبليغه، وبلغ رسالة ربه، وأنكر ما الناس عليه من الديانات المتفرقة، والملل المتباينة المتنوعة، ودعاهم إلى صراط مستقيم، ومنهج واضح كريم، يصل سالكه إلى جنات النعيم، ويتطهر من كل خلق ذميم. وجاءهم من الآيات والأدلة القاطعة، الدالة على صدق وثبوت رسالته ما أعجزهم وأفحمهم عن معارضته، ولم يبق لأحد على الله حجة؛ ومع ذلك كابر من كابر، وعاند من عاند، وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق. ورأوا أن الإنقياد له صلى الله عليه وسلم وترك ما هم عليه من النحل والملل، يجر عليهم من مسبة آبائهم، الجزء: 14 ¦ الصفحة: 191 وتسفيه أحلامهم، أو نقص رياستهم، أو ذهاب مأكلهم، ما يحول بينهم وبين مقاصدهم ومآربهم؛ فلذلك عدلوا إلى ما اختاروه من الرد والمكابرة، والتعصب على باطلهم والمثابرة. وأكثرهم يعلمون أنه محق، وأنه جاءهم بالهدى ودعا إليه، لكن في النفوس موانع، وهناك إرادات، ومؤاخاة ورياسات، لا يقوم ناموسها، ولا يحصل مقصودها، إلا بمخالفته وترك الاستجابة له وموافقته؛ وهذا هو المانع في كل زمان ومكان، من متابعة الرسل، وتقديم ما جاؤوا به، ولولا ذلك ما اختلف من الناس اثنان، ولا اختصم في الإيمان بالله وإسلام الوجه له خصمان. وما زال حاله صلى الله عليه وسلم مع الناس كذلك، حتى أيد الله دينه ونصر رسوله، بصفوة أهل الأرض وخيرهم، ممن سبقت له من الله السعادة، وتأهل بسلامة صدره لمراتب الفضل والسيادة؛ فأسلم منهم الواحد بعد الواحد، وصار بهم على إبلاغ الرسالة معاون ومساعد، حتى من الله على ذلك الحي من الأنصار، بما سبقت لهم به من الحسنى والسيادة الأقدار. فاستجاب لله ورسوله منهم عصابة حصل بهم من العز والمنعة، ما هو عنوان التوفيق والإصابة؛ وصارت بلدهم بلد الهجرة الكبرى، والسيادة الباذخة العظمى، هاجر إليها المؤمنون، وقصدها المستجيبون؛ حتى إذا عز جانبهم، الجزء: 14 ¦ الصفحة: 192 وقويت شوكتهم، أذن لهم بالجهاد، بقوله تعالى:: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [سورة الحج آية: 39] . ثم لما أشتد ساعدهم، وكثر عددهم أنزلت آية السيف، وصار الجهاد من أفرض الفروض، وآكد الشرائع الإسلامية؛ فاستجابوا لله ورسوله، وقاموا بأعباء ذلك، وجردوا في حب الله ونصرة دينه السيوف، وبذلوا الأموال والنفوس، ولم يقولوا كما قالت بنو إسرائيل لموسى:: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [سورة المائدة آية: 24] . فلما علم الله منهم الصدق في معاملته، وإيثار مرضاته ومحبته، أيدهم بنصره وتوفيقه، وسلك بهم منهج دينه وطريقه؛ فأذل بهم أنوفا شامخة عاتية، ورد بهم إليه قلوبا شاردة لاهية، جاسوا خلال ديار الروم والأكاسرة، ومحوا آثار ما عليه تلك الأمم العاتية الخاسرة. وظهر الإسلام في الأرض ظهورا ما حصل قبل ذلك، وعلت كلمة الله، وظهر دينه فيما هنالك. واستبان لذوي الألباب والعلوم من أعلام نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ما هو مقرر معلوم، ولم يزل ذلك في زيادة وظهور، وعلم الإسلام في كل جهة من الجهات مرفوع منصور، حتى حدث في الناس من فتنة الشهوات، والاتساع الجزء: 14 ¦ الصفحة: 193 والتمادي في فعل المحرمات، ما لا يمكن حصره ولا استقصاؤه. فضعفت القوى الإسلامية، وغلظت الحجب الشهوانية، حتى ضعف العلم بحقائق الإيمان، وما كان عليه الصدر الأول من العلوم والشأن؛ فوقعت عند ذلك فتنة الشبهات، وتوالدت تلك المآثم والسيئات، وظهرت أسرار قوله تعالى:: {كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [سورة التوبة آية: 69] الآية، وقوله صلى الله عليه وسلم: لتتبعن سنن من كان قبلكم 1. ولكن لله في خلقه عناية وأسرار، لا يعلم كنهها إلا العليم الغفار، من ذلك: أن الله تعالى يبعث لهذه الأمة، في كل قرن من يجدد لها أمر دينها، ويدعو إلى واضح السبيل ومستبينها، كي لا تبطل حجج الله وبيناته، ويضمحل وجود ذلك وتعدم آياته. فكل عصر يمتاز فيه عالم بذلك، يدعو إلى تلك المناهج والمسالك، وليس من شرطه أن يقبل منه ويستجاب، ولا أن يكون معصوما في كل ما يقول، فإن هذا لم يثبت لأحد دون الرسول. ولهذا المجدد علامة يعرفها المتوسمون، وينكرها المبطلون، أوضحها وأجلاها وأصدقها وأولاها؛ محبة الرعيل الأول من هذه الأمة، والعلم بما كانوا عليه من أصول الدين، وقواعده المهمة، التي أصلها الأصيل، وأسها الأكبر الجليل: معرفة الله بصفات كماله، ونعوت جلاله، وأن   1 البخاري: الاعتصام بالكتاب والسنة 7320 , وابن ماجه: الفتن 3994 , وأحمد 2/327. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 194 يوصف بما وصف به نفسه، ووصفه به رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير زيادة ولا تحريف، ومن غير تمثيل ولا تكييف، وأن يعبدوه وحده لا شريك له، ويكفروا بما سواه من الأنداد والآلهة. هذا أصل أديان الرسل كافة، وأول دعوتهم وآخرها، ولب شرائعهم وحقيقة ملتهم؛ وفي بسط هذه الجملة من العلم به وبشرعه ودينه، وصرف الوجوه إليه، ما لا يتسع له هذا الموضوع، وكل الدين يدور على هذا الأصل، ويتفرع عنه. ومن طاف البلاد وخبر أحوال الناس، منذ أزمان متطاولة، عرف انحرافهم عن هذا الأصل الأصيل، وبعدهم عما جاءت به الرسل من التفريع والتأصيل، فكل بلد وكل قطر، وكل جهة فيما نعلم، فيها من الآلهة التي عبدت مع الله، بخالص العبادات، وقصدت من دونه في الرغبات والرهبات، ما هو معروف مشهور، لا يمكن جحده ولا إنكاره. بل وصل بعضهم إلى أن الدعاء لمعبوده مشاركة في الربوبية بالعطاء والمنع والتدبيرات؛ ومن أنكر ذلك عندهم، فهو خارجي ينكر الكرامات; وكذلك هم في باب الأسماء والصفات، ورؤساؤهم وأحبارهم، معطلة، وكذلك يدينون بالإلحاد والتحريفات، وهم يظنون أنهم من أهل التزين والمعرفة باللغات. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 195 ثم إذا نظرت إليهم وسبرتهم، في باب فروع العبادات، رأيتهم قد شرعوا لأنفسهم شريعة، لم تأت بها النبوات. هذا وصف من يدعي الإسلام منهم، في سائر الجهات. وأما من كذب بأصل الرسالة، أو أعرض عنها، ولم يرفع بذلك رأسا، فهؤلاء نوع آخر، وجنس ثان، ليسوا مما جاءت به الرسل في شيء، بل هم كما قال تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالأِنْسِ} [سورة الأعراف آية: 179] الآية. فمن عرف هذا حق المعرفة، وتبين له الأمر على وجهه، عرف حينئذ قدر نعمة الله عليه، وما اختصه الله تعالى، إن كان من أهل العلم والإيمان، لا من ذوي الغفلة عن هذا الشأن. وقد اختصكم الله تعالى من نعمة الإيمان والتوحيد بخالصة، ومن عليكم بمنة عظيمة صالحة، من بين سائر الأمم وأصناف الناس، في هذه الأزمان، فأتاح لكم من أحبار هذه الأمة وعلمائهم حبرا جليلا، وعلما نبيلا، فقيها عارفا بما كان عليه الصدر الأول، خبيرا بما انحل من عرى الإسلام وتحول. فتجرد إلى الدعوة إلى الله، ورد هذا الناس إلى ما كان عليه سلفهم الصالح، في باب العلم والإيمان، وباب العمل الصالح والإحسان، وترك التعلق على غير الله، من الأنبياء والصالحين، وعبادتهم، والاعتقاد في الأحجار والأشجار، الجزء: 14 ¦ الصفحة: 196 والعيون والمغار، وتجريد المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم في الأقوال والأفعال، وهجر ما أحدثه الخلوف والأغيار؛ فجادل في الله وقرر حججه وبيناته، وبذل نفسه لله. وأنكر على أصناف بني آدم، الخارجين عما جاءت به الرسل، المعرضين عنه، التاركين له; وصنف في الرد على من عاند وجادل وماحل؛ وجرى بينهم من الخصومات والمحاربات ما يطول عده، وكثير بينهم يعرف بعضه. ووازره على ذلك من سبقت له من الله سابقة السعادة، وأقبل على معرفة ما عنده من العلم وأراده، من أسلافك الماضين وآبائك المتقدمين، رحمهم الله رحمة واسعة، وجزاهم عن الإسلام والمسلمين خيرا. فما زالوا من ذلك على آثار حميدة، ونعم عديدة، يصنع لهم تعالى من عظيم صنعه وخفي لطفه، ما هداهم به إلى دينه الذي ارتضاه لنفسه، واختص به من شاء كرامته وسعادته من خلقه، وأظهر لهم من الدولة والصولة ما ظهروا به على كافة العرب، فلم يزل الأمر في مزيد حتى توفى الله شيخ هذه الدعوة، ووزيره العبد الصالح رحمهما الله تعالى. ثم حدث فيهم من فتنة الشهوات ما أفسد على الناس الأعمال والإرادات؛ وجرى من العقوبة والتطهير ما يعرفه الفطن الخبير؛ ثم أدرككم من رحمته تعالى وألطافه، ما رد لكم به الكرة بعد الكرة، ونصركم ببركته المرة بعد المرة، ولله تعالى عليك خاصة نعم لا يحصيها العد الجزء: 14 ¦ الصفحة: 197 والإحصاء، ولا يحيط بها إلا عالم السر والنجوى. فكم أنقذك من هول وشدة، وكم أظهرك على من ناوأك، مع كثرة العدد منهم والعدة؛ ولم تزل نعمه عليك تترى، وحوله وقوته يرفعك إلى ما ترى، حتى آلت إليك سياسة هذه الشريعة المطهرة؛ وآل إليك ما كان إلى أسلافك ومن قبلهم، ممن قام بنصر الدين وأظهره. وقد عرفت ما حدث من الخلوف في الأصول والفروع، وما آل إليه الحال في ترك الأخذ بأحكام المنهج المشروع، حتى ظهر الطعن في العقائد، وتكلم كل كاره للحق معاند، وصار أمر العلم والعقائد لعبا لكل منافق، وحاسد، وكتب في الطعن على أهل هذه الملة الرسائل والأوراق، وتكلم في عيبهم وذمهم أهل البغي والشقاق. وصار أمر العلم والدين ممتهنا عند الأكثرين، من العامة والمتقدمين، وإقبالهم إنما هو على نيل الحظوظ الدنيوية، والشهوات النفسانية، وعدم الالتفات والنظر للمصالح الدينية، والواجبات الإسلامية؛ وتفصيل ذلك يعرفه من حاسب نفسه قبل أن يحاسب. والمؤمن من يعلم أن لهذه الأمور غائلة، وعاقبة ذميمة وخيمة، آخرها الأجل المقدور، وإلى الله عاقبة الأمور. فالسعيد من بادر إلى الإقلاع والمتاب، وخاف سوء الحساب، وعمل بطاعة الله قبل أن يغلق الباب، ويسبل الحجاب. وفقنا الله وإياكم لقبول أوامره وترك مناهيه، الجزء: 14 ¦ الصفحة: 198 وخوف زواجره، وصلى الله على محمد وآله وصحبه، وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين. [التذكير بآيات الله تعالى والحث على لزوم الجماعة والوصية بالتقوى والجهاد] وله أيضا، قدس الله روحه، ونور ضريحه وعفا عنه: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى من يراه من المسلمين، وفقهم الله لنصر الإسلام والدين، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فموجب هذا هو التذكير بآيات الله، والحث على لزوم جماعة المسلمين، وقد ينتفع بالنصائح من أراد الله هدايته، قال تعالى:: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [سورة الذاريات آية: 55] . وأهم ما يبدأ به في التعليم، هو معرفة أصول الدين وقواعد الإسلام، التي لا يحصل بدونها، ولا يستقيم بناؤه إلا عليها لا سيما معرفة ما دلت عليه كلمة التوحيد، شهادة أن لا إله إلا الله، من الإيمان بالله ومعرفته وتوحيده، بإخلاص العبادة بأنواعها له سبحانه، والبراءة من كل معبود سواه، والقيام بذلك علما وعملا. فإن هذا هو أصل الدين وقاعدته، وهو الحكمة التي لأجلها خلقت الخليقة، وشرعت الطريقة، وأرسلت لأجلها الرسل، وبها أنزلت الكتب؛ وجميع أحكام الأمر والنهي تدور عليها، وترجع إليها. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 199 وقد رأيتم ما حدث في هذا الأصل العظيم من الإضاعة والإهمال، والإعراض عن حقائقه، وواجباته حتى ظهر الشرك، وظهرت وسائله وذرائعه، ممن ينتسب إلى الإسلام، ويزعم أنه من أهله، وذلك بأسباب. منها: الجهل بحقيقة ما أمر الله به ورضيه لعباده، من أصول التوحيد والإسلام، وعدم معرفة ما ينافيه ويناقضه، أو يضاد الكمال والتمام، من موالاة أعداء الله على اختلاف شعبها ومراتبها. فمنها: المكفرات والموبقات، ومنها ما دون ذلك، وأكبر ذنب وأضله، وأعظمه منافاة لأصل الإسلام: نصرة أعداء الله ومعاونتهم، والسعي فيما يظهر به دينهم وما هم عليه من التعطيل والشرك والموبقات العظام. وكذلك انشراح الصدر لهم، وطاعتهم والثناء عليهم، ومدح من دخل تحت أمرهم، وانضم في سلكهم، وكذلك ترك جهادهم، ومسالمتهم وعقد الأخوة والطاعة لهم، وما هو دون ذلك، من تكثير سوادهم، ومساكنتهم ومجامعتهم. ويلتحق بالقسم الأول: حضور المجالس المشتملة على رد أحكام الله وأحكام رسوله، والحكم بقانون الإفرنج والنصارى والمعطلة، ومشاهدة الاستهزاء بأحكام الإسلام وأهله؛ ومن في قلبه أدنى غيرة لله، وتعظيم له، يأنف ويشمئز من هذه القبائح، ومجامعة أهلها ومساكنتهم، ولكن: الجزء: 14 ¦ الصفحة: 200 .......... ... ما لجرح بميت إيلام فليتق الله عبد يؤمن بالله واليوم الآخر، وليجتهد فيما يحفظ إيمانه وتوحيده، قبل أن يزل القدم، فلا ينفع حينئذ الأسف والندم. ومن أهم المقاصد الشرعية، والمطالب العلية: جهاد أعداء الله ومن صدف عن دينه الذي ارتضاه؛ وقد أوجب الله سبحانه الجهاد في سبيله، وأكده ورغلاب فيه، ووعد أهله بما أعد لأوليائه وأهل طاعته، من مرضاته وكرامته، ومجاورته في دار النعيم. قال الله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [سورة الصف آية: 10 - 14] إلى آخر السورة. فانظر إلى ما دلت عليه هذه الآية الكريمة من لطافة الخطاب، والإرشاد إلى مناهج الهداية والصواب، وما رتب على ذلك من غاية الفوز ومنتهى السعادة، وما فيهما من البشارة بكل فلاح ونجاح، في العاجل والآجل. وانظر كيف ختم السورة بأمر عباده المؤمنين أن يكونوا أنصارا له، وأن يقتدوا بمن سلف من الصالحين؛ وانظر إلى ما حكم به من إيمان من نصره وقام بما أمر به. وتأمل كفر الطائفة المعرضة عن طاعة رسله والجهاد في سبيله؛ وتأمل ما وعد به عباده من النصر والظهور، على الجزء: 14 ¦ الصفحة: 201 من خالفهم وخذلهم، وكذا قوله تعالى:: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالأِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [سورة التوبة آية: 111] . وقال تعالى:: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً} [سورة التوبة آية: 123] . وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إن في الجنة مائة درجة، أعدها الله للمجاهدين في سبيله، ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض 1، وعنه صلى الله عليه وسلم قال: من مات ولم يغز، ولم يحدث نفسه بالغزو، مات على شعبة من النفاق 2. فاغتنموا رحمكم الله حضور المشاهد التي يترتب عليها إعلاء كلمة الله، ونصر دينه ورسوله، ومراغمة أعدائه، فإن هذه المشاهد من الموجبات للرحمة والمغفرة والسعادة الأبدية وما يدريك أن الله اطلع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم 3. وإذا هم العدو على بلاد الإسلام، صار الجهاد فرض عين فأجمعوا أمركم على جهاد عدوكم، لابتغاء مرضاة ربكم، وأطيعوا ذا أمركم، وأخلصوا النية، وأصلحوا الطوية، فإنما لكل امرئ ما نوى. واتقوا الله عباد الله، وراقبوه مراقبة من يعلم أنه يسمعه   1 البخاري: التوحيد 7423 , وأحمد 2/335 ,2/339. 2 مسلم: الإمارة 1910 , والنسائي: الجهاد 3097 , وأبو داود: الجهاد 2502. 3 البخاري: الجهاد والسير 3007 , ومسلم: فضائل الصحابة 2494 , والترمذي: تفسير القرآن 3305 , وأبو داود: الجهاد 2650 , وأحمد 1/79. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 202 ويراه، فقد رأيتم ما بلغ من مكائد الشيطان، وتفريق كلمة أهل الإيمان، حتى انسلخ الأكثر من الدين، ولحق فئام من المسلمين بأعداء الملة والدين. نسأل الله لنا ولكم العافية، والثبات على دينه الذي ارتضاه لنفسه، وارتضاه لعباده، وصلى الله على محمد. [رسالة الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى أحد المشائخ يوصيه بتقوى الله وتدبر كتابه] وله أيضا، رحمه الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم إلى المحب الأديب، اللوذعي النبيل الأريب، الشيخ العلامة، والفاضل الفهامة 1 أسعده الله بالتوفيق، وسلك به أقوم منهج وطريق، وجعله من أهل الفضل والتحقيق. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، سلام نسجته المحبة على منوال الأشواق، وسطرته المودة بسواد مداد الأحداق، وتحيات تلعب بالعقول ما لعبت بالثمول. وبعد: فإني بأيدي الابتهاج أخذت كتابكم الكريم، وحصل لي به من السرور ما الله به عليم، حيث احتوى على حسن أنباء طاب مسموعها; وإن سألتم عن محبتكم على البعاد، فيحمد الله تعالى ويثنى بنعمه عليه، أن عرفنا دين الإسلام، الذي صدف عنه أكثر الأنام، نسأل الله تعالى الثبات   1 بياض بالأصل, ولعله [الشيخ حمد بن عتيق] كما يفهم من السجع الرشيق. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 203 على ذلك والهداية والقيام بحقوقه فهو رأس العناية. فإنا والله في زمان قد عميت فيه القلوب، وتنوعت فيه الهموم والكروب، وامتحن الناس فيه بما أزالهم عما كانوا عليه، وصدهم عن حقيقة ما خلقوا له ودعوا إليه. فالذي أوصيك به أخي: تقوى الله تعالى، وتدبر كتابه الذي جعله تبيانا لكل شيء، ومعرفة دينه الذي بعث به رسله، وأنزل به كتبه، وهو: إخلاص العبادة بجميع أنواعها لله وحده، ونفي الشرك في العبادة، والبراءة منه وممن فعله ورضيه، ولزوم طاعته بإقامة فرائضه وترك معاصيه، فإن من وفق لذلك نال أسباب السعادة والفلاح، لأن هذا هو حقيقة شهادة أن لا إله إلا الله، وهو أصل دين الإسلام، وقاعدته المستلزمة إفراد الله تعالى بالمحبة. ومن أيقن بلقاء الله تعالى، وأنه سائله عن كلمتين يسأل عنهما الأولون والآخرون: ماذا كنتم تعبدون؟ وماذا أجبتم المرسلين; فواجب عليه طلب معرفة معبوده، والطريق الموصل إليه. فليكن هذا الأصل الأصيل، أهم الأمور عندك، ومن استقر هذا في قلبه، علم أن الله هو المستحق أن يعبد، خوفا وحبا، ورجاء وإجلالا، ولم يبق في قلبه محبة لأعدائه ولا موالاة، لأن المحبة أصل كل عمل من حق وباطل. فأصل الأعمال الدينية: حب الله ورسوله، وحب من أحبهما وبغض من عاداهما؛ وأصل الأقوال الدينية: تصديق الله الجزء: 14 ¦ الصفحة: 204 ورسوله والعمل بما أمر الله به ورسوله، فلا تصلح الأعمال والأقوال إلا بذلك. وهل حصل الخلل، ووقع الخطأ والزلل، إلا بإهمال هذا الأصل، والوقوف مع الأغراض الدنيوية، والشهوات النفسانية. ولا تغتر أخي بعلماء السوء الذين لم يعرفوا عن معنى لا إله إلا الله، إلا ما عرفته غلاة المرجئة والأشاعرة، حتى ملؤوا الأرض، بمصنفات ملئت بالعقارب والحيات، صرفوا بها العوام عن كتاب الله وسنة رسوله. فعليك بالتمسك بكتاب الله الذي هو النور والهدى، وهو الدواء النافع للقلوب والشفاء، وخذ معاني ذلك من كتب علماء الإسلام، ومصابيح الظلام، من سلف هذه الأمة وأئمتها، أهل القرون المفضلة ومن بعدهم، كالشيخ ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم، ومن هو على منهاجهم. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وصلى الله على محمد، وآله وصحبه وسلم. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 205 [رسالة الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى محمد بن عمر بن سليم يقره بأسباب ما حدث للإسلام] وله أيضا، رحمه الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الابن المكرم المحب المفهم، محمد بن عمر بن سليم، سلك الله به الصراط المستقيم، ومنَّ عليه بمخالفة أصحاب الجحيم، ورفع درجته في جنات النعيم. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، ما تعاقبت غدوات الدهر، وروحاته، سلام ألذ من نسيم الصبا، وأبهى من رونق الصبا. وموجب الخط: إبلاغ السلام والتحية، وتفقد تلك الشمائل المرضية، لا زالت محروسة بعين العناية الربانية. والخط وصل، لا زلت موصولا بنفحات القرب والمحبوبية، محفوظا بالألطاف الخفية والجلية، وسرنا ما أفاده من الأخبار السارة عن تلك الذات، أدام الله سرورها، ورد أيام أنسها وحبورها؛ وصار له عند المحب موقع كريم، بما تضمن من الدعوات والنصائح؛ جعلك الله ممن يدرأ القبائح والفضائح، ويعمل بالحق ويوصي باتباعه، ويبثه في إخوانه وأشياعه. وما أشرت إليه من أسباب ما حدث بالإسلام وأهله، وأنه من عقوبات الذنوب، فنعم هو ذلك، كما أخبر به سبحانه وتعالى في كتابه المبين، على لسان نبيه الأمين، وهذا المشهد يوجب للعبد من التوبة والإنابة، وتدارك ما فرط من الشر وأسبابه، ما يطهره من دنس الذنوب والعيوب، الجزء: 14 ¦ الصفحة: 206 ويستقيل به عثراته وهفواته بين يدي علام الغيوب. وفوقه مشهد أكبر منه وأجل، وهو مشهد الأسماء الحسنى، والصفات العلى، فيشهد عزته، ولطفه ورحمته وعفوه، وقيوميته، وجبروته وانتقامه، وما يبدي ويعيد، وما يقدر ويريد. وهذا المشهد من أجل مشاهد التوحيد، ومنه يطلع العبد على أسرار القدر والقضاء، ويدرك به من حقائق الإيمان ونفحات الرضى، ما يتبوأ به منازل الصديقين، ويرى الحوادث الكونية قبل وقوعها، من وراء ستر رقيق؛ فنسأل الله أن يجعل لكم ولنا نصيبا وافرا، وحظا كاملا من العلم به، وحسن عبادته ومعاملته، وأن لا يجعلنا ممن اتبع هواه وكان أمره فرطا. وما ذكرته من الوصايا النافعة باجتماع المسلمين، ولم شعثهم، فنسأل الله التوفيق لذلك، والإعانة على ما هنالك، والأمور بيد فاطر السماوات والأرض، والقلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن؛ وقد وصل الأمر إلى غاية لا يصل إليها الوعظ والقرآن، فنعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، والعذر عن المكاتبة مقبول، والقلوب شواهد عدول. والدعاء للإخوان بظهر مبذول، فلا تنس أخاك في أوقات المناجاة، وساعات التوجهات، وعليك بالإلحاح في الدعاء، بظهور الإسلام ونصره، وإعلاء كلمة الله، ودحض الجزء: 14 ¦ الصفحة: 207 الباطل وأهله. والله أسأل أن يمن علينا بالاجتماع على حال يرضاها، متمسكين من التقوى بأقوى حبالها وعراها، وأن يعيد أوقاتا سلفت بمذاكرة العلم الشريف. [رسالة الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى محمد بن عمر بن سليم يخبره فيها بحال والده وشرحه لكتاب الكبائر] وله أيضا، رحمه الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأخ محمد بن عمر بن سليم، سلمه الله تعالى وتولاه، وأسعده بالإيمان به وتقواه، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فنحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو على نعمه، والخطوط وصلت، وصلك الله ما يرضيه، وجعلك ممن يخافه ويتقيه. وقد سرني سلامتك وعافيتك، جعلنا الله وإياك من أهل العافية في الدنيا والآخرة. والمحب لم ينس عهدكم، ولم يؤخر جواب خطكم عن ريبة جفاء، أو تغير مودة وصفاء؛ كيف ولكم من المنْزلة والتكريم، ما يشهد به كل مصاحب وحميم، لكن الأمور بأوقاتها منوطة، وبآجالها مربوطة، والمرء غالبا يؤتى من قبل التسويف، والسماحة خلق جليل شريف، وما أحسن ما قيل: وما الود إدمان الزيارة من ضر ... ولكن على ما في القلوب المعول والمحب والشيخ الوالد على ما تظنون، من القيام بحقكم، ومراعاة غيبتكم عند الإمام وابنه، ولا نذخر الذب والحماية ما استطعنا. وما أشرت إليه من جهة شرح كتاب الجزء: 14 ¦ الصفحة: 208 الكبائر، فقد هممت به وسودت منه ما تيسر، ونسأل الله أن يمن بالإتمام، وأن يجعله خالصا لوجهه الكريم، إنه ولي ذلك، وهو على كل شيء قدير، فإن حصل المقصود نسخنا لكم نسخة، إن شاء الله. [رسالة الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى سهل بن عبد الله يذكر له وصية من الشيخ محمد بن عبد الوهاب] وله أيضا، رحمه الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى سهل بن عبد الله، سلمه الله وسهل أمره، وشرح لدينه صدره، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فأحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، على جزيل نعمه ووافر عطائه. والخطوط وصلت وسرت، وقرت، حيث أشعرت وأخبرت بسلامة المحب وطيبه، وعمارة الأوقات بالقراءة في كتب الأصول، والصحاح والتفاسير، وأن الإخوان في ازدياد، وأن الأشرار والأضداد في انقماع وانقباض. فالحمد لله وحده، والشكر على نصر دينه وإظهار حجته، والله المسؤول أن يمن علينا وعليكم بالثبات في الأمر، والعزيمة على الرشد، وأن يوزعنا شكر نعمه وحسن عبادته. وتطلب الفائدة، وأرشدك إلى التأمل في قوله تعالى: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ} الآية. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 209 [سورة البقرة آية: 266] فاحذروا معاشر القراء، وأخلصوا العمل لوجهه الكريم الأعلى. وقد حدثني بعض الثقات أنه اجتمع ببعض الأفاضل من أولاد الشيخ محمد بمكة سنة 1230 هـ قال: فشيعته لما أراد الذهاب إلى وطنه، وسألته الوصية. فقال لي - وقد ثنى رجله على رحله - تأمل قوله تعالى:: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ} إلى قوله:: {إلاّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [سورة يونس آية: 61 –62] ثم ودعني واستقلت به راحلته. [رسالة الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى محمد آل سليم يذكره بالوصية الجامعة] وله أيضا رحمه الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأخ محمد بن عمر آل سليم، سلمه الله، وسلك به صراطه المستقيم، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فأحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، على نعمه ومزيد إحسانه وكرمه، جعلنا الله وإياكم من عباده الشاكرين، وأحبابه التائبين؛ وحرر هذا لإبلاغ السلام والتحية، وتذكر تلك العهود السالفة المرضية، وتعاهد الأخوة الدينية الشرعية؛ جعلنا الله وإياكم ممن رعاها حق رعايتها، وحفظها في ذات الله وما ضيعها. والوصية الجامعة: لزوم التقوى من حيث كنت، مع النظر في حقيقتها، وما اشتملت عليه من أعمال القلوب الجزء: 14 ¦ الصفحة: 210 والجوارح، وتوقفها على العلم، ومعرفة حدود ما أنزل الله على رسوله، من باب توقف اللازم التقوى على الملزوم، والسبب على سببه. والجملة شرحها يطول، ولكن الإشارة كافية، وهي عند اللبيب تقوم مقام العبارة الوافية. هذا ومن حق الإخوة ملازمة الدعاء بظهر الغيب، والظن بك عدم الإهمال. [رسالة الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى محمد آل سليم يذكره بما عليه الغالب من عدم المعرفة للدين] وله أيضا رحمه الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأخ المكرم: محمد بن عمر آل سليم، سلك الله بنا وبه صراطه المستقيم، ووفقنا بمنة لمخالفة أصحاب الجحيم، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فأحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، على ما أولاه من إنعامه، وما ألبسه من ملابس إكرامه، جعلنا الله وإياكم ممن عرف نعمة الله عليه، واستعملها فيما يقرب إليه; والخط وصل وصلك الله بالرضى، وقد سرنا ما أفاده من سلامة الحال، واعتدال الأوقات، لا زالت أحوالا محروسة، وأوقاتا بذكر الله معمورة مأنوسة. وما أشرت إليه من قسوة القلوب، وكثرة الذنوب، وانصراف الخلق عما خلقوا له، فنعم؛ قد عم بذلك المصاب، واستحكم الداء وعز الدواء، إلا أن يمن الله على الجزء: 14 ¦ الصفحة: 211 من يشاء من عباده، بالهداية والشفاء; واشتداد الغربة، واستحكام الشدة والكربة، قد وجد منذ أزمان، والشأن في هذا الزمان في نفس الوجود. فإن غالب الأماكن والقرى والبلدان، لا يعرف فيها للدين حقيقة ولا اسم، ولا يهتدون سبيلا إلى ما جاءت به الرسل، ولا سيما والإسلام عندهم، هو ما نشؤوا عليه، وتلقوه عن أسلافهم في باب معرفة الله، ومعرفة حقه، وباب معرفة حكمه وشرعه. فالأول: حقيقته عندهم هو التعطيل المحض; والثاني: خلاصته ولبه فيما بينهم هو التعلق على عباده، وجعلهم شركاء له; والثالث: جردوا فيه متابعة الأشياخ والآباء، عما جاءت به الرسل والأنبياء. وهذا هو عين العكس وقلب الحقائق، فاجتهد في الخلاص من شبكات تلك المهالك والمضائق، بلزوم السنة والكتاب، والسلوك على أثر الآل والأصحاب، ومن تبعهم من ذوي الألباب، واجتهد في التضرع إلى الله في الإعانة على ذكره وشكره وحسن عبادته، ولا تنسنا من صالح دعائك. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 212 [رسالة الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى حمد بن عبد العزيز يلزمه بالدعوة إلى الله ويقوي عزمه] وله أيضا، رحمه الله: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأخ المحب: حمد بن عبد العزيز، سلمه الله تعالى وتولاه، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وموجب الخط: إبلاغ السلام والتحية، والسؤال عن أخلاقك المحمية، سلك الله بها منهج الطريقة المحمدية; ولا يخفاك أيها الأخ حال أهل الزمان، وغربة الإسلام، وندرة الإيمان بينهم؛ وقد ابتلوا بما رأيت من الفتن والمحن، والتقاطع والتدابر والبغضاء، وصاروا أشتاتا بعد أن كانوا مجتمعين، وشيعا بعد ما كانوا عليه من الإسلام متعصبين. ونسي العلم والتوحيد، وأقفرت الديار من الناصح الرشيد، وهدم الإسلام، وخلت الديار من ذوي العلم والإفهام، ولا شيء أقرب إلى الله وسيلة، وأرجى من الخيرات فضيلة، من الدعوة إلى سبيله، وإرشاد عبيده، وردهم إلى الله وتعلم دينه وتوحيده. وقد أهّلك الله - وله الحمد والمنة - لذلك، ووضع لك القبول فيما هنالك، وقد أجمع الرأي والمشورة على إلزامك بالدعوة إلى الله، والتذكير بدينه، وتنبيه عبيده على أصل دينهم، وما يجب فيه وعلى ما يضاده وينافيه، من المكفرات والشركيات، وتعطيل الشرائع والنبوات؛ فاغتنم الجزء: 14 ¦ الصفحة: 213 أخي ذلك المشهد، وسارع إليه فإن الجزاء خطير، والثواب كبير شهير. وهذا خط الإمام عبد الرحمن وأصلك فلا تجاوب بلا ولن، فإنها داعية الهم والحزن، ولولا أني أخشى على النفس من كثير من أهل نجد، لتجشمت القيام بذلك، ولوجدتني حول المياه وبين المسالك، وإلى الله المشتكى من عدم المعين والنصير، وغلبة الجهال والكثير. نسأل الله العون على مرضاته وذكره وشكره، وأن يجعلنا من الدعاة إلى سبيله، قال بعضهم في تفسير قوله تعالى، عن المسيح عليه السلام:: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ} [سورة مريم آية: 31] ، أي: مذكرا بالله داعيا إلى سبيله، والسلام. [ما دل عليه الكتاب من معرفة الله وما يترتب على ذلك] وله أيضا، رحمه الله: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى خالد بن إبراهيم، ومحمد بن عيسى، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. ومن جهة الفائدة، فأجل الفوائد وأشرفها، ما دل عليه الكتاب العزيز، من معرفة الله بصفات كماله، ونعوت جلاله، وآياته ومخلوقاته، ومعرفة ما يترتب على ذلك من عبادته وطاعته، وتعظيم أمره ونهيه؛ وأدلة ذلك مبسوطة في كتاب الله، وأكثر الناس ضل عن هذين الأصلين، مع أنهما زبدة الرسالة، ومقصد النبوة، ومدار الأحكام عليها. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 214 والعجب كل العجب أن حفظة القرآن، وحملة الأحاديث والآثار، ضلوا عما هو محفوظ في صدورهم، متلو بألسنتهم، وطلبوا العلم من غيره فضلوا وأضلوا; فعليكم بطلب العلم النافع، لا سيما ما يسأل عنه العبد في قبره: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ اعرفوا تفاصيل هذا، ومعنى الرب في هذا المحل، وتفقهوا في هذه الأصول، قبل أن تزل قدم وتزول. وأما الفرق، بين المداراة والمداهنة: فالمداهنة ترك ما يجب لله من الغيرة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والتغافل عن ذلك، لغرض دنيوي، وهوى نفساني، كما في حديث: أن من كان قبلكم كانوا إذا فعلت فيهم الخطيئة أنكروها ظاهرا، ثم أصبحوا من الغد يجالسون أهلها، ويواكلونهم، ويشاربونهم، كأن لم يفعلوا شيئا بالأمس فالاستئناس والمعاشرة، مع القدرة على الإنكار، هي عين المداهنة، شعرا: وثمود لو لم يداهنوا في ربهم ... لم تدم ناقتهم بسيف قدار وأما المداراة، فهي: درء شر المفسد بالقول اللين، وترك الغلظة، أو الإعراض عنه إذا خيف شره، وحصول شيء منه أكبر مما هو ملابس; وفي الحديث: شركم من اتقاه الناس خشية فحشه وعن عائشة رضي الله عنها: أنه استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم رجل، فقال: بئس أخو العشيرة هو. فلما دخل ألان له الجزء: 14 ¦ الصفحة: 215 الكلام، فقالت عائشة: قلت فيه يا رسول الله ما قلت، فقال: إن الله يبغض الفحش والتفحش والمسألة تحتاج لبسط; وأنتم تفكروا وتدبروا كلام العلماء، من أوله وآخره، مرة بعد مرة، الله الله; والسلام. [رسالة الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى بعض الإخوان يوصيهم بتقوى الله ويحثهم على الصبر على مقام الدعوة] وله أيضا، رحمه الله: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الإخوان المكرمين: محمد بن علي، وإبراهيم بن مرشد، وإبراهيم بن راشد، وعثمان بن مرشد، سلمهم الله تعالى وعافاهم، وأصلح بالهم وتولاهم، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فنحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، على نعمه وأقداره وحكمه؛ والله المسؤول أن يمن علينا وعليكم عند الوحشة بذكره، والأنس بمجالسته، وعند ذهاب الإخوان بروح منه وسلطان. والذي أوصيكم به تقوى الله، ومعرفة تفاصيل ذلك على القلوب والجوارح، ومعرفة الأحكام الشرعية الدينية، عند تغير الزمان وكثرة الفتن، وظهور الهرج، وقد ورد أن الله يحب البصر النافذ عند ورود الفتن والشبهات، والعقل الراجح عند منازعة الشهوات. وذكر أبو داود وغيره من أهل السنن ما ينبغي مراجعته الجزء: 14 ¦ الصفحة: 216 واستحضاره، عند ذكر الفتن والملاحم; وذكر ابن رجب رحمه الله في رسالته: "كشف الكربة في فضل الغربة" ما يسلي المؤمن ويعزيه. وذكر ابن القيم رحمه الله في المدارج جملة صالحة; وفي الأثر: العبادة في الهرج، كهجرة إليَّ 1، وفي حديث الغرباء: للعامل منهم أجر خمسين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم 2. والذي أرى لكم في هذه الخلطة: الصبر على مقام الدعوة، والتلطف بإبلاغ عن نبيكم؛ وهذا مع القدرة وأمن الفتنة، أفضل من العزلة؛ والإقلال من مخالطة الناس لمن أمكنه أسلم: وإني لأود أن أكون مثل أحدكم في هذا الزمان، ولكني ابتليت بالناس، وحيل بيني وبين ذلك; والله المستعان وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله; وصلى الله على محمد.   1 مسلم: الفتن وأشراط الساعة 2948 , والترمذي: الفتن 2201 , وابن ماجه: الفتن 3985 , وأحمد 5/25. 2 الترمذي: تفسير القرآن 3058. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 217 [رسالة الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى بعض الإخوان يوصيهم بميراث النبوة] وله أيضا، رحمه الله: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الإخوان المكرمين: إبراهيم بن راشد، وإبراهيم بن مرشد، وعثمان بن مرشد، سلمهم الله تعالى وتولاهم في الدنيا والآخرة، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فأحمد إليكم الله على سوابغ إنعامه، ومزيد إحسانه وإكرامه؛ جعلنا الله وإياكم ممن عرف قدر نعمة الله عليه، واستعملها فيما يقربه إليه. كم بما أوصيتمونا به، ونزيدكم الوصية بميراث نبيكم والرغبة فيه، والمذاكرة في كل أوقاتكم، فإنكم في زمان قبض فيه العلم، وفشا الجهل، وعدمت الحقائق الدينية؛ وإنما هي عادات ورسوم ينتحلها أكثر الخلق. أما الخيام فإنها كخيامهم وأرى نساء الحي غير نسائها وبلغوا سلامنا إخوانكم، ولا تغفلوا بصالح الدعوات في هذه الليالي المباركات. جعلنا الله وإياكم من الفائزين بالقبول والرضا. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 218 [رسالة الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى عبد الله الدوسري يوصيه بلزوم الكتاب والسنة] وله أيضا، رحمه الله: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأخ عبد الله بن عبد العزيز الدوسري، وفقه الله لما يحبه ويرضاه، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فأحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو على نعمه، جعلنا الله وإياك شاكرين; والخط وصل بما تضمن من الوصية، وفقنا الله وإياك لقبول الوصايا الشرعية، وأعاذنا من سيئات الأعمال الكسبية. وأوصيك بما أوصيتني به، وبلزوم الكتاب والسنة، والرغبة فيهما؛ فإن أكثر الناس نبذوهما ظهرا، وزهدوا فيما تضمناه من العلم والعمل، اللهم إلا أن يوافق الهوى، واذكر قوله صلى الله عليه وسلم لحذيفة، لما سألة عن الفتن، قال: إقرأ كتاب الله واعمل بما فيه كررها ثلاثا. والحكمة - والله أعلم - شدة الحاجة وقت الفتن، وخوف الفتنة والتقلب، وأكثر الناس من أهل نجد وغيرهم، ليسوا على شيء في هذه الأزمان، والمؤمن من اشترى نفسه، ورغب فيما أعرض عنه الجهال والمترفون؛ نسأل الله لنا ولكم الثبات والعفو والعافية. ولا تذخر المذاكرة فيما ابتلي به الناس، من فتنة العساكر ومن والاهم، فإن هذا من أعظم ما دهم الإسلام الجزء: 14 ¦ الصفحة: 219 وأهله، ومن أسباب محو الدين والإيمان وهدم قواعده، ومن أفضل الأعمال: القيام لله عند ذلك على بصيرة، والدعوة إلى سبيله، والسلام. صلى الله عليه وسلم [ما كتبه الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى بعض الولاة بسبب أنه توسم به محبة الخير وقبولا للنصيحة] بسم الله الرحمن الرحيم كتب الشيخ: عبد اللطيف بن عبد الرحمن، أدام الله إفادته، إلى بعض الولاة، بسبب أنه توسم به محبة الخير وقبولا للنصيحة ما صورته 1 حفظه الله من طوائف الشيطان، ووفقه للعلم والإيمان، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. ونحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، على ما أسبغ علينا من جزيل نعمائه; واعلم أنه إنما حملني على مكاتبتك، وابتدائك بالخطاب، ما بلغني عنك من الميل إلى الإسلام والسنة، ومحبة أهله ونصرتهم؛ وهذا من أجل النعم، وأفضل العطايا الإلهية، والمنح الربانية، وأنت في مكان وزمان قل خيره، وكثر شره، وقبض فيه العلم، وفشا الجهل، وكثر الجدال والمراء، وتطاول أهل البدع والأهواء. فإن من الله عليك بقبول الإسلام والسنة، ونصرتها ومحبة أهلها، والقيام بما أمر الله به من أداء الواجبات، وترك الفواحش والمنكرات، رجوت لك الظهور والنصر، والإقبال في الدنيا والآخرة؛ وربما كثر لديك محب الدين والقائم   1 فيه سقط, ولعله مقصود لغرض ما. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 220 به، واستأنس بك أهل الخير، وصرت حصنا ومعقلا يرجع إليه في نصرة الدين. ولعمر الله إن هذا من أفضل شعب الإيمان الواجبة، وأعلاها وأحبها إلى الله وأسناها، بل هو أفضل من نوافل العبادة القاصرة، وأين تقع النوافل؟ ومتى ينتفع بها من أهل نصرة الإسلام والسنة، مع القدرة على ذلك؟! وهل يرجى الخير من رجل يرى حرمات الله تنتهك، ودينه يمتهن، وسنة نبيه تترك وتطرح، ولا يجد من نفسه حمية ولا غيرة، ولا أنفة من ترك دين الله، ومن معصيته وهجو ما جاء به رسوله، من توحيد الله تعالى والإيمان به؟ هذا الصنف لا يرجى خيره، وإن زعم أنه من عباده المؤمنين الأفراد، فتأمل هذا وليكن منك على بال، قول الشاعر: قد رشحوك لأمر لو فطنت له ... فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل الجزء: 14 ¦ الصفحة: 221 [رسالة الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الشيخ مسفر بن عبد الرحمن يحثه على الاجتهاد في الدعوة إلى الملة الحنيفية] وله أيضا، رحمه الله: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأخ المكرم الشيخ: مسفر بن عبد الرحمن، لا زالت أيامه تسفر بالسعادة، وأوقاته معمورة بالإفادة، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، على جزيل نعمه ومزيد فضله وكرمه، جعلنا الله وإياكم ممن عرف النعمة لمعطيها، وأثنى بها على مسديها وموليها. والخط وصل وبه الإنس حصل؛ حيث أفاد بسلامتكم وعافيتكم، ودعوتكم من لديكم إلى الملة الحنيفية، والشريعة المحمدية، فالحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات. وعليك بالجد والاجتهاد في تلك المقامات، فإن غربة الدين قد اشتدت، وآثاره طمست وعفت؛ والقائم لله بهذا الدين، أجره كأجر خمسين من السابقين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 222 [رسالة الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى محمد آل سليم يخبره بحاجة الناس إلى مثله ويحثه على نشر العلم] وله أيضا، رحمه الله: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأخ المكرم: محمد بن عمر آل سليم، سلمه الله تعالى وأسبغ عليه سوابغ فضله العميم، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فلا يخفاك حاجة الناس إلى تعليم مثلك، وتدريسه وإفتائة، وقد يتعين الأمر على أمثالكم. ونشر العلم، والحكم بالقسط والعدل، في مواطن القضاء، من أفضل الأعمال، ومن موجبات الإثابة والرضى. وقد أذنت لك بالإقراء والتدريس والإفتاء، بما ترجح عندك من كلام أهل العلم، بشرط أن يكون لك فيه سلف صالح من مشائخ الإسلام، وأئمة الهدى، ونسأل الله لك التوفيق والتسديد. وملازمة التقوى من أعظم الأسباب التي تحصل بها الهداية، وتدرك بها الإصابة، ويظهر بها الحق، قال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً} [سورة الطلاق آية: 2] ، وهي وصية الله إلى عباده، لكنها تحتاج إلى العلم بأصولها وتفاصيلها، على القلوب والجوارح. وأوصيك بالدعاء لأخيك، فإنه من أرجى الأدعية إجابة سؤال لأخيه المؤمن، في ظهر الغيب، والسلام. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 223 [تنبيه الإمام فيصل بن تركي على ما حصل من تأسيسات في الوظائف حيث كانت على قاعدة غير شرعية] وقال بعضهم، رحمه الله: بسم الله الرحمن الرحيم موجب تحرير هذه الأحرف الأماثل، وتنميقها بالأنامل، إلى حضرة الإمام الفاضل: فيصل بن تركي، حماه الله تعالى وصانه، وأيده وأعانه، ورفع قدره ومقامه، وبلغه في الصالحات آماله، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أما بعد: وفقك الله وأثابك; فاعلم أنا نراسلك محبة قلبية، ونناصحك لصلاح نفسك والرعية، سنة أثرية فأخلص النية لله بصواب، وهذب نفسك ومحضها عن المآثم باستكانة ومآب، وإياك إياك والجمود على غير طريقة الصواب، وقد علمت أن سبب الخذلان والهوان: سلوك اتباع الهوى، وطاعة الشيطان، والسعي فيما لا يرضي الرحمن. وقد تأملت جميع تأسيساتك في الوظائف السلطانية، فرأيتها مؤسسة على غير قاعدة الشريعة المحمدية، وكل أساس لا يؤسس على تقوى من الله ورضوانه، لا يقوم بناه، ولا يثبت أركانه وعلاه; فإن كنت في مرية من ذلك فاسأل خبيرا ينبيك عن طرق المهالك؛ ومع هذا فإني رأيت الطرق الأثرية أكثر لك ماء، وأعذب منهلا، وأوفر جمعا، فأنى لك والعدول عنها إلى طريق المهامه والمهالك. سارت مشرقة وسرت مغربا ... شتان بين مشرق ومغرب الجزء: 14 ¦ الصفحة: 224 فالله الله، في سلوك الطريق المستقيم، إن كنت تريد السعادة في الدنيا، والسلامة في الآخرة من العذاب الأليم؛ فإذا فعلت ذلك، فوفر الحقوق على أصحابها، واستعمل في الأمور أكفأها. وإياك إياك والصد والعناد، ومقابلة النصيح بالمغاضبة، كحال الظلمة المتغلبين، والملوك المترفين، فتزل مع الزالين. ألم يأن لك أن تستعتب نفسك، قبل أن لا تقال العتاب، وتئوب إلى طريق المتاب، وتنهج على منهج الهدى والصواب، فإن هذه الحياة الدنيا متاع، وإن الآخرة هي دار القرار. فلا تجعل التقصير من قبل الجند. بل والله التقصير والخذلان، والداعي إلى سبب الذل والهوان، تسور علينا البناء العالي، وفتح أبوابنا للأعادي: إصرارنا على الذنوب والمعاصي، وفي الخبر: إذا عصاني من يعرفني سلطت عليه من لا يعرفني. فأوصيك ونفسي بتقوى الله تعالى؛ أصلح ما بينك وبينه، يصلح ما بينك وبين رعيتك؛ فإن دمت على المخالفة داموا لك على المخالفة؛ وإن استقمت على طاعة مولاك، طاعوك واتبعوا هواك؛ فإن لاح لك العز من غير هذا القبيل، فاعلم أنه كسراب بقيعة. فإن كنت ذا رأي سليم، وخلق مستقيم، فاسلك طريقة السلامة والسعادة، على المنهج المستقيم، وأسس قاعدة الجزء: 14 ¦ الصفحة: 225 الملك على الصلاح، وكن أمينا على ما ائتمنك الله عليه; واعلم أن وراءك عقبة كؤودا، ومقاما يشيب منه المولود، وخطبا فظيعا، وحسابا يحصي دقيقا. فكيف بك، إذا نادى المنادي: أين الظلمة وأعوان الظلمة؟ أم كيف بك إذا غلت يداك إلى عنقك؟ أم كيف بك إذا زل بك الجسر المنصوب على شفير جهنم؟ أم كيف بك إذا أسأت نبيك محمد صلى الله عليه وسلم في أمته؟ ولم ترحم الضعيف، وتوفر عليه حقه المفروض، بل الواقع منك وأعوانك غير ذلك، أعاذك الله من ذلك; وقد علمت أن الله تعالى بدأ بهم في آية الصدقة. وقال صلى الله عليه وسلم: ابدؤوا بما بدأ الله به، وفي الحديث إنما تنصرون وترزقون بضعفائكم 1. فإذا كان الفقير والمسكين ممنوعا، وطالب العلم محروما، والضعيف مظلوما ما بالنا لا نخذل، وأعداؤنا لا تنصر علينا، ونحن ساعون في الخذلان، فاعلون لما يغضب الملك الديان؟ إذا كان عون الله للعبد ناصرا ... تهيأ له من كل شيء مراده وإن لم يكن عون من الله للفتى ... فأكثر ما يجني عليه اجتهاده وقد شاهدنا الضعفاء فيما مضى، متضرعين لك بالدعاء، فلما منعوا حقوقهم، انقلب الدعاء عليك، فكانوا كعصا موسى في الانقلاب؛ فإذا منعت جند الليل حقوقهم، فأنى يقوم لك جند؟ وإذا ظلمت الضعفاء، وتظلمت عليهم   1 البخاري: الجهاد والسير 2896 , وأحمد 1/173. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 226 من لا يخاف الله ولا يرقب في مؤمن إلا ولا ذمة، فأنى لك العز مع هذا الظلم والإباء؟! فكن على حذر من الله، فإنه الآخذ بالنواصي، وهو علينا رقيب، ولقد كلت أناملنا من تسويد المداد إليكم، فلم نر لذلك أثرا، وكفى بربك هاديا ونصيرا: فيا لك من آيات صدق لو اهتدى ... بهن من مريد الحق كن هواديا ولكن على تلك القلوب أكنة ... فليست وإن أصغت تجيب المناديا اللهم إنا نعوذ بك من رين الذنوب وهوى النفس، اللذين يصدان عن معرفة الحق واتباعه، ونحن مصابون من قبل داء الذنوب؛ والجسد إذا حصل له الداء، لم ينفع فيه الدواء، إلا بعد الاستفراغ القوي. فإن أنت أتيت ببر العباد، وفقك الله للسداد، وأحسن عاقبتك في الدارين، وآتاك أجرك مرتين، وأظلك في ظله يوم شخوص الأبصار، ويوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار. قوة الجيوش لا تنفع إلا مع الأعمال الصالحة، فإذا صلحت الأعمال، فالعاقبة للمتقين: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [سورة البقرة آية: 249ب] ،: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [سورة محمد آية: 7] . وأشهد لقد نصحت، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 227 [تنبيه الشيخ حمد بن عتيق على ما حدث من التهاون بأحكام الشريعة والحيف والجور] وقال الشيخ: حمد بن عتيق، رحمه الله: بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين. من حمد بن عتيق، إلى من بلغه هذا الكتاب من المسلمين، القريبين والبعيدين، ألزمهم الله شرائع الدين، وسلك بهم طريق سيد المرسلين، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فالموجب لهذا هو إبلاغكم، والخوف علينا وعليكم، إعذارا وإنذارا؛ فإنه قد حدث فيكم أمور منكرة، لا يحلّ لذي علم السكوت عليها، ولا أقول إنها في رعية دون رعية، ههنا أمر أكثركم به مقرون، وعليه مصرون، وهو التهاون بأحكام الشريعة، وهذه خصلة منافية للإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم، فلا بد من تحكيمه، والانقياد لحكمه، والإذعان والتسليم. وقد قال تعالى: {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ} فَبَيَّنَ أن المعرض عن التحاكم إلى الرسول، ليس من أهل الإيمان، ثم قال: {وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [سورة النور آية: 47-50] . الجزء: 14 ¦ الصفحة: 228 وهذه حال كثير من الناس، فإنه إذا علم أن الحق له، أقبل إلى حكم الله ورسوله مذعنا، وأما إذا كان الحق مطلوبا منه متوجها عليه، امتنع ونوّع المعاذير وأكثرها. وقد بين الله أن هذا من العلامات على مرض القلوب، وعلى الريب في الدين، وهو الشك، وأن صاحبه قد اتهم ربه واتهم نبيه بالحيف، فلذلك أخبر أن هذا الصنف هم الظالمون، فعظم ظلمهم بضمير الفصل، وأداة التعريف. وقال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً} [سورة النساء آية: 61] ، فَبَيَّن أن من صد عمن دعاه إلى التحاكم إلى شريعة الإسلام، فهو من المنافقين. وقال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ} [سورة المائدة آية: 104] ، فَبَيَّن: أن الامتناع عن التحاكم، وإلى ما بعث الله به رسوله، من طاعة الشيطان، ومن الموجبات لعذاب السعير. وقال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [سورة النساء آية: 65] ، فأقسم بنفسه: أن الناس لا يؤمنون حتى يحكموا رسول الله، في جميع ما تنازعوا فيه، من دقيق وجليل، فإذا لم يحكموه فليسوا بمؤمنين. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 229 والأدلة في هذا كثيرة، وكلها تبين أن الإيمان لا يحصل مع عدم تحكيم الرسول، ثم الانقياد لحكمه والرضى والتسليم; ومن أكبر البلايا وأعظم الرزايا أن يكون الإنسان قد ارتكب هذه القواصم، وخرج من دائرة الإيمان، وصار من أهل الفسوق والعصيان، وهو مع ذلك يدعي أنه من المؤمنين. فإن كنت لا تدري فتلك مصيبة ... وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم ومن الأمور المنكرة العظام: ما وقع فيه قادة أهل الإسلام، من الحيف والجور، وعدم القيام بالقسط بين القوي والضعيف، والعدو والصديق، والقريب والبعيد؛ وهذا عكس ما أمر الله به حيث يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا} [سورة النساء آية: 135] الآية. فأمر تعالى بالقيام بالقسط وهو العدل، وبالشهادة لله ولو على نفس الإنسان، ووالديه الذين هم أكبر الناس نعمة عليه. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [سورة المائدة آية: 8] . فأمر تعالى بالقيام له، وبالشهادة بالقسط، ثم نهى أهل الإيمان أن يحملهم بغض من أبغضوه، على ترك العدل فيه. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 230 فأوجب أن يكون عدلهم فيمن أبغضوه، نظير عدلهم فيمن أحبوه؛ وهذا هو الواجب على عامة الخلق، وهو العدل بين الناس، وعدم الميل مع الصديق والرفيق والقوي، بخلاف ما عليه أكثر الناس، فإنه إذا توجه الحق على رفيق لهم، أو صاحب مال أو جاه تركوه، وارتكبوا نوعا من المعاذير؛ فهذا يقول: رفاقتي ما أقوم عليهم، وهذا يقول: ما أقطع يدي من صديقي لأجل فلان؛ وهذا يقول: أخاف إذا قمت عليه يغلبني عند الولاة؛ وهذا خائف على موقفه ورياسته. وهذا كله من السبل التي قال الله فيها: {وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [سورة الأنعام آية: 153] . فالواجب على من تولى شيئا من أمور المسلمين أن يخاف الله فيهم، ويجعلهم في الحق سواء، فيقوم في الحق لعدوه، كقيامه لصديقه، ويجعل الضعفاء كالأقوياء، والفقراء كالأغنياء، والجيران كالرفاقة، كما هي سيرة المؤمنين الصالحين الموفقين، لا ما عليه الظلمة من الخائنين والمفسدين الجائرين. وقد قال تعالى: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} [سورة ص آية: 26] . وفي السنن: عن النبي صلى الله عليه وسلم: القضاة ثلاثة: قاضيان في الجزء: 14 ¦ الصفحة: 231 النار، وقاض في الجنة. فرجل علم الحق فقضى بخلافه فهو في النار، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار، ورجل علم الحق فقضى به فهو في الجنة 1. وقال شيخ الإسلام: والقاضي اسم لكل من قضى بين اثنين وحكم بينهم، سواء سمي خليفة أو سلطانا أو نائبا أو واليا، حتى من يحكم بين الصبيان إذا تخايروا في الخطوط، هكذا ذكر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ظاهر. انتهى. ومراده: أن الصبيان إذا تكاتبوا في ألواحهم ليظهر أيهم أحسن كتابة، ثم عرضوا عليك خطوطهم، لتحكم بينهم بإخبارك أي الخطوط أحسن، فقد جعلوك قاضيا لهم، وحاكما بينهم في هذه المسألة، فيجب عليك العدل والإنصاف؛ فمن حاف وترك العدل، فقد دخل في مسمى القاضي المذموم، المتوعد بالنار؛ كما أن من عدل وأنصف، له نصيب من الوعد المرتب على ذلك. وكثير من يعتريه ذلك هم قادة الناس من القضاة والأمراء والعرفاء، فعليهم جميعا مراعاة هذا الأمر، وعدم الغفلة، والله تعالى يقول: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [سورة الحشر آية: 18-19] . نسأل الله لنا ولكم العافية على مراضيه، وأن يجعلنا ممن يخافه ويتقيه، وأن يجعلنا ممن أمن الفزع الأكبر يوم   1 الترمذي: الأحكام 1322 , وأبو داود: الأقضية 3573 , وابن ماجه: الأحكام 2315. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 232 يلاقيه، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبة أجمعين. [التنبيه على ما فشا من أنواع المنكرات] وله أيضا، رحمه الله: بسم الله الرحمن الرحيم من حمد بن عتيق، إلى من يصل إليه هذا الكتاب من المسلمين، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أما بعد: فالموجب للخط هو النصح لكم، والشفقة عليكم، خوفا من نزول بأس الله بنا وبكم؛ وذلك مما فشا من المنكرات، وجاهر به الخواص والعوام من الموبقات؛ والله تعالى قد فرض على العلماء البيان، وذم أهل السكوت والكتمان. فجحد أكثر الناس ذلك، وتركوا ما علموا، أو إن ذكروا بعض ذلك فعلى سبيل المعاشرة والمضاحكة، وقد قال الله تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ} [سورة المائدة آية: 78] ، إلى قوله: {لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [سورة المائدة آية: 79] . وقال: {لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الأِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [سورة المائدة آية: 63] . ولعل سامع هذا الكلام أن يقول: إنك قد أغلظت الكلام، وعممت الذم الخاص والعام، فأقول: الأمر فوق ما سمعت وأعظم، وهاهنا مسألة أطبق عليها أهل المعاملات الجزء: 14 ¦ الصفحة: 233 في دنياهم، ولم يخافوا ربهم ومولاهم، والناس فيها بين قائل للإثم، وآكل للسحت. فالمبيح قال الإثم، والفاعل آكل السحت، والساكت عن الإنكار ترك الأمر؛ ولم يسلم من إثمها إلا من شاء الله، وهم قليل؛ وهي مسألة قلب الدين، التي يسمونها "التصحيح"، وهو الربا الظاهر الصريح. فأما أدلة تحريم الربا فلا تخفى، ولكن صنع لهم الشيطان هذه الحيلة، مخادعة لله وتلاعبا بدينه. وعليك أن تعلم أن ربا أهل الجاهلية، الذي أبطله الإسلام، هو: أنه إذا حل الدين على الغريم، قال الدائن: إما أن تقضي، وإما أن تربي; فإما أن يوفيه في الحال، وإلا زاد له في الدين، وأجله عليه بأجل متأخر، وهذا هو عين فعل المفسدين. فإنه إذا حل دين أحدهم، كعشرة مثلا، قال الدائن: أعطني عشرتي; فيقول: ليست عندي; فيقول: تعال أسلمها عليك بألف وزنة مثلا، ثم ردها علي، فيذهب التاجر إلى منْزله، ويخرج عشرة ريالات من ماله، ويقول: أسلمتها عليك بألف وزنة، فيقول: قبلت; ويأخذها بيده ثم يلقيها على حصير المحتال. أو يقول: اذهب بها وادفعها إلى وكيلنا فلان، وقد جعله يرقبه عند الباب، أو يذهب بها إلى منْزله، وهو يعلم أنه يردها إليه بأعيانها; ولذلك أنه لو يخرج منها ريالا واحد، خبثت النفس، وتغيرت المعاملة؛ فإذا رجعت العشرة الجزء: 14 ¦ الصفحة: 234 التي أخرجها المكار، صارت العشرة التي في ذمة المديون، انقلبت عليه بألف وزنة سواء بسواء. فلو أنه يقال: بعتك العشرة التي في ذمتك بألف وزنة، سلم من الحيلة، وجاء الأمر على وجهه. وقال بعض العلماء: يخادعون الله كما يخادعون صبيانهم، لو أتوا الأمر على وجهه، كان أحب إلي. قال ابن القيم، رحمه الله تعالى: وباب الحيل المحرمة، مداره على تسمية الشيء بغير اسمه، وعلى تغيير صورته مع بقاء الحقيقة؛ فالمفسدة العظيمة التي اشتمل عليها الربا، لا تزول بتغيير اسمه من الربا إلى المعاملات، ولا بتغيير صورة إلى صورة. والحقيقة معلومة متفق عليها بينهما قبل العقد، يعلمها من قلوبهم عالم السرائر، فقد اتفقا على حقيقة الربا الصريح قبل العقد، ثم غير اسمه إلى المعاملة، وصورته إلى التبايع الذي لا قصد لهما فيه البتة، وإنما هو حيلة ومخادعة لله ورسوله. وأي فرق بين هذا، وبين ما فعلته اليهود، من استحلال ما حرم الله عليهم من الشحوم؟! انتهى; وقد علم عالم السرائر أن المحتال لم يبذل هذه الدراهم إلا لترجع إليه، لا لينفقها القابض، فالله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه. قال المحتالون: إننا لم نتفق على الربا قبل العقد; الجزء: 14 ¦ الصفحة: 235 فيقال لهم: بل كذبتم، فإن بعضكم يحتال ويرابي منذ عشرين سنة، حتى صار هذا معلوما، والشرط العرفي نظير الشرط اللفظي. وقد علم الآخذ والمعطى أن المأخوذ مردود إلى مالكه، وأن الفائدة انقلاب الدراهم طعاما، وهذا هو المقصود: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [سورة البقرة آية: 278-279] . قال ابن القيم: وقد جاء في حديث الله أعلم بحاله: يحشر أكلة الربا يوم القيامة في صورة الخنازير والكلاب من أجل حيلهم على الربا، كما مسخ قوم قرودا لاحتيالهم على أخذ الحيتان في يوم السبت؛ وبكل حال فالمسخ لأجل الاستحلال بالاحتيال قد جاء في أحاديث كثيرة، وهذا معذرة من الله تعالى، لأن عدم قبول الناس للعلم، ليس مانعا من تبليغ الرسالة، في أصح قولي العلماء. ومن المنكرات: الإعراض عن العلم النافع، والتكاسل عن الصلوات، ومنع الزكاة، وشراء الإنسان زكاته، كالذي يبذل عن التمر والبر دراهم، فهذا من المنكرات. ومنها: لبس الحرير، كالمحازم التي فيها من الحرير الخالص، أكثر من أربع أصابع مجتمعا، أو مفرقا. ومن المنكرات: اختلاط النساء بالرجال في الأسواق، الجزء: 14 ¦ الصفحة: 236 وخروج النساء بالزينة أو الطيب. ومن المنكرات ظهور أصوات النساء، وأعظم منه اجتماع المتهمين مع النساء في العرس، على الدفوف ومن رضي بذلك لنسائه، أو في بيته فهذا نوع دياثة منه، فما أقرب شبهه بالديوث. [رسالة الشيخ حمد بن عتيق إلى قويرش بن معجب يجيبه عن مسائل سمعها عنده] وله رحمه الله: بسم الله الرحمن الرحيم من حمد بن عتيق إلى الأخ المكرم: قويرش بن معجب، سلمه الله تعالى، وهداه، سلام عليكم ووحمة الله وبركاته. وبعد: وصل إلينا خطك، وسرنا ما فيه من البحث عما ينفع الإنسان في دينه، جعلنا الله وإياكم ممن عمل بما علم; واعلم: أن العلم بلا عمل شجر بلا ثمر، وحجة على صاحبه عند الله يوم القيامة. وصفة السؤال الذي جاءنا منك عن ست مسائل سمعتها عندنا، وطلبت أني أكتبها لك، وأبين لك معانيها. فالجواب: أن ابن القيم ذكر أن الشيطان ينال غرضه من ابن آدم من ستة أبواب، وهي: فضول الطعام، وفضول الكلام، وفضول مخالطة الناس، وفضول النظر، وفضول الاستماع، وفضول المنام. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 237 فأما فضول الطعام، فهو: أن يأكل الإنسان فوق ما يحتاج إليه بدنه، وقد نهى الله عن ذلك حيث يقول:: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [سورة الأعراف آية: 31] . قال ابن القيم: لأن فضول الطعام داع إلى أنواع كثيرة من الشر، فإنه يحرك الجوارح إلى المعاصي، ويشغلها عن الطاعات، فكم من معصية جلبها الشبع، وفضول الطعام; وقال النبي صلى الله عليه وسلم ما ملأ ابن آدم وعاء شرا من بطن 1. وأما فضول الكلام فهو: أن يطلق الإنسان لسانه فيما لا يعينه، وأكبر منه أن يطلقه فيما لا يحل له; قال ابن القيم: لأن فضول الكلام يفتح للعبد أبوابا من الشر، كلها مداخل للشيطان، فإمساك فضول الكلام يسد عنه تلك الأبواب، وكم من حرب أثارتها كلمة واحدة. وقال النبي صلى الله عليه وسلم وهل يكب الناس في النار على مناخرهم، إلا حصائد ألسنتهم 2. وفي الترمذي: أن رجلا من الأنصار توفي، فقال بعض الصحابة: طوبى له، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وما يدريك لعله تكلم فيما لا يعينه، أو بخل بما لا ينقصه 3. وأما فضول مخالطة الناس، فهو: كون الإنسان لا يبالي بمن جالس وصاحب، فيجالس المؤمنين والمنافقين، والمطيعين والعاصين، والطيبين والخبيثين، بل ربما جالس   1 الترمذي: الزهد 2380 , وأحمد 4/132. 2 الترمذي: الإيمان 2616 , وأحمد 5/237. 3 الترمذي: الزهد 2316. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 238 الكافرين، والمرتدين، وخالطهم. قال ابن القيم: وفضول المخالطة هي الداء العضال، الجالب لكل شر; وكم سلبت المخالطة والمعاشرة من نعمة، وكم زرعت من عداوة، وكم غرست في القلب من حرارة; ولا يسلم من شر مخالطة الناس، إلا من جعلهم أربعة أقسام: أحدها: من يجعل مخالطته بمنْزلة غذاه، فلا يستغني عنه في اليوم والليلة، فهو كلما احتاج إليه خالطه، هكذا على الدوام؛ وهم العلماء بالله وأمره ومكائد عدوه، وأمراض القلوب، الناصحون لله ولكتابه ولرسوله ولعباده، فهذا الضرب في مخالطتهم الربح كله. القسم الثاني: من يجعل مخالطتهم كالدواء يستعمله عند المرض، فما دام صحيحا فلا حاجة به إلى خلطته، وهؤلاء من لا يستغنى عنهم في مصلحة المعاش، وقيام ما يحتاج إليه في أنواع المعاملات والمشاركات. الثالث: من مخالطتهم كالداء على اختلاف أنواعه وقوته وضعفه، وهؤلاء هم الذين لا يستفاد منهم دينا ولا دنيا، ومخالطتهم هي الداء العضال. القسم الرابع: من مخالطته الهلكة بمنْزلة أكل السم، وما أكثر هذا الضرب لا كثرهم الله، وهم أهل البدع والضلال، الصادون عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الداعون إلى خلافها. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 239 انتهى. ومنهم أهل الفسوق والعصيان. وأما فضول النظر، فهو: أن يطلق الإنسان نظره فيما حرم عليه; قال ابن القيم: والعين رائد القلب، فيبعث رائده لينظر، فإذا أخبره بحسن المنظور إليه، تحرك اشتياقا إليه وطلبا له؛ وكثيرا ما يتعب نفسه، ومن أرسله؛ فإذا كف الرائد عن الكشف والمطالعة، استراح القلب من كلفة الطلب والإرادة، فمن أطلق لحظاته دامت حسراته. وأكثر المعاصي إنما تتولد من فضول الكلام، وفضول النظر، وهما أوسع مداخل الشيطان، وفي غض البصر عن المحارم ثلاث فوائد عظيمة، جليلة القدر: إحداها: حلاوة الإيمان ولذته، التي هي أطيب وألذ مما صرف بصره عنه وتركه لله، فإن من ترك شيئا لله عوضه الله خيرا منه. الفائدة الثانية: في غض البصر نور القلب وصحة الفراسة، قال أبو شجاع الكرماني: من عمر ظاهره باتباع السنة، وباطنه بدوام المراقبة، وكف نفسه عن الشهوات، وغض بصره عن المحارم، واعتاد أكل الحلال، لم تخطئ له فراسة. الفائدة الثالثة: قوة القلب وثباته وشجاعته، فيعطيه الله بقوته سلطان البصيرة، كما أعطاه بنوره سلطان الحجة؛ فيجمع له السلطانين، ويهرب الشيطان منه. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 240 وأما فضول الاستماع، فهو: أن يلقي الإنسان أذنيه لاستماع ما لا يحل، من الغيبة والنميمة، وقول الزور; ومنه: سماع الأغاني، والأصوات المطربة؛ فإن كان من النساء فهو أخبث وأنكر؛ وهذا باب واسع، ويتولد منه شرور كثيرة في الدين والدنيا. وقد قال تعالى: {وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً} [سورة الفرقان آية: 72] ، وشهود الزور هو حضور مجالس الباطل، والأغاني والدفوف من أعظم الزور. وأما فضول المنام، فهو أن يزيد الإنسان في النوم، على القدر الذي يحتاج إليه في راحة بدنه. فإذا زاد على ذلك، حدث به أنواع من الضرر في الدين والدنيا، فإن الإكثار منه مضر بالقلب، مولد للغفلة عن ذكر الله، مثقل للبدن عن طاعته، يفوت مصالح الدنيا أيضا، وربما أدى إلى تفويت الصلوات الخمس، وغيرها من الطاعات، كما هو واقع كثير؛ فهذه هي المسائل التي حضرت الكلام فيها عندنا. أحدها: فضول الطعام الثانية: فضول الكلام الثالثة: فضول المخالطات الرابعة: فضول النظر بالعين الخامسة: فضول الاستماع بالأذن السادسة: فضول النوم وقد بينا لك بعض الكلام عليها، وفائدة العلم: العمل، فعليك بالعمل بما وصفته أن لا تأكل من الطعام ولا تشرب من الشراب إلا ما الجزء: 14 ¦ الصفحة: 241 يحتاج إليه بدنك من غير زيادة، وعلى حسب الزيادة تكون المضرة. ثم تكف لسانك عن كل ما لا ينفعك في دينك أو دنياك، والله أعلم، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم. [الحث على تقوى الله تعالى وبيان معناها وشكر ما أنعم الله به من الدعوة المباركة] وقال بعضهم، رحمه الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم إلى من يراه من المسلمين، وفقنا الله وإياهم لما يوصل إلى رضاه والجنة، آمين، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فالواجب علينا وعليكم تقوى الله سبحانه وتعالى، قال تبارك وتعالى:: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [سورة آل عمران آية: 102] . وقال صلى الله عليه وسلم لمعاذ: اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها 1 الحديث. والآيات والأحاديث في هذا المعنى كثير، قال طلق ابن حبيب في تفسيره التقوى: أن تعمل بطاعة الله على نور من الله، ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله على نور من الله، تخشى عقاب الله. وقال ابن جرير، وابن كثير: التقوى هي امتثال أمر الله واجتناب نهيه. وأعظم أمرٍ أمرنا الله به: التوحيد، الذي هو مضمون   1 الترمذي: البر والصلة 1987 , وأحمد 5/153 ,5/158. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 242 شهادة أن لا إله لا الله، ومن ذلك الدعوة إلى ذلك، علما وعملا واعتقادا، والحذر من الإعراض عن ذلك، قال تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً} [سورة طه آية: 124] . وقال تعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} [سورة الزخرف آية: 36] . وقال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا} [سورة السجدة آية: 22] . والآيات في هذا كثيرة، فاحذروا رحمكم الله من الإعراض، فإن أمره أمر وخيم. وقد من الله علينا بدعوة هذا الشيخ، أعني: شيخ الإسلام، محمد بن عبد الوهاب، فوفق لها من وفق وخذل عنها من خذل؛ فأراها اليوم قد أسملت واخلولقت عند كثير من الناس، فالواجب علينا وعليكم شكر هذه النعمة، والتحدث بها، والاعتراف بها باطنا وظاهرا، والحذر من كفرانها، والهمز واللمز بها وبأهلها، المنتسبين إليها، لأنها حقيقة دعوة الرسل، من أولهم إلى آخرهم. ولا يخفاكم أن الساخر بدعوة الرسل، والمستهزئ بها، والمنتسبين إليها، ليس له نصيب في الإسلام; كذلك الواجب عليكم: التعاون على البر والتقوى، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [سورة آل عمران آية: 110] . الجزء: 14 ¦ الصفحة: 243 وقال تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [سورة آل عمران آية: 104] . وقال صلى الله عليه وسلم لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، أو ليضربن الله قلوب بعضكم ببعض، ثم يلعنكم كما لعنهم 1 يعني بني إسرائيل. وقد جرى في هذا الزمان من العبر ما لا يخفى على عاقل، وذلك إنما حدث بذنب، فالواجب علينا وعليكم التوبة والإنابة إلى الله بالطاعة، وترك المعصية؛ ولا تظنوا أن غلاء هذه الأسعار عادة; بل إنما حدث بسبب ذنوب; وكذلك ما جرى من تكسر النخيل بسبب الريح، وغير ذلك من الحوادث. ومن أعظم ذنب تعجل به العقوبة: الزنى، وفشو الربا، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [سورة البقرة آية: 278-279] . ومما نهى الله عنه: كون الإنسان لا يأمن جليسه، بل متى يغيب عنه يعقره، ويأكل عرضه; وبالجملة: فالواجب عليكم امتثال أمر الله ما استطعتم، واجتناب ما عنه نهاكم، قال صلى الله عليه وسلم: إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه 2، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم باجتناب كل ما نهى عنه.   1 أبو داود: كتاب الملاحم 4336. 2 البخاري: الاعتصام بالكتاب والسنة 7288 , ومسلم: الحج 1337 , والنسائي: مناسك الحج 2619 , وابن ماجه: المقدمة 2 , وأحمد 2/508. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 244 ولا يخفاكم أن التقصير حاصل في الأمر، وأن الإفراط حاصل في النهي؛ فنحن مقصرون في أوامر ربنا، مفرطون في ارتكاب نواهيه، وإلا فالآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر، هم الناجون، قال تعالى: {فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ} [سورة هود آية: 116] الآية. قال ابن القيم رحمه الله: الغرباء في هذا العالم هم أهل هذه الصفة المذكورة في هذه الآية، وهم الذين أشار إليهم النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: بدأ الإسلام غريبا، وسيعود غريبا كما بدأ، فطوبى للغرباء، قيل: ومن الغرباء يا رسول الله؟ قال: الذين يصلحون إذا فسد الناس 1. وفي حديث عبد الله بن عمر، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، ونحن عنده: طوبى للغرباء، قيل: ومن الغرباء يا رسول الله؟ قال: ناس صالحون قليل، في ناس سوء كثير، من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم 2. فأهل الإسلام بين أكثر الناس غرباء، وأهل الإيمان بين أهل الإسلام غرباء، وأهل العلم في المؤمنين غرباء، وأهل السنة الذين تميزوا بها عن الأهواء والبدع، فيهم غرباء، والدّعون إليها، الصابرون على أذى المخالفين لهم، أشد غربة. ولكن هؤلاء هم أهل الله حقا، فلا غربة عليهم، وإنما   1 الترمذي: الإيمان 2630 , وأحمد 4/73. 2 أحمد 2/222. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 245 غربتهم بين الأكثرين، قال تعالى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [سورة الأنعام آية: 116] . فأولئك هم الغرباء، من الله ورسوله ودينه، وغربتهم هي الغربة الموحشة، وإن كانوا هم المعروفين المشار إليهم; فالغربة ثلاثة أنواع: غربة أهل الله; وأهل سنة رسوله بين هذا الخلق; وهذه الغربة هي التي مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبر عن الدين الذي جاء به أنه بدأ غريبا، وسيعود غريبا كما بدأ، وأن أهله يصيرون غرباء. وقال الحسن: المؤمن في الدنيا كالغريب لا يجزع من ذلها، ولا ينافس في عزها، للناس حال وله حال. ومن صفات هؤلاء الغرباء، الذين غبطهم النبي صلى الله عليه وسلم: التمسك بالسنة إذا رغب عنها الناس، وترك ما أحدثوه وإن كان هو المعروف عندهم، وتجريد التوحيد وإن أنكر ذلك أكثر الناس، وترك الانتساب إلى أحد غير الله ورسوله، لا صديق ولا مذهب ولا طائفة. بل هؤلاء الغرباء ينتسبون إلى الله تعالى بالعبودية له وحده، وإلى رسوله بالاتباع لما جاء به وحده؛ وهؤلاء هم القابضون على الجمر، فلغربتهم بين هذا الخلق يعدونهم أهل شذوذ، وأهل بدعة ومفارقة للسواد الأعظم، وقال النبي صلى الله عليه وسلم إنهم النّزاع من القبائل 1 انتهى.   1 ابن ماجه: الفتن 3988 , وأحمد 1/398 , والدارمي: الرقاق 2755. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 246 فالواجب التوبة إلى الله، والسعي في الاتصاف بهذه الصفة، وأن لا يكون هم الإنسان دنياه، والحذر من تخويف الشيطان، قال تعالى: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [سورة آل عمران آية: 175] . وفقنا إلله وإياكم لما يحبه ويرضاه، وجعلنا وإياكم من حزبه وأوليائه، لا من حزب الشيطان وأوليائه، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم. [تعين النصح في بعض الأوقات والتعاون على البر والتقوى] وقال بعضهم، رحمه الله: بسم الله الرحمن الرحيم إلى من يراه من المسلمين، وفقهم الله لسلوك صراطه المستقيم، وجعلهم من أهل دينه القويم، المفضي بأهله إلى جنات النعيم، آمين. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فقد تعين النصح، والتعاون على البر والتقوى، لا سيما في هذه الأوقات، قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [سورة المائدة آية: 2] . والتقوى: كلمة جامعة لكل خير، لأن الخير كله بحذافيره، في امتثال أمر الله، واجتناب نهيه، وهذا هو معنى التقوى. قال ابن جرير، رحمه الله: التقوى هي امتثال أمر الله واجتناب نواهيه. فمن أمر الله الذي أمرنا به، وحضنا عليه، اتباع كتابه، وسنة نبيه، قال تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 247 مِنْ رَبِّكُمْ} [سورة الأعراف آية: 3] الآية. وما أنزل إلينا من ربنا، هو كتابه وسنة نبيه. فحقيق بمن نصح نفسه: أن يجلس بها ويحاسبها، وينظر: هل نفسه تشتاق إلى ذلك، وتألفه وتحبه؟ أم هي معرضة عنه، نافرة منه، مبغضة لأهله نافرة عنهم؟! فيا خسارة من حاله حال البطالين، المعرضين النافرين، المنفرين عما جاء به سيد المرسلين، فحسرته أعظم حسرة، وندامته أعظم ندامة. إذا علم هذا؛ فأعظم ما أمر الله به في كتابه، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم توحيده الذي هو إفراد الله بالعبادة، وترك عبادة من سواه، والبراءة منه ومن عابدة فحق على كل مسلم ومسلمة البحث عن حقيقة التوحيد، وعن أركانه وأنواعه، وواجباته، وما يلزمه مع أهله. ومن أعظم ما نهى الله عنه في كتابه، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم: الشرك بالله، ووسائله، وذرائعه المفضية إليه، وترك العمل به. فإن بالبحث عن هذين الأمرين - أعني التوحيد والشرك - يخرج الإنسان من زمرة المعرضين المفرطين الجاهلين، إلى زمرة المقبلين المتعلمين، المتسببين بالأسباب النافعة، التي توصل فاعلها برحمة الله إلى رضاه وجناته، وتخلصه من غضبه وعقوباته. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 248 فالله الله، في البحث عما ذكرت لكم، وإياكم والجفاء والإعراض؛ فإنهما يهلكان لمن اتصف بهما، قال تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} [سورة طه آية: 124-126] ، فنسيان آياته: ترك العمل بها. فاحذروا رحمكم الله نسيان آياته، فإن نسيانها يورث نسيان الله لعبده، وهو تركه في العذاب، ولا يخلص من ذلك إلا الإقبال على كتابه، وسنة رسوله، والعمل بها باطنا وظاهرا. ومما أمرنا الله بالعمل به، في كتابه: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال تبارك وتعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [سورة آل عمران آية: 104] . وقال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [سورة آل عمران آية: 110] . والمعروف: كلمة جامعة لكل ما أمر الله به، أمر إيجاب أو أمر استحباب، والمنكر: كلمة جامعة، لكل ما نهى الله عنه; فأعظم ما نهى الله عنه الشرك، والكفر، ووسائلهما، وذرائعهما. ومن ذلك: ما هو واقع على ألسن كثير من الناس، وهو: الاستهزاء بدين الله أو بشيء منه، ومن الاستهزاء الجزء: 14 ¦ الصفحة: 249 بدين الله: الاستهزاء بمن انتسب إليه، قولا أو فعلا. فمن القول: قول الجهال: هؤلاء مطاوعة الصحفة، هؤلاء الخوان، هؤلاء أصحاب الدفاتر، عندي اليوم وعندك باكر؛ وغير ذلك مما هو جار اليوم كثير. ومن الفعل: رمش بالعين، ومد اللسان، وما أشبه ذلك; فحق على كل من أراد نجاته وسلامته، من غضب الله وعقابه أن يبحث عن هذه الأقوال، والأفعال، ويجتنبها، وينكر على من صدرت منه، ولا يخاف في الله لومة لائم. قال تعالى:: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} [سورة المائدة آية: 54] . واعلموا: أن كل بلد لا يكون فيها من يدعو إلى الخير، وينهى عن الشر، ويحذر عنه، فهي بلد ما هي من استيطان الشيطان لها ببعيد - أعاذنا الله وإياكم -. فالله الله في استجلاب ما يطرد الشيطان، ويبعده عن دياركم، وذلك بتعلم العلم وتعليمه. فإن البلد التي فيها عالم يعلم الخير، وينهى عن الشر، قد طردت منها الشياطين، واستوطنتها الملائكة. فعليكم معاشر المسلمين بالجد والاجتهاد في ذلك، والعمل به، وإياكم والغفلة والتغافل عن ذلك، وترك العمل به، فإنه والله الهلكة. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 250 أسأل الله العظيم الرؤوف الرحيم، أن يتولاني وإياكم فيمن تولى، بولايته الخاصة، وألا يكلني وإياكم إلى أنفسنا طرفة عين، فإنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. [الحث على التقوى والأمر بالمعروف والتنبيه على الأخذ على يد السفيه] وقال بعضهم رحمه الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، إلى من يصل إليه ويسمعه من المسلمين، سلمهم الله تعالى من عقوبات الدنيا والآخرة، وألبسهم ملابس الإيمان الفاخرة، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فالذي نوصيكم به وأنفسنا، تقوى الله تعالى، فإنها وصية الله لعباده الأولين والآخرين، قال تعالى: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [سورة النساء آية: 131] . وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [سورة آل عمران آية: 102] . قال بعض المفسرين: حق تقاته، هو: أن يطاع فلا يعصى، ويذكر فلا ينسى، ويشكر فلا يكفر; وقوله: {فَلا تَمُوتُنَّ إِلاّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [سورة البقرة آية: 132] ، أي: حافظوا على الإسلام في حال صحتكم وسلامتكم، لتموتوا عليه، فإن الكريم قد أجرى عادته بكرمه أن من عاش على شيء مات عليه. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 251 وقال: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} [سورة آل عمران آية: 103] . قال أهل العلم: حبل الله القرآن، كما في حديث علي رضي الله عنه هو حبل الله المتين، وصراطه المستقيم 1. وقال بعض السلف: حبل الله المتين هو: إخلاص التوحيد لله. قال أبو العالية: يقول سبحانه وتعالى: واعتصموا بالإخلاص لله وحده، انتهى; وذلك لأن الإخلاص أعظم ما أمر الله به في كتابه، فمعنى الاعتصام: التمسك به بتوحيد الله تعالى، والعمل بكتابه؛ وبذلك يحصل كل خير وصلاح وعافية في الدنيا، والأمن من عقوبات الدنيا والآخرة. واعلموا أن من أشرف مقامات الدين، وفرائضه التي افترضها الله تعالى على عباده المؤمنين، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [سورة آل عمران آية: 110] . وقال: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [سورة آل عمران آية: 104] . فكفى بهذه الآيات دليل على شرف الآمر بالمعروف، والناهي عن المنكر. ثم أخبر أصدق القائلين جل ذكره أنهم هم المفلحون; وفيها تنشيط لأهل الإيمان على التشمير في هذا   1 الترمذي: فضائل القرآن 2906 , والدارمي: فضائل القرآن 3331. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 252 المقام، وهو مقام الرسل وأتباعهم؛ فمن يسره الله له، فهو من أعظم نعم الله عليه. والآيات والأحاديث في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والوعيد على تركهما، كثيرة جدا، منها حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: كنت عاشر عشرة من المهاجرين، عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبل علينا بوجهه، وقال: يا معشر المهاجرين، خمس خصال إذا ابتليتم بهن، وأعوذ بالله أن تدركوهن: ما ظهرت الفاحشه في قوم حتى أعلنوها، إلا ابتلاهم الله بالطواعين، والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا. ولا نقص قوم المكيال والميزان إلا ابتلاهم الله بالسنين، وشدة المؤنة، وجور السلطان. ولا منع قوم زكاة أموالهم، إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا. ولا خفر قوم العهد، إلا سلط الله عليهم العدو، فأخذوا بعض ما في أيديهم. وما لم تعمل أئمتهم بما أنزل الله عز وجل في كتابه، إلا جعل الله بأسهم بينهم. وعن أنس بن مالك، رضي الله عنه مرفوعا: لا تزال لا إله إلا الله تنفع من قالها، وترد عنهم العذاب والنقمة، ما لم يستخفوا بحقها; قالوا: يا رسول الله، وما الاستخفاف بحقها؟ قال: يظهر العمل بمعاصي الله، فلا ينكر ولا يغير. فارغبوا بما رغبكم الله، ولا تهنوا ولا تضعفوا، ترشدوا بذلك وتسعدوا; وكذلك احذروا مقاربة الزنى، فإن فيه الجزء: 14 ¦ الصفحة: 253 فساد الأنساب، وقصر الأعمار، فقد حرمه الله ورسوله، فقال: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً} [سورة الإسراء آية: 32] . وقال تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [سورة النور آية: 2] ، وفي الحديث: لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن 1 وفي رواية: لا تزنوا فإن من زنا نزع منه نور الإيمان. وما من ذنب أعظم عند الله بعد الشرك، من نطفة وضعها رجل في رحم لا يحل له وإن السماوات السبع، والأرضين السبع، تلعن الشيخ الزاني، وإن الزناة تؤذي أهل النار برائحتها، والمقيم على الزنا ومستحله كعابد وثن. وإيّاكم والتكاسل عن شهود الجمع والجماعات من غير عذر، فإنه من أعظم المنكرات، فإنه هم صلى الله عليه وسلم أن يحرق على المتخلفين عن الجماعة بيوتهم بالنار، وفي الحديث: من سمع النداء فلم يمنعه من اتباعه عذر، قالوا: وما العذر؟ قال: خوف أو مرض، لم تقبل منه الصلاة التي صلى في بيته 2. واحذروا عقوق الوالدين، وقطيعة الرحم، وأكل مال اليتيم، والاستطالة على الضعفاء والمساكين، والتعدي عليهم في أبشارهم، وأموالهم، وأعراضهم، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة.   1 البخاري: المظالم والغصب 2475 , ومسلم: الإيمان 57 , والترمذي: الإيمان 2625 , والنسائي: قطع السارق 4870 ,4871 ,4872 والأشربة 5659 ,5660 , وأبو داود: السنة 4689 , وابن ماجه: الفتن 3936 , والدارمي: الأشربة 2106. 2 أبو داود: الصلاة 551. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 254 وفي الحديث: أتدرون من المفلس؟ قالوا: المفلس من لا درهم له ولا متاع; قال: إن المفلس من أتى يوم القيامة بصلاة، وحج، ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأخذ مال هذا، ونال من عرض هذا، وسفك دم هذا، فيؤخذ لهذا من حسناته، وهذا من حسناته. فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه، أخذ من خطاياهم، فطرحت عليه، ثم طرح في النار 1. واحذروا الخيانة في الأمانة، والكذب في الحديث والبياعات، ففي الحديث: لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له 2 وفي الحديث: الصدق يهدى إلى البر، والبر يهدي إلى الجنة 3. واحذروا الغيبة، وهي: ذكرك أخاك المسلم بما يكره في غيبته; والنميمة، وهي: نقل حديث الناس بعضهم إلى بعض، على وجه الإفساد; وفي الحديث: لا يدخل الجنة نمام 4 وأعظمها إثما وجرما: ما كان عند ولاة الأمور، ويسمى سعاية; وفي الحديث: تجدون شر الناس ذا الوجهين الذي يأتي هؤلاء بوجه، وهؤلاء بوجه: ومن كان ذا لسانين في الدنيا، فإنه يأتي يوم القيامة وله لسانان من نار 5. وطهروا مكاسبكم من الربى والغش، والتطفيف، والحلف عند البيع والشراء; واجتنبوا الألفاظ القبيحة، مثل اللعن، فإن في الحديث: لعن المسلم كقتله 6 وكذلك   1 مسلم: البر والصلة والآداب 2581 , والترمذي: صفة القيامة والرقائق والورع 2418 , وأحمد 2/303. 2 أحمد 3/135. 3 البخاري: الأدب 6094 , ومسلم: البر والصلة والآداب 2607 , والترمذي: البر والصلة 1971 , وأبو داود: الأدب 4989 , وابن ماجه: المقدمة 46 , وأحمد 1/384. 4 مسلم: الإيمان 105 , وأحمد 5/391 ,5/396 ,5/399 ,5/406. 5 البخاري: المناقب 3494 والأدب 6058 والأحكام 7179 , ومسلم: البر والصلة والآداب 2526 , والترمذي: البر والصلة 2025 , وأبو داود: الأدب 4872 , وأحمد 2/307 ,2/336 ,2/365 ,2/455 ,2/465 ,2/517 ,2/524 , ومالك: الجامع 1864. 6 البخاري: الأدب 6047 ,6105 والأيمان والنذور 6653 , ومسلم: الإيمان 110 , وأحمد 4/34 , والدارمي: الديات 2361. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 255 قوله: يا فاجر، يا كلب، يا خنْزير، يا حمار، ونحو ذلك من الألفاظ. وكذلك مخالطة النساء للرجال، وإظهار الزينة من المرأة إذا خرجت، وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم أمته عن فتنتهن; وفي الحديث: لا يخلو رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما 1. وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن فتنة بني إسرائيل كانت في النساء. ومما يجب التنبه له: الأخذ على يد السفهاء والجهال، بردعهم عن الفساد وأسبابه الموصلة إليه، كالتكاسل عن شهود الجماعات في المساجد من غير عذر، والاجتماع على ما لا مصلحة فيه، لا تعود إلى دين ولا إلى دنيا، وإذا انتفت المصلحة وقعت المضرة ولا بد. فأكثروا من الاستغفار، والتوبة النصوح، والصدقة، فإن الله يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له، قال تعالى: {وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [سورة المزمل آية: 20] . وقال تعالى: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سورة سبأ آية: 39] . وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بالصدقة، وتلا قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [سورة النساء آية: 1] .   1 البخاري: النكاح 5232 , ومسلم: السلام 2172 , والترمذي: الرضاع 1171 , وأحمد 4/149 ,4/153 , والدارمي: الاستئذان 2642. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 256 وفيه من المناسبة في الصدقة أن أصل الغني والفقير واحد، فلا يمنع الغني أخاه الفقير مما أعطاه الله شكرا لله على أن جعله غنيا، وجعل من هو مثله محتاجا، وفيها الحث على صلة الرحم; فتدبروا كتاب الله، وقفوا على عجائبه، ومقاصده، وحركوا به القلوب. وفي حديث معاذ: الصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار 1، وفي الحديث الآخر: إن الصدقة تطفئ غضب الرب، وتدفع ميتة السوء 2. وفي حديث: بادروا بالصدقة، فإن البلاءلا يتخطاها. وفي حديت آخر: ما نقص مال من صدقة، بل تزدهبل تزده وروى أبو داود والترمذي، مرفوعا: أيما مسلم كسا مسلما ثوبا على عري، كساه الله من خضر الجنة، وأيما مسلم أطعم مسلما على جوع، أطعمه الله من ثمار الجنة; وأيما مسلم سقى مسلما على ظمأ، سقاه الله من الرحيق المختوم 3. وتأهبوا للخروج للاستسقاء، واخرجوا متواضعين؛ متخشعين، متذللين متبذلين، لعل الله أن يرحمكم، ويقبل توبتكم، ودعاءكم، وقدموا بين يدي خروجكم صدقة، وتجزلوا، فالذي عنده حق لله تعالى، ونواها زكاة، فلا بأس، والذي يقصد بها صدقة التطوع، فعلى نيته، والنبي صلى الله عليه وسلم أمر بجمع الصدقة، فلا يشكل على بعض الناس جمعها، والتنافس في وجوه الخير مما ينبعي.   1 الترمذي: الجمعة 614. 2 الترمذي: الزكاة 664. 3 الترمذي: صفة القيامة والرقائق والورع 2449 , وأبو داود: الزكاة 1682 , وأحمد 3/13. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 257 فعليكم بالإخلاص لله تعالى، وقصد وجهه، والذي يستحب أنه يصام يوم الخروج، فبعض أهل العلم يستحبه، ويكون الخروج - إن شاء الله تعالى - يوم الاثنين 21 صفر، ونرجو من الله أن يقبل توبتنا وتوبتكم، ويأخذ بنواصينا وإياكم لما يحب ويرضى، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم. [التذكير بما يجري الله في خلقه بالمعصية من منع القطر والنصح بالتوبة] وقال بعضهم، رحمه الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله، الملك الحق المبين، وأصلي وأسلم على النبي محمد خاتم النبيين، وعلى آله وأصحابه الأئمة المهديين. وبعد: معشر المسلمين، إن ربكم الله تبارك وتعالى، ذكركم بما قضاه وقدره، من هذه المصائب لكم، وموعظة، لعلكم ترجعون وتنيبون إليه، وتتوبون إليه من ذنوبكم، وتستغفرون، كما قال تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [سورة الروم آية: 41] . وقال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [سورة الأنعام آية: 42-43] . وقال جل ذكره: {وَلَوْ أَنَّ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 258 أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [سورة الأعراف آية: 96] . وقال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [سورة الشورى آية: 30] . وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ} [سورة الرعد آية: 11] . وفي الأثر: ما نزل بلاء إلا بذنب، ولا رفع إلا بتوبة. وفي الأثر الآخر: إن الرب تبارك وتعالى، يقول: وعزتي وجلالي، لا يكون عبد من عبادي على ما أحب فيتحول منه إلى ما أكره، إلا تحولت له مما يحب إلى ما يكره; ولا يكون عبد من عبادي على ما أكره فيتحول منه إلى ما أحب، إلا تحولت له مما يكره إلى ما يحب. وعليكم عباد الله أن تتوبوا إلى ربكم توبة نصوحا، وأن تحولوا مما يكره ربكم إلى ما يحب، لعل الله أن يتحول لكم مما تكرهون إلى ما تحبون، قال الله تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [سورة النور آية: 31] . وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [سورة التحريم آية: 8] . وقال تعالى: {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعاً حَسَناً إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ} [سورة هود آية: 3] . الجزء: 14 ¦ الصفحة: 259 وقال نبيكم صلى الله عليه وسلم: يا أيها الناس توبوا إلى ربكم، فإني أتوب إلى الله في اليوم أكثر من مائة مرة 1. وفي الحديث الآخر: من لزم الاستغفار، جعل الله له من كل هم فرجا، ومن كل ضيق مخرجا، ورزقه من حيث لا يحتسب 2. ومن أخطر ما يكون سببا لمنع القطر، وموجبا للقحط، وضررا على البهائم: التهاون بالفرائض، وأن الفقير منا لا يصبر، ولا يرغب إلى ربه وينْزل حاجته به، ويلح في مسألته في كشف ما نزل به، فإن الله تعالى هو الغني الحميد، يحب أن يسأل، ومن سأله فهو القريب المجيب؛ وأن ذا الثروة منا لا يشكر، ولا يعرف الحق الواجب في ماله. وقد غلب على ذوي الأموال في بلادنا هذا البخل، حتى منعوا ما أوجب الله في أموالهم من الزكاة المفروضة، ونفقة ذوي القربى، وصلة الرحم، وقرى الضيف، وإغاثة الملهوف، مع حرصهم - سامحنا الله وإياهم - على طلب المال، حتى ربما عاملوا بالربا، وأخذوا المال، واكتسبوه من غير حله. فمن جمع بين منع الحق الواجب في ماله، وبين اكتسابه من الوجوه المحرمة، كان عاقبته أن يعذب بماله العذاب الأليم، لأن كلا من الأمرين موجب لغضب الله، وحلول عقابه، كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ يَوْمَ   1 مسلم: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار 2702 , وأحمد 4/211. 2 أبو داود: الصلاة 1518 , وابن ماجه: الأدب 3819. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 260 يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لانْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} [سورة التوبة آية: 34-35] . قال ابن عباس في الآية: كل مال لا تؤدي زكاته فهو كنْز، يعني ولو كان في يد صاحبه، أو عرض تجارة، أو دين في ذمم الغرماء، وقال تعالى: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [سورة آل عمران آية: 180] . والرب تعالى يجازي العبد من جنس عمله، فكما منعه الحق الواجب منع الله عنهم سبب الرزق، كما قال صلى الله عليه وسلم: يا معشر المهاجرين، خمس خصال - وأعوذ بالله أن تدركوهن -: ما ظهرت الفاحشة في قوم حتى أعلنوا بها، إلا ابتلوا بالطواعين والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا. وما منع قوم زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا. وما نقص قوم المكيال والميزان، إلا ابتلوا بالسنين، وشدة المؤنة، وجور السلطان. وما خفر قوم العهد، إلا سلط الله عليهم عدوهم من غيرهم، فأخذوا بعض ما في أيديهم. وما لم تعمل أئمتهم بما أنزل الله عز وجل في كتابه، إلا جعل الله بأسهم بينهم. والبصير العاقل يرى ما أخبر به صلى الله عليه وسلم من هذه الجزء: 14 ¦ الصفحة: 261 العقوبات، في هذا الحديت عيانا، لأن موجباتها قد وقعت، فإنا لله وإنا إليه راجعون. ودل الحديث على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن بترك ذلك تقع العقوبات، وقد دل القرآن المجيد على مثل ذلك، كما قال تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [سورة آل عمران آية: 104] . وقال تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [سورة المائدة آية: 78-79] . وفي الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن من كان قبلكم كانوا إذا أتى أحدهم الخطيئة، جاءه الناهي تعذيرا، فإذا كان من الغد جالسه، وواكله وشاربه، فلما رأى الله ذلك منهم ضرب قلوب بعضهم على بعض، ثم لعنهم الله على ألسنة أنبيائهم: داود وعيسى ابن مريم. والذي نفسي بيده. لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يد السفيه، ولتأطرنه على الحق أطرا، أو ليضربن الله قلوب بعضكم على بعض، ثم يلعنكم كما لعنهم. وفي الحديث الآخر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الخطيئة إذا خفيت لم تضر إلا صاحبها، وإذا ظهرت ولم تغير، ضرت العامة وفي الحديث الآخر عنه صلى الله عليه وسلم: ما الجزء: 14 ¦ الصفحة: 262 من قوم يعمل فيهم بالمعاصي، يقدرون على أن يغيروا فلم يغيروا، إلا يوشك أن يعمهم الله بعقابه 1. والمعروف الذي يجب الأمر به: ما عرفه الشرع، من الأمر بالتوحيد، والمحافظة على الصلوات الخمس، وأداء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت حجة الإسلام، وبر الوالدين، وصلة الرحم، ونحو ذلك من واجبات الدين. والمنكر الذي يجب إنكاره: ما أنكره الشرع، كالشرك بالله، وعقوق الوالدين، والتهاون بالفرائض، وقطيعة الرحم، وظلم العباد، وانتهاك الحرمات، كالزنى، وشرب المسكرات، ونحو ذلك مما نهى الله عنه ورسوله. فكل ذلك فرض على المسلمين القيام به، وإذا تركوه جميعهم أثموا. وروت عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال وهو على المنبر: لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، أو ليسلطن الله عليكم شراركم، فيسومونكم سوء العذاب، ثم يدعو أخياركم، فلا يستجاب لهم. لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، أو ليبعثن الله عليكم من لا يرحم صغيركم، ولا يوقر كبيركم. فالله الله عباد الله، في القيام بما أوجب الله عليكم، والانتهاء عما حرم الله عليكم، والأمر بذلك، والتواصي والتناصح فيه؛ ويجب على ولاة الأمر من ذلك زياده على غيرهم، ومن وجوب نصيحتهم لرعيتهم، ولأن الله سيسألهم   1 أبو داود: الملاحم 4339 , وابن ماجه: الفتن 4009. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 263 عما استرعاهم، قال الله تعالى: {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [سورة العصر آية: 3] . وقال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [سورة المائدة آية: 2ب] ، فلا صلاح للعباد، ولا فلاح، ولا نجاة، ولا سلامة من عقوبات الدنيا، والآخرة إلا بذلك. ومما يستدفع به النقم، ويستجلب به النعم: الرأفة والرحمة بالفقراء، والأرملة والمساكين، واليتامى، والصدقة عليهم، كما قال تعالى: {وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} [سورة الحديد آية: 7] . وقال تعالى: {وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ} [سورة المنافقون آية: 10] . وفي الحديث، عن النبي صلى الله عليه وسلم باكروا بالصدقة فإن البلاء لا يتخطاها وفي الحديث الآخر: إن الصدقة تطفئ غضب الرب، وتطفئ الخطيئة، وتدفع ميتة السوء 1. وفي الحديث الآخر: الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا ترحموا، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء 2. وقد سن لكم نبيكم صلى الله عليه وسلم إذا أبطأ المطر عن أوان نزوله، أن تبرزوا إلى الصحراء، وتصلوا، وتسألوه أن يسقيكم، فليكن ذلك بعد توبة وبر، وقلوب خاشعة،   1 الترمذي: الزكاة 664. 2 الترمذي: البر والصلة 1924 , وأبو داود: الأدب 4941. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 264 وتذلل، وخروج من المظالم، وسلامة من الغل، والحسد، والحقد للمسلين. نسأل الله العظيم رب العرش الكريم، أن يعاملنا بعفوه ويرحمنا برحمته؛ ونعوذ بالله من زوال نعمته، وتحول عافيته، ومن جميع سخطه؛ فهو حسبنا ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله على محمد. [التذكير باضطرار العباد إلى ربهم وعدم فزعهم في الشدائد إلا إليه] وقال الشيخ حمد بن عبد العزيز، رحمه الله: بسم الله الرحمن الرحيم من حمد بن عبد العزيز، إلى الأخوين المكرمين: مسعد، وسعد، سلام عليكم، ورحمة الله وبركاته. وبعد: تفهمون اضطرار العباد إلى ربهم، وأنهم إذا نزل بهم الشدائد، فلا يفزعون في كشفها إلا إليه؛ وقد دعا عباده إلى ذلك ورغبهم، فقال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [سورة غافر آية: 60] . وقال: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [سورة البقرة آية: 186] الآية. وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: الدعاء سلاح المؤمن، وعماد الدين، ونور السماوات والأرض. وقد عزم إخوانكم على الخروج والاستسقاء - إن شاء الله - نهار الاثنين، عسى الله أن يرحم عباده برحمته، الجزء: 14 ¦ الصفحة: 265 وهو أرحم الراحمين، والسلام. [التذكير بنعمة الإسلام وما فيه صلاح العباد وذكر من ذمه الله] وقال الشيخ: عبد الله ابن الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن، رحمهم الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين: إلى من بلغه هذا الكتاب، من إخواننا المسلمين، وفقنا الله وإياهم لفعل الخيرات، وترك المنكرات، وأصلح لنا ولهم الأقوال والأعمال، والنيات، سلام عليكم، ورحمة الله وبركاته. أما بعد، فقد قال الله تعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [سورة الذاريات آية: 55] . وقال تعالى: {سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى} [سورة الأعلى آية: 10] . وقال تعالى: {وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [سورة الأعراف آية: 164] . وأنفع الوصايا والنصائح لمن قبلها، وعرف تفاصيلها، ما وصى الله به الأولين والآخرين، بقوله: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [سورة النساء آية: 131] . وأصل التقوى: أن يجعل العبد بينه وبين النار وقاية تقيه الجزء: 14 ¦ الصفحة: 266 منها، بفعل ما أمر الله به، واجتناب ما نهاه الله عنه، ومعرفة ذلك علما وعملا. وأيضا: تذكيركم بما من الله به عليكم من نعمة الإسلام، وما اختصكم به من الانتساب إليه في هذه الأزمان التي تشبه أزمان الفترات، لقلة من يعرف الإسلام على الحقيقة، ويلتزم مبانيه، ويعرف حدوده وحقوقه، وفرائضه ومكملاته. وأكثر الناس قد غلب عليه الجهل بهذا، ورغب عن تعلمه وتعليمه، حتى جهلت حقيقة دين الإسلام الذي كان علية النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من بعده، كما أخبر صلى الله عليه وسلم بقوله: افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة. قيل: من هم يا رسول الله؟ قال: من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي. ولا صلاح للعباد في معاشهم ومعادهم، إلا بمعرفة ما خلقوا له من توحيد ربهم الذي بعث به رسله، وأنزل به كتبه، وقبوله وإيثاره والعمل به، ومحبته واستفراغ الوسع في ذلك علما وعملا، والدعوة إليه، والرغبة فيه؛ وأن يكون ذلك أكبر هم الإنسان، ومبلغ علمه، ليحصل له بذلك النجاة في الدنيا والآخرة وقد علمتم ما وقع من العقوبات بسبب الجزء: 14 ¦ الصفحة: 267 التفريط إلى شكر هذه النعمة، والتهاون بها، وعدم الرغبة فيها. وقد ذم الله تعالى في كتابه أهل الغفلة والإعراض عن ذكره، بقوله تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [سورة طه آية: 124] . وقد أراكم الله من آياته ما فيه عظة للمتعظين، وعبرة للمعتبرين، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [سورة المائدة آية: 11] . وقال تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [سورة إبراهيم آية: 7] . فاشكروا الله تعالى بامتثال أمره، واجتناب نهيه، ولا تعدوا حدوده. واعلموا: أن كل شر في الدنيا والآخرة، فسببه الذنوب والمعاصي، قال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [سورة الشورى آية: 30] . وقال تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [سورة الروم آية: 41] . وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [سورة الرعد آية: 11] . وكلما أحدث الناس شرا وفجورا، أحدث لهم ربهم تبارك وتعالى من الآفات والعلل، في أغذيتهم وأهويتهم، الجزء: 14 ¦ الصفحة: 268 وفواكهم ومياههم، وأبدانهم وخلقهم وصورهم، ما هو موجب أعمالهم وفجورهم، ولا يظلم ربك أحدا. وقد علمتم ما وقع من الخلل بترك الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والغفلة عن ذلك، وعدم الإحساس به، وذلك مما يوجب حلول العقوبات، كما قيل: إذا كثر الإمساس قل الإحساس، نعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا. قال تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [سورة آل عمران آية: 104] ، قال بعض العلماء: فروض الكفاية أشد على الناس من فروض العين، لأن فرض العين تخص عقوبته، وفرض الكفاية تعم عقوبته كل من كان له قدرة. وقد ابتلاكم الله، لتذكروا وتنيبوا، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ} [سورة الأعراف آية: 94] . وأخبر تعالى عن الأمم الماضية الذين أرسل إليهم الأنبياء، أنه أخذهم بالبأساء والضراء، يعني بالبأساء هو ما يصيبهم في أبدانهم من الأمراض والأسقام، والضراء هو ما يصيبهم من فقر وحاجة، ونحو ذلك، لعلهم يتضرعون وينيبون. وأعظم التوبة والإنابة القيام بالوظائف الدينية، وأعظمه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 269 ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} [سورة المائدة آية: 78] . والمعاصي مذهبة للنعم، موجبة لحلول النقم. وأعظم المعاصي: ترك الصلاة، قال تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً} [سورة مريم آية: 59] . ومن الناس من يترك حضورها في الجماعة، ويظن في نفسه أنه قد أدى فريضة على الوجه المطلوب، وهيهات هيهات. قال بعض السلف، على قوله تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ} [سورة مريم آية: 59] : والله ما تركوها، ولو تركوها لكانوا كفارا. وعن عبد الله بن عمرو مرفوعا: أنه ذكر الصلاة، فقال: من حافظ عليها وحفظها كانت له نورا وبرهانا ونجاة يوم القيامة، ومن لم يحافظ عليها لم تكن له نورا ولا برهانا ولا نجاة يوم القيامة، وحشر مع فرعون وهامان وقارون وأبي بن خلف 1. وفي الحديث: من ترك الصلاة متعمدا برئت منه ذمة الله ورسوله 2. وفي حديث آخر: من أخرها عن وقتها من غير عذر. وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: إذا ظهرت المعاصي في أمة، عمهم الله بعذاب من عنده 3 وعن ابن مسعود رضي الله عنه: إذا ظهر الزنا والربا في قرية، أذن الله بهلاكها، وفي   1 أحمد 2/169 , والدارمي: الرقاق 2721. 2 أحمد 6/421. 3 أحمد 6/304. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 270 حديث: ما من قوم يظهر فيهم الزنى إلا أخذوا بالفناء. وفيه أيضا: لن تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها، إلا ظهرت فيهم الطواعين والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم 1. وفي حديث: يلبس الزاني درعا من نار، لو أن حلقة منه وقعت على جبل من جبال الدنيا لذاب. فاطلبوا رضى الله تعالى، وتوبوا إليه جميعا أيها المؤمنون، واغضبوا لغضبه، وقوموا بعزيمة صادقة، ونية صالحة، ولا تأخذكم في الله لومة لائم. واحذروا ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم عن بني إسرائيل: أنه إذا عمل العامل منهم بالخطيئة، جاءه الناهي فنهاه تعذيرا، فإذا كان الغد، جالسه وواكله وشاربه، كأنه لم يره على خطيئة بالأمس. فلما رأى الله ذلك منهم، ضرب قلوب بعضهم ببعض، ولعنهم على ألسنة أنبيائهم داود وعيسى ابن مريم، ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون. والذي نفس محمد بيده، لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يد السفيه، ولتأطرنه على الحق أطرا، أو ليضربن الله قلوب بعضكم على بعض. وفي بعض الآثار: أن الله أوحى إلى يوشع بن نون: إني مهلك من قومك أربعين ألفا من خيارهم، وستين ألفا من شرارهم، قال يا رب: هؤلاء الأشرار، فما بال الأخيار؟   1 ابن ماجه: الفتن 4019. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 271 فقال: إنهم لم يغضبوا لغضبي. وفي أثر آخر: أن الله أوحى إلى ملك من الملائكة، أن اخسف بقرية كذا وكذا، قال: يا رب! إن فيهم فلانا العابد، قال: به فابدأ، فإنه لم يتمعر وجهه فيّ يوما قط. ومن أعظم ما ظهر بين الناس بسبب غربة الدين، والمحنة التي أصابت المسلمين: كثرة التلاعن والتقاذف، وهو من الكبائر; كان السلف يؤدبون الصغار على أقل من ذلك; قال إبراهيم النخعي، وهو في زمن التابعين: كانوا يضربوننا على الشهادة، والعهد، ونحن صغار. وعن أبي الدرداء رضي الله عنه مرفوعا: إن العبد إذا لعن شيئا، صعدت اللعنة إلى السماء، فتغلق أبواب السماء دونها، ثم تهبط إلى الأرض، فتأخذ يمنة ويسرة، فإذا لم تجد مساغا، رجعت إلى قائلها 1. وعن أبي هريرة رضي الله عنه: أن امرأة لعنت ناقتها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تصحبنا ناقة عليها لعنة. وعن ثابت بن الضحاك، رضي الله عنه مرفوعا: لعن المؤمن كقتله 2، وعن أبي ذر رضي الله عنه مرفوعا: لا يرمي رجل رجلا بالفسق أو الكفر إلا ردت عليه، إن لم يكن صاحبه كذلك 3 وعن مرة مرفوعا: لا تلاعنوا بلعنة الله، ولا بغضبه، ولا بالنار. ومن قذف رجلا بالزنى، فعليه الحد في ذلك 4 فاحذروا شر اللسان، وورطاته.   1 أبو داود: الأدب 4905. 2 البخاري: الأدب 6105 , ومسلم: الإيمان 110. 3 البخاري: الأدب 6045 , وأحمد 5/181. 4 الترمذي: البر والصلة 1976 , وأبو داود: الأدب 4906. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 272 سأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله: وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ قال: ثكلتك أمك، وهل يكب الناس في النار على وجوههم، أو قال على مناخرهم، إلا حصائد ألسنتهم 1. وكذلك ما حدث من المفاخرة، والخيلاء، والإسبال في الثياب، والسرف في الأكمام وجرها، التي أحدثها في القديم أهل الفخر والخيلاء من الأمراء، وسموه أمير الإخراج وهذا من الكبائر. وقال تعالى: {وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً} [سورة الإسراء آية: 37] . وفي الحديث: من جر إزاره خيلاء، لم ينظرالله إليه يوم القيامة 2. وفي الحديث: بينما رجل يتبختر في برديه، وينظر في عطفيه، إذ نظر الله إليه، فخسف الله به 3. فالواجب علينا وعليكم التوبة إلى الله، والقيام بحقه، والتعاون على البر والتقوى، وقد أعطاكم الله - سبحانه وبحمده - من نعمه، وصرف عنكم كيد عدوكم، ورد لكم الكرة، وولى عليكم من همته في هذا الدين، ومحبته له ودعوته إليه. جعلنا الله وإياكم وإياهم ممن قام بالحق، وقال الصدق، وعمل لله بما يحب، وجاهد في الله حق جهاده. وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب، ولا حول   1 الترمذي: الإيمان 2616 , وابن ماجه: الفتن 3973 , وأحمد 5/231 ,5/237. 2 البخاري: المناقب 3665 , ومسلم: اللباس والزينة 2085 , والترمذي: اللباس 1730 ,1731 , والنسائي: الزينة 5327 ,5328 ,5335 ,5336 , وأبو داود: اللباس 4085 , وابن ماجه: اللباس 3569 , وأحمد 2/5 ,2/9 ,2/33 ,2/42 ,2/44 ,2/46 ,2/55 ,2/56 ,2/60 ,2/67 ,2/69 ,2/74 ,2/76 ,2/81 ,2/101 ,2/103 ,2/128 ,2/131 ,2/136 ,2/155 , ومالك: الجامع 1696 ,1698. 3 البخاري: اللباس 5789 , ومسلم: اللباس والزينة 2088 , وأحمد 2/267 ,2/315 ,2/456 ,2/467 ,2/493 ,2/531 , والدارمي: المقدمة 437. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 273 ولا قوة إلا بالله، وحسبنا الله ونعم الوكيل، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. [الوصية بتقوى الله تعالى وحقيقة معناها وأعظمه والتذكير بنعمة ظهور الإمام محمد بن عبد الوهاب] وله أيضا، رحمه الله: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله بن عبد اللطيف، إلى كافة الإخوان، سلمهم الله تعالى، ووفقهم لسلوك صراطه المستقيم، ورزقهم البصيرة والفهم، في مقام الدعوة إلى الدين القويم، آمين، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أما بعد: فالموجب لهذا هو الوصية بتقوى الله تعالى، فإنها وصية الله للأولين والآخرين، قال تعالى: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [سورة النساء آية: 131] . وحقيقة معناها التي ترجع إليه، هو: أن يجعل العبد بينه وبين النار وقاية تقيه منها، بفعل ما أمر الله به، وترك ما نهى عنه، وتفاصيل ذلك على القلوب والأعضاء، لا يحصيها إلا من حقق مقام العبودية، علما وعملا. ومن أعظم ذلك: معرفة أوجب الواجبات، وأهم المهمات، وهو: معرفة حقيقة دين الإسلام، الذي لا يقبل الله من أحد سواه، والاعتناء بذلك في جميع الساعات، وتجديده في كل الأوقات، إذ بصحته واستقامته، يستقيم للعبد جميع فرائضه ونوافله، وبالخلل فيه يختل على الجزء: 14 ¦ الصفحة: 274 العبد نظام توحيده وجيمع مقاصده. وهذه النعمة هي أجل نعمة على الإطلاق، قد امتن الله بها على عباده، قال تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [سورة آل عمران آية: 164] . وقال: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [سورة الجمعة آية: 2] . فببعث الأنبياء وإرسال الرسل، يحصل بيان التوحيد، وحقيقة دين الإسلام، ويحصل لمن قبل ذلك منهم، وصدق به، كل فلاح وصلاح، وسعادة في الدنيا والآخرة; بل كل خير في الدنيا والآخرة، إنما حصل بواسطة الرسل، والإيمان بما جاؤوا به، وكل شر في الدنيا والآخرة إنما حصل بالجهل بما جاؤوا به، والإعراض عنه، ومخالفته. وقد أخبر صلى الله عليه وسلم عن غربة الإسلام، وأنه سيعود غريبا كما بدأ، وأن لهذا الدين إقبالاً وإدباراً؛ وأن من إقبال الدين: أن تفقه القبيلة بأسرها، حتى لا يوجد فيها إلا منافق أو منافقان، فهما مقهوران ذليلان. وإن من إدبار الدين: أن تجفو القبيلة بأسرها، حتى لا يوجد فيها إلا مؤمن أو مؤمنان، فهما خائفان مضطهدان. وقد وقع مصداق ما أخبر به صلى الله عليه وسلم حتى عاد المعروف منكرا، والمنكر معروفا؛ نشأ على ذلك الصغير، وهرم عليه الجزء: 14 ¦ الصفحة: 275 الكبير، واعتقد أكثر الناس الشرك دينا لجهلهم، والإسلام شركا حتى كفروا من اعتقده ودان به، فالله المستعان. وقد أنعم الله علينا وعليكم، في أواخر هذه الأزمان - التي هي من أزمان الفترات، وأوقات الغربة، واندراس. الإسلام، وأفول شموسه، وظهور الجاهلية - بحبر من أحبار هذه الأمة وعلمائها، من برز في أنواع العلوم، ووقف على كثير من المنقول والمفهوم، وجمع ما تفرق في غيره من المكارم والفضائل. فسلك على منهاج السلف الصالح وأعيان الأماثل، وشابههم في هديه وسمته وعلمه، وحاكاهم في معتقده، وزهده وفهمه، يعرف هذا من عرف الرجال بالعلم، وبحث في هذه الصناعة من أهل الإنصاف والفهم، وهو: شيخ الإسلام، إمام الدعوة النجدية، محمد بن عبد الوهاب. فإنه لم يزل رحمه الله، وشكر عمله ومسعاه، يدعو إلى هذا الدين، وعنه يناضل مع كل فاضل وخامل، حتى كشف الله عن هذه الملة الغراء، والشريعة الظاهرة السمحاء، حجب الجهل والتأويل. وأماط عن شمس الرسالة سحب العوائد والتضليل، وقد كانت شموسها قبل ظهوره وبحوثه مكسوفة، وعزائم الطلاب إلى غير حياضها مجذوبة مصروفة، ومستقيم أصولها قد هدمت بمعاول التأويل والتقليد، وقواعد بنيانها قد خلعت بأكف أهل الدراسة والترديد. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 276 أما التوحيد العلمي الاعتقادي - الذي تضمنته سورة الإخلاص، ونظائرها من آي القرآن، الذي حقيقته: معرفة الله بأسمائه وصفاته، وإثبات ما أثبته لنفسه من الصفات، ونفي ما نفى عنه من النقائص، ومشابهة المخلوقات - فسفت عليه قوانين اليونان والجهمية، ومن تفرع عنهم من أهل البدع على اختلافهم، غبار التأويل والتعطيل، حتى عز من يعرفه ويدين به، ويعرف ما كان عليه السلف الأول في باب الاعتقاد. حتى آل الحال إلى أن معتقد السلف، لا يعرف ولا يفتى به، ولا يؤتم به في هذا الباب، ولا يهتدى، بل هو عندهم من أغرب الأشياء وأعزها وجودا؛ وغالب من يحكي ما كان عليه السلف الصالح، لا يعرفه ولا يدريه، ولا يعرف أن الواقع من أكثر الخلق يضاده وينافيه. وأما التوحيد العملي الإرادي، وهو: إفراد الله بالقصد والإرادة، والبراءة مما عبد من دونه واعتزاله، فقد سحبت عليه قوانين الجاهلية أطراف ذيولها، وأجلبت عليه برجلها وخيولها، حتى عفت آثاره، وتهدمت مناره، ونسيت شرائطه وأركانه. وغالب سكان البسيطة إلا ما شاء الله منهم قد صرف اعتقاده وملاذه، إما على صاحب قبر، أو مدر أو شجر، أو حجر أو غار، أو صنم أو طائر صفر؛ والكتاب إنما يتلى عليهم للتبرك لا للعلم والعمل؛ وآخر منهم يعتقد أن النطق الجزء: 14 ¦ الصفحة: 277 بالشهادتين كاف في الإسلام، وأن من نطق بالشهادتين لا يكفر، ولا يؤثم، ولو أتى بالنواقض العظام، التي لا يستقيم معها مسمى الإسلام. والمستنكر عندهم والساكت بريء الذمة، لا يعرف الكفر من الإسلام؛ لا يعرف الكفر ولا يشهد على أهله به، بل يحط في قدر من أنكره وتبرأ من أهله وينسبه إلى طلب الفرقة والشعبذة، ويرى أن السكوت عن البراءة من الشرك وأهله من باب طلب الألفة والاجتماع، لا ينكر هذا ولا يجحده إلا من أعمى الله بصيرته، وتراكمت عليه أنواع الظلمات. وأما باب تجريد المتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم وتحقيق الشهادة له بذلك، في الأقوال والأفعال، والسير على المنهاج والمنوال، فذلك قد نسخته حرفة التقليد; وكل قوم يرون أن مذهبهم ورأيهم هو الواجب السديد. ففتح الله على يد هذا الشيخ، قدس الله روحه، ما أغلق من تلك الأبواب، وأشرقت بوجوده شموس السنة والكتاب؛ وبدت حياضها للواردين والطالبين، وارتوى من كوثرها عباد الله، من المؤمنين والموحدين؛ وجرّت به نجد ذيول افتخارها، وتطهرت به من أوساخ شرك الجاهلية وعارها. وبحث وناظر، وصنف وجادل وماحل حتى استبان الحق في الأصول والفروع، واستقامت هذه الدعوة الإسلامية، وانقطع الخلاف واستقام سوق الجماعة والائتلاف. فينبغي لنا ولكم معرفة هذه النعمة، ورعايتها، والقيام الجزء: 14 ¦ الصفحة: 278 بشكرها، وأن لا يحدث منا ولا منكم تغيير لها، لا في الأصول ولا في الفروع؛ وأن نقتصر على بيان هذه الدعوة، وتجريدها وغرسها، وترك الإغلاظ في بعض المستحبات، لئلا يكون ذلك سببا للصد عن هذه الدعوة، والاشتغال عنها بغيرها، أو بمستحب عما هو أهم منه. كذلك تتبع أقوال العلماء رحمهم الله، في بعض المسائل التي هي من مسائل الفروع قد كفيتم ذلك بما قدمناه لكم، من حال الشيخ رحمه الله، وحاشا وكلا أن يكون الشيخ ومن قبله من الأئمة الأعلام قد تبينت لهم سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في قول أو عمل واختاروا غيرها عليها. فالواجب عليكم السير على منهاجهم، وسلوك طريقهم؛ فإن خلافهم دليل على فساد المقاصد والنيات، ومن أعظم الوسائل إلى الطعن في الداعين إلى الله والمنتسبين إلى ذلك. فتنبهوا لذلك، فإن الاختلاف بينكم في مسائل الفروع من وساوس الشيطان التي تصد عن العمل بالمشروع; ولتكن كلمتكم واحدة: الدعوة إلى الله وفي الذب عن دينه، ومجاهدة أعدائه، والدعوة إلى الله بالتي هي أحسن، فإنكم في زمان غربة، المقام فيه مقام دعوة، لا في زمان إقبال فإن زمان الإقبال ينتقل فيه إلى الجهاد باللسان، والإغلاظ. ومن قواعد الدين الكلية: ارتكاب أخف الضررين، لدفع أعلاهما، وترك إحدى المصلحتين، لتصليح أولاهما، الجزء: 14 ¦ الصفحة: 279 فكونوا على بصيرة من أمر دينكم، ولا يستهوينكم الشيطان، وعليكم بالإخلاص. [التذكير بما بعث الله به رسوله وحال الناس قبل بعثته] وله أيضا، رحمه الله: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله بن عبد اللطيف، إلى محمد بن علي الموسى، سلمه الله تعالى، ووفقه لأداء ما افترض عليه، من الجهاد والنصيحة لله، ولكتابه ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: لا يخفاك ما من الله سبحانه وتعالى به على أهل الأرض من بعثة عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم. وقد كان الناس قبل ذلك على غير دين، متفرقين في عباداتهم ودياناتهم، إلا من شاء الله من غير أهل الكتاب; فصدع بأمر ربه، وأكمل الله لأهل الأرض ببركته الدين، وأتم عليهم النعمة، ورضي لهم الإسلام دينا، كما قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلامَ دِيناً} [سورة المائدة آية: 3] . ومثلك يعرف ذلك إجمالا وتفصيلا، وأنت تعلم حال غربة الإسلام، وإعراض أكثر الخلق عنه، وعما يكون سببا لظهروه وقوته، إيثارا للشهوات النفسانية، والإرادات الشيطانية، ولضعف من يعرف ذلك، وعدم عزمه، وتقديمه لعل وعسى، فعياذا بالله من إحدى الخصال الثلاث. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 280 والله سبحانه وتعالى قد أنعم عليك من بين سائر عشيرتك، بالتعلم والبحث، وأنت مطالب بالعمل، وقد ذكر الله في حق نساء نبيه: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [سورة الأحزاب آية: 30] ، إلى قوله:: {وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} [سورة الأحزاب آية: 31] . وقال تعالى: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا} [سورة الزمر آية: 9] . وهذه الفتنة الواقعة اليوم، قد أزاح الله فيها ما يلقى في الفتنة بالأمس، من الوساوس والشبهات، وقد أوجب الله عليكم، بعد معرفة الحق، العمل به. وأنتم تفهمون ما أنعم الله به على أهل نجد، بعد تقادم العهد بآثار النبوة ونور الرسالة، في القرن الحادي عشر، من هجرته صلى الله عليه وسلم من ظهور الشيخ: محمد، رحمه الله تعالى، ودعوته إلى ما دعا إليه المرسلون. ووازره من سبقت له من الله السعادة، وصبروا في ذات ربهم، على ما نالهم من الشدة والعداوة، وجعلهم الله ملوكا بذلك، ودانت لهم العرب. ثم لم يزالوا على ذلك مستمرين، حتى حدث من فتنة الشهوات، ما أوجب العقوبة، فسلط الله العسكر المصري، طهرة وتمحيصا واختبارا. ثم رد الله الكرة لمن عرف الأمر الأول، وحام حول الحمى، وحصل له بعض المقصود؛ ثم جرى من العقوبة الجزء: 14 ¦ الصفحة: 281 ثانيا، فرد الله الكرة بمن تبع أثر من قبله، وحام حوله فحصل له بعض المقصود. ثم حدثت الفتنة الكبرى، والمصيبة العظمى، وفتن في الأمر من هو من أهله، من هؤلاء القوم، وذلك لأنه عاش في ثياب لا يعرف من حاكها، وما درس، وصار سنة لكل جاهل، لا يعرف سابقة الأمر، وتطاول الشر، ودخل في أمر الإسلام من ليس من أهله، وذلك لقلة أعوان الإسلام وأنصاره. والآيات في وجوب الجهاد، وتفاصيله، أكثر من أن تحصر، وتقرؤها بحمد الله، بالغداة والعشي، والأحاديث كذلك. ومن أجمع الأحاديث، قوله صلى الله عليه وسلم: لا إسلام إلا بجماعة 1 وقوله صلى الله عليه وسلم: ثلاث لا يغل عليهن قلب عبد مسلم: إخلاص العمل لله، ولزوم جماعة المسلمين، ومناصحة ولاة الأمور، فإن دعوتهم تحيط من ورائهم 2. وقد رأيت خطك لعيالك، وسرني ذلك، وسرنا همتكم فيما قصدتم، والحق عليك خصوصا أكثر من غيرك من طلبة العلم، لأنك من القوم، ولا تعرف عنك المداراة الدنيوية، وقوتكم وما أعطاكم الله في وطنكم، لا يكون حظكم كثرة الدنيا، وأنفسكم خاصة، بل يلزمكم بذل النفس والمال، وما يكون صالحا لظهور الإسلام، والاجتماع عليه.   1 الدارمي: المقدمة 251. 2 الترمذي: العلم 2658. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 282 [الوصية بتقوى الله وبيان حقيقتها وأصل الدين والتذكير بنعمة الإسلام] وقال أيضا، الشيخ: عبد الله، والشيخ محمد، ابناء الشيخ عبد اللطيف ابن الشيخ عبد الرحمن بن حسن، رحمهم الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله بن عبد اللطيف ومحمد بن عبد اللطيف، إلى من يراه من إخواننا المسلمين، من أهل الجنوب، ومن والاهم، سلمهم الله تعالى، ورزقنا وإياهم الاستقامة، وأعاذنا وإياهم من أسباب الخزي والندامة، آمين. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أما بعد: فالذي نوصيكم به: تقوى الله تعالى وطاعته، فإنها وصية الله للأولين والآخرين، وهي السبب الموصل إلى مرضاة رب العالمين، ومرافقة النبيين والصديقين، قال تعالى: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [سورة النساء آية: 131] . وحقيقة التقوى: القيام بما أمر الله به من توحيده وطاعته، وطاعة رسوله، واجتناب ما نهى عنه ورسوله، وهذا هو النور والهدى لمن نور الله قلبه. وأصل الدين: معرفة الله، ومعرفة توحيده وعبادته التي خلق الله الخلق لها، وتعبدهم بها، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 283 إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [سورة آل عمران آية: 102-103] . فأمر الله تعالى عباده بتقواه، وهي فعل ما أمر الله به، ومجانبة ما نهى عنه، في الأقوال والأعمال; وأمرهم بلزوم الإسلام الذي عرفهم به، وأخرجهم به من الظلمات إلى النور، وحثهم على التمسك به، والعض عليه بالنواجذ حتى الممات، بقوله: {وَلا تَمُوتُنَّ إلاّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [سورة آل عمران آية: 102] ، فأمرهم بلزومه والاستقامة عليه، في جميع أوقات العمر وساعاته، ومن عاش على شيء مات عليه. وأمرهم أيضا: بالاعتصام بحبل الله، وهو دينه وشرعه، وما دل عليه كتابه المبين، من الأمر بعبادته وترك عبادة ما سواه؛ لأن العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه، من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة، كالدعاء والخوف والرجاء، والحب والخضوع والذل، والخشوع والتوكل، والذبح والنذر، والاستغانة والاستعاذة، وغير ذلك من أنواع العبادة التي تعبد الله العباد بها، وخلقهم لأجلها، وجعل نجاتهم من النار موقوفة على صحتها، وترك ما ينافيها ويناقضها، من الاعتقادات الباطلة الخارجة عن الصراط المستقيم. ومن الاعتصام بحبل الله: العمل بأحكام القرآن، الجزء: 14 ¦ الصفحة: 284 والائتمار بأوامره، وترك نواهيه فإن سعادة الدنيا والآخرة موقوفة على ذلك وهو من أوجب الواجبات، وأهم المهمات، ولا يتم هذا الواجب إلا بموالاة من دان به، ومحبته ونصرته، ومعاداة من خالفه ولم يقبله وينقد له، وبغضه وجهاده. ثم ذكر عباده نعمته عليهم بأن جمعهم بعد الفرقة والاختلاف، وألف بين قلوبهم بعد العداوة والبغضاء، وعرفهم ما هم فيه قبل الإسلام من التفرق والاختلاف. فاشكروا نعمة الله عليكم عباد الله، واذكروا ما أنتم فيه سابقا قبل دخلوكم في الإسلام، من اختلاف الكلمة، وسفك الدماء، ونهب الأموال، وقطيعة الأرحام، وظهور المنكرات والفواحش، والتدين بدين أهل الجاهلية، فأنقذكم الله من هذه المهلكات، وفتح بصائركم لطلب الهدى فهذه نعمة عظيمة. وقد منَّ الله علينا وعليكم بمعرفة هذا الدين، والإقبال عليه، وأخرجكم من الظلمات إلى النور، بعد أن كنتم في جاهلية جهلاء، وضلالة عمياء، وجمعكم على إمام يدعوكم إلى دين الله ودين رسوله؛ وهذه من أكبر النعم؛ لأنه لا إسلام إلا بجماعة، ولا جماعة إلا بالسمع والطاعة فاعرفوا حقوق الإمامة والزموها، لأن من خرج عن الجماعة قيد شبر، فَمَيْتَتُه ميتة جاهلية. وفي الحديث: الدين النصيحة، قيل لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه، الجزء: 14 ¦ الصفحة: 285 ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم 1. ومما نوصيكم به، بعد معرفة الإسلام وحقوقه: المحافظة على الصلوات في الجماعات، لأنها أعظم شعائر الدين بعد الإسلام، وقد قال صلى الله عليه وسلم: العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر 2، وقال صلى الله عليه وسلم رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله 3. وقوموا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، على بصيرة، كما قال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [سورة يوسف آية: 108] . فمن لم يكن له بصيرة في مقام الدعوة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ففساده أكثر من صلاحه، ولو حسنت نيته. وشروط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: أن يكون عالما بما يأمر به، عالما بما ينهى عنه، حليما فيما يأمر به، حليما فيما ينهى عنه رفيقا فيما يأمر به: رفيقا فيما ينهى عنه. واعلموا أن الدين بين الغالي والجافي، فمن غلا فيه فهو والجافي سواء؛ فتأدبوا بالآداب الشرعية، والأخلاق المرضية، ولازموا معرفة دينكم، لتكونوا على بصيرة فيه. وتعاونوا على البر والتقوى، وكونوا عباد الله إخوانا؛ المسلمون يد واحدة على من سواهم. والهجر الحقيقي   1 مسلم: الإيمان 55 , والنسائي: البيعة 4197 ,4198 , وأبو داود: الأدب 4944 , وأحمد 4/102. 2 الترمذي: الإيمان 2621 , والنسائي: الصلاة 463 , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها 1079 , وأحمد 5/346. 3 الترمذي: الإيمان 2616 , وأحمد 5/231 ,5/237. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 286 الذي هو من واجبات الدين، لمن أظهر الكفر، أو استهزأ بدين الله، فهذا الذي يجب هجره ومقاطعته. نسأل الله لنا ولكم التوفيق لما يحب ويرضى، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين. صلى الله عليه وسلم [أهمية تقوى الله تعالى وبيان ما يبلغ به العبد درجة المتقين وما يجب أن يتدارك] وقال أيضا، الشيخ محمد بن عبد اللطيف، رحمه الله: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وإمام المتقين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين; من محمد بن عبد اللطيف، إلى من يراه من إخواننا المسلمين، وفقنا الله وإياهم لقبول النصائح، وجنبنا وإياهم أسباب الندم والفضائح، آمين. أما بعد: فقد قال الله جل ثناؤه، وتقدست أسماؤه، لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [سورة الذاريات آية: 55] . وقال تعالى: {وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلاّ مَنْ يُنِيبُ} [سورة غافر آية: 13] . وقال: {سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى} [سورة الأعلى آية: 10] . وأعظم ما نذكركم به، ونوصيكم به، تقوى الله سبحانه، فإنها وصية الله للأولين والآخرين، وهي السبب الموصل إلى مرضاة رب العالمين، ومجاورة النبيين والصديقين، وهي الوصية العظمى، الموجبة للنجاة من شدائد الدنيا والآخرة، فمن لزمها وتمسك بها، سعد سعادة الجزء: 14 ¦ الصفحة: 287 لا شقاوة بعدها، ومن ضيعها وأهملها، وارتكب ما يهواه خسر آخرته ودنياه. والتقوى: اسم شامل لفعل الخيرات، وترك المنكرات، باطنا وظاهرا، قال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [سورة آل عمران آية: 102] ، فأمر الله عباده أن يتقوه حق تقاته; وحق تقاته: أن يطاع فلا يعصى، ويذكر فلا ينسى، ويشكر فلا يكفر; وأمرهم بلزوم الإسلام، والثبات عليه، وأن يلتزموا أحكامه وحدوده، وواجباته وحقوقه، حتى يلقوا الله على ذلك. فإن الكريم قد أجرى عادته أن من عاش على شيء مات عليه، ومن مات على شيء بعث عليه، فهي وقاية من الشرور العاجلة والآجلة، فمن اتقى الله فاز ونجا، وجعل له من كل هم فرجا، ومن كل ضيق مخرجا، ومن كل بلاء عافية. فما استجلبت النعم واستدفعت النقم بمثل تقوى الله عز وجل قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [سورة الأعراف آية: 96] الآية. وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً وَإِذاً لآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً} [سورة النساء آية: 66-68] . ولا يبلغ العبد درجة المتقين حتى يكون لنفسه الجزء: 14 ¦ الصفحة: 288 محاسبا أشد محاسبة من الشريك لشريكه، فإذا حاسب العبد نفسه، وعرض أقواله وأفعاله وأعماله على كتاب الله، وما شرعه وأمر به، فما وافق الكتاب والسنة عمل به، وما خالفهما نبذه وراء ظهره، فهذا هو التقي حقيقة، فإذا حصل من أهل الإسلام الإقبال على الله والتوبة إليه، والرجوع والإنابة إليه، كما أمرهم الله بذلك، كانت العاقبة الحميدة، والحياة السعيدة، عائدة لهم. والله تبارك وتعالى ينْزل العباد منه، حيث أنزلوه من أنفسهم، فمن عظم أمر الله وأطاعه، واجتنب مناهيه، وخافه في سره وعلانيته رضي الله عنه وأرضاه، ومن خالف أمره وارتكب نهيه، وقدم هواه على طاعة مولاه، انتقم منه وأقصاه؛ وكما تدين تدان، جزاء وفاقا، وما ربك بظلام للعبيد. فالواجب على من أبصر عيب نفسه، أن يتدارك هفواته، وفرطاته ومهلكاته، وأن يقبل على دين الله، الذي خلقه لأجله، وتعبده به، وجعل النجاة والسعادة معلقة بحصوله، محبة وقبولا، وتعلما وعلما وعملا؛ وأن يحب في الله ويبغض في الله، ويوالي في الله، ويعادي في الله، ويقدم ويؤخر لله. ففي الحديث، عن النبي صلى الله عليه وسلم: أوثق عرى الإيمان: الحب في الله، والبغض في الله، وقال: وهل الدين إلا الحب والبغض في الله. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 289 ومن علامة محبة الله والصدق في معاملته والخوف منه، الغيرة لله عند انتهاك حرماته، بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والقيام لله، والأخذ على أيدي أهل البطر والسفه والتهم، وحملهم على طاعة الله، وكفهم عن معاصي الله، وردعهم عن ذلك، سواء كانوا أقربين، أو بعيدين، أقوياء كانوا أو ضعفاء. فإن بالقيام بذلك والمسارعة إليه، وإيثار رضى الله على الدنيا، والتواصي بالحق، والتعاون عليه، كل بحسب حاله في ذلك، مما يكون سببا لرضاه، وجلب كل خير، ودفع كل شر. وبالاغترار بالدنيا وزينتها، والغفلة عن الله، والإعراض عن الأوامر والنواهي، يحصل الهوان، والذل والعار، في الدنيا والآخرة، ويحصل الهم والغم، وتنْزع البركات، وتحل النقمات والمثلات. وقد جاء في الحديث القدسي: يقول الله تعالى: ما من عبد آثر محابي على هواه، إلا ألقيت عنه همومه، وجمعت عليه ضيعته، ونزعت الفقر من قلبه، وجعلت الغنى بين عينيه، واتجرت له من وراء كل تاجر. وعزتي وجلالي وعظمتي، ما من عبد آثر هواه على طاعتي، إلا أكثرت همومه، وفرقت عليه ضيعته، ونزعت الغنى من قلبه، وجعلت الفقر بين عينيه، ثم لا أبالي بأي واد هلك. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 290 وظهور المعاصي، وعدم إنكارها، والسكوت عن فاعلها، والإغضاء عنه، مما يوجب سخط الرب، وحلول عذابه، ونزول عقابه; وفي المسند: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما من قوم يعمل فيهم بالمعاصي، هم أعز وأكثر ممن يعملها، ولم يغيروا عليه إلا عمهم الله بعقابه 1. وفيه أيضا، عن ابن عمر رضي الله عنهما: والذي نفسي بيده، لا ينفصم الإسلام حتى لا يقال في الأرض: الله الله. لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، وإلا سلط الله عليكم المشركين، يسومونكم سوء العذاب، ثم يدعو خياركم فلا يستجاب لهم. لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، أو ليبعثن الله عليكم، من لا يرحم صغيركم، ولا يوقر كبيركم. وفي الحديث عنه: صلى الله عليه وسلم ما ظهر الزنى والربا في قرية، إلا أذن الله بهلاكها، وعن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: لا تزال لا إله إلا الله تنفع من قالها، وترد عنهم العذاب والنقمة، ما لم يستخفوا بحقها، قالوا: يا رسول الله، وما الاستخفاف بحقها؟ قال: يظهر العمل بمعاصي الله، فلا ينكر ولا يغير. وعن أنس أيضا، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تزال لا إله إلا الله تمنع العباد من سخط الله، ما لم يؤثروا دنياهم على صفقة دينهم، فإذا آثروا دنياهم على صفقة دينهم، ثم قالوا لا إله إلا الله ردت عليهم، وقال الله: كذبتم.   1 أبو داود: الملاحم 4338 , وأحمد 1/5 ,1/7 ,1/9. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 291 فدل هذا الأثر على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، من حقوق لا إله إلا الله، بل هي من أشرف مقامات الدين وفرائضه، التي افترضها الله على عباده المؤمنين. وفي الحديث أيضا: إن المعصية إذا خفيت لا تضر إلا صاحبها، وإذا ظهرت ولم تغير ضرت العامة، وليس معناه أنها تظهر في الأسواق، وتشتهر علانية، بل إذا تحدث الناس بها، وفشا القول فيها بينهم، فهذا من ظهورها، كما ذكر ذلك العلماء، رحمهم الله تعالى. ومعلوم أن المعاصي لها شؤم، حتى على البهائم، قال مجاهد، رحمه الله تعالى، على قوله تعالى: {أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} [سورة البقرة آية: 159] ، قال: إن البهائم تلعن عصاة بني آدم، إذا أجدبت الأرض، وأمسك المطر; تقول: هذا شؤم بني آدم، وقال عكرمة، رحمه الله تعالى: إن دواب الأرض، وهوامها، حتى الخنافس والعقارب، تلعن عصاة بني آدم، يقولون: منعنا القطر بذنوبهم. ومن ظن أن هذه الأحاديث في قوم كانوا فبانوا، وأن من بعدهم لا يتناولهم هذا الوعيد الشديد، ولا يدخل تحت حكمه، أو أنه معذور، أو أن الزمان قد صلح ولا حاجة إلى ذلك، فهو والله المغرور الجهول، الظالم لنفسه. وأكثر الناس إلا ما شاء الله، اعتاد قلبه المداهنة، وعدم الجزء: 14 ¦ الصفحة: 292 النفرة من أهل الشر والفساد، ومخالطة أهل مواقف التهم المعروفين بها، وجعل الإغضاء والسكوت عنهم هو العقل الراجح، وأن الناس لا يستقيم معهم إلا من داهنهم، وسعى في إصلاح دنياه وإفساد دينه، فهذا هو المحمود عندهم، المشكور، نسأل الله العفو والعافية، والمعافاة الدائمة، في الدين والدنيا والآخرة. ومن أكبر المنكرات: التكاسل والتثاقل عن الصلاة في المساجد مع الجماعات، وعدم الاهتمام لها، وهي من أهم أركان دين الإسلام، وآكدها بعد الشهادتين، بل هي آخر ما وصى بها النبي صلى الله عليه وسلم عند موته، حيث قال: الصلاة، الصلاة وهو يجود بنفسه. وهي آخر ما يفقد من الإسلام، فالتهاون بها من صفات المنافقين المذمومة في الكتاب والسنة. ومن علامات الإيمان: تعاهدها، والمحافظة عليها جمعة وجماعة، قال عليه الصلاة والسلام: إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد فاشهدوا له بالإيمان 1، ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاّ اللَّهَ} [سورة التوبة آية: 18] الآية. وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يكتب إلى عماله: أما بعد: فإن أهم أعمالكم عندي الصلاة، فمن حفظها فقد حفظ دينه، ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع. الله أكبر، كم تحت الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، من الخير الكثير، والعافية في الدنيا والآخرة! وكم تحت   1 الترمذي: تفسير القرآن 3093. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 293 تركهما والغفلة عنهما، من الشر والفساد العريض، في الدنيا والآخرة!. واعلموا رحمكم الله: أن المسلمين عزموا على الاستسقاء، فيجب عليكم معاشر المسلمين، أن تقدموا بين يدي ذلك التوبة النصوح لله، والإقبال عليه، والإقلاع من الذنوب والمعاصي، القلبية والبدنية والمالية. قال تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [سورة النور آية: 31] . وقال تعالى: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً} [سورة نوح آية: 10] . وقال:: {فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ} [سورة هود آية: 61] ، {وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ} [سورة هود آية: 90] ، والآيات في الأمر بالتوبة والاستغفار كثيرة. وقال عليه الصلاة والسلام: إني لأستغفر الله في اليوم والليلة أكثر من مائة مرة 1 وهو مغفور له ما تقدم من ذنبه وما تأخر; وقال صلى الله عليه وسلم التائب من الذنب كمن لا ذنب 2. والتوبة النافعة هي التي استكملت أربعة شروط: الإقلاع من الذنب، الندم على ما فات، العزيمة على أن لا يعود، التحلل من مظالم الخلق. فإذا حصلت هذه الشروط، رجي للعبد قبول التوبة، وكانت توبة صادقة صحيحة. جعلنا الله وإياكم من الفائزين بها، الموفقين لها، إنه سميع مجيب.   1 مسلم: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار 2702 , وأبو داود: الصلاة 1515 , وأحمد 4/211 ,4/260. 2 ابن ماجه: الزهد 4250. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 294 ومما يكون سببا لقبول الدعاء، ونزول الرحمة: التقدم بين يدي ذلك بالصدقة، فإن الله سبحانه يقبل التوبة عن عباده، ويأخذ الصدقات، قال تعالى: {وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً} [سورة المزمل آية: 20] . وقال: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سورة سبأ آية: 39] . والمقصود من الصدقة مواساة الغني للفقير مما أعطاه الله وخوله، وشكر الله أن جعله غنيا، وجعل من هو مثله محتاجا; وفي الحديث: بادروابالصدقة، فإن البلاء لا يتخطاها، وفيه أيضا: الصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار 1 فاتقوا الله عباد الله، وائتمروا بما أمركم الله به ورسوله، وأخرجوا متواضعين، متخشعين متذللين متبذلين، راغبين طالبين، لعل الله أن يقبل توبتكم، ويجيب دعوتكم، ويرحمكم. فنسأل الله الكريم بأسمائه الحسنى، وأوصافه العلى، وبتوحيده الذي جحده المشركون، أن يمن علينا وعليكم بقبول التوبة، وأن يأخذ بنواصينا ونواصيكم، وأن لا يكلنا إلى أنفسنا طرفة عين، وصلى الله على عبده ورسوله محمد، وآله صحبه وسلم تسليما كثيرا، آمين.   1 الترمذي: الجمعة 614. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 295 [بيان معنى حديث الدين النصيحة، وما دل عليه القرآن في ذلك] وقال الشيخ: محمد بن عبد اللطيف، رحمهما الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم من محمد بن عبد اللطيف، إلى من يراه من إخواننا المسلمين، رزقنا الله وإياهم الاستقامة، وأعاذنا وإياهم من أسباب الخزي والندامة، آمين سلام عليكم، ورحمة الله وبركاته.. أما بعد: فالذي نوصيكم به: تقوى الله تعالى وطاعته، فإنها وصية الله للأولين والأخرين، وهي السبب الموصل إلى مرضاة رب العالمين، ومرافقة النبيين والصديقين، قال تعالى: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا} [سورة النساء آية: 131] . وقد قال صلى الله عليه وسلم: الدين النصيحة، قالها ثلاثا، قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم 1. فجعل صلى الله عليه وسلم الدين محصورا في النصح لله، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم، بما فيه الكفاية؛ وهذا هو النور والهدى، لمن نور الله قلبه، وألهمه رشده؛ لأن النصيحة لله هي: الإيمان به، ومعرفته، وعبادته وحده لا شريك له، وترك عبادة ما سواه، ومحبته وخشيته،   1 مسلم: الإيمان 55 , والنسائي: البيعة 4197 ,4198 , وأبو داود: الأدب 4944 , وأحمد 4/102. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 296 والذل والخضوع له، وتعظيمه وتعظيم أوامره، وترك نواهيه، وتنْزيهه عما لا يليق بجلاله وعظمته، من تعطيل وتشبيه، أو إشراك به، أو إلحاد في آياته، أو تكذيب لما أنزله في كتبه. والنصيحة لكتابه: العمل بمحكمه، والإيمان بمتشابهه، وتحليل حلاله، وتحريم حرامه، والوقوف عند حدوده، وعدم تجاوزها وتعديها. والنصيحة لرسوله: تصديقه، وتصديق ما جاء به، والإيمان به، ومحبته وتوقيره، وتقديم أقواله وما سنه وشرعه لأمته على أقوال كل أحد، كائنا من كان. والنصيحة لأئمة المسلمين: أمرهم بطاعة الله، وطاعة رسوله، وطاعتهم في المعروف، والنصح لهم باطنا وظاهرا، وعدم مشاقتهم ومنازعتهم، وتحريم الخروج عليهم. والنصح لعامة المسلمين: إرشادهم وتعليمهم، ما فيه صلاحهم وفلاحهم، والرفق بهم، وعدم المشقة عليهم، والتلطف في أمرهم ونهيهم، ودعوتهم، وكفهم عن الشر وأسبابه، والأخذ على أيديهم عن معصية الله، وعن فعل ما لم يشرعه الله ورسوله، وتحذيرهم عن مشابهة أهل الجاهلية في أقوالهم وأفعالهم. وهذا هو حقيقة النصح الذي ينافي الغش. وقد دل على هذا القرآن وأرشد إليه، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا الجزء: 14 ¦ الصفحة: 297 نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [سورة آل عمران آية: 102-103] . فأمر تعالى عباده بتقوى الله، وهي فعل ما أمر به، ومجانبة ما نهى عنه، من الأقوال والأعمال، وأمرهم بلزوم الإسلام الذي عرفهم به، وأخرجهم به من الظلمات إلى النور، وحثهم على التمسك به، والعض عليه بالنواجذ حتى الممات، بقوله: {وَلا تَمُوتُنَّ إِلاّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [سورة آل عمران آية: 102] ، فأمرهم بلزومه والاستقامة عليه، في جميع أوقات العمر وساعاته؛ ومن عاش على شيء مات عليه. وأمرهم أيضا: بالاعتصام بحبل الله، وهو دينه وشرعه، وما دل عليه كتابه المبين، من الأمر بعبادته، وترك عبادة ما سواه، لأن العبادة: اسم جامع لما يحبه الله ويرضاه، من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة، كالدعاء، والخوف والرجاء، والحب والخضوع، والذل والخشوع، والتوكل والذبح والنذر، والاستغاثة والاستعاذة، وغير ذلك من أنواع العبادة، التي تعبد الله العباد بها، وخلقهم لأجلها، وجعل نجاتهم من النار موقوفة على صحتها، وترك ما ينافيها ويناقضها، من الاعتقادات الباطلة الخارجة عن الصراط المستقيم. ومن الاعتصام بحبل الله: العمل بأحكام القرآن الجزء: 14 ¦ الصفحة: 298 والائتمار بأوامره، وترك نواهيه؛ فإن سعادة الدنيا والآخرة موقوفة على ذلك؛ وهو من أوجب الواجبات، وأهم المهمات، ولا يتم هذا الواجب إلا بموالاة من دان به ومحبته ونصرته، ومعاداة من خالفه ولم يقبله وينقد له، وبغضه وجهاده. ثم ذكر عباده نعمته عليهم، بأن جمعهم بعد الفرقة والاختلاف، وألف بين قلوبهم بعد العداوة والبغضاء، وعرفهم ما هم فيه قبل الإسلام من التفرق والاختلاف. فاشكروا نعمة الله عباد الله، واذكروا ما أنتم فيه سابقا قبل دخولكم في الإسلام، من اختلاف الكلمة، وسفك الدماء، ونهب الأموال، وقطيعة الأرحام، وظهور المنكرات والفواحش، والتدين بدين أهل الجاهلية، فأنقذكم الله من هذه المهلكات، وفتح بصائركم لطلب الهدى؛ فهذه نعمة عظيمة. وقد من الله عليكم أيها المسلمون، بولاية إسلامية، وأمانة دينية، تحثكم على الإسلام، وترغبكم فيه، وتدعوكم إليه، فضلا منه ونعمة؛ فاشكروا مولاكم على هذه النعمة، وارغبوا إليه في إدامتها، والاستقامة عليها، وتثبيت أهلها. واحذروا: من الأسباب التي تزيل هذه النعمة وتهدمها، وتحول بينكم وبين القيام بها، فإنا لا نعلم على وجه الأرض أحدا يجب السمع والطاعة له، ويجب الجهاد معه، أولى من هذا الإمام، الذي من الله به في آخر هذا الجزء: 14 ¦ الصفحة: 299 الزمان، وهو الإمام عبد العزيز بن عبد الرحمن آل فيصل، أعلى الله مجده وأدام سعده. ومما نوصيكم به أيضا 1: البصيرة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن الإنسان إذا أمر بأمر من أمور الخير نظر فيه، فإن كان يترتب على ذلك الأمر خير في العاجل والآجل، وسلامة في الدين والدنيا، وكان الصلاح في الأمر به، مضى فيه بعلم وحلم ونية صالحة; وإن كان يترتب على ذلك شر وفتنة وتفرق كلمة، ومضرة في الدين والدنيا، وكان الصلاح في تركه، وجب تركه ولم يأمر به، لأن درأ المفاسد مقدم على جلب المصالح. وأيضا ينبغي لمن قصده الخير والدعوة إلى الله، التوقع في الأمور والتثبت، وعدم الطيش والعجلة، والحرص على الرفق، والملاطفة في حال الدعوة، فإن في ذلك خيرا كثيرا; وينبغي له أيضا أن يسأل من له قدم صدق، ومعرفة راسخة، وبصيرة نافذة، ولا ينظر إلى الأشخاص، ولا إلى من ليس له بصيرة. وهجران أهل المعاصي يختلف باختلاف الأشخاص، والأحوال والأزمان، وإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يستقيم إلا بالبصيرة، والمعرفة التامة، وأقل الأحوال إذا لم يحصل للعبد ذلك، أن يقتصر على   1 وتقدم في صفحة82و 83/ج/8. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 300 نفسه، كما قال صلى الله عليه وسلم إذا رأيت شحا مطاعا، وهوى متبعا، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك بخاصة نفسك 1. فإذا رأى الإنسان من يعمل شيئا من المعاصي، أبغضة على ما فيه من هذه المعصية، وأحبه على ما فيه من الطاعة؛ ولا يجعل بغضه على ما فيه من الشر، قاطعا وقاضيا على ما معه من الخير، بل يحبه ويواليه، وإن كان بغضه له على معصية يزجره، ويزجر أمثاله عن هذه المعصية مثلا هجره، وإن كان لا ينْزجر، ولا يرتدع هو وأمثاله، راعى فيه الأصلح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم هجر من علم أن الهجر يزجره ويردعه، وقبل معذرة من علم أن الهجر لا يزجره ولا ينجع فيه شيئا، ووكل سرائرهم إلى الله. ولزوم هذه الطريقة مع النية الصالحة، تدفع المضار، وتأتلف القلوب، ويكون على الآمر والناهي، الوقار والمحبة. فاجتهدوا عباد الله، فيما يعود نفعه عليكم في الدنيا والآخرة، واعلموا أنه لا ينجي عند اختلاف الناس واضطرابهم، وكثرة الفتن، إلا البصيرة، ولا تسألوا كل من انتسب إلى العلم، وتزيا بزيه، فإن العلم دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم، فإنكم مسؤولون عن ذلك يوم القيامة. وهذا من باب التواصي بالحق، والتعاون على البر والتقوى، كما قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [سورة المائدة آية: 2] .   1 الترمذي: تفسير القرآن 3058 , وابن ماجه: الفتن 4014. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 301 فاتقوا الله عباد الله، ولا تكونوا ممن أعرض عن ذكر ربه، ولم يرد إلا الحياة الدنيا. نسأل الله لنا ولكم التوفيق والهداية، لما يحب ويرضى، وصلى الله على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا. [رسالة الشيخ محمد بن عبد اللطيف آل الشيخ إلى المسلمين من عسير وشهران وقحطان وغيرهم في تحقيق التوحيد ودين القيمة] وله أيضا، رحمه الله: بسم الله الرحمن الرحيم من محمد بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن آل الشيخ، إلى كافة من يراه من المسلمين، من عسير وشهران، وقحطان، وغيرهم من قبائل الحجاز، سلمهم الله وتولاهم، ووفقهم لما يرضي مولاهم، آمين، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أما بعد: فإن الله تعالى بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بتحقيق التوحيد، الذي هو مضمون شهادة أن لا إله إلا الله، وتجريده عما ينافيه من الشرك من كل وجه، حتى في الألفاظ، فإن العبادة التي شرعها الله، متضمنة لإخلاص الدين لله، كما قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [سورة البينة آية: 5] . ودين القيمة، هو: دين الإسلام، الذي أمر الله به الأولين والآخرين، وخلقهم لأجله، قال تعالى: {وَمَا الجزء: 14 ¦ الصفحة: 302 خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ} [سورة الذاريات آية: 56] . والعبادة مبنية على أصلين: وهما أن لا يعبد إلا الله، وأن لا يعبد إلا بما شرع، على لسان رسوله؛ هذان الأصلان هما حقيقة الشهادتين: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله. فالأول: يتضمن إخلاص الألوهية لله، ولا يأله القلب غيره، لا محبة، ولا خوفا، ولا رجاء، ولا إجلالا، ولا تعظيما، ولا يصرف لغيره شيئا من العبادات، كالذبح والدعاء والنذر، والاستغاثة، والاستعانة، والاستعاذة، وغير ذلك من أنواع العبادة، التي من صرف منها شيئا لغير الله لم يكن عاملا بما دلت عليه، شهادة أن لا إله إلا الله، وإن نطق بها لسانه؛ فإن سعادة العباد موقوفة، على العمل بما أوجبه الله عليهم، وخلق لأجله. الأصل الثاني: تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم في جميع ما أخبر به، وطاعته فيما أمر به، والانتهاء عما نهى عنه؛ فلا حرام إلا ما حرمه الله ورسوله، ولا حلال إلا ما أحل الله ورسوله، ولا دين إلا ما شرعه الله على لسان رسوله؛ فما لم يشرعه ويأذن فيه، فهو مما حرمه الله وحظره على عباده، قال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [سورة الحشر آية: 7] . فمن دعا إلى غير دين الله فقد أشرك، ومن دعا إلى غير ما شرعه رسول الله فقد ابتدع. والبدعة تؤول إلى الشرك، قال تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 303 دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاّ لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلاّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [سورة التوبة آية: 31] . فجعل طاعة العلماء والأمراء في التحليل والتحريم، عبادة؛ فلا يكون العبد مسلما حقا إلا بالانقياد لأوامره، واتباع ما جاءت به رسله والانتهاء عن نهيه، والائتمار بأمره. إذا علمتم ذلك، فاعلموا أن الله تبارك وتعالى أوجب عليكم العمل بدينه، والقيام بشرعه، وترك جميع المحرمات التي حرمها عليكم، في الأقوال والأفعال، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لأنه من آكد شرائع الإسلام. قال تعالى مادحا لهذه الأمة: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [سورة آل عمران آية: 110] . وقال تعالى، ذاما لمن تركه: {كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [سورة المائدة آية: 79] . وقال صلى الله عليه وسلم: لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يد السفيه، ولتأطرنه على الحق أطرا، ولتقصرنه على الحق قصرا، أو ليوشكن الله أن يضرب قلوب بعضكم على بعض، ثم يلعنكم كما لعنهم: وهذا تحذير لهذه الأمة عن طريقة من كان قبلهم من اليهود والنصارى، فإنهم كانوا لا يتحاشون عن مجالسة أهل المعاصي ومجامعتهم، ومواكلتهم ومشاربتهم، فلما علم الله الجزء: 14 ¦ الصفحة: 304 ذلك منهم ضرب قلوب بعضهم ببعض، ثم لعنهم على لسان أنبيائهم. فالحذر الحذر، عن ارتكاب طريقة أهل الكفر والضلال، فيحل بكم ما حل بهم من العقوبة والنكال، وقال صلى الله عليه وسلم: بئس القوم قوم لا يأمرون بالمعروف، ولا ينهون عن المنكر. ومن أعظم المنكرات وأقبحها وأشنعها، وأبعدها عن موجبات الجنة والنجاة من النار، بل هو من نواقض الإسلام العشرة: الإعراض عن واجبات دين الله، وعن تعلم ما أوجبه الله عليكم، وتعبدكم به، وعدم تعليمه، والاستغناء بالجهل والغفلة والعوائد الضالة المخالفة لدين الله، فإن هذا من أعظم ما يوجب سخط الرب، وحلول النقمة العاجلة، مع ما يضاف إلى ذلك من ارتكاب المحرمات، وابتداع البدع الشنيعة، نسأل الله السلامة والعافية لنا ولكم في الدنيا والآخرة. ومن المنكرات أيضا: عدم الاهتمام بشأن الصلاة والمحافظة عليها في المساجد مع الجماعات، وترك تأديب من تخلف أو تكاسل عنهما، قال تعالى، ذاما لمن كانت هذه حاله: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً} [سورة مريم آية: 59] ، بئر في جهنم بعيد القعر، خبيث الطعم، شديد الحر. وقال تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 305 سَاهُونَ} [سورة الماعون آية: 4-5] . صلى الله عليه وسلمقال العلماء: فسر السهو بعدم الحضور مع الجماعات في المساجد، وبالغفلة عن ذكر الله، وعدم الطمأنينة في الصلاة، ونقرها، قال صلى الله عليه وسلم: تلك صلاة المنافق، كررها ثلاثا، قال: حتى إذا كانت الشمس بين قرني شيطان، قام فنقر أربعا، لا يذكر الله فيها إلا قليلا. فالمتخلف عن الصلاة والمتكاسل عنها منافق معلوم النفاق، كما أن المحافظ عليها قد شهد له الرسول بالإيمان، قال صلى الله عليه وسلم: إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد فاشهدوا له بالإيمان 1، فالذي لا يشهد الجماعة، يشهد عليه بالنفاق. قال صلى الله عليه وسلم: لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم آمر رجلا فيصلي بالناس، ثم أنطلق معي برجال معهم حزم من حطب، إلى قوم لا يشهدون الصلاة، فأحرق عليهم بيوتهم 2، وقال صلى الله عليه وسلم: أثقل الصلاة على المنافقين، صلاة العشاء والصبح، ولو يعلمون ما فيهما من الأجر لأتوهما ولو حبوا 3. وقال صلى الله عليه وسلم: من حافظ على الصلاة كانت له نورا وبرهانا ونجاة يوم القيامة، ومن لم يحافظ عليها لم تكن له نورا ولا برهانا ولا نجاة يوم القيامة، وحشر مع فرعون وهامان وقارون وأبي بن خلف 4. فالله الله عباد الله، في المحافظة على الصلاة، والقيام بحقوقها وأدائها على الوجه الذي شرعه الله ورسوله.   1 الترمذي: تفسير القرآن 3093. 2 البخاري: الأحكام 7224 , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة 651 , والنسائي: الإمامة 848 , وأبو داود: الصلاة 548 , وابن ماجه: المساجد والجماعات 791 , وأحمد 2/376 ,2/531 , ومالك: النداء للصلاة 292 , والدارمي: الصلاة 1274. 3 البخاري: الأذان 657 , وأحمد 2/472 ,2/479. 4 أحمد 2/169 , والدارمي: الرقاق 2721. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 306 ومن المنكرات أيضا: اختلاط النساء بالرجال في الحارات والأسواق، فهذا من المنكرات، والتساهل فيه وعدم الإنكار له، دليل على عدم الغيرة، فإن الذي لا يغار لحرمه، ولا يأسف من دخول النساء على الرجال، والرجال على النساء "ديوث"والديوث لا يدخل الجنة، بنص رسول الله صلى الله عليه وسلم. فالواجب عليكم، معشر المسلمين الغيرة على نسائكم، ومنعهن من الدخول على الرجال الأجانب، ومباشرتهن للأضياف، فإن غالب من لا غيرة له يرى أن من إكرام الضيف أن نساءه تخدمه، وهذا من الفضائح- عياذا بك اللهم من المخازي- التي تنكرها الفطر السليمة، والعقول المستقيمة؛ فالذي لا غيرة له، لا دين له. فيجب عليكم منعهن من ذلك، وإلزامهن بتغطية وجوههن، وعدم كشفها، لأن المرأة عورة لا يجوز لها كشف شيء من جسدها، إلا الوجه في الصلاة؛ فيجب عليكم تعليم نسائكم الصلاة، وتفقد أحوالهن، قال صلى الله عليه وسلم: ألا كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، فالإمام راع ومسؤول عن رعيته، والرجل راع على أهل بيته ومسؤول عن رعيته ..... ألا فكلكم راع ومسؤول عن رعيته. فيجب على كل أمير يريد نجاة نفسه، تفقد رعيته، وتفقد أحوالهم، في دينهم ودنياهم، فإنه مسؤول يوم القيامة عمن استرعاه الله عليه، فينظر ماذا يجيب مولاه حين يلقاه، الجزء: 14 ¦ الصفحة: 307 قال عليه الصلاة والسلام: ما من وال يسترعيه الله على رعية، ثم لم يحفظها بنصيحة، إلا لم يرح رائحة الجنة 1 فالنجاء النجاء والحذر الحذر، معاشر الأمراء والمسلمين!! ومن المنكرات أيضا: بخس المكاييل والموازين، والأخذ من الناس بالوافي، والدفع لهم بالناقص، قال تعالى: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَالَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ} [سورة المطففين آية: 1-5] . وقد عذب الله أمة من الأمم، بالأخذ على أهل أسواقهم، يزعمون أنه من باب الإمارة والكيالة؛ فإن هذا سحت حرام، لا يحل ولا يجوز، ومتعاطيه قد تعاطى الحرام الصرف، قال صلى الله عليه وسلم: لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس 2. وبالجملة: فالمنكرات الشنيعة، والبدع الفظيعة بين أظهركم، لا تحصى ولا تعد ولا تستقصى، فيجب عليكم الرجوع إلى مولاكم، وقبول الحق ممن إليه دعاكم. فاتقوا الله عباد الله، {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} [سورة البقرة آية: 281] ، واحذروا حلول العقوبات والمثلات، والله يشهد أني قد أبلغتكم، وما أنا عن السكوت بمعذور، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.   1 البخاري: الأحكام 7150 , ومسلم: الإيمان 142 , وأحمد 5/25 ,5/27 , والدارمي: الرقاق 2796. 2 أحمد 5/72. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 308 [الحث على الصلاة والمحافظة عليها والقيام على المتخلف والتحذير من الربا] وله أيضا، رحمه الله: بسم الله الرحمن الرحيم من محمد بن عبد اللطيف، إلى جانب الأخ المكرم: محمد بن إبراهيم وجماعته، من أهل الرويضة، سلمهم الله تعالى، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته: أما بعد: الموجب لهذه النصيحة الشفقة عليكم، فأعظم ما يوصى به تقوى الله تعالى، بامتثال أمره واجتناب نهيه، فإن الله تبارك وتعالى قد أوجب على عباده العمل بشرعه، والقيام به، وجعل ثواب ذلك رضاه والجنة. ومن أعظم ما أمر الله به وأوجبه بعد الشهادتين: الصلوات الخمس، والمحافظة عليها، والمبادرة لأدائها في أوقاتها؛ وجعل ذلك دليلا على الإيمان والتقوى، وحذر عن التكاسل عنها، والتخلف عن حضورها. وعدم المبالاة بذلك دليل واضح، وعلم فاضح على النفاق، قال تعالى في وصف المنافقين: {وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلاّ وَهُمْ كُسَالَى} [سورة التوبة آية: 54] . وقال تعالى، ذاما لهم ومتوعدا: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} [سورة الماعون آية: 4-5] : فويل: واد في جهنم بعيد قعره، خبيث طعمه، أعده الله للمتخلف عن الصلاة، والمتكاسل عنها، لأن المتخلف عن وقتها، وعدم الحضور مع الجماعات، نوع من السهو. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 309 وقال صلى الله عليه وسلم: أول ما تفقدون من دينكم الأمانة، وآخر ما تفقدودن من دينكم الصلاة. وقال صلى الله عليه وسلم: من حافظ عليها كانت له نورا وبرهانا ونجاة يوم القيامة، ومن لم يحافظ عليها لم تكن له نورا ولا برهانا ولا نجاة يوم القيامة، وحشر مع فرعون وهامان وقارون وأبي ابن خلف 1. فهؤلاء أئمة الكفر، ورؤساء الضلال، كفى للمتخلف عن الصلاة عقوبة ونكالا أن يكون قرينا لهم، ورفيقا في دار الهوان. وكفى للمحافظ على الصلوات والمبادر إليها، والمؤدي لها على الوجه المرضي المحبوب لله، شرفا وسلامة أن يكون له يوم القيامة نور يهتدي به، وحجة يحتج بها، ونجاة ينجو بها من دركات العذاب، وأن يكون مع النبيين والصديقين، والشهداء الصالحين، وحسن أولئك رفيقا. إذا علمتم ذلك فالواجب عليكم القيام على المتخلف، وتأديبه وتفشيله، أولا بالرفق، وثانيا بالأدب البليغ الذي يردعه ويزجر أمثاله؛ فإن الصلاة من أعظم حقوق الإسلام؛ فبإكمالها يكمل، وبتضعيفها والاستخفاف بها يضمحل، فعلى قدر الرغبة في الصلاة، تكون الرغبة في الإسلام. ومن الواجب عليكم أيضا: الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، فإنه من أعظم شعائر الإسلام، ومما يوجب   1 أحمد 2/169 , والدارمي: الرقاق 2721. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 310 استقامته وثباته؛ وقد فرضه الله على عباده، وحثهم عليه، وأخبر أن القيام به والتواصي به من صفات المؤمنين؛ وأن تركه والتغافل عنه، وعدم الاهتمام به، وتمشية الحال على أي حال، وعدم إزعال الناس، وكونه يقول ما علي منهم، ولا كلفت فيهم، لاسيما إذا كان ذا قدرة واستطاعة، من أوصاف المنافقين. قال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [سورة التوبة آية: 71] . وقال تعالى: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ} [سورة التوبة آية: 67] ، فأخبر سبحانه أن هذه الأمة خير الأمم، وذلك بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وأعظم المعروف: التوحيد والعمل به، ومعرفته واعتقاده، والقيام بواجباته وأركانه، والدعوة إليه، وإرشاد الناس إلى ذلك، والإنكار على من أعرض عنه، أو جحده أو دان بضده وهو أعظم المنكر، أي الشرك والكفر، وصرف عبادة الله لغير الله؛ والمعاصي كلها من المنكر، صغيرة كانت أو كبيرة. وقد ذم تبارك وتعالى من تركه، وتوعده ولعنه في محكم كتابه، فقال ذاما لبني إسرائيل {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا الجزء: 14 ¦ الصفحة: 311 كَانُوا يَفْعَلُونَ} [سورة المائدة آية: 78-79] . والذم وإن كان المراد به بني إسرائيل، فحكمه باق لمن فعل كفعلهم. وقال تعالى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [سورة الأعراف آية: 165] ، فلا نجاة عند حلول العقوبات، إلا بالإنكار على أهل القبائح والسيئات. وعن عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال وهو على المنبر: يا أيها الناس، إن الله يقول: مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر، قبل أن تدعوني فلا أستجيب لكم، وتستنصروني فلا أنصركم، وتسألوني فلا أعطيكم 1. وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: يوشك أن تخرب القرى وهي عامرة. قيل: يا أمير المؤمنين كيف تخرب وهي عامرة؟ قال: إذا علا فجارها على أبرارها، وساد القبيلة منافقوها يعني إذا كان الغلبة لأهل الشر والفساد، والسادة والأمراء أهل النفاق ليس لهم رغبة في الدين، ولا يبالون بما يهدم الإسلام ويوهنه. وعن جرير بن عبد الله، رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما من قوم يعمل فيهم بالمعاصي، هم أعز وأكثر ممن يعملها، فلم يغيروا عليه، إلا عمهم الله بعقاب من عنده 2. وقال عليه الصلاة والسلام: بئس القوم قوم لا يأمرون بالمعروف، ولا ينهون عن المنكر، وعن بعض السلف   1 ابن ماجه: الفتن 4004 , وأحمد 6/158. 2 أبو داود: الملاحم 4339 , وابن ماجه: الفتن 4009 , وأحمد 4/363 ,4/366. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 312 أنه قال: المتكلم بالباطل شيطان ناطق، والذي يسكت عن الحق شيطان أخرس. إذا عرف هذا، فاعلموا أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يقطع رزقا، ولا يقرب أجلا، بل ربما فسح في الأجل، وزاد في الرزق، فإنه- أعني الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر- تحصل به البركات، وتستدفع به النقمات، وتمحى به الأمراض والآفات، فقوموا بواجباته تتم لكم النعمة وتكونوا به ملوكا في الجنة. وكذلك المعاملة بالربى الذي حرمه الله ورسوله، ولعن متعاطيه، وأخبر تعالى في كتابة أنه محارب له؛ ومن حارب الله فهو مكسور مخذول. ومن أعظم ما تعاملوا به "التصحيح"، وذلك إذا كان لإنسان ديْن، إما رأس مال، أو ثمن تمر، أو غير ذلك، قال: هات لي دراهم تسلفها، وأوفني بها، تم أكتبها عليك، وردها على صاحبها؛ فهذا مثل الذي يغسل الدم بالدم ويغسل النجاسة بنجاسة؛ وهذا ربا الجاهلية الذي لعن صلى الله عليه وسلم آكله وموكله، وشاهده وكاتبه. ومنها: أنه يعطيه دراهم، أو ثمن بز، أو غير ذلك، ولا يقطع بينه وبينه سعرا، ويقول: كتبي كتب فلان، أو كتب الجماعة؛ فهذا عقد فاسد فلا يجوز إسلام الدراهم في مجلس العقد، إلا بشيء معلوم، فإن كان ما فعل هذا، وأعطاه من غير قطع سعر، فما جاءه من الربح فلعميله، ما له الجزء: 14 ¦ الصفحة: 313 إلا رأس ماله، وما تصدق وأنفق على عياله فهو من مال غيره، يعامل في مال الغير. وكذلك السلف، إذا كان الإنسان يسلم لآخر، ويقول: هذا سلم، وهذا قرض، فهذا حرام، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: كل قرض جر نفعا فهو ربا. ومنها بيع القهوة بالعيش إلى أجل، لا يجوز، لأنه من الربا، وكذلك بيع الدهن بالعيش ما يجوز، لأن كل مكيل لا يباع بمكيل نسأ. فاتقوا الله عباد الله، وخذوا لأنفسكم في أسباب النجاة، واحذروا ما يوجب الهلكات، ونزع البركات، وحلول المثلات، كما وقعت بمن كان قبلكم من الأمم الخاليات، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل، وصلى الله على محمد. [رسالة الشيخ محمد بن عبد اللطيف إلى خالد بن منصور بن لؤي وأخيه للتهنئة بمعرفة ما بعث الله به رسوله] وله أيضا، رحمه الله: بسم الله الرحمن الرحيم من محمد بن عبد اللطيف، إلى جانب ذي الجناب المنيع، والحسب الزكي الرفيع، خالد بن منصور بن لؤي الشريف، وأخيه نائف، سلمهما الله تعالى، وهداهما، وحفظ عليهما دينهما وتولاهما، ورزقهما التبصر والبصيرة، وأصلح لهما العلانية والسريرة، آمين. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وموجب الكتاب: هو إبلاع السلام، والتهنئة بما من الله عليكم من معرفة هذا الدين، الذي بعث الله به سيد الجزء: 14 ¦ الصفحة: 314 المرسلين، لأن الله بعثه على حين فترة من الرسل، وبقايا من الأمم، فصدع بما أوحي إليه من إخلاص العبادة لله، وترك عبادة ما سواه، من الأوثان والأصنام، التي هي غالب معبودات الخلق. فعارضه وصده عما جاء به الملأ والرؤساء، لأن ما جاء به قد خالف عاداتهم ومألوفاتهم التي نشؤوا عليها، وعز تخلصهم منها. فلم يبال بمن خالفه، بل دعا إلى الله سرا وجهارا، ليلا ونهارا، وتبعه من تبعه على ذلك، وهم أفراد من الناس؛ وأخذ في الدعوة سنين يدعو إلى التوحيد، وينذر عن الشرك والتنديد، وهم مع ذلك- أعني الملأ والرؤساء- يكافحون بالعداوة، وينفرون عنه ويحشدون عليه الأعداء ويؤلبون. فأظهره الله على كافة من ناوأه، وذلك بعد ما أمر بالهجرة، هاجر إلى المدينة، فأواه ونصره الأنصار، وهم الأوس والخزرج، وعاهدوه وعاقدوه، على أن يمنعوه مما يمنعون منه أنفسهم وأبناءهم، فجرد عزم الجهاد، وقاتل من أبى عن قبول ما جاء به. أخذ على ذلك عشر سنين، يقاتل من عصاه بمن أطاعه، حتى دخل الناس في دين الله أفواجا، وظهر نور الرسالة، وعم الأقطار البادي منهم والحاضر، فلم يقبضه الله إليه حتى أكمل له ولأمته الدين، وبلغ البلاغ المبين، صلوات الله وسلامه عليه إلى يوم الدين. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 315 ثم بعدما توفي، ارتد من ارتد من العرب، فقاتلهم أبو بكر الخليفة الراشد، ومن معه من الصحابة، رضي الله عنهم، حتى دخلوا من الباب الذي خرجوا منه، ثم لم يزل الخلفاء يجاهدون ويقاتلون من خرج عما جاء به نبيهم صلى الله عليه وسلم. فلما أبادوا القياصرة والأكاسرة، واستولوا على بلادهم وأموالهم، حدثت البدع. فأول بدعة حدثت: بدعة الخوارج، وهم قوم من أصحاب علي بن أبي طالب، ممن أخذ العلم عن الصحابة، فكفروا عليا رضي الله عنه وأصحابه، وكفروا أهل الكبائر من هذه الأمة، وحكموا على من ارتكب كبيرة بالخلود في النار والكفر. ثم خرجت المعتزلة، وحكموا على الفاسق بالخلود في النار، فوافقوا الخوارج في الحكم، وخالفوهم بالاسم. فالخوارج يقولون: أهل الكبائر كفار مخلدون في النار، والمعتزلة يقولون: فساقا، ويخلدون في النار، وكلتا الطائفتين خارجة عن الصراط المستقيم، وما عليه السلف الصالح من أهل الملة والدين. ثم تتابعت البدع وكثرت، كبدعة القدرية والمرجئة، والجهمية وغير ذلك من البدع، التي حقيقتها مخالفة الكتاب والسنة. إذا علمت ذلك، فاعلم أن الله تبارك وتعالى منّ في الجزء: 14 ¦ الصفحة: 316 آخر هذا الزمان، في القرن الثاني عشر، بظهور من دعا إلى ما دعت إليه الرسل، وهو: شيخ الإسلام، وعلم الهداة الأعلام، الشيخ: محمد بن عبد الوهاب، أسكنه الله الجنة بمنه وكرمه؛ لأنه خرج في زمن فترة من أهل العلم، تشبه الفترة التي بين الرسل، فدعا إلى الله، وبصر الخلق بحقيقة ما خلقوا له من إخلاص العبادة لله، وترك عبادة ما سواه، الذي هو أول مدلول شهادة أن لا إله إلا الله فجد واجتهد، وأعلن بالدعوة. فعارضه من عارضه، ممن استهوتهم الشياطين، واجتالتهم عن فطرهم التي فطروا عليها، فقام في رد ما جاء به علماء السوء، بشبهات وضلالات أوهن من بيت العنكبوت، واستعانوا بملأ هم من الرؤساء والأمراء، فجدوا في إطفاء نور الله، فأبى الله إلا أن يتم نوره ويعلي كلمته. وأنتم- ولله الحمد- يبلغنا عنكم من القيام لله، والدعوة إلى دينه، ونصرة من دان به، ما يسرنا، ولكن الداعي إلى الله لا بد أن يسلك الطريقة الوسط، التي هي هدى بين ضلالتين، وحق بين باطلين، وأن يتخلق بالأخلاق المرضية، من العلم والبصيرة، والحلم والرفق، واللطف واللين، وعدم التعنيف. بل يكون جل مقصوده ومرامه أن يدخل الناس في هذا الجزء: 14 ¦ الصفحة: 317 الدين، لأن الناس اليوم في مقام دعوة وتأليف، ليس مقام غلظة وتعنيف، لاسيما الرؤساء والقادة؛ والغلظة ليست ديدنا للرسول ولا خلقا له، كما يظنه من ظنه من جهلة المتعلمين. فليكن لك رغبة في تأليف الناس ودعوتهم، برفق وتلطف في حال الدعوة، فإذا لم ينجح اللين واللطف، وكان الغلبة لأهل الحق والقوة لهم، وأهل الشر قليلون، فالغلظة على المخالف في محلها. هذا ونسأل الله لنا ولكم الهداية والتوفيق، لما فيه سعادتنا في الدنيا والآخرة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. [وصية المسلمين بتقوى الله وتذكيرهم بنعمة الإسلام وما أنعم الله به عليهم بسببه] وله أيضا، رحمه الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، ولا إله إلا الله، إله الأولين والآخرين، وقيوم السماوات والأرضين، والصلاة والسلام على إمام المتقين، محمد وآله وصحبه والتابعين. إلى من يراه من إخواننا المسلمين، وفقنا الله وإياهم لفعل الخيرات، وترك المنكرات، وحمانا وإياهم من طوارق البليات، وأصلح لنا ولهم الأقوال والأفعال، والنيات، الجزء: 14 ¦ الصفحة: 318 آمين. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: موجب الخط النصيحة لكم، والشفقه عليكم فأول ما أوصيكم بتقوى الله سبحانه وتعالى، لأنها وصية الله للأولين والآخرين، قال تعالى: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [سورة النساء آية: 131ب] ، والتقوى: أن تعمل بطاعة الله، على نور من الله، ترجو ثواب الله، وتترك معصية الله، على نور من الله، تخاف عقاب الله. قاله طلق بن حبيب رحمه الله تعالى. ثم تذكيركم ما من الله به عليكم من نعمة الإسلام، قال الله تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [سورة يونس آية: 58] . فضل الله: الإسلام، ورحمته: أن جعلكم من أهله. ثم أعطاكم الله بالإسلام من النعم التي لا تحصى، وما دفع عنكم به من النقم التي لا تستقصى. قال تعالى: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ} [سورة الأنفال آية: 26] الآية. وقال: {عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ} [سورة الأعراف آية: 129] الآية. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ} [سورة المائدة آية: 11] . وقال تعالى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ} [سورة الحج آية: 41] الآية. وقال: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [سورة النور آية: 55] الآية. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 319 آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [سورة آل عمران آية: 102] ، إلى قوله: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا} [سورة آل عمران آية: 105] الآية. وحق تقاته: أن يطاع فلا يعصى، وأن يذكر فلا ينسى، وأن يشكر فلا يكفر. فاشكروا الله تعالى بامتثال أمره واجتناب نهيه، ولا تعدوا حدوده، فإن الشكر عمل، قال تعالى: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْراً} [سورة سبأ آية: 13] ، قال سليمان عليه السلام: {هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ} [سورة النمل آية: 40] . والشكر سبب لزيادة النعم وثبوتها قال تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [سورة إبراهيم آية: 7] الآية. وحذركم بأسه الذي لا يرد عن القوم المجرمين: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} [سورة آل عمران آية: 28] ،: {أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ} [سورة البقرة آية: 235] : {مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً} [سورة نوح آية: 13] أي: لا تخافون لله عظمة. واعلموا أن كل شر الدنيا والآخرة فسببه الذنوب والمعاصي، قال الله تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [سورة آل عمران آية: 30] ، وقال: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ} [سورة آل عمران آية: 165] إلى قوله: {قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [سورة آل عمران آية: 165] . وقال تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [سورة الروم آية: 41] . وقال تعالى: {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَاراً} [سورة نوح آية: 25] ، الآية. وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا الجزء: 14 ¦ الصفحة: 320 بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [سورة الرعد آية: 11] الآية. وفي الحديث: إذا رأيت الله يتابع نعمه على عبده وهو مقيم على المعاصي، فإنما هو استدراج ثم قرأ: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا} [سورة الأنعام آية: 44] 1 الآية. فما الذي أخرج الأبوين من الجنة دار اللذة والسرور، إلى دار التعب والبؤس والشرور؟ وما الذي طرد إبليس من ملكوت السماوات والأرض، وسلبه السيادة، وعوضه عنها القيادة؟ وما الذي أغرق قوم نوح حتى علا الماء على رؤوس الجبال؟ وما الذي سلط الريح على قوم هود فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية؟ وما الذي أرسل الصيحة على ثمود، حتى قطعت قلوبهم في أجوافهم؟ وما الذي رفع القرى اللوطية ثم قلبها عليهم، وأتبعهم حجارة من سجيل؟ وما الذي جمع على قوم شعيب رجفة من تحتهم، وصيحة من فوقهم، حتى هلكوا عن آخرهم؟ وما الذي أغرق قوم فرعون فجعل أجسامهم للغرق، وأرواحهم للحرق؟ وما الذي أهلك القرون من بعد قوم نوح بأنواع العقوبات؟ وما الذي بعث على بني إسرائيل قوما أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار، فقتلوا الرجال وسبوا الذراري والنساء؟ ثم بعثوا عليهم مرة ثانية فتبروا ما علوا تتبيرا؟ وما الذي سلط عليهم أنواع العقوبات؟ مرة بالقتل   1 أحمد 4/145. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 321 والسبي وخراب البلاد، ومرة بجور الملوك، ومرة بمسخهم قردة وخنازير، هذا مسخ الأبدان، ثم مسخ قلوبهم فجعلها قاسية، ولأوامر الله ناسية، وآخر ذلك أقسم الله تبارك وتعالى: {لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} [سورة الأعراف آية: 167] . وكل هذه العقوبات فسببها الذنوب والمعاصي، والإعراض عما جاءت به الرسل، فكل من فعل فعلهم، وعصى الله، وخالف أمره ونهيه، حل بهم من العقوبات بمثل ما حل بأولئك. وفي مسند الإمام أحمد عن أم سلمة رضي الله عنها، قالت، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا ظهرت المعاصي في أمتي عمهم الله بعذاب من عنده 1. وفي مراسيل الحسن: لا تزال هذه الأمة تحت يدي الله وكنفه، ما لم تمال قراؤها أمراءها، وما لم يزك صلحاؤها فجارها، وما لم يهن خيارها أشرارها، فإذا فعلوا ذلك، رفع الله عنهم يده، وسلط عليهم جبابرته، فساموهم سوء العذاب، ثم ضربهم الله بالفاقة والفقر. وعن ابن مسعود رضي الله عنه: إذا ظهر الزنى في قرية أذن الله عز وجل بهلاكها وفي المسند عن ثوبان مرفوعا: يوشك أن تداعى عليكم الأمم، كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، قلنا: يا رسول الله، أمن قلة منا يومئذ؟ قال: بل أنتم كثيرون، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، تنْزع المهابة من   1 أحمد 6/304. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 322 قلوب عدوكم، ويجعل في قلوبكم الوهن 1 وفي جامع الترمذي مرفوعا: يخرج في آخر الزمان قوم يختلون الدنيا بالدين، يلبسون للناس جلود الضان من اللين، ألسنتهم أحلى من السكر، وقلوبهم قلوب الذئاب. يقول الله تعالى: أبي يغترون؟ أم علي يجترئون؟ فبي حلفت؛ لأبعثن على أولئك فتنة تدع الحليم فيهم حيرانا. وفي مراسيل الحسن: إذا أظهر الناس العلم وضيعوا العمل، وتحابوا بالألسن، وتباغضوا بالقلوب، وتقاطعوا بالأرحام، لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم. وفي سنن ابن ماجة، من حديث ابن عمر رضي الله عنه قال: كنت عاشر عشرة من المهاجرين، عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبل علينا بوجهه، وقال: يا معشر المهاجرين، خمس خصال، وأعوذ بالله أن تدركوهن: ما ظهرت الفاحشة في قوم، إلا ابتلوا بالطواعين والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا. ولا نقص قوم المكيال والميزان، إلا ابتلوا بالسنين وشدة المؤونة وجور السلطان، وما منع قوم زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا. ولا خفر قوم العهد إلا سلط الله عليهم عدوا من غيرهم، فأخذوا بعض ما في أيديهم. وما لم تعمل أئمتهم بما أنزل الله في كتابه، إلا جعل الله بأسهم بينهم.   1 أبو داود: الملاحم 4297 , وأحمد 5/278. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 323 وروى ابن أبي حاتم عن علي رضي الله عنه أنه خطب فقال: يا أيّها الناس إنما هلك من كان قبلكم بركوبهم المعاصي، ولم ينههم الربانيون والأحبار، فلما تمادوا أخذتهم العقوبات، فأمروا بالمعروف وانهوا عن المنكر، قبل أن ينزل بكم الذي نزل بهم، واعلموا: أن الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، لا يقطع رزقا، ولا يقرب أجلا. وروى الإمام أحمد، عن جرير مرفوعا: ما من قوم يكون بين أظهرهم من يعمل بالمعاصي، هم أعز منه وأمنع لم يغيروا عليه، إلا أصابهم الله بعذاب من عنده 1 وقال تعالى: {لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَار} ُ [سورة المائدة آية: 63] . قال ابن النحاس: دلت الآية على أن تارك الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، كمرتكبه، والآية توبيخ للعلماء في ترك الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، كما قاله القرطبي: وتالله إنهم لأهل لكل توبيخ، فأنى يصلح الناس والعلماء فاسدون؟ أم كيف تعظمون المعصية في قلوب الجاهلين، والعلماء بأفعالهم وأقوالهم لم ينهوهم عنها؟ أم كيف يرغب في الطاعة، والعلماء لا يأتونها؟ أم كيف يتركون البدع والعلماء يرونها فلا ينكرونها؟ إلى أن قال: وأما في زماننا هذا؛ فقد قيد الطمع ألسن العلماء فسكتوا، إذ لم تساعد أقوالهم أفعالهم، ولو صدقوا الله لكان خيرا لهم، فإذا نظرنا إلى فساد الرعية، وجدنا سببه فساد الملوك؛ وإذا نظرنا إلى فساد الملوك وجدنا سببه فساد العلماء   1 أبو داود: الملاحم 4339 , وابن ماجه: الفتن 4009 , وأحمد 4/363. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 324 والصالحين؛ وإذا نظرنا إلى فساد العلماء والصالحين، وجدنا سببه ما استولى عليهم من حب المال والجاه، وانتشار الصيت ونفاذ الكلمة، ومداهنة المخلوقين، وفساد النيات والأقوال والأفعال. انتهى. وفي مسند أبى داود عن ابن مسعود مرفوعا: أول ما دخل النقص على بني إسرائيل كان الرجل يلقى الرجل، فيقول يا هذا: اتق الله ودع ما تصنع، فإن هذا لا يحل لك. ثم يلقاه من الغد فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده. فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم على بعض، ثم قال: {لُعِنَ الذين كَفَرُوا مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاودَ وَعِيسَى ابن مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لا يَتَنَاهُونَ عِن مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ} 1 الآية ثم قال: كلا والله، لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يد الظالم، ولتأطرنه على الحق أطرا، ولتقصرنه على الحق قصرا. وروى الإمام أحمد عن حذيفة مرفوعا: والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عذابا من عنده، ثم تدعونه فلا يستجيب لكم 2. وروى الإمام أحمد أيضا عن عدي بن عمرة، مرفوعا: إن الله لا يعذب العامة بعمل الخاصة، حتى يروا   1 الترمذي: تفسير القرآن 3047 , وأبو داود: الملاحم 4336 , وابن ماجه: الفتن 4006. 2 أحمد 5/388. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 325 المنكر بين ظهرانيهم فلا ينكروه، فإذا فعلوا ذلك عذب الخاصة والعامة 1. وفي حديث أبي ثعلبة مرفوعا: ائتمروا بالمعروف، وتناهوا عن المنكر، حتى إذا رأيت شحا مطاعا أو هوى متبعا، ودنيا موثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك بخاصة نفسك، ودع العوام، فإن من ورائكم أياما، الصابر فيها على دينه، كالقابض على الجمر، للعامل فيه أجر خمسين رجلا يعملون مثل عمله، قلنا: أمنا أو منهم؟ قال: بل منكم حسنه الترمذي. وفي صحيح مسلم، عن أبي هريرة مرفوعا: بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ، فطوبى للغرباء، الذين يصلحون ما أفسد الناس من سنتي 2 وفي لفظ: إذا فسد الناس. وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم عن فتنة الشهوات والشبهات، وحذر من فتنة الدنيا وفتنة النساء، كما روى الإمام أحمد رحمه الله، عن أبي برزة مرفوعا: إنما أخشى عليكم شهوات الغي في بطونكم وفروجكم، ومضلات الفتن 3 وفي لفظ "الهوى". فهاتان الفتنتان بهما أصبح أكثر الناس متقاطعين متباغضين متنافسين، متحاسدين، بعد أن كانوا متحابين متواصلين، فتنة بعض الخلق بالدنيا وزينتها، فلها يطلبون، ولها يرضون، ويسخطون، وعليها يوالون ويعادون، وهل   1 أحمد 4/192. 2 الترمذي: الإيمان 2630. 3 أحمد 4/420. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 326 قطعوا أرحامهم وسفكوا دماءهم إلا بذلك؟ فرحم الله امرأ أناب إلى ربه، واستغفر لذنبه، فقد بان كثير من أشراط الساعة، منها: إضاعة الصلاة، وقد قال تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ} [سورة البقرة آية: 238] ، وخيانة الأمانة، وقد قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [سورة النساء آية: 58] . وعن ابن مسعود مرفوعا، قال: القتل في سبيل الله يكفر الذنوب كلها، إلا الأمانة والدين، يؤتى بالعبد يوم القيامة، وإن قتل في سبيل الله، فيقال له: أد أمانتك، فيقول يا رب، كيف وقد ذهبت الدنيا؟ فيقال له: انطلقوا به إلى الهاوية. فينطلقون به إلى الهاوية، وتمثل له أمانته كهيئتها يوم دفعت إليه فيردها، فيهوي في أثرها حتى يدركها، فيجعلها على منكبه، حتى إذا ظن أنه خارج زلت عن منكبه، فيهوي في أثرها أبد الآبدين، قال: الصلاة أمانة، والوضوء أمانة، والوزن أمانة، والكيل أمانة، وعدد أشياء، وأشد من ذلك الودائع، فأتيت البراء فقلت: ألا ترى ما قال ابن مسعود؟ قال: كذا وكذا، قال: صدق رواه البيهقي. وأكل الربا، قال تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلاّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [سورة البقرة آية:275-278] . وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الجزء: 14 ¦ الصفحة: 327 الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبا أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً} [سورة آل عمران آية: 130] الآية. والكذب في المعاملات، وبيع الدين بالدنيا، وقد قال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ} [سورة البقرة آية: 86] . وكذلك قطع الأرحام، قال تعالى {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} [سورة محمد آية: 22] . قال صلى الله عليه وسلم: إن الله خلق الخلق حتى إذا فرغ منهم، قامت الرحم، فقالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة، قال: نعم. أما ترضين أن أصل من وصلك، وأقطع من قطعك، قالت: بلى، قال: فذلك لك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اقرؤوا إن شئتم: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ} [سورة محمد آية: 22] 1 إلى آخر الآية. وكذلك شهادة الزور وقد قال تعالى: {وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّور} ِالآية [سورة الحج آية: 30] . وعن ابن عمر رضي الله عنهما: إن الطير لتخفق بأجنحتها وترمي ما في حواصلها من هول يوم القيامة، وإن شاهد الزور لا تزول قدماه حتى يتبوأ مقعده من النار. ولهما في حديث أبي بكرة: ألا وقول الزور، ألا وشهادة الزور، فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت 2 وكذلك لبس الحرير فقد قال صلى الله عليه وسلم: إنما يلبس الحرير في الدنيا من لا يرجو أن يلبسه في الآخرة 3. قال الحسن: فما   1 البخاري: الأدب 5987 , ومسلم: البر والصلة والآداب 2554 , وأحمد 2/330. 2 البخاري: الاستئذان 6273 , ومسلم: الإيمان 87 , والترمذي: البر والصلة 1901 والشهادات 2301 وتفسير القرآن 3019 , وأحمد 5/36 ,5/38. 3 أحمد 2/329. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 328 بال أقوام يبلغهم هذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيجعلون حريرا في ثيابهم وبيوتهم؟ . وقال صلى الله عليه وسلم: الحرير حرام على ذكور أمتي، حلال لإناثها 1، فحرم الحرير على الذكور، ورخص فيه للإناث، ولأحمد: "لا يستمتع بالحرير بالدنيا، من يرجو لقاء الله وأيامه وحسابه". وأما القدر المباح منه، فكما روى البخاري وأهل السنن، عن أبي عثمان النهدي، قال: أتانا كتاب عمر ونحن مع عتبة بن فرقد بأذربيجان: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الحرير إلا هكذا، وأشار بأصبعيه اللتين تليان الإبهام 2. وأخرج مسلم وأبو داود: أن عمر رضي الله عنه خطب، فقال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لبس الحرير، إلا موضع أصبعين أو ثلاثة أو أربعة 3 فهذا نهي عام عن استعمال الحرير، إلا ما استثني منه، وهو قدر أربعة أصابع عرضا لا طولا. وكذلك ائتمان، الخائن، وتخوين الأمين، واستعمال الدخان، وهو حرام ملحق بالمسكر، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم كل مسكر حرام 4. والنفقة للجاه والمفاخرة، وطلب الدنيا بعمل الآخرة، والقسوة التي عمت القلوب، كل هذا سببه المعاصي، والذنوب. وأنتم ترون كيف تحدث الآفات في الزروع. والثمار،   1 الترمذي: اللباس 1720 , والنسائي: الزينة 5148. 2 البخاري: اللباس 5828 , ومسلم: اللباس والزينة 2069 , والنسائي: الزينة 5312 , وأبو داود: اللباس 4042 , وابن ماجه: اللباس 3593 , وأحمد 1/15 ,1/36 ,1/50. 3 مسلم: اللباس والزينة 2069 , وأبو داود: اللباس 4042 , وأحمد 1/51. 4 البخاري: المغازي 4343 , ومسلم: الأشربة 1733 , والنسائي: الأشربة 5595 ,5597 ,5602 ,5604 , وأبو داود: الأشربة 3684 , وابن ماجه: الأشربة 3391 , وأحمد 4/410 ,4/415 ,4/417 , والدارمي: الأشربة 2098. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 329 آفات متلازمة، أخذ بعضها برقاب بعض، فكلما أحدث الناس ظلما وفجورا، أحدث لهم ربهم تبارك وتعالى من الآفات والعلل، في أغذيتهم، وأهويتهم، وفواكههم، ومياههم، وخلقهم، وصورهم، ما هو موجب أعمالهم وظلمهم وفجورهم، ولا يظلم ربك أحدا. فاسمعوا مواعظ الله: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [سورة النور آية: 31] . نسأل الله أن يوفقنا لما يحبه ويرضاه، من الأقوال والأفعال والنيات، وأن يرزقنا الثبات على الإسلام إلى الممات، وأن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا. والسلام عليكم، ورحمة الله وبركاته، وصلى الله على محمد. [الحث على شكر النعم وبيان الشكر وآثاره والحث على التوبة] وقال أيضا، الشيخ: محمد بن الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن، رحمهم الله تعالى 1. بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على إمام المتقين، محمد وآله وصحبه، والتابعين. إلى من يراه من إخواننا المسلمين، وفقنا الله وإياهم لفعل الخيرات، وترك المنكرات، وحمانا وإياهم من طوارق البليات، وأصلح لنا ولهم الأقوال، والأعمال، والنيات،   1 وهي قريبة من التي قبلها في أسلوبها وأدلتها. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 330 آمين، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أما بعد: فالموجب لهذا هو النصيحة لكم، والشفقة عليكم، فأول ما أوصيكم به تقوى الله سبحانه وتعالى، لأنها وصية الله للأولين والآخرين، قال تعالى: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [سورة النساء آية: 131] . والتقوى حقيقتها: أن تعمل بطاعة الله، على نور من الله، ترجو ثواب الله وأن تترك معصية الله، على نور من الله، تخاف عقاب الله قاله طلق بن حبيب، رحمه الله. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} إلى قوله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ الآية} [سورة آل عمران آية: 102 - 110] . ثم تذكيركم: ما من الله به عليكم، من نعمة الإسلام، قال تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [سورة يونس آية: 58] ، ففضل الله الإسلام، ورحمته أن جعلكم من أهله، ثم ما أعطاكم الله بالإسلام، من النعم التي لا تحصى، وما دفع به عنكم من النقم التي لا تستقصى. وقوله: {حق تقاته} أن يطاع فلا يعصى، وأن يذكر فلا ينسى، وأن يشكر فلا يكفر، فاشكروا لله تعالى، بامتثال الجزء: 14 ¦ الصفحة: 331 أمره، واجتناب نهيه، وعدم تعدي حدوده، فإن الشكر عمل، قال تعالى: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْراً} [سورة سبأ آية: 13] . وقال سليمان عليه السلام: {قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ} [سورة النمل آية: 40] ، والشكر موجب لزيادة النعم وثباتها، قال تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [سورة إبراهيم آية: 7] . وحذركم الله بأسه الذي لا يرد عن القوم المجرمين، فقال،: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} [سورة آل عمران آية: 28] ، و: {أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ} [سورة البقرة آية: 235] ،: {مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً} [سورة نوح آية: 13] ، أي: لا تخافون لله عظمة. واعلموا أن كل شر في الدنيا والآخرة، فسببة الذنوب والمعاصي، وترك الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والإعراض عن واجبات الدين، قال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [سورة الشورى آية: 30] . وقال تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [سورة الروم آية: 41] . وقال تعالى: {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَاراً} [سورة نوح آية: 25] . وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [سورة الرعد آية: 11] . قال بعض السلف: إذا رأيت الله يتابع نعمه على عبده، الجزء: 14 ¦ الصفحة: 332 وهو مقيم على المعاصي، فاعلم أنما هو استدراج، ثم قرأ:: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} [سورة الأنعام آية: 44] . فاحذروا- عباد الله- معاصي الله، وارتكاب محارمه، والوقوع في مساخطه ومناهيه، فإن هذه أسباب توجب حلول النقم والعقوبات، وزوال النعم وحلول المثلات؛ فأمروا بالمعروف وانهوا عن المنكر، قبل أن يحل بكم من العقوبات، ما لا تقدرون على دفعه. ففي مسند الإمام أحمد، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا ظهرت المعاصي في أمتي عمهم الله بعذاب من عنده 1. وفي مراسيل الحسن: لا تزال هذه الأمة تحت يد الله تعالى وفي كنفه، ما لم تمال قراؤها أمراءها، وما لم يزك صلحاؤها فجارها، وما لم يهن خيارها أشرارها، فإذا فعلوا ذلك رفع الله عنهم يده، وسلط عليهم جبابرتهم، فساموهم سوء العذاب، ثم ضربهم الله بالفاقة والفقر. وعن ابن مسعود رضي الله عنه: إذا ظهر الزنى في قرية أذن الله بهلاكها، وفي المسند عن ثوبان، مرفوعا: يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة على قصعتها، قلنا: يا رسول الله، أمن قلة منا يومئذ؟ قال: بل أنتم كثيرون،   1 أحمد 6/304. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 333 ولكنكم غثاء كغثاء السيل، تنْزع المهابة من قلوب عدوكم، ويجعل في قلوبكم الوهن 1. وفي جامع الترمذي، مرفوعا: يخرج في آخر الزمان قوم يختلون الدنيا بالدين، يلبسون للناس جلود الضأن من اللين، ألسنتهم أحلى من السكر، وقلوبهم قلوب الذئاب. يقول الله عز وجل أبي يغترون؟ أم علي يجترئون؟ فبي حلفت، لأبعثن على أولئك فتنة تدع الحليم فيهم حيرانا 2 وفي مراسيل الحسن: إذا أظهر الناس العلم، وضيعوا العمل، وتحابوا بالألسن، وتباغضوا بالقلوب، وتقاطعوا الأرحام، لعنهم الله، فأصمهم وأعمى أبصارهم. قال ابن مسعود: بئس القوم قوم لا يأمرون بالمعروف، وبئس القوم قوم لا ينكرون المنكر. وفي سنن ابن ماجه، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: كنت عاشر عشرة من المهاجرين، عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبل علينا بوجهه، فقال: يا معشر المهاجرين، خمس خصال، وأعوذ بالله أن تدركوهن: ما ظهرت الفاحشة في قوم حتى أعلنوا بها، إلا ابتلوا بالطواعين والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا. ولا نقص قوم المكيال والميزان، إلا ابتلوا بالسنين، وشدة المؤنة، وجور السلطان. وما منع قوم زكاة أموالهم، إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا. ولا خفر قوم العهد، إلا سلط الله عليهم عدوا من غيرهم   1 أبو داود: الملاحم 4297 , وأحمد 5/278. 2 الترمذي: الزهد 2404. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 334 ، فأخذ بعض ما في أيديهم ; وما لم تعمل أئمتهم بما في كتاب الله، إلا جعل الله بأسهم بينهم وقال عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه: هلكت إن لم يعرف قلبك المعروف وينكر المنكر. وروى ابن أبي حاتم، عن علي رضي الله عنه أنه خطب، فقال: يا أيها الناس، إنما هلك من كان قبلكم بركوبهم المعاصي، فلم ينههم الربانيون والأحبار، فلما تمادوا أخذتهم العقوبات. فأمروا بالمعروف، وانهوا عن المنكر، قبل أن ينْزل بكم الذي نزل بهم، واعلموا أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا يقطع رزقا ولا يقرب أجلا وروى الإمام أحمد رحمه الله تعالى، عن جرير مرفوعا: ما من قوم يكون بين ظهرانيهم من يعمل بالمعاصي، هم أعز منه وأمنع، ثم لم يغيروا عليه، إلا أصابهم الله بعذاب من عنده 1. واعلموا رحمكم الله أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، من أوجب الواجبات، وأهم المهمات، ومن أعظم ما يدفع الله به المحن والبليات، والقيام به سبب لظهور البركات؛ وأنتم ترون كثرة حدوث الآفات، في الزروع والثمار، آفات متلازمات، يتبع بعضها بعضا. فكلما أحدث الناس ظلما وفجورا، وإعراضا- عما أوجب الله عليهم وتعبدهم به- وعدم إيثار لمراضيه، أحدث   1 أبو داود: الملاحم 4339 , وابن ماجه: الفتن 4009 , وأحمد 4/363. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 335 لهم ربهم تبارك وتعالى من الآفات والعلل في أغذيتهم وأهويتهم، وفواكههم وغور مياههم؛ وفي أخلاقهم وصورهم، وتتابع الأمراض والعقوبات، ما هو موجب أعمالهم وظلمهم وفجورهم، ولا يظلم ربك أحدا. واعلموا- معاشر المسلمين- أن ربكم تبارك وتعالى: ذكركم بما قضاه وقدره من هذه المصائب الواقعة، عبرة لكم وموعظة، لعلكم ترجعون وتنيبون إليه، وتتوبون من ذنوبكم، وتستغفرونه، كما قال تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [سورة النور آية: 31] . وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [سورة الأعراف آية: 96] . وقال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [سورة الشورى آية: 30] . وفي الأثر: أن الرب تبارك وتعالى، يقول: وعزتي وجلالي، لا يكون عبد من عبادي على ما أكره، فيتحول منه إلى ما أحب، إلا تحولت له مما يكره إلى ما يحب فعليكم عباد الله، بالتوبة إلى ربكم، توبة نصوحا، وأن تحولوا عما يكره ربكم إلى ما يحب، لعل الله أن يتحول لكم عما تكرهون إلى ما تحبون. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً الجزء: 14 ¦ الصفحة: 336 نَصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [سورة التحريم آية: 8] . : {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعاً حَسَناً إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ} [سورة هود آية: 3] . وقال تعالى: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً} [سورة نوح آية: 10-11] . وقال صلى الله عليه وسلم يا أيها الناس توبوا إلى ربكم، فإني أتوب إلى الله في اليوم أكثر من مائة مرة. وفي الحديث: من لازم الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجا، ومن كل ضيق مخرجا، ورزقه من حيث لا يحتسب 1، ولا يكون العبد مستغفرا حقيقة، إلا إذا كان قلبة عازما على أن لا يعود، كما قال الحسن: ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني ولكن ما وقر في القلوب، وصدقته الأعمال. ومن أخطر الأسباب لمنع القطر، وموجبات القحط: التهاون بالمعاصي، وعدم المبالاة بها، وعدم الاهتمام بأمر الصلوات، لأن القيام بها والمسارعة إليها من خصال أهل الإيمان؛ والتخلف عنها والتكاسل من صفات المنافقين. وكذلك ترك الزكاة، ومنع الأغنياء ما أوجب الله عليهم في أموالهم، والتمادي في الشهوات والمحرمات، وبخس المكاييل والموازين، والإسبال، وغير ذلك من الأسباب المانعة لنُزول الرحمة، ونزع البركات.   1 أبو داود: الصلاة 1518 , وابن ماجه: الأدب 3819. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 337 ثم اعلموا- رحمكم الله- أن المسلمين قد عزموا على طلب السقيا من ربهم، فقد سن صلى الله عليه وسلم للأمة إذا أبطأ عنهم المطر، أن يبرزوا إلى الصحراء ويصلوا، ويسألوا الله أن يسقيهم، وليكن ذلك بعد توبة، وبر قلوب، وصدق لجأ، وخشوع وتذلل، وخروج من المظالم، وسلامة من الغل والحسد وقطيعة الأرحام، والإقلاع من الذنوب جملة، وتجديد عزيمة على عدم العود إليها، وإظهار الفاقة والافتقار إلى الله، والمبادرة بين يدي ذلك بالصدقة على الفقراء والمحاويج، والإعتاق، وغير ذلك من أنواع فعل الخيرات. فإن ذلك من أعظم ما يستجلب به ما عند الله من الرزق، ومن أعظم ما يدفع الله به العقوبات، ويرفع به المصائب والآفات. فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يتوب علينا وعليكم، وأن يعاملنا بعفوه، ويرحمنا برحمته، ونعوذ بالله من زوال نعمته، وتحول عافيته، ومن جميع سخطه، فهو حسبنا ونعم الوكيل، وصلى الله على محمد عبده ورسوله، وآله وصحبه أجمعين. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 338 [ذكر أعظم الواجبات والتحذير من الاختلاف واجتناب الغيبة والنميمة والتفسيق] وقال أيضا الشيخ: محمد بن عبد اللطيف، وعدد من علماء نجد، وفقهم الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم من محمد بن عبد اللطيف، وسعد بن حمد بن عتيق، وسليمان بن سحمان، وصالح بن عبد العزيز، وعبد الله بن حسن، وعبد العزيز بن عبد اللطيف، وعمر بن عبد اللطيف، وعبد الرحمن بن عبد اللطيف، ومحمد بن إبراهيم، وعبد الله بن فيصل، إلى من يصل إليه هذا الكتاب من إخواننا المسلمين، جمع الله قلوبنا وقلوبهم على طاعته، ووفقنا وإياهم جميعا لذكره وشكره، وحسن عبادته، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فالموجب للكتاب إبلاغكم السلام، مع الوصية بتقوى الله تعالى، فإنها وصية الله للأولين والآخرين، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [سورة النساء آية: 131] .} وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [سورة الأحزاب آية: 70-71] . والتقوى، هي: طاعة الله تعالى بما أمر به، واجتناب نواهيه، كما قال بعض السلف: التقوى أن تعمل بطاعة الله، على نور من الله، ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله على الجزء: 14 ¦ الصفحة: 339 نور من الله، تخاف عقاب الله. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاّ ّوَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} إلى قوله: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ َيوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [سورة آل عمران آية: 102-106] ، قال ابن عباس: تبيض وجوه أهل السنة والائتلاف، وتسود وجوه أهل البدعة والاختلاف. إذا علمتم ذلك فمن أعظم الواجبات على المسلمين، الاعتصام بكتاب الله، واتباع سنة رسوله صلى الله عليه وسلم. ومن ذلك: الاجتماع على دين الله، والتواصي بالقيام به، والتعاون عليه، واجتناب الخوض والمراء في دين الله، وعدم التشاحن والتباغض، والتقاطع والتدابر. واجتناب الغيبة والنميمة، وترك التفسيق والتبديع، والتضليل، والعدوان بالسب والضرب، وغير ذلك، مما لا ينبغي من بعض المسلمين لبعض. فإن ذلك ينافي ما أمر الله به، وأمر به رسوله صلى الله عليه وسلم من الجزء: 14 ¦ الصفحة: 340 الأخوة بين المسلمين والموالاة، والتحاب، والتواصل، والتراحم، والتعاون على البر والتقوى، كما قال تعالى:: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [سورة المائدة آية: 2] . وفي الحديث، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم، كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر" 1، وفي الحديث الآخر: " المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا، وشبك بين أصابعه" 2. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تحاسدوا ولا تناجشوا، ولا تباغضوا ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخوانا، المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يخذله، ولا يكذبه ولا يحقره، التقوى هاهنا، ويشير إلى صدره ثلاث مرات. بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم. كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه" 3 رواه مسلم. وفي وصية النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ: " اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن" 4 وعن أبي ذر مرفوعا: " من دعا رجلا بالكفر،" أو قال: " عدو الله، وليس كذلك، إلا حار عليه" 5. وعن سمرة مرفوعا: "لا تلاعنوا بلعنة الله، ولا بغضبه، ولا بالنار" 6 صححة الترمذي، ولا شك أن هذا وما أشبهه من سب المسلم وذمه،   1 البخاري: الأدب 6011 , ومسلم: البر والصلة والآداب 2586 , وأحمد 4/268 ,4/270 ,4/271 ,4/274 ,4/276 ,4/278 ,4/375. 2 البخاري: الصلاة 481 , ومسلم: البر والصلة والآداب 2585 , والترمذي: البر والصلة 1928 , والنسائي: الزكاة 2560 , وأحمد 4/404. 3 البخاري: الأدب 6066 , ومسلم: البر والصلة والآداب 2564 , وأحمد 2/277 ,2/288. 4 الترمذي: البر والصلة 1987 , وأحمد 5/153 ,5/158 ,5/177 , والدارمي: الرقاق 2791. 5 مسلم: الإيمان 61 , وأحمد 5/166. 6 الترمذي: البر والصلة 1976 , وأبو داود: الأدب 4906. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 341 بما ليس فيه، من عدم حفظ اللسان، وعدم التوقي والتحرز من شره، ومن أسباب التباغض والإحن والتفرق واختلاف الكلمة. وفي الحديث عن ابن عمر، مرفوعا: "من قال في مسلم ما ليس فيه، أسكنه الله ردغة الخبال حتى يخرج مما قال، قيل: يا رسول الله، وما ردغة الخبال؟ قال: عصارة أهل النار" 1 رواه أبو داود. وعن بلال بن الحارث رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الرجل ليتكلم بالكلمة من الخير، ما يعلم مبلغها، يكتب الله له بها رضوانه إلى يوم يلقاه. وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من الشر، ما يعلم مبلغها، يكتب الله له بها عليه غضبه إلى يوم يلقاه " 2. وفي حديث معاذ، قال: "قلت يا رسول الله: وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ فقال: ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكب الناس في النار على وجوههم، أو قال مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم" 3. ونسأل الله أن يوفقنا وإياكم لما يحبه ويرضاه، وأن يجنبنا وإياكم جميع ما يسخطه ولا يرضاه؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله على محمد.   1 أبو داود: الأقضية 3597 , وأحمد 2/70. 2 الترمذي: الزهد 2319 , وابن ماجه: الفتن 3969 , وأحمد 3/469 , ومالك: الجامع 1848. 3 الترمذي: الإيمان 2616 , وابن ماجه: الفتن 3973 , وأحمد 5/231 ,5/237. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 342 [الحث على الشكر والتحذير من بأس الله وذكر ما يصيب القلوب] وقال الشيخ: عبد الله بن عبد العزيز العنقري، رحمه الله: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله بن عبد العزيز العنقري، إلى أهل الغاط، جمع الله قلوبهم على الإيمان والتقوى، ودفع عنا وعنهم كل سوء وبلوى، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد، تفهمون- وفقكم الله- أن الله خلقكم لإخلاص العبادة بجميع أنواعها لله وحده، والبراءة مما سواه ; وعندكم معلوم أن عبادة الله لا تختص بوقت دون وقت، بل هي واجبة على الإنسان حتى يفارق الدنيا، كما قال تعالى.: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [سورة الحجر آية: 99] . وأيضا فإنه يجب على العباد عند تجدد النعم، واندفاع النقم، أن يجددوا شكرا لمولاهم؛ وأنتم ترون ما أعطاكم الله، من كفايته التامة من شرور الأعداء، واجتماع المسلمين على ولاية عادلة دينية، أقام الله بها شرائع الإسلام والدين، وكف بها كيد المبطلين. وكذلك ما أعطاكم الله من معرفة الإسلام ومحبته، وإيثاره على ما سواه من الأديان، فإن هذه النعمة نعمة جسيمة عظيمة، لا يقدر أحد أن يقوم بشكرها؛ وكذلك ما أعطاكم من الصحة، والأمن وغير ذلك من النعم التي لا تحصى. فاتقوا الله عباد الله، وقيدوا نعمه بالشكر، فإن الشكر كفيل بالزيادة، كما قال تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 343 لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [سورة إبراهيم آية: 7] . وفي الحديث: إن للنعم نفارا، فقيدوها بالشكر. ومن أعظم الشكر: القيام بما أوجب الله وتأدية حقوقه عليكم، والتعاون على البر والتقوى، والقيام بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، على الوجه الشرعي، وترك التشاحن والتقاطع، فإن ذلك من أسباب نزع البركة في الدين والدنيا. كذلك أداء الزكاة فإنها أحد أركان الإسلام. ومنعها من أسباب منع الرزق واحتباس القطر فمن كان عنده حق الله، فليتب إلى الله من منعه، وليدفعه إلى مستحقه، فإن مانعه مطوق به يوم القيامة طوقا من نار. واحرصوا على تعلم ثلاثة الأصول، فإن الذي ما يعرف دينه من جنس البهائم، قال تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [سورة الأعراف آية: 179] . وكذلك بخس المكاييل والموازين، فإنه ما بخس قوم المكيال والميزان، إلا ابتلوا بالسنين، وشدّة المؤونة، وجور السلطان. أعاذنا الله وإياكم من موجبات سخطه. إذا عرف ذلك فأنا ملزم كل إمام مسجد، يعلم جماعته دينهم، ويحرص عليهم، ولا يغترون بأحد عن الجزء: 14 ¦ الصفحة: 344 الحضور عند إمامه الذي يعلمه، فيرفع ذلك الإمام أمره إلينا؛ وأنتم، أي: النواب، ألزموا في كل مسجد إنسانا يتفقد جماعته، ومن تخلف عن صلاة الجماعة يؤدب، وينكل من توقف أو عارض الأمر بالمعروف والناهي عن المنكر. وعندكم معلوم أن الإمام أيده الله ملزمكم بهذا الأمر، وجاعله من ذمته في ذمتكم، وبعد ذلك في ذمتنا، فأنتم اقصدوا وجه الله، ولا تأخذكم في الله لومة لائم، ولا تنظروا وجه أحد؛ والله المسؤول أن يجعلنا وإياكم ممن امتثل أمر ربه وأطاعه، ولا يجعلنا وإياكم ممن عصى أمره وأضاعه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. [كيفية النصح لأهل البدو والوصية بهم وحكم طاعة الله ورسوله وولاة الأمر] وله أيضا، رحمه الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله بن عبد العزيز العنقري، إلى الأخ المكرم: حمد بن محمد بن موسى، سلمه الله، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. والموجب لذلك: السلام، والسؤال عن حالك ; وأنت يا أخي ما تخفاك طبائع البدو، ولا يؤاخذون ببعض الأمور التي هي من طبعهم سابقا، وتغلب عليهم، وأنت لا تدخر استجلابهم ومناصحتهم، خصوصا الأمير، لأنه ربما يغتر في شيء ما يبين له من جهة الشرع، فإذا بينت له ما لحقه شك. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 345 كذلك الذين ينازعونه، تأتيهم وتناصحهم، لأنه ربما أن لهم ملاحظة طلب شرف، ويعن لهم شبهة في أمر الدين، ويجمعون هذا مع هذا، فإذا كشفت عنهم الشبهة، ما بقي لهم حجة؛ فإذا استعملت الرفق في موضعه، والقوة في موضعها، استقامت الحال، مع توفيق الله، والإشارة تكفي مثلك إن شاء الله تعالى؛ والجماعة كتبنا لهم نصيحة تقرأها عليهم إن شاء الله، والسلام، وهذا نصها: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله بن عبد العزيز العنقري، إلى كافة إخواننا أهل مبايض، وفقهم الله تعالى وهداهم، وأعاذهم من شرور أنفسهم وهواهم، آمين، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. والموجب: إبلاغكم السلام، جعلنا الله وإياكم من أتباع سيد الأنام، وتفهمون ما في وجوب طاعة الله، ورسوله، وولاة الأمر، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [سورة النساء آية: 59] ، فأمر سبحانه بطاعته وطاعة رسوله، وطاعة من ولاه الله الأمر، من الحكام والأمراء. وأمر برد ما تنازعنا فيه، إلى الله ورسوله، يعني: إلى الكتاب والسنة، فتبين بذلك أن الذي لا يرد أمره إلى الجزء: 14 ¦ الصفحة: 346 الكتاب والسنة، ليس من المؤمنين، وقال صلى الله عليه وسلم في خطبته، "أيها الناس، اعبدوا ربكم، وصلوا خمسكم، وصوموا شهركم، وأطيعوا ذا أمركم، تدخلوا جنة ربكم" 1. وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من خرج عن الطاعة، وفارق الجماعة، فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه " 2، وإياكم والتفرق والاختلاف؛ فإن ذلك سبب لنَزْع بركة الدين والدنيا. واذكروا ما أنعم الله به عليكم من الإسلام والهجرة، الذي تألفت به القلوب بعد شتاتها، وكنتم قبل ذلك على حال غير مرضية، فتبين لكم من الكتاب والسنة ما اجتمعتم به على هذه الحال، فإياكم أن تغيروا فيغير عليكم. قال الله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [سورة الأنفال آية: 53] ، وحضر عندنا الأمير، والإخوان الذين معه، وبينا لهم عظم حقوق الإمارة، وأنه ينبغي التأدب معها. فأنتم اسمعوا له وأطيعوا، والسلام.   1 الترمذي: الجمعة 616 , وأحمد 5/262. 2 أبو داود: السنة 4758 , وأحمد 5/180. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 347 [الوصية بتقوى الله والتذكير بنعمة الإسلام والتحذير من بأس الله ومن مفارقة الجماعة] وقال الشيخ: عبد الله بن حمد الحجازي، رحمه الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين والحمد لله رب العالمين. إلى من تصل إليه هذه النصيحة، من إخواننا المسلمين، وفقهم الله للتمسك بالدين، الذي بعث الله به جميع المرسلين، آمين، سلام الله عليكم ورحمة الله وبركاته. أما بعد: فإن الله جل ثناؤه، وتقدست أسماؤه، يقول في كتابه المبين: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [سورة الذاريات آية: 55] ، فأخبر سبحانه: أن الذكرى والنصائح لا تنفع إلا أهل الإيمان، وأما من سواهم فهم: {فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَلاهِيَةً قُلُوبُهُمْ} [سورة الأنبياء آية: 1-3] ، نعوذ بالله من الشقاء وأسبابه. واعلموا رحمكم الله أن أعظم الوصايا وأنفعها: الوصية بتقوى الله، وهي وصية الله للأولين والآخرين، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [سورة النساء آية: 131] ، وحقيقتها: أن يعمل العبد بطاعة الله، على نور من الله، يرجو ثواب الله، وأن يترك معصية الله، على نور من الله، يخاف عقاب الله. ثم تذكيركم ما من الله به عليكم من نعمة الإسلام، الجزء: 14 ¦ الصفحة: 348 والقرآن، فإنهما النعمتان العظيمتان، والفرح بهما محمود، وأمر مطلوب، كما قال تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [سورة يونس آية: 58] ، قال بعض المفسرين: فضل الله: الإسلام، ورحمته: أن جعلكم من أهله، وقال غيره: فضل الله: الإسلام، ورحمته: القرآن، والكل حق؛ فمن لم يشكر الله على هاتين النعمتين العظيمتين خسر دنياه وأخراه، نعوذ بالله من ذلك. ثم بعد ذلك تذكيركم ما أعطاكم الله بالإسلام من النعم التي لا تحصى، وما دفع به عنكم من النقم التي لا تستقصى، كما قال تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [سورة إبراهيم آية: 34] ، ثم تذكيركم ما من الله به عليكم من هذا الغيث، الذي جعله الله سببا لحياة الأبدان، ولحياة جميع النبات والحيوان، كما جعل الله العلم النازل من عنده سببا لحياة القلوب بعد مماتها، ولاجتماعها بعد شقائها. فاشكروا الله بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، فإن الشكر قول وعمل، كما قال تعالى: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْراً} [سورة سبأ آية: 13] ، وهو أيضا سبب لزيادة النعم وثبوتها، كما قال تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [سورة إبراهيم آية: 7] . واحذروا بأس الله الذي لا يرد عن القوم المجرمين، كما قال تعالى: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} [سورة آل عمران آية: 30] . الجزء: 14 ¦ الصفحة: 349 واعلموا: أن كل شر في الدنيا والآخرة، فسببه الذنوب والمعاصي، كما قال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [سورة الشورى آية: 30] . وقال تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [سورة الروم آية: 41] . وأنتم ترون كيف تحدث الآفات والعلل في الزروع والثمار والأنفس، آفات متلازمة، أخذ بعضها برقاب بعض، كل هذا بسبب الذنوب والمعاصي. وأعظم من هذا: ما يصيب القلوب من الغفلة، والإعراض عن طاعته، والقسوة التي عمت القلوب بسبب كثرة الذنوب؛ فهي لا ترعوي وإن أصابها ما أصابها، كما قال تعالى: {فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [سورة الأنعام آية: 43] . وفي الحديث: إن أبعد القلوب من الله القلب القاسي 1. واعلموا رحمكم الله أن المعاصي أنواع كثيرة، فبعضها أكبر إثما من بعض، كما قال تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [سورة النساء آية: 31] ، فأكبرها وأعظمها: الشرك بالله في العبادة، أو في شيء من أنواعها، قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [سورة النساء آية: 48] . وهذا الذنب القبيح له وسائل وذرائع توصل إليه، وأعظمها: موالاة أعداء الله، على اختلاف أنواعها، وكثرة   1 الترمذي: الزهد 2411. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 350 شعبها، وقد يواليهم من يقرأ القرآن، وقد قال تعالى: {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} الآية [سورة هود آية: 113] . ولكن حب الدنيا والهوى، يعمي القلب ويصم، كما في الحديث: "حبك الشيء يعمي ويصم" 1. ومن هؤلاء من يدعو لأهل الإشراك بالظهور، والغلبة على المسلمين، وأي موالاة أعظم من ذلك؟ وقال تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [سورة المائدة آية: 51] ، فالله الله: انتبهوا من هذه البلية العظيمة التي صيرت أهل الإسلام وأهل الضلال عند كثير من الجهال جماعة واحدة، إلا من عصم الله برحمته. ومنه: الاستخفاف بالصلوات الخمس في الجماعات، وترك تأديب المتخلف عنها، وكذلك ترك الإنسان أهله وولده، إذا علم منهم التهاون بها، لا يأمرهم بالمسارعة إليها، وقد قال تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [سورة طه آية: 132] . وفي الحديث: "مروا أبناءكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع" 2، ومن ترك الصلاة فقد كفر، ولو أقر بوجوبها، وحكمه حكم من أشرك بالله في العبادة. ومنها: التهاون بأمر الزكاة، والزكاة قرينة الصلاة، فلا تقبل الصلاة إلا بها، كما في الحديث: "من صلى فلم يزك، فلا صلاة له".   1 سنن أبي داود: كتاب الأدب 5130 , ومسند أحمد 5/194. 2 أبو داود: الصلاة 495 , وأحمد 2/180 ,2/187. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 351 وقد يخرجها من لا يعتقد وجوبها، فلا تقبل منه، وقد يخرجها من رديء ماله فيجعل لربه الأردى، ويجعل لنفسه وأولاده الأجود؛ نعوذ بالله من أسباب الخذلان، وكذلك التهاون بأمر الصيام والحج. ومنها: ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد في سبيل الله، والنفقة فيه من غير نية صحيحة، ولا احتساب للأجر في الآخرة، قال الله تعالى: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} [سورة الحج آية: 78] . وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، فهو في سبيل الله" 1. وقال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [سورة آل عمران آية: 110] . وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عذابا من عنده، ثم تدعونه فلا يستجيب لكم. والآيات والأحاديث في ذلك كثيرة جدا. ومن المعاصي أيضا: عقوق الوالدين، وقطيعة الأرحام، قال الله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاّ تَعْبُدُوا إِلاّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} [سورة الإسراء آية: 23] . وفي الحديث: "رضاء الرب في رضاء الوالدين، وسخطه في سخط الوالدين" 2. وقال تعالى في قطيعة الأرحام: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ أُولَئِكَ الَّذِينَ   1 البخاري: العلم 123 , ومسلم: الإمارة 1904 , والترمذي: فضائل الجهاد 1646 , والنسائي: الجهاد 3136 , وابن ماجه: الجهاد 2783 , وأحمد 4/392 ,4/397 ,4/401 ,4/405 ,4/417. 2 الترمذي: البر والصلة 1899. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 352 لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} [سورة محمد آية: 22-23] . وفي الحديث: لا تنْزل الرحمة على قوم فيهم قاطع يعني: إذا علموا به، فلم ينكروا عليه، ولم يفارقوة. ومن القطيعة: أن لا يصل الرجل رحمه إلا إذا وصلته، وفي الحديث: ليس الواصل بالمكافئ، ولكن الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها 1. ومنها: الشحناء وظلم العباد، والسعي في الأرض بالفساد، ونقض العهود، وتعطيل الحدود، وبخس المكاييل والموازين، وأكل مال اليتامى والمستضعفين. وفي الحديث: تفتح أبواب الجنة في كل اثنين وخميس، فيغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئا، إلا من كانت بينه وبين أخيه شحناء، فيقال: انظروا هذين حتى يصطلحا 2، فإن كانت بينه وبين رحمه فأكبر وأعظم. ومنها: ظهور الفواحش، والمنكرات. في الحديث: ما ظهرت الفاحشة في قوم حتى أعلنوا بها، إلا ابتلوا بالطواعين والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا ومفاسد الزنى عظيمة، وعقوباته أليمة. ومن الفواحش أيضا: قبيح الكلام: كالسب، والشتم، بالزنا، ونحوه، والكذب والغيبة والنميمة، وقول الزور، وشهادة الزور. ومنها: ظهور المعاملات الربوية; وفي الحديث:   1 البخاري: الأدب 5991 , والترمذي: البر والصلة 1908 , وأبو داود: الزكاة 1697 , وأحمد 2/163 ,2/190. 2 مسلم: البر والصلة والآداب 2565 , والترمذي: البر والصلة 2023 , وأبو داود: الأدب 4916 , وأحمد 2/268 ,2/389 ,2/400 ,2/465 , ومالك: الجامع 1686 ,1687. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 353 لعن الله آكل الربا وموكله، وكاتبه وشاهديه 1 إذا علما ذلك; ومنه: قلب الدين على المدين، وهو: أن يأخذ المدين دراهم أو زادا من الذي له الدين، ثم يرده عليه؛ وقد يتواطآن على ذلك، وهو أعظم؛ وأما تسمية هذا العقد الفاسد بالتصحيح، فهو عين الفساد، ويشبه حيلة أهل السبت، عياذا بالله من ذلك. ومن المعاصي أيضا: أن يوقف الرجل وقفا، أو يوصي بوصية، ويقصد بذلك حرمان بعض ورثته، أو تنقيص ميراثه عليه ; وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم إن الرجل ليعمل بطاعة الله، ستين سنة، أو سبعين سنة، فيحضره الموت، فيجور في وصيته، فيدخل النار 2 وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: من فر بميراثه عن وارثه، قطع الله ميراثه من الجنة 3. فالله الله عباد الله، واحذروا المعاصي كلها، فإن ارتكابها سبب لزوال النعم، ولحلول المصائب والنقم، وعليكم بالاجتهاد في طاعة الله تعالى، فإن الطاعة سبب لحصول البركات، وتفريج الكربات، ورفعة الدرجات؛ فما استجلبت نعمة، ولا استدفعت نقمة بمثل طاعة الله عز وجل. قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا} [سورة الأعراف آية: 96] . وقال تعالى: {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} [سورة الجن آية: 16-17] ،: {غَدَقاً} أي: كثيرا.   1 البخاري: البيوع 2238 , وأحمد 4/308. 2 الترمذي: الوصايا 2117 , وأبو داود: الوصايا 2867 , وابن ماجه: الوصايا 2704 , وأحمد 2/278. 3 ابن ماجه: الوصايا 2703. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 354 فالله الله عباد الله! عليكم بطاعة الله، ولزوم ذكره، والإكثار من حمده وشكره، والتوبة النصوح، والاستغفار من الذنوب السالفة، مع ندم القلب ووجله والخوف من عقوبته; فإنه سبحانه يحب التوابين والمستغفرين، ويحب دعوة السائلين، ويزيد الشاكرين، ويفرج كرب المكروبين. وفي الحديث: من لازم الاستغفار، جعل الله له من كل هم فرجا، ومن كل ضيق مخرجا، ورزق من حيث لا يحتسب 1. وقد كانت التوبة شعار الأنبياء والمرسلين، وعباد الله الصالحين، مع صلاحهم ومعرفتهم بربهم، رزقنا الله الاقتداء بهم وسلوك سبيلهم، إنه جواد كريم، غفور رحيم، وصلى الله على محمد، وعلى آله وصحبه، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا. [رسالة الشيخ سعد بن حمد بن عتيق إلى بعض المشائخ يحثهم على مناصحة الأمير] وقال الشيخ سعد بن حمد بن عتيق، رحمه الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم من سعد بن عتيق، إلى الإخوان المكرمين، الشيخ: عبد الله بن عبد اللطيف، وإبراهيم بن عبد الملك، وصالح بن محمد الشثري، وزيد بن محمد آل عمر آل سليم، جعلهم الله من المتبعين للسنة والقرآن، المجاهدين في الله باليد والقلب واللسان، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فأحمد إليكم الله الذي لا إله غيره، ولا رب سواه، وأسألة أن يصلي على عبده ورسوله محمد، الذي   1 أبو داود: الصلاة 1518 , وابن ماجه: الأدب 3819. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 355 اختاره واصطفاه، وجعل الهدى والسعادة في اتباع ما جاء به والأخذ بهداه، وحكم بالضلال والشقاوة، على من خالف هديه واتبع هواه. وقد عرفتم ما حصل في هذه الأزمنة من غربة الدين، وترادف الشرور وكثرة المفتونين، الذين اجتالتهم الشياطين عن دينهم، حتى إن العاقل يخاف من اجتثاث أصل الإسلام، واستئصاله بالكلية، حتى لا يبقى منه شيء. وسبب ذلك هو الإعراض عما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من السنة، والخروج عن حكم الكتاب الذي أنزله الله هدى ورحمة، وجعله مخرجا للناس من الظلمة، وتوعد بالعذاب من صدف عنه وخالف حكمه. وفي الحديث، عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ستكون فتن، قلت: ما المخرج منها يا رسول الله؟ قال: كتاب الله، فيه نبأ ما قبكلم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى من غيره أضله الله ... الحديث. وأعظم أنواع الإعراض أو أكبر أسباب الفتنة في الأرض والفساد الكبير: ما صدر من بعض الخلوف، من موالاة المشركين واتخاذ الولايج من دون الله ورسوله والمؤمنين، فإنهم صاروا فتنة للمفتونين، ومحنة على المؤمنين. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 356 ولأجل ذلك صار الناس بين مأجور، ومعذور، وآخر قد غره بالله الغرور. فمن الناس من عرف الحق وترك بيانه، وأطاع في معصية ربه نفسه وشيطانه، وكتم ما أنزل الله من البينات والهدى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [سورة البقرة آية: 140] . ومنهم: مَن اعتقد الباطل حقا، والخطأ صوابا، واستحسن موالاة أهل الكفر والارتياب، وعمي عما تضمنته نصوص الكتاب،: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [سورة فصلت آية: 41-42] . وقد حرم الله موالاة الكافرين، في غير موضع من كتابة، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [سورة المائدة آية: 51] . وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} [سورة الممتحنة آية: 1] . وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [سورة المائدة آية: 57] . وقال تعالى:: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 357 وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الأِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [سورة التوبة آية: 23] . وقد نفى الله الإيمان عمن تولاهم، وأخبر أنه من الفاسقين والظالمين، وتوعده بمسيس النار، فقال تعالى: {تَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [سورة المائدة آية: 80-81] . وقال تعالى: {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ} [سورة هود آية: 113] . وأعظم من هذا قوله: {إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [سورة محمد آية: 25-28] . وهذه الآيات وأشباهها: تدل على التغليظ، والتشديد في موالاة من كفر بالله، وقد ذكر بعض العلماء: أن هذه الآيات، تتناول من ترك جهادهم، وسكت عن عيبهم، وألقى إليهم السلم، فإن انضم إلى ذلك: إظهار الثناء عليهم، ونشر فضائلهم، والدخول في طاعتهم، وإعانتهم الجزء: 14 ¦ الصفحة: 358 على أهل الإسلام، وحماية حماهم، فالأمر أشد وأعظم. ولا يخفى على عارف أن هذه الأمور من أكبر أسباب هدم الإسلام والإيمان، وأعظم الذرائع إلى هجر السنة والقرآن، وظهور الشرك والكفر بالملك الديان، وتعطيل أسمائه وصفاته، وإلقاء حججه وبيناته. وقد قصر كثير من الناس، في بيان ما أوجب الله عليهم بيانه، وتركوا الانتصار لله، والدعوة إلى سبيله، والنصيحة لله، ولكتابه ولرسوله. ومن أعظم الواجبات: مناصحة ولي أمر المسلمين ودعوته إلى ما فيه صلاحه وفلاحه، من القيام بأمر الله، والدعوة إلى توحيده وطاعته، وإحياء شعائر الإسلام، التي قد عطلت على كثير من الرعايا. ومن أعظم الواجبات أيضا: بيان ما أوجبه الله من جهاد المشركين، ومعاداة الكافرين، والحرص على مراغمتهم، وإدخال الحزن عليهم، وإيصال المكروه إليهم، أخذا بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً} [سورة التوبة آية: 123] . وقوله تعالى: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} [سورة المائدة آية: 54] . فإن حصل منه ذلك، فهو ذروة السنام، وبه الصلاح في الدين والدنيا، لا كما زعم كثير من الجهال والطغام، فإن لم يحصل منه، رضينا منه بالمقاطعة، وترك الهدايا، وعدم الجزء: 14 ¦ الصفحة: 359 الموالاة، فإن كان ولا بد قنعنا من الأمير بتركهم ومن أرادهم بسوء من أهل الإسلام; ثم انظروا هل وراء ذلك حبة من خردل من إيمان. وهذا كتاب الله وسنة رسوله وسيرة خلفائه الراشدين، فيها الهدى والنور، وقد كتبنا للأمير شيئا مما ذكرنا، في بعض الخطوط، إجمالا وتفصيلا، ولما اجتمعنا نحن وهو في سنة ست وثلاثمائة وألف، أكثرنا عليه في ذلك، وذكرنا له شيئا من الأدلة: {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ} [سورة الأنفال آية: 42] . وقد رأى كثير من الناس: السكوت عن الحق، والإعراض عن بيان ما بينه الله في كتابه، رأيا متينا، وظنوا حصول السلامة لهم مع ذلك، كأنهم لم يسمعوا قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاّعِنُونَ} [سورة البقرة آية: 159] . وقد قيل: وقد أخذ الرحمن جل جلاله ... على من حوى علم الرسول وعلما بنصح جميع الخلق فيما ينوبهم ... ولا سيما فيما أحل وحرما فناصح بني الدنيا في ترك ابتداعهم ... فقد صيروا نور الشريعة مظلما ينبغي لكم مناصحة الأمير سلمه الله، وبذل الجهد في دعوته إلى أسباب الفوز والسعادة مما ذكرنا، فإنه ربما اغتر بسكوت من يحسن بهم الظن من أهل العلم والدين. وقد عرفتم أنه لا صلاح للدين، ولا استقامة له، إلا الجزء: 14 ¦ الصفحة: 360 بذلك، وأرجو أن ذلك قد صدر له منكم، وتكرر؛ فإن الظن بكم جميل، فقد من الله عليكم، ووهبكم من العلم به، وأسمائه وصفاته، والبصيرة في حججه وآياته، ما برزتم به على من سواكم. والأمر على أهل العمل والإيمان، أعظم منه على غيرهم، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [سورة المائدة آية: 67] . وقال: {فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً} [سورة الفرقان آية: 52] . وقد علمتم ما كان عليه مشايخكم وقراؤكم الذين مضوا، رحمهم الله، من السيرة المرضية، والحمية الدينية، وبذل الوسع في نصرة الملة الحنيفية، والنصيحة لله ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم، بإقامة الحجج والبراهين، وبيان ما وجب من معاداة الكافرين، والنهي عن موالاة المشركين؛ وقد ابتلاكم الله تعالى بأن جعلكم خلائف في الأرض من بعدهم لينظر كيف تعملون، وسوف يسألكم عما تعملون. وقد اشتد البلاء بعد أولئك الأفاضل، وتواترت الفتن، وعظمت الخطوب والمحن، وهجر كثير من السنن، وغلب الجهل والهوى، وكثر الخوض والمراء، وحطت ألوية الهدى، وحكمت الطواغيت، وضيعت الحدود، وهدمت الأركان، وعزل كثير من أحكام السنة والقرآن، ووضعت الجزء: 14 ¦ الصفحة: 361 القوانين، واستحكمت غربة الدين، وانتشرت مسبة المؤمنين. وعظمت الفتنة بعباد الأوثان، والأصنام، وظهرت موالاتهم من كثير من أهل الإسلام، وصار المعروف منكرا والمنكر معروفا، والبدعة سنة، والسنة بدعة، ونزل بربوع الإسلام، وحل بمعاقل الإيمان، ما حل نظام الإسلام، وشتت شمل الإيمان. فاتقوا الله عباد الله: {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} [سورة البقرة آية: 281] ،: {وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [سورة الحديد آية: 16] . وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم حرر في شهر الصوم سنة ست وثلاثمائة وألف. [رسالة الشيخ عبد الرحمن بن عبد الله بن سالم إلى أهل مبايض يخبرهم بما بلغه عنهم من التفرق] وقال الشيخ: عبد الرحمن بن سالم، رحمه الله: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الرحمن بن عبد الله بن سالم، إلى الإخوان الكرام، أهل مبايض، وفقهم الله لقبول النصائح والمواعظ، وأعانهم على تكميل السنن بعد أداء الفرائض، وأعاذنا وإياهم من التدابر والتباغض، آمين، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد ذلك بلغنا عنكم ما يستنكر ممن هو مثلكم، من الجزء: 14 ¦ الصفحة: 362 التفرق، والتنافس في أمور لا مصلحة لكم فيها، بل مضرتها عظيمة في الدين، بل الذي يجب عليكم، المحبة والمناصحة فيما بينكم. وقال صلى الله عليه وسلم: إن الله يرضى لكم ثلاثا: أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم 1 رواه مسلم. وفي مسند الإمام أحمد، عن أبي برزة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إن أخوف ما أخاف عليكم، شهوات الغي في بطونكم وفروجكم، والفتن المضلة 2. وقال صلى الله عليه وسلم لأصحابه: ألا أدلكم على ما هو أفضل من درجة الصلاة والصيام؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال إصلاح ذات البين، فإن فساد ذات البين هي الحالقة، لا أقول تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين 3. والواجب عليكم إذا نابكم أمر: الاجتماع، والمشاورة وتقديم الأخيار، لأن الله تعالى أمر نبيه بمشاورة أصحابه، تطييبا لقلوبهم، وهو أفضل الخلق صلى الله عليه وسلم. قال أبو هريرة رضي الله عنه: ما رأيت أكثر من مشاورة النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه، وقال قيس بن عاصم لبنيه عند موته: عليكم بالاجتماع، وإياكم والتفرق، فإن القوم إذا اجتمعوا صلحواوملكوا، وإذا تفرقوا فسدوا وهلكوا. وعليكم- رحمكم الله- بما يجمع القلوب على   1 مسلم: الأقضية 1715 , وأحمد 2/367 , ومالك: الجامع 1863. 2 أحمد 4/420. 3 الترمذي: صفة القيامة والرقائق والورع 2509 , وأبو داود: الأدب 4919 , وأحمد 6/444. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 363 طاعة الله، ويوجب لها خشية الله، والانكسار بين يديه، قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: لأن أجمع إخواني على صاع من طعام، أحب إلي من غزوة في سبيل الله والمعنى- والله أعلم- أنه قصد بهذا استطابة قلوبهم، لأن تحاب الإخوان بينهم من موجبات دخول الجنة، وتباغضهم بينهم من موجبات دخول النار. وأنتم- وفقكم الله- ما اجتمعتم في هذا المكان، إلا تطلبون رضى الله، وتهربون مما يسخطه، ولكن الشيطان إذا عجز عن إيقاع الناس في الشرك، رضي عنهم بالوقوع في الكبائر، قال النبي صلى الله عليه وسلم: إن الشيطان لما أيس أن يعبد في جزيرة العرب، سعى بينهم بالتحريش. والواجب عليكم: أن كل إنسان يعفو عن حقه، ويبيح أخاه كما جرى للصحابة، رضي الله عنهم، لما حصل بينهم ما حصل، ثم أتاهم النبي صلى الله عليه وسلم ووعظهم عانق بعضهم بعضا، وبكوا; وذلك لعلمهم: أن من ترك شيئا لله، عوضه الله خيرا منه. نرجو الله أن يتم لنا ولكم ما قصدتم من الهجرة، ولا يجعل حظنا منها التسمي بالألسن، إنه جواد كريم، ولعباده رؤوف رحيم، والسلام آخره، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه أجمعين. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 364 [التذكير بأهمية الإسلام في المعاش والمعاد وما وقع من التفريط والتهاون بهذه النعمة] وقال الإمام: عبد العزيز بن عبد الرحمن آل فيصل رحمة الله. بسم الله الرحمن الرحيم من عبد العزيز بن عبد الرحمن بن فيصل، وعبد العزيز بن عبد الرحمن، إلى من بلغه هذا الكتاب من المسلمين، وفقنا الله تعالى وإياهم لمعرفة دينه، والقيام بحقه والثبات عليه، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد، فقد قال الله تعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [سورة الذاريات آية: 55] . وقال: {سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى} [سورة الأعلى آية: 10] ، وقد عرفتم ما من الله به، من عرفة دين الإسلام، والانتساب إليه، وهو الدين الذي بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه، وخلق الخلق لأجله. ولا صلاح للعباد في معاشهم ومعادهم إلا بمعرفة هذا الدين ومحبته، وقبوله والعمل به، وبذل الجهد في ذلك علما وعملا، والدعوة إليه والرغبة فيه، وأن يكون هم الإنسان وسعيه في تحصيل ذلك، ليحصل له النعيم المقيم الأبدي، والسرور السرمدي، وينجو من طريقة أهل الغفلة والإعراض، أعاذنا الله وإياكم من اتباع سبيلهم. قال تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 365 الْغَافِلُونَ} [سورة الأعراف آية: 179] . صلى الله عليه وسلموقد وقع منا التفريط والتهاون بهذه النعمة، وعدم الرغبة فيها، والاشتغال بما شغل عنها، بما هو وبال على العبد في دنياه وآخرته. والواجب علينا وعليكم معاشر المسلمين، أن نقوم على من قدرنا على القيام عليه ببذل الجهد، والنصيحة للمسلمين، بتذكيرهم ما أنعم الله عليهم به من الدين، والقيام على من ترك حقوق الإسلام وضيعها، ولم يبال بحق الله من الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر؛ فإنه لا صلاح للعباد في معاشهم ومعادهم إلا بالقيام بذلك. وقد وقع الخلل العظيم بسبب الغفلة عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقل اتعاظ العباد بمواعظ الله، وانزجارهم عندما يرونه ويشاهدونه من آيات الله ومواعظه، كما قال تعالى: {أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ} [سورة التوبة آية: 126] . وقال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} [سورة الأنعام آية: 42-44] . الجزء: 14 ¦ الصفحة: 366 وأعظم الخلل وقع ممن ينتسب إلى الإسلام، في أعظم الأركان بعد الشهادتين، وهي الصلاة، وكثرة الاستخفاف بها، وهي عمود الإسلام، التي إذا سقط عمود الفسطاط، لم تنفع بعده الأطناب، كما في الحديث. العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر 1 وفي الحديث أيضا: لا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة 2. قال الإمام أحمد: فكل تارك للصلاة، ولم يبال بالقيام بواجبها جماعة في المساجد، إذا لم يكن عنده عذر شرعي، فهو مستخف بالإسلام، مستهين به، وإنما حظهم من الإسلام بقدر حظهم من الصلاة، ورغبتهم في الإسلام بقدر رغبتهم في الصلاة، فليحذر العبد أن يلقى الله ولا قدر للإسلام عنده. وكان عمر بن الخطاب، رضي الله عنه يكتب إلى الآفاق: إن من أهم أموركم الصلاة، فمن حفظها حفظ دينه، ومن ضيعها، فهو لما سواها أضيع وفي الحديث: أول ما يسأل عنه العبد يوم القيامة من عمله صلاته فإن تقبلت صلاته، تقبل منه سائر عمله، وإن ردت عليه صلاته، رد عليه سائر عمله 3. فصلاتنا آخر ديننا، وهي أول ما نسأل عنه غدا من أعمالنا يوم القيامة، فليس بعد ذهاب الصلاة إسلام ولا دين، إذا صارت الصلاة آخر ما يذهب.   1 الترمذي: الإيمان 2621 , والنسائي: الصلاة 463 , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها 1079 , وأحمد 5/346. 2 مالك: الطهارة 84. 3 النسائي: الصلاة 466 , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها 1425 ,1426 , وأحمد 2/425. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 367 وقد لعب الشيطان: بأكثر الناس، حتى تركوا الواجب في الصلاة، والتكاسل عن حضور الجماعة في المساجد، ويصلي في بيته، ويتأخر عن حضور الصلاة مع الجماعة، وقد قال صلى الله عليه وسلم: لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد. وقال صلى الله عليه وسلم: لقد هممت أن آمر من يصلي بالناس، فأعمد إلى أناس يتركون الصلاة في المساجد، فأحرق عليهم بيوتهم 1 وفي بعض الأحاديث: لولا ما في البيوت من النساء والذرية، لأحرقتها عليهم 2. وقد عينا نوابا في تفقد الناس عند الصلاة، ومعرفة أهل الكسل الذين اعتادوه وعرفوا من بين المسلمين بذلك، فيقومون على من قدروا عليه بالحبس والضرب؛ ومن هابوه ولم يقدروا عليه، فليرفع أمره لنا، وتبرأ ذمتهم بذلك، ولا يكون لأحد حجة يحتج بها علينا. كذلك إنا ملزمون أهل كل بلد بالقيام بذلك، ومن لم يقم به من أمير وغيره، بان لنا أمره، واتضح لنا غيه. وكذلك الربا الذي فشا في الناس فيما بينهم، وتلاعب الشيطان بهم حتى إنهم يخفونه، إنا ملزمون القضاة في كل بلد، البحث عن معاملات الناس وعقودهم، وما يجري بينهم من عقود الدين، وبيع السلم قبل قبضه. كل هذه الأمور الربوية، التي يتعامل بها الناس، من حققها ورفع لنا خبرها برئت ذمته، ومع ما ينضم مع ذلك من   1 البخاري: الخصومات 2420 , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة 651 , والترمذي: الصلاة 217 , والنسائي: الإمامة 848 , وأبو داود: الصلاة 548 ,549 , وابن ماجه: المساجد والجماعات 791 , وأحمد 2/314 ,2/376 ,2/416 ,2/479 ,2/525 , ومالك: النداء للصلاة 292 , والدارمي: الصلاة 1212 ,1274. 2 البخاري: الأحكام 7224 , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة 651 , والترمذي: الصلاة 217 , والنسائي: الإمامة 848 , وأبو داود: الصلاة 548 ,549 , وابن ماجه: المساجد والجماعات 791 , وأحمد 2/367 , ومالك: النداء للصلاة 292 , والدارمي: الصلاة 1274. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 368 انواع المنكرات، التي يجب إنكارها، إنا ملزمون أهل الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر بها؛ ولا يخشى العبد إلا ربه فاحذروا غضب الله ومقته. والسلام عليكم، ورحمة الله وبركاته. [ما يجب على من نصح نفسه وأراد نجاتها والحث على الأمر بالمعروف] وله أيضا، رحمه الله: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد العزيز بن عبد الرحمن آل فيصل، إلى من يراه من إخواننا المسلمين وفقنا الله وإياهم لفعل الخيرات، وترك المنكرات، والإقلاع من الذنوب والسيئات، آمين سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أما بعد: فالموجب لهذا هو النصيحة لكم، والشفقة عليكم، لأن ذلك من التعاون على البر والتقوى، والتقوى: هي وصية الله للأولين والآخرين، قال تعالى: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [سورة النساء آية: 131] . والتقوى كلمة جامعة لكل خير; لأن الخير بحذافيره: فعل ما أمر الله به، وترك ما نهى عنه; وما أمرنا الله به وحضنا عليه، اتباع كتابه، وسنة رسوله، قال تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} [سورة الأعراف آية: 3] . وقال تعالى: {وَمَا الجزء: 14 ¦ الصفحة: 369 آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [سورة الحشر آية: 7] . فالواجب على كل من نصح نفسه وأراد نجاتها، أن يتقي الله في سره وعلانيته، وأن يحاسب نفسه، هل قام بما أوجبه الله عليه، وامتثل ما أمره الله به ورسوله، ووقف عند حدوده فلم يتجاوزها؟ أم هو منقاد مع شهواته وهواه؟ قد أعطى نفسه هواها، ولم ينهها عن ارتكاب المحرمات. فلو علم: أنه موقوف ومسؤول عن جميع أعماله وأقواله وأحواله، لخلا بنفسه وحاسبها، واتقى الله سبحانه وبحمده، فيا خسارة من حاله حال البطالين والغافلين المعرضين! إذا علم هذا، فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله، من أعظم الواجبات، وأهم المهمات، قال تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [سورة آل عمران آية: 104] ، والأمة: الجماعة، وهذا أمر لازم لكل أحد بحسب قدرته، فإذا قام به بعض المعنيين، سقط عن الباقين، فإذا تركوه أثموا وعوقبوا. فكونوا من تركه على حذر عظيم; قال صلى الله عليه وسلم: لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يد السفيه ولتأطرنه على الحق أطرا، أو ليوشكن الله أن يعمكم بعذاب الجزء: 14 ¦ الصفحة: 370 من عنده، ثم تدعونه فلا يستجيب لكم 1 والأحاديث في ذلك كثيرة. فلا صلاح للخاصة والعامة، في جميع القرى، إلا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن تكون طائفة حق، أهل بصيرة وعلم، يدعون إلى الله، ويأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر. لأن ذلك سبب صلاحهم وفلاحهم، في معاشهم ومعادهم؛ وبتركه والتغافل عنه، يكثر الشر والفساد. وأيضا فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، صفات المؤمنين، وبقوته يقوى الإيمان، وبضعفه يضعف الإيمان; قال تعالى: {الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [سورة التوبة آية: 71] . ذكر تعالى في هذه الآية أن الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، سبب لرحمة الله، فإذا رحم الله العباد أعطاهم ما يحبون، ودفع عنهم ما يكرهون، قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً وَإِذاً لآّتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماًوَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً} [سورة النساء آية: 66-67] . وقد رأيتم ما حصل عليكم من منع القطر، وغور المياه، والقحط، وشدة المؤونة، وأنواع البلايا والامتحانات،   1 الترمذي: تفسير القرآن 3047 , وأبو داود: الملاحم 4336 , وابن ماجه: الفتن 4006. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 371 وذلك سببه مخالفة أمر الله، وارتكاب نهيه؛ فإن الذنوب والمعاصي من أعظم الموجبات لحلول العقوبات والنقمات. فارغبوا عباد الله إلى الله، بالدعاء والاستغفار،: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [سورة النور آية: 31] ، وعظموا أمر ربكم ونهيه، وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم 1. فاستدفعوا عنكم العقوبات بالتوبة النصوح; وفي الحديث: ما نزل بلاء إلا بذنب، ولا رفع إلا بتوبة. ولا شك: أن ما منع القطر من السماء، إلا بذنوب المسلمين، ولله في ذلك حكمة، وما يعفو الله عنه أكثر، وما رفع عنكم من العقوبات أعظم، فأمروا بالمعروف، وانهوا عن المنكر، وتناصحوا فيما بينكم، وتحببوا إلى ربكم بالإنابة والإقبال عليه، وارغبوا إليه بطاعته، واجتناب معصيته، لعل الله أن يتوب علينا وعليكم، ويدخلنا وإياكم في رحمة منه وفضل، ويهدينا صراطه المستقيم. ومما يدفع الله به البلاء: الصدقة على الفقراء والمساكين، والإحسان إلى الضعفاء والأيتام، قال تعالى: {وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} [سورة الحديد آية: 7] . وقال تعالى: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سورة سبأ آية: 39] . وقال تعالى: {وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [سورة المزمل آية: 20] .   1 البخاري: الاعتصام بالكتاب والسنة 7288 , ومسلم: الحج 1337 , والنسائي: مناسك الحج 2619 , وابن ماجه: المقدمة 2 , وأحمد 2/247 ,2/258 ,2/313 ,2/355 ,2/428 ,2/456 ,2/467 ,2/482. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 372 وقال عليه الصلاة والسلام: باكروا بالصدقة، فإن البلاء لا يتخطاها والأموال عوار، ولا ينفع العبد إلا ما قدمه لله، رغبة في رضاه، فيا سعادة من هانت عليه الصدقة فبذلها، يرجو بذلك رحمة الله. : {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [سورة الأعراف آية: 23] ،: {لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [سورة الأعراف آية: 149] . الله الله عباد الله، في المبادرة إلى ما ينجيكم الله به من عقابه وعذابه; فنسأل الله بأسمائه وصفاته، وبتوحيده الذي جحده المشركون، أن يأخذ بنواصينا ونواصيكم، ويتوب علينا وعليكم، إنه كريم جواد، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. [التذكير بنعمة الله على أهل نجد على يد الشيخ محمد وذريته من بعده ومن أيدهم من الولاة] وقال المشايخ رحمهم الله: بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين. الحمد لله الذي بنعمته اهتدى المهتدون، وبعدله ضل الضالون، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وسبحان الله رب العرش عما يصفون، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وخليله الصادق المأمون، صلى الله على محمد، وعلى آله وأصحابه الذين هم بدينه قائمون، وعلى سنته يحافظون. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 373 من حسن بن حسين، وسعد بن حمد بن عتيق، وسليمان بن سحمان، وصالح بن عبد العزيز، وعبد الرحمن بن عبد اللطيف، وعمر بن عبد اللطيف، وعبد الله بن حسن، ومحمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف، وكافة آل الشيخ: إلى كافة إخواننا من علماء نجد، وإخوانهم المنتسبين، سلمهم الله تعالى وهداهم، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد، تفهمون ما من الله به على أهل نجد في آخر هذا الزمان، مما بين الله على يد الشيخ: محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله، من معرفة ما بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم من دين الإسلام، والعمل به، وإقامة الأدلة على ذلك، والرد على أهل البدع والضلالات، ممن خرج عن دين الإسلام، واستبدل به سواه من الأعمال الردية، والاعتقادات الباطلة الوبية. ثم ذريته من بعده، سلكوا على منواله، وأيدهم الله تعالى بولاة الأمر من آل سعود، رحم الله أمواتهم، وأعز بإقامة دينه أحياءهم، قاموا بهذا الدين أتم القيام، حتى دخل الناس في دين الله أفواجا، ومحا الله بهم آثار الشرك والبدع والضلالات من نجد، ولله الحمد والمنة، وطريقتهم مشهورة معروفة، كالشمس في رابعة النهار، واستقام الأمر على هذا في أصول الدين وفروعه. وآخر من قام بهذا الأمر، شيخنا الشيخ: عبد الله بن عبد اللطيف، رفع الله درجاته في المهديين، وخلفه في عقبه الجزء: 14 ¦ الصفحة: 374 وإخوانه في الغابرين، فإنه قام بهذا الأمر أتم القيام، وبذل جهده في النصيحة لله ولرسوله، ولعباده المؤمنين، ووسائله في ذلك مثبوتة منشورة. ومن المتعين علينا، وعليكم لزوم الاقتداء بهم والسلوك على منهاجهم، والاجتهاد في الدعوة إلى ذلك، وبذل النصيحة للمسلمين. وقد عرفتم ما حدث من كثير من الناس، من أهل الجهل، وما انتحلوه في الدين، وخرجوا بسببه عن سبيل أهل الطريقة المثلى من أهل العلم واليقين، وعدموا البصيرة في دين الله، بعدم اقتباس العلم والهدى من مظانه. ولا ينبغي لأحد من الناس العدول عن طريقتهم، رحمة الله عليهم، ومخالفة ما استمروا عليه في أصول الدين، فإنه الصراط المستقيم، الذي من حاد عنه فقد سلك طريق أصحاب الجحيم. وكذلك في مسائل الأحكام والفتوى، لا ينبغي العدول عما استقاموا عليه، واستمرت عليه الفتوى منهم، فمن خالف في شيء من ذلك، واتخذ سبيلا يخالف ما كان معلوما عندهم، ومفتى به عندهم، مستقرة به الفتوى بينهم، فهو أهل للإنكار عليه والرد لقوله. ونحن نعلم أن المسائل العلمية، والأحكام التي يحكم بها الناس، والفتاوى التي يفتون بها، لا تخلو من الخلاف، الجزء: 14 ¦ الصفحة: 375 وهذا أمر يعرفه من له أدنى معرفة؛ لكن الاختلاف بين الناس خصوصا في جهة نجد، لا بّد أن يكون سبب شر وفساد وفتنة؛ وسد باب الشر والفتن والفساد، أمر مطلوب في الشريعة; بل هو من أعظم مقاصدها، كما لا يخفى. نسأل الله تعالى أن يهدينا وإياكم سلوك صراطه المستقيم، وأن يجنبنا وإياكم طريق المغضوب عليهم والضالين، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه والتابعين، وسلم تسليما كثيرا. حسن بن حسين، سعد بن حمد بن عتيق، سليمان بن سحمان، صالح بن عبد العزيز، عبد الرحمن بن عبد اللطيف، عمر بن عبد اللطيف، عبد الله بن حسن، محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف، وكافة آل الشيخ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 376 [الحث على الأمر بالمعروف وتعليم الناس] وقال الامام عبد العزيز بن عبد الرحمن آل فيصل، رحمه الله: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد العزيز بن عبد الرحمن آل فيصل، إلى من يراه من علماء المسلمين وإخوانهم المنتسبين، وفقنا الله وإياهم لما يحبه ويرضاه، آمين، سلام عليكم ورحمة الله، وبركاته. وبعد ذلك: هذا كتاب إخوانكم المشايخ، تشرفون عليه، والعمل- إن شاء الله- على ما فيه، ثم بعد ذلك: ما هو بخافيكم أول منشإ هذا الأمر وتقويمه، أنه من الله، ثم أسباب الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى، وأوائلنا رحمهم الله، وما جرى على المسلمين من اختلاف ولايتهم مرارا. وكلما اختلف الأمر، وشارف الناس لنقض دين الله، وإطفاء نوره، أبى الله وأخرج من هالحمولتين من يقوم بذلك، حتى إن آخرهم والدنا، وشيخنا الشيخ: عبد الله بن عبد اللطيف، نرجو الله أن يجبرنا في مصيبتنا فيه، بعز الإسلام والمسلمين، وأن الله سبحانه يظهر في عقبهم من يقوم مقامهم، وأن الله سبحانه يعيضه بنا رضوانه والجنه. ولا هو بخافى أحدا مقامه في آخر هذا الزمان، والتزامه في أمر هذا الفصللئ، الذي لا حياة إلا به، صار نورا وقوة لكل عارف، عاقل في أمر دينه ودنياه، وردع أهل البدع الجزء: 14 ¦ الصفحة: 377 والضلال، ولا نقول، إلا: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرنا في مصيبتنا خيرا، واخلفنا خيرا منها. ثم بعد ذلك تفهمون أن أسباب الشر كثيرة، ولا بد أن يحصل من الناس بعض شوفات: أحد يدوّر المخالفة، وأحد يدوّر التروّس، وأحد جاهل يريد الحق، ولكن خفى عليه سبيل الحق، فاتبع هواه؛ وهذا أمر كله مخالف للشرع، والحمد لله، ما حنا في شك من أمر ديننا. وتفهمون أنه من حين أظهر الله الشيخ محمد بن عبد الوهاب، في قرن أطيب من وقتنا، ورجال أطيب من رجالنا، وعلماء أطيب من علمائنا، فسدد الله به، وقام بهذه الكلمة، وجدد الله أمر هذا الأصل، وأنقذ الله بأسبابه الناس، من الظلمات إلى النور. فبان أمره لأولي الأبصار، وخفي ذلك على كثير من الناس، وعاند من أزاغ الله قلبه، وأعمى بصيرته؛ وقبل هذا الحق ورضيه آباؤنا وأجدادنا، وعلماء المسلمين، فيما أتى به من الأصل والفرع، ويتعين علينا- إن شاء الله- أن نقتدي بما اقتدوا به. ولا هو بخافيكم حال هذا الزمان، وكثرة الطالب والسائل، وقلة البصيرة والفهم، وأيضا ما هو بخافيكم اختلاف العلماء في أمور الفروع، فلا بد أن كل إنسان يدعي المعرفة على جهل: إما أحد يسمع حديثا، أو قولا من أقوال العلماء، لا يعرف حقيقته، فيفتي به، أو يكون أحد له الجزء: 14 ¦ الصفحة: 378 مقصد، يدور الأقوال المخالفة مقصوده الخلاف، إما مخالفة أحد من علماء المسلمين، أو يبي يقال: هذا فلان، يدور بذلك رياسة، أو شيئا من أمور الدنيا، نعوذ بالله من ذلك. فالآن يكون الأمر على ما ذكر المشايخ أعلاه، فمن أفتى أو تكلم بكلام مخالف لما عليه الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وأولاده: عبد الله، وعبد الرحمن، وعبد اللطيف، وعبد الله بن عبد اللطيف، فهو متعرض للخطر، لأننا نعرف أنه ما يخالفهم إلاّ إنسان، مراوز للشر والفتنة بين المسلمين. فأنتم- إن شاء الله- يا جميع علماء المسلمين التزموا بهذا الأمر، وقوموا على من خالفه؛ ومن سمعتم منه مخالفة في قليل أو كثير، ما قدرتم عليه نفذوه؛ وما لم تقدروا عليه ارفعوه إلينا، إلا إن كان هنا إنسان عنده في مخالفتهم دليل من الكتاب، أو من السنة، فلا يتكلم حتى يعرض أمره على علماء المسلمين، وتعرف حقيقته؛ فأما المعترض بغير ذلك، أو قبل تبين الأمر، فذمتنا وذمة المسلمين بريئة منه، ويكون عنده معلوما أنه على خطر منا. ثم أوصيكم، يا علماء المسلمين بالقيام لله، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وتعليم الناس خصوصا هذا الأصل، وأن تجتهدوا وتديموا الجلوس والمباشرة لإخوانكم المسلمين، ومن كان تعلمون منه سدادا، ومن شبته دنيا أو تكاسل، ترفعون أمره إلينا، حتى نلزمه بطلب العلم. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 379 والأمر من ذمتي في ذمتكم، لا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا بتعليم الأصل، ولا بردع الجهل والقيام على صاحبه، فلا أنتم بحل مني إذا ما اجتهدتم وقمتم بهذا الأمر، كما أنه الواجب عليكم. وتفهمون أني إن شاء الله خادم للشرع، لا بنفسي ولا بما تحت يدي، فافطنوا لموقف يوقفنى الله أنا وأنتم، والعالمين؛ وهذا أمر برئت منه ذمتي وتعلق بذمتكم. نرجو الله أن يعيننا وإياكم على القيام بما يرضيه، وأن يعيذنا وإياكم من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا؛ وأن الله سبحانه ينصر دينه، ويعلي كلمته، ويجعلنا وإياكم من أنصاره. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه، وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين، سنة 1339، وعليه ختمه. [النصح لله ولكتابه ولرسوله والحث على الإستقامة والشكر وحقيقته] وله أيضا رحمه الله: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد العزيز بن عبد الرحمن آل فيصل، إلى من يراه من كافة إخواننا المسلمين، سلمهم الله تعالى، ووفقنا وإياهم للتمسك بالكتاب المبين، وسنة سيد المرسلين، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فإن الواجب علينا وعلى كل مسلم النصح لله ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم; أما النصح لله، فتوحيده وحب أوليائه، وعداوة أعدائه، وأما الجزء: 14 ¦ الصفحة: 380 النصح لكتابه، فالإيمان به، والعمل بما جاء به، وعدم تأويله على غير ما أنزل الله, وأما النصح لرسوله، فالإيمان به والاقتداء بسنته، والأخذ بما أمر به. وأما النصح لأئمة المسلمين، فمنهم الأمراء، ومنهم العلماء؛ فأما الأمراء، فالدعاء لهم بالتوفيق والصلاح، ولزوم جماعتهم، والسمع والطاعة لهم، وعدم الخروج عليهم، ورد القلوب النافرة إليهم، وجمع كلمة المسلمين عليهم. وأما العلماء، فمحبتهم، والاقتداء بهم، وعدم مخالفتهم، وتوقيرهم، وعدم الاستهانة بهم، وسؤالهم عما مَنَّ الله عليهم من معرفته. وتعلمون بارك الله فيكم أن لا دين إلا بنية وإخلاص ومتابعة، واستقامة على ذلك، وتذكير ما أنعم الله به على المسلمين، من النعم الدينية والدنيوية، حتى تحصل الزيادة، ويتحرز الإنسان من النقص في أمر دينه. وقد قال تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [سورة إبراهيم آية: 7] . واعلموا رحمكم الله أن حقيقة الشكر هو فعل الواجبات وترك المحرمات، وليس الشكر باللسان والمخالفة بالأفعال والأقوال؛ فمثل ذلك كمثل العريان الذي يمشي بين الناس وثوبه بيده، فليس يغني عنه شيئا. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 381 واعلموا رحمكم الله أن حقيقة الشكر، الاعتقاد الحسن في الأصل، والأخذ عمن أمرنا الله بالأخذ عنه، والاقتداء به، فأولهم الأنبياء ومن بعدهم، وآخرهم العلماء، لأنهم ورثة الأنبياء، وقد قال الله سبحانه وتعالى في محكم كتابه: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [سورة النحل آية: 43] . وقال صلى الله عليه وسلم: إنما شفاء العي السؤال 1 أي: سؤال العلماء، وقال عليه الصلاة والسلام: يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين. ومعلومكم أن جميع أهل الأمصار، ما أحد منهم ادّعى أنه كافر بالله وبكتابه وبرسوله، إنما هم على شدة في ذلك، ويرون أنفسهم أنهم مسلمون حقا، ولا يقولون في أقوالهم وأفعالهم إلا: قال الله، قال رسوله؛ وجميع الجهال الذين ليسوا بأهل علم، إذا سمعوا أقوالهم حققوا إيمانهم وإسلامهم، ولكنهم بخلاف ذلك، فسروا القرآن وأولوا الأحاديث على غير ما جاءت به، ولم يفهم ذلك من الناس أحد، لا من أهل الرأي، ولا من أهل الشجاعة. ولكن لما أن الله سبحانه منّ بالعلماء المحققين، وأراد الله يخرج هذه الفرقة، ويجعل لهم نورا وبرهانا، من عليهم بالعلماء فأنكروا ما حرفه الغالون، وانتحله المبطلون، وتأوله الجاهلون.   1 أبو داود: الطهارة 336. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 382 ومعلومكم أن هذا الكتاب والسنة ما كتبت بعد الرسول صلى الله عليه وسلم لا في جبال، ولا في حديد، إنما حفظه الله تعالى بأهل العلم، وكما قال صلى الله عليه وسلم: يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله حتى توصل الأمر إلى زماننا هذا، ونشر الله سبحانه هذه الدعوة، ومنحكم بها، فسر ذلك من بقلبه إيمان، وحيي المؤمنون حياة جديدة، وانكبت أهل الكفر والنفاق بما مَنَّ الله به علينا وعليكم; وكنا راجين ظهور العلم، وكثرة العلماء، الذين هم الحياة وهم المشرب العذب، لأجل حرص الناس على الخير وطلبه، وكنا نرى الجهال وجهلهم، ونعلل النفس أن هذا اجتهاد، والمرجع منهم- إن شاء الله- إلى الحق. فلما كان من العام الماضي وما بعد رأينا أمورا مخالفة لما أملناه، وهي ثلاثة أحوال، وهي التي تهدم الدين، وتفرق المسلمين، وينقم بها رب العالمين، الأول: إعجاب الناس بآرائهم، وخروج أناس يرون الدين ما وافق لهواهم، والثالث: يركض مع الناس وما قالوه قاله، سواء أنه حق أو باطل؛ وهذا كله مخالف للشرع والعقل. فلما تحققنا ذلك، وقام علينا علماء المسلمين، وقالوا: إما أن تأمروا بالأمر على الوجه المشروع، وتحملوا الناس على الحق لا على الهوى؛ وقلقوا من ذلك كثيرا، وخافوا من الخلل على المسلمين، ودخول عدوهم عليهم، لا العدو الشيطاني ولا العدو الإنسي، جبروا أنفسهم على الجزء: 14 ¦ الصفحة: 383 الحث في النصح للمسلمين، وجبرونا على تنفيذ الأمر. فأمرنا بعض أمرائنا أن يفطنوا لمن كان به شدة ومخالفة لعلماء المسلمين أن ينصحوه غاية النصح، فمن كان قصده الدين وطاعة رب العالمين، فليرجع عما فات ويتوب، ويبين خطأه وتوبته؛ ومن كان قصده اتباع هواه وليس له مبالاة، لا بدين الله، ولا بعلماء المسلمين، ولا بولاتهم فيجلبون إلينا؛ فإن كان به خير فليتعلم عند علماء المسلمين، ولعل الله ينفعه، فإن كال بضد ذلك، فهو من فضل الله في أعز وطن من أوطان المسلمين. ونحن مقتدون بقوله صلى الله عليه وسلم: انصر أخاك ظالما أو مظلوما، قالوا: يا رسول الله ننصره مظلوما، فكيف إذا كان ظالما؟ قال تمنعه وتحجزه عن الظلم 1 أو كما قال. فأي ظلم على الإنسان أعظم من القول على الله وعلى رسوله بغير علم؟ وأي ظلم أعظم من فرقة المسلمين وشحناهم؟ وأي ظلم أعظم من الكلام في ولاية المسلمين وعلمائهم؟ فهذا كله واقع، ولا أخذنا ذلك من سفهاء الناس ولا من ذوي الأغراض، إنما أخذناه من الثقات وأهل العلم وأهل النصح للإسلام والمسلمين. وبعد ذلك بلغنا خبر أن أحدهم يتكلم يقول: هؤلاء إخواننا الذين يعلموننا ويحضوننا على الجهاد ومحاربة الكفار، قام الناس يتكلمون فيهم ويروعونهم عن أوطانهم. فلا عرفت معنى كلام الجاهل; الأول: أن هذا قدح في علماء   1 البخاري: المظالم والغصب 2444 , والترمذي: الفتن 2255 , وأحمد 3/99 ,3/201. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 384 المسلمين؟ فصار: أنه ما اقتدى بهم، ما اقتدى إلا بجهالة الذين يفتونه بغير علم، أو بغير ما أنْزل الله، فكان كما قال الله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [سورة الجاثية آية: 23] . والثاني. حط المسلمين وأمراءهم وعلماءهم من جملة الناس الذين لا يقتدى بهم ولا يؤخذ عنهم، ويتجنبون، ويقتدى بالجهال بدلا عنهم، لأن الناس الذي نقدنا عليهم ما نقدنا عليهم إلا بأمرين: كلامهم في الولاية، وعدم سؤالهم وامتثالهم للعلماء، وجعلهم مداهنين. فلا علمنا لهذا المغرور مسلكا، إذا كانت الولاية يقدح فيها، والعلماء كذلك، فأين الولاية التي يلتجأ بالله ثم بها؟ وأين العلماء الذين يقتدى بالله ثم بهم ويسألون؟ فلا نعلم في الدنيا أحد قاطبة غير ولاية المسلمين وعلمائهم؛ فهذا من عدم الفرق، واستخفاف أمر الله عند أغلب الناس، ولكن كما قيل: إذا كنت لا تدري فتلك مصيبة ... وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم فإن كان عالم بذلك ويدعو الناس إلى عبادة نفسه فهذا أعظم؛ وإن كان أنه جاهل ولا يدري فهذا أعظم. ثم بعد ذلك بلغني خبر أن أناسا لما أنه أقيم أمر الله، وامتثل الناس أمر الله ثم أمر علمائهم، كان بعض الناس يريدون الانتقال من بلدهم المقوم فيها الأمر إلى بلد أخرى، فهذا بعد مصيبة ثانية; فكيف أنهم يهاجرون إلى البلدان الجزء: 14 ¦ الصفحة: 385 ويحضون على الهجرة فيها، ويكلفون الذي ما يهاجر فيها تكليفات زائدة، فلما هاجروا، وأقيم أمر الله، وهم يدعون أنه ما بغضتهم للبادية إلا حكم الطاغوت وعدم تنفيذ أمر الله، فلما نفذ أمر الله أرادوا أن يفروا عنه، فهذا أمر عجيب! وصاحبه لا خاف الله، ولا استحى من الخلق. فالآن أحببت أن أبين لكم النصيحة قبل في امتثال أمر الله، وأبين لكم حقيقة ما نحن قائمون فيه على بعض إخواننا، نرجو أن الله يمن علينا وعليهم بالهداية، ثم بعد ذلك آمركم وأنهاكم. أما الذي آمركم به: فهي تقوى الله وطاعته، ثم سؤال أهل العلم، وامتثال ما أمروكم به وعدم مخالفتهم، لا بالقول ولا بالفعل، وكف الأذى عن جميع المسلمين، وعدم الاعتداء، ولزوم الجماعة، وعدم التنقل من بلد إلى أخرى على غير دليل. فمن انتقل من هجرته بغير دليل شرعي، ولا معه مكتوب من العالم الذي عنده فهو عاص للولاية، ومن عصى الولاية فقد عصى الله ورسوله، ونحن ملزمون بأدبه، إلا إنسان قد رأى معصية فيرفع الأمر للأمير والعالم الذي عنده، فإن نفذوا ذلك فالحمد لله وهو الظن بهم إن شاء الله، فإن لم ينفذوه فيرفع الأمر إلينا، وتبرأ ذمته. وأما الذي أنهاكم عنه: فكثرة القال والقيل في غير ما يرضي الله، ومخالفة علمائكم، وعدم سؤالهم والحضور الجزء: 14 ¦ الصفحة: 386 عندهم والأخذ بقول أحد سواهم، إلا من أمروه وفوضوه. وأيضا يلزمكم طاعة أمرائكم في جميع أمورهم، إلا أمر يخالف المشروع؛ كذلك والإنسان الذي يريد أن ينتقل من هجرته إلى هجرة ثانية، مقصوده لما أنه أمر أن يتقيد بأمر الشرع ولا يزيد عليه، فمن استلقاه في بلده فقد عصى ولاته وتعرض للأدب. وأما أنا فلا عندي قليل ولا كثير، سوى إقامة أمر هذه الشريعة، وامتثال أمر العلماء؛ فمن كان قصده دين الله فليسأل أهل العلم، وما قالوه فليعمل به، ويعرض جميع أحواله في أمور دينه ودنياه، وجميع ما جاء مني من الأوامر والنواهي عليهم، فما أجازوه وأمروا به فيعمل به، وما نهوا عنه فيتركه. فمن كان قصده الدين وراحة المسلمين فيمتثل ذلك، ولا أدين الله بغيره، وهو منا ونحن منه؛ ومن كان قصده: درق الدنيا بالدين، ليقضي مقاصده باسم الدين، فهذا مستعينين بالله عليه، ولا يأمن العتب، أو يغره سكوتنا السابق، لأننا بالسابق سكتنا مقصودنا أن الناس قريبو عهد بجهل، ونبغي لعلهم يسترشدون. فلما رأينا الأمر اتباع للهوى، والجهل يتزايد، عزمنا أن نقوم، ولا تأخذنا في الله لومة لائم. فمن كان قصده الحق، فليأخذ الأمر من أهله الذين هم علماء المسلمين; ومن كان قصده ضد ذلك، فلا يلومن إلا نفسه. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 387 والرجاء: أن الله سبحانه وتعالى يوفقنا وإياكم لما يحبه ويرضاه، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم سنة 1339 هجرية، وعليه ختمه. [الشيخ محمد بن إبراهيم يذكر المسلمين بتأخر نزول المطر وسبب ذلك] وقال الشيخ: محمد بن الشيخ إبراهيم بن الشيخ عبد اللطيف، عفا الله عنهم. بسم الله الرحمن الرحيم اللهم زينا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين، غير ضالين ولا مضلين، سلما لأوليائك، حربا لأعدائك، نحب بحبك من أحبك، ونعادي بعداوتك من عاداك وخالف أمرك؛ اللهم هذا الدعاء، وعليك الإجابة، وهذا الجهد وعليك التكلان: من محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف، إلى من بلغه هذا الكتاب من المسلمين، وفقنا الله وإياهم لقبول النصائح، وجنبنا وإياهم أسباب الخزي والفضائح، آمين. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أما بعد: فقد رأيتم الواقع، وهو تأخر نزول الغيث عن إبانه، وقحوط المطر وعدم مجيئه في أزمانه، ولا ريب أن سبب ذلك هو معاصي الله، ومخالفة أمره بترك الواجبات، وارتكاب المحرمات. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 388 فإنه ما من شر في العالم ولا فساد، ولا نقص ديني أو دنيوي، إلا وسببه المعاصي والمخالفات، كما أنه ما من خير في العالم، ولا نعمة دينية أو دنيوية، إلا وسببها طاعة الله تعالى، وإقامة دينه. قال الله تعالى: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [سورة الشورى آية: 30] ، فإن معنى الآية: {وَمَا أَصَابَكُمْ} [سورة الشورى آية: 30] ، أيها الناس: {مِنْ مُصِيبَةٍ} [سورة الشورى آية: 30] ، في الدين أو في الدنيا، في أنفسكم وأهليكم وأموالكم: {فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [سورة الشورى آية: 30] ، يعني: إنما يصيبكم ذلك عقوبة لكم، بما اجترحتموه من الآثام، فيما بينكم وبين ربكم،: {ويعفوا} لكم ربكم: {عن كثير} من إجرامكم، فلا يعاقبكم بها، فإنه تعالى لو عاقب عباده بإجرامهم، ما بقي على ظهرها من دابة، كما قال تعالى: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ} [سورة فاطر آية: 45] . قال الحسن رحمه الله تعالى: لما نزلت هذه الآية: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ} الآية [سورة الشورى آية: 30] . قال النبي صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده لا يصيب ابن آدم خدش عود، ولا عثرة قدم، ولا اختلاج عرق، إلا بذنب، وما يعفو الله عنه أكثر. وقال علي رضي الله عنه: ما نزل بلاء إلا بذنب، ولا رفع إلا بتوبة وفي دعاء العباس، عم النبي صلى الله عليه وسلم حين استسقى به عمر، والصحابة رضي الله عنهم، عام الرمادة: اللهم إنه لا ينْزل بلاء إلا بذنب، ولم يكشف إلا بتوبة، الجزء: 14 ¦ الصفحة: 389 وهذه أكفنا إليك بالذنوب، ونواصينا إليك بالتوبة، فأسقنا. وفي الحديث: إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه 1. وقال تعالى: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [سورة الأعراف آية: 96] . وقال تعالى في حق أهل الكتاب: {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالأِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} الآية [سورة المائدة آية: 66] ، يعني: لأنزل الله عليهم من السماء قطرها، وأخرجت لهم الأرض ثمارها. وقوله: {وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} [سورة المائدة آية: 66] ، فإنه يعني: لأكلوا من بركة ما تحت أقدامهم من الأرض، وذلك ما تخرجه الأرض من حبها ونباتها، وثمارها، وسائر ما يؤكل مما تخرجه، قال ابن عباس: {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالأِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ} [سورة المائدة آية: 66] ، يعني لأرسل السماء عليهم مدرارا: {وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} [سورة المائدة آية: 66] ، تخرج الأرض بركتها. وجاء في تفسير، قوله تعالى: {وَيَلْعَنُهُمُ اللاّعِنُونَ} [سورة البقرة آية: 159] ، عن مجاهد قال: إذا أسنت السنة، قالت البهائم: هذا من أجل عصاة بني آدم، لعن الله عصاة بني آدم. وعن مجاهد أيضا، قال: تلعنهم دواب الأرض، وما شاء الله، حتى الخنافس والعقارب، تقول نمنع القطر بذنوبهم. وروى ابن ماجه في سننه، من حديث عبد الله بن   1 أحمد 5/280. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 390 عمر بن الخطاب رضي الله عنهما: كنت عاشر عشرة رهط من المهاجرين عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبل علينا بوجهه، فقال: يا معشر المهاجرين، خمس خصال وأعوذ بالله أن تدركوهن، ما ظهرت الفاحشة في قوم حتى أعلنوا بها، إلا ابتلوا بالطواعين والأوجاع، التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا. ولا نقص قوم المكيال إلا ابتلوا بالسنين، وشدة المؤونة، وجور السلطان. وما منع قوم زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا. ولا خفر قوم العهد إلا سلط الله عليهم عدوا من غيرهم، فأخذوا بعض ما في أيديهم. وما لم تعمل أئمتهم بما أنزل الله في كتابه إلا جعل الله بأسهم بينهم. ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: ولا نقص قوم المكيال إلا ابتلوا بالسنين وشدة المؤونة وجور السلطان 1 ظاهر، والسنين: جمع سنة، والسنة: هي الجدب. وهذا من حكمة الله تعالى وعدله في خلقه، وهو مجازاتهم من جنس أعمالهم، فإن الجزاء من جنس العمل؛ وفي الجدب، وشدة المؤونة، وجور السلطان، من نقص الأموال ما يعرفه كل أحد، جزاء لبخسهم الناس حقوقهم وأموالهم، بنقص المكيال والميزان، جزاء وفاقا، وما ربك بظلام للعبيد. وقد جاء في هذا الذنب من الوعيد، والإخبار بما   1 مالك: الجهاد 998. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 391 أحل الله بفاعليه، من سالف الأمم، ما هو معلوم، وإنما حرم ذلك وغلظ تحريمه، لأنه من أعظم الظلم، وأكل المال بالباطل. ومما يدخل أيضا في أكل أموال الناس بالباطل: ما يكتب بالعقود الفاسدة، والمعاملات المحرمة، التي تمادى فيها أكثر الناس، فإن ما يصير من الثمن إلى البائع، والمبيع إلى المشتري حرام؛ فإن مال المسلم لا يحل إلا بطيبة نفس منه، إما بهبة شرعية، أو بعقد شرعي، وأعظم ذلك كله الربا في المعاملات. قال الله تعالى:: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلاّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} [سورة البقرة آية: 275-276] . وقوله صلى الله عليه وسلم: وما منع قوم زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء ولولا البهائم لم يمطروا 1، واضح في: أن لهذا الذنب خصوصية في منع القطر من السماء، فإنه من أعظم الذنوب، لأن الزكاة أحد أركان الإسلام، وهي قرينة الصلاة في كتاب الله. وكثير من الناس لا يؤدي الزكاة المفروضة من الأموال   1 ابن ماجه: الفتن 4019. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 392 الخفية إما بخلا- والعياذ بالله- أو جهلا ببعض تفاصيل الواجب من الشروط، كالنصاب، وغير ذلك؛ فإنه إذا كان عند الإنسان ثلاثة وعشرون ريالا. فرانسيا، فحال عليها الحول، وجبت فيه الزكاة. وقوله: ولولا البهائم لم يمطروا 1 يدل على أن ما ينْزله الله تعالى من المطر في بعض الأحيان، رحمة للبهائم التي لا جرم لها. ويشهد لهذا ما رواه أبو يعلى، والبزار، من حديث أبي هريرة: مهلا عن الله مهلا، فإنه لولا شباب خشع، وبهائم رتع، وأطفال رضع، لصب عليكم العذاب صبا. وروى أبو نعيم من حديث أبي الزاهرية أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما من يوم إلا وينادي مناد: مهلا أيها الناس مهلا، فإن لله سطوات، ولولا رجال خشع، وصبيان رضع، وبهائم رتع، لصب عليكم العذاب صبا، ثم لرضضتم به رضا. وفي قوله صلى الله عليه وسلم: وما لم تعمل أئمتهم بما أنزل الله في كتابه، إلا جعل الله بأسهم بينهم 2 مشابهة ظاهرة لقوله تعالى:: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلاّ قَلِيلاً مِنْهُمْ} [سورة المائدة آية: 13] إلى قوله: {فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [سورة المائدة آية: 14] . وفي ذلك كله التحذير للأئمة- وهم من يقتدى بهم،   1 ابن ماجه: الفتن 4019. 2 ابن ماجه: الفتن 4019. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 393 من العلماء والأمراء من ترك العمل بما في كتاب الله، وهو دينه الذي دل عليه الكتاب والسنة، فإن هذه العقوبة، وهي: إغراء الله بينهم العداوة والبغضاء، وجعله تعالى بأسهم بينهم، بها انثلال عرش الديانات، وانحلال نظام الولايات، وتفرق الجماعات، وانتهاك المحرمات، وتسليط أهل الكفر والضلالات. فعلى من يقتدى بهم خصوصا، وسائر المسلمين عموما أن يتقوا الله تعالى، فإن بتقواه تعالى دوام الخير الموجود، واستجلاب ما عند الله من الفضل المفقود، وأن يعتنوا بهذا المقام، وأن يراعوه حق رعايته، في أنفسهم، وفيمن تحت أيديهم، علما وعملا، ويأمروا بالمعروف، وينهوا عن المنكر. فيا عباد الله: التوبة التوبة! تفلحوا وتنجحوا، وتستقيم أحوالكم وتصلحوا، قال الله تعالى: {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ} [سورة هود آية: 52] . وارجعوا إلى ربكم بالتجرد والتخلص من حقوق الله التي له قبلكم، واخرجوا من جميع المظالم التي عند بعضكم لبعض، وأكثروا من الاستغفار، بقلب يقظان حاضر، معترف بالذنوب، مقر بالتقصير والعيوب، وأديموا التضرع لرب الأرباب، يدر عليكم الرزق من السحاب. وأحسنوا إلى المحاويج، وارحموهم، يحسن الله إليكم. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 394 ويرحمكم بغيث السماء، وفي الحديث: الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء1 وأكثروا من الصدقة، واتركوا التشاحن، والتهاجر، والتقاطع بينكم، وغير ذلك مما هو من أسباب عدم إجابة الدعاء. اللهم انصر دينك وكتابك، ونبيك، وعبادك المؤمنين، اللهم أعل كلمتك وأيد حزبك الموحدين، واجعلنا منهم يا أرحم الراحمين، فأنت على كل شيء قدير، وصلى الله وسلم على محمد، وآله وصحبه أجمعين; 8 / 10 / 1352 هـ. [تذكير الإمام عبد العزيز بن عبد الرحمن آل فيصل بنعمة الله ووصيته بتقوى الله] وقال الإمام: عبد العزيز بن عبد الرحمن آل فيصل، رحمه الله: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد العزيز بن عبد الرحمن آل فيصل، إلى من يراه من إخواننا المسلمين، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. بعد ذلك وفقنا الله وإياكم لما يحبه ويرضاه، وجعلنا وإياكم من صالحي عبيده وأوليائه، تفهمون ما من الله تعالى به علينا وعليكم، من نعمة الإسلام، والعافية والأمان، وتفهمون أن الله سبحانه وتعالى، قال: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [سورة إبراهيم آية: 7] . ونصيحة الشيخ: محمد بن إبراهيم، جزاه الله خيرا، ووفقنا وإياه لما يحبه ويرضاه، كافية من جميع الأحوال، ولا عليها مزيد، فالذي أوصيكم به ونفسي: تقوى الله،   1 الترمذي: البر والصلة 1924 , وأبو داود: الأدب 4941. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 395 واتباع أوامره، واجتناب نواهيه. ويفهم من كان فيه خير من المسلمين أن ما لنا قصد إلا أن تكون كلمة الله هي العليا، ودينه هو الظاهر، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والأخذ على يد السفيه ونكون- إن شاء الله- مساعدين قائمين بأمر الله، مساعدين لمن قام بذلك. فيجب عليكم تدبر هذه النصيحة، والعمل بما فيها، والتناصح فيما بينكم، والقيام على من خالف ذلك، كل على قدرته. ونحن نعاهد الله أننا خدام مساعدون لهذه الشريعة ومن قام بها، مستعينين بالله على من خالف ذلك، فالآن الشيخ محمد أدام الله وجوده، أدى الواجب ونحن برئت ذمتنا، وألزمنا المسلمين كل يقوم على قدره، من الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والنصيحة للمسلمين. نرجو أن الله يوفقنا وإياكم لما يحبه ويرضاه، وأن ينصر دينه ويعلي كلمته، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 396 [التذكير بنعمة الله تعالى وما تضمنته كلمة الإخلاص] وله أيضا، رحمه الله: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وسيد الأولين والآخرين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. من عبد العزيز بن عبد الرحمن بن فيصل آل سعود، إلى من يراه من إخواننا: الحجازيين، والنجديين، واليمانيين، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: بارك الله فيكم، ووفقنا وإياكم لما يحبه ويرضاه، وجعلنا وإياكم من صالحي عباده وأوليائه تفهمون أن الله سبحانه مَنَّ علينا بنعمة الإسلام، وأكملها علينا، كما قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} [سورة المائدة آية: 3] ، ومن أكبر نعمه علينا: إنزال كتابه العزيز، وإرسال نبيه الكريم. وخلاصة ذلك، وعمدة ما نزل في كتاب الله، وإرسال رسله الأولين، وخاتمهم سيد المرسلين، هي: الدعوة لعبادة الله وحده لا شريك له، وهي مضمون لا إله إلا الله، كما أن معناها: "لا إله"نفي "إلا الله"إثبات. وكل من قال لا إله إلا الله، عارفا لمعناها، عاملا بمقتضاها، مواليا لجميع ما أمر الله به، معاديا لما نهى عنه، من الأفعال والأقوال، فهو من أهل لا إله إلا الله. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 397 ومن قالها، ولم يعرف لمعناها، ولم يعمل بمقتضاها، ولا أحب ما احتوت عليه من الخير، وأبغض ونفى ما نهت عنه من الشر، من الأقوال والأفعال، فليس هو من أهل لا إله إلا الله فهو كالأنعام، بل هو أضل. وتعرفون، بارك الله فيكم، لو أنني أريد أن أتمادى فيما جاء في كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم من الآيات المحكمة، والأحاديث الصحيحة، فيما تثبت من الأعمال الطيبة، وتنكر من الأعمال السيئة، لطال الكلام. والمقصد من ذلك: الفائدة، والاتباع لما أمر الله به وهو قوله سبحانه وتعالى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [سورة الحج آية: 41] . وقوله صلى الله عليه وسلم: الدين النصيحة، الدين النصيحة، الدين النصيحة، قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم 1 وشرح ذلك مفهوم. وهو أن النصح لله: أن تعبد الله وحده، وتبرأ من سواه، من قول وعمل، وتحب ما أمرك الله به وتتجنب ما نهاك عنه، والنصح لكتاب الله: أن تعمل بمحكمه وتؤمن بمتشابهه. والنصح لرسوله صلى الله عليه وسلم: أن تجزم أنه أفضل الأولين والآخرين، وأنه الصادق المصدوق، وأنه لا ينطق عن   1 مسلم: الإيمان 55 , والنسائي: البيعة 4197 , وأبو داود: الأدب 4944 , وأحمد 4/102. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 398 الهوى، وأنه المعصوم، وأنه من لا يحب الله وكتابه ورسوله، أحب من نفسه وماله وولده، فلا آمن بالله، ولا عرف ما جاء في كتاب الله. ومن فرق أو شك أن ما جاء في كتاب الله، يخالف ما جاء به رسوله صلى الله عليه وسلم أو ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم يخالف كتاب الله، أو أول في كتاب الله وسنة رسوله، وكذب على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فقد كفر، ومن أنكر شفاعته صلى الله عليه وسلم إذا أذن الله له، ولم يرج ذلك; أو قال: نؤمن بكتاب الله، ولا نؤمن بمحمد، فقد كفر. فإذا فهمنا ذلك، ووقر في قلوبنا، وصحت العقيدة بذلك، فيجب علينا أن نفكر ونتدبر القرآن، وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم وما كان عليه مذهب السلف الصالح؛ ونعمل بما فيه، ونقوم بالواجب، وننكر ما أنكره كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وما أنكره السلف الصالح. هذا الذي حملني على هذه النصيحة، هو ما رأيت في هذا الزمان وأهله، من الفساد، وما اقترفناه من الذنوب، كبيرنا وصغيرنا، نستغفر الله ونتوب إليه، وما عليه الحالة اليوم. فالناس في هذا الزمن، قد انقسموا على أقسام شتى: منهم العارف بالله، وبكتاب الله، والذين يعتقدون عقيدة السلف الصالح؛ قصروا في العمل، وتركوا النصيحة، ولم يقوموا بالواجب. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 399 وفريق عرف أن الله ربه، والإسلام دينه، ومحمد صلى الله عليه وسلم نبيه ورسوله، لكنهم لم يعرفوا ما هو الواجب عليهم، في كونهم عرفوا الله، وما حق ذلك، ولا عرفوا الإسلام وحقيقته، ولا عرفوا ما أرسل به محمد صلى الله عليه وسلم وجاهد عليه. وآخرون اتخذوا أديانهم أهواءهم، واتبعوا كل ناعق، فمنهم الملحد- والعياذ بالله- ومنهم المتبع لهواه، ومبتدع للطرق والمضال التي نهانا الله ورسوله عنها. ومنهم من لم يعرف طريق الحق من الضلال، وتمسك بقوله إنه مسلم; ولم يفرق بين حق وباطل. ومنهم من أحدث له الشيطان من الخيالات والمفاسد ما أضله به، وادعى أنها الحياة الجديدة، وأنها الحرية، وأنها المدنية، وعملها بنفسه، وجد واجتهد في الدعوة إليها، والإنكار على من خالفها، ويقول: ينبغي أن نتقدم قدام، ولا نرجع وراء، ومعناه في التقدم هو التمدن والحرية، والتأخر هو اتباع كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ومذهب السلف الصالح، والتعصب فيه. فبهذه الحال وجبت علي النصيحة أولا لكافة المسلمين، وثانيا لمن ولانا الله سبحانه وتعالى أمره؛ فصار من الواجب علينا أن ننصح أنفسنا، وننصح جميع المسلمين، بأن نرجع إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ونعتصم بحبل الله جميعا، ولا نتفرق، فيأخذنا الشيطان إلى طرق الضلال. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 400 وأن نحذر من قوله تعالى:: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [سورة الأنفال آية: 53] . ومعنى قوله تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً} [سورة الإسراء آية: 16] . فأما الذنوب والمعاصي، فنستغفر الله ونتوب إليه، فما عملنا من خير فهو من الله وبفضله وكرمه; ونقول: اللهم ما أصبح بنا من نعمة، أو بأحد من خلقك، فمنك وحدك لا شريك لك؛ وما عملنا من شر فمن أنفسنا والشيطان، ونستغفر الله ونتوب إليه. والحمد لله الذي لما ابتلى عباده بالمعاصي، وابتلاهم بالامتحان، وابتلاهم بكيد الشيطان، منّ عليهم بالتوبة والاستغفار؛ وذلك من فضله وكرمه. أما الحالة السابقة في الناس، فهي من كيد الشيطان، ومن أسباب الذنوب، ومن التفرق في الدين، ومقاومته بالطرق والضلالات، التي ما أنزل الله بها من سلطان; وإلا الطريقة واحدة، والمحجة واضحة، وهي: ما جاء في معنى لا إله إلا الله، المحتوية على ما جاء في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ومذهب السلف الصالح. مع أننا لا ننكر ولا نعترض على المذاهب الأربعة، التي أئمتها أئمة حق، ولم يقصدوا إلا الحق، ولا ينطقوا إلا بما الجزء: 14 ¦ الصفحة: 401 يرونه حقا؛ وبما ظهر لهم من الحق، وإلا فالزلل لم يعصم منه إلا محمد صلى الله عليه وسلم. مع أننا ننكر أن تكون المذاهب الأربعة مللا، أو أن يعتقد أحد في الأئمة ومن تبعهم اجتهادا غير موافق لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، بتضليل أو مخالفة للحق؛ وهذا غير ما ظهر في هذا الزمان من المدعين بالتجدد، وعلى أنهم شبيبة يقومون بواجب بلادهم وشعبهم، ويجب عليهم التقدم والتمدن والحرية، على غير مفهوم هذه الكلمات. فهذه النّزعة التي تقود هذه الشبيبة إلى الضلال، هي نزعة شيطان، وصدمة للدين وللعرب، ولجميع من تمسك بالسمت ومكارم الأخلاق، لأنه صلى الله عليه وسلم يقول: إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق. فما من أمر فيه خير وحفظ للسمت والشرف، سواء أتى من عربي أو عجمي، ولا يخالف الكتاب والسنة: إلا وقد جاء فيما أمر به صاحب الرسالة صلوات الله وسلامه عليه، وزاد عليه بتعليم الخير؛ كما عمل ذلك مع بعض الوفود الذين وفدوا عليه، وسألهم عن بعض ما هم عليه، وزادهم عليه. والآن فأي مسلم يعرف الإسلام، وينتسب وينسب إليه، ويقر ما أقره هؤلاء الغواة، من لزوم الرجوع عن الدين، وإبداله بما رأوه موافقا للشهوات الدنيئة التي لا يقرها دين ولا مذهب، ولا تقرها أصحاب مكارم الأخلاق الجزء: 14 ¦ الصفحة: 402 في الجاهلية، ولا صلحاء أي ملة تعرف الشرف والعقل، فهو ضال عن طريق الصواب. وغير خاف أنه صار في آخر الزمان دعوة للتمدن، وهي - بلا شك - رقصة من رقصات الشيطان; وذلك قوله: إنني مسلم بلا عمل ولا اعتقاد، مع اتباع أقوال الملحدين وأهل الفساد، وارتكاب المحرمات في الأقوال والأفعال، مبررا عمله في ذلك بأنه من أعمال البلاد المتمدنة. أما الأمر الذي لا يوجد تحت أديم السماء أقبح منه في العقيدة، وفي الوقت نفسه مخالف لكل عقل سليم، وفكر مستقيم، ونقل قويم هو: كون الرجل، يدعو ويعبد، أو يرجو ويخاف، غير الله الجبار المتكبر رب العباد، القادر على الأولين والآخرين، من المتجبرين أو المتكبرين، الذي جعل الجنة رحمة، ووفق لها كل صاحب خير وسعادة والنار عدله ونقمته، وساق لها أهل الشر والنكد والضلالة. وأقبح من ذلك في الأخلاق: ما حصل من الفساد في أمر اختلاط النساء، بدعوى تهذيبهن وترقيتهن، وفتح المجال لهن في أعمال لم يخلقن لها، حتى نبذوا وظائفهن الأساسية، من تدبير المنْزل، وتربية الطفل، وتوجيه الناشئة - التي هي فلذة أكبادهن، وأمل المستقبل - إلى ما فيه حب الدين والوطن، ومكارم الأخلاق. ونسوا واجباتهن الخلقية، من حب العائلة التي عليها قوام الأمم، وإبدال ذلك بالتبرج والخلاعة، ودخولهن في الجزء: 14 ¦ الصفحة: 403 بؤرات الفساد والرذائل، وادعاء أن ذلك من عمل التقدم والتمدن؛ فلا والله ليس هذا التمدن في شرعنا وعرفنا وعادتنا. ولا يرضى أحد في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان أو إسلام، أو مروءة، أن يرى زوجته، أو أحدا من عائلته، أو المنتسبين للخير، في هذا الموقف المخزي؛ هذه طريق شائكة تدفع بالأمة إلى هوة الدمار. ولا يقبل السير عليها إلا رجل خارج من دينه، خارج من عقله، خارج من عربيته; فالعائلة هي الركن الركين في بناء الأمم، وهي الحصن الحصين الذي يجب على كل ذي شمم أن يدافع عنها. إننا لا نريد من كلامنا هذا التعسف والتجبر من أمر النساء فالدين الإسلامي قد شرع لهن حقوقا يتمتعن بها، لا توجد حتى الآن في قوانين أرقى الأمم المتمدنة. وإذا اتبعنا تعاليمه كما يجب، فلا تجد في تقاليدنا الإسلامية وشرعنا السامي ما يؤخذ علينا، ولا يمنع من تقدمنا في مضمار الحياة والرقي، إذا وجهنا المرأة في وظائفها الأساسية؛ وهذا ما يعترف به كثير من الأوربيين من أرباب الحصافة والإنصاف. ولقد اجتمعنا بكثير من هؤلاء الأجانب، واجتمع بهم كثير ممن نثق بهم من المسلمين، وسمعناهم يشكون مرّ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 404 الشكوى، من تفكك الأخلاق، وتصدع ركن العائلة في بلادهم من جراء المفاسد. وهم يقدّرون لنا تمسّكنا بديننا وتقاليدنا، وما جاء به نبينا من التعاليم العالية، التي تقود البشرية إلى طريق الهدى، وساحل السلامة ويودّون من صميم أفئدتهم لو يمكنهم إصلاح حالتهم هذه، التي يتشاءمون منها، وتنذر ملكهم بالخراب والدمار، والحروب الجائرة. وهؤلاء نوابغ كتّابهم ومفكّريهم، قد علموا حق العلم هذه الهوة الساحقة التي أمامهم، المنقادون لها بحكم الحالة الراهنة، وهم لا يفتؤون في تنبيه شعوبهم، بالكتب والنشرات والجرائد، على عدم الاندفاع في هذه الطريق، التي يعتقدونها سبب الدمار، وسبب الخراب. إني لأعجب أكبر العجب، ممن يدعي النور والعلم، وحب الرقي، من هذه الشبيبة التي ترى بأعينها وتلمس بأيديها ما نوهنا به من الخطر الخلقي، الحائق بغيرنا من الأمم، ثم لا ترعوي عن ذلك، وتتبارى في طغيانها، وتستمر في عمل كل أمر يخالف تقاليدنا، وعاداتنا الإسلامية العربية، ولا ترجع إلى تعاليم الدين الحنيفي الذي جاء به نبينا محمد صلى الله عليه وسلم رحمة وهدى لنا، ولسائر البشر. فالواجب على كل مسلم وعربي فخور بدينه، معتز بعربيته، أن لا يخالف مبادئه الدينية، وما أمره الله تعالى الجزء: 14 ¦ الصفحة: 405 بالقيام به لتدبير المعاد والمعاش، والعمل على كل ما فيه الخير لبلاده ووطنه. فالرقي الحقيقي، هو بصدق العزيمة، والعمل الصحيح، والسير على الأخلاق الكريمة، والانصراف عن الرذيلة، وكل ما من شأنه أن يمس الدين، والسمت العربي، والمروءة؛ وليس بالتقليد الأعمى؛ وأن يتبع طرائق آبائه وأجداده، الذين أتوا بأعاظم الأمور، باتباعهم أوامر الشريعة التي تحت عبادة الله، وحده، وإخلاص النية، في العمل. وأن يعرف حق المعرفة، معنى ربه، ومعنى الإسلام وعظمته، ومعنى ما جاء به نبينا، ذلك البطل الكريم العظيم صلى الله عليه وسلم من التعاليم القيمة التي تسعد الإنسان في الدارين; وتعلمه أن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين; وأن يقوم أود عائلته، ويصلح من شأنها، ويتذوق ثمرة عمله الشريف. فإذا عمل هذا، فقد قام بواجبه، وخدم وطنه وبلاده. إني أرى من واجبي بصفتي مسلما، وبحسب عربيتي وإخلاصي لأبناء قومي، أن أقوم بهذه النصائح لمن ولاني المولى أمرهم، مقتديا في عملي هذا بالنبي صلى الله عليه وسلم الذي أرجو أن أكون تبعا له في أقوالي وأعمالي، وفي محياي ومماتي، صابرا على ما تقوله الناس من الانتقادات غير مبال لها ولا وجل منها، كما قيل: إذا كان الذي بيني وبين الله عامر ... فعسى الذي بيني وبين الناس خراب الجزء: 14 ¦ الصفحة: 406 وذلك لأجل إعلاء كلمة الله، ونصرة دينه، وإسعاد من ولاني المولى أمرهم، راجيا أن نكون ممن قال فيهم صلوات الله وسلامه عليه: لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم، إلى أن يأتي أمر الله تبارك وتعالى، وهم على ذلك 1. وإني على ثقة تامة بأن يرى كل صاحب إنصاف، أن واجبي يدعوني لأن أوجه هذه النصائح لشعبي المحبوب، ولكل مسلم، لأني مسلم محافظ على إسلاميته، عربي غيور على عربيته، متبع لما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، مقتد بمذهب السلف الصالح، رضوان الله عليهم، حريص على كل ما في تقاليدنا العربية، من مكارم الأخلاق، آمر بما أمر به الإسلام، ناهٍ عما نهى عنه الإسلام، غير منتصر لآبائي وأجدادي، أو لنعرة جاهلية، أو لمذهب من المذاهب غير الكتاب والسنة. وإني بحول الله وقوته سأثابر على هذه الدعوة المباركة، وأرجو المولى أن ينفع بها؛ فما كان فيها من الصواب فمن الله، وما كان من الخطأ فمن نفسي ومن الشيطان، واستغفر الله من ذلك. كما أنني أعاهد الله بأنني سأقوم إن شاء الله، بما أوجبه الله، وأن أسعى بإلزام من أطاعني بما جاء في كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وأساعد على ذلك.   1 البخاري: العلم 71 وفرض الخمس 3116 والمناقب 3641 والتوحيد 7460 , ومسلم: الإمارة 1037. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 407 كما أني سأمنع كل من يخالف كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ومذهب السلف الصالح، بيدي وقلبي ولساني، على قدر الاستطاعة. وأسأل الله التوفيق والعناية والتيسير، لي ولإخواني المسلمين، عامتهم وخاصتهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وصلى الله على سيدنا محمد، وآله وصحبه وسلم; سنة 1356 هـ. [التذكير بالدعوة والتجديد لهذا الدين والتحذير من عقوبة الله] وقال الشيخان، رحمهما الله: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبيه الأمين، محمد وآله وصحبه، والتابعين. من محمد بن عبد اللطيف، ومحمد بن إبراهيم، إلى من يراه من إخواننا المسلمين، رزقهم الله الاتعاظ والتذكر، ومنّ علينا وعليهم بالانتباه والتفكر، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أما بعد: فهذه تذكرة لنعم الله علينا وعليكم، ونصيحة تجب علينا الكتابة بها إليكم، وقد قال الله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآياتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ} [سورة إبراهيم آية: 5] . وقال تعالى: {فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [سورة الأعراف آية: 69] . وقال تعالى: {فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ} [سورة الأعراف آية: الجزء: 14 ¦ الصفحة: 408 74] . والآيات في هذا المعنى كثير. وأكبر نعمة نذكّركم بها، هي: ما منّ به مولاكم، وما خصكم به من المنحة وأولاكم، من هذه الدعوة النجدية، وتجديد الملة الحنيفية، بعد أفول شموسها، ومحو آياتها ودروسها، واعتكار ليل الإشراك، وتلاطم الضلال والهلاك، حتى عبدت في نجد كغيرها، الطواغيت والأوثان، من الأشجار والقبور والغيران. وكان المطاع والمتبع هو الشيطان، بدلا عن مضمون كلمة الإسلام والإيمان: شهادة أن لا إله إلا الله الملك الديان، وشهادة أن محمدا عبده ورسوله سيد ولد عدنان وأصبح الحق مهجورا، والباطل مؤيدا منصورا. ونشأت بدع الرفض والتجهم والاعتزال، وبدعة الاتحاد التي هي أكبر بدع الضلال، وغير ذلك من ظهور السحر والكهانة والتنجيم، وسفك الدماء، ونهب الأموال، واستحلال المحرمات، مما هو حقيقة الجاهلية الجهلاء، والضلالة العمياء. إلى أن ابلولج صبح الحق واتضح، وتجهم وجه الباطل وافتضح، بما منّ به الكريم، من الدعوة والتجديد، على يد من منحهم الله التوفيق والتسديد، وهم: الإمام الأوحد الفريد، الشيخ: محمد بن عبد الوهاب، وأنصار أئمة التوحيد آل سعود، ومن سبقت لهم سابقة السعادة والسيادة؛ ولم الجزء: 14 ¦ الصفحة: 409 تأخذهم في الله لومة لائم، ولم يثنهم عن هذا الفخر الأفخم مقاومة مقاوم. فانجلت بحمد الله من نجد وما حولها، وجنات الإشراك، وظهرت بذلك فضيحة كل مبتدع أفاك، واستضاءت بنور المحمدية المحضة أرجاء تلك الأقطار؛ وعاد عود الإسلام غصنا أخضر بعد الالتواء والاصفرار، واستقرت الشريعة في نصابها، ورجعت الفريضة إلى بابها، ونشرت أعلام الجهاد، وقامت حجة الله على العباد. وكلما اعترى أهل هذه الدعوة من نقص وانثلام، بسبب الوقوع في المعاصي والآثام، رد الله تعالى بمنّه لهم الكرة، وأعاد دولتهم المرة بعد المرة، إلى أن منّ الله بطلعة الإمام عبد العزيز بن عبد الرحمن، أيد الله به السنة والقرآن، فجمع به شمل أهل الإسلام والإيمان. فهذه والله هي النعمة العظيمة، والمنحة الجسيمة، مع ما انضم إلى ذلك من كمال التمكين في الأرض، والأمن العام، وغير ذلك من النعم التي لا يعدها ويحصيها إلا المنعم بها وموليها. فيجب علينا وعليكم رعايتها وشكرها، ويتعين التحدث بها وذكرها، فإن بالشكر استقرار النعم الموجودة، واستجلاب النعم المفقودة، قال الله تبارك وتعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [سورة إبراهيم آية: 7] . الجزء: 14 ¦ الصفحة: 410 وحقيقة الشكر: تقوى الله تعالى، بفعل ما أمر، وترك ما عنه نهى وزجر; وأصل ذلك وأعظمه، وأفرضه وألزمه، هو: توحيد الله علما وعملا وتعليما، وحثا وتحريضا وإرشادا، وهو إفراد الله تعالى بجميع أنواع العبادة، الذي دلت عليه كلمة الإخلاص: لا إله إلا الله، مطابقة. وإثبات ما أثبته لنفسه تعالى في كتابه، وأثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم في السنة، من صفات الكمال، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل؛ وهذا دلت عليه كلمة الإخلاص بالتضمن. فإن التوحيد هو الأصل الأصيل الذي لا يصح بدونه قول ولا عمل، وما ضل من ضل، ووقع في الشرك من وقع وزل إلا بالجهل بذلك، والتغافل عما هنالك. ومن لوازم التوحيد: الحب في الله، والبغض في الله، والموالاة في الله، والمعاداة في الله؛ وهذه أمور قد طوي بساطها، وانحل نظامها ورباطها؛ فإنا لله وإنا إليه راجعون. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أوثق عرى الإيمان: الحب في الله، والبغض في الله، والموالاة في الله، والمعاداة في الله. وفي الحديت الآخر: وهل الدين إلا الحب والبغض. وفي الأثر الإلهي: هل واليت لي وليا؟ أو عاديت لي عدوا؟. وقد وقع من التهاون بهذا الشأن، وعدم الغيرةعند الجزء: 14 ¦ الصفحة: 411 انتهاك محارم الله، ما يخشى بسببه أن يغضب الرب لدينه، ويغار لشرعه وحرماته، فيحل بنا من نقماته، ويوقع بنا من سطواته، ما لا قبل لنا به. فإن إضاعة أمر الله، والوقوع في حرماته، هو سبب تغيير الله النعم على أهلها، قال الله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [سورة الأنفال آية: 53] . وفي بعض الآثار الإلهية عن الرب تبارك وتعالى، أنه قال: وعزتي وجلالي، لا يكون عبد من عبيدي على ما أحب، ثم ينتقل عنه إلى ما أكره، إلا انتقلت له مما يحب إلى ما يكره. ولا يكون عبد من عبيدي على ما أكره فينتقل عنه إلى ما أحب، إلا انتقلت له مما يكره إلى ما يحب. وقال تعالى خطابا للصحابة رضي الله عنهم:: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [سورة محمد آية: 38] . وبالجملة: فنحذركم وأنفسنا، عقاب الله وسطوته؛ فإن أخذه لمن ضيع أمره ثقيل، وعذابه الدنيوي والأخروي لمن عصاه وبيل؛ فإن الخلق أهون شيء على الله، إذا أضاعوا أمره. وروى الإمام أحمد عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه، قال: لما فتحت قبرص، فرق بين أهلها، فبكى الجزء: 14 ¦ الصفحة: 412 بعضهم إلى بعض، فرأيت أبا الدرداء جالسا وحده يبكي، فقلت: يا أبا الدرداء، ما يبكيك في يوم أعز الله فيه الإسلام وأهله؟ فقال: ويحك يا جبير! ما أهون الخلق على الله إذا أضاعوا أمره، بينما هي أمة قاهرة ظاهرة، لهم الملك، تركوا أمر الله فصاروا إلى ما ترى. وقد فصل الله في كتابه مما أوقع لمن ضيع أمره، ما فيه عبرة لأولي الاعتبار، وتبصرة لذوي الأبصار. ومن الأمور المهمة: الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر ; بل لا قوام للدين إلا بذلك، وقد قال تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} الآيات سورة [آل عمران آية: 104] . وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان 1 رواه مسلم في صحيحه. والآيات والأحاديث في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كثيرة. ففي هذه الآية الكريمة من الفوائد: وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأنه لا يكفي في ذلك الأفراد; بل لا بد من عدد يحصل بهم المقصود، وتوجد منهم الكفاية.   1 مسلم: الإيمان 49 , والترمذي: الفتن 2172 , والنسائي: الإيمان وشرائعه 5008 ,5009 , وأبو داود: الصلاة 1140 والملاحم 4340 , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها 1275 والفتن 4013 , وأحمد 3/10 ,3/20 ,3/49 ,3/52 ,3/54 ,3/92. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 413 وفي حديث أبي سعيد: وجوب ذلك على كل أحد بحسب هذه المراتب، لما يفيد قوله صلى الله عليه وسلم: من رأى منكم منكرا 1 من العموم. فعلى إمام المسلمين - وفقه الله - أن يقيم في كل بلد من يقوم بهذا الشأن، ويلزم أئمة المساجد في كل بلد أن يسألوا العامة، عن ثلاثة الأصول المختصرة التي ألفها إمام هذه الدعوة، قدس الله روحه. والله سبحانه وتعالى المسئول أن يمنّ علينا وعليكم بالتوبة النصوح، وأن ينصر دينه ويعلي كلمته، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم. [التذكير بتقوى الله وتفصيل معناها وذكر أعظم المنكرات وأوجب الواجبات] وقال الشيخ محمد بن إبراهيم، رحمه الله: بسم الله الرحمن الرحيم من محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف، إلى من يراه من إخواننا المسلمين، ثبتنا الله وإياهم على الإسلام; ووفقنا وإياهم: اجتناب المعاصي والآثام، آمين، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد، فقد قال الله تعالى:: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [سورة الذاريات آية: 55] . وقال: الدين النصيحة، ثلاثاً. قيل: لِمَن يا رسول الله؟ قال: لله ولرسوله ولكتابه، ولأئمة المسلمين وعامتهم 2 فدلت الآية الكريمة والحديث على وجوب التذكير والنصيحة.   1 مسلم: الإيمان 49 , والترمذي: الفتن 2172 , والنسائي: الإيمان وشرائعه 5008 ,5009 , وأبو داود: الصلاة 1140 والملاحم 4340 , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها 1275 والفتن 4013 , وأحمد 3/10 ,3/20 ,3/49 ,3/52 ,3/54 ,3/92. 2 مسلم: الإيمان 55 , والنسائي: البيعة 4197 ,4198 , وأبو داود: الأدب 4944 , وأحمد 4/102. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 414 فالذي أوصي وأذكر وأنصح به جميع إخواني من المسلمين، ومن الولاة والعلماء وأهل الحسبة، وجميع الخاصة والعامة: أن يتقوه تعالى، فإنها هي وصية الله لعباده الأولين والآخرين، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيّاً حَمِيداً} [سورة النساء آية: 131] . وحقيقة تقوى الله: أن يجعل العبد بينه وبين غضب الله وعقابه، وقاية تقيه ذلك، بفعل الطاعات وترك المعاصي. فيجب على الولاة تقوى الله وخشيته، فيما ولّاهم الله عليه، من أمر دين المسلمين ودنياهم، كما يجب على العلماء تقوى الله تعالى وخشيته، فيما علمهم من العلم وآتاهم، والعمل بما منّ الله به عليهم من ذلك وحباهم; كما يجب على جميع من ولي أمرا من أمور المسلمين: تقوى الله وخشيته فيما ولي عليه، والنصح في ذلك والأمانة. ويجب عليهم وعلى سائر المسلمين تقوى الله وخشيته في جميع ما تعبدوا به وخلقوا له، من فعل الطاعات، وترك المعاصي والمنكرات; فأوجب الواجبات: إخلاص العمل لله وحده، وتجريد المتابعة للنبي صلى الله عليه وسلم. وأعظم المنكرات: الشرك بالله تعالى، والابتداع في الدين بشرع ما لم يأذن به الله. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 415 ومن الواجبات أيضا: تناصح المسلمين، وتذاكر بعضهم مع بعض، ومعاونة بعضهم لبعض، في القيام بفعل ما أوجب الله ورسوله، واجتناب ما نهى الله عنه ورسوله. ومن أوجب الواجبات: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، على الوجه الشرعي، وإقامة الحدود والتعازير، على المنهج المرعي، قال تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [سورة المائدة آية: 78-79] . فإن بالقيام بما فرض الله على العباد من فعل الطاعات، وترك المعاصي والفساد، صلاح البلاد والعباد، واستجلاب البركات، ودفع النقمات، وإجابة الدعوات، وإعطاء الطلبات، وقضاء الحاجات، قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [سورة الأعراف آية: 96] . وقد رأيتم ما أصاب المسلمين من الآفات في الزروع، ونقص الثمرات، ونزع البركات، وتأخر الغيث عن كثير من البلاد والفلوات، وذلك بارتكاب المعاصي والأرجاس، قال تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [سورة الروم آية: 41] . وفي الحديث: ما نزل بلاء إلا بذنب، ولا رفع إلا بتوبة. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 416 فالواجب على المسلمين: التوبة إلى الله، وحقيقتها: الإقلاع من جميع الذنوب، والندم على ما فات، والعزم على عدم العودة؛ وأن يحافظوا على أمر الدين، ومن أهمها الصلاة وهي عموده، كما في الحديث: رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة 1. وتركها تهاونا وتكاسلا كفر ناقل عن الملة، ومبيح للدم والمال، كما في الحديث: بين العبد والكفر ترك الصلاة 2. وفي الحديث الآخر: أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم، إلا بحقها 3. ومن الواجب للصلاة: أداؤها في جماعة، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه هم بالانطلاق برجال معهم حزم من حطب، إلى قوم لا يشهدون الصلاة في جماعة، فيحرق عليهم بيوتهم بالنار، وقال: لولا ما فيها من النساء والذرية لأحرقتها عليهم 4. ومن أهمها أيضا: الزكاة، وهي حق المال، ويقاتل مانعها، للحديث السابق; وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: لأقاتلن من فرّق بين الصلاة والزكاة؟ ، وفي حديث: وما منع قوم زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا 5. ومن الواجب أيضا: رد المظالم إلى أربابها وتحللهم   1 الترمذي: الإيمان 2616 , وأحمد 5/231 ,5/237. 2 الترمذي: الإيمان 2620 , وأبو داود: السنة 4678 , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها 1078 , وأحمد 3/370 , والدارمي: الصلاة 1233. 3 البخاري: الإيمان 25 , ومسلم: الإيمان 22. 4 أحمد 2/367. 5 ابن ماجه: الفتن 4019. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 417 منها؛ فإن حقوق العباد أمرها عظيم، وهي مبنية على المشاحّة والمضايقة، وهي الديوان الذي لا يترك الله منه شيئا في الآخرة. ومن فرائض الدين أيضا: اجتناب جميع المحرمات، من الزنى واللواط، وشرب المسكرات، والربا في المعاملات، والعقود المحرمة، والغش والخيانة في الأمانات، والتطفيف في المكيال والميزان، واحتكار الأقوات، واستعمال آلات الملاهي، ومخالطة الرجال بالنساء، وخلوة الرجل بالمرأة الأجنبية. والهزء بشيء من أمور الدين - بل ذلك من الكفريات -، والسرقة، وعقوق الوالدين، وقطيعة الأرحام، وأكل أموال الناس بالباطل، والكذب والخديعة للمسلم، والشحناء والتهاجر، والتباغض والتدابر، والبهت والغيبة والنميمة، والسخرية بالمسلمين، وإسبال الثياب، والكبر والحسد، وغير ذلك من المحرمات. وينبغي أيضا للمسلمين: أن يقدموا بين يدي نجواهم، وسؤالهم خالقهم ومولاهم، أنواع الصدقات، والإحسان إلى ذوي العاهات، وتحليل المسلمين بعضهم بعضا، وإكثارهم الدعوات، وتضرعهم إلى فاطر السماوات والأرض، رجاء أن يعطيهم مطلوبهم، ويغفر ذنوبهم؛ فإنه تعالى وتقدس الجواد المنان. هذا وأسأل الله الكريم أن يهدينا جميعا لما يرضيه، الجزء: 14 ¦ الصفحة: 418 ويجنبنا أسباب سخطه ومعاصيه، وينصر دينه ويعلي كلمته، وأن يغيث قلوبنا بالإيمان، وأوطاننا بالوابل الهتان؛ ويمنّ علينا بمزيد التمسك بالسنة والقرآن، وأن يقمع الكفرة والملحدين؛ ويحفظ إمام المسلمين، ويديم له الظفر والتمكين، بالهدى ودين الحق المبين، إنه على كل شيء قدير. وصلى الله على محمد، وآله وصحبه وسلم تسليما إلى يوم الدين. [التذكير بآيات الله وأيامه والتحدث بنعمة الله والتحذير من أسباب نقمه] وله أيضا، رحمه الله: بسم الله الرحمن الرحيم من محمد بن إبراهيم، إلى من تبلغه هذه النصيحة من المسلمين، رزقني الله وإياهم الفقه في الدين، ومزيد التمسك بما بعث به سيد المرسلين، ومنّ عليّ وعليهم باقتفاء آثار الصدر الأول، من سلفنا المصلحين، آمين. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فإن من أعظم فرائض الدين، التذكير بآيات الله، وأيامه في خلقه، والتحدث بنعمه، والتحذير من أسباب نقمه، لما في ذلك من أسباب حصول الخير الكثير، والسلامة من حلول العقوبات، والتغيير. قال تعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [سورة الذاريات آية: 55] . وقال تعالى: {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} [سورة ق آية: 45] . وقال تعالى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} الجزء: 14 ¦ الصفحة: 419 [سورة الضحى آية: 11] . وقال تعالى: {وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ} [سورة إبراهيم آية: 5] . وأعظم نعمة أنعم الله بها على عباده: بعثة عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق، وهما العلم النافع، والعمل الصالح; وأصل ذلك وأساسه: عبادة الله وحده لا شريك له، وترك عبادة ما سواه. فأشرقت ببعثته قلوب من استجابوا له بعد ظلامها، وخشعت ولانت بعد قسوتها، ونالوا بذلك من القوة بعد الضعف، والعز بعد الذل، والعلم بعد الجهل، ما فتحوا به البلاد وقلوب العباد؛ وعلت بذلك كلمة الله، وصارت كلمة الكفر إلى السفال والفشل والإذلال، وعزل سلطان الجاهلية والإشراك؛ فلله الحمد على ذلك. إلا أن إبليس - أعاذنا الله منه - لشدة عداوته لبني الإنسان، وعظيم تغلغله بالكفر والطغيان، ومزيد جدِّه في الصدف عن طاعة الرحمن، وإن كان قد صدر منه ما صدر من اليأس، لم يدع الجد في إطفاء هذا النور، والتنفير عن الحق، والترغيب في أنواع الكفر والإلحاد والفجور، والدعوة إلى البدع، والإكثار من الأزّ إلى المعاصي والشرور، وبث الشبه والشهوات وألوان المغريات، على أيدي حزبه ومن استجابوا له من شياطين الإنس، ومن أنواع الخدع بزينة الدنيا وزخاريفها الفتانة، وضروب الشهوات. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 420 وشتى أسباب الصد عن ذكر الله وعن الصلاة، من أجناس الملاهي وصنوف المسكرات حتى ثقل على القلوب سماع القرآن، وحصل التهاون بوعيده، وعدم الاهتمام بزواجره وتهديده، ولا سيما بعدما تصرمت أيام القرون المفضلة؛ فإنه قد اشتد الخطب، وانفتح باب الشر على مصراعيه، ولم يزل في مزيد. وإن كان ربنا تبارك وتعالى قد منّ ببقاء أصل هذا النور، وتأييد هذا الحق، بما أجراه على أيدي علماء الصدق، ورثة الرسل، من تجديد هذا الدين، وإقامة حجج الله على عباده؛ ومع ذلك فالأمر على ما وصفته، من تأثير مساعي إبليس وجنوده على الأكثر، حتى اشتدت الكربة، وصار الدين في غاية من الغربة. ولا سيما أزماننا هذه، التي صار فيها عند الأكثر المعروف منكرا، والمنكر معروفا، والسنة بدعة، والبدعة سنة، ربا على ذلك الصغير، وهرم عليه الكبير؛ وطغى طوفان المادة، وأخفى غبار الشهوات والشبهات وضوح الجادة، وفشا الجهل. وتكلم في الأمور الدينية من ليس لها بأهل، حتى صرّح من صرّح من جهلتهم، فيما يكتبونه وينشرونه، بمزيد الحث والتحريض على ما هو من أعظم ما يهدم الإسلام، وينسي أصوله العظام، وأصبحت القلوب إن لم تمت في غاية من أنواع الأمراض، مرض الجهل، ومرض الشهوة، ومرض الجزء: 14 ¦ الصفحة: 421 الشبهة، حتى استولت عليها القسوة، فإنا لله وإنا إليه راجعون. فيا لها من أمراض ما أصعبها، مع الإعراض عن الأدوية المحمدية، وما أسهلها وما أخفها، وما أسرع برؤها متى عولجت بالدواء الذي بعث الله به طبيب القلوب الأكبر صلى الله عليه وسلم. وقد سمى النبي صلى الله عليه وسلم الجهل مرضا، لما ينشأ عنه من عمى القلوب الذي هو المرض - أيّ مرض - وفيما بعث به صلى الله عليه وسلم من الكتاب والسنة لهذه الأمراض، أنجع دواء، وأنفع شفاء. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [سورة يونس آية: 57] . وقال تعالى:: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاّ خَسَاراً} [سورة الإسراء آية: 82] . فهلم إخواني نداوي هذه الأمراض، بأدوية كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم بتدبر أوامرهما ونواهيهما، ووعدهما ووعيدهما، وزواجرهما، ومذاكرة بعضنا مع بعض، وقيامنا لله مثنى وفرادى، لنتذكر ونتفكر، ونتناصح ونتآمر بالمعروف، ونتناهى عن المنكر، ونحب في الله ونبغض في الله، ونوالي في الله، ونعادي في الله، ونتعاون على البر والتقوى. ونبحث في أدوية تلك الأمراض التي تحصيلها من أسهل الجزء: 14 ¦ الصفحة: 422 شيء، عندما تحصل القلوب على الصدق في طلب هذا الدواء، والإقبال على الله في التماس السلامة من تلك الأدواء، قال تعالى:: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا} [سورة سبأ آية: 46] . هلّم إخواني نشخّص سائر أمراض قلوبنا، ونشخّص أدويتها، ونجاهد نفوسنا على معالجتها، من تلك الأمراض المهلكة، ويحض بعضنا بعضا، ويحذر كل منا نفسه وأخاه، من وبيل أخذ الله، وشديد عقابه الدنيوي والأخروي، ومن الإقامة على أسباب تغيير ما منّ الله به من التوحيد، وتحكيم الوحي المحمدي، والعز والتأييد، والأمن والصحة والهدوء: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ [سورة الرعد آية: 11] . وفي الأثر: أن الله أوحى إلى نبي من أنبياء بني إسرائيل، أن قل لقومك: إنه ليس من أهل قرية ولا أهل بيت يكونون على طاعة الله، فيتحولون منها إلى معصية الله، إلا حول الله عنهم ما يحبون إلى ما يكرهون. إخواني إن ربنا تبارك وتعالى لم يغير على قوم نوح بإهلاكهم بالطوفان، وسائر من أوقع بهم عقابه، وأحل بهم سطوته، إلا بعد أن غيروا بمعصيتهم رسله، وفسقهم عن طاعته، فاستوجبوا التدمير. : {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 423 عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً} [سورة الإسراء آية: 16-17] . هلم إخواني لإمساك بعضنا بيد بعض، وتنشيط بعضنا لبعض، إلى اليقظة والانتباه من هذه الرقدة، التي طالما انتهز عدونا فيها الفرصة. هلم إخواني للتوبة النصوح إلى ربنا، ورجوعنا مما يسخطه إلى ما يرضيه قولا وفعلا، ومعاملة لبعضنا مع بعض بإخلاص وصدق، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [سورة التوبة آية: 119] . وقال تعالى:: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [سورة التحريم آية: 8] . الجزء: 14 ¦ الصفحة: 424 [حكم التعامل بالربا وذكر أدلة تحريمه وأنواعه وتوجيه النصح لمن يتعامل به] وله أيضا، رحمه الله: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه والتابعين. من محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف، إلى من يراه من إخواننا المسلمين، جعلنا الله وإياهم ممن ينتفع يالمواعظ والنصائح، ويجتنب الخزي والندم والفضائح آمين. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أما بعد: فإنه قد بلغني، وتحققت أنه يوجد أناس يعاملون بالربا، في أشياء يأتي بيانها إن شاء الله تعالى، فرأيت من الواجب المتعين علي نصيحة إخواني المسلمين في هذا الشأن، وموعظتهم، ليعلم الجاهل، ويتنبه الغافل، ويرتدع ويتعظ المتهاون والمتغافل، وعملا بقوله صلى الله عليه وسلم: الدين النصيحة، الدين النصيحة، الدين النصيحة، قيل: لمن يا رسول الله؟ قال: لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم 1. إذا علم هذا، فالذي أوصيكم به ونفسي: تقوى الله تعالى، فإنها جماع الأمر كله، وهي وصية الله للأولين والآخرين، قال الله تعالى: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [سورة النساء آية: 131] . وهي وصية النبي صلى الله عليه وسلم لأمته، كما قال صلى الله عليه وسلم في حديث   1 مسلم: الإيمان 55 , والنسائي: البيعة 4197 , وأبو داود: الأدب 4944 , وأحمد 4/102. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 425 العرباض بن سارية: أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة 1. وأصل التقوى: أن يجعل العبد بينه وبين من يخافه ويحذره، وقاية تقيه منه، فتقوى العبد لربه: أن يجعل بينه وبين ما يخشاه من ربه من غضبه وسخطه وعقابه، وقاية تقيه منه ذلك، وهو: فعل طاعته، واجتناب معاصيه. قال عمر بن عبد العزيز، رحمه الله: ليس تقوى الله بصيام النهار، ولا بقيام الليل، والتخليط فيما بين ذلك; ولكن تقوى الله: ترك ما حرم الله، وأداء ما افترص الله، فمن رزق بعد ذلك خيرا، فهو خير إلى خير. وقال الحسن، رحمه الله، المتقون اتقوا ما حرم الله عليهم، وأدوا ما افترض الله عليهم. انتهى. فمن أعظم المعاصي والكبائر التي اجتنابها واتقاؤها من تقوى الله تعالى، التي أوجب على عباده: الربا في المبايعات، وقد ورد في الكتاب والسنة في التغليظ فيه والوعيد الشديد، ما لم يرد نظيره في غيره من الكبائر. قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبا أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [سورة آل عمران آية: 130-132] . وقال تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلاّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا   1 الترمذي: العلم 2676 , وابن ماجه: المقدمة 42 , والدارمي: المقدمة 95. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 426 الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} [سورة البقرة آية: 275-276] . وقال تعالى: {اأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِين َفَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُون َوَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [سورة البقرة آية: 278-281] . وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: اجتنبوا السبع الموبقات، قال: يا رسول الله، وما هنّ؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات 1. وفي صحيح البخاري، عن سمرة بن جندب، رضي الله عنه قال قال النبي صلى الله عليه وسلم رأيت الليلة رجلين أتياني، فأخرجاني إلى أرض مقدسة، فانطلقنا حتى أتينا على نهر من دم، فيه رجل قائم، وعلى النهر رجل بين يديه حجارة; فأقبل الرجل الذي في النهر، فإذا أراد أن يخرج، رمى   1 البخاري: الوصايا 2767 , ومسلم: الإيمان 89 , والنسائي: الوصايا 3671 , وأبو داود: الوصايا 2874. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 427 الرجل بحجر في فيه، فرده حيث كان، فجعل كلما جاء ليخرج رمى في فيه بحجر فرجع كما كان، فقلت: ما هذا الذي رأيته في النهر؟ قال: آكل الربا وفي صحيح مسلم عن جابر، رضي الله عنهما، قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا، وموكله، وكاتبه، وشاهديه، وقال: هم سواء 1. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: إذا ظهر الربا والزنى في قرية، فقد أحلوا بأنفسهم عذاب الله، وقال ابن مسعود رضي الله عنه: ما ظهر الزنى والربا في قرية إلا أذن الله بخرابها. وبالجملة: فقد دلت النصوص على أن الربا من أعظم الكبائر والمحرمات، ومن أبلغ أسباب نزع البركات، وحلول النقمات، والقلة والذلة، ومحاربة فاطر الأرض والسماوات; فمن أنواعه - التي يتعاطاها من قلّ نصيبه من مخافة الله - البيع بالعينة، وهي: أن يبيع شيئا بثمن مؤجل، ثم يشتريه البائع، أو شريكه، أو وكيله من المشتري بأقل مما باعه به، وهذا لا يجوز، لما روى أحمد وأبو داود، عن ابن عمر، رضي الله عنهما، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلا، لا ينْزعه حتى ترجعوا إلى دينكم 2. ولما روى غندر عن شعبة عن أبي إسحاق السبيعي، عن امرأته العالية قالت: دخلت أنا وأم ولد   1 النسائي: الزينة 5103 , وأحمد 1/87. 2 أبو داود: البيوع 3462 , وأحمد 2/28 ,2/42 ,2/84. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 428 زيد بن أرقم، على عائشة رضي الله عنها، فقالت أم ولد زيد بن أرقم: إني بعت غلاما من زيد بثمانمائة درهم إلى العطاء، ثم اشتريته منه بستمائة درهم نقدا، فقالت لها: بئسما شريت، وبئسما اشتريت، أبلغي زيدا أن جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بطل إلا أن يتوب رواه أحمد. ومن أنواع الربا: قلب الدين على المعسر، وله صور، منها: أن يكون للتاجر عند الفلاح المعسر دراهم حالة، ثمن مبيع أو غيره، فإذا طلبت منه اعتذر بالعسرة; فيقول له التاجر: أكتبها عليك بزاد؟ فيجيبه المعسر إلى ذلك، فيقلبها بزاد في ذمته; فهذا لا يجوز، ولا يصح، لأنه بيع دين بدين، وهو ممنوع عند عامة أهل العلم، لكونه من أنواع الربا، وهو: بيع الكالئ بالكالئ، المنهي عنه في الحديث، فإن معنى الكالئ بالكالئ: المؤخر بالمؤخر. ولأنه سلم لم يقبض رأس ماله، ومن شرط الصحة للسلم: قبض رأس ماله في مجلس العقد، لحديث: من أسلف في شيء، فليسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم 1 وإنما سمي سلفا وسلما: لتسليم رأس المال وتقديمه، وقبضه في المجلس. ولكن من الناس من لا يصرح بقلب الدين، مخافة الإنكار عليه، فيتوصل إلى غرضه الفاسد بالحيلة المحرمة، بإظهار عقد سلم، فيدفع إلى الفلاح دراهم هي رأس المال السلم في الظاهر، وبعدما يقبضها الفلاح، يردها إلى التاجر   1 البخاري: السلم 2239 , ومسلم: المساقاة 1604 , والترمذي: البيوع 1311 , والنسائي: البيوع 4616 , وأبو داود: البيوع 3463 , وابن ماجه: التجارات 2280 , وأحمد 1/217 ,1/222 , والدارمي: البيوع 2583. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 429 عما في ذمته من الدراهم، ويسمون هذا تصحيحا، وهو باطل غير صحيح، إذ العبرة في الأشياء بحقائقها، فإن حقيقة هذا العقد، هو: قلب الدين المحرم; يوضح هذا: أنه لا يدع الفلاح يقوم بالدراهم من المجلس، وأنه لو يعلم أنه لا يوفيه منها، أو أنه يوفيه حقه من دون الكتب عليه، ما كتب عليه لعسرته وعدم ملاءته. وأما إذا كان الفلاح مليا، يرغب كل أحد معاملته، فأسلم التاجر إليه دراهم في زاد، وبعدما قبضها الفلاح منه، دفعها إليه وفاء عن الدراهم الحالة التي له عليه، من غير شرط ولا مواطأة، فهذا لا بأس به، لكن الأولى: أن لا يقبضها منه إلا بعدما يذهب بها، وتكون عنده نحو يوم أو يومين احتياطا، وبعدا عن الشبهة; والله سبحانه وتعالى أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وآله، وصحبه وسلم. [على جميع المسلمين اجتناب الربا وما حرم الله في جميع معاملاتهم] بسم الله الرحمن الرحيم من عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل، إلى من يراه من المسلمين، وعلى الأخص الأمراء والقضاة. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: فإن ما تقدم أعلاه، هو نصيحة من الشيخ محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف، حفظه الله، فنرجو من جميع من اطلع عليها من المسلمين العمل بموجبها، ومخافة الله وتقواه في ذلك، وعلى جميع المسلمين اجتناب الربا في جميع معاملاتهم، وأن الجزء: 14 ¦ الصفحة: 430 يتوب من كان يتعامل بما حرمه الله من البيع، وأن يرجع إلى رأس ماله. فكل من عومل بالربا فعليه مراجعة صاحبه ليمتنع عن أخذ الربا منه، فإن فعل فالحمد لله، وإلا عليه مراجعة القاضي المنصوب من قبلنا. وعلى سائر قضاتنا الذين يرفع لهم أي: أمر في الربا أن يحكموا برأس المال لصاحبه، وأن يبطلوا ما زاد على ذلك من الربا في جميع أحكامهم. والأمر من ذمتنا في ذمتهم، ونسأل الله لنا ولجميع المسلمين التوفيق، وأن يمنعنا مما يغضبه، ويقربنا لما يحبه ويرضاه، إنه سميع مجيب، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم، في 30 ربيع الأول سنة 1361 هـ. [الوصية بتقوى الله وما يجب على ولاة الأمور وسائر المسلمين] وقال الشيخ: محمد بن إبراهيم، رحمه الله. بسم الله الرحمن الرحيم من محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف آل الشيخ، إلى من تبلغه هذه النصيحة من المسلمين، سلك الله بي وبهم صراطه المستقيم، ووفقني وإياهم للتمسك بشرائع الدين القويم، وجنبني وإياهم جميع الأسباب والوسائل المفضية بسالكها إلى سبيل الجحيم. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فالموجب لهذا، هو تذكيركم، والنصيحة لكم، امتثالا لقول الله تعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [سورة الذاريات آية: 55] . وقوله صلى الله عليه وسلم الدين الجزء: 14 ¦ الصفحة: 431 النصيحة، الدين النصيحة، الدين النصيحة، قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم 1. فأذكركم بما منّ الله به عليكم من التوحيد، ومعرفة دين الإسلام، والاهتداء بهديه، والاستضاءة بنوره، مع ما انضم إلى ذلك مما أنعم الله به من هذه الولاية الدينية العامة، التي ساد الأمن فيها وانتشر، وجرت ونفذت فيها أحكام الشريعة الإسلامية، على الكبير والصغير، والحر والعبد، فلله ربنا مزيد الحمد والثناء. فاشكروا عباد الله هذه النعمة، واغتبطوا بها، وارعوها حق رعايتها، واقدروها حق قدرها، وتحدثوا بها كثيرا، وتواصوا فيما بينكم بالتمسك بما يحفظها، والتحذير من ارتكاب أسباب زوالها وفرارها. فإن النعم إذا شكرت درّت وتزايدت وقرت، وإذا كفرت تناقصت وانمحقت وفرت، قال الله تبارك وتعالى:: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [سورة إبراهيم آية: 7] . وأنصحكم وأوصيكم بتقوى الله تبارك وتعالى، فإنها هي وصية الله للأولين والآخرين، قال الله تعالى:: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [سورة النساء آية: 131] . وحقيقة التقوى: أن يجعل العبد   1 مسلم: الإيمان 55 , والنسائي: البيعة 4197 , وأبو داود: الأدب 4944 , وأحمد 4/102. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 432 بينه وبين غضب الله وعقابه، وقاية تقيه ذلك، بفعل الطاعات، وترك المعاصي. فيجب على الولاة: تقوى الله وخشيته فيما ولاهم الله عليه، من أمر دين المسلمين ودنياهم; كما يجب على العلماء: تقوى الله وخشيته، فيما علمهم الله من العلم وآتاهم، والعمل بما منّ الله عليهم من ذلك وحباهم، وكما يجب على جميع من ولي أمرا من أمور المسلمين: تقوى الله وخشيته فيما ولي عليه، والنصح في ذلك والأمانة. ويجب عليهم وعلى سائر المسلمين: تقوى الله وخشيته، في جميع ما خلقوا له، وتعبدوا به، وعلقت أمانته في أعناقهم، من فعل الطاعات، وترك المعاصي والمنكرات. فأوجب الواجبات: إخلاص العمل لله وحده، وتجريد المتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم وأنكر المنكرات: الشرك بالله، والابتداع في الدين بشرع ما لم يأذن يه الله. ومن أهم فرائض الدين: الصلاة، وهي أعظم أركان الإسلام بعد الشهادتين، وهي عمود الدين، كما في الحديث: رأس هذا الأمر الإسلام، وعموده الصلاة 1. وتركها ولو تهاونا وكسلا، كفر ناقل عن الملة، ومبيح للدم والمال; كما في الحديث: بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة 2. وفيه أيضا: العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن   1 الترمذي: الإيمان 2616 , وأحمد 5/231 ,5/237. 2 الترمذي: الإيمان 2620 , وأبو داود: السنة 4678 , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها 1078 , وأحمد 3/370 , والدارمي: الصلاة 1233. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 433 تركها فقد كفر 1. وفيه أيضا: أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك، عصموا مني دماءهم وأموالهم، إلا بحقها 2. ومما يجب للصلاة: أداؤها في جماعة، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه همّ بالانطلاق برجال معهم حزم من حطب، إلى قوم لا يشهدون الصلاة في جماعة، فيحرق عليهم بيوتهم بالنار، وفي رواية: لولا ما فيها من النساء والذرية أحرقتها عليهم 3. ومن أهم واجبات الدين أيضا: أداء الزكاة، وهي آكد أركان الإسلام، بعد الشهادتين والصلاة، وهي حق المال؛ ويقاتل مانعها للحديث المتقدم، وقال الخليفة الراشد، أبو بكر الصديق، رضي الله عنه: لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة. ويلتزم فيها الإخلاص، وأن لا تعطى إلا مستقحها شرعا، والأفضل أن يخصر بصدقته أقاربه الذين لا تلزمه مؤونتهم؛ أما إعطاء الزكاة لمن لا يستحقها، أو لأقاربه الذين تلزمه مؤونتهم؛ فإنه لا تبرأ به ذمته، ولا يجزيه في تأديتها; وتدفع زكاة الأموال الظاهرة إلى الساعي، وتبرأ بذلك الذمة. وعلى الولاة في ذلك تقوى الله، بأن يصرفوا ما جبوه من ذلك مصارفه الشرعية. ومن واجبات الدين: صيام شهر رمضان، وهو أحد   1 الترمذي: الإيمان 2621 , والنسائي: الصلاة 463 , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها 1079 , وأحمد 5/346. 2 البخاري: الإيمان 25 , ومسلم: الإيمان 22. 3 أحمد 2/367. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 434 أركان الإسلام الخمسة، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [سورة البقرة آية: 183] . وفي الحديث: من أفطر يوما من رمضان من غير عذر، لم يجزه صيام الدهر وإن صامه 1. وقد ورد في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يبشر أصحابه عند قدوم رمضان، فيقول: قد جاءكم شهر رمضان، شهر مبارك، كتب الله عليكم صيامه؛ تفتح فيه أبواب السماء، وتغلق فيه أبواب جهنم، وتغل فيه الشياطين. فيه ليلة خير من ألف شهر، من حُرِم خيرها فقد حُرِم 2. وينبغي للصائم أن يلزم في صيامه جانب الأدب والوقار، وأن يكون لسانه رطبا من ذكر الله، وتلاوة كتابه العزيز. وعليه أن يحفظ لسانه ونفسه، عن كل ما يفسد عليه صيامه، من الغيبة والبهت والنميمة، وجميع أنواع المعاصي والفجور، ففي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه 3. وروى الإمام أحمد، عن عبيد مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن امرأتين صامتا، وأن رجلا قال: يا رسول الله، إن هاهنا امرأتين قد صامتا، وإنهما قد كادتا أن تموتا من العطش، فأعرض عنه أو سكت. ثم عاد - وأراه قال: بالهاجرة – قال:   1 الترمذي: الصوم 723 , وأبو داود: الصوم 2396 , وابن ماجه: الصيام 1672 , وأحمد 2/458 ,2/470 , والدارمي: الصوم 1714. 2 النسائي: الصيام 2106 , وأحمد 2/230. 3 البخاري: الصوم 1903 , والترمذي: الصوم 707 , وأبو داود: الصوم 2362 , وابن ماجه: الصيام 1689 , وأحمد 2/452 ,2/505. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 435 يا نبي الله، إنهما والله ماتتا، أو كادتا أن تموتا. قال: ادعهما، فجاءتا; فقال: فجيء بقدح أو عس، فقال لإحداهما: قيئي، فقاءت قيحا ودما وصديدا ولحما، حتى ملأت نصف القدح. ثم قال للأخرى: قيئي، فقاءت من قيح وصديد ولحم عبيط، حتى ملأت نصف القدح. ثم قال: إن هاتين صامتا عما أحل الله لهما، وأفطرتا على ما حرم الله عليهما، جلست إحداهما إلى الأخرى، فجعلتا تأكلان لحوم الناس 1. ومن واجبات الدين، وأحد أركان الإسلام: حج بيت الله الحرام على المستطيع، قال الله تعالى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [سورة آل عمران آية: 97] . وقال أبو هريرة رضي الله عنه: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: فقال: يا أيها الناس، إن الله قد فرض عليكم الحج، فحجوا 2 الحديث. وعلى الحاج: أن يجتنب في حجه الرفث والفسوق والمراء، وأن لا يقصد بحجه رياء ولا سمعة، وأن يطيب نفقته في الحج، وأن لا تكون من كسب حرام؛ فبذلك يتم بر حجه، ويتحقق له الثواب الجزيل وهو الجنة، كما في الحديث: الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة 3. وهنا أمر ينبغي التفطن له، وهو: أن كثيرا ممن يحج لا يهتم من هذه الفريضة، فلا يتعلم أحكامها، ولا يسأل أهل   1 أحمد 5/431. 2 مسلم: الحج 1337 , والنسائي: مناسك الحج 2619 , وأحمد 2/508. 3 البخاري: الحج 1773 , ومسلم: الحج 1349 , والترمذي: الحج 933 , والنسائي: مناسك الحج 2622 ,2629 , وابن ماجه: المناسك 2888 , وأحمد 2/246 ,2/461 ,2/462 , ومالك: الحج 776. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 436 العلم عن ذلك; وقد قال تعالى: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [سورة النحل آية: 43] . ولهذا يقع من كثير من هؤلاء الإخلال ببعض الواجبات، وفعل بعض المحظورات، مما قد يفسد حجه من أصله، أو ينقصه التنقيص الذي يأثم به. ومن واجبات الدين: تناصح المسلمين، وتذاكر بعضهم مع بعض، في القيام بفعل ما أمر الله به ورسوله، واجتناب ما نهى الله عنه ورسوله. ومن أوجب الواجبات: الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، على الوجه الشرعي، وإقامة الحدود، والتعازير على المنهج الشرعي، قال الله تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [سورة آل عمران آية: 110] . وقال صلى الله عليه وسلم لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يد السفيه، ولتأطرنه على الحق أطرا; أو ليضربن الله قلوب بعضكم ببعض، ثم يلعنكم كما لعن من قبلكم 1. قال الله تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ تَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ   1 أبو داود: الملاحم 4336. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 437 بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [سورة المائدة آية: 78-81] . فإن بالقيام بما فرض الله على العباد من فعل الطاعات، وترك المعاصي، والفساد، صلاح البلاد والعباد، واستجلاب للبركات ودفع للنقمات، وسبب إجابة الدعوات، قال الله تعالى:: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [سورة الأعراف آية: 96] . وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالأِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ الآية} [سورة المائدة آية: 66] . وبالجملة: فكل فساد ونقص في العلوم والأعمال، والعقول والسياسة، والمعايش، وغير ذلك، فسببه المعاصي، قال الله تعالى:: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [سورة الروم آية: 41] . وقال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [سورة الشورى آية: 30] . ومن الواجب أيضا رد المظالم إلى أربابها، أو تحللهم منها; فإن حقوق العباد أمرها عظيم، وهي مبنية على المشاحة والمضايقة; وهي الديوان الذي لا يترك الله منه شيئا في الآخرة. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 438 ومن فرائض الدين، أيضا: اجتناب المحرمات، من الزنى، واللواط، وشرب المسكرات، والربا في المعاملات، والعقود المحرمة، والغش والخيانة في الأمانات، والتطفيف في المكيال والميزان، واستعمال آلات الملاهي، ومخالطة الرجال بالنساء، وخلوة الرجل بالمرأة الأجنبية، والسرقة، وعقوق الوالدين، وقطيعة الأرحام، وأكل أموال الناس بالباطل، وأكل مال اليتيم، والتهاجر، والتباغض، والتدابر، والبهت، والغيبة، والكذب، والخديعة للمسلم، والشحناء والسخرية بالمسلمين، وإسبال الثياب، والكبر والحسد، وغير ذلك من المحرمات. ومنها أيضا: الاستهزاء بشيء من أمور الدين، بل ذلك من الكفريات. ومن المحرمات أيضا: التشبه بالكفار في أعمالهم، وزيهم من لباس وغيره، قال صلى الله عليه وسلم: ومن تشبه بقوم فهو منهم 1. ومن أعظم الفروض، وأهم ما يهتم به: اعتناء المسلمين بنشئهم، وأن يوجهوهم التوجيه الديني النافع لهم، في دنياهم وأخراهم، وأن يأخذوهم بالتزام أصولهم الدينية، التي هي التمسك بكتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، واعتقاد ما اعتقده السلف الصالح، مما نالوا به العزة والكرامة، وحازوا به شرف الدنيا والآخرة، وأن يغلقوا عنهم جميع الأبواب،   1 أبو داود: اللباس 4031. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 439 العائدة بفساد عقائدهم وأخلاقهم. قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [سورة التحريم آية: 6] . هذا، وأسأل الله عز وجل أن ينصر دينه ويعلي كلمته، وأن يوفق إمام المسلمين، وأن يأخذ بنواصينا جميعا، وأن يتولانا بلطفه، ويشملنا بعفوه، إنه على كل شيء قدير، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا; 14/9/1373 هـ. [النصح بفريضة الزكاة والحكمة في تشريعها والأشياء التي تجب فيها] وله أيضا، رحمه الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم من محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف آل الشيخ، إلى من يبلغه من المسلمين، وفقني الله وإياهم إلى صراطه المستقيم، آمين. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فإني أحمد الله رب العالمين، وأصلي وأسلم على رسول الله وخاتم النبيين، نصح أمته، وقال فيما صح عنه: الدين النصيحة 1 وأنزل الله عليه:: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [سورة الذاريات آية: 55] . ثم إن الباعث لكتابة هذه الكلمة، هو: النصح والتذكير   1 مسلم: الإيمان 55 , والنسائي: البيعة 4197 ,4198 , وأبو داود: الأدب 4944 , وأحمد 4/102. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 440 بفريضة الزكاة، التي تساهل بها بعض الناس، وغفلوا عنها، مشتغلين بتدبير أموالهم عن فريضة من فرائض الدين، وركن من أركان الإسلام، يكفر جاحده، وتقاتل الطائفة الممتنعة من أدائه. ولقد ذكر الله في كتابه الزكاة مقرونة بالصلاة، فقال تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [سورة البقرة آية: 43] . وقال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [سورة البينة آية: 5] . وأمر تعالى رسوله بأخذها، حيث يقول: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [سورة التوبة آية: 103] . وجاء الوعيد الشديد على من بخل بها وقصر فيها، قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لانْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} [سورة التوبة آية: 34-35] . وفي الحديث الصحيح: ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي حقها، إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار، فأحمي عليها في نار جهنم، فيكوى بها جنبه وجبينه وظهره، كلما بردت أعيدت له، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضى بين العباد 1. وفي الصحيح: من آتاه الله مالا فلم يؤد زكاته، مُثِّل   1 مسلم: الزكاة 987 , وأحمد 2/262. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 441 له يوم القيامة شجاعا أقرع، له زبيبتان يطوق به يوم القيامة، ثم يأخذ بلهزمتيه - يعني شدقيه - ثم يقول: أنا مالك، أنا كنْزك 1. ولا يخفى ما منّ الله به على عباده، من نعمة المال، ولا سيما في هذا الزمن الذي تكاثرت فيه المصالح والخيرات، واتسعت فيه أسباب الرزق، وتضخمت فيه أموال كثير من الناس؛ وما الأموال إلا ودائع في أيدي الأغنياء، وفتنة وامتحان لهم من الله، لينظر أيشكرون أم يكفرون. ومن شكرها وقيد النعمة فيها: أداء زكاتها، والصدقة على الفقراء والمساكين، والإنفاق مما استخلفهم الله فيه، قال تعالى: {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ} [سورة الحديد آية: 7] . ومن الحكمة في تشريع الزكاة: مواساة الأغيناء لإخوانهم الفقراء؛ فلو قام الأغنياء بهذه الفريضة حق القيام، وصرفوا الزكاة مصرفها الشرعي، لحصل للفقراء والمساكين ما يكفيهم، ولا يحتاجون معه إلى غيره. أما إذا منع الأغيناء ما أوجب الله عليهم من فريضة الزكاة، فإنه ينشأ من هذا أضرار ومفاسد كثيرة، من تعريض العبد نفسه للعذاب العظيم، وكراهة الله والناس له، وتسبب لإهلاك المال، وانتزاع البركة منه، ففي الحديث: ما خالطت الزكاة مالا قط إلا أهلكته ومن ظلم للفقراء والمساكين، وإيصال الضرر إليهم، ودعوة   1 البخاري: الزكاة 1403 , والنسائي: الزكاة 2482 , وأحمد 2/276 ,2/355. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 442 لهم إلى ارتكاب شتى الحيل، في الحصول على لقمة العيش، والتعرض للوقوف في المواقف الحرجة، والإلحاح في السؤال، بل ربما اضطرتهم فاقتهم وشدة الحاجة إلى السرقة، والإقدام على بعض الجرائم، لما يقاسونه من آلام الفقر والمسكنة التي لو أحس بها الغني يوما من الدهر، لتغيرت نظرته إليهم، ولعرف عظيم نعمة الله عليه. وإذا كان في الزكاة مصلحة للفقراء والمساكين، وبهم ضرورة إليها، فإن فيها مصلحة لأرباب الأموال، وبهم ضرورة إلى أدائها، من تطهير وتزكية لهم، وبعد عن البخل المذموم، وقرب من فعل الكرم والجود، واستجلاب للبركة والزيادة والنماء، وحفظ للمال، ودفع للشرور عنه. ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: من أدى زكاة ماله فقد ذهب عنه شره رواه الطبراني، وابن خزيمة في صحيحه; وعن أنس رضي الله عنه قال: أتى رجل من تميم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إني ذو مال كثير، وذو أهل وولد وحاضرة، فأخبرنى كيف أصنع؟ وكيف أنفق؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تخرج الزكاة من مالك، فإنها طهرة تطهرك، وتصل أقرباءك، وتعرف حق المسكين، والجار، والسائل 1 رواه أحمد. وعن الحسن رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: حصنوا أموالكم بالزكاة، وداووا مرضاكم بالصدقة، واستقبلوا أمواج البلاء بالدعاء والتضرع رواه أبو داود في   1 أحمد 3/136. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 443 المراسيل; وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يدعو لمن جاء بالزكاة، فتارة يقول: اللهم بارك له وتارة يقول: اللهم صل عليه. هذا وقد تولى الله قسمة الزكاة بنفسه، وجزأها إلى ثمانية أجزاء. أما الأشياء التي تجب فيها الزكاة، فهي: أربعة أصناف: الخارج من الأرض كالحبوب والثمار، وبهيمة الأنعام، وعروض التجارة، والذهب والفضة; وقد تجب في غيرهن. ولكل من هذه الأصناف الأربعة نصاب محدود، لا تجب الزكاة فيما دونه. فنصاب الحبوب والثمار: خمسة أوسق; وأدنى نصاب الغنم: أربعون شاة; وأدنى نصاب الإبل: خمس; وأدنى نصاب البقر: ثلاثون; ونصاب الفضة: مائتا درهم; ونصاب الذهب: عشرون مثقالا. فإذا ملك الإنسان نصابا من الذهب، وقدره: أحد عشر جنيها ونصف تقريبا من الجنيهات السعودية، ومثله من الجنيه الإفرنجي; أو ملك نصابا من الفضة وقدره: سته وخمسون ريالا عربيا تقريبا، وحال عليه الحول وجبت فيه الزكاة، ربع العشر. وكذلك الأوراق التي كثرت في أيدي الناس، وصار التعامل بها أكثر من غيرها، فإذا ملك الإنسان منها ما يقابل نصابا من الفضة، وحال عليها الحول، فإنه يخرج منها زكاتها: ربع عشرها. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 444 أما العروض، وهي: ما اشتراها الإنسان للربح، فإنها تقوم في آخر العام، ويخرج ربع عشر قيمتها; وإذا كان للإنسان دين على أحد، فإنه يزكيه إذا قبضه، فإن كان الدين على مليء، فالأفضل أن يزكيه عند رأس الحول، وله أن يؤخر زكاته حتى يقبضه. ويجب إخراج الزكاة في بلد المال إلا لعذر شرعي، ولا حظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب; ولا يجوز صرفها لغير أهلها الثمانية، الذين ذكرهم الله بقوله:: {نَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [سورة التوبة آية: 60] . والزكاة حق الله فلا تجوز المحاباة بها، ولا أن يجلب الإنسان بها لنفسة نفعا أو يدفع ضرا; فاتقوا الله أيها المسلمون، وتذكروا ما أوجب الله عليكم من الزكاة، وما يقاسيه الفقراء والمساكين، من ويلات الفقر والفاقة، وبادروا إلى إخراج زكاة أموالكم طيبة بها نفوسكم، خالصة لوجه الله، لا منّ فيها ولا أذى، ولا رياء ولا سمعة. واغتنموا الفرصة قبل فوات الأوان، قال تعالى:: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [سورة البقرة آية: 254] . جعلني الله وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، ونفعنا بهذه الذكرى، وهدانا جميعا إلى طريق الحق الجزء: 14 ¦ الصفحة: 445 والخير والفلاح، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم، في 10 / 9 /1375 هـ. [تحريم الغش والكتمان وذكر أنواع من المعاصي وكونها سبب كل نقص] وله أيضا رحمه الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم من محمد بن إبراهيم، إلى من يراه من المسلمين، وفقني الله وإياهم لقبول النصائح، وجنبنا جميعا موجبات المخازي والفضائح، آمين. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فإن الله تبارك وتعالى، قد أوجب النصيحة والبيان، وحرّم الغش والكتمان، قال الله تعالى:: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} [سورة آل عمران آية: 187] . وقال النبي صلى الله عليه وسلم: الدين النصيحة ... 1 إلى آخره. وقد أمر الله بالتذكير، وأخبر أن الذكرى تنفع المؤمنين فقال تعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [سورة الذاريات آية: 55] . وقال تعالى: {وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ} [سورة إبراهيم آية: 5.] ، وهذا يشمل التذكير بالنصوص القرآنية، وصحاح الأحاديث النبوية، المشتملة على الأمر بطاعة الله سبحانه وتعالى، وطاعة رسله، والتحذير من معصيته ومعصية رسله. وبيان ما في امتثال أوامره، وترك زواجره، من حصول الخيرات، وحلول البركات، واندفاع النقمات، وما في   1 مسلم: الإيمان 55 , والنسائي: البيعة 4197 ,4198 , وأبو داود: الأدب 4944 , وأحمد 4/102. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 446 معصيته تعالى ومخالفة أمره، من محق البركات في العلوم، والأعمال، والأعمار، والمكاسب وجميع التصرفات. ويشمل أيضا: التذكير بأيام الله تعالى في خلقه، وما أحل بمن عصوا رسله من المثلات، وسائر ألوان الأخذ والعقوبات، مما يكون من أعظم واعظ، لمن في قلبه أدنى حياة. إذا عرف ذلك فإن المعاصي هي أسباب كل نقص وشر وفساد، في الأديان والبلاد والعباد، كما قال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [سورة الشورى آية: 30] ، فما أهبط الأبوين من الجنة دار اللذة والنعيم، والبهجة والسرور، إلى دار الآلام والأحزان والمصائب، إلا معصيتهما بأكلهما لقمة من الشجرة التي نهيا عن الأكل منها. وما أخرج إبليس من ملكوت السماء، وطرده ولعنه، ومسخ ظاهره وباطنه، وجعلت صورته أقبح صورة وأشنعها، وباطنه أقبح من صورته وأشنع، غير معصيته بامتناعه من سجدة واحدة أن يسجدها. وما الذي أغرق أهل الأرض كلهم، حتى علا الماء فوق رؤوس الجبال؟ وما الذي سلط الريح العقيم على قوم عاد، حتى ألقتهم موتى على وجه الأرض، كأنهم أعجاز نخل خاوية؟. وما الذي رفع قرى اللوطية حتى سمعت الملائكة نباح الجزء: 14 ¦ الصفحة: 447 كلابهم، ثم قلبها عليهم وأتبعوا بحجارة من سجيل؟ وما الذي أرسل على قوم شعيب سحاب العذاب كالظلل، فلما صار فوق رؤوسهم أمطر عليهم نارا تلظى؟ وما الذي أغرق فرعون وقومه في البحر، ثم نقلت أرواحهم إلى نار جهنم؟ فأبدانهم للغرق وأرواحهم للنار والحرق، إلا المعاصي؛ فإنها هي التي دمرت عليهم، وأصارتهم إلى سوء عاقبة في الدنيا والآخرة. ومن ثمرات المعاصي: حرمان العلم، وحرمان الرزق، كما في المسند إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه 1. ومنها: وحشة يجدها العبد بينه وبين الله، وبينه وبين الناس، لا سيما أهل الخير منهم، وتعسير أموره؛ فلا يتوجه لأمر إلا وجده مغلقا، أو متعسرا عليه. ومنها: حرمان الطاعة. ومنها: ظلمة القلب وجبنه ووهنه، ووهن البدن، وتقصير العمر، ومحق بركته، فإن البر كما يزيد بالعمر، فإن الفجور ينقصه. ومنها: انسلاخ القلب من استقباحها، فتصير له عادة؛ والمعصية سبب لهوان العبد على ربه، وسقوطه من عينه، وتورث الذل ولا بد، وتفسد العقل، وإذا تكاثرت طبع على قلب صاحبها، وتدخل العبد تحت لعنة الله؛ وتحدث في الأرض أنواعا من الفساد في المياه والهواء، والزروع والثمار، والمساكن والأشجار.   1 أحمد 5/280. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 448 قال الله تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [سورة الروم آية: 41] ، قال مجاهد: إذا تولى سعى في الأرض بالتعدي والظلم، فيحبس الله بذلك القطر، فيهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد; وقال ابن زيد: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [سورة الروم آية: 41] ، قال: الذنوب; ولا منافاة بين القولين، فإن الآية تشمل هذا وهذا. وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: كنت عاشر عشرة رهط من المهاجرين، عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بوجهه، فقال: يا معشر المهاجرين: خمس خصال، وأعوذ بالله أن تدركوهن: ما ظهرت الفاحشة في قوم حتى أعلنوا بها، إلا ابتلوا بالطواعين، والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا. ولا نقص قوم المكيال، إلا ابتلوا بالسنين، وشدة المؤونة، وجور السلطان. وما منع قوم زكاة أموالهم، إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا. ولا خفر قوم العهد، إلا سلط الله عليهم عدوا من غيرهم، فأخذوا بعض ما في أيديهم. وما لم تعمل أئمتهم بما أنزل الله في كتابه، إلا جعل الله بأسهم بينهم وعن ابن عباس، رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما طفف قوم كيلا، ولا بخسوا ميزانا، إلا الجزء: 14 ¦ الصفحة: 449 منعهم الله عز وجل القطر. وما ظهر في قوم الزنى، إلا ظهر فيهم الموت. وما ظهر في قوم الربا، إلا سلط الله عليهم الجنون. ولا ظهر في قوم القتل يقتل بعضهم بعضا إلا سلط الله عليهم عدوهم. ولا ظهر في قوم عمل قوم لوط، إلا ظهر فيهم الخسف. وما ترك قوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إلا لم ترفع أعمالهم، ولم يسمع دعاؤهم. ولا شيء يستجلب به الرزق، بل وكل خير، ويستدفع به كل سوء وشر، غير التوبة إليه سبحانه، بالرجوع عما يكرهه من المعاصي، إلى ما يحبه من الطاعة، بأن يحقق العباد توحيدهم، ويباعدوا جميع ما ينافيه أو ينقصه، أو يقدح فيه؛ ويحافظوا على فرائض دينهم، من إقامة الصلوات الخمس في جماعة، وأداء الزكاة وغير ذلك. ويجتنبوا محارمه من أنواع الفواحش، وأجناس المسكرات والمخدرات، والمفترات، والربا في المعاملات، والخيانة في الأمانات، واستعمال أنواع الملهيات، الصادة عن ذكر الله وعن الصلاة، وكافة المحرمات. فعلى المسلمين عموما وخصوصا: التوبة إلى ربهم، والتآمر بالمعروف والتناهي عن المنكر، فيما بينهم، وتعاون بعضهم مع بعض، فيما يصلح دينهم الذي به صلاح معاشهم، والفوز في معادهم. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 450 هذا وأسأل الله تعالى أن ينصر دينه، ويعلي كلمته، ويحفظ إمام المسلمين من كل نواحيه، ويزيده من التوفيق لمحاب الله ومراضيه، ويقمع به كل فساد، ويصلح بمساعيه البلاد والعباد. وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم; حرر في 10 / 3 /1376 هـ. [حث المسلمين على إخراج الزكاة وما تجب فيه وبيان الوعيد على تركها وحكم صدقة التطوع] وله أيضا رحمه الله: بسم الله الرحمن الرحيم من محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف، إلى من تبلغه هذه النصيحة من إخواننا المسلمين، سلك الله بنا وبهم صراطه المستقيم، وجنبنا وإياهم سبل أصحاب الجحيم، ووفقنا جميعا للتمسك بشرائع الدين القويم، آمين. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أما بعد: فالموجب لهذه الكلمة، هو النصيحة والشفقة، وإقامة الحجة، والإعذار من كتمان ما يلزم بيانه للناس. ومن أهم ذلك في هذه الأيام: بيان ما يلزم من أحكام الزكاة التي هي ثالث أركان الإسلام، وثانية الصلاة وقرينتها، قرنها الله تعالى بالصلاة في نيف وثلاثين موضعا من كتابه العزيز، لكون هذه الأيام غالبا وقت إخراج الزكاة، ولمزيتها بمضاعفة الحسنات. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 451 وورد الوعيد الشديد على تركها، والتغليظ في منعها، قال الله تعالى: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [سورة آل عمران آية: 180] . وقال تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لانْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} [سورة التوبة آية: 34-35] . وهذا الوعيد مفسر بالحديث الصحيح، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: من آتاه الله مالا فلم يؤد زكاته، مُثِّل له يوم القيامة شجاعا أقرع، له زبيبتان، يطوّقه يوم القيامة، ثم يأخذ بلهمزمتيه - يعني شدقيه - ويقول: أنا مالك، أنا كنْزك 1، ثم تلا هذه الآية: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} الآية [سورة آل عمران آية: 180] . وقوله تعالى:: {يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ} الآية [سورة التوبة آية: 35] . وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما من صاحب ذهب ولا فضة، لا يؤدي منها حقها، إلا إذا كان يوم القيامة، صفّحت له صفائح من نار، فأحمي عليها في نار جهنم، فيكوى بها جنبه وجبينه وظهره 2.   1 البخاري: الزكاة 1403 , والنسائي: الزكاة 2482 , وأحمد 2/355. 2 مسلم: الزكاة 987. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 452 والآيات والأحاديث في التغليظ في مانع الزكاة وعقوبته كثيرة معروفة. والأموال التي تجب فيها الزكاة، أنواع: أحدها: سائمة بهيمة الأنعام، وهي: الإبل والبقر والغنم. الثاني: الخارج من الأرض، من الحبوب، والثمار، وما يلحق بها كالعسل. الثالث: الأثمان، وهي: النقود من الذهب والفضة، وما يقوم مقامهما من فلوس، وأوراق نقدية، وكذلك حلي الذهب والفضة، إذا بلغ نصابا بنفسه، أو بما يضم إليه من جنسه، أو في حكمه، ولم يكن معدا للاستعمال، ولا للعارية. وأقل نصاب الذهب: عشرون مثقالا; وبالجنيه السعودي، وكذلك الإفرنجي: أحد عشر جنيها ونصف جنيه تقريبا; وأقل نصاب الفضة: مائتا درهم، وبالريال العربي: ستة وخمسون ريالا; وبالفرانسي: ثلاثة وعشرون ريالا تقريبا. الرابع: عروض التجارة، وهي: كل ما أعد للبيع أو الشراء، لأجل الربح والتكسب، من جميع سلع التجارة، كالمجوهرات ونحوها، وكذلك السيارات، والمكائن، وغيرها من المنقولات، والثابتات، والعقارات، من أراضٍ وبيوت ونحوها، إذا تملكها بفعله بنية التجارة، فإنها تعتبر سلعة تجارة، ويلزمه أن يقومها عند الحول، بما تساوي من الجزء: 14 ¦ الصفحة: 453 الثمن لدى أهل الصنف، ولا ينظر إلى رأس مالها الذي اشتراها به. وعليه أن يزكي قيمتها عند الحول، إذا بلغت نصاب الذهب أو الفضة، لعموم حديث سمرة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم: يأمرنا أن نخرج الصدقة من الذي نعده للبيع 1 رواه أبو داود. كما عليه أن يزكي الديون التي له في ذمم الناس، إذا قبضها، وإذا استفاد مالا مستقلا خارجا عن ربح التجارة، كالأجرة والراتب ونحوهما، فإنه يبتدئ له حولا من حين استفاده، ويزكيه إذا تم حوله. وأما مصرفه، فقد بيّنه الله تعالى: بقوله: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [سورة التوبة آية: 60] . فلا يجوز صرفها إلى غير هؤلاء الأصناف الثمانية، كبناء المساجد والمدارس، وتكفين الموتى، ووقف المصاحف، وكتب العلم، وغير ذلك من جهة الخير؛ ويجب إخراجها عند تمام الحول فورا، إلا لعذر شرعي. ولا يدفعها إلا لمن يغلب على الظن أنه من أهلها، لأنها لا تحل لغني، ولا لقوي مكتسب 2 كما في حديث عبيد الله بن عدي بن الخيار، رواه أبو داود، والنسائي،   1 أبو داود: الزكاة 1562. 2 النسائي: الزكاة 2598 , وأبو داود: الزكاة 1633 , وأحمد 5/362. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 454 فليتق الله من لا تحل له، أن يأخذ منها شيئا، فإنها سحت، ومحق لما في يده قبلها من المال. ولا يجزئ إخراجها إلا بنية، سواء أخرجها بنفسه أو بوكيله، وسواء دفعها إلى مستحقها أو إلى نائب الإمام، ليفرقها على مستحقيها، لحديث: إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى 1. ولا يجوز دفعها إلى أصوله، أو إلى فروعه، أو زوجته، أو إلى أحد ممن تلزمه نفقته، ولا يحابي بها قريبه، أو يقي بها ماله، ولا يدفع بها مذمة. وينبغي للإنسان الاستكثار من صدقة التطوع أيضا، في هذا الشهر الكريم، والموسم العظيم، لحديث أنس: سئل النبي صلى الله عليه وسلم: أي الصدقة أفضل؟ فقال: صدقة في رمضان 2 رواه الترمذي، وقال صلى الله عليه وسلم: من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب، ولا يصعد إلى الله إلا الطيب، فإن الله يقبلها بيمينه، ثم يربيها لصاحبها حتى تكون مثل الجبل العظيم 3 متفق عليه. وعن أنس مرفوعا: إن الصدقة لتطفي غضب الرب، وتدفع ميتة السوء 4. والآيات والأحاديث في هذا كثيرة معروفة. نسأل الله أن يوفقنا وإياكم لما يحبه ويرضاه، وأن يشملنا وإياكم بعفوه ومغفرته ورحمته، وأن ينصر دينه ويعلي كلمته، ويذل أعداءه، ويؤيد إمام المسلمين، ويأخذ بناصيته لما فيه الخير والصلاح، والسلام عليكم; 10 / 9 / 1376 هـ.   1 البخاري: الأيمان والنذور 6689 والحيل 6953 , ومسلم: الإمارة 1907 , والترمذي: فضائل الجهاد 1647 , والنسائي: الطلاق 3437 والأيمان والنذور 3794 , وأبو داود: الطلاق 2201 , وابن ماجه: الزهد 4227 , وأحمد 1/43. 2 الترمذي: الزكاة 663. 3 البخاري: الزكاة 1410 , ومسلم: الزكاة 1014 , والترمذي: الزكاة 661 , والنسائي: الزكاة 2525 , وابن ماجه: الزكاة 1842 , وأحمد 2/331 , ومالك: الجامع 1874 , والدارمي: الزكاة 1675. 4 الترمذي: الزكاة 664. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 455 [التحذير من المعاملات الربوية وبيان ما يجب على الولاة والعلماء وأهل الحسبة في ذلك] وقال الشيخ: محمد بن إبراهيم، رحمه الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم من محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف، إلى من يبلغه كتابي هذا من إخواننا المسلمين، وفقنا الله وإياهم لقبول النصائح، وجنبنا وإياهم أسباب الندم والفضائح، آمين. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فالباعث لهذا الكتاب، هو: نصيحتكم، والشفقة عليكم، وتحذيركم مما وقع فيه الكثير من الناس; وهو: تعاطي المعاملات الربوية، والتعامل بها، وقد حرم الله تبارك وتعالى على عباده ذلك; وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه من السبع الموبقات. قال الله تعالى: في كتابه العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنْزيل من حكيم حميد: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلاّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} [سورة البقرة آية: 275-276] . قال ابن عباس رضي الله عنهما في معنى الآية: آكل الربا يبعث يوم القيامة مجنونا يخنق، رواه ابن أبي حاتم. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 456 وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِين َفَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إلى قوله: وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [سورة البقرة آية: 278 - 281] . وقال تعالى:: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبا أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِين َوَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [سورة آل عمران آية: 130-132] ، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على التحريم والوعيد الشديد على من فعله. وقد جاءت السنة الصحيحة بالزجر عنه والتحذير، وإيضاح ما أجمل منه بالبيان والتفسير، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قا: ل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اجتنبوا السبع الموبقات، قالوا: يا رسول الله، وما هن؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات 1 رواه البخاري ومسلم، وأبو داود، والنسائي. وعن جابر رضي الله عنه قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه، وقال: هم سواء، 2 رواه مسلم; وعن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: رأيت الليلة رجلين أتياني، فأخرجاني إلى   1 البخاري: الوصايا 2767 , ومسلم: الإيمان 89 , والنسائي: الوصايا 3671 , وأبو داود: الوصايا 2874. 2 النسائي: الزينة 5103 , وأحمد 1/87. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 457 أرض مقدسة، فانطلقنا حتى أتينا على نهر من دم، فيه رجل قائم، وعلى وسط النهر رجل بين يديه حجارة، فأقبل الرجل الذي في النهر، فإذا أراد أن يخرج، رمى الرجل بحجر في فيه، فرده حيث كان، فجعل كلما أراد أن يخرج، رمى في فيه بحجر فيرجع كما كان; فقلت: ما هذا؟ فقال: الذي رأيته في النهر آكل الربا 1 رواه البخاري في صحيحه. وعن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نشتري الثمر حتى تطعم; وقال: إذا ظهر الزنى والربا في قرية، فقد أحلوا بأنفسهم عذاب الله ; رواه الحاكم، وقال صحيح الإسناد; وفي حديث الإسراء: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر ليلة أسري به، وإذا بقوم لهم أجواف مثل البيوت، فسأل عنهم؟ فقيل: هؤلاء أكلة الربا ; رواه البيهقي. وعن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: الربا ثلاثة وسبعون بابا أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه; وإن أربى الربا عرض الرجل المسلم رواه الحاكم، وقال: على شرط الشيخين، ولم يخرجاه; وروى أيضا عن أبى هريرة رضي الله عنه مرفوعا: ليأتين على الناس زمان، لا يبالي المرء بما أخذ من المال، بحلال أو حرام 2 رواه البخاري، ولفظه: لا يبالي المرء ما أخذ منه، أمن الحلال أم من الحرام 3. وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال   1 البخاري: البيوع 2085. 2 البخاري: البيوع 2083 , والنسائي: البيوع 4454 , وأحمد 2/435 , والدارمي: البيوع 2536. 3 البخاري: البيوع 2059. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 458 رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا الورق بالورق إلا مثلا بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا منها غائبا بناجز 1 رواه مالك، والبخاري، ومسلم، وله: الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، سواء بسواء، فمن زاد أو استزاد فقد أربى، الآخذ والمعطي فيه سواء 2. وقال محمد بن نصر المروزي: حدثنا إسحاق بن إبراهيم قال: أنبأنا روح بن عبادة، قال حدثنا حيان بن عبد الله العدوي - وكان ثقة - قال سألت أبا مجلز عن الصرف؟ فقال: كان ابن عباس لا يرى به بأسا زمانا، ما كان منه يدا بيد، فلقيه أبو سعيد الخدري، فقال له: إلى متى؟! ألا تتقي الله حتى متى تؤكل الناس الربا؟ أما بلغك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال - وهو عند زوجته أم سلمة -: إني لأشتهي تمر عجوة، فبعث بصاعين، فأُتي بصاع عجوة. فقال: من أين لكم هذا؟ فأخبروه، فقال: ردّوه، التمر بالتمر، والحنطة بالحنطة، والشعير بالشعير، والذهب بالذهب، والفضة بالفضة، يدا بيد، عينا بعين، مثلا بمثل، فما زاد فهو ربا، ثم قال: وكذلك ما يكال أو يوزن أيضا; فقال ابن عباس: جزاك الله خيرا يا أبا سعيد، ذكرتني أمرا كنت نسيته، فأستغفر الله وأتوب إليه قال: فكان ينهى عنه بعد.   1 البخاري: البيوع 2177 , ومسلم: المساقاة 1584 , والترمذي: البيوع 1241 , والنسائي: البيوع 4570 , وأحمد 3/4 ,3/53 ,3/61 ,3/73 , ومالك: البيوع 1324. 2 مسلم: المساقاة 1584 , والنسائي: البيوع 4565 , وأحمد 3/49 ,3/66. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 459 فتضمنت: هذه النصوص: تحريم الربا بجميع أنواعه، أنه من الكبائر، وأن متعاطيه محارب الله ورسوله; فمن أنواعه: بيع الجنس من هذه الأجناس الستة المتقدمة في الأحاديث ونحوها بجنسه نسيئة، أو غير معلوم المساواة للآخر، فإن الجهل بالتساوي كالعلم بالتفاضل; ويدخل في ذلك: بيع الدراهم الفضية بجنسها متفاضلا أو غائبا مطلقا، وبيع الأوراق السعودية بعضها ببعض، أو بالريالات الفضية متفاضلا أو غائبا مطلقا. وذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم فرق بين الحلال والحرام بقوله: مثلا بمثل، يدا بيد، سواء بسواء، عينا بعين 1، وأكد ذلك بقوله: فمن زاد أو استزاد، فقد أربى، الآخذ والمعطي سواء 2. ومن أنواعه المحرمة بإجماع المسلمين: ما يفعله بعض الناس - والعياذ بالله - وذلك أنه إذا كان له على آخر دين، وحل الأجل، قال للذي عليه الحق: إما أن تقضي، وإلا يبقى عندك بزيادة كذا وكذا، فهذا هو ربا الجاهلية، وذلك: أن الرجل يكون له على الرجل المال المؤجل، فإذا حل الأجل قال له: إما أن تقضي وإما أن تربي، فأوفاه، وإلا زاد هذا في الأجل، وزاد هذا في المال. ومن ذلك: أن يعطي الرجل الآخر ألفا على أن يأخذ منه بعد سنة ألفا ومائة، وعلى أن يأخذ منه كل سنه مائة، والألف في ذمته بحاله، كما يفعله كثير من الناس - والعياذ   1 البخاري: البيوع 2176 , ومسلم: المساقاة 1584 , والنسائي: البيوع 4565 , وأحمد 3/97. 2 مسلم: المساقاة 1584 , والنسائي: البيوع 4565 , وأحمد 3/49 ,3/66 ,3/97. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 460 بالله - وذلك لما تقدم من النصوص، ولما روي عن عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: لا تبيعوا الدرهم بالدرهمين، ولا الدينار بالدينارين، إني أخاف عليكم الرما 1 رواه أحمد، والرما، هو: الربا. ومنها: بيع العينة الوارد في حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلا، لا ينْزعه حتى تراجعوا دينكم 2 رواه أحمد، وأبو داود; وهي: أن يبيع سلعة بنسيئة، أو بقيمة لم تقبض، ثم يشتريها بثمن أقل مما باعها به، فإن فعل بطل البيع الثاني، ولو كان بعد حلول أجله، قال الشيخ تقي الدين: إن قصد بالعقد الأول الثاني بطل الأول والثاني جميعا. ومن ذلك: ما يقع في البنوك، مثل أن يقترض الرجل من البنك مائة على أن يدفع له مع المائة زيادة ستة ريالات، أو أقل، أو أكثر; ومثل: أن يأخذ صاحب البنك من الرجل الدراهم، ويعطيه ربحا عن بقائها في ذمته خمسة ريالات، أو أقل أو أكثر، وهذا من أظهر أنواع الربا، وعين المحادة لله ورسوله. فالواجب على ولاة الأمور، والعلماء، وأهل الحسبة وفقهم الله بيان غلظ تحريم ذلك، وإنكاره، وحسم مواده، واجتثاثها من أصولها، وعقوبة كل من ثبت عنه شيء   1 مسلم: المساقاة 1585. 2 أبو داود: البيوع 3462 , وأحمد 2/84. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 461 من ذلك، وتغليظ العقوبة في حق من يتكرر منه ذلك. كما أن على المرابي أن يتوب إلى الله تعالى، وله رأس ماله فقط، لا يَظلِم ولا يُظلَم، كما قال تعالى: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} [سورة البقرة آية: 279] . اللهم زينا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين، غير ضالين ولا مضلين، سلما لأوليائك، حربا لأعدائك، نحب بحبك من أحبك، ونعادي بعداوتك من خالف أمرك; وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم. [بيان تحريم الربا في مواضع من القرآن والسنة وذكر أمثلة لذلك والحث على التوبة] وقال الشيخ: عبد الله بن سليمان بن حميد رحمه الله: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، إلى من يراه ويسمعه من المسلمين، وفقنا الله وإياهم لاتباع الحق المبين، والتمسك بسنة سيد المرسلين، آمين. أما بعد: فاعلموا أن الله تبارك وتعالى حرم الربا في المعاملات، وأوضح تحريمه في مواضع كثيرة من كتابه، وأذن بحرب من لم يلتزم حكمه فيه، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه من السبع الموبقات، التي تمحق البركات، ويسعى بها صاحبها في حرب الله تعالى. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 462 وقد توعد الله سبحانه وتعالى المعامل فية بقوله.: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلاّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} [سورة البقرة آية: 275] ، أي: أنه يكون يوم القيامة كالمجنون: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} [سورة البقرة آية: 275-276] . وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَفَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} [سورة البقرة آية: 278-279] . وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبا أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَوَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [سورة آل عمران آية: 130-132] . فتدبروا ما في هذه الآيات من الوعيد الشديد إن كنتم تعقلون، والآيات في هذا كثيرة; وفي الحديث: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا، وموكله، وكاتبه، وشاهديه 1، وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ليأتين على الناس زمان، لا يبالي المرء بما أخذ المال، بحلال أم بحرام 2.   1 النسائي: الزينة 5103 , وأحمد 1/87. 2 البخاري: البيوع 2083 , والنسائي: البيوع 4454 , وأحمد 2/435 ,2/452 ,2/505 , والدارمي: البيوع 2536. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 463 وعنه أيضا، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: رأيت ليلة أسري بي نهرا من دم، فيه رجل قائم، وعلى وسط النهر رجل بين يديه حجارة، فإذا أراد أن يخرج رماه الرجل بحجر في فيه، فرده حيث كان، فجعل كلما جاء ليخرج رماه بحجر في فيه، فيرجع كما كان; فقلت: ما هذا؟ فقيل لي: هذا الذي رأيته في النهر آكل الربا 1 وفي الحديث: إذا ظهر الزنى والربا في قرية، فقد أحلوا بأنفسهم عذاب الله، وفي الحديث: يأتي على الناس زمان يأكلون فيه الربا; قيل له: الناس كلهم؟ قال: من لم يأكله منهم ناله من غباره 2. وما ورد في ذلك من أحاديث الوعيد أكثر من أن تحصر، وأشهر من أن تذكر; وأكلة الربا يأتون يوم القيامة أجوافهم مثل البيوت يتعثرون بها. والربا عار وشنار ومحق على صاحبه ودمار، وآكله مجرب بالإفلاس وسوء الخاتمة، نسأل الله العفو والعافية في الدنيا والآخرة، وقد عمت البلوى في هذه الأزمان بالمعاملات الربوية. فمن ذلك: ما يفعله كثير من الناس من أخذ الريال العربي عن الفرنسي، بأسعارها وتحاويلها، هذا عن هذا، بزيادته ونقصه، وكذلك المصارفة بين الريال العربي والفرنسي، ومثله: دفعهم الريال الفرنسي عن الروبية،   1 البخاري: البيوع 2085 , وأحمد 5/8 ,5/10 ,5/14. 2 النسائي: البيوع 4455 , وأبو داود: البيوع 3331 , وابن ماجه: التجارات 2278 , وأحمد 2/494. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 464 والروبية عن الفرنسي بأسعارها وتحاويلها، هذا عن هذا بأسعارها، وهذا كله من صريح الربا. لما روى الترمذي بسنده إلى أبي سعيد أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم - سَمِعَتْهُ أذناي هاتان ووعاه قلبي - يقول: لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل، والفضة بالفضة إلا مثلا بمثل، لا يشف بعضه على بعض، ولا تبيعوا غائبا منه بناجز 1 قال: والعمل عليه عند أهل العلم، من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهو قول عامة الفقهاء. فهذا الحديث وما في معناه: دليل قاطع في تحريم التفاضل في بيع النقد بالنقد إذا اتحد الجنس، والريال العربي والفرنسي، متحدان في الجنس متفاضلان في الوزن الذي هو المعيار الشرعي في معرفة التفاضل والمماثلة، فبيع أحدهما بالآخر ربا، وهو محرم بالكتاب والسنة. ومن ذلك أخذ المصالح على القرض، قال صلى الله عليه وسلم: كل قرض جر نفعا فهو ربا. والسلف على ثلاثة أوجه: فسلف تريد به وجه الله، وسلف تريد به وجه صاحبك، وسلف تسلفه طلبا لنفع نفسك فهو ربا. ومن ذلك: الذين يحتالون على الربا، ببيع قماش أو نحوه; يبيع مثلا ما يساوي مائة بمائة وخمسين إلى أجل، ثم يشتريه هو أو وكيله بمائة، والله يعلم أنهم ما أرادوا إلا الربا، فهم: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [سورة البقرة آية: 9] . فمن باع سلعة إلى   1 البخاري: البيوع 2177 , ومسلم: المساقاة 1584 , والترمذي: البيوع 1241 , والنسائي: البيوع 4570 , وأحمد 3/4 ,3/51 ,3/53 ,3/61 ,3/73 , ومالك: البيوع 1324. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 465 أجل حرم عليه شراؤها بأقل مما باعها به. ومن ذلك: قلب الدين على المعسر إذا لم يجد وفاء، باع عليه بضاعة ما يساوي مائة بمائة وخمسين، ثم يأمر التاجر الفقير المعسر ببيع هذه البضاعة، ويأخذ التاجر ثمنها، وهذه حيلة على الربا. ومنها - والعياذ بالله -: من يكون له الدين، فإذا عجز المدين عن الوفاء، زاد في الدين، وزاده في الأجل، وهذا فعل الجاهلية الأولى، الذي جاء الشرع بإبطاله. ومنهم: مَن يكون له الحب دينا، فإذا عجز المدين عن الوفاء، باعه عليه بدراهم بسعر وقته، وهذا جار كثير، وهو حرام وبيع فاسد. ومن ذلك: الرهون الفاسدة التي تؤكل مصالحها ظلما وعدوانا; وذلك أن التاجر يعطي الفقير الدراهم، ويرهن شيئا من أرضه يستغلها ما دامت الدراهم بذمة الفقير، ومتى حصل الفقير ما يسد به الدين دفعه كاملا، وأخذ أرضه؛ والتاجر في هذه المدة يأكل غلة الأرض، وهذا من أعظم أنواع الربا المنهي عنه. ومن ذلك: ما يفعله كثير من الناس من الحيلة في بيع الإقالة، يبيع الفقير الأرض التي تساوي ثلاثة آلاف مثلا بألف، بشرط الإقالة إلى سنتين أو ثلاث، أو أقل، أو أكثر؛ والبائع ليس له قصد في البيع، والمشتري يعلم ذلك، وإنما جعلا هذا البيع حيلة في حل الثمرة للمشتري، وهذا الجزء: 14 ¦ الصفحة: 466 شيء باطل، وحيلة محرمة، لا تحل الثمرة للمشتري ولو رضي البائع. ومن ذلك: ما يفعله كثير من التجار، يعطي مالا لآخر يبيع به ويشتري، ويشترط صاحب المال شيئا معينا في كل أسبوع، أو في كل شهر مصلحة لماله، وهذا حرام وربا صريح. ومن ذلك ما يفعله بعضهم: إذا أعطى لرجل مالا يبيع به ويشتري، شرط عليه نصف الخسارة، وهذا لا يجوز، وشرطه فاسد، ويحرم على صاحب المال أخذ شيء من الخسارة ولو رضي المضارب بذلك، بل على المضارب المال، وعلى المضارب العمل، وما يربح في المال بينهما على ما شرطاه. ومن ذلك ما يفعله بعضهم: يقترض ذهبا، ويكتبه دراهم بذمته بسعرها وقت القرض، أو أزيد. وبعضهم: يعطي الجنيه إذا كان صرفها مثلا: خمسون في ستين إلى أجل. وبعضهم: يعطي الريال بريالين وربع أو نصف إلى أجل، كل هذه الأمور من صريح الربا المحرم. ومن ذلك: ما يفعله بعضهم من التحاويل: الألف بألف وخمسين أو ستين، وهذا بيع فضة بفضة متفاضلا ونسيئة; وقول بعضهم: إنها إجارة غير صحيح، لأن الإجارة أن يحمل النقود بعينها إلى البلد المعين، ويأخذ أجرة عليها; والإجارة لها شروط وأحكام معروفة؛ فهذه التحاويل الجزء: 14 ¦ الصفحة: 467 المعروفة الآن، فيها علتان من علل الربا، فهي حرام بلا ريب. ومن ذلك: بيع المصاغات من الفضة على اختلاف أجناسها، بريالات فرنسية أو عربية أو روبية، فهذا لا يجوز، وهو من الربا الصريح، إلا إذا علم التماثل، وكان وزنا بوزن، ومثلا بمثل; أما إذا جهل التماثل، أو علم التفاضل، فهو الربا. والواجب: أن تباع الفضة بالذهب، والذهب بفضة، ويشترط لذلك التقابض في مجلس العقد، أو تباع الفضة بقروش النيكل، فإذا اختلفت الأجناس فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد. فكل هذه الأمور المشروحة من الربا الصريح: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [سورة البقرة آية: 275] ، فقد جاءتكم الموعظة من كتاب الله وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم بالنهي عن ذلك، فانتهوا عما حرم الله عليكم، فإن فيما أحل الله لكم غنى عما حرم عليكم. فإن البركة في الحلال، وفيه السلامة من الوعيد والوبال، وإياكم والتعرض لسخط الله ولعنته وناره ومحق بركة أموالكم وأعماركم، وعيلتكم وفقركم، وسوء خاتمتكم: {قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [سورة المائدة آية: 100] . الجزء: 14 ¦ الصفحة: 468 وكونوا من معاصي الله على حذر، فإن للمعاصي عقوبات عاجلا وآجلا; فمن كفته الموعظة وتاب إلى الله فله ما سلف وأمره إليه، ومن تمادى بأمره وعاند ربه وظهر من التعامل بالمعاملات الربوية، فإنه يستحق التعزير البليغ الرادع له ولأمثاله. هذا ونسأله سبحانه وتعالى أن يجيرنا وإياكم من المعاصي وعقوباتها، وأن يوفقنا وإياكم لتقواه، والعمل بما يحبه ويرضاه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين، 3 / 1367 هـ. [الوصية بتقوى الله وتوضيح معناها وبيان أعظم المأمورات وأهم خصال التقوى] وقال الشيخ: محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف رحمه الله: بسم الله الرحمن الرحيم من محمد بن إبراهيم إلى من يراه من المسلمين نفعني الله وإياهم باستماع الوصيات الدينية والنصائح، وجنبنا جميعا أسباب سخطه، وموجبات الخزي والفضائح، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فقد قال الله عز شأنه: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [سورة الذاريات آية: 55] . وقال:: {وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ} [سورة إبراهيم آية: 5] . وقال تعالى: {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} [سورة ق آية: 45] . الجزء: 14 ¦ الصفحة: 469 وأعظم شيء أوصيكم ونفسي به: تقوى الله عز وجل، فإنها وصيته تعالى لعباده الأولين والآخرين، كما قال تعالى:: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ ْ} [سورة النساء آية: 131] . وهي: وصية نبيه صلى الله عليه وسلم لأمته عموما وخصوصا، كما قال صلى الله عليه وسلم: أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة، فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا. فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة 1. ولما بعث صلى الله عليه وسلم معاذا إلى اليمن، قال له: اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن 2. إذا عرف هذا، فإن حقيقة التقوى: أن يجعل العبد بينه وبين غضب ربه وعقابه وقاية تقيه ذلك بفعل أوامره واجتناب نواهيه وزواجره. وأعظم المأمورات وأهمها: توحيد الرب جل شأنه، فإنه الأمر الذي من أجله خلق الثقلان الجن والإنس، وأرسلت الرسل، وأنزلت الكتب، كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ [سورة الذاريات آية: 56] . وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ   1 الترمذي: العلم 2676 , وابن ماجه: المقدمة 42 , والدارمي: المقدمة 95. 2 الترمذي: البر والصلة 1987 , وأحمد 5/153 ,5/158. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 470 اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [سورة النحل آية: 36] . وقال تعالى: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ أَلاّ تَعْبُدُوا إِلاّ اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ} [سورة هود آية: 1-2] . وذلك: هو الإقرار بوحدانيته تعالى، والإيمان بأسمائه وصفاته وأفعاله، وإثباتها على ما يليق بجلاله وعظمته، إثباتا بريئا من تمثيل الممثلين; وتنْزيهه تعالى عن جميع ما لا يليق بجلاله وعظمته، تنْزيها بريئا من تعطيل المعطلين. والإيمان بأنه تعالى: رب كل شيء ومليكه، وأن العالم بجميع ما فيه هو خلقه وحده لا شريك له، وتحت تدبيره وتصرفه، وإفراده سبحانه بجميع أنواع العبادة، عن اعتقاد جازم، أنه سبحانه وتعالى هو المستحق لذلك دون كل ما سواه. وهذا هو معنى كلمة الإخلاص التي هي أساس الملة، "لا إله إلا الله"فإن معناها: لا معبود حق إلا الله وأعظم المحرمات، هو: الشرك به في ألوهيته، وربوبيته، وأسمائه وصفاته، وأفعاله. وأهم خصال التقوى، وأفرضها وآكدها بعد التوحيد: إفراد رسوله صلى الله عليه وسلم بالمتابعة، وتحكيمه في القليل والكثير، والنقير والقطمير، وفي كل شيء يحصل التنازع فيه، قال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [سورة النساء آية: 65] . الجزء: 14 ¦ الصفحة: 471 ومن أهم خصال التقوى، وأعظم أركان الإسلام بعد الشهادتين: أداء الجمعة، والصلوات الخمس في أوقاتهن؛ وهي عمود الدين كما قال صلى الله عليه وسلم: رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله 1. ولا شيء من الفرائض مجرد تركه كفر غير الصلاة، كما قال صلى الله عليه وسلم: العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر 2 وقال صلى الله عليه وسلم: بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة 3. ومن فرائضها أيضا: أداء زكاة الأموال الزكوية، وهي: بهيمة الأنعام بأنواعها الثلاثة; والنقدان: الذهب والفضة، وما في معناهما وحكمهما من العروض، وغيرها، والخارج من الأرض من الحبوب والثمار، مما يكال ويدخر، بشرط كمال النصاب في كل منها، ومضي الحول، كل نوع منها بحسبه; ويجب على الجاهل تعلم ذلك ومعرفته، وسؤال أهل العلم عنه ليؤدي هذا الفرض العظيم بيقين. ومن أهم خصال التقوى: صيام رمضان، وحج بيت الله الحرام، بشرط الاستطاعة. وهذه الخمس هي أركان الإسلام الخمسة، كما في الصحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعا: بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان 4. ومن أهم خصالها: الأمر بالمعروف والنهي عن   1 الترمذي: الإيمان 2616 , وأحمد 5/231 ,5/237. 2 الترمذي: الإيمان 2621 , والنسائي: الصلاة 463 , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها 1079 , وأحمد 5/346. 3 الترمذي: الإيمان 2620 , وأبو داود: السنة 4678 , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها 1078 , وأحمد 3/370 , والدارمي: الصلاة 1233. 4 البخاري: الإيمان 8 , ومسلم: الإيمان 16 , والترمذي: الإيمان 2609 , والنسائي: الإيمان وشرائعه 5001 , وأحمد 2/26. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 472 المنكر، قال تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [سورة آل عمران آية: 104] إلى قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [سورة آل عمران آية: 110] . وقال تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُون َتَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [سورة المائدة آية: 78-81] . وفي الحديث: عن النبي صلى الله عليه وسلم: إن من كان قبلكم، كان إذا عمل العامل فيهم بالخطيئة، جاءه الناهي تعذيرا، فقال: يا هذا اتق الله، فإذا كان من الغد جالسه، وواكله، وشاربه، كأنه لم يره على خطيئة بالأمس. فلما رأى الله عز وجل ذلك منهم، ضرب بقلوب بعضهم على بعض، ثم لعنهم على لسان نبيهم داود، وعيسى بن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون. والذي نفس محمد بيده، لتأمرون بالمعروف ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يد السفيه ولتأطرنه على الحق أطرا، أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض، ثم يلعنكم كما لعنهم. فتقوى الله تعالى بفعل المأمورات وترك المنهيات الجزء: 14 ¦ الصفحة: 473 هي مجلبة كل خير، والنجاة والسلامة من كل شر، في الدنيا والآخرة. فكل صلاح وبركة وخير في الدنيا والآخرة، واستقامة في العقائد، ونزاهة في الأخلاق، والحصول على كل خير، والسلامة من كل شر وضير، والخروج من كل ضيق، وحصول الفرقان بين الحق والباطل، وغير ذلك مما لا يحصى، كل ذلك سببه تقوى الله تعالى. وكل فساد ونقص في الاعتقاد والأخلاق والأعمال، والعلوم والفهوم، والقوى والإرادات، والتصورات، وغور الماء، وحبس القطر من السماء، ونقص الحروث والتجارات، وغير ذلك، فسببه الإخلال بتقوى الله، وعدم المبالاة بأوامره ونواهيه، وقلة الاكتراث بوعيد الله الذي يعيده في كتابه ويبديه رسوله. فما أحلّ بسالف الأمم شديد العقوبات، ولا أخذ من غبر بفظيع المثلات إلا بسبب الإضلال بالتقوى، وإيثار الشهوات والأهواء، وقد قال تعالى:: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [سورة الأعراف آية: 96] . والأمر بالمعروف يشمل الأمر بجميع الفرائض التي تقدمت وغيرها، ومن أهمها بر الوالدين، وصلة الأرحام، وصدق الحديث، والوفاء بالعهود، والقيام بجميع واجبات الدين. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 474 والنهي عن المنكر يشمل جميع أنواع المنكرات، من الزنى وغيره من الفواحش والربا; وآكل الربا محارب لله ولرسوله، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِين َفَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [سورة البقرة آية: 278-279] . وفي الأثر: ما ظهر الربا والزنا في قرية إلا أذن الله بخرابها; ومن أعظم المنكرات: تعاطي المسكرات، واستعمال جميع الملاهي، والاستماع إليها، وبخس المكاييل والموازين، إلى غير ذلك من سائر المنكرات. وفي سنن ابن ماجه: من حديث عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، قال: كنت عاشر عشرة، رهط من المهاجرين عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بوجهه فقال: يا معشر المهاجرين، خمس خصال وأعوذ بالله من أن تدركوهن: ما ظهرت الفاحشة في قوم حتى أعلنوا بها إلا ابتلوا بالطواعين والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا. ولا نقص قوم المكيال إلا ابتلوا بالسنين، وشدة المؤونة، وجور السلطان، وما منع قوم زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا. ولا خفر قوم العهد إلا سلط الله عليهم عدوا من غيرهم فأخذوا بعض ما في أيديهم. وما لم تعمل أئمتهم بما أنزل الله في كتابه، إلا جعل الله بأسهم بينهم. فيجب على جميع المسلمين التوبة إلى الله مما سلف الجزء: 14 ¦ الصفحة: 475 من المعاصي والمخالفات وذلك بالتخلي من جميع المعاصي، والندم حقا على ما فات، والعزيمة على عدم العودة، فإنه لا توبة من المعاصي بدون ذلك. كما يجب اجتناب ذلك في المستقبل، والصدق مع الله في الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر وذلك واجب على ولاة المسلمين أن يقوموا بعزم صارم، وبذل المجهود حقيقة، فإن الله جعل الأمور في أيديهم، وهم الذين بين الله وبين خلقه. كما يجب على العلماء النصيحه، والبيان حقيقة، والبعد كل البعد من الكتمان; ويجب على كل أحد إنكار المنكر، كل بحسبه; والتوبة واجبة في كل حين، ومن كل ذنب؛ وتتأكد عند سؤالهم ربهم ما هو من ضرورياتهم الدينية، وكذلك ضرورياتهم الدنيوية؛ ومن أهمها: طلب الغيث الذي هو سبب الحياة. ومن التوبة الخروج من المظالم، والتخلي من حقوق الخلق، في الدماء والأموال والأعراض، وترك التشاحن; وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أريت ليلة القدر، فخرجت لأخبركم، فتلاحا رجلان فرفعت فهذا يدل على أن التشاحن من أسباب موانع حصول الخير، وتعاطي الحلال مأكلا ومشربا وملبسا، وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه الذي في الصحيح: ثم ذكر الرجل يطيل السفر، يمد يديه إلى السماء يقول: يا رب، يا رب، ومأكله حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي الجزء: 14 ¦ الصفحة: 476 بالحرام، فأنَّى يستجاب لذلك؟! 1. وفي الأثر عن بعض أنبياء بني إسرائيل، أنه خرج بقومه يستسقون، فلم يسقوا، فأوحى الله إلى نبيهم أن قل لهم: إنكم قد رفعتم أكفا قد سفكتم بها الدماء، وأكلتم بها الحرام. ويجب الحرص كل الحرص على التخلي من حق الزكاة، والتطهير للمال من ذلك، وكل من منع الزكاة، وأكل الحرام. وترك الأمر بالمعروف: سبب خاص في منع القطر، وعدم استجابة الدعاء، كما تقدم في حديث ابن عمر خمس خصال.. إلخ، وكما في آخر حديث أبي هريرة السابق. ومما ينبغي أن يقدم بين يدي الاستسقاء: الصدقة، وملاحظة الفقير، والنظر إليه نظرة رحمة، عسى أن يرحمنا ربنا، وفي الحديث: الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء 2. وينبغي اللجأ إلى الله عن صدق، ودعاؤه عن تضرع وخشية، وصدق رغبته إليه في إجابة المطلوب، والإكثار من الاستغفار. أسأله تعالى بأسمائه وصفاته أن ينصر دينه، ويعلي كلمته، ويمن على المسلمين بالغيث الشامل النافع، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم في20 /5/1381هـ.   1 مسلم: الزكاة 1015 , والترمذي: تفسير القرآن 2989 , وأحمد 2/328 , والدارمي: الرقاق 2717. 2 الترمذي: البر والصلة 1924 , وأبو داود: الأدب 4941. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 477 [التذكير بالقحط وسببه وذكر بعضا من الكبائر والجرائم وما يناسب بين يدي الإستسقاء] وله أيضا رحمه الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على صفوته من بريته، وخيرته من خليقته، محمد وعلى آله وصحبه، وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين. من محمد بن إبراهيم إلى من يراه من المسلمين، وفقني الله وإياهم للاتعاظ بالمواعظ، وقبول النصائح، وجنبنا جميعا أسباب الخزي والندم والفضائح. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: تعلمون - وفقني الله وإياكم - ما أصيب به المسلمون، من قحوط الأمطار، وتأخر الغيث عن الأكثر من الديار، وما نشأ عن ذلك من غور مياه الآبار، وما نال المواشي من النقص الكثير والأضرار؛ وليس ذلك - لعمر الله - من نقص في جود الباري جل شأنه وفضله وكرمه وإحسانه، ولا نقص مما بيمينه، بل الأمر كما قال صلى الله عليه وسلم: يمين الله ملأى، لا تغيضها نفقة، سحاء الليل والنهار; أرأيتم ما أنفق مذ خلق السماوات والأرض؟ فإنه لم يغض ما في يمينه، والقسط بيده الأخرى، يخفض ويرفع; وإنما سبب ذلك: إضاعة أمر الله، وعدم المبالاة بأوامره ونواهيه قال الله تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 478 يَرْجِعُونَ} [سورة الروم آية: 41] . وقال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [سورة الشورى آية: 30] . وقال صلى الله عليه وسلم: ما نزل بلاء إلا بذنب، ولا رفع إلا بتوبة وكل هاتين الآيتين الكريمتين، والحديث المذكور على أثرهما يدل بعمومه على أن جميع ما في الوجود من النقص والفساد، في العلوم والأعمال والأفهام، والتدبيرات والتصرفات، والأمراض في الأبدان والأشجار والثمرات، إلى غير ذلك مما يصيب أي نوع وأي فرد من الموجودات، فسببه المعاصي والمخالفات. ومن أكبر الكبائر: ترك الصلاة، وهو بمجرده ردة عن الإسلام، ولو كان ذلك الترك تهاونا أو كسلا، قال صلى الله عليه وسلم: العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر 1. أما ترك فعلها في الجماعة، فليس بردة، وإنما هو من المحرمات، ومن أسباب تركها بالكلية; قال صلى الله عليه وسلم: أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوا. ولقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، وآمر رجلا فيؤم الناس، ثم انطلق ومعي رجال معهم حزم من حطب، إلى قوم لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم بالنار 2، وفي رواية: لولا ما فيها من النساء والذرية لأحرقتها عليهم 3. ومن أكبر الكبائر أيضا: عدم أداء الزكاة ; وإقام الصلاة   1 الترمذي: الإيمان 2621 , والنسائي: الصلاة 463 , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها 1079 , وأحمد 5/346. 2 البخاري: الأذان 657 , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة 651 , وأحمد 2/424 ,2/472 ,2/531. 3 أحمد 2/367. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 479 وإيتاء الزكاة هما أعظم أركان الإسلام بعد الشهادتين; وهما مع الشهادتين الأركان التي يقاتل من ترك واحدا منها; قال صلى الله عليه وسلم: أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة. فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم، إلا بحق الإسلام 1. ومن أكبر الكبائر أيضا: الربا في المعاملات. ولكلِّ من هاتين الكبيرتين: كبيرة منع الزكاة، وكبيرة أكل الربا، من الخصوصية في منع القطر، ما سيأتي بيانه إن شاء الله. ومن أكبر الكبائر وأعظم العظائم: التهاون بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعدم القيام لهما بما يشترط ويفتقر إليه في حصوله، على الوجه الذي تبرأ به الذمة، ويحصل به المقصود. قال الله تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَكَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [سورة المائدة آية: 78-79] . وقال صلى الله عليه وسلم في حديث حذيفة: والذي نفسي بيده، لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عذابا من عنده، ثم تدعونه فلا يستجاب لكم 2. ومن أعظم الجرائم والمحرمات: تطفيف المكاييل   1 البخاري: الإيمان 25 , ومسلم: الإيمان 22. 2 الترمذي: الفتن 2169. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 480 والموازين، قال صلى الله عليه وسلم: يا معشر المهاجرين: خمس خصال إذا ابتليتم بهن، وأعوذ بالله أن تدركوهن: لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها، إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا. ولم ينقصوا المكيال والميزان، إلا أخذوا بالسنين وشدة المؤونة وجور السلطان عليهم. ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا. ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله، إلا سلط الله عليهم عدوا من غيرهم، فأخذوا بعض ما في أيديهم. وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله تعالى، ويتخيروا مما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم 1. وبالجملة: فما أهلكت الأمم وحلّت بهم المثلات، من إغراق قوم نوح بالطوفان، وتدمير الريح العقيم لعاد، ولا أخذت ثمود في ديارهم بالصيحة التي أخمدتهم في مساكنهم، وما أغرق فرعون وقومه في البحر، وما قلبت ديار قوم لوط، وجعل عاليها سافلها، وما أخذ غيرهم من الأمم التي دمر الله عليهم، إلا بمعاصيهم ومخالفتهم رسلهم، والتمادي فيما نهوهم عنه. وكما أن كل فساد ونقص في الأرض مطلقا سببه المعاصي، فكل خير ونمو وبركة وإجابة دعوات ودفع نقمات وإعطاء طلبات، فإنما سببه تقوى الله تعالى، والقيام   1 ابن ماجه: الفتن 4019. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 481 بأوامره والانزجار عن محارمه، والاتعاظ بمواعظه، وأداء فرائضه. قال الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً وَإِذاً لآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً} [سورة النساء آية: 66-68] . فيا عباد الله: اتقوا الله تعالى تنالوا المطلوب، وتحصل لكم النجاة من كل كرب مرهوب في الدنيا والآخرة، قال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ ْ} [سورة الطلاق آية: 2-3] . وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [سورة الأعراف آية: 96] . وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالأِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ} [سورة المائدة آية: 65-66] . وقد عزم المسلمون على الاستسقاء، فيجب أن نقدم بين يدي نجوانا لربنا ودعائنا إياه التوبة، وإن كانت واجبة في كل حال، فلها من آكدية الوجوب أمام الاستسقاء ما لا يخفى، وأن نحافظ على الصلاة، ونقيم الجمعة والجماعات، وأن نؤدي الزكاة المفروضة على وجهها، الجزء: 14 ¦ الصفحة: 482 ونحذر من المحاباة، وذلك على كل مسلم ملك نصابا وحال عليه الحول وهو في ملكه. ونصاب الذهب: عشرون مثقالا، وقدره من الجنيه السعودي والإفرنجي: أحد عشر جنيها ونصف جنيه; ونصاب الفضة: مائة وأربعون مثقالا، وقدره من الريالات السعودية، فضة كانت أو ورقا: ستة وخمسون ريالا، ومن الريالات الفرنسية: ثلاثة وعشرون ريالا تقريبا. وتجب الزكاة أيضا في قيم العروض، وهي ما عدا الذهب والفضة مما أعد للبيع والشراء، إذا ملكها بفعله، وبلغت قيمتها من أحد النقدين نصابا، وتم عليه الحول في ملكه. ويتأكد الإكثار من الاستغفار، كما قال نوح لقومه: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً} [سورة نوح آية: 10-11] . وكما قال هود لقومه: {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ} [سورة هود آية: 52] . وكان جل خطبة النبي صلى الله عليه وسلم في الاستسقاء استغفار الله سبحانه ودعاءه والابتهال إليه; وينبغي أن يكون من الدعاء بتضرع وخشوع، ورغبة ورهبة، وكمال صدق في الطلب; ويجب الخروج من المظالم، لوجوبه في كل حال، وهو هاهنا آكد. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 483 ويجب ترك التشاحن، قال صلى الله عليه وسلم: تعرض الأعمال في كل اثنين وخميس، فيغفر الله لكل امرئ لا يشرك بالله شيئا، إلا امرأ كان بينه وبين أخيه شحناء، فيقول: اتركوا هذين حتى يصطلحا 1. ويجب التباعد مما يمنع إجابة الدعاء من أكل الحرام، لحديث: أطب مطعمك، تكن مستجاب الدعوة، وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لما سبق في حديث حذيفة. وينبغي الإكثار من الصدقة، صدقة التطوع، رحمة للفقراء، وإحسان إليهم؛ وذلك من أسباب رحمة الله بعباده، وإحسانه إليهم، وحصول ما طلبوا من ربهم، ورغبوا إليه فيه. وفي الحديث: الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء 2، وفي الحديث الآخر: إنما تنصرون وترزقون بضعفائكم 3. وينبغي - وفقني الله وإياكم - أن أهل كل مسجد من المساجد يجمعون صدقاتهم، ويدفعونها إلى وكيل منهم أمين، إما المؤذن أو غيره، وبعدما تجتمع تفرق على المساكين، من جيران المسجد ومن يحضر معهم من الغرباء الفقراء، ويكون تقسيمها عليهم قبل يوم الاستسقاء بيوم. ولا يخفى ما في هذا الصنيع من التنشيط والتعاون على البر والتقوى; أسأل الله أن يغيث قلوب الجميع بالتوبة   1 مسلم: البر والصلة والآداب 2565 , وأحمد 2/389 , ومالك: الجامع 1687. 2 الترمذي: البر والصلة 1924 , وأبو داود: الأدب 4941. 3 البخاري: الجهاد والسير 2896 , وأحمد 1/173. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 484 النصوح، ويغيث البلاد والعباد بالغيث العام العاجل غير الآجل، الهنيء المريء، النافع الذي ليس بضار، الذي هو سقيا رحمة، لا سقيا عذاب ولا بلاء ولا هدم ولا غرق. كما أسأله تعالى: أن ينصر دينه ويعلي كلمته، ويدمر أعداء الدين، ويكفينا سوءهم ويرد كيدهم في نحورهم، إنه على كل شيء قدير، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم، في 4 / 9 / 1382 هـ. [التناصح والتفطن لنعم الله تعالى والقيام بالمأمورات وترك المنهيات واجتناب الربا والتنباك] وقال الشيخ: عبد الله بن محمد بن حميد، رحمه الله: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله على نعمه الظاهرة والباطنة، وآلائه الجمة المتكاثرة، أحمده سبحانه وأشكره على نعمه المتواترة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة أرجو بها النجاة في الآخرة، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه المبلغين عن الله نواهيه وأوامره، وسلم تسليما كثيرا. من عبد الله بن محمد بن حميد، إلى كافة إخواننا المسلمين، رزقنا الله وإياهم القيام بواجب الدين، آمين. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أما بعد: فمن أعظم ما يجب علينا وعليكم: التناصح في دين الله تعالى، والتفطن لما منّ الله به عليكم من النعم الجزء: 14 ¦ الصفحة: 485 العظيمة، والمنح الجسيمة، التي أعظمها وأجلها: نعمة الإسلام، وما امتن به عليكم من صحة الأبدان، وأمن السبل، ووفور الأرزاق. وقد قال تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الأِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [سورة إبراهيم آية: 34] ، أي ظلوم بنفسه، كفار بنعمة ربه. وقال تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [سورة إبراهيم آية: 7] . ولا شك: أن الشكر قيد للموجود، وصيد للمفقود، يعني: تقيد به النعم الحاضرة، وتستجلب به النعم المرجوة. وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: إن للنعم نفارا، فقيدوها بالشكر، وإن للقلوب صدا، فاجلوها بالذكر. ومما يجب القيام به: الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، على وفق ما تقتضيه الشريعة المطهرة، فإن الله ذم من لم يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، ولعنهم على ألسنة أنبيائهم، كما قال تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [سورة المائدة آية: 78-79] . وفي السنن والمسند عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن من كان قبلكم إذا عمل العامل الجزء: 14 ¦ الصفحة: 486 الخطيئة، جاءه الناهي تعذيرا، فإذا كان الغد جالسه وواكله وشاربه، كأن لم يره بالأمس على خطيئة، فلما رأى الله ذلك منهم، ضرب بقلوب بعضهم على بعض، ولعنهم على لسان داود وعيسى ابن مريم. والذي نفس محمد بيده، لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يد السفيه أخذا، ولتأطرنه على الحق أطرا، أو ليضربن الله قلوب بعضكم على بعض، ثم يلعنكم كما لعنهم. ومعلوم أن جميع بني آدم، لا تتم مصالحهم في الدنيا والآخرة، إلا بالاجتماع، والتعاون والتناصر على جلب ما ينفعهم، ودفع ما يضرهم، فإنه إذا كثر الخبث، عم العقاب الصالح والطالح، إذا لم يؤخذ على يد الظالم، أوشك أن يعمهم الله بعقابه: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [سورة النور آية: 63] . فينبغي لطالب الآخرة والساعي في تحصيل رضى الله تعالى، أن يعتني بهذا الباب، فإن نفعه عظيم، لا سيما وقد ذهب معظمه، ويخلص النية لله تعالى، ولا يهابنّ من ينكر عليه لارتفاع مرتبته، فإن الله تعالى قال: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ} [سورة الحج آية: 40] ، والأجر على قدر النصب. ولا يتركه أيضا لصداقته ومودته، ومداهنته، وطلب الوجاهة عنده، ودوام المنْزلة لديه، فإن صداقته ومودته توجب له حرمة وحقا; ومن حقه أن ينصحه ويهديه إلى الجزء: 14 ¦ الصفحة: 487 مصالح آخرته، وينقذه من مضارها. وصديق الإنسان، هو من يسعى في عمار آخرته، وإن أدى ذلك إلى نقصان دنياه، فإنما كان إبليس عدوا لنا لهذا; وكانت الأنبياء - صلوات الله وسلامه عليهم - أولياء للمؤمنين، لسعيهم في مصالح آخرته، وهدايتهم إليها. ومن ذلك: المحافظة على الصلوات الخمس، فإن الله ذمّ من لم يؤدها بأوقاتها، ويقوم بها في جماعة; ويجب تأديب من عرف بالكسل والتخلف عنها، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد همّ بإحراق بيوت المتخلفين عن الصلاة في جماعة، كما في الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: لقد هممت أن آمر بالصلاة فيؤذن لها، ثم آمر رجلا فيؤم الناس، ثم أنطلق معي برجال معهم حزم من حطب، إلى قوم لا يشهدون الصلاة، فأحرق عليهم بيوتهم بالنار 1. وقال صلى الله عليه وسلم: من سمع النداء ولم يجب، فلا صلاة له 2. وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ما من ثلاثة في قرية، ولا بدو، لا تقام فيهم الصلاة، إلا قد استحوذ عليهم الشيطان، فعليكم بالجماعة، فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية 3، وإن ذئب الإنسان الشيطان، إذا خلا به أكله. وفي حديث ابن مسعود رضي الله عنه: لو أنكم صلّيتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف، لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم 4.   1 البخاري: الأذان 644 والخصومات 2420 , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة 651 , والترمذي: الصلاة 217 , والنسائي: الإمامة 848 , وأبو داود: الصلاة 548 , وابن ماجه: المساجد والجماعات 791 , وأحمد 2/244 , ومالك: النداء للصلاة 292 , والدارمي: الصلاة 1274. 2 الترمذي: الصلاة 217. 3 النسائي: الإمامة 847 , وأبو داود: الصلاة 547 , وأحمد 5/196 ,6/446. 4 مسلم: المساجد ومواضع الصلاة 654 , وأحمد 1/382 ,1/414. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 488 ومن ذلك: الزكاة المفروضة، فإنها قرينة الصلاة، في كتاب الله تعالى. قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [سورة البينة آية: 5] . وقد ذم الله تعالى من لم يؤدها، وتوعده بأنواع من العقوبات، كما في قوله تعالى: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [سورة آل عمران آية: 180] . وقال تعالى: {يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لانْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} [سورة التوبة آية: 35] . وعن أنس رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ويل للأغنياء من الفقراء يوم القيامة، يقولون: ربنا ظلمونا حقوقنا الذي فرضت لنا عليهم، فيقول الله عز وجل: وبعزتي وجلالي، لأدنينكم ولأبعدنهم، ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [سورة المعارج آية: 24-25] . وروي عنه صلى الله عليه وسلم ما خالطت الزكاة مالا إلا أهلكته. فيجب على كل من عنده شيء من أنواع التجارات أن الجزء: 14 ¦ الصفحة: 489 يُقَوِّمها عند الحول ويخرج زكاتها، والعبرة بما تقَوَّم به، لا بما اشتريت به، وإذا زادت الثمار عن خرصها، وجب إخراج ما زاد عن الخرص. عباد الله طهروا أموالكم من الزكاة، ونقوها منها، ومن المعاملات الربوية، فإن الله تعالى: ذم آكل الربا، وتوعده بأنواع من العقوبات، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} [سورة البقرة آية: 278-279] . وقال تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلاّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [سورة البقرة آية: 275] . وفي حديث أبي سعيد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما عُرِجَ به إلى السماء نظر إلى سماء الدنيا، فإذا رجال بطونهم كأمثال البيوت العظام، قد مالت بطونهم، وهم منضودون على سابلة آل فرعون، موقوفون على النار، كل غداة وعشي يقولون: ربنا لا تقم الساعة أبدا. قلت: يا جبريل، مَن هؤلاء؟ قال: هؤلاء أكلة الربا من أمتك، لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ومعنى: منضودون أي: مطروحون، أي: طرح بعضهم الجزء: 14 ¦ الصفحة: 490 على بعض; والسابلة: المارّة; أي: يطؤهم آل فرعون الذين يعرضون على النار كل غداة وعشي. وروي عنه قال: الربا ثلاث وسبعون بابا، وأيسره مثل أن ينكح الرجل أمّه 1 قال ابن مسعود رضي الله عنه: ما ظهر الربا والزنى في قرية إلا أذن الله بهلاكها، وقال بعض العلماء: الربا مجرب بسوء الخاتمة والعياذ بالله من ذلك. ويذكر أنه يوجد من بعض الناس معاملات ربوية، وعقود فاسدة؛ فيجب على كل أحد مجانبة المعاملات الربوية، والعقود الفاسدة، فإن العلماء رحمهم الله قالوا بتحريم تعاطي العقود الفاسدة، لأنها ذريعة إلى الربا، والذرائع معتبرة في الشرع، ولها حكم الغايات. فمنها: أن بعض الناس، إذا جاءه المحتاج مثلا، وباعه سلعة بثمن مؤجل، أو بحال لم يقبض، يعود فيشتريها منه بأقل من ذلك الثمن؛ كأن يبيعه سلعة بستين مؤجلة، ثم يشتريها منه بخمسين نقدا، فهذه هي مسألة "العينة"المنهي عنها. ومنها: ما إذا صار لرجل دين على رجل، فطلبه منه، فلم يقدر على وفائه، باعه سلعة بثمن مؤجل، ثم يشتريها منه بما عليه من الدين، وهذا حرام إجماعا، وهذا: هو بيع الدين بالدين، سواء كان الدين الأول والآخر له أو لغيره، وهو بيده مضاربة; ومجرد قوله: إن الدين الأول يخصني مثلا، وما ثبت في ذمته أخيرا لغيري، إلا أنه بيدي مضاربة،   1 ابن ماجه: التجارات 2275. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 491 لا ينفعه، بل هو من الحيل المحرمة. ومنها: ما يقع من بعض الناس في محل البيع والشراء؛ وهو: أن أناسا يشتركون في شراء سلعة، كبعير ونحوه، ثم يعرضونه على المشترين، فيزيد فيه بعض من له فيه شركة، فيغتر المشتري، ظانا أن هذا الذي يزيد ليس له فيه شركة، فيبني على سومه، وهو إنما قصد النجش، وتغرير المشتري. فهذا حرام ولا يجوز إقراره، ومن عرف بمثل هذا، فلا بد من تأديبه، ومنعه من البيع والشراء في أسواق المسلمين. ومنها: ما إذا أراد الفلاح مثلا أن يبيع من ذمته عيشا أو تمرا، فيأتي التاجر، فيشتري منه بأنقص مما يبيع به الناس، بشرط أن يقرضه شيئا للعقد، كأن يكون السعر خمسمائة الوزنة في الذمة، بمائتي ريال، فيشتريها التاجر بمائة وخمسين، ويقرضه شيئا للعقد. وقد روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: كل قرض جر نفعا فهو ربا، وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: إذا كان لك على رجل دين، فأهدى لك شيئا، فلا تأخذه وأكثر الناس يأخذ من عميله الطعام والخضر، ولا يحسبه شيئاً وهذا ربا محرم، ولو أخذ قليلا أو كثيرا دخل في التحريم إذا لم يحسبه من الدين. ومما ينبغي أيضا: اجتناب هذا التنباك وهو المسمى بالتتن، وهو لا شك خبيث، ومفتاح كل شر ومقدما له، وقد الجزء: 14 ¦ الصفحة: 492 نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل مخدر ومفتر؛ مع أنه يتولد منه أمراض عامة، وعلل كثيرة. منها: أنه إذا أكثر من شربه يفسد أفواه مجاري العروق، وحينئذ يمنع كل عرق من أخذ حقه من الغذاء. ومنها: أنه يحدث الغشاوة في العينين، والصداع في الرأس، واليبس في الدماغ، وثقل السمع، ويورث النسيان، والنوم الشديد، والكسل المفرط. وقد يحدث السعال والسهر المضر، وتغيير الشفتين بالاسوداد والاصفرار، ونتن الفم وتغيير اللون، ويورث الارتعاش في جميع الجسم، ويولد عللا كثيرة لا يفطن لها إلا صاحب بصر وبصيرة نافذة. فيا عباد الله راقبوا الله تعالى، وقوموا على كل من عرف بارتكاب المعاصي قياما تاما، وتجردوا من الذنوب; والجار يقوم على جاره، والرجل يقوم على أولاده، ومن في بيته، وعلى أقاربه، وكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته. وعليكم ببر الوالدين، وصلة الأرحام، والتقرب إلى الله تعالى بما يجب من فعل الطاعات وترك المنهيات، كالتشاحن والتباغض والتحاسد، والتقاطع، والتدابر؛ وائتمروا بالمعروف، وتناهوا عن المنكر، وأخلصوا في ذلك النية لله تعالى. وعلى أهل الولاية أن يقوموا بذلك القيام التام، ويؤدبوا الجزء: 14 ¦ الصفحة: 493 كل من عرف منه تكاسل عن الصلاة في جماعة، وشرب من هذا التنباك الخبيث، ولا يناظروا في ذلك أحدا من الناس. نرجو الله أن يوفقنا وإياكم لما يحبه ويرضاه، من صلاح ديننا ودنيانا، إنه على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير، ولا يؤآخذنا بسيئات أعمالنا، إنه ولي ذلك، وهو القادر عليه، وصلى الله على خير خلقه محمد وعلى آله وصحبه وسلم. [التحذير من مخالفة أمر الله وذكر أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر] وله أيضا رحمه الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله بن محمد بن حميد، إلى كافة إخواننا المسلمين، سلك الله بنا وبهم ما هو أهدى وأقوى، وجعلنا جميعا من المتمسكين بالعروة الوثقى، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فإن التناصح في دين الله، والتذكير بنعمه وأيامه، والتحذير عن مخالفة أمره، وارتكاب نهيه، فيه من المصالح الكليات والجزئيات ما لا يحيط به إلا الله سبحانه وتعالى. فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: الدين النصيحة، الدين النصيحة، الدين النصيحة، قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم 1 والنصح لعامة المسلمين، هو: تنبيههم عند الغفلة،   1 مسلم: الإيمان 55 , والنسائي: البيعة 4197 , وأبو داود: الأدب 4944 , وأحمد 4/102. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 494 وإرشادهم عند الجفوة، وتعليم جاهلهم، وتوقير كبيرهم، والرحمة لصغيرهم. فالذي أوصي به إخواننا المسلمين، وأحثهم عليه: تقوى الله، ومراقبته، وذلك بالتحرز بطاعة الله عن عقوبته، بامتثال أوامره واجتناب نواهيه. فإن أكثر الخلق - والعياذ بالله - أعرضوا عما خلقوا له، واشتغلوا بالفاني عن الباقي. وخف على النفوس وقع الأوامر والنواهي، حتى أظلمت والله القلوب من الذنوب: {كَلاّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [سورة المطففين آية: 14] . فقد فشا في الناس كثير من المنكرات، التي نهت عنها الشريعة الإسلامية، كالتهاون بالصلاة مع الجماعة في المساجد، وكالربا، وحلق اللحى، وشرب الدخان، وخروج النساء متبرجات، وكالغش والخيانة، والكذب، والشحناء، وكثرة القيل والقال، إلى غير ذلك مما يطول عده. فيجب على المسلمين التناصح، والتعاضد، بأن ينصح بعضهم بعضا، تأدية لواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن مراتبه ثلاث: باليد، واللسان، والقلب وهو أضعفها، حتى قال ابن مسعود رضي الله عنه: هلك من لم يعرف المعروف وينكر المنكر بقلبه يشير رضي الله عنه إلى أن معرفة المعروف والمنكر بالقلب فرض لا يسقط عن أحد، فمن لم يعرفه هلك. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 495 وناهيك لو قام كل منا بنصيحة الآخر، دعوة، وأمرا، ونهيا، لامتنع فشوّ الشر والمنكر فينا، واستقر الخير والمعروف بيننا؛ وبالإعراض عن ذلك يكثر الشر ويتفاقم الأمر، ويتجرأ الكثير أو الأكثر إلى فعل المنهيات، وارتكاب المحرمات، فتزول وحشتها من القلوب. ومتى كثر الخبث عم العقاب الصالح والطالح، وإذا لم يأخذوا على يد الظالم، أوشك أن يعمهم الله بعقابه: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [سورة النور آية: 63] . كيف وباب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قد ذهب معظمه، فما بقي منه إلا رسوم، أو مجرد ادعاء، فإنا لله وإنا إليه راجعون. وإنه لباب عظيم به قوام الأمر وملاكه، وإنه لمن أعظم منافع الإسلام، وآكد قواعد الأديان، وبه تحيا السنن وتموت البدع، فينبغي لطالب الآخرة، والساعي في تحصيل رضى الله تعالى أن يعتني بهذا الباب؛ فإن نفعه عظيم، لا سيما وقد ذهب معظمه، وأن يخلص نيته لله تعالى، ويوطن نفسه على الصبر، وليثق بالثواب من الله تعالى. فعند ذلك لا يهاب من ينكر علمه لارتفاع مرتبته، وعلو جاهه، فإن الله يقول: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ} [سورة الحج آية: 40] . وقال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [سورة العنكبوت آية: 69] . الجزء: 14 ¦ الصفحة: 496 ولا شك أن الأجر على قدر النصب، وينبغي للآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن لا يتساهل في ذلك لأجل صداقة له ومودة ومداهنة، وطلب الوجاهة عنده، ودوام المنْزلة لديه، فإن صداقته ومودته توجب له حرمة وحقا؛ ومن حقه أن ينصحه ويهديه إلى مصالح آخرته، وينقذه من مضارها. وصديق الإنسان ومحبه، هو من سعى في عمارة آخرته، وإن أدى ذلك إلى نقص دنياه; وعدوه من يسعى في ذهاب أو نقص آخرته، وإن حصل بذلك صورة نفع في الدنيا; وإنما كان إبليس عدو لنا لهذا المعنى. وكان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أولياء المؤمنين لسعيهم في مصالح آخرتهم وهدايتهم إليها; ثم إن الآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر، يجب عليهم إصلاح نيتهم في أمرهم ونهيهم، وأن يقصدوا بذلك وجه الله تعالى والدار الآخرة، وأن يوطنوا أنفسهم على تحمل الأذى من الخلق، فإن من وثق بالثواب من الله، لم يجد مسّ الأذى. ولقد كان الله يحفظ من هذا شأنه، من بأس الصائلين ببركة إخلاصهم، وحسن مقصدهم، وقوة توكلهم، وابتغائهم بكلامهم رضى الله تعالى، فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، من أشق ما يحمله المكلف، لأنه مقام الرسل، حيث يثقل صاحبه على الطباع، وتنفر منه نفوس أهل اللذات، ويمقته أهل الخلاعة؛ بل قال بعض السلف: إن الجزء: 14 ¦ الصفحة: 497 الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لم يدعا للمؤمن صديقا. ومما يتعين التنبيه عليه: ملاحظة هؤلاء الشبيبة، لا سيما من الآباء والأولياء، بأن يعتنوا بأبنائهم، ويربوهم على حب الله تعالى وطاعته، وعلى الفضائل والآداب الإسلامية السامية، فإنهم أمانة الله في أعناقكم. وقد منحكم الله إياهم، وأكرمكم بهم، وأمركم بحفظهم وصيانتهم، وأن لا تتركوهم وشأنهم، فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، فإن الله يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [سورة الأنفال آية: 27] . فالأولاد أمانة تحت أيديكم، وهم منكم ولكم، فإذا نشؤوا نشأة صالحة، وربوا على الفضائل الإسلامية والآداب الدينية، وعلى البر والوفاء، والعلم النافع، كان خيرهم لكم، وصلاحهم لصلاحكم. ومتى نشأ الولد على الإهمال والانحلال، وعدم التقيد بقيود الإسلام، وتجرد من أخلاقه ودينه، فرط الأمر من أيديكم، وانصب بلاؤه عليكم، وخرج عن طاعتكم، فموته حينئذ خير من حياته. وقد أمركم الله بحفظهم وحمايتهم عن وقوعهم في المهالك، قال الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [سورة التحريم آية: الجزء: 14 ¦ الصفحة: 498 6] . والأولاد من الأهل، بل هم صفوة الأهل، وهم أمانة في أيديكم، أمركم بحفظها، وحمايتها من النار; وما حفظها من النار إلا بصدها عن الأسباب، والأعمال التي توصلها إليها. وإن أعظم هذه الأسباب الموصلة لهم إلى النار هو: بعدهم عن دينهم، وتركهم لأوامره وفضائله، وارتكابهم لنواهيه وزواجره. وأصل الصلاح والفضائل في تربية الأولاد، هو: إلزامهم بالتمسك بالدين الإسلامي قولا وعملا واعتقادا؛ فإذا استمسك به الإنسان، فقد استمسك بالعروة الوثقى، لا انفصام لها. هذا، ونسأل الله تعالى أن يجعلهم قرة أعين لآبائهم وأهليهم، وأن يجعلهم صالحين موفقين، أهل بر ووفاء وصدق وإخلاص، موفقين للعلم النافع والعمل به. كما نرجو الله تعالى أن يهدينا جميعا لطاعته، وأن يسلك بنا وبكم سبل توفيقه وهدايته، ويحفظ إمام المسلمين، وأن ينصر به دينه، ويعلي كلمته؛ ويثبتنا جميعا على الإسلام، إلى أن نلقاه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، في 3 / 1376هـ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 499 [سبب ظهور الفساد في الأرض وما في ذلك من الآيات والأحاديث] وقال الشيخ: محمد بن إبراهيم، رحمه الله: بسم الله الرحمن الرحيم من محمد بن إبراهيم، إلى من يراه من المسلمين، رزقنا الله وإياهم قلوبا صاغية، وآذانا للحق واعية، آمين. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد، قال الله تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} [سورة الروم آية: 41] . قال ابن عباس رضي الله عنهما: الفساد: القحط، وقلة النبات، وذهاب البركة; قال أبو العالية: من عصى الله في الأرض، فقد أفسد في الأرض، لأن صلاح الأرض والسماء بالطاعة. وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [سورة الأعراف آية: 96] ، البركات: المطر والنبات; وقال تعالى في أهل الكتاب: {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالأِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} [سورة المائدة آية: 66] . قال ابن عباس رضي الله عنهما، في تفسير قوله: {مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} [سورة المائدة آية: 66] ، يعني: المطر والنبات. وقال هود لقومه: {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ} [سورة هود آية: 52] . ذكر المفسرون: أن قوم هود حبس الله عنهم المطر بسبب ذنوبهم ثلاث سنين، فقال لهم هود: إن آمنتم أحيا الله الجزء: 14 ¦ الصفحة: 500 بلادكم، وزادكم عزا على عز. وقال نوح لقومه: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراًوَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً} [سورة نوح آية: 10-12] . قال قتادة: علم نبي الله، أنهم أهل حرص على الدنيا، فقال: هلموا إلى طاعة الله، فإن في طاعة الله سعادة الدنيا والآخرة. وقال تعالى: {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً} [سورة الجن آية: 16] ، ومعنى الآية: لو استقام القاسطون على طريقة الإسلام، واستمروا عليها: {مَاءً غَدَقاً} [سورة الجن آية: 16] ، أي: كثيرا، يعني: سعة الرزق، وضرب الماء الغدق مثلا، لأن الخير والرزق كله من المطر. هذه الآيات تدل على أن المعاصي سبب لحبس المطر، وذهاب البركة، وأن طاعة الله سبب للمطر والبركات. وقد روى الإمام أحمد بن حنبل، عن أبي مخلد أنه قال: وجد رجل في زمان زياد، أو ابن زياد، صرة فيها حب - يعني: من بر - أمثال النوى، مكتوب فيها: هذا نبت في زمان كان يعمل فيه العدل، وجاءت في هذا المعنى أحاديث. روى ابن ماجة والبزار والبيهقي - واللفظ لابن ماجة - عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا معشر المهاجرين خمس خصال الجزء: 14 ¦ الصفحة: 501 إذا ابتليتم بهن، وأعوذ بالله أن تدركوهن: لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها، إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا. ولم ينقصوا المكيال والميزان، إلا أخذوا بالسنين، وشدة المؤونة، وجور السلطان عليهم. ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا. ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله، إلا سلط الله عليهم عدوا من غيرهم، فأخذوا بعض ما في أيديهم; وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله تعالى، ويتخيروا مما أنزل الله، إلا جعل الله بأسهم بينهم 1 ورواه الحاكم من حديث ابن بريدة بنحوه. ورواه مالك بنحوه، موقوفا على ابن عباس رضي الله عنهما، بلفظ: ما ظهر الغلول في قوم، إلا ألقى الله في قلوبهم الرعب. ولا فشا الزنى في قوم، إلا كثر فيهم الموت. ولا نقص قوم المكيال والميزان، إلا قطع الله عنهم الرزق. ولا حكم قوم بغير حق، إلا فشا فيهم الدم. ولا خفر قوم بالعهد، إلا سلط الله عليهم العدو 2. ورفعه الطبراني إلى النبي صلى الله عليه وسلم في معجمه، من حديث سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما طفف قوم كيلا، ولا بخسوا ميزانا، إلا منعهم الله القطر. وما ظهر في قوم الزنى، إلا ظهر فيهم الموت. وما ظهر في قوم الربا، إلا سلط الله عليهم الجنون.   1 ابن ماجه: الفتن 4019. 2 مالك: الجهاد 998. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 502 ولا ظهر في قوم القتال، يقتل بعضهم بعضا، إلا سلط الله عليهم عدوهم. ولا ظهر في قوم عمل قوم لوط، إلا ظهر فيهم الخسف. وما ترك قوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إلا لم ترفع أعمالهم، ولم يسمع دعاؤهم. وروى الإمام أحمد، عن عمرو بن العاص، رضي الله عنهما، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما من قوم يظهر فيهم الربا، إلا أخذوا بالسنين، وما من قوم يظهر فيهم الرشا، إلا أخذوا بالرعب 1 والسنة: العام القحط. عباد الله إنه ليس في الدنيا شر إلا سببه الذنوب والمعاصي، فما الذي أخرج إبليس من ملكوت السماء وطرده، ومسخ ظاهره وباطنه، فجعلت صورته أقبح صورة وأشنعها، وباطنه أقبح من صورته وأشنع، وبدل بالقرب بعدا، وبالرحمة لعنة، وبالجمال قبحا، وبالجنة نارا تلظى؟ وبالإيمان كفرا، وبموالاة الولي الحميد، أعظم عداوة ومشاقة، وبزجل التسبيح والتقديس والتهليل، بزجل الكفر والشرك، والكذب والزور والغش، وبلباس الإيمان، لباس الكفر والعصيان والفسوق؟ فهان على الله غاية الهوان، وسقط من رحمته غاية السقوط، وحل عليه غضب الرب تعالى، فمقته أكبر المقت وأرداه. وما الذي أغرق أهل الأرض، حتى علا الماء فوق   1 أحمد 4/205. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 503 رؤوس الجبال؟ وما الذي سلط الريح العقيم على عاد، حتى ألقتهم موتى على وجه الأرض كأنهم أعجاز نخل خاوية، ودمرت ما مرت عليه من ديارهم وحروثهم وزروعهم ودوابهم، حتى صاروا عبرة للأمم إلى يوم القيامة؟ وما الذي أرسل على ثمود الصيحة، حتى قطعت قلوبهم في أجوافهم، وماتوا عن آخرهم؟ وما الذي رفع قرى اللوطية، حتى سمعت الملائكة نبح كلابهم، ثم قلبها عليهم، فجعل عاليها سافلها، فأهلكهم جميعا، ثم أتبعهم حجارة من سجيل السماء، أمطرها عليهم؟ فجمع عليهم من العقوبة ما لم يجمعه على أمة غيرهم، ولإخوانهم أمثالها، وما هي من الظالمين ببعيد. وما الذي أرسل على قوم شعيب سحاب العذاب كالظلل، فلما صار فوق رؤوسهم أمطر عليهم نارا تلظى؟ وما الذي أغرق فرعون وقومه في البحر، ثم نقلت أرواحهم إلى جهنم، فالأجسام للغرق والأرواح للحرق؟ وما الذي خسف بقارون وداره وماله وأهله؟ وما الذي أهلك القرون من بعد نوح، بأنواع العقوبات، ودمرها تدميرا؟ وما الذي أهلك قوم صاحب يس بالصيحة، حتى خمدوا عن آخرهم؟ وما الذي بعث على بني إسرائيل قوما أولي بأس شديد، فجاسوا خلال الديار، فقتلوا الرجال، وأخربوا الديار، ونهبوا الأموال، ثم بعثهم إليهم مرة ثانية، فأهلكوا الجزء: 14 ¦ الصفحة: 504 ما قدروا عليه، وتبروا ما علوا تتبيرا؟ وما الذي سلط عليهم أنواع العذاب والعقوبات، مرة بالقتل والسبي وخراب البلاد، ومرة بجور الملوك، ومرة بمسخهم قردة وخنازير، وآخر ذلك أقسم الرب تبارك وتعالى: {لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} [سورة الأعراف آية: 167] ؟ وروى الإمام أحمد: عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه قال: لما فتحت قبرص، فرق بين أهلها فبكى بعضهم إلى بعض، فرأيت أبا الدرداء جالسا وحده يبكي، فقلت: يا أبا الدرداء، ما يبكيك في يوم أعز الله فيه الإسلام وأهله؟ فقال: ويحك! ما أهون الخلق على الله إذا أضاعوا أمره، بينما هي أمة قاهرة ظاهرة، لهم الملك، تركوا أمر الله فصاروا إلى ما ترى!! وروى النسائي بإسناد صحيح، وابن حبان في صحيحه، والحاكم وقال: صحيح الإسناد، عن ثوبان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الرجل يحرم الرزق بالذنب يصيبه 1. واعلموا أن كل معصية من المعاصي هي ميراث أمة من الأمم التي أهلكها الله عز وجل: فاللواط ميراث عن قوم لوط; وأخذ الحق بالزائد ودفعه بالناقص ميراث عن قوم شعيب; والعلو في الأرض والفساد ميراث عن قوم فرعون;   1 ابن ماجه: الفتن 4022. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 505 والتكبر والتجبر ميراث عن قوم هود; فالعاصي لابس لباس ثياب بعض هذه الأمم. وقد روى عبد الله بن الإمام أحمد، في "كتاب الزهد"لأبيه عن مالك بن دينار، قال: أوحى الله إلى نبي من أنبياء بني إسرائيل: أن قل لقومك: لا تدخلوا مداخل أعدائي، وتلبسوا ملابس أعدائي، ولا تطعموا مطاعم أعدائي، فتكونوا أعدائي، كما هم أعدائي. فتوبوا إلى الله، واحذروا من الاغترار بنعمه عليكم، فقد روى الإمام أحمد عن عقبة بن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا رأيت الله عز وجل يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب، فإنما هو استدراج، ثم تلا قول الله عز وجل: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} [سورة الأنعام آية: 44] . قال بعض السلف: إذا رأيت الله عز وجل يتابع عليك نعمه، وأنت مقيم على معاصيه، فاحذره، فإنما هو استدراج منه، يستدرجك به، وقد قال تعالى: {وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَوَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} [سورة الزخرف آية: 33-35] . وقد رد سبحانه على من ظن هذا الظن بقوله: {فَأَمَّا الجزء: 14 ¦ الصفحة: 506 الأِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ} [سورة الفجر آية: 15-16] ، وفي جامع الترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، ولا يعطي الإيمان إلا من يحب 1. وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم. [التذكير بنعم الله والتحذير من أسباب النقم والقيام بواجب النصيحة] وله أيضا، رحمه الله: بسم الله الرحمن الرحيم من محمد بن إبراهيم، إلى من يراه من المسلمين، بصّرني الله وإياهم في الدين، وفقهني وإياهم فيما بعث له محمدا صلى الله عليه وسلم سيد المرسلين. وبعد: فالحامل على هذا، تذكيركم نعم ربكم لتشكروه، وتحذيركم أسباب نقمه لتتقوه، وقياما بما أوجب الله علينا من النصيحة، وقد قال تعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [سورة الذاريات آية: 55] . وقال النبي صلى الله عليه وسلم الدين النصيحة، قالها ثلاثا، قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم 2. فجعل الدين محصورا في النصيحة، لأنها تتضمن أصوله وفروعه، وقواعده المهمة، فيدخل في النصيحة لله: الإيمان بالله، ومحبته وخشيته والخضوع له، وتعظيم أمره ونهيه وتنْزيهه عما لا يليق بجلاله وعظمته، من تعطيل وإلحاد، وشرك وتكذيب، لأن النصيحة لله: خلوص الباطن والسر،   1 أحمد 1/387. 2 مسلم: الإيمان 55 , والنسائي: البيعة 4197 ,4198 , وأبو داود: الأدب 4944 , وأحمد 4/102. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 507 من الغش والريب والغل، والحقد والتكذيب، وكل ما يضاد كمال الإيمان، ويعارضه. وكذلك النصيحة لكتابه تتضمن: العمل بمحكمه والإيمان بمتشابهه، وتحليل حلاله، وتحريم حرامه، والاعتبار بأمثاله، والوقوف عند عجائبه، ورد مسائل النّزاع إليه، وترك الإلحاد في ألفاظه ومعانيه. والنصح لرسوله، يقتضي: الإيمان به وتصديقه ومحبته، وتوقيره وتعزيره، ومتابعته والانقياد لحكمه، والتسليم لأمره، وتقديمه على كل ما عارضه وخالفه، من هوى أو بدعة أو قول. والنصح لأئمة المسلمين: أمرهم بطاعة الله ورسوله، وطاعتهم في المعروف، ومعاونتهم على القيام بأمر الله، وترك مشاقتهم ومنازعتهم. والنصح لعامة المسلمين هو: تعليمهم وإرشادهم، لما فيه صلاحهم وفلاحهم، والرفق بهم، وكفهم عما فيه هلاكهم وشقاؤهم، وذهاب دينهم ودنياهم، من معصية الله ورسوله، ومخالفه أمره، ومشابهة الجاهلين فيما كانوا عليه، من التفرق والاختلاف، وترك الحقوق الإسلامية. وأعظم نعمة أذكّركم بها: ما منّ الله به على المسلمين من نعمة الإسلام، فإنه ما طرق العالم ولا يطرقه نعمة هي أعظم وأكبر من هذه النعمة، التي منّ بها جلّ شأنه على الجزء: 14 ¦ الصفحة: 508 عباده بواسطة من اصطفاهم من رسله، بتبليغ رسالاته، وأداء هذه الأمانة إلى من اختارهم من برياته. وأوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل التي هي حقيقة شكر هذه النعمة، فإنها جماع الدين وقد وصى الله تعالى بها عباده، في غير موضع من كتابه، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [سورة النساء آية: 1] إلى قوله تعالى:: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ} [سورة النساء آية: 1] . وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [سورة الأحزاب آية: 70-71] . وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [سورة الحشر آية: 18] ، إلى غير ذلك من الآيات. وجعل جزاء المتقين: توفيقهم للفرقان بين الحق والباطل، وتكفير السيئات، ومغفرة الخطيئات، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [سورة الأنفال آية: 29] . ولا نجاة لأحد من النار بعد ورودها إلا بالتقوى، قال تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً} [سورة مريم آية: 71- الجزء: 14 ¦ الصفحة: 509 72] . وهي وصية الله تعالى لعباده، أولهم وآخرهم، قال تعالى: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [سورة النساء آية: 131] . ووصية الرسول صلى الله عليه وسلم لأمته عموما وخصوصا، كما قال صلى الله عليه وسلم لما طلب منه الصحابة، رضى الله عنهم، الوصية: أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة 1. وقال لمعاذ بن جبل رضي الله عنه حين بعثه إلى اليمن، وأبي ذر، رضي الله عنه حين طلب منه الوصية: اتق الله حيثما كنت 2. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [سورة آل عمران آية: 102-103] . قال ابن مسعود: تقوى الله حق تقاته: أن يطاع فلا يعصى، ويذكر فلا ينسى، ويشكر فلا يكفر. وقال طلق بن حبيب، في تفسيرها: أن تعمل بطاعة الله، على نور من الله، ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله، على نور من الله، تخشى عقاب الله. وللسلف في تفسير التقوى عبارات متقاربة المعنى، وحقيقتها: جعل العباد بينهم وبين غضب الله وعقابه وقاية تقيهم ذلك، بفعل الطاعات، وترك المعاصي.   1 الترمذي: العلم 2676 , وابن ماجه: المقدمة 42 , والدارمي: المقدمة 95. 2 الترمذي: البر والصلة 1987 , وأحمد 5/153 ,5/158. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 510 وأعظم خصال التقوى، وآكدها، وأصلها، ورأسها: إفراد الله تعالى بالعبادة، وإفراد رسوله صلى الله عليه وسلم بالمتابعة فلا يدعى مع الله أحد من الخلق، كائنا من كان، ولا يتبع في الدين غير الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا يحكم غير ما جاء به صلى الله عليه وسلم ولا يرد عند التنازع إلا إليه، وهذا هو مضمون شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله. فيفرد الرب سبحانه وتعالى بجميع أنواع العبادة من غاية الحب، وكمال الذل له جل شأنه، وخشيته، ومخافته، ورجائه، والتوكل عليه، والرهبة، والرغبة، والإنابة إليه والخشوع له، إلى غير ذلك من أنواع العبادة الواجب صرفها له، وحده لا شريك له، دون كل من سواه، من الأنبياء والملائكة، والصالحين، وغيرهم. ويفرد الرسول صلى الله عليه وسلم بالمتابعة، والتحكيم عند التنازع؛ فمن دعا غير الله، من الأنبياء، والأولياء، والصالحين، فما شهد أن لا إله إلا الله، شاء أم أبى؛ ومن أطاع غير الرسول صلى الله عليه وسلم واتبعه في خلاف ما جاء به الرسول، عالما، وحكّم القوانين الوضعية، أو حكم بها، فما شهد أن محمدا رسول الله، شاء أم أبى. بل إما أن يكون كافرا، أو تاركا لواجب شهادة أن محمدا رسول الله، ويتبع هذين الأصلين العظيمين، فعل بقية فرائض الدين وواجباته التي أوجبها الله تعالى في كتابه، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم مما هو داخل في واجب التقوى. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 511 ومن أهم خصال التقوى: الصلاة، والجهاد في سبيل الله; والجهاد على مراتب عديدة; من أشهرها وآكدها: الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ولا قوام للعباد والبلاد بدونهما; والمعروف: اسم عام يتناول التوحيد، فما دونه من الطاعات. وكذا المنكر، يشمل الشرك فما دونه، من البدع والمعاصي. ومن أعظم الجرائم: تعاطي المسكرات من الخمور وغيرها. ومن المنكرات: جميع أنواع الميسر، وهو: القمار، كالشطرنج بجميع أنواعه; ومن أنواعه: اللعب بالورق، المسمى "الزنجفة"سواء كان اللعب به على عوض أو لا. قال تعالي يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [سورة المائدة آية: 90-91] . والأحاديت في تغليظ تحريم الخمر والميسر، ووجوب الحد في الخمر، وشدة الوعيد فيه معلومة. ومن أعظم المعاصي: استعمال الملاهي، من الفتح على السينماء وغيرها، ولا سيما ما يشتمل على المناظر والمسامع المحرمة، فإنها تشتمل من الصد عن ذكر الله، الجزء: 14 ¦ الصفحة: 512 وعن الصلاة، والإغراء بالفواحش، وغير دلك، ما يعرفه أرباب البصائر. ومن أكبر المنكرات: إكباب الجهال والشباب على مطالعة كتب الزيغ والإلحاد والزندقة، والصحف المشتملة على ذلك، وعلى الصور الخليعة، فما أحرى من أدمن النظر فيها من الشباب ونحوهم، أن يصبح أسيرا للشيطان، إن لم يقتله بالكلية، ويسلبه جميع الإيمان. ومن المنكرات: التشبه بالكفار، ولا فرق بين الأمور الدينية والعادية، كالزي ونحوه، روى أبو داود بسند جيد: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من تشبه بقوم فهو منهم 1. ويدخل فيه حلق اللحى، لما روى البخاري ومسلم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: خالفوا المشركين، احفوا الشوارب واعفوا اللحى 2. ومن أعظم المنكرات: تصوير ذوات الأرواح، واتخاذها واستعمالها، ولا فرق بين المجسّد، وما في الأوراق مما أخذ بالآلة وغيره، ذكر معناه النووي رحمه الله، في شرح صحيح مسلم، وذكر أنه مذهب جماهير العلماء; والأحاديث في الوعيد على ذلك، والتغليظ فيه معلومة. وأغلظ أنواعه: صور المعظمين، على وجه التعظيم والتبجيل، وهذا أحد الذريعتين المفضيتين إلى الوقوع في الشرك الأكبر، وهما فتنة القبور، وفتنة التماثيل، المشار إليهما في قوله صلى الله عليه وسلم: أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح،   1 أبو داود: اللباس 4031. 2 البخاري: اللباس 5892 , ومسلم: الطهارة 259. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 513 والعبد الصالح، بنوا على قبره مسجدا، وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله 1. ومن أعظم المنكرات، وأشدها ضررا: فشوّ الأغاني من "الراديوات"واستيلاؤها على ألسنةٍ كثيرًا، وشغف قلوبهم بها، فاستبدل كثير من الناس عمارة بيوتهم بأنواع الأذكار، وتلاوة القرآن، آناء الليل وآناء النهار، بأغاني أم كلثوم، وفلان وفلان، من مشاهير المغنين الفجار، بئس للظالمين بدلا; فيا لله ما أخسر صفقة أصحاب، هذا الاستبدال! وما أسوأ وأقبح هذا التحول والانتقال؟! ومن أكبر الكبائر، وأعظم المنكرات، بل هو من جملة المكفرات: ترك الصلاة؛ فإنها قرينة التوحيد، في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهي آخر ما يفقد من الدين، كما قال صلى الله عليه وسلم: أول ما تفقدون من دينكم الأمانة، وآخر ما تفقدون من دينكم الصلاة. قال الإمام أحمد رحمه الله: كل شيء ذهب آخره، لم يبق منه شيء; وهي: عمود الدين، كما تقدم في حديث معاذ; وهي: أول ما يحاسب عنه العبد يوم القيامة، كما قال صلى الله عليه وسلم: أول ما يحاسب عنه العبد من عمله الصلاة 2. وتركها تهاونا وكسلا، مبيح للدم، بعد أن يدعى تاركها إلى فعلها، ويستتاب ثلاثا؛ فإن تاب ورجع إلى فعلها فذاك، وإلا تحتم قتله حدا عند قوم، وردة عند آخرين، وهو   1 البخاري: الصلاة 434 , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة 528 , والنسائي: المساجد 704 , وأحمد 6/51. 2 الترمذي: الصلاة 413 , والنسائي: الصلاة 465 , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها 1425 ,1426 , وأحمد 2/425. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 514 الراجح، وهو قول جمهور السلف من الصحابة والتابعين; بل قد نقل إسحاق بن راهويه، رحمه الله، الإجماع على أنه كافر. ومن الأدلة على كفره، ما تقدم، وحديث: بين العبد وبين الكفر والشرك ترك الصلاة 1، وحديث: العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر 2، وقال عبد الله بن شقيق: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرون شيئا من الأعمال تركه كفر، إلا الصلاة. وقال ابن مسعود في تفسير قوله تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ ْ} [سورة مريم آية: 59] ، قال: هم الذين يؤخرونها عن وقتها، ولو تركوها لكانوا كفارا. وها هنا منكر فوق ما يخطر بالبال، ويدور في الخيال، وأعظم مما قدمناه من جميع المنكرات، وهو منكر عدم تغيير المنكرات، وعدم الغيرة لمحارم فاطر السماوات والأرض، والتماوت في ذلك، والتسويف فيه، والاغترار بهذه الزهرة الذاوية عن قرب، مع القدرة على التغيير. ولهذا اشتد في ذلك الوعيد، وغلظ فيه التهديد، قال الله تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [سورة المائدة آية: 78-79] .   1 مسلم: الإيمان 82 , والترمذي: الإيمان 2620 , وأبو داود: السنة 4678 , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها 1078 , وأحمد 3/370 ,3/389 , والدارمي: الصلاة 1233. 2 الترمذي: الإيمان 2621 , والنسائي: الصلاة 463 , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها 1079 , وأحمد 5/346. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 515 وروى الترمذي عن حذيفة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: والذي نفسي بيده: لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عذابا من عنده، ثم تدعونه فلا يستجاب لكم 1. وروى ابن ماجة، والترمذي وصححه، عن أبي بكر الصديق، قال: يا أيها الناس، إنكم تقرؤون هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [سورة المائدة آية: 105] ، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الناس إذا رأوا منكرا فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقابه 2 ولأحمد: إنكم تقرءون هذه الآية، وتضعونها في غير موضعها; فذكره. وروى الترمذي، وأبو داود عن ابن مسعود،، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما وقعت بنو إسرائيل في المعاصي، نهتهم علماؤهم فلم ينتهوا، فجالسوهم في مجالسهم، وواكلوهم وشاربوهم، فضرب الله قلوب بعضهم ببعض، ولعنهم على لسان داود وعيسى بن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون قال: فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان متكئا، فقال: لا والذي نفسي بيده حتى تأطروهم أطرا 3 وفي رواية أبي داود، قال: كلا والله لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يد الظالم، ولتأطرنه على الحق أطرا، أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض، ثم يلعنكم كما لعنهم 4.   1 الترمذي: الفتن 2169. 2 ابن ماجه: الفتن 4005. 3 الترمذي: تفسير القرآن 3047. 4 الترمذي: الفتن 2169. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 516 فيا أمراء المسلمين، ويا حماة الذين، ويا علماء شرع رب العالمين، ويا كافة إخواننا المسلمين الله الله أن تستلب نعمتكم عيانا، وأنتم تقدرون على ثبوتها فيكم، ألا وهي نعمة التوحيد، وتحكيم الشريعة المحمدية، وحفظ المحارم والأولاد والعز والشرف. واعتصموا بالله جميعا في إقامة الحق، والقضاء على جميع المنكرات، والأخذ على أيدي السفهاء والعصاة، من قبل أن يحل بكم ما حل بمن قبلكم، من سالف الأمم، سنة الله التي قد خلت من قبل، ولن تجد لسنه الله تبديلا. فعلى العلماء إقامة الحجة، وإيضاح المحجة، وأخذ ما جاء به نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم بالقوة، وأن يقوموا بواجب بث النصائح والإرشاد، للجماعات والأفراد، وأن يعلموا الجاهل، وأن يقوموا بواجب التعليم. أعني تعليم العلوم الشرعية، المبعوث بها صفوة الخلق وخيرة البرية، علوم العقائد، والتوحيد بنوعيه، والعبادات، وعلوم الإيمان باليوم الآخر، وعلوم الحلال والحرام هذا والله هو العلم، وما سواه من أنواع العلوم المباحة في ذاتها، إن لم يكن معينا ومؤيدا لهذا العلم، وموصلا إلى اجتناء ثمراته، وخادما له في كافة حالاته، فإن الجهل به خير من العلم. وعلى ولاة المسلمين تجريد صوارم العزمات، ومتابعة الجزء: 14 ¦ الصفحة: 517 صواعق التغليظ والتهديدات، والضرب على أيدي العصاة، بيد من حديد، ليرجعوا إلى نجاتهم وحماتهم، وأن يؤكدوا على العلماء فردا فردا، غاية التأكيد أن يقوموا بواجبهم، ويساعدوهم، ويشدوا أعضادهم بالتنفيذ. وليعلم أن طريق إزالة المنكرات من أبين شيء لسالكيه، وأسهل مطلوب لراغبيه، إن صدقنا الموقف: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [سورة التوبة آية: 119] ، وصلى الله على محمد. [التذكير بما من الله به من فتح الحرم الشريف وبالأحاديث الواردة في منع البناء على القبور] وقال الشيخ: سعد بن الشيخ حمد بن عتيق، رحمهم الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم من سعد بن حمد بن عتيق، إلى جناب الإمام المكرم: عبد العزيز بن عبد الرحمن آل فيصل، أيده الله بالعز والتمكين، وجعله من حماة سنة سيد المرسلين، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فالموجب لتحرير الكتاب إبلاغ شريف جنابكم جزيل السلام، والنصيحة لكم، فإن النصيحة لكم تتعين على كل مسلم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الدين النصيحة، الدين النصيحة، الدين النصيحة، قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم 1. ثم لا يخفى ما منّ الله به من فتح الحرم الشريف، وما   1 مسلم: الإيمان 55 , والنسائي: البيعة 4197 , وأبو داود: الأدب 4944 , وأحمد 4/102. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 518 حصل به من إعلاء كلمة الإسلام، وخذلان أهل الشرك والطغيان والآثام، وهدم ما أحدثه أهل الضلال، من القباب، والمقامات، والبنايات التي على القبور، هو من أكبر النعم عليكم، وعلى المسلمين. وقد علم من عرف ما بعث الله به رسوله من الدين، وما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الواردة عنه أن البنايات على القبور، وإسراجها، واتخاذها مساجد، من أعظم البدع والمحدثات; وأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك، وبالغ في النهي عنه، حتى لعن من فعله. والأحاديث في ذلك لا تخفى على مثلك، مثل قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك 1. وقوله صلى الله عليه وسلم: لعنة الله على اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد 2 تحذيرا لأمته أن يفعلوا ذلك، فيستحقوا اللعنة من الله، وفي حديث ابن عباس رضي الله عنه قالت: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسرج 3. وإنما نهى صلى الله عليه وسلم عن هذه الأمور، وغلظ في النهي عنها، لأنها ذريعة إلى عبادة القبور، والشرك بأربابها، وهذا هو المحذور الأكبر؛ وقد وقع الشرك وعبادة القبور، لما فعلت الأمة ما نهى عنه صلى الله عليه وسلم من البنايات على القبور،   1 مسلم: المساجد ومواضع الصلاة 532. 2 البخاري: الصلاة 436 , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة 531 , والنسائي: المساجد 703 , وأحمد 1/218 ,6/34 ,6/80 ,6/121 , والدارمي: الصلاة 1403. 3 الترمذي: الصلاة 320 , والنسائي: الجنائز 2043 , وأبو داود: الجنائز 3236 , وابن ماجه: ما جاء في الجنائز 1575 , وأحمد 1/229 ,1/287 ,1/324 ,1/337. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 519 وإسراجها، واتخاذها مساجد وأعيادا. وقد جمع هؤلاء الضلال بين فتنة القبور، وبين دعاء الأموات، وسؤالهم قضاء الحاجات، وتفريج الكربات، وإجابة الدعوات، وهذا هو المذهب الوخيم، والشرك العظيم، و: {مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} الآية [سورة المائدة آية: 72] . وبهذا تعلم - حفظك الله - أن هدم هذه المشاهد، واستئصالها ومحوها، وعدم إبقاء شيء منها من أعظم الحسنات، وأن تركها، أو ترك شيء منها، والإعراض عن التحريض على محوها وإعدامها، من أعظم السيئات على القادر على ذلك؛ فحينئذ يجب على الإمام أيده الله أن يحرص أشد الحرص على محو هذه القباب، وما أشبهها من مواطن الشرك. وكان الناس يتحدثون أن الإمام أيده الله يريد أن يقرر رجلا يتفق عليه الناس، ويكون ذلك الرجل أميرا على الحرمين، على شريطة تقديم كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وتحكيمهما، وعزل ما خالفهما. فإذا كان المحكم في الحرمين الشريفين، هو كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم والعمل على ما اقتضياه، في أصول الدين وفروعه، فما أحسنه من صنيع! ما على حسنه من مزيد; وما أجمله عند أهل الإسلام والتوحيد! وما أشقه وأصعبه على نفوس أهل الشرك والتنديد! : {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 520 أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [سورة المائدة آية: 50] . وقد قيل: قالوا حديثك هند وهي مصغية ... يشفيك قلت صحيح ذاك لو كانا وقد تعلم - سلمك الله - أن سلامة دين الإنسان، لا يحصل إلا بالقيام بأمر الله، والنصيحة لله ولعباده، والصدق مع الله، وعدم المداهنة في دين الله، والخوف من الوقوع فيما يضر دينه، ويقدح فيه. فاحرص يا أخي على سلامة دينك، وإياك والإعراض عن دين الله، وعدم الالتفات إليه، وترك أهل الشرك والبدع والمعاصي، على ما كانوا عليه؛ فإن ذلك أمر عظيم، ومورد وخيم، أعاذك الله من ذلك. ونحن نعلم، أو نظن غالبا أن الأمير بمكة إذا كان من أهل تلك الأمكنة، فلا بد أن يكون منه إخلال بما يجب من الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر. وأن يحصل منه عدم اهتمام بدين الله، وإعراض عما أوجب الله على عباده، من القيام بأمر الله، والدعوة إلى توحيده، وإفراده بجميع أنواع العبادة، والنهي عما يخالف ذلك، من الشرك في العبادة، وما يؤول إليه من البدع والضلالات، التي تفضي بصاحبها إلى الشرك والكفر، والخروج من الدين. وإذا أهمل المتولّى على الحرم ما يجب عليه من القيام الجزء: 14 ¦ الصفحة: 521 بدين الله، فلا بد أن يقع المحذور الأكبر، ويعود أهل تلك المواطن إلى ما كانوا عليه قبل ولاية أهل الإسلام عليهم، من الشرك والبدع والمعاصي الظاهرة، فتعمر القباب على القبور، وتنتشر دعوة الغائبين والأموات، وسؤالهم قضاء الحاجات، وتفريج الكربات، وإجابة الدعوات، ويظهر الزنى، وأكل الربا، وغير ذلك من المنكرات. فينبغي للإمام أيده الله أن ينتبه لهذا الأمر، ويخاف أشد الخوف من أن يكون عليه كفل من الآثام، بسبب توليته من ليس له رغبة في دين الله، ولا التفات إلى القيام بشرائع الإسلام، والحث عليها وحمل الرعية عليها، والنهي عما ينافيها، من الشرك والبدع والمحدثات. وطريق السلامة والخلاص للإمام أيده الله، من هذه الشبكة، والنجاة من هذه المعضلة، أن يأخذ العهد والميثاق على من يوليه على الحرمين، على اتباع الكتاب والسنة، والنهي عن الشرك، ودعوة الأموات، ونفي المعاصي والمخالفات، وعلى هدم القباب ونفي البنايات، وغير ذلك من المنكرات. وليحذر الإمام سلمه الله من الإعراض عن ذلك، وعدم إلزام الأمير القيام بذلك كله، وليتأمل قوله تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَِ إنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} [سورة الجاثية آية: 18- الجزء: 14 ¦ الصفحة: 522 19] . وقوله:: {وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} الآية [سورة المائدة آية: 49] . وأنت أيدك الله إذا أخذت العهد والميثاق على من توليه، حصل لك بذلك سلامة دينك، وحصل لك الثناء والدعاء لك، من كل موحد يبلغه ذلك في جميع الأقطار؛ فإن حصل استمرار على ما تعهده إليه، وتأخذ الميثاق منه عليه، وذلك من أعظم النعم، ويحصل لكم من الأجر والثواب - إن شاء الله - ما وعد الله به أهل دينه، والدعاة إلى سبيله، وإن تكن الأخرى فسوف تنظر في أمرك، وتعرف الذي فيه المصلحة، من جهاد وغيره. ولا يكن همّك وأعظم مطلوبك أن يحج المسلمون، وأن لا يمنعوا عن البيت، مع إعراضك عما ذكرته لك، من اهتمام بأهل الدين، وتجريد التوحيد؛ وقد علمت أن التوحيد هو أساس الأعمال الذي لا تصح بدونه، ولا تقبل إلا معه وهذه النصيحة كتبتها لك إعذارا وإنذارا، وقياما بما يجب لك علي من النصيحة، والخوف عليك من الوقوع فيما يضر دينك. وأسأل الله تعالى أن يجعلك ممن يقبل النصائح، ويدرأ أسباب الندم والفضائح، وأن يثبتك علي الصراط المستقيم، وأن يجعلك من الذين قال الله فيهم: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [سورة الحج آية: 41] . والله الجزء: 14 ¦ الصفحة: 523 أعلم، وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا. حرر في 23 شعبان سنة 1343هـ. [التذكير بوجوب التفقه في الدين ومحبة وصول الخير ووجوب تعلم الدين] وقال أيضا الشيخ: سعد، وعبد العزيز، ابنا الشيخ حمد بن عتيق، رحمهم الله: بسم الله الرحمن الرحيم من سعد وعبد العزيز ابني حمد بن عتيق، إلى من يصل إليه هذا الكتاب، من إخواننا المسلمين من أهل الجنوب، وفقنا الله وإياهم لاتباع سبيل الهدى، وجنبنا مواقع الهلاك والردى، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فالموجب لهذا الكتاب، النصيحة لكم، والشفقة عليكم، ومحبة وصول الخير إليكم، فإن ذلك مما أمر الله به عباده، من التعاون على البر والتقوى، بل من واجبات الدين التي أوجب الله على عباده، قال الله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [سورة المائدة آية: 2] . وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: الدين النصيحة، الدين النصيحة، الدين النصيحة، قالوا: لمن يا رسول الله، قال: لله، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم 1.   1 مسلم: الإيمان 55 , والنسائي: البيعة 4197 , وأبو داود: الأدب 4944 , وأحمد 4/102. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 524 فالنصيحة لله سبحانة: الإيمان به، وعدم الشرك به، ووصفه بما تعرف به إلى عباده، من صفات كماله، ونعوت جلاله، وعدم الإلحاد في أسمائه وصفاته، وطاعته بامتثال أمره واجتناب نهيه. والنصيحة لكتابه: الإيمان بأنه من عند الله، ووحيه وتنْزيله، وتلاوته مع تدبره، والعمل به واتباع ما فيه. والنصيحة لرسوله صلى الله عليه وسلم الإيمان به، ومحبته وتصديقه، والتمسك بسنته، واتباع ما جاء به من الهدى ودين الحق. والنصيحة لأئمة المسلمين: طاعتهم فيما أمروا به من الحق، والجهاد معهم، وأداء الزكاة إليهم إذا طلبوها، وترك الخروج عليهم وإن جاروا، والدعاء لهم بالصلاح. والنصيحة لعامة المسلمين: إرشادهم إلى مصالحهم في دنياهم وآخرتهم، وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، ودعوتهم إلى الحق، والحرص على إيصال الخير لهم ودفع المضار عنهم، وحثهم على تقوى الله تعالى، ونهيهم عن التفرق والاختلاف. كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} [سورة آل عمران آية: 102-103] ، والتقوى: طاعة الله سبحانه وتعالى، بامتثال أمره، واجتناب نهيه. قال بعض السلف: التقوى أن تعمل بطاعة الله، على الجزء: 14 ¦ الصفحة: 525 نور من الله، ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله، على نور من الله، تخاف عقاب الله. وقال بعض السلف: حق تقاته: أن يطاع فلا يعصى، ويذكر فلا ينسى، ويشكر فلا يكفر. وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إن الله يرضى لكم ثلاثا: أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم 1. وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ثلاث لا يغل عليهم قلب مسلم: إخلاص العمل لله، ومناصحة المسلمين، ولزوم جماعتهم، فإن دعوتهم تحيط من ورائهم 2، وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: اعبدوا الله ربكم، وصلوا خمسكم، وصوموا شهركم، وأطيعوا ذا أمركم، تدخلوا جنة ربكم 3. ويجب علينا وعليكم أن نتعلم دين الله ونعمل به، وهو دينه الذي شرعه لعباده ورضيه لهم دينا، وجعل معرفته والعمل به سببا لدخول الجنة، والجهل به وإضاعته سببا لدخول النار. وأعظم ذلك وأهمه: ما بعث الله به محمدا صلى الله عليه وسلم وأمر به عباده، وتعبدهم بالقيام به، مما تضمنته شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، من إخلاص العبادة لله وحده لا شريك له، واجتناب الشرك ووسائله، وتحكيم رسوله صلى الله عليه وسلم في الدقيق والجليل.   1 مسلم: الأقضية 1715 , وأحمد 2/327 ,2/360 ,2/367 , ومالك: الجامع 1863. 2 ابن ماجه: المناسك 3056 , وأحمد 4/80 ,4/82 , والدارمي: المقدمة 227. 3 الترمذي: الجمعة 616 , وأحمد 5/262. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 526 والقيام بواجبات الدين وفرائضه، كالصلاة والزكاة، والحج وصوم رمضان، فإن هذه أركان الإسلام ومبانيه، كما قال صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر، رضي الله عنهما: بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت 1. فيجب على كل مسلم معرفة هذه الأركان، والعمل بها، والإتيان بها كما أمر الله سبحانه وتعالى، وبينه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، مع ما يلتحق بذلك من الحب في الله، والبغض في الله، وموالاة أهل الإسلام والتوحيد، ومعاداة أهل الكفر والشرك والتنديد، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والجهاد في سبيل الله، والسمع والطاعة لمن ولاه الله أمر المسلمين، وعدم الخروج عليه، ونزع اليد من طاعته. فإن في مخالفة ولاة الأمور، ونزع اليد من طاعتهم، من المضرات والمفاسد في الدين والدنيا ما لا يحصيه إلا الله، وقد منّ الله عليكم، وأنعم عليكم بنعمة الإسلام والدين، والدخول في ولاية المسلمين، والانتظام في سلكهم، فاعرفوا هذه النعمة التي أنعم الله بها عليكم، واشكروه عليها. وعليكم بالتراحم، والتواصل، والتواد فيما بينكم، فإن المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره، وقال صلى الله عليه وسلم: مثل المؤمنين في توادهم تراحمهم وتعاطفهم،   1 البخاري: الإيمان 8 , ومسلم: الإيمان 16 , والترمذي: الإيمان 2609 , والنسائي: الإيمان وشرائعه 5001 , وأحمد 2/26. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 527 كالجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد، بالحمى والسهر 1. وعليكم بإفشاء السلام، وصلة الأرحام، وإطعام الطعام وحسن الجوار، والإحسان إلى الفقراء والمساكين والأيتام. واجتنبوا ما نهى الله عنه كالزنى، والربا، والغيبة، والنميمة، والكذب، وقول الزور، وعقوق الوالدين، والظلم والعدوان، والشدة على عباد الله المؤمنين; واحذروا المراء والخوض في دين الله، والإفتاء بالجهل، والقول على الله بلا علم في أسمائه وصفاته، وشرعه وأحكامه. فإن ذلك من أكبر أسباب الضلال، كما قال صلى الله عليه وسلم: إن الله لا يقبض العمل انتزاعا ينتزعه من الناس، ولكن بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالم، اتخد الناس رؤساء جهالا، فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا 2. فاتقوا الله عباد الله: {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} [سورة البقرة آية: 281] ، وتأهبوا للعرض الأكبر على الله: {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} [سورة الحاقة آية: 18] ، فنسأل الله الكريم أن يهدينا وإياكم صراطه المستقيم، وأن يهب لنا من لدنه رحمة إنه هو الوهاب، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم سنة، 1338 هـ 3.   1 البخاري: الأدب 6011 , ومسلم: البر والصلة والآداب 2586 , وأحمد 4/270. 2 البخاري: العلم 100 , ومسلم: العلم 2673 , والترمذي: العلم 2652 , وابن ماجه: المقدمة 52 , وأحمد 2/162 ,2/190 ,2/203 , والدارمي: المقدمة 239. 3 ويلاحظ تأخير بعض هذه الرسائل عن مكانها لأجل تقارب ما قبلها في موضوعاتها. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 528 [وصية الشيخ سعد بن حمد بن عتيق إلى الإمام عبد العزيز آل فيصل بالتقوى والحرص على إقامة الدين] وقال أيضا الشيخ: سعد بن حمد بن عتيق، رحمه الله: بسم الله الرحمن الرحيم من سعد بن حمد بن عتيق، إلى الإمام المكرم: عبد العزيز بن عبد الرحمن آل فيصل، سلمه الله تعالى، وهداه، وجعله ممن اتبع هداه. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: أوصيك ونفسي بتقوى الله تعالى، فإنها وصية الله لعباده، قال تعالى:: {يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ} [سورة الزمر آية: 16] . والتقوى كلمة جامعة، يدخل فيها فعل جميع الطاعات، واجتناب المحرمات. ومن أعظم ذلك: الحرص على إقامة دين الله تعالى، وحمل الرعية على العمل بدينه وشرعه الذي شرعه لعباده، وتعبدهم بالقيام به، وخلقهم من أجله، وهو دين الإسلام، وهو شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت الحرام؛ وهذه أركان الإسلام، ومبانيه التي بني عليها، كما أخبر بذلك نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح. وأعظم ذلك: معنى شهادة أن لا إله إلا الله، وهو إخلاص العبادة لله تعالى، واجتناب الشرك في العبادة، مثل دعاء القبور، والاستمداد من الأموات، وسؤالهم الحاجات وتفريج الكربات، وما يئول إلى ذلك ويفضي إليه، من بناء الجزء: 14 ¦ الصفحة: 529 المساجد عند القبور، والصلاة عندها، وقصدها للدعاء، وغير ذلك من ذارئع الشرك ووسائله، كالحلف بغير الله، وقول الرجل: وحياة فلان، وقول الرجل: لولا الله وفلان; وقول الرجل: ما شاء الله وشئت، وما أشبه ذلك من الألفاظ التي يجعل قائلها المخلوق ندا لله تعالى، ولما قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم ما شاء الله وشئت: قال: أجعلتني لله ندا؟ بل ما شاء الله وحده 1. ومن أعظم ما أمر الله به: الصلاة، فإن الله تعالى افترضها على عباده، وجعلها أحد أركان الإسلام؛ فيجب المسارعة في إقامتها، والاجتماع لها في المساجد، والنهي عن التخلف عنها. فعليكم بالاهتمام بهذه الأصول، وحمل الرعية على القيام بها على الوجه المطلوب، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، فإن ذلك من واجبات الدين; وقد وقع من كثيرين من الناس الإخلال بالصلاة، والتهاون بها، وعدم الاجتماع لها جمعة وجماعة. وأعظم من بلغنا عنهم الإخلال بالصلاة، وعدم الاجتماع لها في المساجد: أهل جهة الحجاز، فعندهم من ذلك ما يفوق الوصف، كما وقع من كثير منهم الإخلال بالزكاة، وعدم اعتبار ما أمر الله ورسوله باعتباره. ومن ذلك: عدم مراعاة نصاب الزكاة، وأخذهم من   1 أحمد 6/371. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 530 القليل والكثير، وعدم الالتفات إلى الحدود الشرعية؛ فيما تجب فيه الزكاة، من الحبوب، والثمار، والمواشي، وهذا من الإعراض عما أوجب الله على عباده من العمل بالشريعة المحمدية. ولا شك أن الذي يأخذ شيئا من المال الذي لا يبلغ النصاب، ويسميه زكاة، ويدعي أنه هو الزكاة التي أمر الله بها عباده وافترضها عليهم، أن فعل هذا من الجنايات على الشريعة، والتغيير لدين الله، وشرع دين لم يأذن به الله; وهذا مما يجب عليكم الاهتمام به، وتحذير العمال، وأمراء البلدان، من خرص شيء لا يبلغ النصاب فإن ذلك من المنكر الذي يجب إنكاره. ومن أعظم المنكرات: اختلاط الرجال بالنساء، في البيوت، والمجالس، والأسواق، وخروج النساء بالزينة في الأسواق، والمعاملات الربوية، والكذب في البيوع، والتطفيف في المكيال والميزان، والظلم لعباد الله، والعدوان عليهم في دمائهم، وأموالهم، وأعراضهم. وينبغي أن نذكر، في هذه الورقة مقادير ما تجب فيه الزكاة، من الحبوب، والثمار، والمواشي، ومقدار ما يؤخذ زكاة من الأموال المذكورة. فأما الإبل: فلا زكاة فيها حتى تبلغ خمسا، فإذا بلغت خمسا ففيها شاة، وفي العشر شاتان، وفي خمس عشرة ثلاث شياه، وفي العشرين أربع شياه; فإذا بلغت خمسا وعشرين الجزء: 14 ¦ الصفحة: 531 ففيها بنت مخاض لها سنة; فإذا بلغت ستا وثلاثين، ففيها بنت لبون لها سنتان، فإذا بلغت ستا وأربعين ففيها حقة لها ثلاث سنين. فإذا بلغت إحدى وستين، ففيها جذعة لها أربع سنين; فإذا بلغت ستا وسبعين ففيها بنتا لبون، فإدا بلغت إحدى وتسعين ففيها حقتان; فإذا زادت على العشرين ومائة واحدة، ففيها ثلاث بنات لبون; ثم في كل أربعين بنت لبون; وفي كل خمسين حقة. وأما البقر: فلا زكاة فيها حتى تبلغ ثلاثين; فإذا بلغت ثلاثين ففيها تبيع له سنة; وفي أربعين مسنة لها سنتان; ثم في كل ثلاثين تبيع; وفي كل أربعين مسنة. وأما الغنم: فلا زكاة عليها حتى تبلغ الأربعين; فإذا بلغت أربعين ففيها شاة; فإذا زادت على مائة وعشرين واحدة ففيها شاتان; فإذا زادت على مائتين واحدة، ففيها ثلاث شياه; ثم في كل مائة شاة. وأما الحبوب: فالنصاب منها مائتان وسبعون صاعا، بالصاع المعروف في بلدان نجد اليوم. وأما التمر: فالنصاب منه أربعمائة وزنة، بالوزنة المعروفة في نجد اليوم، وأما القدر في الذي تجب زكاته: فما سقي بلا مؤونة، كالذي يسقى بالسيول والأمطار والثلج، فيجب فيه العشر، والدي يسقى بالسواني ونحوها، ففيه نصف العشر، وصلى الله على محمد. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 532 [حث النواب والأمراء على القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والحث على منع اختلاط الرجال بالنساء] وقال بعضهم، رحمه الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وسلم تسليما كثيرا. أما بعد: فإن الله سبحانه وتعالى بعث محمدا صلى الله عليه وسلم رحمة لهذه الأمة، وأكمل الله به الدين، وأتم به النعمة; فلا خير إلا دل عليه، ولا شر إلا حذر عنه; فعلى العباد أن يأخذوا بما أتى به نبيه صلى الله عليه وسلم من الدين. قال الله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [سورة الحشر آية: 7] ، ومن ذلك: الأمر والنهي، اللذان بهما قوام الدين؛ وبالقيام بهما صلاح البلاد والعباد، وبإضاعتهما يكثر الخبث ويعم الفساد، قال الله تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [سورة الروم آية: 41] . فعلى نواب البلدان، الذين عينهم الإمام، وألزمهم القيام بذلك أن يعتنوا بهذا الأمر، ويقوموا به أتم القيام، ويلزم الأمراء مساعدتهم على ما ألزموا القيام به. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 533 لأن الأمر من قاعدة الحسبة، وأصلها هو: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الذي بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه، ووصف به هذه الأمة، وفضلها به على سائر الأمم التي أخرجت للناس. وهذا واجب على كل مسلم قادر، وهو فرض كفاية; ويصير فرض عين على القادر الذي لم يقم به غيره، من ذوي الولاية، فعليهم من الوجوب ما ليس على غيرهم، فإن مناط الوجوب هو القدرة. فيجب على القادر ما لا يجب على العاجز، قال الله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [سورة التغابن آية: 16] ، وقال عليه الصلاة والسلام: إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم 1. فيجب على الولاة أن يأمروا العامة بالصلوات الخمس في مواقيتها، ويعاقبوا من لم يصل مع الجماعة في المساجد بالضرب والحبس، ويتعاهدوا الأئمة والمؤذنين، فمن فرط منهم فيما يجب عليه من حقوق الأمة، وخروجهم عن المشروع، ألزموهم به، والاعتناء بإلزام الرعية بإقام الصلاة، وهي من أعظم كل شيء، فإنها عماد الدين، وأساسه وقاعدته. وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يكتب إلى عماله: إن أهم أمركم عندي الصلاة، فمن حفظها وحافظ عليها حفظ دينه، ومن ضيعها فهو لما سواها أشد إضاعة.   1 البخاري: الاعتصام بالكتاب والسنة 7288 , ومسلم: الحج 1337 , والنسائي: مناسك الحج 2619 , وابن ماجه: المقدمة 2 , وأحمد 2/508. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 534 ويأمر بالجمع والجماعات، وأداء الأمانة، والصدق، والنصح في الأقوال والأعمال، وينهى عن الخيانة، والغش في المبايعات والصناعات، وتفقد أحوال المكاييل والموازين. ويجب على الآمر أن يمنع النساء من الاختلاط بالرجال، في الأسواق ومجامع الرجال، كالمساجد، قال عليه الصلاة والسلام: ما تركت فتنة بعدي أضر على الرجال من النساء 1. ويجب عليهم منع النساء من الخروج، متزينات متجملات متطيبات، ومنعهن من الثياب التي يكنّ بها كاسيات عاريات، كالثياب الواسعة والرقاق، ومنعهن من حديث الرجال في الطرقات. وفي الحديث: إن المرأة إذا تطيبت، وخرجت من بيتها، فهي زانية وصح منعها إذا أصابت بخورا، أن تشهد العشاء الآخرة في المسجد، ولا ريب أن اختلاط الرجال بالنساء، هو رأس كل بلية وشر. وقد بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم رحمة وهدى للعالمين; ومما بعثه الله به: الأمر بمحق المعازف والمزامير والملاهي; وفي الحديث: إن إبليس لما أهبط إلى الأرض قال: يا رب، اجعل لي مجلسا; قال: الأسواق ومجامع الطرق، قال: فاجعل لي مؤذنا; قال: المزمار. قال ابن القيم رحمه الله تعالى: أما كون المزمار   1 البخاري: النكاح 5096 , ومسلم: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار 2740 ,2741 , والترمذي: الأدب 2780 , وابن ماجه: الفتن 3998 , وأحمد 5/210. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 535 مؤذنه، ففي غاية المناسبة، فإن الغناء قرآنه، والتصفيق والرقص اللذين هما المكاء والتصدية صلاته; فلا بد لهذه الصلاة من مؤذن وإمام ومأموم، فالمؤذن المزمار، والإمام المغني، والمأمومون الحاضرون. وقال بعض العارفين: وقد كان الناس فيما مضى يستتر أحدهم بالمعصية إذا أوقعها، ثم يستغفر الله ويتوب إليه منها؛ ثم كثر الجهل وقلّ العلم، وتناقص الأمر، حتى صار أحدهم يأتي المعصية جهارا. ثم ازداد الأمر حتى استزلهم الشيطان، وأسبغ عقولهم في حب اللهو وسماع الطقطقة، واعتقد أنه من الدين الذي يقرب من الله، فجاهروا به، وخالفوا الفقهاء والعلماء: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} [سورة النساء آية: 115] . وقد صرح علماء الأمة بتحريم سماع الملاهي كلها، كالمزمار، والدف، والضرب بالقضيب، وصرحوا أنه معصية يوجب الفسق، وترد به شهادته. قال النووي: فإذا كان الزمر - الذي هو آلات اللهو - حراما، فكيف بما هو أشد منه، كالعود والطنبور؟ ولا ينبغي لمن شم رائحة العلم أن يتوقف في تحريم ذلك، فأقل ما فيه أنه من شعائر الفسّاق. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 536 وكتب عمر بن عبد العزيز إلى مؤدب ولده: ليكن أول ما تعتقد وتبغض الملاهي، التي بدؤها من الشيطان، وعاقبتها سخط الرحمن، فإنه بلغني عن الثقات من أهل العلم أن أصوات المعازف، واستماع الأغاني، واللهج بها، ينبت النفاق في القلب، كما ينبت العشب على الماء; فالغناء يفسد القلب، فإذا فسد القلب هاج فيه النفاق. والمقصود: أن هذه الأصوات المطربة، الحاصلة من "المحَّال"1 داخلة في مسمى المعازف والملاهي والمزامير، لأنها تصد عن ذكر الله وعن القرآن، وتجلب الغناء الذي هو قرآن الشيطان، وفعل السيئ وتقدم فعله. والعوائد التي تخالف الشرع لا يقر الناس عليها، بل يجب إزالتها؛ والسكوت عن مثل ذلك، وعدم النهي عنه بخصوص، لا يدل على جواز فعله، ولا يقتضي عدم كراهته، لأن الدين ما شرعه الله على لسان رسوله; وبكل حال: فأصوات "المحَّال"من المحرمات بلا ريب. وما أعظم ضرر الغفلة عن مثل ذلك وعدم النهي عنه، حتى يستحكم في أنفس الجهال، فيرون أنه من الدين، فإذا غير أنكرته طباعهم، لما في قلوبهم من الشك وعدم اليقين، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: يأتي على الناس زمان تتخذ فيه البدعة سنة، فإذا غيرت، قالوا غيّرت السنة والمحتج   1 من آلات السواني. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 537 بالعادة أو فعل متقدم، بلا دليل شرعي، فحجته باطلة لا يلتفت إليها والحق - بحمد الله - واضح لمن وفق لقبوله. ولما كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يتم إلا بالعقوبات الشرعية، فإن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن; وإقامة الحدود، والأمر [بالعقوبات] واجب على ولاة الأمور، والعقوبة تكون على فعل محرم، أو ترك واجب. فإياكم عباد الله والمداهنة في الدين، وعدم الإنكار على من خالف سبيل المؤمنين، وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: والذي نفسي بيده، ليخرجن أناس من أمتي من قبورهم، في صورة القردة والخنازير لمداهنتهم في المعاصي وكفهم عن المنهي، وهم يستطيعون. وقال صلى الله عليه وسلم: لا يمنعن أحدكم هيبة الناس، أن يقول الحق إذا رآه، فإنه لا يقرب من أجل، ولا يبعد من رزق أو كما قال. وقال صلى الله عليه وسلم: لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، أو ليسلطن الله عليكم شراركم، فيدعو خياركم، فلا يستجاب لهم وقال صلى الله عليه وسلم وإن آية سخط الله على العباد أن يسلط عليهم صبيانهم، فينهونهم فلا ينتهون. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 538 وقال علي رضي الله عنه: الجهاد ثلاثة: جهاد بيد، وجهاد بلسان، وجهاد بقلب. فأول ما يغلب عليه من الجهاد جهاد اليد، ثم جهاد اللسان، ثم جهاد القلب؛ فإذا كان القلب لا يعرف معروفا، ولا ينكر منكرا، نكس وجعل أعلاه سافله. وقال الحسن: لا يزال الناس بخير ما تباينوا، فإذا استووا فذلك حين هلاكهم. وقال صلى الله عليه وسلم: ألا أخبركم بأقوام ليسوا بأنبياء ولا شهداء، يغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة بمنازلهم من الله، على منابر من نور، يعرفون؟! الذين يحببون عباد الله إلى الله، ويحببون الله إلى عباده، ويمشون في الأرض نصحا; قيل: كيف يحببون عباد الله إلى الله؟ قال يأمرونهم بما يحب الله، وينهونهم عما يكرهه الله، فإذا أطاعوهم أحبوهم. والأحاديث والآثار في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كثيرة; والله يقول الحق وهو يهدي السبيل، وحسبنا الله ونعم الوكيل، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد، وآله وصحبه أجمعين. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 539 [الشيخ سليمان بن سحمان يذكر الإمام عبد العزيز آل فيصل بأسماء الله وصفاته وكمال قدرته] وقال الشيخ: سليمان بن سحمان، رحمه الله: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي جعل الابتلاء والامتحان طهرة وتمحيصا لأهل الإيمان، ورجزا ونقمة على أهل الظلم والطغيان، وأزال به عن قلوب أوليائه، حجاب العجب ورؤية القدرة، وأعقبهم الصبر والإيقان، فيُري عباده عزته، ويبدي لهم لطفه، لتظهر آثار الحكمة لمن له بصيرة وعرفان. إلى حضرة محبنا وفاضلنا، ذي السعادة والسيادة، الشيخ المفضل، والرئيس المبجل، الإمام: عبد العزيز بن الإمام المكرم عبد الرحمن آل فيصل، أمده الله بالتوفيق والتسديد، وخذل كل عدو له وللإسلام من قريب أو بعيد، وأزاح عنه علل الشكوك، ورزقه الإيقان والسلوك، وألبسه لباس العز والتمكين، ونصر به شريعة سيد المرسلين، آمين. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأزكى وأشرف تحياته. أما بعد: فإن من عرف الله بأسمائه وصفاته، وعزته وقدرته، وكمال مجده وملكه وغناه، وعرف نفسه بالنقص والعيب، والعجز والضعف، والفقر والذل، أوجب له الرضى والتسليم؛ فمقدورات الرب سبحانه وبحمده أنه حكيم عليم، ما شاء كان، وما لم يشأ لا يكون. وأن جميع من في السماوات ومن في الأرض تحت قهره، وفي قبضته وتصرفه; فإذا أيقن العبد بذلك، انزاحت عنه العلل، وعلم أن لنفسه الجزء: 14 ¦ الصفحة: 540 دسائس وكمائن، فيعود عليها باللوم، والتوبيخ، والتبكيت. وليعلم: أن العليم الحكيم إنما ابتلاه ليعلم صبره وإيقانه، فيزداد رغبة لربه وانطراحا بين يديه، وانكسارا ودخولا على ربه، من باب الافتقار الصرف فعند ذلك يعود عليه ربه بعائدة بره ولطفه وكرمه، ويمده بمدد يرى أثره في حياته، وعقباه في آخرته؛ والابتلاء والامتحان يتميز به صادق الإيمان من كاذبه. وقد ابتلى الله أولياءه وأصفياءه، وخاصة رسله، قال الله تعالى لعبده ورسوله، فيما أوحاه إليه: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [سورة التوبة آية: 25-26] . وكذلك ما جرى عليه صلوات الله وسلامه عليه يوم أحد، حين كسرت رباعيته، وشج رأسه، وما ذلك لهوانه، وهوان أصحابه عليه، ولكن لزيادة ثوابهم، ورفعة درجاتهم: {وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} [سورة آل عمران آية: 141] . والمؤمن الموفق، إذا ناله شيء من الابتلاء، أوجب له عدم اتهام ربه بقضائه وقدره، وصبر واحتسب، وانتقل من الحال التي يكرهها الله، إلى الحال التي يحبها، وأما من ضعف صبره ويقينه، وقل احتسابه، فالمصائب لا تزيده إلا ريبا، وشكا، وإساءة ظن، واتهاما لمولاه، فيرجع بأخسر الجزء: 14 ¦ الصفحة: 541 الصفقتين، وينقلب بأعماله وأحواله صفر اليدين. وأنت - من فضل الله وكرمه - عوائد ربك ومننه عليك لا تحصى كم نالك من وصمة، وشدة وكربة، ورد الله لك الكرة المرة بعد المرة؟ وباء عدوك بالخزي والعار والمذلة; فلله الحمد لا نحصي ثناء عليه، بل هو كما أثنى على نفسه، فجلت عظمته، وعزت قدرته. فاشكر مولاك الذي أنجاك، واصرف همتك لما يرضيه، واجعل أمره ونهيه، وخوفه ورجاءه، نصب عينيك؛ وأدم له التضرع والابتهال، والقيام بواجبات الشكر، تفز بخير الدنيا والآخرة، وتنال مطلوبك ومأمولك. ونحن لما سمعنا ما أجرى الله، ضاقت بنا الأرض بما رحبت، ووددنا أن نفديك بأنفسنا، ومن تحت أيدينا، ولكن الكربة انفرجت في آن قريب، فلما سمعنا بسلامتك وعافيتك، اطمأنت نفوسنا ونفوس المسلمين، وظهر فيما بينهم الفرح والسرور. ونرجو من الكريم المنان أن يديم لهم وجودك وسلامتك، وهدايتك لما فيه صلاح العباد والبلاد، لينتفع بك أقوام، ويضر بك آخرون؛ وإلا فالدنيا لا بد فيها من الافتراق، ولا بد لها من الزوال، والله ولي الهداية والتوفيق، وصلى الله على محمد. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 542 [الوصية بإخلاص العبادة وذكر بعض آيات في التوحيد وذكر عظم الشرك] وقال بعضهم، رحمه الله: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي رضي لنا الإسلام دينا، ونصب الأدلة على صحته وبينه تبيينا، ومنّ على من أنعم به عليه، وكفى بربك هاديا ومعينا; إلى من يصل إليه هذا الكتاب، من المسلمين خاصة أهل الدين، وفقنا الله وإياهم للتمسك بحبله المتين، ورزقنا الاستقامة على الحق المبين. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فأوصيكم وإياي بتقوى الله تعالى، وتدبر كتابه المجيد، الذي {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [سورة فصلت آية: 42] . وقد حكم تعالى في كتابه، على إخلاص العبادة له وحده لا شريك له، وأخبركم أنه لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصا لوجهه الكريم، كما قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [سورة الزمر آية: 2-3] . وقال: {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي} [سورة الزمر آية: 14] . وقال: {وَمَا أُمِرُوا إِلاّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [سورة البينة آية: 5] . وأمركم بعبادته وحده، ونهاكم عن الشرك به، كما قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو الجزء: 14 ¦ الصفحة: 543 وَإِلَيْهِ مَآبِ} [سورة الرعد آية: 36] . فهذا أصل الدين وأساس ملة الإسلام، الذي لا يصح لأحد عمل إلا به، وهو دعوة جميع الرسل، وهو الذي خلق الله له جميع الخلق، كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ [سورة الذاريات آية: 56] . والآيات في بيان هذا التوحيد، وأن جميع الرسل دعوا الناس إليه في القرآن أكثر من أن تحصر؛ يعرف ذلك من تدبره، وشرح الله صدره، ونصب الأدلة على أنه لا يستحق العبادة غيره، فمن ذلك ما ذكره الله تعالى من أسمائه الحسنى، وصفاته العليا التي هي صفات الكمال، وكذلك ما يشاهدونه من عظيم مخلوقاته. ولذلك صار الشرك في العبادة أعظم ذنب عُصي الله به، وأوجب على المؤمنين مقاطعة أهله، والبراءة منهم، وجهادهم، والكفر بهم، وأباح دماءهم وأموالهم؛ فلا يكون المؤمن موحدا إلا بهذا، وهو مقتضى كلمة الإخلاص "لا إله إلا الله، "قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلاّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} [سورة الأنفال آية: 73] . فلا يصح للمؤمن دين، إلا بموالاة أهل التوحيد ومحبتهم، وبغض أهل الشرك والنفاق، والبراءة منهم، كما قال تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا الجزء: 14 ¦ الصفحة: 544 بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [سورة الممتحنة آية: 4] . وهذه هي أصل عرى الدين. فإياكم إياكم أن تنقضوا هذه العرى، بالغفلة والإعراض عنها، والاشتغال بالدنيا عن هذا الأصل العظيم، الذي لا يصح لكم دين إلا بالإتيان به باطنا وظاهرا، واعتقادا وعملا؛ وحاسبوا أنفسكم عن هذا الأصل العظيم، وميزوا الناس بدينهم، وقربهم من ربهم وبعدهم عنه، وعن العمل بما أمروا به. فيا سعادة من صح له هذا الدين، وأحب في الله وأبغض في الله، وعادى في الله ووالى في الله، وقرب لله وأبعد لله، وأعطى لله ومنع لله، محبة للدين وعملا بما فرضه الله. واعلموا أنه لا يقوم هذا الدين إلا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما قال تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [سورة آل عمران آية: 104] ، والآيات في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والحث عليه كثيرة جدا. الأمر الثاني: جهاد من خرج عن طاعة الله، كما قال تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [سورة الأنفال آية: 39] . وقال تعالى: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [سورة التوبة آية: 36] ، وملاك ذلك: الاعتصام بكتاب الله وسنة رسوله، علما وعملا. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 545 وقد أمر الله تعالى بالاجتماع على دينه، ونهى عن التفرق والاختلاف، قال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} إلى قوله: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} الآية [سورة آل عمران آية: 103 - 105] . الأمر الثالث: طاعة من ولاه الله أمر المسلمين، فيما يأمركم به من طاعة الله ورسوله، وما ينهاكم من معصية الله ورسوله ونحو ذلك، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [سورة النساء آية: 59] . والأحاديث في هذا المعنى كثيرة، كحديث العرباض بن سارية، مرفوعا: أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة، وإن تأمر عليكم عبد حبشي ... 1 إلخ. وقد أعطاكم الله بهذا الدين، من جلائل النعم، ووفرتها ما لا يحصى، فاشكروا الله تعالى على ما أعطاكم من نعم الدين والدنيا، بامتثال ما أمركم به، وترك ما نهاكم عنه، واتقاء سخطه وعقابه، وحلول نقمته وعذابه، ولا تغرنكم الحياة الدنيا، ولا يغرنكم بالله الغرور. وفي الحديث: المجاهد من جاهد نفسه في ذات الله، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه 2. وقد ابتليتم بالهوى، وحب الدنيا   1 الترمذي: العلم 2676 , وابن ماجه: المقدمة 42 , والدارمي: المقدمة 95. 2 البخاري: الإيمان 10. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 546 فإياكم إياكم أن تأمنوا مكر الله، واعتبروا بمن مضى من الدول، وما صاروا إليه، واحذروا غير الله، فـ: {نَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ [سورة التوبة آية: 36] . أعاذنا الله وإياكم من التمادي في التغيير، ونسأله التوبة النصوح، والعفو والعافية في الدنيا والآخرة، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وحسبنا الله ونعم الوكيل، وصلى الله على سيد المرسلين، وإمام المتقين، وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا. [أوجب الواجبات التوحيد وإجابة المرسلين ومعرفة ذلك والعمل به والحث على لزوم الشريعة] وقال بعضهم، رحمهم الله: بسم الله الرحمن الرحيم إلى من يراه من المسلمين، وفقهم الله لسلوك صراطه المستقيم، وجنبنا وإياهم طرق الجحيم، آمين. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فموجب هذا الكتاب، النصيحة لكم، والشفقة عليكم، ومعذرة من الله فيما أخذه علينا من الميثاق، من بيان أمره للعباد، والتحذير من ارتكاب نهيه، كما أوجب الله عز وجل علينا معرفته ومعرفة نبيه، ومعرفة ما شرعه هذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم. وواجب على من علم: العمل بالعلم وتعليمه، والصبر على ذلك، كما قال تعالى: {وَالْعَصْرإِنَّ الأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [سورة العصر آية: 1-2] ، إلى آخر السورة. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 547 وأوجب الواجبات: علم التوحيد; وهو معنى شهادة أن لا إله إلا الله، ومتابعة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهو معنى شهادة أن محمدا رسول الله; فهاتان الكلمتان عليهما مدار الدين كله، ولهذا لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل ماذا كنتم تعبدون؟ وماذا أجبتم المرسلين؟. فعبادة الله، هي إفراده سبحانه بأنواع العبادة، دون ما سواه، وإجابة المرسلين: طاعتهم فيما أمروا، واجتناب ما عنه نهوا وزجروا، وأن لا يعبد الله إلا بما شرعوا. فإذا تحققتم هذا، فواجب عليكم معرفة هذين الأصلين، والعمل بهما؛ ولا يحصل هذا إلا بتعلم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وتدبر ما أمرا به وما نهيا عنه، والوقوف عند ذلك بالامتثال، خوفا ورجاء، ومحبة وشوقا إلى الله، وما لديه من النعيم، وهربا من العذاب الأليم. فقد أقام الله ورسوله علينا حججه ببيان الحق، وأمرا باتباعه، وبيان الباطل، وأمرا باجتنابه; ووعدا وتوعدا، وحذرا وأنذرا، وبلغا البلاغ المبين، إجمالا وتفصيلا، حتى صار الدين لطالبه أوضح من الشمس في رابعة النهار; ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: لقد جئتكم بها بيضاء نقية، لا يزيغ عنها إلا هالك 1. وقال صلى الله عليه وسلم: الحلال بيّن والحرام بيّن، وبينهما أمور مشتبهات، لا يعلمهن كثير من الناس، فمن ترك الشبهات،   1 أحمد 3/387. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 548 فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى، يوشك أن يقع فيه. ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب 1 متفق عليه. ففي هذا الحديث أن الحلال بيّن، والحرام بيّن، وهو المحكم الذي لا يحتاج إلى بيان وتفسير من القرآن، والأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم التي يفهمها كل من سمعها; وبين ذلك أمور، لا يعلمها إلا أهل العلم; وأن سليم القلب بالصلاح، يترك المتشابه، خشية من الوقوع في الحرام الصريح، كما في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: دع ما يريبك إلى ما لا يريبك 2. إذا عرفتم هذا إجمالا، فأول ما يجب على الإنسان: معرفة التوحيد والتزامه، ومعرفة الشرك والبراءة منه وأهله، ثم معرفة فرضية الصلاة، وما وجب على المصلي فيها، من شروط وأركان وواجبات، وما يبطلها وما يخل فيها؛ والزكاة والصوم والحج مثل ذلك: هذه هي أركان الإسلام الخمسة. ثم معرفة ما به قوام الإسلام، من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإقامة الحدود، والجهاد على حسب طاقة المكلف، ثم معرفة الحلال البيّن، والحرام البيّن، والورع عما بين ذلك من الشبهات، وسؤال أهل العلم عن المشكلات، كما قال تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ   1 البخاري: الإيمان 52 , ومسلم: المساقاة 1599 , والترمذي: البيوع 1205 , والنسائي: البيوع 4453 , وأبو داود: البيوع 3329 , وابن ماجه: الفتن 3984 , وأحمد 4/269 ,4/270 , والدارمي: البيوع 2531. 2 الترمذي: صفة القيامة والرقائق والورع 2518 , والنسائي: الأشربة 5711 , والدارمي: البيوع 2532. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 549 لا تَعْلَمُونَ} [سورة النحل آية: 43] . وقد يقع بعض الناس في أمور، إما جهلا، وإما تهاونا وعدم مبالاة، من المخالفة لأمر الله وأمر رسوله، وقد قال تعالى: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [سورة النور آية: 54] ، فعلق الهداية تعالى في طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم. فخطير على من خالف أمر الرسول، أو تهاون به أن ينقلب قلبه عن الحق، كما قال تعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ [سورة الأنعام آية: 110] . وقال تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [سورة الصف آية: 5] ، والآيات في هذا المعنى كثيرة. وقال صلى الله عليه وسلم: كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى، قيل: ومن يأبى يا رسول الله؟ قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى 1. فالنجاة من غضب الله وعقابه، ودخول الجنة، في طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم والهلاك والعذاب، وحرمان النعيم في الدنيا والآخرة في معصية الرسول صلى الله عليه وسلم. فالله الله عباد الله! الفرار من ذلك; والحذر الحذر مما يقرب إليه، من الوسائل الموصلة إلى تلك المسالك. فما يقع من الناس: الإعراض عن العلم، مثل ثلاثة الأصول وغير ذلك من الواجبات; ومن ذلك التهاون بالذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، والسخرية بهم، وعدم مساعدتهم ممن له قدرة على ذلك; ومن ذلك: الربا   1 البخاري: الاعتصام بالكتاب والسنة 7280 , وأحمد 2/361. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 550 والغش، والسوم على السوم في البيع والشراء. ومن ذلك: الخطبة في النكاح على خطبة المسلم، وتخبيب المرأة على زوجها، والخطبة في العدة، وقد ذكر شيخ الإسلام، رحمه الله: أن الخاطب في العدة يعزر; ومن ذلك: أن لا يتزوج مخطوبته، وهو مقتضى الأصول، فإن الشرع قد نهى عن ذلك، والنهي يقتضي الفساد. ومن ذلك: نكاح الشغار، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد نهى عنه; وهو: أن يزوج الرجل وليته، على أن يزوجه الآخر وليته، وليس بينهم صداق المثل; لكن يحصل من بعض الناس حيلة دعوا بها; وهو: أن يجعلوا مهرا دون مهرها، ولو لم يكن بينهم شرط. وقد جاء في الحديث: لا تستحلوا محارم الله بأدنى الحيل وللعلماء في هذا كلام طويل؛ لكن صالح القلب السليم من الفساد، ينظر إلى الحقائق، فلا يروج على الله البهرج بالتحيل، فإن الخطر شديد، والناقد بصير، والحساب عسير. وقد جاء في الحديث، عن النبي صلى الله عليه وسلم: أتدرون من السابقون إلى ظل الله يوم القيامة؟ قالوا: الله ورسوله أعلم; قال الذين إذا أعطوا الحق قبلوه، وإذا سئلوه بذلوه، وحكموا للناس كحكمهم لأنفسهم 1 رواه أحمد. ففي هذا الحديث: فضيلة من جمع هذه الخصال;   1 أحمد 6/67. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 551 وهو: معرفة الحق وقبوله، وبذله لطالبه، والإنصاف من النفس؛ ولا يحصل هذا إلا بجهاد النفس عن شهواتها، وذلك بمخالفة الهوى بالبصيرة في الدين، والعمل به، وتعليمه، والصبر عليه، فالمؤمن ضالته الحقّ، ولو خالف نفسه، وهواه؛ والمنافق والفاسق، لا يقبل من الحق إلا ما وافق هواه. فحذار حذار مما يسخط الجبار، ويكون عاقبة صاحبه دار البوار، فلا بد من يوم يشيب هوله المولود، وقال تعالى: {تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [سورة الحج آية: 2] . فعليكم لزوم الشريعة تعلما وعملا، وإرشادا وموادة، فإن من كان بهذه المثابة، فالتوفيق له أقرب من حبل الوريد؛ وإياكم والتشاحن والتباغض على الدنيا، والحسد والكبر والفخر، وغير ذلك من المعاصي مما هو أكبر من ذلك. لكن ذكرنا هذا لوجوده في كثير من الناس، عذرا أو نذرا، لأنه واجب على من عرف الحق نشره، وواجب على من لا يعلم أن يتعلم؛ وكل عليه أن يقوم بما يجب عليه، من العلماء والمتعلمين والولاة، من الأمراء والأئمة والنواب وعامة الناس. فإن الدين النصيحة، كما ثبت بذلك الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم وذلك يختلف باختلاف أحوال الناس، على حسب الجزء: 14 ¦ الصفحة: 552 قدرتهم، كما في الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر؛ فإنه واجب على حسب القدرة في المراتب الثلاث، باليد، فإن عجز فباللسان، فإن عجز فبالقلب، وذلك أضعف الإيمان. والله المسؤول المرجو الإجابة أن يوفقنا وإياكم للحق والإصابة، وأن يعيذنا وإياكم من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، فإنه على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. [التذكير بما جرى لبعض الأمم وسنن الله في ذلك وما يخرج في آخر الزمان من أشياء مذمومة] ولبعضهم أيضا، رحمه الله: بسم الله الرحمن الرحيم إلى من يراه من المسلمين سلك الله بهم طريقة سيد المرسلين، وأعاذهم من طريق المغضوب عليهم والضالين، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أما بعد: فالموجب للخط النصيحة لي ولكم، والشفقة عليكم، والتذكير لكم، قال تعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [سورة الذاريات آية: 55] . وقال تعالى: {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى} [سورة الأعلى آية: 9] . وقال تعالى: {وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلاّ مَنْ يُنِيبُ} [سورة غافر آية: 13] . وقال تعالى: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً} [سورة آل عمران آية: 30] . وقال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [سورة آل عمران آية: 110] . وقال: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 553 بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [سورة آل عمران آية: 104] . وقال: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [سورة النور آية: 31] . وقال تعالى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} [سورة الأنعام آية: 44] . وقال تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [سورة إبراهيم آية: 7] . فالشكر على ثلاثة أنواع: نطق باللسان، قال تعالى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [سورة الضحى آية: 11] ، وعمل بالأركان، قال تعالى: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْراً} [سورة سبأ آية: 13] ، واعتقاد بالجنان، قال تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [سورة النحل آية: 53] . وفي سنن ابن ماجه من حديث عبد الله بن عمر قال: كنت عاشر عشرة، رهط من المهاجرين، عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبل علينا بوجهه، فقال: يا معشر المهاجرين، خمس خصال، وأعوذ بالله أن تدركوهن: ما ظهرت الفاحشة في قوم حتى أعلنوها، إلا ابتلوا بالطواعين والأوجاع التي لم تكن بأسلافهم الذين مضوا. ولا نقص قوم المكيال والميزان، إلا ابتلوا بالسنين وشدة المؤونة، وجور السلطان عليهم. وما منع قوم زكاة أموالهم، إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا. ولا نكث قوم العهد، إلا سلط الله عليهم عدوا من غيرهم، فأخذوا بعض ما في أيديهم. وما لم يعمل أئمتهم الجزء: 14 ¦ الصفحة: 554 بما أنزل الله عز وجل إلا جعل الله بأسهم بينهم. وفي المسند والسنن من حديث عمرو بن مرة عن سالم بن أبي الجعد، عن أبي عبيدة بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن من كان قبلكم إذا عمل العامل منهم بالخطيئة، جاءه الناهي تعذيرا، فإذا كان الغد جالسه، وواكله وشاربه، كأنه لم يره على خطيئة بالأمس. فلما رأى الله عز وجل ذلك منهم، ضرب بقلوب بعضهم على بعض، ثم لعنهم على ألسنة أنبيائهم، داود وعيسى بن مريم، ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون. والذي نفس محمد بيده لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يد السفيه، ولتأطرنه على الحق أطرا، أو ليضربن الله قلوب بعضكم على بعض ثم يلعنكم كما لعنهم. وذكر ابن أبي الدنيا عن إبراهيم ابن عمرو الصنعاني قال: أوحى الله إلى يوشع بن نون: إني مهلك من قومك أربعين ألفا من خيارهم، وستين ألفا من شرارهم، قال: يا رب هؤلاء الأشرار، فما بال الأخيار؟ قال: إنهم لم يغضبوا لغضبي، وكانوا يواكلونهم ويشاربونهم. وذكر أبو عمر بن عبد البر، قال: بعث الله عز وجل ملكين إلى قرية: أن دمراها بما فيها، فوجدا فيها رجلا قائما يصلي في مسجد; فقالا: يا رب إن فيها فلانا يصلي; فقال الله: دمراها ودمراه معهم، فإنه ما تمعر وجهه في قط. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 555 وذكر الحميدي عن سفيان بن عيينة قال: حدثني سفيان بن سعيد، عن مسعر: أن ملكا أمر أن يخسف بقرية، فقال: يا رب فيها فلان العابد، فأوحى الله عز وجل إليه: فبه فابدأ، فإنه لم يتمعر وجهه في ساعة قط. وذكر ابن أبي الدنيا، عن وهب بن منبه، قال: لما أصاب داود الخطيئة، قال: يا رب اغفر لي، قال: قد غفرت لك، وألزمت عارها بني إسرائيل; قال: يا رب كيف وأنت الحكم العدل لا تظلم أحدا، أعمل الخطيئة وتلزم عارها غيري؟ فأوحى الله إليه: إنك لما عملت الخطيئة، لم يعجلوا عليك بالإنكار وذكر ابن أبي الدنيا عن أنس ابن مالك أنه دخل على عائشة، هو ورجل آخر، فقال لها الرجل: يا أم المؤمنين حدثينا عن الزلزلة; فقالت: إذا استباحوا الزنى وشربوا الخمر، وضربوا بالمعازف، غار الله عز وجل في سمائه، فقال للأرض: تزلزلي بهم، فإن تابوا ونزعوا، وإلا هدمتها عليهم; قال: يا أم المؤمنين: أعذابا لهم؟ قالت: بل رحمة للمؤمنين، ونكالا وسخطا على الكافرين. وفي مناقب عمر، عند ابن أبي الدنيا: أن الأرض تزلزلت على عهد عمر، فضرب بيده عليها، فقال: ما لك؟ أما إنها لو كانت القيامة، حدثت أخبارها، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إذا كان يوم القيامة، فليس فيها ذراع، ولا شبر، إلا وهو ينطق. وقال كعب: إنما تزلزلت الجزء: 14 ¦ الصفحة: 556 الأرض إذا عمل فيها بالمعاصي، فترعد فزعا من الرب جل جلاله أن يطلع عليها. وفي جامع الترمذي من حديث أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يخرج في آخر الزمان قوم يختلون الدنيا بالدين، يلبسون للناس جلود الضأن من اللين، ألسنتهم أحلى من السكر، وقلوبهم قلوب الذئاب; يقول الله عز وجل: أبي يغترون؟ أم علي يجترئون؟ فبي حلفت؛ لأبعثن على أولئك فتنة، تدع الحليم حيرانا" 1. وذكر ابن أبي الدنيا من حديث جعفر بن محمد عن أبيه عن جده قال: قال علي: يأتي على الناس زمان، لا يبقى من الإسلام إلا اسمه، ولا من القرآن إلا رسمه. مساجدهم يومئذ عامرة، وهي خراب من الهدى، علماؤهم شر من تحت أديم السماء؛ منهم خرجت الفتنة، وفيهم تعود. وقال حذيفة: إذا أذنب العبد، نكت في قلبه نكتة سوداء، حتى يصبح كالشاة الربدا; وقيل أوحى الله إلى موسى عليه السلام: يا موسى، إن أول من مات من خلقي إبليس، وذلك أنه عصاني وإنما أعد من عصاني من الأموات 2. وذكر من حديث سماك، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود، قال: إذا ظهر الزنى بقرية، أذن الله عز وجل بهلاكها; ومن مراسيل الحسن: إذا أظهر الناس العلم، وضيعوا العمل، وتحابوا بالألسنة، وتباغضوا بالقلوب   1 الترمذي: الزهد 2404. 2 الترمذي: تفسير القرآن 3334 , وابن ماجه: الزهد 4244 , وأحمد 2/297. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 557 وتقاطعوا الأرحام، لعنهم الله عز وجل عند ذلك، فأصمهم الله وأعمى أبصارهم ومما ينبغي أن يعلم أن الذنوب تضر الأبدان، وضررها في القلب، كضرر السموم في الأبدان، على اختلاف درجاتها في الضرر، وهل في الدنيا والآخرة شرا وداءً، إلا وسببه الذنوب والمعاصي. وفي مراسيل الحسن، عن النبي صلى الله عليه وسلم لا تزال هذه الأمة تحت يده وفي كنفه، ما لم يمال قراؤها أمراءها، وما لم يزك صلحاؤها فجارها، وما لم يهن أخيارها أشرارها، فإذا فعلوا ذلك، رفع الله عنهم يده، ثم سلط عليهم جبابرتهم، فساموهم سوء العذاب، ثم ضربهم الله بالفقر والفاقة. وقال الحسن: إن الفتنة ما هي إلا عقوبة من الله عز وجل وذكر ابن أبي الدنيا، من حديث عمار بن ياسر، وحذيفة، عن النبي صلى الله عليه وسلم إن الله عز وجل إذا أراد بالعباد نقمة، أمات الأطفال، وأعقم النساء، فتنْزل النقمة وليس فيهم مرحوم. وذكر مالك بن دينار، قال: قرأت في الحكم: يقول الله عز وجل: أنا الله مالك الملوك، قلوب الملوك بيدي، فمن أطاعني جعلتهم عليه رحمة، ومن عصاني جعلتهم عليه نقمة؛ فلا تشغلوا أنفسكم بسب الملوك، ولكن أقبلوا عليّ أعطفهم عليكم. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 558 وذكر الإمام أحمد وغيره، عن قتادة: قال موسى: يا رب أنت في السماء، ونحن في الأرض، فما علامة غضبك من رضاك؟ قال: إذا استعملت عليكم أشراركم، فهو علامة غضبي عليكم. وذكر ابن أبي الدنيا، من حديث ابن عباس، يرفعه، قال: يأتي زمان يذوب فيه قلب المؤمن، كما يذوب الملح في الماء، قيل: ممّ ذلك يا رسول الله؟ قال: مما يرى من المنكر لا يستطيع تغييره. وقال سليمان التيمي: إن الرجل ليصيب الذنب في السر، فيصبح وعليه مذلته. وقال يحيى بن معاذ الرازي: عجبت من ذي عقل، يقول في دعائه: اللهم لا تشمت بي الأعداء، ثم يشمت بنفسه كل عدو له; قيل كيف ذلك؟ قال: يعصي الله، ويشمت به في القيامة كل عدو له. اللهم إني أسألك التوفيق والهداية إلى طريق الرشاد، ونعوذ بك من طريق أهل الغي والبدع والعناد; ونقول: ربنا إننا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين، وصلى الله على محمد. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 559 [التذكير بأهمية النصيحة والتنبيه على ما وقع من قسوة القلوب وعدم المبالاة بواجبات الدين] وقال بعضهم، رحمه الله: بسم الله الرحمن الرحيم إلى من يراه من المسلمين، وفقني الله وإياهم لقبول النصائح، وجنبني وإياهم طريق الفضائح، آمين. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فقد قال الله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} [سورة التوبة آية: 91] . وقال صلى الله عليه وسلم: الدين النصيحة، الدين النصيحة، الدين النصيحة ـ والتكرير يفيد الاهتمام بالمكرر ـ; قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم 1. وقد وقع في هذا الزمان قسوة في القلوب، وعدم مبالاة بما فات من أعمال الخير والطاعات، ولا سيما واجبات الدين، من صلاة وزكاة، وأمر بمعروف، ونهي عن منكر. والأمر بالمعروف: كلمة جامعة لكل معروف، والنهي عن المنكر: كلمة جامعة لكل منكر; فالمنكرات واقعة بين أناس، ولا يشعرون أنها منكرات، أو يشعرون ولا يبالون بها. فمن ذلك: عدم المبالاة بما خرج من اللسان، كالاستهزاء بالدين، وبمن يأمر بشيء من الدين; كمن إذا قيل له: لا تتكاسل عن الصلاة، ولا تلعن، ولا تخالط النساء،   1 مسلم: الإيمان 55 , والنسائي: البيعة 4197 , وأبو داود: الأدب 4944 , وأحمد 4/102. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 560 وغير ذلك، أخذ يقول: خلّ عنا طوعك، ويعلج لسانه. وهذا من أعظم المنكرات، ولكن لعدم مبالاتهم، لا يبالون بوقوعه منهم، بل عده العلماء من المحبطات للإيمان، والكفر بعد الإيمان، واستدلوا بقوله تعالى: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} [سورة التوبة آية: 65] . وقد ترجم شيخنا، الشيخ: محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى، في "كتاب التوحيد"ترجمة ذكر فيها الآيات، والأحاديث الدالة على انتقاض إسلام متعاطي مثل ذلك، وذكر أيضا في بعض رسائله، أنه داخل في مثل ذلك: مد الشفة وغمز بالعين. وقد ذكر لنا أن عبد الله بن الشيخ لما غزا مع عبد الله بن سعود، ومر رجل من المسلمين رجلا يغني، فنهاه عن ذلك، ثم رد عليه المنهي وقال: خلّ عنا طوعك; أنكر ذلك الشيخ عبد الله غاية الإنكار، وذهب إلى عبد الله بن سعود، وقال: تغزو العدو البعيد، وتترك العدو الباطني؟ فأمر به فضرب. وهذا أمر يقع ولا يبالى به، ولا يرى منكرا; وإن رئي منكرا، فلا أحد ينكره; ويتعاطاه متعاطيه عامدا لذلك، عالما به أنه منكر. ومن المنكرات: مخالطة الرجال للنساء الأجنبيات، في الأسواق والسكك، لا سيما أيام العرضات، ومع ذلك تجدها ووجهها باد، وما عليها إلا شيلة رهيفة، وتجدها تقف للرجال تنظر إليهم وينظرون إليها; وأول معصية وقعت في الجزء: 14 ¦ الصفحة: 561 بني آدم، خلطة الرجال بالنساء، ثم الزنى. ومن المنكرات: قذف الرجال بعضهم بعضا، والنساء بعضهن بعضا ; يقول الرجل لأخيه: يا زاني، يا ولد القحبة; وتقول المرأة لأختها: يا زانية، يا قحبة; وهذا من أعظم المنكرات، بل من السبع الموبقات. ومن المنكرات أيضا: لعن الرجل لأخيه، ولعن الصبيان بعضهم بعضا، ومع ذلك هذه المنكرات لا يبالى بها، ولا ينكرها منكر; وإن أنكرت فعلى ضعف; وقد أعظم القرآن والسنة أمرها وشناعتها، ليست بخافية على العامة، فضلا عن الخاصة. فيجب على ولاة الأمور إنكار المنكرات، والأمر بالمعروف; وقد ذكر بعض العلماء أن على ولاة الأمور عبودية تخصهم ليست على غيرهم، وعلى العلماء عبودية تخصهم؛ فعلى ولاة الأمور تنفيذ أمر الله، وعلى العلماء التبليغ والنصح، وعدم الغفلة عن التناصح، لمن له قدرة على ذلك؛ وعلى العامة القبول والمساعدة ومما هو لازم وواجب: قسر الجاهل على تعلم دينه بدليله; ومن ذلك: زجر الناس من أكل أعراض بعضهم بعضا; وبالجملة: فكل ما حرم الله فهو منكر، وكل ما أمر الله به فهو معروف، فيجب إنكار المنكر، والائتمار بما وجب من الأمر، والله أعلم، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 562 فائدة: روي أن عيسى - على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام - مر على قرية فوجد أهلها أمواتا على الطرقات من غير دفن، فسأل ربه عنهم، فأوحى الله تعالى إليه: إذا كان الليل، فادعهم إنهم يجيبونك. فلما كان الليل ناداهم، فقال رجل منهم: لبيك يا روح الله; قال: ما قصتكم؟ قال: بتنا في عافية، وأصبحنا في الهاوية، قال: ولِمَ؟ قال: بحبنا للدنيا كحب الصبي لأمه، إذا أقبلت فرح، وإذا أدبرت بكى; قال: فما بال أصحابك لم يجيبوني؟ قال إنهم ملجمون بلجام من النار، بأيدي ملائكة غلاظ شداد. قال: كيف أنت أجبتني من بينهم؟ قال: لست منهم، بل مررت بهم، فلما نزل العذاب أصابني ما أصابهم، وأنا مطروح على شفير جهنم، فلا أدري أنجو أم لا. وفقنا الله وإياكم إلى طريق الخير والصلاح والهدى، وعصمنا وإياكم من أسباب الجهل، وطريق المعاصي والردى، وسلمنا من شرور أنفسنا، فإن النفس أشر العداء; والله أعلم، وصلى الله على محمد وصحبه وسلم. آخر الجزء الرابع عشر من الدرر السنية ويليه الجزء الخامس عشر إن شاء الله تعالى. صلى الله عليه وسلم الجزء: 14 ¦ الصفحة: 563 المجلد الخامس عشر: (القسم الأول من البيان الواضح وأنبل النصائح عن ارتكاب الفضائح) مقدمة ... [مقدمة] القسم الأول من البيان الواضح وأنبل النصائح عن ارتكاب الفضائح بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي جعل في كل فترة بقايا من أهل العلم، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، يبصرونهم عن العمى، ويصبرون منهم على الأذى. وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، إله الأولين والآخرين، أنزل كتابه المبين، هدى ورحمة، وذكرى للمؤمنين. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الصادق الأمين، أرسله الله تبصرة ورحمة للعالمين، صلى الله عليه، وعلى آله وأصحابه والتابعين، وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا. وبعد: فحيث حصل بسبب الاختلاط بأهل الخارج، المشابهة في بعض المحظورات، من أنظمة، وتعليم، وترك فرائض، ومشابهة في المكس، واللباس، وحلق اللحى، والتصوير، والتبرج، والملاهي، والتنزه، وغير ذلك مما حدث في هذا العصر، وهو ما بعد وفاة الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف رحمه الله، سنة 1339 هـ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 5 مع أنهم لا يرون أنهم في رتبة طبقة الشيخ عبد الرحمن بن حسن، والإمام فيصل، وكذلك أولئك، لا يرون أنهم يماثلون طبقة مجدد الدعوة، وذريته الذين بذلوا مهجهم، وأبناءهم، وأموالهم، في جهاد من يليهم، إلى أن يدخلوهم في الإسلام طوعا وقسرا، فضلا عن عصر النبوة والخلفاء الراشدين، ومن بعدهم من الأئمة المهديين، فلما حدث من ذلك، من المعاول الهدامة لدين الإسلام، استعنت بالله جل وعلا، أن أثبت ما وقفت عليه من نصائح بعض علمائنا 1 وما لم أقف على شيء منه، أورد قبله ما تيسر بلاغا عن الله، وإقامة لحججه وبيناته من كتاب الله وسنة نبيه، على عباده، وتوكلا على الله، واتباعا لقوله تعالى: {يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} [سورة المائدة آية: 54] ، وامتثالا لما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم من قوله: "وأن تقول الحق ولا تخاف في الله لومة لائم" وأسأله تعالى أن يوفق علماء هذا العصر، الذين هم ما بين قاض ومعلم وغيرهم، بأن يتساعدوا مع ولاة الأمر، على أن يخففوا وطأة هذه المنكرات التي حدثت، فيبنوا ما تهدم مما أطده سلفهم، إلى أن يعود الأمر إلى نصابه. وأبدأ بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حيث إنه   1 وبعض ما وقفت عليه, أضفته إلى مجموع رسائلهم, كل رسالة فيما يليق بها من تلك المجلدات. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 6 إذا استقام قضى على تلك المحظورات، فأقول: الجزء: 15 ¦ الصفحة: 7 [الباب الأول في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر] الباب الأول أوجب الله الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأثنى على من قام به، فقال تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [سورة آل عمران آية: 104] ، وقال: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [سورة التوبة آية: 71] ، وقال: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [سورة آل عمران آية: 110] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان" 1، وفي رواية: "وليس وراء ذلك حبة خردل من إيمان" 2، وقال صلى الله عليه وسلم "لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يد السفيه، ولتأطرنه على الحق أطرا، أو ليعمنكم الله بعقاب من عنده" 3.   1 مسلم: الإيمان (49) , والترمذي: الفتن (2172) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (5008 ,5009) , وأبو داود: الصلاة (1140) والملاحم (4340) , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1275) والفتن (4013) , وأحمد (3/10 ,3/20 ,3/49 ,3/52 ,3/54 ,3/92) . 2 مسلم: الإيمان (50) . 3 أبو داود: الملاحم (4336) . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 7 ويأتي من النصائح ما فيه كفاية. [نصيحة الشيخ عبد الله بن محمد بن حميد] وأبدأ بنصيحة الشيخ عبد الله بن محمد بن حميد، لتصويره الواقع فيها، فقال رحمه الله تعالى 1: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله بن محمد بن حميد، إلى كافة إخواننا المسلمين، وفقني الله وإياهم للعمل بما يرضيه، وجنبنا أسباب سخطه ومناهيه، آمين. سلام عليكم ورحمه الله وبركاته. وبعد: فلا يخفى ما أصيب به الإسلام والمسلمون، من الشرور والفتن، والدواهي والمحن، وأن الإسلام قد أدبر وآذن بالوداع، والنفاق قد أشرف وأقبل باطلاع. والإسلام بدأ يرتحل من عقر داره، لتقصير أهله إذ لم يشرحوا للناس محاسنه وفضائله وحكمه وأسراره؛ ولم يقوموا بالدعوة إليه، بغرس محبته في القلوب بذكر ما تقدم؛ فإن الآيات القرآنية الدالة على الدعوة أكثر من آيات الصوم والحج اللذين هما ركنان من أركان الإسلام الخمسة. والاجتماع المأمور به، في قوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً} [سورة آل عمران آية: 103] تهدمت مبانيه،   1 نقلت من الطبعة الثالثة في مؤسسة النور. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 8 والائتلاف والتعاون ذهب وذهبت معانيه، فلا حول ولا قوة إلا بالله. نرى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الذي هو ركن من أركان الإسلام، في قول طائفة، من العلماء، ضعف جانبه، وكثر في الناس مجانبه، وتنوعت مقاصد الخلق، وتباينت آراؤهم؛ فالمنكر للمنكر في هذه الأزمنة، يقول الناس فيه: ما أكثر فضوله، وما أسفه رأيه! وربما غمزوه بنقص في عقله؟ ومن سكت وأخلد، قيل: ما أحسن عقله، وما أقوى رأيه، في معاشرته للناس، ومخالطته لهم! والله قد جعل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فرقا بين المؤمنين والمنافقين، فأخص أوصاف المؤمنين، المميزة لهم عن غيرهم، هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ورأس الأمر بالمعروف: الدعوة إلى الإسلام، وإرشاد الناس إلى ما خلقوا له، وتبصيرهم بما دل عليه كتاب ربهم وسنة نبيهم، وتحذيرهم من مخالفة ذلك. قال الإمام الغزالي، في قوله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [سورة التوبة آية: 71] : وصف الله المؤمنين بأنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، والذي هجر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، خارج عن هؤلاء المؤمنين. انتهى، وفي قوله تعالى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ} [سورة الأعراف آية: 165] ما يدل على أن الناجي هو الجزء: 15 ¦ الصفحة: 9 الذي ينهى عن السوء، دون الواقع فيه والمداهن. والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو الأساس الأعظم للدين، والمهم الذي بعث الله لأجلة النبيين، ولو أهمل لأضمحلت الديانة، وفشت الضلالة، وعم الفساد، وهلك العباد; إن في النهي عن المنكر حفاظ الدين، وسياج الآداب والكمالات، فإذا أهمل أو تسوهل فيه، تجرأ الفساق على إظهار الفسوق والفجور، بلا مبالاة ولا خجل. ومتى صار العامة يرون المنكرات بأعينهم، ويسمعونها بآذانهم، زالت وحشتها وقبحها من نفوسهم؛ ثم يتجرأ الكثيرون، أو الأكثر على ارتكابها، ولكن يا للأسف! استولت على القلوب مداهنة الخلق، وانمحت عنها مراقبة الخالق، حيث اندرس من هذا الباب عمله وعلمه، وانمحى معظمه ورسمه، واسترسل الناس في اتباع الأهواء والشهوات. ولا شك أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حفظ للشريعة، وحماية لأحكامها، تدل عليه- بعد إجماع الأمة، وإرشاد العقول السليمة إليه- الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، مثل قوله تعالى: {لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ?يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ} [سورة آل عمران آية: 113-114] ، فدلت الآية الكريمة على عدم صلاحهم بمجرد الإيمان الجزء: 15 ¦ الصفحة: 10 بالله واليوم الآخر، حيث، لم يشهد لهم بذلك إلا بعد أن أضاف إليها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وقد ذم سبحانه وتعالى: من لم يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فقال تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [سورة المائدة آية: 78-79] وهذا غاية التشديد، ونهاية التهديد، فبين سبحانه وتعالى: أن السبب للعنهم هو: ترك التناهي عن المنكر، وبين أن ذلك بئس الفعل. ولا شك، أن من رأى أخاه على منكر ولم ينهه عنه، فقد أعانه عليه، بالتخلية بينه وبين ذلك المنكر، وهو عدم الجد في إبعاد أخيه عن ارتكابه. قال ابن عباس رضي الله عنه: "لعنوا في كل لسان على عهد موسى في التوراة، ولعنوا على عهد داود في الزبور، ولعنوا على عهد عيسى في الإنجيل ولعنوا على عهد نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم في القرآن". {لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْأِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ?} [سورة المائدة آية: 63] قال القرطبي: وبخ سبحانه وتعالى علماءهم في تركهم نهيهم، فقال: {لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [سورة المائدة آية: 63] ، كما وبخ من سارع في الإثم، بقوله: {لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [سورة المائدة آية: 62] ، وقال: ودلت الآية على أن تارك النهي عن المنكر كمرتكب المنكر. ا. هـ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 11 فإن الأمة في عهد استقامتها وتمسكها بالسنن، لا تطيق أن ترى بين أظهرها عاصيا ولا معصية؛ فإذا رأت شيئا من ذلك ثارت ثورة الأسد، ولم تهدأ إلا إذا أذاقت المجرم ما يليق به، وما يستحق على قدر جريمته، تفعل ذلك غيرة على دينها وطلبا لمرضاة ربها. والمجرمون إذا رأوا ذلك، كفوا عن إجرامهم وبالغوا في التستر، إذا أرادوا تلويث أنفسهم بما يرتكبون. فإذا لم تستقم الأمة، ولم تراع سنن دينها، ضعفت غيرتها، أو انعدمت انعداما كليا في نفوسها؛ إذ لو شاهدت ما شاهدت من المعاصي، إما أن يتحرك بعض أفرادها حركة ضعيفة، لا يخاف معها العاصي، ولا ينزجر عن معصيته؛ بم وإما أن يتفق الجميع على الإغماض عن ذلك العاصي، فيفعل ما يشاء بدون خوف ولا خجل، وإذاً يرفع ذوو الإجراء رؤوسهم غير هيابين، ولا خجلين من أحد. ولقد وصلنا إلى حد ماتت فيه الغيرة الدينية عند كل أحد، حتى من يرجى ويظن أنهم حماة الإسلام، وأبطال الدين، مما جعل العصاة يمرحون في ميادين شهواتهم، ويفتخرون بعصيانهم، بدون حسيب ولا رقيب؛ ولو شئت لقلت- ولا أخشى لائما- نحن في زمن علا فيه واعتز أرباب الرذائل، وأصبحت الدولة لهم. وأهل الفضيلة، المتمسكون بأهداب دينهم، عندما ينكرون على المجرمين إجرامهم، يكونون كالمضغة في الأفواه الجزء: 15 ¦ الصفحة: 12 البذيئة، ترميهم بكل نقيصة، وأقل ما يقولون: إنهم متأخرون، جامدون في بقايا قرون الهمجية، يبتسمون ويقهقهون، ويغمزون بالحواجب والعيون، ويخرجون ألسنتهم سخرية واستهزاء بهم، ويضحكون من عقولهم، لما راجت الرذيلة في هذا العصر هذا الرواج. وما درى هؤلاء المرذولون، أنهم في غاية من السقوط والهمجية، التي ليست دونها همجية، لفساد عقولهم، وبعدهم عن معرفة أوامر دينهم ; وناهيك لو قام كل منا بما عليه من الدعوة إلى الإسلام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإرشاد الناس وعظتهم، وتذكيرهم بما فيه صلاحهم واستقامتهم، لاستقر الخير والمعروف فينا، وامتنع فشو الشر والمنكر بيننا، {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [سورة الأنفال آية: 25] . وقد صرح العلماء رحمة الله عليهم بأنه يجب على الإمام أن يولي هذا المنصب الجليل، والأمر الهام، الذي هو في الحقيقة مقام الرسل، محتسبا يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويكون ذا رأي وصرامة، وقوة في الدين، وعلم بالمنكرات الظاهرة، كما قال تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [سورة آل عمران آية: 104] . فدلت الآية الكريمة على أنه يجب على المسلمين أن تقوم منهم طائفة بوظيفة الدعوة إلى الخير، وتوجيه الجزء: 15 ¦ الصفحة: 13 الناس، وعظتهم وتذكيرهم إلى ما فيه صلاحهم، واستقامة دينهم، وأن يكونوا على المنهج القويم، والصراط المستقيم. والمخاطب بهذا كافة المسلمين، فهم المكلفون، لا سيما الإمام الأعظم، وأن يختاروا طائفة منهم، تقوم بهذه الفريضة الهامة، التي هي أحد أركان الإسلام في قول طائفة من العلماء. قفا نبك على رسوم علوم الدين والإسلام الذي بدأ يرتحل من بلاده، ولكن يا للأسف على منام القلوب، وقيام الألسنة بالقول، والتأويه على الإسلام، بما لا حقيقة له، لقد انطمس المعنى وذهب اللب، وما بقي إلا قشور ورسوم. واكتفى الكثيرون من الإسلام بمجرد الانتساب إليه، بدون أن يعملوا به، ويقوموا بالدعوة إليه تحذيرا وإنذارا، وأمرا ونهيا، وتبصيرا للناس بدينهم؛ بذكر فضله وعظمته، وإيضاح أسراره وحكمه، وغرس العقيدة الحقة في قلوبهم، فهذا واجب المسلمين بعضهم لبعض، كل على قدر استطاعته ومقدرته. هذا، وأسأل الله أن يوفق المسلمين، وولاة أمورهم، لما فيه صلاحهم، وصلاح دينهم، وأن يجمع كلمتهم على الحق، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وهو حسبنا ونعم الوكيل، وصلى الله على محمد، وآله وصحبه وسلم تسليما إلى يوم الدين. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 14 [كلمة وجهها الشيخ محمد بن إبراهيم إلى المسلمين في أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر] وقال الشيخ: محمد بن إبراهيم، رحمه الله 1 بسم الله الرحمن الرحيم من محمد بن إبراهيم، إلى إخواننا المسلمين، جعلنا الله وإياهم من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، آمين. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هو القطب الأعظم في الدين، والمهم الذي ابتعث الله له الأنبياء والمرسلين؛ فلو طوى بساطه، وأهمل علمه وعمله لفشت الضلالة وشاعت الجهالة، وخربت البلاد، وهلك العباد. قال الله تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [سورة الروم آية: 41] . فنعوذ بالله من اندراس هذا المهم العظيم، واستيلاء المداهنة على القلوب، وذهاب الغيرة الدينية. إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هو عنوان الإيمان، ودليل السعادة والفلاح، قال الله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ   1 من مطبوعات الإدارة العامة للإفتاء سنة 1376هـ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 15 وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [سورة التوبة آية: 71] . وقال تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [سورة آل عمران آية: 104] . وقال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} [سورة آل عمران آية: 110] ، وقال تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [سورة المائدة آية: 78-79] وهذا غاية في التغليظ، إذ علل استحقاقهم اللعنة، باستهانتهم بأمر الله، وتركهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وروى أبو داود، والترمذي من حديث عبد الله بن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يد السفيه، ولتأطرنه على الحق أطرا، أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض، ثم يلعنكم كما لعنهم" 1 وعن حذيفة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "والذي نفسي بيده،   1 أبو داود: الملاحم (4336) . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 16 لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عذابا من عنده، ثم تدعونه فلا يستجاب لكم" 1 وعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله فيه يقول: "إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه، يوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده" 2 رواه ابن ماجه، والترمذي وصححه. وعن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أوحى الله إلى جبريل عليه السلام أن اقلب مدينة كذا وكذا بأهلها؟ قال: يا رب، إن فيهم عبدك فلانا، لم يعصك طرفة عين، قال: فقال: اقلبها عليه وعليهم، فإن وجهه لم يتمعر في ساعة قط". وعن جرير مرفوعا: "ما من قوم يكون بين أظهرهم من يعمل بالمعاصي، هم أعز منه وأمنع، لم يغيروا عليه، إلا أصابهم الله بعذابه " 3 رواه أحمد وغيره، وفي مراسيل الحسن، عن النبي صلى الله عليه وسلم "لا تزال هذه الأمة تحت يد الله وفي كنفه، ما لم يمال قراؤها أمراءها، وما لم يزك صلحاؤها فجارها، وما لم يهن خيارها أشرارها. فإذا هم فعلوا ذلك، رفع الله يده عنهم، ثم سلط عليهم جبابرتهم، فيسومونهم سوء العذاب، ثم ضربهم الله بالفاقة والفقر". وذكر ابن أبي الدنيا عن إبراهيم بن عمر الصنعاني   1 الترمذي: الفتن (2169) . 2 الترمذي: الفتن (2168) , وابن ماجه: الفتن (4005) . 3 أبو داود: الملاحم (4339) , وابن ماجه: الفتن (4009) , وأحمد (4/363) . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 17 قال: "أوحى الله إلى يوشع بن نون أني مهلك من قومك أربعين ألفا من خيارهم، وستين ألفا من شرارهم، قال: يا رب، هؤلاء الأشرار، فما بال الأخيار؟ قال: إنهم لم يغضبوا لغضبي، وكانوا يواكلونهم ويشاربونهم". وذكر الإمام أحمد من حديث ابن عمر مرفوعا: "لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، أو ليسلطن الله عليكم شراركم، فيسومونكم سوء العذاب، ثم يدعوا خياركم، فلا يستجاب لهم، لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، أو ليبعثن الله عليكم من لا يرحم صغيركم، ولا يوقر كبيركم". وفي الطبراني، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما طفف قوم مكيلا، ولا بخسوا ميزانا، إلا منعهم الله القطر، وما ظهر في قوم الزنى، إلا ظهر فيهم الموت. وما ظهر في قوم الربا إلا سلط الله عليهم الجنون. ولا ظهر في قوم القتل يقتل بعضهم بعضا، إلا سلط الله عليهم عدوهم. ولا ظهر في قوم عمل قوم لوط، إلا ظهر فيهم الخسف؟ وما ترك قوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إلا لم ترفع أعمالهم، ولم يسمع دعاؤهم". وفي الصحيح من حديث أبي سعيد، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الجزء: 15 ¦ الصفحة: 18 الإيمان" 1، وفي رواية: "وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل" 2 وعن النعمان بن بشير، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مثل المدهن في حدود الله والواقع فيها، مثل قوم استهموا سفينة، فصار بعضهم في أسفلها، وصار بعضهم في أعلاها، فكان الذين في أسفلها يمرون بالماء على الذين في أعلاها. فتأذوا به، فأخذ فأسا فجعل ينقر أسفل السفينة. فأتوه فقالوا: ما لك؟ قال: تأذيتم بي، ولا بد لي من الماء. فإن أخذوا على يديه أنجوه، ونجوا أنفسهم، وإن تركوه أهلكوه، وأهلكوا أنفسهم" 3 رواه البخاري. والأحاديث في الحث على الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، كثيرة جدا. فاتقوا الله عباد الله، وهبوا من رقدتكم، واستيقظوا من غفلتكم، وقوموا بأمر ربكم، ومروا بالمعروف، وانهوا عن المنكر، وتناصحوا فيما بينكم، وتواصوا بالحق، وتواصوا بالصبر. وكل إنسان مسؤول بحسبه، وعلى قدر طاقته واستطاعته، ففي الحديث: "ما منكم من أحد إلا وهو على ثغر من ثغور الإسلام، فالله الله أن يوتى الإسلام من قبله" وعلى الآمر بالمعروف أن يستعمل أنجع الوسائل، لإزالة المنكر وتغييره. قال الله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ   1 مسلم: الإيمان (49) , والترمذي: الفتن (2172) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (5008 ,5009) , وأبو داود: الصلاة (1140) والملاحم (4340) , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1275) والفتن (4013) , وأحمد (3/10 ,3/20 ,3/49 ,3/52 ,3/54 ,3/92) . 2 مسلم: الإيمان (50) . 3 البخاري: الشهادات (2686) , والترمذي: الفتن (2173) , وأحمد (4/268 ,4/269 ,4/270 ,4/273) . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 19 الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [سورة النحل آية: 125] كما أن عليه أن يصبر ويحتسب إذ أوذي في الله، أو أسمع ما يكره، قال تعالى، حاكيا عن لقمان في وصيته لابنه: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [سورة لقمان آية: 17] . والقائم في هذا الأمر ستكون له العاقبة الطيبة والذكر الجميل، قال تعالى: {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [سورة الأعراف آية: 128] . وعلى الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يقوم بذلك على الغني والفقير، والقريب والبعيد، والشريف والوضيع، ولا يخاف في الله لومة لائم، ففي حديث عائشة رضي الله عنها: "إنما أهلك بنو إسرائيل أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وأيم الله، لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها" 1 وتحرم الشفاعة لأهل الجرائم، فعن ابن عمر مرفوعا: "من حالت شفاعته دون حد من حدود الله، فقد ضاد الله في أمره" 2. وفي الموطأ: "إذا بلغت الحدود السلطان، فلعن الله الشافع والمشفع" 3، وفي الصحيح من حديث علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لعن الله من آوى محدثا" 4. أعاذنا الله وإياكم من أسباب غضبه وأليم عقابه، وهدانا وإياكم صراطه المستقيم. وصلى الله على نبينا محمد،   1 البخاري: أحاديث الأنبياء (3475) , ومسلم: الحدود (1688) , والترمذي: الحدود (1430) , والنسائي: قطع السارق (4898 ,4899 ,4902 ,4903) , وأبو داود: الحدود (4373) , وابن ماجه: الحدود (2547) , وأحمد (6/162) , والدارمي: الحدود (2302) . 2 أبو داود: الأقضية (3597) , وأحمد (2/70) . 3 مالك: الحدود (1580) . 4 مسلم: الأضاحي (1978) , والنسائي: الضحايا (4422) , وأحمد (1/108 ,1/118 ,1/152) . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 20 وآله وصحبه أجمعين، 18\9 سنة 1376 هـ. [حث الشيخ صالح الخريصي العلماء والرؤساء على القيام بما أوجب الله عليهم من الأمر والنهي] وقال الشيخ: صالح بن أحمد الخريصي، رحمه الله 1: بعد حمد الله والثناء عليه، والتحذير من حلول العقوبات، فيا معشر العلماء، والرؤساء، والأمراء، ومن ولاه الله أمرا من أمور المسلمين، قوموا بما أوجب الله عليكم، من الأمر والنهي، والدعوة والإرشاد، والتعليم، والتحذير، والإنذار؛ وذودوا الخلق عن المراتع الوخيمة، والأعمال السيئة الذميمة؛ فإنكم مسؤولون أمام الله تبارك وتعالى عن ذلك؛ فأعدوا للسؤال جوابا، وللجواب صوابا، قبل أن تقول نفس يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله. واعلموا أن الله قد أخذ عليكم الميثاق، وأن عليكم من الواجب ما ليس على غيركم؛ فإنكم قادات الناس، ودعاة الناس ورعاتهم؛ فإن أصيبوا فبسببكم، وسبب تفريطكم وإهمالكم. والأمر ظاهر لا خفاء فيه، أما علمتم أن الله تبارك وتعالى إذا أطيع رضي، وإذا رضي بارك، وليس لبركته نهاية؟ وإذا عصي غضب، وإذا غضب لعن، ولعنته تبلغ السابع من الولد. فيا عباد الله، أما ظهرت المنكرات وانتشرت في ناديكم، وفي حاضرتكم وبواديكم؟! فلم يشمئز منها قلب،   1 وقد نشرت أكثر من مرة ولم تؤرخ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 21 ولم يتمعر منها وجه، ولم تنكرها فطرة 1 فأين الغيرة الدينية؟ وأين الأنفة الإسلامية؟ وأين الشهامة العربية؟ وأين الغريزة الإيمانية؟ أما هذه الصلاة تقام، هي أعظم شعائر الإسلام، وتصلى، وكل على سبيله؟ أما هذه الأغاني تشاع وتذاع في الإذاعات، والسينمات، من غير نكير؟ أما هذا السفور من بعض النساء قد ظهر وانتشر، ولم يؤمرن بالتحجب والتستر؟ أما تغارون؟ أما تستحيون؟ وهو أعظم داعية إلى الخناء والفجور؟ أما هذه بناتكم يلبسن لباس الإفرنج، ويتزيين بزيهم، من غير مبالاة ولا مخافة؟! أما هذا من المنكرات والسخافة؟ لأن من تشبه بقوم فهو منهم؟ أما أمركم الله بتأديبهن وصيانتهن وأمرهن ونهيهن؟ قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [سورة التحريم آية: 6] أي: مروهم وانهوهم وعلموهم. أما هذا التتن الخبيث يشرب في كثير من الشوارع، من غير استتار ولا خفاء، ولا منكر ولا رادع؟ أما هذه المصورات المحرمة تصور جهارا، لا يخشى مصورها ومتخذها عتابا ولا إنكارا؟ أما هذه اللحى تحلق علانية في وسط النهار، مع أن حلقها مثلة ومنقصة وعار، ولا يوجد من ينكر ويغار؟!.   1 إلا من شاء الله وهم قليلون. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 22 وهذه الأشياء وأضعافها، وأضعاف أضعافها ظاهرة في أسواقكم من غير استتار، أتنكرون وتقولون: إنها ليست ظاهرة، فليس الخبر كالعيان؟ أم تقرون وتقولون: لا قدرة لنا؟ كلا والله إن لكم السلطة التامة، والقدرة النافذة، التي لم تكن لغيركم. ولكن احذروا عقوبة الله وتغييره، فإنه لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، فإذا غير العباد غير عليهم، جزاء وفاقا. فتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم ترحمون، وقوموا لله مثنى وفرادى بقوة وثبات، وليأخذ بعضكم على يد بعض، حتى يرجع الأمر إلى نصابه، ويكون على السداد والصواب، لتفوزوا غدا بثوابه، وتأمنوا من نقمته وعقابه. وعلى سامع هذه الكلمة أن يلقي إليها السمع وهو شهيد، وينظر بطرفه إلى الواقع، حتى يتبين له أن ما قلته ليس فيه مجازفة، ولا خروج عن الحالة التي نحن عليها، وأن الهدف والمطلوب، هو: إصلاح حالتنا الراهنة، ومعالجتها مادام العلاج يفيد، قبل أن يحال بيننا وبين ما نحاول ونريد. والله المسؤول المرجو الإجابة أن يصلح أئمتنا وعلماءنا وقضاتنا، وأن يجعلهم لأهل الخير أئمة وقادة، وأن يجعل لهم العمل بذلك سجية وعادة، وأن ينصر دينه، ويعلي كلمته. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 23 [فصل فيمن يتولى الحسبة متبرعا أو بعقد] فيمن يتولى الحسبة، سواء كان متبرعا، أو بعقد من ولاة الأمر، فيتعين عليه الأمر والنهي أبلغ ممن سواه؛ ويتأكد التعين عليه، إذا كان له على ذلك رزق من بيت المال؛ بل كل من رأى منكرا فعليه تغييره، لقوله صلى الله عليه وسلم: "من رأى منكم منكرا فليغيره ... " 1 الحديث. وقال شيخ الإسلام: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا يتم إلا بالعقوبات الشرعية، فإن الله يزع بالسلطان، ما لا يزع بالقرآن. وإقامة الحدود واجبة على ولاة الأمور، وذكر ما ليس فيه حد، فالتعزيز فيه بحسب خفة الذنب وعظمته، وكثرته وقلته، وبحسب حال الشخص؛ فمنهم من تعزيره بالكلام، ومنهم من تعزيره بالحبس، أو الضرب، أو النفي؛ وصاحب الحسبة كالشاهد. وقال هو والشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمهما الله تعالى، وغيرهما: يشترط في الآمر والناهي أن يكون عالما فيما يأمر به، عالما فيما ينهى عنه، حليما، فيما يأمر به، حليما فيما ينهى عنه، صابرا على ما ناله من الأذى، وإلا أفسد أكثر مما يصلح. وفي عصر الشيخ: عبد الله، وكذا من قبله من سلفنا، الذين يأمرون وينهون متطوعة، لهم علم وحلم، وصبر، وأمر نافذ. وفي هذا العصر أغدقت عليهم الأرزاق،   1 مسلم: الإيمان (49) , والترمذي: الفتن (2172) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (5008 ,5009) , وأبو داود: الصلاة (1140) والملاحم (4340) , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1275) والفتن (4013) , وأحمد (3/10 ,3/20 ,3/49 ,3/52 ,3/54 ,3/92) . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 24 وضعفوا عما تعلق في رقابهم؛ وإن أمروا أو نهوا، فعلى الضعيف مع كسل كثيف. وأما المترفون وحواشي بعض الرؤساء، وحواشي بعض العلماء، فإياهم وإياهم، فلو قيل لأحدهم وهو جار المسجد: لم تحضر الجماعة، أو: ليس من عادتك فعل الصلاة، أو قيل لأولياء تلك المتبرجات امنعوهن من ذلك، أو أنكرت بدعة وبلغ الأمر إلى رئيس، فإما الفصل من الوظيفة، أو الحبس، أو الإبعاد من البلد. وكثيرا ما يضاف إلى أهل الحسبة بوساطات ونحوها، ممن لا ينبغي أن يضاف إليهم. وجرت بدع في هذا العصر، وهي: سير بعض أهل الحسبة في الأسواق، بطقطقة ما له صوت، ورفع الصوت بالصلاة الصلاة، قبيل الأذان، وبعده الذي هو أعظم شعائر الإسلام، فيضعفون مكانته في القلوب، ويقل أن يجاب أو يستجاب له، إذ هو تعظيم رب العالمين، والشهادة له بالوحدانية، والشهادة لرسوله بالرسالة، والمناداة إلى تلك الفريضة، بحي على الصلاة، أي: هلموا وأقبلوا إلى عبادة ربكم في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه، ثم يختتم بلا إله إلا الله، التي يدخل بها الكافر في الإسلام، ويقول المستمع كما يقول المؤذن، ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم كما ورد. رجعنا إلى من يسند إليه بعض التعزيرات، وهم بعض الشرط الذين قد يضافون إلى رجال الحسبة، وليست فيهم الجزء: 15 ¦ الصفحة: 25 الخصال التي لا بد أن يكون لأهل الحسبة، بل انتفت من وجوه: الأول: الزي الظاهر زي الأعاجم في اللباس، الذي لم يكن في المسلمين قبل. الوجه الثاني: شرب أكثرهم التتن. الوجه الثالث: أكثرهم يحلق اللحى أو أكثرها، ويأتي ذكر تحريمهما. الرابع: قد اشتهرت خيانتهم، فهم يأمرون العاصي بإنكار ما نسب إليه، وإن كان قد اعترف قبل، وعلم ذلك منه أهل الحسبة، ولا يجوز أن يولى على المسلمين الخائن من الشرط وغيرهم. والخامس: يجب على المحتسبين أن يغيروا المنكرات على القوي والضعيف، وأن لا يسلكوا مسلك أهل الكتاب. ومن أراد النجاة إذا وقف بين يدي جبار السماوات والأرض، فالطريق واضح. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 26 [رسالة الشيخ عبد الله بن حميد إلى ولي العهد في تقصير كثير من المسؤلين في الدين] وقال الشيخ: عبد الله بن محمد بن حميد، رحمه الله: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله بن محمد بن حميد، إلى حضرة المكرم: صاحب السمو ولي العهد، ورئيس مجلس الوزراء، فيصل بن عبد العزيز، أعزه الله بطاعته، وأمده بعنايته، آمين. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، بعده: لا يخفى على سموكم الكريم، ما قد حصل في هذه الأوقات الأخيرة، من النقص الكبير في الدين، وعدم الاكتراث بأوامره ونواهيه، من كثير من المسؤولين في الدولة، على ما أعطاهم الله من النعم الوافرة في الأبدان، وفي الأموال والجاه. ومع ذلك لم يعطوا هذه النعم حقها من الشكر، ولم يحصل عندهم أي غيرة على الدين، ولم يتأثروا بما أصيب به الإسلام من النقص الكبير، ولم يظهر منها كراهية لذلك، بل الكثير منهم- عياذا بالله- أصبحوا ضدا للدين وأهله، وصمدوا صمودا منكرا أمام الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر. ولا يخفى: أن مثل أولئك، لا تبرأ الذمة بتوليتهم أعمال المسلمين، فإذا كان هذا بالنسبة للمسؤولين في الدولة، فكيف بمن سواهم، الذين هم من الرعاع، الذين يقول في وصفهم أمير المؤمنين علي رضي الله عنه: (وسائر الناس همج رعاع أتباع كل ناعق) ؟! الجزء: 15 ¦ الصفحة: 27 الذين لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجؤوا إلى ركن وثيق، فهم اتباع كل ناعق ضد الدين، أتباع كل ناعق ضد السياسة، أتباع كل ناعق ضد الأخلاق وحسن السيرة، أتباع كل ناعق ضد الأمن والطمأنينة. أتباع كل ناعق ضد الملوكية والولايات الشرعية، أتباع كل ناعق بالفتن، أتباع كل ناعق بالحرية المزعومة الغربية، أتباع كل ناعق بسقوط المروءات، أتباع كل ناعق وإن جهلوا غاية الناعق، ومبدأه ومقاصده، كما يقول المفتون في قبره: سمعت الناس يقولون شيئا فقلته. فإذا كانت هذه أحوال البعض من الناس، ثم صار كثير من المسؤولين في الدولة مثلهم، متى تستقيم الأحوال؟ متى تتم الأمور؟ متى تقوم دعائم الدين؟ متى تتمكن أسس الملك؟ إن الدين والملك أخوان، فمن كان ضد الدين فهو ضد ملوك الإسلام وأهله؛ ومن كان ضد ولاة الأمور فهو ضد الدين، وإن تظاهر بالنصرة للإسلام؛ لأن الإسلام ينهاه عن كل ما يمس السياسة الرشيدة؛ والإسلام يقول: (من فارق الجماعة قيد شبر فمات، فميتته ميتة جاهلية) والإسلام يقول: (من أهان إمام المسلمين أهانه الله) ، والإسلام يقول: (السلطان ظل الله في أرضه، فمن خرج على الإمام يريد نصرة الإسلام بزعمه فهو كاذب، ما لم يعين ما أخل به الإمام، ويناصحه سرا مرارا، ثم يعلن له ذلك عند العجز عنها في السر) . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 28 ولما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنه سيكون عليكم ولاة تعرفون منهم وتنكرون، قال رجل: أفلا تنابذهم يا رسول الله؟ قال: لا، ما أقاموا فيكم الصلاة" 1 فهذه سياسة الإسلام للشعوب مع ولاة أمورها، لما يترتب- على منازعة الوالي من ذهاب الإسلام، وتسلط الأعداء، وإراقة الدماء، والفوضى، وانتهاك الأعراض، وسلب الأموال، كما هو مشاهد الآن في كثير من البلاد العربية وغيرها. كل انقلاب يحدث، يذهب فيه عشرات الألوف من الناس، كما هو مشاهد الآن في مصر، والعراق، وسوريا، واليمن، والجزائر، وغيرها نسأل الله السلامة. وبما أنه قد علم أن الدين والملك أخوان، يقوى هذا بقوة صاحبه، ويضعف بضعفه، كان من المتعين على ملوك الإسلام، التمسك بالدين وحمايته، وصيانته عن كل ما يناقضه أو ينقصه، لا سيما مثلكم. فإنه لم يبق الآن من ملوك الإسلام، من يؤمل فيهم النصرة للدين سوى هذه الأسرة الميمونة؛ ولا تزال هي محط أنظار العالم الإسلامي، كيف لا وأنتم حماة الحرمين الشريفين، وحماة قبلة المسلمين، في مشارق الأرض ومغاربها؛ وأسلافكم الأفاضل، هم كانوا حماة الدين، ومنارا ساطعا لرفع راية التوحيد. فلذا يجب عليكم امتثال أوامر الدين، وإقامة الحدود   1 مسلم: الإمارة (1854) , والترمذي: الفتن (2265) , وأبو داود: السنة (4760) , وأحمد (6/295 ,6/321) . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 29 الشرعية، والاتباع للسياسة الإسلامية، وتوقير العلماء، وإظهار المنزلة العالية لهم بين الناس، وإزالة المنكرات، وقمع المفسدين، لأنكم متى عملتم بهذا صار العلماء ورجال الدين ألسنة لكم، ودعاة على رؤوس المنابر في تأييدكم. وعامة الناس يحترمون العلماء، وينظرون ماذا يقولون في كل وقت، خصوصا في هذه البلاد، سوى أنه يوجد ثلة من المنحرفين، سفهاء الأحلام، طياشة العقول، يجنحون للحريات، ويميلون للفوضى، ويشعلون نار الفتنة، ويسممون أفكار النشء الصغير بنواديهم الخليعة، وتمثيلياتهم الماجنة؛ فهؤلاء هم الآن أقلية مستضعفون، إلا أنهم إن تركوا استفحل شرهم، وعظم خطرهم على الدين والسياسة. فالواجب قمعهم، وإيقافهم على حدهم، والأخذ على أيديهم، في تطبيق الحدود الشرعية عليهم، وإلزامهم أوامرها، فإنهم متى كان لهم من الأمر شيء، لم يرعووا إلى سنة أو كتاب، ولم يروا حقا لوال من ولاة الأمور، ولم يحترموا عالما بعلمه، ولم يكرموا شيخا لكبره، ولم يرحموا صغيرا لصغره. وإنه لمن واجب العلماء نحو أئمتهم، مناصحتهم، وإبداء ما يرونه مخلا بالدين، وبيان ما يجب على الملوك فعله، وما يجب عليهم اجتنابه، وأنه في هذه الأيام قد الجزء: 15 ¦ الصفحة: 30 حدثت أمور منكرة، لا يقرها شرع، ولا يرضاها عقل، ولا تقبلها فطرة سليمة. فيجب عليكم الوقوف أمامها، ومنعها منعا باتا، غيرة لله، وحماية لدينه، وإعلاء لكلمة الحق، فإن هذا هو سبب نصرتكم على أعدائكم، وتمكينكم في الأرض، وبقاء عزكم وملككم: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [سورة الحج آية: 40] ، {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [سورة محمد آية: 7] . ومن أهم ما يجب المبادرة إلى رفعه وإزالته، أو دفعه وعدم إقراره، هو: وجود هذه السينماآت التي انتشرت في أكثر الأماكن، وما يعرض فيها من صور خليعة، وأمراض أخلاقية فتاكة، تقتل ما في الإنسان من رجولية، أو مروءة أو ديانة. إنها والله فخ نصبه لنا أعداؤنا، ليذهبوا ما فينا من حماسة أخلاقية، امتاز بها المسلمون على غيرهم، وقد أدركوا ما يريدون من كثير من أبناء المسلمين بسببها، فلا حول ولا قوة إلا بالله. ومنها: وجود التلفزيون، وفشوه في كثير من البلاد، كما هو في المقاطعة الشرقية. ومنها: وجود بعض المنكرات في الأسواق، كآلات الطرب فى بيعها علنا، واستعمالها مجاهرة. ومنها: أصوات النساء والأغاني، منطلقة من هذه البلاد المقدسة، باسم مكة المكرمة، التي يجب أن تصان عن هذه الأمور. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 31 بل الواجب أن تحارب مثل هذه الأشياء، وأن تعمل كل ما في وسعها لمحو هذه الأمور المنكرة عن إذاعات المسلمين; فليتها كانت كفافا لا علي ولا ولي. ومنها: عدم مراقبة الصحف المحلية، من الناحية الدينية، فكل جاهل يكتب ويفتي في مسائل هامة، ويخالف القرآن والسنة، ويحل ويحرم ويكذب على العلماء، وينقل نقولات خاطئة بلا خجل ولا حياء، ثم يترك ولا يوقف عند حده. ومنها: عدم تعزيز جانب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا هو أهمها، بل هو الأساس لكل ما سبق، وإنه لمن أعظم الفروض: القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتعزيزه بكل ممكن؛ وهو الآن قد ذهب إلا مسماه، وذلك يرجع لعدة عوامل. منها: أنهم سلبوا سلطتهم، بكونهم لا يؤتمنون على التحقيقات مع المجرمين، ولا يتولون شيئا من ذلك، ثم يسند هذا إلى الشرطة. فهل الشرطة أعلم منهم بأحكام الشريعة؟ أو أقرب منهم إلى العدل والإنصاف؟ أو أشد تحريا لأداء الأمانة وبيان الواقع منهم؟! ومنها: أن هذا العمل كسر شوكتهم، وحطم لمعنويتهم أمام الجمهور، حتى أصبحوا كلا شيء أمام الجمهور، بل شيء ولكنه محتقر. ومنها: أنه متى تكلم شخص ضدهم وتبين خطؤه عليهم وكذبه وافتراؤه، لم يحصل أي ردع من قبل الحكومة. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 32 وغير خاف على سموكم أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هو قوام الدين، وأن قوام الملك والدولة هو التمسك بالدين؛ فإن الناس متى جهلوا دينهم أضاعوا حد الله وحقوق عباده، وجمهور الناس اليوم- ولله الحمد- في كفة أهل العلم، ويحبونهم ويحبون ولاتهم، ويوالونهم ويدعون لهم، ويتمنون لهم الهدوء والطمأنينة، إلا أنهم يلومونهم في بعض الأشياء التي تمس الدين، وكذلك يلومون طلبة العلم أكثر من لومهم الحكومة. ويقولون لنا: أنتم المقصرون، ولم تتكلموا مع الحكومة، ولم تبلغوها الواقع على حقيقته، وقد كثر علينا اللوم منهم مشافهة ومكاتبة، ونسبوا كل هذا التحلل إلينا، بل يقولون: كل هذا التقصير إنما هو من العلماء، أما الحكومة فهي لم تقف أمامهم ضد ذلك. ونحن نكتب هذه الكلمة، نصحا لكم حيث أوجب الله ذلك علينا، ونصحا للأمة، وخروجا من معرة الكتمان، ومعذرة إلى الله سبحانه، ثم إلى خلقه. والله المسؤول أن يمن علينا وعليكم بالهداية والتوفيق لما يحب ويرضى، وأن يجعلنا وإياكم من أنصار دينه الذين يغضبون لغضبه ويرضون لرضاه، آمين. وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 33 [رسالة الشيخ عبد الله بن حميد في أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أهم واجبات الدين] وقال أيضا الشيخ: عبد الله بن محمد بن حميد، رحمه الله 1. بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على الناصح الأمين، وآله وصحبه والتابعين. وبعد: فقد كثر الخوض في هذه الأيام، حول الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونشر ذلك في بعض الصحف المحلية؛ وتجرأ بعض الكتاب وأكثروا من الكلام الذي لم يستمد من كتاب الله وسنة رسوله، إنما هو أفكار وآراء مجردة عن الدليل الشرعي، فلذا رأينا: أنه من المتعين التنبيه على هذا الموضوع، وبيان مكانته من الشريعة، على سبيل الاختصار، والاكتفاء ببعض الأدلة التي تبين الحق لطالبيه، وتقيم الحجة على المعاند. فأقول: لا شك أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أهم واجبات الدين، بل هو من آكد الأصول الإسلامية وأوجبها، وقد ألحقه بعضهم بالأركان التي لا يقوم بناء الإسلام إلا عليها؛ وهو من فروض الأعيان عند طائفة من العلماء، وعند آخرين من فروض الكفاية؛ فلا يسقط عن المكلفين إلا إذا قام به طائفة منهم تحصل بها الكفاية؛ وهذا   1 نشرت في جريدة البلاد وغيرها سنة 1382 هـ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 34 شيء معلوم من الكتاب والسنة وكلام العلماء، حتى إنه لشدة اهتمامهم به، يذكرونه في كتب العقائد والتوحيد. وإليك شيء من الأدلة، قال الله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [سورة آل عمران آية: 104] وقال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [سورة آل عمران آية: 110] وقال تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [سورة المائدة آية: 78-79] . فأنت ترى الآية المذكورة أولا، صريحة بالأمر للمسلمين أن تكون منهم أمة تدعو الناس إلى الخير، وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؛ والأمر متقرر عند الأصوليين أنه يقتضي الوجوب ما لم يصرفه صارف؛ ولم يوجد في هذا الأمر ما يصرفه، بل وجد ما يؤكده، فتعين وجوبه. والآية الثانية أيضا: دالة على أن هذه الأمة خير الأمم، وهذه الخيرية إنما حصلت لها بهذا الوصف، وهو: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما قال مجاهد: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [سورة آل عمران آية: 110] : كنتم خير الناس للناس، على هذا الشرط: أن تأمروا بالمعروف وتنهوا عن المنكر وتؤمنوا بالله، وروى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [سورة آل عمران آية: 110] ، "قال: كنتم خير الناس للناس، تجيئون الجزء: 15 ¦ الصفحة: 35 بهم في السلاسل، فتدخلونهم الجنة". فتأمل: كيف عبر بذكر السلاسل، ومن المعلوم أن السلاسل من أقوى ما يقاد بها الممتنع عن الدخول في الشيء، فتكون هذه القيادة، هي السبب في دخولهم الجنة، وسلامتهم من العذاب، وبسببها كانوا هم خير الناس للناس. والآية الثالثة دلت على شدة وعيد من ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن بني إسرائيل لما تركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لعنوا على ألسنة رسلهم؛ واللعن هو: الطرد والإبعاد عن الله وعن رحمته، وأي عقوبة أعظم من هذه؟ وجاء عن "ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ} الآية [سورة المائدة آية: 78] . قال: (لعنوا بكل لسان، لعنوا على عهد موسى في التوراة، ولعنوا على عهد داود في الزبور، ولعنوا على عهد عيسى في الإنجيل، ولعنوا على عهد محمد صلى الله عليه وسلم في القرآن". وجاء عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الرجل من بني إسرائيل كان إذا رأى أخاه على الذنب نهاه تعذيرا، فإذا كان من الغد لم يمنعه ما رأى أن يكون أكيله وخليطه وشريبه، فلما رأى الله ذلك منهم، ضرب قلوب بعضهم على بعض، ولعنهم على لسان نبيهم داود وعيسى بن مريم، ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون". الجزء: 15 ¦ الصفحة: 36 قال: "والذي نفسي بيده: لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يد السفيه، ولتأطرنه على الحق أطرا، أو ليضربن الله قلوب بعضكم على بعض، ثم يلعنكم كما لعنهم" 1. فانظر: كيف حث الناصح الأمين صلى الله عليه وسلم أمته على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأكده بعده تأكيدات، أكده بنون التوكيد الثقيلة، وبين عقوبته وهو: اللعن كما لعن من قبلهم. ثم تأمل كيف بين صلى الله عليه وسلم صفة النهي عن المنكر ودرجاته، ووضح وجوبه، وأتى بالصيغة الدالة على العموم، ليشمل عموم المسلمين؟ فقال: "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه" 2. فكيف مع هذه الصراحة الواضحة يتجاسر أحد ممن ينتمي إلى الإسلام، على مصادمتها وردها علنا، على صفحات الجرائد، أليس هذا ردا على القرآن؟ أليس هذا تهجما على الرسول؟ أليس هذا تضليلا لعلماء المسلمين؟ أليس هذا نقضا لركن من أركان الشريعة؟ فإنا لله وإنا إليه راجعون. ما الذي حمل بعض الكتاب على هذا التهجم، أبغضا وكراهية للدين؟ أم جهلا بشرائعه وتعاليمه؟ أم شرقا بدعوته وسننه القويمة؟ أم عجزا عن أداء واجباته؟!   1 الترمذي: تفسير القرآن (3047) , وأبو داود: الملاحم (4336) , وابن ماجه: الفتن (4006) . 2 مسلم: الإيمان (49) , والترمذي: الفتن (2172) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (5008 ,5009) , وأبو داود: الصلاة (1140) والملاحم (4340) , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1275) والفتن (4013) , وأحمد (3/10 ,3/20 ,3/49 ,3/52 ,3/54 ,3/92) . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 37 فليتهم إذ عجزوا عنهما كفوا ألسنتهم وأقلامهم، ولم يقفوا أمام من قاموا بأداء هذا الواجب، ألم يبلغهم حديث ابن عمر رضي الله عنهما: "لينقضن الإسلام عروة عروة، حتى لا يقال في الأرض: الله الله" 1 "لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، أو ليسلطن الله عليكم شراركم فيسومونكم سوء العذاب، ثم يدعو خياركم فلا يستجاب لهم" 2، "ولتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، أو ليبعثن الله عليكم من لا يرحم صغيركم ولا يوقر كبيركم". وفي مسند الإمام أحمد مرفوعا: "أيها الناس إن الله يقول: مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر، قبل أن تدعوني فلا أحيبكم، وتستنصروني فلا أنصركم، وتسألوني فلا أعطكم" 3، وفي حديث ابن عباس: "وما ترك قوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إلا لم ترفع أعمالهم، ولم يسمع دعاؤهم". فكيف مع وجود هذه الآيات البينات، وهذه الأحاديث يتظاهر أناس بتهجين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والحط من قدر من قام به، والنداء بإلغاء هذه الطائفة، وتخطئتهم، وانتقادهم بأشياء إما غير واقعية وهم فيها مصيبون، بل هي من واجباتهم. أينكر عليهم الضرب والتعزير في موضعه المشروع؟ أليس هذا هو امتثال قول النبي الكريم: "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده" 4 ألم يفعل ذلك نبينا صلى الله عليه وسلم وأصحابه؟ ألم يرجم   1 أحمد (4/232) . 2 أحمد (5/391) . 3 ابن ماجه: الفتن (4004) , وأحمد (6/158) . 4 مسلم: الإيمان (49) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (5008) , وأحمد (3/20 ,3/49 ,3/54) . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 38 الزاني؟ ألم يقطع يد السارق؟؟ ألم يجلد ويغرب الزاني؟ ألم يفعل ذلك خلفاؤه الراشدون، ويستمر عمل المسلمين على هذا؟ "ألم يأمر عمر رضي الله عنه بالهجوم على البيت الذي قيل له إن فيه خمرا؟ ألم يحرق البيت ويؤدب صاحبه؟ ألم يسمه فويسقا؟ وكان يدعى رويشدا، ألم يحبس على مجرد تهمة؟ " ألم يكن هذا صنيع ملوك الإسلام كلهم.؟ يسندون أمر الحسبة إلى طائفة معينة تتولى القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ ألم يذكر العلماء في كل مذهب باب التعزير، وهو التأديب في كل معصية لا حد فيها ولا قصاص؟. وإليك شيئا من كلام الإمام ابن القيم رحمه الله، المتوفى عام 751هـ في بيان بعض من واجباتهم، قال: وأما ولاية الحسبة فخاصتها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فيما ليس من خصائص الولاة والقضاة، وأهل الديوان ونحوهم. فعلى متولي الحسبة أن يأمر العامة بالصلوات الخمسة في مواقيتها ويعاقب من لم يصل بالضرب والحبس. وإنه لمن العجب العجاب أن يستدل أحد الكتاب، على عدم صلاحية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باستنكار رجل أجنبي رأى أحد أعضاء الهيئة وهو يأمر الجزء: 15 ¦ الصفحة: 39 الناس بالذهاب إلى الصلاة، ويوقفهم بكلامه وقرعه بعصاه. الله أكبر يا للإسلام ويا للعقول الصحيحة، أيدفع بهذا الاستنكار كلام الله وكلام رسوله، وإجماع الأمة؟! كيف يليق بهذا الكاتب، أن يتفوه بمثل هذا الاستدلال الساقط؟ أين هذا الكاتب من قوله عليه السلام: "ولقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم آمر رجلا فيؤم الناس، ثم أنطلق برجال معهم حزم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة، فأحرق عليهم بيوتهم بالنار" 1 الحديث، رواه مسلم عن أبي هريرة. ثم إن هؤلاء الكتاب، ينتقدون هذه الطائفة- أي الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر- بإعفائهم اللحى وعدم حلقها، وينتقدونهم بالتسوك. الله أكبر، كيف ينتقدون من يعمل بالسنة النبوية؟ ! ألم تكن هذه صفتة صلى الله عليه وسلم؟ ألم يكونوا بهذا العمل متمسكين بسنته صلى الله عليه وسلم في أمره بذلك، وفي فعله وفي تقريره؟ كيف أصبح المعروف عند قوم منكرا والمنكر معروفا؟ !! ويرحم الله العلامة أبو الوفاء بن عقيل المتوفى عام 513 هجرية، حيثما يقول في فنونه: من أعظم منازع الإسلام، وآكد قواعد الأديان: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتناصح؛ فهذا أشق ما يحمله المكلف، لأنه مقام الرسل، حيث يثقل صاحبه على الطباع، وتنفر منه نفوس   1 البخاري: الأحكام (7224) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (651) , والنسائي: الإمامة (848) , وأبو داود: الصلاة (548) , وابن ماجه: المساجد والجماعات (791) , وأحمد (2/424) , ومالك: النداء للصلاة (292) , والدارمي: الصلاة (1274) . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 40 أهل اللذات، ويمقته أهل الخلاعة، وهو إحياء السنن وإماتة البدع. إلى أن قال: لو سكت المحقون، ونطق المبطلون، لتعود النشء ما شاهدوا، وأنكروا ما لم يشاهدوا؛ فمتى رام المتدين إحياء سنة، أنكرها الناس وظنوها بدعة، وقد رأينا ذلك، فالقائم بها يعد مبتدعا مبدعا. انتهى كلامه رحمه الله. أسأله تعالى: أن يرينا الحق حقا ويرزقنا اتباعه، ويرينا الباطل باطلا، ويرزقنا اجتنابه، ويعصمنا من الزيغ والبدع وإخواننا المسلمين، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله على محمد وآله وصحبه. [رسالة الشيخ عبد الله بن حميد إلى كافة هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر] وقال أيضا، رحمه الله: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله بن محمد بن حميد، إلى كافة هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وغيرهم من إخواننا، وفقنا الله وإياهم للعمل بما يرضيه، وجنبنا أسباب سخطه ومناهيه، آمين، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فإن من المتعين علينا وعليكم، التناصح في دين الله، والتذكير بنعم الله وأيامه، فإن في ذلك من المصالح النافعة العامة، ما لا يحيط به علما إلا الله، وقد رأينا كما رأى غيرنا من انتقاض عرى الإسلام عروة عروة، وبدو اختفاء معالمه. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 41 وما غلب على أكثر الخلق من الإعراض عما خلقوا له، واشتغالهم بالفاني عن الباقي، وظهور سلطان حب الدنيا، واستيلاؤه على القلوب، وفشو المنكرات، وتتابع ظهورها، بدون مغير لها ولا منكر؛ وهذا مما يدل على أن الإسلام قد بدأ مرضه في هذه الديار، وأن أوامره ونواهيه خف وقعها في النفوس. فالواجب على كل مسلم أن يهتم بهذا الأمر أشد الاهتمام، ويبذل كل ما يقدر عليه، في سبيل إصلاح دين المسلمين، من الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ولا يختص بواحد دون آخر. فإن جميع بني آدم لا تتم مصالحهم في الدنيا ولا في الآخرة، إلا بالاجتماع، والتعاون، والتناصر، على جلب ما ينفعهم، ودفع ما يضرهم وإذا كثر الخبث عم العقاب الصالح والطالح، في حين أن الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر لم يبق فيه إلا رسوم قليلة، وهو باب عظيم به قوام الأمر وملاكه. وإذا لم يؤخذ على يد الظالم أوشك أن يعمهم الله بعقابه {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [سورة النور آية: 63] . وإنه لمن آكد قواعد الأديان، وأعظم منافع الإسلام، وهو مقام الرسل حيث يثقل صاحبه على الطباع وتنفر منه نفوس أهل اللذات، ويبغضه أهل الخلاعة؛ وبه تحيا السنن وتموت البدع، فلو سكت الجزء: 15 ¦ الصفحة: 42 المحقون، ونطق المبطلون، لتعود النشء ما شاهدوا، وأنكروا ما لم يشاهدوا. فينبغي لطالب الآخرة، والساعي في تحصيل رضى الله عز وجل أن يعتني بهذا المقام، فإن نفعه عظيم، لا سيما وقد ذهب معظمه، ويخلص لله نيته، ولا يهاب من ينكر عليه لارتفاع مرتبته، فإن الله تعالى، قال: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ} [سورة الحج آية: 40] ، {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [سورة العنكبوت آية: 69] . وإنما الأجر على قدر النصب، فلا يتركه لصداقته ومودته، ومداهنته، وطلب الوجاهة عنده، ودوام المنزلة لديه، فإن صداقته ومودته، توجب عليه حرمة وحقا، ومن حقه أن ينصحه ويهديه إلى مصالح آخرته، وينقذه من مضارها؛ وصديق الإنسان ومحبه من سعى في عمارة آخرته، وإن أدى ذلك إلى نقص في دنياه. وعدوه من يسعى في ذهاب أو نقص آخرته، وإن حصل بسبب ذلك نفع في دنياه؛ وإنما كان إبليس عدو لنا لهذا. وكانت الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، أولياء للمؤمنين، لسعيهم في مصالح أخراهم وهدايتهم إليها. والأمر بالمعروف: اسم جامع لكل ما عرف من طاعة الله، وتقرب إليه، وإحسان إلى الناس، وكل ما ندب إليه الشرع وحث عليه ورغب فيه؛ فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فيه صلاح للعباد في المعاش والمعاد، الجزء: 15 ¦ الصفحة: 43 ولا يتم ولا يستقيم لهم حال بدونه؛ وهو أن أمور الناس لا تستقيم، ولا تنتظم أحوالهم في الدنيا ولا في الآخرة، إلا بطاعة الله ورسوله، بالامتثال لأوامره، والانتهاء عن زواجره. وبالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: سمت هذه الأمة، وارتفعت على غيرها من الأمم: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [سورة آل عمران آية: 110] . ومراتبة ثلاث: باليد، واللسان، والقلب، وثالثها أضعفها إيمانا. فعدم إنكار المنكر بالقلب؛ دليل على ذهاب الإيمان. قال ابن مسعود رضي الله عنه: (هلك من لم يعرف المعروف وينكر المنكر بالقلب) يشير رضي الله عنه إلى أن معرفته المعروف والمنكر بالقلب، فرض لا يسقط عن أحد، فمن لم يعرفه هلك. ومتى سكت الإنسان عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، تطلبا لرضى الخلق واستجلابا لمودتهم، فهو أخبث حالا من الزاني والسارق وشارب الخمر. قال ابن القيم رحمه الله: ليس الدين بمجرد ترك المحرمات, بل والقيام مع ذلك بالأمور المحبوبة لله عز وجل كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد في سبيله، والنصرة لله ورسوله وكتابه ودينه، والنصح لعباده؛ وأقل الناس دينا، وأمقتهم لله من ترك هذه الواجبات، وإن زهد في الدنيا جميعها. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 44 والداعي للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، تارة طلب الثواب من الله والتقرب لله بذلك، وتارة خوف العقاب والإثم في تركه، وتارة الغضب لله إذا انتهكت محارمه، وتارة النصيحة للمسلمين والرحمة بهم، والشفقة عليهم، ورجاء إنقاذهم مما أوقعوا فيه أنفسهم من التعرض لسخط الله وعقوبته، في الدنيا والآخرة. وتارة يحمل عليه إجلال الله وإعظامه ومحبته، وأنه أهل أن يطاع فلا يعصى، ويذكر فلا ينسى، ويشكر فلا يكفر، وأن يفتدى من انتهاك محارمه بالنفوس والأموال، فمن لاحظ ما تقدم، هان عليه ما يلقاه من الأذى في الله عز وجل كما قال بعض السلف: "وددت أن الخلق كلهم أطاعوا الله ورسوله، ولو قرض لحمي بالمقاريض". فالنهي عن المنكر حفاظ الدين، وسياج الآداب والفضائل، فإذا ترك تجرأ الفساق على إظهار فسقهم وفجورهم، ومتى صارت الدهماء يرون المنكرات بأعينهم ويسمعونها بآذانهم تزول وحشتها وقبحها من قلوبهم، ثم يتجرأ الكثيرون أو الأكثرون على اقترافها فيعظم البلاء ويشتد الخطب. وناهيك لو قام كل واحد منا بنصيحة الآخر، دعوة وأمرا ونهيا، لامتنع فشو الشر فينا والمنكرات، واستقر الخير والمعروف بيننا {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [سورة الأنفال آية: 25] . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 45 غير أن الناصح الداعي، والآمر الناهي، ينبغي أن يوطن نفسه على الصبر، ويثق بالثواب من الله عز وجل؛ ومن وثق بالثواب من الله، لم يجد مس الأذى، وهان عليه كل ما يلاقيه في سبيل ذلك. وحين لم يرد بعمله إلا وجه الله والدار الآخرة، فإن الله يحفظه من بأس الصائلين والمعتدين، وذلك ببركة إخلاصه وحسن مقصده وقوة توكله على الله. فإن من أخلص لله النية أثر كلامه في القلوب القاسية فلينها، وفي الألسن الذربة فقيدها، وفي يد السلطة فعقلها، ومن يعتصم بالله فقد هدى إلى صراط مستقيم. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم، 19\2\1378 هـ. [رسالة من صالح الخريصي إلى من يراه من المسلمين في الحث على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر] وقال الشيخ: صالح بن أحمد الخريصي، رحمه الله: بسم الله الرحمن الرحيم من صالح بن أحمد الخريصي، إلى من يراه من إخواننا المسلمين وفقنا الله وإياهم لما يرضيه، وجنبنا وإياهم أسباب سخطه ومناهيه، آمين، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: تعلمون ما أوجبه الله علينا وعليكم، وعهده إلينا نبينا صلى الله عليه وسلم من التعاون على البر والتقوى، ونصيحة بعضنا الجزء: 15 ¦ الصفحة: 46 البعض، والتواصي بالحق، والتواصي بالصبر، والدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة؛ وبالقيام بهذه الأمور على وجهها تتم سعادتنا بالدنيا والآخرة، قال الله عز وجل وبقوله يهتدي المهتدون: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ} [سورة السجدة آية: 24] ، وقال تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [سورة آل عمران آية: 104] . وقال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [سورة التوبة آية: 71] ، وقال تعالى: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [سورة الحج آية: 40-41] ، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [سورة محمد آية: 7] ، وقال صلى الله عليه وسلم "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان" 1، وفي رواية: "وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل" 2.   1 مسلم: الإيمان (49) , والترمذي: الفتن (2172) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (5008 ,5009) , وأبو داود: الصلاة (1140) والملاحم (4340) , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1275) والفتن (4013) , وأحمد (3/10 ,3/20 ,3/49 ,3/52 ,3/54 ,3/92) . 2 مسلم: الإيمان (50) . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 47 فإذا بلغ الإنسان إلى غاية لا يعرف قلبه المعروف، ولا ينكر المنكر، فلا خير فيه؛ لكن هذا الواجب يختلف باختلاف درجات أهله ومنازلهم.. فعلى العلماء من واجب التبليغ والنصيحة وبذلها والقيام بواجبها ما ليس على غيرهم، فإن الله أخذ عليهم الميثاق ليبيننه للناس ولا يكتمونه، وأخذ عليهم أن لا يقولوا عليه إلا الحق. وعلى أهل الحسبة- وهم النواب- من الحق الواجب من القيام بما في رقابهم ما ليس على آحاد الناس؛ فإنهم مسؤولون أمام الله يوم القيامة عما استرعاهم عليه وأسند إليهم؛ والعذر منتف، والحجة قائمة، لأن الولاية بحمد الله مساعدة على حسب الحال. وعلى أئمة المساجد والمؤذنين ما ليس على غيرهم، من تفقد جماعتهم، وإرشادهم وتعليمهم، والقيام على المتخلف منهم، ورفع أمره إلى أهل الحسبة؛ فإن الإمام ضامن، والمؤذن مؤتمن. ومن لم يقم بهذه الوظيفة على وجهها، فليتق الله وليعاف المسلمين من شره، فإن بقاءه على هذه الحالة نقص ظاهر عليه وعلى جماعته؛ كما أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب على كل أحد بحسبه، والرجل مسؤول عن أهل بيته ومن تحت يده، ومسؤول عن جاره. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 48 وقد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [سورة التحريم آية: 6] ، ومعنى الآية: مروهم وانهوهم، وعلموهم وأرشدوهم، وخذوا على أيديهم، كما قال صلى الله عليه وسلم: "لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يد السفيه، ولتأطرنه على الحق أطرا، أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض، ثم يلعنكم كما لعنهم" 1. وقال في حق الأهل والعيال: "ولا ترفع عنهم عصاك أدبا، وأخفهم في الله عز وجل" 2 وقال: "ما نحل والد ولده" 3 أي أعطاه عطية "أفضل من أدب حسن" 4 وقال: "لأن يؤدب أحدكم ولده خير من أن يتصدق بصاع" 5، وورد "أن الجار يتعلق بجاره، ويوقفه بين يدي الله عز وجل ويقول: يا رب، سل هذا لما خانني؟ فيقول: يا رب ما خنته في أهل ولا مال، ويقول: رآني على ذنب كذا وكذا، فلم يأمرني ولم ينهني" معناه: رآني على فعل محظور، أو ترك مأمور. وقال صلى الله عليه وسلم: "انصر أخاك ظالما أو مظلوما فقال: أنصره إذا كان مظلوما، فكيف أنصره إذا كان ظالما؟ قال: "تحجزه وتمنعة من الظلم" 6 فهذا نصره في الحقيقة، فإذا أمرته ونهيته وأدبته فقد نصرته؛ وإذا تركته فقد خنته وغششته، وتحملت تبعته يوم القيامة؛ وهو كالغريق في   1 أبو داود: الملاحم (4336) . 2 أحمد (5/238) . 3 الترمذي: البر والصلة (1952) , وأحمد (3/412) . 4 الترمذي: البر والصلة (1952) , وأحمد (3/412) . 5 الترمذي: البر والصلة (1951) . 6 البخاري: المظالم والغصب (2444) , والترمذي: الفتن (2255) , وأحمد (3/99 ,3/201) . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 49 البحر؛ وقيامك عليه، كإخراجه وإنقاذه من الغرق؛ وسكوتك عنه كتركه غريقا سواء بسواء. فاتق الله في أخيك المسلم، وخذ على يده بكل ما تقدر عليه، من نصحه وإرشاده، وأمره ونهيه؛ ولا تدعه يفترسه الشيطان وأنت تنظر. فيا معشر العلماء، ويا أهل الحسبة، ويا معشر الأئمة والمؤذنين، ويا أهل الحل والعقد، ويا معشر المنتسبين إلى الخير، اتقوا الله في أنفسكم، وخذوا على أيدي إخوانكم، ولا تأخذكم في ذلك لومة لائم، وذودوهم عن مرتع الهلكة، فليس هذا زمن الإحجام والتأخر، بل هذا زمن الإقدام والتقدم، وأعدوا للسؤال جوابا، وللجواب صوابا. {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [سورة الأنفال آية: 25] ، واحذروا ما جرى على الأمم الماضية، والقرون الخالية، من العقوبات والمثلات، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [سورة هود آية: 102] . ولا يغرنكم ما بسط عليكم من النعم التي لا يحصيها عدد، ولا ينهيها أمد، من صحة الأبدان، وأمن في الأوطان، وبسط في الرزق وخفض في العيش؛ فإنها إذا لم تكن على استقامة، سريعة الذهاب، وشيكة التغير والانقلاب. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 50 وما أخذ قوم إلا عند سلوتهم وغرتهم ونعمتهم، فلا تغتروا بالله، قال الله عز وجل {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} [سورة الأنعام آية: 44] . فاستجلبوا نعم الله واستديموها بالقيام بما أوجب عليكم، واستدفعوا نقمه بذلك؛ فإنها ما استجلبت نعم الله واستدفعت نقمه بمثل ذلك، قال الله تعالى {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ} [سورة الأعراف آية: 165] . وقال تعالى: {فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ} [سورة هود آية: 116] ، وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [سورة الرعد آية: 11] ، فإذا غيروا غير عليهم جزاء وفاقا؛ وما ربك بظلام للعبيد. وقد ورد في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "والذي نفسي بيده، إن المعروف والمنكر خليقتان تنصبان للناس يوم القيامة، فأما المعروف فيبشر أصحابه ويعدهم الخير، وأما المنكر فيقول: إليكم إليكم، وما يستطيعون له إلا لزوما" 1 رواه أحمد، والبيهقي في شعب الإيمان. وعن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنه سيصيب أمتي في آخر الزمان من سلطانهم شدائد، لا ينجو   1 أحمد (4/391) . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 51 منها إلا رجل عرف دين الله، فجاهد عليه بلسانه ويده". وتعلمون أن هذا الواجب لا يسقط عن أحد، ولو كان من أعبد الناس؛ بل لا تنفعه عبادته إلا بقيامه بهذا الواجب العظيم، كما في حديث جابر، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أوحى الله إلى جبريل أن أقلب مدينة كذا وكذا بأهلها، فقال يا رب: إن فيهم عبدك فلانا لم يعصك طرفة عين، فقال: اقلبها عليه وعليهم، فإن وجهه لم يتمعر فيّ ساعة". وعن عدي بن عدي الكندي، قال: حدثنا مولى لنا، أنه سمع جدي يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله لا يعذب العامة بعمل الخاصة، حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم، وهم قادرون على أن ينكروه فلا ينكروه، فإذا فعلوا ذلك، عذب الله العامة والخاصة" 1 رواه في شرح السنة. وذلك أن المعصية إذا خفيت لم تضر إلا صاحبها، وإذا ظهرت ولم تغير ضرت العامة والخاصة؛ وإذا كثر الخبث عم العقاب الصالح والطالح. ومن أعظم المعروف الذي ينبغي الأمر به والتحريض عليه: الصلاة في جماعة؛ فإن كثيرا من الناس استخف بها، ولم يبال بها، ومعلوم أن التخلف عنها عظيمة من العظائم؛ ولولا أنه عظيمة لما هم النبي صلى الله عليه وسلم بتحريق بيوت المتخلفين عن الجماعة بالنار. وقال ابن مسعود رضي الله عنه: "ولقد رأيتنا وما يتخلف   1 أحمد (4/192) . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 52 عنها إلا منافع معلوم النفاق"، وقال عمر رضي الله عنه: "ما بال أقوام يتخلفون عن الصلاة جماعة، فيتخلف بتخلفهم آخرون، ليحضرن المسجد أو لأبعثن إليهم من يجافي رقابهم، ثم قال رضي الله عنه: احضروا الصلاة، احضروا الصلاة، احضروا الصلاة) . فاتقوا الله عباد الله، وأمروا بالصلاة جماعة، وانهوا من تخلف عنها، فإن لم تفعلوا تكونوا آثمين، ومن أوزارهم غير سالمين. [وصية عبد الله بن سليمان بن حميد إلى المسلمين بتقوى الله] وقال الشيخ: عبد الله بن سليمان بن حميد، رحمه الله: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله بن سليمان بن حميد، إلى من يراه ويسمعه من إخواننا المسلمين، سلك الله بنا وبهم طريق أهل السعادة، وجنب الجميع أسباب الشقاوة، آمين. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: تعلمون أن من الواجب علينا لكم، النصيحة، والذكرى تنفع المؤمنين؛ فنوصيكم بوصية الله لعباده وهي: التقوى، ومراقبة الله في السر والعلانية، والشكر لنعمه والصبر على بلائه، والاستغفار عند مخالفة أمره؛ فإن هذه الأمور إذا رزقها العبد عنوان سعادته. والتقوى، هي: فعل ما أمر الله به وترك ما نهى عنه، الجزء: 15 ¦ الصفحة: 53 وقوام التقوى: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال الله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [سورة المائدة آية: 2] وقال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [سورة آل عمران آية: 110] . وقال صلى الله عليه وسلم "من رأى منكرا فليغيره بيده.." 1 الحديث، وقال: "يا أيها الناس، مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر قبل أن تدعوا الله فلا يستجيب لكم، وتستغفروه فلا يغفر لكم" 2. والآيات والأحاديث في ذلك كثيرة، وكلها تدل بمنطوقها ومفهومها، أنه يتعين على كل مسلم، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومساعدة من قام به، كل على حسب حاله. فتارك إنكار المنكر، مع القدرة على إنكاره، كمرتكبه؛ وهو من الفاسقين، الداخلين في الوعيد؟ وبالتعاون على إنكار المنكر، يقوم الدين، ويتم الخير، وتستقر النعم، وتبقى الآداب والأخلاق الفاضلة؛ وبتركه ومداهنة أهله، ينتشر الفساد، ويظهر الفجور، فتعم العقوبة، والعياذ بالله من غضبه. ومما يجب الاهتمام به على الجميع: معرفة دين الإسلام؛ فأصل كل بلاء وفساد، هو: الجهل بالدين والإعراض عن تعلمه، وأكثر الناس وإن تكلموا بالشهادتين لفظا، فقد جهلوها معنى.   1 مسلم: الإيمان (49) , والترمذي: الفتن (2172) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (5008) , وأبو داود: الصلاة (1140) , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1275) والفتن (4013) , وأحمد (3/10 ,3/20 ,3/49 ,3/52 ,3/54 ,3/92) . 2 ابن ماجه: الفتن (4004) , وأحمد (6/158) . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 54 فيجب على الناصح لنفسه أن يتعلم ما يعرف به ربه، ودينه، ونبيه محمدا صلى الله عليه وسلم ويؤدي به عبادته، ويصحح به معاملته؛ وهذا أمر واجب، لا عذر لأحد بجهله، والله يقول: {وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً} [سورة الإسراء آية: 72] . ومما يجب الاهتمام به: الصلاة، فهي عمود الإسلام، وآكد أركانه بعد الشهادتين، ومن تركها فقد كفر، ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع؛ وهي آخر ما يفقد من الدين، ولا عذر لأحد في التخلف عن صلاة الجماعة في المسجد إلا من عذر الله. لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد" وجار المسجد، هو الذي يسمع النداء. وقد هم صلى الله عليه وسلم بإحراق بيوت المتخلفين عن صلاة الجماعة بالنار؛ ولم يرخص في ترك الجماعة، ولا لأعمى بعيد الدار، وليس له قائد، وبينه وبين المسجد واد كثير السباع والهوام. وقد شرعت صلاة الجماعة مع الخوف، وحضور العدو وقتاله؛ وكثير من الناس يتهاونون بصلاة الجماعة، ولا يبالون بحضورها مع فراغهم وصحتهم، كسلا وعدم رغبة في الخير؛ فيجب الإنكار على هؤلاء، وتأديبهم إذا لم تنفع فيهم النصيحة. ومما يجب في الصلاة: إتمام الركوع والسجود، الجزء: 15 ¦ الصفحة: 55 والطمأنينة في جميع أركانها، وعدم مسابقة المأموم لإمامه؛ ولا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب، وهي: أم القرآن. وكثير من الأئمة والمأمومين لا يحسنون قراءة الفاتحة، ويحرفونها؛ ومن حرف معانيها بطلت صلاته. فتنبهوا لهذا، وتعلموا ما يجب عليكم في صلاتكم؛ فمن قبلت صلاتة قبل سائر عمله؛ ومن ردت صلاته رد سائر عمله. وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. [فصل في تعاون المسؤلين مع أهل الحسبة] فصل ومن تعاون المسؤولين مع أهل الحسبة: ما جاء في خطاب رئيس مجلس الوزراء في 28/ 12/ 1385 هـ المبلغ بخطاب رئيس الحرس الوطني بتاريخ 7/1/ 1386 هـ إلى وزير الإعلام وهذا نصه: بسم الله الرحمن الرحيم صاحب المعالي وزير الإعلام، تقدم بعض الغيورين على عقيدتهم وبلادهم بملاحظات حول ما يكتب في الصحف، ويذاع في الإذاعة، وأنه في حاجة إلى الإصلاح، طبق ما يساير نهضتنا الإسلامية؛ وأشاروا إلى وجود دور للسينماء وأن الناس أقبلوا عليها، رغم أن بعض ما يعرض فيها سموم قاتلة، وكثير من الكتب الداعية إلى الإباحية والإلحاد، بالمكتبات، الجزء: 15 ¦ الصفحة: 56 وقد أقبل الشباب عليها بصورة مرعبة. كما أن بعض المدرسين يتكاسلون عن أداء الصلاة، والأسواق مليئة بالبائعين في أوقات الصلاة. وأشاروا إلى وجود تبرج في الأسواق، وأن ذلك دعوة جريئة، وتحريض على التآمر والتقليد، ولأن ذلك إن صح وقوعه فإنه يستدعي النظر. لذلك نرى أن على كل جهة أن تقوم بواجبها فيما يخصها، وملاحظة منع السفور والتبرج، مع أخذ تعهد على كل شخص يتم التعاقد معه، باحترام أنظمة البلاد وتقاليدها؛ كما يجب تدعيم الرقابة على الكتب بمفتشين؛ من كبار طلبة العلم الموثوقين، ممن اتسعت آفاقهم، وصحت مداركهم، وأن لا يذاع أو ينشر في الصحف إلا ما يتفق عليه أنظمتنا وعقيدتنا وتقاليدنا. أما السينماء فلا يسمح لذويها بعرضها في أماكن عامة مطلقا، ومن يقبض عليه يجازى بمصادرة الآلة والأفلام، والسجن والجلد؛ وقد زودت جميع الوزارات والإدارات بصورة من هذا التنبيه على الموظفين بأداء الصلاة في أوقاتها جماعة. انتهى. فيصل بن عبد العزيز رئيس مجلس الوزراء. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 57 [الباب الثاني في تحريم التتن بأنواعه] الباب الثاني: تحريم التتن بأنواعه وغيره، وقد كثر استعماله في هذا العصر، حتى استعمله بعض صبيان المدارس تبعا لمعلميهم من أهل الخارج، فعسى الله أن يمنع أهل الإسلام من هذه الرذيلة المضرة بالدين والبدن وغيرهما، ويوفق علماء المسلمين مع ولاة الأمر على منعه من الخارج، وأن لا يزرع في المملكة؛ فهم سُراة الإسلام، وحماته، وإليك نصائحهم في ذلك. [فتوى الشيخ محمد بن إبراهيم في تحريم التتن وذكر الأدلة وكلام العلماء] قال الشيخ: محمد بن إبراهيم آل الشيخ، رحمه الله 1. بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وبعد: فقد سئلت عن حكم التنباك الذي أولع بشربه كثير من الجهال والسفهاء، مما يعلم كل أحد تحريمنا إياه، نحن ومشائخنا ومشائخ مشائخنا ومشائخهم، وكافة المحققين من أئمة الدعوة النجدية، وسائر المحققين سواهم من العلماء في عامة الأمصار، من لدن وجوده بعد الألف بعشرة أعوام أو نحوها حتى يومنا هذا، استنادا على الأصول الشرعية والقواعد المرعية.   1 وقد طبعت مفردة, وانتشرت ولله الحمد, وهي موجودة وغيرها حول هذا الموضوع, في الجزء 12 من فتاويه رحمه الله. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 58 وكنت رأيت عدم إجابة السائل لذلك، لكن نظرا إلى أن للسائل حقا، وإلى فشو تعاطي هذا الخبيث بما لا يخطر على البال، آثرت الجواب على ذلك. فأقول: لا ريب في خبث الدخان ونتنه، وإسكاره أحيانا وتفتيره، وتحريمه بالنقل الصحيح، والعقل الصريح، وكلام الأطباء المعتبرين. أما النقل الصحيح فقول الله تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالأِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [سورة الأعراف آية: 157] . وفي الصحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كل مسكر خمر، وكل خمر حرام" 1، ولمسلم: "وكل مسكر حرام" 2، وروى أبو داود والترمذي وحسنه، عن عائشة موفوعا: "كل مسكر حرام، وما أسكر الفرق منه، فملء الكف منه حرام" 3. وكل من الآية الكريمة، والأحاديث الصحيحة دال على تحريمه، فإنه خبيث، مسكر تارة ومفتر أخرى؛ لا يماري في ذلك إلا مكابر للحس والواقع. ولا ريب أيضا في إفادتها تحريم ما عداه من المسكرات والمفترات. وروى الإمام أحمد وأبو داود عن أم سلمة رضي الله عنها، قالت: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل   1 مسلم: الأشربة (2003) , والترمذي: الأشربة (1861) , وأبو داود: الأشربة (3679) , وابن ماجه: الأشربة (3390) , وأحمد (2/29) . 2 مسلم: الأشربة (2003) , وأبو داود: الأشربة (3679) , وأحمد (2/16 ,2/31 ,2/104) . 3 البخاري: المغازي (4343) , ومسلم: الأشربة (1733) , والنسائي: الأشربة (5595 ,5597 ,5602 ,5604) , وأبو داود: الأشربة (3684) , وابن ماجه: الأشربة (3391) , وأحمد (4/410 ,4/415 ,4/417) , والدارمي: الأشربة (2098) . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 59 مسكر ومفتر" 1. قال الحافظ الزين العراقي: إسناده صحيح، وصححه السيوطي في الجامع الصغير. وفيه من إضاعة المال، واستهلاك المبالغ الطائلة المسببة لضلع الدِّين، الحامل على بيع كثير من ضروريات الحياة في هذا السبيل، ما لا يسع أحدا إنكاره، وفي الصحيحين عن النبي عليه أنه قال: "إن الله حرم عليكم: عقوق الأمهات، ووأد البنات، ومنعا وهات. وكره لكم: قيل وقال وكثرة السؤال، وإضاعة المال" 2. يوضحه ما سنذكره من كلام العلماء، من أرباب المذاهب الأربعة: فممن ذكر تحريمه من فقهاء الحنفية: الشيخ محمد العيني، ذكر في رسالته تحريم التدخين، من أربعة أوجه. أحدها: كونه مضرا للصحة، بإخبار الأطباء المعتبرين؛ وكل ما كان كذلك يحرم استعماله اتفاقا. ثانيها: كونه من المخدرات المتفق عليها عندهم، المنهي عن استعمالها شرعا، لحديث أحمد عن أم سلمة: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل مسكر ومفتر) ، وهو مفتر باتفاق الأطباء؛ وكلامهم حجة في ذلك وأمثاله، باتفاق الفقهاء سلفا وخلفا. ثالثها: كون رائحته الكريهة تؤذي الناس الذين لا   1 أبو داود: الأشربة (3686) , وأحمد (6/309) . 2 البخاري: الأدب (5975) , ومسلم: الأقضية (593) , وأحمد (4/246 ,4/254) , والدارمي: الرقاق (2751) . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 60 يستعملونه، وعلى الخصوص في مجامع الصلاة ونحوها؛ بل وتؤذي الملائكة المكرمين. وقد روى الشيخان في صحيحيهما، عن جابر مرفوعا: "من أكل ثوما أو بصلا فليعتزلنا، وليعتزل مسجدنا، وليقعد في بيته" 1 ومعلوم: أن رائحة التدخين ليس أقل كراهية من رائحة الثوم والبصل. وفي الصحيحين أيضا عن جابر رضي الله عنه أن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه الناس ; وفي الحديث عنه عليه الصلاة والسلام، أنه قال: "من آذى مسلما فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله" رواه الطبراني في الأوسط، عن أنس رضي الله عنه بإسناد حسن. رابعا: كونه سرفا، إذ ليس فيه نفع مباح خال عن الضرر، بل فيه الضرر المحقق، بإخبار أهل الخبرة، ومنهم أبو الحسن المصري الحنفي قال ما نصه: الآثار النقلية الصحيحة، والدلائل العقلية الصريحة، تعلن بتحريم الدخان. وكان حدوثه في حدود الألف، وأول خروجه بأرض اليهود والنصارى والمجوس. وأتى به رجل يهودي، يزعم أنه حكيم، إلى أرض المغرب، ودعا الناس إليه. وأول من جلبه إلى البر الرومي رجل اسمه "الانكلين" من النصارى، وأول من أخرجه ببلاد السودان المجوس، ثم جلب إلى مصر والحجاز، وسائر الأقطار.   1 البخاري: الأذان (855) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (564) , وأبو داود: الأطعمة (3822) , وأحمد (3/400) . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 61 وقد نهى الله عن كل مسكر، وإن قيل إنه لا يسكر فهو يخدر ويفتر أعضاء شاربه، الباطنة والظاهرة، والمراد بالإسكار: مطلق تغطية العقل، وإن لم تكن معه الشدة المطربة. ولا ريب أنها حاصلة لمن يتعاطاه أول مرة، وإن لم يسلم أنه يسكر فهو يخدر ويفتر. وقد روى الإمام أحمد وأبو داود، عن أم سلمة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم " (نهى عن كل مسكر ومفتر" 1. قال العلماء: المفتر ما يورث الفتور والخدور في الأطراف، وحسبك بهذا الحديث دليلا على تحريمه؛ وأنه يضر بالبدن والروح، ويفسد القلب، ويضعف القوى، ويغير اللون بالصفرة. والأطباء مجمعون على أنه مضر، ويضر بالبدن والمروءة والعرض والمال، لأن فيه التشبه بالفسقة، لأنه لا يشربه غالبا إلا الفساق، والأنذال، ورائحة فم شاربه خبيثة. ومن فقهاء الحنابلة: الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب، قدس الله أرواحهم، قال في أثناء جوابه على التنباك، ما نصه: وبما ذكرنا من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلام أهل العلم، يتبين لك تحريم "التتن" الذي كثر في هذا الزمان استعماله. وصح بالتواتر عندنا والمشاهدة إسكاره في بعض الأوقات، خصوصا إذا أكثر منه، أو تركه يوما أو يومين لا يشربه ثم شربه، فإنه يسكر ويزيل العقل، حتى إن صاحبه   1 أبو داود: الأشربة (3686) , وأحمد (6/309) . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 62 يحدث عند الناس، ولا يشعر بذلك، نعوذ بالله من الخزي وسوء البأس. فلا ينبغي لمن يؤمن بالله واليوم الآخر: أن يلتفت إلى قول أحد من الناس، إذا تبين له كلام الله، وكلام رسوله، في مثله من المسائل؛ وذلك لأن الشهادة بأنه رسول الله تقتضي طاعته فيما أمر، والانتهاء عما عنه نهى وزجر، وتصديقه فيما أخبر. [جواب الشيخ أبا بطين عن التنباك] وأجاب الشيخ: عبد الله أبا بطين رحمه الله، عن التنباك بقوله: الذي نرى فيه التحريم لعلتين: إحداهما: حصول الإسكار فيما إذا فقده شاربه مدة ثم شربه، وإن لم يحصل إسكار، حصل تخدير وتفتير، وروى الإمام أحمد حديثا مرفوعا أنه صلى الله عليه وسلم "نهى عن كل مسكر ومفتر" 1. والعلة الثانية: أنه منتن مستخبث عند من لم يعتده، واحتج العلماء بقوله: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [سورة الأعراف آية: 157] . وأما من ألفه واعتاده فلا يرى خبثه، كالجعل لا يستخبث العذرة. ومن فقهاء الشافعية: الشيخ الشهير بالنجم الغزي الشافعي، قال ما نصه: والتوتون الذي حدث، وكان حدوثه بدمشق سنة خمس عشرة بعد الألف، يدعي شاربه أنه لا يسكر، وإن سلم له فإنه مفتر؛ وهو حرام، لحديث أحمد بسنده عن أم سلمة، قالت: (نهى رسوله الله صلى الله عليه وسلم عن كل مسكر ومفتر) .   1 أبو داود: الأشربة (3686) , وأحمد (6/309) . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 63 قال: وليس من الكبائر تناوله المرة أو المرتين، بل الإصرار عليه يكون كبيرة كسائر الكبائر. وقد ذكر بعض العلماء أن الصغيرة تعطى حكم الكبيرة بواحد من خمسة أشياء؟ أحدها: الإصرار عليها. والثانية: التهاون بها، وهو الاستخفاف وعدم المبالاة بفعلها، والثالثة: الفرح والسرور بها. والرابعة: التفاخر بها بين الناس. والخامسة: صدورها من عالم، أو ممن يقتدى به. وأجاب الشيخ خالد بن أحمد من فقهاء المالكية بقوله: لا تجوز إمامة من يشرب التنباك، ولا يجوز الاتجار به ولا بما يسكر. وممن حرم الدخان ونهى عنه من علماء مصر: الشيخ أحمد السنهوري الحنبلي، وشيخ المالكية إبراهيم اللقاني؛ ومن علماء المغرب: أبو الغيث القشاش المالكي؛ ومن علماء اليمن إبراهيم بن جمعان، وتلميذه أبو بكر الأهدل؛ ومن علماء الحرمين المحقق عبد الملك العصامي، وتلميذه محمد بن علان شارح رياض الصالحين، والسيد عمر البصري. وفي الديار الرومية الشيخ: محمد خواجة، وعيسى الشهادي الحنفي؛ ومكي بن فروخ; والسيد سعد البلخي المدني، ومحمد البرزنجي المدني الشافعي، وقال: رأيت من يتعاطاه عند النزع، يقولون له قل: لا إله إلا الله، الجزء: 15 ¦ الصفحة: 64 فيقول: هذا تتن حار. كل هؤلاء من علماء الأمة وأكابر الأئمة أفتوا بتحريمه، ونهوا عنه وعن تعاطيه. وأما العقل الصريح: فلما علم بالتواتر والتجربة والمشاهدة، ما يترتب على شاربه غالبا، من الضرر في صحته وجسمه وعقله، وقد شوهد موت وغشي وأمراض عسرة كالسعال المؤدي إلى مرض السل الرئوي، ومرض القلب والموت بالسكتة القلبية، وتقلص الأوعية الدموية بالأطراف وغير ذلك، مما يحصل به القطع العقلي أن تعاطيه حرام. فإن العقل الصريح يقضي ولا بد بتعاطي أسباب الصحة والحصول على المنافع، كما يقضي حتما بالامتناع من أسباب المضار والمهالك، والمبالغة في مباعدتها، لا يرتاب في ذلك ذو لب البتة. ولا عبرة بمن استولت الشبهة والشهوة، على أداة عقله، فاسعتبدته وأولعته بالأوهام والخيالات، حتى بقي أسيرا لهواه مجانبا أسباب رشده وهداه. وأما كلام الأطباء، فإن الحكماء الأقدمين مجمعون على التحذير من ثلاثة أشياء، ومتفقون على ضررها. أحدها: النتن، وهو: الروائح المستخبثة بجميع أجناسها وأنواعها؟ الثاني: الغبار، الثالث: الدخان، وكتبهم طافحة بذلك. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 65 وأما المتأخرون منهم، الذين أدركوا هذه الشجرة الخبيثة، فنلخص ما ذكروه من أضراره، وما اشتمل عليه من الأجزاء، والعناصر التي نشأت عنها أضراره الفتاكة. وهذا ملخص ما ذكروه: قالوا: هو نبات حشيشي مخدر، مر الطعم، وبعد التحقيق والتجربة، ظهر أن التبغ بنوعيه: التوتون، والتنباك، من الفصيلة الباذنجانية، التي تشتمل على أشر النباتات السامة، كالبلادونا، والبرش والبنج، وهما مركبان من أملاح البوتاس، والنوشادر، ومنه مادة صمغية، ومادة حريفة تسمى "نيكوتين" قالوا: وهي من أشد السموم فعلا. وله استعمالات، أحدها: استعماله استنشاقا بالفم، وهو أقبح استعمالاته وأشدها ضررا، وهو من المخدرات القوية، فتسري مواده السامة في الأمعاء سريعا، وتحدث تأثيرا قويا في الأعصاب البدنية. والثانية: استعماله استنشاقا مسحوقا مع أجزاء منبهة وهو مضر أيضا لاحتوائه على مواد سامة. والثالث: استعماله تدخينا من طريق السيجارة وهي أعظم أدوات التدخين، لأن الدخان يصل إلى الفم حارا، ومن طريق النارجيلة، والقصبة المعروفة بالغليون. وقد أثبت الأطباء له مضارا عظيمة، وقالوا: إنها تكمن في الجسم أولا، ثم تظهر فيه تدريجيا؛ وذكروا أن الدخان الجزء: 15 ¦ الصفحة: 66 الذي يتصاعد عن أوراق التبغ المحترقة، يحتوي على كمية وافرة من المادة السامة، هي "النيكوتين"؛ فإذا دخل الفم والرئتين، أثر فيهما تأثيرا موضعيا وعموميا، لأنه عند دخوله الفم، تؤثر المادة الحريفة السامة التي فيه، في الغشاء المخاطي، فتهيجه تهييجا قويا، وتسيل منه كمية زائدة من اللعاب، وتغير تركيبه الكيماوي بعض التغير، بحيث تقلل فعله في هضم الطعام، وكذلك تفعل في مفرز المعدة، كما فعلت في مفرز الفم فيحصل حينئذ عسر الهضم. وعند وصول الدخان إلى الرئتين، على طريق الحنجرة، تؤثر فيهما المادة الحريفة، فتزيد مفرزهما، وتحدث فيهما التهابا قويا مزمنا، فتهيج السعال حينئذ لإخراج ذلك المفرز الغزير، الذي هو: البلغم، ويتسبب عن ذلك تعطيل الشرايين الصدرية، وعروض أمراض صدرية يتعذر البرء منها. وما يجتمع على باطن القصبة من آثار التدخين الكريهة الرائحة، يجتمع مثله على القلب، فيضغط على فتحاته، ويصد عنه الهواء، فيحصل حينئذ عسر التنفس، وتضعف المعدة، ويقل هضم الطعام، ويحصل عند المباشر له الذي لم يعتده دوار، وغثيان، وقيء، وصداع، وارتخاء العضلات- وهي الأعصاب- ثم سبات، وهي: كناية عن حالة التخدير، الذي هو من لوازم التبغ المتفق عليه، وذلك لما يحويه من المادة السامة. ومن اعتاده حصل عنده من فساد الذوق، وعسر الجزء: 15 ¦ الصفحة: 67 الهضم، وقلة القابلية للطعام، ما لا يخفى. والإكثار منه يفضي إلى الهلاك، إما تدريجا، وإلا في الحال، كما وقع لأخوين تراهنا على أيهما يدخن أكثر من الآخر، فمات أحدهما قبل السيجارة السابعة عشرة، ومات الآخر قبل أن يتم الثامنة عشرة. ومن مضاره: تخريب كريات الدم، وتأثيره على القلب بتشويش انتظام ضرباته، ومعارضته القوية لشهية الطعام، وانحطاط القوة العصبية عامة، ويظهر هذا بالخدور، والدوار، الذي يحدث عقب استعماله لمن لم يألفه. ويحكي الأستاذ مصطفى الحماصي عن نفسه مرة أنه قال: كنت أمشي يوما مع أحد طلبة العلم، فعرج على بائع دخان اشترى منه سيجارتين، أشعل إحداهما، وأقسم علي يمينا غليظا، أن آخذها منه وأستعملها. قال: فتناولت السيجارة أجذب في دخانها وأنفخه من فمي، دون أن يتجاوز الفم للداخل، رأى هو ذلك، فقال: ابتلع ما تجذبه، فإن قسمي على هذا. لم أمانع وفعلت ما قال نفسا واحدا، والله ما زدت عليه، وإذ دارت الأرض حولي دورة، تشبه دورة المغزل، فبادرت إلى الجلوس على الأرض، وظننت بنفسي أني انتهيت، وظننت بصاحبي الظنون. وبكل تعب وصلت إلى بيتي وأنا راكب، وهو معي يحافظ علي، وبعد ذلك مكثت الجزء: 15 ¦ الصفحة: 68 إلى آخر اليوم التالي تقريبا، حتى أحسست بخفة ما كنت أجده. فحكيت هذا لكثير من الناس، أستكشف ما كان يخبو لي في السيجارة؛ فأخبروني أن الدخان يعمل هذا العمل، في كل من لم يعتده، فقلت إذا كان نفس واحد فعل بي كل هذا، فماذا تفعله الأنفاس التي لا تعد، كل يوم يجتذبها معتاد الدخان، خصوصا المكثر منه؟ اهـ. ومنها: إحداث الجنون المعروف بالتوتوني، وهو أن من يتركه بعد استعماله، يختل نظام سيره في أعماله وأشغاله حتى يدخنه، فإذا دخنه سكن حاله. وقد ذكر جمع من أكابر العلماء وجهابذة الأطباء، أن من العقل فضلا عن الشرع، وجوب اجتناب التدخين حفظا للصحة، ودفعا لدواعي الضعف، الجالب للهلاك والدمار، وخصوصا ضعيف البنية، وكبير السن الذي ليست عنده قوة لمكافحة الأمراض، وأصحاب المزاج البلغمي. ولذلك يتركه كثير من الناس، خوفا من ضرره، وكراهية لرائحته، وقد يعلقون طلاق نسائهم على العود إليه، يريدون بذلك تركة نهائيا، فإذا حمل إليهم وقت الحاجة إليه، لم يستطيعوا الإعراض عنه أبدا، بل يقبلون عليه بكلياتهم كل الإقبال، ولو طلقت نساؤهم. فله سلطان عظيم على عاشقيه، وتأثير على العقل، الجزء: 15 ¦ الصفحة: 69 وذلك أن شاربه يفزع إلى شربه إذا نزل به مكدر، فيتسلى ويذهل العقل بعض الذهول، فيخف حزنه، والله أعلم، وصلى الله على عبده ورسوله محمد، وعلى الله وصحبه وسلم. قال ذلك وأملاه رحمه الله في 4/6 / سنة 1383هـ. [جواب الشيخ السعدي عن حكم شرب الدخان والإتجار به] وسئل الشيخ: عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمة الله، عن حكم شرب الدخان والإتجار به؟ فأجاب: أما الدخان، شربه، والاتجار به، والإعانة على ذلك، فهو حرام؛ لا يحل لمسلم تعاطيه شربا، واستعمالا، واتجارا؛ وعلى من كان يتعاطاه أن يتوب إلى الله توبة نصوحا، كما يجب عليه أن يتوب من جميع الذنوب. وذلك أنه داخل في عموم النصوص الدالة على التحريم، داخل في لفظها العام، وفي معناها، وذلك لمضاره الدينية، والبدنية، والمالية، التي يكفي بعضها في الحكم بتحريمه، فكيف إذا اجتمعت؟ أما مضاره الدينية، ودلالة النصوص على منعه وتحريمه، فمن وجوه كثيرة، منها: قوله تعالى: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [سورة الأعراف آية: 157] وقوله: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [سورة البقرة آية: 195] وقوله: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 70 إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً} [سورة النساء آية: 29] . فهذه الآيات وما أشبهها حرم الله بها كل خبيث أو ضار؛ فكل ما يستخبث أو يضر فإنه لا يحل؛ والخبث والضرر يتعرف بآثاره، وما يترتب عليه من المفاسد. فهذا الدخان له مفاسد وأضرار كثيرة محسوسة، كل أحد يعرفها؛ وأهله من أعرف الناس بها، ولكن إراداتهم ضعيفة، ونفوسهم تغلبهم، مع شعورهم بالضرر؛ وقد قال العلماء: يحرم كل طعام أو شراب فيه مضرة. ومن مضاره الدينية: أنه يثقل على العبد العبادات، والقيام بالمأمورات، خصوصا الصيام، وما كره العبد للخير فإنه شر؛ وكذلك يدعو إلى مخالطة الأراذل، ويزهد في مجالس الأخيار كما هو مشاهد؛ وهذا من أعظم النقائص، أن يكون العبد مؤالفا للأشرار، متباعدا عن الأخيار. ويترتب على ذلك: العداوة لأهل الخير والبغض لهم، والقدح فيهم، والزهد في طريقهم، ومتى ابتلي به الصغار والشباب سقطوا بالمرة، ودخلوا في مداخل قبيحة، وكان ذلك عنوانا على سقوط أخلاقهم؛ فهو باب لشرور كثيرة، فضلا عن ضرره الذاتي. وأما أضراره البدنية فكثيرة جدا، فإنه يوهن القوة ويضعفها، ويضعف البصر؛ وله سريان ونفوذ في البدن والعروق، فيوهن القوى، ويمنع الانتفاع الكلي بالغذاء، ومتى اجتمع الأمران اشتد الخطر وعظم البلاء. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 71 ومنها: إضعاف القلب، واضطراب الأعصاب، وفقد شهية الطعام، ومنها: السعال، والنزلات الشديدة، التي ربما أدت إلى الاختناق، وضيق التنفس؛ فكم له من قتيل أو مشرف على الهلاك. وقد قرر غير واحد من الأطباء المعتبرين أن لشرب الدخان الأثر الأكبر في الأمراض الصدرية، وهي: السل وتوابعه، وله أثر محسوس في مرض السرطان؛ وهذه من أخطر الأمراض وأصعبها. فيا عجبا لعاقل حريص على حفظ صحته، وهو مقيم على شربه، مع مشاهدة هذه الأضرار أو بعضها؟ ! فكم تلف بسببه خلق كثير! وكم تعرض منهم لأكثر من ذلك! وكم قويت بسببة الأمراض البسيطة حتى عظمت، وعز على الأطباء دواؤها! وكم أسرع بصاحبه إلى الانحطاط السريع من قوته وصحته!. ومن العجب أن كثيرا من الناس يتقيدون بإرشادات الأطباء في الأمور التي هي دون ذلك بكثير، فيكف يتهاونون بهذا الأمر الخطير؟ ! ذلك لغلبة الهوى، واستيلاء النفس على إرادة الإنسان، وضعف إرادته عن مقاومتها، وتقديم العادات على ما تعلم مضرته. ولا تستغرب حالة كثير من الأطباء الذين يدخنون، وهم يعترفون بلسان حالهم، أو لسان مقالهم بمضرته الطبية، فإن العادات تسيطر على عقل صاحبها وعلى إرادته، ويشعر كثيرا أو أحيانا بالمضرة، وهو مقيم على ما يضره. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 72 وهذه المضار التي أشرنا إليها إشارة، مع ما فيه من تسويد الفم، والشفتين، والأسنان، وسرعة بلائها وتحطمها وتآكلها بالسوس، وانهيار الفم والبلعوم، ومداخل الطعام والشراب، حتى يجعلها كاللحم المنهار المحترق، تتألم مما لا يتألم منه. وكثير من أمراض الالتهابات ناشئة عنه، ومن تتبع مضاره، وجدها أكثر مما ذكرنا. وأما مضاره المالية: فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن إضاعة المال، وأي إضاعة أبلغ من حرقه في هذا الدخان، الذي لا يسمن ولا يغني من جوع، ولا نفع فيه بوجه من الوجوه؛ حتى إن كثيرا من المنهمكين فيه، يغرمون فيه الأموال الكثيرة، وربما تركوا ما يجب عليهم من النفقات الواجبة؛ وهذا انحراف عظيم، وضرر جسيم، فصرف المال في الأمور التي لا نفع فيها منهي عنه، فكيف بصرفه بشيء محقق ضرره؟! ولما كان الدخان بهذه المثابة: مضر بالدين، والبدن، والمال، كانت التجارة فيه محرمة، وتجارته بائرة غير رابحة. وقد شاهد الناس أن كل متجر فيه، وإن استدرج ونما له المال في وقت ما، فإنه يبتلى بالقلة في آخر أمره، ويكون عواقبه وخيمة. ثم إن النجديين- ولله الحمد- جميع علمائهم متفقون على تحريمه ومنعه، والعوام تبع للعلماء؛ فلا يسوغ ولا يحل الجزء: 15 ¦ الصفحة: 73 للعوام أن يتبعوا الهوى، ويتأولوا، ويتعللوا أنه يوجد من علماء الأمصار من يحلله ولا يحرمه؛ فإن هذا التأويل من العوام لا يحل باتفاق العلماء، فإن العوام تبع لعلمائهم، ليسوا مستقلين. وليس لهم أن يخرجوا عن أقوال علمائهم، وهذا واجبهم، كما قال تعالى: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [سورة النحل آية: 43] . وما نظير هذا التأويل الفاسد الجاري على ألسنة بعض العوام- اتباعا للهوى، لا اتباعا للحق والهدى- إلا كما لو قال بعضهم: يوجد بعض علماء الأمصار لا يوجبون الطمأنينة في الصلاة، فلا تنكروا علينا إذا اتبعناهم، أو يوجد من يبيح ربا الفضل، فلنا أن نتبعهم، أو يوجد من لا يحرم أكل ذوات المخالب من الطير، فلنا أن نتبعهم. ولو فتح هذا الباب، فتح على الناس شر كبير، وصار سببا لانحلال العوام عن دينهم؛ وكل أحد يعرف أن تتبع مثل هذه الأقوال المخالفة لما دلت عليه الأدلة الشرعية، ولما عليه أهل العلم، من الأمور التي لا تحل ولا تجوز. والميزان الحقيقي هو: ما دلت عليه أصول الشرع وقواعده؛ وقد دلت على تحريم الدخان، لما يترتب عليه من المفاسد والمضار المتنوعة. وكل أمر فيه ضرر على العبد في دينه أو بدنه أو ماله، من غير نفع، فهو محرم، فكيف إذا تنوعت المفاسد، وتجمعت؟ ! أليس من المتعين شرعا وعقلا وطبا، تركه والتحذير منه، ونصيحة من يقبل النصيحة؟ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 74 فالواجب: على من نصح نفسه، وصار لها عنده قدر، وقيمة، أن يتوب إلى الله عن شربه، ويعزم عزما جازما، مقرونا بالاستعانة بالله، لا تردد فيه ولا ضعف عزيمة، فإن من فعل ذلك أعانه الله على تركه، وهون عليه ذلك. ومما يهون عليه الأمر، أن يعرف أن من ترك شيئا لله، عوضه الله خيرا منه. وكما أن ثواب الطاعة الشاقة، أعظم مما لا مشقة فيه، فكذلك ثواب تارك المعصية إذا شق عليه الأمر وصعب، أعظم أجرا، وأعظم ثوابا. فمن وفقه الله وأعانه على ترك الدخان، فإنه يجد المشقة في أول الأمر، ثم لا يزال يسلو شيئا فشيئا، حتى يتم الله عليه نعمته، فيغتبط بفضل الله عليه، وحفظه وإعانته، وينصح إخوانه بما ينصح به نفسه، والتوفيق بيد الله. ومن علم الله من قلبه صدق النية، في طلب ما عنده، بفعل المأمورات، وترك المحظورات، يسره لليسرى، وجنبه العسرى، وسهل له طرق الخير كلها. فنسأل الله الذي بيده أزمة الأمور أن يأخذ بنواصينا، ونواصي إخواننا إلى الخير، وأن يحفظنا وإياهم من الشر، إنه جواد كريم، رؤوف رحيم. وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. كتبها رحمه الله سنة 1376هـ وقد طبعت مفردة، وانتشرت والحمد لله. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 75 [قول الشيخ إبراهيم بن عبد الباقي 1 خطران يهددان الأمم الإسلامية] وقال الشيخ: إبراهيم بن عبد الباقي: خطران يهددان الأمم الإسلامية ليس شيء أدعى إلى الشجن، وأحس بالأسف، من تلك الموجات العاتية، التي انحدرت من الغرب إلى الشرق، من انحلال في الأخلاق، وولوغ في الفساد، وجحود ما كان لأمتنا من مجد تليد، وشرف رفيع، وحياة كلها حشمة ووقار، وعفة وإباء. فلقد دخل الأجانب بلادنا ضيوفا، فاستعمروها باسم الإصلاح، ونشروا المجون والفسوق باسم الحريات، وشيدوا المراقص والملاهي باسم الترفية عن الأجسام، وأحلوا الربا باسم الاقتصاد، حتى انحلت أخلاق الأمة، وعم الفساد في الأسرة، وانتشر الوباء في المجتمع، فتبدلت سعادتها شقاء، ورخاؤها تعاسة. ولم يكفهم هذا كله، بل جلبوا إلينا الخمور والمخدرات، التي قضت على الشباب والكهول والشيوخ، وزينوها لهم؛ حتى عم خطرها في كل مجتمع وناد، وأصبحوا لا غنى لهم عنها في مجالسهم ومحافلهم؛ فأضرت بصحتهم، وأضعفت عزيمتهم، وأوهنت قوتهم، وأسقطت كرامتهم.   1 في كتابه "البيان في الخطابة وتصحيح الإيمان". الجزء: 15 ¦ الصفحة: 76 وبددت ثروتهم إلى جيوب تجار المواد السامة، غنيمة باردة، ولقمة سائغة. فكم من أسرة كانت ناعمة البال، قريرة العين، رغيدة العيش، متقلبة في أعطاف النعيم، أصبحت في ذل وشقاء، وفقر وإملاق، من جراء هذا الوباء! ولو كنا ممن ينتفع بالذكريات، ويستفيد من العظات، لأخذنا حذرنا، وأمنا مكرهم، وظفرنا بما لهم من علوم، وما استفادوا من حضارة، وضع أساسها، ورفع قواعدها، الإسلام في الأندلس. ولكننا- ويا للأسف- أحسنا الظن بهم في العهود الغابرة، وعمينا عن قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} [سورة آل عمران آية: 118] , فوقعنا في محنة لا زلنا نتجرع غصصها، ونتذوق مرارتها. أليسوا هم الذين أبادوا دولة الإسلام في الأندلس؟ ومحوا صحيفة أمة عاشت ثمانية قرون في قلب أوروبا؟ ولا تزال ذكراها حية في صدر كل مسلم غيور. أليسوا هم الذين أضعفوا روح التعليم بين أفراد الشعب، حتى انتشر الفقر والمرض والجهل فينا؟ أليسوا هم الذين ظاهروا اليهود على أهل فلسطين فشردوهم أليسوا هم الجزء: 15 ¦ الصفحة: 77 الذين غلوا أيدينا عن الانتفاع بمعادن أرضنا؟ فحظروا علينا أن نستخرج معادنها، ونستخدمها في شؤون بلادنا. يا قومنا, لا تبددوا جهودكم في التجارب، ولا تفسدوا أموركم بالتردد، ولا تختلفوا بينكم فتذهب ريحكم، ولا تحسنوا ظنكم بعدو دينكم; واعلموا أن العدو واقف لكم بالمرصاد، يترقب الشتات والفرقة، فيفسد عليكم أمركم، ويلبس عليكم دينكم. ولقد صدق الله: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [سورة البقرة آية: 217] , {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} [سورة التوبة آية: 105] حتى يقيكم من الأعداء، وينقذكم من أسر الاستعمار. والخطر الثاني: وهو التبغ، أي: الدخان، والمخدرات. قبل أن نتحدث عن الدخان، أوثر أن أبدي كلمة قصيرة عن الحشيش، لأنه أعظم جرما، وأشد فتكا بالجسم، وأعظم حرمة، لأني وجدت الدروس العملية فيه، أكثر مني بيانا، وأفصح لسانا. إذ أن متعاطيه لا يكاد يصل إلى درجة الشيخوخة، حتى تتبدل صحته سقما، وقوته ضعفا، ونضرته ذبولا، وأعصابه اضطرابا، وكثيرا منهم يموت بالسكتة القلبية. وكذلك الأفيون، فهو: أشد ضررا منه، إذ إن مدمنه الجزء: 15 ¦ الصفحة: 78 يصاب بفقر في دمه، وإمساك معوي حاد، واضطراب في الأعصاب، وضعف في الذاكرة. وكذلك باقي المخدرات الأخرى. ومثل ذلك الدخان؛ فالدخان: نبات خشبي، تابع لفصيلة الباذنجان: مخدر، مر الطعم، كريه الرائحة، يبلغ ارتفاع شجرته مترا تقريبا، وأوراقه تشبه أوراق القلقاس. واستعماله على أنواع خمسة: الأول: يدخن بواسطة ما يسمونه: "الشيشة" وما يماثلها، والثاني: يستعمل تدخينا بواسطة ورق رقيق جدا. والثالث: يستعمل سعوطا في الأنف، بعد أن يدق ناعما، ويوضع عليه جزء من أملاح النطرون، وقد يوضع عليه أجزاء أخرى تكسبه رائحة زكية. والرابع: يستعمل مضغا بأن يوضع مع جزء صغير من النطرون في الفم. والخامس: ما يستعمل بواسطة "جوزة" بعد أن يضاف إليه جزء من العسل. وهو في جميع استعمالاته حرام، وترجع حرمته إلى الأضرار التي تنجم عنه، وتلك الأضرار، اقتصادية واجتماعية وجسمانية. أما الاقتصادية فلا مرية فيها؛ وقد أطبقت شرائع الله على حرمة ضياع المال. وأما الاجتماعية فلأن مدمنه يغتصب حقوق أسرته ليشبع شهوته منه، سيما إذا كان فقيرا. أما أضراره الجسمانية، فحسبي فيها ما قرره الأطباء، الجزء: 15 ¦ الصفحة: 79 ونشروه في المجلات، وأذاعوه في المجتمعات، وها هي ذي أقوالهم بالنفي، حينما سئلوا عن المكيفات النافع منها والضار، وعن تعليل إقبال الناس على المكيفات؟ وهل يمكن الاستغناء عن جميعها؟ وما هي أحسن طريقة لتخليص مدمن المكيفات؟. قال الدكتور: سليمان عزمي وزير الصحة الأسبق: (أ) كلا، بل كلها ضارة؛ وضررها شديد، ويختلف ضررها حسب نوعها ودرجة تعاطيها. والمكيفات الثقيلة، مثل: الكوكايين، والحشيش، والأفيون، أضر بحالة الشخص النفسية والحسية. (ب) ويدخل في إقبال الناس على المكيفات التقليد الأعمى والمحاكاة، وتأثير البيئة، وضعف إرادة الشخص، وقوة إرادة من يؤثر عليه. (ج) نعم، ممكن، وقد رأيت بعيني آلافا من الناس، لم يتذوقوا في حياتهم شيئا منها. كما أنني أعرف كثيرا ممن يتعاطونها، ثم أقلعوا عنها. وإرشادات طبية، ومنها ما يحتاج إلى العلاج بالمصحات بواسطة الأطباء. وقال الدكتور: محمد سليمان مدير مستشفى الملك سعود سابقا: (أ) لا أعتقد أن هناك مكيفات نافعة أبدا، حتى الدخان. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 80 (ب) إني أرجعه إلى استهتار متعاطي المكيفات بالقيم الأخلاقية، التي عليها معول الأمم، ثم إلى البيئة، وعدم مراقبة الآباء لأبنائهم، ولا سيما في دور المراهقة. (ج) يمكن الاستغناء عن جميع المكيفات، وإن كنت أعتقد أن الدخان يحتاج إلى إرادة غير عادية من جانب المريض للاستغناء عنه. (د) قوة إرادة كفيلة بتخليصة من جميع المكيفات، وإنه ليحزنني أن أرى حكومتنا تسمح بوضع إعلانات مضاءة عن الخمر؛ إن في هذا تحريضا لا تستقيم معه دعوة محاربة الخمور. ولنا في حكومتنا الرشيدة أمل كبير، في منع الإعلانات عنها، والضرب على أيدي المتجرين بها وشاربيها، كما ضربت على أيدي العابثين بحقوقها. وقال غيره: يقبل الناس على المكيفات، لأسباب أهمها: التقليد، وكثرة المعاشرة لقرناء السوء، وضعف إرادة الشخص؛ ولا أعتقد أن هناك عادة يستعصي إبطالها والاستغناء عنها. ولا شك، فإن ذوي العزيمة الصادقة، يستغنون عن جميع المكيفات؛ أما المدمنون فيفضل علاجهم في مصحات خاصة. وكذا أجمع المحقون من العلماء على تحريم المكيفات، ومنها الدخان. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 81 وقال الدكتور: إسماعيل رشدي، مفتش صحة الغربية، في أدب المحلى: "التنباك، والدخان": هو نبات سمته العرب الطباق، وبتحليله: اتضح أنه يحتوي على مادة سامة، إذا وضع منها نقطتان في فم الكلب، مات في الحال، وخمس نقط تكفي منها لقتل جمل. والأمم المتوحشة تمضغه، وهذه الطريقة أكبر الطرق ضررا، لدخوله في المعدة مع الريق؛ وقد انتشر استعمال الطباق بين الأمم، على ما به من الضرر. وقد أثبت الأطباء أن الطباق يؤثر على القلب فيحدث فيه خفقانا، وفي الرئتين فيحدت سعالا، وفي المعدة فينشئ فيها ضعفا في شهوة الأكل، وفي العينين فيحدث فيهما رمدا، وفي المجموع العصبي فتورا. أسباب التدخين، والمخدرات: مما لا شك فيه أن تعاطي التبغ والدخان، وسائر المخدرات، بادئ بدء، لا تكون إلا بالتكلف واحتمال المكروه والألم، لأنها مكروهة بالطبع، كما أخبر المجربون. وإنما يتكلفون طلبا للذة متوهمة، يقلد بها الشارب غيره، ثم يصير المؤلم بالتعود ملائما بإزالته للألم المتولد منه إزالة مؤقتة؛ ذلك بأن هذه الأشياء سموم مكروهة في نفسها. ومتى أثر سمها في الأعصاب، بالتنبيه الزائد وغيره، أعقب ذلك ضده من الفتور والألم، وهما يطاردان بالعودة إلى الجزء: 15 ¦ الصفحة: 82 الشراب، كما قال أحد المدمنين في السكر: داوني بالتي كانت هي الداء، اهـ من المنار. هذا وقد أثبت العلم الحديث أن النيكوتين الذي اشتمل عليه التبغ، مادة سامة، أشد فتكا من المورفين، والأستركنين، والكوكايين، لهذا لم يستطع الطب أن يستخدمه لصالح البشر كدواء، كما استخدم غيره من السموم، ولو أن العلم استخدمه في قتل الحشرات، والأوبئة التي تصيب بعض الأشجار. وقال الدكتور "دمرداش أحمد": ولم أر في عيوب الناس عيبا ... كنقص القادرين على التمام لا أظن الجنس البشري منذ الخليقة، ضعف واستكان أمام عدو من أعدائه، كما فعل أمام تدوين التبغ، كما أسرته هذه العادة، وأوثقته، وأذلت كبرياءه. استوى في ذلك صغار العمال الكادحين، الذين يقتطعون من أقواتهم وأقوات عيالهم، وكبار الأطباء والفلاسفة المنكوبين الذين ضاءت عبقرياتهم، وكشفوا هذه الآفاق البعيدة، في مختلف العلوم والفنون. وقد كان السائد المعروف أن التدخين باعتدال قليل الضرر، أو عديمه، للشخص السليم؛ ولكن البحوث العلمية المتصلة في السنوات الأخيرة أثبتت أن الضرر الذي يحدثه التدخين لم يخطر أبدا على بال مدخن. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 83 وإليك الحقائق التي أثبتتها هذه البحوث: قال الأستاذ: "ريموند بالمير" يتتبع عشرين ألف حالة، منهم مسرفون ومعتدلون وممتنعون، أنشأ لكل منهم سجلا خاصا بجامعة "جون هوبكنز" أثبت فيه كل ما يتعلق بصحتهم وأمراضهم وعوائدهم. وبدأت أبحاثه سنة 1919 م، وانتهت سنة 1945 م بالنتيجة الآتية: يؤثر تدخين التبغ على حياة الإنسان أثرا بالغا، فتقصر هذه الحياة قصرا بينا، يتناسب مع كمية التبغ، والممتنعون أطول أعمارا من المعتدلين، والمعتدلين أطول من المسرفين اهـ. كثير من الناس، وربما كانوا متعلمين، يبيحون التدخين، وتعاطي الحشيش، ويتعلق بالأول الأحكام الخمسة، وهذا جهل بدين الإسلام، لم يحرم شيئا إلا إذا كان فيه ضرر، أو يؤدي إلى الضرر. مثال المؤدي إلى الضرر: النهي عن الأخلاط، والخمر القليل الذي لا يسكر، كما جاء في الحديث الذي رواه أحمد عن جابر مرفوعا: "ما أسكر كثيره فقليله حرام" 1، ودليل ذلك حديث لرسول الله صلى الله عليه وسلم "لا ضرر ولا ضرار" 2، وكذلك الحديث: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل مسكر ومفتر" 3، ودليل ذلك من القرآن الكريم، من سورة الأعراف: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ   1 الترمذي: الأشربة (1865) , وأبو داود: الأشربة (3681) , وابن ماجه: الأشربة (3393) , وأحمد (3/343) . 2 ابن ماجه: الأحكام (2340) . 3 أبو داود: الأشربة (3686) , وأحمد (6/309) . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 84 وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [سورة الأعراف آية: 33] . فالإثم في الآية الشريفة كما جاء في كتب اللغة، هو: الضرر؛ وأي ضرر أكبر من إتلاف الصحة، وإحراق المال، وهضم حق الزوجة لمن كان له زوجة، وحق الأولاد لمن كان له أولاد؛ وذلك لأن المال الذي بيده ليس خاصا به، بل لزوجته وأولاده فيه حقوق. يتبين من هذا أن أضراره أربعة: جسماني، واقتصادي، واجتماعي، وتبذير، والله تعالى يقول: {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً} [سورة الإسراء آية: 27] . رأي علماء الفقه في تحريم الدخان قال العلامة الشيخ: محمد فقهي الحنفي: وجه تحريم الدخان من أربعة أوجه. الأول: كونه مضرا، بإخبار الأطباء؛ وفي الحديث الذي رواه ابن حبان في صحيحه، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، قال قال رسوله الله صلى الله عليه وسلم "لا ضرر ولا ضرار" 1. والثاني: كونه من المفترات، وقد (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل مسكر ومفتر) ، رواه الإمام أحمد في مسندة عن أم سلمة. والثالث: كون رائحته كريهة تؤذي من لا يستعمله،   1 ابن ماجه: الأحكام (2340) . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 85 ولا سيما في مجامع الصلاة وغيرها، بل تؤذي الملائكة، وعن جابر: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أكل الثوم أو البصل أو الكراث فلا يقربن مسجدنا، فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم" 1 أخرجه الشيخان. ومعلوم أن رائحة الدخان ليست أقل خبثا من رائحة الثوم والبصل، وعن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من آذى مسلما فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله تعالى" أخرجه الطبراني في الأوسط. وقال الله تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [سورة الأعراف آية: 157] ، قال بعض المتشرعين: إن الدخان من الخبائث. والرابع: كونه إسرافا إذ لا نفع فيه، بل ضرره محقق؛ وكذلك أفتى\ ابن عابدين في الدر المختار، وفي شرح الوهابية للشرنبلالي بمنع الدخان وشربه، وغيرهم من الأئمة الذين وجدت هذه الشجرة في زمانهم، لأنها وجدت بعد الهجرة النبوية بألف سنة تقريبا، والله أعلم. وقال الشيخ: عبد الله بن سليمان بن حميد: مما حدث في هذا الزمان من البدع الشنيعة والعادات الخبيثة: شرب الدخان، المعروف بالتتن والتنباك، على اختلاف أجناسه وصفات استعماله؛ قد تكلم العلماء الأعلام في تحريمه   1 مسلم: المساجد ومواضع الصلاة (564) , وأحمد (3/387) . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 86 وبالغوا في الزجر عنه، وذكروا الأدلة القاطعة من الكتاب والسنة والإجماع والطب والعقل. وخلاصة ما استدلوا به، قوله تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [سورة الأعراف آية: 157] فهذه الآية دلت بمنطوقها على تحريم كل خبيث، والدخان خبيث. [جواب الشيخ عبد الله بن سليمان بن حميد عن استعمال القات] وسئل الشيخ: عبد الله بن سليمان بن حميد عن القات؟ فأجاب بقوله: فأقول مستعينا بالله تعالى: إن القات المعروف في هذه الجهات، المستعمل في كثير من نواحيها، هو بلية من البلوى ومصيبة من المصائب، لأنه لا يعود على مستعمله بفائدة، لا في دينه، ولا في بدنه. بل إنه مخل بالبدن والدين والدنيا، فقد شاهدنا كثيرا من مستعمليه مبتلى بنحالة الجسم، وأمراض الباسور، ومخل بالصحة، ومحطم للأضراس، ودائما آكله في سلس البول لا يطهر منه أبدا، هذا ما علمته من مضاره بالبدن. أما مضرته بالمال فشيئ محسوس للصغير والكبير، فقد تبلغ قيمة قبضة اليد منه عشرة ريالات إلى خمسة عشر؛ ويضطر متعاطيه إلى ترك قوت عياله الضروري، ويشتري ما يسد به شدقه منه بالغا ما بلغ، وعياله يتضاغون جوعا، الأمر الجزء: 15 ¦ الصفحة: 87 الذي لا يرتضيه دين، ولا خلق، ولا إنسانية. وأما مضرته من جهة الخلق والدين، فإن بعض أهل المحلة يجتمعون عليه، من نصف النهار إلى غروب الشمس وبعضهم يجلس إلى نصف الليل، عكوفا على أكله، مشتغلين بالقيل والقال، والخوض بالباطل، والخيبة والنميمة، والكلام الذي لا فائدة فيه. وتمر بهم صلاة الظهر والعصر والمغرب، لا يصلونها جماعة؛ والمشهور منهم بالتقى يصليها قضاء. فأصبح الناس أسارى لهذه المادة الخبيثة، ولا يستطيع متعاطيه تعاطي أي عمل خلال أكلها، وقد استحكمت عليهم هذه الشهوة، فهذا بعض مما تحتوي عليه شجرة القات. أما حكمه في الحل والحرمة، فالنزاع بين المتأخرين فيه كثير، والقول بتحريمه هو الصواب، لما اشتمل عليه من المضار الدينية والدنيوية، ولما ثبت من أنه مخدر ومفتر، وقد يسكر في بعض الأحيان. وجميع ما قيل في الحشيش من الخصال المذمومة، فهي موجودة في القات، مع زيادة التهالك عليه، وبذل المال الكثير فيه، وكل مضر بالإنسان في بدنه، أو عقله أو ماله، فهو حرام. وفي الحديث: "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك" 1, وفي الحديث أيضا: "البر ما اطمأنت إليه النفس وانشرح   1 الترمذي: صفة القيامة والرقائق والورع (2518) , والنسائي: الأشربة (5711) , والدارمي: البيوع (2532) . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 88 له الصدر، والإثم ما حاك في صدرك وترددت عنه النفس، وإن أفتاك الناس وأفتوك" 1. وبناء على ما تقرر, فالذي نراه تبرئة للذمة، ومكافحة للضرر الناشئ من هذه الشجرة، أن يمنع ورودها منعا باتا من البلاد المجاورة، وعدم السماح لمن يريد زراعتها من الأهالي؛ وبذلك ترفع المفسدة، وتحصل المصلحة. والله المستعان، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم في 25/4/1368 هـ. [قول الشيخ عبد الرحمن بن فريان عن أهمية النصيحة والتعاون على البر والتقوى] وقال الشيخ: عبد الرحمن بن فريان 2: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد: فإن من نصح لشخص وأرشده ودله، وأمره بالخير فقد أحبه، ومن لم ينصح لشخص، أو دله وسهل له طريق الشر، فقد أبغضه وغشه وخدعه. وأن الواجب الديني، يأمر بإسداء النصيحة للمسلم، ويأمر بالتعاون على الخير، وينهى عن التعاون على ضده; يقول تعالى، وهو الحكيم العليم، وبقوله يهتدي المهتدون: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [سورة المائدة آية: 2] . ويقول نبيه صلى الله عليه وسلم "الدين النصيحة ثلاثا،   1 أحمد (4/227 ,4/228) , والدارمي: البيوع (2533) . 2 طبعت سنة 1381 هـ وانتشرت. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 89 قيل: لمن يا رسول الله: قال؟ لله, ولكتابه، ولرسوله, ولأئمة المسلمين, وعامتهم" 1. ويقول صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه" 2. قف يا أخي: وتأمل هذه النصوص الشرعية والمنشورات السماوية، هدانا الله وإياك طريق الخير، وجنبنا جميعا طرق الضلال والهلاك. إن من الواجب عليك أيها المسلم أن تأخذ بيدي إلى طريق الحق والهدى، وأن آخذ بيدك إذا تأخرت، وتكاسلت، إلى طريق الحق والهدى، وأن نكون جميعا متعاونين على البر والتقوى، دعاة إلى ربنا عز وجل نلتمس رضاه، ونلتمس جنته، نخشى من غضبه وعذابه، ونحب من أحب، ونعادي من عادى، لأنه لذلك خلقنا، وبه أمرنا؛ لم نخلق لنأكل ونشرب وننكح فقط، لأن هذه صفة بهيمية، إذا بقي الإنسان لا يهمه إلا الأكل والشرب والنزوان، فقد اتصف بهذه الصفة البهيمية، ولم يلتفت إلى ما خلق له، وهي: عبادة الله، كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [سورة الذاريات آية: 56] 3. فهذه هي الحكمة في خلقنا وإيجادنا. وربنا سبحانه وبحمده، من رحمته لعباده أن أرسل إليهم رسوله، وأنزل عليهم كتابه، ليخرجهم من الظلمات إلى النور، لأن الكتاب والسنة هما الهدى والنور، والشفاء النافع لمن تمسك بهما، ويا خيبة وخسارة من أعرض عنهما.   1 مسلم: الإيمان (55) , والنسائي: البيعة (4197 ,4198) , وأبو داود: الأدب (4944) , وأحمد (4/102) . 2 البخاري: الإيمان (13) , ومسلم: الإيمان (45) , والترمذي: صفة القيامة والرقائق والورع (2515) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (5016) , وأحمد (3/272) , والدارمي: الرقاق (2740) . 3. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 90 قال تعالى: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمىً} [سورة فصلت آية: 44] ، وقال تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَاراً} [سورة الإسراء آية: 82] . ومن رحمته سبحانه بعباده: أن أحل لهم الطيبات، من المأكولات، والمشروبات، والملبوسات، وغير ذلك، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [سورة البقرة آية: 172] ، وقال تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [سورة الأعراف آية: 32] . وقال في وصف نبيه صلى الله عليه وسلم {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [سورة الأعراف آية: 157] . وإنه ليسوؤنا كثيرا، بل ويسوء كل مسلم: ما حصل على بعض المسلمين من النقص في أمر دينهم خاصة، وتهاونهم به، وما تبلورت به أفهامهم، من ضعف نظرهم فيما يصلحهم، وإغضائهم، بل ومحبتهم فيما لا ينفعهم، بل يضرهم في أمر دينهم. فإن ثمرة حياة الإنسان هي ما اكتسب من الأعمال الصالحة التي ترضي ربه، ليست ما جمع من درهم ودينار، ورئاسة وجاه وغير ذلك؛ فإني أنصح كل مسلم عن الجزء: 15 ¦ الصفحة: 91 تعاطي هذه الشجرة الخبيثة ألا وهي: "الدخان" التتن المنتن، فوالله ما دخل على مسلم بخير؛ بل غير فطرهم، وأفسد أخلاقهم، هو وغيره من الرذائل. فلقد والله فتح علينا أعداؤنا باب كل رذيلة. قل لي بالله واصدق أيها المسلم: أي خير في هذا الدخان بجميع أنواعه؟ أي نفع يرجع لصاحبه منه؟ وأنصف إذا قلت، ولا تنخدع بمروجي بضائعهم، الذين دلسوا وكذبوا على الناس، وأبرزوا دعايات كاذبة، تدل على سخافتهم وغشهم للمسلمين. فإنا لله وإنا إليه راجعون. مع العلم بأن الشرع المطهر نهى عن الغش والخيانة؛ قال صلى الله عليه وسلم: "من غشنا فليس منا" 1. وهذا الدخان لا يشك عاقل أنه من الخبائث. ويكفي دليل في تحريم الخبائث بطريق العموم، قوله عز وجل في صفة عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم {يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [سورة الأعراف آية: 157] . فلله الحمد والمنة على بعثة هذا النبي الكريم، فإنها أكبر النعم. وقد نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن كل مخدر ومفتر، كما في سنن أبي داود، والنهي يقتضي التحريم كما نص على ذلك العلماء رحمهم الله أخذا بقوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [سورة الحشر آية: 7] .   1 مسلم: الإيمان (101) , وأحمد (2/417) . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 92 وقد ثبت تخديره وتفتيره لديهم، وذلك محقق إذا أبطأ عنه صاحبه ثم شربه، أو أكثر منه، أنه يسكر ويغيب عقله 1؛ وقد حرم الله علينا كل مسكر، وفي الحديث الآخر: "ما أسكر كثيره فقليله حرام" 2. وهذا الدخان بجميع أنواعه حرام لشربه وتعاطيه، حرام بيعه وشراؤه، حرام توريده وتدخيله، حرام زرعه وصناعته، لأنه من التعاون على الإثم والعدوان؛ وقد نهى الرب سبحانه عن التعاون على الإثم والعدوان، والنهي يفيد التحريم، ولا يصرف عن ذلك إلا بدليل. والخمر تسمى أم الخبائث، ويجلد صاحبها؛ وقد كان العلماء رحمهم الله يرون إقام الحد على شارب الدخان، كما يقام الحد على شارب الخمر بثمانين جلدة، لأجل ثبوت إسكاره عندهم. والحدود كما يعلم: كفارات لأهل الذنوب، وفي إقامتها فضل كبير، كما في الحديث: "حد من حدود الله، يقام في أرض الله خير من أن يمطروا أربعين صباحا" 3, وفي لفظ "أربعين خريفا"، وفي التهاون بها خطر عظيم. في الحديث: "إذا بلغت الحدود السلطان، فلعن الله الشافع والمشفع" 4, وفيه أيضا: "من حالت شفاعته دون حد   1 تبع في ذلك بعض علماء أهل الدرعية كما هو مثبت في رسائلهم. 2 الترمذي: الأشربة (1865) , وأبو داود: الأشربة (3681) , وابن ماجه: الأشربة (3393) , وأحمد (3/343) . 3 ابن ماجه: الحدود (2538) . 4 مالك: الحدود (1580) . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 93 من حدود الله، فقد ضاد الله في أمره" 1 وفي لفظ (فقد ضاد الله في أرضه) . أيها المسلم، إن هذه الشريعة المطهرة، جاءت- ولله الحمد- بتحصيل المصالح، ودرء المفاسد، وإحلال الطيبات لما فيها من المنافع، وتحريم الخبائث، لما فيها من المضار. وكما نهت الشريعة عما كان ضررا كله، فقد نهت أيضا عما كان ضرره أكبر من نفعه، كما قال تعالى في الخمر: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [سورة البقرة آية: 219] . وهذا في أول الإسلام، ثم نهى عنها تدريجيا وهذا من حكمة هذه الشريعة لتعلق قلوب الحديث عهدهم بكفر بالخمر. ثم نهى عنها نهيا باتا كما في سورة المائدة، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [سورة المائدة آية: 90] ، وحرمت الخمر لما فيها من الضرر الكبير، ولأنها أم الخبائث. ولقد اتفق الأطباء المنصفون، والكيميائيون المحققون، على خبث هذا الدخان ومضرته؛ ولا يزالون يحذرون منه، ويبينون أضراره، ولا تغتر أيها العاقل بمن يتعاطاه منهم، فإن حب الشيء يعمي ويصم، بل قد يرى المكروه حسنا، كما قال تعالى: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ   1 أبو داود: الأقضية (3597) , وأحمد (2/70) . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 94 فَرَآهُ حَسَناً} [سورة فاطر آية: 8] . وقال الشاعر: يُقضَى على المرء في أيام محنته ... حتى يرى حسنا ما ليس بالحسن وهكذا الإنسان إذا لم يكن عنده وازع إيماني حال ارتكابه للمعصية، فإنه يفعلها لشهوة أو شبهة أو لهما معا. وأذكر لك بعض كلام الأطباء في الدخان، لا لأستدل على حكمه، فإن الشرع كاف شاف لمن تمسك به ولكن أذكره تنزلا مع الخصم الذي ابتلي بتقليد من يراه من أهل العلم الجديد والحضارة. قال الدكتور: "دمرداش أحمد" لا أظن الجنس البشري منذ بدء الخليقة ضعف أمام عدو من أعدائه، كما فعل أمام تدخين التبغ، كما أسرته هذه العادة وأوثقته وأذلت كبرياءه، استوى في ذلك صغار الكادحين، وكبار الأطباء، والفلاسفة المفكرين، الذين أضاءت الكون عبقرياتهم، وكشفوا هذه الآفاق البعيدة، في مختلف العلوم والفنون ... إلى أن قال: والبحوث العلمية أثبتت أن الضرر الذي يحدثه الدخان، لم يخطر على بال مدخن. وقال الدكتور: "إسماعيل رشدي" مفتش صحة الغربية في أدب المحلى: "التنباك والدخان" نبات سمته العرب: الطباق، وبتحليله اتضح أنه يحتوي على مادة سامة، إذا وضع منها نقطتان في فم كلب مات في الحال، وخمس نقاط منها تكفي لقتل جمل، والأمم المتوحشة تمضغه، وهذه أكثر الطرق ضررا، لدخوله في المعدة مع الريق. وقد نشأ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 95 استعمال الطباق بين الأمم على ما فيه من ضرر. وقد أثبت الأطباء أن الطباق يؤثر في القلب فيحدث الخفقان، وفي الرئتين فيحدث سعالا، وفي المعدة فينشئ فيها ضعفا في شهوة الأكل، وفي المجموع العصبي فتورا، اهـ. وقال أحمد علي الشحات: للتدخين من الأضرار الاقتصادية، والصحية، ما يستحق الدراسة وعمق البحث. وقد تكلم غير هؤلاء من الأطباء في أضرار الدخان والنهي عنه، بما يطول ذكره؛ فتبين بهذا أنه ضار على الإنسان الذي يتعاطاه، في دينة، وفي صحته، وفي ماله. فهو هادم للصحة، محرق للجوف، محدث لموت السكتة، محدث لداء السرطان، محدث للسعال، محرق للرئة، مسود للشفتين والأضراس، ونفاد أيضا للمال في مضرة الدين والبدن. وقد سحب أعداؤنا ثروتنا، واكتسحوا أموالنا في هذا الضرر علينا، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن إضاعة المال، ونهى الرب سبحانه وتعالى عن أكل المال بالباطل، فلو أن هذا المبتلى بهذا الدخان، ينفق من ماله كل يوم ريالين أو نحوها، قدر ما ينفق في هذا الضار عليه، فيعطيها الفقير والمسكين، لكان أنفع له عند ربه. أين أنتم يا عباد الله! يا معشر المسلمين! يا معشر الجزء: 15 ¦ الصفحة: 96 المصلحين! يا معشر المعلمين والمتعلمين! كونوا عباد الله إخوانا، واحذروا صحبة الأشرار، فإن صحبتهم عار ودمار. وفي الحديث: "المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل" 1. أيها الناس؛ خذوا على أيدي سفهائكم، يبارك لكم في أعمالكم، وجهوا شبيبتكم إلى الخير ولا تهملوهم، فيتولاهم أعداؤكم فيفسدوا أخلاقهم، ويصرفوا وجهتهم، ويغيروا فطرتهم فتخسروهم. وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من مولود إلا ويولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه" 2. يا عباد الله, ما هو المسوغ لكم السكوت عن هذه المنكرات التي قد ظهرت وانتشرت من ترك صلاة الجماعة، وظهور الأغاني، وشرب الدخان في الأسواق والمقاهي والدوائر، وغير ذلك، وسفور النساء، ووجود الصور، وغير ذلك من المنكرات؟ !. أليس إذا ظهر المنكر ولم يغير، يخشى أن تعم العقوبة؟ كما في الحديث لما قيل له صلى الله عليه وسلم: "أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: (نعم إذا كثر الخبث" 3 وقال: "إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه، أوشك أن يعمهم الله بعقابه" 4. عباد الله، لا تتخلوا عن إنكار المنكرات، ساعدوا   1 الترمذي: الزهد (2378) , وأبو داود: الأدب (4833) , وأحمد (2/303 ,2/334) . 2 البخاري: الجنائز (1358) , ومسلم: القدر (2658) , والترمذي: القدر (2138) , وأحمد (2/233 ,2/275 ,2/393) . 3 البخاري: أحاديث الأنبياء (3346) , ومسلم: الفتن وأشراط الساعة (2880) , والترمذي: الفتن (2187) , وابن ماجه: الفتن (3953) , وأحمد (6/428 ,6/429) . 4 ابن ماجه: الفتن (4005) . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 97 الهيئات ولو بإنكاره بالكلام على قدر الاستطاعة، فلو أن صاحب المنكر يصاح عليه من كل جانب كما يصاح باللص أو بالمخالف لنظام المرور، لانْفشل صاحب المنكر وقلت المنكرات. ولكن مع الأسف الشديد كل يعرض ويسند الأمر إلى غيره، ويقول: الواجب على النواب؛ وهذا في الحقيقة لا يجوز، لقوله صلى الله عليه وسلم: "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان" 1، وفي لفظ: "وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل" 2. أيها الناس، تنبهوا واعملوا بأمر ربكم، ونصوص نبيكم صلى الله عليه وسلم؛ واغتنموا حياتكم، واذكروا الموت هادم اللذات وما بعده، ولا بد أن يأتيكم، {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [سورة آل عمران آية: 185] . حاولوا منع الرذائل، وما يفسد الأخلاق، ومنها: الدخان، عن دخوله بلدانكم، وتناصحوا فيما بينكم، ولا تغتروا بالباطل لكثرة أهله، ولا تزهدوا في الحق لقلة أهله، ولا تأخذكم في الله لومة لائم. وادعوا لأئمتكم بالخير والصلاح، والهداية والتوفيق؛ فإن هذا شيء أمر به ربكم عز وجل {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [سورة غافر آية: 60] {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [سورة محمد آية: 7] .   1 مسلم: الإيمان (49) , والترمذي: الفتن (2172) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (5008 ,5009) , وأبو داود: الصلاة (1140) والملاحم (4340) , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1275) والفتن (4013) , وأحمد (3/10 ,3/20 ,3/49 ,3/52 ,3/54 ,3/92) . 2 مسلم: الإيمان (50) . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 98 ونرجو الله أن ينصر دينه، ويعلي كلمته، ويجعلنا وإياكم من أنصاره، وأن يصلح قلوب الجميع، وأن يوفق إمام المسلمين وولي عهده، لما فيه الخير والصلاح، والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم 1. فصل في تحريم الخمر سواء كان من عنب، أو تمر، أو ذرة، أو غيرها، وإن كان تحريمه أغلظ من التتن، فإنما قدمناه لكثرة انتشاره في هذا العصر؛ وتحريم الخمر بنص الكتاب والسنة وقد أوضحه العلماء في مؤلفاتهم من الحديث والفقه. قال الشيخ: عبد الله بن محمد بن حميد، رحمه الله: حرم الإسلام الخمر تحريما قاطعا، ولم يستثن حالا من الأحوال، ولا أباحه، ولا أجازه لهضم الطعام، ولا رضيه لتقوية الشهوة عليه، ولا لإكثار دم في جسم، ولا لغير ذلك. بل عمم التحريم، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا   1 وفي 11/11 سنة 1404 هـ جاء تعميم من ديوان رئاسة مجلس الوزاء, لمنع التدخين في مكاتب الوزارات, والمصالح الحكومية, والمؤسسات العامة, وفروعها, وكافة الوحدات التابعة لها, ووضع لوحات تحمل عبارات المنع, ومتابعة تنفيذه بدقة. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 99 إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [سورة المائدة آية:] . "وقد سأل طارق بن سويد رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخمر؟ فقال: إنا نصنعها للدواء؟ فقال: لا، ولكنها داء" 1 فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأنه لا دواء فيها، وأثبت ضررها بما فيها من الداء. فكم فيها من رذائل ومفاسد، طرحها غير واحد من أطباء الإفرنج وغيرهم. فقد قال: بنتام الإنجليزي: من محاسن الشريعة الإسلامية: تحريم الخمر، فإن من شربها من أبناء افريقيا، يؤول أمر نسله إلى الجنون، ومن استدامها من أهل أوروبا، زاغ عقله، فليحرم شربها على الإفريقيين، ويعاقب عقابا صارما الأوروبيون، وليكن العقاب مقيدا بمقدار الضرر. وقال هنري الفرنسي في كتابه: "خواطر وسواغ في الإسلام": إن أحد سلاح يستأصل به الشرقيون، وأمضى سيف يقتل به المسلمون، هو: الخمر، وإدخالها عليهم، ولقد جردنا هذا السلاح على أهل الجزائر، حين دخلناها، فأبت شريعتهم الإسلامية أن يتجرعوه، فتضاعف نسلهم، وكثر عددهم. ولو أنهم استقبلونا، كما استقبلنا قوم من منافقيهم، بالتهليل والترحيب، وشربوها، لأصبحوا أذلاء لنا، كتلك القبيلة التي تشرب خمرنا، وتحملت إذلالنا.   1 مسلم: الأشربة (1984) , والترمذي: الطب (2046) , وأبو داود: الطب (3873) , وأحمد (4/317 ,6/398) . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 100 وقال الطبيب: كيلوج الأمريكي: يمنع التداوي بالخمر, إذ بان له أن ضررها في الجسم عند التداوي، أكثر من نفعها بالشفاء المؤقت، لما تفعل بالأمعاء وباقي الأحشاء من الضرر. وقال أيضا: لما فشت الخمر في بلادنا، أغرم بها قوم، حتى أخربت البيوت، وأذهبت العقول، ونحن نرقب من الخروج من مأزقنا. وكلام الأطباء من الألمان، والروس، وغيرهم، في الخمر ومضاره، وما يترتب عليه من الأدواء، أكثر من أن يحصر. ولكن هجمت على المسلمين المدنية الزائفة بخيلها ورجلها، وشاركتهم في الأموال والأولاد؛ وبهجومها لم يبق للدين في النفوس أثره، ولا في القلوب سطوته، فانحسر عن المدن إلى القرى، ثم انحاز إلى أطراف البلاد، وهى تطارد الدين. وتحكيم المدينة بلا علم ضلال، والعلم الناقص عناء ووبال، والبلاهة- كما قال بعضهم- خير من الفطانة، والجهلاء أفضل من الأذكياء المغرورين. فإما الدين كله، وإما العلم كله. ونحن أخذنا من الديانات أسماءها، ومن العلوم قشورها، فخسرنا الصفقتين وربحنا الرذيلتين، وسبقنا المتدينون، وفاتنا من الفرنجة العلماء العاملون. فويل ثم ويل الجزء: 15 ¦ الصفحة: 101 لمن لا دين له ولا علم، أولئك {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} [سورة الكهف آية: 104] . ثم إن الشارب يصير ضحكة للعقلاء، فيلعب ببوله وعذرته، حتى رؤي بعضهم يمسح وجهه ببوله، ويقول: اللهم اجعلني من التوابين إليك, واجعلني من المتطهرين. ورؤي بعضهم والكلب يلحس وجهه، وهو يقول: أكرمك الله. فانظر إلى مطابقة ما قاله الغربيون، كما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم أن الخمر ضرر ومفاسد بقوله: (إنها داء) , والله الهادي إلى سواء السبيل، وصلى الله على محمد، وقد نشر هذا المقال في جريدة اليمامة في 12/9/1375 هـ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 102 الباب الثالث: كثرة الملاهي في هذا العصر ومن أعظم أسبابها: السياحة في بلاد الخارج، ولم تكن توجد في عصر الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف وطبقته، ولا في هذه الدعوه المباركة، ولا في زمن النبوة والخلفاء، وأئمة الدين المقتدى بهم. قال ابن القيم رحمه الله: والذي شاهدناه نحن وغيرنا، وعرفناه بالتجارب، أنه ما ظهرت المعازف وآلات اللهو في قوم، وفشت فيهم، واشتغلوا بها، إلا سلط عليهم العدو، وابتلوا بالقحط والجدب، وولاة السوء. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 102 [رسالة الشيخ محمد بن إبراهيم في تعزيز ما طلب منعه وإزالته] وقال الشيخ: محمد بن إبراهيم آل الشيخ، رحمه الله: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده. وبعد: فنظرا لما حدث مؤخرا في هذه البلاد، من الأمور التي توجب غضب الرب، وفساد المجتمع، والتحلل من الأخلاق الفاضلة، ولما أوجبه الله على أهل العلم من النصح لولاة الأمور، وبيان حكم كل حادثة وما أوجبه الله على ولاة الأمور من حماية الدين وتعزيزه، والقضاء على الفساد، وسد أبوابه وطرقة، وحسم مواده، والوسائل المفضية إليه، رأينا تعزيز الكتب السابقة بهذا الكتاب، موضحين أدلة ما طلبنا من سموكم منعه وإزالته. وفي ما يلي ذكر بعض الأدلة. تظاهرت أدلة الكتاب والسنة على تحريمه في الجملة، وحكى غير واحد من العلماء، إجماع العلماء على تحريمه، منهم القرطبي في تفسيره المشهور. وقد بسط ابن القيم رحمه الله أدلة المنع في كتابه: "إغاثة اللهفان" ونقل الأدئة من الكتاب والسنة، وكلام أهل العلم، في ذمه وتحريمه، وبيان ما يترتب عليه من المفاسد الجزء: 15 ¦ الصفحة: 103 الكثيرة، والعواقب الوخيمة، هذا كله إذا كان غناء مجردا من آلات العزف والطرب. فأما إذا اقترن به شيء من ذلك، صار التحريم أشد، والإثم أكبر، والمفاسد أكثر. وقد حكى العلامة ابن الصلاح: إجماع العلماء على تحريم الغناء، إذا اقترن به شيء من آلات اللهو والطرب، نقله عنه العلامة ابن القيم وغيره. ومن أدلة الكتاب على ذلك، قوله سبحانه: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [سورة لقمان آية: 6] حكى غير واحد من المفسرين عن أكثر العلماء، تفسير اللهو هنا بالغناء، وبذلك فسره عبد الله بن مسعود وابن عباس وابن عمر، وكان عبد الله بن مسعود يحلف على ذلك. وهؤلاء الثلاثة، من خيرة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلمائهم، ولا يعرف لهم مخالف من الصحابة، وهم أعلم الناس بتفسير كتاب الله؛ وقد تبعهم على ذلك أكثر العلماء. وقال ابن جرير، رحمه الله، في تفسيره، وجماعة من العلماء: إن الآية الكريمة شاملة للغناء وغيره من آلات اللهو، وأخبار الكفرة، وغير ذلك مما يصد عن ذكر الله. والآية الكريمة تدل على أن الاشتغال بلهو الحديث، يفضي بأهله إلى الضلال عن سبيل الله، واتخاذ آيات الله الجزء: 15 ¦ الصفحة: 104 هزوا، وكفى بذلك قبحا وشناعة وذما للغناء وما يقترن به من آلات اللهو والطرب. ومن ذلك قوله: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ} [سورة الإسراء آية: 64] فسر كثير من السلف الصوت بالغناء، وآلات الطرب، وكل صوت يدعو إلى باطل. ومن ذلك قوله سبحانه: {وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً} [سورة الفرقان آية: 72] فسر كثير من العلماء: الزور، بالغناء وآلات اللهو، ولا شك أنه داخل في ذلك، والزور يشمله وغيره من أنواع الباطل. وهذه الآيات الكريمات تدل دلالة واضحة على ذم الغناء، والتحذير منه، سواء كان المغني رجلا أو امرأة. ولا شك أن الغناء إذا كان من الأنثى، كانت الفتنة به أعظم، والفساد الناتج منه أكثر. وقد دل القرآن الكريم على تحريم خضوع المرأة بالقول في قوله سبحانه: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً} [سورة الأحزاب آية: 32] . وإذا كانت أمهات المؤمنين ينهين عن الخضوع في القول، مع طهارتهن وتقواهن، فكيف بغيرهن من النساء اللاتي لا نسبة بينهن وبين أمهات المؤمنين، في كمال التقوى الجزء: 15 ¦ الصفحة: 105 والطهارة؟ فكيف بنساء العصر الفاتنات المفتونات، إلا ما شاء الله منهن؟ ! وإذا كان الله ينهى عن الخضوع في القول. فالغناء من باب أولى وأحرى، لأن الفتنة فيه أشد من مجرد القول، ولا يخفى على كل من له أدنى بصيرة، ما في صوت المرأة بالغناء، ومخاطبتها الناس في الإذاعة ونحوها، من الفتنة وإثارة الغرائز. لا سيما مع ترخيم الصوت وتحسينه، وعلاوة على ذلك ما يترتب على ذلك من اختلاطها بالرجال، وخلوتهم بها، والتساهل بالحجاب، أو تركه بالكلية، كما هو الواقع من نساء العصر الضالات للرجال، وتحريم هذا معلوم من الدين بالضرورة. ومن الأدلة على ذلك قوله عز وجل: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} [سورة الأحزاب آية: 53] , وقوله عز وجل {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ} [سورة النور آية: 31] الآية. وأصح ما قيل في تفسير قوله: {إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [سورة النور آية: 31] أنه الملابس الظاهرة، قاله ابن مسعود وغيره؛ ومن فسره بالوجه الجزء: 15 ¦ الصفحة: 106 والكفين فمراده مع أمن الفتنة، والمحافظة على العفة، وستر ما سوى ذلك. والواقع من نساء العصر خلاف ذلك، لضعف إيمانهن، وقلة حيائهن؟ ومعلوم أن سد الذرائع المفضية للمحرمات، من أهم أبواب الشريعة الكاملة. وقال تعالى: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ} [سورة النور آية: 60] الآية. فإذا كانت القواعد- وهن العجائز- يمنعن من وضع الثياب عن محاسنهن كالوجه والكفين، ونحو ذلك، فكيف بالشابات الجميلات الفاتنات؟ وإذا كانت العجائز يمنعن من التبرج بالزينة، فهو في الشابات أشد منعا، والفتنة بسببهن أكبر. ولما ذكر ابن القيم رحمة الله: الغناء وما ورد فيه عن ابن عباس وغيره من الذم، وأنه من الباطل الذي لا يرضاه الله، قال ما نصه: فهذا جواب ابن عباس رضي الله عنهما، عن غناء الأعراب، الذي ليس فيه مدح الخمر، والزنى، واللواط, والتشبيب بالأجنبيات، وأصوات المعازف، والآلات المطربة، فإن غناء القوم لم يكن فيه شيء من ذلك، ولو سمعوا هذا الغناء، لقالوا فيه أعظم قول؛ فإن مضرته وفتنته فوق مضرة شرب الخمر بكثير، وأعظم منه فتنة؛ فمن أبطل الجزء: 15 ¦ الصفحة: 107 الباطل أن تأتي الشريعة بإباحته. فمن قاس هذا على غناء القوم، فقياسه من جنس قياس الربا على البيع، والميتة على المذكاة، والتحليل الملعون فاعله، على النكاح الذي هو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وإذا كان هذا كلام ابن القيم في غناء أهل عصره، فكيف بغناء هذا العصر الذي يذاع، ويسمع الرجال والنساء، والخاص والعام فيما شاء الله من البلاد؟ ! فتعم مضرتة، وتنتشر الفتنة به، ولا شك أن هذا أشد إثما وأعظم مضرة. وأما الأحاديث: فمنها، ما رواه الترمذي وحسنه، عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنما نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين، صوت عند نغمة لهو ولعب، ومزامير شيطان، وصوت عند مصيبة، خمش وجوه، وشق جيوب، ورنة" 1. قال ابن القيم رحمه الله، بعد هذا الحديث: فانظر إلى هذا النهي المؤكد، بتسمية صوت الغناء صوتا أحمق، ولم يقتصر على ذلك حتى وصفه بالفجور، ولم يقتصر على ذلك، حتى سماه من مزامير الشيطان. وقد أقر النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر على تسميته الغناء مزمور الشيطان، في الحديث الصحيح؛ فإن لم يستفد التحريم من هذا، لم نستفده من نهي أبدا. ثم قال: فكيف يستجيز العارف إباحة ما نهى عنه   1 الترمذي: الجنائز (1005) . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 108 رسول الله صلى الله عليه وسلم وسماه صوتا، أحمق فاجرا، ومزمور الشيطان، وجعله والنياحة التي لعن فاعلها أخوين، وأخرج النهي عنهما مخرجا واحدا، ووصفهما بالحمق والفجور وصفا واحدا. وقال "ابن مسعود رضي الله عنه: الغناء ينبت النفاق في القلب، كما ينبت الماء البقل". وفي صحيح البخاري، عن "أبي مالك الأشعري، رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "ليكوننّ من أمتي أقوام، يستحلون الحر والحرير، والخمر والمعازف، ولينزلن أقوام إلى جنب علم، يروح عليهم بسارحة لهم، يأتيهم لحاجة، فيقولوا: ارجع إلينا غدا، فيبيتهم الله ويضع العلم، ويمسخ آخرين قردة وخنازير إلى يوم القيامة". وأخرج ابن ماجه عن أبي مالك الأشعري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليشربن ناس من أمتي الخمر، يسمونها بغير اسمها، يعزف على رؤوسهم بالمعازف، والمغنيات، يخسف الله بهم الأرض، ويجعل منهم قردة وخنازير" 1. قال ابن القيم رحمه الله، في هذا الحديث: إسناده صحيح. قال: وقد توعد مستحلي المعازف فيه بأن يخسف الله بهم الأرض، ويمسخهم قردة وخنازير، قال: والمعازف، هي: آلات اللهو كلها، لا خلاف بين أهل اللغة في ذلك. قال: ولو كانت حلالا، لما ذمهم على استحلالها، وإنما قرن باستحلال الخمر، اهـ.   1 أبو داود: الأشربة (3688) , وابن ماجه: الفتن (4020) . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 109 ولقد وقع مصداق ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من استحلال بعض أمته المعازف، وصوت المغنيات؛ ولا شك أن هذا من تزيين الشيطان، وخداعه للناس، حتى يفعلوا هذه المعاصي، ولا يتوبون منها، لاستحلالهم لها. وفيما ذكرناه من الآيات، والأحاديث، وكلام أهل العلم، الدلالة الصريحة، والبرهان القاطع على تحريم الأغاني، وآلات الملاهي، من الرجال والنساء، لما يترتب على ذلك من المفاسد العظيمة التي تقدم بيان بعضها. ومما يؤكد تحريم ذلك، ويوجب مضاعفة الإثم: كون ذلك يلقى في مهبط الوحي، ومطلع شمس الرسالة، لما يترتب على ذلك، من إضلال الناس وفتنتهم، ولبس الأمور عليهم، حتى يعتقدوا ذلك من الحق، لكونه صدر من مهبط الوحي وحماة الحرمين الشريفين، الذين هما محط أنظار العالم وأمل المسلمين. ومما يزيد الإثم أيضا، ويضاعف الفتنة: أن يشارك في ذلك النساء؟ بأصواتهن الفاتنة، المثيرة للغرائز، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء" 1 رواه البخاري. وفي صحيح مسلم عن أبي سعيد، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للنساء: "ما رأيت من ناقصات عقل ودين، أذهب للب الرجل الحازم منكن" 2 هذا مع تحجبهن وتأدبهن بالآداب   1 البخاري: النكاح (5096) , ومسلم: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2740 ,2741) , والترمذي: الأدب (2780) , وابن ماجه: الفتن (3998) , وأحمد (5/200 ,5/210) . 2 البخاري: الحيض (304) . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 110 الشرعية، فكيف بحال نسائنا اليوم؟ ! 1. [رد الشيخ عبد الله بن محمد على أبي تراب القائل بإباحة الغناء وآلات اللهو] وقال الشيخ: عبد الله بن محمد بن حميد، رحمه الله: بسم الله الرحمن الرحيم "تعقيب وجواب". نشرت مجلة الرائد، في عددها 67 وتأريخ 6/8/1381هـ، مقالا للأستاذ أبي تراب الظاهري، قال فيه بإباحة الغناء، وآلات اللهو من المزامير والمعازف، والاستماع إليها, وأن الكتاب والسنة لم يحرما ذلك، كما نشرت أيضا جريدة عكاظ، في عددها 55، وتأريخ 4/ 1/ 81 كلمة للأستاذ المقنع أورد فيها أحاديث في الغناء، ويطلب الجواب عنها، وإني أشكر الأخ الأستاذ المقنع، على اجتهاده وتطلبه للحق. لا شك أن الغناء حرام، دل عليه الكتاب والسنة، لما فيه من الضرر البين، والفساد العريض، فإنه يلهب النفوس، ويوقدها فيقيمها ويقعدها، لأنه وضع ليفعل أقصى ما يتصور من التأثير على السامعين والسامعات.   1 ويأتي إن شاء الله باقي هذه النصيحة, في الباب التاسع, لمناسبته هناك; وقد قدمها رحمه الله إلى المسئولين, عنه, وعن مجموعة من المخلصين. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 111 لا يمكن أن تحمل سماعه شاب أو شابة، دون أن يعمل فيهما عمله، لاسيما ما يخرج من تلك النغمات الرخيمة، لما فيه من التألم والاشتياق، والتلهف على اللقاء؛ إن مثل هذا ليذهب الغيرة الدينية، ويثير من القلوب كأمنها، ويحرك ساكنها. وإن "الراديو" الذي لم يبق بلد، ولا بيت، ولا قطر، إلا وقد وصل إليه، تجلس المغنية أمام الآلات المبلغة، فترفع صوتها الرخيم المهيج للنفوس، الباعث للوجد والتوجع، تشكو وتهيج، وتستعطف، فتؤثر على النفوس أعظم تأثير. فهل هؤلاء الصحابة والتابعون رضي الله عنهم، مثل عبد الله بن عمر، وعبد الله بن جعفر، وسعيد بن المسيب، ومالك بن أنس، وغيرهم، ممن نقل الأستاذ أبو تراب عنهم أنهم يسمعون الغناء، هل يسمعون مثل هذا الذي يذيعه "الراديو"؟ كغناء أم كلثوم، وفريد الأطرش، وأمثالهما؟ !. فلو تفضل الأستاذ بنقل مسموعهم من الغناء المزعوم، أهو كهذا الغناء الذي نحن بصدده؟ ! هذا لم يكن، ولا يكون أبدا إن شاء الله. ثم هؤلاء المغنون من الرجال، يجلس الواحد منهم أمام الآلة المؤدية للصوت، يفعل بصوته الطنان مع النساء، مما الجزء: 15 ¦ الصفحة: 112 يجعل الواحدة منهن تكاد تهيم على وجهها، باحثة منقبة عمن يبادلها الآهات والأنات، والمغازلات، وما وراء ذلك، والعياذ بالله. أقول هذا- ولم تسمع أذني غناء قط والحمد لله، كفى الله العباد والبلاد شر هذا الغناء- وأعوذ بالله أن يقول مسلم بإباحة ما يحرض على الزنى ويدعو إليه، وأعتقد أن سماع صوت المغنيات، الباعث إلى هذا الفحش، لا يجرُؤ مسلم على أي مذهب، بأن يقول بإباحته. فلا يجوز لمن يتولى الحكم على أفعال المكلفين، بالإباحة والحرمة، إلا أن ينظر في ذلك، نظر تأنٍ وحكمة، لينفذ بثاقب فكره إلى الأعماق منها، بتأمل الأدلة الشرعية، المفيدة حكم التحريم والإباحة، ثم بعد ذلك يحكم. أما ما أورده أبو تراب من الأحاديث الدالة على منع الغناء، وطعنه في أسانيدها، وأنها غير صالحة للاحتجاج بها, فقد سلك في هذا مسلك ابن حزم، ورد عليه أئمة هذا الشأن وخطؤوه. كقوله فيما رواه الإمام البخاري في صحيحه، حيث قال: قال هشام بن عمار، حدثنا صدقة بن خالد، وساق بسنده إلى أبي عامر، وأبي مالك رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ليكونن أقوام من أمتي، يستحلون الحر، والحرير، والخمر، والمعازف" بأن هذا حديث منقطع، لا يصح الاحتجاج به. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 113 وغلط الأستاذ في هذا، فإن البخاري علقه جازما به، وقد تقرر عند الحفاظ أن الذي يأتي به البخاري من التعاليق كلها، بصيغة الجزم، يكون صحيحا إلى من علق عنه، لا سيما في مقام الاحتجاج، كهذا الحديث. والبخاري قد لقي هشام بن عمار، وقد أخرج أبو داود هذا الحديث، في كتاب اللباس من سننه، بسند متصل. وقد ثبت هذا الحديث من طرق كثيرة، لم يكن لقائل معها مقال. والأحاديث الأخرى الدالة على تحريم الغناء والمعازف، كثيرة جدا، روى بعضها أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه، والحاكم، وأبو داود الطيالسي، والطبراني، وابن أبي شيبة، وابن أبي الدنيا، وغيرهم ممن لا يحصى كثرة، فإنها وإن كان بعضها فيه مقال، فهي صالحة للاحتجاج بها في تحريم الغناء، لكثرتها وتعدد طرقها. وهؤلاء حماة الإسلام، والأئمة الأعلام، ينهون عن الغناء والمعازف، ويبينون مضارها ومفاسدها بما لا مزيد عليه، مستدلين بهذه الأحاديث وغيرها. بل نقل الإمام القرطبي إجماع أهل العلم على تحريم الغناء، لأنه من اللهو واللعب المذموم، لما اشتمل عليه من وصف محاسن الصبيان والنساء. أما ما نقل أبو تراب عن الإمام أبي حنيفة: أن من سرق الجزء: 15 ¦ الصفحة: 114 مزمارا أو عودا، قطعت يده، ومن كسرهما ضمنهما، فالمنصوص في كتب أصحابه الذين هم أعرف الناس بمذهبه، وأعرفهم بأقواله، بأنه لا قطع ولا ضمان على من أتلف آلات اللهو؛ وهو المفتى به عندهم، وعند غيرهم، رحمة الله عليهم, وحكاه بعض الحنفية إجماعا. وقول الأستاذ أبي تراب في تفسير قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} [سورة لقمان آية: 6] بأنه الغناء فلا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا ثبت عن أحد من الصحابة، وإنما هو قول من لا تقوم به الحجة. هلا وقف الأستاذ، وتثبت فيما يقول؟ من نفي ثبوت ذلك عن الصحابة، رضي الله عنهم، فالقول بأن لهو الحديث هو: الغناء، قال به أكثر المفسرين، وصح عن عبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس، وغيرهم رضي الله عنهم. وقول الأستاذ أبي تراب: صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع مزمارا، فوضع أصبعيه في أذنيه، وكان معه ابن عمر، انتهى، ما كان للرسول صلى الله عليه وسلم ليسد أذنيه عن سماع المباح، ولا أنه يأمر بذلك. مع أن المعروف في هذا ما رواه أبو داود، وابن ماجه، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنه "أنه سمع مزمار راع، فجعل أصبعيه في أذنيه، وعدل راحلته عن الطريق، فقال: هل تسمع يا نافع؟ فيقول نعم، فمضى حتى قال نافع: الجزء: 15 ¦ الصفحة: 115 لا أسمع شيئا، فرفع أصبعيه عن أذنيه، وقال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل مثل الذي فعلت" أو كما قال رضي الله عنه. لعل الأستاذ يريد هذا، فيما أشار إليه بقوله: صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا ضعيف عند الحفاظ، بل قال أبو داود: هو منكر لا تقوم به حجة، ونافع صغير، لم يبلغ على تقدير ثبوته. وهذه أقوال الأئمة الأربعة في ذلك: أما أبو حنيفة، فمذهبه أشد المذاهب، وقوله فيه أغلظ الأقوال، فقد نقل أئمة مذهبه: بأن استماعه فسق، والتلذذ به كفر، وليس بعد الكفر غاية. ومالك رحمه الله، سئل عن الغناء, فقال: إنما يفعله عندنا الفساق, وفي كتب أصحابه: إذا اشترى جارية، وتبين أنها مغنية، فلمشتريها ردها بالعيب. والإمام أحمد، فقد سأله ابنه عبد الله عنه، فقال. يا بني الغناء ينبت النفاق في القلب. ثم ذكر قول مالك: إنما يفعله عندنا الفساق. والشافعي رحمه الله، فقد قال في كتابه: "أدب القضاء": إن الغناء لهو مكروه يشبه الباطل. وقال لأصحابه بمصر: خلفت ببغداد شيئا أحدثته الزنادقة، يسمى "التغبير" يصدون به الناس عن القرآن. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 116 فإذا كان قوله هذا في التغبير، الذي هو عبارة عن شعر مزهد في الدنيا، إذا غنى المغني به، ضرب الحاضرون بقضيب على نطع، أو مخدة، ضربا موافقا للأوزان الشعرية. فليت شعري ماذا يقول في هذا الغناء الماجن، الذي تنقله الإذاعات إلى كل مكان؟ فمن قال بإباحة هذا النوع، فقد أحدث في دين الله ما ليس منه. أما ما نشرت جريدة عكاظ من الأحاديث التي يطلب الأستاذ المقنع إيضاح معناها، كخبر الجاريتين اللتين كانتا تغنيان عند عائشة يوم العيد, وحديث محمد بن حاطب: "فصل ما بين الحلال والحرام، الدف، والصوت، في النكاح" 1, وخبر: "أتيناكم أتيناكم، فحيانا وحياكم" 2, وحديث الربيع بنت معوذ، وأمثال هذه الأحاديث. لم يكن في هذا ما يدل على إباحة الغناء الماجن، الذي نحن بصدده، فهل في غناء جاريتين صغيرتين، غير مكلفتين، عند صبية، تغنيان يوم عيد، بما تقاولته الأنصار يوم بعاث، من وصف الحرب والشجاعة والبطولة، ما يدل على إباحة غناء تلك المغنيات المستهترات الذي تنقله الإذاعات إلى كل مكان من وصف محاسن النساء المهيج للشرور، والباعث في النفوس الفتن والفجور؟!. والأحاديث الأخرى هي في النكاح وأمثاله، في أوقات مخصوصة، بمثل هذا الغناء الذي لم يشتمل على   1 الترمذي: النكاح (1088) , والنسائي: النكاح (3369) , وابن ماجه: النكاح (1896) . 2 ابن ماجه: النكاح (1900) . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 117 فحش، ولا ذكر محرم؛ فإذا كان الغناء على نحو ما اعتاد الناس استعماله، لمحاولة عمل، وحمل ثقيل, وقطع مفاوز سفر، وسرور بعرس، ونحوه، ترويحا للنفوس وتنشيطا لها, كحداء الأعراب بإبلهم، وغناء النساء في بيوتهن لتسكين صغارهن، ولعب الجواري الصغار بلعبهن، فهذا إذا سلم المغني من فحش، وذكر محظور، فهو المباح؛ وهو الذي جاء ذكره في الأحاديث التي أشار إلى بعضها الأستاذ المقنع. أما ما انتحله الكثيرون من المغنين والمغنيات، العارفين بصنعة الغناء، مما يحرك الساكن، ويهيج الكامن، والمشتمل على أوصاف محاسن الصبيان والنساء، من ذكر الجمال، والهجر، والوصال، والصبابة، والمعانقة، وما أشبه ذلك، فهو الممنوع. وأعتقد أنه لا يقول مسلم بإباحة مثل هذا الغناء الفاتن؛ وقى الله العباد والبلاد شر هذا الغناء، ووفقهم جميعا إلى ما فيه رضاه، ومن عليهم باتباع كتاب ربهم، والتمسك بهدى نبيهم، في أمورهم كلها. والله الموفق، والهادي إلى سواء السبيل. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 118 [رد الشيخ ابن باز على ماكتب في الصحف من الدعوة إلى تزويد الإذاعة بالأغاني] وقال الشيخ: عبد العزيز بن عبد الله بن باز، وفقه الله: لقد اطلعت على ما كتبته بعض الصحف المحلية عن بعض الكتاب، من الدعوة إلى تزويد الإذاعة السعودية بالأغاني، والمطربين المشهورين، والمطربات المشهورات، تأسيا باليهود وأشباههم في ذلك، ورغبة في جذب أسماع المشغوفين بالغناء، والراغبين في سماعه من الإذاعات الأخرى، إلى سماعه من الإذاعة السعودية 1. وقرأت أيضا ما كتبه، فضيلة الشيخ عبد الملك بن إبراهيم، والشيخ حسن بن عبد الله، وكاتب آخر لم يفصح باسمه، من الرد على هذه الدعوة الحمقاء، والفكرة النكراء، والرغبة المنحرفة، إلى أسباب الردى؛ فجزى الله أنصار الحق كل خير، وهدى الله من حاد عنه إلى رشده، وكفى المسلمين شره وفتنته. أيها القارئ الكريم إن الإذاعة في حد ذاتها أداة ذات حدين، إن أحسنت استعمالها فهي لك، وإن أسأت استعمالها فهي عليك. ولا شك أن الواجب في نفس الأمر، شرعا وعقلا، إما أن تكون هذه الأداة أداة تعمير وتوجيه وإرشاد، إلى ما ينفع الأمة في الدين والدنيا، ولا يجوز بوجه من الوجوه، أن تكون أداة تخريب وإفساد،   1 وقد نشر هذا المقال في مجلة راية الإسلام, في ربيع الثاني سنة 1381 هـ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 119 وإشغال للأمة بما يضرهم ولا ينفعهم. ولا ريب أيضا عند ذوي العقول الصحيحة والفطر السليمة أن تزويد الإذاعة بالأغاني، والمطربين والمطربات، من سبل الفساد والتخريب، لا من سبل الإصلاح والتعمير. ويا ليت هؤلاء الذين دعوا إلى التأسي باليهود وأشباههم في الأغاني، ارتفعت همتهم، فدعوا إلى التأسي بهم في إيجاد المصانع النافعة، والأعمال المثمرة. ولكن ويا للأسف انحطت أخلاق هؤلاء، ونزلت همتهم، حتى دعوا إلى التأسي بأعداء الله، وأعداء رسوله، وأعداء المسلمين عموما، والعرب خصوصا، في خصلة دنيئة من سفاسف الأخلاق، وسيئ الأعمال. بل من الأمراض المخدرة للشعوب، والسالبة لحريتها وأفكارها، والصارفة لها عن معالي الأمور، ومكارم الأخلاق، عن النشاط في ميادين الإصلاح إلى ضد ذلك. ومن أراد أن يعرف مثالا لسقوط الهمم، وضعف التفكير، وانحطاط الأخلاق، فهذا مثاله: دعوة من بلاد إسلامية إلى خلق من أحط الأخلاق، بتأس فيه بأمة من أحط الأمم، وأشدها عداوة للإسلام والعرب، وقد غضب الله عليها، ولعنها، فالمتأسي بها له نصيب من ذلك. ولا شك أن هذا من آيات الله التي ميز بها بين عباده، وجعلهم أصنافا متباينين، هذا همته فوق الثريا ينشد الجزء: 15 ¦ الصفحة: 120 الإصلاح أينما كان، ويدعو إلى مكارم الأخلاق، ومحاسن الأعمال، ويدعو إلى الأعمال المثمرة، والمصانع النافعة للأمة، في دينها ودنياها، في عصر العلم المادي، والجموح الفكري، والتيارات الجارفة المتنوعة. وشخص آخر قد انحطت همته إلى الثرى، يدعو إلى سفاسف الأمور وخبيث الأخلاق؛ يدعو إلى ما يضعف الأمة، ويشغلها عن طرق الإصلاح، وكسب القوة، وعمارة البلاد بكل عمل جدي مثمر. يدعو إلى التأسي بالأمة العاملة في الخسيس لا في الحسن، وفي الفساد لا في الإصلاح، وفي الشر لا في الخير، وفيما يضر لا ما ينفع. هذه والله العبر التي لا يزال الله سبحانه يوجدها بين عباده {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} [سورة الأنفال آية: 42] . سبحان الله، ما أعظم شأنه، وسبحان الله ما أحكمه وأجله. أيها القارئ الكريم, إن تزويد الإذاعة بالأغاني والطرب، وآلات الملاهي، فساد وحرام, بإجماع من يعتد به من أهل العلم؛ وإن لم يصحب الغناء آلة اللهو، فهو: حرام عند أكثر العلماء. وقد علم بالأدلة المتكاثرة أن سماع الأغاني، والعكوف عليها، ولا سيما بآلات اللهو، كالعود، الجزء: 15 ¦ الصفحة: 121 والموسيقى ونحوهما, من أعظم مكائد الشيطان ومصائده، التي صاد بها قلوب الجاهلين، وصدهم بها عن سماع القرآن، وحبب إليهم العكوف على الفسوق والعصيان. والغناء هو قرآن الشيطان، ومزماره، ورقية الزنى واللواط، والجالب لأنواع الشر والفساد. وقد حكى أبو بكر الطرطوشي، وغير واحد من أهل العلم، عن أئمة الإسلام: ذم الغناء، وآلات الملاهي، والتحذير من ذلك. وحكى الحافظ العلامة: أبو عمرو بن الصلاح، عن جميع العلماء: تحريم الغناء، المشتمل على شيء من آلات الملاهي، كالعود ونحوه. وما ذلك إلا لما في الغناء وآلات الطرب، من إمراض القلوب، وإفساد الأخلاق، والصد عن ذكر الله، وعن الصلاة. ولا شك أن الغناء من اللهو الذي ذمه الله وعابه، وهو مما ينبت النفاق في القلب، كما ينبت الماء البقل، ولا سيما إذا كان من مطربين ومطربات قد اشتهروا بذلك؛ فإن ضرره يكون أعظم، وتأثيره في إفساد القلوب أشد. قال الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [سورة لقمان آية: 6-7] : قال الجزء: 15 ¦ الصفحة: 122 الواحدي وغيره: أكثر المفسرين على أن المراد بلهو الحديث: الغناء; انتهى. وكان ابن مسعود رضي الله عنه- وهو أحد كبار الصحابة وعلمائهم- يحلف بالله الذي لا إله إلا هو: أن لهو الحديث، هو الغناء، وقال رضي الله عنه: "الغناء ينبت النفاق في القلب، كما ينبت الماء الزرع". وقد ورد عن السلف من الصحابة والتابعين آثار كثيرة بذم الغناء، وآلات الملاهي، والتحذير من ذلك، وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يكون من أمتي أقوام، يستحلون الحر، والحرير، والخمر، والمعازف" رواه البخاري. و "الحر" هو: الفرج الحرام، والمراد بذلك: الزنا. وأما المعازف، فهي: آلات الملاهي كلها، كالموسيقى، والطبل، والعود، والرباب، والأوتار، وغير ذلك. قال العلامة ابن القيم، رحمه الله، في كتاب الإغاثة: لا خلاف بين أهل اللغة، في تفسير المعازف، بآلات اللهو كلها. وخرج الترمذي، عن عمران بن حصين، رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يكون في أمتي قذف وخسف ومسخ، فقال رجل من المسلمين: متى ذلك الجزء: 15 ¦ الصفحة: 123 يا رسول الله؟ قال: إذا ظهرت القيان والمعازف، وشربت الخمور" 1. وخرج أحمد في مسنده بإسناد جيد، عن ابن عباس، رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله حرم الخمر والميسر، والكوبة، وكل مسكر" 2 والكوبة، هي: الطبل، قاله سفيان، أحد رواة الحديث. وقد روي في ذم الغناء والملاهي، أحاديث وآثار كثيرة، لا تحتمل هذه الكلمة ذكرها، وفيما ذكر كفاية، ومقنع لطالب الحق. ولا شك أن الداعين إلى تزويد الإذاعة بالأغاني وآلات الملاهي قد أصيبوا في تفكيرهم، حتى استحسنوا القبيح، واستقبحوا الحسن، ودعوا إلى ما يضرهم، ويضر غيرهم، ولم ينتبهوا للأضرار، والمفاسد، والشرور الناتجة عن ذلك. وما أحسن قول الله تعالى: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [سورة فاطر آية: 8] وصدق الشاعر حيث يقول: يقضى على المرء في أيام محنته ... حتى يرى حسنا ما ليس بالحسن وقد دلت الأحاديث الصحيحة، على أن من دعا إلى   1 الترمذي: الفتن (2212) . 2 أبو داود: الأشربة (3696) , وأحمد (1/274) . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 124 ضلالة فعليه إثمها، ومثل آثام من تبعه، لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا. ومن ذلك: ما ثبت في صحيح مسلم، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من دعا إلى هدى، كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا، ومن دعا إلى ضلالة، كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه، لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا" 1. فيا له من خطر عظيم، ووعيد شديد، لمن حبذ الباطل ودعا إليه! وإن نصيحتي لهؤلاء، الداعين إلى الغناء والملاهي، أن يتوبوا إلى الله من معصيتهم، وأن يراجعوا الحق، ويدعوا الله، فهو خير لهم من التمادي في الباطل. والله سبحانه يتوب على من تاب، ويحلم على من عصى، ويملى ولا يغفل. نسأل الله لنا ولهم ولسائر المسلمين الهداية، والعافية من نزغات الشيطان. ومما تقدم من الأدلة، والآثار، وكلام أهل العلم يعلم كل من له أدنى بصيرة، أن تطهير الإذاعات مما يضر الأمم، واجب متحتم، لا يسوغ الإخلال به، سواء كانت الإذاعات شرقية أو غربية، إذا كانت مما تحت ولاية المسلمين. فكيف إذا كانت الإذاعة في مهبط الوحي، ومنبع النور، ومحل القبلة التي يوجه المسلمون إليها وجوههم أينما كانوا، في اليوم والليلة خمس مرات؟!.   1 مسلم: العلم (2674) , والترمذي: العلم (2674) , وأبو داود: السنة (4609) , وأحمد (2/397) , والدارمي: المقدمة (513) . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 125 لا شك أنها أولى وأحق بالتطهير والصيانة من كل ما يضر المسلمين في دينهم أو دنياهم؛ ولا ريب أن تزويدها بالأغاني وآلات الملاهي، مما يضر بالمسلمين ضررا ظاهرا في دينهم ودنياهم. فوجب أن تصان إذاعتنا من ذلك، وأن تكون إذاعة إسلامية محضة، تنشر الحق، وتدعو إليه، وتحذر من الباطل وتنفر منه، تزود الناس ما ينفعهم، ويرضي الله عنهم في الدنيا والآخرة، وتكون نبراسا يهتدي به المسلمون أينما كانوا. فتارة تزودهم من العلوم النافعة، والتوجيهات السديدة، وتلاوة القرآن الكريم، وتفسيره بما جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم والسلف الصالح، ونشر محاسن الإسلام، وبيانه لهم، سليما من شوائب الشرك والبدع. وطورا تسمعهم أحاديث طيبة، وأحاديث زراعية، وتوجيهات تجارية، وتعليمات تربوية، وإرشادات منزلية، إلى غير ذلك من أوجه النفع، وطرق الإصلاح الديني والدنيوي. هكذا يجب أن تكون إذاعتنا، وهكذا يجب على المسؤولين أن يوجهوها، ويطهروها مما لا يليق بها، وإنهم والله مسؤولون عن ذلك يوم القيامة أمام العزيز الجبار، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 126 وإني أتوجه بهذه الكلمة بالأصالة عن نفسي، وبالنيابة عن جميع العلماء، وعن جميع المسلمين الذين يغارون لله، ويغضبون إذا انتهكت محارمه، أتوجه بذلك إلى إمامنا وولي أمرنا جلالة الملك سعود بن عبد العزيز، وفقه الله، أول مسؤول، وأعظم مسؤول عن هذه الإذاعة، وما فيها من البرامج الهدامة, أن يصونها ويطهرها من كل ما يضر المسلمين، وأن لا يولي على شؤونها إلا من يخاف الله ويتقيه؛ وذلك مما أوجب الله عليه، وهو الراعي الأول لهذه البلاد، وكل راع مسؤول عن رعيته; وقد بذل الكثير من الإصلاح والتسهيلات للمسلمين، فنرجو أن يوفق لإصلاح هذه الإذاعة، كما وفق لإصلاحات كثيرة. والله المسؤول بأسمائه الحسنى، وصفاته العلى أن يوفقه لكل خير، وأن ينصر به الحق، وأن يصون به الشريعة، ويحمي به حماها، عن جميع البدع والمنكرات، وأن يصلح له البطانة، ويمنحه التوفيق في كل ما يأتي ويذر، وأن يوفق جميع المسؤولين في حكومته للتمسك بالشرع، والتعظيم لحرماته، والحذر مما خالفه، إنه على كل شيء قدير، وهو حسبنا ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وصحبه وسلم. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 127 [قول الشيخ التويجري في كتابه الشهب المرمية عن فشو المعازف واستحلالها] وقال الشيخ عبد الرحمن بن عبد الله التويجري، في كتابه "الشهب المرمية": بعد حمد الله، والثناء عليه، وذكر بعث محمد صلى الله عليه وسلم، وتزييف الشيطان وفشو المعازف، واستحلال الكثير لها ..... إلخ 1. وبلغ الشيطان منهم أمنيته وأمله، واستفزهم بصوته وخيله، وأجلب عليهم برجله وخيله، وخز في صدورهم وخزا، وأزهم إلى ضرب الأرض بالأقدام أزا. فطورا يجعلهم كالحمير حول المدار، وتارة كالذباب ترقص وسيط الديار، فيا رحمتا للسقوف والأرض، من دك تلك الأقدام، ويا سوأتا من أشباه الحمير والأنعام. ويا شماتة أعداء الإسلام بالذين يزعمون أنهم خواص الإسلام، قضوا حياتهم لذة وطربا، واتخذوا دينهم لهوا ولعبا، مزامير الشيطان أحب إليهم من استماع سور القرآن. لو سمع أحدهم القرآن من أوله إلى آخره، لما حرك له ساكنا، ولا أزعج له قاطنا، ولا أثار فيه وجدا، ولا قدح فيه من لواعج الشوق إلى الله زندا. حتى إذا تلي عليهم قرآن الشيطان، وولج مزموره سمعه، تفجرت ينابيع الوجد من قلبه على عينيه فجرت، وعلى أقدامه فرقصت، وعلى يديه فصفقت، وعلى سائر   1 أي: مما قاله أو نقله أو استدل به إلخ, كما سيأتي. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 128 أعضائه فاهتزت وطربت، وعلى أنفاسه فتصاعدت، وعلى زفراته فتزايدت، وعلى نيران أشواقه فاشتعلت. ولقد أحسن القائل: تلي الكتاب فأطرقوا لا خيفة ... لكنه إطراق ساه لاهي وأتى الغناء فكالحمير تناهقوا والله ... ما رقصوا لأجل الله دف ومزمار ونغمة شادن ... فمتى رأيت عبادة بملاهي ثقل الكتاب عليهم لما رأوا ... تقييده بأوامر ونواهي سمعوا له رعدا وبرقا إذ حوى ... زجرا وتخويفا بفعل مناهي ورأوه أعظم قاطع للنفس عن ... شهواتها يا ذبحها المتناهي وأتى السماع موافقا أغراضها ... فلأجل ذاك غدا عظيم الجاه أين المساعد للهوى من قاطع ... أسبابه عند الجهول الساهي إن لم يكن خمر الجسوم فإنه ... خمر العقول مماثل ومضاهي فانظر إلى النشوان عند شرابه ... وانظر إلى النشوان عند ملاهي وانظر إلى تخريق ذا أثوابه ... من بعد تمزيق الفؤاد اللاهي واحكم بأي الخمرتين أحق بالـ ... تحريم والتأثيم عند الله وذكر ما في المجلات والصحف، وأنها داخلة في جملة الملاهي، وأنه سمع عن كثير من أهل العلم المقتدى بهم تحريمه. ومنها: دخوله تحت قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [سورة لقمان آية: 6] الآية، وقد فسر لهو الحديث كثير من السلف، من الجزء: 15 ¦ الصفحة: 129 الصحابة والتابعين، بالغناء والمزامير، وفسره بعضهم بالأساطير والقصص، من أخبار ملوك الأعاجم والروم، وبعضهم فسر لهو الحديث بكل باطل يلهي، ويشغل عن الخير. وقريب من ذلك، قول الإمام: محمد بن إسماعيل البخاري، رحمه الله، في صحيحه: "باب كل لهو باطل إذا شغله عن طاعة الله عز وجل" واستدل بهذه الآية؛ فإن فسرت الآية بالغناء والمزامير، فهو رأس الملاهي كلها، من الغناء والمزامير لمن قصدها، ووسيلة موصلة إليها لمن لم يقصدها، بل قصد غيرها؛ والوسائل لها حكم المقاصد. وإن فسرت بالأساطير والقصص، والأضاحيك المهزولة، فهي غاية أخباره، وكثير من محاضراته التي يتعلل المفتونون به، باتخاذه لها؛ وإن فسرت بما يجمع ذلك من كل باطل يلهي، ويشغل عن الخير، فهو فوق ذلك الوصف، يعرف ذلك من عرفه. قال: وهكذا الراديو، إن أحب صاحبه أن يفتحه على الأخبار فعل، وإن أحب أن يفتحه على القراءة فعل، وإن أحب أن يفتحه على اللهو والطرب فعل، ومنها: أنه أعظم ما يصد عن ذكر الله وعن الصلاة ولو لم يفتح على المعازف. وقال، ومنها: أن إذاعته لا تخلو من هذه الأصوات الموسيقية المطربة، التي يؤتى بها للانتقال من فن إلى آخر لآلة النشر، كالتي يسمونها موسيقى الجيش، وغيرها من الجزء: 15 ¦ الصفحة: 130 الأصوات المطربة، وهي من المزامير التي هي صوت الشيطان؛ بل هي أعظمها وأدعاها إلى الطرب. قال الله عز وجل {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ} [سورة الإسراء آية: 64] : فسره مجاهد بالغناء والمزامير، وقد روى الإمام أحمد عن أبي أمامة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله بعثني رحمة وهدى للعالمين، وأمرني أن أمحق المزامير والكبارات" 1 يعني البرابط، والمعازف، والأوثان التي كانت تعبد في الجاهلية. وقال: فإذا عرفت ما ذكرنا من الأحاديث، عرفت أنها محرمة، لا يجوز الاستماع إليها، كما نص على ذلك العلماء، من أتباع أحمد، والشافعي، ومالك، وأبي حنيفة. وقال أيضا: وقال ابن حجر الهيتمي في "الزواجر": وحرم العراقيون من أتباع الشافعي المزامير كلها من غير تفصيل. وقد أطنب الإمام الزولقي في دليل تحريمها، وقال: العجب كل العجب ممن هو من أهل العلم، يزعم أن الشبابة حلال، ويحكيه بوجه لا مستند له، وينسبه إلى مذهب الشافعي؛ ومعاذ الله أن يكون ذلك مذهبا له، أو لأحد من أصحابه، الذين يقع عليهم التعويل في علم مذهبه والانتماء إليه. وقد علم من غير شك أن الشافعي رضي الله عنه حرم سائر أنواع الزمر، والشبابة من جملة الزمر، وأحد   1 أحمد (5/257) . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 131 أنواعه. وما حرمت هذه الأشياء لأسمائها وألقابها، بل: لما فيها من الصد عن ذكر الله وعن الصلاة، ومفارقة التقوى، والميل إلى الهوى، والانغماس في المعاصي. وقال الإمام أبو العباس القطبي: أما المزامير والأوتار، والكوبة، فلا يختلف في تحريم استماعها، ولم أسمع عن أحد ممن يعتبر قوله من السلف وأئمة الخلف، من يبيح ذلك. وكيف لا يحرم وهو شعار أهل الخمور، والفسوق، ومن يبيح الشهوات، والفساد، والمجون؟! وما كان كذلك لم يشك في تحريمه، ولا في تفسيق فاعله وتأثيمه. وقال ابن القيم، رحمه الله: مذهب أبي حنيفة في ذلك من أشد المذاهب، وقوله فيه أغلظ الأقوال ; وقد صرح أصحابه بتحريم سماع الملاهي كلها، كالمزمار، والدف، حتى الضرب بالقضيب؛ وصرحوا بأنه معصية يوجب الفسق، وترد به الشهادة. انتهى. وقال أيضا 1: ومنها: فشو المعازف، واستحلالها في أكثر البلاد الإسلامية؛ وقد ورد الوعيد الشديد لمتخذها ومستحلها، مع استحلال الخمر والزنى والحرير، وغير ذلك من المحرمات، بالخسف والمسخ، وغير ذلك من العقوبات، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بوقوع ذلك في آخر الزمان.   1 في كتابه الشهب المرمية. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 132 وبالجملة: فقد جمعت هذه الآلة لأهل الفسوق، من آلات المعازف، ما كان شاردا، وقربت لهم من الفسوق والمجون ما كان متباعدا، فأصبحوا في غنية عن كل ما سواه من الآلات، ومن المغنين والمغنيات، وتغيرت به الأحوال والأخلاق في أقصر الأوقات. فقد كانت أحوال الناس في دينهم، من نحو عشر سنين، على الاستقامة، يجتمعون لدرس العلوم الدينية التي هي مجالس الذكر في المساجد، وبعد طلوع الشمس، وبين العشاءين في البيوت، لكل واحد من أهل الدين والصلاح، نوبة تخصه، ويقرأ عليهم بعض طلبة العلم في بعض الكتب الدينية من كتب الحديث والتفسير، ويحضر تلك المجالس الجم الغفير من الناس، من قاصي البلد ودانيه؛ فانعكست الحال وتغيرت، فصار الفساق يجتمعون في بيت واحد منهم، للاستماع إلى هذا الملهى، ضد ما كان أولا، فلا حول ولا قوة إلا بالله. ومن العجب أن كثيرا من السفلة يفتحه على الغناء والطرب، بحضرة بناته، وزوجاته، وغيرهن من محارمه; وبعضهم يخصص زوجته، أو بنته بواحد، تفتحه متى شاءت على ما شاءت. وهل هذه إلا نوع من الدياثة؟ عياذا بالله؟ لأنها إذا اعتادت سماع الغناء وأصوات الملاهي، قل حياؤها، وربما الجزء: 15 ¦ الصفحة: 133 انتزع منها جلباب الحياء بالكلية؛ فكان الفساد أسرع من السيل إلى منحدره. قال ابن القيم، رحمه الله في: "إغاثة اللهفان": ولا ريب أن كل غيور يجنب أهله سماع الغناء، كما يجنبهن أسباب الريب ومن طرق أهله إلى سماع رقية الزنى، فهو أعلم بالإثم الذي يستحقه. ومن الأمر المعلوم عند القوم أن المرأة إذ استعصت على الرجل، اجتهد أن يسمعها صوت الغناء، فحينئذ تعطي الليان، وهذا لأن المرأة سريعة الانفعال للأصوات جدا. فإذا كان الصوت بالغناء، صار انفعالها من وجهين، من جهة الصوت، ومن جهة معناه. فأما إذا اجتمع إلى هذه الرقية، الدف والشبابة، والرقص بالتخنث والتكسر، فلو حبلت المرأة من غناء لحبلت من هذا الغناء; فلعمر الله، كم من حرة صارت بالغناء من البغايا! وكم من حر أصبح به عبدا للصبيان والصبايا! وكم من غيور تبدل به اسما قبيحا بين البرايا! وقال يزيد بن الوليد: يا بني أمية، إياكم والغناء، فإنه ينقص الحياء ويزيد في الشهوة، ويهدم المروءة، وإنه لينوب عن الخمر، ويفعل ما يفعل السكر. فإن كنتم لابد فاعلين، فجنبوه النساء، فإن الغناء داعية الزنى. وقال في الرد على المفتي بحل اقتناء الراديو لغير الجزء: 15 ¦ الصفحة: 134 الغناء: وبيان ذلك: أن صاحبها إذا فتحها قرب وقت صلاة من الصلوات، لا تزال نفسه تترقب من كل إذاعة ما فيها من أخبار، وقراءات، ومحاضرات، وغيرها، فلا تزال به نفسه وشيطانه، حتى تفوته الصلاة مع الجماعة، وهذا يشهد له الواقع، ويعترف به كل منصف. وقد منع بعض القضاة القائلين بالإباحة، تقليدا لهذا المفتي، من فتح الراديو مطلقا، وقت التراويح، وقيام رمضان، وتوعد فاعل ذلك بالعقوبة. وهذا القاضي قد أتى في صنيعه بالعجب العجاب. فإذا كان يرى إباحته، فما المسوغ لمنع مباح تفوت بسببه سنة لا يعاقب تاركها؟ وما ذلك إلا أنه يرى أنه من أكبر العوامل في الصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وما كان هذا سبيله، فهل يشك أحد في تحريمه؟ لمشاركته الخمر والميسر في جزء علة التحريم. ولهذا قل أن تجد مفتونا به، إلا وفيه من الكسل عن حضور الصلاة في جماعته ما ليس في غيره، وخصوصا صلاة العشاء، وصلاة الفجر، وهذا عين النفاق. وذلك أن ما بين العشاءين وقتا يفرغ فيه الناس من أعمالهم الدنيوية، فيجتمع بعضهم ببعض، كل بخليله وشكله، وإذا كان اجتماعهم في بيت فيه هذه الآلة، لا يزالون يستمعون من كل إذاعة ما فيها. فيستمعون القراءات الملحنة المطربة، التي تستلذها الجزء: 15 ¦ الصفحة: 135 النفوس، لا تدينا وتفهما لكتاب الله عز وجل بل لما فيها من التلحينات الأنيقة، والنغمات الرقيقة، التي تهيج الطباع، وتلهي عن التدين، الذي هو المقصود بالاستماع، وقد افتتن باستماع هذه التلحينات خلق كثير، فلا حول ولا قوة إلا بالله. وبعضهم يفتحها لاستماع المعازف والمجون والفسوق، فيفوتهم بسبب ذلك صلاة العشاء مع الجماعة. وأما صلاة الفجر، فإن كثيرا من متخذيه يسمرون عنده بعد العشاء الآخرة، فلا يزالون يستمعون من كل إذاعة ما فيها من أخبار وغيرها، على اختلافها من محرم ومكروه ومباح، فلا يزال ذلك دأب الأكثرين منهم إلى شطر الليل، فيغلبهم النوم عن القيام لصلاة الفجر، كما يشهد بذلك الواقع من حال الأكثرين منهم، فإنا لله وإنا إليه راجعون. وقد جاء في المتفق عليه عن أبي برزة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكره النوم قبل العشاء، والحديث بعدها. وذكر قول ابن القيم رحمه الله: إذا تدبرت الشريعة وجدتها قد أتت بسد الذرائع إلى المحرمات؛ والشارع, حرم الذرائع وإن لم يقصد بها المحرم، لإفضائها إليه، فكيف إذا قصد بها المحرم نفسه؟! قال: ومن قواعد الشرع العظيمة، قاعدة سد الذرائع، قال: والمحرمات قسمان: مفاسد، وذرائع موصلة إليها، مطلوبة الإعدام، كما أن المفاسد مطلوبة الإعدام. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 136 وذكر قول شيخ الإسلام تقي الدين رحمه الله: ومن يحدث بأحاديث مفتعلة، ليضحك الناس، أو لغرض آخر، فهو عاص لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، مستحق للعقوبة التي تردعه. وقال أيضا، وقال رحمه الله: وما كان مباحا في غير حال القراءة، مثل المزاح الذي جاءت به الآثار، وهو أن يمزح ولا يقول إلا صدقا، لا يكون في مزاحه كذب ولا عدوان، فهذا لا يفعل حال قراءة القرآن، بل ينزه عنه مجلس القرآن. فليس كل ما يباح في حال غير القراءة يباح فيها، كما أن ليس كل ما يباح خارج الصلاة يباح فيها، لا سيما ما يشغل القارئ والمستمع عن التدبر والتفهم، مثل كونه يخايل ويضحك، فكيف واللغو والضحك حال القراءة من أعمال المشركين، كما قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [سورة فصلت آية: 26] ، وقال تعالى: {وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئاً اتَّخَذَهَا هُزُواً} [سورة الجاثية آية: 9] ، وقال تعالى: {أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ} [سورة النجم آية: 59-60-61] ، ووصف المؤمنين بأنهم يبكون ويخشعون حال القراءة، فمن كان يضحك حال القراءة، فقد تشبه بالمشركين لا بالمؤمنين. وقال رحمه الله: لم تأت الشريعة إلا بالمصلحة الجزء: 15 ¦ الصفحة: 137 الخالصة أو الراجحة، أما ما غلبت مفسدته، فلم تأت به شريعة من الله. وقال أيضا، في الشهب المرمية: ولما كان الراديو، والآلة الفونوغرافية 1 أعظم وسيلة وذريعة إلى المعازف والملاهي والطرب، بل إن أكثر المفتونين بهما يتخذهما لذلك، أحببنا أن نذكر بعض ما ورد من النهي الأكيد، والوعيد الشديد، في اتخاذ المعازف والملاهي، فنقول: قال الله سبحانه وتعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [سورة لقمان آية: 6] الآية، قال صديق حسن رحمه الله، في تفسيره على هذه الآية: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} 2 قال: وهو كل باطل يلهي، ويشغل عن الخير، من الغناء، والملاهي، والأحاديث المكذوبة، والأضاحيك، والسمر بالأساطير التي لا أصل لها، والخرافات، والقصص المختلفة، والمعازف والمزامير، وكل ما هو منكر، والإضافة بيانية، أي: اللهو من الحديث، لأن اللهو يكون حديثا وغيره، فهو: كثوب خز، وهذا أبلغ من حذف المضاف. وقيل المراد: شراء القينات المغنيات والمغنين، فيكون التقدير: من يشتري أهل لهو الحديث، قال الحسن، لهو الحديث: المعازف والغناء، وروي عنه أنه قال: الكفر   1 المعروفة بالصندوق وهي الآلة ذات الاسطوانات. 2 سورة لقمان آية: 6. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 138 والشرك، وفيه بعد; والمعنى: يختارون حديث الباطل على حديث الحق. قال القرطبي: إن أولى ما قيل في هذا الباب، هو: تفسير لهو الحديث بالغناء، قال: وهو قول الصحابة والتابعين، قال ابن عباس:?"لهو الحديث: باطله". وقال الإمام ابن القيم رحمه الله: لا تعارض بين تفسير لهو الحديث بالغناء، وتفسيره بأخبار الأعاجم وملوكها، وملوك الروم، ونحو ذلك. وقال أيضا، في الشهب المرمية: حرمة الغناء قطعية، قد قدمنا من الأحاديث الكثيرة التي فيها التصريح بتحريم الغناء، والآية، ما فيه كفاية.. إلخ. وذكر رواية الإمام أحمد: سؤال إسحاق، مالك بن أنس، عما يرخص فيه أهل المدينة من الغناء؟ فقال: إنما يفعله عندنا الفساق. وذكر قول ابن القيم رحمه الله: وأما سماع الغناء من المرأة الأجنبية، أو الأمرد، فمن أعظم المحرمات، وأشدها فسادا للدين. وقال أيضا: قال ابن رجب رحمه الله: وقول الشافعي رحمه الله، إن الزنادقة وضعت التغبير تصد به الناس عن القرآن، يدل على أن الإصرار على سماع الشعر الملحن، مع الضرب بقضيب ونحوه، يقتضي شغف النفوس بذلك، الجزء: 15 ¦ الصفحة: 139 وتعلقها به ونفرتها عن سماع القرآن ... إلخ. وقال ابن مسعود رضي الله عنه:"الغناء خطبة الزنا" وقال "مكحول: الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت السيل البقل". وقال شيخ الإسلام تقي الدين رحمه الله: الأقوال التي ترغب في الفجور، وتهيج القلوب إليه، وكل ما فيه إعانة على الفاحشة، وترغيب فيها، حرام، أعظم من تحريم الندب والنياحة، لأن ذلك يثير الحزن، وهذا يثير الفسق، بل هذا من جنس القيادة. وفي اللعب بالنرد والشطرنج، قال شيخ الإسلام تقي الدين رحمه الله: سائر ما يتلهى به البطالون من أنواع اللهو، وضروب اللعب، مما لا يستعان به في حق شرعي، كله حرام. وأما اللعب بالورق، فقال فيه بعض الشافعية: أظهر الترك أوراقا مزوقة بنقوش، سموها كنجفة، يلعبون بها؛ فإن كان بعوض فقمار، وإلا فهي كالنرد ونحوه، آخر المراد منه 1.   1 أي من كتاب الشهب المرمية للشيخ عبد الرحمن بن عبد الله التويجري, رحمه الله. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 140 [قول الشيخ صالح الخريصي فيما ارتكبه كثير من الناس من العكوف على الراديو] وقال الشيخ: صالح بن أحمد الخريصي، في أثناء نصيحة له: ومن المنكرات: ما ارتكبه كثير من الناس، ممن قل نصيبه من العلم الموروث عن سيد المرسلين، وهو: العكوف على هده الآلة المطربة، المسماة بالراديو. فتراه- والعياذ بالله- يشتريها بالقيمة الغالية، ويعكف عليها ليلا ونهارا، على استماع الأصوات الفاجرة، والمحطات الماجنة، والحكايات الخالعة، التي تعمل في القلوب أعظم من السم في الأبدان. فيا لها من مصيبة ما أعظمها بلي بها كثير من أهل الإسلام، وصاد بها الشيطان الخلق الكثير، والجم الغفير، من أشباه الأنعام. وقد وردت أحاديث كثيرة عنه صلى الله عليه وسلم بالنهي الشديد، والوعيد الأكيد، على من اتخذ القينات، والمعازف، والدفوف، والمزامير، والكبارات- يعني الطبول- مع أن القينة فيها خير كثير، من صلاة وعبادة، وخدمة، واستمتاع، وغير ذلك من مصالحها. وأما هذه الآلة، فهي مشتملة على مفاسد عديدة، وليس فيها أي مصلحة، إلا أن الشيطان كاد بها بني آدم؛ وليرتقب صاحبها المصر عليها، والعاكف عندها، ما وردت به الأحاديث، من خسف، ومسخ، وغير ذلك من العقوبات التي أصابت أمثاله. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 141 كما ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يسمخ قوم من هذه الأمة، قردة وخنازير، قيل يا رسول الله: أليس يشهدون أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله؟ قال: بلى، ويصلون ويحجون، قيل: فما بالهم؟ قال: اتخذوا المعازف والدفوف، فباتوا على شربهم ولهوهم، فأصبحوا: قردة وخنازير. وليصيبنهم قذف وخسف، حتى يصبح الناس، فيقولون: خسف الليلة بدار بني فلان، وخسف الليلة ببني فلان، وليرسلن عليهم حجارة من السماء، كما أرسلت على قوم لوط على قبائل فيها. ولترسلن عليهم الريح العقيم، التي أهلكت عادا، لشربهم الخمر، وأكلهم الربا، وضربهم الدفوف، واتخاذهم القيان، وقطيعتهم الرحم". [قول الشيخ عبد الله بن سليمان في استماع الغناء وضرب العود واستماعه] وقال الشيخ: عبد الله بن سليمان بن حميد، رحمه الله 1: ومن المنكرات المحرمة: الغناء واستماعه، وضرب العود واستماعه، والزمر بالمزامير، وضرب الآلات المطربة، قال الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [سورة لقمان آية: 6] . فسرها ابن عباس، والحسن، وغير واحد بالملاهي، وقال تعالى: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ   1 نقلت من الأربع الرسائل المفيدة صفحة 53 , 54. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 142 بِصَوْتِكَ} [سورة الإسراء آية: 64] . قال مجاهد: بالغناء والمزامير. وعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله بعثني هدى ورحمة للمؤمنين، وأمرني بمحق المعازف، والمزامير، والأوتار، والصليب، وأمر الجاهلية" 1 وقال صلى الله عليه وسلم "أمرت بهدم الطبل والمزامير". وعن ابن مسعود رضي الله عنه: "الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل"، وقال صلى الله عليه وسلم: "صوتان ملعونان في الدنيا والآخرة، صوت عند نغمة، وصوت عند مصيبة". وبالجملة: فكل لهو محرم يحرم فعله واستماعه، ومن ذلك: الصندوق الجامع لجملة من الملاهي، فهي حرام، عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من استمع إلى صوت لهو، صب في أذنيه الآنك يوم القيامة" وهو الرصاص المذاب. والمستمع للهو الحرام فاسق ساقط العدالة، وقيل. مباشر آلات اللهو إذا مات لا يصلى عليه. وكثير من الناس- والعياذ بالله- يتكاسلون عن الطاعات، وينشطون عند الملاهي، وذلك من علامات النفاق، نسأل الله العافية. [قول الشيخ عبد الله بن سليمان في فتح الراديو على الغناء وسائر الملاهي] وقال الشيخ: عبد الله بن سليمان بن حميد أيضا 2 ومن المنكرات الظاهرة: فتح الراديو على الغناء وسائر   1 أحمد (5/268) . 2 نقلت من الأربع المسائل المفيدة صفحة 119 , 120. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 143 الملاهي، وهي محرمة إسماعا وسماعا وصنعة، وهي من شعائر الفساق لا يتوقف في تحريمها من شم رائحة العلم الصحيح؟ والملاهي جميعها بدؤها من الشيطان وعاقبتها غضب الرحمن، فالمزمار مؤذن الشيطان. قال ابن القيم رحمه الله: وكونه مؤذن الشيطان، في غاية المناسبة، فإن الغناء قرآنه، والرقص والتصفيق اللذين هما المكاء والتصدية؛ صلاته، فلا بد لهذه الصلاة من مؤذن، وإمام، ومأموم: فالمؤذن المزمار، والإمام المغني، والمأموم الحاضرون والمستمعون. والملاهي تنبت النفاق في القلب، كما ينبت الماء العشب، وهي من الحديث الذي قال الله تعالى فيه: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [سورة لقمان آية: 6] ، وقال تعالى: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ} [سورة الإسراء آية: 64] ، قال مجاهد وغيره: بالغناء والمزامير. وقال صلى الله عليه وسلم: "إن الله بعثني هدى ورحمة للمؤمنين، وأمرني بمحق المعازف والمزامير، والأوتار، والصليب، وأمر الجاهلية" 1، وقال أيضا صلى الله عليه وسلم "أمرت بهدم الطبل والمزامير"، وقال: "من استمع إلى قينة صب في أذنيه الآنك يوم القيامة". وقال بعض العلماء: إن استماع الملاهي، والتلذذ بها، معصية، توجب الفسق، وترد بها الشهادة. وأبلغ من ذلك   1 أحمد (5/268) . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 144 في الزجر، قول أصحاب أبي حنيفة رحمهما الله: إن السماع فسق، والتلذذ به كفر. وقالوا في دار يسمع منها صوت الملاهي والمعازف، يدخل عليهم بغير إذنهم، لأن النهى عن المنكر فرض، فلو لم يجز الدخول لغير إذن، لامتنع الناس من إقامة الفروض. وما ورد في الملاهي من التحريم، والوعيد الشديد على استعمالها، أكثر من أن تحصر. إذا عرف هذا، فإن الراديو الحادث في هذه الأزمان، قد جمع آلات الملاهي كلها. وكلام العلماء ينطبق عليه، في التحريم، وفسق المستعملين للملاهي فيه، وعدم الضمان والغرم على من كسر وأتلف آلات الملاهي. والراديو، من أكبر الفتن التي أدخلها الغربيون على المسلمين، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. [قول الشيخ محمد بن مهيزع في رده لأوهام الظاهري في أحكام الملاهي] وقال الشيخ: محمد بن مهيزع، رحمه الله، ردا لأوهام الظاهري في أحكام الملاهي 1:   1 وقد نشرت في مجلة راية الإسلام سنة 1381 هـ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 145 بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله حبب إلينا الإيمان، وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، وأشهد أن لا إله إلا الله، أرسل محمدا رحمة للعالمين، وأمره بمحق المزامير، والمعازف، والأوتار، صلى الله عليه وآله وصحبة، ومن تمسك بهديه في السر والعلانية، وسلم تسليما، وبعد: فقد قابلتنا مجلة الرائد في عدديها 67، 68 بمقال للأستاذ أبي تراب الظاهري، عنوانه: الكتاب والسنة لم يحرما الغناء، ولا استعمال المعازف والمزامير، والاستماع لها. فلما تأملته وجدت فيه أشياء مخالفة لما جاء به الشرع المطهر، في ذم الملاهي والأغاني، بالنغمات الموسيقية المهيجة للعواطف والفساد؛ ولا يسوغ لمن لديه مسكة من العلم الموروث عن المصطفى صلى الله عليه وسلم أن يشك في تحريم ذلك. ولقد قرر تحريمه علماء الإسلام المحققون، من أئمة المذاهب الأربعة، وفقهاء الحديث وغيرهم؛ بل حكى ابن الصلاح الإجماع على تحريم السماع الذي جمع بين الدف والشبابة، قال: ولم ينقل عن أحد ممن يعتد به، أنه أباح هذا السماع. انتهى. وإذا أمعنت النظر، وسبرت أحوال من مضى، تبين لك ما جرت المعازف والأغاني المطربة على أربابها، من الشر والفساد، وما جنت على المجتمع من الضرر والكساد؛ فإن الجزء: 15 ¦ الصفحة: 146 حياته تنقلب من القوة إلى الضعف، والوهن، ومن الجد إلى اللعب والحزن، ومن النشاط إلى الكسل والبطالة. فلا تزال الدولة في سفال، وتفكك في عناصرها المعنوية، حتى يتحلل النشاط العلمي والعملي، فيتدهور كيان الأمة صناعيا واقتصاديا، وأخلاقيا وأدبيا، فيكون أمرها فرطا؛ أو لم يكف هؤلاء المغرورين أن الغناء قرآن الشيطان، والمزامير صوته. ولهذا جاء عن الصحابة: أن الغناء ينبت النفاق في القلب، وأنه بريد الزنى، ورقية الشيطان، ومزمور إبليس، ولو تتبعنا أقوال علماء الإسلام، في ذم الأغاني والملاهي، والنهي عن استماعها، والتحذير منها، وتعداد ما اشتملت عليه من المفاسد والأضرار، لطال الكلام جدا، وليس هذا من غرضنا في هذه العجالة. إنما المقصود هنا: التنبيه على ما سنح لنا من أوهام الظاهري، والإشارة إلى تحريم المعازف، وسائر أنواع الملاهي والأغاني بالنغمات الرخيمة، إسماعا واستماعا، محبة ومدحا، دعاية وتحسينا، لأن الوسائل لها حكم الغايات. والتجربة شاهدة بأن استعمال ذلك، واستماع أصوات القينات بالنشيد، داعية الفجور، ومعاقرة الخمور، موصلة إلى الهلاك؛ فلا يجوز لعاقل أن يتعاطى شيئا ضرره متحتم بمنفعة متوهمة، كتسلية وترويح عن النفس، فإن الجزء: 15 ¦ الصفحة: 147 عاقبتها قلق النفس، واشتغال القلب، عند فقد مألوفه وما يهواه. ولو أن الكاتب- عافانا الله وإياه- تثبت في كلام ابن حزم، وعرضه على أقوال السلف الصالح وعلماء الأمة، لتبين له الحق بدليله، فوسعه ما وسع القوم؛ لكن صادف قلبه فارغا فتمكن منه، وطار مع ابن حزم في ظاهريته، وتجرأ على النصوص المخالفة لمذهبه، تجريحا وتضعيفا، وتأويلا بما يوافق مأخذه، بلا بصيرة ولا تحقيق؛ وهذا جناية التقليد، والهوى يعمي ويصم. أما قول أبي تراب: إن الغناء والآلة والاستماع لهما مباح لم يرد في الشريعة نص ثابت في تحريمه. والرد عليه ظاهر في التحريم، بقوله تعالى: {وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} [سورة الحج آية: 30] : فسره محمد بن الحنفية: بالغناء، وقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [سورة لقمان آية: 6] الآية، ونحيل القارئ الكريم إلى تفسير ابن جرير، وابن كثير، والبغوي، والواحدي. وقد صح عن ابن مسعود، وابن عباس، وابن عمر، وغيرهم، في هذه الآية، من سورة لقمان أن الغناء هو لهو الحديث. ثم وازن بين هذا، وبين قول أبي تراب: وما ذم الله من اشترى لهو الحديث ليتلهى ويروح به عن نفسه، لا الجزء: 15 ¦ الصفحة: 148 ليضل عن سبيل الله، يتضح لك الخطأ، وتعلم أن الله قد ذمه وعابه في الآية الكريمة، فإن اللهو عام للغناء والملاهي، ومدعى التخصيص يحتاج إلى دليل. وأيضا تفسير الصحابة أولى من تفسير من بعدهم، لأنهم تلقوا القرآن وتفسيره من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد جعله طائفة من المحدثين في حكم المرفوع، لأنهم إذا تعلموا عشر آيات، لم يتجاوزوها حتى يتعلموا معانيها، والعمل بها. قال البغوي، في قوله تعالى: {لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [سورة الحج آية: 9] يعني: يفعله عن جهل; قال قتادة: "بحسب امرئ من الضلالة، أن يختار الباطل على الحق" واللام في قوله: (ليضل) لام عاقبة، على قراءة من فتح الياء، أو تعليل للأمر القدرى: أن قيضوا له، ليكونوا ضالين أو مضلين. وفي صحيح البخاري ما نصه: وقال هشام بن عمار، حدثنا صدقة بن خالد، حدثنا عبد الرحمن بن يزيد، حدثنا عطية بن قيس الكلابي، حدثنا عبد الرحمن بن غنم، حدثنا أبو مالك، أو أبو عامر الأشعري قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ليكونن من أمتي قوم يستحلون الحر والحرير، والخمر والمعازف". ولا يضره قدح ابن حزم بأنه منقطع، فإن البخاري علقه بصيغة الجزم، وهشام بن عمار من شيوخ البخاري، لقيه وسمع منه، وقد وصله أبو داود، فقال: حدثنا عبد الوهاب بن نجدة، حدثنا بشر بن بكر عن عبد الرحمن الجزء: 15 ¦ الصفحة: 149 ابن يزيد، به; ورواه الإسماعيلي في صحيحه مسندا، وقال أبو عامر ولم يشك. ووجه الدلالة من الحديث: أن المعازف، وهي آلات اللهو كلها، لو كانت حلالا لما ذمهم على فعلها واستحلالها، ولما قرنها بالحر- أي: الزنى- والخمر والحرير. وفي الباب أحاديث كثيرة، وآثار عن جماعة من الصحابة ومن بعدهم، صالحة للاحتجاج والاعتضاد، لكثرتها وتباين مخارجها، وتعدد طرقها. وقول الظاهري: فإذا كان الغناء محرما بالعموم، لأنه يلهي عن ذكر الله، فكذلك كل مُلْه حرام، ولو كان من قبيل المباح، حتى قراءة القرآن.. إلخ. والرد عليه من طريقين، أولا: أننا لا نقول بتحريم الغناء على العموم، فقد جاء في الحديث إباحته في العرس حيث لا محذور، وكذلك للجواري الصغار، في عيد ونحوه، كما هو مقرر في كتب السنة؛ إنما المحرم ما اتخذ صناعة يجتمع الناس لها، أو كان بآلة لهو، أو بألحان مطربة، ونحو ذلك. ثانيا: جعل قراءة القرآن من قسم المباح خطأ سافر، فإنه معلوم بالضرورة أن قراءة القرآن من أفضل العبادات، وأعظم القربات، وأن قراءة الفاتحة ركن في كل ركعة، الجزء: 15 ¦ الصفحة: 150 وتجب قراءة القرآن على من خاف نسيان، وتسن في غير ذلك، إلا مع جنابة ونحوها. فقياس الغناء عليها من أفسد القياس؛ فإن الغناء تارة يكون حراما، وآونة يكون مكروها، ومرة يكون مباحا، على حسب ما اقترن به. وقول أبي تراب: إنه صح عن ابن عمر، وعبد الله بن جعفر، ومن بعدهم ... إلخ. يقال له: أما سماع ابن عمر، فإن أبا داود، روى عن نافع: أن "ابن عمر سمع صوت مزمار، فوضع أصبعيه على أذنيه، ونأى عن الطريق، وقال: يا نافع، هل تسمع شيئا؟ فقلت: لا، فرفع أصبعيه عن أذنيه، وقال: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فصنع مثل ما صنعت" 1 قال أبو داود. حديث منكر. وعلى تقدير ثبوته، يقال: إنه لم يقع من ابن عمر إلا مجرد السماع لمصلحة، وهي حاجة النبي صلى الله عليه وسلم إلى معرفة انقطاع الصوت، ليرجع إلى الطريق، ويرفع أصبعيه عن أذنيه، وهذا نقض لقول الظاهري: لو كان حراما لما أباحه لابن عمر، وأقل ما يدل عليه الحديث: كراهة سماع المزامير، فكيف يكون حكم الاستماع قصدا؟ وأما ابن جعفر: فقد كان يتعاطاه، مع بعض جواريه، فأنكر عليه أكابر الصحابة، كابن عمر، وأما من بعدهم، فإن   1 أبو داود: الأدب (4924) . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 151 ثبت ما نسب إليهم فليسوا بحجة، فإن السنة إذا ثبتت عن المعصوم صلى الله عليه وسلم لم يحل لأحد أن يتجاوزها لقول أحد من الخلق، كائنا من كان. ويقال أيضا: هب أنهم سمعوا الغناء والملاهي مرة أو مرات لعذر، أو لتأويل ونحوه، فإن مجرد السماع أخف من الاستماع واستحلاله، كيف وقد خالفهم الجمع الغفير من الصحابة والتابعين، ومن بعدهم، من سلف الأمة وأئمتها؟ فلا يعول على القول الشاذ. وقول أبي تراب: لم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم على الجاريتين، لما كانتا تغنيان بغناء بعاث ... إلخ. والجواب: أنهما كانتا صغيرتين غير معنيتين، وكان في يوم العيد، وغناؤهما بما تقاولت به الأنصار، في الشجاعة والفروسية، وليس هناك رقص ولا ملهيات. والحديث حجة لنا، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقر أبا بكر على أن الغناء مزمار الشيطان، فكيف يستدل به على إباحة غناء القينات، والأجنبيات، بألحان الفن الخليع؟ والاستماع إلى تلك النغمات المعسولة، عند أهل الدعارة، والانحلال من الأخلاق الشريفة؟ فهل يجتمع في قلب المؤمن حب سماع القرآن، وحب سماع هذا الغناء؟ اللهم لا. والواقع أن كثيرا من الناس يفتحون المذياع، على تلك الأغاني، وما في معناها، من لهو وطرب، فإذا وجدوا قراءة الجزء: 15 ¦ الصفحة: 152 القرآن أو كلمة دينية أو أدبية، أغلقوا المذياع، أو قلبوا موجاته، طلبا للفن الخليع، وتهالكا في طلب الملاهي والأغاني السامجة، والمهيجة للشر والفساد. وصاحب الغناء والملاهي بين خطرين: إما أن يتهتك فيكون فاجرا، وإما أن يتنسك، فيكون منافقا، ففتش نفسك، هل أنت سالم؟ وقول الظاهري: وقد شغب قوم بأحاديث وردت بالمنع من ذلك، وهي واهية مردودة. ويقال: الله أكبر، ما أعظم جرأة الظاهري على سلف الأمة، من الصحابة والتابعين ومن بعدهم؟! ممن رووا تلك الأحاديث من حملة الشريعة المشهود بهدايتهم، ودرايتهم، وورعهم {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [سورة الحشر آية: 10] . إن من الرعونة وسوء الأدب، وقلة الورع: نسبة هؤلاء العلماء إلى الشغب والتموية، وهذا هو جوابنا على قوله: وأما الآثار التي موهوا بها في الآية، أي قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} [سورة لقمان آية: 6] . 1 ويقال أيضا: التمويه والشغب بكم ألصق، وقد قال الله تعالى: {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً}   1. سورة لقمان آية: 6 الجزء: 15 ¦ الصفحة: 153 ونحيل القارئ إلى كتاب "إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان" للعلامة: ابن القيم، فلقد أجاد وأفاد، وأحسن النقد في ذم الملاهي والغناء؛ فساق جملة من الأحاديث المرفوعة، والآثار الموقوفة، بأسانيدها، مبرهنا عن صحتها أو حسنها بكثرة طرقها، ففيه كفاية لطالب الحق. وقول أبي تراب: ومن لم يُضع شيئا من الفرائض اشتغالا بما ذكر، فهو محسن. يقال له: أي إحسان في الاشتغال بالأغاني والملاهي لو كانوا يعقلون؟ !. وفي السنن عن عقبة بن عامر مرفوعا: "كل لهو يلهوه الرجل فهو باطل، إلا ثلاثا: رميه بقوسه، أو تأديبه لفرسه، وملاعبته لزوجته" حديث حسن، له طرق يشد بعضها بعضا، وهل في الباطل إحسان؟ ! وأما حديث عائشة في لعب الحبشة بحرابهم في المسجد، فلا حجة فيه لمبيحي الغناء والملاهي، لأنه مجرد لعب بآلات الحرب، وليس هناك غناء، ولا آلة لهو، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم الحكمة بقوله: "لتعلم يهود أن في ديننا فسحة" 1؛ وأين تقع مفسدة لعبهم، من مصلحة العلم، بيسر الدين وسماحته، والترغيب في الدخول فيه؟ ! وأما توهين أبي تراب للآثار المروية عن الصحابة ومن بعدهم، في ذم الملاهي والغناء، فهو توهين ساقط، لأن   1 أحمد (6/116) . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 154 تلك الأقوال مأخوذة من معاني النصوص، وفيها الصحيح والحسن، فلا يجوز العدول عنها إلى مجرد الرأي، والتعصب للمذهب، وأقوال الشيوخ، فإنها أقوال يحتج لها ولا يحتج بها. ولقد حرص الكاتب على تدعيم مذهب ابن حزم، في إباحة الأغاني والملاهي، فلم يصنع شيئا، وباء بالفشل؛ فإن قولهم هذا مردود باطل، لمخالفته لطريقة رسول الله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان؛ فمن نكص عن منهاجهم وسلك غير سبيلهم، ولاه الله ما تولى، وأصلاه جهنم وساءت مصيراً. ولقد أنكر السلف على من تتبع الرخص، وأخذ بالأقوال الشاذة؛ قال سليمان التيمي: "لو أخذت برخصة كل عالم لاجتمع فيك الشر كله" وقال يحيى بن سعيد الأنصاري:?"لو أن رجلا عمل بكل رخصة: بقول أهل الكوفة في النبيذ، وأهل المدينة في السماع، وأهل مكة في المتعة لكان فاسقا" وقال بعض السلف: من تتبع الرخص تزندق. فأسأل الله أن يرينا الحق حقا، ويرزقنا اتباعه، ويرينا الباطل باطلا، ويزرقنا اجتنابه، ولا يجعله ملتبسا علينا فنضل، وصلى الله على محمد وآله وسلم. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 155 [رد الشيخ ابن باز على ما نشر في مجلة الرائد بقلم أبي تراب من قوله بحل الغناء] وقال الشيخ: عبد العزيز بن باز حفظه الله 1: لقد اطلعت على ما نشرته مجلة الرائد في عدديها: السابع والستين، والثامن والستين، بقلم أبي تراب الظاهري، تحت عنوان: "الكتاب والسنة لم يحرما الغناء، ولا استعمال المعازف والمزامير، والاستماع إليها". وتأملت ما ذكره في هذا المقال، من الأحاديث والآثار، وما اعتمده في القول بحل الغناء وآلات الملاهي تبعا لإمامه أبي محمد بن حزم الظاهري، فتعجبت كثيرا من جرأته الشديدة، تبعا لإمامه أبي محمد، على القول بتضعيف جميع ما ورد من الأحاديث، في تحريم الغناء، وآلات الملاهي، بل على ما هو أشنع من ذلك، وهو القول: بأن الأحاديث الواردة في ذلك موضوعة. وعجبت أيضا من جرأتهما الشديدة الغريبة، على القول بحل الغناء وجميع آلات الملاهي، مع كثرة ما ورد في النهي عن ذلك، من الآيات والأحاديث والآثار عن السلف الصالح رضي الله عنهم، فنسأل الله العافية والسلامة من القول عليه بغير علم، والجرأة على تحليل ما حرمه الله من غير برهان. ولقد أنكر أهل العلم قديما، على أبي محمد هذه الجرأة الشديدة، وعابوه بها، وجرى عليه بسببها محن كثيرة، فنسأل الله أن يعفو عنا وعنه، وعن سائر المسلمين.   1 وقد نشر هذا المقال في مجلة راية الإسلام سنة 1381 هـ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 156 ولقد حذر الله عباده من القول عليه بغير علم، ونهاهم سبحانه أن يحرموا أو يحللوا بغير برهان، وأخبر عز وجل أن ذلك من أمر الشيطان وتزيينه، قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [سورة الأعراف آية: 33] . وقال تعالى: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [سورة النحل آية: 116-117] . وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِين ٌإِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [سورة البقرة آية: 168-169] . فحذر الله سبحانه عباده في هذه الآيات الكريمات، من التحليل والتحريم بغير علم، وبين سبحانه: أن القول عليه بغير علم، في رتبة رهيبة فوق الشرك، ونبه عباده على أن الشيطان يحب منهم القول على الله بغير علم، ويأمرهم به ليفسد عليهم بذلك دينهم وأخلاقهم ومجتمعهم. فالواجب على كل مسلم أن يحذر القول على الله بغير علم، وأن يخاف الله سبحانه ويراقبه فيما يحلل ويحرم، وأن الجزء: 15 ¦ الصفحة: 157 يتجرد من الهوى والتقليد الأعمى، وأن يقصد إيضاح حكم الله لعباد الله، على الوجه الذي بينه الله في كتابه، أو أرشد إليه رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته، نصحا لله ولعباده، وحذرا من كتمان العلم، ورغبة في ثواب الله على ذلك. فنسأل الله لنا ولسائر إخواننا التوفيق لهذا المسلك، الذي سلكه أهل العلم والإيمان، وأن يعيذنا من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، إنه على كل شيء قدير. وأنا ذاكر لك أيها القارئ- إن شاء الله- ما وقع في كلام أبي تراب وإمامه أبي محمد، من الأخطاء، وموضح لك ما ورد من الآيات والآحاديث الصحيحة والآثار، في تحريم الغناء وآلات الملاهي، وذاكر من كلام أهل العلم في هذا الباب ما يشفي ويكفي. حتى تكون من ذلك على صراط مستقيم وحتى يزول عن قلبك- إن شاء الله- ما قد علق به من الشبه والشكوك، التي قد يبتلى بها من سمع مقالة أبي تراب وأضرابه من الكتاب. وبالله نستعين، وعليه نتوكل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. قال أبو تراب، وتحقيق المسألة: أن الغناء وآلاته والاستماع إليها مباح، لم ير في الشريعة التي جاء بها صلى الله عليه وسلم نص ثابت في تحريمة البتة، والأدلة تؤخذ من الأصلين هما: الكتاب، والسنة; وما لسواهما فهو شغب وباطل مردود، الجزء: 15 ¦ الصفحة: 158 ولا يحل لمؤمن أن يعدو حدود الله قطعا، إلى أن قال في أثناء مقاله: قال الحافظ أبو محمد بن حزم: بيع الشطرنج، والمزامير، والعيدان، والمعازف، والطنابير، حلال كله؛ من كسر شيئا من ذلك ضمنه، إلا أن يكون صورة مصورة، فلا ضمان على كسرها، لما ذكرنا من قبل، لأنها مال من مال مالكها. أقول: لقد أخطأ أبو محمد، وأخطأ بعده أبو تراب، في تحليل ما حرم الله من الأغاني وآلات الملاهي وفتحا على الناس أبواب شر عظيم، وخالفا بذلك سبيل أهل الإيمان، وحملة السنة والقرآن، من الصحابة وأتباعهم بإحسان، وإن ذلك لعظيم وخطره جسيم؛ فنسأل الله لنا وللمسلمين العافية، من زيغ القلوب، ورين الذنوب، وهمزات الشيطان، إنه جواد كريم. ولقد ذهب أكثر علماء الإسلام، وجمهور أئمة الهدى، إلى تحريم الأغاني، وجميع المعازف- وهي آلات اللهو كلها- وأوجبوا كسر آلات المعازف، وقالوا: لا ضمان على متلفها. وقالوا: إن الغناء إذا انضم إليه آلات المعازف، كالطبل، والمزمار، والعود، وأشباه ذلك، حرم بالإجماع، إلا ما يستثنى من ذلك، من دف النساء في العرس ونحوه، على ما يأتي بيانه إن شاء الله. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 159 وقد حكى أبو عمرو بن الصلاح إجماع علماء المسلمين، على ما ذكرنا من تحريم الأغاني والمعازف إذا اجتمعا، كما سيأتي نص كلامه فيما نقله عنه العلامة ابن القيم رحمه الله. وما ذلك إلا لما يترتب على الغناء وآلات اللهو من قسوة القلوب ومرضها، وصدها عن القرآن الكريم، واستماع العلوم النافعة، ولا شك أن ذلك من مكائد الشيطان التي كاد بها الناس، وصاد بها من نقص علمه ودينه؛ حتى استحسن سماع قرآن الشيطان ومزموره، بدلا من سماع كتاب الله، وأحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم. ولقد اشتد نكير السلف على من اشتغل بالأغاني والملاهي، ووصفوه بالسفة والفسق، وقالوا: لا تقبل شهادته، كما سيأتي بعض كلامهم في ذلك إن شاء الله، وما ذاك إلا لما ينشأ عن الاشتغال بالغناء والمعازف من ضعف الإيمان، وقلة الحياء والورع، والاستخفاف بأوامر الله ونواهيه، ولما يبتلى به أرباب الغناء والمعازف من شدة الغفلة، والارتياح إلى الباطل، والتثاقل عن الصلاة وأفعال الخير، والنشاط فيما يدعو إليه الغناء والمعازف من الزنى واللواط، وشرب الخمور، ومعاشرة النسوان والمردان، إلا من عصم الله من ذلك. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 160 ومعلوم عند ذوي الألباب، ما يترتب على هذه الصفات من أنواع الشر والفساد، وما في ضمنها من وسائل الضلال والإضلال. وإليك أيها القارئ الكريم بعض ما ورد في تحريم الأغاني والمعازف، من آيات القرآن الكريم، وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم. قال الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [سورة لقمان آية: 6-7] قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في تفسيره عند هاتين الآيتين، ما نصه: لما ذكر حال السعداء وهم الذين يهتدون بكتاب الله وينتفعون بسماعه، كما قال تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [سورة الزمر آية: 23] ، عطف: بذكر حال الأشقياء الذين أعرضوا عن الانتفاع بسماع كلام الله، وأقبلوا على استماع المزامير والغناء، والألحان وآلات الطرب، كما قال ابن مسعود، في قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [سورة لقمان آية: 6] قال: هو والله الغناء". الجزء: 15 ¦ الصفحة: 161 روى ابن جرير: حدثني يونس بن عبد الأعلى، أخبرنا ابن وهب، أخبرني يزيد بن يونس، عن أبي صخر، عن أبي معاوية البجلي، عن سعيد بن جبير، عن أبي الصهباء البكري:?"أنه سمع عبد الله بن مسعود، وهو يسئل عن هذه الآية: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [سورة لقمان آية: 6] ، فقال عبد الله بن مسعود: (الغناء، والله الذي لا إله إلا هو، يرددها ثلاث مرات". حدثنا عمرو بن علي، حدثنا صفوان بن عيسى، أخبرنا حميد الخراط، عن عمار عن سعيد بن جبير عن "أبي الصهباء، أنه سأل ابن مسعود عن قول الله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} [سورة لقمان آية: 6] قال: الغناء"، وكذا قال ابن عباس وجابر، وعكرمة وسعيد بن جبير، ومجاهد ومكحول، وعمرو بن شعيب وعلي بن بذيمة. وقال الحسن البصري: "نزلت هذه الآية {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [سورة لقمان آية: 6] في الغناء والمزامير"؟ وقال قتادة، قوله: {"وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [سورة لقمان آية: 6] والله لعله لا ينفق فيه مالا، ولكن شراؤه: استحبابه، بحسب المرء من الضلالة أن يختار حديث الباطل على حديث الحق وما يضر على ما ينفع" انتهى كلامه. فتأمل: أيها القارئ الكريم، هاتين الآيتين الكريمتين، وكلام هذا الإمام في تفسيرهما، وما كان عن أئمة السلف في الجزء: 15 ¦ الصفحة: 162 ذلك، يتضح لك ما وقع فيه أرباب الأغاني والملاهي؛ فإن الخطر العظيم؛ وتعلم بذلك صراحة الآية الكريمة في ذمهم وعيبهم، وأن شراءهم للهو الحديث، واختيارهم له، من وسائل الضلال والإضلال، وإن لم يقصدوا ذلك أو يعلموه. وذلك لأن الله سبحانه مدح أهل القرآن في أول السورة وأثنى عليهم بالصفات الحميدة، وأخبر أنهم أهل الهدى والفلاح، حيث قال عز وجل: (بسم الله الرحمن الر حيم) ، {الم تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [سورة لقمان آية: 1-2-3-4-5] . ثم قال سبحانه بعد هذا: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [سورة لقمان آية: 6] الآية، وذلك يدل على ذم هؤلاء المشترين، وتعرضهم للضلال بعد الهدى، وما كان وسيلة للضلال والإضلال، فهو مذموم يجب أن يحذر ويبتعد عنه. وهذا الذي قاله الحافظ بن كثير في تفسير الآية، قاله غيره من أهل التفسير، كابن جرير، والبغوي، والقرطبي، وغير واحد، حتى قال الواحدي في تفسيره: أكثر المفسرين على أن لهو الحديث، هو: الغناء، وفسره آخرون بالشرك، وفسره جماعة بأخبار الأعاجم، وبالأحاديث الباطلة، التي تصد عن الحق؛ وكلها تفاسير صحيحة لا منافاة بينها. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 163 والآية الكريمة تذم من اعتاض ما يصد عن سبيل الله ويلهيه عن كتابه؛ ولا شك أن الأغاني وآلات الملاهي، من أقبح لهو الحديث، الصاد عن كتاب الله وعن سبيله. قال أبو جعفر بن جرير رحمه الله في تفسيره- لما ذكر أقوال المفسرين في لهو الحديث- ما نصه: والصواب من القول في ذلك، أن يقال: عنى به كل ما كان من الحديث ملهيا عن سبيل الله، مما نهى الله عن استماعه أو رسوله، لأن الله تعالى عم بقوله لهو الحديث، ولم يخصص بعضا دون بعض، فذلك على عمومه، حتى يأتي ما يدل على خصوصه؛ والغناء والشرك، من ذلك. انتهى كلامه. وقال القرطبي في تفسير قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} [سورة لقمان آية: 6] : (من) : في موضع رفع بالابتداء، و (ولهو الحديث) : الغناء، في قول ابن مسعود وابن عباس وغيرهما، ثم بسط الكلام في تفسير هذه الآية. ثم قال: المسألة الثانية، وهو: الغناء المعتاد عند المشتهرين به، الذي يحرك النفوس، ويبعثها على الهوى والغزل والمجون، الذي يحرك الساكن ويبعث الكامن، فهذا النوع إذا كان في شعر يشبب فيه بذكر النساء، ووصف محاسنهن، وذكر الخمور والمحرمات، لا يختلف في تحريمه، لأنه اللهو والغناء المذموم بالاتفاق. فأما ما سلم من ذلك، فيجوز القليل منه في أوقات الجزء: 15 ¦ الصفحة: 164 الفرح، كالعرس والعيد، وعند التنشيط على الأعمال الشاقة، كما كان في حفر الخندق، وحدو الحبشة، وسلمة بن الأكوع. فأما ما ابتدعته الصوفية اليوم، من الإدمان على سماع الأغاني بالآلات المطربة من الشبابات، والطار، والمعازف، والأوتار، فحرام. انتهى كلامه. وهذا الذي قاله القرطبي كلام حسن، وبه تجتمع الآثار الواردة في هذا الباب. ومن ذلك: ما ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها، قالت: "دخل علي النبي صلى الله عليه وسلم وعندي جاريتان تغنيان بغناء بعاث، فاضطجع على الفراش وحول وجهه، ودخل أبو بكر رضي الله عنه فانتهرني، وقال: مزمار الشيطان عند النبي صلى الله عليه وسلم، فأقبل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: دعهما. فلما غفل غمزتهما فخرجتا" 1. وفي رواية لمسلم: فقال رسول الله: "يا أبا بكر إن لكل قوم عيدا، وهذا عيدنا" 2، وفي رواية له أخرى، فقال صلى الله عليه وسلم "دعهما يا أبا بكر، فإنها أيام عيد" 3، وفي بعض رواياته أيضا: "جاريتان تلعبان بدف" 4. فهذا الحديث الجليل يستفاد منه: أن كراهة الغناء وإنكاره، وتسميته مزمار الشيطان: أمر معروف مستقر عند الصحابة رضي الله عنهم، ولهذا أنكر الصديق على عائشة غناء الجاريتين عندها، وسماه مزمار الشيطان. ولم ينكر عليه النبي فيه تلك التسمية، ولم يقل له إن   1 البخاري: الجمعة (950) , ومسلم: صلاة العيدين (892) . 2 البخاري: الجمعة (952) , ومسلم: صلاة العيدين (892) , وابن ماجه: النكاح (1898) , وأحمد (6/99 ,6/134 ,6/186) . 3 البخاري: الجمعة (988) , ومسلم: صلاة العيدين (892) , والنسائي: صلاة العيدين (1597) , وأحمد (6/84) . 4 مسلم: صلاة العيدين (892) . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 165 الغناء والدف لا حرج فيهما، وإنما أمره أن يترك الجاريتين، وعلل ذلك بأنها أيام عيد. فدل ذلك على أنه ينبغي التسامح في مثل هذه الجواري الصغار في أيام العيد، لأنها أيام فرح وسرور، ولأن الجاريتين إنما أنشدتا غناء الأنصار الذي تقاولوا به يوم بعاث، فيما يتعلق بالشجاعة والحرب. بخلاف أكثر غناء المغنين والمغنيات اليوم، فإنه يثير الغرائز الجنسية، ويدعو إلى عشق الصور، وإلى كثير من الفتن الصادة للقلوب عن تعظيم الله ومراعاة حقه، فكيف يجوز لعاقل أن يقيس هذا على هذا؟ ! ومن تأمل هذا الحديث، علم أن ما زاد على ما فعلته الجاريتان منكر، يجب التحذير منه، حسما لمادة الفساد، وحفظا للقلوب عمّا يصدها عن الحق، ويشغلها عن كتاب الله وأداء حقه. وأما دعوى أبي تراب أن هذا الحديث حجة على جواز الغناء مطلقا، فدعوى باطلة، لما تقدم بيانه؛ والآيات، والأحاديث، والآثار الواردة في هذا الباب، كلها تدل على بطلان دعواه. وهكذا الحديث الذي رواه سفيان الثوري عن أبي إسحاق السبيعي، عن عامر بن سعد البجلي، "أنه رأى أبا مسعود البدري وقرظة بن كعب، وثابت بن يزيد، وهم في الجزء: 15 ¦ الصفحة: 166 عرس، وعندهم غناء، فقلت لهم: هذا وأنتم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: إنه رخص لنا في الغناء في العرس، والبكاء على الميت من غير نوح". فهذا الحديث ليس فيه حجة على جواز الغناء مطلقا، وإنما يدل على جوازه في العرس لإعلان النكاح؛ ومن تأمل هذا الحديث عرف أنه دليل على منع الغناء لا على جوازه. فإنه صلى الله عليه وسلم لما رخص لهم فيه في العرس لحكمة معلومة، دل على منعه فيما سواه، إلا بدليل خاص، كما أن الرخصة للمسافر في قصر الرباعية، يدل على منع غيره من ذلك، وهكذا الرخصة للحائض والنفساء، في ترك طواف الوداع، يدل على منع غيرها من ذلك، والأمثلة لهذا كثيرة. وأيضا: فإنكار عامر بن سعد، على هؤلاء الصحابة الغناء، وإقرارهم له على ذلك، دليل على أن كراهة الغناء، والمنع منه، أمر قد استقر عند الصحابة والتابعين، وعرفوه عن النبي صلى الله عليه وسلم والله المستعان. قال العلامة بن القيم، رحمة الله عليه، في كتابه. "إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان" ما نصه: ومن مكائد عدو الله ومصائده، التي كاد بها من قل نصيبه من العلم والعقل والدين، وصاد بها قلوب الجاهلين والمبطلين: سماع المكاء والتصدية والغناء بالآلات المحرمة الجزء: 15 ¦ الصفحة: 167 ليصد القلوب عن القرآن، ويجعلها عاكفة على الفسوق والعصيان. فهو قرآن الشيطان، والحجاب الكثيف عن القرآن، وهو رقية: اللواط والزنى، وبه ينال الفاسق من معشوقة غاية المنى، كاد به الشيطان النفوس المبطلة، وحسنه لها، مكرا وغرورا، وأوحى إليها الشبه الباطلة على حسنه، فقبلت وحيه، واتخذت لأجله القرآن مهجورا، إلى أن قال. ولقد أحسن القائل: تلي الكتاب فأطرقوا لا خيفة ... لكنه إطراق ساه لاهي وأتى الغناء فكالحمير تناهقوا ... والله ما رقصوا لأجل الله دف ومزمار ونغمة شادن ... فمتى رأيت عبادة بملاهي ثقل الكتاب عليهم لما رأوا ... تقييده بأوامر ونواهي سمعوا له رعدا وبرقا إذ حوى ... زجرا وتخويفا بفعل مناهي ورأوه أعظم قاطع للنفس عن ... شهواتها يا ذبحها المتناهي وأتى السماع موافقا أغراضها ... فلأجل ذاك غدا عظيم الجاه أين المساعد للهوى من قاطع ... أسبابه عند الجهول الساهي إن لم يكن خمر الجسوم فإنه ... خمر العقول مماثل ومضاهي فانظر إلى النشوان عند شرابه ... وانظر إلى النشوان عند ملاهي وانظر إلى تمزيق ذا أثوابه ... من بعد تمزيق الفؤاد اللاهي واحكم فأي الخمرتين أحق بالتـ ... حريم والتأثيم عند الله وقال آخر: برئنا إلى الله في معشر ... بهم مرض من سماع الغناء الجزء: 15 ¦ الصفحة: 168 وكم قلت يا قوم أنتم على ... شفا جرف ما به من بنا شفا جرف تحته هوة ... إلى درك كم به من عنا وتكرار ذا النصح منا لهم ... لنعذر فيهم إلى ربنا فلما استهانوا بتنبيهنا ... رجعنا إلى الله في أمرنا فعشنا على سنة المصطفى ... وماتوا على تنتنا تنتنا ولم يزل أنصار الإسلام، وأئمة الهدى تصيح بهؤلاء من أقطار الأرض، وتحذر من سلوك سبلهم، واقتفاء آثارهم، من جميع طوائف الملة. وقال الشيخ عبد العزيز بن باز، أيضا في رده على أبي تراب 1: شبهة يجب أن تكشف: زعم أبو تراب تبعا لابن حزم، أن قوله سبحانه: {لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً} [سورة لقمان آية: 6] الآية، دليل على أن مشتري لهو الحديث من الأغاني والملاهي لا يستحق الذم إلا إذا اشتراها لقصد الضلال، أو الإضلال أما من اشتراها للترفيه والترويح عن نفسه، فلا بأس في ذلك. والجواب أن يقال: هذه شبهة باطلة من وجوه ثلاثة: الوجه الأول: أن ذلك خلاف ما فهمه السلف الصالح، من الصحابة والتابعين من الآية الكريمة، فإنهم احتجوا بها على ذم الأغاني والملاهي والتحذير منها، ولم يقيدوا ذلك بهذا   1 وهو من المنشور أيضا في مجلة راية الإسلام سنة 1381 هـ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 169 الشرط الذي قاله أبو تراب؛ وهم أعلم الناس بمعاني كلام الله وكلام الرسول صلى الله عليه وسلم، وهم أعرف بمراد الله من كلامه ممن بعدهم. الوجه الثاني: أن ذلك خلاف ظاهر الآية لمن تأملها، لأن الله سبحانه قال: {لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [سورة لقمان آية: 6] , فدل ذلك على أن هذا الصنف المذموم من الناس قد اشترى لهو الحديث ليضل به عن سبيل الله بغير علم ولا شعور بالغاية، ولا قصد للإضلال أو الضلال. ولو كان اشترى لهو الحديث، وهو يعلم أنه يضل به، أو يقصد ذلك لم يقل الله عز وجل {لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [سورة لقمان آية: 6] ، لأن من علم أنه اشترى لهو الحديث، ليضل به عن سبيل الله، لا يقال له: إنه لا يعلم. وهكذا من قصد ذلك، لا يقال إنه اشترى لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم، لأن من علم أن غايته الضلال، أو قصد ذلك، قد اشترى لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بعلم وقصد، لا ليضل بغير علم. فتأمل وتنبه أيها القارئ الكريم، يتضح لك الحق، وعليه تكون اللام في قوله ليضل عن سبيل الله لام العاقبة، أو لام التعليل، أي: تعليل الأمر القدري، ذكر ذلك الحافظ ابن كثير وغيره. وعلى كونها للعاقبة، يكون المعنى: أن من اشترى لهو الجزء: 15 ¦ الصفحة: 170 الحديث، من الغناء والمعازف، تكون عاقبته الضلال عن سبيل الله والإضلال، واتخاذ سبيل الله هزوا، والإعراض عن آيات الله استكبارا، واحتقارا، وإن لم يشعر بذلك ولم يقصده. وعلى المعنى الثاني: وهو كونها لتعليل الأمر القدري، يكون المعنى: أن الله سبحانه قضى وقدر على بعض الناس، أن يشتري لهو الحديث ليضل به عن سبيل الله. وعلى كلا التقديرين، فالآية الكريمة تفيد ذم من اشترى لهو الحديث، ووعيده، بأن مصيره إلى الضلال، والاستهزاء بسبيل الله، والتولي عن كتاب الله؛ وهذا هو الواقع الكثير والمشاهد، ممن اشتغل بلهو الحديث، من الأغاني والمعازف، واستحسنها وشغف بها، يكون مآله إلى: قسوة القلب، والضلال عن الحق، إلا من عصم الله. وقد دلت الشريعة الإسلامية الكاملة في مصادرها ومواردها، على وجوب الحذر من وسائل الضلال والفساد، والتحذير منها، حذرا من الوقوع في غاياتها؛ كما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن شرب القليل الذي لا يسكر، حذرا من الوقوع في المسكر، حيث قال عليه الصلاة والسلام: "ما أسكر كثيره فقليله حرام" 1. ونهى عن الصلاة بعد الصبح، وبعد العصر، لئلا يكون ذلك وسيلة إلى الوقوع فيما وقع فيه بعض المشركين، من عبادة الشمس عند طلوعها وغروبها؛ ونظائر ذلك كثيرة،   1 الترمذي: الأشربة (1865) , وأبو داود: الأشربة (3681) , وابن ماجه: الأشربة (3393) , وأحمد (3/343) . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 171 يعرفها من له أدنى علم بالشريعة المطهرة، والله المستعان. الوجه الثالث: أنه لو كان الذم مختصا بمن اشترى لهو الحديث، لقصد الضلال أو الإضلال، لم يكن في تنصيص الرب عز وجل على لهو الحديث فائدة، لأن الذم حينئذ لا يختص به، بل يعم كل من فعل شيئا يقصد به الضلالة أو الإضلال، حتى ولو كان ذلك الشيء محبوبا إلى الله سبحانه وتعالى. كمن اشترى مصحفا يقصد به التلبيس على الناس وإضلالهم، فإن المصحف محبوب إلى الله لاشتماله على كلامه عز وجل، ولكنه سبحانه لا يحب من عباده أن يشتروه للتلبيس والإضلال، وإنما يشترى للاهتداء والتوجيه إلى الخير. وقد اعترف ابن حزم وأبو تراب بهذا الوجه، وزعما أن الآية تختص بهذا الصنف، وهو خطأ بين، وعدول بالآية عن معناها الصحيح، وإضاعة لمعناها الأكمل. فعرفت أيها القارئ الكريم، من هذه الأوجه الثلاثة، كشف شبهة أبي تراب وبطلانها، واتضح لك أن الآية الكريمة حجة ظاهرة على ذم الأغاني والملاهي وتحريمها، وأنها وسيلة للضلالة والإضلال، والسخرية بسبيل الله، والإعراض عن كتابه، وإن لم يشعر مشتريها بذلك؛ وهذا هو الجزء: 15 ¦ الصفحة: 172 الذي فهمه السلف الصالح من الآية الكريمة، وهم أولى بالاتباع رضي الله عنهم. وسبق لك كشف شبهة أبي تراب، في تعلقه بحديث الجاريتين، وكشف شبهته الأخرى، في تعلقه بحديث أبي مسعود البدري وصاحبيه، في الرخصة لهم في الغناء وقت العرس. وأوضحنا فيما تقدم أن الحديثين المذكورين حجة ظاهرة على أبي تراب وإمامه ابن حزم، في النهي عن الأغاني، والمنع منها، لا على جوازها. والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات. وقد تكلم العلامة ابن القيم رحمه الله، على الآية المتقدمة، وهي قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} [سورة لقمان آية: 6] الآية، بكلام حسن يؤيد ما تقدم، وهدا نصه: قال رحمه الله: قال الواحدي وغيره: أكثر المفسرين على أن المراد بلهو الحديث الغناء، قاله ابن عباس في رواية سعيد بن جبير ومقسم عنه، وقاله عبد الله بن مسعود في رواية أبي الصهباء عنه، وهو قول مجاهد وعكرمة. وروى ثوير بن أبي فاختة عن أبيه عن ابن عباس، في قوله تعالى: ?" {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} [سورة لقمان آية: 6] قال: (هو الرجل يشتري الجارية تغنيه ليلا ونهارا". وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد: هو: اشتراء المغني الجزء: 15 ¦ الصفحة: 173 والمغنية بالمال الكثير، والاستماع إليه وإلى مثله من الباطل، وهذا قول مكحول، وهذا اختيار أبي إسحاق أيضا، وقال: أكثر ما جاء في التفسير، أن لهو الحديث ههنا، هو: الغناء، لأنه يلهي عن ذكر الله تعالى. قال الواحدي: قال أهل المعاني: ويدخل في هذا كل من اختار اللهو، والغناء، والمزامير، والمعازف، على القرآن، وإن كان اللفظ قد ورد بالشراء، فلفظ الشراء يذكر في الاستبدال والاختيار، وهو كثير في القرآن. قال: ويدل على هذا ما قاله قتادة في هذه الآية: لعله أن لا يكون أنفق مالا. قال: وبحسب المرء من الضلالة أن يختار حديث الباطل على حديث الحق، قال الواحدي: وهذه الآية على هذا التفسير تدل على تحريم الغناء. قال: وأما غناء القينات، فذلك أشد ما في الباب، وذلك لكثرة الوعيد الوارد فيه، وهو ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من استمع إلى قينة، صب في أذنه الآنك يوم القيامة" والآنك: الرصاص المذاب. وقد جاء تفسير لهو الحديث بالغناء، مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ ففي مسند الإمام أحمد ومسند عبد الله بن الزبير الحميدي، وجامع الترمذي، من حديث أبي أمامة والسياق للترمذي، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تبيعوا القينات، ولا تشتروهن، ولا تعلموهن، ولا خير في تجارة فيهن، وثمنهن حرام" 1.   1 الترمذي: البيوع (1282) , وابن ماجه: التجارات (2168) . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 174 وفي مثل هذا، نزلت هذه الآية: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [سورة لقمان آية: 6] . وهذا الحديث، وإن كان مداره على عبيد الله بن زحر، عن علي بن يزيد الألهاني عن القاسم، فعبيد الله بن زحر ثقة، والقاسم ثقة، وعلي ضعيف، إلا أن للحديث شواهد ومتابعات، سنذكرها إن شاء الله تعالى. ويكفي تفسير الصحابة والتابعين للهو الحديث بأنه: الغناء؛ فقد صح ذلك عن ابن عباس وابن مسعود، قال أبو الصهباء: سألت ابن مسعود عن قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} [سورة لقمان آية: 6] فقال: (والله الذي لا إله إلا هو، هو: الغناء) ، يرددها ثلاث مرات. وصح عن ابن عمر رضي الله عنهما أيضا أنه الغناء، قال الحاكم أبو عبد الله، في التفسير في كتاب المستدرك: ليعلم طالب هذا العلم، أن تفسير الصحابي، الذي شهد الوحي والتنزيل، عند الشيخين مسند. وقال في موضع آخر من كتابه: هو عندنا في حكم المرفوع، وهذا وإن كان فيه نظر، فلا ريب أنه أولى بالقبول من تفسير من بعدهم، فهم أعلم الأمة بمراد الله عز وجل في كتابه؛ فعليهم نزل، وهم أول من خوطب به من الأمة؛ وقد شاهدوا تفسيره من الرسول صلى الله عليه وسلم علما وعملا؛ وهم العرب الفصحاء على الحقيقة، فلا يعدل عن تفسيرهم ما وجد إليه سبيل. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 175 ولا تعارض بين تفسير لهو الحديث بالغناء، وتفسيره بأخبار الأعاجم وسلوكها، وملوك الروم، ونحو ذلك، مما كان النضر بن الحارث يحدث به أهل مكة يشغلهم به عن القرآن، فكلاهما: لهو الحديث. ولهذا قال "ابن عباس: لهو الحديث: الباطل والغناء"، فمن الصحابة من ذكر هذا، ومنهم من ذكر الآخر، ومنهم من جمعهما. والغناء أشد لهوا، وأعظم ضررا، من أحاديث الملوك وأخبارهم، فإنه رقية الزنى، ومثبت النفاق، وشرك الشيطان، وخمرة العقل، وصده عن القرآن أعظم من صد غيره من الكلام الباطل، لشدة ميل النفوس إليه، ورغبتها فيه. إذا عرف هذا، فأهل الغناء ومستمعوه لهم نصيب من هذا الذم، بحسب اشتغالهم بالغناء عن القرآن، وإن لم ينالوا جميعه، فإن الآيات تضمنت ذم من استبدل لهو الحديث كما بالقرآن، ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوا. وإذا يتلى عليه القرآن، ولى مستكبرا كأن لم يسمعه، كأن في أذنيه وقرا، وهو الثقل والصمم، وإذا علم منه شيئا استهزأ به، فمجموع هذا لا يقع إلا من أعظم الناس كفرا؛ وإن وقع بعضه للمغنين ومستمعيهم، فلهم حصة ونصيب من هذا الذم. يوضحه: أنك لا تجد أحدا، عني بالغناء وسماع الجزء: 15 ¦ الصفحة: 176 آلاته، إلا وفيه ضلال عن طريق الهدى، علما وعملا؛ وفيه رغبة عن استماع القرآن، إلى استماع الغناء، بحيث إذا عرض له سماع الغناء، وسماع القرآن، عدل عن هذا إلى ذاك، وثقل عليه سماع القرآن. وربما حمله الحال، على أن يسكت القارئ، ويستطيل قراءته، ويستزيد المغني، ويستقصر نوبته، وأقل ما في هذا: أن يناله نصيب وافر من هذا الذم، إن لم يحظ به جميعه. والكلام في هذا، مع من في قلبه بعض حياة يحس بها، فأما من مات قلبه، وعظمت فتنته، فقد سد على نفسه طريق النصيحة، {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [سورة المائدة آية: 41] انتهى كلامه رحمه الله. ومن الآيات الدالة على ذم الأغاني والمعازف وهي: آلات الملاهي، قوله تعالى: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُوراً} [سورة الإسراء آية: 64] ، وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً} [سورة الفرقان آية: 72] . وقد فسر الصوت والزور بالغناء وآلات الملاهي؛ وفسر الصوت أيضا بكل صوت يدعو إلى باطل؛ وفسر الجزء: 15 ¦ الصفحة: 177 الزور، بكل منكر؛ ولا منافاة بين التفاسير، ومدلول الآيتين يعم ذلك كله. ولا ريب أن الأغاني والملاهي من أقبح الزور، ومن أخبث أصوات الشيطان، لما يترتب عليها من قسوة القلوب، وصدها عن ذكر الله وعن القرآن، بل وعن جميع الطاعات إلا من عصم الله، كما سلف بيان ذلك. وأما الأحاديث الواردة في ذم الأغاني والملاهي، فكثيرة؛ وأصحها ما رواه البخاري في صحيحه، حيث قال: وقال هشام بن عمار، حدثنا صدقة بن خالد، حدثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، حدثنا عطية بن قيس الكلابي حدثني عبد الرحمن بن غنم الأشعري، قال حدثني أبو عامر، أو أبو مالك الأشعري، والله ما كذبني، سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير، والخمر والمعازف". وهو صريح في ذم مستحلي المعازف، حيث قرنهم مع مستحلي الزنى والخمر والحرير، وحجة ظاهرة في تحريم استعمال المعازف، وهي آلات الملاهي، كالطنبور، والعود، والطبل، وغير ذلك من آلات الملاهي. وقد أجمع أهل اللغة على تفسير المعازف بآلات الملاهي، وما ذاك إلا لما يترتب عليها من قسوة القلوب ومرضها، واشتغالها عن الصلاة والقرآن، وإذا انضم إليه الغناء، صار الإثم أكبر، والفساد أعظم، كما سيأتي كلام الجزء: 15 ¦ الصفحة: 178 أهل العلم في ذلك، وقد تقدم لك بعضه. وأما "الحر" فيروى بالحاء المهملة والراء، وهو الفرج، والمراد به الزنى، ويروى بالخاء المعجمة والزاي، وهو نوع من الحرير. وقد أخذ علماء الإسلام بهذا الحديث، وتلقوه بالقبول، واحتجوا به على تحريم المعازف كلها. وقد أعله ابن حزم وأبو تراب بعده، تعليلا له: بأنه منقطع بين البخاري رحمه الله، وبين شيخه هشام بن عمار، لكونه لم يصرح بسماعه منه، وإنما علقه عنه تعليقا. وقد أخطأ ابن حزم في ذلك، وأنكر عليه أهل العلم هذا القول، وخطؤوه فيه، لأن هشاما من شيوخ البخاري، وقد علقه عنه جازما به، وما كان كذلك فهو صحيح عنده؛ وقد قبل منه أهل العلم ذلك، وصححوا ما علقه جازما به إلى من علقه عنه. وهذا الحديث من جملة الأحاديث المعلقة الصحيحة، ولعل البخاري لم يصرح بسماعه منه، لكونه رواه عنه بالإجازة، أو في معرض المذاكرة، أو لكونه رواه عنه بواسطة بعض شيوخه الثقات، فحذفه اختصارا، أو لغير ذلك من الأسباب المقتضية للحذف. وعلى فرض انقطاعه بين البخاري وهشام، فقد رواه عنه غيره متصلا عن هشام بن عمار ... الخ، بأسانيد صحيحة؛ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 179 وبذلك بطلت شبهة ابن حزم، ومقلده أبي تراب، واتضح الحق لطالب الحق، والله المستعان. وإليك أيها القارئ كلام أهل العلم في هذا الحديث، وتصريحهم بخطأ ابن حزم في تضعيفه، قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري، رحمه الله، لما ذكر هذا الحديث، وذكر كلام الزركشي وتخطئته ابن حزم في تضعيفه، قال ما نصه: وأما دعوى ابن حزم التي أشار إليها- يعني الزركشي- فقد سبقه إليها ابن الصلاح في علوم الحديث، فقال: التعليق في أحاديث من صحيح البخاري قطع إسنادها، وصورته صورة الانقطاع، وليس حكمه حكمه، ولا خارجا ما وجد ذلك فيه من قبيل الصحيح إلى قبيل الضعيف. ولا التفات إلى أبي محمد بن حزم الظاهري الحافظ في رد ما أخرجه البخاري من حديث أبي عامر، أو أبي مالك الأشعري، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم "ليكونن في أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير، والخمر والمعازف" الحديث، من جهة أن البخاري أورده قائلا: قال هشام بن عمار، وساقه بإسناده، فزعم ابن حزم أنه منقطع فيما بين البخاري وهشام، وجعله جوابا عن الاحتجاج به على تحريم المعازف، وأخطأ في ذلك من وجوه. والحديث صحيح معروف الاتصال بشرط الصحيح، والبخاري قد يفعل مثل ذلك، لكونه قد ذكر ذلك الحديث في الجزء: 15 ¦ الصفحة: 180 موضع آخر من كتابه مسندا متصلا، وقد يفعل ذلك لغير ذلك من الأسباب، التي لا يصحبها خلل الانقطاع. انتهى. ثم قال الحافظ بعدما نقل كلام ابن الصلاح المذكور بأسطر، ما نصه: وقد تقرر عند الحافظ، أن الذي يأتي به البخاري من التعاليق كلها بصيغة الجزم، يكون صحيحا إلى من علق عنه، ولو لم يكن من شيوخه؛ لكن إذا وجد الحديث المعلق من رواية بعض الحفاظ، موصولا إلى من علق عنه، بشرط الصحة، أزال الإشكال. ولهذا عنيت في ابتداء الأمر بهذا النوع، وصنفت كتاب تعليق التعليق. وقد ذكر شيخنا في شرح الترمذي، وفي كلامه على علوم الحديث: أن حديت هشام بن عمار جاء عنه موصولا في مستخرج الإسماعيلي، قال: حدثنا الحسن بن سفيان، حدثنا هشام بن عمار. وأخرجه الطبراني في مسند الشاميين، فقال: حدثنا محمد بن يزيد بن عبد الصمد، حدثنا هشام بن عمار، قال: وأخرجه أبو داود في سننه، فقال: حدثنا عبد الوهاب بن نجدة، حدثنا بشر بن بكر، حدثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر بسنده. انتهى. وقال العلامة: ابن القيم رحمة الله عليه، في الإغاثة، لما ذكر هذا الحديث، ما نصه: هذا حديث أخرجه البخاري في صحيحه محتجا به، وعلقه تعليقا مجزوما به، فقال: باب فيمن يستحل الخمر ويسميه بغير اسمه. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 181 وقال هشام بن عمار: حدثنا صدقة بن خالد، حدثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، حدثنا عطية بن قيس الكلابي، حدثني عبد الرحمن بن غنم الأشعري. قال: حدثني أبو عامر، أو أبو مالك الأشعري، والله ما كذبني أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "ليكونن من أمتي أقوام، يستحلون الحر والحرير، والخمر والمعازف، ولينزلن أقوام، إلى جنب علم، يروح عليهم بسارحة لهم يأتيهم لحاجة، فيقولوا: ارجع إلينا غدا، فيبيتهم الله تعالى ويضع العلم، ويمسخ آخرين قردة وخنازير إلى يوم القيامة". ولم يصنع من قدح في صحة هدا الحديث شيئا كابن حزم نصرة لمذهبه الباطل في إباحة الملاهي، وزعم أنه منقطع، لأن البخاري لم يصل سنده به، وجواب هذا الوهم من وجوه: أحدها: أن البخاري قد لقي هشام بن عمار وسمع منه، فإذا قال: قال هشام فهو بمنزلة قوله عن هشام. الثاني: أنه لو لم يسمع منه، فهو لم يستجز الجزم به عنه، إلا وقد صح عنه أنه حدث به؛ وهذا كثيرا ما يكون لكثرة من رواه عنه عن ذلك الشيخ وشهرته؛ فالبخاري أبعد خلق الله من التدليس. الثالث: أنه أدخله في كتابه المسمى بالصحيح محتجا به، فلولا صحته عنده لما فعل ذلك. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 182 الرابع: أنه علقه بصيغة الجزم، دون صيغة التمريض، فإنه إذا توقف في الحديث، أو لم يكن على شرطه، يقول: ويروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويذكر عنه، ونحو ذلك، فإذا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد جزم وقطع بإضافته إليه. الخامس: أنا لو أضربنا عن هذا كله صفحا، فالحديث صحيح متصل عند غيره، قال أبو داود في كتاب اللباس: حدثنا عبد الوهاب بن نجدة، حدثنا بشر بن بكر، عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، حدثنا عطية بن قيس، قال سمعت: عبد الرحمن بن غنم الأشعري قال: حدثنا أبو عامر، أو أبو مالك، فذكره مختصرا. ورواه أبو بكر الإسماعيلي في كتابه الصحيح مسندا، فقال أبو عامر ولم يشك. ووجه الدلالة منه: أن المعازف هي آلات اللهو كلها، لا خلاف بين أهل اللغة في ذلك، ولو كانت حلالا لما ذمهم على استحلالها، ولما قرن استحلالها باستحلال الخمر. و"الحر" فإن كان بالحاء والراء المهملتين، فهو استحلال الفروج الحرام، وإن كان بالخاء والزاي المعجمتين، فهو نوع من الحرير، غير الذي صح عن الصحابة رضي الله عنهم لبسه؛ إذ الخز نوعان: أحدهما من حرير، والثاني من صوف، وقد روي هذا الحديث من وجهين. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 183 وقال ابن ماجه في سننه: حدثنا عبد الله بن سعيد، عن معاوية بن صالح، عن حاتم بن حريث، عن ابن أبي مريم، عن عبد الرحمن بن غنم الأشعري، عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليشربن ناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها، يعزف على رؤوسهم بالمعازف والمغنيات، يخسف الله بهم الأرض، ويجعل منهم قردة وخنازير" 1 وهذا إسناد صحيح. وقد توعد مستحلي المعازف فيه، بأن يخسف الله بهم الأرض، ويمسخهم قردة وخنازير؛ وإن كان الوعيد على جميع هذه الأفعال، فلكل واحد قسط في الذم والوعيد. وفي الباب عن سهل بن سعد الساعدي، وعمران بن حصين، وعبد الله بن عمرو، وعبد الله بن عباس، وأبي هريرة، وأبي أمامة الباهلي، وعائشة أم المؤمنين؛ وعلي بن أبي طالب، وأنس بن مالك، وعبد الرحمن بن سابط، والغازي بن ربيعة، ونحن نسوقها لتقر بها عيون أهل القرآن، وتشجى بها حلوق أهل سماع الشيطان، ثم ساقها كلها. ولولا طلب الاختصار، لنقلتها لك أيها القارئ الكريم، ولكني أحيل الراغب في الاطلاع عليها على كتاب الإغاثة، حتى يرى ويسمع ما تقر به عينه، ويشفي به قلبه، وهو على كثرتها وتعدد مخارجها، حجة ظاهرة، وبرهان قاطع، على تحريم الأغاني والملاهي، والتنفير منها، تضاف   1 أبو داود: الأشربة (3688) , وابن ماجه: الفتن (4020) . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 184 إلى ما تقدم من الآيات والأحاديث، الدالة على تحريم الأغاني والمعازف. ويدل الجميع على أن استعمالها، والاشتغال بها من وسائل غضب الله، وحلول عقوبته، والضلال والإضلال عن سبيله؛ نسأل الله لنا وللمسلمين العافية من ذلك، والسلامة من مضلات الفتن، إنه ولي ذلك والقادر عليه. وأما كلام العلماء في الأغاني والمعازف من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، فهو كثير جدا، وقد سبق لك بعضه. وإليك جملة من كلامهم، على سبيل التكملة والتأييد لما تقدم، والله ولي التوفيق. روى علي بن الجعد وغيره، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: "الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء الزرع" وقد روى ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم مرفوعا والمحفوظ أنه من كلام ابن مسعود رضي الله عنه. قال العلامة بن القيم، رحمه الله، في كتاب: "الإغاثة" لما ذكر هذا الأثر، ما نصه: فإن قيل فما وجه إنباته للنفاق في القلب، من بين سائر المعاصي؟ قيل: هذا من أدل شيء على فقه الصحابة، في أحوال القلوب وأعمالها، ومعرفتهم بأدويتها، وأدوائها، وأنهم: هم أطباء القلوب، دون المنحرفين عن طريقتهم الذين داووا الجزء: 15 ¦ الصفحة: 185 أمراض القلوب بأعظم أدوائها، فكانوا كالمداوي من السقم بالسم القاتل. وهكذا والله فعلوا بكثير من الأدوية التي ركبوها أو بأكثرها، فاتفق قلة الأطباء وكثرة المرضى، وحدوث أمراض مزمنة لم تكن في السلف، والعدول عن الدواء النافع الذي ركبه الشارع، وميل المريض إلى ما يقوى مادة المرض، فاشتد البلاء وتفاقم الأمر، وامتلأت الدور والطرقات والأسواق من المرضى، وقام كل جهول يطبب الناس. فاعلم أن للغناء خواص لها تأثير في صبغ القلب بالنفاق، ونباته فيه كنبات الزرع بالماء. فمن خواصه: أنه يلهي القلب ويصده عن فهم القرآن وتدبره والعمل بما فيه. فإن القرآن والغناء لا يجتمعان في القلب أبدا، لما بينهما من التضاد؛ فإن القرآن ينهى عن اتباع الهوى، ويأمر بالعفة ومجانبة شهوات النفوس وأسباب الغي، وينهى عن اتباع خطوات الشيطان. والغناء يأمر بذلك كله ويحسنة، ويهيج النفوس إلى شهوات الغي، فيثير كامنها، ويزعج قاطنها، ويحركها إلى كل قبيح، ويسوقها إلى وصل كل مليحة ومليح؛ فهو والخمر رضيعا لبان، وفي تهييجهما على القبائح فرسا- رهان؛ فإنه صنو الخمر ورضيعه، ونائبه وحليفه، وخدينه وصديقه، عقد الشيطان بينهما شريعة الوفاء التي لا تفسخ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 186 وهو جاسوس القلب، وسارق المروءة، وسوس العقل، يتغلغل في مكامن القلب، ويطلع على سرائر الأفئدة، ويدب على محل التخيل، فيثير ما فيه من الهوى والشهوة، والسخافة والرقاعة، والرعونة والحماقة. فبينا الرجل وعليه سمة الوقار، وبهاء العقل وبهجة الإيمان، ووقار الإسلام، وحلاوة القرآن، فإذا استمع الغناء ومال إليه، نقص عقله وقل حياؤه، وذهبت مروءته، وفارقه بهاؤه، وتخلى عنه وقاره، وفرح به شيطانه، وشكا إلى الله تعالى إيمانه، وثقل عليه قرآنه، وقال: يا رب لا تجمع بيني وبين قرآن عدوك في صدر واحد. فاستحسن ما كان قبل السماع يستقبحه، وأبدى من سره ما كان يكتمه، وانتقل من الوقار والسكينة، إلى كثرة الكلام والكذب، والهزهزة، والفرقعة بالأصابع، فيميل برأسه، ويهز منكبيه، ويضرب الأرض برجليه، ويدق على أم رأسه بيديه، ويثب وثبات الذباب، ويدور دوران الحمار في الدولاب، ويصفق بيديه تصفيق النسوان، ويخور من الوجد كخوران الثيران، وتارة يتأوه تأوه الحزين، وتارة يزعق زعقات المجانين. ولقد صدق الخبير به من أهله، حيث يقول: أتذكر ليلة وقد اجتمعنا ... على طيب السماع إلى الصباح ودارت بيننا كأس الأغاني ... فأسكرت النفوس بغير راح فلم تر فيهم إلا النشاوى ... سرورا والسرور هناك صاحي الجزء: 15 ¦ الصفحة: 187 إذا نادى أخو اللذات فيه ... ولم نملك سوى المهجات شيئا أجاب اللهو حي على السماح ... أرقناها لألحاظ الملاح وقال بعض العارفين: السماع يورث النفاق في قوم، والعناد في قوم، والكذب في قوم، والفجور في قوم، والرعونة في قوم، وأكثر ما يورث عشق الصور، واستحسان الفواحش؛ وإدمانه يثقل القرآن على القلب، ويكرهه إلى سماعه بالخاصية؛ وإن لم يكن هذا نفاقا فما للنفاق حقيقة. وسر المسألة: أنه قرآن الشيطان كما سيأتي، فلا يجتمع هو وقرآن الرحمن في قلب أبدا، وأيضا: فإن أساس النفاق، أن يخالف الظاهر الباطنوصاحب الغناء بين أمرين: إما أن يتهتك فيكون فاجرا، أو يظهر النسك فيكون منافقا. فإنه يظهر الرغبة في الله والدار الآخرة، وقلبه يغلي بالشهوات، ومحبة ما يكرهه الله ورسوله، من أصوات المعازف، وآلات اللهو، وما يدعو إليه الغناء ويهيجه، فقلبه بذلك معمور، وهو من محبة ما يحبه الله ورسوله، وكراهة ما يكره، قفر؛ وهذا محض النفاق. وأيضا، فمن علامات النفاق: قلة ذكر الله، والكسل عند القيام إلى الصلاة، ونقر الصلاة، وقل أن تجد مفتونا بالغناء إلا وهذا وصفه. وأيضا: فإن النفاق مؤسس على الكذب، والغناء من أكذب الشعر، فإنه يحسن القبيح ويزينه ويأمر به، ويقبح الجزء: 15 ¦ الصفحة: 188 الحسن ويزهد فيه، وذلك عين النفاق. وأيضا: فإن النفاق غش ومكر وخداع، والغناء مؤسس على ذلك. وأيضا: فإن النفاق يفسد من حيث يظن أنه يصلح، كما أخبر الله سبحانه بذلك عن المنافقين. وصاحب السماع يفسد قلبه وحاله من حيث يظن أنه يصلحه، والمغني يدعو القلوب إلى فتنه الشهوات، والمنافق يدعوها إلى فتنة الشبهات. قال الضحاك: "الغناء مفسدة للقلب، مسخطة للرب" وكتب عمر بن عبد العزيز إلى مؤدب ولده:?"ليكن أول ما يعتقدون من أدبك، بغض الملاهي التي بدؤها من الشيطان، وعاقبتها سخط الرحمن". فإنه بلغني عن الثقات من أهل العلم أن صوت المعازف، واستماع الأغاني، واللهج بها، ينبت النفاق في القلب، كما ينبت العشب على الماء فالغناء يفسد القلب، وإذا فسد القلب هاج فيه النفاق. وبالجملة: فإذا تأمل البصير حال أهل الغناء، وحال أهل القرآن، تبين له حذق الصحابة، ومعرفتهم بأدواء القلوب وأدويتها، وبالله التوفيق. وقال ابن القيم، في موضع آخر من الإغاثة: قال الإمام أبو بكر الطرطوشي- وهو من أئمة المالكية- في خطبة كتابه، في تحريم السماع: الحمد لله رب العالمين، والعاقبة الجزء: 15 ¦ الصفحة: 189 للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، ونسأله أن يرينا الحق حقا فنتبعه، والباطل باطلا فنجتنبه. وقد كان الناس فيما مضى يستر أحدهم بالمعصية إذا واقعها، ثم يستغفر الله ويتوب إليه منها، ثم كثر الجهل، وقل العلم، وتناقص الأمر، حتى صار أحدهم يأتي المعصية جهارا. ثم ازداد الأمر إدبارا حتى بلغنا أن طائفة من إخواننا المسلمين- وفقنا الله وإياهم- استزلهم الشيطان، واستغوى عقولهم، في حب الأغاني واللهو، وسماع الطقطقة، والنقير، واعتقدته من الدين الذي يقربهم إلى الله. وجاهرت به جماعة المسلمين، وشاقت سبيل المؤمنين، وخالفت الفقهاء وحملة الدين {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} [سورة النساء آية: 115] . فرأيت أن أوضح الحق، وأكشف عن شبهة أهل الباطل، بالحجج التي تضمنها كتاب الله وسنة رسوله. وأبدأ بذكر أقاويل العلماء الذين تدور الفتيا عليهم، في أقاصي الأرض ودانيها، حتى تعلم هذه الطائفة، أنها قد خالفت علماء المسلمين في بدعتها، والله ولي التوفيق. تم قال أما مالك، فإنه ينهى عن الغناء وعن الجزء: 15 ¦ الصفحة: 190 استماعه، وقال: إذا اشترى جارية فوجدها مغنية، كان له أن يردها بالعيب. وسئل مالك رحمه الله عما رخص فيه أهل المدينه من الغناء؟ فقال: إنما يفعله الفساق. قال: وأما أبو حنيفة فإنه يكره الغناء، ويجعله من الذنوب. وكذلك مذهب أهل الكوفة: سفيان، وحماد، وإبراهيم، والشعبي، وغيرهم، لاختلاف بينهم في ذلك، ولا نعلم خلافا أيضا بين أهل البصرة في المنع منه. انتهى كلام الطرطوشي. قلت: ومراده بالطائفة التي أحبت الغناء، واعتقدته من الدين الذي يقربهم إلى الله: جماعة من الصوفية، أحدثوا بدعة سماع الغناء، وزعموا أنه ينشطهم على العبادة والتقرب إلى الله بأنواع القربات. فأنكر علماء زمانهم عليهم ذلك، وصاحوا بهم من كل جانب. وأجمع علماء الحق على أن ما أحدثته هذه الطائفة، بدعة منكرة. وألف الطرطوشي: كتابه المشار إليه في الرد عليهم، وبيان بطلان مذهبهم. ومن هنا، يعلم القارئ أن المفتونين بسماع الغناء والملاهي طائفتان: الطائفة الأولى: اتخذته دينا وعبادة، وهم شر الطائفتين وأشدهما إثما وخطرا، لكونهم ابتدعوا في الدين ما لم يأذن به الله، وجعلوا الغناء والملاهي اللذين الجزء: 15 ¦ الصفحة: 191 هما أداة الفسق والعصيان دينا يتقربون به إلى الملك الديان. والطائفة الثانية: اتخذوا الغناء والملاهي لهوا ولعبا، وترويحا عن النفوس، وتسليا بذلك عن مشاغل الدنيا وأتعابها؛ وهم مخطئون في ذلك، وعلى خطر عظيم من الضلال والإضلال. ولكنهم أخف من الطائفة الأولى، لكونهم لم يتخذوا ذلك دينا وعبادة؛ وإنما اتخذوه لهوا ولعبا وتجميما للنفوس. وقد صرح أهل العلم بتحريم هذا وهذا، وإنكار هذا وهذا. ثم قال العلامة ابن القيم، رحمة الله عليه، بعدما نقل كلام الطرطوشي المتقدم، ما نصه: قلت: مذهب أبي حنيفة في ذلك من أشد المذاهب، وقوله فيه أغلظ الأقوال، وقد صرح أصحابه بتحريم سماع الملاهي كلها، كالمزمار، والدف، حتى الضرب بالقضيب، وصرحوا بأنه معصية توجب الفسق وترد به الشهادة. وأبلغ من ذلك: أنهم قالوا إن السماع فسق، والتلذذ به كفر. هذا لفظهم، ورووا في ذلك حديثا لا يصح رفعه، قالوا: ويجب عليه أن يجتهد في أن لا يسمعه إذا مر به، أو كان في جواره. وقال أبو يوسف في دار يسمع منها صوت المعازف والملاهي: ادخل عليهم بغير إذنهم، لأن النهي عن المنكر الجزء: 15 ¦ الصفحة: 192 فرض، فلو لم يجز الدخول بغير إذن، لامتنع الناس من إقامة الفرض. قالوا: ويتقدم إليه الإمام إذا سمع ذلك من داره، فإن أصر حبسه أو ضربه سياطا، وإن شاء أزعجه عن داره. وأما الشافعي فقال في كتاب أدب القضاء: إن الغناء لهو مكروه، يشبه الباطل والمحال؛ ومن استكثر منه فهو سفيه ترد شهادته؛ وصرح أصحابه العارفون بمذهبه بتحريمه، وأنكروا على من نسب إليه حله، كالقاضي أبي الطيب الطبري، والشيخ أبي إسحاق، وابن الصباغ. قال الشيخ أبو إسحاق في التنبيه: ولا تصح، يعني- الإجارة- على منفعة محرمة، كالغناء، والزمر، وحمل الخمر، ولم يذكر فيه خلافا. وقال في المهذب: ولا يجوز على المنافع المحرمة، كالغناء، لأنه محرم، فلا يجوز أخذ العوض عنه، كالميتة والدم. فقد تضمن كلام الشيخ أمورا; أحدها: أن منفعة الغناء بمجرده منفعة محرمة. الثاني: أن الاستئجار عليها باطل. الثالث: أن أكل المال به أكل مال بالباطل، بمنْزلة أكله عوضا عن الميتة والدم. الرابع: أنه لا يجوز لرجل بذل ماله للمغني، ويحرم عليه ذلك، فإنه بذل ماله في مقابلة محرم؛ وأن بذله في ذلك، كبذله في مقابلة الدم والميتة. الخامس: أن الزمر حرام، وإذا كان الزمر الذي هو الجزء: 15 ¦ الصفحة: 193 أخف آلات اللهو حراما، فكيف بما هو أشد منه، كالعود، والطنبور، واليراع. ولا ينبغي لمن شم رائحة العلم، أن يتوقف في تحريم ذلك، فأقل ما فيه أنه من شعار العشاق، وشاربي الخمور. وكذلك قال أبو زكريا النووي، في روضته. القسم الثاني: أن يغني ببعض آلات الغناء، بما هو من شعار شاربي الخمر، وهو مطرب، كالطنبور، والعود، والصنج، وسائر المعازف، والأوتار، يحرم استعماله واستماعه. قال: وفي اليراع وجهان، صحح البغوي التحريم، ثم ذكر عن الغزالي الجواز. قال: والصحيح تحريم اليراع، وهو: الشبابة، وقد صنف أبو القاسم الدولعي كتابا في تحريم اليراع. وقد حكى أبو عمرو ابن الصلاح الإجماع على تحريم السماع، الذي جمع الدف، والشبابة، والغناء، فقال في فتاويه: وأما إباحة هذا السماع وتحليله، فليعلم أن الدف والشبابة والغناء، إذا اجتمعت، فاستماع ذلك حرام عند أئمة المذاهب وغيرهم من علماء المسلمين؛ ولم يثبت عن أحد ممن يعتبر بقوله إلى الإجماع والاختلاف، أنه أباح هذا السماع. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 194 والخلاف المنقول عن بعض أصحاب الشافعي، إنما نقل في الشبابة المنفردة، والدف منفردا، فمن لا يحصل أو لا يتأمل، ربما اعتقد اختلافا بين الشافعيين في هذا السماع الجامع هذه الملاهي، وذلك وهم بيّن من الصائر إليه، تنادي عليه أدلة الشرع والعقل، مع أنه ليس كل خلاف يستروح إليه ويعتمد عليه. ومن تتبع ما اختلف فيه العلماء، وأخذ بالرخص من أقاويلهم، تزندق، أو كاد، قال: وقولهم في السماع المذكور أنه من القربات والطاعات، قول مخالف لإجماع المسلمين. ومن خالف إجماعهم، فعليه ما في قوله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} [سورة النساء آية: 115] . وأطال الكلام في الرد على هاتين الطائفتين اللتين بلاء المسلمين منهما، المحللون لما حرم الله، والمتقربون إلى الله بما يباعدهم عنه. والشافعي وقدماء أصحابه، والعارفون بمذهبه، من أغلظ الناس قولا في ذلك، وقد تواترت عن الشافعي، أنه قال: خلفت ببغداد شيئا أحدثته الزنادقة، يسمونه: التغبير، يصدون به الناس عن القرآن. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 195 فإذا كان هذا قوله في التغبير، وتعليله أنه يصد عن القرآن، وهو شعر يزهد في الدنيا، يغني به مغن، فيضرب بعض الحاضرين بقضيب على نطع أو مخدة، على توقيع غنائه، فليت شعري ما يقول فيمن سماع التغبير عنده كتفلة في بحر؟ قد اشتمل على كل مفسدة، وجمع كل محرم، فالله بين دينه، وبين كل متعلم مفتون، وعابد جاهل. قال سفيان بن عيينة: كان يقال: احذروا فتنة العالم الفاجر، والعابد الجاهل، فإن فتنتهما فتنة لكل مفتون، ومن تأمل الفساد الداخل على الأمة، وجده من هذين المفتونين. وأما مذهب الإمام أحمد، فقال عبد الله ابنه: سألت أبي عن الغناء؟ قال: الغناء ينبت النفاق في القلب، لا يعجبني. ثم ذكر قول مالك: إنما يفعله عندنا الفساق. قال عبد الله: وسمعت أبي يقول، سمعت يحيى القطان يقول: لو أن رجلا عمل بكل رخصة، بقول أهل الكوفه في النبيذ، وأهل المدينة في السماع، وأهل مكة في المتعة، لكان فاسقا. قال أحمد: وقال سليمان التيمي: "لو أخذت برخصة كل عالم أو زلة كل عالم، اجتمع فيك الشر كله"، ونص على كسر آلات اللهو، كالطنبور وغيره، إذا رآها مكشوفة وأمكنه كسرها; وعنه في كسرها إذا كانت مغطاة تحت ثيابه وعلم بها روايتان منصوصتان. ونص في أيتام ورثوا جارية مغنية، وأرادوا بيعها الجزء: 15 ¦ الصفحة: 196 فقال: لا تباع إلا على أنها ساذجة، فقالوا: إذا بيعت مغنية ساوت عشرين ألفا أو نحوها، وإذا بيعت ساذجة لا تساوي ألفين، فقال: لا تباع إلا على أنها ساذجة. ولو كانت منفعة الغناء مباحة لما فوت هذا المال على الأيتام. وأما سماعه من المرأة الأجنبية أو الأمرد، فمن أعظم المحرمات، وأشدها فسادا للدين. قال الشافعي رحمه الله: وصاحب الجارية إذا جمع الناس لسماعها، فهو سفيه ترد شهادته؛ وأغلظ القول فيه وقال: هو دياثة، فمن فعل ذلك كان ديوثا. قال القاضي أبو الطيب: وإنما جعل صاحبها سفيها، لأنه دعا الناس إلى الباطل، ومن دعا الناس إلى الباطل كان سفيها فاسقا، قال: وكان الشافعي يكره التغبير وهو الطقطقة بالقضيب ويقول: وضعته الزنادقة ليشغلوا به عن القرآن. قال: وأما العود، والطنبور وسائر الملاهي فحرام، ومستمعه فاسق، واتباع الجماعة أولى من اتباع رجلين مطعون عليهما، قلت: يريد بهما: إبراهيم بن سعد، وعبيد الله بن الحسن. فإنه قال: وما خالف في الغناء إلا رجلان: إبراهيم بن سعد، فإن الساجي حكى عنه أنه كان لا يرى به بأسا، والثاني: عبيد الله بن الحسن العنبري قاضي البصرة، وهو مطعون فيه. انتهى كلام ابن القيم رحمه الله. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 197 ونقل القرطبي في تفسيره عن الطبري ما نصه: فقد أجمع علماء الأمصار على كراهة الغناء، والمنع منه، وإنما فارق الجماعة: إبراهيم بن سعد، وعبيد الله العنبري. انتهى. قلت: وإبراهيم بن سعد، وعبيد الله بن الحسن العنبري، من ثقات أتباع التابعين، ولعل ما نقل عنهما من سماع الغناء، إنما هو في الشيء القليل الذي يزهد في الدنيا، ويرغب في الآخرة؛ وحملهما على أحسن المحامل أولى من حملهما على سماع الغناء المحرم. وهكذا يروى عن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه من سماع الغناء وشراء الجواري المغنيات، يجب أن يحمل على الشيء اليسير الذي لا يصد عن الحق، ولا يوقع في الباطل، مع أن ابن عمر والحسن البصري، قد أنكر عليه ذلك. ومعلوم عند أهل العلم والإيمان أن الحق أولى بالاتباع، وأنه لا يجوز مخالفة الجماعة، والأخذ بالأقوال الشاذة من غير برهان؛ بل يجب حمل أهلها على أحسن المحامل، مهما وجد إلى ذلك سبيل، إذا كانوا أهلا لإحسان الظن بهم، لما عرف من تقواهم وإيمانهم. وسبق لك أيها القارئ قول سليمان التيمي: "لو أخذت برخصة كل عالم، أو زلة كل عالم، اجتمع فيك الشر كله". وذكر القرطبي في تفسيره ما نصه: الجزء: 15 ¦ الصفحة: 198 قال أبو الفرج، وقال القفال من أصحابنا: لا تقبل شهادة المغني والرقاص. قلت: وإذ قد ثبت أن هذا الأمر لا يجوز، فأخذ الأجرة لا يجوز. وقد ادعى ابن عبد البر الإجماع على تحريم الأجرة على ذلك. انتهى ما نقله القرطبي. وهذا آخر ما تيسر إملاؤه في هذه المسألة- أعني: مسألة الأغاني والمعازف- ولو ذهبنا نتتبع ما جاء في ذلك من الأحاديث والآثار، وكلام أهل العلم، لطال بنا الكلام; وفيما تقدم كفاية ومقنع لطالب الحق، وأما صاحب الهوى فلا حيلة فيه. ونسأل الله لنا ولسائر المسلمين التوفيق لما يرضيه، والسلامة من أسباب غضبه وموجبات نقمه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا. ونصيحتي لأبي تراب وغيره، من المشغوفين بالغناء والمعازف، أن يراقبوا الله، ويتوبوا إليه، وأن ينيبوا إلى الحق، لأن الرجوع إلى الحق فضيلة، والتمادي في الباطل رذيلة، ولولا طلب الاختصار، لنبهنا على جميع ما وقع في مقال أبي تراب من الأخطاء. وصاحب البصيرة يعرف ذلك مما تقدم، والله المستعان، وعليه التكلان، ولا حوله ولا قوة إلا بالله، وحسبنا الله ونعم الوكيل، وصلى الله على عبده ورسوله محمد، وآله وصحبه وسلم. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 199 [فصل في اللعب بالكرة وممارسة الألعاب الرياضية] فصل: ومن الملاهي ما يسمونه: "لعب الكرة" لم يكن في عهد الخلفاء، ولا ملوك المسلمين، ولا في هذه الدعوة المباركة، إلى وفاة الشيخ عبد الله. وإنما سرت إلى هذه المملكة، من تلاميذ الغرب، حيث تلقتها بعض الدول المنحلة، عن الترك وغيرهم؛ فقد رغب فيها من قل نصيبه من العلم والدين، ليصدوا بها عن ذكر الله وعن الصلاة، وحتى يترك بعضهم صلاة العصر والمغرب، وحتى قال من لا نصيب له من الإسلام: إن الصلاة رياضة، وهذه بدلها. وقد أنكر ذلك من له غيرة على دين الإسلام، من معلمين وغيرهم، فعسى الله أن يوفق ولاة أمورنا لمنعهم، ويقيموا مكانها، التعليم على آلات الحرب، ليدفعوا عدوهم عن بلادهم، وعسى الله أن يؤيدهم بروح منه، فيقيموا علم الجهاد، مقتفين بذلك آثار آبائهم، الذين جاهدوا في الله حق جهاده، والله الموفق. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 200 [جواب الشيخ محمد بن إبراهيم عن ممارسة الألعاب الرياضية] وقد سئل الشيخ: محمد بن إبراهيم، رحمه الله تعالى، عن ممارسة الألعاب الرياضية، بالقرب من المسجد، هل هي جائزة أم لا؟ وعن حكم الرياضة في الإسلام؟ فأجاب رحمه الله تعالى بما يلي: الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: فالجواب على السؤال الأولى، الخاص بطلب حكم ممارسة الألعاب الرياضية، بالقرب من المسجد، لا يخلو الحال من أمرين، إما أن يكون اللعب بأنواع الرياضات، في وقت الصلاة المكتوبة، أو ما يقارب وقتها قبل دخوله، فهذا لا يجوز بحال؛ وهو من المنكرات الواجب إنكارها، حكمه حكم غيره مما يلهي عن ذكر الله وعن الصلاة. وإما أن تكون ممارسة الألعاب الرياضية في غير أوقات الصلاة، فما كان منها مباحا، كالسباق، والسباحة، والمصارعة، ونضال السهام، وما يشبهه، ونحو هذه الأمور، فإذا لم يكن في ممارستها قرب المسجد، ما يشوش على من في المسجد، من قراء ومصلين ونحوهم، فلا نرى مانعا يمنع جوازه. لما في ممارسة هذه الألعاب، من تنشيط للأبدان، وقلع الأمراض المزمنة فيها، وتقوية لها على الأعمال الخيرية، كالجهاد، والتدريب على الكر والفر. فقد روى البخاري ومسلم في صحيحيهما، عن عائشة الجزء: 15 ¦ الصفحة: 201 رضي الله عنها، أنها قالت: "لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما على باب حجرتي، والحبشة يلعبون فى المسجد، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يسترني بردائه، أنظر إلى لعبهم" 1 وفي رواية لهما: "رأيت النبي صلى الله عليه وسلم والحبشة يلعبون بحرابهم" 2. وفي رواية عند أحمد عن عائشة أنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ: "لتعلم يهود أن في ديننا فسحة، إني أرسلت بحنيفية سمحة" 3 ففي هذا الحديث دليل على جواز اللعب بالحراب في المسجد، لا سيما إذا كان اللعب من أناس يشبهون الحبشة في التأثر بهذه الألعاب. قال المهلب في فتح الباري، في شرح "باب أصحاب الحراب في المسجد": المسجد موضوع لأمر جماعة من المسلمين، فما كان من الأعمال يجمع منفعة الدين وأهله، جاز فيه. وقال النووي في شرح صحيح مسلم: وفيه- أي: في هذا الحديث- جواز اللعب بالسلاح ونحوه، من آلات الحرب، ويقاس عليه ما في معناه، من الأشياء المعينة على الجهاد، وأنواع البر. فما دام الأمر هكذا في نفس المسجد، فما كان بالقرب منه أولى بالجواز، بشرط أن يكون اللعب في غير أوقات الصلوات، وألا يشوش على من في المسجد، من قراء ومصلين ونحوهم، وأن يكون مثمرا منفعة الدين وأهله.   1 البخاري: الصلاة (455) , ومسلم: صلاة العيدين (892) , والنسائي: صلاة العيدين (1594 ,1595) , وأحمد (6/56 ,6/166 ,6/186 ,6/247 ,6/270) . 2 البخاري: الصلاة (455) . 3 أحمد (6/116) . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 202 [حكم الرياضة في الإسلام] أما السؤال: عن حكم الرياضة في الإسلام، فلا شك في جواز، أو استحباب، ما كان منها بريئا هادفا، مما فيه تدريب على الجهاد، وتنشيط للأبدان، وقلع للأمراض، وتقوية للأرواح. فلقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سابق بالأقدام وسابق بين الإبل، وسابق بين الخيل، وحضر نضال السهام، وصارع مع إحدى الطائفتين، وطعن بالرمح، وركب الخيل مسرجة ومعراة، وصارع ركانة فصرعه. وقد بسط الإمام ابن القيم رحمه الله بحث هذا في كتابه: "الفروسية" كما أشار رحمه الله في كتاب زاد المعاد، إلى أن ركوب الخيل، ورمي النشاب، والمصارعة، والمسابقة بالأقدام، كل ذلك رياضة للبدن، قالعة للأمراض المزمنة، كالاستسقاء، والقولنج. ونص شيخه، شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، على حكم الشرع في الكرة نفسها 1 فقال في باب السبق، في مختصر فتاواه: ولعب الكرة إذا كان قصد صاحبه المنفعة للخيل والرجال، بحيث يستعان بها على الكر والفر،   1 الكرة: كثبة, معروفة; وهي: ما أدرت من شيء; وفي الصحاح, هي: التي تضرب بالصولجان; وفي التهذيب: الصولجان عصا يعطف طرفها, يضرب بها الكرة على الدواب. وانظر ما ذكره ابن كثير رحمه الله في البداية والنهاية ج/12 عن سيرة الملك نور الدين محمود زنكي بأنه كان يكثر اللعب بها ... إلخ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 203 والدخول والخروج، ونحوه، في الجهاد، وغرض الاستعانة على الجهاد، الذي أمر الله به رسوله صلى الله عليه وسلم، فهو حسن؛ وإن كان في ذلك مضرة بالخيل أو الرجال، فإنه ينهى عنه. وبمناسبة الحديث عن الألعاب الرياضية، وتعريجنا على اللعب بالكرة، وإيرادنا ما ذكره الشيخ من النهي عن اللعب بها، إذا كان فيه مضرة بالخيل أو الرجال. يحسن أن نغتنم هذه الفرصة لنقول بأن اللعب بالكرة الآن 1 يصاحبه من الأمور المنكرة، ما يقضي بالنهي عن لعبها، هذه الأمور، نلخصها فيما يأتي: أولا: ثبت لدينا مزاولة لعبها في أوقات الصلاة، مما ترتب عليه ترك اللاعبين ومشاهديهم للصلاة، أو الصلاة جماعة، أو تأخيرهم أدائها عن وقتها؛ ولا شك في تحريم أي عمل يحول دون أداء الصلاة في وقتها، أو يفوت فعلها جماعة، ما لم يكن ثم عذر شرعي. ثانيا: ما عن طبيعة هذه اللعبة من التحزبات، أو إثارة الفتن، وتنمية الأحقاد، وهذه النتائج عكس ما يدعو إليه الإسلام من وجوب التسامح، والتآلف والتآخي، وتطهير النفوس والضمائر من الأحقاد، والضغائن والتنافر. ثالثا: ما يصاحب اللعب بها من الأخطار على أبدان اللاعبين بها، نتيجة التصادم والتلاكم، مع ما سبق ذكره،   1 يريد الآلة الحادثة المعبأة بالهواء. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 204 فلا ينتهي اللاعبون بها من لعبتهم في الغالب، دون أن يسقط بعضهم في ميدان اللعب مغمى عليه، أو مكسورة رجله أو يده، وليس أدل على صدق هذا، من ضرورة وجود سيارة إسعاف طبية تقف بجانبهم وقت اللعب بها. رابعا: عرفنا مما تقدم، أن الغرض من إباحة الألعاب الرياضية، تنشيط الأبدان، والتدريب على القتال، وقلع الأمراض المزمنة، ولكن اللعب بالكرة الآن لا يهدف إلى شيء من مبررات إباحة الألعاب الرياضية. وإن هدف إلى شيء من ذلك، فقد اقترن به- مع ما سبق ذكره- ابتزاز المال بالباطل، فضلا عن أنه يعرض الأبدان للإصابات، وينمي في نفوس اللاعبين والمشاهدين الأحقاد وإثارة الفتن. بل قد يتجاوز أمر تحيز بعض المشاهدين لبعض اللاعبين، إلى الاعتداء والقتل، كما حدث في إحدى مباريات جرت في إحدى المدن منذ أشهر، ويكفي هذا بمفرده لمنعها، وبالله التوفيق. انتهى 1.   1 من مجموع: الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله ج/8 , وأضفناه هنا للحاجة إليه. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 205 [قول الشيخ حمود التويجري من التشبه بأعداء الله، اللعب بالكرة] وقال الشيخ: حمود بن عبد الله التويجري، رحمه الله 1: ومن التشبه بأعداء الله تعالى: اللعب بالكرة على الوجه المعمول به عند السفهاء في هذه الأزمان، وذلك: لأن اللعب بها على هذا الوجه، مأخوذ عن الإفرنج وأشباههم من أعداء الله تعالى. وقد رأيت عمل الأمريكان في أخشاب الكرة، ومواضع اللعب بها، ورأيت عمل سفهاء المسلمين في ذلك، فرأيته مطابقا لعمل الأمريكان أتم المطابقة. وقد تقدم حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أن رسوله الله صلى الله عليه وسلم قال: "من تشبه بقوم فهو منهم" 2، وتقدم أيضا حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ليس منا من تشبة بغيرنا" 3. إذا علم هذا، فاللعب بالكرة على الوجه الذي أشرنا إليه، من جملة المنكر الذي ينبغي تغييره، وبيان ذلك من وجوه: أحدها: ما فيه من التشبه بالإفرنج، وأضرابهم من أعداء الله تعالى، وأقل الأحوال في حديث عبد الله بن عمر، وحديث عبد الله بن عمرو، رضي الله عنهم، أنهما يقتضيان تحريم التشبه بأعداء الله تعالى، في كل شيء من زيهم   1 في كتابه: "الإيضاح والتبيين لما وقع فيه الأكثرون من مشابهة المشركين" طبع سنة 1384 هـ. 2 أبو داود: اللباس (4031) . 3 الترمذي: الاستئذان والآداب (2695) . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 206 وأفعالهم، ففيها دليل على المنع من اللعب بالكرة. ويدل على المنع من اللعب بها أيضا: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "خالفوا المشركين" 1 متفق عليه، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، ويدل على المنع منه أيضا، قول النبي صلى الله عليه وسلم: "هدينا مخالف لهدي أهل الأوثان والشرك" رواه الشافعي مرسلا، والحاكم موصولا، من حديث المسور بن مخرمة رضي الله عنهما. الوجه الثاني: ما في اللعب بها من الصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وهذا أمر معروف عند الناس عامتهم وخاصتهم، وربما أوقعت الحقد بين اللاعبين، حتى يؤول بهم ذلك إلى العداوة والبغضاء. وتعاطي ما يصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وما يوقع العداوة والبغضاء بين المسلمين حرام، وقد قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [سورة المائدة آية: 90-91-92] . واللعب بالكرة نوع من الميسر، لأنه يلهي عن ذكر الله وعن الصلاة، وقد روى ابن جرير في تفسيره، من طريق عبيد الله بن عمر، أنه سمع عمر بن عبيد الله، يقول   1 البخاري: اللباس (5892) , ومسلم: الطهارة (259) . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 207 للقاسم بن محمد: النرد ميسر، أرأيت الشطرنج: ميسر هو؟ فقال القاسم: كل ما ألهى عن ذكر الله وعن الصلاة، فهو ميسر، وإذا كان اللعب بالكرة على عوض، فهو من الميسر بلا شك. قال الشيخ: أبو محمد المقدسي في المغني: كل لعب فيه قمار، فهو محرم، أي لعب كان، وهو من الميسر الذي أمر الله تعالى باجتنابه، ومن تكرر منه ذلك ردت شهادته. انتهى. وقد روى ابن جرير في تفسيره عن ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم، أنهما قالا: "الميسر القمار"، وروى أيضا عن مجاهد، وسعيد بن جبير، وطاووس، وعطاء، والحسن، وابن سيرين، والضحاك، وقتادة والسدي، ومكحول، وعطاء بن ميسرة نحو ذلك. وفي رواية له عن مجاهد، وسعيد بن جبير، أنهما قالا: "الميسر: القمار كله، حتى الجوز الذي يلعب به الصبيان"، وفي رواية له عن طاووس وعطاء قالا: "كل قمار فهو من الميسر، حتى لعب الصبيان بالكعاب والجوز". وذكر ابن كثير في تفسيره، عن راشد بن سعد، وضمرة بن حبيب، أنهما قالا: "حتى الكعاب والجوز والبيض، التي يلعب بها الصبيان". وقال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية، رحمه الله الجزء: 15 ¦ الصفحة: 208 تعالى: الميسر محرم بالنص والإجماع. إذا علم هذا، فمن استحل العوض على اللعب بالكرة، فقد استحل ما هو محرم بالنص والإجماع، من الميسر، وأكل المال بالباطل، وقد قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [سورة النساء آية: 29] . وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الله أبى علي أن يدخل الجنة لحما نبت من سحت، فالنار أولى به" 1 رواه الحاكم في مستدركه من حديث عبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنه وقال: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في تلخيصه. وفي المستدرك أيضا، من حديث جابر بن عبد الله، رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يا كعب بن عجرة، إنه لا يدخل الجنة لحم نبت من سحت، النار أولى به" 2 وفي المستدرك أيضا، عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من نبت لحمه من السحت، فالنار أولى به" 3. وفي المستدرك أيضا، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: "من نبت لحمه من السحت، فالنار أولى به"، وروى أبو نعيم في الحلية، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من نبت لحمه من سحت فالنار أولى به" 4.   1 أحمد (3/321 ,3/399) , والدارمي: الرقاق (2776) . 2 أحمد (3/321) , والدارمي: الرقاق (2776) . 3 أحمد (3/399) . 4 أحمد (3/399) . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 209 الوجه الثالث: أن في اللعب بالكرة ضررا على اللاعبين، فربما سقط أحدهم، فتخلعت أعضاؤه، وربما انكسرت رجل أحدهم، أو يده، أو بعض أضلاعه، وربما حصل فيه شجاج في وجهه، أو رأسه، وربما سقط أحدهم فغشي عليه ساعة، أو أكثر أو أقل، بل ربما آل الأمر ببعضهم إلى الهلاك، كما قد ذكر لنا عن غير واحد من اللاعبين بها، وما كان هذا شأنه، فاللعب به لا يجوز. الوجه الرابع: أن اللعب بالكرة من الأشر والمرح، ومقابلة نعم الله تعالى بضد الشكر، وقد قال الله تعالى: {وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً} [سورة الإسراء آية: 37] ، واللعب بالكرة نوع من المرح. وروى البخاري في الأدب المفرد، عن البراء بن عازب رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الأشرة: شر" قال أبو معاوية أحد رواته، الأشرة: العبث، واللعب بالكرة نوع من العبث؛ فلا يجوز. الوجه الخامس: ما في اللعب بها من اعتياد وقاحة الوجوه، وبذاءة الألسن، وهذا معروف عن اللاعبين بها. وقد ألجأني الطريق مرة إلى المرور من عند اللاعبين بها، فسمعت منهم ما تستك منه الأسماع من كثرة الصخب والتخاطب بالفحش، ورديء الكلام، وسمعت بعضهم يقذف الجزء: 15 ¦ الصفحة: 210 بعضا، ويلعن بعضهم بعضا، وما أدى إلى هذا أو بعضه، فهو حرام بلا ريب. الوجه السادس: ما في اللعب بها أيضا، من كشف الأفخاذ، ونظر بعضهم إلى فخذ بعض، ونظر الحاضرين إلى أفخاذ اللاعبين، وهذا لا يجوز، لأن الفخذ من العورة، وستر العورة واجب، إلا من الزوجات والسراري. لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك" 1 رواه الإمام أحمد، وأهل السنن، والحاكم في مستدركه، من حديث بهز بن حكيم، عن أبيه عن جده رضي الله عنه، وقال الترمذي: هذا حديث حسن، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي في تلخيصه. والدليل على أن الفخذ من العورة: ما رواه مالك، وأحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن حبان، والحاكم عن جرهد الأسلمي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم مر به وهو كاشف عن فخذه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"غط فخذك، فإنها من العورة" 2 قال الترمذي: هذا حديث حسن، وقال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في تلخيصه. وروى الإمام أحمد، والترمذي، والحاكم أيضا، عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الفخذ عورة" 3، هذا لفظ الترمذي. ولفظ الحاكم: "مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على رجل، فرأى   1 الترمذي: الأدب (2769) , وابن ماجه: النكاح (1920) . 2 الترمذي: الأدب (2796) . 3 الترمذي: الأدب (2798) , وأبو داود: الحمام (4014) . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 211 فخذه مكشوفة، فقال: غط فخذك، فإن فخذ الرجل من عورته" 1. قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. وروى أبو داود، وابن ماجه، وعبد الله بن الإمام أحمد، والحاكم، عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تكشف فخذك، ولا تنظر إلى فخذ حي ولا ميت" 2، وفي رواية للدارقطني: "لا تكشف عن فخذك، فإن الفخذ من العورة". وروى الإمام أحمد والبخاري في التأريخ الكبير، والحاكم في مستدركه، عن محمد بن عبد الله بن جحش رضي الله عنه قال: "مر النبي صلى الله عليه وسلم وأنا معه، على معمر، وفخذاه مكشوفتان، فقال: يا معمر، غط عليك فخذيك، فإن الفخذين عورة" 3. وروى الدارقطني في سننه، عن أبي أيوب رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "ما فوق الركبتين من العورة، وما أسفل من السرة من العورة" 4. وروى أيضا: من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده، رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما تحت السرة إلى الركبة من العورة". إذا علم هذا، فالنظر إلى عورة الغير حرام، لقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث علي رضي الله عنه: "ولا تنظر إلى فخذ حي ولا ميت" 5.   1 أحمد (1/275) . 2 أبو داود: الحمام (4015) , وابن ماجه: ما جاء في الجنائز (1460) , وأحمد (1/146) . 3 أحمد (5/290) . 4 أحمد (2/187) . 5 أبو داود: الحمام (4015) , وابن ماجه: ما جاء في الجنائز (1460) , وأحمد (1/146) . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 212 ولقوله صلى الله عليه وسلم: "لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل، ولا المرأة إلى عورة المرأة" 1 رواه الإمام أحمد وأهل السنن، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. الوجه السابع: أن اللعب بالكرة من اللهو الباطل قطعا، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "كل ما يلهو به الرجل المسلم باطل، إلا رميه بقوسه، وتأديبه فرسه، وملاعبته أهله؛ فإنهن من الحق" 2 وفي رواية: "وتعليم السباحة" رواه الامام أحمد، وأهل السنن، من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه، وقال الترمذي: هذا حديث حسن، وصححه ابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم، ووافقه الذهبي في تلخيصه. فدل هذا الحديث الصحيح على أن اللعب بالكرة من الضلال، لقول الله تعالى: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ} 3، قال الخطابي، رحمه الله تعالى: في هذا بيان أن جميع أنواع اللهو محظورة، وإنما استثنى رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الخلال من جملة ما حرم منها، لأن كل واحدة منها إذا تأملتها، وجدتها معينة على حق، أو ذريعة إليه، ويدخل في معناها: ما كان من المناقفة بالسلاح، والشد على الأقدام ونحوهما، مما يرتاض به الإنسان، فيتوقح بذلك بدنه، ويتقوى به على مجالدة العدو. فأما سائر ما يتلهى به البطالون، من أنواع اللهو، كالنرد، والشطرنج، والمزاجلة بالحمام، وسائر ضروب   1 مسلم: الحيض (338) , وأحمد (3/63) . 2 الترمذي: فضائل الجهاد (1637) . 3 سورة يونس آية: 32. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 213 اللعب، مما لا يستعان به في حق، ولا يستجم به لدرك واجب، فمحظور كله. انتهى. وقوله: فيتوقح بذلك بدنه، معناه: يصلب بدنه، قال الجوهري: حافر وقاح، أي صلب، وتوقيح الحافر: تصليبه بالشحم المذاب. قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية، رحمه الله تعالى: سائر ما يتلهى به البطالون، من أنواع اللهو، وسائر ضروب اللعب، مما لا يستعان به في حق شرعي، كله حرام. قلت: ومن هذا الباب: اللعب بالكرة، لأنه مجرد لهو ولعب، ومرح وعبث، وأعظم من ذلك: أنه يصد عن ذكر الله، وعن الصلاة، ويوقع العداوة والبغضاء بين اللاعبين، وليس هو مما يستعان به في حق شرعي، ولا يستجم به لدرك واجب، فهو من اللعب المحظور بلا شك، والله أعلم. ثم ذكر الخطابي رحمه الله تعالى: أن من لعب بالشطرنج وقامر به فهو فاسق، ومن لعب به على غير قمار، وحمله الولوع بذلك على تأخير الصلاة عن وقتها، أو جرى على لسانه الخنا والفحش، إذا عالج شيئا منه فهو ساقط المروءة، مردود الشهادة. انتهى. وما قاله في اللاعبين بالشطرنج، يقال مثله في اللاعبين الجزء: 15 ¦ الصفحة: 214 بالكرة، ويزيد أهل الكرة على أهل الشطرنج، بالمرح والأشر، والتعرض لأنواع الضرر؛ فاللعب بها شر من اللعب بالشطرنج، وأعظم منها ضررا. ومن العجب أن هذا اللعب الباطل، قد جعل في زماننا من الفنون التي تدرس في المدارس، ويعتنى بتعلمه وتعليمه، أعظم مما يعتني بتعلم القرآن، والعلم النافع، وتعليمهما. وهذا دليل على اشتداد غربة الإسلام في هذا الزمان، ونقص العلم فيه، وظهور الجهل بما بعث الله به رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم حتى عاد المعروف عند الأكثرين منكرا، والمنكر معروفا، والسنة بدعة، والبدعة سنة. وهذا من مصداق الحديث المتفق على صحته، عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن من أشراط الساعة، أن يرفع العلم، ويظهر الجهل ... " 1 الحديث. واللعب بالكرة، والاعتناء بتعلمه وتعليمه في المدارس وغيرها، من ظهور الجهل بلا شك، عند من عقل عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. وما أشبه المفتونين باللعب بالكرة، بالذين قال الله تعالى فيهم: {وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} 2.   1 البخاري: الحدود (6808) , ومسلم: العلم (2671) , والترمذي: الفتن (2205) , وابن ماجه: الفتن (4045) , وأحمد (3/176 ,3/202 ,3/213) . 2 سورة الأنعام آية: 70. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 215 وقد قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية، رحمه الله تعالى: إن العلوم المفضولة إذا زاحمت العلوم الفاضلة، وأضعفتها، فإنها تحرم، انتهى. وإذا كان الأمر هكذا في العلوم المفضولة مع العلوم الفاضلة، فكيف باللعب بالكرة، إذا زاحم العلوم الفاضلة وأضعفها، كما هو الواقع في زماننا؟! مع أن اللعب بالكرة ليس بعلم، وإنما هو لهو ومرح، وأشر وبطر، فيجب المنع منه لما ذكرنا، ولما فيه من التشبه بأعداء الله تعالى، كما تقدم بيانه، والله أعلم. وإذا علم هذا: فمن أهدى لبعض اللاعبين بالكرة شيئا، من أجل حذقه في اللعب بها، فقد أعان على الباطل، وكذلك من صنع لهم مأكولا، أو مشروبا، أو أحضره لهم، فهو معين لهم على الباطل. وقد قال الله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} 1. وقال شيخ الإسلام: أبو العباس ابن تيمية، رحمه الله تعالى: ولعب الكرة إذا كان قصد صاحبه المنفعة للخيل والرجال، بحيث يستعان بها على الكر والفر، والدخول والخروج، ونحوه في الجهاد، وغرضه الاستعانة على الجهاد، الذي أمر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم، فهو حسن؛ وإن   1 سورة المائدة آية: 2. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 216 كان في ذلك مضرة بالخيل والرجال، فإنه ينهى عنه. انتهى. وقال الشيخ: حمود: فصل، فإن ادعى المتشبهون بأعداء الله تعالى، أنهم إنما يريدون باللعب بالكرة: رياضة الأبدان، لتعتاد على النشاط والصلابة. فالجواب أن يقال: إن الله تعالى قد جعل للمسلمين في الرياضات الشرعية غنية ومندوحة عن الرياضات الإفرنجية، فمن ذلك: المسابقة على الخيل؛ وقد سابق النبي صلى الله عليه وسلم بينها، وفعل ذلك أصحابه، والمسلمون بعدهم. وفي الصحيحين، والموطأ، ومسند الإمام أحمد، والسنن الأربع، عن ابن عمر رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "سابق بين الخيل التي ضمرت، من الحفياء، وأمدها ثنية الوداع، وسابق بين الخيل التي لم تضمر، من الثنية إلى مسجد بني زريق، وأن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، كان فيمن سابق بها" 1. وفي رواية لأحمد، والدارقطني، قال عبد الله: فكنت فارسا يومئذ، فسبقت الناس، طفف بي الفرس مسجد بني زريق، ورواه مسلم بنحوه. قال ابن الأثير: طفف بي الفرس مسجد بني زريق، أي: وثب بي حتى كاد يساوي المسجد، يقاله: طففت بفلان موضع كذا، أي: رفعته إليه، وحاذيته به. وقال النووي: طفف بي الفرس المسجد، أي: علا ووثب إلى المسجد، وكان جداره قصيرا.   1 البخاري: الصلاة (421) , ومسلم: الإمارة (1870) , والنسائي: الخيل (3583 ,3584) , وأبو داود: الجهاد (2575) , وأحمد (2/55) , ومالك: الجهاد (1017) , والدارمي: الجهاد (2429) . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 217 قلت: وقد جاء ذلك في رواية للدارقطني، ولفظه: قال عبد الله: فجئت سابقا، فطفف بي الفرس حائط المسجد، وكان قصيرا وفي رواية له، قال: فوثب بي الجدار. قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: في الحديث: مشروعية المسابقة، وأنه ليس من العبث، بل من الرياضة المحمودة، الموصلة إلى تحصيل المقاصد في الغزو، والانتفاع بها عند الحاجة؛ وهي دائرة بين الاستحباب، والإباحة، بحسب الباعث على ذلك. انتهى. وروى الإمام أحمد أيضا، والدارمي والدارقطني، والبيهقي، عن أنس، رضي الله عنه أنه قيل له: "أكنتم تراهنون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يراهن؟ قال: نعم، والله لقد راهن رسول الله صلى الله عليه وسلم على فرس له، يقال له "سبحة"، فجاءت سابقة، فبش لذلك وأعجبه" 1. وروى البيهقي أيضا عن ابن عمر رضي الله عنهما، أنه سئل: "أكنتم تراهنون على عهد رسول الله؟ قال: نعم، لقد راهن على فرس يقال لها "سبحة"، فجاءت سابقة" 2. قال ابن منظور في لسان العرب: المراهنة والرهان: المسابقة على الخيل، وغير ذلك، وكذا قال صاحب القاموس: المراهنة والرهان: المخاطرة والمسابقة على الخيل، وقوله: فبش لذلك، معناه: فرح به، وارتاح له.   1 أحمد (3/160) , والدارمي: الجهاد (2430) . 2 أحمد (3/160 ,3/256) , والدارمي: الجهاد (2430) . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 218 وفي سنن الدارقطني، عن علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يا علي قد جعلت إليك هذه السبقة بين الناس. فخرج علي رضي الله عنه فدعا سراقة بن مالك، فقال: يا سراقة إني قد جعلت إليك ما جعل النبي صلى الله عليه وسلم في عنقي من هذه السبقة. فإذا أتيت الميطان- قال أبو عبد الرحمن: والميطان مرسلها من الغاية- فصف الخيل، ثم ناد: هل من مصلح للجام، أو حامل لغلام، أو طارح لجل؟ فإذا لم يجبك أحد، فكبر ثلاثا، ثم خلها عند الثالثة، يسعد الله بسبقه من شاء من خلقه". فكان علي رضي الله عنه يقعد عند منتهى الغاية، ويخط خطا يقيم رجلين متقابلين عند طرف الخط، طرفه بين إبهامي أرجلهما، وتمر الخيل بين الرجلين، ويقول لهما: "إذا خرج أحد الفرسين على صاحبه بطرف أذنيه، أو أذن، أو عذار، فاجعلوا السبقة له فإن شككتما، فاجعلا سبقهما نصفين، فإذا قرنتم ثنتين، فاجعلوا الغاية من غاية أصغر الثنتين، ولا جلب، ولا جنب، ولا شغار في الإسلام". وفي المسند، وصحيح ابن حبان، عن عياض الأشعري، قال: "قال أبو عبيدة رضي الله عنه من يراهنني؟ فقال شاب: أنا إن لم تغضب، قال: فسبقه، فرأيت الجزء: 15 ¦ الصفحة: 219 عقيصتي أبي عبيدة تنقزان، وهو خلفه على فرس عربي". [من الرياضات الشرعية المسابقة على الإبل] ومن الرياضات الشرعية أيضا: المسابقة على الإبل، وقد فعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفعله أصحابه والمسلمون بعدهم. وفي صحيح البخاري، والمسند، وسنن أبي داود، والنسائي، عن حميد الطويل، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "كان للنبي صلى الله عليه وسلم ناقة تسمى "العضباء" لا تسبق، أو لا تكاد تسبق، فجاء أعرابي على قعود فسبقها، فشق ذلك على المسلمين حتى عرفه، فقال: حق على الله أن لا يرتفع شيء من الدنيا إلا وضعه" 1. وفي رواية للنسائي، عن حميد، عن أنس رضي الله عنه قال: "سابق رسول الله صلى الله عليه وسلم أعرابي فسبقه، فكأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجدوا في أنفسهم من ذلك، فقيل له في ذلك، فقال: حق على الله أن لا يرفع شيء نفسه في الدنيا إلا وضعه الله" 2، وكذا رواه الدارقطني في سننه، من طريق النسائي. وفي رواية لأبي داود، عن ثابت البناني، عن أنس رضي الله عنه قال: "كانت العضباء لا تسبق، فجاء أعرابي على قعود له، فسابقها فسبقها الأعرابي، فكأن ذلك شق على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: حق على الله عز وجل أن لا يرفع شيء إلا وضعه" 3، ورواه البخاري تعليقا.   1 البخاري: الجهاد والسير (2872) , والنسائي: الخيل (3588) , وأبو داود: الأدب (4802) , وأحمد (3/103 ,3/253) . 2 النسائي: الخيل (3592) . 3 البخاري: الجهاد والسير (2872) والرقاق (6501) , والنسائي: الخيل (3588) , وأبو داود: الأدب (4802) , وأحمد (3/103 ,3/253) . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 220 وفي سنن الدارقطني عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "كانت ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم القصوى، لا تدفع في سباق إلا سبقت، قال سعيد بن المسيب: فجاء رجل فسابقها فسبقها، فوجد الناس من ذلك أن سبقت ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبلغ ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن الناس لم يرفعوا شيئا من هذه الدنيا إلا وضعه الله عز وجل". وفي رواية له، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "كانت القصوى لا تسبق، فجاء أعرابي على بكر، فسابقه فسبقها فشق ذلك على المسلمين، فقالوا: يا رسول الله، سبقت العضباء، وقال النبي صلى الله عليه وسلم إنه حق على الله أن لا يرفع شيئا من الأرض إلا وضعه" 1. قال ابن القيم رحمه الله تعالى: تأمل قوله: "أن لا يرفع شيء" وفي اللفظ الثاني "أن لا يرتفع شيء من الدنيا إلا وضعه" فجعل الوضع لما رفع أو ارتفع، لا لما رفعه سبحانه، فإنه سبحانه إذا رفع عبده بطاعته وأعزه بها، لا يضعه بها. انتهى. [من الرياضات الشرعية المسابقة على الأقدام] ومن الرياضات الشرعية أيضا: المسابقة على الأقدام، وقد فعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفعله أصحابه والمسلمون بعدهم. وروى الشافعي، وأحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، وابن حبان، والبيهقي، عن عائشة رضي الله عنها:   1 البخاري: الرقاق (6501) , والنسائي: الخيل (3588) , وأبو داود: الأدب (4802) , وأحمد (3/103 ,3/253) . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 221 أنها كانت مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، قالت: فسابقته فسبقته على رجلي، فلما حملت اللحم سابقته، فسبقني، فقال: "هذه بتلك السبقة". وفي رواية: "أنهم كانوا في سفر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: تقدموا، فتقدموا. ثم قال لعائشة: سابقيني، فسابقها، فسبقته، ثم سافرت معه مرة أخرى، فقال لأصحابه: تقدموا، ثم قال: سابقيني، فسبقته، ثم سابقني وسبقني فقال هذه بتلك" 1. وفي المسند وصحيح مسلم عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه في حديثه الطويل، في غزوة ذي قرد، قال: "ثم أردفني رسول الله صلى الله عليه وسلم وراءه على العضباء، راجعين إلى المدينة، قال: فبينما نحن نسير، قال: وكان رجل من الأنصار، لا يسبق شدا، قال فجعل يقول: ألا مسابق إلى المدينة؟ هل من سابق؟ فجعل يعيد ذلك. قال: فلما سمعت كلامه، قلت: أما تكرم كريما، ولا تهاب شريفا؟ قال: لا، إلا أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: قلت: يا رسول الله، بأبي وأمي ذرني فلأسابق الرجل، قال: إن شئت، قال: قلت: أذهب إليك، وثنيت رجلي، فطفرت فعدوت. قال: فربطت عليه شرفا أو شرفين أستبقي نفسي، ثم عدوت في أثره فربطت عليه شرفا أو شرفين، ثم إني رفعت حتى ألحقه، قال: فأصكه بين كتفيه، قال: قلت: قد سبقت   1 أبو داود: الجهاد (2578) , وأحمد (6/39) . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 222 والله، قال: أنا أظن، قال: فسبقته إلى المدينة" 1. قال النووي: قوله: شدا، يعني: عدوا على الرجلين، وقوله: فطفرت، أي: وثبت وقفزت، وقوله: فربطت عليه شرفا أو شرفين أستبقى نفسي، معنى ربطت: حبست نفسي عن الجري الشديد. والشرف: ما ارتفع من الأرض، وقوله: أستبقي نفسي بفتح الفاء، أي: لئلا يقطعني البهر. وفي هذا دليل لجواز المسابقة على الأقدام، وهو جائز بلا خلاف إذا تسابقا بلا عوض، فإن تسابقا على عوض ففي صحتها خلاف، الأصح عند أصحابنا: لا تصح، قلت: وهو مذهب مالك وأحمد. [من الرياضات الشرعية المصارعة] ومن الرياضات الشرعية أيضا: المصارعة، وقد روى أبو داود، والترمذي، والبخاري في التأريخ، من حديث أبي جعفر بن محمد بن ركانة، عن أبيه: "أن ركانة صارع النبي صلى الله عليه وسلم فصرعه النبي صلى الله عليه وسلم" 2 قال الترمذي: هذا حديث غريب، وإسناده ليس بالقائم، قال الحافظ ابن حجر العسقلاني في الإصابة: وقصة الصراع مشهورة لركانة. لكن جاء من وجه آخر: أنه يزيد بن ركانة، فأخرج الخطيب في المؤتلف من طريق أحمد بن عتاب العسكري، حدثنا حفص بن عمر، حدثنا حماد بن سلمة، عن عمرو بن دينار، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما،   1 مسلم: الجهاد والسير (1807) , وأحمد (4/52) . 2 أبو داود: اللباس (4078) . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 223 قال: "جاء يزيد بن ركانة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومعه ثلاثمائة من الغنم، فقال: يا محمد، هل لك أن تصارعني؟ قال: وما تجعل لي إن صرعتك؟ قال: مائة من الغنم، فصارعه فصرعه. ثم قال: هل لك في العود؟ فقال: ما تجعل لي؟ قال مائة أخرى، فصارعه فصرعه. وذكر الثالثة، فقال: يا محمد، ما وضع جنبي في الأرض أحد قبلك، وما كان أحد أبغض إلي منك، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله. فقام عنه، ورد عليه غنمه". وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: روى أبو بكر الشافعي بإسناد جيد، عن ابن عباس رضي الله عنهما: "أن يزيد بن ركانة صارع النبي صلى الله عليه وسلم فصرعه النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات، كل مرة على مائة من الغنم" 1 وذكر بقية القصة بمثل ما في رواية الخطيب. وذكر ابن إسحاق: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعرض غلمان الأنصار، فمر به غلام فأجازه في البعث. وعرض عليه سمرة بن جندب رضي الله عنه فرده، فقال: لقد أجزت هذا، ورددتني، ولو صارعته لصرعته. قال: فدونكه، فصارعه فصرعه سمرة، فأجازه" ورواه ابن عبد البر في الاستيعاب بنحوه. [من الرياضات الشرعية الرمي] ومن الرياضات الشرعية أيضا: الرمي ونحوه، مما فيه إعانة على الجهاد في سبيل الله عز وجل؛ وقد روى الإمام   1 الترمذي: اللباس (1784) , وأبو داود: اللباس (4078) . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 224 أحمد، والبخاري، عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: "مر النبي صلى الله عليه وسلم على نفر من أسلم ينتضلون، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ارموا بني إسماعيل، فإن أباكم كان راميا، ارموا وأنا مع بني فلان. قال: فأمسك أحد الفريقين بأيديهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما لكم لا ترمون؟ قالوا: كيف نرمي وأنت معهم؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ارموا وأنا معكم كلكم" 1. قال الجوهري: ناضله، أي: راماه، يقال: ناضلت فلانا فنضلته إذا غلبته، وانتضل القوم، وتناضلوا، أي: رموا للسبق، وفلان يناضل عن فلان، إذا تكلم عنه بعذره ودافع. وقال الإمام أحمد، رحمه الله تعالى، في مسنده: حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا سفيان، عن الأعمش، عن زياد بن حصين، عن أبي العالية، عن ابن عباس، رضي الله عنهما، قال: "مر النبي صلى الله عليه وسلم بنفر يرمون، فقال رميا بني إسماعيل، فإن أباكم كان راميا" 2. ورواه ابن ماجه في سننه، عن محمد بن يحيى، والحاكم في مستدركه، من طريق إسحاق بن إبراهيم الصنعاني، وأحمد بن حنبل، كلهم عن عبد الرزاق به، وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في تلخيصه.   1 البخاري: الجهاد والسير (2899) , وأحمد (4/50) . 2 أحمد (1/364) . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 225 وروى الحاكم أيضا: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "خرج النبي صلى الله عليه وسلم وقوم من أسلم يرمون، فقال: ارموا بني إسماعيل، فإن أباكم كان راميا، وأنا مع ابن الأدرع، فأمسك القوم قسيهم، فقالوا: يا رسول الله من كنت معه غلب، قال: أرموا وأنا معكم كلكم" 1 قال الحاكم صيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي في تلخيصه. وروى الحاكم أيضا: عن محمد بن إياس بن سلمة، عن أبيه، عن جده، رضي الله عنه: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر على ناس ينتضلون، فقال: حسن هذا اللهم، مرتين أو ثلاثا، ارموا وأنا مع ابن الأدرع، فأمسك القوم بأيديهم، فقالوا: لا والله لا نرمي معه، وأنت معه يا رسول الله، إذاً ينضلنا، فقال: ارموا وأنا معكم جميعا. قال: فلقد رموا عامة يومهم ذلك، ثم تفرقوا على السواء، ما نضل بعضهم بعضا" قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في تلخيصه. وروى الإمام أحمد، وأهل السنن، من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الله يدخل بالسهم الواحد ثلاثة نفر الجنة: صانعه الذي يحتسب في صنعته الخير، والذي يجهز به في سبيل الله، والذي يرمي به في سبيل الله. وقال: ارموا، واركبوا، وأن ترموا خير لكم من أن   1 البخاري: الجهاد والسير (2899) , وأحمد (4/50) . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 226 تركبوا. وقال: كل شيء يلهو به ابن آدم فهو باطل، إلا ثلاثا: رميه عن قوسه، وتأديبه فرسه، وملاعبته أهله؛ فإنهن من الحق" 1 قال الترمذي: هذا حديث حسن، وصححه ابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم، ووافقه الذهبي في تلخيصه. وعند الحاكم في أوله قصة، ولفظه عن خالد بن زيد الجهني، قال: "كنت راميا أرامي عقبة بن عامر رضي الله عنه، فمر بي ذات يوم، فقال: يا خالد اخرج بنا نرمي فأبطأت عليه. فقال: يا خالد، تعال أحدثك ما حدثني رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقول لك كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. إن الله يدخل بالسهم الواحد ثلاثة نفر الجنة: صانعه الذي احتسب في صنعته الخير، ومنبله، والرامي. ارموا واركبوا، وأن ترموا أحب إلي من أن تركبوا، وليس من اللهو إلا ثلاثة: تأديب الرجل فرسه، وملاعبته زوجته، ورميه بنبله عن قوسه، ومن علم الرمي ثم تركه، فهي نعمة كفرها" وقد رواه سعيد بن منصور، والنسائي بنحو هذا اللفظ. وفي رواية أبي داود: "ومن ترك الرمي بعد ما علمه، رغبة عنه، فإنها نعمة تركها" 2 أو قال: "كفرها"، ورواه أبو داود الطيالسي، والدارمي في مسنديهما بنحو ما تقدم،   1 النسائي: الخيل (3578) , وأبو داود: الجهاد (2513) , وأحمد (4/148) , والدارمي: الجهاد (2405) . 2 النسائي: الخيل (3578) , وأبو داود: الجهاد (2513) , وأحمد (4/148) , والدارمي: الجهاد (2405) . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 227 وعندهما في آخره وقال: "من ترك الرمي بعد ما علمه، فقد كفر الذي علمه" 1. وفي صحيح مسلم عن الحارث بن يعقوب، عن عبد الرحمن بن شماسة "أن فقيما اللخمي، قال لعقبة بن عامر رضي الله عنه: تختلف بين هذين الغرضين، وأنت كبير يشق عليك؟ قال عقبة: لولا كلام سمعته من رسوله الله صلى الله عليه وسلم لم أعانه، قال الحارث: فقلت لابن شماسة: وما ذاك؟ قال: إنه قال: من علم الرمي ثم تركه فليس منا، أو قد عصى" 2. وفي المسند، وصحيح مسلم، وجامع الترمذي، عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ستفتح عليكم أرضون، ويكفيكم الله، فلا يعجز أحدكم أن يلهو بسهمه" 3. وفي المسند أيضا: عن أبي أمامة بن سهل، قال: "كتب عمر رضي الله عنه إلى أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه أن علموا غلمانكم العوم، ومقاتلتكم الرمي. فكانوا يختلفون إلى الأغراض ... الحديث" قال أهل اللغة: العوم: السباحة. وروى عبد الله بن الإمام أحمد في زوائد الزهد، وأبو نعيم في الحلية عن بلال بن سعد رحمه الله تعالى قال: "أدركتهم يشتدون بين الأغراض، ويضحك بعضهم إلى بعض، فإذا كان الليل كانوا رهبانا".   1 أحمد (4/144) , والدارمي: الجهاد (2405) . 2 مسلم: الإمارة (1919) , وابن ماجه: الجهاد (2814) . 3 مسلم: الإمارة (1918) , وأحمد (4/157) . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 228 وذكر الشيخ: أبو محمد المقدسي في المغني، عن مجاهد قال: "رأيت ابن عمر رضي الله عنهما يشتد بين الهدفين، إذا أصاب خصلة، قال: أنا بها أنا بها" وعن حذيفة رضي الله عنه مثله، وذكر الطبراني عن مصعب بن سعد قال: "كان سعد رضي الله عنه يقول: أي بني تعلموا الرماية، فإنها خير لعبكم". وذكر الشيخ أبو محمد المقدسي أيضا: عن مجاهد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الملائكة لا تحضر من لهوكم إلا الرهان، والنضال" قال الأزهري: النضال في الرمي، والرهان في الخيل، والسباق فيهما. وذكر الشيخ أيضا: "أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقوم يربعون حجرا، يعني: يرفعونه، ليعرفوا الأشد منهم، فلم ينكر عليهم". قال القرطبي: لا خلاف في جواز المسابقة على الخيل وغيرها من الدواب، وعلى الأقدام، وكذا الترامي بالسهام، واستعماله الأسلحة، لما في ذلك من التدريب على الحرب. انتهى. فهذا ما تيسر ذكره من رياضات المسلمين ولهوهم المباح، وفيها كفاية لكل مسلم. ومن لم يكتف بالرياضات الشرعية، ولم يسعه ما وسع السلف الصالح، فلا كفاه الله، ولا وسع عليه في الدنيا والآخرة، ومن آثر الرياضات الإفرنجية على الرياضات الجزء: 15 ¦ الصفحة: 229 الشرعية، فذلك عنوان على زيغ قلبه، عياذا بالله من موجبات غضبه. [فصل في أن من أعظم الملاهي وأشدها فسادا التلفزيون] فصل: وأعظم من ذلك وأدهى وأمر، وأشد فسادا للأديان والأخلاق، وفساد العوائل: ما حدث في هذا العصر، وهو: ما يسمونه: "التلفزيون" وكلام الشيخ عبد الله بن محمد بن حميد، فيه كفاية عن التدليل على قبحه، وعظيم مفسدته. قال رحمه الله: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستهديه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ به من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق، صلى الله عليه، وعلى آله وأصحابه، ما همع وبل، وومض وبرق. وبعد: فقد كثر التساؤل عن حكم هذه الآلة، المعروفة بالتلفزيون، هل يجوز اتخاذها واستعمالها؟ أم أن ذلك ممنوع شرعا؟ وقد تنوعت الأسئلة في ذلك، إلا أنها ترجع إلى شيء واحد، وهو: أن هذه الآلة، آلة تثقيف وتعليم تارة، وآلة شر وبلاء أخرى، لما يعرض على شاشتها، مما يضعه الجزء: 15 ¦ الصفحة: 230 المخططون لبرامجه، فأقول مستعينا بالله معتمدا عليه: لا شك أن هذه الآلة المعروفة بالتلفزيون، التي انتشرت في كثير من البلاد، واستعملها الكثيرون من الناس في بيوتهم، وبين فتيانهم وفتياتهم، حتى عمت الأندية والمجالس العامة. وقبل أن نتكلم على حكمها، ونبين مضارها ومفاسدها، لابد من مقدمة قبل ذلك، نبين فيها ما ينبغي للمسلم التنبه له، من بيان حكم اللهو الممنوع، وتقسيم القلوب، وإشراب بعضها بالفتن ومحبتها لها، وإنكار البعض لها، واستنارتها بنور الإيمان. المقدمة روى أبو داود والترمذي والنسائي، والحاكم، وقالت صحيح الإسناد عن عقبة بن عامر، رضي الله عنه أن رسوله الله صلى الله عليه وسلم قال: "كل ما يلهو به الرجل المسلم باطل، إلا رميه بقوسه، وتأديبه فرسه، وملاعبته أهله، فإنهن من الحق" 1. في هذا الحديث دليل، على أن كل لهو يلهوه ابن آدم فهو باطل، أي: محرم ممنوع، ما عدا هذه الثلاثة، التي استثناها رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنها من الحق، أو وسيلة إليه؛ قال الخطابي في معالم السنن، قوله: "ليس من اللهو إلا ثلاث" 2 يريد ليس من اللهو المباح إلا ثلاث؛ وقد جاء معنى ذلك   1 الترمذي: فضائل الجهاد (1637) . 2 النسائي: الخيل (3578) , وأبو داود: الجهاد (2513) , وأحمد (4/146 ,4/148) . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 231 مفسرا في الحديث من رواية أخرى. قلت: وفي هذا بيان أن جميع أنواع اللهو محظورة، وإنما استثنى رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الخلال، من جملة ما حرم منها، لأن كل واحدة منها، إذا تأملتها وجدتها معينة على حق، أو ذريعة إليه. ويدخل في معناها: ما كان من المناقفة بالسلاح، والشد على الأقدام ونحوها، مما يرتاض به الإنسان، فيتوقح بذلك بدنه، ويتقوى به على مجالدة العدو. فأما سائر ما يتلهى به البطالون، من أنواع اللهو كالنرد، والشطرنج، والمزاجلة بالحمام، وسائر ضروب اللعب، مما لا يستعان به في حق، ولا يستجم به لدرك واجبه، فمحظور كله. وقال الشوكاني، فيه: أن ما صدق عليه مسمى اللهو، داخل في حيز البطلان، إلا تلك الثلاثة الأمور، فإنها وإن كانت في صورة اللهو، فهي طاعات مقربة إلى الله عز وجل، مع الالتفات إلى ما يترتب على ذلك الفعل من النفع الديني ... إلخ. وقال شيخ الإسلام ابن تيميه، رحمه الله، في الكلام على حديث عقبة: "كل لهو يلهو به الرجل فهو باطل ... " 1 الحديث، ما معناه: الباطل ضد الحق، فكل ما لم يكن حقا، أو وسيلة إليه، ولم يكن نافعا، فإنه باطل، مشغل   1 أحمد (4/144) , والدارمي: الجهاد (2405) . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 232 للوقت، مفوت على الإنسان ما ينفعه في دينه ودنياه، فيستحيل على الشرع إباحة مثل هذا. فهذا كلام العلماء، رحمهم الله، في اللهو الباطل، من أنه محرم، في حين أنه مقصور على صاحبه، ولم يكن بصورة عامة فاتنة، للكثيرين من الناس في قعر بيوتهم، مما يعرض على شاشة التلفزيون، من المناظر الفاتنة، والحفلات الداعرة، والمراقص الماجنة، واختلاط الرجال بالنساء، ومعانقة كل منهم الآخر، بدون حياء ولا خجل. وبانتشار فظيع في كل بيت، وفي كل مكان، ينظر إليه البطالون، فيفسد أخلاقهم، ويقتل غيرتهم الدينية، ومروءتهم العربية، أين هذا من اللهو الباطل، المقصور على صاحبه؟ مما لم يكن بهذا الشكل، ولا هذه الكيفية؟ فالله المستعان. قال حذيفة بن اليمان، رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تعرض الفتن على القلوب كعرض الحصير، عودا عودا، فأي قلب أشربها نكتت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نكتت فيه نكتة بيضاء، حتى تعود القلوب على قلبين: قلب أسود مربادا، كالكوز مجخيا، لا يعرف معروفا، ولا ينكر منكرا، إلا ما أشرب من هواه، وقلب أبيض، فلا تضره فتنة، ما دامت السماوات والأرض". قال ابن القيم: فشبه عرض الفتن على القلوب شيئا فشيئا، كعرض عيدان الحصير- وهي: طاقاتها- شيئا فشيئا، وقسم القلوب عند عرضها عليها إلى قسمين: الجزء: 15 ¦ الصفحة: 233 قلب إذا عرضت عليه فتنة أشربها، كما يشرب الإسفنج الماء، فتنكت فيه نكتة سوداء؛ فلا يزال يشرب كل فتنة تعرض عليه حتى يسود وينتكس، وهو معنى قوله: كالكوز مجخيا، أي: منكوسا. فإذا اسود وانتكس، عرض له من هاتين الآفتين، خطران متراميان به إلى الهلاك: أحدهما: اشتباه المعروف عليه بالمنكر، فلا يعرف معروفا، ولا ينكر منكرا؛ وربما استحكم عليه هذا المرض، حتى يعتقد المعروف منكرا، والمنكر معروفا، والسنة بدعة، والبدعة سنة، والحق باطلا، والباطل حقا. الثاني: تحكيمه هواه على ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وانقياده للهوى واتباعه له. وقلب أبيض قد أشرق فيه نور الإيمان، وأزهر مصباحه، فإذا عرضت عليه الفتنة أنكرها وردها، فازداد نوره وإشراقه وقوته. والفتن التي تعرض على القلوب هي أسباب مرضها، وهي: فتن الشهوات، وفتن الشبهات، فتن الغي والضلال، فتن المعاصي والبدع، فتن الظلم والجهل، فالأولى: توجب فساد القصد والإرادة، والثانية: توجب فساد العلم والاعتقاد. انتهى. فالقلوب نوعان: قلب إذا عرضت عليه الفتنة، أشربها الجزء: 15 ¦ الصفحة: 234 وحبها، ومال إليها وأيدها، وقلب: ينكرها، ويبغضها، ويحذر منها، فذلك مثل ما يعرض على شاشة التلفزيون، من الفتن المهلكة، والمناظر الضارة، والمراقص والحفلات، والتمثيليات، وغيرها. قلب يألفها ويحبها ويدعو إليها، فهذا القلب قد اسود وماتت غيرته، واستحكم مرضه. وقلب ينكرها وينفر منها ويحذر عنها، فذلك القلب الأبيض الذي أشرق بنور الإيمان، وهو معنى ما تقدم في خبر حذيفة. وقال أيضا: ومن حيل الشيطان ومكايده: الكلام الباطل، والآراء المتهافتة، والخيالات المتناقضة، التي هي زبالة الأذهان، ونحاتة الأفكار، والزبد الذي يقذف به القلوب المظلمة المتحيرة، التي تعدل الحق بالباطل، والخطأ بالصواب. وقد تقاذفت بها أمواج الشبهات، ورانت عليها غيوم الخيالات، فمركبها القيل والقال، والشك والتشكيك، وكثرة الجدال، ليس لها حاصل من اليقين يعول عليه، ولا معتقد مطابق للحق يرجع إليه، يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا. وقد اتخذوا لأجل ذلك القرآن مهجورا، وقالوا من عند أنفسهم منكرا من القول وزورا، فهم في شكهم يعمهون، وفي حيرتهم يترددون. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 235 نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون، واتبعوا ما تلته الشياطين على ألسنة أسلافهم من أهل الضلال، فهم إليه يحاكمون، وبه يتخاصمون، فارقوا الدليل، واتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل. ولا شك، أن المؤيدين لهذه الآلة: "التلفزيون" من هذا القبيل، قذف الشيطان بزبده في تلك القلوب المظلمة، فرأوا أن التلفزيون أداة تعليم وتثقيف، وبها تتسع مدارك الإنسان، ويتسع أفقه. وأن التلفزيون بمنْزلة النافذة، التي يطل معها الإنسان إلى العالم، فيعرف ما كانوا عليه، لما يعرض على شاشته، مما يضعه مخططو برامجه؛ هؤلاء وأمثالهم، فارقوا الدليل، واتبعوا أهواءهم، قوم قد ضلوا من قبل، وأضلوا كثيرا، وضلوا عن سواء السبيل، فلا عبرة بزخرف القول الباطل، والخيالات الفارغة، والتهافتات الساقطة. فمن تأمل ما يعرض على شاشة التلفزيون من المضار، وقتل الغيرة الدينية، والميوعة، والانحراف الغريب، الذي طرأ على المسلمين في دينهم، وعقيدتهم، وتقاليدهم الحسنة، ومروءاتهم العربية، لم يشك أن هذا من مكايد الشيطان وحيله، ولم يتوقف في تحريمه، والمنع منه؛ ولا عبرة بمن استحسنه، واستعمله في بيته، واتبع هواه، وأعرض عن الحق وتولى عنه؛ ذلك مبلغهم من العلم. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 236 فتجد الكثير من هؤلاء لا يرى من المصالح والمفاسد إلا ما عاد لمصلحة المال والبدن، دون المصلحة الحقيقية، وهي: مصلحة الأسر، وتربيتهم التربية الدينية النافعة، وصلاح الدين يتبعه صلاح المال والبدن، دون العكس، والله أعلم. تحريمه: أسلفنا حديث عقبة الذي رواه: أبو داود، والنسائي، والترمذي، وغيرهم "كل لهو يلهو به الرجل فهو باطل ... " 1 الحديث، والباطل: ضد الحق، فكل ما ألهى عن أداء واجب، ولم يكن ذريعة إلى حق فهو حرام، كما تقدم في قول الإمام الخطابي والشوكاني، وشيخ الإسلام ابن تيمية وغيرهم. وقال ابن القيم رحمه الله: إذا أشكل حكم شيء، هل هو الإباحة، أو التحريم، فلينظر إلى مفسدته، وثمرته وغايته؛ فإن كان مشتملا على مفسدة راجحة ظاهرة، فإنه يستحيل على الشارع الأمر به أو إباحته، بل العلم بتحريمه من شرعه قطعي، ولا سيما إذا كان طريقا مفضيا إلى ما يغضب الله ورسوله، موصلا إليه عن قرب. قال شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله: لا يجوز اللعب المعروف بالطابة والمنقلة، وكل ما أفضى كثيره إلى حرمة، وإذا لم يكن فيه مصلحة راجحة، لأنه يكون سببا للشر والفساد، وما ألهى أو شغل عما أمر الله به، فهو   1 أحمد (4/144) , والدارمي: الجهاد (2405) . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 237 منهي عنه، وإن لم يحرم جنسه، كالبيع والتجارة، وسائر ما يلهى به البطالون، من أنواع اللهو، وسائر ضروب اللعب، مما لا يستعان به على حق شرعي، فكله حرام. انتهى. فاتضح من كلام هذين الإمامين: أن الشيء إذا أشكل حكمه، ينظر في مفسدته وثمرته وغايته، فإن كانت مصلحته أرجح من مفسدته، فالشرع لا يحرمه، بل تغتفر المفاسد الجزئية، في جانب المصالح الكلية. وإن رجحت مفسدته على مصلحته، بأن كانت مفسدته كلية، وإن اشتمل على مصالح جزئية، فيستحيل على الشارع إباحته، بل هو محرم قطعا. وكل ما يلهو به الإنسان من أنواع اللهو، فهو باطل، وإن لم يحرم جنسه، إذا أدى إلى ترك واجب، كالبيع، والزراعة، ونحوهما. فهذه وإن كانت أعمالا مطلوبة، ومرغبا فيها، لكنها تكون محرمة إذا أفضت إلى ما يسخط الله ويغضبه، كترك صلاة في جماعة، أو إلى أن يخرج وقتها، وما لم يكن فيه مصلحة راجحة، فهو أيضا ممنوع، لأنه يكون سببا للشر والفساد. أين هذا من آلة التلفزيون؟ مع قطع النظر عما يعرض على شاشته، من الخلاعة والدعارة، وتربية الأطفال على الرقص والمجون؛ فإنه مشغل للوقت، مذهب له بدون الجزء: 15 ¦ الصفحة: 238 فائدة، مؤد إلى ترك الصلاة في جماعة، أو إلى خروج وقتها، فهذا أولى بالتحريم. مضار التلفزيون، ومفاسده: نشرت جريدة الشهاب البيروتية، في عددها الثاني، الصادر في 17/11/1387هـ مقالا للأستاذ المحامي: محمد علي ضاوي، نقتطف منه ما يلي: قال: التلفزيون: سرطان في الروح والمجتمع; التلفزيون: سرطان في الجسم والمال؛ التلفزيون: مائدة للشيطان، تعرض عليها المفاسد. قال: فالتلفزيون بما هو عليه الآن، وفي أكثر برامجه شر، ومائدة للشيطان، يعرض عليها أنواعا من المفاسد والمجون، وتحريفات في القيم، والأفكار، والعادات، وذلك بمختلف الوسائل الفنية: أغنية، صورة، تمثيلية، حفلة، دعاية .... إلخ. وأكثر الناس، وخاصة الأخلاقيين، والمحافظين، والإسلاميين، يعرفون ذلك، ويدركون أنهم بشرائهم للجهاز، يمكنون للانحلال والتميع في عائلاتهم، ويعودون الأهل عليهما؛ ومع هذا فهم يبتاعونه، وربما يستدينون، أو يقطعون عن معداتهم، لأجل الشيطان وجهازه التلفزيون، وقال: اقتله قبل أن يقتلك. ثانيا: ولا ريب أن التلفزيون ببرامجه الحالية، عمل الجزء: 15 ¦ الصفحة: 239 ويعمل على تخدير أعصاب الآباء، إن لم تقل: إنه جبههم في عقر ديارهم، وانتزع منهم السلطة الأبوية، وخاصة فيما يتعلق بالتوجيه. فرب العائلة الأخلاقي، أو المحافظ، أو الإسلامي، يتردد بادئ ذي بدء في شراء الجهاز وفي اقتنائه، إلا أن ضغط الزوجة، ومن ورائها ضغوط الأولاد، يدفعه إلى الشراء، شريطة التقيد بمواعيد محددة لاستعماله، موطنا نفسه عند ابتياعه، على استخدام نفوذه للحد من مفاسده وإغلاقه في اللحظات المناسبة والحاسمة. بيد أنه بعد وقوعه في الفخ، وبعد جلوسه مع زوجته وفتيانه وفتياته، تضعف إرادته، ثم تتراخى، ثم تتخدر؛ ونراه ونرى عائلته يتسابقون في النظر والاستماع، وهم يتبعون الصور والحركات، وينتقلون من برنامج إلى آخر؛ وإذا سألته بعد حين، عن توجيه الأولاد، تأوه، وأطلق زفرات حرى، وتمتم: لا حول ولا قوة إلا بالله. لقد أطلق أحد الأخصائيين الاجتماعيين في ألمانيا منذ سنوات، عبارة تلخص بعمق مدى خطورة التلفزيون على النشء، وعلى المجتمع، وذلك بعد دراسة مباشرة أجراها في مدارس ومؤسسات مختلفة، فقال: اقتله قبل أن يقتلك. ولكن عندما يشتد التخدير، يغدو القتل البطيء لذة محببة للنفوس المخدرة. ثم لو أراد مخططو البرامج والمشرفون عليها أن تنتشر الجزء: 15 ¦ الصفحة: 240 بين الناس عادة من العادات، أو تتأصل فيهم فكرة من الأفكار في أعلى الدرجات، أو أسلوب في الكلام والزينة في أدناها، لوجدنا أن البرامج تلاحمت في جهد مشترك للوصول إلى الغاية المحددة، سيئة كانت أو حسنة. ودسا للدسم في السم، يعمل التلفزيون بين حين وآخر على تجميد غضب المعارضين للبرامج، فينقل عبر محطاته وقنواته التي سبق لها أن نقلت السم الزعاف، ومبيدات الأخلاق والقيم، نماذج من البرامج الدينية والوطنية، وربما الثقافية، فيسكت الغضب عند المغضبين، ويقولون عند هذا: له حسنات، وله سيئات!! غير أن الكثيرين أو الأكثر يتعامون عن أضراره ومفاسده، وذلك لانتشاره بين مختلف العائلات والطبقات، واستعباده لقلوبهم، فقد تعامى الناس عما فيه من الأضرار الاجتماعية، والأخلاقية، والدينية والصحية. فهم يتثاقلون عن استماع ما يقوله الطب، عن تأثير الأشعة النووية بأجسام الأطفال خاصة، وإذا استمعوها تغافلوا عنها، وربما لم يصدقوها، لأن التلفزة قد استعبدتهم، واستحوذت على قلوبهم، وفتنتهم ببرامجها الخليعة الضارة. كالتدخين، يقول الطب والطبيب والناس بضرره، ومع هذا فهم مدمنون على استعماله، لا يستطيعون الانفكاك عنه، وهم يصطرخون فيه. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 241 قال الأستاذ الضناوي: ولقد قرأت أن العالم الشهير في التصوير الشعاعي: الدكتور "أميل كروب" قد أكد بمرارة، وهو يحتضر في أحد مستشفيات شيكاغو، بأمريكا: أن أجهزة التلفزيون في البيوت، هي عبارة عن عدو لدود، وأخطبوط سرطاني خطير، يمتد إلى أجسام الأطفال. وقد كان الدكتور نفسه، أحد ضحايا السرطان، الناتج عن إشعاعات التلفزيون؛ وقد أجريت له قبل وفاته، ست وتسعون عملية جراحية، لاستئصال الدرنات السرطانية دون جدوى، إذ إنه وصل إلى النهاية المؤلمة، بعد أن استؤصل قسم كبير من وجهه، وبترت ذراعه. وأضاف الدكتور كروب قبل موته: أن شركات التلفزيون تكذب وتخدع الناس، عندما تزعم بأن هنالك حدا أدنى للطاقة الإشعاعية لا تضر، وتزود بها أجهزتها. فالعلم يقول- بعد التجارب العديدة- أن أية كمية من الإشعاع مضرة بالجسم، على درجات متفاوته، وذلك حسب نسبة التعرض والجلوس أمام التلفزيون؛ كما فند الطبيب المحتضر بالسرطان نفسه، مزاعم الشركة التي تدعي أنها توجه الأشعة في جهازها نحو الأرض، لا إلى المشاهد الذي يجلس بالقرب من جهاز التلفزيون. واستغرب الدكتور كروب: كيف لا يهتم هؤلاء بالناس، الذين يقطنون في الطوابق السفلى، علما بأن الإشعاعات الجزء: 15 ¦ الصفحة: 242 الضوئية، والذرية، والنووية، المستعملة في التصوير الشعاعي، والتلفزيون تخترق جميع الحواجز، بما فيها الجدران السميكة؟ ! وأيد كل من الدكتور "هاسل" والدكتور "لامب" أقوال الدكتور "كروب" الذي يعاني آلام الاحتضار. ولقد طالبت مجلة الاقتصاد، التي نقلت هذه المعلومات، والتي تصدر في بيروت، في نهاية مقترحاتها: أن على كل أب، وكل أم، أن يتناولوا مطرقة ضخمة، ويحطموا بها كل ما لديهم من أجهزة تلفزيونية؛ العدد 23 كانون الأول عام 1967 م. ولا شك أنها آلة بلاء وشر، داعية إلى كل رذيلة ومجون، داعية إلى كل فساد وخراب للعائلات، مشغلة للوقت، مذهبة له بغير فائدة، بل ربما أدت إلى ترك الواجبات، من صلاة، وقيام بطاعة؛ هذا لو سلمت من الخلاعة والدعارة. كيف وقد يعرض على شاشته مناظر مزرية، وصور داعرة لنساء خليعات، ورجال أراذل؟! فيتحدثان بكلمات عشق ووصال، وصد وهجران؛ مما يدعو إلى الفجور، وارتكاب الجريمة، بمشاهدة الخلق الكثير، من الرجال والنساء. فتجد الرجل عندما يرى هذه الصورة أمامه، ويسمع ما الجزء: 15 ¦ الصفحة: 243 يقع بينهما، وبجانب الرجل أو الرجال امرأة أو نساء أجنبيات، وهم ينظرون ويسمعون، ما عرض على شاشة التلفزيون، من غرام وحب ومعانقة. أليس هذا بأعظم دعوة إلى الفساد، وارتكاب الفاحشة؟! وقد وجد بمجتمعنا اليوم، من يكتب ويدعو إلى التلفزيون، وأنه مصلحة وأداة خير للتثقيف والتعليم؟ ! فقل للعيون الرمد للشمس أعين ... وسامح نفوسا أطفأ الله نورها سواك تراها في مغيب ومطلع ... بأهوائها لا تستفيق ولا تعي إنها لغفلة مخيفة، لم ينتبه أكثر الناس إلى ما وراء ذلك، من الفسق، والدعارة، وفساد البيوت، وخراب الأسر، واختلاط الحابل بالنابل. بذلت لهم نصحي بمنعرج اللوى ... فلم يستبينوا النصح إلا ضحى الغد وها هو التلفزيون الممنوع بالأمس، أصبح الآن بيننا في حكم المباح، إن لم يكن في حكم المستحب، أو الواجب; وكل ما نقوله أو نعتقده في الماضي، كنا فيه اليوم على غير هدى، فلا حول ولا قوة إلا بالله. كفى حزنا للدين أن حماته ... متى يسلم الإسلام مما أصابه إذا خذلوه قل لنا كيف ينصر ... إذا كان من يرجى يخاف ويحذر أيها المسلم لقد تكانفتنا الشرور من كل حدب وصوب، ونرقب إلى الله الخروج من هذه المآزق، ولا شك أن اجتماع الجنسين، عند هذه الآلة، وما يرونه على الشاشة، من الخلاعة العظيمة، والدعارة الفظيعة، لا شك أن الجزء: 15 ¦ الصفحة: 244 القلوب مع هذا ترقص طربا، وتذهب كل مذهب في هذه المناظرة الهائلة، ولا يعلم إلا عالم الجنسين وقتئذ بالغ منتهاه. وإذا كانت المقدمات تدل على النتائج، فإن هذه المقدمات لا تنتج في الحالة، ولا في المآل، إلا بلاء وشقاء. وماذا ينتظر من نساء قطرة من الحياء، وهن كل ليلة ينسلن من كل حدب إلى حيث تمثل روايات الغرام المهيجة، على شاشة الآلة المسماة بالتلفزيون، حيث ترى المرأة بعينها، كيف يعمل العاشق مع معشوقته، وما يقع بينهما من الأنات والكلمات الغرامية، وتبادل كلمات التلاقي، والشوق المبرح، وما إلى ذلك مما لا أعرفه أنا. ترى المرأة هذا وتسمعه بأذنها، فتقوم من هذا المجلس في حماس عظيم، وإلهاب هائل، فتكون في مثل هذا المنظر الذي تراه ألذ منظر في الوجود. ولو أنها لا ترى هذا إلا مرة واحدة في حياتها، لكفى في فسادها أبد الدهر؛ ولكنها ترى كل ليلة يتكرر على سمعها وبصرها، وهي امرأة ضعيفة في عقلها ودينها، وفي تفكيرها، ولا يهمها في الوجود شيء أكثر من إرضاء شهوتها البهيمية. ليس ذلك فقط الذي تراه المرأة، وترى مع ذلك نساء برعن في الرقص بنوعيه، الخليع والإفرنجي; الخليع الذي الجزء: 15 ¦ الصفحة: 245 تكون فيه المرأة شبه عارية، وبعبارة أخرى عارية البدن كله، إلا مكانا مخصوصا منه. ورؤية المرأة- وهي هكذا- شديد على النفس جدا، خصوصا إذا انضم إليه ما تفعله في رقصها من حركات في البطن والخصر، وما إلى ذلك، حركات تطرف الناظرين من الرجال. وقد أجنبوا وهم ينظرون، كما يكون ذلك منهم حينما يرون المرأة مع الرجل، يرقصان ذلك الرقص الإفرنجي، الذي يتخاصران فيه، ويتلاصقان، وهو والحق يقال: منظر يثير الجماد، ويحرك من لا يتحرك، يرى النساء هذا المنظر، ويتكرر نظرهن له. فما قولك في امرأة هذه حالتها؟! أيبقى فيها شيء من الحياء، أو العفة؟ ولماذا لا تكون هي كهذه التي تخاصر هذا؟ وتتمتع بمثل من تمتع، بالرقص معه، متعة فوق متعتها بآلاف المرات، والنفوس مولعة بالتقليد، خصوصا نفوس النساء. أيها المسلمون: مالي أراكم تتحمسون وتقومون من أجل حطام قليل من حطام الدنيا، أو شبر من الأرض يتعدى عليه من بعضكم لبعض، أو من دولة مجاورة، تزأر الحكومة من أجله، وتقوم وتقعد، وتجند كل إمكانياتها حماية لهذا الشبر؟! الجزء: 15 ¦ الصفحة: 246 ولا أراكم تتحمسون لدينكم، ولا تغارون من أجل الشرف والعرض ديست كرامته! فأي الشيئين أهم وأقدس: أوامر دينكم والتمسك بتعاليم إسلامكم؟ أم حطام يسير من الدنيا، أو شبر من أرض أحدكم تعدى عليه الآخر؟ ! نرى منكم في الهين البسيط الحماس والتفاني، ولا نرى منكم نحو الأهم الخطير إلا التهاون والتواني؛ تتقون وتخشون عدوا من العباد، ولا تخشون عدوا في نفوسكم اسمه "الفساد"، يقتل النفوس ويستحي الأجساد؟ ! ألا ومنه التلفزيون المعروض على شاشته حفلة خليعة، مرقص، تمثيلية، مسرح، أغنية، غرام، التي هي: رقية زنا 1؟ !. وقد شاهد الناس أنه ما غنى الغناء صبي إلا وفسد، ولا امرأة إلا وبغت ولا شاب إلا وإلا ... ولا شيخ إلا وإلا ... ألا فانتبهوا أيها المسلمون، وناصحوا بعضكم بعضا، ممن امتهن أوامر الإسلام، ونبهوا من خرج على الآداب والاحتشام، وحاربوا هذا الداء الوبيل، الذي يفتك ويهتك بالأعراض والأجسام! فلا تعتبروا نفوسا ألفت الفساد،   1 وقد جاء ما هو أوسع منه دائرة في الخزي والعار وكثرة اللهو, وهو البث الدولي المباشر في القنوات الفضائية ويروجه عباد المادة العفنة, فالله المستعان وسوف يعلمون. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 247 فصارت عميا لا ترى للحق نورا، ولا تعرف للفضيلة جمالا، يظهر أمامها الحق واضحا جليا ساطعا نوره، فتراه باطلا مظلما، وتتجلى بين يديها الفضائل، فتراها رذائل، فهذه النفوس الدنيئة القذرة، هي بالحشرات أشبه، وبالديدان أقرب، يتعذر إقناعها، ويستعصي على الدعاة الناصحين علاجها؛ فمن العنا سياسة الهرم، ومن التعذيب تهذيب الذئب؛ لأن أمثال هؤلاء لا يميلون إلى الرشد، ولا إلى طلب الحق والفضائل. وقد تستحسن بعض العقول استعمال هذه الآلة المسماة بالتلفزيون، ظنا منها أنها أداة تثقيف وتعليم، وأداة لنشر الفضائل، ولم تنتبه العقول لخطورتها، وما يعرض على شاشتها، من الخلاعة والدعارة، والمناظر الفاتنة، والحفلات المفسدة للبيوتات، والمخربة للأسر، ولم تعرف قواعد الشريعة الصحيحة. بل كلما تجلى أمامها من نور مزيف مآله إلى الظلمة، وكلمات معسولة التي بها السم الزعاف، تلقته بالقبول والاستسلام، ونسيت ما يعرض على تلفزيونات البلاد الأخرى، من الشر والبلاء والفتنة؛ أضف إلى ذلك ضياع الوقت الذي هو من ذهب. أيها المسلمون، لا تعتبروا عقولكم وما تستحسن في هذا السبيل اعتبروا بغيركم، وقيسوا الأشباه بالنظائر، وتثبتوا في أموركم حتى تروا الحق واضحا جليا؛ فإن العقول الجزء: 15 ¦ الصفحة: 248 البشرية، لا تستقل بإدراك المصالح الدنيوية، فكيف تستقل بمعرفة المصالح الأخروية؟ ! ولا تتمكن العقول وحدها إلى تمييز الخير من الشر، ولا إلى معرفة المعروف من المنكر، وليس في إمكانها أن تقف على حقائق الأمور، ولا أن تدير أمورها وحكمها على نظام تام، ومحكم مستقيم، لا خلل فيه ولا جور. فإنها وإن وصلت إلى ما وصلت إليه من المعرفة والإدراك، فقد تميل إلى الباطل عن الحق، وتنحرف إلى الفساد عن الصلاح، ويخفى عليها وجه المصلحة، ولا تصل إلى الاهتداء لمغبة الأعمال؛ وكثيرا ما يبدو لها الشر في لباس الخير، فتظنه خيرا وهو شر محض، وبلاء مستطير، فتقع فيه؛ وكثيرا ما ظهر لها الخير فتظنه شرا، لعجزها عن إدراك الحقائق، فتقع فيه {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [سورة البقرة آية: 216] . وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 249 الباب الرابع التبرج هو محرم بالكتاب والسنة والإجماع، ولم يعرف في سلفنا، ولا في السلف الصالح؛ وإنما تسرب إلى هذه البقعة، على هذه الصفات في هذا العصر، للاختلاط بأهل الخارج، وفتح الباب لهن باسم التربية والتعليم، والمصحات. والتبرج هو: إظهار الجمال، وإبراز محاسن الوجه والجسم ومفاتنه، وقال البخاري رحمه الله، التبرج: أن تخرج المرأة محاسنها. وأصل التبرج: مأخوذ من البروج، وهي: القصور العالية لارتفاعها، فالمرأة المتبرجة تعلن عن محاسنها بإبرازها مفاتنها، وتحديدها، كما تعلن البروج عن نفسها بارتفاعها. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إذا خرجت المرأة متعطرة، فإنها زانية" وهو يثبت أن التبرج كذلك، يكون بنضوح ريحها، فيلفت النظر إليها. وروى الإمام أحمد ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صنفان من أهل النار لم أرهما: قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات، مميلات مائلات، رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها ... " 1 الحديث. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: كاسيات بلباس رقيق   1 مسلم: اللباس والزينة (2128) , وأحمد (2/355 ,2/440) . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 250 لا يستر البشرة، أو ضيق يبدو منه حجم العضد والعجيزة، فهن عاريات حقيقة. وقال: يجب على ولي المرأة، كأبيها، وزوجها أن يمنعها من ذلك، فإن لم يفعلا عزرا. وقال: لا يجوز للمرأة أن تلبس الخف الذي يبدي ضخامة القدم، وفي هذا العصر لبس بعضهن خفا يسمى: "أم كعب" يضخم معه القدم، وتنبو معه العجيزة. ولم يقفن على ما وصفه الشيخ، بل أبدين، العضدين والساعدين، بلباس ضيق، وجعلن حمالات للثديين، واستعملن لباسا يسمونه "الكرته" و "أم صدر" ضيق الأعالي، فتبدو منه الخاصرة، ويضخمن العجيزة، دون حياء ولا خجل. وقصصن الرأس- مع العلم أنه لم يؤذن لها أن تقص منه إلا قدر أنملة، إذا تحللت من الإحرام- لتبدو الرقبة بارزة، ويبقين في مقدم الرأس ثلة من الشعر، نحو ما على رأس بعض الحمير بين الأذنين، وأملن المفرق. وتركن الذي كانت تستعمله العرب، في الجاهلية والإسلام، وسط الرأس، ويبقين ثلة في مؤخر الرأس، مرفوعة عن الرقبة، محزومة، تشبه ذنب الثعلب. قال شيخ الإسلام: ما يضع الشعر بين الكتفين إلا العاهرات، وقد يجمعنها ويحزمنها مرتفعة، تشبه ذنب المعز. وقد قال بعض أهل العلم: يحتار الخاطب بين جمال الجزء: 15 ¦ الصفحة: 251 الوجه، أو الشعر، وقال امرء القيس يصف جمالها: وفرع يزين الوجه أسود فاحم ... أثبت كقنو النخلة المتعثكل فجمعن بين الوعيد بالنار، وعدم رائحة الجنة، وتشبهن بنساء الإفرنج، ومن سلك سبيلهم من الدول المنحلة، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس منا من تشبه بغيرنا" 1، وقال: "من تشبه بقوم فهو منهم" 2، وقال: "من تشبه بقوم حشر معهم". فالعجب ممن يعلم هذا الوعيد الشديد، ويرضى بثمرة فؤاده أو ضجيعته، أن تتصف بهذه الصفات الشنيعة المحرمة! ويالله! يا للمسلمين! يا للعرب! يا للعقول!!! وأعظم من ذلك وأدهى: أنهن يسخرن ممن يلبسن لباس المسلمات، ويرضين أن تشاطر الرجال في المكاتب وغيرها، وتخلو بدون محرم. ويأتي في كلام الشيخ وغيره ما يكفي عن بيان ما تشبهن فيه بالإفرنج، من كشف بعض الأعضاء وغير ذلك. والعجب مما ذكر محمد رشيد رضا، قال: حدثني الأمير شكيب أرسلان في جنيف سويسرة، عن طلعت باشا التركي: أن عظيم الألمان، لما زار الأستانة في أثناء الحرب، ورأى النساء التركيات، سافرات متبرجات، عذله على ذلك، وذكر له ما فيه من المفاسد الأدبية، والمضار الاقتصادية، التي تئن منها أوروبا، وتعجز عن تلافيها. وقال له: إن لكم وقاية من ذلك كله، ألا وهو الدين   1 الترمذي: الاستئذان والآداب (2695) . 2 أبو داود: اللباس (4031) . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 252 الإسلامي، أفتزيلونها بأيديكم؟! قال حمود التويجري، قلت: وهذا الألماني أعقل من كثير من المنتسبين إلى الإسلام، وقد ذكرت في الصارم المشهور، عن بعض عقلاء الإيطاليين نحو ذلك، فليراجع. وقيل: أبحنا الشابات ليتمتع الشباب، ففسدت أزواجنا. والحق ما شهدت به الأعداء. [قول الشيخ محمد بن إبراهيم في شأن ما ابتلي به كثير من النساء من التهتك] وقال الشيخ: محمد بن إبراهيم، رحمه الله: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. من محمد بن إبراهيم: إلى من يراه من إخواننا المسلمين، وفقني الله وإياهم لما يرضيه، وجنبنا جميعا أسباب سخطه ومعاصيه، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أما بعد: فقد تغيرت الأحوال في هذه الأزمان، وابتلي الكثير من النساء بخلع جلباب الحياء، والتهتك، وعدم المبالاة، وتتابعن في ذلك، وانهمكن فيه إلى حد يخشى الجزء: 15 ¦ الصفحة: 253 منه الانحدار في هوة سحيقة من السفور والانحلال، وحلول المثلات والعقوبات من ذي العزة والجلال. وذلك مثل لبسهن ما يبدي تقاطيع أبدانهن، من عضدين، وثديين، وخصر، وعجيزة، ونحو ذلك، ومثل لباس الثياب الرقيقة التي تصف البشرة، وكذلك الثياب القصيرة التي لا تستر العضدين ولا الساقين، ونحو ذلك. ولا شك أن هذه الأشياء تسربت عليهن، من بلدان الإفرنج، ومن يتشبه بهم، لأنها لم تكن معروفة فيما سبق، ولا مستعملة. ولا شك أن هذا من أعظم المنكرات، وفيه من المفاسد المغلظة، والمداهنة في حدود الله لمن سكت عنها، وطاعة للسفهاء في معاصي الله. وكونه يجر إلى ما هو أطم وأعظم، ويؤدي إلى ما هو أدهى وأمر، من فتح أبواب الشرور والفساد، وتسهيل أمر التبرج والسفور، ولهذا لزم التنبيه على مفاسدها، والتدليل على تحريمها والمنع منها، ونكتفي بذكر أمهات المسائل ومجملاتها، طلبا للاختصار. أولا: أنها من التشبه بالإفرنج والأعاجم ونحوهم، وقد ثبت في الآيات القرآنية، والأحاديث الصحيحة النبوية، النهي عن التشبه بهم، في عدة مواضع معروفة؛ وبهذا يعرف أن النهي عن التشبه بهم أمر مقصود للشارع في الجملة. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 254 وقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله في كتابه: "اقتضاء الصراط المستقيم في مخالفة أصحاب الجحيم": فجاءت الشريعة باتباع أولئك السابقين، على الهدى الذي رضيه الله لهم، وبمخالفة من سواهم، إما لمعصيته، وإما لنقيصته، وإما لأنه مظنة النقيصة. فإذا نهت الشريعة عن مشابهة العجم، دخل في ذلك ما عليه الأعاجم الكفار قديما وحديثا، ودخل في ذلك ما عليه الأعاجم المسلمون، مما لم يكن عليه السابقون الأولون، كما يدخل في مسمى الجاهلية العربية، ما كان عليه أهل الجاهلية قبل الإسلام، وما عاد إليه كثير من العرب من الجاهلية التي كانوا عليها؛ ومن تشبه من العرب بالعجم لحق بهم، ومن تشبه من العجم بالعرب لحق بهم. ثانيا: أن المرأة عورة، ومأمورة بالاحتجاب والستر، ومنهية عن التبرج، وإظهار زينتها، ومحاسنها ومفاتنها، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ} [سورة الأحزاب آية: 59] الآية وقال تعالى: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ} [سورة النور آية: 31] . وقال تعالى: {وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} [سورة الأحزاب آية: 33] . وهذا اللباس مع ما فيه من التشبه، ليس بساتر للمرأة، بل هو مبرز لمفاتنها، ومعر لها، ومغر بها من رآها وشاهدها، وهي بذلك داخلة في الحديث الصحيح عن الجزء: 15 ¦ الصفحة: 255 أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "صنفان من أهل النار من أمتي، لم أرهما بعد: نساء كاسيات عاريات، مائلات مميلات، على رؤسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، ورجال معهم سياط مثل أذناب البقر، يضربون بها الناس" 1. وقد فسر الحديث: بأن تكتفي المرأة بما لا يسترها، فهي كاسية، ولكنها عارية في الحقيقة، مثل أن تكتسي بالثوب الرقيق الذي يصف بشرتها، أو الثوب الضيق الذي يبدي مقاطع خلقها: عجيزتها، وساعدها ونحو ذلك. لأن كسوة المرأة في الحقيقة هو: ما سترها سترا كاملا، بحيث يكون كثيفا فلا يبدي جسمها، ولا يصف لون بشرتها لرقته وصفائه، ويكون واسعا فلا يبدي حجم أعضائها، ولا تقاطيع بدنها لضيقه. فهي مأمورة بالاستتار والاحتجاب، لأنها عورة؛ ولهذا أمرت أن تغطي رأسها في الصلاة، ولو كانت في جوف بيتها، بحيث لا يراها أحد من الأجانب، لحديث "لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار" 2. فدل على أنها مأمورة من جهة الشرع، بستر خاص لم يؤمر به الرجل، حقا لله تعالى، وإن لم يرها بشر؛ وستر العورة واجب لحق الله حتى في غير الصلاة، ولو كان في   1 مسلم: اللباس والزينة (2128) , وأحمد (2/355 ,2/440) , ومالك: الجامع (1694) . 2 الترمذي: الصلاة (377) , وأبو داود: الصلاة (641) , وابن ماجه: الطهارة وسننها (655) , وأحمد (6/150 ,6/218 ,6/259) . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 256 ظلمة، أو في حال خلوة، بحيث لا يراه أحد، وحتى عن نفسه. ويجب سترها بلباس ساتر لا يصف لون البشرة، لحديث بهز بن حكيم، عن أبيه عن جده، قال "قلت: يا رسول الله؛ عوراتنا، ما نأتي وما نذر؟ قال: "احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك". قلت: فإن كان القوم بعضهم مع بعض؟ قال: فإن استطعت أن لا يراها أحد فلا يرينها، قلت: فإذا كان أحدنا خاليا؟ قال: فالله تعالى أحق أن يستحى منه" 1 رواه أبو داود. وقد صرح الفقهاء، رحمهم الله، بالمنع من لبس الرقيق من الثياب، وهو ما يصف البشرة، أي: ما يستر العورة بالسترة الكافية، في حق كل من الرجل والمرأة، ولو في بيتها، نص عليه الإمام أحمد رحمه الله. كما صرحوا بالمنع من لبس ما يصف اللين والخشونة والحجم، لما روى الإمام أحمد عن أسامة بن زيد رضي الله عنه قال: "كساني رسول الله صلى الله عليه وسلم قبطية كثيفة كانت مما أهدى له دحية الكلبي، فكسوتها امرأتي. فقال صلى الله عليه وسلم: ما لك لا تلبس القبطية؟ قلت: يا رسول الله كسوتها امرأتي. فقال: مرها فلتجعل تحتها غلالة، فإني أخاف أن تصف حجم عظامها" 2.   1 الترمذي: الأدب (2769) , وابن ماجه: النكاح (1920) . 2 أحمد (5/205) . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 257 وكما صرحوا بمنع المرأة من شد وسطها مطلقا، أي: سواء كان يشبه الزنار، أو غيره، وسواء كانت في الصلاة، أو خارجها، لأنه يبين حجم عجيزتها، وتبين به مقاطع بدنها. قالوا: ولا تضم المرأة ثيابها حال قيامها، لأنه يبين به تقاطيع بدنها، فتشبه الحزام. وهذا اللباس المذكور، أبلغ من الحزام، وضم الثياب حال القيام، وأحق بالمنع منه. ثالثا: إن في بعض ما وقعنا فيه: شيئا من تشبه النساء بالرجال، وهذا من كبائر الذنوب؛ ففي الحديث: "لعن الله المتشبهات من النساء بالرجال، ولعن الله المتشبهين من الرجال بالنساء" 1، وفي لفظ: "لعن الله المتخنثين من الرجال، والمترجلات من النساء" 2. فالمرأة المتشبهة بالرجال، تكتسب من أخلاقهم، حتى يصير فيها من الظهور والتبرج والبروز، ومشاركة الرجال، ما قد يفضي لبعضهن إلى أن تظهر بدنها، كما يظهره الرجال، أو أكثر، لضعف عقلها، وتطلب أن تعلو على الرجال، كما يعلو الرجال على النساء، وتفعل من الأفعال ما ينافي الحياء، والحق المشروع في حق النساء. كما أن الرجل المتشبه بالنساء، يكتسب من أخلاقهن بحسب تشبهه، حتى يفضي به الأمر إلى التخنث والميوعة، والتمكين من نفسه، كأنه امرأة - والعياذ بالله-؛ وهذا   1 البخاري: اللباس (5885) , والترمذي: الأدب (2784) , وأبو داود: اللباس (4097) , وابن ماجه: النكاح (1904) , وأحمد (1/251 ,1/330 ,1/339) . 2 البخاري: اللباس (5886) , وأبو داود: الأدب (4930) , وأحمد (1/225 ,1/227 ,1/237 ,1/254 ,1/365) , والدارمي: الاستئذان (2649) . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 258 مشاهد في الواقع؛ فصلوات الله وسلامه على من بلغ البلاغ المبين، وبلغ الرسالة وأدى الأمانة، ونصح الأمة. قلت: وقد أفضى الحال بكثير ممن يقلدون المتفرنجين، إلى أن تشارك كثير من النساء الرجال، في البروز، والخروج، والوظائف، والتجارة، والأسفار بدون محرم، وغير ذلك. كما شارك كثير من الرجال النساء في المبالغة في التزين، والتخنث في الكلام، وحلق اللحى، والتثني عند المشي، والتحلي بخواتيم الذهب، والأزارير وغيرها، وساعات اليد التي فيها شيء من الذهب، ونحو ذلك، وأمثاله مما هو معروف، حتى صارت العادة عندهم تطويل ثياب الرجال، وتقصير ثياب المرأة إلى ركبتها، أو ما فوق الركبة، بحيث يبدو فخذها. نعوذ بالله من قلة الحياء، والتجرؤ على محارم الله. رابعا: إن هذه الأشياء، وإن كان يعدها بعض من لا خلاق له من الزينة، فإن حسبانهم باطل، وما الزينة الحقيقة إلا التستر، والتجمل باللباس الذي امتن الله به على عباده، بقوله: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً} [سورة الأعراف آية: 26] . وليست الزينة بالتعري، والتشبة بالإفرنج، ونحوهم، ممن لا خلاق له. وأيضا: فلو نسلم أنه من الزينة، فليس لكل امرأة أن تخترع لها من الزينة ما تختاره، ويخطر ببالها، الجزء: 15 ¦ الصفحة: 259 لأن هناك أشياء من الزينة، وهي ممنوعة بل محرمة، بل ملعون فاعلها، كما لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الواصلة والمستوصلة، والنامصة، والمتنمصة، والواشرة، والمستوشرة، والواشمة والمستوشمة. وعن عبد الله بن مسعود، قال: "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الواشمات، والمستوشمات، والمتنمصات، والمتفلجات للحسن، المغيرات لخلق الله. فجاءته امرأة، فقالت: بلغني أنك لعنت كيت وكيت. فقال: وما لي لا ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في كتاب الله؟ فقالت: لقد قرأت ما بين اللوحين فما وجدت فيه ما تقول. فقال: إن كنت قرأتيه فقد وجدتيه، أما قرأت قوله: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} 1 2 قالت: بلى، قال: فإنه قد نهى عنه". خامسا: إن النساء ناقصات عقل ودين، وضعيفات تصور وإدراك، وفي طاعتهن بهذا وأمثاله من المفاسد المنتشرة ما لا يعلمه إلا الله، وأكثر ما يفسد الملك والدول طاعة النساء. وفي الصحيحين عن أسامة بن زيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء" 3، وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه مرفوعا: "إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها فينظر كيف   1 سورة الحشر آية: 7. 2 البخاري: تفسير القرآن (4886) , ومسلم: اللباس والزينة (2125) , والترمذي: الأدب (2782) , والنسائي: الزينة (5099 ,5107 ,5108 ,5109 ,5254) , وأبو داود: الترجل (4169) , وابن ماجه: النكاح (1989) , وأحمد (1/415 ,1/416 ,1/417 ,1/430 ,1/433 ,1/443 ,1/448 ,1/454 ,1/462 ,1/464 ,1/465) , والدارمي: الاستئذان (2647) . 3 البخاري: النكاح (5096) , ومسلم: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2740 ,2741) , والترمذي: الأدب (2780) , وابن ماجه: الفتن (3998) , وأحمد (5/200 ,5/210) . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 260 تعملون، فاتقوا الدنيا، واتقوا النساء، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء" 1 وفي صحيح البخارى عن أبي بكرة مرفوعا: "لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة" 2، وروي أيضا: "هلك الرجال حين أطاعوا النساء". فيتعين على الرجال القيام على النساء، والأخذ على أيديهن، ومنعهن من هذه الملابس والأزياء المنكرة، وأن لا يداهنوا في حدود الله، كما هو الواجب عليهم شرعا، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} 3. وقد صرح العلماء: أن ولي المرأة يجب عليه أن يجنبها الأشياء المحرمة، من لباس وغيره، ويمنعها منه؛ فإن لم يفعل، تعين عليه التعزير بالضرب وغيره، وفي الحديث: "كلكم راع ومسؤول عن رعيته" 4. والمقصود: أن معالجة هذه الأضرار الاجتماعية المنتشرة، من أهم المهمات، وهي متعلقة بولاة الأمر أولا، ثم بقيم المرأة ووليها ثانيا، ثم المرأة نفسها مسؤولة عما يتعلق بها وبناتها، وفي بيتها. كما على طلبة العلم بيان أحكام هذه المسائل، والتحذير منها؛ وعلى رجال الحسبة والأمر بالمعروف   1 مسلم: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2742) , والترمذي: الفتن (2191) , وابن ماجه: الفتن (4000) , وأحمد (3/19 ,3/22 ,3/61) . 2 البخاري: المغازي (4425) , والترمذي: الفتن (2262) , والنسائي: آداب القضاة (5388) , وأحمد (5/50) . 3 سورة التحريم آية: 6. 4 البخاري: الجمعة (893) , ومسلم: الإمارة (1829) , والترمذي: الجهاد (1705) , وأبو داود: الخراج والإمارة والفيء (2928) , وأحمد (2/54 ,2/111) . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 261 والنهي عن المنكر أن ينكروا هذه الأشياء، ويجتهدوا في إزالتها. نسأل الله أن يجنبنا مضلات الفتن، ما ظهر منها وما بطن، وأن ينصر دينه ويعلي كلمته، ويذل أعداءه، إنه جواد كريم، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. [قول الشيخ عبد الله بن حميد رحمه الله: من خراب المجتمع تبرج النساء] وقال الشيخ عبد الله بن محمد بن حميد، رحمه الله: من خراب المجتمع: تبرج النساء؛ فلقد افتتن كثير من النساء، في وقتنا هذا، بما يزيد على عمل نساء الجاهلية الأولى، من التبرج، وإظهار المحاسن والجمال أمام الرجال الأجانب، مما يثير الشهوة، ويوقع في الفتنة، ويوجب غضب الرب سبحانه وتعالى. وخروج المرأة إلى المجتمعات سبب لتغير زوجها الغيور عليها والمحسن إليها، ووالد أولادها، فتحصل بينهما الفرقة بعد الألفة، والبغضاء بعد المحبه، والشقاوة بعد السعادة. ولا شك أن من أقبح المنكرات وأكبر البلايا وأعظم الأخطار على المجتمع، أن تتبرج المرأة، وتظهر زينتها للرجال الأجانب في الطرقات، والأسواق، وبيوت التجارة، أو المساجد وغيرها من المجتمعات. فهي في كل يوم تزداد في تبرجها، وتتفنن في أشكال ملابسها، فخلعت عنها ثياب الحشمة، والصيانة، والحياء، الجزء: 15 ¦ الصفحة: 262 والعفاف، وظلت لا تراعي الآداب، ولا تبالي بهتك الحجاب. فماذا سترت المرأة إذا خرجت إلى السوق عارية الذراعين والساقين، كاشفة عن وجهها وصدرها، بادية النهود والأرداف، حاسرة الرأس؟! فلا دين يمنعها، ولا حياء يردعها، ولا ولي يحافظ عليها ويوقفها عند حدها؛ قد استشرفها الشيطان، فخرجت متجملة متعطرة فاتنة! ألم تسمعوا إلى قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "صنفان من أمتي لم أرهما بعد: قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات، مائلات مميلات، على رؤوسهن كأسنمة البخت، لا يدخلن الجنة، ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا" 1. أما يكفي هذا ردعا وزجرا؟! مع قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا خرجت المرأة متجملة متعطرة، استشرفها الشيطان". كيف ترضون أن تكون نساؤكم محط الأنظار، ومثار الفتن؟! لقد قال صلى الله عليه وسلم "ما رأيت من ناقصات عقل ودين، أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن" 2. كيف تخرج المرأة إلى السوق تتمطى في مشيتها عجبا وتيها، وتتلون اختيالا وزهوا، بتدلل وتكسر وتظرف؟ ! كيف يرضى حياؤها أن تكون مبعث إثارة فتنة وشهوة، في نفس رجل يراها؟ ! وكيف تطيق الشعور والصبر، بأنه يصبو إليها ويتمناها؟ !   1 مسلم: اللباس والزينة (2128) , وأحمد (2/440) . 2 البخاري: الحيض (304) . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 263 كيف ترون ذلك وتصبرون؟ ! أما تغارون؟ أما تخجلون؟ أما تخافون من رب العالمين؟ فالمرأة مأمورة بالاحتشام والحياء، والبقاء في قعر بيتها، لئلا تفتن وتنفتن، فتتنغص عليها حياتها وسعادتها، ويخدش عرضها، وتهان كرامتها، وتنطلق إليها النظرات الوقحة الجريئة. ما هو والله إلا التقليد الأعمى سيطر على النفوس واستعبد القلوب، وأعمى بصائر الرجال والنساء، خضعوا له من غير تفكر ولا تدبر، ومن غير تورع ولا تأمل، وانقادوا له باستسلام ونشوة، فسلبت زهاهم مضرته وفتنته. فالتبرج ضرره جسيم، وخطره عظيم، يخرب الديار، ويجلب الخزي والعار؟ إنكم مسؤولون أمام الله عما أولاكم، وجعلكم قوامين على النساء، فلماذا أهملتم؟ فأحسنوا تربيتهن وتوجيههن، وخذوا على أيديهن، فإنه إذا نزل العذاب عم الصالح والطالح. فما لنا نرى المرأة في مجتمعنا، تزداد كل يوم في تبرجها؟ ! وإظهار جمالها ومحاسنها، بثيابها الجميلة وحليها البراق؟ ! وكأن المعني بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ} [سورة الأحزاب آية: 59] غيرها. فياللأسف! لقد خلعت المرأة ثياب الحشمة والصيانة، وتجردت من الحياء والعفاف والكرامة، كل هذا بسبب الجزء: 15 ¦ الصفحة: 264 ضعف الدين في القلوب، وعدم الغيرة من وليها. والمرأة اليوم زادت في تبرجها، على ما كان عليه نساء الجاهلية الأولى، فقد قال بعض المفسرين في ذلك، هو: أنها تلقي الخمار على رأسها ولا تشده، فلم يوار قلائدها وقرطها وعنقها، هذا هو تبرج نساء الجاهلية الأولى، فهل نساء اليوم قد ابتعدن منه وحذرنه؟! لا والله، بل زدن عليه، وأتين بما هو أشد. بل نرى المرأة تجوب الشوارع العامة، وتأتي المجتمعات، عارية الذراعين والساقين، بادية الصدر والنهدين، كاشفة عن وجهها، مظهرة لمحاسنها؛ فلا دين ولا حياء ولا مروءة، ولا ولي يحافظ عليها، ويوقفها عند حدها؛ بهذا وأمثاله يسري الفساد على الأسر والبيوتات. والله يوفق المسلمين لما فيه صلاح دينهم ودنياهم، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. وقال الشيخ: عبد الله بن حميد، أيضا: إن من أخطر ما ابتلي به مجتمعنا في الآونة الأخيرة من زماننا هذا: تبرج النساء، وخروجهن كاشفات عاريات، إلى الأسواق والشوارع والطرقات. ومن أعظم البلاء وأشد الخطر: دخولهن في المسجد الحرام، وهن على هذه الحال، من غير ما رادع ولا زاجر، وهذه بادرة خطيرة على المجتمع كله. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 265 يجب على ولاة الأمور، ومن بأيديهم السلطة، من رجال الفكر والعلم والدين، التيقظ والتنبه لهذه البادرة الخطيرة، والشر المتفاقم، كما يجب على ولاة أمور النساء محاربة ذلك، والقيام بواجبهم الديني والخلقي والاجتماعي، كرعاة مسؤولين عن القيام على رعاية النساء، وحمايتهن من العبث بشيمتهن وكرامتهن، وحفظهن من السهام المسمومة: سهام إبليس الممدودة إلى أفئدة الخارجين على قوله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [سورة النور آية: 30] . وروي حديث: "لتغضن أبصاركم، ولتحفظن فروجكم، ولتقيمن وجوهكم، أو لتكسفن وجوهكم". وفي حديث آخر: "إن النظر سهم من سهام إبليس مسموم، من تركه مخافتي، أبدلته إيمانا، يجد حلاوته في قلبه". هذا وقد فرض الله الحجاب على النساء، وأمرهن بملازمة البيوت، فلا تبرج، ولا خروج إلا لحاجة، متسترات متحشمات. {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} [سورة الأحزاب آية: 33] لئلا يطمع الذي في قلبه مرض من ضعفاء الإيمان، خبثاء الأنفس، المتعرضين- على السبل، والشوارع، والأسواق، وأبواب المسجد الحرام- للنساء المستهترات بالدين، والخلق الإسلامي القويم، الجزء: 15 ¦ الصفحة: 266 اللاتي يتسببن بالفتنة، وفساد المجتمع، وانحطاط الأخلاق، ويتعرضن لسخط الله، وغضبه، واللعنات، حيث روي عن المصطفى صلى الله عليه وسلم: "أيما امرأة استعطرت ثم خرجت، فمرت على قوم ليجدوا ريحها، فهي زانية; وكل عين زانية" 1. وحتى في الصلاة إذا خرجت إليها، فالواجب أن تخرج في ثياب بذلة غير متطيبة، ولا مستعملة لأي شيء من مظاهر الزينة التي تحرك الشهوة، أو تجر إلى الفتنة، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيما امرأة أصابت بخورا، فلا تشهدن معنا العشاء الآخرة" 2. وقد رأت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها من النساء شيئا تكرهه، فقالت: "لو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى من النساء ما رأيناه، لمنعهن من المسجد، كما منعت نساء بني إسرائيل" رضي الله عن أم المؤمنين وأرضاها. فلو رأت في زماننا ما أحدث النساء من التبرج الذي تعدى تبرج الجاهلية الأولى، من التكشف وإظهار محاسنهن، والتمشي، والتمايل في الشوارع والأسواق، بل بالمسجد الحرام، وفي الطواف بالبيت الحرام، لو رأت ذلك، فماذا كانت تقول؟ ! إنها حقا لمصيبة دهماء، وفتنة عمياء، وداء عضال على المجتمع الإسلامي، يجب التنبه والتيقظ له، قبل أن يحل بنا   1 الترمذي: الأدب (2786) , والنسائي: الزينة (5126) , وأحمد (4/413 ,4/418) , والدارمي: الاستئذان (2646) . 2 مسلم: الصلاة (444) , والنسائي: الزينة (5128) , وأبو داود: الترجل (4175) , وأحمد (2/304) . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 267 الخطر، ويتسع الخرق على الراقع، ولات ساعة مندم. ومن المعقول والمعلوم أن المسؤول عن المرأة والراعي لها شريك في إثم ما ترتكبه من التبرج والسفور، وما تحمله غيرها من الناظرين إليها، ولمظاهر زينتها، من الإثم، إذ هو المقصر في أداء واجبه نحو القيام بمسؤوليته، ورعايته نحو أهله، ومن جعلهم الله تحت إمرته ويده. لذا، فنهيب بولاة الأمور القيام بواجبهم نحو هذا السرطان الفتاك، والأخذ على يد السفيه، وأطره على الحق، حتى لا يحل بنا ما حل بمن قبلنا من الأمم السابقة من المصائب والكوارث، لما تركوا أمر النساء بأيديهن، يعبثن بكرامتهن، ويفسدن أخلاق النشء والمجتمع، وصرن هن القائمات بالأمر، عكس الآية الكريمة، قوله تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} [سورة النساء آية: 34] الآية، كما هو الواقع اليوم، ولا حول ولا قوة إلا بالله. هذا ونهيب بالجمهور الكريم، من ولاة أمور النساء أن يتعاونوا مع إخوانهم المسؤولين، في دفع هذا الشر المستطير، ويمنعوا نساءهم من التعري والتبرج، وإظهار محاسنهن في الشوارع والأسواق، ولا سيما في المسجد الحرام، الذي هو محط أنظار العالم الإسلامي بأسره. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 268 وليعلموا ويُعلموا أن مثل هذا هتك لحرمة هذه البقعة المقدسة، والكعبة المشرفة. كما نود أن نشعر الجميع من اليوم فصاعدا: أن أي امرأة تريد دخول المسجد الحرام، متبرجة متعطرة، حاسرة ساقيها وذراعيها، كاشفة وجهها وصدرها، مظهرة محاسنها التي يحرم النظر إليها من غير محارمها، ملفتة بذلك العمل الشنيع وتلك التقاليد الغربية السيئة، أنظار الأجانب، من الرجال والشباب إليها، ليعلم الجميع أنها تمنع منعا باتا، عن الدخول في المسجد الحرام، وهي على هذه الحال. وعلى رجال هيئة الأمر بالمعروف، والمراقبين، ورجال الشرطة بالحرم الشريف أن يقوم كل بواجبه، تجاه هذا الشر المستطير، وتلك الفتنة العمياء، بالقيام على أبواب الحرم، ومنع النساء اللاتي يردن الدخول في المسجد الحرام، وهن على هذه الحال. والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل، وهو حسبنا ونعم الوكيل. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 269 [رسالة من الشيخ ابن باز فيما عمت به البلوى من تبرج الكثير من النساء وسفورهن] وقال الشيخ: عبد العزيز بن عبد الله بن باز، وفقه الله 1. بسم الله الرحمن الرحيم من عبد العزيز بن عبد الله بن باز، إلى من يراه من المسلمين، سلك الله بي وبهم سبيل الاستقامة، وأعاذني وإياهم من أسباب الخزي والندامة، آمين. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أما بعد: فلا يخفاكم أيها المسلمون، ما عمت به البلوى في كثير من البلدان، من تبرج الكثير من النساء، وسفورهن، وعدم تحجبهن من الرجال، وإبداء الكثير من زينتهن التي حرم الله عليهن إبداءها. ولا شك: أن ذلك من المنكرات العظيمة، والمعاصي الظاهرة، ومن أعظم أسباب حلول العقوبات، ونزول النقمات، لما يترتب على التبرج والسفور من ظهور الفواحش، وارتكاب الجرائم، وقلة الحياء، وعموم الفساد. فاتقوا الله أيها المسلمون، وخذوا على أيدي سفهائكم، وامنعوا نساءكم مما حرم الله عليهن، وألزموهن التحجب والتستر. واحذروا غضب الله سبحانه وعظيم عقوبته، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الناس إذا رأوا المنكر فلم   1 طبعت مفردة حين كان نائب رئيس الجامعة الإسلامية بالمدينة. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 270 يغيروه، أوشك أن يعمهم الله بعقابه" 1. وقد قال الله سبحانه في كتابه الكريم: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} 2 وفي المسند وغيره، عن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية، ثم قال: "والذي نفسي بيده، لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يد السفيه، ولتأطرنه على الحق أطرا، أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض ثم يلعنكم كما لعنهم" 3. وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان" 4. وقد أمر الله سبحانه في كتابه الكريم بتحجب النساء، ولزومهن البيوت، وحذر من التبرج، والخضوع بالقول للرجال، صيانة لهن عن الفساد، وتحذيرا لهن من أسباب الفتنة. فقال تعالى: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاًوَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ   1 ابن ماجه: الفتن (4005) . 2 سورة المائدة آية: 78-79. 3 أبو داود: الملاحم (4336) . 4 مسلم: الإيمان (49) , والترمذي: الفتن (2172) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (5008 ,5009) , وأبو داود: الصلاة (1140) والملاحم (4340) , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1275) والفتن (4013) , وأحمد (3/10 ,3/20 ,3/49 ,3/52 ,3/54 ,3/92) . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 271 الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} 1 الآية. نهى سبحانه في هذه الآيات، نساء النبي الكريم، أمهات المؤمنين، وهن من خير النساء وأطهرهن، عن الخضوع بالقول للرجال، وهو: تليين القول وترقيقه، لئلا يطمع فيهن من في قلبه مرض شهوة الزنى، ويظن أنهن يوافقنه على ذلك. وأمر بلزومهن البيوت، ونهاهن عن تبرج الجاهلية وهو: إظهار الزينة والمحاسن: كالرأس، والوجه، والعنق، والصدر، والذراع، والساق، ونحو ذلك من الزينة، لما في ذلك من الفساد العظيم، والفتنة الكبيرة، وتحريك قلوب الرجال، إلى تعاطي أسباب الزنى. وإذا كان الله يحذر أمهات المؤمنين، من هذه الأشياء المنكرة، مع صلاحهن، وإيمانهن وطهارتهن، فغيرهن أولى وأولى، بالتحذير والإنكار، والخوف عليهن من أسباب الفتنة، عصمنا الله وإياكم من مضلات الفتن. ويدل على عموم الحكم لهن ولغيرهن، قوله سبحانه في هذه الآية: {وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [سورة الأحزاب آية: 33] فإن هذه الأوامر أحكام عامة، لنساء النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهن. وقال عز وجل {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} [سورة الأحزاب آية   1 سورة الأحزاب آية: 32-33. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 272 : 53] : فهذه الآية الكريمة نص واضح في وجوب تحجب النساء عن الرجال، وتسترهن منهم. وقد أوضح الله سبحانه في هذه الآية أن التحجب أطهر لقلوب الرجال والنساء، وأبعد عن الفاحشة وأسبابها. وأشار سبحانه إلى أن السفور وعدم التحجب، خبث ونجاسة؛ وأن التحجب طهارة وسلامة. فيا معشر المسلمين، تأدبوا بتأديب الله، وامتثلوا أوامر الله، وألزموا نساءكم بالتحجب الذي هو سبب الطهارة، ووسيلة النجاة والسلامة. وقال عز وجل {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} [سورة الأحزاب آية: 59] : والجلابيب جمع جلباب، والجلباب هو: ما تضعه المرأة على رأسها للتحجب والتستر به. أمر الله سبحانه جميع نساء المؤمنين بإدناء جلابيبهن على محاسنهن من الشعور، والوجه، وغير ذلك، حتى يعرفن بالعفة فلا يفتتن ولا يفتن غيرهن فيؤذيهن. قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: "أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن، في حاجة أن يغطين وجوههن، من فوق رؤوسهن بالجلابيب، ويبدين عينا واحدة". الجزء: 15 ¦ الصفحة: 273 وقال محمد بن سيرين: سألت عبيدة السلماني، عن قول الله عز وجل: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ} [سورة الأحزاب آية: 59] فغطى وجهه ورأسه، وأبرز عينه اليسرى. ثم أخبر الله سبحانه أنه غفور رحيم عما سلف من التقصير في ذلك، قبل النهي والتحذير منه سبحانه. وقال تعالى: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [سورة النور آية: 60] . يخبر سبحانه أن القواعد من النساء، وهن العجائز اللاتي لا يرجون نكاحا، لا جناح عليهن أن يضعن ثيابهن عن وجوههن وأيديهن، إذا كن غير متبرجات بزينة. فعلم بذلك أن المتبرجة بالزينة ليس لها أن تضع ثوبها عن وجهها ويديها، وغير ذلك من زينتها، وأن عليها جناحا في ذلك، ولو كانت عجوزا، لأن كل ساقطة لها لاقطة. ولأن التبرج يفضي إلى الفتنة بالمتبرجة ولو كانت عجوزا، فكيف يكون الحال بالشابة والجميلة إذا تبرجت؟! لا شك أن إثمها أعظم، والجناح عليها أشد، والفتنة بها أكبر. وشرط سبحانه في حق العجوز أن لا تكون ممن يرجو النكاح، وما ذاك- والله أعلم- إلا لأن رجاءها النكاح، يدعوها إلى التجمل والتبرج بالزينة، طمعا في الأزواج، الجزء: 15 ¦ الصفحة: 274 فنهيت عن وضع ثيابها عن محاسنها، صيانة لها ولغيرها من الفتنة. ثم ختم الآية سبحانه بتحريض القواعد على الاستعفاف، وأوضح أنه خير لهن وإن لم يتبرجن. فظهر بذلك فضل التحجب والتستر بالثياب، ولو من العجائز، وأنه خير لهن من وضع الثياب؛ فوجب أن يكون التحجب، والاستعفاف عن إظهار الزينة خير للشابات من باب أولى، وأبعد لهن عن أسباب الفتنة. وقال تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْأِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [سورة النور آية: 30-31] . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 275 أمر الله سبحانه في هاتين الآيتين الكريمتين، المؤمنين والمؤمنات، بغض الأبصار، وحفظ الفروج، وما ذاك إلا لعظم فاحشة الزنى، وما يترتب عليها من الفساد الكبير بين المسلمين، ولأن إطلاق البصر، من وسائل مرض القلب، ووقوع الفاحشة، وغض البصر من أسباب السلامة من ذلك، ولهذا قال سبحانه: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [سورة النور آية: 30] . فغض البصر، وحفظ الفرج، أزكى للمؤمنين في الدنيا والآخرة؛ وإطلاق البصر، والفرج، من أعظم أسباب العطب والعذاب، في الدنيا والآخرة، نسأل الله العافية من ذلك. وأخبر عز وجل أنه خبير بما يصنعه الناس، وأنه لا يخفى عليه خافية; وفي ذلك تحذير للمؤمن، من ركوب ما حرم الله عليه، والإعراض عما شرع الله له، وتذكير له بأن الله سبحانه يراه، ويعلم أفعاله الطيبة وغيرها، كما قال تعالى: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [سورة غافر آية: 19] ، وقال تعالى: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ} [سورة يونس آية: 61] . فالواجب على العبد أن يحذر ربه، وأن يستحي منه الجزء: 15 ¦ الصفحة: 276 أن يراه على معصيته، أو يفقده من طاعته التي أوجب عليه. ثم قال سبحانه: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} [سورة النور آية: 31] ، فأمر المؤمنات بغض البصر، وحفظ الفرج، كما أمر المؤمنين بذلك، صيانة لهن من أسباب الفتنة، وتحريضا لهن على أسباب العفة والسلامة. ثم قال سبحانه: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [سورة النور آية: 31] : قال ابن مسعود رضي الله عنه {مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [سورة الأنعام آية: 151] يعني بذلك: ما ظهر من اللباس، فإن ذلك معفو عنه، ومراده بذلك رضي الله عنه الملابس التي ليس فيها تبرج وفتنة. وأما ما يروى عن ابن عباس رضي الله عنهما، أنه فسر مَا ظَهَرَ مِنْهَا بالوجه والكفين فهو محمول على حالة النساء قبل نزول آية الحجاب، وأما بعد ذلك، فقد أوجب الله عليهن ستر الجميع، كما سبق في الآيات الكريمات، من سورة الأحزاب، وغيرها. ويدل على أن ابن عباس أراد ذلك: ما رواه علي بن أبي طلحة عنه، أنه قال: "أمر الله نساء المؤمنين، إذا خرجن من بيوتهن في حاجة، أن يغطين وجوههن من فوق رؤوسهن بالجلابيب، ويبدين عينا واحدة". وقد نبه على ذلك: شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره من أهل العلم والتحقيق، وهو الحق الذي لا ريب فيه; الجزء: 15 ¦ الصفحة: 277 ومعلوم ما يترتب على ظهور الوجه والكفين من الفساد والفتنة. وقد تقدم قوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [سورة الأحزاب آية: 53] ولم يستثن شيئا، وهي آية محكمة، فوجب الأخذ بها والتعويل عليها، وحمل ما سواها عليها؛ والحكم فيها عام في نساء النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهن من نساء المؤمنين. وتقدم من سورة النور ما يرشد إلى ذلك، وهو ما ذكره الله سبحانه في حق القواعد، وتحريم وضعهن الثياب إلا بشرطين: أحدهما: كونهن لا يرجون النكاح. والثاني: عدم التبرج بالزينة. وسبق الكلام على ذلك، وأن الآية المذكورة حجة ظاهرة، وبرهان قاطع، على تحريم سفور النساء وتبرجهن بالزينة. ولا يخفى ما وقع فيه النساء اليوم من التوسع في التبرج، وإبداء المحاسن، فوجب سد الذرايع، وحسم الوسائل المفضية إلى الفساد، وظهور الفواحش. ومن أعظم أسباب الفساد: خلوة الرجال بالنساء وسفرهم بهن من دون محرم، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تسافر امرأة إلا مع ذي محرم، ولا يخلون رجل بامرأة إلا ومعها ذو محرم" 1. وقال صلى الله عليه وسلم: "لا يخلون رجل بامرأة إلا كان الشيطان   1 البخاري: الحج (1862) , ومسلم: الحج (1341) , وأحمد (1/222) . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 278 ثالثهما" 1. وقال صلى الله عليه وسلم:"لا يبيتن رجل عند امرأة، إلا أن يكون زوجا أو ذا محرم" 2 رواه مسلم في صحيحه. فاتقوا الله أيها المسلمون، وخذوا على أيدي نسائكم، وامنعوهن مما حرم الله عليهن، من السفور، والتبرج، وإظهار المحاسن، والتشبه بأعداء الله من النصارى ومن تشبه بهم. واعلموا أن السكوت عنهن مشاركة لهن في الإثم، وتعرض لغضب الله وعموم عقابه، عافانا الله وإياكم من شر ذلك. ومن أعظم الواجبات: تحذير الرجال من الخلوة بالنساء، والدخول عليهن، والسفر بهن بدون محرم، لأن ذلك من وسائل الفتنة والفساد. وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء" 3. وقال صلى الله عليه وسلم: "إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها، فناظر كيف تعملون؛ فاتقوا الدنيا، واتقوا النساء؛ فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء" 4. وقال عليه الصلاة والسلام: "رب كاسية في الدنيا عارية في الآخرة" 5، وقال صلى الله عليه وسلم: "صنفان من أهل النار لم أرهما بعد: نساء كاسيات عاريات، مائلات مميلات، رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، ورجال بأيديهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس" 6.   1 الترمذي: الرضاع (1171) . 2 مسلم: السلام (2171) . 3 البخاري: النكاح (5096) , ومسلم: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2740 ,2741) , والترمذي: الأدب (2780) , وابن ماجه: الفتن (3998) , وأحمد (5/200 ,5/210) . 4 مسلم: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2742) , وابن ماجه: الفتن (4000) , وأحمد (3/19 ,3/22 ,3/61) . 5 البخاري: العلم (115) , والترمذي: الفتن (2196) , وأحمد (6/297) , ومالك: الجامع (1695) . 6 مسلم: اللباس والزينة (2128) , وأحمد (2/355 ,2/440) , ومالك: الجامع (1694) . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 279 وهذا تحذير شديد من التبرج والسفور، ولبس الرقيق والقصير من الثياب، والميل عن الحق والعفة، وإمالة الناس إلى الباطل، وتحذير شديد من ظلم الناس، والتعدي عليهم، ووعيد لمن فعل ذلك بحرمان دخول الجنة، نسأل الله العافية من ذلك. ومن أعظم الفساد: تشبه الكثير من النساء بنساء الكفار، من النصارى وأشباهم، في لبس القصير من الثياب، وإبداء الشعور والمحاسن، ومشط الشعور على طريقة أهل الكفر والفسق. وقد قال صلى الله عليه وسلم: "من تشبه بقوم فهو منهم" 1. ومعلوم ما يترتب على هذا التشبه، وهذه الملابس القصيرة، التي تجعل المرأة شبه عارية، من الفساد، والفتنة، ورقة الدين، وقلة الحياء. فالواجب: الحذر من ذلك غاية الحذر، ومنع النساء منه، والشدة في ذلك، لأن عاقبته وخيمة، وفساده عظيم. ولا يجوز التساهل في ذلك مع البنات الصغار؛ لأن تربيتهن عليه يفضي إلى اعتيادهن له، وكراهتهن لما سواه إذا كبرن، فيقع بذلك الفساد والمحذور، والفتنة المخوفة التي وقع فيها الكبيرات من النساء. فاتقوا الله عباد الله، واحذروا ما حرم الله عليكم، وتعاونوا على البر والتقوى، وتواصوا بالحق والصبر عليه،   1 أبو داود: اللباس (4031) . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 280 واعلموا أن الله سبحانه سائلكم عن ذلك، ومجازيكم على أعمالكم. وهو سبحانه مع الصابرين، ومع الصادقين والمحسنين، فاصبروا، وصابروا، واتقوا الله، وأحسنوا إن الله يحب المحسنين. ولا ريب أن الواجب على ولاة الأمور: من الأمراء، والقضاة، والعلماء، ورؤساء الهيئات، وأعضاء الهيئات، أكبر من الواجب على غيرهم، والخطر عليهم أشد، والفتنة في سكوت من سكت منهم عظيمة. ولكن ليس إنكار المنكر خاصا بهم، بل الواجب على جميع المسلمين، ولا سيما أعيانهم وكبارهم، وبالأخص أولياء النساء وأزواجهن، إنكار هذا المنكر، والغلظة فيه، والشدة على من تساهل في ذلك، لعل الله سبحانه يرفع عنا ما نزل من البلاء، ويهدينا ونساءنا إلى سواء السبيل. وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنة قال: "ما بعث الله من نبي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب، يأخذون سنته ويهتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف، يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون؛ فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل". واسأل الله أن ينصر دينه، ويعلي كلمته، وأن يصلح الجزء: 15 ¦ الصفحة: 281 ولاة أمرنا، ويقمع بهم الفساد، وينصر بهم الحق، ويصلح لهم البطانة، وأن يوفقنا وإياكم وإياهم، وسائر المسلمين لما فيه صلاح العباد والبلاد، في المعاش والمعاد، إنه على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير، وحسبنا الله ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد، وآله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. [قول الشيخ حمود التويجري إن من أعظم الفتن خلع النساء جلباب الحياء] وقال الشيخ: حمود بن عبد الله التويجري في الصارم المشهور: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي من على من شاء بالحماية والصيانة، وقضى على من شاء بالسقوط والخذلان. أحمده أن جعل الغيرة في قلوب أهل الإيمان، فقاموا على نسائهم أحسن القيام، وجنبوهن أسباب الافتتان. وأشهد أن لا إله إلا الله العظيم الشان، الذي ينتقم ممن بارزه بالعصيان، فويل للكاسيات العاريات، من عقاب الملك الديان، وويل لأوليائهن الراضين لهن بالهوان. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، الذي بين للناس غاية البيان، وحذرهم من حبائل الشيطان، صلى الله عليه وعلى الجزء: 15 ¦ الصفحة: 282 آله وأصحابه، والتابعين لهم بإحسان. أما بعد: فإن من أعظم الفتن، خلع النساء جلباب الحياء واستهتارهن بالتبرج والسفور، وقد انهار في هذه الفتنة نساء المسلمين، وهذا مصداق ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم: "أن هذه الأمة تتبع سنن اليهود والنصارى" 1. ومصداق ما أخبر به، من وجود الكاسيات العاريات، وقوله: "كيف بكم إذا فسق فتيانكم، وطغى نساؤكم؟ قالوا وإن ذلك لكائن؟ قال: نعم، وأشد". وثبت: أنه قال: "من تشبه بقوم فهو منهم" 2، قال شيخ الإسلام: وهذا الحديث أقل أحواله، تحريم التشبه بهم، وإن كان ظاهره يقتضي كفر المتشبه بهم، كما في قوله: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} 3. وعن ابن عمر مرفوعا: "ليس منا من تشبه بغيرنا، لا تشبهوا باليهود، ولا بالنصارى" 4 رواه الترمذي. والتبرج: حرام، لما فيه من التشبه بأهل الجاهلية، والإفرنج وغيرهم؛ وقد أمر الله أزواج النبي صلى الله عليه وسلم الطيبات الطاهرات المطهرات، بلزوم بيوتهن، ونهاهن عن التبرج، فقال تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} 5 وليس خاصا بهن، بل هو عام. وقد تضافرت الأحاديث بالنهي عن التبرج وذمه، والوعيد الشديد عليه، منها: "شر نسائكم المتبرجات،   1 البخاري: أحاديث الأنبياء (3456) , ومسلم: العلم (2669) , وأحمد (3/84 ,3/89 ,3/94) . 2 أبو داود: اللباس (4031) . 3 سورة المائدة آية: 51. 4 الترمذي: الاستئذان والآداب (2695) . 5 سورة الأحزاب آية: 33. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 283 المتخيلات، وهن المنافقات"، وإنكار عمرو بن العاص، على التي وضعت يدها على الهودج، فبدت خواتيمها. فكيف لو رأى صنيع المتبرجات في زماننا؟ ولا سيما من كان منهن في البلدان التي قد افتتن أهلها بسفاسف المدنية الإفرنجية؟ ! وذكر حديث التبرج بالزينة لغير محلها، قال الخطابي، هو: تزين المرأة لغير زوجها، وذكر قوله فيه: "مثل الرافلة في الزينة في غير أهلها، كمثل ظلمة يوم القيامة لا نور لها" 1 قال ابن الأثير، الرافلة، هي: التي ترفل في ثوبها، أي: تتبختر. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يقبل الله من امرأة صلاة، حتى تواري زينتها": وقال رسوله الله صلى الله عليه وسلم: "يا أيها الناس انهوا نساءكم عن لبس الزينة، والتبختر في المسجد، فإن بني إسرائيل لم يلعنوا حتى لبس نساؤهم الزينة، وتبخترن في المساجد" 2. قالت عائشة رضي الله عنها: "لو أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أحدث النساء لمنعهن المسجد، كما منعه نساء بني إسرائيل". وروي عن ابن المبارك، أنه قال: "أكره اليوم الخروج للنساء في العيدين، فإن أبت المرأة إلا أن تخرج، فليأذن لها زوجها أن تخرج في أطمارها، ولا تتزين، فإن أبت أن تخرج كذلك، فلزوجها أن يمنعها عن الخروج" قال:   1 الترمذي: الرضاع (1167) . 2 ابن ماجه: الفتن (4001) . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 284 ويروى عن سفيان الثوري أنه كره اليوم الخروج للنساء إلى العيد. قلت: وذكر شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية، رحمه الله تعالى، عن الإمام أحمد رحمه الله تعالى، أنه سئل عن النساء يخرجن في العيد؟ قال: لا يعجبني في زماننا هذا، إنهن فتنة. قال الشيخ: وهذا يعم سائر الصلوات. انتهى. قال ابن دقيق: وإذا كان هذا قول عائشة، وابن المبارك، وسفيان الثوري، وأحمد بن حنبل، في نساء زمانهم، فكيف لو رأى صنيع المتبرجات في زماننا؟ ثم ذكر أحاديث، في فضل صلاتها في بيتها، قال: وقد ورد الإذن للنساء في إتيان المساجد مشروطا باجتناب الطيب ونحوه، مما يهيج شهوة الرجال. وذكر: "لا تمنعوا إماء الله مساجد الله، ولكن ليخرجن وهن تفلات" 1، وقال: "ائذنوا للنساء بالليل، إلى المساجد تفلات" 2 أي: غير متطيبات. قال ابن دقيق العيد: فيه حرمة التطيب على مريدة الخروج إلى المساجد، لما فيه من تحريك داعية الرجال وشهوتهم، وربما يكون سببا لتحريك شهوة المرأة أيضا; قال: ويلحق بالطيب ما في معناه، كحسن الملبس، والحلي الذي يظهر أثره، والهيئة الفاخرة.   1 أبو داود: الصلاة (565) , وأحمد (2/438 ,2/475 ,2/528) , والدارمي: الصلاة (1279) . 2 البخاري: الجمعة (899) , ومسلم: الصلاة (442) , والترمذي: الجمعة (570) , وأبو داود: الصلاة (568) , وأحمد (2/49 ,2/127 ,2/143 ,2/145) . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 285 وذكر قوله صلى الله عليه وسلم: "أيما امرأة استعطرت، ثم خرجت فمرت على قوم ليجدوا ريحها، فهي زانية، وكل عين زانية" 1. وقالت عائشة رضي الله عنها: "إن المرأة إذا تطيبت لغير زوجها، كان عليها نارا وشنارا" ورواه الطبراني مرفوعا. قال: ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن التبرج، وشدد فيه، وعن النبي صلى الله عليه وسلم: "المرأة عورة ... " 2، وقالت فاطمة رضي الله عنها: "خير النساء أن لا يرين الرجال ولا يرونهن". وذكر قوله صلى الله عليه وسلم: "صنفان من أهل النار لم أرهما: قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات، مميلات مائلات، رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة، ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا" 3. وفي رواية: "سيكون في آخر أمتي رجال يركبون على سروج كأشباه الرحال، ينْزلون على أبواب المساجد، نساؤهم كاسيات عاريات، على رؤوسهن كأسنمة البخت العجاف؛ العنوهن، فإنهن ملعونات ... " الحديث. وفي لفظ: "سيكون في آخر هذه الأمة رجال يركبون على المياثر حتى يأتوا أبواب مساجدهم، نساؤهم كاسيات عاريات، على رؤوسهن كأسنمة البخت العجاف، العنوهن فإنهن ملعونات". وفي هذين الحديثين علم من أعلام النبوة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم   1 الترمذي: الأدب (2786) , والنسائي: الزينة (5126) , وأبو داود: الترجل (4173) , وأحمد (4/413 ,4/418) , والدارمي: الاستئذان (2646) . 2 الترمذي: الرضاع (1173) . 3 مسلم: اللباس والزينة (2128) , وأحمد (2/355 ,2/440) . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 286 أخبر بما سيكون في آخر أمته، من وجود الكاسيات العاريات، فوقع الأمر طبق ما أخبر به، صلوات الله وسلامه عليه. وقد افتتن كثير من نساء المسلمين، في هذا العصر، بتقليد نساء الإفرنج، والتزيي بزيهن واتباع سننهن، حذو القذة بالقذة. وذكر في معنى الحديثين أقوال، منها: قول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "كاسيات عاريات" أي: كاسيات بلباس يصف البشرة، أو يبدي بعض تقاطيع أبدانهن، كالعضد والعجيزة، فهن كاسيات بلباس، عاريات حقيقة. قلت: وهو أدق في المعنى، وظاهر اللفظ، وحسبك من شيخ الإسلام فيما يقول عن الكتاب والسنة. وقال الشيخ حمود رحمه الله: وما عليه المتشهبات بنساء الإفرنج في زماننا أعظم وأعظم، فإنهن يكشفن رؤوسهن ورقابهن، ونحورهن، وصدورهن، وأيديهن إلى المناكب، وأرجلهن إلى الركب. قلت: فهن كاشفات بعض أبدانهن، كاسيات عاريات حقيقة في البعض، باللباس الضيق المبدي لتقاطع بقية أبدانهن، قال: كلبس "الكرته" وما أشبهها، يعني اللباس الضيق؟ وقيل مائلات: يمتشطن المشطة الميلاء، وهي: مشطة البغايا، والمميلات، اللاتي: يمشطن غيرهن تلك المشطة. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 287 وهذه صفة موجودة في المتشبهات بنساء الإفرنج، فإنهن: زائغات عن طاعة الله، متعديات لحدوده، ومميلات غيرهن إلى الأخذ بقبائح أفعالهن، ويمتشطن مع ذلك المشطة الميلاء، وهي مشطة نساء الإفرنج، ويمشطن غيرهن تلك المشطة، المخالفة لمشطة نساء المسلمين. قال: ورجال هذا الصنف من النساء، شركاء لهن في الخزي والعار، وجديرون بمشاركتهن في العقوبة في الدار الآخرة، لأن الراضي بالذنب كفاعله، ولإهمالهم أمر نسائهم، وتركهم ما أوجبه الله تعالى عليهم، من رعايتهن، وتعليمهن، وتأديبهن، وأمرهن بالمعروف، ونهيهن عن المنكر، والأخذ على أيديهن، والحرص على إبعادهن عن جميع الأمور التي تفتنهن بالرجال، وتفتن الرجال بهن، وقد قال تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} 1. انتهى المراد منه. [قول الشيخ صالح بن لحيدان في الحديث عن أمر المرأة من طفولتها إلى تسلمها البيت] وقال الشيخ صالح بن محمد بن لحيدان وفقه الله 2: كنا تحدثنا في مقال عن أخلاق الشباب، وما ينبغي أن يتخذ نحوها، لصيانتها، وحفظها; والآن نسوق الحديث في أمر المرأة من طفولتها إلى تسلمها البيت وتربية النشء. فإن أمرها أعظم من أن يهمل، وإن المرأة في هذا   1 سورة النساء آية: 34. 2 في مجلة راية الإسلام العدد الخامس في 1/4/1380 هـ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 288 العصر، انخدعت بما ينشر عن تحريرها وتثقيفها، ومسايرتها لركب الحضارة، وقلة التمدن. فانساقت مندفعة في كثير من البلاد العربيه والإسلامية، وغزت الحضارة كل أحد؛ حتى عم البلاء وشمل الشر، وبلغ السيل الزّبَى، وطم ودخل على المصونات في خدورهن، وتطلع إلى ربات الأودية في مطاوي شعابهن. فقل أن تجد أحدا، إلا وقد أخذ من سيل هذه السحابة المعتمة، فمقل ومستكثر، حتى رأى كثير من النساء، أن العادة القديمة التي اعتادتها أمهاتهن، من التستر والصيانة، عادة عفى عليها الزمن، ولا تليق بمن تحب أن ترى ملابسها الفضفاضة الضيقة، وهي تحكي جسدها، وتصور تقاطيع جسمها. بل إن النشأة التالية، من لم يعرفن من الحياة إلا الشيء القليل، تراهن في الطرقات، وعليهن تلك الملابس، التي لا تغطي إلا القليل من الجسد. وإنك لتحس بالألم يحز قلبك، حين تصادف في بعض هذه الصبية، التي استحسن مربوها أن يجعلوها بهذه الصورة، وهي تستحي أن ترى، بل نراها تنحني حين تقابلها الريح، فتعبث بما يسمونه "الكرته" البالغ من السعة والقصر حدا كبيرا. فهذه الطفلة يغلبها الحياء، فيحمر وجهها خجلا، لأن الجزء: 15 ¦ الصفحة: 289 هذه الملابس لا تستقر ساترة، وأهلها ممن نشأ في بيئة محافظة، وعاش في بيت مصون، يأبى لها حياة الحفظ والصيانة، ويريد لها أن تكون كبنات الجيران، ممن هانت عليهم أخلاقهم. بل إن كثيرا من النساء اللاتي لا يعرفن إلا بيوتهن، قد عرفتهن في هذه الأزمنة الأسواق، واعتدن الخروج بثياب لا يرتضيها الإسلام، ولا يقرها الشرع، ولا تهضمها الأخلاق الفاضلة. فيا ترى من المسؤول تجاه هذه الحالة، التي إن تركت على ما هي عليه، أوشكت أن تسلكنا في سلك جيراننا الأقربين، الذين نعرف الكثير من أحداث بلادهم، والتي من أكبر أسبابها: خروج النساء بهذه الصفة. وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء" 1؛ والنساء ضعيفات عقل ودين، فإذا تركن وما يهوين، جرهن ذلك إلى الهاوية، واتبعهن الرجال. وإن خروجهن بأثواب مقطوعة الأكمام، وخمر لا تستر إلا المساوئ، وتبرز المحاسن، وتلفت الأنظار، لهو الخطر الكبير على الأخلاق. وإن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته" 2؛ فليحفظ كل أحد رعيته، ويحافظ على ما جعل في وصايته وتحت عهدته، فقد أوصى النبي عليه السلام بالنساء فقال: "استوصوا بالنساء خيرا" 3.   1 البخاري: النكاح (5096) , ومسلم: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2740 ,2741) , والترمذي: الأدب (2780) , وابن ماجه: الفتن (3998) , وأحمد (5/200 ,5/210) . 2 البخاري: النكاح (5200) , ومسلم: الإمارة (1829) , والترمذي: الجهاد (1705) , وأبو داود: الخراج والإمارة والفيء (2928) , وأحمد (2/5 ,2/54 ,2/111 ,2/121) . 3 البخاري: أحاديث الأنبياء (3331) , ومسلم: الرضاع (1468) . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 290 إننا نتساهل في الأمر، ونظن الخطب أيسر من ذلك، فنترك البنات يلبسن ما يختاره لهن الأمهات، ونقول: عندما يقاربن، سيمنعهن الحياء، وتقهرهن صفة الأنوثة فيهن، وهذا حسن نية مصيره الخطأ. فإن من اعتاد شيئا في صغره، صعب عليه الابتعاد عنه إذا كبر، وقد يأتي اليوم الذي تخرج فيه الفتاة- إن تركت وما يحلو لها- على تقاليد أمتها، فلينظروا إلى البلاد العربية والإسلامية المجاورة ويستبينوا الأمر. إن الكثير من الشباب، يحبذ هذه الحياة، ويراها تتيح للمرأة معرفة محيطها، وسبر أحوال مجتمعها، ويرى حياة البيت عارا على أمة تريد النهوض والرقي، وينظر إلى نساء الغرب السافرات نظرة إعجاب وتقدير. وهذا من ضعف الإيمان، وقلة البصيرة في الدين، وكثرة الجهل، وغلبة الهوى، مما جعل أهل الغيرة يعيشون في حمى من الهموم والقلق، فإذا كانت حياة البيت تعد عارا، فكيف يعيشه أهل المروءة؟ ! إذا كانت حياة البيت عارا ... وإن كان التمدن في التعري فكيف يعيش ذو الأنف الحمي ... فما فضل الحَصَان على البغي والتعليم له خيره ومعه خطره، وإننا لا نعارض في تعليم الفتاة، ولكننا نريد تعليما يحفظ لها كرامتها، ويصون وجهها عن رؤية الأجانب، ويربى فيها روح الدين، ويعطيها الجزء: 15 ¦ الصفحة: 291 القدرة على إنشاء جيل صالح، يعتز بإسلامه، ويرى أنه لا شرف ولا عزة إلا بالتمسك به، والسير على هديه. وهذا هو ما نترقبه من هذا التعليم، الذي بدأت قواعد بنيانه ترسى، ونحن ننتظر أن يكون هذا التعليم أكبر معين لنا في هذه الفترة، التي بدأ الشباب يتطلع إلى النساء المتعلمات في خارج البلاد، فجلبهن يحملن أخلاقا زائفة، وكرامات ملوثة، ووجوها فقدت ماء الحياء. فلا ترى مانعا أن تلاقي كل أحد وهي سافرة، إن هذا لهو البلاء المبين! وإن قوما أهملوا أمر نسائهم لضيع؛ وإننا أمة تعيش في عزلة عن الأخلاق الفاسدة، حتى جرفنا هذا العصر بما فيه. فإن لم نجاهد مجتمعين متكاتفين، ونحصن أمتنا بأقوى الحصون وأمنعها، أصابنا ما أصاب الأمم الأخرى المجاورة، وصارت أخلاقنا أثرا بعد عين، وخبرا يتناقله الناس، وآن اليوم الذي يقال فيه: كانت البلاد النجدية، بل بلاد الجزيرة العربية، محافظة على دينها، متمسكة بالأخلاق متحلية بالصيانة. أقول: إن هذا اليوم ليس ببعيد، وإنه لمن المحزن أن تكون الأخلاق الإسلامية، لا تعرف إلا من بطون الأسفار، وطيات التأريخ؛ ومن لم يتعظ بما يسمع ويرى كل يوم، فما له من عقله إلا ما للأنعام السائمة. إن العلاج والدواء عندنا متيسر، وإن مرضى يهملون الجزء: 15 ¦ الصفحة: 292 ما فيه شفاؤهم الأكيد، لسفهاء مغبونون. فإلى الإسلام وتقاليده، لنحفظ نساءنا ونحرسهن بسلطة هذا الدين الحي، الذي أثبتت الأيام أنه خير نظام عرفته الإنسانية، ولن تعرف خيرا منه {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} 1. [قول الشيخ صالح بن أحمد الخريصي: إن عليكم عباد الله تفقد نسائكم وأولادكم] وقال الشيخ: صالح بن أحمد الخريصي، في أثناء نصيحة له: إن عليكم عباد الله تفقد نسائكم وأولادكم، فإن النساء ظهر منهن التبرج والزينة والتجول في الأسواق، وهذا خطأ وتفريط من الأولياء. وقد نهى الله عز وجل عن التبرج في محكم كتابه، وهو إظهار الزينة في اللباس وغيره، وقال صلى الله عليه وسلم: "ما تركت بعدي فتنة هي أضر على الرجال من النساء" 2، وقال: "أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء" 3. وأما الأولاد: فعلى الأولياء حفظهم عن الخروج والتجول، والأخذ على أيديهم وإلزامهم بما أوجب الله عليهم، من فعل الصلاة، وترك المحرمات، وعن الاجتماعات التي لا تنتج إلا الشر، فإنه يحصل فيها مفاسد عديدة. وقد قال صلى الله عليه وسلم "مروا أبناءكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع" 4، وقال: "ما نحل   1 سورة آل عمران آية: 85. 2 البخاري: النكاح (5096) , ومسلم: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2740) , والترمذي: الأدب (2780) , وابن ماجه: الفتن (3998) , وأحمد (5/210) . 3 مسلم: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2742) , وأحمد (3/22) . 4 أبو داود: الصلاة (495) , وأحمد (2/180 ,2/187) . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 293 والد ولده- يعني ما أعطى عطية- أفضل من أدب حسن" 1 وقال في الأهل والأولاد: "ولا ترفع عصاك عنهم أدبا وأخفهم في الله" 2. لا سيما تفقدهم في الأحوال التي تجر إلى غايات لا تحمد، فإن منهم من يتخذ "تواليت" النصارى، وهذا شيء أقل أحواله التحريم، وإلا فقد قال صلى الله عليه وسلم: "من تشبه بقوم فهو منهم" 3. ومثل شرب الدخان، الذي فشا في أكثرهم، وهو محرم، وينتج مفاسد عديدة، ومنها اللواط- والعياذ بالله- وأكثر ما يحدث من الذين يظهرون بالسياكل إلى الأمكنة الخالية، التي يظنون أن الهيئة لا تصلها. فعلى أهل الحسبة التجول في تلك الأماكن، واستبراؤها، لأن هذا من واجبهم؛ كما أن من واجبهم حسم هذه المادة، وهي: الخروج إلى البرية بالسياكل، إلا إذا كان قاصدا محلا معينا وليس متهما.   1 الترمذي: البر والصلة (1952) , وأحمد (3/412) . 2 أحمد (5/238) . 3 أبو داود: اللباس (4031) . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 294 الباب الخامس: التصوير وهو محرم بالكتاب والسنة والإجماع، ولم يستعمل في أول هذه الدعوة المباركة، إلى عصر الشيخ عبد الله وطبقته، ولم يستعمل في عصر الخلفاء الراشدين، ولا الأئمة المهديين، وقد استولوا على مشارق الأرض ومغاربها. وإنما استعمل في هذا العصر، مشابهة لأهل الخارج، ولتولية الخونة المرتشية; ولا يجوز أن يستعمل الخائن على أمر من أمور المسلمين؛ ومن الباطل أن يلزم به كل موظف وفقير ومتعلم، حتى إن صغار المتعلمين يصورون، ويعلمون التصوير، اتباعا لبرنامج الخارج!!. والتصوير: أصل شرك العالم، لا سيما المعظمين، قال تعالى: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً} [سورة نوح آية: 23-24] . قال ابن عباس رضي الله عنه: "هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم، أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابا، وسموها بأسمائهم، ففعلوا ولم تعبد، حتى إذا هلك أولئك، ونسي العلم عبدت". وقال ابن القيم: قال غير واحد من السلف: لما ماتوا الجزء: 15 ¦ الصفحة: 295 عكفوا على قبورهم، ثم صوروا تماثيلهم، ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم". وقال تعالى: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} [سورة لقمان آية: 11] وفي الصحيحين عن أبي هريرة، رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قال الله تعالى: ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي، فليخلقوا ذرة، أو ليخلقوا حبة، أو ليخلقوا شعيرة" 1. وفيهما عن عائشة رضي الله عنها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أشد الناس عذابا يوم القيامة، الذين يضاهئون بخلق الله" 2. قال النووي: قيل هذا محمول على صانع الصورة لتعبد، وهو صانع الأصنام ونحوها، فهذا كافر، وهو أشد الناس عذابا. وقيل: هو فيمن قصد المعنى الذي في الحديث، من مضاهاته خلقه، واعتقد ذلك فهو كافر أيضا، وله به من شدة العذاب ما للكافر، ويزيد عذابه بزيادة كفره. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أشد الناس عذابا يوم القيامة المصورون، يقال لهم: أحيوا ما خلقتم" 3 متفق عليه، ولهما عنه صلى الله عليه وسلم: "من صور صورة كلف أن ينفخ فيها الروح وليس بنافخ" 4. ولهما عن عائشة رضي الله عنها قالت: قدم   1 البخاري: التوحيد (7559) , ومسلم: اللباس والزينة (2111) , وأحمد (2/259 ,2/391 ,2/527) . 2 البخاري: اللباس (5954) , وأحمد (6/36) . 3 أحمد (2/26) . 4 البخاري: البيوع (2225) والتعبير (7042) , والترمذي: اللباس (1751) , والنسائي: الزينة (5359) , وأحمد (1/246) . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 296 رسول الله صلى الله عليه وسلم من سفر، وقد سترت سهوة لي بقرام فيه تماثيل، فهتكه وتلون وجهه، وقال: "أشد الناس عذابا عند الله الذين يضاهئون بخلق الله" 1 القرام: الستر الرقيق. وفي السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم: "يخرج عنق من النار، فيقول: إني وكلت بكل من دعا مع الله إلها آخر، وبكل جبار عنيد، وبالمصورين" 2 قال الترمذي: حسن صحيح، وقال صلى الله عليه وسلم: "الذين يصورون هذه الصور، يعذبون يوم القيامة، ويقال لهم: أحيوا ما خلقتم" 3 متفق عليه. وقال ابن عباس رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "كل مصور في النار، يجعل الله له بكل صورة صورها نفس يعذب بها في جهنم" 4، وقال صلى الله عليه وسلم: "لعن الله المصورين"؛ قال ابن القيم: فالمصور أحد الملاعين الداخلين تحت لعنة الله ورسوله. وهذا يدل على أن التصوير من أكبر الكبائر، لأنه جاء فيه من الوعيد واللعن، وكون فاعله أشد الناس عذابا، ما لم يجئ في غيره من الكبائر. [جواب الشيخ محمد بن إبراهيم عما كتبه أبو الوفاء محمد درويش بشأن التصوير] وقال الشيخ: محمد بن إبراهيم، رحمه الله تعالى 5: وجه إلي سؤال عما كتبه فضيلة الشيخ أبو الوفاء   1 البخاري: اللباس (5954) , والنسائي: الزينة (5356) , وأحمد (6/36) . 2 الترمذي: صفة جهنم (2574) , وأحمد (2/336) . 3 البخاري: النكاح (5181) , وأحمد (6/246) , ومالك: الجامع (1803) . 4 مسلم: اللباس والزينة (2110) , وأحمد (1/308) . 5 ردا على محمد درويش, كما في رسالته "الصور والتصوير" طبعت سنة 1385 هـ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 297 محمد درويش، في مجلة الهدي النبوي، بشأن التصوير الشمسي، من الفتوى بجوازه مطلقا، مؤكدا للجواز ومستدلا عليه بما رواه مسلم عن بسر بن سعيد، حينما قال بسر لعبد الله الخولاني، وقد رأى سترا فيه صورة في بيت زيد: ألم يخبرنا زيد عن الصور يوم الأول؟ فقال عبد الله: ألم تسمعه حين قال: إلا رقما في ثوب؟ ! وبقوله تعالى: {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} 1 مقررا ذلك بقوله: لا يريد إلا أنه جعل أجسامكم في صورة حسنة× فالتصوير في الحقيقة لا يطلق إلا على المجسمات. وجوابي عن ذلك، أن أقول: تصوير ما له روح لا يجوز، سواء في ذلك ما كان له ظل وما لا ظل له، وسواء كان في الثياب والحيطان، والفرش والأوراق وغيرها. هذا هو الذي تدل عليه الأحاديث الصحيحة، كحديث مسروق الذي في البخاري، قال سمعت عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن أشد الناس عذابا يوم القيامة، المصورون" 2 وحديث عبد الله بن عمر، رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الذين يصنعون هذه الصور، يعذبون يوم القيامة، يقال لهم: أحيوا ما خلقتم" 3. وحديث ابن عباس رضي الله عنهما، قال سمعت   1 سورة غافر آية: 64. 2 البخاري: اللباس (5950) , ومسلم: اللباس والزينة (2109) , والنسائي: الزينة (5364) , وأحمد (1/375) . 3 البخاري: اللباس (5951) , ومسلم: اللباس والزينة (2108) , والنسائي: الزينة (5361) , وأحمد (2/20 ,2/55 ,2/141) . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 298 محمدا صلى الله عليه وسلم يقول: "من صور صورة في الدنيا، كلف أن ينفخ فيها الروح وليس بنافخ" 1: فهذه الأحاديت الصحيحة وأمثالها دلت بعمومها على منع التصوير مطلقا، ولو لم يكن في الباب سواها، لكفتنا حجة على المنع الإطلاقي. فكيف وقد وردت أحاديث ثابتة، ظاهرة الدلالة على منع تصوير ما ليس له ظل من الصور، منها حديث عائشة، رضي الله عنها، وهو في البخاري: "أنها اشترت نمرقة فيها تصاوير. فقام النبي صلى الله عليه وسلم بالباب، فلم يدخل، فقلت: أتوب إلى الله مما أذنبت. فقال: ما هذه النمرقة؟ فقلت: لتجلس عليها، وتوسدها، قال: إن أصحاب هذه الصور يعذبون يوم القيامة، يقال لهم: أحيوا ما خلقتم، وإن الملائكة لا تدخل بيتا فيه الصور" 2. ومنها حديث أبي هريرة رضي الله عنه الذي في السنن، وصححه الترمذي، وابن حبان، ولفظه: "أتاني جبريل فقال: أتيتك البارحة، فلم يمنعني أن أكون دخلت إلا أنه على الباب تماثيل، وكان في البيت قرام ستر فيه تماثيل، وكان في البيت كلب، فمر برأس التمثال الذي على باب البيت يقطع فيصير كهيئة الشجرة، ومر بالكلب فليخرج، ففعل رسول الله صلى الله عليه وسلم" 3. ومنها: ما في مسلم عن سعيد بن أبي الحسين، قال:   1 البخاري: التعبير (7042) , ومسلم: اللباس والزينة (2110) , والنسائي: الزينة (5358) , وأحمد (1/241 ,1/246 ,1/350) . 2 البخاري: اللباس (5957) , ومسلم: اللباس والزينة (2107) , وأحمد (6/246) , ومالك: الجامع (1803) . 3 الترمذي: الأدب (2806) , وأبو داود: اللباس (4158) , وأحمد (2/305) . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 299 "جاء رجل إلى ابن عباس، رضي الله عنهما، فقال: إني رجل أصور هذه الصور، فأفتني فيها، فقال له: ادن مني، فدنا منه. ثم قال: ادن مني، فدنا منه. ثم قال: ادن مني، فدنا منه، حتى وضع يده على رأسه، وقال: أنبئك بما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم، سمعت رسوله الله صلى الله عليه وسلم يقول: كل مصور في النار، يجعل له بكل صورة يصورها نفس، فتعذبه في جهنم" وقال: "إن كنت فاعلا فاصنع الشجر وما لا نفس له". ومنها: ما في سنن أبي داود، عن جابر رضي الله عنه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه زمن الفتح- وهو بالبطحاء- أن يأتي الكعبة فيمحو كل صورة فيها، فلم يدخلها النبي صلى الله عليه وسلم حتى محيت كل صورة فيها" 1. ومنها: ما بوب له البخاري بقوله: باب نقض الصور، وهو حديث عمران بن حطان: أن عائشة رضي الله عنها، حدثته: "أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يترك في بيته شيئا فيه تصاليب إلا نقضه" 2. ومن هذه الأحاديث وأمثالها أخذ الأئمة الأربعة وسائر السلف، إلا من شذ، منع التصوير، وعموم المنع في سائر الصور، سواء ما كان مجسدا، وما كان مخططا في الأوراق وغيرها، كالمصور في أصل المرآة وغيرها، مما يعلق في الجدران، ونحو ذلك.   1 أبو داود: اللباس (4156) , وأحمد (3/335 ,3/383) . 2 البخاري: اللباس (5952) , وأحمد (6/52) . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 300 أما تعلق من خالف ذلك بحديث: "إلا رقما في ثوب" 1، فهو شذوذ عما كان عليه السلف والأئمة، وتقديم للمتشابه على المحكم؛ إذ يحتمل أن المراد باستثناء الرقم في الثوب، ما كانت الصورة فيه غير ذوات الأرواح، كصورة الشجر ونحوه، كما ذكر الإمام أبو زكريا النووي وغيره. واللفظ إذا كان محتملا، فلا يتعين حمله على المعنى المشكل، بل ينبغي أن يحمل على ما يوافق الأحاديث الظاهرة في المنع، التي لا تحتمل التأويل; على أنه لو سلم بقاء حديث: "إلا رقما في ثوب" 2 على ظاهره، لما أفاد إلا جواز ذلك في الثوب فقط. وجوازه في الثوب لا يقضي جوازه في كل شيء، لأن ما في الثوب من الصور، إما ممتهن، وإما عرضة للامتهان، ولهذا ذهب بعض أهل العلم إلى أنه لا بأس بفرش الفرش التي فيها التصاوير، استدلالا بما في حديث السنن الذي أسلفنا، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "ومر بالستر فليقطع، فليجعل منه وسادتان منبوذتان توطآن" 3 إذ وطؤها وامتهانها مناف ومناقض لغرض المصورين في أصل الوضع، وهو تعظيم المصور، والغلو فيه، المفضي إلى الشرك بالمصور. ولهذه العلة والعلة الأخرى، وهي المضاهاة   1 البخاري: اللباس (5958) , والنسائي: الزينة (5349) , ومالك: الجامع (1802) . 2 البخاري: اللباس (5958) , والنسائي: الزينة (5349) , ومالك: الجامع (1802) . 3 الترمذي: الأدب (2806) , وأبو داود: اللباس (4158) . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 301 بخلق الله، جاء الوعيد الشديد، والتهديد الأكيد، في حق المصورين. وأما جعل الآية الكريمة، وهي قوله تعالى: {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} 1 معارضة لما دلت عليه النصوص النبوية بعمومها تارة وبظاهرها أخرى، فهذا من أفحش الغلط، ومن أبين تحريف الكلم عن مواضعه. فإن التصوير الشمسي، وإن لم يكن مثل الجسد من كل وجه، فهو مثله في علة المنع، وهي: إبراز الصورة في الخارج، بالنسبة إلى المنظر؛ ولهذا يوجد كثير من المصورات الشمسية ما هو أبدع في حكاية المصور، بحيث يقال في الواحدة من الصور: هذه صورة فلان طبق الأصل. وإلحاق الشيء بالشيء لا يشترط فيه المساواة من كل الوجوه، كما هو معلوم؛ هذا لو لم تكن الأحاديث ظاهرة في التسوية بينهما، فكيف وقد جاءت أحاديث عديدة واضحة الدلالة في المقام؟! وقد زعم بعض مجيزي التصوير الشمسي أنه نظير ظهور الوجه في المرآة ونحوها من الصقيلات، وهذا فاسد; لأن ظهور الوجه في المرآة ونحوها، شيء غير مستقر، وإنما يرى بشرط بقاء المقابلة، فإذا فقدت المقابلة فقد ظهور الصورة في المرآة ونحوها. بخلاف الصورة الشمسية، فإنها باقية في الأوراق   1 سورة غافر آية: 64. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 302 ونحوها، مستقرة؛ وإلحاقها بالصورة المنقوشة باليد أظهر وأوضح، وأصح من إلحاقها بظهور الصورة في المرآة ونحوها. فإن الصورة الشمسية، وبدو الصورة في الأجرام الصقيلة ونحوها، يفترقان في أمرين: أحدهما: الاستقرار والبقاء; والثاني: حصول الصورة عن عمل ومعالجة، فلا يطلق لا لغة ولا عقلا ولا شرعا، على مقابل المرآة ونحوها أنه صور ذلك. ومصور الصورة الشمسية، مصور لغة وعقلا وشرعا؛ فالمسوي بينهما مسوٍّ بين ما فرق الله بينه؛ والمانعون منه قد سووا بين ما سوى الله، وفرقوا بين ما فرق الله بينه، وكانوا بالصواب أسعد، وعن فتح أبواب المعاصي والفتن أنفر وأبعد. فإن المجيزين لهذه الصور، جمعوا بين مخالفة أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ونفث سموم الفتنة بين العباد، بتصوير النساء الحسان، العاريات الفاتنات، في عدة أشكال وألوان، وحالات يقشعر منها كل مؤمن صحيح الإيمان، ويطمئن إليها كل فاسق وشيطان، فالله المستعان، وعليه التكلان. [قول الشيخ صالح البليهي في تحريم التصوير] وقال الشيخ صالح البليهي في تحريم التصوير، وأنه لا فرق بين المجسم وغيره: الجزء: 15 ¦ الصفحة: 303 قبل كلام كل متكلم، يجمل بنا أن نذكر الحجة من قول الناصح الأمين صلى الله عليه وسلم، ثم نشرح ذلك بالأدلة، على أنه لا فرق، ثم نتحف القارئ بقول البعض من جهابذة العلماء، وفرسان الشريعة، ليكون ذلك نبراسا وهدى للمهتدي، وحجة على المعتدي. والسبب في ذلك أن البعض من أهل الوقت يعتقد أن التحريم في التصوير واقتنائه خاص بما له ظل، دون ما عداه؛ ولا يعتقد هذا المعتقد مع ظهور الحجة وبيان المحجة، إلا جاهل أو مرتاب; فنسأله جل شأنه أن يهدينا وإياهم إلى الحق والصواب. وسبب آخر هو: كثرة التصوير، وكثرة اقتنائه. فمن ذلك حديث ابن عمر رضي الله عنهما، أنه عليه السلام قال: "إن الذيق يصنعون الصور يعذبون يوم القيامة، يقال لهم: أحيوا ما خلقتم" متفق عليه، ولفظه لمسلم. وفي المتفق عليه من حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أشد الناس عذابا يوم القيامة المصورون" 1، وفيهما أيضا عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "كل مصور في النار، يجعل له بكل صورة صورها نفس، فتعذبه في جهنم" 2. وفي صحيح البخاري، عن أبي زرعة قال: دخلت مع   1 البخاري: اللباس (5950) , ومسلم: اللباس والزينة (2109) , والنسائي: الزينة (5364) , وأحمد (1/375) . 2 مسلم: اللباس والزينة (2110) , وأحمد (1/308) . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 304 أبي هريرة دارا بالمدينة، فرأى في أعلاها مصورا يصور، فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي، فليخلقوا حبة، أو ليخلقوا ذرة" 1، زاد مسلم "أو ليخلقوا شعيرة" 2. والذي في صحيح مسلم: دخلت مع أبي هريرة في دار مروان، فرأى فيها تصاوير. وعن عائشة رضي الله عنها، قالت: "قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من سفر، وقد سترت بقرام لي على سهوة لي فيها تماثيل، فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم هتكه، وقال: أشد الناس عذابا يوم القيامة، الذين يضاهئون بخلق الله. قالت: فجعلناه وسادة أو وسادتين" 3 متفق عليه، ولفظه للبخاري. وعنها رضي الله عنها: "أنها اشترت نمرقة فيها تصاوير، فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم قام على الباب فلم يدخله، فعرفت في وجهه الكراهية; فقلت: يا رسول الله أتوب إلى الله، وإلى رسوله، ماذا أذنبت؟ فقال رسول الله: ما بال هذه النمرقة؟ قلت اشتريتها لك، لتقعد عليها وتوسدها، فقال عليه السلام: إن أصحاب هذه الصور يوم القيامة يعذبون، فيقال لهم: أحيوا ما خلقتم" 4، وقال: "إن البيت الذي فيه الصور، لا تدخله الملائكة" 5 والسياق للبخاري. وعن أبي طلحة، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:   1 البخاري: اللباس (5953) , ومسلم: اللباس والزينة (2111) , وأحمد (2/232 ,2/391 ,2/527) . 2 مسلم: اللباس والزينة (2111) , وأحمد (2/232) . 3 البخاري: اللباس (5954) , ومسلم: اللباس والزينة (2107) , والنسائي: الزينة (5357) , وأحمد (6/36) . 4 البخاري: البيوع (2105) . 5 البخاري: البيوع (2105) , ومسلم: اللباس والزينة (2107) , وأحمد (6/246) , ومالك: الجامع (1803) . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 305 "لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولا صورة" 1 متفق عليه. وعن حيان بن حصين قال قال لي علي رضي الله عنه: "ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ألا تدع صورة إلا طمستها، ولا قبرا مشرفا إلا سويته" 2 رواه مسلم; وفي سنن أبي داود، عن علي رضي الله عنه مرفوعا: "لا تدخل الملائكة بيتا فية صورة، ولا كلب، ولا جنب" 3. وفي البخاري عن ابن عمر قال: "واعد رسول الله صلى الله عليه وسلم جبرائيل أن يأتيه فراث عليه حتى اشتد على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج فلقيه جبريل فشكا عليه، فقال: إنا لا ندخل بيتا فيه كلب ولا صورة" 4 وروى أحمد عن علي رضي الله عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة، فقال: أيكم ينطلق إلى المدينة، فلا يدع فيها وثنا إلا كسره، ولا قبرا إلا سواه، ولا صورة إلا لطخها. فقال رجل: أنا يا رسول الله. قال: فانطلق ثم رجع، فقال: يا رسول الله, لم أدع وثنا إلا كسرته، ولا قبرا إلا سويته، ولا صورة إلا لطختها. ثم قال عليه السلام: من عاد إلى صنع شيء من هذا فقد كفر بما أنزل على محمد" 5 وجود المنذري إسناده. وعن صفية بنت شيبة، قالت: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بلَّ ثوبا وهو في الكعبة، ثم جعل يضرب التصاوير التي فيها".   1 البخاري: بدء الخلق (3225) , ومسلم: اللباس والزينة (2106) , والترمذي: الأدب (2804) , والنسائي: الصيد والذبائح (4282) والزينة (5347 ,5348) , وابن ماجه: اللباس (3649) , وأحمد (4/30) . 2 مسلم: الجنائز (969) , والترمذي: الجنائز (1049) , والنسائي: الجنائز (2031) , وأبو داود: الجنائز (3218) , وأحمد (1/96) . 3 النسائي: الطهارة (261) , وأبو داود: اللباس (4152) , وأحمد (1/83 ,1/107 ,1/139) , والدارمي: الاستئذان (2663) . 4 البخاري: اللباس (5960) . 5 مسلم: الجنائز (969) , والترمذي: الجنائز (1049) , والنسائي: الجنائز (2031) , وأبو داود: الجنائز (3218) , وأحمد (1/87) . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 306 قال في مجمع الزوائد: رواه الطبراني، ورجاله ثقات. وفي مسند أبي داود الطيالسي، عن أسامة، قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكعبة، ورأى صورا، فدعا بدلو من ماء، فجعل يمحوها، ويقول: "قاتل الله قوما يصورون ما لا يخلقون". وفي تاريخ مكة للأزرقي، عن عبد المجيد بن أبي روّاد: "أن الفضل دخل مع النبي صلى الله عليه وسلم الكعبة يوم الفتح، وبعثه النبي صلى الله عليه وسلم فأتى بذنوب من ماء زمزم ليطمس به الصور التي في الكعبة". وفي الكتاب المذكور من حديث الزهري: "أنه عليه السلام دخل البيت يوم الفتح، وأرسل الفضل بن عباس، فجاء بماء زمزم، ثم أمر بثوب فبلّ بالماء، فأمر بطمس تلك الصور". ونقل في شفاء الغرام، عن أبي قانع بسنده عن مسامع ابن شيبة عن أبيه، قال: "دخل النبي صلى الله عليه وسلم الكعبة، فصلى فيها ركعتين، ورأى فيها تصاوير، فقال: يا شيبة اكفني هذا، فاشتد ذلك على شيبة، فقال له رجل: اطله بزعفران ففعل". والأحاديث الواردة في هذا الباب كثيرة جدا. والأدلة على أنه لا فرق في التحريم بين المجسد وغيره كثيرة، فنذكر البعض منها، ليظهر الحق ويستنير: الجزء: 15 ¦ الصفحة: 307 الدليل الأول: أن أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم عامة، ومن ادعى التفرقة فعليه الدليل. الدليل الثاني: أن العلة في مضاهاة خلق الله موجودة في المجسد وغيره. الدليل الثالث: أحاديث عائشة في شأن قرامها ظاهرة الدلالة، في عدم الفرق فيما له ظل، وفيما لا ظل له. الدليل الرابع: علة الافتتان موجودة في المجسد وغيره، سواء كانت العلة عبادة أو غيرها. الدليل الخامس: حديث علي حين بعثه عليه السلام: "أن لا يدع قبرا مشرفا إلا سواه، ولا صورة إلا طمسها" 1، فقوله عليه السلام: (إلا طمستها) ظاهر الحديث العموم، بل هو في التي لم تكن مجسدة أصرح، لأنه لم يقل أن لا تدع صورة إلا كسرتها، أو أزلتها. الدليل السادس: حديث علي لما بعث عليه السلام الرجل إلى المدينة، أن لا يدع فيها صورة إلا لطخها، صريح في التي لم تكن مجسدة، فالطمس لا يزيل المجسد؛ وأيضا الرسول عليه السلام فرق بين الكسر واللطخ. الدليل السابع: حديث أسامة، حيث دعا عليه السلام بدلو من ماء فجعل يمحوها; وجه الدلالة: أنها لو كانت مجسدة لم يزلها الماء، وهذا معروف لدى كل عاقل مريد   1 مسلم: الجنائز (969) , والترمذي: الجنائز (1049) , والنسائي: الجنائز (2031) , وأبو داود: الجنائز (3218) , وأحمد (1/96) . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 308 للحق; الدليل الثامن: حديث الفضل بن العباس، والحجة فيه كالذي قبله. الدليل التاسع: حديث صفية، وحديث الفضل الآخر: لما جاء بماء زمزم إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بثوب فبلّ بالماء، فأمر بطمس الصور; ومن المعروف والمتقرر: أنها لو كانت مجسدة لم يزلها الماء القليل الموجود في الثوب. يوضحه: أن الصور الموجودة في الكعبة على جدرانها، معمولة بالنقوش والأصباغ، بدليل ما قاله أحمد تيمور باشا، في كتابه "التصوير عند العرب" قال فيه: وكان التصوير على الجدران معروفا عند العرب في الجاهلية والإسلام، وكانت الكعبة المكرمة مصورة الجدران، فلما فتحت مكة أزيلت تلك الصور. الدليل العاشر: حديث شيبة حين أمره عليه السلام بإزالتها، واقترح عليه من حضر أن يطلاها بزعفران، وهذا واضح، فلو كانت مجسدة لم يكتف بذلك. الدليل الحادي عشر: معلوم أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن إضاعة المال، فلو كانت الصورة التي لم تكن مجسدة مباحة، لم يأمر عليه السلام بإتلافها، وإتلاف ما هي فيه أو إفساده. الدليل الثاني عشر: إنكار أبي هريرة للصور التي رآها في دار مروان، بدليل ما قاله القسطلاني في إرشاد الساري، على حديث أبي هريرة، قال: وظاهره يتناول ما له الجزء: 15 ¦ الصفحة: 309 ظل وما ليس له ظل، فلذا أنكر أبو هريرة ما نقش في سقف الدار; انتهى. وأما ما ورد: "إلا رقما في ثوب" فأجاب عنه النووي، قائلا: وجوابنا وجواب الجمهور عنه: أنه محمول على رقم على صورة الشجر وغيره، مما ليس بحيوان. وقد قدمنا أن هذا جائز عندما أجاب عنه ابن العربي المالكي، بأنه منسوخ بأحاديث المنع، وأجاب عنه كثير من العلماء: بأنه محمول على ما إذا كان الرقم في ثوب أو بساط، أو نحو ذلك مما يداس ويمتهن. وللصور والتصاوير عقوبات في الدنيا والآخرة؛ فمن عقوبات ذلك: منع دخول الملائكة للبيت الذي فيه صورة، الذين دخولهم رحمة وبركة وطمأنينة وأنس، وفي الآخرة الوعيد الشديد، والعذاب الأكيد. وإليك أيها الأخ النبيل ما قاله الفطاحلة من العلماء، الذين هم القدوة بعد الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه. فمن ذلك: ما قاله الإمام النووي، في المجلد السابع من شرح مسلم: قال أصحابنا وغيرهم من العلماء: تصوير صورة الحيوان، حرام شديد التحريم، وهو من الكبائر، لأنه متوعد عليه بهذا الوعيد الشديد المذكور في الأحاديث. وسواء صنعه بما يمتهن أو بغيره، فصنعته حرام بكل حال، لأن فيه مضاهاة لخلق الله تعالى; وسواء ما كان في الجزء: 15 ¦ الصفحة: 310 ثوب أو بساط، أو درهم أو دينار، أو فلس، أو إناء، أو حائط، أو غيرها. وأما تصوير صورة الشجر ورحال الإبل، وغير ذلك مما ليس فيه صورة حيوان، فليس بحرام، هذا حكم نفس التصوير. وأما اتخاذ المصور فيه صورة حيوان، فإن كان معلقا على حائط، أو ثوبا ملبوسا، أو عمامة ونحو ذلك مما لا يعد ممتهنا، فهو حرام، إلى أن قال: ولا فرق في هذا كله، بين ما له ظل وما لا ظل له، هذا تلخيص مذهبنا في المسألة. وبمعناه قال جماهير العلماء، من الصحابة والتابعين ومن بعدهم; وهو مذهب الثوري، ومالك، وأبي حنيفة، وغيرهم. وقال بعض السلف: إنما ينهى عما كان له ظل، ولا بأس بالصور التي ليس لها ظل، وهذا مذهب باطل; فإن الستر الذي أنكر النبي صلى الله عليه وسلم الصورة فيه، لا يشك أحد أنه مذموم، وليس لصورته ظل، مع باقي الأحاديث المطلقة في كل صورة. وقال الزهري: النهي في الصورة على العموم، وكذلك استعمال ما هي فيه، ودخول البيت الذي هي فيه، سواء كانت رقما في ثوب أو غير رقم، وسواء كانت في حائط أو ثوب أو بساط، ممتهن أو غير ممتهن، عملا بظاهر الأحاديث. انتهى. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 311 وقال ابن حجر في فتح الباري، على حديث ابن عباس، قلت: ويؤيد التعميم فيما له ظل، وفيما لا ظل له، ما أخرجه أحمد من حديث علي، ثم ساق الحديث المتقدم. وقال ابن حجر أيضا: وصحح ابن العربي أن الصورة التي لا ظل لها إذا بقيت على هيئتها حرمت، سواء مما كانت يمتهن أم لا؛ وإن قطع رأسها أو مزقت هيئتها جاز. وقال الحافظ أيضا، في شرح حديث عائشة: قال ابن بطال: في هذا الحديث دلالة على أنه صلى الله عليه وسلم كان ينقض الصورة، سواء كانت مما له ظل أم لا، وسواء كانت مما توطأ أم لا، سواء في الثياب، وفي الحيطان وفي الفرش، والأوراق وغيرها. انتهى. وقال القسطلاني على حديث أبي هريرة المتقدم: وظاهره يتناول ما له ظل، وما ليس له ظل؛ فلذا أنكر أبو هريرة ما نقش في سقف الدار، وقال القسطلاني في موضع آخر: ويحرم تصوير حيوان على الحيطان، والسقوف، والأرض، ونسج الثياب. انتهى. وقال الذهبي رحمه الله: وأما الصور فهي كل مصور من ذوات الأرواح، سواء كانت لها أشخاص منتصبة، أو كانت منقوشة في سقف، أو جدار، أو موضوعة في نمط، أو منسوجة في ثوب أو مكان; فإن قضية العموم تأتي عليه، الجزء: 15 ¦ الصفحة: 312 فليجتنب; ويجب إتلاف الصور لمن قدر على إتلافها، أو إزالتها. انتهى. وقال الشوكاني على حديث ابن عباس: وظاهر قوله: كل مصور، وقوله: بكل صورة صورها، أنه لا فرق بين المطبوع في الثياب، وبين ما له جرم مستقل، ويؤيد ذلك ما في حديث عائشة المتقدم. إلى أن قال: فهذه الأحاديث قاضية بعدم الفرق بين المطبوع من الصور والمستقل لأن اسم الصورة صادق على الكل، إذ هي كما في كتب اللغة: الشكل، وهو يقال لما كان منها مطبوعا على الثياب شكلا. انتهى. وقال صديق، رحمه الله، في السراج الوهاج، على حديث ابن عباس: وهذا الحديث في معناه يدل على تحريم تصوير الحيوان، وهو حرام شديد التحريم، وهو من الكبائر؛ وسواء صنعه بما يمتهن أو بغيره، فصنعته حرام بكل حال. إلى أن قال: ومن أشراط الساعة القريبة، عموم البلوى بالتصوير في هذا العصر، حتى لم يبق شيء من المآكل والمشارب، والأثواب، والمراكب، وكل شيء يستعمله الإنسان، من كتب، وأواني، ودراهم، ودنانير، وغيرها، وتعذر الاحتراز عنها، فإنا لله وإنا إليه راجعون. وقال المعصومي في عقد الجوهر الثمين: إن تصوير الجزء: 15 ¦ الصفحة: 313 صور الحيوانات ذوات الأرواح حرام وكبيرة، فلا يجوز فعله، سواء كانت مجسمة أو منقوشة، صنعها باليد أو بمكينة فوتوغرافيا؛ وأما تمثيل صور الأشجار وغير ذي الروح، فلا بأس، وإن كان الأولى الترك. وقال الشيخ عبد العزيز بن باز بعدما ذكر بعض الأحاديث الواردة في هذا الموضوع: وهذه الأحاديت وما جاء في معناها، دالة دلالة ظاهرة على تحريم التصوير لكل ذي روح، وأن ذلك من كبائر الذنوب المتوعد عليها بالنار. وهي عامة لأنواع التصوير، سواء كان للصورة ظل أم لا، وسواء كان التصوير في حائط أو ستر، أو قميص، أو مرآة، أو قرطاس، أو غير ذلك، إلى آخر كلامه، حفظه الله 1. وما سمعت من الأحاديث والأدلة، وكلام العلماء سابقا، هو الذي يشفي العليل، ويروي الغليل، لمن تخلى عن التعصب والهوى، لا بكلام فلان وفلتان وعلان، الذين كلامهم لا يروي ولا يجدي، ويزيد الطين بلة، ويلصق بالشك شكوكا. فعلى المسلم الناصح لنفسه أن يحارب الصور في قوله وفعله واعتقاده، ويجب إتلاف ما قدر عليه منها، لأنها معصية ومنكر، وإنكار المنكر واجب; وعليه أن لا يدع شيئا   1 في الجواب المفيد في حكم التصوير. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 314 منها يدخل مسكنه، وإن عمت البلوى بشيء منها، فيجتهد في إزالتها أو طمسها، لأن التصوير معصية، وإقرارها في البيت رضى، والرضى بالمعصية معصية، ومن يتق الله يجعل له مخرجا. ومما يؤسف له أن الكثير من أبناء المسلمين فتنوا بالمجلات والمصورات الخليعة الماجنة الداعرة، والتي فيها السموم القتالة، وفي طياتها الشرور الكامنة. فيجب على أهل الحل والعقد والمسؤولية، وبالأخص علمائنا الأفاضل أن يسعوا جهدهم مبادرين بمنعها عن دخول المملكة، وعن بيعها في الأسواق جهارا، لأن ضررها على الدين والمجتمعات الإسلامية عظيم جدا. ولا شك أنها من الجيوش الغربية التي غزتنا في عقر ديارنا، ونحن لم نحرك ساكنا من سياسة المبشرين للنصرانية، الذين يكيدون للعرب ودينهم، لأنهم يعرفون أنها تغير الأخلاق؛ وإذا تغيرت الأخلاق، ضعف الدين، وإذا ضعف الدين، حصل مقصودهم أو بعضه. ومن المعلوم أن الأمة بدينها وأخلاقها الإسلامية السامية أولا، وباستعدادها بالقوة ثانيا، وإذا ضعف الدين، فقل على الأمة السلام. هذا ما تيسر, ولو استقصينا الأحاديث وكلام العلماء في هذه المسألة، لاستدعى ذلك سفرا، ولكن المقام يحتم الاختصار، وفيما الجزء: 15 ¦ الصفحة: 315 ذكرناه كفاية، والحمد لله. لذا نوقف القلم عن جريانه، والله الهادي إلى سواء السبيل، وهو حسبنا ونعم الوكيل. 1 [قول الشيخ عبد الله بن سليمان بن حميد في صور ذوات الأرواح الموجودة في السيارات والمجلات] وقال الشيخ: عبد الله بن سليمان بن حميد، رحمه الله: 2 ومن المنكرات الظاهرة: صور ذوات الأرواح الموجودة في السيارات والمجلات وغيرها، فقد جاء الوعيد الشديد، في عظم وزر المصورين. قال صلى الله عليه وسلم: "إن الذين يصنعون هذه الصور يعذبون يوم القيامة، يقال لهم: أحيوا ما خلقتم" 3، وقال صلى الله عليه وسلم: "أشد الناس عذابا عند الله، الذين يضاهئون بخلق الله" 4. وقالت عائشة رضي الله عنها "سترت سهوة لي بقرام فيه تماثيل، فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم تلون وجهه، قالت: فقطعناه" 5 وفي رواية: (ثم تناول الستر فهتكه) . وفي رواية: (قام على الباب ولم يدخل، فعرفت في وجهه الكراهة، فقلت: يا رسول الله أتوب إلى الله ورسوله; وقال: "إن البيت الذي فيه صور لا تدخله الملائكة" 6 وقد ورد الأمر بإتلافها، وطمسها إذا وجدت، فمنها   1 وللشيخ صالح البيلهي أيضا مقال آخر نشر في مجلة الدعوة في شهر 7/1409 هـ, رد فيه على جريدة عكاظ. 2 في الأربع الرسائل المفيدة. 3 البخاري: اللباس (5951) , ومسلم: اللباس والزينة (2108) , والنسائي: الزينة (5361) , وأحمد (2/20 ,2/55 ,2/141) . 4 البخاري: اللباس (5954) , والنسائي: الزينة (5356) , وأحمد (6/36) . 5 البخاري: اللباس (5954) , ومسلم: اللباس والزينة (2107) , والنسائي: الزينة (5357) , وأحمد (6/86) . 6 البخاري: النكاح (5181) , ومسلم: اللباس والزينة (2107) , وأحمد (6/246) , ومالك: الجامع (1803) . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 316 قوله صلى الله عليه وسلم لعلي: "أن لا تدع صورة إلا طمستها، ولا قبرا مشرفا إلا سويته" 1، وقول علي لأبي الهياج: "ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أن لا تدع صورة إلا طمستها ولا قبرا مشرفا إلا سويته" 2. والأحاديث في تحريم الصور، والوعيد الشديد على المصورين والمتخذين لها، كثيرة. قال العلماء رحمهم الله: سبب امتناع الملائكة من دخول البيت الذي فيه صورة: كونها معصية، وفيها مضاهاة لخلق الله، وبعضها في صورة ما يعبد من دون الله؛ فالمراد بالملائكة: ملائكة الرحمة والبركة والاستغفار. فالصور حرام بكل حال، سواء كانت الصورة في ثوب، أو بساط، أو درهم، أو دينار، أو فلس، أو إناء، أو حائط، أو غيرها; وسواء ما له ظل، أو ما لا ظل له. ويؤيد التعميم: ما أخرجه الإمام أحمد، من حديث علي، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أيكم ينطلق إلى المدينة فلا يدع بها وثنا إلا كسره، ولا صورة إلا لطخها" 3 أي: طمسها، الحديث. قال النووي: الأظهر أنه عام في كل صورة، لإطلاق الأحاديث، وأن الصور التي في المجلات، وعلى السيارات وغيرها، من ذوات الأرواح هي: منكر مما يجب على المسلمين إزالته.   1 مسلم: الجنائز (969) , والترمذي: الجنائز (1049) , والنسائي: الجنائز (2031) , وأبو داود: الجنائز (3218) , وأحمد (1/96 ,1/128 ,1/145) . 2 مسلم: الجنائز (969) , والترمذي: الجنائز (1049) , والنسائي: الجنائز (2031) , وأبو داود: الجنائز (3218) , وأحمد (1/96 ,1/128 ,1/145) . 3 أحمد (1/87) . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 317 وقرر العلماء: أنه يجب على من رأى الصور كسرها، ولا غرم ولا ضمان عليه; وإذا لم يقدر لضعفه، أو لخوفه فتنة، وجب عليه رفع خبرها إلى ولي الأمر، ولا تبرأ ذمته إلا بذلك. [قول الشيخ عبد الرحمن بن فريان فيما ظهر وانتشر من التصوير لذوات الأرواح] وقال الشيخ: عبد الرحمن بن عبد الله بن فريان، وفقه الله: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين. وبعد: فإن أصدق الكلام كلام الله، وخير الهدى هدى محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وإن الله عز وجل يقول: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [سورة المائدة آية: 2] والبر هو: فعل الطاعات; والتقوى: ترك المعاصي; وقوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [سورة آل عمران آية: 110] . وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "الدين النصيحة، الدين النصيحة، الدين النصيحة. قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم" 1.   1 مسلم: الإيمان (55) , والنسائي: البيعة (4197) , وأبو داود: الأدب (4944) , وأحمد (4/102) . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 318 وقال أيضا في الحديث الصحيح: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه" 1، ويروى في الحديث الآخر: "من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم". ونحن نرى اليوم - مع الأسف الشديد - ضعف التعاون بين المسلمين، على الطرق الخيرية، وقلة التناصح من بعضهم لبعض، بل صار الأمر بالعكس؛ حتى فشت المنكرات، وكثرت المجاملات، والمداهنات. ترى الكثير منا يمدح الإنسان بما ليس فيه، ويقره على مخالفته للسنة، لأجل الثناء الفاشل، ولأغراض دنيوية، وتقديم رضى الناس، وضعف المحبة والدين، فإنا لله وإنا إليه راجعون. كيف تحولت الحال إلى هذه الغاية، وهذا الحد والنهاية؟! وقد تساهل بعض الناس بالنصوص الشرعية، التي تطبيقها هو صلاح البرية، وإهمالها هو عين الهلاك; قال الإمام مالك، رحمه الله: لن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها. وإنه قد ساءنا ما قد ظهر بين المسلمين، وانتشر وكثر، وهو داء عظيم يجب علاجه، وهو: التصوير لذوات الأرواح؛ وقد كان بسببه حدث الشرك الأكبر في بني آدم، كما جاء في الأثر. فما هو العلاج لمكافحة هذا الداء؟ أيها المسلمون، هذا الداء القتّال، ولست أريد أنه يقتل   1 البخاري: الإيمان (13) , ومسلم: الإيمان (45) , والترمذي: صفة القيامة والرقائق والورع (2515) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (5016) , وأحمد (3/272) , والدارمي: الرقاق (2740) . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 319 الجسد، ولكن يقتل الدين، وقد نهت عنه النصوص الشرعية، وحذرت منه، ولعنت فاعله. فقل لي بالله واصدق أيها المسلم، هل يجوز الرضى بمعصية رب العالمين؟ وقد علم من الشرع الشريف، أن الراضي بالمعصية كفاعلها، وأن السكوت مع القدرة دليل الرضى. وقد ضلت قوم نوح عليه السلام، وحدث فيهم الشرك، بسبب التصوير، فهو من وسائل الشرك وذرائعه، قال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى:?" {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً} [سورة نوح آية: 23] : (هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح، لما هلكوا صور قومهم صورهم، ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم". وقال أيضا: (كانت عشرة قرون بين آدم ونوح عليه السلام، كلهم على شريعة من الحق، فاختلفوا، فبعث الله نبيه نوحا عليه السلام، يدعوهم إلى التوحيد) . وقد ترجم الشيخ: محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله في كتاب التوحيد، بابا في هذا الشأن، فقال: باب ما جاء في المصورين; وذكر بعض النصوص الواردة في ذلك. منها: حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال الله تعالى:? "ومن أظلم ممن ذهب الجزء: 15 ¦ الصفحة: 320 يخلق كخلقي، فليخلقوا ذرة، أو ليخلقوا حبة، أو ليخلقوا شعيرة" 1 رواه البخاري ومسلم. وعن عائشة رضي الله عنها: أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "أشد الناس عذابا يوم القيامة، الذين يضاهئون بخلق الله" 2 متفق عليه. ولهما عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من صور صورة في الدنيا، كلف أن ينفخ فيها الروح وليس بنافخ" 3. وروى مسلم في صحيحه عن أبى الهياج الأسدى، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال له: "ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أن لا تدع صورة إلا طمستها، ولا قبرا مشرفا إلا سويته" 4. فكيف: أيها المسلمون هذه الأحاديث النبوية، وهذه المنشورات السماوية، تأمرنا بما ينفعنا، وتنهانا عن ما يضرنا، وتأمر بطمس الصور إذا وجدت، من أي شيء كانت على العموم ولم تفرق بين ما كان مجسدا له ظل، وبين ما ليس كذلك، من المنقوشة، والمكتوبة، والمخيوطة، والتصوير الضوئي، وحبس الظل الفوتوغرافي، وغير ذلك; لأن النبي صلى الله عليه وسلم أعطي جوامع الكلم، وبعث إلى الناس كافة، كما جاء في الحديث.   1 البخاري: التوحيد (7559) , ومسلم: اللباس والزينة (2111) , وأحمد (2/232) . 2 البخاري: اللباس (5954) , وأحمد (6/36) . 3 البخاري: التعبير (7042) , ومسلم: اللباس والزينة (2110) , والنسائي: الزينة (5358) , وأحمد (1/241 ,1/246 ,1/350) . 4 مسلم: الجنائز (969) , والترمذي: الجنائز (1049) , والنسائي: الجنائز (2031) , وأبو داود: الجنائز (3218) , وأحمد (1/96 ,1/128) . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 321 ولا تغتر أيها المسلم بمن تنطع بمعسول الكلام، وقام يحلل ويحرم، بغير دليل ولا برهان، بل بمجرد الرأي والهذيان، من بعض متعلمة هذه الأزمان، وأجاز الصور الضوئية، وجعل المنع خاصا بما له أجسام، سبحان الله! من أين هذا التفريق؟ ولم يجئ لا في سنة ولا قرآن. وقال ابن القيم رحمه الله: العلم قال الله قال رسوله ... قال الصحابة هم أولو العرفان ومنتهى أمر هذا المغالط أنه لا يرى منع حتى الصور المجسدة; ويقول: هذه لعب أطفال، ونحو ذلك من الأعذار الباردة، التي غايتها إلغاء النصوص الشرعية، التي جاءت عن خير البرية، والعياذ بالله. بل: لو تنزّلنا مع المحلل للصور الضوئية جدليا، فيقال له: أليست علة المضاهاة بخلق الله، وعلة التعظيم موجودتين في الجميع؟ والله يقول: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [سورة الحشر آية: 7] . بل لا يستقيم الإسلام إلا بتحكيمه صلى الله عليه وسلم وطاعته واتباعه، ويقول صلى الله عليه وسلم:" إني أوتيت القرآن ومثله معه" 1 يعني: السنة. بل على الرغم أنه جاء التنصيص على غير المجسدة، والتحذير منه، كما في قصة الستر الذي هتكه صلى الله عليه وسلم وتغير   1 أبو داود: السنة (4604) , وأحمد (4/130) . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 322 وجهه لما رآه، فقطعته عائشة، رضي الله عنها، بعد أن كانت قد جعلته سترا على الطاق النافذ في الحائط؛ وذلك مبادرة منها رضي الله عنها لما يرضي الله ورسوله. وكذلك قصة دخوله صلى الله عليه وسلم الكعبة عام الفتح، لما رأى صورة إبراهيم وإسماعيل، قد صورهما المشركون في جدار الكعبة، فحكّها صلى الله عليه وسلم وقال عند ذلك: "قاتل الله المشركين، والله ما استقسما بالأزلام قط" 1؛ ثم دعا بماء فغسلها. هذا حكمه صلى الله عليه وسلم في المكتوبة، والمنسوجة، وذلك قوله في المصورين؛ فما بال هذه الصور قد وجدت بيننا بكثرة، في بلدان المسلمين؟! أين أوامر الإسلام ونواهيه؟! أين التطبيق لأوامر الشرع؟! قد صار الأمر إلى هذه الغربة، والمصورون قد فتحوا محلات للتصوير، بدون خجل أو حياء. وأعظم من هذا وأطم: إدخاله في التعليم، والنداء على المصورات بالبيع في المكاتب، والدور، والأسواق; بل بعض الناس يحمل معه آلة التصوير بجيبه، ويصور كلما أراد. فقد سهلت يا عباد الله طرق الفساد، فإنا لله وإنا إليه راجعون. فيجب على المسلمين إنكار هذا المنكر، ولا يجوز لهم السكوت، ولا يغتر بفشوه ورواجه؛ فإن المنكر هو بحاله   1 أحمد (1/365) . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 323 منكر، كما هو في الشرع. ولا يحلله كثرته ورواجه، ولا محبة البعض وارتكابه. فإن بعض البلدان المجاورة، قد رأت ذلك ضروريا وأمرت به، وأجبرت عليه، وليس الأمر كذلك؛ فإن الناس لم يكونوا ضائعين قبل وجود هذه المعصية، من أول الرسل إلى آخرهم، وقبلهم وبعدهم؛ بل حصل الضياع والتلاعب، بعدما أهملت الأوامر السماوية. فإنه لو كان في هذا الأمر خير، لأمر به خير البرية، قال صلى الله عليه وسلم: "لقد تركتكم على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك" 1. فالله المستعان. فإذا أجبر الإنسان على شيء من ذلك، فإثمه على من أجبره، بشرط أن يكون كارها لذلك، فلا يصلي بالصورة معه، ولا ينصبها في مجلسه; وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم:"لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب أو صورة" 2. ولكن الآن انعكست الحال، وصارت بعض البيوت ملآنة من الصور والكلاب; وإذا نفرت الملائكة من البيوت، قرت بها الشياطين، فقلَّ أن تجد في بعض البلدان المجاورة، بيت ثري ورئيس، إلا وعنده الكلاب، تأكل معه- نسأل الله العافية في الدنيا والآخرة -؛ وهذه حالة الإفرنج، ومن تشبه بهم. فيا عباد الله، إن أعداءكم بذلوا أسبابهم لإفساد دينكم،   1 سنن ابن ماجه: كتاب المقدمة (5 ,44) , ومسند أحمد (4/126) . 2 البخاري: بدء الخلق (3225) , ومسلم: اللباس والزينة (2106) , والترمذي: الأدب (2804) , والنسائي: الصيد والذبائح (4282) والزينة (5347 ,5348) , وابن ماجه: اللباس (3649) , وأحمد (4/29 ,4/30) . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 324 وإفساد شبيبتكم، فبادروا لإنكار المنكرات، والتعاون على الخيرات، قبل أن تحل عليكم العقوبات. قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [سورة الرعد آية: 11] وقال: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [سورة الأنفال آية: 25] . وفي الحديث: "إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه، أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده" 1 فجدِّدوا توبة صالحة، قبل هجوم الأجل. هذه نصيحة لكم بذلناها، فإن قبلتموها فذلك المطلوب، وإلا فتبرأ الذمة، وهداية القلوب بيد علام الغيوب. وفق الله المسلمين، وولاة أمورهم، للخير; وصلى الله على محمد، وآله وصحبه وسلم.   1 ابن ماجه: الفتن (4005) . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 325 [قول الشيخ حمود التويجري في صناعة الصور وبيعها واقتنائها] وقال الشيخ: حمود بن عبد الله التويجري، رحمه الله. 1 بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله المتفرد بالخلق، والتدبير، الذي أتقن كل شيء خلقه، وصور فأحسن التصوير، تعالى أن يكون له شريك أو نظير، ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلق الله، وهو عن الإيجاد عاجز حقير، لا يقدر على خلق ذرة، أو بعوضة، ولا حبة من شعير. وهو مع ذلك ينازع الله فيما اختص به من التصوير، فويل للمصورين من عذاب السعير، فكل مصور في النار، كما أخبر بذلك البشير النذير; ومن أمر بالتصوير، أو رضي به، فهو شريك لفاعل هذا الذنب الكبير. أما بعد: فقد قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُهِيناً} [سورة الأحزاب آية: 57] , قال عكرمة: نزلت في المصورين، ذكره البغوي، وابن كثير; ورواه أبو نعيم في الحلية، وفي هذه الآية على هذا التفسير أبلغ تحذير من التصوير. ومثل ذلك ما في الأحاديث الصحيحة; وقد عظمت البلوى بصناعة الصور، وبيعها وابتياعها، وافتتن باقتنائها،   1 في كتابه: "إعلان النكير على المفتونين بالتصوير" في سنة 1382 هـ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 326 واقتناء الجرائد والمجلات، والكتب التي فيها ذلك، كثير من المنتسبين إلى العلم، من معلمين ومتعلمين، فضلا عن غيرهم. وصار نصبها في المجالس والدكاكين عادة مألوفة عند كثير من الناس، ومن أنكر ذلك عليهم، أو أنكر صناعتها، فأقل الأحوال أن يستهزئوا به، ويهمزوه، ويلمزوه. وهذا دليل على استحكام غربة الإسلام، وظهور الجهل بما بعث الله به رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم وما أمر به من هدم الأوثان، وكسر الأصنام والصلبان، وطمس الصور، ولطخها، فالله المستعان. وهذا المنكر الذميم - أعني: صناعة الصور ونصبها في المجالس وغيرها - موروث عن قوم نوح، ثم عن النصارى من بعدهم، وكذلك عن مشركي العرب؛ فإنهم كانوا يصنعون الصور، وينصبونها، ولكن كان عملها واتخاذها قليل، عند مشركي العرب، بالنسبة إلى النصارى. وقد صور مشركو قريش في جوف الكعبة صورا، منها صورة إبراهيم، وإسماعيل، وصورة مريم في حجرها عيسى عليهم الصلاة والسلام; فالمصورون من هذه الأمة متشبهون بقوم نوح، وبالنصارى وبمشركي العرب. وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من تشبه بقوم فهو الجزء: 15 ¦ الصفحة: 327 منهم" 1 رواه الإمام أحمد، وأبو داود وغيرهما من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وصححه ابن حبان. وقال شيخ الإسلام أبو العباس بن تيمية، رحمه الله تعالى: إسناده جيد، قال شيخ الإسلام: وقد احتج الإمام أحمد وغيره بهذا الحديث; قال: وهذا الحديث أقل أحواله أنه يقتضي تحريم التشبه بهم، وإن كان ظاهره يقتضي كفر المتشبه بهم، كما في قوله: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [سورة المائدة آية: 51] . انتهى. وفي جامع الترمذي، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ليس منا من تشبه بغيرنا" 2. وقال البخاري في صحيحه: حدثنا إبراهيم بن موسى أخبرنا هشام، عن ابن جريج، وقال عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما: صارت الأوثان التي في قوم نوح في العرب بعد. أما ودُّ فكانت لكلب بدومة الجندل، وأما سواع فكانت لهذيل، وأما يغوث فكانت لمراد، ثم لبني غطيف بالجرف عند سبأ، وأما يعوق فكانت لهمدان، وأما نسر فكانت لحمير لآل ذي الكلاع. أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا، أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابا، وسموها بأسمائهم، ففعلوا فلم   1 أبو داود: اللباس (4031) . 2 الترمذي: الاستئذان والآداب (2695) . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 328 تعبد، حتى إذا هلك أولئك ونسي العلم عبدت; فهذا ما آل إليه أمر الصور في قوم نوح، فمن بعدهم من المشركين. وأما النصارى فكانوا يعبدون الصور التي لا ظل لها، كما في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها: أن أم حبيبة وأم سلمة رضي الله عنهما، ذكرتا كنيسة رأينها بالحبشة، فيها تصاوير، فذكرتا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: "إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح، فمات، بنوا على قبره مسجدا، وصوروا فيه تلك الصور، فأولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة" 1. وأعظم من ذلك: أنه قد اتخذ نصب صور بعضهم وسيما في كثير من المجالس الرسمية في زماننا، وهذا عين المحادة لله تعالى، ولرسوله صلى الله عليه وسلم. وقد قال الله تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِداً فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ} [سورة التوبة آية: 63] . وما يفعله هؤلاء العصاة من تصوير الكبراء، ونصب صورهم في المجالس وغيرها لا يشك عاقل شم أدنى رائحة من العلم النافع، أنه مثل ما فعلة قوم نوح، من تصوير الصالحين، ونصب صورهم في المجالس، سواء بسواء، ومثل ما فعله النصارى من تصوير القديسين عندهم، ونصب صورهم في الكنائس والمجالس سواء بسواء; وهذا   1 البخاري: الصلاة (427) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (528) , والنسائي: المساجد (704) , وأحمد (6/51) . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 329 مصداق قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تقوم الساعة حتى تأخذ أمتي بأخذ القرون قبلها، شبرا بشبر، وذراعا بذراع" 1. وما وقع من قوم نوح، والنصارى، وغيرهم، من الشرك الأكبر، بسبب الصور، لا يبعد أن يقع مثله في آخر هذه الأمة. فالواجب على ولاة أمور المسلمين، أن يمنعوا رعاياهم من صناعة التصاوير، واتخاذها، وأن يطمسوا ما يوجد منها، عملا بقول الرسول صلى الله عليه وسلم لعلى رضي الله عنه: "لا تدع صورة إلا طمستها" 2. وقد أخبر الله تبارك وتعالى، عن خليله إبراهيم عليه الصلاة والسلام، أنه قال: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} [سورة إبراهيم آية: 35] . فإذا كان خليل الرحمن إمام الحنفاء، ووالد من بعده من الأنبياء، قد خاف عليه، وعلى بنيه من عبادة الأصنام، مع أنه قد كسرها بيده، ومع أنه كان معصوما عن عبادتها، فكيف لا يخاف عبادتها من ليس بمعصوم؟! ولهذا قال إبراهيم التيمي: ومن يأمن البلاء بعد إبراهيم، رواه ابن جرير وابن أبي حاتم. ومن أعظم أسباب البلاء: نصب الصور في المجالس، والدكاكين، وغيرها، مما قد افتتن به كثير من الناس، في هذه الأزمان، والصور داخلة في مسمى الأصنام عند أهل   1 البخاري: الاعتصام بالكتاب والسنة (7319) , وأحمد (2/325 ,2/336 ,2/367) . 2 مسلم: الجنائز (969) , والترمذي: الجنائز (1049) , والنسائي: الجنائز (2031) , وأبو داود: الجنائز (3218) , وأحمد (1/96 ,1/128) . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 330 اللغة، فتدخل فيما دعا إبراهيم ربه أن يجنبه وبنيه عبادتها. قال ابن الأثير: قد تكرر ذكر الصنم والأصنام، وهو: ما اتخذ إله من دون الله; وقيل: هو ما كان له جسم أو صورة، فإن لم يكن له جسم أو صورة فهو وثن. وقال أيضا: الفرق بين الوثن والصنم، أن الوثن كل ما له جثة معمولة من جواهر الأرض، أو من الخشب والحجارة، كصورة الآدمي، تعمل وتنصب فتعبد، والصنم الصورة بلا جثة; ومنهم من لم يفرق بينهما، وأطلقهما على المعنيين. وقد يطلق الوثن على غير الصورة، ومنه حديث عدي بن حاتم: "قدمت على النبي صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب من ذهب، فقال لي: ألق هذا الوثن عنك" 1. وذكر الشيخ حمود أيضا تحريم ما يصنع من المطاط على صور النساء، وقال: وقد تواترت الأدلة على تحريم التصوير، ومشروعية طمس الصور، وفيها: الوعيد الشديد للمصورين، والإخبار بأن الملائكة، لا تدخل بيتا فيه صورة. وذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يقول الله عز وجل: ومن أظلم ممن ذهب يخلق خلقا كخلقي؟ فليخلقوا ذرة، أو ليخلقوا حبة، أو ليخلقوا شعيرة" 2. قال النووي رحمه الله تعالى: قال أصحابنا وغيرهم من العلماء: تصوير صورة الحيوان حرام شديد التحريم، وهو   1 الترمذي: تفسير القرآن (3095) . 2 البخاري: التوحيد (7559) , ومسلم: اللباس والزينة (2111) , وأحمد (2/232) . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 331 من الكبائر، لأنه متوعد عليه بهذا الوعيد الشديد، المذكور في الأحاديث، وسواء صنعه بما يمتهن أو بغيره. فصنعته حرام بكل حال، لأن فيه مضاهاة لخلق الله، وسواء ما كان في ثوب أو بساط، أو درهم أو دينار أو فلس، أو إناء، أو حائط وغيرها; قال: ولا فرق في هذا كله بين ما له ظل، وما لا ظل له، هذا تلخيص مذهبنا في المسألة. وبمعناه، قال جماهير العلماء، من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، وهو مذهب الثوري، ومالك، وأبي حنيفة وغيرهم، وذكر حديث النمرقة، وما رواه النسائي وابن ماجه، ومنه: "إن أصحاب الصور يعذبون يوم القيامة، ويقال لهم أحيوا ما خلقتم" 1. وعن عائشة رضي الله عنها: "إن أشد الناس عذابا يوم القيامة الذين يضاهئون الله في خلقه" 2 وله حكم الرفع. وذكر أنه لا فرق في تحريم التصوير، بين أن تكون الصور مجسدة أو غير مجسدة، لأن الذي أنكره النبي صلى الله عليه وسلم كان غير مجسد; ثم ذكر خبر علي: "لا تدع صورة إلا طمستها" 3. وقال الحافظ بن حجر في الكلام على حديث النمرقة: يستفاد منه: أنه لا فرق في تحريم التصوير بين أن تكون الصورة لها ظل أو لا، ولا بين أن تكون مدهونة أو منقوشة،   1 البخاري: النكاح (5181) , ومسلم: اللباس والزينة (2107) , وأحمد (6/246) , ومالك: الجامع (1803) . 2 البخاري: اللباس (5954) , وأحمد (6/36) . 3 مسلم: الجنائز (969) , والترمذي: الجنائز (1049) , والنسائي: الجنائز (2031) , وأبو داود: الجنائز (3218) , وأحمد (1/96 ,1/128) . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 332 أو منقورة، أو منسوجة، خلافا لمن استثنى النسج، وادعى أنه ليس بتصوير. وقرر الإمام أبو العباس بن تيمية، رحمه الله تعالى: تغيير الصورة المجسمة وغير المجسمة، قال: وكل ما كان من العين، أو التأليف المحرم، فإزالته وتغييره متفق عليها بين المسلمين. قال الخطابي: وأما الصورة فهي كل صورة من ذوات الأرواح، كانت لها أشخاص منتصبة، أو كانت منقوشة في سقف أو جدار، أو مصنوعة في نمط، أو منسوجة في ثوب، أو ما كان; فإن قضية العموم تأتي عليه، فليجتنب. قال النووي، قال العلماء: سبب امتناعهم من بيت فيه صورة، كونها معصية فاحشة، وفيها مضاهاة لخلق الله تعالى، وبعضها في صورة ما يعبد من دون الله تعالى؛ فعوقب متخذها بحرمانه دخول الملائكة بيته، وصلاتها فيه، واستغفارها له، وتبريكها عليه، وفي بيته، ودفعها أذى الشيطان. وذكر حديث: "الذين يصنعون هذه الصور، يعذبون يوم القيامة، يقال لهم: أحيوا ما خلقتم" 1، وحديث: "أشد الناس عذابا عند الله يوم القيامة: المصورون" 2. قال الخطابي: إنما عظمت عقوبة المصور، لأن الصور كانت تعبد من دون الله، ولأن النظر إليها يفتن، وبعض   1 البخاري: اللباس (5951) , ومسلم: اللباس والزينة (2108) , والنسائي: الزينة (5361) , وأحمد (2/20 ,2/55) . 2 البخاري: اللباس (5950) , ومسلم: اللباس والزينة (2109) , والنسائي: الزينة (5364) , وأحمد (1/375) . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 333 النفوس إليها تميل. وذكر حديث: "من صور صورة كلف يوم القيامة، أن ينفخ فيها الروح وليس بنافخ" 1، وحديث: "لا تدخل الملائكة بيتا فيه صورة ولا كلب" 2. وقال: لا فرق بين الصور المجسدة، وغير المجسدة، فكل منها مانع من دخول الملائكة، كما تدل على ذلك عمومات الأحاديث. وقال: والصحيح أن المحذور في الصورة الرأس وحده، نص عليه أحمد، لاشتماله على الوجه الذي هو أشرف الأعضاء.   1 البخاري: اللباس (5963) , ومسلم: اللباس والزينة (2110) , والترمذي: اللباس (1751) , والنسائي: الزينة (5358) , وأحمد (1/246 ,1/350) . 2 البخاري: بدء الخلق (3225) , ومسلم: اللباس والزينة (2106) , والترمذي: الأدب (2804) , والنسائي: الصيد والذبائح (4282) والزينة (5347 ,5348) , وابن ماجه: اللباس (3649) , وأحمد (4/29 ,4/30) . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 334 الباب السادس: حلق اللحى وهو محرم بالسنة والإجماع، مخالف للعقل والفطرة والنظر؛ جعلها الله جمال الرجال، تحتفظ بها العرب في الجاهلية والإسلام، وتعتز بها، حتى إن من رؤسائهم من لم ينبت له لحية إلا شعيرات قليلة، فقالت بعض قبيلته: وددنا أن لو اشترينا لك لحية بألفي دينار. وقد جرى من طائفة ما يوجب التعزير، فسودوا وجوههم، وأرادوا حلق لحاهم تعزيرا، فقال أهل العلم: لا يجوز التعزير بحلقها، لأنه معصية. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 334 وبسبب الاختلاط بالمنحلين: كثر حلقها رغبة في التخنث، والتشبه بالنساء، مع ما في ذلك من النهي عن حلقها. فقد روى البخاري ومسلم في صحيحيهما وغيرهما، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "خالفوا المشركين وفروا اللحى واحفوا الشوارب" 1 ولهما عنه أيضا: "احفوا الشوارب واعفوا اللحى". وفي رواية: "أنهكوا الشوارب واعفوا اللحى" واللحية اسم للشعر النابت على الخدين والذقن، قال ابن حجر: وفِّروا بتشديد الفاء، من التوفير، وهو: الإبقاء، أي: اتركوها وافرة، وإعفاء اللحية تركها على حالها. ومخالفة المشركين يفسره: حديث أبي هريرة رضي الله عنه "أن أهل الشرك يعفون شواربهم، ويحفون لحاهم، فخالفوهم، فاعفوا اللحى واحفوا الشوارب" رواه البزار بسند حسن. ولمسلم عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خالفوا المجوس، لأنهم كانوا يقصرون لحاهم، ويطولون الشوارب"، ولابن حبان عن ابن عمر قال: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم المجوس فقال: "إنهم يوفرون سبالهم، ويحلقون لحاهم، فخالفوهم" فكان يحفي سباله. وله عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من فطرة   1 البخاري: اللباس (5892) , ومسلم: الطهارة (259) . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 335 الإسلام أخذ الشارب، وإعفاء اللحى، فإن المجوس تعفي شواربها، وتحفي لحاها، فخالفوهم: خذوا شواربكم واعفوا لحاكم". وفي صحيح مسلم عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أمرنا بإحفاء الشوارب وإعفاء اللحية" 1، وله عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "جزوا الشوارب وأرخوا اللحى" 2 ومعنى جزّوا: قصّوا، وأرخوا أي: أطيلوا. ورواه بعضهم بلفظ: (أرجوا) أي: اتركوا; وما روي بلفظ: قصّوا، لا ينافي الإحفاء، لأن رواية الإحفاء في الصحيحين معينة للمراد; وفي رواية "أوفوا اللحى" أي: اتركوها وافية. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: يحرم حلق اللحية ; وقال القرطبي: لا يجوز حلقها ولا نتفها ولا قصها، وحكى أبو محمد بن حزم الإجماع على أن قص الشارب وإعفاء اللحية فرض. واستدل بحديث ابن عمر: "خالفوا المشركين: احفوا الشوارب، واعفوا اللحى" 3 وبحديث زيد بن أرقم المرفوع: "من لم يأخذ شاربه فليس منا" 4 صححه الترمذي، وبأدلة أخرى. قال في الفروع: هذه الصيغة عند أصحابنا تقتضي التحريم، وقال في الإقناع: ويحرم حلقها، وروى الطبراني   1 مسلم: الطهارة (259) , والترمذي: الأدب (2764) , وأبو داود: الترجل (4199) , ومالك: الجامع (1764) . 2 مسلم: الطهارة (260) , وأحمد (2/365 ,2/366) . 3 البخاري: اللباس (5892) , ومسلم: الطهارة (259) . 4 الترمذي: الأدب (2761) , والنسائي: الطهارة (13) والزينة (5047) . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 336 عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من مثل بالشعر ليس له عند الله خلاق ". قال الزمخشري معناه: صيره مثلة، بأن نتفه أو حلقه من الخدود، أو غيَّره بسواد، وقال في النهاية: مثّل بالشعر، حلقه من الخدود، وقيل نتفه أو تغييره بسواد. وروى الإمام أحمد عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اعفوا اللحى، وجزوا الشوارب، ولا تشبهوا باليهود والنصارى" 1. وللبزار عن ابن عباس مرفوعا: "لا تشبهوا بالأعاجم اعفوا اللحى" وروى أبو داود عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من تشبه بقوم فهو منهم" 2. وله عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ليس منا من تشبه بغيرنا، لا تشبهوا باليهود، ولا بالنصارى" 3. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: فمخالفتهم أمر مقصود للشارع، والمشابهة في الظاهر تورث مودة ومحبة وموالاة في الباطن، كما أن المحبة في الباطن تورث المشابهة في الظاهر؛ وهذا أمر يشهد به الحس والتجربة. قال: ومشابهتهم فيما ليس من شرعنا، يبلغ التحريم في بعضه إلى أن يكون من الكبائر؛ وقد يصير كفرا بحسب الأدلة الشرعية.   1 أحمد (2/356) . 2 أبو داود: اللباس (4031) . 3 الترمذي: الاستئذان والآداب (2695) . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 337 وقال: وقد دل الكتاب والسنة والإجماع على الأمر بمخالفة الكفار، والنهي عن مشابهتهم في الجملة، وما كان مظنة لفساد خفي غير منضبط، علق الحكم به، ودار التحريم عليه. فمشابهتهم في الظاهر سبب لمشابهتهم في الأخلاق والأفعال المذمومة، بل في نفس الاعتقادات؛ وتأثير ذلك لا ينضبط. ونفس الفساد الحاصل من المشابهة قد لا يظهر، وقد يتعسر أو يتعذر زواله، وكل ما كان سببا إلى الفساد، فالشارع يحرمه; اهـ. وروي عن ابن عمر: "من تشبه بهم حتى يموت حشر معهم"، وروى الترمذي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ليس منا من تشبه بغيرنا، لا تشبهوا باليهود ولا بالنصارى، فإن تسليم اليهود الإشارة بالأصابع، وتسليم النصارى الإشارة بالأكف" 1. زاد الطبراني: "ولا تقصوا النواصي، واحفوا الشوارب، واعفوا اللحى". وفي شروط عمر على أهل الذمة: أن يحلقوا مقادم رؤوسهم ليتميزوا من المسلمين، فمن فعل ذلك فقد تشبه بهم. وفي الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم: "نهى عن القزع" 2 وهو: حلق بعض الرأس وترك بعضه.   1 الترمذي: الاستئذان والآداب (2695) . 2 البخاري: اللباس (5921) , ومسلم: اللباس والزينة (2120) , والنسائي: الزينة (5051 ,5228 ,5230 ,5231) , وأبو داود: الترجل (4194) , وابن ماجه: اللباس (3637 ,3638) , وأحمد (2/4 ,2/39 ,2/55 ,2/67 ,2/82 ,2/83 ,2/101 ,2/118 ,2/137 ,2/143 ,2/154) . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 338 وعن ابن عمر في الرأس: "احلقه كله، أو دعه كله" رواه أبو داود. وحلق القفا لا يجوز لمن لم يحلق رأسه كله، ولم يحتج إليه، لأنه من فعل المجوس، ومن تشبه بقوم فهو منهم; وروى ابن عساكر عن عمر رضي الله عنه "حلق القفا من غير حجامة مجوسية". وأيضا: نهى الله تبارك وتعالى عن اتباع أهوائهم، فقال: {وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [سورة المائدة آية: 77] . وقال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ} [سورة البقرة آية: 145] : قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ومتابعتهم فيما يختصون به من دينهم، وتوابع دينهم اتباع لأهوائهم. وروى ابن أبي شيبة: "أن رجلا من المجوس جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد حلق لحيته، وأطال شاربه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم ما هذا؟ قال: هذا ديننا; قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لكن في ديننا أن نحفي الشوارب، وأن نعفي اللحية". وأخرج الحارث بن أبي أسامة عن يحيى بن كثير، قال: "أتى رجل من العجم المسجد، وقد وفر شاربه وجزَّ لحيته; فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما حملك على هذا؟ فقال: إن ربي أمرني بهذا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله أمرني الجزء: 15 ¦ الصفحة: 339 أن أوفر لحيتي، وأحفي شاربي". وروى ابن جرير عن زيد بن حبيب قصة رسول كسرى، قال: "ودخلا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد حلقا لحاهما، وأعفيا شواربهما، فكره النظر إليهما وقال: ويلكما من أمركما بهذا؟ قالا: أمرنا ربنا، يعنيان كسرى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ولكن ربي أمرني بإعفاء لحيتي، وقصّ شاربي". وروى مسلم عن جابر رضي الله عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير شعر اللحية" 1. وللترمذي عن عمر: (كث اللحية) ; وفي رواية: (كثيف اللحية) ، وفي أخرى: (عظيم اللحية) ; وعن أنس: (كانت لحيته قد ملأت من هاهنا إلى هاهنا، وأمرّ يده على عارضيه) . ورخص بعض أهل العلم في أخذ ما زاد على القبضة لفعل ابن عمر 2 وأكثر العلماء يكرهه، وهو الأظهر لما تقدم، قال النووي: والمختار تركها على حالها، وأن لا يتعرض لها بتقصير شيء أصلا. وأخرج الطيب عن أبي سعيد قال قال رسول الله: "لا يأخذ أحدكم من طول لحيته" وقال في الدر المختار:   1 مسلم: الفضائل (2344) . 2 الحجة في روايته, لا في رأيه, ولا شك أن قول الرسول وفعله أحق وأولى بالاتباع من قول غيره أو فعله كائنا ما كان. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 340 وأما الأخذ منها وهي دون القبضة، كما يفعله بعض المغاربة ومخنثة الرجال فلم يبحه أحد; اهـ. وقال الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ} [سورة الأحزاب آية: 21] ، وقال: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [سورة الحشر آية: 7] . وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ} [سورة الأنفال آية: 20-21] ، وقال: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [سورة النور آية: 63] . وقال: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} [سورة النساء آية: 115] . والله تبارك وتعالى جمَّل الرجال باللحى، ويروى: ومن تسبيح الملائكة: "سبحان من زين الرجال باللحى" ; وقال في التمهيد: ويحرم حلق اللحية، ولا يفعله إلا المخنثون من الرجال اهـ. فاللحية زينة الرجال، ومن تمام الخلق، وبها ميز الله الرجال من النساء، ومن علامات الكمال; ونتفها في أول الجزء: 15 ¦ الصفحة: 341 نباتها تشبه بالمرد، ومن المنكرات الكبار 1. وكذلك حلقها أو قصها أو إزالتها بالنورة من أشد المنكرات، ومعصية ظاهرة، ومخالفة لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ووقوع فيما نهى عنه. وذكر الغزالي في الإحياء: أن نتف الفنيكين بدعة، وهما جانبا العنفقة، قال: "وشهد عند عمر بن عبد العزيز رجل كان ينتف فنيكيه، فرد شهادته"، "ورد عمر بن الخطاب رضي الله عنه وابن أبي ليلى قاضي المدينة شهادة من كان ينتف لحيته". قال الإمام أبو شامة: وقد حدث قوم يحلقون لحاهم، وهو أشد مما نقل عن المجوس من أنهم كانوا يقصونها; وهذا في زمانه رحمه الله، فكيف لو رأى كثرة من يفعله اليوم؟! وما لهم؟ قاتلهم الله أنى يؤفكون؟ أمرهم الله بالتأسي برسوله صلى الله عليه وسلم فخالفوه وعصوه، وتأسوا بالمجوس، والكفرة؟! وأمرهم الله بطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم وقد قال صلى الله عليه وسلم: "اعفوا اللحى، أوفوا اللحى، أرخوا اللحى، أرجوا اللحى، وفروا اللحى" فعصوه وعمدوا إلى لحاهم فحلقوها؟! وأمرهم بحلق الشوارب فأطالوها، فعكسوا القضية،   1 قاله النووي والغزالي وغيرهما. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 342 وعصوا الله جهارا، بتشويه ما جمّل الله به أشرف شيء من ابن آدم وأجمله. {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [سورة فاطر آية: 8] . اللهم: إنا نعوذ بك من عمى القلوب، ورين الذنوب، وخزي الدنيا، وعذاب الآخرة. {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [سورة الأنفال آية: 22-23] . وفي هذا كفاية {لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [سورة ق آية: 37] ، و {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُرْشِداً} [سورة الكهف آية: 17] . 1 والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 343 [قول الشيخ عبد الله بن حميد فيما ابتلي به بعض الناس من حلق اللحى] وقال الشيخ: عبد الله بن سليمان بن حميد، رحمه الله 1: ومن المنكرات الظاهرة: ما ابتلي به بعض الناس من حلق اللحى؛ وحلقها من تغيير خلق الله ومخالف لهدى رسوله الله؛ فإن الله سبحانه وتعالى تفضل بها على الرجال جمالا لهم، وميزة فارقة بينهم وبين النساء، وأهل الفضل جاهلية وإسلاما يحتفظون بها، ويفتخرون، ويعدونها شرفا لهم. وقد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ذا لحية كثيرة الشعر، وكان يأمر بتركها مخالفة للمشركين، وقال صلى الله عليه وسلم: "خالفوا المشركين، وفروا اللحى، واحفوا الشوارب" 2، وعن ابن عمر أنه قال: "أمرنا بإحفاء الشوارب، وإعفاء اللحى" 3. وكانت عائشة رضي الله عنها كثيرا ما تقول: "لا والذي جمل الرجال باللحى". ومن صفته صلى الله عليه وسلم أنه كان كثير شعر اللحية; فهذا رسول الله كان يترك شعر لحيته، ويأمر أمته بأن تخالف المشركين بحف الشوارب، وإعفاء اللحى. ومخالفتهم أمر مقصود للشارع، فمشابهتهم في الظاهر مظنة مودتهم في الباطن؛ ومن تشبه بقوم فهو منهم، والله يقول: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ} [سورة الأحزاب آية: 21] .   1 في الأربع الرسائل المفيدة, صفحة 123-125. 2 البخاري: اللباس (5892) , ومسلم: الطهارة (259) . 3 الترمذي: الأدب (2764) , ومالك: الجامع (1764) . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 344 فاللحية شريفة، ولها أهمية كبيرة؛ ولشرفها وعظم شأنها، قرر الفقهاء على من جنى عليها، وأذهب جمالها ومنفعتها، الدية كاملة; وشعر العوارض من اللحية. وقد حدث في هذا الزمان أناس عادوا اللحية وقلوها، 1 وبالأمواس أو النتف أزالوها، فوجوههم خالية من الشعر، جرد مرد كوجوه النساء، قد استحوذ عليهم الشيطان، فهم يميلون إلى الرقة والليونة في الأخلاق والملابس، مخالفون لهدى نبيهم. أيها المسلمون، اعلموا أن اللحية زينة الرجال، وأن اللحية شرف الرجال، وأن اللحية ميزة الرجال، وأن اللحية فارقة بين الرجال والنساء، وأن اللحية خشونة ووقار. وحلقها نوع من التخنث، وكفر لهذه النعمة؛ ولا يرضى بحلقها إلا من سفه نفسه، وعميت بصيرته عن مصالحه، وأضاع شرفه، وخالف هدى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم. ومما يحرم، أو يكره كراهة شديدة: تغيير شيب اللحية بالسواد، لقوله صلى الله عليه وسلم في والد أبي بكر: "غيروا شعره وجنِّبوه السواد" 2، وفي حديث ابن عباس، أنه صلى الله عليه وسلم قال: "يكون قوم يخضبون في آخر الزمان بالسواد كحواصل الحمام، لا يريحون رائحة الجنة" 3 نسأل الله العافية.   1 أي: أبغضوها. 2 مسلم: اللباس والزينة (2102) , والنسائي: الزينة (5076) , وأبو داود: الترجل (4204) , وابن ماجه: اللباس (3624) , وأحمد (3/316 ,3/322) . 3 النسائي: الزينة (5075) , وأبو داود: الترجل (4212) , وأحمد (1/273) . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 345 [قول الشيخ حمود التويجري في تقزيع شعر الرأس بحلق جوانبه أو قفاه] وقال الشيخ: حمود التويجري، رحمه الله 1: ومن التشبه بأعداء الله تعالى: تقزيع شعر الرأس بحلق جوانبه أو قفاه، أو مواضع منه، وهو من فعل اليهود، والنصارى، والمجوس; وكثير من السفهاء في زماننا: يجزون شعر الرأس، ويتركون في مقدمه قنزعة تشبه عرف الديك، وقد قيل: إن هذا من فعل اليهود في زماننا، وليس ذلك ببعيد. وبالجملة: فهذا الفعل القبيح من التمثيل بالشعر، وفيه تشويه للخلق، وقد روى أبو داود في سننه، عن أنس بن مالك، رضي الله عنه "أنه رأى غلاما له قرنان، أو قصتان، فقال: احلقوا هذين أو قصوهما، فإن هذا زي اليهود". وفي مسند الإمام أحمد عن صفية بنت أبي عبيد، قالت: "رأى ابن عمر رضي الله عنهما، صبيا في رأسه قنازع، فقال: أما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن تحلق الصبيان القزع". وروى الإمام أحمد أيضا، والشيخان، وأهل السنن إلا الترمذي، عن ابن عمر، رضي الله عنهما، قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القزع" 2، والقزع: أن يحلق رأس الصبي، فيترك بعض شعره.   1 في كتابه الإيضاح والتبيين, صفحة 76. 2 البخاري: اللباس (5921) , ومسلم: اللباس والزينة (2120) , والنسائي: الزينة (5051 ,5228 ,5230 ,5231) , وأبو داود: الترجل (4194) , وابن ماجه: اللباس (3637 ,3638) , وأحمد (2/4 ,2/39 ,2/55 ,2/67 ,2/82 ,2/83 ,2/101 ,2/118 ,2/137 ,2/143 ,2/154) . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 346 وروى الإمام أحمد، ومسلم، وأبو داود، والنسائي، عن ابن عمر رضي الله عنهما: "أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى صبيا قد حلق بعض شعره، وترك بعضه، فنهاهم عن ذلك، وقال: احلقوه كله، أو اتركوه كله" 1. قال النووي، رحمه الله تعالى: أجمع العلماء على كراهة القزع، قال العلماء: والحكمة في كراهته أنه تشويه للخلق; وقيل: لأنه زي اليهود. انتهى. وروى الطبراني وغيره، عن عمر رضي الله عنه مرفوعا: "حلق القفا من غير حجامة، مجوسية" قال المروزي: سألت أبا عبد الله - يعني: أحمد بن حنبل - عن حلق القفا، قال: هو من فعل المجوس، ومن تشبه بقوم فهو منهم. قال: وكان أبو عبد الله لا يحلق قفاه، إلا في وقت الحجامة; وقال المروزي أيضا: قلت لأبي عبد الله: يكره للرجل أن يحلق قفاه، أو وجهه؟ قال: أما أنا فلا أحلق قفاي.   1 أبو داود: الترجل (4195) , وأحمد (2/88) . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 347 [قول الشيخ صالح الخريصي فيما اشتهرت من كثير من الناس من حلق اللحى] وقال الشيخ: صالح الخريصي، في أثناء نصيحة له: 1 ومن المنكرات التي ظهرت واشتهرت من كثير من الناس في كثير من البلاد: حلق اللحى، وهو أمر محرم، نهى الشارع صلى الله عليه وسلم عنه، في أحاديث صحيحة صريحة، كقوله صلى الله عليه وسلم "جزوا الشوارب وأرخوا اللحى، خالفوا المجوس" 2 وقوله: "احفوا الشوارب واعفوا اللحى خالفوا المشركين". وكثير من الناس - والعياذ بالله - يرتكب هذا المحرم جهارا، ويخالف أمر نبيه صلى الله عليه وسلم؛ وهذا في الحقيقة لم يحقق شهادة أن محمدا رسول الله معنًى، وإن حققها لفظا، لأن حقيقة شهادة أن محمدا رسول الله: طاعته فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما نهى عنه وزجر، وأن لا يعبد الله إلا بما شرع. قال شيخ الإسلام، رحمه الله: يحرم حلق اللحية. وقال القرطبي: لا يجوز حلقها ولا نتفها ولا قصها; وحكى ابن حزم رحمه الله الإجماع على أن قص الشارب وإعفاء اللحية فرض. واستدل بحديث ابن عمر: "خالفوا المشركين: احفوا الشوارب، واعفوا اللحى" 3، وبحديث زيد بن أرقم، رضي الله   1 طبعت مفردة سنة 1380 هـ. 2 مسلم: الطهارة (260) , وأحمد (2/365 ,2/366) . 3 البخاري: اللباس (5892) , ومسلم: الطهارة (259) . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 348 عنه، المرفوع: "من لم يأخذ من شاربه فليس منا" 1، وبأدلة أخرى. وكثير من الناس، بل ومن المنتسبين، يغلط في مسمى اللحية؛ فيأخذ ما على الخدود وما تحت اللحية وما فوقها، وهو من مسمى اللحية; وروي عن ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من مثّل بالشعر فليس له عند الله خلاق". وقال الزمخشري: معناه: صيره مثلة، بأن نتفه من الخدود، أو غيره بالسواد; وقال في النهاية: مثل بالشعر: حلقه من الخدود، وقيل نتفه، وتغييره بسواد. وكثير من الناس - والعياذ بالله - يجمع هذه الأشياء: ينتف بعضه، ويحلق بعضه، ويغير بعضه; "وكان ابن عمر رضي الله عنه إذا حلق يقول للحلاق: ابلغ العظم، افصل الرأس من اللحية". فبين رضي الله عنه أن ما فوق العظم فهو من الرأس، وما تحته من مسمى اللحية; والعظم المشار إليه، هو: المسامت، المحاذي للأذن; فيا عباد الله: توبوا إلى ربكم، وارجعوا لأمر نبيكم، واحذروا هذه المشابهة، التي تورث مودة أعداء الله. قال شيخ الإسلام رحمه الله: فمخالفتهم أمر مقصود للشارع؛ والمشابهة في الظاهر تورث مودة ومحبة، وموالاة في الباطن، كما أن المحبة في الباطن تورث المشابهة في الظاهر; وهذا أمر يشهد به الحس والتجربة: إلى آخر كلامه. وروي عن ابن عمر، رضي الله عنه قال: "من تشبه   1 الترمذي: الأدب (2761) , والنسائي: الطهارة (13) والزينة (5047) . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 349 بقوم حتى يموت، حشر معهم". فتوبوا رحمكم الله قبل الممات، ما دامت التوبة مقبولة، وبابها مفتوح، مع أن اللحية هي: زينة الرجال، ومن تمام الخلق؛ فبها ميز الله بين الرجال والنساء، ومن علامات الكمال. ولولا كمالها، وزينتها، ومحلها من الشريعة لما كان فيها الدية كاملة؛ إذ فقدها من الرجل مثلة عظيمة; ومعلوم أن لحيته صلى الله عليه وسلم قد ملأت من هاهنا إلى هاهنا، وأمرّ أنس يده على عارضيه. ولكن من أدمن حلقها، لم يتحقق تشويه خلقته، لأنه عكس القضية، وعصى الله جهارا، بإزالة ما جمل الله به أشرف شيء من ابن آدم، وأجمله، وهو: الوجه؛ ولكن زين له سوء عمله، كما في الآية الكريمة: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [سورة فاطر آية: 8] . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 350 [حث الشيخ عبد الستار الدهلوي في رسالته شمس الضحى الناس على طاعة الله] وقال الشيخ: عبد الستار الدهلوي الباكستاني 1: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده. أما بعد: فهذه نصيحة أقدمها إلى العالم الإسلامي، ليعم نفعها لإخواني المسلمين، أسأل الله رب العرش العظيم، أن يجعلها خالصة لوجهه الكريم، وينفع بها جميع المؤمنين، آمين. اعلموا يا إخواني الكرام، أن الهدى ودين الحق الذي افترضه الله على عباده هو: معرفة الحق والعمل به، لكونه عز وجل لم يخلقهم عبثا سدى لا ينهون، بل خلقهم ليعبدوه ولا يشركوا به شيئا، كما قال تعالى في كتابه العزيز: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [سورة الذاريات آية: 56] . والعبادة: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه، من الأقوال، والعقائد، والأعمال الظاهرة والباطنة. ومنها: النصح لكل مسلم كما جاء في حديث جرير رضي الله عنه لما بايعه عليه الصلاة والسلام على إقام   1 في رسالته شمس الضحى, ولأجل أنه قام بتقاريظها, جماعة من علماء الحرمين, وغيرهم, ومنهم الشيخ: عبد العزيز بن باز, في بعض طبعاتها, وضعنا المناسب منها هنا. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 351 الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم، رواه البخاري في صحيحه. وقد أوجب الله علينا طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم الذي لا {يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [سورة النجم آية: 3-4] ، فقال: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [سورة المائدة آية: 92] ، {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [سورة الحشر آية: 7] . فعلم من هذه الآيات، وغيرها أنه تجب طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم في جميع أوامره ونواهيه، لأن طاعته صادرة عن طاعة الله تعالى. فمن خالف أوامره، وارتكب نواهيه، فقد عرض نفسه للوعيد الشديد، كما قال جل وعلا: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [سورة النور آية: 63] . قال الإمام أحمد، رحمه الله: أتدري ما الفتنة؟ الفتنة الشرك، لعله إذا رد بعض قوله، أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك، ثم تلا قوله تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [سورة النساء آية: 65] . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 352 وقال شيخ الإسلام: إمام أهل التوحيد ابن تيمية، رحمه الله عليه، مستدلا بهذه الآية: إن الله فرض طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم على كل أحد في كل حال. فمن حيث أن النصح واجب على كل مسلم لأخيه المسلم، رأيت أن أكتب البعض مما ورد عن المصطفى صلى الله عليه وسلم في حلق اللحية وتوفير الشارب. {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْأِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [سورة هود آية: 88] {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [سورة البقرة آية: 127] . {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [سورة الأحقاف آية: 15] . اعلم وفقني الله وإياك أن اللحية هي اسم لجميع الشعر النابت على الوجه والذقن، ما خلا الشارب، في اللغة العربية. يوضحه: ما نص بتاج العروس بالجزء العاشر، قال: اللِّحية بالكسر، شعر الخدين والذقن، وهما اللحيان، وهما العظمان اللذان فيهما الأسنان، ثم تكلم إلى أن قال: اللحيان اللذان هما جانبا الفم. وما نص بالمصباح، قال: واللحي عظم الحنك، وهو الجزء: 15 ¦ الصفحة: 353 الذي عليه الأسنان، وهو من الإنسان حيث ينبت الشعر، وهو أعلى وأسفل. وما نص بالقاموس بالجزء الرابع، قال: اللحية بالكسر، شعر الخدين والذقن. فإذا فهمت ما جاء بكتب اللغة العربية، عرفت حينئذ أن جميع شعر الوجه مما ينبت على الذقن وتحت اللحيين، وما على الخدين والعارضين، يقال له لحية، ما عدا الشارب كما تقدم بيانه. وفي عون المعبود شرح أبي داود: اللحية بكسر اللام وسكون الحاء، لجميع الشعر الذي ينبت على الخدين والذقن. وذكر صاحب هذه الرسالة: الأحاديث الواردة، وكلام أهل العلم 1 وحالة أهل زماننا اليوم وأن عادتهم إذا رأوا محلوق لحية ذا مال ولباس محتشم، عظموه ووقروه، وفرحوا به فرحا شديدا، وإذا لاقوا ذا لحية متشرعا، موحدا، ومتبعا لسنة نبيه صلى الله عليه وسلم حقروه، ونظروا إليه {نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ} [سورة محمد آية: 20] . وقال أيضا: وسمعت كثيرا من هؤلاء يقولون: إن الله لا ينظر إلى الصور والأجساد، ولكن ينظر إلى القلوب   1 كما تقدم في رسالة الوالد رحمه الله "تحريم حلق اللحى". الجزء: 15 ¦ الصفحة: 354 والنيات، وفي قلوبنا الإيمان، ومحبة الله ورسوله، فلسنا نؤاخذ بحلق اللحية. والجواب على ذلك: نعم، ينظر الله إلى قلبك، فيدرك أشياء تتعلق بلحيتك، ولا يمكنك أن تُخْلِي قلبك منها; يدرك في قلبك الكراهية لما أحبه الله ورسوله، وهو: إعفاء اللحية. ويدرك في قلبك الحب لما كرهه الله ورسوله، وهو: حلق اللحية. ويدرك في قلبك الكراهية لما خلقه الله أو الاعتراض عليه، وهو: إنبات الشعر على وجهك. ويدرك فيك الهم والغم، إذا لم يتحصل لك الحلق في ميعاده، والغضب على الحلاق إذا لم يأتك في وقته، فأين محبة الله ورسوله في قلبك؟! إذا: كنت تبغض سنة رسولك، وتحلق لحيتك، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من أحب سنتي فقد أحبني، ومن أحبني كان معي في الجنة" 1 ولنعم ما قيل: تعصى الإله وأنت تظهر حبه ... لو كان حبك صادقا لأطعته هذا محال في القياس بديع ... إن المحب لمن يحب مطيع وأيضا سمعت بعض هؤلاء يقول: وجدنا كثيرا من أصحاب اللحى يرتكبون الفواحش، ويتخذون لحاهم سترا وجنة، فظننا أن الخير في ترك مثل هذه المظاهر. أقول مجيبا عن هذا: وهذه أيضا فكرة خاطئة، لأن   1 الترمذي: العلم (2678) . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 355 العمل الطيب إذا عمله الخبيثون لا يصير خبيثا، كما أن العمل الخبيث إذا ارتكبه الطيبون لا يصير طيبا. ولو اتخذنا هذه الفكرة أساساً لأعمالنا، لما بقي لنا شيء؛ فكم من الناس تعلموا القرآن والحديث، نجدهم انحرفوا عن الصراط المستقيم، وباعوا دينهم بدنياهم، وأصبحوا أضر على الدين من أعدائه، فهل يجوز لنا أن نترك دراسة القرآن الكريم والحديث؟! وكم من الناس يقيمون الصلاة، ويحجون، ويصومون; ومع ذلك هم أخبث الناس، وأشرهم، وأجرؤهم على ارتكاب الجرائم للحصول على بعض الدراهم والدنانير، فهل يمكننا أن نترك الصيام والصلاة، ونترك الحج لأجل هؤلاء؟! حاشا وكلا. وقد سمعت كثيرا من الناس الذين يحلقون لحاهم، يقولون: ماذا في اللحية؟ وهل الإسلام في اللحية؟ وهم مستهينون بشأنها مستهزئون بمن يعفيها. فأقول: قد ثبت من كلام الأنبياء: إذا لم تستح فاصنع ما شئت {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} [سورة التوبة آية: 65] ألا تخافون الله؟ تخالفون أمره وأمر رسوله; وتقولون: ماذا في اللحية..؟! استحوا، وتوبوا إليه، واعلموا أن في اللحية امتثالا لأمر الله، واتّباعاً لسنته صلى الله عليه وسلم، وقد قال عليه الصلاة والسلام: الجزء: 15 ¦ الصفحة: 356 "لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به"، نعم: ليس الإسلام كله في اللحية; ولكن: اللحية في الإسلام، وإنها من سنن الأنبياء الذين أمرنا بالاقتداء بهم. وعن عائشة رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "عشر من الفطرة، قص الشارب، وإعفاء اللحية.." 1 الحديت. قال صاحب مجمع البحار، أي: من سنن الأنبياء عليهم السلام، الذين أمرنا بالاقتداء بهم فيها، أي: من السنن القديمة التي اختارها الأنبياء، واتفقت عليها الشرائع، فكأنها أمر جبلي فطروا عليه؛ فكيف بكم إذا أنتم تقفون بين يدي الجبار القهار؟ وماذا تكون الحجة والجواب؟! ومن أقبح ما جاهروا به: حلق اللحية، وتشويهها بالقصر أو نحوه، وأخذ العارض أو توقيفه، فتشبهوا بالنساء بنعومة الخدود، وتشبهوا بالكفرة والمشركين بحلقها، وبالمجوس بتقصيرها. والذي لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم يقول: "ليس منا من تشبه بغيرنا" 2, ومع ذلك يشربون الخمور، ويلعبون الميسر، ويشتغلون بالملاهي، والسينما، وحضور أماكن الرقص، متختمين بالذهب، لا حياء عندهم، ولا خجل، ولا مروءة. وقد اتبعوا غير سبيل المؤمنين، وسلكوا مسلك   1 مسلم: الطهارة (261) , والترمذي: الأدب (2757) , والنسائي: الزينة (5040 ,5042) , وأبو داود: الطهارة (53) , وابن ماجه: الطهارة وسننها (293) , وأحمد (6/137) . 2 الترمذي: الاستئذان والآداب (2695) . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 357 الغربيين، ونهجوا على منوالهم، وساروا مقلدين لهم حذو النعل، قد غرتهم الحياة الدنيا وغرهم بالله الغرور. عباد الله, هل نسينا ما قص الله علينا من قصة بني إسرائيل، كي لا نقع فيما وقعوا فيه؟ بأنه لعنهم {عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [سورة المائدة آية: 78-79] . ومن الناس من يقول: عصرنا اليوم ليس كالأمس، نحن نريد أن نتقدم، وأنتم يا أصحاب اللحى تريدون تأخيرنا; والصديق أصبح يعيب صديقه بعدم إحفاء اللحية، وحتى ناقصات العقول - يعني النساء - لا يرتضينها. ومع هذا ينتهكون محارم الله، ويجاهرون بمعصية الله ورسوله في الطرقات، وفي الشوارع والأسواق، وعلى الأسطح والشرفات، وفي كل مكان. يقرؤون المجلات الخليعة، المليئة بصور النساء العاريات، ولا يقرؤون مجلتنا - صحيفة أهل الحديث - التي تصدر في كل شهر مرتين، وفيها شرح لأحاديث البخاري، وتفسير لآيات الله البينات. لا شك أن هؤلاء شاقوا الرسول صلى الله عليه وسلم؛ ومن يشاق الرسول ويتبع غير سبيل المؤمنين فهو مهان عند الله، ومن يهن الله فما له من مكرم. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 358 يحلقون لحاهم، ويبتغون بذلك مرضاة أزواجهم، ونسائهم، وأصدقائهم؛ والله تعالى يقول: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ} [سورة التوبة آية: 62] . والظاهر أن الشيطان زين لهم أعمالهم، وقد قال تعالى: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [سورة فاطر آية: 8] , وقال تعالى: {وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً} [سورة الأعراف آية: 146] . ومن المعلوم أن ما جاء به، وما أمرنا به رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم هو الرشد والهداية، وما يعاكسه فهو سبيل الغي والضلالة. فيروى عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "جزوا الشوارب وأرخوا اللحى، خالفوا المجوس" 1. والأحاديث المذكورة، وغيرها مما لم تذكر هنا، موجودة في الصحاح الستة، التي هي أمهات الكتب، كالبخاري ومسلم وغيرهما، والسنن، والمسانيد، من كتب الحديث المشهورة المقبولة، المتداولة بين أهل العلم. فكيف يسوغ لمسلم أن يرتكب هذه المنهيات، ويترك العمل بالأوامر الشرعية، وهو يتلو أو يتلى عليه قوله الله عز وجل: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ   1 مسلم: الطهارة (260) , وأحمد (2/365 ,2/366) . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 359 أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً} [سورة الأحزاب آية: 36] . وكيف تطمئن نفس مسلم بعد وقوفه على قوله عليه الصلاة والسلام: "اعفوا اللحى، وجزوا الشوارب، ولا تشبهوا باليهود والنصارى"، وعلى قوله: "لا تشبهوا بالأعاجم، اعفوا اللحى، وجزوا الشوارب" وعلى قوله: "ليس منا من تشبه بغيرنا "؟ ويعلم أيضا علم اليقين أن لحيته صلى الله عليه وسلم كثيفة عظيمة، كثيرة الشعر، قد ملأت عارضيه وذقنه الشريفة، ومع علمه بذلك لا يقبل صورة الرسول صلوات الله وسلامه عليه، ولا يفرح بها، ولا يستحسنها؟ بل يمثل بصورة المجوس، والمشركين، والوثنيين، ويختارها لنفسه، ويعمد إلى لحيته فيقص، أو يحلق، أو ينتف من أطرافها، من النابت على الخدين وتحت الذقن، أو مما ينبت على العارضين؟! ولا يلتفت إلى قوله عز وجل: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ} [سورة الأحزاب آية: 21] , ولا إلى قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [سورة الحشر آية: 7] . فلم يتأس برسوله، ويترك لحيته وافرة، كما كانت لحيته صلى الله عليه وسلم بل يعاكسه فيحلق لحيته، أو ينتف، أو يقص، الجزء: 15 ¦ الصفحة: 360 فإذا به يخالف الأوامر ويرتكب النواهي. فالعجب كل العجب، والرزية كل الرزية، ممن ينتسب إلى العلم والدين كيف يتعود بحلق لحيته، أو قصها، أو نتفها، أو أخذ ما على الخدين والعارضين، أو ما تحت الذقن مما نبت، بلا مبالاة بما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الخصوص، من الأحاديث القاضية بإعفاء اللحية، وحلق الشارب أو نهكه، على غير الصفة المذكورة بالأحاديث الصحيحة الصريحة، الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم أمرا ونهيا. ولم نجد في رواية عن النبي عليه الصلاة والسلام، ولا عن أصحابه الكرام، والتابعين العظام، ولا عن أحد من الأئمة الأربعة، ولا عن أحد من المحدثين، رضوان الله عليهم أجمعين، ما يدلنا على خلاف هذا الأمر. فكيف يجوز لنا السماح بتبديل الشرع المنصوص، بعادة اسمية نتبعها، ونترك السنة؟ كما قال أهل العلم: إن الحق فيما قضى به إمام الأنبياء، خاتم الرسل صلوات الله وسلامه عليه، ولو خالفه عامة من في الأرض عالمهم وجاهلهم، لقوله تعالى: {ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [سورة النساء آية: 65] . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 361 قال شيخ الإسلام إمام الموحدين ابن تيمية، قدس الله روحه: إن مخالفة الكفرة غاية مقصودة للشريعة، لأن التشبه بهم في الظاهر يورث مودة في الباطن؛ كما أن المحبة في الباطن تورث المشابهة في الظاهر. وأيضا: قال الشيخ - في المجلد الثاني من فتاويه -: فكل من عدل عن اتباع الكتاب والسنة وإطاعة الله ورسوله إلى عادته وعادة أبيه وقومه، فهو من أهل الجاهلية المستحقين للوعيد. انتهى. وذكر أقوال الأئمة في النهي عن التقليد إذا خالف الكتاب والسنة، وما قيل: في النهي عن الإفساد في الأرض بعد إصلاحها، وأن من خالف ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم فهو من المفسدين، وذكر أيضا قول أبي العالية: من عصى الله في الأرض، أو أمر بمعصية الله، فقد أفسد في الأرض، لأن صلاح الأرض والسماء إنما هو بطاعة الله ورسوله. وقال أيضا في رسالته: ومما يناسب هذا المقام، قول الحافظ ابن كثير رحمه الله، على قوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} [سورة النور آية: 63] قال: عن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو: سبيله ومنهاجه، وطريقته وسنته، وشريعته. فتوزن الأقوال والأعمال، بأقواله وأعماله؛ فما وافق ذلك فهو مقبول، وما خالفه فهو مردود على قائله وفاعله، كائنا من كان، بدليل ما ثبت في البخاري ومسلم الجزء: 15 ¦ الصفحة: 362 وغيرهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد" 1. وبالجملة: فعلى المسلم أن يقتدي برسوله صلى الله عليه وسلم في جميع أقواله وأفعاله، وفي صورته، وسيرته. وفي هذا المقدار كفاية لمن له هداية، والله ولي التوفيق، وبيده أزمة التحقيق، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، كتبها في شهر شوال سنة 1377 هـ.   1 مسلم: الأقضية (1718) , وأحمد (6/180 ,6/256) . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 363 الباب السابع: لباس الشرطة وهو محرم، لمشابهته لباس الإفرنج، وفي الحديث: "من تشبه بقوم فهو منهم" 1، وقد تعاهد العلماء مع الملك أن لا يلبس الشرطة هذا الزي المشهور، من برنيطة وغيرها 2. ثم بدئ به شيئا فشيئا حتى تم، فهم يسيرون بذلك بين أظهر المسلمين، لتعم المعصية كل من رآهم، ويشابهون الإفرنج في المشية، بالضرب بالرجل على الأرض، والإشارة باليد إلى الوجه بدل السلام، وغير ذلك. نسأل الله أن يوفق ولاة المسلمين، فيزيلوا هذا المنكر عن بلادهم. ومن نصائح المشايخ في ذلك ما يلي:   1 أبو داود: اللباس (4031) . 2 وانظر ما قاله الشيخ محمد بن إبراهيم في صفحة 76/ج/4 وصفحة 231/ج/6 من فتاويه رحمه الله في ذلك. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 363 قال المشائخ، رحمهم الله: بسم الله الرحمن الرحيم من محمد بن عبد اللطيف، وصالح بن عبد العزيز، ومحمد بن إبراهيم، إلى: جناب عالي الجناب، حضرة الإمام: عبد العزيز بن عبد الرحمن آل فيصل، سلمه الله تعالى، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وموجب الكتاب، هو: النصيحة لكم، والشفقة عليكم، عملا بقوله صلى الله عليه وسلم: "الدين النصيحة، قالها ثلاثا، قيل: لمن يا رسول الله؟ قال: لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم" 1. وأعظم ما ننصحك به، عما رأيناه وسمعناه، من المنكرات الفظيعة الشنيعة التي تنقص الإسلام والدين. منها: اللباس الذي هو شعار الإفرنج، والترك، والأعاجم، ولم يعهد عن الصحابة والتابعين، وأئمة الإسلام تخصيص جندهم بلباس خاص، غير اللباس المعتاد للرعية؛ ولما أحدث بنو العباس السواد، أنكر عليهم العلماء، الإمام أحمد وغيره. وذكر شيخ الإسلام في اقتضاء الصراط المستقيم، في مخالفة أصحاب الجحيم: أن تغيير اللباس بسواد، أو غيره، خلاف ما عليه المسلمون، وأنه من البدع والمنكرات. وأن كل زي اختص به الكفار، يحرم على المسلمين استعماله وموافقتهم فيه؛ وكل شيء مختص بالكفار، من   1 مسلم: الإيمان (55) , والنسائي: البيعة (4197 ,4198) , وأبو داود: الأدب (4944) , وأحمد (4/102) . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 364 لباس وغيره، يحرم اتخاذه واستعماله, لأن اتخاذه واستعماله ينقص دين المسلم، وهو محرم، والمشابهة توجب التأثير في المشابه به، ذكر ذلك شيخ الإسلام. ومنه: تعليمات الجند، التي هي من زي المشركين، والأعاجم، وكذلك المزيكة، والبرزان، التي طقت هذه الأيام في "العود" كل عصرية، وصار الناس والعوام والنساء يذهبون إليها ويحضرونها. وهي كلها من شعائر الإفرنج، والترك، والأعاجم، الذين هم أعداء هذه الملة الإسلامية، ولم يعهد عند أحد من أئمة الإسلام المتقدمين والمتأخرين، الذين هم القدوة; وليس القدوة قوانين الإفرنج والترك والأعاجم، ولا التشبه بهم من دين الإسلام. وآخر من نصر هذه الدعوة وقام بها، أوائلكم وأوائلنا، رحمهم الله; وذلك ما يقارب القرنين، لم يفعلوا شيئا من هذه الأمور، لأنهم يعتقدون تحريم مشابهة المشركين في كل شيء. وأنت حفظك الله، الواجب عليك مراقبة الله وخوفه، وعدم الخروج عن المشروع، والاقتداء بالسلف الصالح; وأولئك الذين أيد الله بهم هذا الدين، إنما لباسهم وجندهم البياض المعتاد بوطنهم. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 365 ولم يخصوا جندهم بلباس، وزي من زي الأعاجم، وغيرهم من أعداء الدين، وهذه دسيسة ممن يريد كيد الإسلام وأهله، يريدون بها تمرين الناس، وعدم وحشتهم ممن رؤيت عليه واستعملها. وذكر شيخ الإسلام أن المشابهة في الأعمال الظاهرة تجر إلى الموافقة في الأعمال الباطنة قسرا. ولا حملنا على هذه النصيحة، إلا خروج من عهدة الكتمان، وبراءة لنا يوم نقف بين يدي الديان. ونحن نبرأ إلى الله أن نوافق على هذه الأفعال، وعدم السكوت عن الإنكار، والبراءة منها ظاهرا وباطنا، ونبرأ إلى الله من فعلها، وإقرارها، لأن إقرارها من إقرار شعار الكفر والشرك. فعليك بتقوى الله واغتنام الأعمال الصالحة قبل الوفاة، والأخذ بما ينجيك يوم الوقوف بين يديه، وليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني، ولكن ما وقر في القلوب وصدقته الأعمال; وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم سنة 1358 هـ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 366 [قول الشيخ حمود التويجري في لبس البرنيطة التي هي من لباس الإفرنج] وقال الشيخ: حمود بن عبد الله التويجري: 1 ومن التشبه بأعداء الله تعالى: لبس البرنيطة التي هي من لباس الإفرنج، ومن شابههم من أمم الكفر والضلال، وتسمى أيضا: القبعة. وقد افتتن بلبسها كثير من المنتسبين إلى الإسلام، في كثير من الأقطار الإسلامية، ولا سيما البلدان التي فشت فيها الحرية الإفرنجية، وانطمست فيها أنوار الشريعة المحمدية. ومن ذلك أيضا: الاقتصار على لبس السترة والبنطلون ; فالسترة قميص صغير يبلغ أسفله إلى حد السرة، أو يزيد عن ذلك قليلا، وهو من ملابس الإفرنج; والبنطلون: اسم للسراويل الإفرنجية، وقد عظمت البلوى بهذه المشابهة الذميمة، في أكثر الأقطار الإسلامية. ومن جمع بين هذا اللباس، وبين لبس البرنيطة فوق رأسه، فلا فرق بينه وبين رجال الإفرنج، في الشكل الظاهر; وإذا ضم إلى ذلك حلق اللحية، كان أتم للمشابهة الظاهرة، و "من تشبه بقوم فهو منهم" 2 كما في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ليس منا من تشبه بغيرنا" 3. والحديث الذي رواه الإمام أحمد في الزهد، عن   1 في كتابه الإيضاح والتبيين. 2 أبو داود: اللباس (4031) . 3 الترمذي: الاستئذان والآداب (2695) . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 367 عقيل بن مدرك قال: "أوحى الله إلى نبي من أنبياء بني إسرائيل: قل لقومك لا يأكلوا طعام أعدائي، ولا يشربوا شراب أعدائي، ولا يتشكلوا شكل أعدائي؛ فيكونوا أعدائي، كما هم أعدائي". وما رواه أبو نعيم في الحلية، عن مالك بن دينار قال: "أوحى الله إلى نبي من الأنبياء، أن قل لقومك: لا تدخلوا مداخل أعدائي، ولا تطعموا مطاعم أعدائي، ولا تلبسوا ملابس أعدائي، ولا تركبوا مراكب أعدائي؛ فتكونوا أعدائي كما هم أعدائي". فإن ادعى المتشبهون بأعداء الله تعالى أنهم إنما يلبسون البرنيطات لتكون وقاية لرؤوسهم من حر الشمس، ويلبسون البنطلونات والقمص القصار لمباشرة الأعمال، قيل: هذه الدعوى حيلة على استحلال التشبه المحرم، والحيل لا تبيح المحرمات. ومن استحل المحرمات بالحيل فقد تشبه باليهود، كما في الحديث الذي رواه ابن بطة بإسناد جيد، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود؛ فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل". والدليل على تحريم التشبه بأعداء الله تعالى، ما في حديث عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عمرو رضي الله عنهم. وقد ورد الأمر بمخالفة أهل الكتاب في لباسهم، والأمر للوجوب؛ وترك الواجب معصية، فروى الإمام أحمد بإسناد الجزء: 15 ¦ الصفحة: 368 حسن، عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على مشيخة من الأنصار، فذكر الحديث، وفيه: فقلنا يا رسول الله، إن أهل الكتاب يتسرولون، ولا يتزرون، فقال: "تسرولوا واتزروا، وخالفوا أهل الكتاب" 1. وروى الإمام أحمد أيضا وأبو داود الطيالسي، ومسلم والنسائي، عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، قال رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم عليَّ ثوبين معصفرين، فقال: "إن هذه من ثياب الكفار، فلا تلبسهما" 2. وفي رواية لمسلم، قال: رأى النبي صلى الله عليه وسلم عليَّ ثوبين معصفرين، فقال: "أأمك أمرتك بهذا؟ قلت: أغسلهما؟ قال: بل أحرقهما" 3. وفي رواية للنسائى عنه رضي الله عنه أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم وعليه ثوبان معصفران، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم وقال: "اذهب فاطرحهما عنك ; قال أين يا رسول الله؟ قال: في النار" 4. وهذا الحديث الصحيح، صريح تحريم ثياب الكفار على المسلمين ; وفيه دليل على المنع من لبس البرنيطات وغيرها من ملابس أعداء الله تعالى، كالاقتصار على لبس البنطلونات، والقمص القصار، وغير ذلك من زي أعداء الله تعالى، وملابسهم، لوجود علة النهي فيها. وفي غضب النبي صلى الله عليه وسلم على عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما وأمره بطرح ثوبيه في النار، أبلغ زجر عن مشابهة الكفار في زيهم ولباسهم، وكذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: "أأمك   1 أحمد (5/264) . 2 مسلم: اللباس والزينة (2077) , والنسائي: الزينة (5316) , وأحمد (2/207) . 3 مسلم: اللباس والزينة (2077) . 4 النسائي: الزينة (5317) . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 369 أمرتك بهذا؟! " 1 أبلغ ذم وتنفير من التشبه بأعداء الله تعالى، والتزيِّي بزيهم. وقد جعل الله سبحانه وتعالى للمسلمين مندوحة عن مزاحمة أعداء الله تعالى في لباسهم، والتشبه بهم؛ فمن أراد وقاية لرأسه، ففي لباس المسلمين ما يكفيه، ومن أراد ثيابا للأعمال فكذلك؛ ومن أراد ثيابا للزينة والجمال فكذلك؛ ومن رغب عن زي المسلمين ولم يتسع له ما اتسع لهم من الملابس المباحة، فلا وسع الله عليه في الدنيا ولا في الآخرة. قال الشيخ أحمد محمد شاكر في الكلام على حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: هذا الحديث يدل بالنص الصريح على حرمة التشبه بالكفار، في اللبس وفي الهيئة، والمظهر، كالحديث الآخر الصحيح؛ و "من تشبه بقوم فهو منهم" 2. ولم يختلف أهل العلم منذ الصدر الأول في هذا - أعني: في تحريم التشبه بالكفار - حتى جئنا في هذه العصور المتأخرة، فنبتت في المسلمين نابتة ذليلة مستعبدة، هجيراها وديدنها: التشبه بالكفار في كل شيء، والاستخذاء لهم، والاستعباد. ثم وجدوا من الملتصقين بالعلم المنتسبين له من يزين لهم أمرهم، ويهون عليهم أمر التشبه بالكفار، في اللباس والهيئة، والمظهر والخلق، وكل شيء؛ حتى صرنا في أمة ليس لها من مظهر الإسلام إلا مظهر الصلاة والصيام   1 مسلم: اللباس والزينة (2077) . 2 أبو داود: اللباس (4031) . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 370 والحج، على ما أدخلوا فيها من بدع، بل من ألوان من التشبه بالكفار أيضا. وأظهر مظهر يريدون أن يضربوه على المسلمين هو: غطاء الرأس الذي يسمونه: "القبعة، البرنيطة"، وتعللوا لها بالأعاليل والأباطيل، وأفتاهم بعض الكبراء المنتسبين: أن لا بأس بها إذا أريد بها الوقاية من الشمس، وهم يأبون إلا أن يظهروا أنهم لا يريدون بها إلا الوقاية من الإسلام. فيصرح كتابهم ومفكروهم بأن هذا اللباس له أكبر الأثر في تغيير الرأس الذي تحته، ينقله من تفكير عربي ضيق، إلى تفكير إفرنجي واسع! ثم أبى الله لهم إلا الخذلان، فتناقضوا، ونقضوا ما قالوا من حجة الشمس، إذ وجدوا أنهم لم يستطيعوا ضرب هذه الذلة على الأمة. فنزعوا غطاء الرأس بمرة، تركوا الطربوش وغيره، ونسوا أن الشمس ستضرب رؤوسهم مباشرة، دون واسطة الطربوش، ونسوا أنهم دعوا إلى القبعة، وأنه لا وقاية لرؤوسهم من الشمس إلا بها. ثم كان من بضع سنين أن خرج الجيش الإنجليزي المحتل للبلاد، من القاهرة والإسكندرية; بمظهره المعروف؛ فما لبثنا أن رأيناهم ألبسوا الجيش المصري والشرطة المصرية، قبعات كقبعات الإنجليز. فلم تفقد الأمة في العاصمتين، وفي داخل البلاد، منظر الجزء: 15 ¦ الصفحة: 371 جيش الاحتلال الذي ضرب الذلة على البلاد سبعين سنة، فكأنهم لم يصبروا على أن يفقدوا مظهر الذل الذي ألفوه واستساغوه، وربوا في أحضانه. وما رأيت مرة هذا المنظر البشع، منظر جنودنا في زي أعدائنا وهيئتهم، إلا تقززت نفسي، وذكرت قول عميرة بن جعل الشاعر الجاهلي، يذم قبيلة تغلب: إذا ارتحلوا عن دار ضيم تعاذلوا ... عليهم وردوا وفدهم يستقيلها انتهى كلامه رحمه الله تعالى. وما ذكره رحمه الله تعالى من تشبه الجيش المصري، والشرطة المصرية، بالجيش الإنجليزي، ليس هو مما انفرد به المصريون، بل قد شاركهم فيه كثير من المسلمين والمنتسبين إلى الإسلام؛ فألبسوا جيوشهم وشرطهم مثل لباس الإفرنج، ولم يبالوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من تشبه بقوم فهو منهم" 1 فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وهذا التشبه القبيح، والانحراف عن زي المسلمين والتزيي بزي أعداء الله تعالى، كله من آثار بطانة السوء، كما في الحديث الصحيح، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما بعث الله من نبي، ولا استخلف, إلا كانت له بطانتان: بطانة تأمره بالمعروف وتحضه عليه، وبطانة تأمره بالشر وتحضه عليه; فالمعصوم من عصم الله تعالى" 2 رواه البخاري، والنسائي.   1 أبو داود: اللباس (4031) . 2 البخاري: الأحكام (7198) , والنسائي: البيعة (4202) , وأحمد (3/39 ,3/88) . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 372 ولهما أيضا عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من وال إلا وله بطانتان: بطانة تأمره بالمعروف، وتنهاه عن المنكر; وبطانة لا تألوه خبالا؛ فمن وقي شرها فقد وقي؛ وهو من التي تغلب عليه منهما" 1 هذا لفظ النسائي. وقد رواه الإمام أحمد بنحوه، وعنده في آخره: "ومن وقي شر بطانة السوء، فقد وقي - يقولها ثلاثا -؛ وهو مع الغالبة عليه منهما" 2. وقد رواه البخاري في الأدب المفرد، والترمذي، والحاكم، وفيه قصة لأبي الهيثم بن التيهان رضي الله عنه، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب، وقال الحاكم: صحيح الإسناد، على شرط الشيخين ولم يخرجاه; ووافقه الذهبي في تلخيصه. وروى البخاري أيضا والنسائي، عن أبي أيوب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما بعث من نبي، ولا كان بعده من خليفة، إلا وله بطانتان، بطانة تأمره بالمعروف، وتنهاه عن المنكر، وبطانة لا تألوه خبالا؛ فمن وقي بطانة السوء فقد وقي" 3 هذا لفظ النسائي. وإذا علم هذا، فالواجب على المسلمين كافة: أن يبعدوا كل البعد عن مشابهة أعداء الله تعالى، والتزيي بزيهم في اللباس وغيره؛ ويجب على ولاة الأمور أن   1 النسائي: البيعة (4201) . 2 الترمذي: الزهد (2369) , والنسائي: البيعة (4201) , وأحمد (2/289) . 3 النسائي: البيعة (4203) . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 373 ينزعوا لباس الإفرنج عن جيوشهم وشرطهم، ويلبسوهم لباس المسلمين. وينبغي لهم أن يحترزوا من شر بطانة السوء، ممن يأمرهم بالمنكر، ويحضهم عليه، ويبعدوهم عنهم غاية البعد. والله المسؤول: أن يوفق ولاة أمور المسلمين لما فيه الخير والصلاح، وأن يأخذ بنواصيهم إلى الحق إنه ولي ذلك والقادر عليه. وقال في تدريبهم: ومن التشبه بأعداء الله تعالى: تدريب الجنود على الأنظمة الإفرنجية، وتشكيلهم بشكل أعداء الله تعالى، في اللباس، والمشي، وغير ذلك من الإشارات والحركات المبتدعة. وقد فشا هذا التشبه المذموم، في كثير من المنتسبين إلى الإسلام؛ والدليل على تحريمه: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "من تشبه بقوم فهو منهم" 1، وقوله في الحديث الآخر: "ليس منا من تشبه بغيرنا" 2. فأما تعلم الرمي وما يتبع ذلك من استعمال الآلات الحربية الحادثة في هذه الأزمان، من برية، وبحرية، وجوية، فذلك مطلوب مرغب فيه للجهاد في سبيل الله، ومكافحة أعداء الله. قال الله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ   1 أبو داود: اللباس (4031) . 2 الترمذي: الاستئذان والآداب (2695) . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 374 رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [سورة الأنفال آية: 60] الآية. وقال النبي صلى الله عليه وسلم:"ألا إن القوة الرمي" 1 قالها ثلاث مرات، رواه الإمام أحمد، ومسلم، والدارمي، وأهل السنن إلا النسائي، من حديث عقبة بن عامر، رضي الله عنه. [من التشبه بأعداء الله تعالى: الإشارة بالأصابع عند السلام] وقال الشيخ حمود أيضا: ومن التشبه بأعداء الله تعالى: الإشارة بالأصابع عند السلام، وكذلك: الإشارة بالأكف مرفوعة إلى جانب الوجه، فوق الحاجب الأيمن، كما يفعل ذلك الشرط وغيرهم، وكذلك ضرب الشرط بأرجلهم عند السلام. ويسمون هذا الضرب المنكر، والإشارة بالأكف: التحية العسكرية، وهي: تحية مأخوذة عن الإفرنج وأشباههم من أعداء الله تعالى، وهي بالهزء والسخرية أشبه منها بالتحية. ولكن ما الحيلة فيمن غيرت طباعهم المدنية الإفرنجية؟ وأثرت فسادا كثيرا في أخلاقهم وأفعالهم، حتى صاروا يستحسنون من أفعال الإفرنج وغيرهم من الأعاجم، ما يستقبحه أولو العقول السليمة والفطر المستقيمة. وهذه التحية المستهجنة من جملة المنكر الذي ينبغي تغييره والنهي عنه، لحديث عبد الله بن عمر، رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من تشبه بقوم فهو منهم" 2.   1 مسلم: الإمارة (1917) , والترمذي: تفسير القرآن (3083) , وأبو داود: الجهاد (2514) , وابن ماجه: الجهاد (2813) , وأحمد (4/156) , والدارمي: الجهاد (2404) . 2 أبو داود: اللباس (4031) . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 375 رواه الإمام أحمد، وأبو داود، وصححه ابن حبان، وغيره من الحفاظ. وفي جامع الترمذي، عن عبد الله بن عمرو، رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ليس منا من تشبه بغيرنا، لا تشبهوا باليهود، ولا بالنصارى، فإن تسليم اليهود: الإشارة بالأصابع، وتسليم النصارى: الإشارة بالأكف" 1. وروى الحافظ أبو يعلى، والطبراني في الأوسط، والبيهقي في شعب الإيمان، عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تسليم الرجل بأصبع واحدة يشير بها فعل اليهود" قال الهيثمي: رجال أبي يعلى رجال الصحيح، وقال المنذري: رواته رواة الصحيح. وفي رواية للبيهقي: "لا تسلموا تسليم اليهود والنصارى، فإن تسليمهم إشارة بالكفوف، والحواجب" قال البيهقي: إسناده ضعيف، قلت: له شاهد مما تقدم، وما يأتي، وهو ما رواه النسائي بسند جيد، عن جابر رضي الله عنه مرفوعا: "لا تسلموا تسليم اليهود، فإن تسليمهم بالرؤوس، والإشارة". وفي مستدرك الحاكم من حديث ابن جريج عن محمد بن قيس بن مخرمة، عن المسور بن مخرمة رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "هدينا مخالف لهديهم" يعني المشركين. قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه،   1 الترمذي: الاستئذان والآداب (2695) . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 376 ووافقه الذهبي في تلخيصه، وقد رواه الشافعي في مسنده، من حديث ابن جريج، عن محمد بن قيس بن مخرمة مرسلا، ولفظه: "هدينا مخالف لهدي أهل الأوثان والشرك". إذا علم هذا، فقد اختص الله تبارك وتعالى المسلمين بأفضل التحيات وأكملها وأزكاها، وهو السلام الذي علمه الله تبارك وتعالى لآدم أبي البشر، حين نفخ فيه الروح، وأخبره أنه تحيته، وتحية ذريته من بعده. كما في الصحيحين والمسند، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "خلق الله آدم على صورته، طوله ستون ذراعا، فلما خلقه قال: اذهب فسلم على أولئك - نفر من الملائكة جلوس - فاستمع ما يحيونك، فإنها تحيتك، وتحية ذريتك; فقال: السلام عليكم، فقالوا: السلام عليك ورحمة الله; فزادوه: ورحمة الله ... " 1 الحديث. وقد شرع الله تبارك وتعالى لهذه الأمة: أن يسلم بعضهم على بعض، بهذه التحية المباركة الطيبة، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [سورة النور آية: 27] . وقال تعالى: {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً} [سورة النور آية: 61] قال سعيد بن   1 البخاري: أحاديث الأنبياء (3326) , ومسلم: الجنة وصفة نعيمها وأهلها (2841) , وأحمد (2/315) . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 377 جبير، والحسن البصري، وقتادة، والزهري، يعني: فليسلم بعضكم على بعض. وفي جامع الترمذي عن أبي تميمة الهجيمي، عن رجل من قومه قال: طلبت النبي صلى الله عليه وسلم فذكر الحديث، وفيه: فقال - يعني النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا لقي الرجل أخاه المسلم، فليقل: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته" 1. وفيه أيضا عن أبي تميمة الهجيمي، عن أبي جري جابر بن سليم الهجيمي، رضي الله عنه قال: "أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: عليك السلام، فقال: لا تقل عليك السلام، ولكن قل: السلام عليكم" 2 قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وبهذا السلام المبارك الطيب يسلم الرب تبارك وتعالى على المؤمنين إذا دخلوا الجنة، كما قال تعالى: {سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} [سورة يس آية: 58] ، وقال تعالى: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ} [سورة الأحزاب آية: 44] . وروى ابن ماجه في سننه، وابن أبي حاتم، والبغوي في تفسيريهما عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بينا أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع لهم نور، فرفعوا رؤوسهم، فإذا الرب تعالى قد أشرف عليهم من فوقهم، فقال: السلام عليكم يا أهل الجنة، قال: وذلك قول الله تعالى: {سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} [سورة يس آية: 58] 3") .   1 الترمذي: الاستئذان والآداب (2721) . 2 الترمذي: الاستئذان والآداب (2722) . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 378 وبهذا السلام المبارك الطيب، تسلم الملائكة على المؤمنين إذا دخلوا الجنة، كما قال تعالى: {وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [سورة الرعد آية: 23-24] ، وقد تقدم تسليمهم على آدم بهذا السلام المبارك الطيب. وكما أن السلام هو تحية المسلمين فيما بينهم في الدنيا، فكذلك هو تحيتهم فيما بينهم في الدار الآخرة، كما قال تعالى: {دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ} [سورة يونس آية: 10] ، وقال تعالى: {وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ} [سورة إبراهيم آية: 23] . وإذا علم فضل السلام، وأنه تحية المسلمين في الدارين، فليعلم أيضا أنه لا أسفه رأيا ممن رغب عن ذلك، واستبدل عنه بإشارات الإفرنج وضربهم بالأرجل شبه البغال والحمير، إذا أحست بشيء يدبُّ على أرجلها. ومن توقف في هذه المشابهة، فلينظر إلى البغال والحمير إذا كانت في مواضع القردان، فجعلت تضرب بأرجلها، ولينظر إلى ضرب الشرط بأرجلهم عند أداء تحيتهم العسكرية، حتى يرى تمام المشابهة، من أحد الجنسين للآخر. بل ضرب الشرط بأرجلهم أفحش وأنكر من ضرب الجزء: 15 ¦ الصفحة: 379 البغال والحمير بأرجلها; وكفى بالتحية العسكرية مهزأة ومنقصة عند كل عاقل سالم، من أمراض المدنية الإفرنجية وأدناسها. والله المسؤول: أن يوفق ولاة أمور المسلمين، لمنع هذه الأفعال المخالفة للشريعة المحمدية. [من التشبه بأعداء الله قيام الشرط وغيرهم من أعوان الملوك وخدامهم على الملوك وهم قعود] وقال: ومن التشبه بأعداء الله تعالى: قيام الشرط وغيرهم من أعوان الملوك وخدامهم على الملوك وهم قعود; وقيام الرجال للداخل عليهم على وجه التعظيم له والاحترام. وقد ورد النهي عن ذلك، والتشديد فيه، كما في صحيح مسلم عن أبي الزبير، عن جابر رضي الله عنه قال: "اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلينا وراءه وهو قاعد، وأبو بكر يسمع الناس تكبيره; فالتفت إلينا فرآنا قياما، فأشار إلينا فقعدنا، فصلينا بصلاته قعودا; فلما سلم، قال: إن كدتم آنفا لتفعلون فعل فارس والروم، يقومون على ملوكهم وهم قعود، فلا تفعلوا ... " 1 الحديث. وقد رواه ابن ماجه في سننه بإسناد مسلم، ورواه البخاري في الأدب المفرد عن عبد الله بن صالح قال: حدثني الليث، قال: حدثني أبو الزبير، عن جابر رضي الله عنه فذكره بمثله، وإسناده حسن. وقد بوب عليه البخاري بقوله: باب قيام الرجل للرجل   1 مسلم: الصلاة (413) , والنسائي: السهو (1200) , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1240) , وأحمد (3/334) . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 380 القاعد، ثم قال البخاري، رحمه الله تعالى، في الأدب المفرد: باب من كره أن يقعد ويقوم له الناس. حدثنا موسى - يعني ابن إسماعيل التبوذكي – قال: حدثنا أبو عوانة، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر، رضي الله عنه قال: "صرع رسول الله صلى الله عليه وسلم من فرس بالمدينة على جذع نخلة، فانفكت قدمه، فكنا نعوده في مشربة لعائشة رضي الله عنها، فأتيناه وهو يصلي قاعدا، فصلينا قياما. ثم أتيناه مرة أخرى وهو يصلي المكتوبة قاعدا، فصلينا قياما، فأومأ إلينا أن اقعدوا، فلما قضى الصلاة، قال: إذا صلى الإمام قاعدا، فصلوا قعودا، وإذا صلى قائما فصلوا قياما، ولا تقوموا والإمام قاعد، كما تفعل فارس بعظمائهم" إسناده صحيح، رجاله كلهم من رجال الصحيحين. وقد رواه أبو داود في سننه عن عثمان بن أبي شيبة، حدثنا جرير، ووكيع، عن الأعمش، فذكره بنحوه، وإسناده صحيح على شرط الشيخين. وفي المسند وسنن أبي داود وابن ماجه، عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: "خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم متوكئا على عصا، فقمنا إليه، فقال: لا تقوموا كما تقوم الأعاجم، يعظم بعضها بعضا" 1. قال المنذري في الترغيب والترهيب: وإسناده حسن، فيه   1 أبو داود: الأدب (5230) , وأحمد (5/253 ,5/256) . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 381 أبو غالب، واسمه حزور، ويقال: نافع; ويقال: سعيد بن الحزور، فيه كلام طويل ذكرته في مختصر السنن وغيره، والغالب عليه التوثيق، وقد صحح له الترمذي وغيره. قلت: وقد وثقه الدارقطني، وقال ابن مفلح في الآداب: أبو غالب مختلف فيه، وحديثه حسن، وقد بوب أبو داود على هذا الحديث، وعلى حديث معاوية الآتي بقوله: باب الرجل يقوم للرجل يعظمه بذلك. وقال البخاري، رحمه الله تعالى، في الأدب المفرد: حدثنا موسى بن إسماعيل - يعني التبوذكي – قال: حدثنا حماد بن سلمة، عن حميد، عن أنس رضي الله عنه قال: ما كان شخص أحب إليهم رؤية من النبي صلى الله عليه وسلم، وكانوا إذا رأوه لم يقوموا إليه، لما يعلمون من كراهيته لذلك، إسناده صحيح على شرط مسلم. وقد رواه الإمام أحمد، والترمذي، وقال: هذا حديث حسن، صحيح غريب; وبوب الترمذي على هذا الحديث، وعلى حديث معاوية الآتي، بقوله: باب كراهية قيام الرجل للرجل. وقال أبو داود في سننه: حدثنا موسى بن إسماعيل - يعني التبوذكي - حدثنا حماد - يعني ابن سلمة - عن حبيب بن الشهيد، عن أبي مجلز، قال: خرج معاوية رضي الله عنه على ابن الزبير، وابن عامر، فقام ابن عامر، وجلس ابن الزبير. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 382 فقال معاوية لابن عامر: اجلس فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من أحب أن يتمثل له الرجال قياما، فليتبوأ مقعده من النار" 1 إسناده صحيح، على شرط مسلم. وقد رواه الترمذي في جامعه، فقال: حدثنا محمود بن غيلان، حدثنا قبيصة - يعني ابن عقبة - حدثنا سفيان - يعني الثوري - عن حبيب بن الشهيد، عن أبي مجلز، قال: خرج معاوية فقام عبد الله بن الزبير وابن صفوان حين رأوه. فقال: اجلسا، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من سره أن يتمثل له الرجال قياما، فليتبوأ مقعده من النار" 2. قال الترمذي: وفي الباب عن أبي أمامة رضي الله عنه وهذا حديث حسن; قلت: رجاله كلهم من رجال الصحيحين، فهو على هذا صحيح على شرط الشيخين. ثم رواه الترمذي عن هناد، عن أبي أسامة حماد بن أسامة، عن حبيب بن الشهيد، عن أبي مجلز، بكسر الميم وإسكان الجيم، واسمه: لاحق بن حميد السدوسي، عن معاوية رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه، وهذا الإسناد صحيح على شرط الشيخين، وقد رواه الإمام أحمد في مسنده من طرق، عن حبيب بن الشهيد، وأسانيده كلها صحيحة. وقال البخاري، رحمه الله تعالى، في الأدب المفرد: باب قيام الرجل للرجل تعظيما. حدثنا آدم - يعني ابن أبي إياس – قال: حدثنا شعبة،   1 الترمذي: الأدب (2755) , وأبو داود: الأدب (5229) . 2 الترمذي: الأدب (2755) , وأبو داود: الأدب (5229) . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 383 وحدثنا حجاج - يعني ابن منهال – قال: حدثنا حماد - يعني ابن سلمة – قال: حدثنا حبيب بن الشهيد، قال: سمعت أبا مجلز يقول: إن معاوية رضي الله عنه خرج، وعبد الله بن عامر، وعبد الله بن الزبير قعود. فقام ابن عامر، وقعد ابن الزبير - وكان أرزنهما -، قال معاوية رضي الله عنه قال النبي: صلى الله عليه وسلم "من سره أن يمثل له عباد الله قياما، فليتبوأ بيتا في النار" 1 إسناداه صحيحان على شرط مسلم. قال ابن الأثير في قوله: "من سره أن يمثل له الناس قياما، فليتبوأ مقعده من النار" 2 أي: يقومون له قياما وهو جالس، يقال مثل الرجل يمثل مثولا، إذا انتصب قائما، وإنما نهى عنه، لأنه من زي الأعاجم، ولأن الباعث عليه الكبر، وإذلال الناس. وقال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى، في الكلام على قول النبي: صلى الله عليه وسلم "إذا صلى الإمام جالسا فصلوا جلوسا، وإذا صلى الإمام قائما فصلوا قياما، ولا تفعلوا كما يفعل أهل فارس بعظمائها" 3. في هذا الحديث: أنه أمرهم بترك القيام الذي هو فرض في الصلاة، وعلل ذلك بأن قيام المأمومين مع قعود الإمام، يشبه فعل فارس والروم بعظمائهم في قيامهم وهم قعود. ومعلوم أن المأموم إنما نوى أن يقوم لله لا لإمامه،   1 الترمذي: الأدب (2755) , وأبو داود: الأدب (5229) , وأحمد (4/91) . 2 الترمذي: الأدب (2755) , وأبو داود: الأدب (5229) . 3 مسلم: الصلاة (413) , والنسائي: السهو (1200) , وأبو داود: الصلاة (602) , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1240) , وأحمد (3/300) . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 384 وهذا تشديد عظيم في النهي عن القيام للرجل القاعد، ونهي أيضا عما يشبه ذلك، وإن لم يقصد به ذلك. وفي هذ الحديث أيضا: نهي عما يشبه فعل فارس والروم، وإن كانت نيتنا غير نيتهم، لقوله: "فلا تفعلوا" فهل بعد هذا في النهي عن مشابهتهم، في مجرد الصورة غاية؟! انتهى. وقال النووي: فيه النهي عن قيام الغلمان والتباع على رأس متبوعهم الجالس لغير حاجة؛ وأما القيام للداخل، إذا كان من أهل الفضل والخير، فليس من هذا، بل هو جائز؛ قد جاءت به أحاديث، وأطبق عليه السلف والخلف. قلت: في آخر هذا الكلام نظر، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان أفضل الخلق وخيرهم، ومع هذا فقد نهى أصحابه عن القيام له إذا خرج عليهم، وأخبرهم: أن ذلك من فعل الأعاجم، يعظم بعضهم بعضا. وقال أنس رضي الله عنه: "لم يكن شخص أحب إليهم من النبي صلى الله عليه وسلم وكانوا إذا رأوه لم يقوموا، لما يعلمون من كراهيته لذلك"، "ولما قام ابن عامر لمعاوية رضي الله عنه لما خرج عليهم، أمره أن يجلس، وحدثهم بما سمع من النبي صلى الله عليه وسلم من التشديد في ذلك". وهذه أحاديث صحيحة، فيجب العمل بها; ومن قال: إنها محمولة على القيام على الملوك وهم قعود، وما أشبه الجزء: 15 ¦ الصفحة: 385 ذلك فقد أبعد النجعة، وخالف ما دلت عليه هذه الأحاديث من النهي عن القيام للداخل ونحوه، على وجه التعظيم والاحترام. وقد رد ابن القيم رحمه الله تعالى على من قال بهذا القول، فقال في تهذيب السنن، على قول المنذري: وقد أخرج مسلم في صحيحه من حديث أبي الزبير رضي الله عنه أنهم لما صلوا خلفه صلى الله عليه وسلم قياما وهو قاعد، فأشار إليهم فقعدوا، فلما سلم قال: "إن كدتم آنفا لتفعلون فعل فارس والروم، يقومون على ملوكهم وهم قعود، فلا تفعلوا" 1. قال ابن القيم، رحمه الله تعالى: حمل أحاديث النهي - يعني حديث معاوية، وحديث أبي أمامة - على مثل هذه الصورة ممتنع، فإن سياقها يدل على خلافه، وأنه صلى الله عليه وسلم كان ينهى عن القيام له إذا خرج عليهم. ولأن العرب لم يكونوا يعرفون هذا، وإنما هو من فعل فارس والروم، ولأن هذا لا يقال له قيام للرجل، إنما هو قيام عليه، ففرق بين القيام للشخص المنهي عنه، والقيام عليه، المشبه لفعل فارس والروم، والقيام إليه عند قدومه الذي هو سنة العرب، وأحاديث الجواز تدل عليه فقط، انتهى.   1 مسلم: الصلاة (413) , والنسائي: السهو (1200) , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1240) , وأحمد (3/334) . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 386 وذكر ابن القيم أيضا: حديث معاوية رضي الله عنه ثم قال: وفيه رد على من زعم أن معناه: أن يقوم الرجل للرجل في حضرته وهو قاعد، فإن معاوية روى الخبر لما قاما له حين خرج. قال: وأما الأحاديث المتقدمة: فالقيام فيها عارض للقادم، مع أنه قيام إلى الرجل للقائه، لا قيام له، وهو وجه حديث فاطمة; فالمذموم: القيام للرجل; وأما القيام إليه للتلقي إذا قدم، فلا بأس به، وبهذا تجتمع الأحاديث، والله أعلم، انتهى كلامه رحمه الله تعالى. والأحاديث التي أشار إليها أنها قد تقدمت: ستأتي في القسم الثالث، وهي حديث عائشة رضي الله عنها، في قيام النبي صلى الله عليه وسلم لزيد بن حارثة، وقوله للأنصار: "قوموا إلى سيدكم" 1 وحديث عائشة رضي الله عنها، في قيام النبي صلى الله عليه وسلم إلى فاطمة إذا دخلت عليه، وقيامها إليه إذا دخل عليها. إذا علم هذا؛ فالقيام على ثلاثة أقسام: أحدها: القيام على الرجل وهو قاعد، كما يفعله الشرط وغيرهم من أعوان الملوك مع الملوك، وهذا هو الذي ورد النهي عنه، في حديث جابر، رضي الله عنه الذي تقدم ذكره، ولا أعلم نزاعا في كراهته والمنع منه. ويستثنى من هذا: مسألة واحدة، وهي: ما إذا قدم على الإمام رسل من الأعداء، وخيف منهم أن يغدروا به،   1 البخاري: الجهاد والسير (3043) , ومسلم: الجهاد والسير (1768) , وأبو داود: الأدب (5215) , وأحمد (3/22 ,3/71) . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 387 فلا بأس أن يقوم بعض أعوانه على رأسه بالسلاح، كما فعل المغيرة بن شعبة، رضي الله عنه في صلح الحديبية، فإنه كان قائما بالسلاح على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم عليه رسل قريش، والحديث بذلك في صحيح البخاري، ومسند الإمام أحمد، وغيرهما. القسم الثاني: القيام للداخل ونحوه، إعظاما له واحتراما، لا لقصد المعانقة أو المصافحة؛ وفي كراهة هذا، والمنع منه نزاع بين العلماء، والصحيح المنع منه، لما تقدم عن أبي أمامة، وأنس ومعاوية، رضي الله عنهم في ذلك. وأحاديثهم، وإن كانت واردة في هذا القسم، فعمومها يشمل القسم الأول أيضا، لأن كلا منهما من أفعال الأعاجم، وتعظيم بعضهم بعضا; والمسلم منهي عن التشبه بالأعاجم; وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من تشبه بقوم فهو منهم" 1، وفي الحديث الآخر: "ليس منا من تشبه بغيرنا" 2. وقد فرّق بعض العلماء بين القيام لأهل الفضل والفقه، وبين القيام لغيرهم، فأجازوه لأهل الخير، ومنعوه لغيرهم، وهذا تفريق لا دليل عليه، وقد تقدم رد ما قاله النووي في ذلك. وقال إسحاق بن إبراهيم: خرج أبو عبد الله على قوم في المسجد فقاموا له، فقال: لا تقوموا لأحد، فإنه مكروه. وقال أحمد أيضا في رواية مثنى: لا يقوم أحد لأحد. وقال حنبل، قلت لعمي: ترى للرجل أن يقوم للرجل   1 أبو داود: اللباس (4031) . 2 الترمذي: الاستئذان والآداب (2695) . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 388 إذا رآه؟ قال: لا يقوم أحد لأحد، إلا الولد لوالده، أو أمه، فأما لغير الوالدين فلا، لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك. وظاهر هذه الروايات أنه لا فرق بين القيام لأهل الفقة والدين، وبين القيام لغيرهم; وقد روي عن الإمام مالك نحو هذا; قال ابن القاسم في المدونة، قيل لمالك: الرجل يقوم للرجل، له الفضل والفقه؟ قال: أكره ذلك; ولا بأس أن يوسع له في مجلسه. قال: وقيام المرأة لزوجها حتى يجلس، من فعل الجبابرة، وربما يكون الناس ينتظرونه، فإذا طل، قاموا، فليس هذا من فعل الإسلام. وقال الحافظ بن حجر في فتح الباري: محصّل المنقول عن مالك: إنكار القيام، ما دام الذي يقام لأجله لم يجلس، ولو كان في شغل نفسه. فإنه سئل عن المرأة تبالغ في إكرام زوجها فتلقاه وتنزع ثيابه، وتقف حتى يجلس؟ فقال: أما التلقي فلا بأس به، وأما القيام حتى يجلس، فلا، فإنه من فعل الجبابرة، وقد أنكره عمر بن عبد العزيز. انتهى. قال شيخ الإسلام أبو العباس بن تيمية رحمه الله تعالى: أبو بكر، والقاضي، ومن تبعهما فرقوا بين القيام لأهل الدين وغيرهم، فاستحبوه لطائفة، وكرهوه لأخرى، والتفريق في مثل هذا بالصفات، فيه نظر. قال: وأما أحمد، فمنع منه مطلقا لغير الوالدين، فإن الجزء: 15 ¦ الصفحة: 389 النبي صلى الله عليه وسلم سيد الأئمة، ولم يكونوا يقومون له، فاستحباب ذلك للإمام العادل مطلقا، خطأ، وقصة ابن أبي ذئب مع المنصور، تقتضي ذلك; وما أراد أبو عبد الله - والله أعلم - إلا لغير القادم من سفر. فإنه قد نص على أن القادم من السفر، إذا أتاه إخوانه، فقام إليهم وعانقهم، فلا بأس به، وحديث سعد يخرّج على هذا، وسائر الأحاديث; فإن القادم، يتلقى، لكن هذا قام فعانقهم، والمعانقة لا تكون إلا بالقيام. وأما الحاضر في المصر، الذي قد طالت غيبته، والذي ليس من عادته المجيء إليه، فمحل نظر؛ فأما الحاضر الذي يتكرر مجيئه في الأيام، كإمام المسجد، أو السلطان في مجلسه، أو العالم في مقعده، فاستحباب القيام له، خطأ، بل المنصوص عن أبي عبد الله هو الصواب. انتهى. وقصة أبي ذئب التي أشار إليها الشيخ، قد ذكرت له مع المهدي، وأنه لما حج دخل مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، "فقال المسيب بن أبي زهير، لابن أبي ذئب: قم، هذا أمير المؤمنين، فقال ابن أبي ذئب: إنما يقوم الناس لرب العالمين; فقال المهدي: دعه، فلقد قامت كل شعرة في رأسي". وقد سئل الشيخ أيضا: عن النهوض الذي يعده الناس من الإكرام والاحترام، عند قدوم شخص معتبر، هل يجوز. أم لا؟ وإذا كان يغلب على ظن المتقاعد عن ذلك أن القادم الجزء: 15 ¦ الصفحة: 390 يخجل، أو يتأذى باطنه، وربما أدى ذلك إلى بغض ومقت وعداوة؟ فأجاب، رحمه الله تعالى: لم يكن من عادة السلف، على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين، أن يعتادوا القيام للداخل المسلم، كما يردون عليه السلام، كما يعتاد كثير من الناس؛ بل قد قال أنس بن مالك رضي الله عنه: "لم يكن شخص أحب إليهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا إذا رأوه لم يقوموا؛ لما يعلمون من كراهته لذلك". ولكن ربما قاموا للقادم من مغيبه تلقيا له، كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قام لعكرمة، وقال للأنصار - لما قدم سعد ابن معاذ -: (قوموا إلى سيدكم) ، وكان سعد متمرضا بالمدينة، وكان قد قدم إلى بني قريظة شرقي المدينة. والذي ينبغي للناس أن يعتادوا ما كان السلف عليه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإنهم خير القرون، وخير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد، فلا يعدل أحد عن هدي خير الخلق، وهدي خير القرون، إلى ما دونه؛ وينبغي للمطاع أن يقرر ذلك مع أصحابه، بحيث إذا رأوه لم يقوموا، ولا يقوم لهم في اللقاء المعتاد. فأما القيام لمن قدم من سفر ونحو ذلك تلقيا له، فحسن; وإذا كان من عادة الناس إكرام من يجيء بالقيام، ولو ترك ذلك، لاعتقد أن ذلك بخس لحقه، أو قصد لخفضه، ولم يعلم العادة الموافقة للسنة، فالأصلح أن يقام الجزء: 15 ¦ الصفحة: 391 له لأن في ذلك إصلاح ذات البين، وإزالة للتباغض والشحناء. وأما من عرف عادة القوم الموافقة للسنة، فليس في ترك ذلك إيذاء له، وليس هذا القيام هو القيام المذكور، في قوله صلى الله عليه وسلم "من سره أن يتمثل له الرجال قياما، فليتبوأ مقعده من النار" 1، فإن ذلك أن يقوموا له وهو قاعد، ليس هو أن يقوموا لمجيئه إذا جاء، ولهذا فرقوا بين أن يقال: قمت إليه، وقمت له; والقائم للقادم قد ساواه في القيام، بخلاف القائم للقاعد. وقد ثبت في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم لما صلى بهم قاعدا في مرضه، وصلوا قياما، أمرهم بالقعود، وقال: "لا تعظموني كما تعظم الأعاجم بعضها بعضا"، فقد نهاهم عن القيام في الصلاة وهو قاعد، لئلا يتشبهوا بالأعاجم، الذين يقومون لعظمائهم وهم قعود. وجماع ذلك: أن الذي يصلح: اتباع عادة السلف وأخلاقهم، والاجتهاد في ذلك بحسب الإمكان؛ فمن لم يعتد ذلك، أو لم يعرف أنه العادة، وكان في ترك مقابلته بما اعتاده الناس من الإكرام مفسدة راجحة، فإنه يدفع أعظم الفسادين بالتزام أدناهما، كما تحصل المصلحة بتفويت أدناهما. انتهى كلامه رحمه الله تعالى. وقال أيضا في - الفتاوى المصرية: ينبغي ترك القيام   1 الترمذي: الأدب (2755) , وأبو داود: الأدب (5229) . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 392 في اللقاء المتكرر المعتاد، ونحوه؛ لكن إذا اعتاد الناس القيام، وقدم من لا يرى كرامته إلا به، فلا بأس به، فالقيام دفعا للعداوة والفساد، خير من تركه المفضي إلى الفساد؛ وينبغي مع هذا أن يسعى في الإصلاح على متابعة السنة. انتهى. القسم الثالث: القيام إلى القادم لمعانقته، أو مصافحته، أو إنزاله عن دابته، ونحو ذلك من المقاصد الجائزة، وهذا القيام جائز قد فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم وفعله أصحابه بحضرته. كما في جامع الترمذي عن عائشة رضي الله عنها، قالت: "قدم زيد بن حارثة المدينة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي، فأتاه، فقرع الباب، فقام إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم عريانا يجر ثوبه، والله ما رأيته عريانا قبله ولا بعده، فاعتنقه وقبله" 1 قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. قولها عريانا: تريد أنه عليه الصلاة والسلام، كان ساترا ما بين سرته وركبته، ولكنه سقط رداؤه عن عاتقه، فكان ما فوق سرته وما تحت ركبته عريانا، قال الطيبي: وكان هذا من شدة فرحه، حيثما لم يتمكن من تمام التردي بالرداء حتى جره، وكثيرا ما يقع مثل هذا. انتهى. وروى البيهقي وغيره: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دخل عليه عكرمة بن أبي جهل مسلما مهاجرا، قام إليه فرحا بقدومه". وروى أبو داود، والترمذي، والنسائي عن عائشة،   1 الترمذي: الاستئذان والآداب (2732) . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 393 رضي الله عنها، قالت: "ما رأيت أحدا كان أشبه سمتا وهديا، ودَلًّا برسول الله صلى الله عليه وسلم من فاطمة رضي الله عنها، كانت إذا دخلت عليه قام إليها، فأخذ بيدها وقبلها وأجلسها في مجلسه، وكانت إذا دخل عليها قامت إليه، وأخذت بيده وقبلته وأجلسته في مجلسها" قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. وفي الصحيحين وغيرهما عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن أهل قريظة لما نزلوا على حكم سعد بن معاذ رضي الله عنه أرسل إليه النبي صلى الله عليه وسلم فجاء على حمار; فقال النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار: "قوموا إلى سيدكم" 1. وفي رواية لأحمد عن عائشة رضي الله عنها، قالت: قال أبو سعيد فلما طلع، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قوموا إلى سيدكم، فأنزلوه فقال عمر رضي الله عنه: سيدنا الله; قال: أنزلوه، فأنزلوه" 2 الحديث. قال الحافظ بن حجر: سنده حسن. قلت: وفي هذه الرواية، بيان المراد من الأمر بالقيام إلى سعد رضي الله عنه، ففيه رد على من استدل به، على جواز القيام المنهي عنه. قال الحافظ بن حجر: هذه الزيادة - يعني قوله فأنزلوه - تخدش في الاستدلال بقصة سعد على مشروعية القيام المتنازع فية. انتهى. وفي الصحيحين وغيرهما، في قصة كعب بن مالك   1 البخاري: الجهاد والسير (3043) , ومسلم: الجهاد والسير (1768) , وأبو داود: الأدب (5215) , وأحمد (3/22 ,3/71) . 2 البخاري: الجهاد والسير (3043) , ومسلم: الجهاد والسير (1768) , وأبو داود: الأدب (5215) , وأحمد (3/22 ,3/71) . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 394 رضي الله عنه لما تاب الله عليه، قال: "وانطلقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد، وحوله الناس، فقام طلحة بن عبيد الله يهرول، حتى صافحني وهنأني" 1. الحديث. فهذا وما أشبهه من القيام، جائز، كما دلت عليه هذه الأحاديث؛ وهو قيام إلى الشخص، لا له؛ والقيام إلى الشخص من فعل العرب، والقيام له، أو عليه من فعل العجم. وقد تقدم قول ابن القيم، رحمه الله: أن المذموم القيام للرجل، وأما القيام إليه للتلقي إذا قدم، فلا بأس به، وقد روي عن أحمد، رحمه الله تعالى، ما يوافق هذا. قال أبو جعفر محمد بن أحمد بن المثنى: أتيت أحمد بن حنبل، فجلست على بابه انتظر خروجه، فلما خرج قمت إليه، فقال لي: أما علمت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أحب أن يتمثل الناس له قياما، فليتبوأ مقعده من النار"؟ فقلت له: إنما قمت إليك لا لك، فاستحسنه.   1 البخاري: المغازي (4418) , ومسلم: التوبة (2769) , وأبو داود: الجهاد (2773) , وأحمد (6/387) . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 395 [فصل في أن من أبشع المنكرات تصفيق الرجال في بعض الأوقات] فصل ومن أبشع المنكرات تصفيق الرجال في بعض الأوقات. قال الشيخ: حمود التويجري: ومن التشبه بأعداء الله تعالى، ما يفعله كثير من الجهال، من التصفيق في المجالس والمجامع عند رؤية ما يعجبهم من الأفعال، وعند سماع ما يستحسنونه من الخطب والأشعار، وعند مجيء الملوك والرؤساء إليه، وهذا التصفيق سخف ورعونة، ومنكر مردود من عدة أوجه: أحدها: أن فيه تشبها بأعداء الله تعالى من المشركين، وطوائف الإفرنج، وأشباههم فأما المشركون فقد قال الله تعالى عنهم: {وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً} [سورة الأنفال آية: 35] : قال أهل اللغة وجمهور المفسرين: المكاء: الصفير; والتصدية: التصفيق، وبهذا فسره ابن عمر وابن عباس، رضي الله عنهم. فأما ابن عمر رضي الله عنهما، فرواه ابن جرير عنه; وفيه: "أنه حكى فعل المشركين فصفر وأمال خدّه وصفق بيديه"، وروى ابن أبي حاتم عنه رضي الله عنه أنه قال: "إنهم كانوا يضعون خدودهم على الأرض، ويصفقون، ويصفرون". وأما ابن عباس، رضي الله عنهما، فرواه ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الفرج ابن الجوزي عنه; ولفظ ابن أبي حاتم قال: "كانت قريش تطوف بالبيت عراة، تصفر وتصفق". الجزء: 15 ¦ الصفحة: 396 والمكاء: الصفير; والتصدية: التصفيق; وكذا روي عن مجاهد، ومحمد بن كعب، وأبي سلمة بن عبد الرحمن، والضحاك، والحسن، وقتادة، وعطية العوفي، وغيرهم. قال ابن عرفة، وابن الأنباري: المكاء، والتصدية ليسا بصلاة، ولكن الله تعالى أخبر أنهم جعلوا مكان الصلاة التي أمروا بها، المكاء والتصدية، فألزمهم ذلك عظيم الأوزار. وروى الإمام أحمد، والنسائي، والبيهقي، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر قريشا أنه أسري به إلى بيت المقدس، قالوا: ثم أصبحت بين ظهرانينا؟ قال: نعم، قال: فمن بين مصفق، ومن بين واضع يده على رأسه متعجبا للكذب" 1. وأما الإفرنج وأضرابهم، من أعداء الله تعالى، فقد ذكر المخالطون لهم أن التصفيق من أفعالهم في محافلهم، إذا أعجبهم كلام، أو فعل من أحد، صفقوا تعجبا وتعظيما لذلك القول أو الفعل؛ وقد أخذ سفهاء المسلمين عنهم هذا الفعل السخيف، تقليدا لهم، وتشبها بهم. وقد تقدم حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من تشبه بقوم فهو منهم" 2. وتقدم أيضا حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس منا من تشبه بغيرنا، لا تشبهوا باليهود ولا بالنصارى" 3 وفي هذين الحديثين دليل على المنع من   1 أحمد (1/309) . 2 أبو داود: اللباس (4031) . 3 الترمذي: الاستئذان والآداب (2695) . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 397 التصفيق، لما فيه من التشبه بأعداء الله تعالى. ويدل على المنع أيضا قوله صلى الله عليه وسلم: "خالفوا المشركين" 1 متفق عليه من حديث ابن عمر، رضي الله عنهما، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "هدينا مخالف لهديهم" يعني المشركين، رواه الحاكم في مستدركه، من حديت ابن جريج، عن محمد بن قيس بن مخرمة، عن المسور بن مخرمة، رضي الله عنهما، وقال: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في تلخيصه، ورواه الشافعي في مسنده، من حديث ابن جريج عن محمد بن قيس بن مخرمة مرسلا، ولفظه: "هدينا مخالف لأهل الأوثان والشرك". ومن المقرر عند الأصوليين: أن الأمر بالشيء نهي عن ضده; وعلى هذا فالأمر بمخالفة المشركين هو في الحقيقة: نهي عن موافقتهم، والتشبه بهم فيما يفعلونه من التصفيق وغيره من زيهم وأفعالهم السيئة; وكذا إخباره صلى الله عليه وسلم بأن هدي المسلمين مخالف لهدي أهل الشرك، يقتضي منع المسلمين من التصفيق، وغيره من أفعال المشركين; والله أعلم. وقد روي: أن التصفيق من أعمال قوم لوط; فروى ابن عساكر في تأريخه، عن الحسن مرسلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "عشر خصال عملها قوم لوط، بها هلكوا، وتزيدها أمتي بخلة" فذكر الخصال ومنها التصفيق. الوجه الثاني: أن التصفيق من خصائص النساء، لتنبيه الإمام إذا نابه شيء في صلاته، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في   1 البخاري: اللباس (5892) , ومسلم: الطهارة (259) . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 398 الحديث الصحيح: "إنما التصفيق للنساء" 1 رواه مالك، وأحمد، والشيخان، وأبو داود، والنسائي، من حديث سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه. وقد أتى صلى الله عليه وسلم في هذه الجملة الوجيزة، بالحصر والاستغراق، والاختصاص، فدل على أنه لا مدخل فيه للرجال بحال; وعلى هذا فمن صفق من الرجال، فقد تشبه بالنساء، فيما هو من خصائصهن. وقد "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المتشبهين من الرجال بالنساء" 2 رواه الإمام أحمد وأبو داود الطيالسي، والبخاري، وأهل السنن، إلا النسائي، من حديث بن عباس، رضي الله عنهما، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وروى ابن ماجه في سننه بإسناد حسن عن أبي هريرة رضي الله عنه: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن المرأة تتشبه بالرجال، والرجل يتشبه بالنساء" 3 ورواه الإمام أحمد، وأبو داود، والنسائي بنحوه، وصححه ابن حبان والحاكم، والنووي، وغيرهم، وقال الحاكم: على شرط مسلم، ولم يخرجاه، وأقره الذهبي في تلخيصه. وروى الإمام أحمد أيضا: عن عبد الله بن عمرو، رضي الله عنهما، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ليس منا من تشبه بالرجال من النساء، ولا من تشبه بالنساء من الرجال" 4 في إسناده رجل مبهم، وبقية رجاله ثقات، وقد   1 البخاري: الأذان (684) , ومسلم: الصلاة (421) , والنسائي: السهو (1183) , وأبو داود: الصلاة (940) , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1035) , وأحمد (5/335) , ومالك: النداء للصلاة (392) . 2 البخاري: اللباس (5885) , والترمذي: الأدب (2784) , وأبو داود: اللباس (4097) , وابن ماجه: النكاح (1904) , وأحمد (1/251 ,1/330) . 3 ابن ماجه: النكاح (1903) . 4 أحمد (2/199) . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 399 رواه الطبراني فأسقط الرجل المبهم، قال الهيثمي: فعلى هذا رجال الطبراني كلهم ثقات. الوجه الثالث: أن النبي صلى الله عليه وسلم أنكر على الرجال لما صفقوا في الصلاة، لأنهم فعلوا فعلا لا يجوز للرجال فعله، ولا يليق بهم، وإنما يليق بالنساء؛ وقد قرن الإنكار ببيان العله في ذلك، فقال: "إنما التصفيق للنساء" 1 فهذه الجملة تفيد منع الرجال من التصفيق البتة، وأنه ينبغي الإنكار على من صفق منهم. الوجه الرابع: أن التصفيق لم يكن من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا من هدي أصحابه رضوان الله عليهم أجمعين، ولم يكن من عمل التابعين وتابعيهم بإحسان، وإنما حدث في المسلمين في أثناء القرن الرابع عشر من الهجرة النبوية، لما كثرت مخالطة المسلمين للإفرنج، وأعجب جهال المسلمين بسنن أعداء الله وأفعالهم الذميمة. وقد رأى الإمام أحمد، وأهل السنن من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة" 2 قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح; وصححه ابن حبان والحاكم، وقال: ليس له علة، ووافقه الذهبي في تلخيصه. وفي رواية للحاكم: "عليكم بما تعرفون من سنة نبيكم   1 البخاري: الأذان (684) , ومسلم: الصلاة (421) , والنسائي: السهو (1183) , وأبو داود: الصلاة (940) , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1035) , وأحمد (5/335) , ومالك: النداء للصلاة (392) . 2 أبو داود: السنة (4607) , والدارمي: المقدمة (95) . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 400 والخلفاء الراشدين المهديين، وعضوا على نواجذكم بالحق" قال الحاكم: صحيح على شرطهما جميعا، ولا أعرف له علة، ووافقه الذهبي في تلخيصه. وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب أبلغ الخطب، ويخطب البلغاء بحضرته، وينشد فحول الشعراء عنده أفخم الشعر وأجزله، ولم ينقل أن أحدا من أصحابه صفق عند سماع خطبة ولا قصيدة. وكذلك الخلفاء الراشدون بعده، كانوا يخطبون أبلغ الخطب، ويخطب عندهم البلغاء، وتنشد عندهم الأشعار الجيدة، ولم ينقل عنهم، ولا عن غيرهم من الصحابة والتابعين أنهم كانوا يصفقون عند التعجب والاستحسان. وإنما نقل عن كفار قريش أن بعضهم صفقوا تعجبا لما أخبرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أسري به إلى بيت المقدس، فهؤلاء هم سلف المصفقين عند التعجب والاستحسان. وسلفهم الآخر: الإفرنج، وأشباههم من أعداء الله تعالى؛ وكل امرئ يهفو إلى ما يناسبه، ومن تشبه بقوم فهو منهم. ولهم أيضا سلف ثالث من شر السلف، وهم: قوم لوط، فقد روى ابن عساكر في تأريخه عن الحسن البصري مرسلا: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "عشر خصال عملها قوم لوط، بها هلكوا، وتزيدها أمتي بخلة" فذكر الخصال، ومنها التصفيق. وللمصفقين أيضا سلف رابع من شر السلف، وهم: الجزء: 15 ¦ الصفحة: 401 جهال المتصوفة ومبتدعوهم. قال الحافظ أبو الفرج بن الجوزي، رحمه الله تعالى: إذا طرب أهل التصوف لسماع الغناء، صفقوا، ثم ساق بإسناده إلى أبي علي الكاتب قال: كان ابن بنان يتواجد، وكان أبو سعيد الخراز يصفق له. قال ابن الجوزي، رحمه الله تعالى: والتصفيق منكر يطرب، ويخرج عن الاعتدال، وتتنزه عن مثله العقلاء، ويتشبه فاعله بالمشركين فيما كانوا يفعلونه عند البيت من التصدية؛ وهي التي ذمهم الله عز وجل لها فقال: {وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً} [سورة الأنفال آية: 35] ، فالمكاء: الصفير، والتصدية: التصفيق. قال: وفيه أيضا تشبه بالنساء; والعاقل يأنف من أن يخرج عن الوقار، إلى أفعال الكفار، والنسوة. انتهى كلامه رحمه الله تعالى. وقال الشيخ: عز الدين بن عبد السلام، في "قواعد الأحكام": وأما الرقص والتصفيق، فخفة ورعونة، مشهبة لرعونة الإناث، لا يفعلها إلا أرعن، أو متصنع كذاب؛ كيف يأتي الرقص المتزن بأوزان الغناء، ممن طاش لبه، وذهب قلبه؟! وقد قال عليه السلام: "خير القرون، قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم" 1 ولم يكن أحد من هؤلاء الذين يقتدى بهم يفعل شيئا من ذلك إلى أن قال: وقد حرم بعض العلماء التصفيق على الرجال   1 البخاري: الشهادات (2652) , ومسلم: فضائل الصحابة (2533) , والترمذي: المناقب (3859) , وابن ماجه: الأحكام (2362) , وأحمد (1/378 ,1/442) . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 402 بقوله صلى الله عليه وسلم "إنما التصفيق للنساء" 1، ولعن عليه الصلاة والسلام المتشبهات من النساء بالرجال، والمتشبهين من الرجال بالنساء؛ ومن هاب الإله، وأدرك شيئا من تعظيمه، لم يتصور منه رقص، ولا تصفيق، ولا يصدر التصفيق والرقص، إلا من غبي جاهل، ولا يصدران من عاقل فاضل. ويدل على جهالة فاعلهما: أن الشريعة لم ترد بهما في كتاب، ولا سنة، ولم يفعل ذلك أحد من الأنبياء، ولا من أتباع الأنبياء، وإنما يفعل ذلك الجهلة السفهاء، الذين التبست عليهم الحقائق بالأهواء، وقد مضى السلف، وأفاضل الخلف، ولم يلابسوا شيئا من ذلك، انتهى. وقال شيخ الإسلام أبو العباس بن تيمية، رحمه الله تعالى: وأما اتخاذ التصفيق، والغناء، والضرب بالدفوف، والنفخ في الشبابات، والاجتماع على ذلك دينا، وطريقا إلى الله تعالى، وقربة فهذا ليس من دين الإسلام، وليس مما شرعه لهم نبيهم صلى الله عليه وسلم ولا أحد من خلفائه، ولا استحسن ذلك أحد من أئمة المسلمين؛ بل ولم يكن أحد من أهل الدين يفعل ذلك على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عهد أصحابه، ولا تابعيهم بإحسان، ولا تابعي التابعين. انتهى. والغرض منه قوله: إنه لم يكن أحد من أهل الدين يفعل ذلك، يعني: التصفيق وما ذكر معه، لا على عهد   1 البخاري: الأذان (684) , ومسلم: الصلاة (421) , والنسائي: السهو (1183) , وأبو داود: الصلاة (940) , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1035) , وأحمد (5/335) , ومالك: النداء للصلاة (392) . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 403 رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا على عهد أصحابه، ولا تابعيهم بإحسان، ولا تابعي التابعين. وقال الشيخ أيضا في موضع آخر: وأما الرجال على عهده - يعني: على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يكن أحد منهم يضرب بدف، ولا يصفق بكف. بل قد ثبت عنه في الصحيح، أنه قال: "إنما التصفيق للنساء" 1، ولعن المتشبهات من النساء بالرجال، والمتشبهين من الرجال بالنساء; ولما كان الغناء والضرب بالدف، والكف، من عمل النساء، كان السلف يسمون من يفعل ذلك مخنثا. انتهى. وقال العلامة ابن القيم، رحمه الله تعالى، في كتاب الإغاثة: والله سبحانه لم يشرع التصفيق للرجال، وقت الحاجة إليه في الصلاة، إذا نابهم أمر، بل أمروا بالعدول عنه إلى التسبيح، لئلا يتشبهوا بالنساء؛ فكيف إذا فعلوه، لا لحاجة، وقرنوا به أنواعا من المعاصي قولا، وفعلا. انتهى. وقال الحليمي: يكره التصفيق للرجال، فإنه مما يختص به النساء، وقد منعوا من التشبه بهن، كما منعوا من لبس المزعفر لذلك، انتهى. قال الأذرعي: وهو يشعر بتحريمه على الرجال. قلت يعني: أن مراد الحليمي بالكراهة: كراهة التحريم، لأن التشبه بالنساء حرام على الرجال، والمتشبه بهن ملعون، واللعن لا يكون إلا على كبيرة من الكبائر.   1 البخاري: الأذان (684) , ومسلم: الصلاة (421) , والنسائي: السهو (1183) , وأبو داود: الصلاة (940) , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1035) , وأحمد (5/335) , ومالك: النداء للصلاة (392) . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 404 وفيما قاله هؤلاء المحققون كفاية في بيان قبح التصفيق من الرجال، وذم من يتعاطى ذلك منهم. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 405 الباب الثامن: المكس ... الباب الثامن: حكم المكس 1 فهو محرم أخذه على المسلمين بالكتاب والسنة والإجماع، وجائز أخذه على المشركين بالإجماع، ولم يكن يؤخذ على المسلمين في عصر هذه الدعوة إلى وفاة الشيخ عبد الله. ولم يكن يؤخذ في عصر الخلفاء الراشدين، ولا الأئمة المهديين، وسواء سمي بالجمرك، أو الرسوم، أو التأمينات; أو غير ذلك. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [سورة النساء آية: 29] وغيرها. وقال صلى الله عليه وسلم: "إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام" 2 حتى قال شيخ الإسلام: لا يجوز لولي أمر المسلمين، أن يسبك لهم سكة من ذهب أو فضة، إلا بقدر أجرة السبك. ويدل أيضا على عظم إثم المكس، وأنه أعظم من الزنى، قوله صلى الله عليه وسلم لما أراد أن يصلي على الزانية، التي رجمت حتى ماتت، فقال عمر: تصلي عليها وقد زنت؟ قال:   1 وتقدم في الجزء التاسع, قول عدد من المشائخ فيه. 2 البخاري: الحج (1739) , وأحمد (1/230) . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 405 "أرأيت أن قد جادت بنفسها لله؟! لقد تابت توبة، لو تابها صاحب مكس، لغفر له" 1. فدل هذا الحديث على أن المكس أعظم من الزنى، لأن هذا من الديوان الذي لا يترك الله منه شيئا; والعجب أن لو هرب صاحب سيارة، أو جمال، أو حمار، لطارت الجنود خلفه، ولو ترك فريضة لم يلتفت إليه! وقال الشيخ: محمد بن إبراهيم، رحمه الله 2: المكوس حرام، ولا تخلط مع الفيء، ولا مع الزكاة، ولا مع الفيء الخاص; بل كل له مصرف، هذه يتولاها من جباها، والحلال له مستحقون، والحرام شأنه به الذي جباه; لكن لو توخى بها أشياء فيها نفع خفف عنه; فإن أسوأ الدنانير، دينار يجيء من غير محله، ويدفع في غير محله، يجيء معصية ويبذل معصية. رحمة الله على الوالد كتب لفيصل رسالة، قال: اعلم أن الأموال التي تجيء ثلاثة أقسام;: الزكاة، والفيء، والمكوس، فيجب أن يعطى كلَّا حكمه. وقوله: المكوس، مراده التي جباها من جباها، وعصى بذلك; المقصود من ذكر كلام الوالد: أنه لا يخلط هذا مع هذا، فالفيء لأناس مخصوصين، والزكاة لأناس. فالذي يحتوي عليه بيت مال المسلمين أشياء عديدة، بل   1 مسلم: الحدود (1695) , وأبو داود: الحدود (4442) , وأحمد (5/348) , والدارمي: الحدود (2324) . 2 في الجزء السادس من فتاويه. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 406 أوسع من ذلك: أن الذي يجبيه الولاة أشياء: أحدها: الزكاة. الثاني: ما يدخل مدخلا شرعيا وليس بزكاة، كالخمس وخمسه، وكأموال الكفار التي تصل إلى المسلمين بغير إيجاف خيل ولا ركاب، فيصرف في المصالح، وإذا فضل شيء فهو لعموم المسلمين، وهو الفيء. الثالث: المكوس، فإنها كثيرا ما يأخذ الولاة بغير حق، بل بظلم، ولكنها تعد في جملة ما يدخل على جنس الحكومات الإسلامية، فمنها ما هو شرعي، ومنها ما هو ظلم، ولكن يتعلق به أحكام مع أنه ظلم. منها: أنه إذا وضع معصية، فإنه يجب أن يعدل فيه; فيؤخذ على ولد الملك، وطالب العلم وغير ذلك، ويدخل ذلك في المظالم المشتركة; ومن ذلك: أن الأئمة إذا أخذوا شيئا من هذه الأموال، واجب عليهم أن يردوها. فإذا جهلت أربابها، حل لمن أعطيها من الجيش، فكل مال يجهل صاحبه، مصرفه الفيء، فالشيء الذي من المكوس إذا تاب الإمام فأراد ردّه إلى أربابه، وأهله لا يعرفون، فيجوز أن يعطى لأحد مستحقي الفيء. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 407 وقال الشيخ: عبد الله الخليفي: فصل: في ردّ بدع الرسوم قال الله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ} [سورة البقرة آية: 170] . قال بعض المفسرين: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرشد الناس إلى العمل بالقرآن، ويهديهم إليه، ويقول لهم: اتركوا رسوم الشرك والبدع، الرائجة فيكم، فيقولون: لو اتبعنا هذا القرآن، لذهب منا اتباع أسلافنا، بل نسلك مسلك الآباء، في الإتيان بالرسوم والمراسم; لأن هذا الطريق لو كان قبيحا، لما سلكه أكابرنا. فأنزل الله هذه الآية، ورد فيها عليهم، وسفههم، وسجل عليهم بالحماقة بأن لو كانوا - آباءهم - جاهلين لا يشعرون شيئا، لا يفهمون قولا; أفهؤلاء يسلكون مسلكهم والحال هذه؟! مع أنهم لا يختارون سبل الآباء في أمور دنياهم فيما فيه نقصانهم، كما أن أبا أحد، لو اتجر البز فلم يربح فيه، لا يؤثر ولده هذه التجارة قطعا، علما منه بأن فيها ضررا، وكذا، لو وقع والد أحد في البئر، لا يقع ولده فيه أبدا، ظنا منه أن في هذا هلاكه. فيا لله العجب من هذا القوم؟! كيف يتبع الآباء في أمور الدين، ولا يتبعهم في أمور الدنيا؟! مع أن أمر الدين أهم وأعظم، وأحرى بالتحقيق والتدقيق، وأمر الدنيا هين ليّن، الجزء: 15 ¦ الصفحة: 408 لا يعود بضرر في الإيمان إن لم يقع كما أراد؟! فلا أدري ما هذا الإسلام؟ يتركون الرسوم التي جاء بها الرسول، وأمر بها الله تعالى، ويختارون رسوم الآباء والأجداد، فهل رسوم الأسلاف أحق بالاتباع؟ أو شرع الله ورسوله؟! فهذه الآية الكريمة: دليل على رد الرسوم المبتدعة والمراسيم المحدثة، والأمور الموضوعة التي راجت في الناس، وجاءت من أسلافهم السفهاء، كما تدل على رد التقليد فيها. ومثل هذه الآية قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} [سورة المائدة آية: 104] الآية: يعني: من التحليل والتحريم، اهـ، ملخصا من كتاب الدين الخالص، لصديق خان. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 409 وقال أيضا رحمه الله: فصل في رد بدع التشبه بغير أهل الإسلام عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من تشبه بقوم فهو منهم" 1 رواه الإمام أحمد، وأبو داود; قال الإمام صديق، رحمه الله في كتابه "الدين الخالص": هذا الحديث من جوامع الكلم، ويوانع الثمار، لأنه قد عم المشبه والمشبه بهم من كان، وأينما كان، ولم يخص نوعا من أنواع التشبيه، لا قوما من الأقوام المشبه بها. فتحصّل من ذلك: أن كل متشبه بآخر في كل شيء، حقيرا كان أو جليلا، ظاهرا كان أو باطنا، له حكم المتشبه به، في الكراهة والحرمة، والكفر؛ وتفصيل ذلك يطول. وقد كفى لبيان بعضها شيخ الإسلام ابن تيمية الحراني، رحمه الله، في كتابه "اقتضاء الصراط المستقيم، مخالفة أصحاب الجحيم"، وأتى فيه بأشياء تشبهت بها هذه الأمة، على غير الملة الإسلامية والأمة المحمدية، واستوعب غالبها، ولعله فاته أشياء كثيرة لم تكن في زمنه، وظهرت بعده في هذه الأزمنة المتأخرة، واتسع الخرق على الراقع، إلى أن قال، رحمه الله: وقد أفرط الناس المسلمون في هذا العصر في التشبه بالمبتدعين والفاسقين، إلا ما شاء الله؛ وعم بذلك البلاد، حتى لم يبق شخص، ولا دار، ولا محلة، ولا بلد، ولا   1 أبو داود: اللباس (4031) . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 410 إقليم، إلا وقد دخل فيه هذا الداء العضال، وعدّوه من أسباب الجمال والكمال. ثم قال: وهذا الحديث يفيد ذم هذا التشبه، إذا كان بأهل غير الإسلام من أهل الكتاب وغيرهم; فهكذا يفيد بمفهومه المخالف أن التشبه بالصلحاء، وبأهل الله ورسوله، من المحدثين، والفقهاء، والقراء، ونحوهم، إذا لم يكن ذلك منه رياء وسمعة، وشهرة في الناس، بل كان هذا منه إخلاصا بالدين لله عز وجل وإيثارا لسنة سيد المرسلين، في اللباس، والطعام، والفراش، والصلاة، والصيام، وغير ذلك، مما أورد به الشرع الشريف، كان هذا المتشبه في عداد من تشبه بهم، ونفعه ذلك; اهـ; والله الموفق. وقال الشيخ: صالح الخريصي، في رسالة للملك عبد العزيز آل سعود، بعد أن وعظه، وأخبره بما عليه من مسؤوليات؛ وأنه باتباعه هذه الشريعة المحمدية، ظاهرا وباطنا، يحصل له العز والتمكين. فهنا كلمة من أخيك، ما بعث وحث عليها إلا إكمال النصح، فإن مسألة الرسوم اليوم، من الله عليكم وحباكم، وأعطاكم ووسع عليكم من واسع فضله، فارحموا عباد الله يرحمكم الله، وأوسعوا عليهم وتصدقوا عليهم بهذه الرسوم إن الله يجزي المتصدقين، وأنتم بإمكانكم نفع الفقير وتودّون نفعه، الجزء: 15 ¦ الصفحة: 411 وهذه الرسوم تؤخذ منه، لأن الغني سالم منها، يأخذه فائدة مع الرسوم، وتبقى على الفقير. واسلموا من إثمه وعقوبته، فإني أرجو لكم بذلك السنا والرفعة في الدنيا والآخرة، فإن الفقراء أكثرهم في أزمة، وأنتم تحبون إيصال الخير إليهم. [فصل في تبين تحريم المكس] فصل إذا تبين تحريم المكس من الكتاب والسنة والإجماع، فقد فرض الله على عباده المسلمين الزكاة؛ وفيها، وفيما أخرج الله للمسلمين من المعادن غنى عنه، وقد تقدمت الأدلة على تحريمه; وأما الزكاة فقد قرنها الله في كتابه بالصلاة، في غير ما موضع; وفي السنة ما هو مشهور ويأتي. وقال إمام هذه الدعوة، الشيخ: محمد بن عبد الوهاب، للأمير محمد بن سعود، رحمهما الله، لما علم منه إقباله على الدين ونصرته واتباع شرعه في الزكاة، وفيما يفيء الله غنى، فوافقه على ذلك. ويجدر بولاة الأمور أن يقتفوا بآبائهم، وقد فاض عليهم من المال ما لا يخطر ببال من الزكاة ومعادن وغيرها. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 412 [رسالة الشيخ محمد بن إبراهيم إلى سكان الهجر في الحث على أداء الزكاة] وقال الشيخ: محمد بن إبراهيم، رحمه الله: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده. من محمد بن إبراهيم، إلى من يراه من إخواننا المسلمين، من سكان الهجر وتابعيهم، من البوادي وغيرهم، من البادية والحاضرة. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: فنصيحة لكم، وشفقة عليكم، وحذرا من إثم الكتمان، كتبت إليكم بهذه الكلمات، فأقول: قال الله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [سورة البينة آية: 5] . وقال تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [سورة التوبة آية: 5] , وقال تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [سورة التوبة آية: 11] . وروى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة؛ فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم، إلا بحق الجزء: 15 ¦ الصفحة: 413 الإسلام، وحسابهم على الله تعالى" 1. وفي صحيح مسلم عن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الإسلام: أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا" 2. وروى البخاري ومسلم من حديث ابن عمر، رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان" 3. وقال أبو بكر الصديق، رضي الله عنه لما ناظره من ناظره، في قتال مانع الزكاة: "لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإنها قرينتها في كتاب الله. والله لو منعوني عناقا، وفي رواية عقالا، كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعه". فهذه النصوص تدل على أن أداء الزكاة أحد أركان الإسلام، وأنها قرينة الصلاة، وهما جميعا، قرينتا التوحيد، وأنه يجب قتال من امتنع عن أدائها، حتى يؤديها. ولهذا جاء الوعيد الشديد، والتغليظ الأكيد في حق مانعها، كما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها، إلا إذا كان يوم القيامة، صفحت له صفائح من نار، فأحمي عليها في نار جهنم، فيكوى بها جبينه وظهره،   1 البخاري: الإيمان (25) , ومسلم: الإيمان (22) . 2 مسلم: الإيمان (8) , والترمذي: الإيمان (2610) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (4990) , وأبو داود: السنة (4695) , وابن ماجه: المقدمة (63) , وأحمد (1/27 ,1/51) . 3 البخاري: الإيمان (8) , ومسلم: الإيمان (16) , والترمذي: الإيمان (2609) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (5001) , وأحمد (2/26) . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 414 كلما بردت أعيدت له، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضى بين العباد؛ فيرى سبيله إما إلى الجنة، وإما إلى النار. قيل يا رسول الله: فالإبل؟ قال: ولا صاحب إبل لا يؤدي حقها، ومن حقها حلبها يوم ورودها، إلا إذا كان يوم القيامة، بطح لها بقاع قرقر، لا يفقد منها فصيلا واحدا، تطؤه بأخفافها، وتعضه بأفواهها، كلما مر عليه أولاها، رد عليه أخراها، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضى بين العباد، فيرى سبيله إما إلى الجنة، وإما إلى النار. قيل يا رسول الله: فالبقر والغنم؟ قال: ولا صاحب بقر ولا غنم لا يؤدي منها حقها، إلا إذا كان يوم القيامة، بطح لها بقاع قرقر، لا يفقد منها شيئا، ليس فيها عقصاء، ولا جلحاء، ولا عضباء، تنطحه بقرونها، وتطؤه بأظلافها، كلما مر عليه أولاها رد عليه أخراها، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضى بين العباد، فيرى سبيله إما إلى الجنة، وإما إلى النار". والأحاديث دلت على أخذ الزكاة من المواشي عينا، فتؤخذ من الإبل تارة غنما، وتارة أسنانا من الإبل، على حسب ما ورد، كما تؤخذ الغنم من الغنم، والبقر من البقر، والنقد من النقد، والبر من البر، إلى آخر أنواع الأموال الزكوية؛ إلا أن أخذ القيمة جوزه بعض أهل العلم، بشرط المصلحة في ذلك; وبشرط عدم النقص عن القيمة التي تساويها حينئذ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 415 إذا عرف هذا، فإن كثيرا من العمال الموكول إليهم أخذ الزكاة من أرباب الأموال، لا يقومون بالواجب، إذا قبضوا منهم القيمة فيقبض بعضهم نصف القيمة، أو ثلثيها فقط، أو قريبا من ذلك. وهذا لا يبرئ ذمة أرباب الأموال، ولا يحل لهم ما ترك من قيمة زكاة أموالهم، بل هي عليهم حرام، ويبقون غير مؤدين لهذا الركن العظيم من أركان الإسلام؛ ولا يسقط هذا بمفارقة العامل لهم، ولا بمضي سنة. بل هذا دَيْن في رقاب أرباب الأموال، ولا يجوز لولاة المسلمين إقرارهم، على بقائها في ذممهم، كما يتعين على ولاة الأمور أن يوصوا من يبعثون في قبض الزكاة، بتقوى الله، واستيعاب جميع القيمة عندما تؤخذ القيمة، والاستقصاء في ذلك. كما يجب عليهم أن يقوموا حول هذه العبادة العظيمة، وسائر فرائض الدين، بما يخرجون به من عهدة ما ولاهم الله عليه؛ وهو سائلهم عنه يوم القيامة. فإن أهم مقاصد الولاية: إقامة دين الله، وإلزام الخاصة والعامة من المسلمين بالتزام فرائضه، ولا سيما: التوحيد، والصلاة، والزكاة، وأن يعاقبوا المتهاونين بأمر الله ورسوله، والمتساهلين بفرائض الدين، العقوبة التي تردع العصاة، والغواة عن عصيانهم وغيهم، وأن يوصلوا الزكاة إلى أربابها المستحقين لها، وهم الجزء: 15 ¦ الصفحة: 416 الأصناف الثمانية المذكورون في قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [سورة التوبة آية: 60] . ودفعها إلى غير هؤلاء لا يبرئ الذمة، ولا يعتبر شرعا أداء للزكاة، كما أن على العمالة مخافة الله وتقواه فيما ائتمنوا عليه، بأن لا يأخذوا أكثر من الواجب، ولا يتركوا من الواجب شيئا، فيكونوا قد خانوا الله ورسوله، وخانوا ولي أمرهم، وخانوا أرباب الزكاة من الفقراء والمساكين ونحوهم وغشوا أرباب الأموال، حيث أرسلوا ليعينوهم على أنفسهم ويطهروهم بقبضها منهم. كما يجب على أرباب الأموال: تقوى الله وخشيته، والخوف من أن يموت أحدهم وزكاة الإسلام في ذمته، ولا تقضى بعده؛ بل يلقى الله بها يوم القيامة وهي في ذمته. والله أسأل أن ينصر دينه ويعلي كلمته، وأن يوفقنا جميعا لما يحبه ويرضاه، إنه على كل شيء قدير، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 417 [رسالة الشيخ صالح الخريصي في الحث على تقوى الله والشفقة على المحتاجين] وقال الشيخ: صالح بن أحمد الخريصي، رحمه الله: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، وبعد: فقد قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [سورة الحشر آية: 18] ، وقال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [سورة المائدة آية: 2] ، وقال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [سورة الحجرات آية: 10] . وقال تعالى: {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ} [سورة البقرة آية: 110] ، وقال تعالى: {إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ} [سورة التغابن آية: 17] والآيات في هذا المعنى كثيرة جدا. والغرض: أن الله تبارك وتعالى أمر المؤمنين أن يقوموا بحقه الذي أوجبه عليهم، وبحقوق بعضهم على بعض، من شفقة بعضهم على بعض، ورحمة بعضهم بعضا، ومواساة بعضهم بعضا، كما وصفهم في قوله: {رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [سورة الفتح آية: 29] ، {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [سورة المائدة آية: 54] . وقال: صلى الله عليه وسلم "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم، مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر"، 1 وقال صلى الله عليه وسلم "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا" 2   1 البخاري: الأدب (6011) , ومسلم: البر والصلة والآداب (2586) , وأحمد (4/270) . 2 البخاري: الصلاة (481) , ومسلم: البر والصلة والآداب (2585) , والترمذي: البر والصلة (1928) , والنسائي: الزكاة (2560) , وأحمد (4/404) . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 418 وقال: "من فرّج عن مسلم كربة من كرب الدنيا، فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسر على معسر، يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه" 1. لا سيما مع الضعيف الملهوف، فقد قال صلى الله عليه وسلم في حديث أبي ذر رضي الله عنه: "وتسعى بشدة ساقيك إلى اللهفان المستغيث، وترفع بشدة ذراعيك مع الضعيف" 2. وقال صلى الله عليه وسلم: "لا تحل المسألة إلا لأحد ثلاثة: لذي دم موجع، أو غرم مفظع، أو فقر مدقع" 3، وفي الحديث: "إن الصدقة لتدفع ميتة السوء، وتطفئ الخطيئة" 4. وفي الحديث: "باكروا بالصدقة، فإن البلاء لا يتخطاها", وفي الحديث: "ما نقص مال من صدقة؛ بل تزده، بل تزده" 5، وفي الحديث: "صنائع المعروف تقي مصارع السوء، وأهل المعروف في الدنيا، هم أهل المعروف في الآخرة، وأول من يدخل الجنة أهل المعروف". جعلنا الله وإياكم منهم بمنه وكرمه، إنه جواد كريم رؤوف رحيم، وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين. حرر في ذي الحجة سنة 1375 هـ. وفي هاتين الرسالتين كفاية، فلو تتبعنا ما لعلماء هذا العصر من النصائح في ذلك، لخرج بنا عن المقصود.   1 مسلم: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2699) , والترمذي: الحدود (1425) , وأبو داود: الأدب (4946) , وابن ماجه: المقدمة (225) , وأحمد (2/252) . 2 أحمد (5/168) . 3 أبو داود: الزكاة (1641) , وابن ماجه: التجارات (2198) , وأحمد (3/114) . 4 الترمذي: الزكاة (664) . 5 الترمذي: الزهد (2325) , وأحمد (4/231) . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 419 الباب التاسع الفصل الأول: في العلم وفضله وفضل أهله ... الباب التاسع وفيه فصول [الفصل الأول في العلم وفضله وفضل أهله] الأول: في العلم وفضله، وفضل أهله، من الكتاب والسنة والإجماع. قال الله تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [سورة المجادلة آية: 11] , قال ابن عباس رضي الله عنهما:"العلماء فوق المؤمنين مائة درجة، ما بين الدرجتين مائة عام". وقال تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ} [سورة آل عمران آية: 18] الآية: بدأ بنفسه، وثنى بملائكته، وثلث بأهل العلم، وكنَّا هم بذلك شرفا وفضلا ونبلا. وقال تعالى: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [سورة الزمر آية: 9] ، وقال تعالى: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [سورة النحل آية: 43] ، وقال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [سورة فاطر آية: 28] ، وقال تعالى: {أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ} [سورة البينة آية: 7] إلى قوله: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} 1: فاقتضت الآيات أن العلماء هم الذين يخشون الله، وأن الذين يخشون الله هم خير البرية؛ فصح أن العلماء خير البرية وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من يرد الله به خيرا يفقّه في الدين" 2، وعنه صلى الله عليه وسلم: "العلماء ورثة الأنبياء" 3، وحسبك بهذه الدرجة   1 سورة البينة آية: 8. 2 الترمذي: العلم (2645) , وأحمد (1/306) , والدارمي: المقدمة (225) . 3 الترمذي: العلم (2682) , وأبو داود: العلم (3641) , وابن ماجه: المقدمة (223) , وأحمد (5/196) . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 420 شرفا ومجدا وفخرا، فكما لا رتبة فوق رتبة النبوة، فلا شرف فوق شرف وارث تلك الرتبة. وقد أفرد في فضله وفضل أهله مصنفات، ولم يخل كتاب من كتب الحديث وغيرها من ذكر فضله وفضلهم. وفي منهجهم ومكان تعلمهم: فقد كان العلماء في عصر الشيخ عبد الله وطبقته، في بيوت الله التي هي أفضل بقاع الأرض، التي أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه، كانوا يعلمون الناس كتاب الله وسنة نبيه، ومختصرات الأصول، والفقه؛ وتحفظ تلك عن ظهر قلب. ولم نمثل بعصر الشيخ عبد الله، الأشهر من علم، وزهده وورعه وسعة فكره؛ وقد كان يضرب به المثل، وهو ما جرى عليه الشيخ عبد الرحمن بن حسن في عصر الإمام فيصل. وكذلك في أول عصر تلك الدعوة المباركة، التي قام بها الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وآزره وأيدها الأمير محمد بن سعود؛ وازدهرت في تلك العصور المباركة، يحضرها المتعلمون وغيرهم، ومن يفد من الشام واليمن. وكذلك كبار العلماء في المساجد، وفي الحرمين الشريفين، والمسجد الأقصى، وأولئك المتخرجون قديما وحديثا، لا يحصون كثرة؛ وما كانت المدرسة الأولى، بل الجزء: 15 ¦ الصفحة: 421 ما كانت الجامعة العلمية للمهاجرين والأنصار، إلا في المسجد، حيت يلقي عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يوحى إليه من الكتاب والحكمة، فهم يقتدون به في أفعاله العالية، وخصاله الحميدة، وهم يأخذونها سماعا بآذانهم، ورؤية بأعينهم، يقول لهم: "صلوا كما رأيتموني أصلي" 1. وتؤخذ عنة تعاليم الإسلام من المسجد، كما في حديث ضمام بن ثعلبة الذي قدم المدينة، وأناخ بعيره في ناحية المسجد، وأخذ يلقي على رئيس تلك الجامعة أسئلة كثيرة، ويستفيدون بالأجوبة النافعة المفيدة، ويقول أخيرا: إنه رسول من وراءه، وينصرف راشدا ومعلما. والوفود القادمون من مختلف أنحاء الجزيرة، لتعلم الدين، وأحواله، وقواعده التي يقوم عليها، في أيام قليلة يقضونها في المسجد، متعلمين من إخوانهم السابقين في الإسلام، من الأستاذ الأكبر صلى الله عليه وسلم، كوفد ثقيف، والأشعريين، وعبد القيس، وغيرهم. والتعليم يلقى على الأفراد والجماعات، بأساليب الحكمة، وعلى كل واحد بما يتناسب مع عقله وعلمه واستعداده، كل ذلك في المسجد؛ وربما جلس الصحابة رضي الله عنهم، صامتين لا يتكلمون، حياء من رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يسألونه، فيأتيهم الأعرابي يسأل عن أشياء، يستفيدون بالسؤال عنها.   1 البخاري: الأذان (631) , والدارمي: الصلاة (1253) . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 422 وربما جاء جبريل في صورة رجل غريب، يسأل عن الدين، وأمارات الساعة؛ فيستفيدون من الجواب عليه، وينقلون العلم إلى من وراءهم. وفي الحديث: "نضّر الله وجه امرئ سمع مقالتي فوعاها، وأداها كما سمع، فرب مبلغ أوعى من سامع" 1. ومن هناك كانت البعوث والسرايا، ودعاة الإسلام ورسله، تبعث قبل الشام واليمن ونجد، وإلى القرى القريبة والبعيدة؛ فقد كان أبو موسى ومعاذ، يذهبان إلى اليمن معلمين، ولهما ولأمثالهما يقول صلى الله عليه وسلم: "بشِّروا ولا تنفروا، ويسروا ولا تعسروا" 2. وأبو عبيدة المالي يذهب إلى نجران، والبحرين، ويأتي بأموال الجزية والخراج؛ ومثله عبد الله بن رواحة يأخذ ما وقت عليه المساقاة في خيبر مع اليهود. وخالد وعمرو بن العاص، والمهاجرون أبو عبيدة، والعلاء بن الحضرمي، وزيد بن حارثة، وإخوانهم كثيرون، يخرجون من المسجد مدربين تدريبا عسكريا، صالحين للقيادة وإمارة الجيش. والخلفاء الراشدون بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجده الشريف، يجلسون للتعليم، والشورى والإصلاح، والقضاء والفتيا، وتنظيم بيت المال، واستقبال الوفود، وكتابة الرسائل. وفي الحرم المكي يجلس ابن عباس وابن عمر رضي الله   1 الترمذي: العلم (2658) , وابن ماجه: المقدمة (232) . 2 البخاري: المغازي (4345) , ومسلم: الجهاد والسير (1732) , وأبو داود: الأدب (4835) , وأحمد (4/399) . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 423 عنهم في المسجد، ودواليك بابن عباس ومجاهد، وعطاء، ومكحول، وميمون بن مهران، وعكرمة، ومقسم، وسعيد بن جبير. فهذا يعلم الناس تفسيرا، وحديثا، وفقها، وأدبا؛ وهذا يفتح داره للأضياف، والقادمين إلى مكة، ويطعم الطعام، وهذا لشؤون الناس، والآخر لدينهم. وكم تعاقب العلماء والمتعلمون من التابعين، وتابع التابعين بعد الصحابة في مسجد الأنصار، كسالم، وعروة، وخارجة، والقاسم بن محمد وزين العابدين، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث. ثم ابن شهاب، والزهري، وهشام بن عروة، وعبيدة السلماني، وابن سيرين، كل أولئك يدرسون الناس في المساجد، ويتخرج على أيديهم الألوف من العلماء. وأهل التأريخ الإسلامي كسفيان بن عيينة، ومالك بن أنس وابن جريج، وعبد الرزاق والصنعاني وشيخه معمر، وقبلهم وبعدهم من لا يأتي عليهم الحصر. وفي مسجد دمشق، معاذ بن جبل، وأبو الدرداء، وعبد الله بن عامر من القراء السبعة، الذي قيل فيه: إنه خطب في المسجد عشرين سنة، وما سمعوا منه خطبة معادة، ولا كلاما مكررا. وفي الكوفة: عبد الله بن مسعود، وتلاميذه، من أمثال علقمة بن وقاص الليثي، وبعدهم عبد الرحمن بن حبيب الجزء: 15 ¦ الصفحة: 424 السلمي، وأبو بكر بن عياش، ومن القراء: حمزة، والكسائي، وعاصم بن أبي النجود. وفي البصرة: الحسن، وابن سيرين، وشيخهم أنس بن مالك، ثم واصل بن عطاء، وجمع كثير من علماء السنة. وسل بغداد، والموصل، والقاهرة، وقرطبة، وأشبيلة، والقيروان; وسل أنطاكية، وحلب، وحمص، وحماه; وسل الطائف، والأحساء، وصنعاء، وزبيد، وحضرموت، وغيرها من الأقطار الإسلامية، كيف كانت مساجدها، وعلماؤها؟ وكيف كان الشافعي يقضي نهاره، في مسجد عمرو بن العاص بالفسطاط؟ وأين كانت الأئمة ورجال الفقه والحديث، يلقون دروسهم في شتى العلوم؟ وهل كان ذلك إلا في المسجد. ولو بعث الله معمرا، وابن المثنى، والقاسم بن سلام، والفراء، والزجاج، والمبرد، والمازني، وأبا عمرو بن العلاء; لو بعث هؤلاء من الجيل الأول، وبعدهم القراء، والزمخشري والنووي، والرافعي، ومن بعدهم، وقيل لهم من أين تخرجتم؟ وفي أي مدرسة تعلمتم؟ لقالوا جميعا بلسان واحد: في المسجد تعلمنا. أما المجاهدون، ورجال العلم أيضا، فسل عنهم المساجد لتحدثك عن سعد بن أبي وقاص، والمثنى بن حارثة، وأبي مسلم الخراساني، وطارق بن زياد، وموسى بن الجزء: 15 ¦ الصفحة: 425 نصير، وقتيبة بن مسلم الباهلي، والمهلب بن أبي صفرة، وطاهر بن حسين، وابنه عبد الله. ثم جوهر الصقلي، ومنصور بن أبي عامر المعافري اليمني، وأمثالهم من القواد، والجنود، ونواب الخلافة، ووكلاء الشريعة، في الشرق والغرب. كانت المساجد أبحرا تدفع بالأمواج من أبطال الغزو، وعلماء الدين، وتقذف بالجواهر، واللآلي الكبار من هذا النوع، في مختلف العصور؛ ومنها يخرج أبطال أعلام من قادة الفكر. وانظر في الأمصار، والمدن من كل علّامة فيها يملي الأحاديث; وإن طال الكلام، فإنما هيجه ما دهى الإسلام في هذا العصر، من خلو بيوت الله، التي هي معاقد العلم، وتفرق أهله. فأدركت الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف، تتلى عليه المتون عن ظهر قلب، وقبل ذلك يتحفظ كتاب الله، ويتلى عليه التفسير، ويحضر تلك المجالس الشريفة المتعلمون وغيرهم. ولسعة رأيه، إذا دهم الملك عبد العزيز أمر، أتى إليه في ذلك المجلس، فتراه يتململ، والشيخ لا يقطع الدرس، لعلوّ مكانة العلم عنده، ولم يكن يتبذله. وكذا الشيخ حمد بن فارس، وكان يلي بيت المال، ويرسل إليه الملك: لم يتأخر؟ فلا يقطع الدرس; وكذا الجزء: 15 ¦ الصفحة: 426 الشيخ سعد بن عتيق يجلس للعلم في الجامع. وتلك الفنون من مختصرات الحديث، والأصول، كالتوحيد، وحكم موالاة أهل الشرك، ومتون الفقه، كلها تتلى عند الجميع عن ظهر قلب. وكذا عند الشيخ محمد بن إبراهيم، بعد أن أقيم مقام الشيخ عبد الله في التعليم، برهة من الزمن حيث فتحت المدارس النظامية، وأقبل الطلاب إليها وإلى المعاهد والكليات وغيرها من الاتجاهات؛ حينئذ تفرق أهل العلم عن قلب العاصمة الذين أخذوه عن معدنه، ويأخذه عنهم أولو الهمم العالية، السالمون من العلوم المفضولة والمحظورة. وأما الآن فضعف العلم حيث خرج علماء المسلمين من بيوت الله، الذين هم أولى أن يبلغ عنهم العلم النافع كما بلغوا، فخلت بيوت الله من أهلها إلا من شاء الله؛ وأضعف العلم النافع بالعلوم المفضولة الذي قرر شيخ الإسلام أحمد بن تيمية وغيره تحريم العلوم المفضولة إذا أضعفت العلم النافع. فضلا عن العلوم المحظورة التي يحملها الوثنيون الملحدون الزنادقة، الذين هم السم القاتل لدين الإسلام من رجال ونساء، والذين هم فساد المجتمع، الذي لا يمتري فيه من له أدنى مسكة من عقل. مع أنهم قد رأوا وسمعوا وبلغهم بلاغا حسيا لا يمتري فيه إلا مكابر، ما جرى على الأجانب أفراخ الإفرنج الجزء: 15 ¦ الصفحة: 427 وتلاميذهم في تلك الدول المجاورة. فكيف وأين العقول؟ أين العروبة؟ سبحان الله؟ ما أعظم شأنه، كذلك يطبع الله على قلوب الذين لا يعلمون. 1 وإليك وصية الملك الفاتح لابنه، الذي اعترف بنصر الله له، حيث نصر دينه؛ وإن كان ذلك معلوما بالضرورة، ولكن سقته مثلا، وبيانا لحضه ابنه على استقدام العلماء وإكرامهم، وإن كان ذلك معلوما للولاة من عصر النبوة إلى عصر الشيخ عبد الله، رحمه الله. قال الملك الفاتح عند موته لابنه في وصيته: واعمل على نشر الدين الإسلامي، فإن هذا هو واجب الملوك على الرعي. قدم الاهتمام بأمور الدين على كل شيء، ولا تفتر في المواظبة عليه؛ ولا تستخدم الأشخاص، الذين لا يهتمون بأمر الدين، ولا يجتنبون الكبائر، وينغمسون في الفحش؛ وجانب البدع المفسدة، وباعد الذين يحرضونك عليها. واحرس أموال بيت المال من أن تتبدد؛ وإياك أن تمد يدك إلى مال أحد من رعيتك إلا بحق الإسلام؛ واضمن للمعوزين قوتهم، وابذل إكرامك للمستحقين.   1 وهذا قبل الصحوة المباركة أما الآن فقد بدأ الرجوع إلى المساجد والعتناء بها وبالدعوة فيها -والحمد لله- ولا نزال في أمل بالمزيد وخصوصا حين أبطل الله كيد الحاقدين من شيوعيين وعلمانيين وغيرهم. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 428 وبما أن العلماء هم مثابة القوة المبثوثة في جسم الدولة، فعظم جانبهم وشجعهم، وإذا سمعت بأحد منهم في بلد آخر، فاستقدمه إليك وأكرمه بالمال. وحذار حذار! لا يغرنك المال، ولا الجند! وإياك أن تبعد أهل الشريعة عن بابك، وإياك أن تميل إلى أي عمل يخالف أحكام الشريعة؛ فإن الدين غايتنا، والهداية منهجنا، وبذلك انتصرنا. ثم قال: واعمل على تعزيز هذا الدين المحمدي، وتوقير أهله، ولا تصرف أموال الدولة في ترف ولهو، أو أكثر من قدر اللزوم؛ فإن ذلك أعظم أسباب الهلاك. انتهى. إذا فهمت ما تقدم، من فضل العلم وأهله، وعمارة بيوت الله، بتبليغ شرعه، ووصية الملك باستقدام أهل العلم، وبلغك تفرق العلماء، الذين هم الأهل أن يؤخذ عنهم العلم من قلب العاصمة. وقدوم الألوف من الوثنيين الملحدين، الذين هم السم القاتل لدين الإسلام، وفساد المجتمع، تبين لك السبب الأعظم، الذي أفردت من أجله هذا الكتاب 1 لبيان تلك المعاول الهدامة، الحادثة في هذا العصر. [رسالة الشيخ عبد الله بن حميد في الحث على التمسك بالدين] ومن نصائح علماء هذا العصر التي تشمل غير الحادث   1 يقصد به البيان الواضح وأنبل النصائح وقد قسمناه مع التراجم في جزئين لمراعاة أحجام الأجزاء. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 429 فيه، أضفتها إلى كتاب النصائح الذي هو المجلد الأخير مما جمعته من رسائل علماء هذه الدعوة المباركة 1. وإليك بعض النصائح فيما هو في معنى هذا الفصل: قال الشيخ: عبد الله بن محمد بن حميد، رحمه الله، سنة 1379 هـ. بسم الله الرحمن الرحيم إلى حضرة الإمام المكرم: سعود بن عبد العزيز آل سعود، لا برحت أيامه بوجوده زاهرة، وسعادة دنياه متصلة بسعادة الآخرة. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: فإن من الواجب علينا لكم النصح، والمحبة والإخلاص، لأن النصح لأئمة المسلمين، هو من دين الإسلام. ومعنى النصح لهم: تنبيههم عند الغفلة، وإرشادهم عند الهفوة، وغرس محبتهم في قلوب الرعية، ورد القلوب الشاردة إليهم، هذا الذي يجب لكم علينا وعلى أمثالنا. ومن المتعين علينا إبلاغكم به، هو ما نراه، ويراه غيرنا من كافة المسلمين، من انتقاض عرى الإسلام عروة   1 التي من أهم ما فيها: الحث على تعلم هذا الدين الحنيف وتعليمه والتمسك به والدعوة إليه والصبر على الأذى فيه والتواصي به, وبالعمل عليه, وذكر بعض من آثاره, وآثار من أعرض عنه ... إلخ, وهو الآن الجزء 14. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 430 عروة، وبدو مرضه في هذه الديار; وحكومتكم - والحمد لله - حكومة دينية إسلامية، لا قوام لها ولا استقامة إلا بالتمسك بهذا الدين السماوي، والذب عنه بالسيف، واللسان، وجهاد من خالفه. فإن أنتم تسمكتم بهذا وقمتم به حقا، استقامت دولتكم، وانتظمت أموركم، واجتمعت كلمتكم، وصرتم يدا واحدة على من خالفكم؛ وإن أهملتم شيئا من ذلك، أو تساهلتم فيه، نقص من هيبتكم، وضعف من سلطانكم، وتفرق من كلمتكم بقدر ما أهملتم أو تساهلتم فيه من الدين. كما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما ترك قوم العمل بما أنزل الله، إلا جعل الله بأسهم بينهم" 1 فوقوع البأس، وحصول الاختلاف، وضعف القوة، إنما تكون بسبب ترك العمل بما أنزل الله. وذلك لأن الدين والملك أخوان، لا يستغني أحدهما عن الآخر: الإسلام أُسُس الملك، وقواعده الذي ينبني عليه، والملك ينفذ أوامر الإسلام، ويحميه ممن أراد هدم بنيانه؛ فإذا ذهب الإسلام أو ضعف، ذهب الملك أو ضعف على قدر ضعف الإسلام. ونرى أمورا لا يجوز السكوت عليها - والله يعلم أنا لا نقصد إلا براءة الذمة، مع المحبة لكم والنصح والإخلاص - وهو: أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر   1 ابن ماجه: الفتن (4019) . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 431 ضعف جانبه، وكثر في الناس مجانبه، وكاد عقد نظامه ينحل في هذه البلاد، لعدم سلطة قوية تحميه وتناصره. فلذا فشت المنكرات، كإضاعة الصلوات، وشرب الخمور، واختلاط الرجال بالنساء واستعمال التلفزيون 1 والسينماءات، لكثرة دخولها البلاد، وهي من أعظم أسباب الخلاعة والدعارة والفساد العريض، والشر الطويل، إلى غير ذلك من المنكرات التي لا يقرها دين ولا عقل. ثم من المؤلم حقا إسناد تحقيقات الجرائم الضارة، من أخلاقية وغيرها، إلى من ليس بأهل، مما يبعث إلى كثرة ارتكاب المحرمات وانتشارها؛ فمثل هذه الأمور الهامة، لا ينبغي التحقيق فيها إلا من قبل أهلها الموثوق بهم، العارفين بمضرة هذا البلاء وخطورته على المجتمع وعلى الحكومة. وأيضا يجب على الحكومة، وعلى جميع الشعب التحاكم إلى الشريعة الإسلامية؛ فإن فيها مقنعا وكفاية لكل ما يحتاجون إليه، فالشريعة الإسلامية لم تترك شاذة ولا فاذّة إلا وبينتها أحسن بيان ووضحتها أتم إيضاح، فلا يحتاج معها إلى شيء آخر. فإن كثيرا من المصالح الحكومية اكتفت عن الشريعة بنظم سنّتها رؤساؤها من وزراء وغيرهم، كنظام العمل   1 المراد في ذلك الوقت, تليفزيون شركة الزيت في الظهران. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 432 والعمال، ونظام البلديات، ونظام التجارة، ونظام الشركات، ونظام المرور، ونظام الموظفين، إلى غير ذلك من النظم الكثيرة. 1 فلم يبق التحاكم إلى الشرع إلا لأفراد الشعب; ونعتقد أنكم - إن شاء الله - لا ترضون بهذا، ولا تطلعون عليه فضلا أن تقرروه; فلو أن لجنة التنظيمات عندما تريد سَنّ نظام يشترك معها أحد طلبة العلم، للتفاهم مع اللجنة فيما يجوز وما لا يجوز، حسب ما تقتضيه الشريعة المطهرة، لكان هو الواجب. هذا ونسأل الله أن يوفقكم لما فيه صلاحكم وعزكم، وعز الإسلام والمسلمين، وصلى الله على خير خلقه محمد وآله وصحبه وسلم. وقال الشيخ: عبد الله بن محمد بن حميد، رحمه الله، في كلمة وجهها لحضرات العلماء، 2 أصحاب الفضيلة، حفظهم الله; سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: تعلمون أيها العلماء الأجلاء، ما أصيب به الإسلام من انتقاض عراه عروة عروة، بفشو المنكرات، وتجرؤ الكثير أو الأكثر على ارتكابها، وزوال وحشتها من النفوس، وفساد العقيدة مما يلقيه دعاة الغرب من بذور   1 ويأتي الحديث عن النظم في الباب العاشر, إن شاء الله تعالى. 2 نشرت في جريدة الندوة, في ذي العقدة سنة 1378 هـ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 433 الشبه والشك من فساد الأخلاق، وظهور البدع التي طغت على السنن. كما يقول كثير من مدعي الإصلاح الزائف: هذا جمود، وهذه رجعية، وإنه يجب التطور مع الزمن والأحداث؛ يريدون بذلك نبذ تعاليم الإسلام، وعدم تطبيق أحكامه، كأن الإسلام بزعمهم هو الذي أخرهم وأقعدهم. ولم ينتبهوا لدسائس الغرب الذين قالوا هذا القول، ودعوا إليه، وكتبوا لأجله الكتابات المختلفة الأساليب، يريدون أمرا واحدا، وهو القضاء على الإسلام الذي سطر مجدا خالدا، وتاريخا عظيما للمتمسكين به، في صدر هذه الأمة. فقد محوا من الوجود ملك أمتين عظيمتين، هما أقوى ملوك الأرض، وأشدها بأسا - فارس، والروم - وأخضعوهم لأوامر القرآن ونواهيه؛ وامتد سلطان المسلمين إلى البحر الأطلنطي غربا، وإلى أقصى الصين شرقا؛ ذلك لأنهم قوم صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فأنجز لهم ما وعدهم مجدا في الدنيا، وأجرا في الآخرة. أيها العلماء الأجلاء، إن الأجانب غزونا في بلادنا غزوا عظيما، بانحلال أخلاقنا، وإضعاف مكانة الدين الإسلامي من قلوبنا، بما يكتبونه من القصص الغرامية، والشبه والشكوك التي يلقونها على بني الإسلام، والتي من شأنها إفساد العقائد الحقة. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 434 فإن العقيدة إذا فسدت، وخفت أوامر الإسلام ونواهيه على القلب، أصبح مصدرا لكل رذيلة وانحلال خلقي; قال بعض الأوروبيين: إن فن الاحتلال فن عسكري في الأول، ولكنه فن أخلاقي في الآخر. أيها العلماء الأجلاء، ما مدح الله أهل العلم بما مدحهم به إلا لأنهم ورثة الأنبياء، يبلغون الشرائع للناس، ويوضحون طرق الفلاح والنجاح، وأسباب السعادة والعزة، في هذه الدار {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [سورة المنافقون آية: 8] ، {وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [سورة العنكبوت آية: 64] . أيها العلماء الفضلاء: لقد علمتم ما قال الله في ذمّ من لم يقم بواجبه، ولم يؤد ما عليه لدينه وأمته، من الدعوة والإرشاد، والعظة والتذكير، والإنذار بسوء العاقبة؛ فإن الآيات في الدعوة أكثر من آيات الصوم والحج اللذين هما ركنان من أركان الإسلام الخمسة. قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ} [سورة آل عمران آية: 187] : دلت الآية الكريمة على وجوب إظهار العلم وتحريم كتمان شيء من أمور الدين لغرض من الأغراض الفاسدة، والتأويلات البعيدة. ومتى قام العلماء بما عليهم من إرشاد الأمة إلى اتباع كتابها وهديها، بإرشاده، وتهذيب أخلاقها بآدابه، وجمع الجزء: 15 ¦ الصفحة: 435 كلمتها حول تعاليمه، استقامت أمورها، وانتظمت أحوالها، فتصبح عزيزة الجانب، متكافئة متضامنة، أمرهم شورى بينهم. هذا وإن العلماء - وفقهم الله - يعلمون أن الدعوة إلى الله محفوفة بالمخاطر، محوطة بالأشواك؛ ومن شأن تلك المخاطر تسرب اليأس إلى النفس، فيكون ذريعة عظيمة لتثبيط همة الداعي المرشد. ولكن من الخير والمصلحة أن يحال بين اليأس وبين الداعي المرشد بما يراه من تلك العقبات التي تعترض الداعي، وتلك الشدائد التي يراها المصلح، بأنه لا غنى له عنها، وأنها سنة فيمن سبقه من الدعاة المصلحين كالرسل وأتباعهم. وتأكد الدعوة واجب متعين في مثل عصرنا هذا الذي فشت فيه المنكرات، وفسدت العقائد؛ فترك الدعوة والإرشاد، أو التقصير فيهما، سسب للانحراف عن الدين الذي من شأنه اختلاف الكلمة، وتصدع في الوحدة، وتشتت للشمل، واختلاف في الأمر. ويكون كلٌّ لا هم له إلا السعي وراء الغايات الشخصية، ولو كان في معصية لإلهنا، وضياع لأمتنا وعزتنا، مع ما انضاف إلى ذلك من تنابذ وشقاق، وترويج للباطل، وتمويه للحقائق. والله المسؤول أن يوفق العلماء والمرشدين للقيام الجزء: 15 ¦ الصفحة: 436 بواجبهم في الدعوة إلى الله، وعظة الناس وتذكيرهم، وتوجيههم التوجيه الصحيح النافع؛ وأن يأخذ بأيدي المسلمين حاكمين ومحكومين إلى ما فيه عزهم وصلاحهم في الدنيا والآخرة؛ وهو الموفق الهادي إلى سواء السبيل. [رسالة من الشيخ عبد العزيز بن باز في الحث على طلب العلم] وقال الشيخ: عبد العزيز بن عبد الله بن باز: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله، نبينا محمد وآله وصحبه. أما بعد: فلا ريب أن طلب العلم من أفضل القربات، ومن أسباب الفوز بالجنة والكرامة لمن عمل به. ومن أهم المهمات: الإخلاص في طلبه; وذلك بأن يكون طلبه لله لا لغرض آخر، لأن ذلك هو سبيل الانتفاع به، وسبب التوفيق لبلوغ المراتب العالية، في الدنيا والآخرة. وقد جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من تعلم علما مما يبتغى به وجه الله، لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضا من الدنيا، لم يجد عرف الجنة يوم القيامة" 1 يعني: ريحها، أخرجه أبو داود بإسناد حسن. وأخرج الترمذي بإسناد فيه ضعف عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من طلب العلم ليجاري به العلماء، أو ليماري به السفهاء، أو ليصرف به وجوه الناس إليه، أدخله الله النار" 2.   1 أبو داود: العلم (3664) , وابن ماجه: المقدمة (252) , وأحمد (2/338) . 2 الترمذي: العلم (2654) . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 437 فأوصي كل طالب علم، وكل مسلم يطلع على هذه الكلمة، بالإخلاص لله في جميع الأعمال، عملا بقول الله سبحانه وتعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} [سورة الكهف آية: 110] . وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يقول الله عز وجل: أنا أغنى الشركاء عن الشرك؛ من عمل عملا أشرك معي فيه غيري، تركته وشركه" 1. كما أوصي كل طالب علم، وكل مسلم، بخشية الله سبحانه ومراقبته، في جميع الأمور، عملا بقوله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} [سورة الملك آية: 12] ، وقوله سبحانه: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [سورة الرحمن آية: 46] . قال بعض السلف: رأس العلم خشية الله; وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "كفى بخشية الله علما، وكفى بالاغترار به جهلا"، وقال بعض السلف: من كان بالله أعرف كان منه أخوف; ويدلك على صحة هذا المعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: "أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له" 2. فكلما قوي علم العبد بالله، كان ذلك سببا لكمال تقواه وإخلاصه، ووقوفه عند الحدود، وحذره من المعاصي، ولهذا قال الله سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [سورة فاطر آية: 28] . فالعلماء بالله وبدينه هم أخشى الناس، وأتقاهم له،   1 مسلم: الزهد والرقائق (2985) , وابن ماجه: الزهد (4202) , وأحمد (2/301) . 2 البخاري: النكاح (5063) . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 438 وأقومهم بدينه؛ وعلى رأسهم: الرسل والأنبياء، عليهم الصلاة والسلام، ثم أتباعهم بإحسان; ولهذا أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن من علامات السعادة، أن يفقه العبد في دين الله، فقال عليه الصلاة والسلام: "من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين" 1 أخرجاه في الصحيحين، من حديث معاوية رضي الله عنه. وما ذاك إلا لأن الفقه في الدين، يحفز العبد على القيام بأمر الله وخشيته، وأداء فرائضه، والحذر من مساخطه، ويدعوه إلى مكارم الأخلاق، ومحاسن الأعمال، والنصح لله ولعباده. فأسأل الله عز وجل أن يمنحنا وجميع طلبة العلم، وسائر المسلمين، الفقه في دينه والاستقامة عليه؛ وأن يعيذنا جميعا من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وآله، وصحبه 2. [قول الشيخ عبد الرحمن بن فريان في وجوب النصيحة] وقال الشيخ: عبد الرحمن بن عبد الله الفريان بعد أن ذكر وجوب النصيحة، وما يترتب عليها من نفع المؤمن، وتعليم الجاهل، وإرشاد الضال، وتحريض العالم على العمل بما عمل، وأن ذلك طريقة الرسل وأتباعهم. ثم قال: فالواجب على كل من لديه علم، أن يذكر   1 البخاري: العلم (71) , ومسلم: الزكاة (1037) , وابن ماجه: المقدمة (221) , وأحمد (4/93 ,4/98) , ومالك: الجامع (1667) , والدارمي: المقدمة (224 ,226) . 2 وقد طبعت هذه النصيحة من الثمار اليانعة, للشيخ عبد الله الجار الله رحمه الله. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 439 بذلك، وأن يناصح في الله، ويدعو إليه حسب الطاقة، أداء لواجب التبليغ والدعوة، وتأسيا بالرسل الكرام عليهم الصلاة والسلام، وحذرا من الكتمان. إلى أن قال: إذا عرف ما تقدم، فالذي أوصيكم به ونفسي: تقوى الله سبحانه في السر والعلانية، والشدة والرخاء؛ فإنها وصية الله، ووصية رسوله صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [سورة النساء آية: 131] ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته: "أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة" 1. والتقوى: كلمة جامعة تجمع الخير كله; وحقيقتها: أداء ما أوجب الله، واجتناب ما حرمه الله، على وجه الإخلاص له، ومحبته والرغبة في ثوابه، والحذر من عقابه. وقد أمر الله عباده بالتقوى، ووعدهم عليها تيسير الأمور، وتفريج الكروب، وتسهيل الرزق، وغفران السيئات، والفوز بالجنات. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} [سورة الحج آية: 1] ، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [سورة الحشر آية: 18] . وقال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً?وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [سورة الطلاق آية: 2-3] ، وقال تعالى: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ} [سورة القلم آية: 34] ، وقال   1 الترمذي: العلم (2676) , وابن ماجه: المقدمة (42) , والدارمي: المقدمة (95) . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 440 تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً} [سورة الطلاق آية: 5] ، والآيات في هذا المعنى كثيرة. فيا معشر المسلمين، راقبوا الله سبحانه، وبادروا إلى التقوى في جميع الحالات، وحاسبوا أنفسكم عند جميع أقوالكم وأعمالكم؛ ومعاملاتكم، فما كان من ذلك سائغا في الشرع فلا بأس بتعاطيه، وما كان منها محذورا في الشرع فاحذروه، وإن ترتب عليه طمع كثير؛ فإن ما عند الله خير وأبقى؛ ومن ترك شيئا اتقاء الله، عوضه الله خيرا منه. ومتى راقب العباد ربهم، واتقوه سبحانه وتعالى، بفعل ما أمر، وترك ما نهى، أعطاهم الله سبحانه، ما رتب على التقوى، من العزة، والفلاح، والرزق الواسع، والخروج من المضايق، والسعادة والنجاة، في الدنيا والآخرة. ولا يخفى على كل ذي لب، وأدنى بصيرة، ما قد أصاب أكثر المسلمين، من قسوة القلوب، والزهد في الآخرة، والإعراض عن أسباب النجاة، والإقبال على الدنيا وأسباب تحصيلها، بكل حرص وجشع، من دون تمييز بين ما يحل ويحرم، وانهماك الأكثرين في الشهوات، وأنواع اللهو، والغفلة. وما ذاك إلا بسبب إعراض القلوب عن الآخرة، وغفلتها عن ذكر الله ومحبته، وعدم التفكر في آلائه ونعمه، وآياته الظاهرة، وعدم الاستعداد للقاء الله، وتذكر الوقوف بين الجزء: 15 ¦ الصفحة: 441 يديه، والانصراف من ذلك الموقف العظيم إما إلى الجنة، وإما إلى النار. فيا معشر المسلمين، تداركوا أنفسكم، وتوبوا إلى ربكم، وتفقهوا في دينكم، وبادروا إلى أداء ما أوجب الله عليكم، واجتنبوا ما حرمه الله عليكم، لتفوزوا بالعز والأمن والهداية، في الدنيا والآخرة. وإياكم والإكباب على الدنيا، وإيثارها على الآخرة، فإن ذلك من صفات أعداء الله وأعدائكم، من الكفرة والمنافقين، ومن أعظم أسباب العذاب في الدنيا والآخرة. كما قال تعالى في صفات أعدائه: {إِنَّ هَؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً} [سورة الإنسان آية: 27] ، وقال تعالى: {فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} [سورة التوبة آية: 55] . وأنتم لم تخلقوا للدنيا، وإنما خلقتم للآخرة، وأمرتم بالتزود لها؛ وخلقت لكم الدنيا لتستعينوا بها على عبادة ربكم الذي خلقكم سبحانه، والاستعداد للقائه، فتحوزوا بذلك فضله وكرامته، وجواره في دار النعيم. فقبيح بالعاقل: أن يعرض عن عبادة خالقه ومربيه، وعما أعدّ له من الكرامة، ويشتغل عنه بإيثار شهواته البهيمية، والجشع على تحصيل عرض الدنيا الزائل، الذي قد ضمن الله له ما هو خير منه وأحسن عاقبة في الدنيا والآخرة. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 442 وليحذر كل مسلم أن يغتر بالأكثرين، يقول: إن الناس قد ساروا إلى كذا، واعتادوا كذا، فأنا معهم؛ فإن هذه مصيبة عظمى، قد هلك بها أكثر الماضين. ولكن أيها العاقل، عليك بالنظر لنفسك ومحاسبتها، والتمسك بالحق وإن تركه الناس، والحذر مما نهى الله عنه وإن فعله الناس؛ فالحق أحق بالاتباع. كما قال تعالى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [سورة الأنعام آية: 116] ، وقال تعالى: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [سورة يوسف آية: 103] . وقال بعض السلف رحمه الله: "لا تزهد في الحق لقلة السالكين، ولا تغتر بالباطل لكثرة الهالكين". هذا وإن أهم ما أوصيكم به: أمورا خمسة: الأول: الإخلاص لله وحده في جميع القربات القولية والعملية، والحذر من الشرك كله، دقيقه وجليله؛ وهذا أوجب الواجبات، وأهم الأمور، وهو معنى شهادة أن لا إله إلا الله. ولا صحة لأعمالكم وأقوالكم إلا بعد صحة هذا الأصل وسلامته، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [سورة الزمر آية: 65] . الأمر الثاني: التفقه في القرآن وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، والتمسك بهما، وسؤال أهل العلم عن كل ما أشكل عليكم الجزء: 15 ¦ الصفحة: 443 في أمور دينكم، وهذا واجب على كل مسلم، ليس له تركه والإعراض عنه، والسير وراء رأيه وهواه بدون علم وبصيرة؛ وهذا هو معنى شهادة أن محمدا رسول الله. فإن هذه الشهادة، توجب على العبد الإيمان بأن محمدا صلى الله عليه وسلم رسول الله، والتمسك بما جاء به، وتصديقه فيما أخبر به، والسير في طريقه، والسؤال عن كل ما أشكل من ذلك، قال الله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [سورة النحل آية: 43] . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ألا سألوا إذا لم يعلموا؟ فإنما شفاء العي السؤال" 1 أخرجه أبو داود. وكل من أعرض عن القرآن والسنة، فهو متابع لهواه، عاص لمولاه، مستحق المقت والعقوبة، كما قال تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ} [سورة القصص آية: 50] . وقال تعالى في وصف الكفار: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} [سورة النجم آية: 23] : واتباع الهوى - والعياذ بالله - يطمس نور القلب، ويصد عن الحق، كما قال تعالى: {وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [سورة ص آية: 26] . فاحذروا رحمكم الله، من اتباع الهوى، والإعراض عن الهدى؛ وعليكم بالتمسك بالحق، والدعوة إليه، والحذر   1 أبو داود: الطهارة (336) . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 444 ممن خالفه، لتفوزوا بخيري الدنيا والآخرة. الأمر الثالث: إقامة الصلوات الخمس والمحافظة عليها في الجماعة فإنها أهم الواجبات وأعظمها بعد الشهادتين؛ وهي عمود الدين وميزان الأعمال، فمن حفظها فقد حفظ دينه، ومن تركها فارق الإسلام؛ فما أعظم حسرته، وأسوأ عاقبته، يوم الوقوف بين يدي الله. فعليكم رحمكم الله بالمحافظة عليها، والتواصي بذلك، والإنكار على من تخلف عنها وهجره، لأن ذلك من التعاون على البر والتقوى، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر" 1. وقال صلى الله عليه وسلم: "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان" 2. الأمر الرابع: يجب على كل ذكر وأنثى من المسلمين إحصاء ما لديه من المال وضبطه، وإخراج زكاته كلما حال عليه الحول، إذا بلغ نصاب الزكاة؛ ويكون طيب النفس بذلك، منشرح الصدر أداء لما أوجبه الله، وشكرا لنعمته وإحسانا إلى عباد الله. ومتى فعل المسلم ذلك، ضاعف الله له الأجر، وخلف عليه ما أنفق، وبارك له في الباقي، وطهره وزكاه. ومتى بخل بالزكاة وتهاون بأمرها غضب الله عليه،   1 الترمذي: الإيمان (2621) , والنسائي: الصلاة (463) , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1079) , وأحمد (5/346) . 2 مسلم: الإيمان (49) , والترمذي: الفتن (2172) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (5008) , وأبو داود: الصلاة (1140) , وابن ماجه: الفتن (4013) , وأحمد (3/20 ,3/49) . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 445 ونزع بركة ماله، وسلط عليه أسباب التعلق، والإنفاق في غير الحق، وعذبه به يوم القيامة. كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [سورة التوبة آية: 34] ، وكل مال لا تؤدى زكاته فهو كنز يعذب به صاحبه يوم القيامة، أعاذنا الله وإياكم من ذلك. الأمر الخامس: يجب على كل مسلم أن يهتم بأمر الله ويعظم حرماته، ويتفكر فيما خلق لأجله وأمر به، ويحاسب نفسه في ذلك دائما؛ فإن كان قد قام بما أوجب الله عليه، فرح بذلك، وحمد الله عليه، وسأله الثبات، وأخذ حذره من الكبر، والعجب، وتزكية النفس. وإن كان قد قصر فيما أوجب الله، أو ارتكب بعض ما حرم الله عليه، بادر إلى التوبة الصادقة والندم، والاستقامة على أمر الله، والإكثار من الذكر، والاستغفار، والضراعة إلى الله سبحانه، وسؤاله التوبة من سالف الذنوب، والتوفيق لصالح القول والعمل. ومتى وفق العبد لهذا الأمر العظيم، فذلك عنوان سعادته ونجاته، في الدنيا والآخرة؛ ومتى غفل عن نفسه وسار وراء هواه وشهوته، وأعرض عن الاستعداد لآخرته، فذلك عنوان هلاكه، ودليل خسرانه. فلينظر كل منكم لنفسه ويحاسبها، ويفتش عيوبها، فسوف يجد ما يحزن باله، ويشغله بنفسه عن غيره، ويوجب الجزء: 15 ¦ الصفحة: 446 له الذل لله، والانكسار بين يديه، وسؤاله العفو والمغفرة؛ وهذه المحاسبة، وهذا الذل والانكسار بين يدي الله، هو سبب السعادة والفلاح، والعز في الدنيا والآخرة. وليعلم كل مسلم أن كل ما حصل له من صحة، ونعمة، وجاه رفيع، وخصب، ورخاء، فهو من فضل الله وإحسانه؛ وكل ما أصابه من مرض أو مصيبة، أو فقر، أو جدب، أو تسليط عدو، أو غير ذلك من المصائب، فهو بسبب الذنوب والمعاصي. فجميع ما في الدنيا والآخرة، من العذاب والألم، وأسبابها، فسببها معصية الله، ومخالفة أمره، والتهاون بحقه، كما قال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [سورة الشورى آية: 30] ، وقال تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [سورة الروم آية: 41] . فاتقوا الله عباد الله، وعظموا أمره ونهيه، وبادروا بالتوبة إليه من جميع ذنوبكم، واعتمدوا عليه وحده، وتوكلوا عليه؛ فإنه خالق الخلق، ورازقهم، ونواصيهم بيده سبحانه، لا يملك أحد منهم لنفسه ضرا ولا نفعا، ولا موتا ولا حياة ولا نشورا. وقدموا رحمكم الله؛ حق ربكم وحق رسوله على حق غيره وطاعة غيره، كائنا من كان، وتآمروا بالمعروف، الجزء: 15 ¦ الصفحة: 447 وتناهوا عن المنكر، وأحسنوا الظن بالله، وأكثروا من ذكره واستغفاره. وتعاونوا على البر والتقوى، وخذوا على أيدي السفهاء، وألزموهم بما أمر الله، وأحبوا في الله، وأبغضوا في الله، ووالوا أولياء الله، وعادوا أعداء الله، واصبروا، وصابروا، حتى تلقوا ربكم، فتفوزوا بغاية السعادة والكرامة والشرف، والمنازل العالية في جنات النعيم. والله المسؤول أن يوفقنا وإياكم لما يرضيه، وأن يصلح قلوب الجميع، ويعمرها بخشيته ومحبته، والنصح له ولعباده؛ وأن يعيذنا وإياكم من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا؛ وأن يوفق إمامنا، وولي عهده، وجميع أسرته، وسائر ولاة المسلمين لما يرضيه، وأن ينصر بهم الحق، ويخذل بهم الباطل؛ وأن يعيذ الجميع من مضلات الفتن، إنه ولي دلك والقادر عليه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. في رجب سنة 1371 هـ. [قول الشيخ عبد الرحمن بن حماد العمر في معنى السعادة] وقال الشيخ: عبد الرحمن بن حماد العمر، في معنى: السعادة. لهذا فأنتم يا حملة لواء الذب عن دين الله، الذين ترجون من الله حسن اللقاء والمعاد، وأنتم مع هذا الرجاء العظيم السعداء في الدنيا، فليست السعادة في المنصب، أو الجاه المغتصب، أو في ملك الملايين؛ بل إن أولئك الجزء: 15 ¦ الصفحة: 448 اللاهثين وراء الدنيا، رغم ما نالوا منها، أشقى الناس فيها. وأنتم ترونهم قد شغلوا عن عبادة الله، وشغلوا عن ملاطفة أهليهم وأولادهم، وشغلوا بالمجاملة والنفاق: هذا يخافون منه، وهذا يرجون. وشغلوا عن نومهم بالوساوس والظنون، والتحسر على فرطاتهم الدنيوية. وشغلوا عن أكل لقمة العيش وحمد الله عليها، بالشبع الجهنّمي الذي تصطلي ناره في قلوبهم. أما أنتم يا دعاة الحق، ففي سعادة لو ذاقها هؤلاء السذج، لجالدوكم عليها بالسيوف، تلك هي سعادة المتقين، الذين إذا أصابتهم سراء شكروا، وقيدوها بطاعة الله، واجتناب نواهيه، وإن أصابتهم ضراء صبروا، وحمدوا الله الذي جعل البلاء للمؤمنين كفارة لذنوبهم. ومع هذا فهم قانعون بما رزقهم الله، لأنهم يعلمون أن حلال الدنيا حساب، وحرامها عقاب، ولأنهم اتخذوا من رسول الله قدوة، حين قال لما خير في تسيير الأبطح ذهبا: "اللهم اجعل قوت آل محمد كفافا". ولأنهم يعلمون أن الذين آتاهم الله مالا من الصحابة ابتغوا فيه الدار الآخرة، فبذلوه في سبيل الله، ومسحوا به دموع البائسين، ومع قناعتهم هذه، فإنهم يمشون على نور من ربهم ينير قلوبهم، وينير الطريق أمامهم. يعبدون الله على بصيرة وعلم، ويأمرون على بصيرة وعلم، ويقولون كلمة الحق عند كل أحد، لا تأخذهم في الله الجزء: 15 ¦ الصفحة: 449 لومة لائم، فلا يراؤون أحدا، ولا يرجون أحدا أو يخافونه، إلا الله، لأنهم يؤمنون بالله، وأنه النافع الضار. ومع هذا، فهم راضون عن أنفسهم لحسن صنيعها; ولذا فإنهم يرحبون بكل بلاء في سبيل الله: فمن سجن منهم اتخذ من السجن خلوة يناجي فيها ربه، ومن نفي اتخذ من منفاه دار سياحة ودعوة، ومن قتل مات على الشهادة التي تمناها المؤمنون بلقاء الله منذ القدم: فهذه هي صفات المتقين، سعداء الدنيا والآخرة. فإلى معين تلك السعادة يا دعاة الحق تسابقوا، ومن سبيلها تضلعوا؛ فلستم في دار خلد، وإنما دار الخلد تنتظركم، فاستعدوا لها بزادها زاد المتقين. انتهى. فصل فيما ينبغي أن يتخلقوا به من الزهد في الدنيا والتقليل منها، والقناعة في الملابس والمآكل والمساكن، وإتباع القول بالفعل، في النفس والأهل، والاقتداء بالسلف الصالح، ورسول رب العالمين، صلى الله عليه وسلم هو الأسوة الذي يجب التأسي به، والتخلق بأخلاقه، فقد عرضت عليه الدنيا فأباها. دخل عمر على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في مشربة له، على رمال حصير قد أثّر في جنبه، فقال: يا نبي الله، كسرى وقيصر على الديباج، فقال: "يا عمر أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة" 1. وقال أنس: لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "والذي   1 البخاري: تفسير القرآن (4913) , ومسلم: الطلاق (1479) . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 450 نفسي بيده، ما أصبح عند آل محمد صاع بر، ولا صاع تمر" 1، وقالت عائشة رضي الله عنها: "توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة عند يهودي، في ثلاثين صاعا من شعير لأهله". وكانت حجره من جريد النخل، وقال في مسجده: "ولكن عريشا كعريش موسى" 2، وقال: "كل بناء وبال على صاحبه، إلا ما لا بد له منه" 3. وقال في أشراط الساعة: "وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان" 4، وقد وقع ما أخبر به صلى الله عليه وسلم. وفي هذا العصر لما ساحوا في بلاد الخارج، شابهوهم في التطاول في البنيان؛ فنسأل الله أن يوفقنا وجميع المسلمين إلى سلوك هدي سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم. ولنضرب لك مثلا بشيخنا، الشيخ: عبد الله بن عبد اللطيف آل الشيخ، ذلك الشيخ الجليل الغيور، الورع، الزاهد، كبير العقل، واسع الرأي العفيف، الذي كان من عفته مع كرمه، وتلقي الوفود وأهل العلم أنه كانت له فلاحة واسعة. وكلما تراكم عليه الدين، باع عقارا بقصوره ومواشيه; فباع "المحطة" من أكبر عقارات باطن الرياض، ثم باع النخل المعروف، المسمى بنخل ابن إبراهيم، ثم باع "سلطانه" على ابن ثاني، فأوقفها على طلبة العلم. ولما استدان من الجويعي بأربعمائة ريالا، وكان وكيلا للقصيبي، وكانت الكتب ترسل إلى الأحساء على يد الشيخ   1 ابن ماجه: الزهد (4147) . 2 الدارمي: المقدمة (38) . 3 أبو داود: الأدب (5237) . 4 مسلم: الإيمان (8) , والترمذي: الإيمان (2610) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (4990) , وأبو داود: السنة (4695) , وابن ماجه: المقدمة (63) , وأحمد (1/27 ,1/51) . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 451 حمد بن فارس، وكان يلي بيت المال، فرأى وصول الكتاب بقلم الشيخ عبد الله، ومشموع بتمرة، ففتحه، ثم جاء به إلى الملك عبد العزيز. فراح به إلى الشيخ عبد الله، فقال له: يا شيخ تستدين وأنا موجود؟! فقال الشيخ عبد الله: تدخل على الله ثم تدخل على الله، لا تفسد علي ديني، لا تفسد علي ديني. وكان لا يبتذل العلم، ويأتي إليه الملك في مهماته، وقد يأتيه في حالة التعليم فلا يقطع الدرس والعلم وطلبته. واستقدم الشيخ سعد من الجنوب، وكان يعلم في المسجد الجامع; ولما ثقل كان يجلس في بيته مضطجعا، حرصا على التبليغ، فما أشبه استقدامه بما تقدم من وصية الملك الفاتح لابنه. وكان الشيخ حمد بن فارس - وهو الذي يلي بيت المال - يجلس لطلبة العلم بعد صلاة الفجر، في مسجد الشيخ عبد الله، الذي كان يجلس فيه للتعليم؛ وكان الملك يرسل رجاله للشيخ حمد بن فارس، يستحثونه لقضاء حاجات من يسافر، فلا يقطع الدرس، لمكانة العلم عند أولئك. وهذه أمثلة ذكرتها، ليقتدى بأولئك العلماء الأفاضل، ولا أطيل بغيرها. وكان الحسن البصري رحمه الله، يقول: "لا تكونوا من قوم أهلكتهم الأماني، حتى خرجوا من الدنيا وما لهم حسنة" ويقول أحدهم: إني لأحسن الظن بربي، وقد كذب، فإنه لو الجزء: 15 ¦ الصفحة: 452 أحسن الظن بربه، لأحسن العمل على الطريق المستقيم. كما أشار إليه قوله تعالى: {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [سورة فصلت آية: 23] قال عمرو بن العاص: "ما أبعد هديكم من هدي نبيكم صلى الله عليه وسلم، إنه كان أزهد الناس في الدنيا، وأنتم أرغب الناس فيها" خرّجه الإمام أحمد. وقال ابن القيم رحمه الله: سمعت رجلا يقول لشيخنا: إذا خان الرجل في نقد الدراهم سلبه الله معرفة النقد، أو قال نسيه; فقال الشيخ: هكذا من خان الله ورسوله في مسائل العلم، فإن هذا من الهوى. يعني: أن ينزع منه، فلا يفهمه، ولا يحفظ، بسبب ارتكاب هواه، وتأويله على ما يهواه; لأن القلوب المتعلقة بالشهوات محجوبة عن الله، بقدر تعلقها بها. وقد جعل سبحانه رضى العبد بالدنيا، وطمأنينته، وغفلته عن معرفة آياته وتدبرها والعمل بها، سبب شقائه وهلاكه، ولا يجتمع هذان - أعني: الرضى بالدنيا، والغفلة عن آيات الرب - إلا في قلب من لا يؤمن بالمعاد، ولا يرجو لقاء رب العباد. وإذا تأملت أحوال الناس، وجدت هذا الضرب هو الغالب على الناس، وهم عمار الدنيا; وأقل الناس عددا، من هو على خلاف ذلك، وهو من أشد الناس غربة بينهم؛ له شأن، ولهم شأن، علمه غير علومهم، وإرادته غير الجزء: 15 ¦ الصفحة: 453 إراداتهم، وطريقه غير طريقهم، فهو في واد، وهم في واد. قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [سورة يونس آية: 7-8] . وقال بعض السلف: نظر أهل المعاصي لا يجاوز مبادئ شهواتهم، ولا ينظرون إلى منتهى غاياتها؛ والعاقل البصير الحازم ينظر ما وراء السور، من الغايات المحمودة والمذمومة. فيرى المنهيات كطعام لذيذ، قد خلط فيه سم قاتل، فكلما دعته لذته إلى تناوله، نهاه ما فيه من السم؛ ويرى الأوامر كدواء كريه المذاق، مفض إلى العافية والشفاء، كلما نهاه كراهة مذاقه عن تناوله، أمره نفعه وحلاوة عاقبته بالشفاء والعافية، بالصبر على ذلك، فالله المستعان. انتهى. وقال شيخ الإسلام: فظلم المقاتلة بترك الجهاد عن المسلمين، من أعظم الظلم، قال: وكذلك أهل العلم، الذين يحفظون على الأمة الكتاب والسنة صورة ومعنى، مع أن حفظ ذلك واجب على الأمة عموما على الكفاية. ومنه ما يجب على أعيانهم، وهو علم العين الذي يجب على المسلم في خاصة نفسه؛ لكن وجوب ذلك عينا وكفاية على أهل العلم الذين رأسوا فيه، أو رزقوا عليه، أعظم من وجوبه على غيرهم، لأنه واجب بالشرع عموما. وقد يتعين عليهم، لقدرتهم عليه وعجز غيرهم، الجزء: 15 ¦ الصفحة: 454 ويدخل في القدرة استعداد العقل وسابقة الطلب، ومعرفة الطرق الموصلة إليه، من الكتب المصنفة، والعلماء المتقدمين، وسائر الأدلة المتعددة، والتفرغ له عما يشغل به غيرهم. ولهذا مضت السنة بأن الشروع في العلم والجهاد يلزم كالشروع في الحج، يعني: أن ما حفظه من علم الدين وعلم الجهاد، ليس له إضاعته، لقول النبي صلى الله عليه وسلم "من قرأ القرآن ثم نسيه، لقي الله وهو أجذم" 1 رواه أبو داود. وقال: "عرضت علي أعمال أمتي حسنها وسيئها، فرأيت في مساوئ أعمالها: الرجل يؤتيه الله آية من القرآن، ثم ينام عنها حتى ينساها"، وقال: "من تعلم الرمي ثم نسيه فليس منا" 2 رواه مسلم. وكذلك الشروع في عمل الجهاد، فإن المسلمين إذا صافوا عدوًّا، أو حاصروا حصنا، ليس لهم الانصراف عنه حتى يفتحوه. ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما ينبغي لنبي إذا لبس لأمته أن ينزعها حتى يحكم الله بينه وبين عدوه". فالمرصدون للعلم، عليهم للأمة حفظ علم الدين وتبليغه؛ فإذا لم يبلغوهم علم الدين، أو ضيعوا حفظه، كان ذلك من أعظم الظلم للمسلمين، ولهذا قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ   1 أحمد (5/327) . 2 مسلم: الإمارة (1919) , وابن ماجه: الجهاد (2814) . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 455 لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} [سورة البقرة آية: 159] . فإن ضرر كتمانهم يتعدى إلى البهائم وغيرها، فيلعنهم اللاعنون حتى البهائم؛ كما أن معلم الخير يصلي عليه الله وملائكته، ويستغفر له كل شيء حتى الحيتان في جوف البحر، والطير في جو السماء. وكذلك كذبهم في العلم من أعظم الظلم، وكذلك إظهارهم للمعاصي والبدع التي تمنع الثقة بأقوالهم، وتصرف القلوب عن اتباعهم، وتقتضي متابعة الناس لهم فيها، هي من أعظم الظلم؛ ويستحقون من الذم والعقوبة عليها ما لا يستحقه من أظهر الكذب والمعاصي والبدع من غيرهم، لأن إظهار غير العالم وإن كان فيه نوع ضرر، فليس هو مثل العالم في الضرر، الذي يمنع ظهور الحق، ويوجب ظهور الباطل؛ فإن إظهار هؤلاء للفجور والبدع، بمنزلة إعراض المقاتلة عن الجهاد ودفع العدو، ليس هو مثل إعراض آحاد المقاتلة، لما في ذلك من الضرر العظيم على المسلمين. فترك أهل العلم لتبليغ الدين كترك أهل القتال للجهاد؛ وترك أهل القتال للقتال الواجب عليهم، كترك أهل العلم للتبليغ الواجب عليهم، لأنهما ذنب عظيم، وليس هو مثل ترك ما تحتاج الأمة إليه مما هو مفوض إليهم، فإن ترك هذا أعظم من ترك أداء المال الواجب إلى الجزء: 15 ¦ الصفحة: 456 مستحقه؛ وما يظهرونه من البدع والمعاصي، التي تمنع قبول قولهم، وتدعو النفوس إلى موافقتهم، وتمنعهم وغيرهم من إظهار الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أشد ضررا للأمة وضررا عليهم من إظهار غيرهم لذلك. ولهذا جبل الله قلوب الأمة على أنها تستعظم جبن الجندي وفشله، وتركه للجهاد، ومعاونته للعدو، أكثر مما تستعظمه من غيره، بخلاف فسوق الجندي وظلمه وفاحشته، وبخلاف قعود العالم عن الجهاد بالبدن. ومثل ذلك: ولاة الأمور كل بحسبه، من الوالي، والقاضي; فإن تفريط أحدهم فيما عليه رعايته من مصالح الأمة، أو فعل ضد ذلك من العدوان عليهم، يستعظم أعظم مما يستعظم ذنب يخص أحدهم. انتهى كلام الشيخ رحمه الله. وجدير بنا أن نحذر ما قاله بعض السلف، في علماء السوء على أبواب الجنة، يدعون الناس إليها بأقوالهم، ويدعونهم إلى النار بأفعالهم; فكلما قالت أقوالهم للناس: هلموا، قالت أفعالهم: لا تسمعوا منهم، فلو كان ما دعوا إليه حقا، كانوا أول المستجيبين له؛ فهم في الصورة أولياء، وفي الحقيقة قطاع طريق. [قول الشيخ عبد الرحمن بن حميد في الدعوة إلى الله وحثه عليها] وقال الشيخ: عبد الله بن محمد بن حميد، رحمه الله: الجزء: 15 ¦ الصفحة: 457 الدعوة إلى الله طريقة الرسل قال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [سورة النحل آية: 125] : هذا أمر من الله جل شأنه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم بالدعوة، وهو أمر للأمة. وقد أمر الله رسوله بأن يدعو الناس كافة إلى سبيله، وبأن تكون الدعوة إليه بالحكمة والموعظة الحسنة، والمجادلة بالتي هي أحسن، فرتب الدعوة على حسب مراتب الخلق والدعوة إلى سبيله مستلزمة لبيان السبيل المدعو إليه. وقد بات هذا السبيل بالوحي الإلهي، فأوضح قواعد الدين الاعتقادية والعملية، فما قام دين من الأديان ولا مذهب من المذاهب، ولا ثبت مبدأ من المبادئ، إلا بالدعوة إليه؛ ولا تداعت أركان ملة بعد قيامه، ولا انتكث فلّ شريعة بعد إحكامها، ولا درست رسوم طريقة بعد ارتفاع أعلامها، إلا وسببه ترك الدعوة. فيا أيها العلماء وحماة الدين، ما لنا نرى الحق بدت معالمه تتضاءل؟! وآثاره تعفو وتندرس؟ ومذاهب الباطل تموه بالدعوة، ويعم انتشارها؟!. إن الإسلام بدأ يضعف منذ اقتنع أهله بالترف والنعيم، وأهملوا العناية بالدعوة إليه؛ فوالله لو بقي للعلماء سور من الغيرة على دينهم، لنفروا خفافا وثقالا للإرشاد والدعوة. فإن الأمة الإسلامية في مبدأ نشأتها قامت بالدعوة إلى دينها، مبينة للأمم سماحته، شارحة حكمه، موضحة الجزء: 15 ¦ الصفحة: 458 محاسنه، فقد أعطيت أمثل التعاليم، وهديت إلى صراط مستقيم؛ وبذلك امتد سلطانها، واتسعت ممالكها، وأخضعت من سواها لأوامر القرآن ونواهيه. ثم ما لبثت أن حرفت فانحرفت، وتمزقت بعدما اجتمعت; حرمت التعاليم الحقة، واشتبه عليها الباطل بالحق، وتبعت السبل، فتفرقت بها عن سبيل الحق؛ فأصبحت اليوم شيعا متفرقة، لما أضاعت من الحق والدعوة إليه ضاعت وهانت، وصارت غثاء كغثاء السيل. وقال أيضا، رحمه الله: من واقعنا اليوم 1. لا شك أن الإسلام قد أصيب بما أصيب به من الويلات والمصائب التي أدت إلى ضعف الإسلام، وخفة سطوته في القلوب؛ فقد علم الناس أن تغيرا عقليا طرأ على أفكارهم، وتدفق عليهم سيل المدينة الجارف. فاستقبلوا ذلك البلاء العظيم بسرور وارتياح بال، وبادروا في إتقانه، وذهلوا عن كل شيء سواه، فكأنهم في سكرة من أمرهم. وهذا مما جعل كل واحد من علماء المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، يحس بالخطر المحدق به، وبدينه، وبأمته؛ والكثير منهم والأكثر يتأفف من الحالة الراهنة، ويظهر التضجر، ويبدي التأثر والانفعال؛ غير أن هذا لا يكفي   1 وقد نشر في مجلة راية الإسلام في ذي الحجة سنة 1380 هـ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 459 لتلافي الأخطار المحدقة بالإسلام، وهي في نمو وازدياد؛ بل لا بد لدفع ذلك من اجتماعات إسلامية صادقة، لتدارك ما فات، وإصلاح ما فسد، وإقامة ما اعوج. إن الأمة الإسلامية لا تكون ذات كيان، إلا بالاجتماع والتناصر على جلب ما ينفعها، ودفع ما يضرّها، في أمر دينها ودنياها; وكما قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [سورة المائدة آية: 2] . ولا ريب أن الشرع الإسلامي شرع هذا الأمر ولم يهمله، فأمر باجتماعات يومية تنعقد في اليوم والليلة خمس مرات، في صلاة الجماعة، يؤدونها منتظمين صفوفا، جنبا إلى جنب خلف إمامهم، يكبرون إذا كبر، ويركعون إذا ركع؛ فاجتماع أبدانهم على هذه الكيفية مؤذن باجتماع قلوبهم على دينهم اعتقادا وعملا. ثم فرض الإسلام اجتماعا أكبر من هذا الاجتماع في الأسبوع مرة لأداء صلاة الجمعة، يأتي الشخص فيصلي لربه خاشعا متواضعا، يسمع الموعظة الآمرة بالمعروف، ومكارم الأخلاق، الصالحة للدين والدنيا، ويجدد العهد بإخوانه المسلمين، من أهل تلك البلدة، يعطلون لهذا الاجتماع مساجدهم، وكذلك في العيدين. ثم شرع اجتماعا أكبر من الذي قبله، فأوجب الحج على من استطاع إليه سبيلا في العمر مرة؛ فكان حج البيت هو اجتماع الأمة في كل سنة بمكة، يجتمع فيه رجال الأمة الجزء: 15 ¦ الصفحة: 460 الإسلامية، ونساؤها من كل حدب وصوب. يفدون إليه مشاة وركبانا، برا وبحرا وجوا، حيث يجتمعون في بلد الله الحرام، وفي مهد الإسلام، وموطن إسماعيل، ومثابة إبراهيم الخليل، ليؤدّوا مناسك الحج، جريا على ما شرعه دينهم الإسلامي، وليشهدوا منافع لهم، ويذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام، ونعمة الإسلام. وليتعاونوا فيتآلفوا، فيعرف بعضهم أحوال بعض، فيتعاونون على إصلاح العوج، وتقويم الأود، يضمهم موقف واحد، لا يتميز فيهم فقير عن غني، ولا صعلوك عن ملك، لابسي أكفانهم، بادية رؤوسهم في زي واحد، لا يتفاضلون، لا ميزة للمرء على غيره إلا بالعمل الصالح، يعتقد كل منهم أن أفضل راع للنفس هو الدين، يسمعون الخطب المؤثرة، والمواعظ النافعة، والدعوة إلى الإسلام بذكر محاسنه وفضائله وإيضاح حكمه. ثم ينصرفون إلى ديارهم، كل يقصد جهته، وقد امتلأ أنسا وسرورا بما سمع وعلم، ويذكر لأهله وقومه حال إخوانه المسلمين، وقد تعرف خبرهم، وما هم عليه من خير أو شر، ويتحدث بين أقوامه ما يحسن أن يقوموا به، من الخدمات اللائقة لذلك، من التعاون، والتكاتف، والتوادد، فيبعث في نفوسهم حب إقامة العدل والدين. وإني أدعو الله جلت قدرته أن يوفق هذه الأمة لما يصلح شؤونها، ويقوّم اعوجاجها، ويسلك بها الصراط السوي، الجزء: 15 ¦ الصفحة: 461 والطريق الأمثل، وأن يكون اهتمامها بأمر دينها الصحيح؛ فإن دين الإسلام دين الفطرة، دين الرقي، دين العدالة، دين المدنية الفاضلة، دين العمل، دين الاجتماع، دين التوادد، والتناصح، والتحابب، دين رفع ألوية العلم والصنائع والحرف، غير قاصر على أحكام العبادات والمعاملات، بل شامل لجميع منافع العباد ومصالحهم، على ممر السنين وتعاقب الدهور، إلى أن تقوم الساعة. والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل، اهـ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 462 الفصل الثاني: من أعظم أسباب ضعف العلم والإسلام سياحة بعض الناس في الأمصار المجاورة، وغالبهم يتمتع بالملاهي وغيرها، وإذا قدموا علينا في هذا العصر تلقيناهم بالترحيب والإكرام؛ وبعض السفلة ترغب نفوسهم فيما وصل إليه أولئك، رغبة في الحرية العربية، على ضد ما أمر الله به، وفعل ما نهى عنه. ولذلك اشمأزت بعض النفوس، إلى استقدام معلمين منهم، من ذكور وإناث كما يأتي; وكنا في عصر الشيخ عبد الله، إذا قدم المسافر من تلك الأمصار لتجارة أو غيرها يهجر حتى يظهر التوبة. وحدثني أبي رحمة الله عليه: أنه قد كان يفعل في بلدنا إذا قدم، يغمس بعد صلاة الجمعة في ثيابه، في ماء الطهارة، ليمتنع من السفر إليهم هو وغيره، وقد ذكر أهل الجزء: 15 ¦ الصفحة: 462 العلم تحريم السفر إلى بلاد المشركين - ومنهم من أفرده بالتأليف - ووجوب الهجرة من بلد الشرك. [رسالة الشيخ عبد الله بن حميد في التحذير من الركون إلى الكفار] وإليك رسالة الشيخ: عبد الله بن سليمان بن حميد، قد أجاد فيها وأفاد 1: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله القائل: {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} [سورة هود آية: 113] , والصلاة والسلام على نبيه المجاهد للمنافقين والمشركين بسيف الحق البتار، وعلى آله وأصحابه المهاجرين منهم والأنصار، الذين نعتهم الله بأنهم: رحماء بينهم أشداء على الكفار، وعلى من اتبعهم بإحسان، ومن على هذا الدين يغار. أما بعد: فاعلموا رحمني الله وإياكم أن أكثر الناس في هذا الزمان، نبذوا كتاب الله، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وراءهم ظهريا، وزهدوا فيما فيهما من العلم النافع والعمل به؛ حتى صار الإسلام في هذا الوقت إلى ما إليه صار، وذلك لالتفات غالب الخلق لأمر الدنيا وإصلاحها، ولو بفساد الدين وذهابه. ونسوا دينهم الصحيح المقرر بكتاب الله، وعلى لسان نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، فعميت البصائر، واستحكمت غربة الدين، وعمت الفتن وانتشرت، حتى اجتمع الصالح بالفاسد،   1 وهي: "الهدية الثمينة فيما يحفظ به المرء دينه" طبعت مرارا, الأولى في سنة 1373 هـ. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 463 والفاسق بالعابد، واختلط الحابل بالنابل، وخالط المسلمون الكفار والمشركين، والرافضة والملحدين. وكانوا عندهم خداما، ولهم عمالا، ومنهم متعلمين، وفي التجارة وسائر المعاملات معاملين، وفي شركاتهم مشتركين، وبمجالسهم مستأنسين، ولطعامهم وشرابهم آكلين شاربين، ولهم مؤانسين. وحصل بهذا الاختلاط فساد الاعتقاد، وفساد الأخلاق، وظهر الإلحاد، والتكذيب في تعاليم الدين، وانتشر هذا الداء إلى المقيمين بأوطانهم، من بادية وحاضرة، بتلقي أولادهم وأقربائهم، المتلبسين بالمشركين، الموالين لهم، بإكرامهم وتحسين أعمالهم، والذب عنهم. والحامل على هذا للجميع: الجهل بدين الإسلام، ومحبة الدنيا، والافتتان بها، وتقديمها على ما يرضي الله، ونسوا أن الرزق والأجل قرينان، فما دام الأجل باقيا فالرزق جاريا {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [سورة الطلاق آية: 2-3] . وفي حديث: "إذا عظمت أمتي الدنيا نزعت منها هيبة الإسلام، وإذا تركت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حرمت بركة الوحي، وإذا تسابت سقطت من عين الله"، وقال صلى الله عليه وسلم: "صلاح أول هذه الأمة بالزهد واليقين، وهلاك آخرها بالبخل والأمل"، وقال: "ليأتين على الناس زمان، الجزء: 15 ¦ الصفحة: 464 لا يبالي المرء بما أخذ، من الحلال أم من الحرام" 1 رواه البخاري. أوحى الله إلى داود عليه السلام: يا داود: حذّر وأنذر أصحابك أكل الشهوات، فإن القلوب المتعلقة بشهوات الدنيا، عقولها عني محجوبة؛ وإن أهون ما أصنع بالعبد من عبيدي، إذا آثر شهوة من شهواته، أن أحرمه من طاعتي". والله يقول: {فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ} [سورة البقرة آية: 200] ، {وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} [سورة الشورى آية: 20] ، {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَدْحُوراً} [سورة الإسراء آية: 18] ، {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [سورة الأعلى آية: 16-17] . والآيات، والأحاديث في ذم الدنيا والمشتغلين بها أكثر من أن تحصر، وأشهر من أن تذكر، ومع هذا فقد تحكم حبها في القلوب، وحصل بسببها ما يسخط علّام الغيوب. أيها المسلمون، الدنيا لا تدوم نعمتها، ولا يستمر خيرها؛ بل هي مجمع الآفات، ومستودع المصائب، لا يركن إليها إلا مغرور، ولا ينخدع بها إلا مفتون. أما المؤمن الحقيقي، فهي مطيته إلى الآخرة، إن أتته سراء شكر الله عليها، وإن أصابته ضراء صبر لها؛ يأمر بالمعروف ويسارع إليه، وينهى عن المنكر ولا يقر به،   1 البخاري: البيوع (2059) , والنسائي: البيوع (4454) , وأحمد (2/435 ,2/452 ,2/505) , والدارمي: البيوع (2536) . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 465 لا يداهن العصاة والفاسقين، ولا يجامل الرؤساء والأعيان بما يسخط الله. عباد الله، ليست المصيبة أن يصاب الإنسان بنفسه أو ماله أو ولده، وإنما المصيبة العظيمة، والكسر الذي لا ينجبر، أن يصاب الإنسان بدينه، فيحل الشك محل اليقين، فيرى الباطل حقا، والحق باطلا، والمعروف منكرا، والمنكر معروفا. أيها المسلمون، لا يفتننكم الذين كفروا عن دينكم بعرض من الدنيا فتصبحوا خاسرين; الله، الله، في حفظ دينكم والعمل بتعاليمه، فإنه من يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه. أيها المسلمون: ليس الإسلام مقصورا على الصلاة والزكاة والصوم والحج، ولكنه ذلك، والكف عن محارم الله، ومحبة أولياء الله، ومعاداة أعداء الله، والبعد عنهم، وإنكار ما هم عليه، وعدم مخالطتهم، وترك مشابهتهم وتقليدهم، إلى غير ذلك من حقوق الإسلام وشروطه ولوازمه. ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني، ولكن ما وقر في القلوب وصدقته الأعمال. أكثر الناس يقولون آمنا بالله {وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} [سورة البقرة آية: 8-9-10] بحب الشهوات وأكل الحرام. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 466 {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ} [سورة المنافقون آية: 4] لكنهم عن الحق معرضون، ولأهله معادون مبغضون، ولأعداء الله محبون موالون. والحقيقة أن من خالف أمر القرآن ونهيه، لم يؤمن به، شاء أم أبى، ومن لم يتبع شريعة محمد صلى الله عليه وسلم لم يصدقه، شاء أم أبى، لا تقبل دعوى بلا حقيقة، ولا قول بلا عمل. والمصيبة العظيمة أن حرمات الله قد انتهكت، والفسوق قد انتشر بين المسلمين، ويحاول إخوان الشياطين: أن يقضوا على بقية الدين، ولا أحد ينكر أو يغار، أو يحزن لما يرى ويسمع من الأشرار، وينتحب على موت السنن وظهور البدع؛ ولا شك أن هذا علامة موت القلوب. رحم الله ابن عقيل حيث يقول في زمانه: من عجيب ما نقدت من أحوال الناس، كثرة ما ناحوا على خراب الديار، وموت الأقارب والأسلاف، والتحسر على الأرزاق، وذم الزمن وأهله، وذكر نكد العيش فيه. وقد رأوا من انهدام الإسلام، وتشعب الأديان، وموت السنن، وظهور البدع، وارتكاب المعاصي، وتقضي الأعمار في الفارغ الذي لا يجدي، والقبيح الذي يوبق ويؤذي. فلا أجد منهم من ناح على دينه، ولا بكى على ما فرط من عمره، ولا أسى على فائت دهره، وما أرى لذلك سببا إلا قلة مبالاتهم بالأديان، وعظم الدنيا في عيونهم، ضد ما الجزء: 15 ¦ الصفحة: 467 كان عليه السلف الصالح، يرضون بالبلاغ من الدنيا، وينوحون على الدين، اهـ. وقال ابن القيم رحمه الله: لما أعرض الناس عن تحكيم الكتاب والسنة والمحاكمة إليهما، واعتقدوا عدم الاكتفاء بهما، وعدلوا إلى الآراء والقياس والاستحسان وأقوال الشيوخ، عرض لهم عند ذلك فساد في فطرهم، وظلمة في قلوبهم، وكدر في أفهامهم، ومحق في عقولهم، عمتهم هذه الأمور، وغلبت عليهم، حتى ربا فيها الصغير وهرم عليها الكبير، فلم يروها منكرا. فجاءتهم دولة أخرى أقامت فيها البدع مكان السنن، والنفس مكان العقل، والهوى مقام الرشد، والضلال مقام الهدى، والمنكر مقام المعروف، والجهل مقام العلم، والرياء مقام الإخلاص، والباطل مقام الحق، والكذب مقام الصدق، والمداهنة مقام النصيحة، والظلم مقام العدل، فصارت الدولة والغلبة لهذه الأمور، وأهلها هم المشار إليهم، وكانت قبل ذلك لأضدادها، وكان أهلها هم المشار إليهم، إلى أن قال رحمه الله: اقشعرت الأرض وأظلمت السماء، وظهر الفساد في البر والبحر من ظلم الفجرة، وذهبت البركات، وقلت الخيرات، وهزلت الوحوش، وتكدرت الحياة من فسق الظلمة وبكى ضوء النهار وظلمة الليل من الأعمال الخبيثة، والأفعال الجزء: 15 ¦ الصفحة: 468 الفظيعة، وشكا الكرام الكاتبون والمعقبات إلى ربهم من كثرة الفواحش، وغلبة المنكرات والقبائح. وهذا والله منذر بسيل عذاب قد انعقد غمامه، ومؤذن بليل بلاء قد ادلهم ظلامه، فاعزلوا عن طريق هذا السبيل، بتوبة نصوح، ما دامت التوبة ممكنة وبابها مفتوح، وكأنكم بالباب وقد أغلق، وبالجناب وقد علق {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} [سورة الشعراء آية: 227] . وقال رحمه الله: علماء السوء جلسوا على باب الجنة، يدعون إليها الناس بأقوالهم، ويدعونهم إلى النار بأفعالهم، فكلما قالوا للناس هلموا، قالت أفعالهم: لا تسمعوا منهم، فهم في الصورة أدلَّاء، وفي الحقيقة قطاع طريق، اهـ. فكيف لو رأى ابن القيم رحمه الله هذا الزمان، الذي انهدم فيه جانب الحق، وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في غالب الناس، واختلط الخبيث بالطيب، وظهر الفاسد، وتكلم بملء شدقيه بلا خفية، وسكت المحق، فإن تكلم، فبينه وبين نفسه، وانعكست الأمور، وتغيرت الأحوال، وكثر العلم وقل العمل، وتعلم العلم للدنيا. واتصف غالب أهله بالعقائد الفاسدة، والأعمال الخبيثة: إلحاد، وزندقة، واستهزاء بالسنن وأهلها، وخلاعة، وفجور، وزنى، ولواط، وشرب مسكرات، وترك للصلوات، ومروق من الدين والآداب العربية بكل الكلمة، الجزء: 15 ¦ الصفحة: 469 لا خوف من الله ولا حياء من خلقه. همهم القيل والقال، والعكوف على آلات اللهو، والشهوات المحرمة، وأكل أموال الناس بالباطل، والربا، وأنواع الحيل المحرمة، والتفاخر في المآكل والملابس، والمباهاة في البنيان والأثاث، وصار الحب للدنيا، والبغض لها، والموالاة فيها، والمعاداة عليها. فهم كما قال كعب الأحبار: "والله إني لأجد صفة المنافقين في كتاب الله عز وجل شرابين للقهوات "أي الخمور"، تراكين الصلوات، لعّابين بالكعبات، رقّادين عن العتمات 1، مفرطين في الغدوات، تاركين للجماعات". ومن صفتهم: يقرؤون القرآن، وهم بين كافر به وفاجر يتأكل به; وفي حديث لأبي سعيد: "ثم يكون خلف يقرؤون القرآن لا يعدو تراقيهم" 2، وفي حديث آخر "وأما القرآن فيتعلمه المنافق فيجادل به المؤمنين" 3 كما هو الواقع، فهذه والله صفات غالب أهل زماننا هذا. ورحم الله ابن القيم حيث قال: الزنادقة قوم أظهروا الإسلام ومتابعة الرسل، وأبطنوا الكفر ومعاداة الله ورسله؛ وهؤلاء هم المنافقون، وهم في الدرك الأسفل من النار. وذكر رحمه الله من صفاتهم ما ينطبق على غالب أهل هذا الزمان، فراجعه في كتابه "طريق الهجرتين، وباب   1 هي: العشاء والفجر. 2 أحمد (3/38) . 3 أحمد (4/155) . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 470 السعادتين" في الطبقة الخامسة عشر، يتبين لك أحوال الناس، وما أخلوا به وضيعوه، من تعاليم دينهم، وسنّة نبيهم. وهلاك الأكثرين بانغماسهم في الشهوات المحرمة، وموالاتهم لأعداء الله ورسوله، وتركهم الصلاة التي هي عمود الإسلام، والذين يصلون منهم يؤخرونها عن أوقاتها. وتأمل ذلك تجده عامًّا في القرى والأمصار والبوادي، إلا بقايا ممن رسخت في التوحيد عقائدهم، واستنارت بالعلم قلوبهم وبصائرهم، وعن الشر يحذرون، وبالأدلة يرشدون، وعلى الأذى في الله يصبرون. وهذا مصداق قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة، لا يضرهم من خذلهم، ولا من خالفهم، حتى يأتي أمر الله" 1، لكنهم قليل. وأنا وإن كنت لست من أهل هذا الشأن، وقاصر العلم واللسان، لكن لما رأيت ما عم وطم، من انقلاب الأكثرين عن دين الإسلام، وموالاتهم لعبدة الأوثان، وأعداء الشريعة من النصارى والملحدين والرافضة، حملتني الغيرة الدينية، والشفقة الإنسانية، أن أجمع بعض آيات قرآنية، وأحاديث نبوية، ومن كلام علماء السنة المقتدى بهم، نبذة يسيرة في بيان تحريم مخالطة المشركين، ووجوب البعد عنهم، وحكم التولي والموالاة، والسفر إلى بلادهم، وما يجب على من اضطر   1 مسلم: الإمارة (1920) , والترمذي: الفتن (2229) , وابن ماجه: المقدمة (10) , وأحمد (5/279) . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 471 إلى العمل مع الشركات الأجنبية، لتكون تذكرة للمؤمنين، وحجة على المعاندين، وسميتها: "الهدية الثمينة، فيما يحفظ به المرء دينه". والله أسأل التوفيق وحسن النية، وأن يدفع عنا وعن عموم المسلمين كل بلية ورزية، إنه ولي ذلك والقادر عليه. فأقول: قال العلماء: إن الله حرم على المؤمنين في كتابه، وعلى لسان نبيه ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم، أن يوالوا المشركين ويظهروا لهم المودة، ولو بأدنى شيء من أنواع الانبساط، وتوعدهم بأعظم وعيد، وزجرهم بأكبر زجر وتهديد، كما في الآيات التي تسمعها الآن من كلام الله المحكم المبين. أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم: {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ} [سورة آل عمران آية: 28] ، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [سورة المائدة آية: 57] . {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً} [سورة النساء آية: 138-139] ، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُبِيناً} [سورة النساء آية: 144] . {وَلَوْ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 472 كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [سورة المائدة آية: 81] . قال شيخ الإسلام ابن تيمية: الإيمان بالله والنبي وما أنزل إليه مستلزم: بعدم ولايتهم، وثبوت ولايتهم يوجب عدم الإيمان، لأن عدم اللازم يقتضي عدم الملزوم. وقال بعض المحققين: رتب الله على موالاتهم سخطه، والخلود في العذاب، وأخبر أن ولايتهم لا تحصل إلا ممن ليس بمؤمن، وأما أهل الإيمان بالله، وكتابه ورسوله، فإنهم لا يوالونهم بل يعادونهم، كما أخبر الله عن خليله إبراهيم والذين معه. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} [سورة الممتحنة آية: 13] ، {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ} [سورة المجادلة آية: 22] الآية، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْأِيمَانِ} [سورة التوبة آية: 23] الآية، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} [سورة الممتحنة آية: 1] الآية، {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} [سورة هود آية: 113] الآية، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 473 مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ} [سورة المائدة آية: 52-51] الآيتين. {تَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ} [سورة المائدة آية: 80] ، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ} [سورة آل عمران آية: 149] ، {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} [سورة آية: 73] . وقال في حق نبيه محمد صلى الله عليه وسلم {وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً إِذاً لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً} [سورة الإسراء آية: 75-74] . وقال عن خليله إبراهيم ومن آمن معه {إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [سورة الممتحنة آية: 4] ، وقال عنه: {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي} [سورة الزخرف آية: 27-26] . وقال عنه: {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [سورة مريم آية: 48] : قال العلماء: فهذه البراءة، وهذه الموالاة، هي معنى لا إله إلا الله، لاشتمالها على إثبات العبادة لله وحده، ونفيها عمن سواه؛ وهي حقيقة الإسلام، وهي ملة الجزء: 15 ¦ الصفحة: 474 إبراهيم التي أمرنا باتباعها بقوله: {أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [سورة النحل آية: 123] . فهذه أيها المسلمون، بعض من آيات الله، ظاهرة الدلالة، بينة الحجة، واضحة البرهان، حاكمة بمنطوقها على كل مسلم يوالي الكفار والمشركين واليهود والنصارى، ولا ينكر عليهم شركهم، ويحسن أفعالهم أو يشك في كفرهم، أنه كافر، ولو عرف التوحيد وعمل بشرائع الإسلام الظاهرة. ولو تتبعنا أقوال العلماء على هذه الآيات، لطال الكلام، وخرجنا عن مقصود الاختصار. وأما الأحاديث الواردة في النهي عن مشابهة المشركين والكفار فهي كثيرة معروفة; منها: قوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر: "من تشبه بقوم فهو منهم" 1. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: أقل أحواله - أي هذا الحديث - أن يقتضي تحريم التشبه، وإن كان ظاهره يقتضي كفر المتشبه بهم. وقال ابن كثير رحمه الله: وفيه النهي الشديد والتهديد والوعيد، على التشبه بالكفار في أقوالهم وأفعالهم، ولباسهم وأعيادهم وعباداتهم، وغير ذلك مما لم يشرع لنا ولم نقر عليه. وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم على عبد الله بن عمرو ثوبين معصفرين، قال: "إن هذه من ثياب الكفار فلا تلبسها" 2 الحديث في مسلم، نهى عن لبسها لأنها من ثياب الكفار. وفي كتاب عمر إلى عتبة بن فرقد: "وإياك وزي أهل   1 أبو داود: اللباس (4031) . 2 مسلم: اللباس والزينة (2077) , والنسائي: الزينة (5316) , وأحمد (2/207) . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 475 الشرك" وهو في الصحيحين، وروي عن حذيفة أنه أتى بيتا، فرأى فيه شيئا من زي الأعاجم، فخرج، وقال: (من تشبه بقوم فهو منهم) . ويروى عن الإمام أحمد أنه دعي إلى وليمة عرس، فنظر إلى كرسي في الدار عليه فضة، فخرج، فلحقه صاحب الدار، فنفض يده في وجهه، فقال زي المجوس، زي المجوس. وقال عمر: "لا تعلموا رطانة الأعاجم" إلى آخر ما قال رحمه الله، وقد كتب عمر إلى المسلمين المقيمين في بلاد فارس: "إياكم وزي أهل الشرك". وما ورد في ذلك أكثر من أن يحصر، ولم يحذر الله عن مشابهتهم إلا لقطع المودة بينهم وبين المسلمين، وقال ابن عباس رضي الله عنه في قوله تعالى:?" {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} 1 قال: (الركون هو الميل في المحبة ولين الكلام) . وقال: (إن من الركون إلى الكفار أن تبري لهم قلما" وقال عكرمة: أن تطيعوهم أو تودوهم، أو تولوهم الأعمال، كمن يولي الفساق والفجار، وقال الثوري: من لاث لهم دواة، أو برى لهم قلما، أو ناولهم قرطاسا، دخل في هذا، يعني في الوعيد. وقال بعض المفسرين: فيها النهي عن اتباع أهوائهم، والانقطاع إليهم ومصاحبتهم ومجالستهم، وزيارتهم،   1 سورة هود آية: 113. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 476 ومداهنتهم، والرضى بأعمالهم، والتشبه بهم والتزيّي بزيهم، ومد العين إلى زهرتهم، وذكرهم بما فيه تعظيم لهم. وتأمل قوله تعالى: {وَلا تَرْكَنُوا} [سورة هود آية: 113] والركون هو الميل اليسير، فكيف بمن جالس الكافرين، وآكلهم، وألان لهم الكلام؟!. ويذكر عن عيسى عليه السلام، أنه قال: تحببوا إلى الله ببغض أهل المعاصي، وتقربوا إليه بالبعد عنهم، واطلبوا رضوان الله بسخطهم; فإذا كان هذا مع أهل المعاصي، فكيف بالمشركين والكافرين، والمنافقين والملحدين؟! وفي الحديث: "المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل" 1، وفيه: "المرء مع من أحب يوم القيامة" 2، وفي حديث: "لا تنزل الرحمة على قوم فيهم قاطع رحم". ومما تقدم من الآيات، والأحاديث، وأقوال العلماء، يتبين أنه يجب على المؤمنين إظهار العداوة للكفار والمشركين، والبراءة منهم والبعد عنهم؛ وأن ذلك هو حقيقة الإسلام. ويتبين أن المسلم إذا والى المشركين وأطاعهم، ووافقهم على رغبتهم، لأجل مال أو غيره، من غير إكراه، أنه كافر، ولو كان يعرف كفرهم ويبغضهم. وقد جاء الأمر بمجاهدة الكفار والمشركين، والغلظة عليهم في غير موضع من كتاب الله؛ بل جاء الأمر بالإنكار على المجاهر بالمعاصي، ولو كان مسلما، فكيف بمن يوالي   1 الترمذي: الزهد (2378) , وأبو داود: الأدب (4833) , وأحمد (2/303 ,2/334) . 2 البخاري: الأدب (6168) , ومسلم: البر والصلة والآداب (2641) , وأحمد (1/392 ,4/405) . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 477 المشركين، ويحبهم، ويرى سبيلهم أهدى من سبيل المسلمين؟! فيجب على المسلم معرفة أمور، من فعلها دخل في الوعيد، وتعرض لمسيس النار، التولي العام، الركون القليل، مداهنة الكفار ومداراتهم، طاعتهم فيما يقولون ويشيرون، تقريبهم في الجلوس، وتقديمهم في الدخول على أمراء الإسلام، مشاورتهم في الأمور، استعمالهم في الوظائف، اتخاذهم بطانة، مجالستهم ومزاورتهم والدخول عليهم، البشاشة لهم والطلاقة، الإكرام العام، استئمانهم وقد خونهم الله. معاونتهم في أمورهم ولو بأدنى شيء، مناصحتهم، اتباع أهوائهم; مصاحبتهم ومعاشرتهم، الرضى بأعمالهم، التشبه بهم والتزيّي بزيهم; ذكر ما فيه تعظيمهم كتسميتهم سادات وحكام وحكماء، والسكنى معهم في ديارهم. إذا تبين هذا فلا فرق بين أن يفعل ذلك مع أقربائه منهم، أو مع غيرهم؛ ولا تجتمع محبة الله، ومحبة أعداء الله في قلب مسلم. قال ابن القيم: تحب أعداء الحبيب وتدعي ... حبا له ما ذاك في إمكان إذا فهمت ما تقدم، تبين لك انحراف كثير من أهالي هذا الزمان عن الدين، وردتهم الصريحة، لمبادرتهم إلى الجزء: 15 ¦ الصفحة: 478 موالاة المشركين، ومحبتهم وتحسين أعمالهم، مع تركهم الواجبات، وانتهاكهم المحرمات؛ فيجب ويتعين على كل مسلم ناصح لنفسه أن يعرف ما قرره العلماء رحمهم الله، من الفرق بين التولي والموالاة. قالوا رحمهم الله: الموالاة مثل لين الكلام، وإظهار شيء من البشاشة، أو لياثة الدواة، وما أشبه ذلك من الأمور اليسيرة، مع إظهار البراءة منهم ومن دينهم، وعلمهم بذلك منه، فهذا مرتكب كبيرة من كبائر الذنوب، وهو على خطر. وأما التولي: فهو إكرامهم، والثناء عليهم، والنصرة والمعاونة لهم على المسلمين، والمعاشرة، وعدم البراءة منهم ظاهرا؛ فهذا ردة من فاعله، يجب أن تجرى عليه أحكام المرتدين، كما يدل على ذلك الكتاب والسنة، وإجماع الأمة المقتدى بهم. ومن كلام العلامة القصيمي محمد بن عبد الله بن سليم في هذا المعنى، قال رحمه الله: النوع الأول: أن يودهم ويود ما هم عليه من الكفر، ويطمئن إلى ذلك ويرضى به، فهذا كفر بلا ريب. النوع الثاني: أن يودهم لغرض دنيوي، مع كراهته لما هم عليه، وتضليلهم، فهذا قد أتى كبيرة من كبائر الذنوب، متعرض للوعيد. وأما السفر إلى بلاد المشركين والإقامة عندهم فقد قال صلى الله عليه وسلم: "أنا بريء من كل مسلم يقيم بين ظهراني الجزء: 15 ¦ الصفحة: 479 المشركين، لا تراءى ناراهما 1") . وعن سمرة بن جندب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من جامع المشرك أو سكن معه، فإنه مثله" 2 وأخذ النبي صلى الله عليه وسلم على بعض أصحابه: أن لا تراءا نارك نار المشركين، إلا أن تكون حربا لهم. وقد عاتب الله المسلمين الذين تخلفوا عن الهجرة بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} 3 الآية، قيل: لما نزلت هذه الآية، كتب بها إلى من بمكة من المسلمين أنه لا عذر لهم بالإقامة، فخرجوا. وهذه الآية عامة في كل من أقام بين ظهراني المشركين، وليس متمكنا من إقامة الدين، فهو ظالم لنفسه مرتكب حراما. قال القرطبي في شرح مسلم: ولا يختلف في أنه لا يحل لمسلم المقام في بلاد الكفر، مع التمكن من الخروج منها، لجريان أحكام الكفر عليه، ولخوف الفتنة على نفسه، وهذا حكم ثابت مؤبد إلى يوم القيامة. وعلى هذا، فلا يجوز لمسلم دخول بلاد الكفر، لتجارة   1 لهذا يجب علينا ألا نرسل أبناءنا وهم صغار, إلى بلاد الكفار للتعلم, لأن النشء إذا شب بينهم, لابد أن يتخلق بأخلاقهم, والأوفق بالمسلمين إن أرادوا تعليم أولادهم, بعض العلوم الحديثة كالميكانيكا, والهندسة: أن يفتحوا المدارس في بلادهم, ويجلبوا لها هؤلاء المهندسين, وبهذا يمكن حفظ أخلاق النشء ودينهم. 2 أبو داود: الجهاد (2787) . 3 سورة النساء آية: 97. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 480 ولا غيرها، مما لا يكون ضروريا في الدين، كرسل، وفكاك الأسير المسلم، وقد بطل الإمام مالك رحمه الله شهادة من دخل بلاد الهند للتجارة. انتهى. وقال الشيخ: سليمان بن سحمان، رحمه الله: واجب على كل مسلم عداوة الكفار والمشركين وبغضهم وهجرهم ومفارقتهم بالقلب واللسان والبدن ... إلى أن قال: فتبين أن إظهار الدين، هو التصريح بالعداوة والبغضاء، وأن قول من أعمى الله بصيرة قلبه: إن إظهار الدين كون الكفار لا يمنعون أحدا من الصلاة، ولا من الحج، والأذان، قول باطل، مردود شرعا وعقلا. وقال الشيخ: حمد بن عتيق رحمه الله: فمن أعظم الواجبات على المؤمن: محبة الله ومحبة من يحبه من الأشخاص، كالملائكة، وصالحي بني آدم، وموالاتهم، وبغض ما يبغضه الله من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة، وبغض من فعل ذلك; فإن رسخ هذا الأصل في قلب المؤمن، لم يطمئن إلى عدو الله، ولم يجالسه، أو يلفت النظر إليه. فلما ضعف هذا الأصل في قلوب كثير من الناس واضمحل، صار حال كثير منهم مع أعداء الله، كحاله مع أوليائه، يلقى كلا بوجه طلق، وصارت بلاد الحرب عنده كبلاد الإسلام، ولم يخش غضب الله الذي لا تطيقه الأرض والسماوات والجبال الراسيات. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 481 ولما عظمت فتنة الدنيا في صدور كثير من الناس، وصارت أكبر همهم، ومبلغ علمهم، حملهم ذلك على التماسها ولو بوجه يسخط الله؛ فسافروا إلى أعداء الله في بلادهم، وخالطوهم في أوطانهم، ولبس الشيطان عليهم أمر دينهم، فنسوا عهد الله الذي أخذه عليهم في مثل قوله: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [سورة الحشر آية: 7] ، إلى آخر ما قال رحمه الله. ومن كلام لبعض المحققين قالوا رحمهم الله: يحرم السفر إلى بلاد المشركين للتجارة، إلا أن يكون المسلم قويا، له منعة، يقدر على إظهار دينه، وتكفيرهم، وعيب دينهم، والطعن عليهم، والبراءة منهم، والتحفظ من مودتهم والركون إليهم; وليس فعل الصلاة فقط إظهارا للدين. وقول القائل: إنا نعتزلهم في الصلاة، ولا نأكل ذبيحتهم، لا يكفي في إظهار الدين، بل لا بد مما ذكر. قلت هو كما تقدم: أن يتبرأ من المشركين والكفار، وأن يصرح لهم بأنهم كفار، وأنه عدو لهم، ويعلمون ذلك منه، فإن لم يحصل ذلك، لم يكن مظهرا للدين. وقول بعضهم: إنهم لا ينكرون علينا، قول فاسد؛ فالكلام على من يظن به الخير ممن يخالطهم، يخاف عليه إن سلم من الردة لا يسلم من الكبيرة الموبقة. وأما من يظن به مودة الكافرين وموالاتهم، أو يرى الجزء: 15 ¦ الصفحة: 482 دينهم أهدى سبيلا من المؤمنين، كحال أكثر الناس اليوم، فهذا مرتد عن دينه بإجماع المسلمين. وقال بعض العلماء رحمهم الله: اعلموا أن المعاصي أنواع بعضها أكبر من بعض، فأعظمها: الشرك بالله في عبادته ... إلى أن قال: وهذا الذنب له وسائل، وذرائع، توصل إليه، فأعظمها موالاة أعداء الله على اختلاف أنواعها. وقد أصبح أهل هذا الزمان في غفلة عنها، وأكثرهم يواليهم أو يوالي من يواليهم، يقرؤون القرآن، وفيه تحريم موالاتهم، ونفي الإيمان عمن يفعل ذلك ... إلى أن قال: وأكثر الناس لا يفرق بين الإسلام وضده، فيؤمن ببعض ويكفر ببعض؛ ومن كفر ببعض كمن كفر بالكل. وقال بعضهم: أصل الموالاة هو الحب والنصرة والصداقة، ودون ذلك مراتب متعددة، ولكل ذنب من الوعيد والذم ما هو معروف، ونواقض الإسلام تقارب أربعمائة ناقض، كما هو معروف في مصنفات العلماء. والمجمع عليه منها عشرة، الثالث من العشرة: من لم يكفر المشركين، أو شك في كفرهم، أو صحح مذهبهم واستحسنه، كفر، والثامن: منها مظاهرة المشركين ومعاونتهم على المسلمين، لقوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [سورة المائدة آية: 51] . وقال بعض المفسرين في قوله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: الجزء: 15 ¦ الصفحة: 483 {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً} [سورة النساء آية: 63] : أمر الله نبيه بالإعراض عن المنافقين وإغلاظ القول عليهم، ولا يلقاهم بوجه طلق، بل يلقاهم بوجه عابس مكفهر، متغير من الغيظ. فإذا كان هذا مع المنافقين الذين هم بين أظهر المسلمين، يصلون ويصومون ويحجون، ويجاهدون، فكيف بمن سافر إلى المشركين، وأقام بين أظهرهم أياما وليالي؟! قلت: بل أشهرا وسنين مطمئنا، مستأذنا عليهم في بيوتهم، متعلما منهم مكثرا لهم التحية، ملينا لهم الكلام، وليس له عذر إلا طلب العاجلة؛ ولم يجعل الله الدنيا عذرا لمن اعتذر بها، كما نبه الله على ذلك في كتابه. وفي حديث طويل قال: "لا يحملنكم الشيطان باستبطاء الرزق أن تطلبوه بمعاصي الله، فإن ما عند الله لا ينال إلا بطاعته". ولما نهى الله أن يقرب المشركون المسجد الحرام، قال: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [سورة التوبة آية: 28] ، فلم يعذر الله بالفقر والفاقة، والحاجة إلى ما في أيدي الكفار، وأخبر أنه {هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [سورة الذاريات آية: 58] . وغاية ما عند الموالين الاعتذار بالحاجة، وما كان ذلك عذرا صحيحا كما بين الله في كتابه وعلى لسان رسوله. فيا حسرة على العباد الذين عرفوا التوحيد، ونشؤوا الجزء: 15 ¦ الصفحة: 484 فيه، ودانوا به زمانا، كيف خرجوا عن ولاية رب العالمين إلى ولاية المشركين والنصارى والملحدين، ورضوا بها؟! {بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً} [سورة الكهف آية: 50] {وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [سورة المائدة آية: 81] ، {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [سورة الأنعام آية: 121] . فالله الله عباد الله!! انتبهوا من هذه البلية العظيمة التي صيرت أهل الإسلام والضلال جماعة واحدة، ويجب على من نور الله بصيرته، إذا عرف إنسانا من أقاربه وجماعته بهذا الأمر أن ينصحه ويدعوه إلى الله سبحانه، ويعرّفه قبح ما ارتكبه؛ فإن تاب وأناب فهذا هو المطلوب، وإن أصر وعاند فيعاديه، ويبتعد عنه؛ ولكل فاسق حكم ما ارتكبه. ومن أراد الله فتنته وضلاله، فلن تجد له وليا مرشدا، {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} [سورة يونس آية: 97-96] . ومن أراد الوقوف على هذه المباحث القيمة بأدلتها، فليطالع "اقتضاء الصراط المستقيم" لشيخ الإسلام ابن تيمية، ورسالة "حكم موالاة أهل الإشراك"، ورسالة "بيان النجاة والفكاك من موالاة المرتدين وأهل الإشراك" فإنه يجد ما يكفي ويشفي، والله ولي التوفيق، والهادي لأقوم طريق. اعلموا أيها المسلمون، أن العمل مع الشركات الأجنبية من أعظم الخطر على العمال المسلمين، لما يحصل الجزء: 15 ¦ الصفحة: 485 من تغيير العقائد، وفساد الأخلاق، وانتشار الفوضى، ونقض عرى الإسلام. وقد فاهوا من الآن بسبّ الخير وأهله وبغضهم، واستنكار السنن، وخالفوا علنا، ومالوا إلى الدنيا وزخارفها، وأضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات، وضلوا وأضلوا إلا القليل منهم. وإن العمال الموجودين الآن عند الشركات الأجنبية على قسمين: الأول: المستخدمين في بيوتهم ومكاتبهم وأشغالهم الخاصة، المحبوسين تحت أوامرهم وسيطرتهم، خاضعين لهم ذليلين حقيرين، يتصرفون فيهم كيف شاؤوا. ومع ذلك هم تاركين لكثير من الواجبات، فاعلين لكثير من المحرمات، لا يفرقون بين الحق والباطل، ولا يعرفون من الإسلام إلا اسمه، ولا من شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله إلا لفظها، فهؤلاء مثلهم. ومن شك في ردتهم عن الإسلام، فهو لم يعرف الدين الصحيح، ولم يشم رائحة العلم النافع، ومثل هذه الخدمة محرمة بنص الكتاب والسنة وإجماع الأمة. القسم الثاني: الأجراء على أعمال معينة، كبناء البيوت، وحفر الآبار، وإصلاح السكك، وما أشبه ذلك في أجور معينة، يومية أو شهرية، فمثل هذه الإجارة جائزة مع الضرورة، بشرط بعدهم الجزء: 15 ¦ الصفحة: 486 عنهم، وعدم الخضوع والاستذلال لهم، والقيام بواجبات الإسلام وأدائها على الوجه المشروع. إذا فهمتم ما تقدم من استحكام غربة الدين، وانتهاك الحرمات، وانتشار الفسوق والعقائد الفاسدة، والفرق بين التولي والموالاة، وحكم السفر إلى بلاد المشركين، وبيان كيفية إظهار الدين، والفرق بين الخدمة عند المشركين والإجارة معهم، فواجب عليكم أن تتعلموا الدين الصحيح لتعملوا به، وتعرفوا أهله فتوالوهم وتحبوهم، وتعرفوا الشر لتجتنبوه، ولتعرفوا أهله فتبغضوهم، وتعادوهم، وتبتعدوا عنهم، ولو كانوا آباءكم أو إخوانكم أو أخواتكم. ولا تكونوا كالأنعام يقودكم الشيطان إلى الآثام، ويتحكم الكفرة فيكم بما شاؤوا، حتى يخرجوكم من دينكم وأنتم لا تشعرون; قفوا عند حدود الله، وقوموا بفرائض الله؛ فالكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني. يا من يهمهم أمر دينهم نصيحتي لكم بالبعد عن المشركين والمنافقين والفاسقين، قال الله لنبيه: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} [سورة الأنعام آية: 68] . إن مرافقة الأشرار عار وهلاك; إنكم في زمان شره كثير وخيره قليل، ابتعدوا عن قرناء السوء، فإنكم إن لم الجزء: 15 ¦ الصفحة: 487 تشاركوهم في عملهم أخذتم بنصيب من الرضى عنهم، والسكوت عن الإنكار عليهم، فتكونوا أنتم وإياهم في الإثم سواء. ومن أعان على معصية ولو بشطر كلمة، كان شريكا فيها; والساكت عن المعصية يقع في معصيتين: السكوت على الباطل، ومرافقة أهله؛ وخير لكم البعد عنهم {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [سورة الطلاق آية: 3-2] . ولو أخذ الإنسان حبله وجاء بحزمة حطب، أو كان حمالا، أو محترفا بقريته، خير له من الدخول والعمل في هذه الشركات الأجنبية. ومن المصيبة أن أكثر العمال اليوم، تهاونوا بالدين، وضيعوا الصلاة التي هي عمود الإسلام؛ ولا دين لمن لا صلاة له، وإذا ضاعت الصلاة، لم يبق دين ولا إسلام. فالصلاة فرض لازم لا تسقط بحال، ما دام العقل موجودا؛ وهي فرض عين على الحر والعبد، والذكر والأنثى، والحاضر والمسافر، والصحيح والسقيم، والغني والفقير. وتارك الصلاة كافر، لا حظ له في الإسلام، بعيد عن كل خير قريب من كل شبر؛ تقرر كفره بالآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، وإجماع الأئمة المقتدى بهم، ولا نطيل بذكر الأدلة لأنها معروفة. والذين يصلون منهم، غالبهم يؤخرونها عق أوقاتها; الجزء: 15 ¦ الصفحة: 488 ولا يؤدون الواجب فيها، قال الله في حقهم: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ} [سورة مريم آية: 59] : فالإضاعة: تأخيرها عن وقتها; وقال تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} [سورة الماعون آية: 5-4] . وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "هم الذين يؤخرون الصلاة عن أوقاتها"؛ فمن يؤخر الصلاة عن وقتها، فهو سفيه معرض عن الله، قد أضله الهوى، والشيطان أغواه، لا دين له ينهاه عن سيئات الذنوب، ولا حياء له يردعه عن العيوب؛ فمثل هذا ليس له عدالة، ولا يقبل له قول شهادة، يجب على المسلمين هجره، والبعد عنه حتى يتوب. ومثل هؤلاء الذين يتعلمون في مدارس الإفرنج، فإن التلميذ على عقيدة أستاذه ودينه وأخلاقه، فهم أضر شيء على المجتمع الإسلامي، ولا يغتر بهم إلا جاهل. فإن أعداء الله ورسوله قد علموا أن أعظم ما يبطل إلحادهم، دين الإسلام؛ فنحوا الدين عن المتعلمين وأبعدوه عن مدارسهم بالكلية، أو يجعلون التعليم في الدين شيئا ضعيفا اسما بلا مسمى. وهذه العلوم العصرية 1 هي مبادئ الإلحاد ومقدماته،   1 يعني بالعلوم العصرية, التي تؤدي إلى الإلحاد, وتعليم التمثيل والأغاني, والألحان, وتعليم الغيب بالنجوم والكواكب, وعلوم الفلسفة. أما العلوم الأخرى, كعلم طبقات الأرض, التي بها يستطيع الإنسان معرفة ما خبأ الله لعبده من كنوز, وعلوم الطب, والهندسة, وغيرها التي تفيد المجتمع, وتقوي الأمم, فهي من العلوم التي يأتي الله بها المسلمين, ليكونوا أقوياء أعزاء وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة [الأنفال: 60] كي يرهبوا أعداء الدين. أما ما نراه على النشئ الذين يتعلمون في مدارس الكفار, من التحلل من الدين, فهو لما ينفثونهم من سموم الإلحاد والبعد عن الدين الحق. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 489 ولهذا نرى النشء الجديد المتعلم في مدارس الشركات، لا قدر للدّين عندهم، ولا بصيرة لهم فيه، لضعف تعليمه عندهم. ومتى ضعفت البصيرة في الدين والقلوب، وتعلقت بغيره، انهارت الأديان والأخلاق كما هو مشاهد؛ وهذا النشء المتعلم في مدارس الشركات في الداخل أو الخارج، وبعض العمال، هم أكبر سلاح على أمتهم في إفساد الأخلاق والأديان، فلا يغتر بهم. أيها المسلمون العزة لله ولرسوله وللمؤمنين، ولا تهنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين، لا تذلوا أنفسكم لأعداء الله، ولا تبيعوا دينكم بعرض من الدنيا هل من سامع للنصيحة؟ هل من مطيع لأوامر الله ورسوله؟ هل من منته عما الجزء: 15 ¦ الصفحة: 490 نهى الله ورسوله عنه؟ فيسعد في الدنيا والآخرة. فإن اضطررتم أيها المسلمون إلى العمل بالأجرة، في معامل هذه الشركات الأجنبية، وبليتم بمخالطة هؤلاء الأجناس الأرجاس، الذين لا دين لهم مستقيم، ولا أخلاق شريفة، فإن حكومتكم أيدها الله، قد أخذت لكم الحقوق منهم تامة، ورفعت لكم الأجور، وحفظت لكم المصالح، وميزتكم عمن سواكم، لشرف الإسلام. فعليكم بتقوى الله سبحانه وتعالى، والقيام بواجبات الإسلام، والعمل بتعاليمه؛ وأعظمها بعد الشهادتين: الصلاة في أوقاتها جماعة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لجماعتكم المسلمين، وأداء النصيحة لهم، والبعد عمن أخل بدينه منهم، اهجروهم، لا تؤاكلوهم، ولا تشاربوهم، ولا تجالسوهم، واحذروا منهم: وبيّنوا حالهم ليعاملوا بما يستحقونه. ولا تخضعوا للكافرين، ولا تبدؤوهم بالسلام، ولا تعظموهم في شيء من الأمور، وأظهروا لهم البغضاء والعداوة، وأدوا الأمانة لمن ائتمنكم، ولا تخونوا من خانكم، وخذوا ما لكم من الحقوق، وأدّوا ما عليكم منها، ولا تطيعوا في معصية الله أحدا أبدا كائنا من كان. "لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق" 1. لا تبدؤوهم بالسلام، ولا تقوموا لهم، وإذا لقوكم في طريق فاضطروهم إلى أضيقه، ولا تقلدوهم في شيء من   1 مسلم: الإمارة (1840) , والنسائي: البيعة (4205) , وأبو داود: الجهاد (2625) , وأحمد (1/131) . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 491 أمورهم وأفعالهم، خالفوا اليهود، يقول نبيكم صلى الله عليه وسلم: "من تشبه بقوم فهو منهم" 1، واحذروا شرب شيء من المسكرات، واستماع الغناء وآلات اللهو، كالسينما، والصندوق، والربابة، والسمسمية، والمزامير، سواء أكانت من الراديو أو غيره. وصلى الله على محمد. آخر الجزء الخامس عشر ويليه السادس عشر وفيه بقية البيان الواضح، وتراجم أصحاب تلك الرسائل والأجوبة.   1 أبو داود: اللباس (4031) . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 492 المجلد السادس عشر: (القسم الثاني من البيان الواضح، وتراجم أصحاب تلك الرسائل والأجوبة) الباب التاسع (تابع) الفصل الثالث: السبب الأعظم لضعف العلم والإسلام ... بسم الله الرحمن الرحيم القسم الثاني من البيان الواضح الفصل الثالث من الباب التاسع [السبب الأعظم لضعف العلم والإسلام] والسبب الأعظم لضعف العلم والإسلام، والكسر الذي لا ينجبر، والطامة الكبرى: استجلاب معلمين ملحدين من البلدان المنحلة، لنشر الثقافة - يعني الغربية - ورفع الأمية. ويحملون معهم برنامج التعليم الذي يشتمل على فنون محظورة، من تصوير، وغيرها مما له معاهد في تلك الأوطان في بلادهم، التي أعرضت عن دين الله وشرعه، واشتهرت فيها شعائر الكفر، ليجتثوا الإسلام من أصله، بسبب ما هم عليه من عداء، وما في قلوبهم من حقد، قال تعالى: {إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ} [سورة الممتحنة آية: 2] . وقد أخذ عنهم أكثر الشباب مواد تعليمهم وتخلقوا بأخلاقهم، فيا ليتنا تلقيناهم بنحورنا نصرة لدين الله فمنعناهم، أو نلنا الشهادة؛ وعذرنا غدا بين يدي رب الجزء: 16 ¦ الصفحة: 5 العالمين; وفضل الجهاد في سبيل الله قد أفرد بالمصنفات، وفي أثناء كتب الحديث وغيرها. وقد حدثني من لا أتهم: أن فلانا قال للشيخ عبد الرحمن بن حسن: يا شيخ عبد الرحمن، جدك الشيخ محمد جاء بشجرة لا إله إلا الله، فغرسها في بلدة العيينة، فصارت الأرض صلدة سبخة، فحملها إلى الدرعية، فصارت الأرض خصبة، فسقاها بالدعوة، وحماها محمد بن سعود بالسيف، فأينعت، وأراها في عصركم خوت; هذا والشيخ عبد الرحمن بن حسن يقول: لو ظهر علينا أهل الدرعية لقاتلونا. وفي عصر الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف وطبقته صارت أشد خويانا، لأن المحتسبين في عصر الشيخ عبد الرحمن بن حسن أمسكوا كاتب الإمام فيصل، خرج من بيت فيه عزب، وطلبوا من الإمام ضربه في السوق، فقال: اضربوه في الحوشة. فأتوا إلى الشيخ عبد الرحمن بن حسن، فقال للإمام فيصل: يضرب الرجل في السوق; فقال الإمام: يضرب في الحوشة، فقال الشيخ: نسلم عليك، وخرج من الرياض إلى بلدة الحوطة. فتبعه الإمام فيصل، وطلب منه أن يرجع; فقال: عاهدناك على دين الله ورسوله، ولا أرجع حتى تعاهدني الجزء: 16 ¦ الصفحة: 6 الآن على ذلك، والرجل يضرب في السوق، فعاهده، وضرب في السوق. وفي عصر الشيخ عبد الله: كنت أسير معه من المسجد إلى بيته في بعض الأيام، وذات يوم تبعه رجل من الإخوان، فأدركه في أثناء الطريق، فقال: يا شيخ عبد الله، هذا الكافر "فلبى" يدخل المسجد، أفلا نقتله؟ قال: لا يا ولدي، قال: أفلا نخرجه منه؟ ولم أحفظ ما قاله، فالتفت الشيخ إليه، فإذا هو قد ولى مدبرا، فالتفت إلي ودموعه على خديه، وقال بحزن: إيه سوف يعلمون. وأخبرني الشيخ عبد العزيز بن صالح بن مرشد باسم الرجل، وقال: إنه قال: أخرجوه أخرجوه، سوف يعلمون، سوف يعلمون، فلا أدري هل ما قاله مرة أخرى، أو تلك المرة، لأنه يقيم في البلد، ومن أخص الناس بالشيخ عبد الله. وكان الشيخ سعد بن عتيق يذكر الناس في السوق، ولما مر بقوله صلى الله عليه وسلم "طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله" 1 وأنهى الكلام عليه، قام على قدميه ورفع صوته وهو يبكي فقال: ينزل النصراني في بيت أرفع من بيوت المسلمين التي حوله؟! وأزعج الناس. وكان عنده من رجال الملك عبد العزيز، فأخبروه،   1 البخاري: الجهاد والسير (2887) . الجزء: 16 ¦ الصفحة: 7 ثم توجه الملك إلى الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف، وذكر له ما قال الشيخ سعد في السوق، فقال الشيخ عبد الله: نحن سكتنا، وتكلم الشيخ سعد بالواجب. وفي هذا العصر ضعفت الغيرة الدينية من الأكثر، بسبب القادمين من بلاد الخارج، والتابعين لهم، فجاؤوا إلى شجرة لا إله إلا الله، التي جاء بها وغذاها المصلح، وأيدها بسيفه الناصر للدين، ليقتلعوها من وطن ازدهرت فيه برهة من الزمن. إن لم تدارك بتكاتف العلماء، ومساعدة الرؤساء، فلسوف تزال، كما زالت من تلك الأمصار، التي كانت هي مقر الإسلام وولاته، ومجتمع العلماء، وتبليغ العلم; وفي انحرافهم لنا عبرة ألا نسلك مسالكهم، وألا يتسرب إلينا باطلهم. وجدير بولاة الأمر والعلماء الاقتفاء بآثار آبائهم وسلفهم الصالح، وأن يبنوا ما تهدم من بنائهم الرفيع، ليفوزوا بحسن الثناء في الدنيا، والأجر الجزيل في الآخرة، وألا يذهب العلم والإسلام من وطنه الذي بناه سلفهم الصالح، وأن يقتفوا آثارهم في تعليم العلم وحماية الإسلام، وأن يزيلوا بدع ما جاء به أذناب المنحلين من صفة تعلمهم المضعف للعلم. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 8 وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: العلوم المفضولة إذا أضعفت العلم، حرمت، فكيف بالعلوم المحظورة، ثم بترقب شهادات لمقدار الأجر؟! وفي الحديث: "من تعلم علما مما يبتغى به وجه الله، لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضا من الدنيا، لم يجد عرف الجنة يوم القيامة" 1 يعني: ريحها. وذكر لنا الشيخ عبد الله بن محمد بن حميد عن العاصمي، فقال ما معناه: إن أول مدرسة نظامية بنيت ببغداد، وطلب لها العلماء، وأجري لهم ولطلاب العلم مرتبات، والتحق بها كثير؛ ولما علم علماء بخارى بكوا بكاء شديدا، متأسفين على العلوم الإسلامية. فقيل لهم: ما هذا البكاء؟ وما هذا الجزع؟ ما هي إلا مدرسة دينية للعلم، كالتفسير، والحديث، والفقه، وغيرها; فقال العلماء: إن العلم شريف في نفسه سام، لا يحمله إلا النفوس السامية الزكية الشريفة، ويشرفون بشرف العلم. أما إذا أجريت المرتبات لطلابه، أقبل إليه من لا خير فيه، من السقطة والأراذل الذين يريدون بتعلمهم العلم لنيل المناصب، والوظائف، وأخذ المرتبات، فيزول العلم ويسقط بسقوط وإزالة حملته، فيصبح العلم الشريف لا قيمة له.   1 أبو داود: العلم (3664) , وابن ماجه: المقدمة (252) , وأحمد (2/338) . الجزء: 16 ¦ الصفحة: 9 ثم قال العاصمي: أما اليوم فلا طالب ولا مطلوب، ولا راغب فيه ولا مرغوب، لفساد الزمان. انتهى. وذلك في تلك العصور المعروف عن أهلها الجد في العلم النافع، واتساعه في أقطار الأرض؛ وفي هذا العصر، في العقد التاسع من القرن الرابع عشر، خلت المساجد، وبنيت المدارس، وأجريت الأجور، وأثبتت الشهادات لكل فصل، لمقادير الأجور والرتب. فيا حسرتاه! واحزناه! وارباه! واحر قلباه! لقد غزانا في هذه البقعة المباركة، التي ازدهرت فيها هذه الدعوة المباركة، وفيها مهابط الوحي: الألوف من أهل الخارج، ذكورا وإناثا، باسم التعليم والتربية، والتمريض، وغيرها. وفي برنامجهم: الحقوق، والطبيعة، والتصوير، والمادة وغيرها مما يزيد على ثلاثين فنا لإضعاف العلم النافع، أمنية أعداء الإسلام ليملكوا المسلمين. فيا لله! يا للمسلمين! وفيما ذكره علماؤنا الذين لهم غيرة لله كفاية. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 10 [رسالة الشيخ عبد الله بن محمد بن حميد إلى حضرة معالي وزير المعارف يوصيه بتقوى الله، ويظهر تأسفه الشديد بشأن بث الأخلاق السيئة] قال الشيخ عبد الله بن محمد بن حميد، رحمه الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله بن محمد بن حميد، إلى حضرة معالي وزير المعارف، حفظه الله. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، على الدوام، أدام المولى على الجميع نعمه. وبعد: فإني أوصيك ونفسي بتقوى الله تعالى، ومراقبته في السر والعلانية؛ فإنها سبيل السلامة والنجاة في الدنيا والآخرة. وإني أسطر لكم هذه الأحرف، حينما بلغني ما يسوؤني ويسوؤكم، ويسوء كل مسلم غيور على دينه، وعلى الأمة الإسلامية والأخلاق الحسنة. فإن هذه الوزارة التي هي وزارة المعارف، والتي أنتم تديرونها وأنتم الرائد الأول لها، قد أصبحت الآن مصدرا كبيرا لبث الأخلاق السيئة، وتبلبل الأذهان، واضمحلال العقيدة السلفية التي غرسها أوائلكم الأفاضل، في هذه الجزيرة. وإنا والله نأسف أشد الأسف أن يحصل مثل هذا مع وجودكم، وأنتم الآن بأيديكم زمام هذا النشء، وتستطيعون قيادته إلى المكان الأعلى، ومع ذلك تهملون هذا الإهمال المتناهي. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 11 بل لم تقتصروا على ذلك، حتى كنتم سببا لإدخال من أراد أن يهدم عقيدتكم، وعقيدة آبائكم، وعزكم وعز آبائكم، وما ذاك إلا باجتلابكم هؤلاء الزنادقة، وبثهم في كل صقع من المملكة، وإغرائهم وتشجيعهم بكثرة المرتبات، وعدم المراقبة عليهم فيما يبثون بين النشء، من هذه السموم القتالة، من أخلاق منحرفة، ودعايات سيئة، دعايات المجون والخلاعة، دعايات الزندقة والإلحاد، دعايات التهكم بهذا الدين ورجاله. ولقد بلغني أنه يوجد في كلية الشريعة بمكة، التي أسست لتكون مركزا لنشر العلم الصحيح، والدين القويم، وتعتبر أرقى مرحلة من مراحل التعليم، والتي تخرج رجال القضاء والتعليم الديني، يوجد فيها شخص يسمى "الدكتور فوزي بشبيشي" قد تجاوز الحد، وتمادى في الطغيان، وبلبلة أذهان الطلاب. ومع انحلاله من الدين، أصبح أكبر داعية للإلحاد والزندقة، والتهكم بالدين وحملته، وتلقيبهم بالتغفيل والرجعية، ومع ذلك له سنوات في هذه الكلية مكرما ومعززا. وإليكم شيئا مما ثبت لدينا عنه، فمنها: رميه أسئلة التفسير - مع ما اشتملت عليه من الآيات القرآنية - على الجزء: 16 ¦ الصفحة: 12 الأرض، ودوسها بقدميه، وعندما قيل له: هذا حرام; قال: لا حلال ولا حرام، إنما هذه عقيدة أمهاتكم، التي ورثتم عنهن. ومنها: حينما سأله أحد الطلاب عن مسألة، يقول له: اذهب احلق ذقنك، وتعال أعلمك. ومنها: حثه على حلق اللحى، وشرب الدخان، وقوله: إن فعل هذه الأشياء تحرر من القيود; فما أشبه هذه الدعوة بدعوة: صاحب الأغلال. ومنها: إملاؤه على الطلاب في دفاترهم، ما يبعث في نفوسهم حب اللهو والغناء والميول إلى المجون، كقوله: ولو أنكم قرأتم الشعر الغنائي، أو سمعتموه من شادي العرب عبد الوهاب، ومطربة الجيل أم كلثوم، لرأيتم أو سمعتم أن معظم الأغنيات تدور معانيها حول العذرية، التي تسعى إليك، وعن يمينها نار الشوق، وعن يسارها روح الحرمان، وبين خطاها آهات وأنات، كأنما فيها كبد حرّى، وقلب مقتل، وروح مهمومة مهيمة. ومنها: ترديده دائما هذه العبارة: لولا مصر لذهب الدين من الوجود ... إلى غير ذلك، كإلقائه التفرقة بين الطلاب الحجازيين والنجديين، وقوله: أنا أريد أن أبلبل أذهانكم، وأشككم، لتصلوا إلى اليقين، فإنا لله وإنا إليه راجعون. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 13 فإذا كان هذا يوجد من شخص واحد، ومع ذلك أقام سنوات يبث هذه الأشياء ولا يلغى انتدابه؛ بل ولا يشعر به، فكيف تكون الحالة إذاً، وأضرابه يعدون بالآلاف؟ أليس هذا مؤذنا بهلاك عاجل، أي هلاك؟! إذا ما السور هدمه أناس وسيبهم ذووه فقد أعانوا والله لذهاب الأرواح وفناء الأشباح، أيسر وأخف من هذه الأمور، التي تزيل العقيدة، وتذهب الأخلاق الحميدة، هذا ما حصل من ناحية واحدة من نواحي التعليم، وإن كانت هي أعظم مصيبة. ولكن أضف إلى ذلك ما حصل في مناهج التعليم من التغيير والتبديل، وإضعاف العلوم الدينية والعربية؛ حتى أصبحت الآن هذه المواد قسمتها قسمة ضيزى بالنسبة لسائر الفنون المحدثة. ولا شك أن فقد هذه العلوم مصيبة كبرى ورزية عظمى; إن التعليم بدونها يعتبر خطراً عظيماً على هذا النشء، وهذه النابتة; وإنه لمما يخجل أن يسمع الطالب الذي يحمل الشهادة الابتدائية، يحاول أن يقرا شيئا من القرآن، فلا يستطيع من الخجل، لعدم معرفته له. ومع ذلك تعتبر هذه السنة آخر مراحل التعليم بالنسبة للقرآن، فلا يدرس في المراحل المتوسطة، ولا في الجزء: 16 ¦ الصفحة: 14 الثانوية; فليت شعري متى يستطيع أن يقرأ القرآن، من هذه حاله؟! وهذا من أعظم الأسباب للابتعاد عنه، وعدم تأمله ومحبته، لأن من جهل شيئا أنكره. وإذا كان هذا القرآن - وهو إنما يدرس عندهم نظرا مع ضبطه بالشكل - فكيف ببقية علوم الدين؟! وما ذاك إلا بسبب هذه الفنون المعوقة، كالرسوم، والأشغال، والرياضة البدنية، والألعاب الأخرى، مع وجود عوامل أخرى، كضعف المواد التي تمت إلى الدين والأخلاق بصلة، وعدم وجود المدرسين الأكفاء؛ بل الأغلبية من أولئك المشار إليهم سابقا، مما كان سببا في استياء أخلاق الشباب، وفساد طرايقهم وتغير فطرهم، كما هو مشاهد، يدخل أحدهم المدرسة سليم الفطرة، محبا للخير، آلفا للطاعة؛ ثم يخرج منها قد زال كل ذلك منه، لتغير فطرته وانحراف عقيدته، مبتعدا عن الله، وعن أهل الخير من خلقه، حتى من أبيه الأدنى المربي له، القائم بشؤونه ومهماته؛ وما هذا إلا لعدم تمكن أوامر الإسلام ونواهيه من قلبه. ومما لا شك فيه أن للمدرس أثرا كبيرا في هذه الناحية؛ فإن الأستاذ بالنسبة إلى الطالب كالقلب بالنسبة إلى سائر الأعضاء في البدن; فإن الأعضاء تقول له: اتق الله فإنما نحن بك، فإن استقمت استقمنا، وإن اعوججت اعوججنا. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 15 فيجب اختيار الأكفاء من المدرسين، الذين ظاهرهم العدالة والصلاح، والابتعاد عن كل رذيلة، المتمسكين بالأخلاق الحسنة والصفات الجميلة: يشقى رجال ويشقى آخرون بهم ويسعد الله أقواما بأقوام هذا وقد أشيع بأن وزارة المعارف قد أزمعت على استجلاب أفلام سينمائية، لبثها في عدد من المدارس؛ وأنا لا أصدق ولا أكذب في هذا أن يوجد، لكني أحذر وأنذر عن نشرها وفشوها في المدارس. بل يجب إبعادها وطردها، مقرونة بالذل والصغار، لمن يريد إدخالها في هذه البلاد، ليضلل بها النشء إضلالا فوق إضلاله، لما احتوت عليه من الضرر الكبير والفساد العريض، حتى ولو قيل فيها ما قيل من التأويلات البعيدة؛ إذ الوسائل لها حكم الغايات، والداء إذا تمكن صعب علاجه، والدفع أسهل من الرفع، والعاقل النابه الحكيم، متى عرض مضارها على عقله السليم، لم يغتر بمن حاد عن الصراط المستقيم. والواقع أن هذه وأمثالها من العلوم الحديثة، إما أن تكون مفضولة، أو مباحة على الأقل، وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إن العلوم المفضولة إذا زاحمت العلوم الفاضلة صارت مكروهة؛ وإن أضعفتها الجزء: 16 ¦ الصفحة: 16 صارت محرمة. وإني أكتب لكم هذا الكتاب لما أجده لكم من النصح والشفقة، فالمحب الصادق هو من يجرع صديقه المر، ليقيه من الوقوع في الضر. ما ناصحتك خبايا الود من أحد ... ما لم ينلك بمكروه من العذل مودتي لك تأبى أن تسامحني ... بأن أراك على شيء من الزلل وختاما؛ أسأل الله تعالى أن يمن بالتوفيق علينا وعليكم، وعلى كافة المسلمين، وأن يأخذ بنواصينا إلى أقوم طريق؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم على محمد، وآله وصحبه. [مقال للشيخ عبد الله بن محمد بن حميد في التربية والتعليم] وقال رحمه الله: التربية والتعليم 1. إن مما لا شك فيه ولا امتراء أن فساد الأمة وصلاحها، ناشئ عن حسن تربيتها لأولادها، وتعليمها لهم التربية الحسنة، والتعليم النافع، والعكس بالعكس، كما اتفق العقلاء على هذا. فمتى كانت التربية حسنة جارية على السنن المستقيمة، والآداب الشرعية، والتعليم نافعا، حسب أوامر الدين   1 نشر هذه المقال في جريدة اليمامة، بعددها 130 وتاريخ 3/1/1378هـ قبل أن تكون مجلة. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 17 وتعاليمه، أمرا ونهيا واعتقادا، أنبتت تلك التربية والتعليم رجالا ذوي نصح وأمانة، وخبرة ووفاء، وصدق وإخاء، واتحاد في الكلمة. بهم تستقيم الأمة، وتنتظم أمورها الدينية والدنيوية، وأعادوا بمساعيهم السامية، كل خير ونفع للبلاد والأمة، فأجدر بهم أن يكونوا غررا في جبين التأريخ، لأن فلاح الأمة في صلاح أعمالها، وصلاح أعمالها في صحة علومها، وصحة علومها منتج لرجال أمناء مخلصين فيما يعملون. وإن كانت التربية والتعليم بعكس ذلك، خابت الآمال، وفسد الدين والدنيا، وأصبحوا في جهل وفقر وحالة سيئة، كمن مس العلم بقرحه، ووضع في سبيل فلاح الأمة حجر عثرة يعرفه كل عاقل. لأنه أمر معلوم، لا يحتاج إلى دليل من أن الصبي إذا بلغ مبلغ الرجال، صارت أعماله وأحواله على مثل ما نشأ عليه وتربى به، وتعلمه في الصغر؛ فهو إنما ينسج على المنوال الذي عرفه في صباه. وقد علم أن أول شيء يقع عليه نظر حديث السن، يأخذ من قلبه المكان الأول، ويصادف منه قلبا خاليا من الشواغل، فينطبع في ذاكرته ويتمكن منه، ولا يتحول منه إلى غيره غالبا. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 18 ولهذا كان للتعليم سن محدود غالبا، إذا تجاوزه الصبي مهملا، غير متعاهد بالتربية الحسنة والتعليم النافع صار تأديب المؤدب له مما لا فائدة فيه، ومن العبث الذي لا ينجح، ولا يأتي بطائل. قد ينفع الأدب الأحداث في صغر وليس ينفعهم من بعده الأدب فإن تعليم الولد في صغره، عبارة عن تغذية روحه، بما تتهذب به أخلاقه، وتزكو بشمائله، وتحسن مقاصده؛ بحيث يكون ميله إلى الخير ومحبته له، ونفرته من الشر وبغضه له، ملكة في نفسه. وهذه التغذية النافعة، إن لم تكن أنفع وأجل من تغذية البدن، بما يقوى بها البدن، وتنمو بها الأعضاء، فليست دونها؛ مع أن الكمال الإنساني لا يتوقف على بسطة واعتدال البدن، التي هي ربما أنها نتيجة التربية الجسدية. فإن من الناس من قوته الأسودان التمر والماء، وشيء من خبز وشعير ونحوه، ولم يكونوا ممن يتهيأ لهم نفيس المطاعم والمشارب، بل على شظف من العيش وقلة من الدنيا، ومع هذا دانت لهم أعناق الملوك الصيد، وذلت لهيبتهم الأعزة. أتظن أنهم نالوا ذلك بحسنهم وجمالهم ونفيس الجزء: 16 ¦ الصفحة: 19 أطعمتهم؟ أم بوفرة أموالهم وكثرة عددهم؟ أم بمتانة عددهم، أو تفننهم في أساليب السياسة؟ لا والله، ما نالوا ذلك إلا بدين وعلم، وآداب وأخلاق فاضلة، أخذوها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فبالدين يصلح كل شيء، ويستقيم كل معوج. بغير الدين لا نرجو صلاحا ... بغير الدين لا يحلو البقاء إذا ما الدين ضيعه بنوه ... على الدنيا على الدنيا العفاء فيا أيها الآباء والمعلمون، ويا أيها العلماء والمسؤولون، خذوا بأيدي هذه الشبيبة واهدوهم إلى محاسن الدين، بغرس محبته في قلوبهم، وتعظيمه في نفوسهم، بشرح محاسنه وفضائله، وما امتاز به على غيره؛ فقد رسم أعداء الإسلام خططا، ووضعوا مناهج لصرف بني الإسلام، وإغرائهم بهذه المدنية الزائفة التي معظمها فساد وبلاء. يا قوم ضعنا وضاع الدين من يدنا ... لما جعلنا بوجه الدين تشويها والله المسؤول أن يأخذ بأيدي المسلمين جميعا، إلى ما فيه هدايتهم وفلاحهم، وأن يؤيد بهم دينه وشرعه؛ وهو الموفق والهادي إلى سواء السبيل. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 20 [رسالة الشيخ عبد الله بن محمد بن حميد إلى كافة العلماء من أساتذة الكليات والمعاهد في الحث على التربية الصحية] وقال رحمه الله: 1. بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله بن محمد بن حميد، إلى كافة العلماء، من أساتذة الكليات، والمعاهد وغيرها من مدارس الحكومة، حفظهم الله ونفع بعلومهم، آمين. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: تعلمون وفقكم الله ونفع بكم، أن هذه النابتة المتربية في المدارس على تنوعها، هي أمانة تحت أيديكم، أوجب الله عليكم رعايتها وصيانتها، بتعليمها العلوم النافعة، وتربيتها التربية الصحيحة؛ فمتى صحت علومهم واستقامت، أنتجت رجالا مخلصين لدينهم وبلادهم، والعكس بالعكس. فإن العقيدة متى اعتراها شيء من الانحراف، صارت مصدرا للأخلاق المرذولة؛ ومعالجة مثل هذه أصعب بكثير من الانحراف الناشئ عن طغيان الشهوة وحدها; لأن الأول يستهين ببعض محاسن الأدب، بدعوى أنها ليست من الحسن في شيء، ويخرج عن حدود المكارم، بزعم أن هذه الحدود لم تكن على حكمه. والمغلوب للشهوة وحدها، قد ينصرف عن الحسنة   1 ونشر في جريدة حراء في 27 -5 - 1378هـ. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 21 إلى السيئة معترف بخطئه، وينتهك حرمة الحق بدون شك منه على أنه ارتكب جريمة. ونصيحة هذا وموعظته والتأثير عليه، أيسر وأبلغ من منحرف العقيدة، لأن مثل هذا يصير الحق باطلا والباطل حقا، فلا حيلة فيه. وصلاح الأمة وفلاحها ناتج عن صحة أعمالها، وصحة أعمالها ناتج عن صحة علومها؛ فمتى كانت التربية والتعليم جرت على السنن المستقيمة، آداب وأخلاق فاضلة، أنتجت رجالا ذوي نصح وأمانة، وخبرة ووفاء، وصدق وإخاء، واتحاد في الكلمة، وإذا كان بخلاف ذلك، خابت الآمال، وفسد الدين والدنيا، وأصبحوا في جهل وبلاء، وحالة سيئة؛ فبالعلوم النافعة الصحيحة يصلح كل شيء وينتظم كل أمر. فيا أيها العلماء الأجلاء، والأساتذة الفضلاء، خذوا بأيدي هذه الناشئة، واهدوهم إلى محاسن الإسلام، وغرس محبته في قلوبهم، بشرح محاسنه وفضائله، وبيان ما امتاز به على غيره؛ فقد رسم أعداء الإسلام خططا، ووضعوا مناهج لصد بني الإسلام عن الإسلام، وإغرائهم بهذه المدنية الزائفة، التي معظمها شر وبلاء. فقد ألفوا في ذلك المؤلفات العديدة، والرسائل الكثيرة، بأساليب مختلفة؛ فإنهم قالوا في تربية النشء الجزء: 16 ¦ الصفحة: 22 الجديد: يجب أن تكون تربيته على العصبية الجنسية، وإحلال خيالها محل الوجدان الديني، وجعلها بدلا من الأخوة الإيمانية، في قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [سورة الحجرات آية: 10] وفي قوله صلى الله عليه وسلم: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم، كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر" 1، وقوله: "المؤمنون كالبنيان يشد بعضه بعضا" 2؛ تكون بدلا من هذه الأخوة الإسلامية: العصبية الجنسية والوطنية، وإن تباينت دياناتهم، ليحل مكان الوجدان الديني: العصبية الجنسية، ولجعلها في المثل الأعلى للأمة، والفخر برجالها المعروفين في التأريخ، وإن كانوا المفسدين المخربين، بدلا من الفخر برجال الإسلام مثل الخلفاء الراشدين وغيرهم من أبطال الإسلام الذين شهد لهم التأريخ بالفضل والدين، والشجاعة والبطولة والسياسة والحكمة. وما زال أعداء الإسلام مجدين في هدمه، وتغيير عقائد أهله، كما قال "مسيو أتني الأمن الفرنسي": إن مقاومة الإسلام بالقوة، لا يزيده إلا انتشارا؛ فالواسطة الفعالة لهدمه، وتقويض بنيانه، هي: تربية بنيه في المدارس بإلقاء بذور الشك في نفوسهم، من عند النشأة،   1 البخاري: الأدب (6011) , ومسلم: البر والصلة والآداب (2586) , وأحمد (4/270) . 2 البخاري: الصلاة (481) , ومسلم: البر والصلة والآداب (2585) , والترمذي: البر والصلة (1928) , والنسائي: الزكاة (2560) , وأحمد (4/404) . الجزء: 16 ¦ الصفحة: 23 لتفسد عقائدهم من حيث لا يشعرون. انتهى. فهذا لعلمه قابلية الصغير لما يلقى إليه من العلوم الضارة وغيرها، ولعدم تمييزه بين الصحيح وغيره، ولأن الضرر الذي يصعب معالجته هو زيغ العقيدة، فإن زيغها مصدر كل شر وبلاء، ومصدر كل الأخلاق الرذيلة. وانظر إلى ما قاله وزير رئيس إرساليات التبشير، فقد عقد مؤتمرا في القرن الماضي، حضره دعاة التبشير، وهذا نص خطابه، ليعرف منه مقاصده ومراميه. قال: أيها الإخوان الأبطال، والزملاء الذين كتب الله لهم الجهاد في سبيل المسيحية واستعمارها لبلاد الإسلام؛ فأحاطتهم عناية الرب بالتوفيق الجليل المقدس، لقد أديتم الرسالة التي أنيطت بكم أحسن الأداء، ووفقتم لها أسمى التوفيق، وإن كان إنه يخيل إلي أنه مع إتمامكم العمل على أكمل الوجوه، لم يفطن بعضكم إلى الغاية الأساسية منه. إني أخبركم على أن الذين دخلوا من المسلمين في حظيرة المسيحية لم يكونوا مسلمين حقيقيين؛ لقد كانوا كما قلتم أحد ثلاثة: إما صغير لم يكن له من أهله من يعرفه ما هو الإسلام، أو رجل مستخف بالأديان لا يبغى غير الحصول على قوته، وقد اشتد به الفقر، وعزت عليه لقمة العيش; وآخر: يبغي الوصول إلى غاية من الغايات الشخصية. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 24 ولكن مهمة التبشير التي ندبتكم لها دول المسيحية، للقيام بها في البلاد المحمدية، ليست هي إدخال المسلمين في المسيحية؛ فإن في هذه هداية لهم وتكريما. وإن مهمتكم: أن تخرجوا المسلم من الإسلام، ليصبح مخلوقا لا صلة له بالله؛ وبالتالي لا صلة له تربطه بالأخلاق، التي تعتمد عليها الأمم في حياتها. وبذلك تكونون أنتم بعملكم هذا، طليعة الفتح الاستعماري، في الممالك الإسلامية؛ وهذا ما قمتم به من خلال الأعوام الماضية السالفة خير قيام؛ وهذا ما هنأتكم عليه وتهنئكم دول المسيحية والمسيحيون جميعا كل التهنئة ... إلى أن قال: إنكم أعددتم بوسائلكم جميع العقول في الممالك الإسلامية إلى قبول السير في الطريق الذي مهدتم له كل التمهيد، إنكم أعددتم نشءا في ديار المسلمين، لا يعرفون الصلة بالله، ولا يريد أن يعرفها، وأخرجتم المسلم من الإسلام ولم تدخلوه في المسيحية. وبالتالي جاء النشء الإسلامي طبقا لما أراده له الاستعمار المسيحي، لا يهتم بالعظائم، ويحب الراحة والكسل، ولا يصرف همه في دنياه إلا في الشهوات؛ فإن تعلم فللشهوات، وإذا جمع المال فللشهوات، وإن تبوأ أسمى المراكز ففي سبيل الشهوات يجود بكل شيء. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 25 إن مهمتكم تمت على أكمل الوجوه، وانتهيتم إلى خير النتائج، وباركتكم المسيحية، ورضي عنكم الاستعمار؛ فاستمروا في أداء رسالتكم، فقد أصبحتم بفضل جهادكم المبارك موضع بركات الرب. انتهى. يشير هذا الخبيث: إلى الحث على تشكيك المسلمين، وبقائهم حيارى، خصوصا النشء الجديد، وأنهم إن تعلموا، أو جمعوا مالا، أو تبوَّؤوا مركزا ما، ففي سبيل شهواتهم؛ ويكونون بعيدين عن معرفة خالقهم ومعبودهم، وإذا تم لهم ذلك أصبح النشء لا يهتم بأي عظيمة في دينه وأمته، وهذا مما يمهد الطريق إلى أغراض المستعمرين، لاستحلال الممالك الإسلامية. وقد قال زويمل أيضا في كتابه "العالم الإسلامي اليوم": يجب تبشير المسلمين بواسطة من أنفسهم ومن بين صفوفهم; لأن الشجرة يجب قطعها بأغصانها; وإن من المحقق أن المسلمين قد نما في قلوبهم الميل الشديد إلى علوم الأوربيين، وأن هذه العلوم ستزاحم العلوم الإسلامية، وتضعفها من نفوسهم. انتهى. إن غرض هذا القس وأمثاله، كسر هنري جونستون، والمستر بلس، وشاتليه، وأشباههم، الذين كتبوا في هذا المعنى، إنما غرضهم تربية العقول في عهد نشأتها طبق ما يريدون من إدخال العلوم الأوربية على العلوم الجزء: 16 ¦ الصفحة: 26 الإسلامية، وتنميتها في قلوبهم لينجذبوا بها إليهم، بتعظيمهم، وتعظيم آرائهم، وإخراج المسلم من الإسلام، أو جعله في حيرة من دينه، إلى غير ذلك من الأغراض الفاسدة. فيجب على العلماء الأجلاء، والأساتذة الفضلاء، أن يعتنوا بهذا النشء، بتحذيرهم من قراءة بعض الكتب والمقالات، التي يكتبها بعض تلامذة أوربا، المنتسبين إلى الإسلام، وأن يبينوا لهم عظمة الدين الإسلامي، وما هو عليه من المحاسن والمزايا التي لا يوجد نظيرها في غيره. كما أن الطلاب النجباء، إذا لاحت لهم شبهة، أو أمر ارتابوا فيه، يسألون العلماء، من الأساتذة وغيرهم، ليكشفوا ما بهم من شبهة، ويوضحوا ما فيه من إشكال; وإني معتقد أن الأساتذة الأجلاء، قائمون بواجبهم نحو هذه الناشئة، فيما يعود عليهم خيره ونفعه في علومهم وأخلاقهم. بارك الله فيهم ونفع بعلومهم الإسلام والمسلمين؛ والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 27 [رد الشيخ عبد الله بن محمد بن حميد على ما كتب في صحيفة القصيم تحت عنوان "مبادؤنا الأصيلة"] وقال أيضا رحمه الله: 1 بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله بن محمد بن حميد إلى حضرة ... حفظه الله، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: اطلعت على كلمتكم في صحيفة القصيم، في عددها 95 وتأريخ 8/5/1381? تحت عنوان "مبادؤنا الأصيلة" ولعلمي بأن هدفكم الحق، ورائدكم الإصلاح، لاحظت على بعض فقرات فيها، أحببت تنبيهكم عليها. فمنها: أنكم ذكرتم أن من الواجب الطبيعي الخوض في هذه الأمور الهامة ... إلى آخره. فنفيدكم: أن الطبيعة لا توجب شيئا، ولا واجب إلا ما أوجبه الشرع فقط؟ ثم إنكم علقتم أملكم بأصحاب الفكر والتوجيه، ولو قيدتم ذلك بما تقتضيه الشريعة الإسلامية، أو على الأقل بما لا يخالف الدين الإسلامي، لكان هو الواجب. ثم إنكم وضحتم هذا الأمر المهم الذي توجبه الطبيعة - على حد تعبيركم - وهو النظام السياسي، والاقتصادي، والاجتماعي، لبلادنا، ويلاحظ من هذا: حصر الأهمية وشدة الحاجة إلى هذه الثلاث فقط، ولم تذكروا معها   1 نشر في جريدة القصيم 6 1381?. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 28 أهمية هذا الدين، وشدة الحاجة إلى التمسك به، وإلى فهمه فهما صحيحا، وتطبيقه تطبيقا شاملا. فإنه متى فهم وطبق بجميع تعاليمه، فإنه كاف، بل هو الغاية في حل جميع المشاكل، ومن جملتها: النظم السياسية والاقتصادية والاجتماعية. ومنها: قولكم: الكل يعلم أن باب الاجتهاد مقفول أمام الجميع، باستثناء القلة، التي هي نفسها لا تفعل شيئا سوى نقل النصوص الفقهية، التي كتبت من مئات السنين. فنقول: إن أريد بالاجتهاد هنا مجاوزة الشريعة وتخطيهما إلى غيرها، ووضع النظم المستمدة من سواها، المأخوذة من الأفكار والعقول التي لا تمشي على الأسس الشرعية، فنعم، هذا مقفول عن كل إنسان يدين بالشريعة المحمدية، ويلتزم بأحكامها، لكمالها واستيفائها لكل ما يحتاج إليه، قال الله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [سورة الأنعام آية: 38] . وإن أريد بذلك الاجتهاد: استنباط الأحكام الشرعية، والنظم السياسية، والاقتصادية والاجتماعية، وتطبيقها على ما يقتضيه الكتاب والسنة، وأقوال السلف الصالح، فهذا خلاف الواقع. فإنه لم يحصر على بعض القلة القليلة، كما قلتم الجزء: 16 ¦ الصفحة: 29 ولله الحمد - بل ولا على طائفة مهما كثرت، ولا على جيل معين، ولا في زمن مخصوص، من حين وفاته صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا. بل أجمع علماء الشريعة على وجوب العمل بما يقتضيه الكتاب والسنة، وقبوله ممن أتى به كائنا من كان. وأما قولكم: باستثناء بعض القلة القليلة، فقد وضحنا أن هذا خلاف الواقع، وأنه لم يحصر على طائفة معينة، وإن كان جمهور الناس أعرضوا عن تعاليم دينهم، والعمل به، ولكن لم يحل بينهم وبينه أحد سوى أنفسهم والشيطان. قال الله تعالى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [سورة الأنعام آية: 116] . نعم يوجد طوائف وأشخاص تمسكوا بهذا الدين أشد من غيرهم، وهيأهم الله لنصرة دينه، والذب عنه بحسب استطاعتهم، امتثالا لقوله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [سورة آل عمران آية: 104] ، ولما جاء من أنه يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وفي الحديث: "لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم، حتى يأتي أمر الله تعالى" 1.   1 مسلم: الإمارة (1920) , والترمذي: الفتن (2229) , وابن ماجه: المقدمة (10) , وأحمد (5/279) . الجزء: 16 ¦ الصفحة: 30 وأما قولكم في هذه القلة التي هي نفسها لا تفعل شيئا سوى نقل النصوص الفقهية، فاعلم أن النصوص الفقهية المستمدة من الكتاب والسنة، هي من أفضل ما اشتغل بها، وصرفت الأنفاس في تفهمها. والتفقه أمر مفروض على هذه الأمة، كما قال تعالى: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ} [سورة التوبة آية: 122] ، وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين" 1. وأما قولكم: إن هذه القلة لا تأتي بجديد، فهذا الوصف هو الذي جعلهم بهذه المنْزلة الرفيعة، وهو الذي جبل القلوب على مودتهم، واعتماد أقوالهم؛ ولو كانوا يأتون بجديد لم تأت به الشريعة، لضرب بأقوالهم عرض الحائط، ووجب الرد عليهم، ودخلوا تحت قوله صلى الله عليه وسلم "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" 2. وأما قولكم: بأن هذه النصوص الفقهية مضى عليها مئات السنين، فيفهم منه: أن هذا نقص فيها، وهذا في الحقيقة يدل على الكمال التام; فإن مرور مئات السنين عليها، دليل على صلاحيتها وحسنها، وأنه لا يستطيع أحد نقضها، ولا الاعتراض عليها جملة؛ وإن قدر وجود أخطاء قليلة، فهذا شيء لا يقدح فيها، ولا في أهلها، لأن العصمة لا تكون إلا للأنبياء.   1 البخاري: العلم (71) , ومسلم: الزكاة (1037) , وابن ماجه: المقدمة (221) , وأحمد (4/93 ,4/98) , ومالك: الجامع (1667) , والدارمي: المقدمة (224 ,226) . 2 البخاري: الصلح (2697) , ومسلم: الأقضية (1718) , وأبو داود: السنة (4606) , وابن ماجه: المقدمة (14) , وأحمد (6/240 ,6/270) . الجزء: 16 ¦ الصفحة: 31 ولكن العلماء لا يتفقون على خطأ، لما ورد عنه صلى الله عليه وسلم: "أن أمته لا تجتمع على ضلالة" 1؛ فلو قدر وجود خطأ ما من شخص أو طائفة، فإن هناك من يبين ذلك الخطأ، ويوضح الصواب، ويرده إلى الكتاب والسنة، لقول الله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [سورة النساء آية: 59] . وأما قولكم: لا بد أن يكون لنا كلمة في شؤون ديننا، وأن الدين للجميع وليست وقفا على أحد دون الآخر، فهو كما تفضلتم، ولكن لم يقل أحد بذلك، ولا أظن أن يقال هذا. وأما قولكم: هل إذا تركت شؤون غيري لغيري، سوف يهتم بدراسة أحوالي الاجتماعية والاقتصادية، وغير ذلك من الشؤون، إلى آخره؟!. فنقول: إن جميع ما أشرتم إليه قد أتت به الشريعة الإسلامية، ووضحه علماؤها، ولم يبق شيء مشكل في جميع ما ذكرتم؛ وقد بينت لنا الأحوال الاجتماعية داخل المنْزل وخارجه، فبينت حق الوالد وابنه، وما لكل واحد على الآخر; وبينت ما يجب على كل فرد من أفراد الأسرة، وما يجب له. وبينت ما للجار وما عليه، وما للقريب وما عليه، وما للغني وما عليه، وما للفقير وما عليه، وما للوالي وما   1 ابن ماجه: الفتن (3950) . الجزء: 16 ¦ الصفحة: 32 عليه، وما للشعب وما عليه، وما للمسلم وما عليه، وما للكافر وما عليه; ولم تترك شيئا، حتى بينت حد كل واحد من الزوجين على الآخر، وبينت ما عسى أن يقع من خلاف بينهما في المستقبل؛ ولو حشدنا ما ورد في الأحوال الاجتماعية من الشريعة لبلغ منتهى الكثرة. وكذلك الأحوال الاقتصادية لم تقصر في شيء منها، بل أتت بجميع ما يحتاج إليه; فأمرت بالاكتساب، وأمرت بالضرب في الأرض للتجارة، والسعي في مناكبها، والبيع والشراء، والمداينات، والحراثة، والمعاملات. وبينت الحقوق الواجبة في المال، والواجبة له من الحفظ والصيانة؛ فنهت عن التبذير، ونهت عن التقتير، وأمرت بالاعتدال في ذلك كله، إلى غير ذلك مما يطول تعداده. وكذلك الأحوال السياسية، فبينت حالات السلم، وحالات الحرب، وحالات المعاهدة، وأحكام الجزية، وبيان من تؤخذ منه، ومن لا تؤخذ منه، ومتى يجوز القتال، ومتى يمتنع، ومتى يستحب، إلى غير ذلك من الأمور التي لم تأت شريعة بما أتت به هذه الشريعة المحمدية؛ ولم يبق شأن من الشؤون إلا وأعطاه علماء الشريعة العناية الكاملة، وجميع ما يستحق من البحث، مستمدين ذلك من تعاليم الإسلام. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 33 لكن يبقى مسألة قد تكون هي المشكلة الوحيدة، وهي: عدم سؤال الجاهل للعالم، والله يقول: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [سورة النحل آية: 43] ، أو عدم الرضى والانقياد لما جاءت به الشريعة، والله يقول: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [سورة النساء آية: 65] . وإلا فلو كان من وجد في نفسه شيئا من الإشكالات، سأل العلماء عنه، لوجد عندهم ما يشفي ويكفي، سواء كانت المسألة اجتماعية، أو اقتصادية، أو سياسية. وأما قولكم: إن التطور والأحداث التي تقع تحتم المبادرة إلى إعادة النظر في جميع أوضاعنا ... إلى آخره. فيقال: ما المراد بالأوضاع؟ هل هو الوضع الديني؟ أو الوضع الاجتماعي؟ أو السياسي؟ أو الاقتصادي؟ أو يشمل الكل، كما يعطيه مدلول كلمة "جميع"؟ فإنه يفهم منها معنى الإحاطة والشمول، لا سيما حينما وضحتم بالعبارة التالية، وهي قولكم: إن النظام الأساسي للدولة كفيل بتحديد كل المعاني التي ننشدها جميعا; وأنا أعلم أن هناك من يعتقد أن النظام المذكور إذا وجد، فسوف يخالف تعاليم الإسلام وروحه. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 34 فيا لله العجب، أنحن في شك من ديننا؟! أنحن في أمر مختلط من وضعنا؟! أنحن في حيرة من أمرنا؟! أنحن فقدنا كل المعاني من أنفسنا، فننشدها كما تنشد الضالة من الحيوان؟!. كلا، والله، فإن لدينا شريعة سماوية لم يكن مثلها، ولا نزل على نبي من الأنبياء نظيرها، وقد أرشدتنا إلى ما فيه صلاح ديننا ودنيانا، وما نحتاجه في جميع أمورنا. وأما علمكم بأن هناك من يعتقد أن النظام المذكور يخالف تعاليم الإسلام، فهو كذلك كما علمتم، ولا شك أنه يخالفه، بل الدين الإسلامي يحارب مثل هذا، ولا يشك في ذلك مسلم ملتزم بمبادئه الشريفة. وأما دعوتكم إلى تشكيل هيئة من بلادنا، والبلاد الإسلامية الأخرى، ورجال آخرين ... إلى آخره. فيقال: إننا لسنا في حاجة إلى هذا، وقد حصل الاتفاق - ولله الحمد - من جميع علماء الإسلام من حين بعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى وقتنا هذا، وهم متفقون كلهم على أن نظامهم ودستورهم، هو كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وأنهما كفيلان بكل ما فيه مصلحة البشر من أمر الدنيا والآخرة. وأما الرجال الآخرون، فكأنه يراد بهم الغير مسلمين، فيا للمصيبة! ويا لعدم الثقة بالمبدأ الشريف! أن نأتي الجزء: 16 ¦ الصفحة: 35 بأعدائنا،?كي يرسموا لنا خطة سياسية اقتصادية اجتماعية، طالما حاولوا ونصبوا لنا من أجلها الشباك، وبذلوا فيها الأموال الطائلة، وأتعبوا الأبدان الكثيرة في محاولتها، فنهبها لهم وهبا بلا مقابل، ونقر أعينهم بها عفوا بلا تعب!! ومن أين لآراء هؤلاء والاتفاق مع الشريعة الإسلامية، إلا كما يجتمع الماء والنار؟! وقد تكررت عبارتكم بالدعوة إلى القومية العربية. فنقول: إنه لا دعوة إلا إسلامية، وأن القومية العربية أو سواها من القوميات، متى فارقت الدين، ولم تلتزم بما يجب له، أنه ينبغي محاربتها، أو الابتعاد عنها حتى ترضخ للإسلام وتدين به. وقد قطع الله العلائق والمودة بين المسلم والكافر، ولو كان أقرب قريب، كما قال تعالى: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [سورة المجادلة آية: 22] الآية. وأما قولكم: ولا يكفي أن ننتقد الغير في مبادئهم وأنظمتهم، بدون أن يكون لدينا أنظمة أفضل منها نواجههم بها. فيقال: أليس عندنا من النظم والمبادئ ما هو أفضل وأعلى وأكمل وأشمل، من كل نظام على الوجود؟ أليس الجزء: 16 ¦ الصفحة: 36 نظامنا كتاب الله وسنة رسوله؟ أيستوي نظام من نحاتة الأفكار، وزبالة الأذهان، ونظام من حكيم خبير؟! أيستوي نظام في كل عصر يلغى ويبدل، ويضلل واضعه، ونظام مضت عليه القرون العديدة وهو يتجدد بذاته؟! أليس عقلاء المستشرقين وبحاثتهم قد أقروا أنه لا يوجد نظام على وجه الأرض أجمع وأكمل من نظام الإسلام؟ ولو سقنا ما بلغنا عنهم لاحتاج إلى صفحات. ومناقب شهد العدو بفضلها والفضل ما شهدت به الأعداء وأما قولكم: نواجههم بها، فنقول: لو واجهنا جميع أنظمة العالم بنظامنا، وجلس الكل مجلس الإنصاف والتجرد من الشهوات النفسانية، لأقروا بفضله، وظهرت لهم عيوب أنظمتهم وتناقضها، ولصارت أنظمة العالم بأسره كشمعة وقفت أمام الشمس في نحر الظهيرة؛ وهذا التنزل للمواجهة على سبيل الفرض والتقدير، وإلا فالنظام السماوي أعلى وأرفع، وأعز من أن يقارن به غيره. ألم تر أن السيف ينقص قدره إذا قيل إن السيف أمضى من العصا وأما هذه الصنائع والعلوم، فلم يدركوها بفضل أنظمتهم، ولكن باجتهادهم في العمل، فلو أن المسلمين اتبعوا جميع نظامهم، وعملوا بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ} [سورة النساء آية: 71] ، وبقوله: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 37 مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [سورة الأنفال آية: 60] ، وبقوله عليه السلام: "استعن بالله ولا تعجز" 1، لأدركوا مرادهم، وعملوا كغيرهم، وفاقوهم في العمل. ولكن لم يعملوا بقدر استطاعتهم، وأخلدوا إلى العجز والكسل؛ وهذا شيء ينهى عنه الشرع، وإلا فما المانع من أن نطبق مدلول هذه الكلمة: اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدأ، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا. وأما ما ذكرتم من أن هذا العصر وقت التنظيم الحديث، ليكون الرخاء والتقدم من نصيبنا، فنقول: إن أريد التنظيم الحديث بمعنى المحدث في نظامنا الإسلامي، فلسنا في حاجة إليه. فالدين كامل لا يحتاج إلى تجديد، وبكماله كمل لنا كل معنى من المعاني التي نحتاجها؛ وقد حصل لنا من الرخاء والطمأنينة التي لا توجد في غير بلادنا، على حسب ما طبقنا من النظم الشرعية. وأما التقدم، فإن أريد به الصناعي، فهذا لا يحتاج إلا إلى عمل وجد، وعدم انهماك في الشهوات، ولم يحصل تقدم لأحد كما حصل لأوائلنا الذين تمسكوا بدينهم حق التمسك، وطبقوا تعاليمه على الوجه الأكمل، فقد سادوا العالم أجمع؛ فلو طبقناه كتطبيقهم، لوصلنا إلى ما وصلوا إليه. ومبادؤنا لا تحتاج إلى صقل وتركيز - كما قلتم إنها   1 مسلم: القدر (2664) , وابن ماجه: المقدمة (79) . الجزء: 16 ¦ الصفحة: 38 تحتاج إلى ذلك - فهي الغاية في التركيز، والغاية في الوضوح والبيان; وقد قال صلى الله عليه وسلم: "تركتكم على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك" 1 والله نسأل أن يهدينا وإياكم إلى صراطه المستقيم، وصلى الله على من بلغ البلاغ المبين، وآله وصحبة وسلم. [نقد مساواة المرأة بالرجل على ضوء الإسلام] وقال أيضا رحمه الله، في نقد مساواة المرأة بالرجل على ضوء الإسلام2: بيننا اليوم أناس كثير، يعتقدون مساواة النساء بالرجال؛ وأنه يجب لهن ما لهم، وعليهن ما عليهم، ولا فرق بين الصنفين في جميع الأحكام، لأن النساء شقائق الرجال; ولم يقفوا عند هذا الحد؛ بل أخذوا ينصرون هذا الرأي ويتعصبون له، مسفهين رأي من خالفهم من أهل الإسلام، كأن القوم لم يعرفوا أوامر الإسلام، ولا قرع آذانهم حكم من أحكامه؟! فالدين الإسلامي في ناحية، وهؤلاء المنتمون إليه في ناحية أخرى. ولا شك أن هذا الرأي رأي خبيث، بعيد عن مدلولات الكتاب والسنة؛ فاسمع الأدلة من الكتاب والسنة، على بعض الفوارق بين الرجال والنساء، ومفاضلة الصنف الأول على الثاني:   1 ابن ماجه: المقدمة (44) , وأحمد (4/126) . 2 نشر في عدد من الصحف المحلية. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 39 الأول: قال الله تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [سورة النساء آية: 34] : دلت الآية الكريمة بوضوح على أن الرجل هو القائم على أمر المرأة، والمحافظة على حمايتها ورعايتها، لما للرجل من قوة المزاج، والكمال في الخلقة، ولقوة عقله وصحة نظره في مبادئ الأمور وغاياتها، ولقدرته على التكسب والتصرف في الشؤون كلها; ومن ثم كلف الرجال بالإنفاق على النساء، والقيام برئاسة المنْزل، والمرأة تقوم بوظيفتها الفطرية، وهي: الحمل والولادة، وتربية الأطفال، وهي آمنة في سربها مكفية ما يهمها من نفقتها ونفقة أولادها. الثاني: قوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [سورة النساء آية: 3] : ومن هذه الآية يتضح أن الله سبحانه وتعالى أباح للرجل أن يجمع أربع نسوة، إذا عرف من نفسه العدل بينهن. ولا يجوز للمرأة أن يتزوجها أكثر من واحد، لما في ذلك من اختلاط الأنساب، والفساد العريض، وعدم تمكن المرأة من القيام برغبات رجال متعددين في آن واحد، إلى غير ذلك مما لا يستقيم معه قيام البيوتات، وانتظام العوائل. فكيف مع هذا يقال بمساواة النساء بالرجال؟! الجزء: 16 ¦ الصفحة: 40 الثالث: قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [سورة النساء آية: 11] ، وقوله: {وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالاً وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [سورة النساء آية: 176] : اتضح من هاتين الآيتين أن للذكر من تركة مورثه مثل ما للأنثيين من أخواته، والحكمة في ذلك - والله أعلم - أن الرجل يأتي عليه وقت يتزوج فيه، فيولد له الأولاد، ونفقة هذه الزوجة وأولئك الأولاد ملزم بها، ومطلوبة منه، في حين أن منْزله مقصد للزائرين. بخلاف الأنثى فإنه يأتي يوم يضمها إليه رجل يتزوجها، فيقوم بشؤونها، والإنفاق عليها، وعلى أولادها، من مأكل ومشرب وملبس ومسكن، لا تكلف هي هللة واحدة من مالها الخاص؛ ولا يخطر ببال أحد بأن يجعل منْزلها مقصده، لما في ذلك من مثار ظنون، ومهب ريب وشكوك. فكيف يقال بمساواة المرأة للرجل والحالة هذه؟!. الرابع: قوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [سورة البقرة آية: 282] : دلت الآية الكريمة أن الشهادة متى وجد لها رجلان، كان أكمل وأحفظ وأضبط؛ فإذا لم يكن إلا الجزء: 16 ¦ الصفحة: 41 رجل واحد، فلا يقوم مقام الرجل الآخر إلا امرأتان، لضعف حفظ المرأة، وعدم كمال ضبطها، أو لأن الرجل أقوى عقلا من المرأة، كما تدل له الآية، وكما يؤيده الواقع، ويشهد له الحس، في حين أن كثيرا من الأحكام، لا تقبل فيه شهادة النساء، كالحدود، والقصاص وغيرها. فكيف مع هذا يقال بمساواة النساء بالرجال؟!. الخامس: من السنة ما رواه البخاري، وغيره، من قوله صلى الله عليه وسلم في حديث: "ما رأيت من ناقصات عقل ودين، أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن ... " 1 الحديث. فهذا نص صريح في نقصان المرأة في عقلها ودينها عن الرجل، لضرورة أنه لا يتساوى من يصلي بعض حياته، بمن يصلي كل حياته، ولا من يصوم شهر رمضان من أوله إلى آخره، بمن لا يصوم إلا البعض. كما لا تتساوى شهادة الرجل، لكمال عقله وقوة ضبطه، بمن شهادتها نصف شهادته، لضعف عقلها وعدم كمال حفظها. فمن ساوى بين الرجل والمرأة، فقد جنى على الإسلام، وسلك سبيل الاعوجاج. السادس: روى أحمد والبخاري وغيرهما، من حديث أبي بكر رضي الله عنه أنه قال: "لما هلك كسرى، قال النبي صلى الله عليه وسلم: من استخلفت فارس عليها؟   1 البخاري: الحيض (304) , ومسلم: الإيمان (80) . الجزء: 16 ¦ الصفحة: 42 قالوا: ابنته; قال: لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة" 1. فهذا الحديث ينص على أنه لا يجوز أن تكون المرأة في مركز الخلافة، وأن الفلاح منفي عنهم بتولية المرأة؛ ومتى تخلف الفلاح عنهم، قارنهم الخذلان والخيبة; فاتضح أن هذا المنصب الهام مخصوص بالرجال. بل صرح أهل العلم أن المرأة لا يجوز توليتها القضاء، ولا أن تكون إمامة في الصلاة، ولا مؤذنة، ولا خطيبة، وأخذ هذا المعنى الشاعر فقال: ما للنساء وللكتابة والإمامة والخطابة هذا لنا ولهن منا أن يبتن على جنابة السابع: روى الشيخان وغيرهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يخلون رجل بامرأة إلا ومعها ذو محرم" 2: دل الحديث على منع خلوة الرجل بالمرأة، إلا إذا كان معها محرم، من زوج وغيره؛ والرجل لا خوف عليه إذا خلا به رجل آخر، لأنه ليس موضعا للمعنى الذي من أجله يميل إليه الرجل. بخلاف المرأة، فإنه لا يؤمن عليها، لقوة الداعي منه ومنها، كما في الحديث الآخرة: "لا يخلون رجل بامرأة، إلا وثالثهما الشيطان" 3 فكيف يقال بمساواة المرأة للرجل؟! هذا دعاية أوربية، قام بها أعداء الإسلام، حتى استفحل أمرها،   1 البخاري: الفتن (7099) , والترمذي: الفتن (2262) , والنسائي: آداب القضاة (5388) , وأحمد (5/38 ,5/50) . 2 مسلم: الحج (1341) , وأحمد (1/222) . 3 البخاري: النكاح (5232) , ومسلم: السلام (2172) , والترمذي: الرضاع (1171) , وأحمد (4/149 ,4/153) , والدارمي: الاستئذان (2642) . الجزء: 16 ¦ الصفحة: 43 وعظم خطرها، فدعا إليها الكثيرون ممن أظلمت قلوبهم، ولم يشموا رائحة الإيمان، من المنتمين إلى الدين الإسلامي. الثامن: روى أحمد والبخاري ومسلم وغيرهم، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يحل لامرأة أن تصوم وزوجها حاضر إلا بإذنه" 1 أي: أنه لا يجوز للمرأة أن تصوم تطوعا، وزوجها حاضر، إلا بإذنه، لأن صومها نفل، وطاعتها له في مقصوده منها فريضة عليها، إذاً يكون صومها جريمة ارتكبتها، لا طاعة مثابة عليها. التاسع: جاء في حديث معاذ، رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "دية المرأة نصف من دية الرجل" 2 وهو مجمع عليه بين المسلمين. فاتضح مما تقدم بطلان قول من قال: بأن النساء يساوين الرجال في سائر الأحكام، وهذه الدعاية الشنيعة، المخالفة للكتاب والسنة، يعرف كل فسادها ببداهة العقل. والنصوص الدالة على الفوارق بين النساء والرجال، وعدم مساواة الصنفين كثيرة جدا، كحديث: "التسبيح للرجال والتصفيق للنساء" 3، وحديث: "ليس على النساء حلق، وإنما يقصرن" 4، وحديث: "لو كنت آمرا أحدا أن يسجد لأحد، لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها" 5، وحديث: "عليكن بحافات الطريق" 6، وحديث: "لا   1 البخاري: النكاح (5195) , ومسلم: الزكاة (1026) , وأحمد (2/316) . 2 مالك: العقول (1607) . 3 البخاري: الجمعة (1203) , ومسلم: الصلاة (422) , والترمذي: الصلاة (369) , والنسائي: السهو (1208 ,1209) , وأبو داود: الصلاة (939) , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1034) , وأحمد (2/241 ,2/261) , والدارمي: الصلاة (1363) . 4 أبو داود: المناسك (1984) , والدارمي: المناسك (1905) . 5 الترمذي: الرضاع (1159) . 6 أبو داود: الأدب (5272) . الجزء: 16 ¦ الصفحة: 44 تسافر المرأة إلا مع ذي محرم" 1، وحديث: "خير صفوف النساء آخرها، وشرها أولها" 2، وحديث: "صلاة المرأة في بيتها خير من صلاتها معي" 3، وحديث: "الجمعة حق واجب على كل مسلم في جماعته، إلا على أربعة" 4 ذكر منهم المرأة، وحديث: "العقيقة عن الغلام شاتان، وعن الجارية شاة" 5، وحديث: "عتق المرأتين في الفضل، يعادل عتق الذكر"، إلى غير ذلك من النصوص التي لا تحصى. فهل تساوي المرأة الرجل فيما تقدم بيانه، في الأحاديث السابقة؟ أم يضرب بهذه النصوص عرض الحائط؟ ويقال: نحن في القرن العشرين، نسير مع العصر، ويكفينا مجرد الانتساب إلى الإسلام، مع نبذ أوامره ونواهيه، كما عليه دعاة هذه المذاهب الهدامة؛ وقى الله شرهم، وأراح الإسلام والمسلمين منهم. هذا، وأسأل الله أن ينصر دينه ويعلي كلمته، ويوفق الأمة الإسلامية للتمسك بتعاليم دينها الحنيف؛ وهو حسبنا ونعم الوكيل، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.   1 البخاري: الحج (1862) , ومسلم: الحج (1341) , وأحمد (1/222 ,1/346) . 2 مسلم: الصلاة (440) , والترمذي: الصلاة (224) , والنسائي: الإمامة (820) , وأبو داود: الصلاة (678) , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1000) , وأحمد (2/247 ,2/340) , والدارمي: الصلاة (1268) . 3 أبو داود: الصلاة (570) . 4 أبو داود: الصلاة (1067) . 5 الترمذي: الأضاحي (1516) , والنسائي: العقيقة (4218) , وأبو داود: الضحايا (2834 ,2835 ,2836) , وابن ماجه: الذبائح (3162) , والدارمي: الأضاحي (1966) . الجزء: 16 ¦ الصفحة: 45 [عزكم وعز بلادكم في الإسلام يا مسلمون] وقال الشيخ: عبد الله بن سليمان بن حميد: وعزكم وعز بلادكم في الإسلام يا مسلمون 1. من كان يريد العزة فلله العزة جميعا، فالتمسوا العزة يا مسلمون من هذا السبيل، وابتغوها من هذا الوجه; واعلموا أنه هو السبيل المستقيم، والمنهاج القويم، الذي سلكه أوائلكم السالفون، وعض عليه بالنواجذ الصالحون، واستغنوا به عما سواه من سبيل. واكتفوا به عن كل نظام أجنبي دخيل، فدانت لهم أمم العالم، وذلت أمامهم الدنيا، وملكوا أطراف المعمورة، وسيقت لهم خيرات الأرض؛ حتى قال بعض ملوكهم، وقد رأى يوما سحابة: سيري كيف شئت، وأمطري أنى شئت، فسيأتيني خراجك. وهكذا كانت نتيجة التمسك بالدين، والعمل على إعلاء كلمة الله؛ فهم طبقوا الإسلام في أنفسهم قولا وعملا، وارتضوه عقيدة ودينا، وجاهدوا في سبيله أعظم الجهاد، ودعوا إليه في الحاضر والباد؛ يطلبون بذلك كله رضى الله، ويلتمسون من وراء ذلك ثواب الآخرة، فأعطاهم الله تعالى الملك العظيم الواسع، جزاء لهم في الدنيا منه وفضلا؛ وما أعده لهم في الآخرة خير وأبقى.   1 في مجلة راية الإسلام. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 46 فانهلوا أيها المسلمون من حياض الإسلام، وتمسكوا بتعاليمه، وتأدبوا بآدابه، وتخلقوا بأخلاقه، واعملوا بشرائعه، واتبعوا محمدا صلى الله عليه وسلم في هديه تسعدوا وتسعد بلادكم، وتكونوا كأسلافكم سادة وقادة. فالتمسك بالدين هو الرقي والفلاح، ولا تشرقوا ولا تغربوا، ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله، فتدمروا أنفسكم وبلادكم، وتخسروا دنياكم وأخراكم، واحذروا - يا مسلمون - دعاة السوء، وشياطين الإنس والجن، الذين لا يقصرون في العمل على تدميركم. ولا يفتؤون يواصلون الحرب الخبيثة لاجتثاث أخلاقكم، بإرسال المجلات الداعرة، والصحف الفاجرة، والإذاعات الملحدة الممتلئة بالنيل من الدين ورجاله، والطعن في الإسلام ونظامه؛ ويوهمون الشباب أن التمسك بالدين جمود ورجعية، وأن الانحلال والإلحاد تقدم ومدنية. وقد تعس هؤلاء الشياطين ومن سلك سبيلهم، وانتكسوا، وإذا شيكوا فلا انتقشوا؛ فهذه بلادهم مسرح للجرائم الخلقية، وميادين الشرور الدينية والدنيوية، فلا يأمن الإنسان منهم على نفسه ولا يطمئن على ماله وعرضه. وبلادنا بحمد الله تعالى آمنة مطمئنة بسبب تنفيذ تعاليم الدين، والتمسك بشرائع الإسلام. فيجب على شبابنا الجزء: 16 ¦ الصفحة: 47 العقلاء أن يعضوا بالنواجذ على تعاليم الإسلام، ويعرفوا قدره وفضله، فلا يغيروا فيغير الله عليهم: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [سورة الرعد آية: 11] ولا تظنوا أيها المسلمون: أن تقليد الأجانب في زيهم وأحوالهم المخالفة للإسلام يرفع قدركم، ولا أن اتخاذ الكفار أولياء من دون المؤمنين يعظم شأنكم، فإن الله الآخذ بنواصيكم، يقول: {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً} [سورة النساء آية: 139-138] . وقال الشيخ صالح بن محمد اللحيدان: التعليم ودروس الدين1 إن مما لا شك فيه لعاقل انتشار التعليم في شتى بقاع المملكة، حتى شمل القرى النائية والبادية، وقد يندر أن تجد شابا لا يحسن القراءة والكتابة، إلا أنه مع هذا التقدم الشامل، قد سرت في الناس موجة شر، تنذر بخطر كبير، إن لم يتدارك أمرها؛ ويُقضَى على بذور السوء في مهدها، ويحسن المنهج الذي يدرس. ويعتنى بالمادة التي طرأ عليها التهذيب والتشذيب،   1 في مجلة راية الإسلام, جمادى الأولى سنة 1381 هـ. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 48 وهي مادة الدين، من قرآن وحديث، وفقه وتوحيد وتفسير، وما يتبع تلك العلوم ويخدمها من علوم العربية؛ إذ إن التعليم في البلاد، يتسع في رقعته ومواده، إلا أن اتساع المواد، سيكون في أغلب الأحوال على حساب دروس الدين. فكلما اخترع درس، نقصت دروس الدين لإيجاد محل لذلك الدرس الجديد، حتى صار الطالب يتخرج من المرحلة الإعدادية، وهو لا يعرف إلا أسماء المواد، فدراسته لمواد الدين سطحية. ودرس الدين ثقيل على نفوس الطلاب، وذلك لما يكتنفه من مزاحمة، من دروس يحسنها أصحابها ويمجدونها، ويسبغون عليها من صفات الكمال، ما يجعلها ذات الفائدة الكبرى والمهمة العظمى في الحياة. إننا في بلد يحق له أن يسمى بالبلد الإسلامي الأول؛ إذ إن تعاليم الإسلام لا تطبق في بلد كما تطبق فيه، وإلى الآن والدستور الشامل في هذا البلد - والحمد لله - دستور الإسلام. فينبغي لنا الاعتناء بالتربية الإسلامية، وتحسين الإسلام وأحكامه في نفوس الناشئة، إذ قلوبهم خالية يمتلكها ما سبق إليها؛ فإن كان السبق للتعاليم المنافسة لعلوم الدين، امتلكت قلوب الشباب ونفوسهم، حتى يصبح ما عداها الجزء: 16 ¦ الصفحة: 49 مستهجنا عتيقا، لا يليق بالشباب المثقف المتحرر، بل هو من صفات عتقاء التفكير والأخلاق. وينتج عن ذلك انحلال في العقيدة، وفساد في الأخلاق، وفوضى في التفكير، ثم تصبح الكلمة لهؤلاء الجنس من الناس؛ إذ هم المتعلمون التعليم العصري الحر؛ ويكون بيدهم نتيجة لذلك القول والفصل، فتضيع البلاد، ويختل نظام الإسلام فيها؛ والسعيد من وعظ بغيره. ونظرة واحدة إلى كثير من البلاد الإسلامية تعطينا صورة لما يمكن أن يحدث إن لم يعالج بحكمة وحزم; إن الروح الإسلامية تكاد تكون معدومة في شتى مواضيع الدراسة، ويندر أن نجد من يعتني بهذه الناحية، أو يوليها جانبا من الاهتمام. حتى من يناط بهم تدريس المواد الدينية، لا يشغلون أنفسهم إلا بتلقين الطلاب تلك المواد جافة صلبة، ولا يجهدون أنفسهم بالدعوة إليها، وتبيين محاسن الإسلام، وكمال نظامه، واعتنائه بجميع شؤون الحياة، وسمو تشريعه على كل نظام. ففي بلادنا وغيرها تضعف روح الإسلام ويخف سلطانه على النفوس عند المتعلمين؛ ويتسع هذا الضعف ويخف ذلك السلطان بقدر ما يتسع التعليم وتنتشر المدارس، وما الجزء: 16 ¦ الصفحة: 50 ذلك إلا بسبب إهمال رجال التعليم لتربية الإسلام، وترك الروح المعنوية تذبل وتجف، وزيادة ما يزاحم الدروس الدينية مما أضعفها وأضعف نتائجها، وجعل الطلاب ينظرون إليها شزرا، ويحسون بثقل درس الدين وصعوبة الاستماع إليه؛ حتى إن بعضهم يتحين الفرص للخروج عن الفصل إذا أتت هذه الدروس الثقيلة على نفسه؛ مما جعل مدرسي المواد الدينية يجدون مشقة كبيرة، ويلاقون صعوبات كثيرة في إنجاح مهمتهم. فلابد من عمل حاسم، يقضي على الشر قبل استفحاله - وقد بدأ يستفحل -، ويعالج الأمر بعلاجه النافع؛ وذلك بتحسين وضع التعليم الديني، وتقوية جانبه، والاهتمام بأمره، باختيار المدرس الصالح، الذي يؤمن بما يلقي من دروس؛ فإن من لا يؤمن بالمبادئ التي يدرسها، لا يرجى لتدريسه ثمرة، وكذلك من يخالف فعله ما يحمله من علم. فإن الأخلاق يجب أن يهتم بها قبل غزارة المادة؛ فإن من يدرس الصلاة وواجباتها ووجوبها، ثم يتهاون بها، فإن الطلاب على أثره يعملون. ولقد اهتمت وزارة المعارف، وجعلت دروس الدين ولغته، مادة أساسية من لم ينجح فيها فلا نجاح له، إلا أن هناك جوانب يحسن الاعتناء بها، وهي: الجزء: 16 ¦ الصفحة: 51 اختيار من يدرس هذه المواد، وجعل مواد الدين تحسب نمرها في المجموع الكلي لمن يراد ابتعاثهم، كما ينبغي ألا ينظر لقوة الطالب المبتعث للخارج، إلا إذا كان معروفا بالمحافظة الشديدة على شعائر الإسلام وآدابه. وأن يشعر الطلاب أن من يحفظ عنه إخلال ببعض النواحي الدينية، فسيكون لهذا دخل في عدم نجاحه؛ وسينظر إليه بأنه قاصر عن زملائه وإن تفوق في المعلومات. إنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هُمُ ذهبت أخلاقهم ذهبوا إن اعتناءنا بالقرآن، وعلومه وآدابه، كدولة مسلمة، ضعيف جدا؛ فالقرآن الذي هو أقوى شيء وأقدره على تكوين العقول الحية، وتهذيب النفوس والأخلاق، لا يقرأ إلا في المدارس الابتدائية، قراءة مهلهلة. ثم يخرج الطالب إلى القسم الثانوي، ويخرج منه، وقراءة كتاب لأحد الأدباء العصريين أسهل عليه من قراءة جزء من القرآن، لبعد العهد به، وعدم تمكنه منه، ولأن ذلك الكتاب وجد من يدعو له، ويمجده ويحسنه، حتى يظن البعض أن ما بينه وبين الاتصاف بالأديب، إلا أن يكرر ذلك الكتاب مرات، حتى يصبح منشئا بليغيا. ولو كتب موضوعا، وعرضت له بعض الآيات، الجزء: 16 ¦ الصفحة: 52 لأخطأ في كتابتها; وهذا يدل على مبلغ العناية بهذا الكتاب المعجز. أما السنة المطهرة التي تفسر القرآن، وتبين مراميه، وتدل على كنوزه، فيمرون عليها مر الكرام، لا يثقلون عليها بالدرس والتمحيص، ولا يغوصون على كنوزها، ولا يلتمسون منها العون على حل مشاكل الحياة؛ حتى صارت أقوال طه حسين وأضرابه، متداولة بين الشباب; بينما أقوال سيد البشر لا تنبس بها شفة بين هذا الصنف من الناس، الذين هم يرجون لكل خير. أما سيرة رسولهم، وتأريخ حياة أصحابه، وحياة رجال الإسلام، فهي لا تقاس بشيء أمام ما تقدم من القرآن والسنة؛ بل الذكر لنابليون وأشباهه، ولمفكري بني جلدته ممن دأبوا على تحطيم كيان المسلمين. ولقد بلغ الأمر إلى درجة أنك إذا سمعت بين الشباب ثناء على شخص ما، بأدبه وأخلاقه، وحسن ذوقه، تيقنت أنة خال من الأخلاق الإسلامية، قليل المعرفة بمعاني كتاب ربه، جاهل حتى بأسماء كتب السنة، التي تحوي أقوال هادي البشرية، بالهداية الإلهية، منحرف في تفكيره، ومعطل لشعائر دينه، فلا حول ولا قوة إلا بالله. إن رجال التعليم عليهم واجب كبير، وحمل ثقيل، ومسؤولية عظمى؛ فبيدهم زمام الأمر، وهم الذين يستطيعون بتوفيق الله أن يحفظوا على الأمة أخلاقها الجزء: 16 ¦ الصفحة: 53 وآدابها، بتشجيعهم لأهل الخير، واحترامهم وتقديرهم، وإشعار الآخرين أنه لا كرامة ولا تقدير لمن لم يحافظ على كرامة هذا الدين، ولم يقدر شعائره. ويجابهوهم بذلك، ويصارحوهم به، وأعني بذلك المشائخ الذين لهم السلطة التامة على التعليم والمتعلمين: رئيس المعاهد والكليات، ونائبه، ووزير المعارف الذي هو أوسع دائرة وأكبر مسؤولية، وأعظم خطرا؛ إذ التعليم الشامل هو تابع لوزارته. فلا بد من عمل الحيطة، وتقريب أهل الخير والصلاح وإكرامهم، وإشعار الآخرين بأننا لا نحترم، إلا من يجتهد في احترام هذا الدين، ويعمل على غرس حبه في نفوس الآخرين؛ كما يراد من الجميع العناية التامة، في إسناد وظائف التدريس إلى من يخدمها بأمانة المسلم ونصح المسلم. ويشعر من يستقدم للتدريس إلى أن من ضبط عليه إخلال بالسلوك وإظهار لما يتنافى مع الإسلام، فإن مصيره الإبعاد، إن كان من خارج البلاد، أو الفصل من الوظيفة إن لم يكن كذلك. فإن المدرسين قد غيروا أخلاق الناشئة، إما بالدعوة السيئة باللسان، وإما بدعوة التقليد بأعمالهم، نسأل الله أن يوفق رجال التعليم، في بلادنا، وجميع البلاد الإسلامية، الجزء: 16 ¦ الصفحة: 54 إلى الاعتناء بعلوم الإسلام، والدعوة إليه، وتقوية جانبه؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 55 الفصل الرابع [أعظم أسباب التبرج] وأعظم أسباب هذا التبرج المشين: استجلاب أعداء الدين، فأفسدن الكثير من نساء المسلمين، وأعجز من له غيرة على محارمه أن يسلك بهن السبيل المستقيم المستبين؛ وتقدم قول الملك عبد العزيز، رحمه الله، في أمر اختلاط النساء بدعوى تهذيبهن وفتح المجال لهن ... إلخ. 1. وقال الشيخ: محمد بن إبراهيم وغيره من المخلصين، في خطابهم الموجه لولاة الأمور 2: توظيف المرأة في الأعمال التي تدعوها إلى مخالطة الرجال، كالإذاعة، والخدمة الاجتماعية، وخدمة الرجال في الطائرات، وأشباه ذلك، يفضي إلى مفاسد كثيرة. اعلم وفقك الله: أن الله جل وعلا الذي خلق الذكر والأنثى، جعل بينهما فوارق طبيعية لا يمكن إنكارها؛ وسبب ذلك الاختلاف الطبيعي جعل لكل منهما خدمات يقوم بها للمجتمع الإنساني، مخالفة لخدمة الآخر.   1 في الجزء الرابع عشر صفحة 403. 2 وتقدم أوله في الباب الثالث ج 15, ص 103-111. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 55 اعلم أولا: أن الذكورة كمال خلقي، وقوة طبيعية; والأنوثة نقص خلقي، وضعف طبيعي؛ وعامة العقلاء مطبقون على ذلك; ولذلك تراهم ينشئون الأنثى في أنواع الزينة، من حلي، وحلل، كما قال تعالى: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} [سورة الزخرف آية: 18] ، والتنشئة في الحلية إنما هي لجبران النقص الخلقي الطبيعي، الذي هو الأنوثة، بخلاف الذكر، فإن شرف ذكورته وكمالها، بغنية عن الحلي والحلل. وما الحلي إلا زينة من نقيصة ... يتم من حسن إذا الحسن قصرا وأما إذا كان الجمال موفرا ... كحسنك لم يحتج إلى أن يزورا ولأجل أن الذكورة كمال وقوة، جعل الله هذا الكامل في خلقته، القويّ بطبيعته، قائما على الناقص خلقة، الضعيف طبيعة، ليجلب له من النفع، ما يعجز عن جلبه لنفسه، ويدفع عنه من الضر ما يعجز عن دفعه عن نفسه {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} [سورة النساء آية: 34] الآية. ولكون قيامه عليها، يقتضي دفع الإنفاق والصداق - فهو يترقب النقص دائما، وهي تترقب الزيادة دائما - آثره عليها في الميراث، لأن إيثار مترقب النقص على مترقب الزيادة ظاهر الحكمة؛ وذلك من آثار ذلك الاختلاف الطبيعي بين النوعين. ومن آثاره: أنه تعالى جعل المرأة حرثا للرجل الجزء: 16 ¦ الصفحة: 56 {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} [سورة البقرة آية: 223] الآية فهو فاعل، وهي مفعول به؛ وهو زارع، وهي حقل زراعة، تبذر فيه النطفة كما يبذر الحب في الأرض، وهذا محسوس لا يمكن إنكاره، لأن الازدراع مع الرجل. فلو أرادت المرأة أن تجامعه لتعلق منه بحمل وهو كاره، فإنها لا تقدر على ذلك، وينتشر إليها; بخلافه، فإنه قد يحبلها وهي كارهة، كما قال أبو كبير الهذلي في ربيبه: تأبط شرا 1. ممن حملن به وهن عواقد ... حبك النطاق فشب غير مهبل حملت به في ليلة مزءودة ... كرها وعقد نطاقها لم يحلل ومن أجل هذا جعل الله الطلاق بيده، لأن إرغام الزارع على الازدراع في حقل لا يريده، مخالف للحكمة; ولأجل ذلك الاختلاف الطبيعي، قال الله تعالى: {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَى} [سورة النجم آية: 21-22] . فلو كانت الأنثى معادلة للذكر في الكمال الطبيعي، لكانت تلك القسمة في نفسها غير ضيزى، لأن قسمة الشيء إلى متساويين، ليست في ذات نفسها ضيزى، وإن كان   1 وانظر صفحة 194 , ج8 من خزانة الأدب وما بعدها إن شئت. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 57 ادعاء الأولاد لله من حيث هو، فيه من أشنع الكفر وأعظمه ما لا يخفى. وقال تعالى: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ} [سورة النحل آية: 58-59] الآية. فلو كانت الأنثى معادلة للذكر في الكمال الطبيعي، لما ظهر وجه المبشر بها مسودا وهو كظيم، ولما توارى من القوم من سوء تلك البشارة، ولما أسف ذلك الأسف العظيم على كون ذلك المولود ليس بذكر. ومن آثار ذلك الاختلاف الطبيعي: أن الله تعالى جعل شهادة امرأتين في الأموال كشهادة رجل {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} [سورة البقرة آية: 282] الآية. فالله الذي خلقهما، وأحاط علما بما جبلهما عليه، وما أودع فيهما من حكمة؛ ولو لم يجعل الرجل أكمل من المرأة، لما نزل امرأتين منْزلة رجل واحد، لأن تفضيل أحد المساويين ليس من أفعال العقلاء وإجراء خالق السماء جل وعلا. وقد جاء الشرع القويم بقبول شهادة الرجل في أشياء لا تقبل فيها شهادة النساء، كالقصاص والحدود؛ ولو كانا متماثلين في الكمال الطبيعي لما فرق الحكيم الخبير بينهما. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 58 ولأجل هذا الاختلاف الطبيعي، وقعت امرأة عمران مشكلة من نذرها في قوله: {إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً} [سورة آل عمران آية: 35] الآية، لما ولدت مريم. ولو كانت ولدت ذكرا لما وقعت في هذا الإشكال المذكور في قوله: {فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى} [سورة آل عمران آية: 36] ؛ وتأمل قوله في هذه الآية: {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى} [سورة آل عمران آية: 36] ، فإنه واضح في الفرق الطبيعي. ومن الفوارق الظاهرة بينهما: أن المرأة الأولى خلقت من ضلع الرجل الأول، فهي جزء منه؛ وهو أصل لها {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [سورة النساء آية: 1] الآية؛ ولذا كانت نسبة الأولاد اليه لا إليها، وكان هو المسؤول عنها في تقويم أخلاقها {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} [سورة النساء آية: 34] الآية، وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً} [سورة التحريم آية: 6] الآية، وهو المسؤول عن سد خلاتها. ولأجل هذا الاختلاف الطبيعي، والفوارق الحسية والشرعية بين النوعين، فإن من أراد منهما أن يتجاهل هذه الفوارق، ويجعل نفسه كالآخر، فهو ملعون على لسان الجزء: 16 ¦ الصفحة: 59 رسول الله صلى الله عليه وسلم لمحاولته تغيير صنع الله، وتبديل حكمه، وإبطال الفوارق التي أودعها فيهما. وقد ثبت في صحيح البخاري: أن النبي صلى الله عليه وسلم "لعن المتشبهات من النساء بالرجال، والمتشبهين من الرجال بالنساء" 1 ولو لم يكن بينهما فرق طبيعي عظيم، لما لعن صلى الله عليه وسلم المتشبه منهما بالآخر. ومن لعنه صلى الله عليه وسلم فهو ملعون في كتاب الله، لقوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [سورة الحشر آية: 7] الآية، كما صح عن ابن مسعود رضي الله عنه. ولما جهلت أو تجاهلت فارس هذه الفوارق التي بين الذكر والأنثى، فولوا عليهم ابنة ملكهم، قال صلى الله عليه وسلم: "لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة" 2؛ ولو كانا متساويين لما نفى الفلاح، عمن ولى أحدهما دون الآخر. وقد يفهم من هذا الحديث الصحيح أن تجاهل الفوارق بين النوعين من أسباب عدم الفلاح، لأن قوله: "لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة" 3 واضح في ذلك. والله جل وعلا جعل الأنثى بطبيعة حالها قابلة لخدمة المجتمع الإنساني، خدمة عظيمة لائقة بالعرف والدين؛ ولا تقل أهميتها عن خدمة الرجل: فهي تحمل وتعاني آلام الحمل مدة، وتنفس، وترضع، وتصلح جميع شؤون البيت؛ فإذا جاء الرجل من عمله، وجد أولاده   1 البخاري: اللباس (5885) , والترمذي: الأدب (2784) , وأبو داود: اللباس (4097) , وابن ماجه: النكاح (1904) . 2 البخاري: المغازي (4425) , والترمذي: الفتن (2262) , والنسائي: آداب القضاة (5388) , وأحمد (5/43) . 3 البخاري: المغازي (4425) , والترمذي: الفتن (2262) , والنسائي: آداب القضاة (5388) , وأحمد (5/43) . الجزء: 16 ¦ الصفحة: 60 الصغار محضونين، وجميع ما يلزم مهيأ له. فإن قالوا: هي محبوسة في البيت كالدجاجة، قلنا: لو خرجت مع زوجها لتعمل كعمله، وبقي أولادها الصغار، وسائر شؤون بيتها ليس عند ذلك من يقوم به، لاضطر زوجها أن يؤجر إنسانا يقوم بذلك. فيحبس ذلك الإنسان في بيتها كالدجاجة، فترجع النتيجة في حافرتها، مع أن خروجها لمزاولة أعمال الرجال فيه من ضياع الشرف والمروءة، والانحطاط الخلقي، ومعصية خالق السماوات والأرض ما لا يخفى. فإن المرأة متاع، هو في الجملة خير متاع الدنيا، وهو أشد الأمتعة تعرض لخيانة الخائنين; وأكثر من تخرج المرأة بينهم اليوم، فسقة لا ورع عندهم، فتعريضها لنظرهم إليها نظر شهوة ظلم لها، لأنه استمتاع بجمالها مجانا، على سبيل المكر والخيانة؛ والخائن يتلذذ بالنظر الحرام تلذذا عظيما. قال أحدهم: قلت اسمحوا لي أن أفوز بنظرة ... ودعوا القيامة بعد ذاك تقوم وكما أنه ظلم لها، فهو مخل بالمروءة والدين والشرف; والعجب كل العجب ممن لا يغار على حرمه، مقبلة مدبرة في غير صيانة ولا ستر بين الفسقة، بدعوى التقدم والحرية! الجزء: 16 ¦ الصفحة: 61 وما عجب أن النساء ترجلت ... ولكن تأنيث الرجال عجاب ومن المعلوم الذي لا نزاع فيه أن جميع الأقطار التي صارت فيها النساء تزاول أعمال الرجال، انتشر فيها من الرذائل والانحطاط الخلقي، ما يعرق منه الجبين. إن للعار فحشها موبقات ... تتقى مثل موبقات الذنوب فقد راعى الشرع المطهر، الفوارق التي ذكرنا في أمور كثيرة، كما قدمنا في الشهادة، والميراث، وقيام الرجل على المرأة، والطلاق، وكتولي المناصب. فإن المرأة لا يصح شرعا أن تساوي الرجل في تولي المناصب، ومن أوضح الأدلة على ذلك: الحديث الصحيح الذي قدمنا، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة" 1، فإن علة عدم فلاحهم، كون من ولوه امرأة. وقد دل مسلك العلة المعروف بمسلك الإيماء والتنبيه، على أن علة عدم الفلاح في هذا الحديث الصحيح، هو أنوثة المولى؛ وضابط مسلك الإيماء والتنبيه - المحتوي على جميع صوره - هو: أن يقترن وصف بحكم، في نص من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، على وجه لو لم يكن فيه ذلك الوصف علة لذلك الحكم، لكان الكلام معيبا عند العارفين بأساليب الكلام. فلو لم يكن علة عدم الفلاح في الحديث المذكور،   1 البخاري: المغازي (4425) , والترمذي: الفتن (2262) , والنسائي: آداب القضاة (5388) , وأحمد (5/43) . الجزء: 16 ¦ الصفحة: 62 كون المولى امرأة، لكان الكلام معيبا، ولكان ذكر المرأة حشوا لا فائدة فيه؛ وكلام من أوتي جوامع الكلم منَزه عن ذلك. وهكذا المسلك لا خلاف في إفادته علة الحكم بين العلماء، وإنما خلافهم فيه هل هو من قبيل النص الظاهر أو الاستنباط، كما هو مقرر في محله؟ ويفهم من دليل خطاب الحديث المذكور - أعني مفهوما مخالفته - أن المولى لو كان ذكرا، لما كان ذلك علة النفي للفلاح، وهو كذلك؛ وهذا من أعظم الأدلة على الفرق بين الرجال والنساء في تولي المناصب. ومن أدلة ذلك أيضا: النصوص الدالة على منع اختلاط الرجال بالنساء، لأن المرأة الموظفة وظيفة لا تختص بالنساء، لا بد أن تخالط الرجال بمقتضى طبيعة وظيفتها; ومن تلك النصوص قوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [سورة الأحزاب آية: 53] : فالأمر بكون سؤالهن من وراء حجاب دليل واضح على لزوم الحواجز، وعدم الاختلاط. فإن قيل: هذه الآية الكريمة خاصة بأزواج النبي صلى الله عليه وسلم كما هو مقتضى السياق، وكما روي عن بعض أهل العلم، فلا تشمل غيرهن من نساء المؤمنين، فالجواب من ثلاثة أوجه: الجزء: 16 ¦ الصفحة: 63 الوجه الأول: هو: ما تقرر في الأصول من أن العلة قد تعيّن معلولها، وذلك مجمع عليه في الجملة; ومن أمثلة صوره المجمع عليها: قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "لا يقضين حاكم بين اثنين وهو غضبان" 1 فإن المسلك المتقدم، الذي هو مسلك الإيماء والتنبيه، قد دل أيضا: على أن علة منع الحاكم من القضاء، في هذا الحديث الصحيح، هي: الغضب. إلا أن هذه العلة، التي هي الغضب عممت معلولها، وهو نهي الحاكم عن القضاء في كل حالة مشوشة للفكر، كالجوع والعطش المفرطين، والسرور والحزن المفرطين، والحقن والحقب المفرطين، ونحو ذلك، لأن تشويش الفكر المانع من استيفاء النظر في الحكم غير الغضب. وإيضاح ذلك في الآية التي نحن بصددها: أنه جل وعلا لما قال: {فَاسْأَلوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [سورة الأحزاب آية: 53] ، وبين علة ذلك المشتملة على حكمته، فقال تعالى: {ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} [سورة الأحزاب آية: 53] ، فبين أن العلة في ذلك هي طهرية قلوب النوعين، والتباعد عن دواعي الريبة وقذر القلوب؛ ولا شك أن هذه العلة تشمل جميع نساء المؤمنين، لأنهن يطلب في حقهن طهارة قلوبهن وطهارة قلوب الرجال من الميل إلى ما لا ينبغي منهن.   1 البخاري: الأحكام (7158) , ومسلم: الأقضية (1717) , والترمذي: الأحكام (1334) , والنسائي: آداب القضاة (5406 ,5421) , وأبو داود: الأقضية (3589) , وابن ماجه: الأحكام (2316) , وأحمد (5/36 ,5/37 ,5/46) . الجزء: 16 ¦ الصفحة: 64 فليس لقائل أن يقول: هذا الأدب الكريم السماوي، المقتضي المحافظة على الشرف والدين، وطهرية القلوب من الميل إلى الفجور، يجوز إلغاؤه وإهداره بالنسبة لغير أزواج النبي صلى الله عليه وسلم من نساء المؤمنين، لأن طهارة القلب، ومجانبة أسباب الرذيلة، أمر مطلوب من الجميع بلا شك، مع أن النفوس أشد هيبة لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم من غيرهن، لأنهن أمهات المؤمنين. الوجه الثاني: أن الأصل المقرر عند العلماء المؤيد بالدليل، هو استواء جميع الناس في أحكام التكليف، ولو كان اللفظ خاصا ببعضهم، إلا ما جاء النهي مصرحا بالخصوص فيه؛ ولذلك فجميع الخطابات العامة يدخل فيها النبي صلى الله عليه وسلم نفسه، وأحرى غيره; وما ذلك إلا لاستواء الجميع في الأحكام الشرعية، إلا ما قام عليه دليل خاص. فقد سأل الصحابة النبي صلى الله عليه وسلم فأجابهم بما يتضمن ذلك، فإنه صلى الله عليه وسلم لما قال: "لن يدخل أحدكم الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل" 1. فكأنهم يقولون له: أأنت داخل معنا في هذا العموم؟ وهو يجيبهم بنعم، وما ذلك إلا لاستواء الجميع في الأحكام الشرعية. فإن قيل: آية الحجاب تخص بمنطوقها أزواج النبي صلى الله عليه وسلم.   1 البخاري: الرقاق (6467) , ومسلم: صفة القيامة والجنة والنار (2818) , وأحمد (6/125) . الجزء: 16 ¦ الصفحة: 65 فالجواب: أنها لم تدل على أن غيرهن من النساء لا يشاركنهن في حكمها؛ والأصل مساواة الجميع في الأحكام الشرعية، إلا ما قام عليه دليل خاص; ولذا تقرر في الأصول: أن خطاب الواحد المعين من قبل الشرع من صيغ العموم، لاستواء الجميع في أحكام الشرع. وخلاف من خالف من العلماء، في أن خطاب الواحد يقتضي العموم خلاف لفظي، لأن القائل بأن خطاب الواحد لا يقتضي العموم، موافق على أن حكمه عام إلا أن عمومه عنده لم يقتضه خطاب الواحد؛ بل عمومه مأخوذ من أدلة أخرى، كالإجماع على استواء الأمة في التكليف، وكحديث: "ما قولي لامرأة إلا كقولي لمائة امرأة" 1 فالجميع مطبقون على أن خطاب الواحد يشمل حكمه الجميع، إلا لدليل خاص، واختلافهم، إنما هو: هل العموم بمقتضى اللفظ، أو بدليل آخر. الوجه الثالث: أنا لو سلمنا تسليما جدليا: أن حكم الآية الكريمة خاص بأزواج النبي صلى الله عليه وسلم، فهن القدوة الحسنة لنساء المؤمنين؛ فليس لنا أن نحرم نساءنا هذا الأدب السماوي الكريم، المقتضي المحافظة على الشرف والفضيلة، والتباعد عن أسباب الرذيلة ودنس القلوب؛ وقد اختاره الله لنساء أحب خلقه إليه وأفضلهم عنده. ومن آثار الفوارق بين النوعين:   1 الترمذي: السير (1597) , والنسائي: البيعة (4181) , وأحمد (6/356) , ومالك: الجامع (1842) . الجزء: 16 ¦ الصفحة: 66 تنبية القرآن العظيم، على أن صوت المرأة إذا ألانته ورخمته، فإنه يصير من مفاتنها المؤدية إلى إثارة الغرائز، وطمع مرضى القلوب في الفجور، قال الله تعالى: {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [سورة الأحزاب آية: 32] الآية؛ وفي ذلك أوضح دلالة، على أن إذاعة صوت المرأة في أقطار الدنيا، في غاية الترخيم والترقيق بالألحان الغنائية، مخالف مخالفة صريحة للآداب السماوية التي أدب الله بها نساء أحب خلقه إليه، وهن القدوة الحسنة لنساء المؤمنين. والفاء السببية في قوله: {فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} تدل دلالة واضحة على أن الخضوع بالقول، كإلانته وترخيمه، سبب لطمع مرضى القلوب فيما لا ينبغي; ولا شك أن وجود السبب ذريعة لوجود المسبب؛ والذريعة إلى الحرام حرام، فيجب سدها، وهذا النوع من أنواع الذرائع الثلاث مجمع على سده. ومن الأدلة على ذلك، قوله تعالى: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ} [سورة الأنعام آية: 108] : فإنه نهى عن سب الأصنام لكونه ذريعة لسب عابديها الله. وقوله: {وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ} [سورة الأعراف: الجزء: 16 ¦ الصفحة: 67 19] الآية: فنهاهم عن قربانها، لأن القرب من الشيء ذريعة للوقوع فيه، كالراعي يرعى حول الحمى، يوشك أن يقع فيه. ومن الأحاديث الصحيحة الدالة على أن ذريعة الحرام حرام، قوله صلى الله عليه وسلم: "إن من العقوق شتم الرجل والديه، قالوا: يا رسول الله، وهل يشتم الرجل والديه؟ قال: نعم، يسب أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه" 1، فقد جعل صلى الله عليه وسلم ذريعة السب سبا، وهو واضح في أن ذريعة الحرام حرام. وبالجملة، فمن المحسوس أن صوت المرأة الرخيم الرقيق من جملة مفاتنها، كمحاسن جسدها؛ ولذا ترى المتشبهين بالنساء يذكرون صوت المرخم كذكرهم جمال الجسم، وذلك كثير جدا، كقول ذي الرمة: لها بشر مثل الحرير ومنطق ... رخيم الحواشي لا هراء ولانزر وعينان قال الله كونا فكانتا ... فعولان بالألباب ما تفعل الخمر فجعل صوتها الرخيم، وبشرتها التي هي كالحرير، وحسن عينيها سواء، في أن الجميع من جملة محاسنها. وقال قعينب بن أم صاحب: وفي الخدور لو أن الدار جامعة ... بيض أوانس أصواتها غنن فجعل غنة صوتها كبياض جسمها، وهذا معروف؛   1 مسلم: الإيمان (90) , والترمذي: البر والصلة (1902) , وأحمد (2/164 ,2/195) . الجزء: 16 ¦ الصفحة: 68 والمقصود التمثيل، ولا شك أن من المعلوم الذي لا يكاد يختلف فيه اثنان أن البلاد التي تجاهلت هذه الفوارق التي ذكرنا بين النوعين، وجعلت المرأة كالرجل في كل ميادين الحياة، سبب لها ذلك ضياع الفضيلة، وانتشار الرذيلة، ولا ينكر ذلك إلا مكابر. وكيف يصح في الأذهان شيء ... إذا احتاج النهار إلى دليل والذي يدعو إلى مساواة المرأة بالرجل في ميادين الحياة، حقيقة دعوته المطابقة لما في نفس الأمر، أنه يحاول بكل جهوده، أن يردي المرأة المسلمة في مهواة الفساد، التي تردت فيها نساء البلاد الأخرى. فالنتيجة التي كانت عاقبة البلاد الأخرى معلومة لا نزاع فيها، والعجب ممن يراها ويتحققها، ويدعو أمته للأسباب التي توقع في مثلها. وختاما فليعلم سموكم أن الذين يخدعون المرأة المسلمة بالشعارات الزائفة، والأساليب البراقة الكاذبة، من حرية وتقدم، وكفاح، وممارسة حقوق في الحياة، ويخيلون لها أنها رجل في جميع الميادين، يريدون إيقاعها في المآسي الآتية: أولا: أن تكون ملعونة في كتاب الله، وعلى لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم لتشبهها بالرجال في كل شيء، وإلغائها الجزء: 16 ¦ الصفحة: 69 الفوارق الطبيعية التي فرق الله بها بينهما قدرا وكونا وشرعا. ثانيا: القضاء على حيائها اللائق بشرفها ومروءتها وإنسانيتها. ثالثا: تعريض جمالها لأن يكون مرتعا لعيون الخائنين يتمتعون به مجانا على سبيل الخيانة والمكر، على حساب الدين والشرف والفضيلة، من وراء اسم التقدم، والحرية؛ وربما آلت بها تلك المخالطة إلى أشياء أخرى غير لائقة. رابعا: تعريضها لأن تكون خراجة ولاجة، تزاول الأعمال الشاقة كالأمة، بعد أن كانت درة مصونة في صدف بيتها محجبة، تكفى كل المؤونات صيانة وإكراما لها، ومحافظة على شرفها، مع قيامها بالخدمات العظيمة لزوجها ولأولادها، وعامة المجتمع الإنساني في بيتها، من غير إخلال بشرف ولا دين. ومما تقدم من الأدلة يعلم تحريم توظيف المرأة في المجالات التي تخالط فيها الرجال، وتدعو إلى بروزها، والإخلال بكرامتها، والإسفار عن بعض محاسنها، مثل كونها مضيفة في الطائرة، وعاملة في الخدمة الاجتماعية، ومذيعة في الإذاعة، أو مغنية، أو عاملة في المصنع مع الرجال، أو كاتبة في مكاتب الرجال، ونحو ذلك; أما عملها فيما يختص بالنساء، كالتعليم والتمريض، ونحو ذلك، فلا مانع منه. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 70 ونبتهل إلى الله سبحانه أن يلهمكم الصواب، وينصر بكم الحق، ويحمي بكم الشريعة، ويسدد خطاكم في الأقوال والأعمال؛ إنه على كل شيء قدير. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. إخوانكم المخلصون، عنهم محمد بن إبراهيم. وقال الشيخ عبد الله السليمان بن حميد: نقد وتوجيه 1 [حول تعليم البنات وفتح مدارس لهن] كثيرا ما نسمع كلمات حول تعليم البنات، وفتح مدارس لهن، وكنا بين مصدق ومكذب؛ حتى تحقق ذلك رسميا؛ فاستغربنا هذا، وأسفنا له غاية الأسف، ولنا عظيم الأمل بحكومتنا السنية التي دستورها القرآن وشريعة محمد صلى الله عليه وسلم. أن يكون التعليم للبنت على المنهح الذي يقره الدين وتعاليمه، مع التمسك بالحجاب، وبالأخلاق الفاضلة، كما كان التعليم زمن السلف الصالح إلى يومنا هذا؛ وهي فاعلة إن شاء الله. والذي أثار الشعور، وأقلق النفس كلمة القصيم، بعنوان: تعليم البنت، بعددها 26 الصادر في 6/12/   1 نشر في مجلة راية الإسلام سنة 1380 هـ. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 71 1379?. تلك الكلمة يظهر منها تحسين ما قبح الله، ومخالفة ما شرعه، وصريحة بشن الغارة على رجال الدين، حيث سماهم عقبة كأداء. نعم، إن رجال الدين عقبة كأداء، دون التعليم الذي يعود وبالا على الأمة والبلاد، وحربا على الفضيلة والأخلاق، بالتبرج والسفور؛ وعاقبته الانحلال والفجور. ويرون وجوب تعليم المرأة ما يجب عليها من أمور دينها؛ ولم يزل المسلمون يعلمون نساءهم تحت الستار والحجاب، من زمن الصحابة إلى يومنا هذا; والكاتب يعلم أن كل بيت ما يخلو - بحمد الله - من قارئة للقرآن أو بعضه، وكل بلد ما يخلو من معلمة أو معلمات. وإنما يقصد بالتعلم، الذي هو مجاراة الأمم المنحلة عن الدين، كما يدل عليه قوله: ويعوضنا ما فات، ويهيئ لنا التقدم بشطري الأمة، فيكون التعادل، ويكون التماثل، ويكون الانسجام ... إلى أن قال: ويجعلها تطير إلى أهدافها بجناحين متكافئين، كل واحد منهما يؤدي واجبه على أحسن وجه وأكمله، جناح البنين وجناح البنات، إلى آخر مقاله. لا شك أن هذا الكلام خلاف ما شرع الله ورسوله، ودرج عليه المسلمون والعرب في جاهليتها، وضد حكمة الله في خلقه؛ فالله فضل الرجل على المرأة، وجعله الجزء: 16 ¦ الصفحة: 72 القائم عليها; وجعل له من الحقوق مثل ما لها، وجعل شهادة الرجل تعدل شهادة امرأتين، وفضله في الدية وغير ذلك مما يطول عده. وقال الصادق الأمين الذي لا ينطق عن الهوى: "ناقصات عقل ودين" 1، وأمرها الله بالحجاب كما في القرآن العظيم، وفي سنة رسوله أكثر من أن يحصر، والحجاب شرع للمرأة، حفظا لها من عبث الرجل وفتنة المحتال. قال تعالى: {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [سورة الأحزاب آية: 32] ، ويقول صلى الله عليه وسلم: "ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء" 2، وقال: "ما خلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما"3. ومع الحجاب وشدة الحكومة - أيدها الله - على أهل الفساد، نرى ونسمع مرضى القلوب يتابعون النساء في الشوارع والمنعطفات، ويقفون لهن على الأبواب، وفي الأماكن المظلمة، ويتسلقون عليهن الجدران. فكيف إذا حصل السفور والاختلاط؟ وتمكن الذئب من الغنم؟ مع ضعف الدين وقوة سلطان الشر، وكثرة أهله؟! اللهم سلم; هناك يظهر الشر من خبثاء النفوس، والذين في قلوبهم مرض. إن المرأة عورة، وتعليمها على الصفة التي يريدها المفكرون والباحثون - كما زعم الكاتب - مصدر انحطاط   1 البخاري: الحيض (304) , ومسلم: الإيمان (80) . 2 البخاري: النكاح (5096) , ومسلم: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2740 ,2741) , والترمذي: الأدب (2780) , وابن ماجه: الفتن (3998) , وأحمد (5/210) . 3 البخاري: النكاح (5232) , ومسلم: السلام (2172) , والترمذي: الرضاع (1171) , وأحمد (4/149 ,4/153) , والدارمي: الاستئذان (2642) . الجزء: 16 ¦ الصفحة: 73 الأمة وسقوطها في الهاوية، وهل مصيبة على المسلمين أعظم من تمرد المرأة؟ وخروجها عن تعاليم دينها، وآداب شرعها وعوائد قومها، وإباحة السفور لها؟! وهل غزا الأجانب البلاد المجاورة، إلا بسقوط الأخلاق؟! وبتعليم المرأة حصل التبرج، وبتعليمها مزقت الحجاب، وكشفت عن الساق والفخذ، والرأس والصدر، فصرفت لها الأنظار، فثارت الشهوة، فضعفت الرجولية، وماتت الغيرة والحمية، وهلك الشباب بذلك. وإذا أصيب القوم في أخلاقهم فأقم عليهم مأتما وعويلا وإني أنصح لكل مسلم أن لا يدخل ابنته أو أخته في هذه المدارس التي ظاهرها الرحمة، وباطنها البلاء والفتنة، ونهايتها السفور والفجور، وسقوط الأخلاق والفضيلة؛ ومن لم يتعظ ويعتبر بما يرى ويسمع في البلاد المجاورة فلن يعظه شيء {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [سورة النور آية: 40] . فعلى الدعاة والمرشدين والمصلحين أن يسارعوا إلى القيام بواجبهم نحو هذه الأخطار التي يسعى بها أعداء الإسلام إلى المسلمين، وإلى أوطانهم، وأن يشرحوا مزايا الإسلام ومحاسن الدين، وكيف جاء عن النبي الكريم في شأن المرأة المسلمة؟ وأن يردوا على مثل هذه الكلمات الخاطئة، ويقاوموا الأعمال السيئة التي تعود على مجتمعنا الجزء: 16 ¦ الصفحة: 74 بالخذلان والدمار، كل على حسبه، والله ولي التوفيق. [أخطار تحيط بكم أيها المسلمون] وقال الشيخ عبد الله السليمان بن حميد، أيضا 1 الحمد لله وحده وصلى الله وسلم على نبيه الكريم. وبعد، أيها المسلمون، إن محاربة تعاليم الإسلام، والعمل على نقض عراه، هو أهم ما يضعه أعداء المسلمين نصب أعينهم، من بعثة محمد صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا، فهم بذلوا وسعهم في العمل على اقتلاع جذوره، والتخلص منه، والقضاء عليه، لكونهم يرونه الصخرة الصلدة التي تقف في سبيل أطماعهم، وتقطع عليهم غيهم وضلالهم، وتحول دون استغلالهم واستعبادهم للمسلمين؛ وقد أجمعوا عدتهم وعديدهم، في كل وقت وحين، لإزالة الإسلام وإبادة المسلمين، كما هو مبسوط في التواريخ. ولكن - بحمد الله - لم يدركوا مرادهم في هذه الحروب، بل الغلبة للمسلمين في أكثر الوقائع؛ ولما رأوا أنهم لم يدركوا - ولن يدركوا إن شاء الله - غايتهم عن طريق الحروب النارية، رسموا طريقا أخبث، وسلاحا أخطر.   1 في رسالة طبعت مستقلة, عنوانها: "أحظار تحيط بكم أيها المسلمون". الجزء: 16 ¦ الصفحة: 75 فعملوا طريق التعليم لأولاد المسلمين، ذكورهم وإناثهم، باسم التوجيه، والإصلاح، والتثقيف، حتى أدركوا بهذا التعليم، جيلا من شباب المسلمين لا يعرف الدين، ولا يعتز بالإسلام، تحللوا من قواعده، وتنكروا للأخلاق الإسلامية؛ فكان هؤلاء طليعة في بلادهم لأعداء الإسلام، وعونا لهم على الاحتلال والاستغلال. وما غزا الأجانب أكثر البلاد الإسلامية، إلا بواسطة أفراخهم هؤلاء الشباب المغرورين، الذين صاروا حربا على القائمين بشريعة الإسلام؛ وإنما صار الشباب المتعلم في تلك الحال المخزية، بسبب هذه التوجيهات الغربية التي يغرونهم بها؛ فيرونها مضيئة لامعة جذابة، فيميلون نحوها، كالفراش يلقي نفسه في النار، جاهلين أن هذه التوجيهات الغربية، هي الداء العضال، والسم القتال، وأن فيها دمارهم، ودمار بلادهم. وهل هلك الشباب العربي إلا بالضوء اللامع مع زعمهم؟ وهل ذهبت أخلاقهم إلا عند المنظر الجميل، بسبب الاختلاط؟! فلم يبق لهم قوة في نفوسهم، أو حماس في صدورهم، بعد ذهاب أخلاقهم وانتزاع الغيرة منهم. وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت ... فإن هُمُ ذهبت أخلاقهم ذهبوا الجزء: 16 ¦ الصفحة: 76 وبذلك نجح احتلال الأعداء لبعض الأقطار المجاورة، بهذا السلاح البارد؛ فهم الآن كما تسمعون عنهم، يقرون الرذيلة والفساد في أوطانهم، كمسارح الرقص، ومحلات المجون والخلاعة، والخمور؛ حتى إن الرخص تمنح للنساء العربيات، ليتجرن في أعراضهن، وليبعن عفافهن، وليفتحن بيوت البغاء رسميا وعلانية، بدون خجل أو حياء أو مبالاة. ولا نطيل الكلام بذكر ما يجري هناك، من المخازي والأمور القبيحة، من الرؤساء والأعيان، فضلا عن الهمج؛ كما أنه بالتوجيهات الغربية والثقافات المزيفة، فقد شبابهم العقائد الصحيحة، وسارعوا إلى الإلحاد والزندقة، وحاربوا الدين والمتدينين، ووالوا الكفرة والمشركين. وكل ذلك من آثار التعليم الغربي، والثقافات المزيفة، فصاروا إلى هذه الحال المحزنة. أيها المسلمون، إن المملكة العربية السعودية، كانت - بحمد الله - آمنة مطمئنة، متمسكة بشرائع الإسلام، منفذة لتعاليم الدين، متبعة للقرآن، وعاملة بسنن خير المرسلين; ولكن يا للأسف، دب إليها الشر من حيث لا يعلمون، واستحكم فيها البلاء من حيث لا يدرون. بسبب بعض التعليم الحديث، وبعض المعلمين الجزء: 16 ¦ الصفحة: 77 الأجانب، ودخول المجلات الداعرة، والصحف الفاجرة، واستماع الإذاعات الملحدة المملوءة بالنيل من الدين ورجاله، والطعن في الإسلام ونظامه، والتصريح بأن التمسك بالدين جمود ورجعية، وأن الانحلال والإلحاد تقدم ومدنية. وبهذه الأمور اختلت الأخلاق، وتغيرت الفطر، وترك كثير من أوامر الله، وارتكب كثير من نواهيه، وبث بعض المعلمين الأجانب - الذين لا صلة لهم بالدين ولا علاقة - في نفوس كثير من الطلبة كراهة الدين وأهله، وتنقصهم، والاستخفاف بهم؛ حتى إنهم يتنقصون الحكومة، وينتقدون الكثير من أعمالها. وتحقق ضرر هؤلاء المعلمين الأجانب، على أبناء هذه المملكة، وظهر سوء عاقبتهم على الدين والأخلاق والحكومة. وكنا في أمل من حكومتنا - وفقها الله - للانتباه والإصلاح، وتدارك ما حصل بتعديل مناهج الدراسة، على ما يقوم به الدين، وتحصل به منفعة للوطن، وإبعاد المعلمين الأجانب المنحرفين، ومنع المجلات والصحف الضارة. إذ فجأنا خبر فادح ومصيبة عظيمة، وطامة كبرى; ألا وهي فتح مدارس لتعليم البنات في المملكة العربية الجزء: 16 ¦ الصفحة: 78 السعودية على نحو التعليم الموجود في البلاد المنحلة، عن الدين والأخلاق. وقد عارض بعض المسلمين في تعليم المرأة بهذه الصفة، خوفا من فتنتها، وحذرا من ضررها على المجتمع، في المستقبل بعد مدة. وألفت نظر ولاة الأمور، إلى أنه لا مانع من توسيع تعليم المرأة على المنهج الذي يقره الدين وتعاليمه، مع التمسك بالحجاب، وبالأخلاق الفاضلة، وكما كان التعليم زمن السلف الصالح، مثل تعليمها التوحيد، والطهارة، والصلاة، وأحكام الحيض والنفاس، وأمور دينها الواجب عليها، وكتربية أولادها، وتدبير منْزلها، وغير ذلك من الأمور النافعة لها؛ وهذا فيما يظهر ونظن، هو هدف الحكومة - أيدها الله - ورغبتها. ولذا جعلوها منوطة بالمشائخ، وقد عينوا برياستها شيخا منهم، مؤملين فيه السير بمدارس البنات على الهدف المنشود؛ ولكن يا للأسف! بأول سنة شوهد تبدل الأمر، وسوء الحال: فقد نشرت جريدة البلاد، بعددها 703 في 3/2/1380? مقالا للرئيس المذكور، يتضمن عزمه على إدخال مواضيع الحساب، والهندسة، والجغرافيا، بمناهج مدارس البنات، في السنة الدراسية القادمة؛ لأن هذه المواضيع لم تكن تدرس في هذه السنة. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 79 هذا وقد صرح الرئيس العام لمدارس البنات بأن منهاج مدارس البنات يتألف من خلاصة مناهج التعليم بالجمهورية العربية المتحدة ... إلخ. كما وقد سمعنا أنهم سيجلبون معلمات صالحات، من سورية ولبنان ومصر، فيا ليت شعري أن الرئيس يبين هذا الصلاح في تلك النسوة، التي سيجلبهن من الخارج للتعليم في هذه المملكة. بل إن الصالحات منهن سافرات مائلات مميلات، وكأنه لا يوجد في المملكة العربية معلمات صالحات لتعليم الدين النافع، فلا حول ولا قوة إلا بالله. أيها المسلمون، يا أهل الغيرة والأنفة، اسمعوا لهذا التصريح الشنيع الذي يقصد منه إرغام أهل الخير، ومجاراة الأمم المنحلة، في تعليم بناتكم الحساب، والهندسة، والجغرافيا، ما للنساء وهذه العلوم، تضاف إلى ما يزيد عن أحد عشر درسا، غالبا لا فائدة فيه؟ إنها لمصيبة وخطر عظيم على مجتمعنا. إن تعليم المرأة على هذه الصفة، هو مصدر انحطاط الأمة، وسقوطها في الهاوية، إن هذا التعليم سبب لتمرد المرأة، وخروجها عن تعاليم دينها، وآداب شرعها، وعوائد قومها الصالحة، وسفورها، وتبرجها، واختلاطها مع الأجانب؛ والسفور مدعاة إلى الفجور، وفتنة الاختلاط كبيرة. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 80 وقد أجمع العقلاء على أن المرأة مطمع نظر الرجل ومثار شهوته، وأن الاختلاط مثير للشهوة جالب للفتن، سبب لفعل ما يكرهه الله. وهل حدث ما تعلمون أو تسمعون عنه في البلاد المجاورة من تمزيق الحجاب وكشف الساق والفخذ والرأس، وفتح بيوت البغاء، والسينما، والرقص والخلاعة، إلا بعد التعليم المزعوم ثقافة؟!. وقد انتقد بعض القراء كلمتي السابقة عن مدارس البنات، متباعدين وقوع ما أشرت إليه؛ ولعلهم الآن عذروا، بعدما رأوا وسمعوا عن لباس البنات الخاص بالمدرسة، وركوبهن الأتوبيسات سافرات؛ وليس الخبر كالعيان. أيها المسلمون، إن أفراخ الإفرنج الذين تغذوا بألبانهم، وتثقفوا بتعاليمهم، يريدون من تعليم المرأة مشاركتها للرجل في المكاتب، والمباسط، والمعامل، والمدارس، كما صرحوا به في عدة مقالات معروفة، فقد خسرنا الغالب من أبنائنا نتيجة هذا التعلم الفاسد. فهم لا يقدرون أبا، ولا يحترمون أما، ولا يرحمون أخوة، ولا يؤدون واجبا إلا وهم كارهون؛ يحبون الشر، ويقلدون الكفرة، ويتشبهون بالمجوس، ويبغضون الخير وأهله، ويتنقصونهم، فالله المستعان. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 81 ولم يقفوا عند هذا الحد، بل يريدون ويحاولون إخراج البنات من أكنانهن ليكشفوا حجابهن، وليتمكنوا من التمتع بهن، بحيلة هذا التعليم المزعوم. والعجب العجاب: حصول هذه الأمور الهدامة، التي هي هدم للأخلاق، وخروج عن الشريعة، ومحادة لله ولرسوله، وللمسلمين، ولا نرى المنتسبين إلى العلم والمتصفين بالشهامة والرجولة يهمهم ذلك. فأين الغيرة يا أهل الإسلام؟! غزاكم أعداء الإسلام في بيوتكم، وأفسدوا الكثير من أبنائكم، ويحاولون إفساد البنات، وأنتم ساكتون! ما هذا السكوت والطمأنينة، والركود والإخلاد؟! أجهلتم هذا؟! أم تساهلتم به؟ فإنه والله عظيم! كيف بعد التستر والحجاب، والحفظ والصيانة يكون السفور والخلاعة، في بلاد نشأ أهلها على فطرة الإسلام، وعبادة الله وحده، وتحكيم شرعه، ودستورها القرآن؟! إنها لمصيبة عظيمة! أيها المسلمون، كونوا على حذر، وتنبهوا لهذه الأخطار، وتكاتفوا، وتعاونوا في السعي، بمراجعة المشائخ والحكومة، وبيان الحقائق لهم، لإغلاق ما فتح من هذه المدارس التي فتحت لتعليم البنات على المنهج الحديث. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 82 فهي مدارس ظاهرها الرحمة، وباطنها البلاء والفتنة، ونهايتها السفور والفجور، فإن لم تدركوا الحصول على إغلاقها، فلا تقبلوا فتحها في بلاد لم تفتح فيها؛ فإن تساهلتم حل بكم ما حل بغيركم، وستندمون وقت لا ينفع الندم. إن تعليم المرأة على هذا المنهج خطر عظيم على المجتمع، ومصيبة لا تجبر، وعاقبته سيئة; إن تعليم المرأة سبب لتمردها، وهن ناقصات عقل ودين؛ لذا أوجب الله على المكلفين من العبادات ما هو معلوم. وخص المرأة - وهو العليم الحكيم - بوجوب الحجاب في عدة آيات من القرآن، وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم معلوم مشهور، فلا نطيل بذكر ما ورد في ذلك. ونهى الشارع عن سفر المرأة وحدها، وحرم الخلوة بالأجنبية، إبعادا للتهم، وكان أهل الجاهلية، يئدون البنات خشية العار، فيلحقهم عارها. وبيتعليمها ستسافر وحدها، وتخلو بزميلها أو معلمها، وتذهب بعض الليل بعيدة عن أهلها باسم الدراسة والمذاكرة، أو تبيت عند غير أهلها، ولا يكون لوليها عليها أمر. فالله الله عباد الله، في مقاومتها وردها، وعدم قبولها؛ فإنه لا يرضى بهذه المدارس، إلا من لا غيرة الجزء: 16 ¦ الصفحة: 83 عنده، ولا رجولة ولا دين. والغالب أن الراضين بها والمستحسنين لها من دعاة الفجور، نعوذ بالله من موجبات غضبه. والقصد مما ذكرنا: النصيحة لإخواننا المسلمين، وأداء الواجب، وبراءة الذمة؛ والله يوفقنا جميعا لما يحبه ويرضاه، إنه جواد كريم؛ وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه. [في سبيل الحق] وقال الشيخ: عبد الرحمن بن حماد العمر: 1 بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وآله وصحبه ومن اهتدى بهداه. وبعد: فبمناسبة ما نشاهده من تحول في تطبيق ديننا الحنيف نتيجة ما مني به كثير من المنتسبين للإسلام، من تخلف فكري وعقائدي، جعلهم يسخرون بدينهم، وبالداعين إليه; ويطالبون باسم التقدم والرقي إحلال كثير من المحرمات في بلادهم، مخرج الأنبياء، ومهبط وحي السماء. وامتثالا لما أوجبه الله علينا، من مؤازرة الحق، ونصيحة من حادوا عنه، وإرشادهم إلى طريق سعادتهم ورقيهم ونجاتهم،   1 في رسالة له "في سبيل الحق" في 7 - 3- 1383هـ. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 84 لهذا قمت بإعداد هذه الرسالة، راجيا من الله سبحانه أن يجعلها من الأسباب الناجعة في حل الخلاف، وشفاء القلوب. كما أرجو من القارئ الكريم أن يدرأ بالحسنة السيئة، ويحمل كلماتها محمل النصح وحسن المعتقد؛ فذلك مقصدي، والله حسبي ووكيلي. بسم الله الرحمن الرحيم رسالة: إلى الطائفة المنصورة: إليكم يا حملة رسالة الأنبياء والمرسلين، إليك يا أخي المجاهد في سبيل الله ... بيدك ... بلسانك ... بقلمك ... بذلك كله ... إليك أوجه رسالتي هذه، وأنا أحس بإحساسك، وأشعر بشعورك. ولكني أقول لك يا أخي المجاهد الغيور: إنك سوف تلاقي في سبيل دعوتك إلى الله، وفي سبيل غيرتك لمحارم الله، عندما تراها تنتهك ... عندما ترى السفور منتشرا، والخمر مستقى، والجرائم الأخلاقية مرتكبة، والفرائض مضاعة، والدين والشرف يستباحان، باسم التقدم والرقي. أقول لك: سوف تتقاذفك سهام مرضى القلوب، الذين تنفذ دعوتك إلى مخازيهم وأهدافهم الخسيسة، نفوذ السهم من الرمية، وسوف يقولون عنك: منافق، مخادع، الجزء: 16 ¦ الصفحة: 85 أكال، جاهل، رجعي، دجال; وسوف يقولون عنك كل شيء مما يشفون به غليل نفوسهم المريضة، وسوف يطالبون بطردك من وظيفتك إن كنت موظفا، ويحاربونك في كل مجال. ولكني أذكرك قدوتك وإمامك محمدا صلى الله عليه وسلم الذي دعا الناس بمكة عشر سنين، لم يؤمن خلالها بدعوته إلا النّزر اليسير، والذي قيل له لما بدأ دعوته إلى الله: ساحر، كاهن، مجنون. وقيل لمن أراد الإنصات لتلاوته: {لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [سورة فصلت آية: 26] وقذف بالحجارة، وألقى عليه سلى الجزور - وهو ساجد أمام بيت الله - ومع هذا كله، صبر وضاعف جهاده، ولم يشك قلة حيلته، وهوانه على الناس إلا على ربه; وكسرت رباعيته، وشج وجهه، ولم يزد على أن أخذ يمسح الدم عن وجهه، ويقول: "اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون" 1. نعم، ذلك هو محمد بن عبد الله، جاهد في الله، وتلقى الأذى بصدر رحب في سبيل الله، حتى حقق الله له النصر، فاستغفر الله الذي توفاه مؤمنا حقا، وألحقه بالرفيق الأعلى، بعد أن بلغ الرسالة، وأدى الأمانة. وتلا محمدا صحابته، والتابعون لهم بإحسان،   1 البخاري: أحاديث الأنبياء (3477) , ومسلم: الجهاد والسير (1792) , وابن ماجه: الفتن (4025) , وأحمد (1/380 ,1/441 ,1/453) . الجزء: 16 ¦ الصفحة: 86 بالإيمان والجهاد، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، بالغيرة لمحارم الله، بنشر دين الله، بدعوة الناس إليه. وهكذا يتبع هديه المهتدون إلى يوم القيامة، ممن قال الله فيهم: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ} [سورة فصلت آية: 33] ، وممن حققوا قول الله: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [سورة آل عمران آية: 104] . بل إنهم الطائفة المنصورة التي قال عنها محمد صلى الله عليه وسلم: "لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة لا يضرهم من خذلهم، ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله تبارك وتعالى" 1 ذلك لأنهم فهموا قول الله: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [سورة النساء آية: 114] . فهموا ذلك القول الرباني فحققوه، فاستحقوا أن يوصفوا بمقتضاه، ويكرموا جزاء امتثاله كرامة المتقين. وهكذا يصف الله المجاهدين فيه من الرسل وحملة رسالتهم، تلك الرسالات التي اختتمت برسالة محمد صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة، والتي بها رسخت أركان العدالة في الأرض، وانمحت رواسب التفرقة بين بني الإنسان، بقول الله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [سورة الحجرات آية: 13] ، وبقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس لعربي فضل على عجمي   1 مسلم: الإمارة (1920) , والترمذي: الفتن (2229) , وابن ماجه: المقدمة (10) , وأحمد (5/279) . الجزء: 16 ¦ الصفحة: 87 إلا بالتقوى; كلكم لآدم وآدم من تراب". أو كما قال. وأنتم يا دعاة الحق، الغيورين لحرمات الله، المؤمنين به، الداعين إليه، أنتم المخاطبون بالتضحية، والصبر، فلا تنهزموا أمام الباطل الزاهد، وأنتم الأعلون. واعلموا أن الله معكم، ينصركم كما نصر من جاهدوا قبلكم من الأنبياء وعباد الله المخلصين. فادعوا إلى الله على بصيرة، قابلوا الجاهل بالحلم، وخاطبوا العالم المعاند، بالإقناع بالموعظة الحسنة، لعله يتذكر أو يخشى، ولعله يتوب إلى ربه من ظلم نفسه. لأنه يظن - يا أخي المجاهد - أنه يضادك ويغيظك، ولا يدري أنه إنما يضاد نفسه، ويسعى في هلاكها، وينصب من نفسه عدوا لله، وناصرا للشيطان، ناصرا للمنكر من تحكيم القوانين، وإباحة وأد الأخلاق الفاضلة، ناصرا لتقاليد الغربيين والشيوعيين، في أهله، في بنيه، وبناته. يفكر أن التقدم في إدخال ابنته وعورته، مدرسة يقوم بالتدريس فيها أستاذة تلقت دراستها في الخارج، وصارت طيلة أيام دراستها مع زميلها على كرسي واحد، ومشت متبرجة في الشارع، وشاهدت المسرح والرقص، ودخلت دور السينماء وقرأت شيئا من "آخر ساعة" و "المصور" وشيئا من مؤلفات ذوي الخلاعة والمجون، في مقابل الجهل بأمر دينها، وفاضل أخلاقها. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 88 ويقتنع هذا المغرور بنفسه، الجاهل بمستقبل محارمه أن ابنته في مدرسة مصونة بالحيطان عن عيون الرجال، دون أن يفكر في تلك الأستاذة الماثلة أمام ابنته، والتي لن تدرسها مهما أعطيت من التعليمات، إلا الشيء الذي تعرفه، لأنها لا تعرف غيره. وإن لم تظهر ذلك الذي تعرف في كل درسها، فلا بد من ظهوره في فعلها ونظراتها، وحركاتها، وفرطات كلامها، لأنه من المستحيل أن ينضح إناء بغير الذي فيه. وظيفة المرأة: ويظن هذا المغرور أن للمرأة حقا في مشاركة الرجل، في الدائرة، وفي المتجر، والمصنع، وفي الإذاعة؛ وينسى أنها عورة إنما خلقت لتصان في بيوت، وتكرم فيها. وينسى أن الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض، كما جاء في كتاب الله الذي حفظ لها حقوقها وكرامتها، وبين مهمتها في الحياة، وكما بين تلك الحقوق وتلك المهمة أيضا محمد صلى الله عليه وسلم في كثير من الأحاديث. فلو قرأ قول الله: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 89 مِنْهَا1 وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْأِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ2 أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [سورة النور آية: 31] .   1 ما ظهر منها: هو ما لا تستطبع المرأة ستره، كالخارج من الثياب ونحوها، كما جاء عن ابن مسعود وغيره، وليس هو كما نسب إلى ابن عباس، بدليل الآيات، والأحاديث الموجبة لستر الوجه عن الرجال الأجانب 2 المقصود بأولي الإربة: الذين لا حاجة لهم في الجماع، ولا دافع لديهم إليه، أما أولئك الذين يستخدمون في بيوتهم الرجال، ويتركونهم يخاطبون محارمهم، كالسائق، والطباخ، وخادم التنظيف، وقاضي الحوائج، ونحوهم من الأطفال الذين تزيد أعمارهم على سن العاشرة، على أساس الثقة فيهم. فهؤلاء: قد أخطؤوا، واتصفوا تصفة تدل على عدم غيرتهم؛ ففي الحديث: "ما خلا رجلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما" وفي الحديث أيضا: "مروا أبناءكم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع". الجزء: 16 ¦ الصفحة: 90 وقوله الله تعالى: {وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [سورة النور آية: 59] ، وقول الله: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً} [سورة النساء آية: 34] ، وقول الله: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ} [سورة الطلاق آية: 6] ، وقول الله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ} [سورة الأحزاب آية: 59] الآية، لو قرأ هذا وآمن به، لما طالب بتحلل المرأة، وخروجها من سترها إلى محيط العمل، ومخالطة الأجانب. وآمن بقول الله: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [سورة النور آية: 30] ، وبقول الله: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [سورة الأحزاب آية: 53] ، وبقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كتب على ابن آدم نصيبه من الزنى، مدرك ذلك لا محالة: العينان زناهما النظر، والأذنان زناهما الاستماع، واللسان زناه الكلام، واليد زناها الجزء: 16 ¦ الصفحة: 91 البطش، والرجل زناها الخطى. والقلب يهوى ويتمنى، ويصدق ذلك الفرج أو يكذبه" 1 متفق عليه، وبحديث أم سلمة رضي الله عنها، قالت: "كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده ميمونة، فأقبل ابن أم مكتوم، وذلك بعد أن أمرنا بالحجاب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم احتجبا منه; فقلنا: يا رسول الله، أليس هو أعمى لا يبصرنا، ولا يعرفنا؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم أفعمياوان أنتما؟ ألستما تبصرانه؟ "2، وبقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يخلون أحدكم بامرأة إلا مع ذي محرم " 3 متفق عليه. لو قرأ هذا وآمن به، لما طالب بتحلل المرأة، وخروجها لتختلط بالرجال; ولما "سئلت فاطمة ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الأفضل للمرأة؟ قالت: أن لا ترى الرجال ولا يرونها" وقال الشيخ محمد بن عبد الله بن حمدان: لن نترك كتاب الله، ونعمل بالنظم الغربية 4 اطلعت في جريدة اليمامة العدد 249 في 1/6/80 على كلمة بعنوان: " نقد وتوجيه " بتوقيع رشيد سلهوب الخالدي، من الظهران، ردا على كلمتي المنشورة في مجلة راية الإسلام الغراء، حول كلمة: "لا تئدوا بناتنا في المهد" يقول الكاتب في كلمته:   1 البخاري: الاستئذان (6243) والقدر (6612) , ومسلم: القدر (2657) , وأبو داود: النكاح (2152) , وأحمد (2/276 ,2/317) . 2 الترمذي: الأدب (2778) , وأبو داود: اللباس (4112) , وأحمد (6/296) . 3 البخاري: النكاح (5233) , ومسلم: الحج (1341) , وأحمد (1/222) . 4 نشر هذا المقال في مجلة راية الإسلام, سنة 1380 هـ. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 92 إن تعليم البنات - على الطريقة المتبعة في الخارج - دعوة إلى الانطلاق والتقدم، والعمل لمؤازرة الرجل. هكذا يصف التعليم الذي نهايته: التبرج والسفور، والانحلال، والرقص، والغناء، والخروج على الأخلاق. ليتكم يا هذا تطالبون بتعليم البنات في حدود ما رسمه الدين الحنيف، وتكتفون بذلك، إذاً لرحبنا بذلك، وأيدناكم؛ ولكنكم تريدون تعليما كالتعليم الموجود في الخارج - مجرد تقليد ومحاكاة - ولا تهمكم تعاليم الإسلام التي تأمر بالمحافظة على أخلاق المرأة، وتصون لها عفتها وكرامتها. لا تريدون هذا، لأنه من أعمال الرجعيين!! تريدون لفتياتكم أن ينْزلن بجانب الرجل، في ميادين العمل؛ بل تريدون لهن أن يخرجن نجوما للسينما، والتلفزيون، وغيرهما، وهذا هو التقدم، الذي تتمنون أن تحرزه أمتكم. وهذا خروج على مبادئ الدين الحنيف، ومحاربة للفضيلة، ولا يرضاه الإسلام، بل حذر منه. ورغم أن الإسلام بين أن المرأة عورة، يجب محافظتها على الأخلاق، والتحرز من الاختلاط بالرجال، فإن أنصار المرأة - أو على الأصح أعداءها - لا يرضيهم هذا، لأنه بحد زعمهم كبت وحبس لها; الجزء: 16 ¦ الصفحة: 93 وهذا ما تلقنوه من أساتذتهم - أسيادهم - الغربيين، وأتباعهم، وقبلته عقولهم الضعيفة. ثم يقول الكاتب: أرأيت كيف وصلت البلدان التقدمية إلى ما هي عليه الآن من حضارة، وعلم، وتكتيك؟! ولو لم تكن بجانب الرجل تشد أزره، لما نهضت وتقدمت؟!. وجوابي على هذا التساؤل، أن أقول: نعم رأيت وسمعت، ويا لهول ما سمعت وما رأيت!! رأيت: أنهم تجاوزوا في تعليم فتياتهم، فلم يكتفوا بتعليمهن الدين، وشؤون المنْزل، وتربية الأولاد. لا; لم يكتفوا بذلك، بل خرجوا بهن عن الحدود الموسومة لهن، زاعمين أنهم يريدون لهن التحرر، والحضارة والانطلاق؛ فخرجن بذلك عن تعاليم الإسلام، ونزعن برقع الحياء، وتركن الحجاب، واختلطن بالرجال، ونزلن إلى ميادين العمل؛ بل برعن في إجادة الرقص، والغناء، والفجور!! وصار ما يخالف هذا يعد من أعمال الرجعية!! أي حضارة؟! وأي تقدم في هذا الذي وصلت إليه هذه الأمم؟!! نحمد الله أننا لم نصل بعد - ولن نصل إن شاء الله - إلى هذه الحضارة الزائفة، وهذا التقدم المزعوم!!. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 94 نحمد الله على ما نحن عليه، من تمسك نسائنا بتعاليم الإسلام، في المحافظة على الحجاب، وعدم الاختلاط بالرجال، وعدم إظهار الزينة، والتمشي مع تعاليم الدين الذي من تمسك به فهو السعيد. وليست أدل على ذلك مما تزخر به إذاعاتهم وصحفهم من هذا النوع، فهذه المجلات الخليعة التي ترد إلينا منهم فيها من الصور العارية، والحكايات الفاجرة، والقصص، والأوصاف الخسيسة، فيها من كل هذا وأكثر منه، الشيء الكثير - كما هو معروف -، زيادة على ما فيها من إلحاد، وزندقة، واستهزاء بالدين وأهله. هذا هو التقدم والحضارة المزعومة!! ولكن الله سينصر دينه ويعلي كلمته، ويدحض أعداءه، ويكبتهم، ويحفظ علينا ديننا، وأخلاقنا، وشيمنا، ورجعيتنا، إن كان التمسك بالدين هو الرجعية. ثم يقول الكاتب متسائلا: هل اطلعت على الإعلان العالمي لحقوق الإنسان؟ الصادر في "سان فرنسيسكو" الذي يقضي عدم التمييز بين الرجل والمرأة؟!. اضحك معي أيها القارئ الكريم، وابك أيضا على هذا الكلام، فهو مضحك مبك في آن واحد; كيف تستدل أيها الكاتب على عدم التمييز، بما أوصت به هذه اللجنة؟! لماذا تكلف نفسك مشقة البحث والاطلاع؟ وتذهب الجزء: 16 ¦ الصفحة: 95 بعيدا إلى ما أوصت به لجنة "سان فرانسيسكو"؟! أليس عندك كتاب الله، وسنة رسوله؟ فيهما الخير الكثير، لمن أراد الهداية; فيهما ما يغنيك عن تتبع ما أوصت به اللجان الغربية، عن مركز المرأة أو غيره. فإن كنت تعتقد - وهذا ما نرجوه - أن توصيات الدين الإسلامي خير من توصيات هذه اللجان وأشباهها، فلماذا تترك توصياته وتعاليمه، وتبحث غيرها؟!. وإن كانت الأخرى - لا قدر الله - فاعلم أن الدين الإسلامي أرقى الأديان، وأعظمها، وأنه جاء بخير البشرية جمعاء؛ فلا خير إلا دلنا عليه، ولا شر إلا حذرنا منه {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [سورة آل عمران آية: 85] . فكر جيدا أيها الكاتب، واعلم أن الغربيين أعداء الإسلام، لم يدخروا وسعا في تضليلنا عن ديننا، بل عملوا بكل ما أوتوا من قوة; ومن جملة دسائسهم الخبيثة: دعوتهم إلى تحرير المرأة، وتثقيفها، ومساواتها بالرجل، لعلمهم أننا إذا فعلنا ذلك وقعنا في المحذور، وخالفنا أوامر ربنا. إن الدين الإسلامي أنصف المرأة وحفظ لها أخلاقها، وشيمها العربية الأصيلة، ولم يهضمها حقوقها، كما يزعمه البعض، ممن تأثر بأبواق الدعايات الغربية؛ بل الجزء: 16 ¦ الصفحة: 96 أمر بتعليمها الدين، وما يجب عليها تعلمه، في حدود مرسومة لا تتعداها. ونهى عن تعليمها التعليم الذي يؤدي إلى السفور، ونزع جلباب الحياء، ومحو الأخلاق والفضيلة، وأمرها بالحجاب والتستر، والمحافظة على الأخلاق; ونهاها عن التبرج، والاختلاط بالرجال، وإظهار الزينة. ولست بذلك أدعو إلى احتقار المرأة، أو عدم تعليمها؛ كلا، ولكن هذا التعليم السافل الذي يدعو إليه البعض والذي مؤداه ونهايته: التبرج، والانحلال، وترك الأخلاق، والفضيلة، هذا التعليم، هو: ما نحذر مجتمعنا منه، ومن دعاته، ونخوفهم من عواقبه الوخيمة التي ظهرت في بعض البلدان؛ والسعيد من وعظ بغيره. أما تعليم الدين وما يتبعه، كتربية الأولاد، وتدبير المنْزل، مع الحرص الشديد على الأخلاق والشيم، والعادات الحميدة، التي نادى بها الإسلام، من لبس الثياب الساترة والحجاب، وعدم المخالطة، فهذا لا ينكره أحد. وأي مصيبة وأي انتكاس أعظم من وجود أناس في مجتمعنا، يستدلون على إباحة شيء أو تحريمه بالنظم الغربية، والقوانين الوضعية تاركين كتاب الله، وسنة رسوله؟! الجزء: 16 ¦ الصفحة: 97 ونحن نطالب صحفنا الحرة، الحريصة على نشر الأفكار النافعة، أن توصد الباب أمام كل رأي فج، واقتراح مرتجل; ونطلب من صحفنا التي نذرت نفسها لخدمة الأمة، أن تحرص على نشر ما يتمشى مع تقاليدنا الحرة السليمة، وتقبله فطر المسلمين النقية. وأخيرا، نبتهل إلى الله العلي القدير، أن يرزقنا التمسك بكتابه، وسنة رسوله، وأن يعيذنا من شياطين الإنس والجن، وأن يجنبنا مواقع الزلل؛ إنه على كل شيء قدير، وصلى الله على محمد. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 98 الفصل الخامس [الأمر من ديوان مجلس الوزراء بمنع النساء من العمل الذي يؤدي إلى اختلاطهن بالرجال] ولأهمية شأن المرأة والاهتمام به 1، فقد تقرر الأمر من ديوان مجلس الوزراء، بمنع النساء من العمل، الذي يؤدي إلى اختلاطهن بالرجال، كما ذكر ذلك في التعميم الآتي: بسم الله الرحمن الرحيم صاحب السمو الملكي، ولي العهد ونائب رئيس مجلس الوزراء، ورئيس الحرس الوطني، بعد التحية: بناء على ما لاحظنا من قيام بعض الجهات الحكومية بالرفع عن طلب السماح لها، بالتعاقد، أو   1 وقد ألحقنا هذا التعميم هنا بعد وفاة جامع هذه الرسائل رحمه الله حتى لا يخفى. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 98 تعيين عدد من السيدات السعوديات، للعمل بها، أو الترخيص لهن بممارسة بعض الأعمال، أو المهن، التي تؤدي إلى اختلاطهن بالرجال. ولأنه سبق أن صدر الأمر رقم 1960/8 وتأريخ 22/2/1399? بمنع النساء من العمل في الوظائف، التي تؤدي إلى اختلاطهن بالرجال، كما صدر الأمر رقم 11575 وتأريخ 19/5/1401? بالتأكيد على ذلك، وعدم الترخيص للمرأة بممارسة المهن التي تؤدي إلى اختلاطهن بالرجال. نخبركم بأن السماح للمرأة بالعمل الذي يؤدي إلى اختلاطها بالرجال، سواء في الإدارات الحكومية، أو غيرها من المؤسسات العامة أو الخاصة، أو الشركات، أو المهن، ونحوها، أمر غير ممكن، سواء كانت سعودية، أو غير سعودية؛ لأن ذلك محرم شرعا، ويتنافى مع عادات وتقاليد هذه البلاد؛ وإذا كان يوجد دائرة، تقوم بتشغيل المرأة، في غير الأعمال التي تناسب طبيعتها، أو في أعمال تؤدي إلى اختلاطها بالرجال، فهذا خطأ يجب تلافيه. وعلى الجهات الرقابية ملاحظة ذلك، والرفع عنه; وقد زودت الجهات المعنية بنسخة من أمرنا هذا، للاعتماد والإحاطة، فأكملوا ما يلزم بموجبه. توقيع رئيس مجلس الوزراء الجزء: 16 ¦ الصفحة: 99 الفصل السادس [مطالعة الصحف التي تسربت إلى بلاد المسلمين] مطالعة الصحف التي تسربت إلى بلاد المسلمين، فهي من الوسائل العظمى لنقض عرى الإسلام، من الدول المجاورة المنحلة، أفراخ الإفرنج، عباد الأولياء والصالحين، العكّف عند المشاهد، الباذلين عندها نفائس الأموال، بقصد التبرك والنذور لها، التاركين لإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وغيرهما من شعائر الإسلام، المشتهرة بينهم شعائر الكفر، واستحلال المحرمات، والخلاعة، وينتسبون إلى الإسلام، جرأة على الله {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [سورة النساء آية: 142] . وقد تسربوا إلى بلد الإسلام، فأخذ كثير من الشباب أخلاقهم المزيفة، وبثوا بعض علومهم المحرمة؛ وسرت إلى المسلمين صحفهم الخليعة، وسار على سبيلهم كثير من الشباب الزائغ، فنشروا في بلد الإسلام على الصحف تلك: الإلحاد، والزندقة، والخلاعة. وتعلق بها من لا بصيرة له، ومستحسن ما يتلوه من تلك الصحف، ومن الصحف الخارجية؛ وفسدت أخلاق الكثير، واعتنقوا الباطل، وأعرضوا عن الحق، وتركوا كثيرا مما أمر الله به، وارتكبوا كثيرا من المنكرات، مما سلف وغيره. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 100 [إكباب الجهال والشباب على مطالعة كتب الزيغ والإلحاد والزندقة] قال الشيخ: محمد بن إبراهيم آل الشيخ، رحمه الله: ومن المنكرات: إكباب الجهال والشباب، على مطالعة كتب الزيغ، والإلحاد والزندقة، والصحف المشتملة على ذلك، وعلى الصور الخليعة مما أحرى من أدمن النظر فيها من الشباب ونحوهم أن يصبح أسيرا للشيطان، إن لم يقتله بالكلية، ويسلبه جميع الإيمان. [التشبه بالكفار] ومن المنكرات: التشبه بالكفار، ولا فرق بين الأمور الدينية، والعادية، كالزي ونحوه، وروى أبو داود بسند جيد، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من تشبه بقوم فهو منهم" 1. وقال الشيخ: عبد الله بن محمد بن حميد، سنة 1384?: ويل للإسلام من أهله إن الإسلام بدأ يضعف في بلادنا، وتخف سطوته في القلوب، وتضعف عظمته في النفوس بما أصيب به من الويلات والمصائب، التي جرها بعض المنتسبين إلى الإسلام نحو الإسلام. فقد علم الناس أن تغيرا عقليا، وانحرافا غريبا طرأ على أفكارهم، وتدفق عليهم سيل المدنية الجارف؛ فاستقبلوا ذلك البلاء العظيم بارتياح، وقبول وصفاء بال، وبادروا إلى إتقانه، والدعوة إليه، وذهلوا عن كل شيء سواه،   1 أبو داود: اللباس (4031) . الجزء: 16 ¦ الصفحة: 101 فكأنهم في سكرة من أمرهم. وهذا مما جعل كل واحد من علماء المسلمين، في مشارق الأرض ومغاربها، يشعر بالخطر المحدق به، وبدينه، وبأمته، لأن الباطل في نمو وازدياد، والحق في ضعف واختفاء. والكثير من العلماء أو الأكثر يتأففون من الحالة الراهنة، ويظهرون التضجر والسخط، ويبدون التأثر والانفعال؛ ولكن هذا لا يكفي لتلافي الأخطار المحدقة بالإسلام - وهي في نمو وازدياد - بل لا بد لدفع ذلك، من اجتماعات إسلامية صادقة، لتدارك ما فات، وإصلاح ما فسد، وإقامة ما اعوج. إن الأمة الإسلامية لا تكون ذات كيان، عزيزة الجانب، إلا إذا اجتمعت، وتناصرت على جلب ما ينفعها، ودفع ما يضرها، في أمر دينها ودنياها، كما قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [سورة المائدة آية: 2] . وإليك بعض ما قاله أعداء الإسلام في وصفهم للمسلمين، حين عدلوا عن دينهم الإسلامي إلى ما سواه: لما رغب المسلمون عن تعاليم دينهم، وجهلوا حكمه وأحكامه، فشا فيهم فساد الأخلاق; فكثر الكذب والنفاق والخيانة، والتحاقد والتباغض، وتفرقت كلمتهم. وجهلوا أحوالهم الحاضرة والمستقبلة، وغفلوا عما الجزء: 16 ¦ الصفحة: 102 يضرهم وما ينفعهم، وقنعوا بحياة يأكلون فيها ويشربون وينامون؛ ثم لا ينافسون غيرهم في فضيلة؛ ولكن متى أمكن لأحدهم أن يضر أخاه لا يقصر في إلحاق الضرر به؛ فجعلوا بأسهم بينهم، والأمم من ورائهم تبتلعهم لقمة بعد أخرى. رضوا بكل عارض، واستعدوا لقبول كل حادث، وركنوا إلى السكون في كور بيوتهم، يسرحون في مرعاهم، ثم يعودون إلى مأواهم. هذا وصفهم لحالة المسلمين حين جهلوا تعاليم هذا الدين القويم، ورضوا منه بمجرد الانتساب إليه؛ في حين أن الإسلام، هو أجلّ دين على وجه الأرض، لم ينزل على نبي من الأنبياء مثله، ولا كان لأمة من الأمم نظيره. فإنه دين الفطرة، دين الرقي، دين العدالة، دين المدنية الفاضلة، دين العمل، دين الاجتماع، دين التوادد والتناصح والتحابب، دين رفع ألوية العلم، والصنائع، والحرف، غير قاصر على أحكام العبادات والمعاملات، بل شامل لجميع منافع العباد ومصالحهم، على ممر السنين وتعاقب الدهور، إلى أن تقوم الساعة; والله الموفق الهادي إلى سواء السبيل، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 103 وقال الشيخ عبد الله بن محمد بن حميد، رحمه الله: 1 المولد النبوي الشريف اعتاد كثير من الناس، في مثل هذا الشهر، شهر ربيع الأول من كل سنة، إقامة الحفلات الرائعة، لذكرى مولد الرسول صلى الله عليه وسلم، وذلك ليلة الثانية عشر منه، قائلين: إنه عبارة عن إظهار الشكر لله عز وجل على وجود خاتم النبيين وأفضل المرسلين، بإظهار السرور بمثل اليوم الذي ولد فيه صلى الله عليه وسلم، وبما يكون فيه من الصدقات والأذكار. فنقول: لا شك أنه سيد الخلق وأعظمهم، وأفضل من طلعت عليه الشمس; ولكن لماذا لم يقم بهذا الشكر أحد من الصحابة، والتابعين؟ ولا الأئمة المجتهدين، ولا أهل القرون الثلاثة الذين شهد لهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالخير؟ مع أنهم أعظم محبة له منا، وهم على الخير أحرص، وعلى اتباعه أشد. بل كمال محبته وتعظيمه، في متابعته وطاعته، واتباع أمره، واجتناب نهيه، وإحياء سنته ظاهرا وباطنا، ونشر ما بعث به، والجهاد على ذلك، بالقلب واليد واللسان؛ فإن هذه هي طريقة السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار،   1 في رسالة نشرت في مجلة الحج في ربيع الأول سنة 1376 هـ. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 104 والذين اتبعوهم بإحسان، لا في إقامة تلك الحفلات المبتدعة، التي هي من سنن النصارى. فإنه إذا جاء الشتاء في أثناء كانون الأول، لأربع وعشرين خلت منه، بزعمهم أنه ميلاد عيسى، عليه الصلاة والسلام، أضاؤوا في ذلك الكهرباء، وصنعوا الطعام، وصار يوم سرور وفرح عندهم. وليس في الإسلام أصل لهذا؛ بل الإسلام ينهى عن مشابهتهم، ويأمر بمخالفتهم. فقد قيل: إن أول من احتفل بالمولد النبوي، هو: كوكبوري أبو سعيد بن أبي الحسن علي بن يكتكين التركماني، صاحب "إرْبَلْ"، أحدث ذلك في أواخر القرن السادس، أو أوائل القرن السابع؛ فإنه يقيم ذلك الاحتفال ليلة التاسعة، على ما اختاره المحدثون من ولادته صلى الله عليه وسلم تلك الليلة، وتارة ليلة الثانية عشر، على ما قاله الجمهور. فهل كان التركماني ومن تبعه أعلم وأهدى سبيلا من خيار هذه الأمة وفضلائها من الصحابة ومن بعدهم؟ في حين أنه لو قيل: إن يوم البعث أولى بهذا الشكر من يوم الولادة، لكان أحرى، لأن النعمة، والرحمة، والخير والبركة، إنما حصلت برسالته، بنص قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [سورة الأنبياء آية: 107] . ومعلوم أن كل بدعة يتعبد بها أصحابها، أو تجعل من شعائر الدين، فهي محرمة، ممنوعة، لأن الله عز وجل الجزء: 16 ¦ الصفحة: 105 أكمل الدين، وأجمعت الأمة على أن الصدر الأول أكمل الناس إيمانا وإسلاما. فالمقيمون لتلك الحفلات، وإن قصدوا بها تعظيمه صلى الله عليه وسلم فهم مخالفون لهديه، مخطئون في ذلك؛ إذ ليس من تعظيمه أن يبتدع في دينه بزيادة أو نقص أو تغيير، أو تبديل؛ وحسن النية، وصحة القصد لا يبيحان الابتداع في الدين. فإن جلّ ما أحدثه من كان قبلنا من التغيير في دينهم، عن حسن نية وقصد؛ وما زالوا يزيدون وينقصون بقصد التعظيم وحسن النية، حتى صارت أديانهم خلاف ما جاءتهم به رسلهم. وقال الشيخ: عبد الله بن محمد بن حميد رحمه الله: ليس هذا ما يقوله ابن تيمية رحمه الله قرأت في صحيفة الندوة بتأريخ 16/4/1382?، كلمة بعنوان: "هذا ما يقوله ابن تيمية" حول الاحتفال بذكرى المولد النبوي، باسم الشيخ: محمد المصطفى الشنقيطي، ومقاله يتضمن أنه اطلع على جواب فضيلة الشيخ: يحيى عثمان المكي، وعلى جوابنا، حول إحداث بدعة ذكرى المولد النبوي. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 106 أما نحن، فهذا ما نعتقده، وندين الله به، مستدلين بما ستراه إن شاء الله، وكما هو معنى كلام شيخ الإسلام ابن تيمية، وأما الشيخ يحيى، فكلامه لا شك أنه عين الصواب، وهو عين كلام شيخ الإسلام ابن تيمية، لمن يعقل ويفهم كلام المحققين. وأما دعواكم بأنه بتر كلام الشيخ فهذا غير صحيح، بل ساق منه ما هو المقصود، وما يدل على الموضوع؛ وكلام الشيخ صريح بكون ذكرى المولد بدعة، لا يجوز بما نقله الشيخ يحيى، وبما نقلتم أنتم أيضا. فإنكم نقلتم عنه، إلى أن قلتم: قال رحمه الله: فتعظيم المولد، واتخاذه موسما، قد يفعله بعض الناس، ويكون له فيه أجر عظيم، لحسن قصده، وتعظيمه لرسول الله صلى الله عليه وسلم كما قدمته لك: أنه يحسن من بعض الناس، ما يستقبح من المؤمن المسدد. فهذا كلام الشيخ رحمه الله، الذي تزعم أن الشيخ يحيى بتره; والواقع أن هذا هو معنى كلام الشيخ السابق، وهو يؤيد ما نقله الشيخ يحيى. وبيان ذلك: أن الشيخ ابن تيمية قال فيما نقله عنه يحيى: والله يثيبهم على هذه المحبة والاجتهاد، لا على البدع من اتخاذ مولد النبي صلى الله عليه وسلم عيدا. فتأمل كلام الشيخ تجده قد فرق بين المحبة الجزء: 16 ¦ الصفحة: 107 والاجتهاد، وبين إحداث البدعة، فرجا لهم المثوبة على المحبة والاجتهاد، وأثبت عليهم حكم الابتداع، بفعل ما لم يشرع. فالمحبة للرسول مشروعة، بل واجبة، بل يجب تقديم محبته صلى الله عليه وسلم على النفس؛ وهذا أيضا هو: معنى ما نقلتم; فإن الشيخ رحمه الله يقول: قد يفعله - أي المولد - بعض الناس، ويكون له فيه أجر عظيم، لحسن قصده، وتعظيمه للرسول صلى الله عليه وسلم كما قدمته لك: أنه يحسن من بعض الناس، ما يستقبح من المؤمن المسدد. فكلام الشيخ رحمه الله، صريح بأن هذا الفعل: يستقبح من المؤمن المسدد، فهل يستقبح ما هو مشروع؟!، وهل نختار فعل المؤمن المسدد، أو نختار فعل بعض الناس الذي حسن قصده، ولكنه أخطأ الطريق بفعله؟!. وأما ما نقله شيخ الإسلام عن الإمام أحمد، أنه قال في حق الأمير الذي أنفق على تحلية المصحف ألف دينار: هذا خير ما أنفق فيه الذهب، أو كما قال، مع أن مذهبه: إن زخرفة المصاحف مكروهة، ا?. فنقول: لا شك أن تحلية المصحف بألف دينار، خير من إنفاقها على البغايا، والخمور، والمعازف، ونحو ذلك، وإنه لمن الإنصاف، لو أكمل الشيخ المصطفى الجزء: 16 ¦ الصفحة: 108 الشنقيطي، كلام شيخ الإسلام على هذه العبارة ولم يبترها. وهو قوله: وقد تأول بعض الأصحاب انه أنفقها في تجويد الورق، والخط، وليس مقصود أحمد هذا، وإنما قصده: أن هذا العمل فيه مصلحة، وفيه أيضا مفسدة كره لأجلها. فهؤلاء إن لم يفعلوا هذا، وإلا اعتاضوا بها الفساد، الذي لا صلاح فيه، مثل أن ينفقها في كتاب من كتب الفجور، ككتب الأسمار والأشعار، أو حكمة فارس والروم. هذا كلام ابن تيمية يبين أن تحلية المصحف بألف دينار، خير من إنفاقها في كتب الفجور، ونحوها. ونحن نقول: إن ذكرى المولد النبوي مع اعتقادنا أنه بدعة، خير من تعطيل حكم الشريعة، وإباحة الزنى، والخمور، فمن فعل هذه الأشياء، فبدعة ذكرى المولد أسهل منها - وهي محرمة - إلا أنها خير من سواها، مما هو أشد تحريما منها؛ حنانيك إن بعض الشر أهون من بعض. وأما قولكم: إن الاستدلال بكلام الشيخ ابن تيمية مقلوب، وأنه صريح في جواز عمل المولد، فهذا افتراء على شيخ الإسلام، وإلزام له بما لم يقل، ولا يتحمله كلامه البتة، ولم يفهمه أحد من المسلمين عنه. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 109 ولكنه على حد فهمكم الخاطئ، الذي لم يستطع التفرقة بين حسن القصد وبين سوء الفعل، كما سبق توضيح كلام الشيخ رحمه الله. ألم تر أنه صلى الله عليه وسلم لما صنع خالد رضي الله عنه ما صنع في بني جذيمة، لم يرض فعله صلى الله عليه وسلم وقال: "اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد" 1 مرتين. فتبرأ من صنيع خالد، ولم يتبرأ من خالد نفسه، لحسن قصده ونيته; فاتضح: أن المقلوب في الحقيقة هو: استدلالكم، وإذا خفي كلام الشيخ عليكم فهو لا يخفى على القراء. وأما نقلكم عن شيخ الإسلام: أن مرتكب البدعة لا ينهى عنها، إذاً كان نهيه يحمله إلى ما هو شر منها، فهذا حق، ولكنك أردت قياسه على مسألتنا، وهو قياس مع الفارق، وليس له في بحثنا صلة. هل إذا منعنا بدعة المولد سيحدث ما هو أعظم منكرا منها؟!. ما هو الذي سيحدث بمنعها؟! هل سيحدث سفك دماء؟! أو شركيات؟! أو بدع أشد منها؟! لا - ولله الحمد -. وهل إحداث المولد في ليلة أو ليلتين من السنة يمنع الناس من استعمال أغاني أم كلثوم - على حسب   1 البخاري: المغازي (4339) , والنسائي: آداب القضاة (5405) , وأحمد (2/150) . الجزء: 16 ¦ الصفحة: 110 زعمكم - ماذا تفعل تلك الليلة في جانب ليالي السنة كلها؟! ولا شك أن سماع سيرة الرسولصلى الله عليه وسلم خير من استماع غيرها من الأشياء المباحة، فضلا عن الأشياء المنكرة، ولكن تخصيصها بليلة واحدة معينة من ليالي السنة، واتخاذها عيدا يتكرر، كالأعياد التي شرعها لنا الإسلام، لا شك أنه بدعة؛ بل ينبغي أن تكون سيرته صلى الله عليه وسلم في أغلب أيام السنة تقرأ، من غير تخصيص لوقت معين. ومما يدل على أنه بدعة، ما يأتي: أولا: أنه لم يرد في كتاب ولا سنة، والعبادات مبناها على الأمر. ثانيا: قد ورد النهي عنها بقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد" 1. ثالثا: لم يفعله أبو بكر، ولا عمر، ولا عثمان، ولا علي، ولا غيرهم من الصحابة والتابعين، ولا من بعدهم من أئمة المسلمين. رابعا: هذا فيه المشابهة للنصارى بأعيادهم، وقد نهينا عن التشبه بهم في عدة أحاديث، كما لا يخفى على من عرف شيئا من الشريعة الإسلامية. ومن المستغرب أنكم قلتم في مقالكم السابق،   1 مسلم: الأقضية (1718) , وأحمد (6/180 ,6/256) . الجزء: 16 ¦ الصفحة: 111 تأريخ 7/4/1382? في صحيفة الندوة: إن بدعة المولد تلقتة الأمة الإسلامية بالقبول، فكأنكم جعلتم فعل الناس دليلا على الجواز، وهل هذا حجة؟ والسنة تردّه؟! وهل ما يفعله العوام أو المنحرفون يحتج به على الشريعة؟! هل أجمع علماء الإسلام المحققون على جوازه؟ مع أن الأمة التي تشير إليها، قد أجمعت على وضع القانون بدلا من الشريعة، فهل يكون دليلا على جواز إباحة الخمور، والزنى عند التراضي، والبناء على القبور، والصلاة عندها؟! هل يكون فعلهم دليلا على جواز هذه الأشياء؟! وأما قولكم: إننا اذا لم نفعل ذلك - أي إحداث المولد - نكون موضعا للوقوع في أعراضنا، واتهامنا بعدم محبته صلى الله عليه وسلم. فنقول: كيف نتهم بذلك، ونحن نعتقد أن الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم ركن من أركان الصلاة، وأن من صلى ولم يصل على النبي فصلاته غير صحيحة، فريضة كانت أو نافلة؛ وهذا مذهبنا معشر الحنابلة دون غيرنا. وأيضا: وقوع مثل هذا لا يكون مسوغا لنا على ترك الحق وعدم التمسك به، فإن صاحب الحق قد يلقب بألقاب شنيعة تنفر عنه؛ فالمشركون قالوا في حقه صلى الله عليه وسلم إنه قطع أرحامنا، وسفه أحلامنا، وإنه كاهن، الجزء: 16 ¦ الصفحة: 112 ومجنون، وساحر، إلى غير ذلك من الألقاب، ولم يزده ذلك إلا تمسكا بالحق، وكذلك أتباعه من الأئمة وغيرهم من المحققين، كشيخ الإسلام ابن تيمية، وشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب. وأيضا: هناك ألقاب في هذا الزمن لكل متمسك بدينه، فتراه يرمى بأنه رجعي، وأنه متزمت، وضيق العطن، إلى أمثال هذه الكلمات، فهل ندع أوامر الشريعة للسلامة من هذه الألقاب؟! ثم إنكم أيضا قلتم عن شيخ الإسلام، إنه ابتدع مؤلفات كثيرة في حماية جانب الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا في الحقيقة اتهام للشيخ خاطئ، وجهل وقصور متناه منكم. فشيخ الإسلام لم يبتدع، وإنما ينقل الآيات، والأحاديث، وكلام العلماء ويوضحها، ويبين المراد منها، وينفي عنها تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين. وهو من أحرص الناس على الاتباع وترك الابتداع، وكذا تلميذه العلامة ابن القيم على طريقته رحمه الله. والواقع أن بحث هذا الموضوع يستدعي كلاما أبسط من هذا، ولكن هذه إشارة; وسنكتب - إن شاء الله - كلاما أوسع، وأجمع للأدلة من هذا; وصلى الله على خير خلقه محمد وآله وصحبه ومن تبعهم بإحسان. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 113 [الجن هل لوجودهم حقيقة أم لا وما حكم من أنكر وجودهم] وسئل الشيخ عبد الله بن محمد بن حميد رحمه الله: 1 ما قولكم دام فضلكم وكثر النفع بعلومكم عن الجن، هل لوجودهم حقيقة؟ أم لا؟ وما حكم من أنكر وجودهم؟ وهل لهم نفوذ في أجسام البشر أم لا؟ لأن بعضهم أنكروا ذلك، قائلين: إنما يحدث في بعض الناس هو من أخلاط في العقل، وهذيان كلام لا معنى له. إنما هو علة تمنع الأعضاء النفسية عن الأفعال والحركة والانتصاب في عملها منعا غير تام، وسببه أخلاط غليظة لزجة، تسد منافذ بطون الدماغ سدا غير تام، فيمتنع نفوذ الحس والحركة فيه، وربما كان لأسباب أخرى من شأنها تشنج بعض الأعضاء، أو خلل في الأعصاب. وإن الصرع داء عصبي يعتري المصابين به، فيفقدهم حسهم وشعورهم، ويصرعهم إلى الأرض، ويجعلهم يتخبطون؛ في بدء حصوله يكون الجسم متوترا، والوجه شاحبا، ثم تحدث إرجافات شديدة، وانطباقات في الفكين، وخروج ماء الفم ممزوج بدم، وتنضم اليدان إحداهما إلى الأخرى؛ وبعد مضي بضع دقائق، يعود المريض إلى حالته الأولى، فيميل للنوم، فينام، ثم يستيقظ كأنه لم يطرأ عليه شيء.   1 نشر هذا المقال في مجلة الحج بتاريخ 16/12/1377هـ. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 114 فأجاب رحمه الله: دلّت الكتب السماوية على وجود الجن حقيقة، وأجمع المسلمون عليه، بل وعقلاء النصارى، والمجوس، والصابئون؛ وهذا أمر معلوم حتى عند جاهلية العرب، ولم ينكر وجودهم إلا جهلة الأطباء. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: لم يخالف أحد من طوائف المسلمين في وجود الجن، وكذا جمهور الكفار، لأن وجودهم تواترت به أخبار الأنبياء، تواترا معلوما بالاضطرار، يعرفه الخاصة والعامة; قال: ولم ينكر الجن إلا شرذمة قليلة من جهلة الفلاسفة ونحوهم. وقال: ليس الجن كالإنس في الحد، والحقيقة; فلا يكون ما أمروا به وما نهوا عنه مساويا لما على الإنس في الحد، والحقيقة؛ لكنهم شاركوهم في جنس التكليف بالأمر والنهي، والتحليل والتحريم، بلا نزاع أعلمه بين العلماء. وقال ابن حزم في كتاب "الفيصل": ووجود الجن جاءت به النصوص، وأنهم: أمة عاقلة مميزة، متعبدة، موعودة متوعدة متناسلة، يموتون، وأجمع المسلمون على ذلك، بل النصارى والمجوس، والصابئون، وأكثر اليهود؛ وهم يروننا ولا نراهم. وقال الإمام الماوردي: الجن من العالم الناطق المميز، يتناسلون، ويموتون، وأشخاصهم محجوبة عن الجزء: 16 ¦ الصفحة: 115 الأبصار، وإن تميزوا بأفعال وآثار، إلا أن الله يخص برؤيتهم من يشاء. وإنما عرفهم الإنس من الكتب الإلهية، وما تخيلوه من آثارهم الخفية ... إلى أن قال: فإن أنكر قوم خلق الجن، ولم يؤمنوا بالكتب الإلهية، قهرتهم براهين العقول، وحجج القياس. وقال أبو البقاء في كلياته: وجمهور أرباب الملل، المصدقين بالأنبياء، قد اعترفوا بوجود الجن، واعترف جمع عظيم من قدماء الفلاسفة. وقال ابن القيم رحمه الله في "زاد المعاد" في علاج الصرع ما مثاله: الصرع صرعان، صرع من الأرواح الخبيثة الأرضية; وصرع من الأخلاط الرديئة. والثاني هو الذي يتكلم فيه الأطباء في سببه وعلاجه. وأما صرع الأرواح: فأئمتهم وعقلاؤهم يعترفون بأن علاجه بمقابلة الأرواح الشريفة الخيرية العلوية لتلك الأرواح الشريرة الخبيثة، فتدفع آثارها، وتعارض أفعالها، وتبطلها. وقد نص على ذلك بقراط في كتبه، فذكر بعض علاج الصرع، وقال: هذا إنما ينفع من الصرع الذي سببه الاختلاط، والمادة; وأما الصرع الذي يكون من الأرواح، فلا ينفع فيه هذا العلاج. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 116 وأما جهلة الأطباء، فينكرون صرع الأرواح، ولا يقرون بأنها تؤثر في بدن المصروع، وليس معهم إلا الجهل، وإلا فليس في الصناعة الطبية ما يدفع ذلك، والحسد والوجود شاهدان به، وإحالتهم ذلك على علية بعض الأخلاط، هو صدق في بعض أقسامه لا في كلها. وقدماء الأطباء يسمون هذا الصرع: "المرض الإلهي" وقالوا من الأروح. وقال في الإقناع وشرحه: والمشهور أن للجن قدرة على النفوذ في بواطن البشر، لقوله عليه الصلاة والسلام: "إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم" 1. وكان الشيخ تقي الدين ابن تيمية رحمه الله إذا أوتي بالمصروع وعظ من صرعه، وأمره ونهاه؛ فإن انتهى وفارق المصروع، أخذ عليه العهد أن لا يعود، وإن لم يأتمر، ولم ينته، ولم يفارقه، ضربه حتى يفارقه. والضرب في الظاهر يقع على المصروع، وإنما يقع في الحقيقة على من صرعه؛ ولهذا يتألم من صرعه به ويصيح، ويخبر المصروع إذا أفاق بأنه لم يشعر بشيء من ذلك. ولو تتبعنا أقوال العلماء في هذا لكثر جدا. أما حكم منكر الجن فإنهم مكذبون للقرآن العزيز والسنة النبوية، ومخالفون لما أجمع عليه المسلمون، كما قال تعالى: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ   1 البخاري: الاعتكاف (2039) , ومسلم: السلام (2175) , وأبو داود: الصوم (2470) والأدب (4994) , وابن ماجه: الصيام (1779) , وأحمد (6/337) . الجزء: 16 ¦ الصفحة: 117 الْقُرْآنَ} [سورة الأحقاف آية: 29] ، {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ} [سورة الجن آية: 1] ، وكما في خبر جن نصيبين الذين جاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فاستمعوا قراءته، وآمنوا به، وصدقوه. فظهر مما تقدم إثبات وجود الجن حقيقة، وكفر من أنكر وجودهم، وأن لهم قدرة على النفوذ من بواطن البشر؛ وأن الصرع صرعان: صرع من الأرواح الشريرة الأرضية، وصرع من الأخلاط الرديئة، لما نص عليه كثير من محققي العلماء، رحمهم الله، والله الموفق، والهادي إلى سواء السبيل؛ وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا. وقال الشيخ عبد الله بن محمد بن حميد: تعقيب وتنبيه 1 حول مقال [الحج بين التعسير والتيسير] نشرت جريدة البلاد بعدديها الصادرين في 6 محرم، وفي 12 منه، سنة 1385?، كلمتين للأستاذين الفاضلين: صالح محمد جمال، وأخيه أحمد محمد جمال؛ ومع شكري لهما وتقديري لمواقفهما الإسلامية، بارك الله فيهما، وفي علومهما، غير أنه لا بد من إيضاح ما ورد من الخطأ في كلمتيهما. قال الأخ الفاضل صالح في كلمته بعنوان: "الحج بين   1 كتب هذا التعقيب والتنبيه, في آخر محرم سنة 1385 هـ. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 118 التعسير والتيسير": ذكرني هذا الاقتراح، بما يعمد إليه خطباء المساجد عندنا، في كل عام في موسم الحج، من إيراد صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم وحث الحجاج أن يحجوا كما حج تماما ... إلخ. أقول: ناهيك بهذا شرفا وفضلا، من أن المسلمين يحجون كما حج الرسول صلى الله عليه وسلم وأن فيهم من يأمر بذلك، ويحث عليه، ويرغب فيه; فإن الله أمرنا باتباعه، والتمسك بهديه. فقال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [سورة الأحزاب آية: 21] ، وقال: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} [سورة الحشر آية: 7] ، فهل يجوز لنا أن نغير في شرع الله ودينه؟ وفي صفة الحج وهيئته؟ بحجة الفروق الزمنية، واختلاف الوسائل العصرية؟! فيختص الشرع في أناس كانوا فبانوا؟!. لا أظن أن أحدا من المسلمين يقول بهذا، أو يعيب على من حث بالاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم في الحج، أو الصلاة، أو الزكاة، والصوم، وغيرها من شرائع الإسلام، فقد قال عبد الله بن مسعود: "اتبعوا، ولا تبتدعوا، فقد كفيتم"، وقال: "إنكم اليوم على الفطرة، وإنكم ستحدثون، ويحدث لكم، فإذا رأيتم ذلك، فعليكم بالهدي الأول" مع أن الحث هو الحض، والترغيب وليس الإلزام الجزء: 16 ¦ الصفحة: 119 والإيجاب، فهل يريد الأخ أن لا يذكر شيء أبدا مما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في صفة الحج؟!. ثم قال الأخ: ويحذروهم من الذبح بمكة، لأنه غير جائز، ووجوب الذبح بمنى! لا أظن هذا صحيحا، فإن الذبح بمنى وبمكة جائز، لما روى أبو داود، وابن ماجة وغيرهما، عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "منى منحر وفجاج مكة كلها منحر" 1 ثم قال الأستاذ: ولو أراد الحجيج كلهم أن يأخذوا بدعوة هؤلاء الخطباء لدقّت الأعناق ... إلخ. أقول: لو تمسك الناس بحج رسول الله صلى الله عليه وسلم لوجدوا فيه الخير والبركة والهدوء، والراحة التامة؛ فهذا الحجيج ينصرفون من عرفات إلى مزدلفة دفعة واحدة، وما دقّت الأعناق، ولا كسّرت الرواحل، ولا تعطلت الحركة، وما حصل إلا الخير. ثم هم ينفرون من منى دفعة واحدة إلى مكة، ولا يبقى إلا القليل على كثرتهم. وهؤلاء الخطباء لم يأتوا بشيء من عندياتهم، أو استحساناتهم، حتى نترك أقوالهم، أو يمنعون من صيغ الخطب، التي يلقونها، وهي إيراد صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم كما تفضلتم بذلك. وبعد أن فرض الحج، أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن ينادي في الناس، بأنه سيحج هذا العام، ليقتدوا بأفعاله، وليعلمهم   1 أبو داود: الصوم (2324) . الجزء: 16 ¦ الصفحة: 120 طريقة أداء المناسك، فهل الرسول صلى الله عليه وسلم أراد من هذا العمل، ومن قوله صلى الله عليه وسلم "خذوا عني مناسككم" 1 تكليف أمته والشق عليهم؟! لا والله. {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [سورة التوبة آية: 128] . وإذا لم نتبع هدي الرسول ونقتدي به، فمن نتبع؟ وكيف نعلم الجاهل، إذا كان حج الرسول صلى الله عليه وسلم فيه تكليف؟! ثم قال الأخ صالح: ولولا رحمة الله التي تمثلت في اختلاف المذاهب الأربعة لكان الحج عملية جد شاقة. أقول: أصحاب المذاهب الأربعة لم يقصدوا مخالفة النبي صلى الله عليه وسلم لغرض التوسعة على الناس، وليست أقوالهم شرعا يتبع، إذا خالفت النص، بل كل منهم يتحرى ما أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم أو فعله، أو أقره، لا أنهم يأتون بأحكام جديدة لم تستند على دليل. وهذا الاختلاف إنما نشأ عن حسن نية وتطلب للحق، وإلا فكلهم مجمعون على أن أي قول يقولونه مخالف لهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم يضرب به عرض الحائط، قال هذا المعنى أبو حنيفة، ومالك، والشافعي وأحمد. والخلاف: ليس رحمة، بل هو مذموم؛ ذمه القرآن والسنة: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [سورة الأنعام آية: 159] ، {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ   1 مسلم: الحج (1297) , وأحمد (3/318) . الجزء: 16 ¦ الصفحة: 121 رَحِمَ رَبُّكَ} [سورة هود آية: 119-118] ، {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} [سورة آل عمران آية: 103] ، {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} [سورة آل عمران آية: 105] ، {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى} [سورة النساء آية: 115] . ولو كان الخلاف رحمة لما كان الإجماع - الذي هو الأصل الثالث - حجة. وفي حديث العرباض بن سارية: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة" 1، وجاء في صحيح مسلم، عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: هَجَّرْتُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما، فسمع أصوات رجلين اختلفا في آية، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يرى في وجهه الغضب، قال: "إنما أهلك من كان قبلكم اختلافهم في الكتاب" 2 وفي حديث آخر: "أبهذا أمرتكم؟ أم بهذا أرسلت إليكم؟! وإنما أهلك من كان قبلكم كثرة التنازع في أمر دينهم، واختلافهم على أنبيائهم" 3. وبالجملة: فهذه الآيات، والأحاديث، والآثار، كلها تذم الاختلاف، وتعيبه، وتمنع منه، وما يروى: "اختلاف   1 أبو داود: السنة (4607) , والدارمي: المقدمة (95) . 2 البخاري: الخصومات (2410) , وأحمد (1/419) . 3 الترمذي: القدر (2133) . الجزء: 16 ¦ الصفحة: 122 أمتي رحمة" لا أصل له، كما قاله السيوطي، وابن الديبع، والسخاوي في المقاصد الحسنة. بل الرحمة والخير في الاجتماع; والشر والبلاء في الفرقة والاختلاف، ومعناه ليس بصحيح، لأن المعنى: يكون الحث على الاختلاف، والتفرق، وعدم الاتفاق، طلبا لتوسعة الرحمة. والذي تعطيه عبارة الأخ في قوله: ولولا رحمة الله التي تمثلت في اختلاف المذاهب الأربعة، ... إلخ، ما يدل على أن الرحمة لم تتمثل وتحصل إلا بعد وجود هذه المذاهب الأربعة، وكثرة الخلاف؛ وأعتقد أن الأخ لا يقصد هذا، وإنما هي سبقة قلم. قال الأخ: ولو أراد الحجيج كلهم أن يخرجوا دفعة واحدة من مكة فيخرجوا يوم التروية، متجهين إلى منى، ليصلوا بها الظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء، وفجر اليوم التاسع، ثم يتحرك كل الحجيج دفعة واحدة أيضا إلى عرفات، لو وقع هذا فعلا، لما تحركت سيارة واحدة من مكة ... إلى أن قال: ولو تحركوا من منى كلهم في صبيحة اليوم التاسع، لانتهى وقت الوقوف قبل أن يصل كل الحجيج إلى عرفات. أقول: لو خرجوا دفعة واحدة لتيسر أمرهم، ما داموا متبعين لهدي الرسول صلى الله عليه وسلم ولوجدوا فيه الراحة، الجزء: 16 ¦ الصفحة: 123 والطمأنينة، وهذا يحصل فعلا بدفعهم من عرفات إلى مزدلفة، وكالنفر الأول من منى إلى مكة، ولا يحصل إلا الخير. ومع هذا، فإن الخطباء لم يقرروا وجوب الخروج في اليوم الثامن؛ بل لو خرج الحجيج قبله أو بعده إلى عرفات، جاز. والمبيت بمنى الليلة التاسعة، سنّة بغير خلاف. ثم لو لم يأت عرفة إلا ليلة النحر قبل طلوع الفجر، صح حجه. ثم قال الأخ صالح: ولم يكن الحج عند إصدار هذه التشريعات، بهذه الكثرة، وبهذه الوسائل؛ فكيف لو شاهد واحد منهم هذا الذي يلقاه الحجاج الآن؟ مما يجعل إلزام الحاج، بأن يحجوا كما حج الرسول صلى الله عليه وسلم أمرا يكاد يكون مستحيلا. فهل الكثرة وتلك الوسائل المريحة، تكون سببا لتغيير الأحكام الشرعية؟! بل إن هذه الأزمنة، أسهل وأيسر في حق الحجاج من الزمن الأول، لعدم توفر المياه في ذلك الوقت، ولصعوبة المسالك، ولحاجتهم الشديدة إلى نقل كل ما يحتاجونه من ماء وغيره، لبعد المسافات على الرواحل، ولعدم وجود ما يحتاجونه من الأطعمة في عرفات ومزدلفة ومنى؛ والذين حجوا مع النبي صلى الله عليه وسلم بلغ عددهم مائة وأربعة وعشرين ألفا. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 124 وقد ذكر بعض المؤرخين أن عدد الحجاج في أواخر خلافة بني العباس، قد بلغ ستمائة ألف; فقارن نسبتهم مع نسبة عدد الحجاج في هذا الزمن، مع اعتبار وسائل النقل؛ وفي زمننا كل شيء متيسر - ولله الحمد- من المياه، والمطاعم، ووسائل النقل، وغيرها. وأحب أن أذكر الأخ أن الحج ليس مجرد نزهة فقط، لا يتحمل الإنسان منه أدنى مشقة أو تعب؛ لا، بل أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن الحج من الجهاد؛ والجهاد معروف ما يتحمله الإنسان في سبيله، وكما يدل عليه قوله تعالى: {وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ} [سورة النحل آية: 7] . وقول الأخ صالح: فكيف لو شاهد واحد منهم هذا الذي يلقاه الحجاج الآن؟ مما يجعل إلزام الحاج أن يحج كما حج النبي صلى الله عليه وسلم أمرا، يكاد يكون مستحيلا. هذه عبارة لا ينبغي أن تصدر من عاقل، فضلا عمن عنده أدنى علم. فهل يسوغ لنا أن نغير في العبادات الشرعية بحجة الكثرة؟ أيشرع للناس وقوفا في اليوم الثامن وفي اليوم التاسع؟ أيشرع للناس ترك رمي الجمار نظرا للكلفة والمشقة؟!، أيشرع للناس اختصار الطواف والسعي خمسة أشواط بدلا من سبعة؟! نظرا للكثرة والمشقة!!. وقوله: يكاد يكون الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم أمرا مستحيلا الجزء: 16 ¦ الصفحة: 125 ليس هو- والحمد لله- بالمستحيل، بل هو متيسر سهل، فلا نزيد ولا ننقص "من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد" 1. وإذا كان الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم مستحيلا، فمن الذي يجب أن يقتدى به، وتكون طريقته أسهل وأيسر من النبي صلى الله عليه وسلم؟ أم نقول للناس تخبطوا في متاهات الجهل، وحجوا كما أردتم، بدون الاقتداء بأحد؟!. وقوله: لم أسمع خطيبا يحاول التيسير على الحجاج، فيقول لهم مثلا: إن الإمام مالك أجاز المكث في مزدلفة، بقدر حط الرحال. أقول: ليس التيسير من جهة الخطباء، ولا من غيرهم، بل هي السنة; والإمام مالك إذا كان يرى إجزاء المكث بمزدلفة بقدر حط الرحال، فإن من الصحابة من قال: إن الوقوف بمزدلفة والمبيت بها ركن كعرفة؛ قال بهذا ابن عباس، وابن الزبير رضي الله عنهما. وقال به من التابعين: إبراهيم النخعي، والشعبي، وعلقمة، والحسن البصري، والأوزاعي، وحماد ابن أبي سليمان، وداود الظاهري، وأبو عبيد القاسم بن سلام، وابن جرير، وابن خزيمة، وهو أحد الوجوه للشافعية، وأكثر العلماء يقولون بوجوبه. والمسلمون مأمورون باتباع نبيهم صلى الله عليه وسلم لا باتباع مالك، ولا أحمد، ولا غيرهما.   1 مسلم: الأقضية (1718) , وأحمد (6/180 ,6/256) . الجزء: 16 ¦ الصفحة: 126 قال شيخ الإسلام: وأجمع العلماء على تحريم الحكم والفتيا بالهوى، وبقول، أو وجه من غير نظر في الترجيح، والإمام مالك يقول: كل يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقوله: لم أسمع واحدا منهم قط، قال لهم: إمضاء يوم الثامن بمنى إلى فجر يوم التاسع مجرد سنة، أنفي سمعك يدل على أنهم لم يقولوه؟ بل كلهم مجمعون فيما علمت على أن الخروج في اليوم الثامن، والمبيت بمنى تلك الليلة سنة، وأنه لو لم يخرج إلى عرفات، إلا ليلة النحر قبل طلوع الفجر صح حجه. وقوله: أما وجوب ذبح الهدي بمنى فإني ألاحظ عليهم، وعلى أكثرية خطباء المسجد الحرام تحذير الحجاج من الذبح بمكة، والفتوى بعدم إجزائه!! لا يقول بهذا أحد منهم، بل الذي عليه أكثر العلماء، من الشافعية، والحنابلة، جواز الذبح بمكة، وعدم وجوبه بمنى، لحديث جابر السابق. قوله: وأسلوب الرسول صلى الله عليه وسلم في توجيه الحجيج الذي كان يقوله لكل سائل: افعل ولا حرج!! لم يقل الرسول صلى الله عليه وسلم لكل سائل افعل ولا حرج، إلا فيما يحصل به التحلل، فهذا عروة بن مضرس، جاء يسأل الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يقل له: افعل ولا حرج. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 127 قال عروة: جئت من جبل طيء أتعبت نفسي، وأكللت راحلتي، فما من جبل إلا وقفت عنده، فهل لي من حج؟ قال صلى الله عليه وسلم "من شهد صلاتنا هذه، ووقف معنا حتى ندفع، وقد وقف قبل ذلك بعرفة ليلا أو نهارا، فقد تم حجه، وقضى تفثه" 1، فراعى الرسول صلى الله عليه وسلم الترتيب، ولم يقل له: افعل ولا حرج، مع أن السائل، قال: أتعبت نفسي، وأكللت راحلتي؛ فهل: لو رمى الجمار يوم عرفة- بأن قدمه على يوم النحر- هل يجزئه بحجة: افعل ولا حرج؟! أو طاف طواف الإفاضة في اليوم التاسع، فهل يكفيه بحجة: افعل ولا حرج؟! وإنما "قال النبي صلى الله عليه وسلم لمن سأله يوم النحر: ذبحت قبل أن أرمي، قال: ارم ولا حرج، قال آخر: رميت قبل أن أذبح، قال: اذبح ولا حرج; فما سئل يومئذ عن شيء قدم ولا أخر، إلا قال: افعل ولا حرج" 2، والمراد به هو: ما يحصل به التحلل يوم العيد; لقوله: فما سئل يومئذ، ولم يقل لكل سائل: افعل ولا حرج; وقصة كعب بن عجرة أيضا معروفة معلومة. انتهى المراد من كلمة الأخ صالح. ولي على كلمة الأخ أحمد محمد جمال، المنشورة في جريدة البلاد، في العدد الصادر بتأريخ اثني عشر منه خمس ملاحظات:   1 الترمذي: الحج (891) . 2 البخاري: الحج (1736) , ومسلم: الحج (1306) , والترمذي: الحج (916) , وأبو داود: المناسك (2014) , وابن ماجه: المناسك (3051) , وأحمد (2/159 ,2/192) , ومالك: الحج (959) , والدارمي: المناسك (1907) . الجزء: 16 ¦ الصفحة: 128 أولا: قوله: وأردف الفقيه العربي، أن مذهب الشافعي: جواز الذبح طيلة العام. أقول: لم يكن هذا هو مذهب الشافعي الصحيح، بل قوله موافق لقول الجمهور، كما دلت عليه النصوص النبوية، من تخصيص الذبح في أيام التشريق كما قاله الحافظ ابن كثير وغيره، ونقله عنه الموفق ابن قدامة في المغني، وكما في الأم له رحمه الله. ثانيا: نقله عن الفقيه العربي قوله، ويمنع في الوقت نفسه الخطباء والوعاظ الذين يحرمون الذبح في غير منى; لو تفضل الأخ الفقيه، وأعلن بأسماء الذين يمنعون من ذلك لكان أليق; فإن الجمهور من العلماء يجوزون الذبح بمكة، كمنى، لحديث جابر السابق. ثالثا: نقله استنكار الفقيه العربي أن يجمد الخطباء والوعاظ على الحث للحجاج باقتفاء سنة الرسول صلى الله عليه وسلم في حجه من حيث المبيت بمنى ليلة التاسع، وفي المزدلفة ليلة العاشر، مع أنهم يعلمون علم اليقين أن ذلك مستحيل على كافة الحجاج ... إلخ. أعظم بها من منقبة وأكرم بها من طريقة سامية! كيف لا يقتدى بسيد الخلق، وإمام المرسلين الذي أمرنا باتباعه، والتمسك بهديه، والاقتداء بأفعاله؟ {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [سورة الأحزاب آية: 21] ، {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [سورة النور آية: 54] ، الجزء: 16 ¦ الصفحة: 129 وقال صلى الله عليه وسلم: "خذوا عني مناسككم" في حين أن المبيت بمنى ليلة التاسع سنة إجماعا، لأحاديث دلت على ذلك؛ والمبيت بمزدلفة واجب عند كثير من أهل العلم. وآخرون قالوا إنها ركن من أركان الحج، لا يتم الحج بدون المبيت بمزدلفة، كما تقدم، لحديث عروة بن مضرس: "من شهد صلاتنا هذه، ووقف معنا حتى ندفع" 1 الحديث. رابعا: قوله: وإن الفقهاء قبلهم قد أوضحوا السنة من الواجب، من مناسك الحج، وبذلك يسروا على الحجاج. فهل التيسير من الفقهاء؟!، أهم مشرعون من عندياتهم؟! أم مجتهدون، يتحرون الدليل، ويلتمسون الصواب، ويتطلبون الاقتداء بنبيهم صلى الله عليه وسلم في صفة الحج وغيره. وكلهم يعلمون، أن التيسير ليس من قبلهم، ويعلمون أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد" 2، ويعلمون أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، وإياكم ومحدثات الأمور" 3. نقل الأستاذ أحمد، عن الفقيه العربي، بأنه سيصدر فتوى لحجاج بلاده بجواز التصدق بثمن الهدي عند الحاجة إليه، فهلا يتكرم بإصدار فتوى بجواز التصدق، بتكاليف الحج، بدلا من الحج؟! ويسقط عنهم حجة الإسلام، فمتى جاز في البعض جاز في الكل.   1 الترمذي: الحج (891) . 2 مسلم: الأقضية (1718) , وأحمد (6/180 ,6/256) . 3 أبو داود: السنة (4607) , والدارمي: المقدمة (95) . الجزء: 16 ¦ الصفحة: 130 وقل للعيون الرمد للشمس أعين ... سواك تراها في مغيب ومطلع وسامح نفوسا أطفأ الله نورها ... بأهوائها لا تستفيق ولا تعِي ففتواه هو وغيره ما لم تستند على دليل شرعي غير معتبرة. وليس كل خلاف جاء معتبرا إلا خلافا له حظ من النظر وختاما: أشكر للأستاذين الجليلين، أن أتاحا لي الفرصة للاشتراك بإبداء رأيي في الموضوع، والله الموفق، والهادي إلى سواء السبيل. [رد الشيخ عبد العزيز بن باز على عبد الله السعد حين أساء الظن بالإخوة المتطوعين في الدعوة إلى الله] وقال الشيخ: عبد العزيز بن باز1 في ردّه على عبد الله السعد:2 فألفيت الكاتب قد أساء الظن بالإخوان المتطوعين، القائمين بالدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر في "الرياض" وملحقاتها، ووصفهم بأنهم مخدوعون، ومتشددون، ومحاربون للجديد، إلى غير ذلك مما وقع في كلامه من الأخطاء. وقد رأيت أن أنبه في هذه الكلمة، على ما وقع في مقاله، من الأخطاء ذات الأهمية، نصحا له ولسائر الأمة،   1 في رسالته: "الأدلة الكاشفة" لأخطاء بعض الكتاب. 2 الذي نشر مقاله في صحيفة البلاد, تحت عنوان "احذروا الغلو" بتاريخ 12/2/1385?. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 131 ودفاعا عن الإخوان، فيما نعلم براءتهم منه، وتحريضا له ولغيره من الكتاب، على التثبت في القول، ولزوم الاعتدال في الحكم، والحذر من سوء الظن الذي لا ينبني على أساس مستقيم. وإلى القارئ تفصيل القول فيما وقع في مقال الكاتب: عبد الله السعد، من الأخطاء التي تستحق التنبيه عليها، والإنكار على قائلها؛ فنقول، والله المستعان، وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا به: أما ما ذكره الكاتب: عن مضار الغلو والتشديد فصحيح؛ ولا شك أن الشريعة الإسلامية الكاملة جاءت بالتحذير من الغلو في الدين، وأمرت بالدعوة إلى سبيل الحق بالحكمة، والموعظة الحسنة، والجدال بالتي هي أحسن. ولكنها مع ذلك لم تهمل جانب الغلظة والشدة في محلها، حيث لا ينفع اللين، والجدال بالتي هي أحسن، كما قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [سورة التوبة آية: 73] ، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [سورة التوبة آية: 123] ، وقال تعالى: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} [سورة العنكبوت آية: 46] الآية. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 132 فشرع الله سبحانه لعباده المؤمنين، الغلظة على الكفار، والمنافقين، حين لم تؤثر فيهم الدعوة بالحكمة واللين؛ والآيات وإن كانت في معاملة الكفار، دالة على أن الشريعة إنما جاءت باللين في محله حين يرجى نفعه. أما إذا لم ينفع، واستمر صاحب الظلم، أو الكفر، أو الفسق في عمله، ولم يبال بالواعظ والناصح، فإن الواجب الأخذ على يديه، ومعاملته بالشدة، وإجراء ما يستحقه، من إقامة حد، أو تعزير، أو تهديد، أو توبيخ، حتى يقف عند حده، وينْزجر عن باطله. ولا ينبغي للكاتب وغيره: أن ينسى ما ورد في هذا من النصوص، والوقائع من حين بعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى عصرنا هذا، وما أحسن ما قاله الشاعر في هذا المعنى: دعا المصطفى دهرا بمكة لم يجب وقد لان منه جانب وخطاب فلما دعا والسيف صلت بكفه له أسلموا واستسلموا وأنابوا والخلاصة: أن الشريعة الكاملة جاءت باللين في محله، والشدة في محلها. فلا يجوز للمسلم أن يتجاهل ذلك; ولا يجوز أيضا أن يوضع اللين في محل الشدة، ولا الشدة في محل اللين. ولا ينبغي أيضا أن ينسب إلى الشريعة أنها جاءت الجزء: 16 ¦ الصفحة: 133 باللين فقط، ولا أنها جاءت بالشدة فقط؛ بل هي شريعة حكيمة كاملة، صالحة لكل زمان ومكان، ولإصلاح كل أمة؛ ولذلك جاءت بالأمرين معا، واتسمت بالعدل والحكمة والسماح. فهي شريعة سمحة، ليسر أحكامها، وعدم تكليفها ما لا يطاق، ولأنها تبدأ في دعوتها باللين، والحكمة، والرفق؛ فإذا لم يؤثر ذلك، وتجاوز الإنسان حده، وطغى، وبغى، أخذته بالقوة والشدة، وعاملته بما يردعه، ويعرفه سوء عمله. ومن تأمل سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وسيرة خلفائه الراشدين، وصحابته المرضيين، وأئمة الهدى بعدهم، عرف صحة ما ذكرناه. 1 ومما ورد في اللين قوله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ   1 من ذلك: ما أرشد إليه نبيه صلى الله عليه وسلم في معاملة من أراد التحاكم إلى الطاغوت مع دعواه الإسلام, فقال تعالى, في حقه في سورة النساء [63] : وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا وكل من دعا إلى نبذ مبادئ الإسلام, وهو في صف المسلمين, فينبغي أن يعامل معاملة تردعه هو وأمثاله, وإلا تجرأ الفسقة والمارقون; والمسئول عن هذا المقام: الإمام الأعظم ونوابه. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 134 لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [سورة آل عمران آية: 159] الآية، وقوله تعالى في قصة موسى وهارون لما بعثهما إلى فرعون: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [سورة طه آية: 44] ، وقوله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [سورة النحل آية: 125] الآية. ومما ورد في الشدة: الآيات المتقدم ذكرها 1، ومن الأحاديث: ما رواه أحمد، وأبو داود وغيرهما، عن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما تلا قوله تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [سورة المائدة آية: 79-78] قال: "والذي نفسي بيده، لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يد السفيه وفي لفظ آخر: على يد الظالم، ولتأطرنه على الحق أطرا، أو لتقصرنه على الحق قصرا، أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض، ثم يلعنكم كما لعنهم" 2.   1 في صفحة 132. 2 الترمذي: الفتن (2169) . الجزء: 16 ¦ الصفحة: 135 وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم آمر رجلا يصلي بالناس، ثم أنطلق برجال معهم حزم من حطب، إلى قوم لا يشهدون الصلاة، فأحرق عليهم بيوتهم" 1، وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لولا ما في البيوت من النساء والذرية لحرقتها عليهم" 2، وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما بعث الله من نبي في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون، وأصحاب يأخذون بسنته ويهتدون بأمره. ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف، يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون. فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل". وقصة الثلاثة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك من غير عذر، معلومة لدى أهل العلم، وقد هجرهم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم خمسين ليلة، حتى تابوا، فتاب الله عليهم، وأنزل في ذلك قوله تعالى: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ} [سورة التوبة آية: 117]   1 البخاري: الأذان (644) والخصومات (2420) والأحكام (7224) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (651) , والنسائي: الإمامة (848) , وأبو داود: الصلاة (548) , وابن ماجه: المساجد والجماعات (791) , وأحمد (2/314 ,2/377) , ومالك: النداء للصلاة (292) , والدارمي: الصلاة (1274) . 2 البخاري: الأذان (644) والخصومات (2420) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (651) , والترمذي: الصلاة (217) , وأبو داود: الصلاة (548 ,549) , وابن ماجه: المساجد والجماعات (791) , وأحمد (2/367) . الجزء: 16 ¦ الصفحة: 136 إلى قوله: {وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} [سورة التوبة آية: 118] الآية. فمما تقدم من الآيات والأحاديث، يعلم الكاتب وغيره من القراء أن الشريعة الإسلامية الكاملة جاءت باللين في محله، والغلظة والشدة في محلها. وأن المشروع للداعية إلى الله أن يتصف باللين والرفق، والحلم والصبر، حتى يكون ذلك أكمل في نفع دعوته والتأثر بها، كما أمره الله بذلك، وأرشد إليه رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن يكون على علم وبصيرة فيما يدعو إليه، وفيما ينهى عنه، لقول الله سبحانه: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} [سورة يوسف آية: 108] . ولا ينبغي للداعية أن يلجأ إلى الشدة والغلظة، إلا عند الحاجة والضرورة، وعدم حصول المقصود بالطريقة الأولى؛ وبذلك يكون الداعي إلى الله سبحانه قد أعطى المقامين حقهما، وترسم هدي الشريعة في الجانبين; والله الموفق. ونحن في هذا لا نقصد موافقة الكاتب على ما نسبه للإخوان من التشديد، فالذي عرفنا عنهم خلاف ذلك، فهم - بحمد الله- على بينة وبصيرة، ويعاملون الناس بالتي هي أحسن، ويوجهونهم إلى الخير، تحت إرشادات علماء البلاد، والمسؤولين فيها. ولو فرضنا أنه وقع من بعضهم خطأ، أو تشديد في غير محله، فليسوا معصومين، والواجب تنبيههم، الجزء: 16 ¦ الصفحة: 137 وإرشادهم إلى ما قد يقع منهم من الخطأ، حتى يحذروه مستقبلا. وكان الواجب على الكاتب، حين بلغه عنهم ما يعتقده خلاف الشرع، أن يتصل بأعيانهم مشافهة أو كتابة، ويناصحهم فيما أخذ عليهم، أو يتصل بسماحة المفتي، أو رئيس الهيئات، ويبدي ما لديه حول الإخوان من النقد، حتى يوجههم المشايخ إلى الطريق السوي. أما أن يكتب في صحيفة سيارة ما يتضمن التشنيع عليهم، والحط من شأنهم، ووصفهم بما هم برآء منه، فهذا لا يجوز من مؤمن يخاف الله ويتقيه، لما فيه من كسر شوكة الحق، والتثبيط عن الدعوة إليه، والتلبيس على القراء، ومساعدة السفهاء والفساق على باطلهم، وعلى النيل من دعاة الحق. والله المسؤول أن يسامحنا وإياه، وأن يوفر الجميع للتوبة النصوح، والاستقامة على الحق، ومناصرة الداعين إليه، إنه خير مسؤول. وأما قوله: وأنا لا أنكر على كل مؤمن أن يرشد إلى الخير، ويوجه إلى الرشد، ويستنكر الشر، ويلفت النظر إليه بأخلاق القرآن والسنة; وهي: اللطف واللين، والروية; أما إذا اتسمت أقواله أو أفعاله بالقسوة والشدة، فإن ذلك ليس من حقه، الجزء: 16 ¦ الصفحة: 138 لأنه غير مأذون، ولا مكلف من جهة أسند إليها هذا الأمر، وغاية ما في الأمر أن يستنكر ما يراه منكرا بقلبه، وهو أضعف الإيمان لغير المسؤول. قد يكون هذا الأمر مستساغا ومقبولا في جماعة أو أمة ليس فيها أجهزة حكومية خصصت لهذا الواجب، ولكنه غير لازم ولا مقبول إلى جانب السلطات الحكومية المكلفة. فهذا الكلام فيه حق وباطل وإيهام، وإليك أيها القارئ بيان ذلك بالتفصيل. أما قوله: إنه لا ينكر على كل مؤمن، أن يرشد إلى الخير، ويوجه إلى الرشد ... إلخ، فهذا حق، والواجب على كل من لديه بصيرة، أن يقوم بذلك؛ وهو سبيل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وسبيل أتباعه على بصيرة، كما قال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [سورة يوسف آية: 108] : فهذه الآية الكريمة ترشد إلى أن أتباع النبي صلى الله عليه وسلم على الكمال هم أهل البصيرة والدعوة إلى الحق. وقال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [سورة النحل آية: 125] : وهذه الآية العظيمة، وإن كان الخطاب فيها موجها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالمراد بها جميع الأمة، وقد أوضح الله فيها سبيل الدعوة ومراتبها. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 139 فالواجب على الدعاة: أن يسيروا في دعوتهم إلى الله سبحانه على ضوئها، وعلى الطريقة التي رسمها الله فيها، سواء كان المدعو كافرا، أو مسلما، إلا من ظلم وعاند، فقد تقدم في الأدلة السابقة، ما يدل على شرعية الغلظة عليه، ومعاملته بما يستحق، في حدود الشريعة الكاملة. وأما قول الكاتب: أما إذا اتّسمت أقواله وأفعاله بالقسوة والشدة، فإن ذلك ليس من حقه، لأنه غير مأذون، ولا مكلف من جهة أسند إليها هذا الأمر؛ وغاية ما في الأمر أن يستنكر ما يراه منكرا بقلبه، وهو أضعف الإيمان لغير المسؤول. فهذا فيه إجمال وخطأ ظاهر، يتضح مما تقدم; وذلك لأن المطلوب من جميع الدعاة، سواء كانوا مسؤولين من جهة الحكومة، أو متطوعين، أن يكونوا في دعوتهم على المنهج الشرعي، وأن لا تتسم أقوالهم وأفعالهم، بالقسوة والشدة، إلا عند الضرورة إليها، كما سبق؛ وكلام الكاتب يوهم خلاف ذلك. وقوله: وغاية الأمر ... إلخ. هذا خطأ واضح. والصواب: أن مراتب الإنكار الثلاث، مشروعة للمسؤول وغيره؛ وإنما يختلفان في القدرة، فالمسؤول من جهة الحكومة أقدر من غيره، والإنكار بالقلب هو الجزء: 16 ¦ الصفحة: 140 أضعف الإيمان، في حق العاجز عن الإنكار، باليد واللسان، سواء كان مسئولا، أو متطوعا؛ وهو صريح الحديث الشريف، ومقتضى القواعد الشرعية. وأما قول الكاتب قد يكون هذا الأمر مستساغا ومقبولا، في جماعة أو أمة ليس فيها أجهزة حكومية خصصت لهذا الواجب، ولكنه غير لازم ولا مقبول إلى جانب السلطات الحكومية المكلفة، ففيه نظر ظاهر أيضا. وهذا الأسلوب الذي أطلقه الكاتب، ليس أسلوبا علميا، ولا منسجما مع الأدلة الشرعية; لأن الدعوة إلى الله سبحانه، وتعليم الناس ما يجهلونه من شرع الله، لا ينبغي أن يعبر عنه بمثل هذا الأسلوب. بل ينبغي أن يعبر عنه بأسلوب الحث والترغيب، ولا سيما في الأمم والجماعات المحتاجة إلى ذلك، فإن دعوتهم، وإرشادهم إلى ما يجب عليه من شرع الله، من الأمور المتعينة على ولاة الأمر، وعلى أهل العلم حسب القدرة؛ فكيف يعبر عن مثل هذا الأمر العظيم، يقول الكاتب: قد يكون هذا الأمر مستساغا ومقبولا ... إلخ؟! وأما قوله: ولكنه غير لازم ولا مقبول إلى جانب السلطات الحكومية المكلفة، فهذا خطأ ظاهر أيضا؛ لأن الأجهزة والسلطات الحكومية، إن كانت قد قامت بواجب الجزء: 16 ¦ الصفحة: 141 الدعوة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، فمشاركة غيرها لها في ذلك من المتطوعين حسن جدا، ومطلوب شرعا؛ لأنه من باب التعاون على البر والتقوى، والمشاركة في جهاد شرعي، وتوجيه صالح. قصارى ما هنالك أن الأجهزة والسلطات الحكومية قد أدت فرض الكفاية، وصار القيام من غيرهم لمشاركتهم من باب السنن والتطوع، وذلك من أفضل العبادات وأحبها إلى الله سبحانه. وأما إن كانت الأجهزة والسلطات الحكومية، لم تقم بالواجب على الوجه الأكمل، كما هو الواقع، فإن مشاركة غيرهم لهم في ذلك متعينة، لأن فرض الكفاية لم يسقط بهم. وقد تقرر في الأدلة الشرعية أن الدعوة إلى الله سبحانه، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من فروض الكفاية، إذا قام بها من يكفي سقط الفرض عن الباقين، وصارت المشاركة فيها في حق الباقين سنة؛ وإن لم يقم بها من يكفي أثم الجميع. وقد يكون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فرض عين، وذلك في حق من يرى المنكر، وليس هناك من ينكره، وهو قادر على إنكاره، فإنه يتعين عليه إنكاره، لقيام الأدلة الكثيرة على ذلك. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 142 ومن أصرحها: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان" 1 أخرجه مسلم في صحيحه. والإنكار بالقلب: فرض على كل واحد، لأنه مستطاع للجميع، وهو بغض المنكر، وكراهيته، ومفارقة أهله عند العجز عن إنكاره باليد، واللسان، لقول الله سبحانه: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [سورة الأنعام آية: 68] . وقال تعالى في سورة النساء: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ} [سورة النساء آية: 140] الآية. وقال تعالى: {وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً} [سورة الفرقان آية: 72] ، ومعنى لا يشهدون الزور: لا يحضرونه; والزور: يشمل كل منكر. ويدخل في ذلك الشرك، والكفر، وأعياد المشركين، والاجتماع على شرب الخمور، والتدخين، والأغاني، وآلات الطرب، وأفلام السينما، وأشباه ذلك من المنكرات؛ ذكر معنى ذلك الحافظ ابن كثير في تفسير هذه الآية.   1 مسلم: الإيمان (49) , والترمذي: الفتن (2172) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (5008) , وأبو داود: الصلاة (1140) , وابن ماجه: الفتن (4013) , وأحمد (3/20 ,3/49) . الجزء: 16 ¦ الصفحة: 143 وذكر البغوي رحمه الله، عند تفسيرها قريبا من ذلك، وقال: أصل الزور تحسين الشيء، ووصفه بخلاف صفته، فهو تمويه الباطل بما يوهم أنه حق، وهذا هو الواقع من أهل الباطل. فإنهم يحسّنون المنكرات، بوصفها بغير حقيقتها، حتى يرغب فيها الناس، وحتى لا ينفروا منها؛ فيكون على فاعل ذلك إثم ما عمل، وإثم الدعوة إليه، وأعظم من ذلك، الدعوة إليها بالقول. وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا. ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه، لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا" 1. والأدلة في هذا المعنى كثيرة. وقول الكاتب: وقد سرني أن علماءنا الأفاضل قد استنكروا هذا التجاوز منهم، ونهوهم عنه ... إلخ. فيه نظر. وقد سبق لك أن الإخوان كانوا في دعوتهم، وإنكارهم للمنكر، يتحرون الطريقة الشرعية، ويعاملون الناس بالرفق والحكمة، ولا نعلم أنهم تعاطوا من الشدة والقسوة ما يوجب إنكار العلماء عليهم. فلا أدري عن أي مصدر وصل هذا الخبر إلى الكاتب.   1 مسلم: العلم (2674) , والترمذي: العلم (2674) , وأبو داود: السنة (4609) , وأحمد (2/397) , والدارمي: المقدمة (513) . الجزء: 16 ¦ الصفحة: 144 ومعلوم أن على الناقل أن يتثبت في النقل، وأن ينظر فيما ينقل وينشر بين الناس، وإذا صح لديه الخبر، نظر هل إعلانه أصلح، أم تركه أحسن في العاقبة. ولا شك أن هذا الخبر لو صح، فليس من المصلحة نشره بين الناس، وإعلانه في الصحف، لما في ذلك من التنقص للدعاة إلى الحق، وتثبيط عزائمهم، وتشجيع أهل الفسق ضدهم، في وقت يتكاتف فيه دعاة الباطل، والمذاهب الهدامة، على نشر باطلهم، وإعلان مذاهبهم، فالله المستعان. وأما ما ذكره الكاتب عن الفتنة، التي وقعت في صدر الإسلام، وتمخض عنها قتل عثمان رضي الله عنه، وما جرى من الخلاف بعد ذلك بين أهل الشام والعراق ... إلخ. فتلك أمور قد عنى بها التأريخ، وعرفها علماء الإسلام وغيرهم. ولا شك أن لأعداء الإسلام والجهال به فيها دورا فعّالا؛ وقول أهل السنة والجماعة، في هذه الفتنة معلوم، وهو الكف عما شجر بين الصحابة رضي الله عنهم، والترضي عنهم جميعا، واعتقاد أنهم مجتهدون فيما فعلوا، طالبون للحق؛ والمصيب منهم له أجران، والمخطئ له أجر واحد، كما صح بذلك الحديث الشريف. وإنما يهمنا هنا أمران: أحدهما: تخوف الكاتب من الجزء: 16 ¦ الصفحة: 145 أن يكون هؤلاء الإخوان، قاموا بما قاموا به، عن تأثير جماعة سرية إجرامية تخريبية. والجواب عن هذا، أن يقال: من عرف الإخوان وسبر حالتهم، يعلم يقينا أنهم بعيدون كل البعد عن هذه التهمة الشنيعة، وعن هذا الظن السيئ؛ والواجب على المسلم، حمل أحوال إخوانه على أحسن المحامل، وعلاج ما قد يقع من الخطأ بالطرق الشرعية، التي تبني ولا تهدم، وتشجع الحق ولا تخذله، وتنصر الحق وتدمغ الباطل، لا أن يظن بهم السوء، ويشجع على إماتة دعوتهم، وتشويه سمعتهم وتشجيع أهل الباطل ضدهم، وتحريض ولاة الأمر على إيقاف حركتهم، عملا بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [سورة الحجرات آية: 12] ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم "إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث" 1. والأمر الثاني: وصفه كعب الأحبار، تقليدا لبعض المتأخرين، بأنه يهودي أظهر الإسلام، من أجل الكيد للإسلام وإفساد أهله. والجواب: أن هذا خلاف المعروف عن علماء الإسلام، ونقلة الأخبار؛ فقد روى عنه علماء الحديث، وأثنى عليه معاوية رضي الله عنه وكثير من السلف; وروى عنه مسلم في صحيحه، وذكره البخاري في كتابه   1 البخاري: النكاح (5144) , ومسلم: البر والصلة والآداب (2563) , والترمذي: البر والصلة (1988) , وأحمد (2/245) , ومالك: الجامع (1684) . الجزء: 16 ¦ الصفحة: 146 "الجامع الصحيح" ولم يزنه بريبة، وذكره الحافظ ابن حجر في الإصابة، والتهذيب، وابن الأثير في أسد الغابة، ولم يتهموه بهذه التهمة. وقال الحافظ ابن حجر في التقريب، ما نصه: كعب بن مانع الحميري، أبو إسحاق، المعروف بكعب الأحبار، ثقة، من الثانية، مخضرم، كان من أهل اليمن، فسكن الشام، مات في خلافة عثمان رضي الله عنه. فكيف يجوز لمن يخاف الله ويتقيه: أن يرمي شخصا أظهر الإسلام، والدعوة إليه، وشارك الصحابة في أعمالهم، بأنه يهودي، بدون حجة ولا برهان يسوغ ذلك. وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم التحذير من رمي المسلم لأخيه، بالصفات الذميمة، وأن من رمى أخاه بما هو بريء منه، كان الرامي أولى بذلك الوصف، الذي رمى به أخاه. وكونه: يروي بعض الأخبار الإسرائيلية الغريبة، لا يوجب رميه باليهودية، والكيد للإسلام، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج" 1. وقد قام علماء الإسلام بنقد أخبار بني إسرائيل، وتزييف ما خالف الحق منها، وإبطاله؛ فكعب في ذلك يشبه عبد الله بن عمرو، وعبد الله بن سلام، ووهبا، وغيرهم ممن نقل أخبار بني إسرائيل.   1 البخاري: أحاديث الأنبياء (3461) , والترمذي: العلم (2669) , وأحمد (2/159 ,2/202) , والدارمي: المقدمة (542) . الجزء: 16 ¦ الصفحة: 147 فكما أن عبد الله بن عمرو بن العاص، رضي الله عنهما، لا يجوز أن يتهم باليهودية، لكونه نقل كثيرا من أخبار بني إسرائيل، من الزاملتين اللتين أصابهما يوم اليرموك من كتبهم، فهكذا كعب، لا يجوز أن يرمى باليهودية والكيد للإسلام من أجل ذلك؛ ولا يجوز أن يجعل في صف عبد الله بن سبأ وأشباهه، من المعروفين بالكفر والإلحاد، والكيد للإسلام. وفي الصحيحين عن أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من دعا رجلا بالكفر، أو قال: يا عدو الله، وليس كذلك، إلا حار عليه 1") هذا الحديث، وما جاء في معناه: يوجب على المسلم التثبت في الحكم على الناس، والحذر من رمي أخيه بصفة ذميمة، وهو بريء منها، بمجرد الظن، أو تقليد من لا يعتمد عليه، والله المستعان. ثم قال الكاتب أقول: إن من جهل شيئا عاداه، كما في المثل، وقد كنا قبل وعينا الجديد، وقبل معرفتنا بحقيقة المستحدثات العلمية الجديدة نكره استعمالها، ونستعيبه; ثم ذكر استعمال السيارات، والطائرات، والصواريخ، إلى أن قال:   1 أي: رجع إليه ما نسب إليه; اه, لسان. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 148 ما دمنا قد عرفنا هذا كله، ولمسناه، وتأكدنا فوائده، وعدم معارضته للدين، فلماذا يحاربه هؤلاء الطيبون المخدوعون؟ ولماذا يسافرون من بلد إلى آخر، لاستنكاره ومحاولة عدم استعماله؟ ... إلخ. لا ريب أن من قرأ هذا الكلام، وضم بعضه إلى بعض، يفهم منه أن الإخوان الذين انتصب الكاتب لنقدهم، ينكرون هذه المستحدثات الجديدة، من السيارات، والطائرات، واللاسلكي، وأشباه ذلك. ومعلوم قطعا أن الإخوان الذين أشرنا إليهم، لا ينكرون شيئا من ذلك، ولا يعيبونه، بل هم أنفسهم يستعملون ذلك، فينتقلون في السيارات، ويركبون الطائرات، ويستعملون اللاسلكي، فما الذي دعا الكاتب إلى الوقوع في هذه الفرية الكبيرة؟ والزلة الشنيعة؟!! أترك الجواب للقراء وأسأل الله سبحانه وتعالى: أن يعصمنا من الهوى، وخطوات الشيطان. وأما سفرهم إلى البلدان للدعوة والتوجيه، فهو أمر يستحقون عليه الثناء والشكر، وليس محلا للاستنكار والاستغراب; نعم هو حقيق بالاستغراب، بالنسبة إلى تخلف أكثر الناس عن هذه المهمة الشريفة، التي هي طريقة الرسل وأتباعهم، وليس هو محلا للاستغراب الذي ينتج عنه الاستنكار، والتشنيع والظن السيئ. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 149 وأما قوله: المخدوعون; فهي عبارة لا تليق من الكاتب، وليس الإخوان محلا لها، وقائلها أولى بها; لأن الإخوان - بحمد الله - على بينة من أمرهم، وليسوا مخدوعين، ولا متأثرين بحركة هدامة، ولا عاملين لغرض دنيء، بل غايتهم شريفة، وعملهم مشكور، ودافعهم هو الحق، والغيرة له، والخوف على المسلمين من عواقب ظهور المنكرات وعدم تغييرها; وإنما المخدوع حقا من ظن بهم خلاف ذلك. وأما قوله: الطيبون، وقوله - فيما تقدم - عن المغرضين، والطامعين، وأعداء الإسلام: إنهم استغلوا طيبة الصحابة; أرجو أن لا يكون قصد بهذا الوصف، التنقص لمن وصفهم بالطيب؛ لأن سياق الكلام، ووصف الصحابة، والإخوان بالطيب، في جانب كونهم مخدوعين، يشير إلى أن المراد بوصف الطيب: الغفلة، والغباوة، وعدم التنبه لعواقب الأمور، هذا هو المعروف من بعض كتّاب العصر. أرجو أن لا يكون الكاتب قصد هذا المقصد، وإن كان كلامه يقتضيه، أو يحوم حوله، ونسأل الله أن يعفو عنا وعنه، وأن يمن علينا جميعا بالتوبة النصوح من أخطائنا، وسيئات أعمالنا، إنه خير مسؤول. وأما قول الكاتب - بعدما تقدم -: ليس لي بالطبع الجزء: 16 ¦ الصفحة: 150 الإفتاء، ولا أحمل مؤهلاته!! فهذا من اختصاص علمائنا الأفاضل، الذين استنكروا عمل هؤلاء المخدوعين الطيبين!! فيقال له، أولا: ما دمت تعرف أنك غير أهل للفتوى، فما بالك أفتيت أولا، وآخرا؟! ولو تأملت كلمتك، لعلمت أنك أفتيت فيها عدة فتاوى، على غير هدى. ومن أعظم الجرائم: الفتوى بغير علم، فكم ضل بها من ضل، وهلك بها من هلك، ولا سيما إذا كانت الفتوى معلنة على رؤوس الأشهاد، وممن قد يغتر به بعض الناس؛ فإن الخطر عظيم، والعواقب وخيمة. وعلى المفتي بغير علم مثل آثام من تبعه، كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من أفتي بفتيا غير ثبت فإنما إثمه على من أفتاه" 1. وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه، لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا" 2 وقد أعظم الله سبحانه وتعالى، شأن الفتوى بغير علم، وحذر عباده منها، وبيّن أنها من أمر الشيطان، قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [سورة الأعراف آية: 33] .   1 أبو داود: العلم (3657) , وابن ماجه: المقدمة (53) , وأحمد (2/321 ,2/365) , والدارمي: المقدمة (159) . 2 مسلم: العلم (2674) , والترمذي: العلم (2674) , وأبو داود: السنة (4609) , وأحمد (2/397) , والدارمي: المقدمة (513) . الجزء: 16 ¦ الصفحة: 151 وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [سورة البقرة آية: 169-168] . ثم يقال للكاتب ثانيا: من هو الذي استنكر من العلماء الأفاضل على الإخوان عملهم؟!. وقد سبق في صدر هذه الكلمة: أنا لا نعلم أحدا من العلماء المعروفين بالغيرة والتحقيق، استنكر عملهم; بل المعروف من العلماء الأفاضل تأييدهم، ومساعدتهم، وشكرهم على أعمالهم الطيبة، والدعاء لهم بالتوفيق والسداد. وكيف يستنكر العلماء الأفاضل الدعوة إلى الله، وإرشاد العباد إلى طاعته، وتحريضهم على الصلاة في الجماعة، والإنكار على من تخلف عن ذلك؟! فلا يستنكر هذه الأعمال الجليلة مسلم يؤمن بالله واليوم الآخر، ويعرف شيئا مما ورد في الدعوة إلى الله سبحانه، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، فضلا عن العالم الفاضل. فعياذا بالله من القول عليه، وعلى عباده بغير علم، وعياذا بالله من خطل اللسان، وسيئات العمل. فما أعظم ما جناه الكاتب على نفسه، وعلى غيره، ممن قد يغتر بقوله! وما أعظمها من جريمة!! الجزء: 16 ¦ الصفحة: 152 ثم قال الكاتب بعد ذلك: ولكني أقول: إذا كان الدين يحرم التماثيل المجسمة وما في حكمها سدا للذريعة، وخوفا من العودة إلى عبادتها، كما كان في الجاهلية الأولى، وكما هو الحال اليوم في الأمم الوثنية، وإذا كان من واجبنا كأمة مسلمة محافظة أن نحارب الصور الماجنة الخليعة، خوفا على أخلاقنا وتقاليدنا، فما هي حجة بعضنا في إنكار الصور الظلية العاكسة، التي لا فرق بينها مطلقا وبين ما تعكسه المرآة التي يستعملها شبابنا وشيوخنا، ونساؤنا وبناتنا؟. وما الفرق بين هذه الصورة الظلّية العاكسة كالمرآة، التي تشتمل عليها الجريدة والمجلة والمعرض والبيت والسينما، وبين أختها المعروضة لاسلكيا في التلفزيون؟ وكما قلت في كلمة سابقة: إن التلفزيون لا يسجل إلا ما يعرض على شاشته من خير أو شر، ونحن في هذه البلاد المقدسة قادرون على اختيار الخير والنافع، وعرضه على شاشة التلفزيون، كعلم وكدرس، وكتأريخ، وكتسلية بريئة نحول فيها بين المجتمع وبين الفراغ والنميمة وسفاسف الأقوال والأفعال. انتهى المقصود. والجواب عن هذا أن يقال: لقد أحسن الكاتب في اعترافه بأن الدين الإسلامي يحرم التماثيل المجسمة، وما في حكمها، سدا للذريعة، الجزء: 16 ¦ الصفحة: 153 وخوفا من العودة إلى عبادتها، كما كان في الجاهلية الأولى، وكما هو الحال اليوم في الأمم الوثنية. فقد جاءت الأحاديث الصحيحة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يدل على ما ذكر الكاتب من تحريم التماثيل، والزجر عنها، ولعن المصورين، والتصريح بأنهم أشد الناس عذابا يوم القيامة، وأنهم يعذبون يوم القيامة، ويقال لهم: أحيوا ما خلقتم. وقد جاء في القرآن الكريم، وثبت في الأحاديث والآثار أن أسباب ضلال قوم نوح هو التماثيل، كما قال تعالى: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلالاً مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَاراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَاراً} [سورة نوح آية: 25-23] . وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أن بعض أزواجه، ذكرت له كنيسة رأتها بأرض الحبشة، وما فيها من الصور، فقال: "أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح، بنوا على قبره مسجدا، وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله" 1. والأحاديث في هذا المعنى كثيرة. فتبين مما تقدم أن التساهل ببيعها في الأسواق، ونصبها في المكاتب والدوائر ونحوها، من أعظم أسباب الشرك، ومن أعمال الجاهلية، ومن أخلاق شرار الخلق عند الله. فالواجب على المسؤولين جميعا في حكومتنا السنية   1 البخاري: الصلاة (434) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (528) , والنسائي: المساجد (704) , وأحمد (6/51) . الجزء: 16 ¦ الصفحة: 154 القضاء على هذه التماثيل، والزجر عنها، ومنع توريدها، وإتلاف ما يوجد منها في كل مكان، طاعة لله ولرسوله، وحذرا من عواقبها الوخيمة. ولقد أحسن الكاتب أيضا في قوله: وإذا كان من واجبنا كأمة مسلمة محافظة، أن نحارب الصور الماجنة الخليعة خوفا على أخلاقنا وتقاليدنا. نعم والله قد أحسن الكاتب في هذا، فالواجب علينا، وعلى المسؤولين في حكومتنا محاربة هذه الصور الخليعة، التي غزت بلادنا من كل مكان، وعرضت بين شبابنا وفتياتنا في كل بقعة، إلا ما شاء الله. فالواجب على أولي الأمر أن يحاربوها، ويحاربوا الصحف والكتب التي تحملها إلى هذه البلاد، كما يجب أن تحارب جميع الصحف والكتب التي تحمل إلى بلادنا أنواع الإلحاد والتخريب، والدعوة إلى التفسخ من الأخلاق الفاضلة والسجايا الكريمة. ويجب على أولي الأمر أيضا تكليف الحكام الإداريين، وموظفي الأمن، بالتعاون مع هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، على القضاء على هذه المعاول الهدامة، والوسائل الفتاكة بديننا وأخلاقنا وفقهم الله لنصر دينه، وحماية شريعته، ومساعدة من قام بذلك، إنه على كل شيء قدير. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 155 وأما قول الكاتب - بعد ذلك -: فما هي حجة بعضنا في إنكار الصورة الظلية العاكسة التي لا فرق بينها مطلقا وبين ما تعكسه المرآة ... إلخ؟! فالجواب أن يقال: هذه فتوى من الكاتب بالتسوية بين الصورة الشمسية وبين الصورة في المرآة!! ومعلوم: أن الفتوى تفتقر إلى علم بالأدلة الشرعية، وقد سبق اعتراف الكاتب بأنه ليست فيه صفتها، ولا يحمل مؤهلاتها، فما باله- هداه الله- أفتى هنا، وجزم بالحكم بغير علم؟!. ويقال له أيضا: لقد أخطأت في التسوية والقياس، من وجهين: أحدهما: أن الصورة الشمسية لا تشبه الصورة في المرآة، لأن الصورة الشمسية لا تزول عن محلها، والفتنة بها قائمة. وأما الصورة في المرآة فهي غير ثابتة، تزول بزوال المقابل لها، وهذا فرق واضح لا يمترى فيه عاقل. والثاني: أن النص عن المعصوم صلى الله عليه وسلم جاء بتحريم الصور مطلقا، ونص على تحريم ما هو من جنس الصورة الشمسية، كالصورة في الثياب والحيطان. فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم في عدة أحاديث: أنه لما رأى عند عائشة سترا فيه تماثيل، غضب وهتكه، وقال: "إن أشد الناس عذابا يوم القيامة المصورون" 1، وقال في حديث آخر: "إن أصحاب هذه الصور - يشير إلى الصور التي في الثياب   1 البخاري: الأدب (6109) . الجزء: 16 ¦ الصفحة: 156 - يعذبون يوم القيامة، ويقال لهم: أحيوا ما خلقتم" 1، وثبت عنه عليه الصلاة والسلام: "أنه محا الصور التي في جدران الكعبة يوم الفتح"، وهي في حكم الصور الشمسية. فلو سلمنا مشابهة الصورة الشمسية للصورة في المرآة، لم يجز القياس، لما قد تقرر في الشرع المطهر: أنه لا قياس مع النص، وإنما محل القياس إذا فقد النص، كما هو معلوم عند أهل الأصول، وعند جميع أهل العلم. وأما ما ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تدخل الملائكة بيتا فيه صورة، إلا رقما في ثوب" 2 فهذا الحديث لا شك في صحته، وقد تعلق به بعض من أجاز الصور الشمسية. والجواب عنه من وجوه: منها: أن الأحاديث الواردة في تحريم التصوير ولعن المصورين، والتصريح بأنهم أشد الناس عذابا يوم القيامة، مطلقة عامة، ليس فيها تقييد ولا استثناء، فوجب الأخذ بها، والتمسك بعمومها وإطلاقها. ومنها: أنه صلى الله عليه وسلم لما رأى الصور المشبهة للشمسية، وهي الصور الموجودة في الستور والحيطان، غضب، وتلون وجهه، وأمر بهتك الستور التي فيها الصور، ومحو الصور التي في الجدران؛ وباشر محوها بنفسه، لما رآها في جدران الكعبة، كما سبقت الإشارة إلى ذلك. ومنها: أن الاستثناء المذكور، إنما ورد في سياق   1 البخاري: النكاح (5181) , ومسلم: اللباس والزينة (2107) , وأحمد (6/246) , ومالك: الجامع (1803) . 2 البخاري: بدء الخلق (3226) , ومسلم: اللباس والزينة (2106) , والترمذي: الأدب (2804) , والنسائي: الزينة (5350) , وأبو داود: اللباس (4155) , وابن ماجه: اللباس (3649) , وأحمد (4/28) . الجزء: 16 ¦ الصفحة: 157 الأحاديث الدالة على امتناع الملائكة، من دخول البيت الذي فيه تصاوير، ولم يرد في سياق الأحاديث المانعة من التصوير، وفرق عظيم بين الأمرين. ومنها: أن قوله: "إلا رقما في ثوب" 1 يجب أن يحمل على الصور التي قطع رأسها، أو طمس; أو التي في الثياب التي تمتهن باتخاذها وسائد وبُسُطا، ونحو ذلك، لا فيما ينصب ويرفع كالستور على الأبواب، والجدران، والملابس; فإن الأحاديث الصحيحة صريحة في تحريم ذلك، وأنه يمنع من دخول الملائكة، كما ورد ذلك في حديث عائشة، وأبي هريرة، وغيرهما. وبما ذكرناه يتضح الجمع بين الأحاديث، وأن الاستثناء إنما ورد في سياق الأحاديث الدالة على امتناع دخول الملائكة البيت الذي فيه الصور، وأن المراد بها الصور الممتهنة في الوسائد، والبسط، ونحوها، أو مقطوعة الرأس، والله ولي التوفيق. وقد جمع الحافظ ابن حجر رحمه الله في الفتح، والنووي في شرح مسلم، بين الأحاديث بما ذكرته آنفا؛ وأنا أنقل لك أيها القارئ كلامهما، وبعض كلام غيرهما في هذه المسألة، ليتضح لك الصواب، ويزول عنك الإشكال، والله الهادي إلى إصابة الحق، وهو حسبنا ونعم الوكيل. قال الحافظ في الفتح، قال الخطابي: والصورة التي   1 البخاري: اللباس (5958) , والنسائي: الزينة (5349) , ومالك: الجامع (1802) . الجزء: 16 ¦ الصفحة: 158 لا تدخل الملائكة البيت الذي هي فيه: ما يحرم اقتناؤها، وهو ما يكون من الصور التي فيها الروح، مما لم يقطع رأسه، أو لم يمتهن، ا?. وقال الخطابي رحمه الله أيضا: إنما عظمت عقوبة المصور، لأن الصور كانت تعبد من دون الله، ولأن النظر إليها يفتن، وبعض النفوس إليها تميل. اهـ. وقال النووي رحمه الله في شرح مسلم: باب تحريم تصوير صورة الحيوان، وتحريم اتخاذ ما فيه صورة غير ممتهنة بالفرش، ونحوه، وأن الملائكة عليهم السلام لا يدخلون بيتا فيه صورة أو كلب. قال أصحابنا وغيرهم من العلماء: تصوير صورة الحيوان حرام شديد التحريم، وهو من الكبائر، لأنه متوعد عليه بهذا الوعيد الشديد المذكور في الأحاديث؛ وسواء صنعه بما يمتهن، أو بغيره، فصنعته حرام بكل حال، لأن فيه مضاهاة لخلق الله؛ وسواء ما كان في ثوب، أو بساط، أو درهم، أو دينار، أو فلس، أو إناء، أو حائط، أو غيرها. وأما تصوير صورة الشجرة، ورحال الإبل، وغير ذلك مما ليس صورة حيوان، فليس بحرام؛ هذا حكم نفس التصوير. وأما اتخاذ المصور فيه صورة حيوان فإن كان معلقا على حائط، أو ثوبا ملبوسا، أو عمامة، ونحو ذلك مما الجزء: 16 ¦ الصفحة: 159 لا يعد ممتهنا فهو حرام; وإن كان في بساط يداس، ومخدة، ووسادة، ونحوهما مما يمتهن فليس بحرام ... إلى أن قال: لا فرق في هذا كله بين ما له ظل، وما لا ظل له. هذا تلخيص مذهبنا في المسألة. وبمعناه قال جماهير العلماء من الصحابة، والتابعين، ومن بعدهم، وهو مذهب الثوري ومالك، وأبي حنيفة، وغيرهم. وقال بعض السلف: إنما ينهى عما كان له ظل، ولا بأس بالصور التي ليس لها ظل؛ وهذا مذهب باطل، فإن الستر الذي أنكر النبي صلى الله عليه وسلم الصورة فيه، لا يشك أحد أنه مذموم، وليس لصورته ظل، مع باقي الأحاديث المطلقة في كل صورة، ا?. قال الحافظ- بعد ذكره لملخص كلام النووي هذا- قلت: ويؤيد التعميم فيما له ظل، وما لا ظل له ما أخرجه أحمد من حديث علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أيكم ينطلق إلى المدينة، فلا يدع بها وثنا إلا كسره، ولا صورة إلا لطخها" 1 أي، طمسها، الحديث; وفيه: "من عاد إلى صنعة شيء من هذا، فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم" 2 ا?. قلت: وقد سبق أن النبي صلى الله عليه وسلم محا الصور التي في جدران الكعبة، وهي لا ظل لها، وخرج مسلم في   1 أحمد (1/87) . 2 أحمد (1/87) . الجزء: 16 ¦ الصفحة: 160 صحيحه عن علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "لا تدع صورة إلا طمستها، ولا قبرا مشرفا إلا سويته" 1 وهذا يعم الصور التي لها ظل، والتي لا ظل لها، والأمر في ذلك واضح لا غبار عليه، والله المستعان، وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا به. ونسأله تعالى لنا ولجميع المسلمين التوفيق لما يرضيه، والسلامة من أسباب غضبه، إنه سميع الدعاء. وأما التلفزيون فهو آلة خطيرة، وأضرارها عظيمة، كالسينما، أو أشد، وقد علمنا عنه من الوسائل المؤلفة في شأنه، ومن كلام العارفين به في البلاد العربية وغيرها، ما يدل على خطورته، وكثرة أضراره بالعقيدة، والأخلاق، وأحوال المجتمع. وما ذلك إلا لما يثبت فيه، من تمثيل الأخلاق السافلة، والمرائي الفاتنة، والصور الخليعة، وشبه العاريات، والخطب الهدامة، والمقالات الكفرية، والترغيب في مشابهة الكفار في أخلاقهم وأزيائهم، وتعظيم كبرائهم، وزعمائهم، والزهد في أخلاق المسلمين وأزيائهم، والاحتقار لعلماء المسلمين، وأبطال الإسلام، وتمثيلهم بالصور المنفرة منهم، والمقتضية لاحتقارهم، والإعراض عن سيرتهم، وبيان طرق المكر، والاحتيال، والسلب، والنهب، والسرقة، وحياكة المؤامرات والعدوان على الناس.   1 مسلم: الجنائز (969) , والترمذي: الجنائز (1049) , والنسائي: الجنائز (2031) , وأبو داود: الجنائز (3218) , وأحمد (1/96 ,1/128) . الجزء: 16 ¦ الصفحة: 161 ولا شك: أن ما كان بهذه المثابة، وترتب عليه هذه المفاسد: يجب منعه، والحذر منه، وسد الأبواب المفضية إليه؛ فإذا أنكره الإخوان المتطوعون، وحذروا منه، فلا لوم عليهم في ذلك، لأن ذلك من النصح لله ولعباده. ومن ظن أن هذه الآلة تسلم من هذه الشرور، ولا يبث فيها إلا الصالح العام إذا روقبت، فقد أبعد النجعة وغلط غلطا كبيرا، لأن الرقيب يغفل، ولأن الغالب على الناس اليوم هو التقليد للخارج، والتأسي بما يفعل فيه؛ ولأنه قل أن توجد رقابة تؤدي ما أسند إليها، ولا سيما في هذا العصر الذي مال فيه أكثر الناس إلى اللهو والباطل، وإلى ما يصد عن الهدى؛ والواقع يشهد بذلك، كما في الإذاعة، والتلفزيون في المنطقة الشرقية; فكلاهما لم يراقب الرقابة الكافية المانعة من أضرارهما، ونسأل الله أن يوفق حكومتنا لما فيه صلاح الأمة ونجاتها، وسعادتها في الدنيا والآخرة، وأن يصلح لها البطانة، إنه جواد كريم. وهذا آخر ما أردنا التنبيه عليه، من أخطاء الكاتب عبد الله السعد، نصحا لله ولعباده؛ ونسأل الله سبحانه أن يوفقنا والكاتب، وسائر المسلمين، للتفقه في الدين، ولكل ما فيه صلاح أمر ديننا ودنيانا، إنه على كل شيء قدير، وصلى الله على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 162 وقال الشيخ: عبد العزيز بن عبد الله بن باز: 1 احذروا الصحف الخليعة لقد أصيب العالم الإسلامي عامة، وسكان الجزيرة خاصة، بسيل من الصحف التي تحمل بين طياتها أشكالا كثيرة من الصور الخليعة المثيرة للشهوات، الجالبة للفساد، الداعية للدعارة، الفاتنة للشباب، والشابات. وكم حصل في ضمن ذلك من أنواع الفساد، لكل من يطالع تلك الصور العارية، وأشباهها، وكم شغف بها من الشباب من لا يحصى كثرة، وكم هلك بسمومها من شباب وفتيات، استحسنوها، ومالوا إليها، وقلدوا أهلها. وكم في طيات تلك الصحف من مقالات إلحادية، تنشر الأفكار المسمومة، والقصائد الباطلة، وتدعو إلى إنكار الأديان، ومحاربة الإسلام. وإن من أقبح تلك الصحف، وأكثرها ضررا: "المصور" و"آخر ساعة" و"الجيل" و "روزاليوسف" و "صباح الخير" و "مجلة العربي". فالواجب على حكومتنا - وفقها الله - منع هذه الصحف منعا باتا، لما فيها من الضرر الكبير، على   1 في مقال نشر في مجلة راية الإسلام سنة 1380 هـ, وللشيخ محمد بن عثيمين أيضا: خطبة جيدة في فتن المجلات طبعت مفردة وانتشرت سنة 1407هـ. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 163 المسلمين في عقائدهم، وأخلاقهم، ودينهم، ودنياهم؛ ولا ريب: أن ولاة الأمر، أول مسئول عن حفظ دين الرعية وأخلاقهم. ولا شك أن هذه الصحف مما يفسد الدين والأخلاق، ويضر المسلمين ضررا ظاهرا في الدين والدنيا، ويزلزل عقائدهم، ويحدث الشكوك والمشاكل الكثيرة بينهم، والله سبحانه وتعالى يقول: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} [سورة الحج آية: 41-40] ، ويقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [سورة محمد آية: 7] . ولا ريب أن القضاء على هذه الصحف، ومنع دخولها البلاد، من أعظم نصر الله وحماية دينه. وفي الحديث الصحيح، يقول النبي صلى الله عليه وسلم "كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته: فالإمام راع ومسؤول عن رعيته. والرجل راع في أهل بيته، ومسؤول عن رعيته. والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها. والعبد راع في مال سيده ومسؤول عن رعيته" 1. وقال صلى الله عليه وسلم: "ما من أمير يلي أمر المسلمين، ثم لا يجهد لهم وينصح، إلا لم يدخل معهم الجنة" 2 رواه مسلم. فيا ولاة أمر المسلمين، اتقوا الله في المسلمين،   1 البخاري: الجمعة (893) , ومسلم: الإمارة (1829) , والترمذي: الجهاد (1705) , وأبو داود: الخراج والإمارة والفيء (2928) , وأحمد (2/5 ,2/54 ,2/121) . 2 مسلم: الإيمان (142) . الجزء: 16 ¦ الصفحة: 164 وحاربوا هذه الصحف الهدامة، وخذوا على أيدي السفهاء، وأغلقوا أبواب الفساد، تفوزوا بالنجاة والسعادة، وتنشلوا بذلك جمعا غفيرا من الفتيان والفتيات من وهدة هذا التيار الجارف، وحمأة هذه الصحف الخبيثة المدمرة. ويا معشر المسلمين، حاربوا هذه الصحف الخبيثة المدمرة، ولا تشتروها بقليل ولا كثير; فإن بيعها وثمنها حرام، وإنما الواجب إتلافها أينما وجدت، دفعا لضررها، وحماية للمسلمين من شرها. أراح الله منها العباد والبلاد؛ ووفق ولاة أمر المسلمين، لما فيه صلاح دينهم ودنياهم، وسلامة عقائدهم، وأخلاقهم، إنه على كل شيء قدير. [أنجح الوسائل وأقرب الطرق في الدعوة والتوجيه والإرشاد] وقال الشيخ: صالح بن علي بن غصون: 1 الحمد لله: إن كل فرد منا يدرك أثر الدعوة والتوجيه والإرشاد في الجماهير والأسر والأفراد، كما يدرك أن أنجح الوسائل، وأقرب الطرق في هذا الوقت لهذا الغرض، طريق الإذاعة، والصحف، والمجلات، والمنابر، والنوادي، مما جعل أعداء الإسلام يستغلون هذه الثغور استغلالا فظيعا، دجلا، وتضليلا، وخلاعة، ودعارة، وتشبيها، وزندقة، وإلحادا، بكل جرأة وإقدام؛ دأبوا على ذلك ليل نهار، وضحوا في هذا السبيل، بكل   1 في مجلة راية الإسلام, سنة 1380 هـ. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 165 غال ورخيص، فانخدع ببريق دعاياتهم، وترويجاتهم خلق كثير، وجم غفير. ونحن، يا للأسف، بين غافل ومتغافل، عن تلك الأخطار المحدقة، والدعايات المغرضة التي زعزعت العقائد، وحطمت الكرامات، ودنست الأخلاق; فالبعض منا يتعلل عن المساهمة في هذا الواجب بمشاغله وأعماله الرسمية، بينما يتخلف قسم آخر عن المساهمة في هذا الواجب مستترا بالخمول وعدم اعتباره لدى الكثيرين، على حد تعبيره. وقسم آخر حظهم التألم، وإظهار الحزن والأسى، وشن الحملات النكراء على المسؤولين، والأشخاص البارزين، كأن المسؤولية عليهم دونهم، وكأن النصوص الشرعية القاضية بالأمر والنهي لم تتناولهم، فنصيبهم منها التخلي والعيب على إخوانهم. ولا شك أن واجب الأمر والنهي، والدعوة والإرشاد على كل فرد منا بحسب حاله، وعلمه، ومقدرته، ونفوذه، إذا لم يقم بهذا الأمر العظيم، من تحصل بهم الكفاية في هذا الزمن. فعلينا أن نفرغ أنفسنا للدعوة والإرشاد، والكفاح، والنضال عن طريق الوسائل المجدية، كالإذاعة، والمنابر، والنوادي، والصحف، والمجلات؛ وأن نساند الدعاة إلى الجزء: 16 ¦ الصفحة: 166 خير أين كانوا، وأن نشجع الصحف والمجلات التي تحتضن الدعوة إلى التمسك بهذا الدين، وآدابه، وأخلاقه، ماديا، وأدبيا. فواقعنا اليوم يحتم علينا أن نكرس الجهود، ونستهين المشقات، والصعوبات في سبيل نشر هذا الدين، ومقاومة المبادئ الهدامة، التي لعبت أدوارا في ميادين الدجل والتضليل؛ سيما وقد أفسح لها المجال، فوجدت آذانا صاغية، وقلوبا واعية، انساقت وراء تلك الدعايات، بدون تفكير ولا روية. وإن لم يتدارك الأمر قبل فواته، فالواقع أليم، والخطب جسيم، ولن يسلم من معرة ذلك وعواقبه، إلا من قام بواجبه تجاه نفسه وولده وذويه، وإخوانه المسلمين، مهما كثرت مشاغله، وتعللاته؛ وفقنا الله لصالح القول والعمل. [الحث على نشر الدعوة الإسلامية بكل الوسائل] وقال الشيخ: صالح بن محمد بن لحيدان، في كلمة افتتاحية: 1 بحمدك اللهم نبدأ، وعلى هدى منك نسير، ورجاؤنا بك عظيم، أن تسدد خطانا، وتكتب لنا النجاح والتوفيق فيما نحن فيه. في السنوات الأخيرة انتشرت الحياة الثقافية في بلادنا   1 نشرت في مجلة راية الإسلام سنة 1380 هـ, وكان رئيس تحريرها. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 167 انتشارا سريعا، يحمل معه طابع السرعة في كل شيء؛ وفي السرعة من الأخطار والأخطاء الشيء الكثير. انتشرت هذه الحياة، وانتشر معها الأفكار المختلفة، والمبادئ المتباينة، ترد من الشرق والغرب، وتحمل الناس على نبذ دينهم، والسير في ركابها. تحملها الجرائد والمجلات في صفحاتها، والإذاعات على أمواج الأثير، في أثواب مختلفة تخدع العيون، وتميت القلوب؛ ففتن بها الشباب، وارتاع منها الشيوخ وبهتوا، وجعلت مبادئ الشر تلوح من كل جانب. وأقبل المتعلمون من أبناء الأمة الإسلامية على اعتناق هذه الأفكار، والدعوة لها، لجهلهم بالدين وتعاليمه؛ يساعد على ذلك واقع المسلمين، وما هم عليه. وقليل منهم وقف منها موقف الناقد الممحص، المدقق، ليسبر غورها، ويطلع على ما تنطوي عليه، وتنتهي إليه من شرور وفساد في الأخلاق، والعقائد والعادات والتقاليد. فأفضى بهم موقفهم هذا إلى نتائج أفزعتهم، وأقضت مضاجعهم، وأقلقت بالهم؛ وجعلوا يرسمون الخطط، ويخطون السبل لصد هذا السيل الجارف، وحماية أمتهم وملتهم من ويله ووباله. وكانت الجزيرة العربية مصدر النور والإشعاع، ومهبط الوحي والفلاح، منها انتشر الإسلام في ابتداء رسالته، كما كانت منار هدى عند اندراس ملته، فمن قِبَلها الجزء: 16 ¦ الصفحة: 168 ظهرت الدعوة التجديدية للملة الإسلامية، على يد حاملها وباعث نهضتها، في قلب الجزيرة. لهذا أصبح من المتحتم على أبنائها أن يستعدّوا لنشر الدعوة الإسلامية، والوقوف موقف المدافع عن دينه ومقدساته، وأن يردوا ما تقوله الكتب، وتنشره الصحف من سخف القول، ورذيل الأفكار. وأقرب وسيلة لهذا الميدان هي: الصحافة، لاشتراك العامة والخاصة في الاطلاع عليها، والوقوف على ما يقال فيها. وكان إنشاء مجلة تلزم نفسها السير مع الدين، وتقف نشاطها لحمايته، ونفي ما يلصق به وبأهله من باطل فكرة تداعب مخيلات كثير من العلماء والمتعلمين، ولكن إخراجها إلى حيز الوجود هو الصخرة التي تتكسر عليها أفكارهم، وتذوب عندها آمالهم. ذلك لما يرونه من إعراض الناس مما يكتب في هذا الميدان، وخوفا من المستقبل المظلم، فالقراء يسعون وراء الصحف التي تنشر هجر القول، ووضيع الكلام، والتي تخدم المادة، وتسير في ركاب الفكر الشرقي والغربي، الذي هدفه: رفع الدنيا بهدم الدين!!. ولكن الله يسر لهذه الفكرة من ذوي الغيرة الإسلامية، فقاموا لها على قدم وساق، وتولى إخراجها إلى ميدان العمل والظهور على مسرح الحياة، من لهم مسابقة في الجزء: 16 ¦ الصفحة: 169 ميدان الدعوة ونشر الدين، فعملوا على إبرازها، وليس غريبا منهم: وهل ينبت الخطِّيّ إلا وشيجه وتغرس إلا في منابتها النخل 1 وهذه المجلة التي نتشرف بزفها إلى القراء، وعرضها عليهم هدفها واضح من اسمها، وغايتها مرتسمة في الراية التي تحملها، رائدها الخير والدعوة إليه، ونفي الشر والتحذير منه، وإرشاد المسلمين إلى ما فيه صلاحهم. فهي مجلة كل مسلم غيور، حريص على بعث أمته وهدايتها، ومنها يستطيع أن يعبر عن رأيه ويرشد؛ فهي منار إرشاد، ومصدر تثقيف، تعالج المشاكل الإسلامية، وتحاول حلها، وترسم الخطط السليمة التي ترفع من شأن المسلمين، وينبني عليها نظام الإسلام في العبادات والعادات، وفي السياسة والاقتصاد، وفي علاقة الناس بربهم، وفيما بينهم. وتشرح أحوال المسلمين وواقعهم، وتبين مصادر الفلاح، وأن مكانها في الإسلام، وتحذر من انتهاج السبل المؤدية إلى الهلاك والدمار; فيها تقرأ عن أسلوب الدعوة في الإسلام، وعن الأدب والأدباء، وعن التأريخ، وما   1 وانظر الشاهد رقم 218 من أوضح المسالك لفهم معناه. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 170 سجله لأهل الجهاد من أعمال البطولات والنصر. تجد فيها ما تحب من فتاوى تهم المسلمين، ولها مساس بحياتهم، يكتبها أكابر العلماء في هذه البلاد؛ وهي مصدر حياة، ومنار علم، تجيب على أسئلة القراء، واستفتاءاتهم، وتحل ما يصعب حله من مسائل الاقتصاد التي ضل فيها الشرق والغرب، ومن سار في ركابهم. إنها مجلتك أيها المسلم أين كنت، وحيث تكون، فهي بك ولك، ومنك تصدر، وعنك تنطق؛ هي ميدانك الفسيح الذي تجد فيه ما يروقك من علم وأدب، فتنقلك من مقالة إلى قصيدة، إلى قصة هادفة، إلى فتوى مفصلة. فهي روضتك المحببة، تضم أنواع النباتات النافعة، تغذيها أفكار حية، أشربت حب الإسلام، والدفاع عنه، ويتولى إخراجها كوكبة من العلماء، والشباب المثقف، ممن ستقرأ لهم في هذا، والأعداد المقبلة. إنها مجلتك، ونجاحها متوقف على وقوفك بجانبها، فجاهد بمساندتها، وستساير بإذن الله العصر وتطوره، وستربط بين المسلمين في شرق بلادهم وغربها، حتى يكونوا جسما واحدا، يحيا حياة حرة كاملة، وهي بعون الله بالغة ما تصبو إليه، وما ذلك على الله بعزيز. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 171 الباب العاشر "النظم" [الفصل الأول القضاء الشرعي الذي أوجبه الله على عباده] سميته بها لكثرتها في هذا العصر، ولم تكن في عصر الشيخ عبد الله، ولا في عصر النبوة، ولا الأئمة المهديين; وإنما سرت إلينا من أفراخ الإفرنج المنحلين، المعرضين عن شرع رب العالمين، فجاؤوا بنظمهم يطبقونها على المسلمين. وفي الباب فصول; الأول منها: القضاء الشرعي الذي أوجبه الله على عباده، وقد أجمعوا على أن ينصب في كل إقليم قاضيا، لحفظ حقوق المسلمين، عملا بقوله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [سورة المائدة آية: 49] ، وقوله: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} [سورة الأعراف آية: 3] . وقد تكفل الله لعباده جميع ما يحتاجون إليه إلى قيام الساعة، قال تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} [سورة الأنعام آية: 115] الآية، وقال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [سورة المائدة آية: 3] . والقضاء، وفضله، وآدابه، قد أفرد بالمؤلفات؛ وفي أثناء كتب الحديث والفقه ما يشفي ويكفي، ويغني عن أفكار المعرضين عن شرع رب العالمين. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 171 قال الشيخ عبد الله بن محمد بن حميد رحمه الله: من محاسن الإسلام 1: لا شك أن الدين الإسلامي، دين سماوي، لم يكن لأمة من الأمم مثله، ولا نزل على نبي من الأنبياء نظيره، إذ هو دين عام، مبين لأحوال المجتمع الإسلامي، بل البشر عامة؛ وبه كمل نظام العالم، فهو جامع شامل للمصالح الاجتماعية، والأخلاقية. فإنه يبين الأحوال الشخصية التي بين العبد وبين ربه، من صلاة، وزكاة، وصوم، وحج؛ وشرع نظافة البدن، فأمر بغسل الجنابة، والجمعة، والعيد، أو بعضا كالوضوء عند أداء كل فريضة من الفرائض الخمس. وشرع أمور الفطرة، من ختان، وقص شارب، وتقليم أظفار، ونتف الإبط، والسواك، وحلق العانة. كما أرشدنا الإسلام إلى تجميل الثياب، وأن تكون على أحسن هيئة وأكملها، كما سن ذلك في الجمعة، والعيدين. وهذب الأخلاق: فأمر بالصدق في المعاملات، والوفاء بالعقود، والعهود، والمواعيد، وأوجب ترك الذنوب، من زنى، وخمر، وغيبة، وقذف، وسعاية، وشهادة زور، وانحراف في الأحكام، وتحريف لما أباح الله   1 نشر في جريدة القصيم. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 173 وحرم، بتغيير له عن وجهه، وما أريد به إلى غير ذلك. وبالجملة: إن الدين الإسلامي جامع، ورابط للأمة الإسلامية؛ بل هو حياتها، وتدوم ما دام، وتنعدم، وتسقط إذا انعدم. وهو مفخرة من مفاخرها العظيمة، ومن خصائصها، حيث لم يكن لأمة من الأمم قبلنا مثله. فلو أن المسلمين تمسكوا بأحكام الإسلام وتعاليم دينهم، كما كان آباؤهم الأماجد، لكانوا أرقى الأمم، وأسعد الناس؛ ولكن لما حرفوا تعاليم دينهم، انحرفوا عن الصراط السوي. وقد جعل الإسلام للفقراء حظا في مال الأغنياء، بالزكوات، والكفارات، لطفا بهم وإحسانا إليهم، ورحمة بالأغنياء، وتكرمة لهم، وتحصينا لأموالهم؛ هذا أساس المبادئ الاشتراكية المعتدلة، والأعمال الخيرية، التي تأسست لها الجمعيات الكبرى في بعض أقطار العالم. وشرع الإسلام الحج ليحصل اجتماع عام لسائر الأمم التي تدين به، لينتفع بعضهم من بعض علومهم، وأحوالهم، ويحصل بذلك التعارف، والتعاون، والتآخي، ولما في ذلك من إعانة أهل الحرمين الشريفين ليكونا مركزين عظيمين للإسلام؛ وهذا بعض من مقاصد الحج، كما قد شرع الإسلام: اجتماعات أخرى أصغر وأيسر، في الجمع، والأعياد. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 174 وبين أحكام المعاملات، من بيع وشراء، ورهن، وقرض، وإباحة شركات ووكالة، وحوالة، وعارية، وغيرها من المعاملات المالية، التي تقتضيها القاعدة التي عليها مبني علم الاجتماع البشري. وبيّن الإسلام كيف تقام البيوتات، وتتأسس العائلات; فندب إلى الزواج، وحث عليه ورغب فيه، وبيّن العقود التي تعتبر زواجا، ووضح شروطها، من رضى وولي وشهود، وغيرها؛ وما خالف ذلك فهو سفاح أو قريب منه; وأمر بسدل الحجاب للنساء صيانة للنسل، وإبعادا للمظنة وراحة لكل ضمير. وبيّن أحكام الجنايات، كالقصاص في النفس والطرف، وما يشرط لذلك؛ كما بين أحكام فصل الخصومات، في الدماء والأموال، والأعراض. وبيّن ما يلزم لحفظ المجتمع العام، من نصب الإمام، وشروط استحقاقه للإمامة، وما يجب له من الطاعة، وما يجب عليه من المشورة، والعمل بالشريعة، وإقامة العدل بين أصناف الرعية. ثم إن الإسلام قسم السلطة فجعلها خططا منها القضاء، فحدد للقاضي خطته، من فصل الخصومات، والنظر في أموال غير المرشدين، والحجر على من يستوجبه، والنظر في وقوف عمله ليعمل بشرطها، وتنفيذ الوصايا، وإقامة الحدود، إلى غير ذلك. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 175 وبيّن خطة الشاهد: كيف تحمل الشهادة وأدائها، ومن تقبل شهادته، ومن لا تقبل; وأمر بإثباتها وعدم كتمانها؛ كما بيّن خطة المحتسب، ثم بقية الخطط. وبيّن حكم من خرج عن طاعة الإمام، بأن يقاتل حتى يفيء إلى أمر الله؛ وبين كيف تعامل الأمم الأجنبية فيما إذا وقع حرب معها، وفي حالة مسالمتها. وأمر بحسن الجوار، وإقامة الحدود على من أخاف السبيل، أو خالف ما أمرت به الشريعة. وبالجملة: فقد استقصى هذا الدين الإسلامي العظيم جميع الشؤون الاجتماعية، وبيّنها أحسن بيان، مما يعجز عن مثله عقلاء البشر؛ حتى دخل مع الرجل في بيته وحكم بينه وبين امرأته، فبين ما له عليها من الحقوق، وبيّن ما لها عليه من مثل ذلك، وبيّن ما عسى أن يقع بينهما من خلاف في المستقبل. كما حكم الإسلام بين الرجل وبين ولده، وبينه وبين نفسه في حياته وبعد وفاته، كأوقافه ووصاياه، وما يصح منها وما لا يصح، وقسّم مواريثه، وبين أحكام تغسيله وتكفينه ودفنه. كل هذا لأجل أن تنتظم الحياة انتظاما كاملا، ويعيش المسلم عيشة هنيئة منتظمة، ليتمكن معها لإعداد الزاد ليوم المعاد، والتأهب لما بعد الموت. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 176 فالدين الإسلامي: نظام عام للمجتمع البشري الإسلامي؛ فإنه تام الأحكام، ثابت المباني، دين سماوي، لم يدع شاذة ولا فاذة إلا بينها أحسن بيان، ووضحها أتم إيضاح. وما دخلت الأمم الكثيرة في الإسلام أفواجا أفواجا، واتسعت دائرة الإسلام، فانتشرت الأمة الإسلامية مادة جناحها من نهر القانج من الهند شرقا إلى إفريقيا، ثم إلى أواسط أوروبا، في زمن قليل، إلا باحترام الحقوق والعمل بقواعد الإسلام، والتسوية بين طبقات المسلمين، ملكهم، وصعلوكهم، وصغيرهم وكبيرهم فيه على السواء. فالأمة الإسلامية لا حياة لها ولا استقامة بدون التمسك بدينها، والعمل بأوامره ونواهيه؛ فهي دائمة بدوام دينها، مضمحلة باضمحلاله، ساقطة إذا أهملت تعاليم دينها القويم. كما قال بعض أعداء المسلمين: لما رغب المسلمون عن تعاليم دينهم، وجهلوا حكمته وأحكامه، نشأ فيهم فساد الأخلاق، والتباغض، وتفرقت كلمتهم، وجهلوا أحوالهم الحاضرة والمستقبلة، وغفلوا عما يضرهم وما ينفعهم. وقنعوا بحياة يأكلون فيها ويشربون، وينامون؛ ثم لا ينافسون غيرهم في فضيلة، ولكن متى أمكن لأحدهم أن يضر أخاه لا يقصر في إلحاق الضرر به، فجعلوا بأسهم الجزء: 16 ¦ الصفحة: 177 بينهم، والأمم تبتلعهم لقمة بعد أخرى. رضوا بكل عارض، واستعدوا لقبول كل حادث، وركنوا إلى السكون في كور بيوتهم، يسرحون في مرعاهم ثم يعودون إلى مأواهم. هذا وصفهم لحالة المسلمين حين جهلوا تعاليم هذا الدين القويم، ورضوا منه بمجرد الانتساب إليه، وهو دين سماوي عام، شامل لمصالح الدنيا والآخرة، ثابت المباني، تام الأركان. قال كثير من منصفي عقلاء المستشرقين، ممن يكتب لبيان الحق، لا للسياسة: إن نشأة مدنية أوروبا الحديثة، إنما كانت رشاشا من نور الإسلام، فاض عليها من الأندلس، ومن صفحات الكتب التي أخذوها في حروبهم مع المسلمين، في الشرق والغرب. وقال القس لميلوان: الإسلام يمتد في إفريقيا، وتسير الفضائل معه حيث سار؛ فالكرم، والعفاف، والنجدة من آثاره، والشجاعة، والإقدام من نتائجه; ومن الأسف أن السكر والفحش والقمار تنتشر بين السكان بانتشار دعوة المبشرين. وقال كونتنسن: يمتاز المسلمون على غيرهم برفعة في السجايا، وشرف في الأخلاق؛ قد طبعت في نفوسهم ونفوس آبائهم وصايا القرآن، بخلاف غيرهم، فإنهم في سقوط تام من حيث ذلك. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 178 وقال أيضا: إن من أهم النعوت التي يمتاز بها المسلم: عزة النفس فهو سواء في حالة بؤسه ونعيمه، لا يرى العزة إلا لله ولرسوله وله، وهذه الصفة التي غرسها الإسلام في نفوسهم، إذا توفرت معها الوسائل، كانت أعظم دافع لها إلى التسابق إلى غاية المدنية الصحيحة، ورقيات الكمال. وقال: هانوتو، وزير خارجية فرنسا في وقته: إن هذا الدين الإسلامي قائم الدعائم، ثابت الأركان، وهو الدين الوحيد الذي أمكن اعتناق الناس له زمرا وأفواجا; وهو الدين الإسلامي العظيم، الذي تفوق شدة الميل إلى التدين به كل ميل، إلى اعتناق دين سواه؛ فلا يوجد مكان على سطح المعمورة إلا واجتاز الإسلام فيه حدوده، فانتشر في الآفاق. وأقوالهم في هذا كثيرة جدا، يعترفون فيها بعظمة الإسلام، وشموله لعموم المصالح، ودرء المفاسد، وأن المسلمين لو تمسكوا بإسلامهم حقا، لصاروا أرقى الأمم وأسعد الناس، ولكن ضيعوه فضاعوا، واكتفوا منه بمجرد التسمي بأنهم مسلمون. مناقب شهد العدو بفضلها ... والفضل ما شهدت به الأعداء ويؤسفنا كثيرا بأن البعض من أولادنا لم يعرفوا عن الجزء: 16 ¦ الصفحة: 179 الإسلام وعظمته ما عرفه هؤلاء المعادون له، بل صاروا يعظمون هذه المدنية الزائفة، ويتقبلون كل ما يكتب نحو الإسلام وأهله، من غير تعقل وتفهم. ولم يدروا أن معظم كتاباتهم على اختلاف أساليبها يريدون بها غمط الإسلام، وتشكيك المسلمين في إسلامهم، بما يبذرونه من الشك والشبه، المؤدية إلى الحيرة والتردد، لمن لا خبرة له بمقاصدهم، ولا علم عنده بالإسلام وحكمه; والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل. وقال رحمه الله: مكانة القضاء في الإسلام 1 إن مركز القضاء له الأهمية الكبرى في هذه الشريعة، حيث كان القاضي يفصل في الخصومات، ويقضي في الدعاوى بين الناس، لا فرق بين ملك وأمير، وصغير وكبير، وغني وفقير؛ والذي هذا شأنه، وهذه مهمته، يجب عليه أن يتخلق بخلق القرآن، ويقتدي بالنبي الكريم، والسلف الصالح. فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم يتولى القضاء بنفسه، فكان إذا جلس له يتمثل العدل في أسمى وأجمل المظاهر، وكان خلفاؤه من بعده يتولون هذا المنصب بأنفسهم؛ قام به أبو   1 نشر في جريدة الندوة في 29/6/1380 هـ. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 180 بكر وضي الله عنه، جامعا بين السلطة الدينية والسياسية، فكان يحكم بكتاب الله، فإن لم يجد فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويتوقف في بعض القضايا، فيجمع لها المهاجرين والأنصار، رضي الله عنهم، فيستشيرهم في حكمها. وجرى على هذا من بعده، الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه فلما اتسعت الفتوحات الإسلامية، واشتغل بالأعمال السياسية، ولّى أبا الدرداء قضاء المدينة; وكان أكابر الصحابة وحفاظ القرآن، يقومون بهذا المنصب، فأبو موسى تولى قضاء الكوفة، وشريح في البصرة، وغيرهما، فساروا وأمثالهم في القضاء، سيرة بهرت العقول. هذا صعلوك من صعاليك اليهود، ادعى عليه علي رضي الله عنه في رمح كان بيد اليهودي، على أنه رمحه، فطلب شريح من علي البينة بأنه رمحه، فشهد ابنه الحسن، فقال: ائتني بشاهد غيره، لأنه ابنك، ولا تقبل شهادة الابن لأبيه، فقضى به شريح لليهودي، فسبح اليهودي، وهلل، وحمد وكبر، فأسلم، وقال: الرمح لعلي، وإني لكاذب عليه، فقال علي: الرمح لك، وأعطاه فرسا لتكمل عنده آلة الجهاد. فالشريعة الإسلامية عنت بالعدل في القضاء عنايتها بكل ما من شأنه دعامة لسعادة الحياة، فأتت فيه بالعظات الجزء: 16 ¦ الصفحة: 181 البالغة، تبشر من أقامه وعدل فيه، بعلو المنْزلة، وحسن العاقبة؛ وتنذر من قصر أو جار، بسوء المنقلب، وعذاب الهون. فمن الآيات المنبهة لما في العدل والاستقامة من الكرامة والفضل، قوله تعالى: {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} [سورة المائدة آية: 42] أي: بالعدل {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [سورة المائدة آية: 42] . فدلت الآية الكريمة على الأمر بالعدل، وأن خيرا عظيما يحصل للحاكم بالقسط، هو محبة الله له؛ وناهيك بها من محبة، فما بعد محبة الله إلا الحياة الطيبة في الدنيا، والعيشة الراضية في الآخرة. ومن الأحاديث الدالة على ما يورثه العدل، من المنْزلة، وعلو المكانة ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن المقسطين عند الله على منابر من نور، عن يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين: الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا" 1 وشدة قربهم من الله جل شأنه، وفوزهم برضوانه، حاصل لهم بسبب عدالتهم. وإن ترد مثلا من آيات الوعيد، فتأمل قوله وتعالى: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} [سورة ص آية: 26] .   1 مسلم: الإمارة (1827) , والنسائي: آداب القضاة (5379) , وأحمد (2/160) . الجزء: 16 ¦ الصفحة: 182 تجد الآية تنادي بأن الفصل في القضاء جريا مع الأهواء، ضلال عن سبيل الله الذى هو صراطه المستقيم، والضلال عن سبيل الله، ملق صاحبه في العذاب الشديد؛ فما ظنك بعذاب وصفه الكبير المتعال بالشدة، ويشتريه بمتاع في هذه الدنيا؟ إن هذا لسفه، ودلالة على عدم نفوذ الإيمان إلى سويداء قلبه؛ فلهذه الآية أثر عظيم في النفوس المطمئنة بالإيمان، البعيدة عن الأهواء. يحدثنا التاريخ أن أحمد بن سهل، جار لقاضي مصر، بكار بن قتيبة، فاتفق أنه مر على بيت بكار أول الليل، فسمعه يقرأ هذه الآية، ويرددها ويبكى {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} [سورة ص آية: 26] ثم قمت آخر الليل، فإذا هو يقرؤها مرددا لها، وإن بكارا هذا من أعدل القضاة حكما، وأشرفهم أمام أولي الأمر موقفا. والأحاديث الواردة في الوعيد على الجور كثيرة جدا، كحديث بريدة: "القضاة ثلاثة: اثنان في النار، وواحد في الجنة، رجل عرف الحق وقضى به فهو في الجنة، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار، ورجل عرف الحق وقضى بخلافه، فهو في النار" 1. فإن كان حظه من القضاء بخسا، أو يكون خلُق العفاف في نفسه واهيا، كمن كان متبعا لهواه، جاريا على غير السنن، فهذا جزاؤه.   1 أبو داود: الأقضية (3573) , وابن ماجه: الأحكام (2315) . الجزء: 16 ¦ الصفحة: 183 وصف الإسلام ما في العدل، من فوز، ورضى، وخير، واستقامة وما في الحيف من شقاء، وبلاء وشر؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم رسم العدل في القضاء رسما مستقيما ليس بذي عوج، وزاده بسيرته العملية بيانا واستنارة. انظر إلى قصة المخزومية التي سرقت، وأمر بقطع يدها، وشفاعة أسامة بذلك; وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن من كان قبلكم إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وأيم الله: لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها" 1. فاستبانت قضيته عليه الصلاة والسلام لأصحابه في أجلى مظهر، فاقتدوا بهديه الحكيم، وأيدوا للناس القضاء، الذي يزن بالقسطاس المستقيم، كما في كتاب عمر لأبي موسى الأشعري رضي الله عنه؛ فإن للإسلام في سيرة رجاله الذين أوتوا العلم، والإيمان أثرا كبيرا في إصلاح القضاء، والسير به على المنهج القويم. والمحاكم لا تشرق بنور العدل، إلا أن يمسك بأزمتها رشيد العقل، وقوي الإيمان بيوم المعاد؛ فالخوف من الله ومراقبته تحمل القاضي على تحقيق النظر في كل واقعة، بحيث يتطلب معرفة الحق، ويبلغ في تطلبه منتهى استطاعته. ولا يتعجل بما يلوح له من أول فهم يبدو له، بل   1 البخاري: أحاديث الأنبياء (3475) , ومسلم: الحدود (1688) , والترمذي: الحدود (1430) , والنسائي: قطع السارق (4899) , وأبو داود: الحدود (4373) , وابن ماجه: الحدود (2547) , وأحمد (6/162) , والدارمي: الحدود (2302) . الجزء: 16 ¦ الصفحة: 184 يتأنى، ويبحث عما تستدعيه مجريات القضية، حتى ولو علم أن قضاءه نافذ المفعول، وما له فيه معقبا. فمن ملوك الأندلس من يعزل القاضي إذا رأى منه التعجل في فصل الأحكام التي تستدعي بطبيعتها شيئا من التروي والتعقل، إذ يبدو من تعجله عدم تحرجه، من إثم الخطأ في الحكم. فإن التقوى هي التي توقف القاضي عند حدود العدل، لا يخرج عنها قيد شعرة؛ وانظر إلى خبر عقبة بن يزيد، قاضي بغداد، وتخوفه على دينه، حيث قدمت له هدية فردها، واستقال من أجلها. فقد روي أن عقبة بن يزيد، قاضي بغداد في أيام الخليفة المهدي، جاء إليه في بعض الأيام وقت الظهيرة، وهو منفرد، فلما دخل عليه استأذنه فيمن يسلم إليه القمطر الذي فيه قضايا مجلس الحكم، واستعفاه من القضاء، وطلب منه أن يقيله من ولايته. فظن الخليفة المهدي أن بعض الأمراء من البيت المالك قد عارضه في حكمه; فقال له في ذلك: إن كان عارضك أحد لننكرنّ عليه; فقال القاضي: لم يكن شيء من ذلك; قال: فما سبب استعفائك من القضاء؟ قال يا أمير المؤمنين، كان قد تقدم إلي خصمان منذ شهر في قضية مشكلة، وكل يدعي بينة وشهودا، ويدلي الجزء: 16 ¦ الصفحة: 185 بحجج تحتاج إلى تأمل وتثبت، فرددت الخصوم رجاء أن يصطلحوا، وأن يظهروا الفصل بينهما; فسمع أحد الخصوم أني أحب الرطب، فعمد في وقتنا هذا، وهو أول أوقات الرطب، لا يتهيأ في وقتنا هذا جمع مثله لأمير المؤمنين، وما رأيت أحسن منه، ورشا خادمي بدراهم، على أن يدخل الطبق، ولا يبالي عاقبة ذلك. فلما أدخله علي أنكرت ذلك، وطردت خادمي، وأمرت برد الطبق إليه. فلما كان اليوم، تقدم الخصمان إلي فما تساويا في عيني، ولا في قلبي، فهذا يا أمير المؤمنين وأنا لم أقبل الهدية، فكيف يكون حالي لو قبلت؟ ولا آمن أن تقع علي حيلة في ديني فأهلك، وقد فسد الناس؛ فأقلني يا أمير المؤمنين أقالك الله، وأعفني أعفاك الله. فشدد في هذا الطلب، فلم يسع الخليفة إلا إقالته من القضاء، إجابة لطلبه وإلحاحه في ذلك. ويروى أن منذر بن سعيد البلوطي، كان قاضيا بقرطبة، في أيام زهرة الإسلام، في تلك البلاد التي أخنى عليها الدهر، وأصبحت أثرا بعد عين. وفي عصره احتاج الخليفة الناصر إلى شراء دار في قرطبة، فوقع استحسانه على دار كانت لأولاد أيتام، قصّر؛ وكانت قريبة لبعض أملاكه، وهذه الدار يتصل بها حمام له غلة واسعة. وكان الأولاد الأيتام القصّر في حجر القاضي، فأرسل الجزء: 16 ¦ الصفحة: 186 الخليفة من قوّم الدار بقدر ما طابت نفسه به، وأرسل أناسا أمرهم بمداخلة وصي الأيتام في بيعها عليهم; فقال: إنه لا يجوز ذلك إلا بأمر القاضي. وأرسل الخليفة إلى القاضي منذر، ليبيع هذه الدار، فقال القاضي لرسوله: البيع على الأيتام لا يصح إلا بوجوه; منها: الحاجة، ومنها: الوهي الشديد; ومنها: الغبطة. فأما الحاجة بهذه الأيتام إلى البيع فلا; وأما الوهي فليس فيها؛ وأما الغبطة فهذا مكانها، فإن أعطاهم أمير المؤمنين فيها ما تستديم به الغبطة فأمر وصيهم بالبيع، وإلا فلا. فنقل جوابه إلى الخليفة، فأظهر الزهد في شراء الدار، طمعا في أن يتوخى رغبته فيها، وخاف القاضي أن تنبعث منه عزيمة تلحق الأيتام ثورتها، فأمر وصي الأيتام بنقض الدار، وبيع أنقاضها. ففعل ذلك، وباع الأنقاض، فكانت لها قيمة أكسب مما قومت به للخليفة الناصر، فاتصل الخبر بالخليفة، فعز عليه خرابها، وأمر بتوقيف الوصي على ما أحدثه فيها، فأحال الوصي على القاضي أنه أمر بذلك. فأرسل عند ذلك إلى القاضي منذر، وقال له: أنت أمرت بنقض دار أخي نجدة؟ فقال له: نعم. فقال: وما دعاك إلى ذلك؟ قال: أخذت فيها بقوله تعالى: {أَمَّا الجزء: 16 ¦ الصفحة: 187 السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً} [سورة الكهف آية: 79] . مقوموك لم يقوموها إلا بكذا، وبذلك تعلق وهمك، فقد قبض في أنقاضها أكثر من ذلك، وبقيت القاعة والحمام، فضل، وقد نظر الله تعالى للأيتام القصّر، فصبر الخليفة عبد الرحمن على ما أوتي من ذلك، وقال: نحن أولى من أنفذ الحق، فجزاك الله عنا وعن أمانتك خيرا. ونقل بعضهم أنه لما تولى الشيخ عز الدين بن عبد السلام القضاء في مصر، تصدى لبيع أمراء الدولة من الأتراك، وذكر أنه لم يثبت عنده أنهم أحرارا، وأن حكم الرق مستصحب عليهم لبيت مال المسلمين، فبلغهم ذلك، وعظم الخطب عندهم؛ والشيخ مصمم على فكرته، لا يصحح لهم بيعا، ولا شراء، ولا نكاحا، وتعطلت مصالحهم لذلك. وكان من جملتهم نائب السلطنة، فاشتاط غضبا، فاجتمعوا وأرسلوا إليه، فقال: نعقد لكم مجلسا، وننادي عليكم لبيت مال المسلمين، فرفع الأمراء إلى السلطان، فبعث إليه فلم يرجع، فأرسل إليه نائب السلطنة بالملاطفة فلم يفد فيه. فانزعج النائب، وقال: كيف ينادي علينا هذا الشيخ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 188 ويبيعنا ونحن ملوك الأرض؟! والله لأضربنه بسيفي هذا، فركب بنفسه في جماعة، وجاء إلى بيت الشيخ، والسيف مسلول في يده. فخرج ولد الشيخ فرأى من نائب السلطنة ما رأى، وشرح لوالده الحالة، فما اكترث لذلك، وقال: يا ولدي أبوك أقل من أن يقتل في سبيل الله، ثم خرج. فحين أن وقع بصره على النائب يبست يد النائب، وسقط السيف منها، وارتعدت مفاصله، فبكى، وسأل أن يدعو له. وقال: يا سيدي: ماذا تعمل؟! قال: أنادي عليكم، وأبيعكم، وقال: فيما تصرفون ثمننا؟! قال: في مصالح المسلمين، قال: من يقبضه؟ قال: أنا; فتم ما أراد، ونادى على الأمراء واحدا واحدا، وغالى في ثمنهم، ولم يبعهم إلا بالثمن الوافي، وقبضه، وصرفه في وجوه الخير التي يعود نفعها على الأمة الإسلامية. ويروى: أن القاضي بكار بن قتيبة، كان عالما، ورعا، محدثا، ثقة، ويبتعد عن الشبهات، خوفا من الوقوع في المحرمات، وقد تولى القضاء في مصر في زمن الملك بن طولون، وكان أحمد بن طولون يعظمه ويحترمه. ويظهر أن ابن طولون لما رأى نفسه ملكا مستقلا في مصر، أراد أن يضيف إلى ذلك الخلافة الإسلامية، الجزء: 16 ¦ الصفحة: 189 فأرسل للقاضي بكار رسولا، وطلب منه خلع الخليفة الموفق بن المتوكل، فامتنع القاضي بكار من ذلك، وقال: هذا مخالف لكتاب الله وسنة رسوله. فغضب أحمد بن طولون على القاضي بكار; ويقال إنه أحضره أمامه، ومزق ثيابه، وبعد ذلك أصر بسجنه. ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل حرض عليه بعض بطانته، فادعى عليه بمظالم كذبا وزورا، وكان يحضره أمامه من السجن في حالة لا تناسب الأدب، حتى إذا انتهى التحقيق من المظالم المزعومة، أعاده إلى السجن مرة ثانية، وقد منعه من أداء صلاة الجمعة. فيقول القاضي بكار: اللهم اشهد. فأرسل إليه ابن طولون من يقول له: كيف رأيت المغلوب المقهور، لا أمر له ولا نهي، ولا تصرف له في نفسه؟! ومع كل هذه المحن التي رآها القاضي بكار، لم يمنعه من قراءته الحديث الشريف، وهو في السجن، على تلاميذه الذين يستمعون من خارج السجن. ومكث القاضي بكار في السجن على هذه الحالة، حتى مرض ابن طولون مرض الموت، فأرسل إليه يستسمحه، فقال للرسول: قل له: أنا شيخ كبير، وأنت عليل مدنف، والملتقى قريب، والله يحكم بيننا وهو خير الحاكمين. ولم تمض أيام حتى مات ابن طولون، وخرج الجزء: 16 ¦ الصفحة: 190 القاضي بكار من السجن، وقد رأى ما رأى من البلايا والمحن، ولم يغير عقيدته ويوافق ابن طولون. فهذا شيء يسير من سير بعض قضاة الإسلام؛ وأخبارهم كثيرة جدا، كما في كتب التراجم والتواريخ، ساروا فيها سيرا يمثل العدل، في أجلى مظهر وأسمى منْزلة، فقارن بين القضاء في العصور الخالية، وبين القضاء في هذا الزمان، واحكم بما ترى، فأنت العاقل اللبيب; والله الموفق، الهادي إلى سواء السبيل، وصلى الله على نبينا محمد. [الحث على العناية بالقضاء] وله أيضا رحمه الله: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله بن محمد بن حميد، إلى حضرة المكرم الأحشم، سماحة الشيخ: محمد بن إبراهيم، رئيس القضاة؛ أدام الباري عليه إحسانه، وأجرى بالصواب قلمه ولسانه، آمين. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: فأرجو الله أن يحفظكم ويوفقكم لما فيه رضاه، وأن يسدد خطاكم، ويجعلكم من صالح عبيده وأوليائه. سلمك الله، بما أني أعتبر نفسي كواحد من أبنائكم، وأن الواجب علينا جميعا التناصح، والتساعد على ما فيه الخير والصلاح العام، والتعاون على البر والتقوى، والمؤمن مرآة أخيه المؤمن. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 191 لذا أحب أن أبدي لكم ما في نفسي، نصحا ومحبة، وحرصا على هذه الشريعة الكاملة في مصادرها ومواردها، أن تنتهك حرمتها، أو تنال بسوء، أو أن يخفف وقعها في النفوس، وذلك بما هو معلوم لديكم، ولدى الناس عامة، وهو ما أصيب القضاء من ضعف، وما حصل به من خلل. وغير خاف عليكم حفظكم الله، مكانة القضاء من الإسلام وما عليه الناس اليوم، فإعطاؤه العناية الكاملة من كل الوجوه، وبذل النفس والنفيس في تركيزه على الطريقة المثلى التي ركزها الرسول الأعظم صلوات الله وسلامه عليه، والتناصح في ذلك من أوجب الواجبات. فتحكيم الشريعة الإسلامية مفقود من جميع نواحي المعمورة، سوى هذه المملكة الإسلامية أيدها الله، وأدام تمسكها بهذا الدين الحنيف. لذا ولما تقدم: رأيت من المتعين علي أن أبين لسماحتكم بعض ما لاحظته على القضاء في هذه المملكة، والله يعلم أني لا أريد إلا النصح، والسعي فيما فيه حفظ حقوق المسلمين، واحترام الشريعة الإسلامية بأن لا تكون في نفوس بعض العامة وغيرهم غير كافلة لمصالحهم، بحيث يرون أن غيرها أحفظ لحقوقهم منها، وأعوذ بالله أن يكون ذلك، ولا حول ولا قوة إلا بالله. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 192 سبق أن شافهتكم كثيرا، وكاتبتكم مرارا في هذا الموضوع; وهو: أن الحالة القضائية انحط شأنها، وضعف في نفوس الكثيرين مكانتها، وذلك لأمور: منها تولية غير الأكفاء، كبعض الطلاب المتخرجين من الكليات وغيرهم، ممن لا يعرف دينه وعقله وعلمه وأمانته، فيما ولي مثل هذه الأعمال الهامة؛ والتحقق عن جميع ما ذكر واجب. والأولى أن تتولى ذلك بنفسك، ولا تعتمد على أحد، لأهمية هذا العمل؛ وذلك بأن يكون القاضي ممن اشتهر بالعلم والورع والديانة والأخلاق الفاضلة، وإن كان ممن مارس هذا العمل فهو أولى. ثانيا: تهاون بعض القضاة بالأخلاق الفاضلة، وبشعائر الإسلام الظاهرة، وعدم تخلقهم بها، مما يسقط مكانة القضاء والقضاة من نفوس العامة. ثالثا: إدخال بعض الأنظمة على القضاء التي من شأنها تعقيد المسائل، وتطويل المعاملات، بكثرة السؤال والجواب، وطول الأخذ والرد، وتكليف الخصوم بما يحصل المقصود بدونه، مما يجعل أحدهم يسب القضاء والقضاة والحكومة، بسبب ما تحمله من التكاليف في بدنه وماله. رابعا: قصور علم بعض القضاة، وفقد غالب الشروط التي ذكرها العلماء في القاضي، كما لا يخفى وكما هو الجزء: 16 ¦ الصفحة: 193 مشاهد، فإن بعضا من القضاة لم يعرفوا أحكام صلاتهم، فضلا عن أن يحكموا بين الناس باسم الشريعة الإسلامية، وقد بلغنا كثيرا من فتاويهم وأحكامهم، ومع هذا يحكم في الأموال والحدود، والفروج، والأوقاف وغيرها بلا خجل ولا حياء. خامسا: تكثير المحاكم في كل هجرة وقرية، من غير تحقق في كثرة السكان وبعد المسافة، بل بمجرد الطلب يوافق على ذلك، والأولى التقليل من ذلك لقلة وجود الأهل لهذا العمل الهام. سادسا: إلزام بعض أهل البلاد على قضاتهم، إذا كان بينهم وبينه خلاف واقعي صحيح، وهذا يخالف المصلحة. فالمستحسن، نقل كل من تظلم أهل بلده منه، أو رمي بتهم لا تليق به، حفظا لكرامته، وصونا لسمعته، ونقله- والحالة هذه- أولى من إلزامهم به، لما يترتب على ذلك من الأمور التي هي غير محمودة. ولما تقدم يترتب عليه أمور: منها: أن في وجود ما ذكر في القضاء والقضاة، تكثيرا للمشاكل، وإتعابا للناس وللحكومة ولكم، في كثرة المراجعات، وإبداء التظلمات، وإطلاق ألسنتهم في المنتسبين، مما يجعل القاضي كأقل موظف، بل وأحط رتبة منه في نفوس الناس؛ في حين أن القاضي يجب الجزء: 16 ¦ الصفحة: 194 احترامه وتوقيره وتقديره، لأجل المنصب الذي يشغله، لا لشخصيته. ثانيا: إن كثيرا ممن يحكم عليه يرى أنه مظلوم، وأن الحكم ليس بصحيح، لعدم ثقته بقاضيه وارتياحه منه; لأنه يرى ويسمع منه، ما يصيره معتقدا أن قاضيه ليس على حق في حكمه، فيعتقد أن الحكومة ظلمته بتولية مثل هذا، ولم تراع له حقا. ثالثا: إن في ترك الناس على هذه الحالة، سببا إلى ميول العامة إلى القوانين الوضعية، وأنها هي التي تضمن لهم حقوقهم؛ ولا شك أن هذه بلية عظمى، متى رأى الناس هذا الرأي، وإن لم يتفوهوا به. هذا بعض ما دار في النفس، أحببت أن أكتب لكم به، نصحا وبراءة للذمة، وحرصا على هذه الشريعة الإسلامية، ومحبة لهذه الحكومة ولكم، وثقة بعقلكم وبعد نظركم، ولعل الله أن يقدر الاجتماع بكم، فأبين لكم جميع ما في نفسي حول ذلك مما لا تنبغي كتابته. والله أسأل أن يوفقكم ويكلل أعمالكم بالنجاح، ويبارك في علومكم ومساعيكم والإسلام، في 30 / 12 / 1382?. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 195 [رسالة الشيخ صالح بن أحمد إلى القضاة يذكرهم بالله ويرشدهم إلى ما يستعان به في أداء هذه الأمانة] وقال الشيخ صالح بن أحمد الخريصي رحمه الله: بسم الله الرحمن الرحيم من صالح بن أحمد الخريصي، إلى من يراه من إخواننا القضاة، وفقني الله وإياهم لأسباب النجاة، وعصمني وإياهم من سلوك طرق الغي والضلالات، آمين. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: تعلمون أيها الإخوان، أنكم قد حملتم حملا ثقيلا، وطوقت برقابكم أمانة عظيمة، وإنكم موقوفون بين يدي الله سبحانه، ومسؤولون عن أدائها، فأعدوا للسؤال جوابا، وللجواب صوابا. ومن أعظم ما يستعان به، على أداء هذه الأمانة أسباب; أولها: تقوى الله عز وجل ومراقبته في السر والعلانية، فإن بتقوى الله يتبين وجه الصواب، قال الله عز وجل: {إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً} [سورة الأنفال آية: 29] ، وقال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً} [سورة الطلاق آية: 2] ، وقال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً} [سورة الطلاق آية: 4] ، وقال تعالى: {اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ} [سورة الحديد آية: 28] . والآيات في هذا المعنى كثيرة، ولهذا لما قيل للإمام أحمد، رحمه الله: من نسأل بعدك؟ قال: سلوا الجزء: 16 ¦ الصفحة: 196 عبد الوهاب الوراق، فإنه رجل صالح مثله يوفق للصواب. واستدل الإمام أحمد، رحمه الله بقول عمر رضي الله عنه: "اقتربوا من أفواه المطيعين، واسمعوا منهم ما يقولون؛ فإنهم تجلى لهم أمور صادقة، وذلك لقرب قلوبهم من الله" وكلما قرب القلب من الله، زالت عنه معارضات السوء، وكان كشفه للحق أتم وأقوى، وكلما بعد عن الله كثرت عليه المعاوضات، وضعف نور كشفه للصواب، فإن العلم نور يقذفه الله بالقلب، يفرق به العبد بين الخطأ والصواب. ومن ذلك: أن يتأدب بالآداب التي ذكر العلماء، رحمهم الله في هذا الباب، منها: أن يكون قويا على حمل ما كلف به، ومن غير عنف يمنع صاحب الحق من استيفاء حقه، ومن غير ضعف يجترئ به صاحب الباطل عليه وعلى خصمه. قال عمر بن عبد العزيز، رحمه الله: "لا يصلح القاضي إلا أن تكون فيه خصال; أن يكون صليبا نزها عفيفا حليما، عليما بما كان قبله من القضاء والسنن" ومن ذلك: أن يكون ذا بصيرة، وبصر بأهل زمانه، لا سيما أهل هذه الأزمان؛ فإن أكثرهم أروغ من الثعالب، وليحذر حلاوة ألسن أكثرهم، فإن لهم في ذلك أهدافا الجزء: 16 ¦ الصفحة: 197 وأغراضا، وحوائج يحومون حول تحصيلها بكل ممكن. ومنها: أن يكون ذا أناة، يتثبت، وفطنة فيما يحكم به. ومنها: أن لا يعجل في البت بالحكم، حتى يتبين له وجه الصواب، من غير تأخير يخل بالمقصود، ويوجب للضعيف ترك حقه. كما قال عمر رضي الله عنه في كتابه لمعاوية: "وتعاهد الغريب، فإنه إن طال حبسه ترك حقه، وانطلق إلى أهله، وإنما أبطل حقه من لم يرفع به رأسا" ومنها: الحرص على لزوم العمل، والمبادرة إليه في أوقاته، لإنجاز مهمات المسلمين، وقضاء حوائجهم، فإن كثيرا من إخواننا- هداهم الله- يرددون الخصوم أكثر من الحاجة، من غير سبب يدعو إلى ذلك. ومنها: ما ينبغي للقاضي أن يتخلق ويتأدب ويتزيّا به، من الآداب الشرعية التي لا ينبغي له أن يخل بتركها، لأنه منظور إليه، ترمقه العيون بلحظاتها، وتقتدي به الأرواح والنفوس في صفاتها. فإذا أكمل نفسه وأصلحها، فينبغي له، بل يتعين عليه أن يكمل غيره، بالدعوة إلى الله، والإرشاد، والأمر والنهي، والتعليم؛ ويكون قدوة في ذلك، يقتدى به ويؤتم به، وهذا من أجلّ المقاصد في نصب القضاة. وبعض إخواننا من القضاة، قد أهمل هذا المقام الجزء: 16 ¦ الصفحة: 198 العظيم، ولم يرفع به رأسا، فتجده في أخلاقه وأعماله وآدابه، إلى الانحراف أقرب، عافانا الله وإياهم، وألهمنا وإياهم رشده. ومنها: أن يعلم القاضي أن الخصومات ستعاد يوم القيامة، ويحكم فيها العدل الذي لا يجور، وإنما القضاء في الدنيا للفصل بين الناس، فليتَّئِد عند ذلك. وليتلمّح وجه الصواب في القضية مهما أمكنه، من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وأقوال الصحابة رضوان الله عليهم، والتابعين لهم بإحسان، وعلماء الأمة الذين لهم لسان صدق في الأمة. فإذا اجتهد وبذل وسعه وطاقته حسب الإمكان، رجي له أن يوفق لإصابة الحق، وأن لا يفوته أجران مع الصواب، أو أجر مع الخطأ. ولا ينظر إلى كثرة الأساليب التي استعملها بعض القضاة، خشية أن يقال في حكمه، أو يعترض عليه; بل إذا تبين له الحق، حكم به ولا يبالي بمن اعترض عليه، أو قال في حكمه، كما قيل: إذا رضي الحبيب فلا أبالي ... أقام الحي أم جد الرحيل ومنها: أنه ينبغي منه إذا خفي عليه وجه الصواب، وأعيته الأمور بإغلاق الأبواب، أن يستغيث بمعلم الجزء: 16 ¦ الصفحة: 199 إبراهيم؛ فإن هذا من أنجح الأسباب الموصلة إلى المقصود، كما ذكر الأصحاب، أنه ينبغي للقاضي أن يدعو بدعاء الاستفتاح: "اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم" 1. وكان شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه، ونور ضريحه، كثير الدعاء بذلك، وكان إذا أشكلت عليه المسائل، يقول: يا معلم إبراهيم علمني; وكان بعض السلف يقول عند الإفتاء: سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم. وكان مكحول يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله. وكان مالك رحمه الله يقول: ما شاء الله لا قوة إلا بالله العلي العظيم; وكان بعضهم يقول: رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري، واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي. وكان بعضهم يقول: اللهم وفقني واهدني وسددني، واجمع لي بين الصواب والثواب، وأعذني من الخطأ والحرمان; وكان بعضهم يقرأ الفاتحة; قال العلامة ابن القيم، رحمه الله: جربنا ذلك فرأيناه من أقوى أسباب الإصابة.   1 مسلم: صلاة المسافرين وقصرها (770) , والترمذي: الدعوات (3420) , والنسائي: قيام الليل وتطوع النهار (1625) , وأبو داود: الصلاة (767) , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1357) , وأحمد (6/156) . الجزء: 16 ¦ الصفحة: 200 وقال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه:"قل: اللهم إني أسالك الهدى والسداد" 1. والمعول في ذلك كله على حسن النية وخلوص المقصد، وصدق التوجه في الاستمداد من المعلم الأول، معلم الرسل والأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. فإنه لا يرد من صدق في التوجه إليه، لتبليغ دينه وإرشاد عبيده، ونصيحتهم والتخلص من القول عليه بلا علم. ومما ينبغي لمن عين للقضاء: أن يعرض نفسه على الأمور المتقدم ذكرها، ويحاسبها ويبحث معها بحثا دقيقا، هل هذه الخصال موجودة فيها أم لا؟ وهل هو أهل لذلك أم لا؟. وقد كتب سلمان رضي الله عنه إلى أبي الدرداء، لما ولي القضاء، وقال: "بلغني أنك جعلت طبيبا، فإن كنت تبرئ فنعماء، وإن كنت متطببا، فاحذر أن تقتل إنسانا فتدخل النار" فكان أبو الدرداء رضي الله عنه إذا قضى بين اثنين وأدبرا عنه نظر إليهما، وقال: "متطبب والله، ارجعا أعيد قضيتكما"، فهذه حال أهل المعرفة بالله. كما أنه ينبغي للجهات المختصة- المسؤولين- أن لا يعينوا إلا من يصلح، وتكون فيه كفاءة لذلك، وأخلاق دينية على حسب الطاقة، لأن الولاية أمانة. وإذا كان تقديم   1 النسائي: الزينة (5210) , وأحمد (1/138) . الجزء: 16 ¦ الصفحة: 201 الرجل في الجماعة، وفيهم من هو أفضل منه، يوجب أن لا يزالوا في سفال، فكيف بالقاضي الذي يقتدي به فئات من الناس؟ !. فيجب عليهم: أن يولوا أفضل من يجدوا، علما وورعا، لأنهم ناظرون للمسلمين، فيجب أن يختاروا الأصلح لهم، واختيار الأفضل علما من لازم القضاء، لأنه إنما يمكنه القضاء بين المترافعين بالعلم، لأن القضاء بالشيء فرع العلم به. والأفضل أولى من المفضول، لأنه أثبت وأمكن، وكذا كل من كان ورعه أكثر، كان سكون النفس فيما يحكم به أعظم، وكان من ترك التجري والميل في جانب أبعد. قال الإمام أحمد رحمه الله: لا ينبغي للرجل أن ينصب نفسه، حتى يكون فيه خمس خصال، أولها: أن يكون له نية، فإن لم يكن له نية لم يكن له نور، ولا على كلامه نور. الثانية: أن يكون له حلم ووقار وسكينة. الثالثة: أن يكون قويا على ما هو فيه، وعلى معرفته. الرابعة: الكفاية، وإلا مضغه الناس، فإنه إن لم يكن له كفاية احتاج إلى الناس، وإلى الأخذ مما في أيديهم. الخامسة: معرفة الناس. فهذه نبذة ينبغي للعاقل تأملها، لأنها تطلع على ما الجزء: 16 ¦ الصفحة: 202 وراءها. وقد ذكر العلماء، رحمهم الله ما يكفي ويشفي، ولكن لعلك لا تجد كلاما مجموعا لهذه الكلمات اليسيرات. وأسأل الله الكريم أن ينفع بها كل طالب للحق، ومستفيد، ومراقب لله فيما يبدي ويعيد، والله يوفق الجميع للقول السديد، والأمر الرشيد، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. حرر في 11 / 4 / 1382 ?. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 203 الفصل الثاني: [الحكم الوضعي التشريعي ويسمى بالدستور وبالحقوق والقانون] الحكم الوضعي التشريعي ويسمى بالدستور، وبالحقوق، والقانون، وغير ذلك، ولكل دوله قانون، وقد يغير كل عام، ورغّب في تعليمه، فلمتوليه أضعاف ما للشرعي، فرغب فيه، ومن سنين وهو يدرس في الخارج، في الجامعات والمعاهد، باسم الحقوق. وأملنا عظيم في ولاة أمورنا، في الحذر منه، أيدهم الله بروح منه، وجعلهم هداة مهتدين، ناصرين لشرع الله القويم، ولم يزالوا في محافلهم وخطبهم، يعتزون بتحكيم الكتاب والسنة، وينفذونها على الرعية. 1. ومما قالوه على رؤوس وفود حجاج بيت الله الحرام، ونشر في الصحف والمجلات: حيث كنا مسلمين حقا، فيجب أن نتبع كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ونحق الحق، فإن كتاب الله بين أيدينا، ولم يحرف ولم يبدل، وإن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم بين أيدينا، ولم يدخلها تغيير ولا تبديل. فحيث كنا مسلمين حقا، فيجب أن نعود إليهما ونحكمهما   1 ومن ذلك ما تقدم في الجزء 14 من كلمات للملك عبد العزيز رحمه الله وعزمه على القيام بها. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 204 في أمورنا، ونخضع للحكم بطواعية وبنفوس طيبة: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [سورة النساء آية: 65] . ومما قالوه أيضا: القرآن هو دستورنا، ولا دستور لنا سواه، الإسلام هو الذي شرف العرب وهداهم لرفع شأنهم، كما رفع شأن كل من اهتدى بهديه. الشريعة الإسلامية هي مصدر تشريعنا في العبادات والمعاملات. الإسلام هو الذي جاءنا بأعلى وأرفع أنواع العدل، وأرقى النظم الاجتماعية. مبادئنا الاجتماعية نستمدها من القرآن، ومن سنة نبينا، وما كان عليه السلف الصالح؛ ولا يمكن أن نستورد هذه المبادئ من أي نظام في العالم. نحن سننفذ نظمنا الدينية، والقضائية، والاجتماعية، طبقا لأحكام ديننا، في بلادنا بكل شدة وحزم، وندعو لذلك في خارج بلادنا، بالحكمة والموعظة الحسنة. فلو ذهبنا نتتبع خطاباتهم البليغة، وغيرها، لخرج بنا عن المقصود. وتقدم في الجزء التاسع فتوى المشائخ بهدم مسجد حمزة، وأبا رشيد على الفور. وأما القوانين؛ فإن كان شيء منها موجودا في الحجاز، فيزال فورا، ولا يحكم إلا بالشرع المطهر. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 205 [تحكيم القوانين] وللشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله رسالة في تحكيم القوانين وهذا نصها: 1 بسم الله الرحمن الرحيم إن من الكفر الأكبر المستبين، تنْزيل القانون اللعين منْزلة ما نزل به الروح الأمين، على قلب محمد صلى الله عليه وسلم ليكون من المنذرين، بلسان عربي مبين، في الحكم بين العالمين؛ والرد إليه عند تنازع المتنازعين، مناقضة ومعاندة لقول الله عز وجل: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [سورة النساء آية: 59] . وقد نفى الله سبحانه وتعالى الإيمان عمن لم يحكموا النبي صلى الله عليه وسلم فيما شجر بينهم، نفيا مؤكدا بتكرار أداة النفي وبالقسم، قال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [سورة النساء آية: 65] . ولم يكتف تعالى وتقدس منهم بمجرد التحكيم للرسول صلى الله عليه وسلم، حتى يضيفوا إلى ذلك عدم وجود شيء من   1 طبعت في غرة رجب سنة 1380 هـ, وهي موجودة وغيرها في مجموع فتاويه الجزء 12 وسبق أن نشرت في مجلة راية الإسلام في 4/1380 هـ, وغيرها. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 206 الحرج في نفوسهم، وبقوله جل شأنه: {ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ} [سورة النساء آية: 65] والحرج: الضيق، بل لا بد من اتساع صدورهم لذلك، وسلامتها من القلق والاضطراب. ولم يكتف تعالى أيضا هنا بهذين الأمرين، حتى يضموا إليهما التسليم، وهو: كمال الانقياد لحكمه صلى الله عليه وسلم، بحيث يتخلون ها هنا من أي تسليم للنفس بهذا الشيء، ويسلموا ذلك إلى الحكم الحق أتم تسليم؛ ولهذا أكد ذلك بالمصدر المؤكد، وهو قوله جل جل شأنه: {تسليما} المبين أنه لا يكتفي ها هنا بالتسليم، بل لا بد من التسليم المطلق. وتأمل ما في الآية الأولى، وهي قوله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [سورة النساء آية: 59] ، كيف ذكر النكرة، وهي قوله: {شيء} في سياق الشرط، وهو قوله جل شأنه: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ} المفيد العموم فيما يتصور التنازع فيه، جنسا وقدرا. ثم تأمل كيف جعل ذلك شرطا في حصول الإيمان بالله واليوم الآخر، بقوله: {إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} . ثم قال جل شأنه: {ذَلِكَ خَيْرٌ} ، فشيء يطلق الله عليه أنه خير، لا يتطرق إليه شر أبدا، بل هو خير محض، عاجلا وآجلا. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 207 ثم قال سبحانه: {وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} أي: عاقبة في الدنيا والآخرة، فيفيد أن الرد إلى غير الرسول صلى الله عليه وسلم عند التنازع شر محض، وأسوأ عاقبة في الدنيا والآخرة، عكس ما يقوله المنافقون: {إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً} [سورة النساء آية: 62] ، وقولهم: {إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} [سورة البقرة آية: 11] ؛ ولهذا رد الله قائلا: {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ} [سورة البقرة آية: 12] ، وعكس ما عليه القانونيون، من حكمهم على القانون بحاجة العالم، بل ضرورتهم إلى التحاكم إليه، وهذا سوء ظن صرف، بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ومحض استنقاص لبيان الله ورسوله، والحكم عليه بعدم الكفاية للناس عند التنازع، وسوء العاقبة في الدنيا والآخرة، إن هذا لازم لهم. وتأمل أيضا ما في الآية الثانية من العموم، وذلك في قوله تعالى: {فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} فإن اسم الموصول مع صلته، من صيغ العموم، عند الأصوليين وغيرهم؛ وذلك العموم والشمول هو من ناحية الأجناس والأنواع، كما أنه من ناحية القدر، فلا فرق هنا بين نوع ونوع، كما أنه لا فرق بين القليل والكثير. وقد نفى الله الإيمان عمن أراد التحاكم إلى غير ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من المنافقين، كما قال تعالى: {أَلَمْ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 208 تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً} [سورة النساء آية: 60] . فإن قوله عز وجل: {يزعمون} تكذيب لهم فيما ادعوه من الإيمان، فإنه لا يجتمع التحاكم إلى غير ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم مع الإيمان في قلب عبد أصلا، بل أحدهما ينافي الآخر. والطاغوت: مشتق من الطغيان، وهو: مجاوزة الحد، فكل من حكم بغير ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم أو حاكم إلى غير ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم فقد حكم بالطاغوت وحاكم إليه. وذلك أنه من حق كل أحد، أن يكون حاكما بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم فقط، لا بخلافه؛ كما أن من حق كل أحد أن يحاكم إلى ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم. فمن حكم بخلافه، أو حاكم إلى خلافه، فقد طغى وجاوز حده، حكما، أو تحكيما؛ فصار بذلك طاغوتا لتجاوزه حده. وتأمل قوله عز وجل: {وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ} [سورة النساء آية: 60] تعرف منه معاندة القانونيين، وإرادتهم خلاف مراد الله منهم حول هذا الصدد؛ فالمراد منهم شرعا، والذي تعبدوا به، هو: الكفر بالطاغوت، لا تحكيمه {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ} [سورة البقرة آية: 59] . الجزء: 16 ¦ الصفحة: 209 ثم تأمل قوله: {وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ} [سورة النساء آية: 60] كيف دل على أن ذلك ضلال؛ وهؤلاء القانونيون يرونه من الهدى، كما دلت الآية على أنه من إرادة الشيطان، عكس ما يتصور القانونيون، من بعدهم من الشيطان، وأنه مصلحة الإنسان. فتكون على زعمهم مرادات الشيطان هي صلاح الإنسان، ومراد الرحمن وما بعث به سيد ولد عدنان معزولا من هذا الوصف، ومنحى عن هذا الشان؛ وقد قال تعالى منكرا على هذا الضرب من الناس، ومقررا ابتغاءهم أحكام الجاهلية، وموضحا أنه لا حكم أحسن من حكمه: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [سورة المائدة آية: 50] . فتأمل هذه الآية الكريمة، وكيف دلت على أن قسمة الحكم ثنائية، وأنه ليس بعد حكم الله تعالى إلا حكم الجاهلية، الموضح أن القانونيين من زمرة أهل الجاهلية، شاؤوا أم أبوا؛ بل هم أسوأ منهم حالا، وأكذب منهم مقالا، ذلك أن أهل الجاهلية لا تناقض لديهم حول هذا الصدد. وأما القانونيون فمتناقضون، حيث يزعمون الإيمان بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ويناقضون ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا، وقد قال الله تعالى في أمثال هؤلاء: {أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِيناً} [سورة النساء آية: 151] . الجزء: 16 ¦ الصفحة: 210 ثم انظر كيف ردت هذه الآية الكريمة على القانونيين ما زعموه من حسن زبالة أذهانهم، ونحاتة أفكارهم، بقوله عز وجل: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [سورة المائدة آية: 50] . قال الحافظ ابن كثير في تفسير هذه الآية: ينكر تعالى على من خرج من حكم الله المحكم، المشتمل على كل خير، الناهي عن كل شر، وعدل إلى ما سواه من الآراء والأهواء، والاصطلاحات التي وضعها الرجال، بلا مستند من شريعة الله، كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات، مما يضعونها بآرائهم وأهوائهم، وكما يحكم التتار من السياسات الملكية المأخوذة عن ملكهم "جنكيزخان" الذي وضع لهم كتابا مجموعا من أحكام، قد اقتبسها من شرائع شتى من اليهودية، والنصرانية، والملة الإسلامية، وغيرها، وفيها كثير من الأحكام أخذها من مجرد نظره وهواه، فصارت في بنيه شرعا متبعا، يقدمونها على الحكم بكتاب الله، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فمن فعل ذلك فهو كافر يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله، فلا يحكم سواه في قليل ولا كثير. فال تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} [سورة المائدة آية: 50] ويريدون، وعن حكم الله يعدلون، {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 211 يُوقِنُونَ} [سورة المائدة آية: 50] . أي: ومن أعدل من الله في حكمه؟ لمن عقل من الله شرعا وآمن به، وأيقن وعلم أن الله أحكم الحاكمين، وأرحم من الوالدة بولدها؛ فإنه تعالى هو العالم بكل شيء، القادر على كل شيء، العادل في كل شيء. وقد قال عز شأنه- قبل ذلك- مخاطبا نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ} [سورة المائدة آية: 48] ، وقال تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [سورة المائدة آية: 49] . وقال تعالى مخيرا نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بين الحكم بين اليهود والإعراض عنهم، إن جاؤوه لذلك: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [سورة المائدة آية: 42] ، والقسط هو: العدل، ولا عدل حقا إلا حكم الله ورسوله. والحكم بخلافه هو الجور والظلم والضلال والكفر والفسوق، ولهذا قال تعالى بعد ذلك: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [سورة المائدة آية: 44] ، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [سورة المائدة آية: 45] ، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا الجزء: 16 ¦ الصفحة: 212 أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [سورة المائدة آية: 47] . فانظر كيف سجل تعالى على الحاكمين بغير ما أنزل الله، بالكفر والظلم والفسوق؛ ومن الممتنع أن يسمي الله سبحانه الحاكم بغير ما أنزل الله كافرا ولا يكون كافرا، بل هو كافر مطلقا، إما كفر عمل، وإما كفر اعتقاد. وما جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما، في تفسير هذه الآية، من رواية طاووس وغيره، يدل أن الحاكم بغير ما أنزل الله كافر، إما كفر اعتقاد ناقل عن الملة، وإما كفر عمل، لا ينقل عن الملة. أما الأول: وهو كفر الاعتقاد، فهو أنواع: أحدها: أن يجحد الحاكم بغير ما أنزل الله أحقية حكم الله ورسوله، وهو معنى ما روي عن ابن عباس، واختاره ابن جرير، أن ذلك هو جحود ما أنزل الله من الحكم الشرعي، وهذا ما لا نزاع فيه بين أهل العلم. فإن الأصول المتقررة المتفق عليها بينهم أن من جحد أصلا من أصول الدين، أو فرعا مجمعا عليه، أو أنكر حرفا مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم قطعيا، فإنه كافر الكفر الناقل عن الملة. الثاني: أن لا يجحد الحاكم بغير ما أنزل الله كون الجزء: 16 ¦ الصفحة: 213 حكم الله ورسوله حقا، لكن اعتقد أن حكم غير الرسول صلى الله عليه وسلم أحسن من حكمه وأتم وأشمل، لما يحتاجه الناس، من الحكم بينهم عند التنازع، إما مطلقا، أو بالنسبة إلى ما استجد من الحوادث التي نشأت عن تطور الزمان، وتغير الأحوال؛ وهذا أيضا لا ريب أنه كفر، لتفضيله أحكام المخلوقين، التي هي محض زبالة الأذهان، وصرف حثالة الأفكار، على حكم الحكيم الحميد. وحكم الله ورسوله لا يختلف في ذاته باختلاف الأزمان وتطور الأحوال، وتجدد الحوادث؛ فإنه ما من قضية كائنة ما كانت إلا وحكمها في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم نصا أو ظاهرا أو استنباطا، أو غير ذلك، علم ذلك من علمه، وجهله من جهله. وليس معنى ما ذكره العلماء من تغير الفتوى بتغير الأحوال، ما ظنه من قل نصيبهم أو عدم من معرفة مدارك الأحكام وعللها، حيث ظنوا أن معنى ذلك بحسب ما يلائم إرادتهم الشهوانية البهيمية، وأغراضهم الدنيوية، وتصوراتهم الخاطئة الوبية. ولهذا تجدهم يحامون عليها، ويجعلون النصوص تابعة لها، منقادة إليها مهما أمكنهم؛ فيحرفون لذلك الكلم عن مواضعه؛ وحينئذ معنى تغير الفتوى بتغير الأحوال والأزمان، مراد العلماء منه ما كان مستصحبه فيه الأصول الجزء: 16 ¦ الصفحة: 214 الشرعية، والعلل المرعية، والمصالح التي جنسها مراد لله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم. ومن المعلوم أن أرباب القوانين الوضعية عن ذلك بمعزل، وأنهم لا يقولون إلا على ما يلائم مراداتهم كائنة ما كانت؛ والواقع أصدق شاهد. الثالث: أن لا يعتقد كونه أحسن من حكم الله ورسوله، لكن اعتقد أنه مثله؛ فهذا كالنوعين اللذين قبله، في كونه كافرا الكفر الناقل عن الملة، لما يقتضيه ذلك من تسوية المخلوق بالخالق، والمناقضة والمعاندة لقوله عز وجل {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [سورة الشورى آية: 11] ونحوها من الآيات الكريمة، الدالة على تفرد الرب بالكمال، وتنْزيهه عن مماثلة المخلوقين في الذات والصفات والأفعال، والحكم بين الناس فيما يتنازعون فيه. الرابع: أن لا يعتقد كون حكم الحاكم بغير ما أنزل الله مماثلا لحكم الله ورسوله، فضلا عن أن يعتقد كونه أحسن منه؛ لكن اعتقد جواز الحكم بما يخالف حكم الله ورسوله؛ فهذا كالذي قبله، يصدق عليه ما يصدق عليه، لاعتقاده جواز ما علم بالنصوص الصحيحة الصريحة القاطعة تحريمه. الخامس: وهو أعظمهما وأشملهما وأظهرها معاندة للشرع، ومكابرة لأحكامه، ومشاقة لله ولرسوله، ومضاهاة بالمحاكم الشرعية، إعدادا وإمدادا، وإرصادا الجزء: 16 ¦ الصفحة: 215 وتأصيلا وتفريعا، وتشكيلا وتنويعا، وحكما وإلزاما، ومراجع مستمدات. فكما أن للمحاكم الشرعية مراجع مستمدات مرجعها كلها إلى كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلهذه المحاكم مراجع هي القانون الملفق من شرائع شتى، وقوانين كثيرة، كالقانون الفرنسي، والقانون الأمريكي، والقانون البريطاني وغيرها من القوانين، ومن مذاهب بعض البدعيين المنتسبين إلى الشريعة وغير ذلك. فهذه المحاكم الآن في كثير من أمصار الإسلام، مهيأة مكملة، مفتوحة الأبواب، والناس إليها أسراب إثر أسراب، يحكم حكامها بينهم بما يخالف حكم السنة والكتاب، من أحكام ذلك القانون، وتلزمهم به وتقرهم عليه، وتحتمه عليهم، فأي كفر فوق هذا؟ وأي مناقضة للشهادة بأن محمدا رسول الله بعد هذه المناقضة؟ وذكر أدلة جميع ما قدمنا على وجه البسط، معلومة معروفة، لا يحتمل ذكرها هذا الموضع. فيا معشر العقلاء، ويا جماعات الأذكياء وأولي النهى، كيف ترضون أن تجري عليكم أحكام أمثالكم، وأفكار أشباهكم، أو من هم دونكم ممن يجوز عليهم الخطأ، بل خطؤهم أكثر من صوابهم، بل لا صواب في حكمهم، إلا ما هو مستمد من حكم الله ورسوله نصا أو استنباطا؟ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 216 تدعونهم يحكمون في أنفسكم، ودمائكم وأبشاركم وأعراضكم، وفي أهاليكم من أزواجكم وذراريكم، وفي أموالكم وسائر حقوقكم، ويتركون ويرفضون أن يحكموا فيكم بحكم الله ورسوله الذي لا يتطرق إليه الخطأ، ولا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنْزيل من حكيم حميد. وخضوع الناس ورضوخهم لحكم ربهم، خضوع ورضوخ لحكم من خلقهم تعالى ليعبدوه، فكما لا يسجد الخلق إلا لله، ولا يعبدون إلا إياه، ولا يعبدون المخلوق، فكذلك يجب أن لا يرضخوا، ولا يخضعوا، أو ينقادوا، إلا لحكم الحكيم، العليم الحميد، الرؤوف الرحيم، دون حكم المخلوق الظلوم الجهول، الذي أهلكته الشكوك والشهوات والشبهات، واستولت على قلوبهم الغفلة والقسوة، والظلمات. فيجب على العقلاء أن يربؤوا بنفوسهم عنه، لما فيه من الاستعباد لهم، والتحكم فيهم بالأهواء والأغراض، والأغلاط والأخطاء، فضلا عن كونه كفرا بنص قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [سورة المائدة آية: 44] . السادس: ما يحكم به كثير من رؤساء العشائر والقبائل، من البوادي ونحوهم، من حكايات آبائهم الجزء: 16 ¦ الصفحة: 217 وأجدادهم، وعاداتهم التي يسمونها "سلومهم" يتوارثون ذلك منهم، ويحكمون به، ويحصلون على التحاكم إليه عند النّزاع، بقاء على أحكام الجاهلية، وإعراضا ورغبة عن حكم الله ورسوله، فلا حول ولا قوة إلا بالله. وأما القسم الثاني: من قسمي كفر الحاكم بغير ما أنزل الله، وهو الذي لا يخرج من الملة، فقد تقدم أن تفسير ابن عباس رضي الله عنهما، لقول الله عز وجل: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [سورة المائدة آية: 44] قد شمل ذلك القسم، وذلك في قوله رضي الله عنه في الآية: "كفر دون كفر"، وقوله أيضا: "ليست بالكفر الذي تذهبون إليه".ا?. وذلك أن تحمله شهوته وهواه على الحكم في القضية بغير ما أنزل الله، مع اعتقاده أن حكم الله ورسوله هو الحق، واعترافه على نفسه بالخطأ ومجانبة الهدى. وهذا وإن لم يخرجه كفره عن الملة، فإنه معصية عظمى أكبر من الكبائر، كالزنا وشرب الخمر، والسرقة، واليمين الغموس وغيرها؛ فإن معصية سماها الله في كتابه كفرا، أعظم من معصية لم يسمها كفرا. نسأل الله أن يجمع المسلمين على التحاكم إلى كتابه، انقيادا ورضاء، إنه ولي ذلك والقادر عليه. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 218 [الوصية بتقوى الله والتمسك بدينه وتعظيم كتاب الله وسنة نبيه] وله أيضا وغيره من المشائخ، رحمهم الله 1. بسم الله الرحمن الرحيم من محمد بن إبراهيم، وعبد العزيز الشثري، وعبد اللطيف بن ابراهيم، وعمر بن حسن، وعبد العزيز بن باز، وعبد الله بن حميد، وعبد الله بن عقيل، وعبد العزيز بن رشيد، وعبد اللطيف بن محمد، ومحمد بن عودة، ومحمد بن مهيزع. إلى من يراه من المسلمين، سلك الله بنا وبهم سبيل عباده المؤمنين، وأعاذنا وإياهم من طريق المغضوب عليهم والضالين، آمين. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أما بعد: فالموجب لهذا هو نصيحتكم، ووصيتكم بتقوى الله، وترغيبكم فيما ينفعكم في الدنيا والآخرة، وتحذيركم مما يضركم من الدنيا والآخرة، عملا بقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [سورة المائدة آية: 2] . وقوله عز وجل (بسم الله الرحمن الر حيم) {وَالْعَصْرِ إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا   1 وهي موجودة أيضا في مجموع فتاوى ورسائل الشيخ محمد, رحمه الله, ج 12. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 219 الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [سورة العصر آية: 3-1] . فأمر سبحانه بالتعاون على البر والتقوى، وحذر من التعاون على الإثم والعدوان، وتوعد من خالف ذلك بشديد العقاب. وأخبر عز وجل في هذه السورة القصيرة العظيمة أن الناس قسمان، خاسرين، ورابحين. وبين أن الرابحين هم الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر؛ فمن اكتمل هذه الصفات الأربع، فهو من الفائزين بالربح الكامل، والسعادة الأبدية، والعز والنجاة في الدنيا والآخرة؛ ومن فاته شيء من هذه الصفات، فاته من الربح بقدر ما فاته منها؛ وأصابه من الغبن والفساد، بقدر ما معه من التقصير والغفلة والإعراض عن ما يجب عليه. فاتقوا الله عباد الله، وتخلقوا بأخلاق الرابحين، وتواصوا بها بينكم، واحذروا صفات الخاسرين، وأعمال المفسدين، وتعاونوا على تركها وتحذير الناس منها، تفوزوا بالنجاة، والسلامة والعاقبة الحميدة. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم "الدين النصيحة، الدين النصيحة، الدين النصيحة، قيل: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم" 1. فمن أهم الأمور التي يجب فيها التناصح والتواصي، تعظيم كتاب الله وسنة رسوله علية الصلاة والسلام   1 مسلم: الإيمان (55) , والنسائي: البيعة (4197 ,4198) , وأبو داود: الأدب (4944) , وأحمد (4/102) . الجزء: 16 ¦ الصفحة: 220 والتمسك بهما ودعوة الناس إلى ذلك في جميع الأحوال; لأنه لا سعادة للعباد ولا هداية، ولا نجاة في الدنيا والآخرة، إلا بتعظيم كتاب الله وسنة نبيه الأمين صلى الله عليه وسلم اعتقادا وقولا وعملا، والاستقامة على ذلك والصبر عليه حتى الوفاة؛ لأن الله سبحانه أمر عباده بطاعته وطاعة رسوله، وعلق كل خير بذلك، وتهدد من عصى الله ورسوله بأنواع العذاب، والخزي في الدنيا والآخرة. قال الله تعالى: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [سورة النور آية: 54] ، وقال تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [سورة الأنعام آية: 155] ، وقال تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [سورة النور آية: 63] ، وقال عز وجل: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} [سورة النساء آية: 14-13] . ففي هذه الآيات المحكمات: الأمر بطاعة الله الجزء: 16 ¦ الصفحة: 221 ورسوله، والحث على اتباع كتابه، وتعليق الهداية والرحمة ودخول الجنات، بطاعة الله واتباع كتابه العظيم، وتعليق الفتنة والعذاب المهين بمعصية الله ورسوله. فاحذروا أيها المسلمون ما حذركم الله منه، وبادروا إلى ما أمركم به، بإخلاص وصدق، ورغبة ورهبة، تفوزوا بكل خير، وتسلموا من كل شر في الدنيا والآخرة. ومن أعظم طاعة الله ورسوله عليه الصلاة والسلام: التحاكم إلى شريعته، والرضى بحكمها، والتواصي بذلك، والحذر كل الحذر مما خالفها، عملا بقول الله عز وجل: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [سورة النساء آية: 65] : أقسم الله سبحانه في هذه الآية الكريمة أن العباد لا يؤمنون، حتى يحكموا الرسول صلى الله عليه وسلم فيما شجر بينهم، وينقادوا لحكمه راغبين مسلمين، من غير كراهية ولا حرج؛ وهذا يعم مشاكل الدين والدنيا. فهو صلى الله عليه وسلم هو الذي يحكم فيها بنفسه في حياته، وبسنته بعد وفاته، ولا إيمان لمن أعرض عن ذلك أو لم يرض به. وقال تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [سورة الشورى آية: 10] ، فهو سبحانه الذي يحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه في هذه الدار، وذلك بما أوحى إلى الجزء: 16 ¦ الصفحة: 222 رسوله صلى الله عليه وسلم من القرآن والسنة؛ وفي يوم القيامة يحكم بين الناس بنفسه عز وجل. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [سورة النساء آية: 59] . يأمر الله سبحانه في هذه الآية بطاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم لأن في ذلك خير الدنيا والآخرة، وعز الدنيا والآخرة، والنجاة من عذاب الله يوم القيامة؛ ويأمر بطاعة أولي الأمر، عطفا على طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم من غير أن يعيد العامل، لأن أولي الأمر إنما تجب طاعتهم فيما هو طاعة لله ولرسوله؛ وأما ما كان معصية لله ورسوله، فلا تجوز طاعة أحد من الناس فيه كائنا من كان، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما الطاعة في المعروف" 1، وقال صلى الله عليه وسلم "لا طاعة للمخلوق في معصية الخالق" 2. ثم أمر الله سبحانه عباده أن يردوا ما تنازعوا فيه إلى الله ورسوله، فقال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [سورة النساء آية: 59] ، والرد إلى الله هو الرد إلى كتابه الكريم، والرد إلى الرسول هو الرد إليه في حياته عليه الصلاة والسلام، وإلى سنته بعد وفاته.   1 البخاري: الأحكام (7145) , ومسلم: الإمارة (1840) , والنسائي: البيعة (4205) , وأبو داود: الجهاد (2625) , وأحمد (1/82 ,1/94) . 2 أحمد (1/409) . الجزء: 16 ¦ الصفحة: 223 ثم قال سبحانه وتعالى: {ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [سورة النساء آية: 59] يرشد عباده إلى أن رد مشاكلهم كلها إلى الله والرسول، خير لهم وأحسن عاقبة في العاجل والآجل. فانتبهوا رحمكم الله، واعتصموا بكتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، تفوزوا بالحياة الطيبة، والسعادة الأبدية، كما قال الله سبحانه: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [سورة النحل آية: 97] . وإن من أقبح السيئات وأعظم المنكرات: التحاكم إلى غير شريعة الله، من القوانين الوضعية، والنظم البشرية وعادات الأسلاف والأجداد، التي قد وقع فيها الكثير من الناس اليوم، وارتضاها بدلا من شريعة الله التي بعث بها رسوله محمد صلى الله عليه وسلم. ولا ريب أن ذلك من أعظم النفاق، ومن أكبر شعائر الكفر والظلم والفسوق، وأحكام الجاهلية التي أبطلها القرآن، وحذر عنها الرسول صلى الله عليه وسلم. قال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً} [سورة النساء آية: 61-60] . الجزء: 16 ¦ الصفحة: 224 وقال تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [سورة المائدة آية: 50-49] ، وقال عز وجل: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [سورة المائدة آية: 44] ، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [سورة المائدة آية: 45] ، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [سورة المائدة آية: 47] : وهذا تحذير شديد من الله سبحانه لجميع العباد، من الإعراض عن كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والتحاكم إلى غيرهما، وحكم صريح من الرب عز وجل على من حكم بغير شريعته، بأنه كافر وظالم وفاسق، ومتخلق بأخلاق المنافقين وأهل الجاهلية. فاحذروا أيها المسلمون ما حذركم الله منه، وحكموا شريعته في كل شيء، واحذروا ما خالفها، وتواصوا بذلك فيما بينكم، وعادوا، وأبغضوا من أعرض عن شريعة الله أو تنقصها، أو استهزأ بها، أو سهل في التحاكم إلى غيرها، لتفوزوا بكرامة الله، وتسلموا من عقاب الله؛ وتؤدوا بذلك ما أوجب الله عليكم، من موالاة أوليائه الحاكمين بشريعته، الراضين بكتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 225 والله المسؤول أن يهدينا وإياكم صراطه المستقيم، وأن يعيذنا وإياكم من مشابهة الكفار، والمنافقين، وأن ينصر دينه ويخذل أعداءه، إنه على كل شيء قدير، وصلى الله على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه وسلم تسلميا كثيرا إلى يوم الدين، حرر في 12/11/1380 هـ. وقال الشيخ حمود بن عبد الله التويجري رحمه الله: 1 فصل [اطراح الأحكام الشرعية والاعتياض عنها بحكم الطاغوت من القوانين والنظامات الإفرنجية] النوع الثاني من المشابهة، وهو من أعظمها شرا، وأسوئها عاقبة: ما ابتلي به كثيرون، من اطراح الأحكام الشرعية، والاعتياض عنها بحكم الطاغوت، من القوانين، والنظامات الإفرنجية، أو الشبيهة بالإفرنجية، المخالف كل منها للشريعة المحمدية. وقد قال الله تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [سورة المائدة آية: 50] ، وقال تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [سورة الشورى آية: 21] . وقد انحرف عن الدين بسبب هذه المشابهة فئام من   1 في كتابه "الإيضاح والتبيين". الجزء: 16 ¦ الصفحة: 226 الناس، فمستقل من الانحراف ومستكثر؛ وآل بكثير منهم إلى الردة، والخروج من دين الإسلام بالكلية، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. والتحاكم إلى غير الشريعة المحمدية من الضلال البعيد، والنفاق الأكبر، قال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً} [سورة النساء آية: 61-60] ، ثم نفى تبارك وتعالى الإيمان عمن لم يحكم الرسول صلى الله عليه وسلم عند التنازع، ويرضى بحكمه ويطمئن إليه قلبه، ولا يبقى لديه شك أن ما حكم به هو الحق الذي يجب المصير إليه؛ فيذعن لذلك وينقاد له ظاهرا وباطنا. وأقسم سبحانه وتعالى على هذا النفي بنفسه الكريمة المقدسة، فقال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [سورة النساء آية: 65] . وما أكثر المعرضين عن أحكام الشريعة المحمدية من أهل زماننا! ولا سيما أهل الأمصار، الذين غلبت عليهم الحرية الإفرنجية، وهان لديهم ما أنزل الله على رسوله الجزء: 16 ¦ الصفحة: 227 محمد صلى الله عليه وسلم من الكتاب والحكمة؛ فاعتاضوا عن التحاكم إليهما بالتحاكم إلى القوانين والسياسات، والنظامات التي ما أنزل الله بها من سلطان، وإنما هي متلقاة عن الدول الكافرة بالله ورسوله، أو ممن يتشبه بهم ويحذو حذوهم، من الطواغيت الذين ينتسبون إلى الإسلام، وهم عنه بمعزل. وأقبح من فعل المنافقين ما يذكر عن بعض أهل زماننا أنهم قالوا. إن العمل بالشريعة المحمدية يؤخرهم عن اللحاق بأمم الإفرنج، وأضرابهم من أعداء الله تعالى: وهذه ردة صريحة. والله المسؤول أن يقيض لأهلها، ولكل من لم يرض بأحكام الشريعة المحمدية، من يعاملهم معاملة أبي بكر الصديق، رضي الله عنه لإخوانهم من قبل. وقال أيضا، رحمه الله: فصل [إبدال الحدود والتعزيرات بالحبس] ومن اطراح الأحكام الشرعية: ما يفعله كثير من المنتسبين إلى الإسلام، من إبداله الحدود والتعزيرات بالحبس، موافقة للإفرنج وأشباههم من أعداء الله تعالى. وهذا مصداق ما في حديث أبي أمامة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لتنتقض عرى الإسلام عروة عروة، وكلما انتقضت عروة تشبث الناس بالتي تليها؛ فأولهن نقضا الحكم، وآخرهن الصلاة" رواه الإمام أحمد الجزء: 16 ¦ الصفحة: 228 وابنه عبد الله، وابن حبان في صحيحه، والحاكم في مستدركة. وقال الشيخ عبد الرحمن بن حماد العمر، في رسالته في سبيل الحق: ولما سبق، فأنا أقول لكم، يا دعاة الحق: أبشروا فأنتم الأعلون، فاعملوا الخير في أنفسكم، وانشروا الإسلام في الآفاق، فأنتم المستحفظون عليه والوارثون له. وأزيلوا المنكرات من مجتمعكم، في صبر وحكمة وإلحاح وعدم يأس، ولا تعبؤوا بلغو اللاغين. واعلموا أنهم الزبد، وأنتم الماكثون في الأرض، وكونوا عودا طيبا كلما أحرق زاده الإحراق طيبا. يا دعاة الحق، إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله إذا أحب قوما ابتلاهم، ولا بد لكل إنسان من بلوى، فمبتلى في سبيل الشيطان، ومبتلى في سبيل الله {إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ} [سورة النساء آية: 104] . أجل، ترجون من الله ما لا يرجوه هؤلاء، الذين يتكلمون بلسان الشيطان، من تلامذة الغربيين وأفراخهم، ممن يرون عبادة الله تخلفا ورجعية، ويرون السفور والعهارة رقيا وسموا. ويرون كتاب الله العظيم، وهدى رسوله الكريم الجزء: 16 ¦ الصفحة: 229 قاصرين عن تنظيم الحياة، فينادون باستبدالهما بالقوانين الوضعية، وبالقانون الفلاني، وهم في الوقت نفسه لا يرون أنهم أخسر الناس صفقة في هذا المجال. فقد خسروا دينهم ودنياهم، ذلك لأنهم خالفوا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تركت فيكم ما إن اعتصمتم به لن تضلوا أبدا: كتاب الله وسنة نبيه" 1 ولكن: إن تأس يا أخي المجاهد على هؤلاء الذين يدعون المعرفة، ممن يتشدقون بأنهم يحملون الشهادات القانونية، وشهادات السياسة، والآداب، والتجارة وغيرها، وممن جهلوا منازلهم، وظنوا أنهم تسنموا أفراد المجتمع إلى الفكر والفهم، وأن كلمة الفصل هي كلمتهم فحسب، فلأنهم ممن حسبوا في عداد المسلمين، وصار بعض من يشاهد أفعالهم، ويسمع مقالهم من غير المسلمين، يمقت الإسلام والمسلمين، ويكره الإسلام الذي هذه أخلاق أهله؛ فصاروا أداة هدم وتخريب وتنفير عن دين الله الذي أوجب الله عليهم أن يتخلقوا بأخلاقه، وينقادوا لتعاليمه، ويدعوا الناس إليه. وصار من يشاهد أفعالهم، ويسمع مقالهم من جهال المسلمين، يقلدهم وينحرف بانحرافهم، وخاصة الذين يجلسون ويعملون معهم، فجمعوا بين الجريمتين: جريمة تشويه الإسلام بأفعالهم والانحراف عن مبادئه، وجريمة   1 مسلم: الحج (1218) , وأبو داود: المناسك (1905) . الجزء: 16 ¦ الصفحة: 230 تضليل جهلة المسلمين وإدخال الزيغ إلى نفوسهم. إن تأس يا أخي، فمأساتك عليهم، لأنهم مسلمون فسقوا عن الإسلام، في الداخل والخارج. أما تأسفنا عليهم لأنهم من أقطاب الدين، فالحمد لله أنهم أبعد من كثير من اليهود والنصارى معرفة بكتاب الله وسنة رسوله. ولا أدل على جهلهم هذا، من رميهم الدين الإسلامي بالعجز عن تنظيم الحياة، ومطالبتهم باستبداله بالقوانين، والأنظمة، ولو لم يبق من مطالبتهم إلا تشجيعهم ورضاهم به لكفى. والدافع الذي دفع أولئك، إلى إقرار بعض القوانين والنظم في بلادهم، والتي أخذوا يشتركون في وضع مخططاتها، متحدين بذلك فاطر السماوات والأرض الذي لا حكم لأحد سواه، في الأرض ولا في السماء، الدافع لهم على ذلك، هو أنهم في الواقع لا يعرفون عن كتاب الله، وسنة رسوله شيئا، ويظنون أن القصور فيهما، ولا يدرون أن القصور في الحقيقة كامن في عقولهم، ومداركهم السخيفة؛ لأنها لا تعرف غير قوانين الغرب، وقوانين الاشتراكية والشيوعية الملحدة فقط. ولو أن هؤلاء المارقين عن دين الله رجعوا إلى أهل العلم، العارفين بكتاب الله وسنة نبيه، وما فيهما من أحكام ومقاصد سامية وشاملة لما ظهر من الأحداث وما لم يظهر بعد، الجزء: 16 ¦ الصفحة: 231 لو رجعوا إليهم واستشاروهم، لوجدوا منهم فتح المجالات الرحبة، في تنظيم شؤون الحياة، والسياسة والحرب، على ضوء الكتاب والسنة، ولوجدوا صورا حية من صور البطولة المعنوية، وتنظيما ساميا في الاقتصاد والتجارة، والعلم، على اختلاف أشكاله، تنظيما محكما صالحا لكل عصر، لا يتطرق إليه الفشل، لأنه مستمد من وحي الله الذي يعلم ما كان وما سيكون، وليس مستمدا من رأي مخلوق، لأن رأي البشر قاصر، ومعرض للخطأ. وكان الصحابة رضي الله عنهم يناقشون الآراء، لأنهم يعرفون أنها قد تصيب وقد تكون خاطئة، ولكنهم لا يناقشون الوحي الذي يأتي من السماء، كما لا يناقشون حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه كما قال تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [سورة النجم آية: 4-3] ؛ وكانوا: لا يناقشون الوحي، لأنهم يعرفون يقينا إصابته ولا بد، وإن لم يوافق ما يرون، لأن العقول لا تدرك إلا ما تراه، وإدراكها لما ترى إدراك ناقص أيضا. وبفضل تمسك الصحابة بكتاب الله وسنة رسوله، تمت لهم ولمن سار على هديهم السيادة على العالم، وبلوغ الذروة في العلم والمجد الجزء: 16 ¦ الصفحة: 232 الفصل الثالث: [ما يسمى بالنظم وبالقانون لم يكن يعرف في عهد سلفنا] ما يسمونه بالنظم، وقد يسمى بالقانون، وغير ذلك، ولكل دولة فيه اصطلاح، وقد يختم كل نظام بوجوب الحكم به، وللدولة نظم عديدة، كنظام الوزراء، والمحاكم، وكنظام البنوك، ونظام العمل والعمال، وسائر الدوائر، ولم تكن تلك تعرف في عهد سلفنا، ولا في عهد السلف الصالح، وعسى الله أن يوفق أئمة المسلمين أن يؤلفوا نبذا مختصرة مصحوبة بالنصوص الشرعية، كافلة بما تحتاجه ولاة الأمر في جميع أمور الرعية. وإليك: ما كتبه الشيخ عبد الله بن محمد بن حميد رحمه الله، لبيان ما في نظام العمل والعمال، من الأخطاء، والتناقض والضلال، فأجاد وأفاد. قال الشيخ عبد الله بن محمد بن حميد، رحمه الله: [رسالة الشيخ عبد الله بن محمد بن حميد إلى رئيس مجلس الوزراء وما كتبه الشيخ في نظام العمل والعمال] بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله بن محمد بن حميد، إلى حضرة المكرم الأحشم، رئيس مجلس الوزراء أدام الباري توفيقه، ومتع بحياته، آمين. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: فأرجو الله أن يحفظكم ويمتع بحياتكم، سلمك الله: نظام العمل الجزء: 16 ¦ الصفحة: 233 والعمال، طالما كنت أسمع عنه، وما فيه من الأحكام الباطلة، المخالفة للشريعة الكاملة، في مصادرها ومواردها. وأنا لا أصدق، ولا أكذب. ولعلمي أنكم- ولله الحمد- من أشد الناس حرصا على هذه الشريعة الإسلامية، والذود عنها، وحمايتها بكل ما أوتيتموه من حول وقوة، كما جاء ذلك في خطابات سموكم المتعددة، في بعض المناسبات، فقد قلتم: إن شريعة الإسلام كفيلة لكل مصلحة، وقامت هذه الدولة على أسسه، أولها الأساس الإسلامي، وتحكيم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. وقلتم: إننا لسنا في حاجة إلى نظام مستورد من الخارج. وقلتم: سنكون في خدمة هذا الدين إلى أن يتوفانا الله، جاهدين مجاهدين عن شريعة الإسلام، ومكافحة كل ما يعترض هذا الدين. وقلتم: كل ما لا يوافق الشريعة الإسلامية فهو رد، ولا قضاء غير الشرع، ولا نوافذ على نظام لا يكون له أساس من ديننا الذي استوعب كل ما فى الحياة. والحقيقة أنكم تشكرون على هذا، ونرجو الله أن يثبتكم ويحفظكم، ويجعلكم دائما محافظين على هذه الشريعة، مجاهدين دونها، كما نرجوه أن يتولى جزاءكم في الدارين، ويجزل لكم المثوبة. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 234 وبناء على هذا، قرأت نظام العمل والعمال، فوجدته أفظع مما قيل فيه، وأعظم مما كنت أسمع عنه ; فمما جاء منه: أن الأجر يدفع للعامل في حالة الإقعاد الجزئي الدائم، مبلغ 18000 للعامل درجة أولى، و12000 للعامل درجة ثانية، و 8000 للعامل درجة ثالثة، وذلك مقابل فقدان البصر كليا، أو فقدان العينين معا. وهكذا درج على هذا المنوال، في حين أن هذا باطل، لعدة وجوه منها: أن الأجر لا يلزمه شيء لم يلتزم به، ولم يقع بسببه، ولا بإهماله، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه" 1. ثانيا: تدل هذه المادة أنه لو تعدى على العامل أحد من العمال، لزم المؤجر تلك الغرامة، في حين أن الشرع والعقل يلزم بذلك الجاني، فهو الذي يلزمه بذل أرش تلك الجناية الصادرة منه. ثالثا: هذه التفرقة، وتقسيم العمال إلى ثلاث درجات، تقسيم في غير محله، فمن هو المبين أن هذا العامل من الدرجة الأولى، والآخر من الثانية، أو الثالثة، فقد يكون عند هذا من العمل ما ليس عند الآخر; وبكل حال هذا التفريق باطل، تأباه الشريعة السمحة، وينكره العقل السليم. كما جاء أيضا في النظام نفسه: أن العامل إذا أصيب   1 مسلم: البر والصلة والآداب (2564) , وأحمد (2/277) . الجزء: 16 ¦ الصفحة: 235 بإصابة أقعدته عن عمله، يدفع له أجرة 75% من أجرته، وذلك بعد مضي سبعة أيام من تاريخ الإصابة، التي يجب أن يستوفي فيها أجره كاملا، ويستمر دفع 75% إلى حين شفاء المصاب، وانتهاء مدة الإقعاد المؤقت ... إلخ، والنظام على هذا المنوال. والشريعة حرمت أموال المسلمين، كما حرمت دماءهم، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة البيت الحرام، في الشهر الحرام، في البلد الحرام" 1 فكيف يلزم المؤجر بدفع ثلاثة أرباع أجور عماله، المصابين عنده، بدون مقابل؟ فالشريعة أمرت العامل إذا مرض أن يقيم مكانه من يقوم بعمله، وإلا فللمؤجر الفسخ. والحقيقة أن هذا النظام باطل من أساسه، إذ لم يستند في أحكامه على نص، لا من كتاب، ولا سنة، ولا إجماع، ولا قول أحد من أهل العلم، والعقل السليم يعرف بطلانه؛ بل تصوره كاف في قبحه. ولكن بكل حال: أنتم معذورون، لتقدم وضعه. وأعتقد كما يعتقد غيري أنكم لم تطلعوا عليه، لسبب وضعه، فقد وضع بتاريخ 25/11/1366? ولهذا كتبت عليه هذه الملاحظات المشفوعة بكتابنا هذا.   1 البخاري: الحج (1739) , وأحمد (1/230) . الجزء: 16 ¦ الصفحة: 236 إذا، أرجو الاطلاع عليه، والأمر بما ترون نحو هذا النظام الفاسد، الذي سيعتبر قدحا في تاريخ هذه الدولة السعودية المسلمة، التي لم يعرف عنها سوى تحكيم الكتاب والسنة فيما لها وعليها، وبين رعاياها، والله يثبتها عليه، ويحفظها من القوانين الوضعية المجانبة للكتاب والسنة. ولعل يد الإصلاح في عهد سموكم، تمتد إلى إماطة هذا الأذى عن طريق المسلمين، تولاكم الله ورعاكم: والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. في 7/6/ 1384?. وقال رحمه الله في ملاحظاته: بسم الله الرحمن الرحيم بيان ما في نظام العمل والعمال من الأخطاء والتناقض والضلال الحمد لله الذي جعلنا من خير الأمم، ونجانا بنور الوحيين من حوالك الظلم، وخصنا بمحمد الذي أوتي جوامع الكلم، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين حازوا بمتابعته العز في الدنيا وفي الآخرة، وسلم تسليما. أما بعد: فقد قرئ علي بعض من نظام العمل والعمال، الذي صدر الأمر والعمل به بتاريخ 25/ 11/ 1366?، والذي لم يزل العمل به مستمرا إلى هذا الوقت. ولما سمعت بعض مواده وفقراته، طال تعجبي من وجود مثل هذه الأنظمة يحكم بها بين ظهراني المسلمين، وتقررها وتنفذها دولة إسلامية، تحكم القرآن وتفخر به، الجزء: 16 ¦ الصفحة: 237 ويحق الفخر لمن تمسك به، وعمل بأحكامه، وكنت قبل اطلاعي عليه أسمع شيئا مما يتناقله الناس عنه، غير أني لا أصدق ولا أكذب بكل ما أسمع عنه. ولما اطلعت عليه وجدته فوقع ما أسمع، وأفظع مما يقال فيه، ورأيت أنه متحتم علي أن أبين ما علمته فيه من الأخطاء، على وجه النصيحة وبراءة الذمة، ورتبته على مقدمة، فملاحظة عامة، فبيان ما في كل فقرة من الأخطاء على وجه التفصيل. والله المسؤول أن يمن علينا بحسن القصد، والاتباع لهدى نبينا صلى الله عليه وسلم، وأن يرينا الحق حقا ويرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلا ويرزقنا اجتنابه، إنه سميع مجيب. المقدمة قد بعث الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم إلى البشر، رحمة منه وإحسانا، ليخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه، ويهديهم إلى صراط مستقيم. وكانت العرب قبل بعثته صلى الله عليه وسلم في جاهلية جهلاء، وشقاء لا بعده شقاء؛ يعبدون الأصنام، ويئدون البنات، ويسفكون الدماء بأدنى سبب، وبلا سبب، في ضيق من العيش، وفي نكد وجهد من الحياة، يعيشون عيشة الوحوش، ومع الوحوش، يتحاكمون إلى الكهان والطواغيت. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 238 فلما جاء الله بهذا النبي الكريم، أخرجهم الله به من الظلمات إلى النور، أخرجهم من ظلمة الكفر والشرك إلى نور الإيمان والتوحيد، ومن ظلمة الجهل والطيش إلى نور العلم والحلم، ومن ظلمة الجور والبغي إلى نور العدل والإحسان. ومن ظلمة التفرق والاختلاف إلى نور الاتفاق والوئام، ومن ظلمة الأنانية والاستبداد إلى نور التواضع والتشاور، ومن ظلمة الفقر والجهد إلى نور الغنى والرخاء؛ بل أخرجهم من ظلمة الموت إلى نور الحياة السعيدة {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [سورة الأنعام آية: 122] . أكمل الله به الدين، وتمم به مكارم الأخلاق. أمر بعبادة الله وحده لا شريك له، وأمر ببر الوالدين، وصلة الأرحام، والإحسان إلى الفقراء والمعوزين، حتى قال صلى الله عليه وسلم: "إن الله كتب الإحسان على كل شيء" 1. وأمر بالتحاكم فيما تنازعوا فيه إلى الله ورسوله، لا خير إلا ودل الأمة عليه، ولا شر إلا حذرها عنه، أخبر بما كان وما يكون إلى يوم القيامة، كما قال حذيفة رضي الله عنه: "قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقاما، ما ترك شيئا يكون في مقامه ذلك إلى قيام الساعة، إلا حدث به، حفظه من حفظه، ونسيه من نسيه"،   1 مسلم: الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان (1955) , والترمذي: الديات (1409) , والنسائي: الضحايا (4405 ,4412) , وأبو داود: الضحايا (2815) , وابن ماجه: الذبائح (3170) , وأحمد (4/123 ,4/124 ,4/125) , والدارمي: الأضاحي (1970) . الجزء: 16 ¦ الصفحة: 239 وقال أبو ذر رضي الله عنه "لقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو قال: لقد تركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يقلب طائر جناحيه في السماء إلا ذكر لنا منه علما". رسم لأمته طرق السعادة في الدنيا والآخرة، في سياسته الشرعية، التي يعجز كل أحد أن يأتي بناحية من نواحيها، فرسم لهم طرق السياسة مع الأعداء، فبين لهم ما تعامل به الأمم الأجنبية، من الحرب ووجوبه، والسلم ووجوبه، والمعاهدات والصلح، وحفظ العهود. وأوجب عليهم الاستعداد بكل قوة يستطيعونها، ونهاهم عن الإخلاد إلى الكسل والعجز والدعة والراحة، وأخبرهم أن هذا سبب للذل ; بل أمرهم أن يكونوا أقوياء أشداء أعزاء، لا تلين قناتهم لأحد سوى الله ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا. وأوضح لهم جميع الشؤون الاجتماعية أتم إيضاح؛ بين ما للحاكم، وما للمحكوم وما عليه؛ فأوجب للحاكم السمع والطاعة، وحرم الخروج عليه، وأوجب على المسلمين مناصرته وموالاته عندما يخرج عليه خارج؛ وأمرهم بقتال الباغين عليه؛ وأمرهم بالصبر على ما يأتيهم من ولاتهم، وأنهم مهما عملوا لا يجوز الخروج عليهم، ما أقاموا فينا الصلاة، إلا أن نرى كفرا بواحا، فقال صلى الله عليه وسلم "عليكم بالسمع والطاعة، وإن تأمر عليكم الجزء: 16 ¦ الصفحة: 240 عبد حبشي" 1، وقال صلى الله عليه وسلم "اسمع وأطع وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك" 2. وهذا يدل على كمال هذه الشريعة وتمام نضوجها في السياسة وغيرها؛ لأنه متى حصل منابذة للحاكم، لا بد أن ينجم عن ذلك القتل، وخلل في الأمن، وعدم الاستقرار، فيذهب بسبب ذلك الألوف من الأنفس، كما قيل: ملك ظلوم غشوم، خير من فتنة تدوم. وهذا شيء يشهد له التاريخ والواقع. وهناك أنفس شريرة لا يناسبها إلا هذا الوضع، ما لم يضرب عليها بيد من حديد. أما الأنفس الخيرية التي زكت عقولها، وتنورت بنور الوحي المحمدي، فهذا أشق عليها، كما قال الإمام أحمد: لو كان لي دعوة مستجابة لصرفتها للسلطان، لأن بصلاحه صلاحا للرعية، وبفساده فسادا للرعية. ويروى عن سفيان والفضيل، رضي الله عنهما مثل ذلك. وكلما عظم قدر الدين في النفس، عظم عندها قدر الحاكم واحترامه وتوقيره؛ ولكن لا يكون هذا التوقير مانعا عن مناصحته، وتبيين أخطائه ليتلافاها، وإنكار ما يرتكبه من المنكر، والصدع بكلمة الحق بين يديه، بل يعد هذا من كمال محبته والشفقة عليه، كما قيل: من أحبك نهاك، ومن أبغضك أغراك، وقال الشاعر: ما ناصحتك خبايا الود من أحد ... ما لم ينلك بمكروه من العذل   1 البخاري: الأحكام (7142) , وابن ماجه: الجهاد (2860) , وأحمد (3/114) . 2 مسلم: الإمارة (1847) , وأبو داود: الفتن والملاحم (4244) . الجزء: 16 ¦ الصفحة: 241 مودتي لك تأبى أن تسامحني بأن أراك على شيء من الزلل فأوجبت الشريعة على الحاكم للمحكومين النصح لهم، وأن لا يدخر وسعا في الشفقة عليهم وحفظ مصالحهم، وحماية أنفسهم وأموالهم وأعراضهم، وحماية جميع ما لهم من الحقوق، وقمع المعتدين عليهم، وإنفاذ الحدود التي أوجبها الله على المخالفين، والجد كل الجد في حفظ دينهم، وتعزيزه بكل ممكن، وتطبيق أحكامه عليهم بكل دقة، وأن لا يشاب بشيء من الآراء والاستحسانات، وأن يكون ذلك التطبيق جاريا على كل أحد، من شريف ووضيع، وحاكم ومحكوم، وغني وفقير لأن الولاية إنما شرعت لهذا وأمثاله. ثم إن هذه الشريعة لكمالها، لم تقتصر على هذا، بل أمرت بالضرب في الأرض، لطلب الكسب، وأمرت بحرث الأرض للمعاش، وأمرت بالبيع والشراء، وبينت أحكام الدين والاستدانة، ونهت عن البطالة والكسل في طلب المعاش. وعلمت كيفية الاقتصاد، فنهت عن التبذير، وعن التقتير، وأمرت بالقوام بينهما، ورسمت أحكاما لكل من التجارة والزراعة والصناعة، وأوجبت حفظ الحقوق، فأمرت الجزء: 16 ¦ الصفحة: 242 بالكتابة والإشهاد، وحرمت كتمان الشهادة أشد تحريم، حماية للأموال، وسلامة للصدور عن التقاطع والتباغض. كما نهت أيضا عن الغش والخداع في المعاملات والربا بأنواعه، وبيع البعض على بيع البعض، وعن التدليس وبيغ الغرر؛ كل هذا حفظا للحقوق، وحرصا على تمام الروابط بين المسلمين. نعم إنها لم تكتف بهذا، بل دخلت على الأسرة الواحدة في بيتها، فبينت ما لكل منهم وما عليه، من الوالد والولد، والزوج والزوجة، وجميع الأقارب كل بحسبه. ولم يمر بالإنسان طور من أطوار حياته، إلا بينت مشاكله، وجميع ما قد يعرض له في حياته، من حين رضاعه إلى إبان وفاته، بل إلى ما بعد ذلك. فبينت الأولى بتغسيله وتكفينه، وحمله والصلاة عليه ودفنه، وميراثه ووصيته، وحقوقه من قضاء دين وتنفيذ وصية وإنفاذ عهد. فلله ما أعظم هذه الشريعة، وأجلها وأسماها! وكلما ازداد المرء معرفة بها، ازداد لها احتراما وتعظيما وتوقيرا. فلذلك كان الصحابة رضي الله عنهم- لكماله معرفتهم بها- أشد الناس تمسكا بها، وتمشيا مع تعاليمها بكل جليل ودقيق. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 243 وإنه لمن العجب إعراض أكثر الناس في هذه الأزمنة عن تعاليم هذه الشريعة السامية الكاملة، واستبدالها أو شوبها بقوانين وضعية، ظاهرة التناقض، واضحة الجور، فاسدة المعنى. فلذا كثيرا ما يطرأ عليها التغيير والتبديل، كل يرى أنه أحسن ممن تقدمه، وأدرى بالمصالح والمفاسد ممن سبقه، ثم يجري فيها تغييرا وتبديلا، بحسب رأيه؛ وهكذا دواليك ما بقيت هذه النظم، المستمدة من نحاتة الأفكار وزبالة الأذهان. أما الشريعة الإسلامية، فهي صالحة لكل زمان ومكان مضى عليها أربعة عشر قرنا وهي هي في كمالها ومناسبتها، وحفظها لكافة أنواع الحقوق لجميع الطبقات. وأهدأ الناس حالا، وأنعمهم بالا، وأقرهم عيشا، أشدهم تمسكا بها، سواء في ذلك الأفراد أو الشعوب، أو الحكومات؛ وهذا شيء يعرفه كل أحد إذا كان عاقلا منصفا، وإن لم يكن من أهلها، بل وإن كان من المناوئين لها. وقد سمعنا وقرأنا كثيرا مما يدل على ذلك؛ فقد ذكر بعض عقلاء المستشرقين الذين يكتبون لبيان الحقيقة والواقع - لا للسياسة- أن نشأة أوربا الحديثة، إنما كانت رشاشا من نور الإسلام، فاض عليها من الأندلس، ومن صفحات الجزء: 16 ¦ الصفحة: 244 الكتب التي أخذوها في حروبهم مع المسلمين، في الشرق والغرب. وقال القس "طيلر": إن الإسلام ليمتد في أفريقيا، وتسير الفضائل معه حيث سار؛ فالكرم والعفاف والنجدة، من آثاره، والشجاعة والإقدام من نتائجه. وقال "كونتنس": يمتاز المسلمون على غيرهم برفعة في السجايا، وشرف في الأخلاق؛ قد طبعته في نفوسهم ونفوس آبائهم وصايا القرآن؛ بخلاف غيرهم، فإنهم في سقوط تام من حيث ذلك. وقال أيضا: إن من أهم النعوت التي يمتاز بها المسلم: عزة في النفس، فهو- سواء في حالة بؤسه ونعيمه- لا يرى العزة إلا لله ولرسوله وله، وهذه الصفة التي غرسها الإسلام في نفوسهم، إذا توفرت معها الوسائل، كانت أعظم دافع إلى التسابق إلى غايات المدنية الصحيحة ورقيات الكمال. وقال "هانوتو" وزير خارجية فرنسا في وقته: إن هذا الدين الإسلامي قائم الدعائم، ثابت الأركان، وهو الدين الوحيد الذي أمكن اعتناق الناس له زمرا وأفواجا. وهو الدين الإسلامي العظيم، الذي تفوق شدة الميل إلى التدين به كل ميل إلى اعتناق أي دين سواه؛ فلا يوجد مكان على سطح المعمورة إلا واجتاز الإسلام فيه حدوده، فانتشر في الآفاق. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 245 وقال بعضهم: لما رغب المسلمون عن تعاليم دينهم، وجهلوا حكمه وأحكامه، وعدلوا إلى القوانين الوضعية المتناقضة، المستمدة من آراء الرجال، فشا فيهم فساد الأخلاق، فكثر الكذب والنفاق، والتحاقد والتباغض، فتفرقت كلمتهم، وجهلوا أحوالهم الحاضرة، والمستقبلة. وغفلوا عما يضرهم وما ينفعهم، وقنعوا بحياة يأكلون فيها ويشربون، وينامون، ثم لا ينافسون غيرهم في فضيلة، ولكن متى أمكن لأحدهم أن يضر أخاه، لا يقصر في إلحاقه الضرر. وأقوالهم في هذا الموضوع كثيرة جدا. يعترفون فيها بعظمة الإسلام، وشموله لعموم المصالح ودرء المفاسد، وأن المسلمين لو تمسكوا بإسلامهم حقا، لصاروا أرقى الأمم وأسعد الناس، ولكن ضيعوا فضاعوا، واكتفوا منه بمجرد التسمي بأنهم مسلمون. مناقب شهد العدو بفضلها وأفضل ما شهدت به الأعداء ولسنا- والحمد لله- في حاجة إلى شهادة هؤلاء وأمثالهم، بفضل الإسلام وعلو مكانته، ولكن ذكرنا هذا لما قصر أهله في فهمه والعمل به، وعرف منه أعداؤه ما لم يعرفه بنوه؛ إذ جهلوا مصالحه، وتطلعوا إلى غيره من النظم الفاسدة المتناقضة، وأعداؤه يفضلونه ويشهدون له بالكمال وأنه فوق كل نظام. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 246 ولا شك أنه الدين الصحيح، الكفيل بكل ما يحتاجه البشر على وجه يكفل لهم المصالح، ويدرأ عنهم المفاسد، دين الفطرة السليمة، دين الرقي الحقيقي، دين العدالة بأسمى معانيها، دين المدنية والحرية بمعناها الصحيح، دين العمل، دين الاجتماع، دين التوادد والتناصح والتحابب، دين رفع ألوية العلم والصنائع والحرف. لم يقتصر على أحكام العبادات، أو المعاملات، بل شمل جميع منافع العباد ومصالحهم، على ممر السنين وتعاقب الدهور، إلى أن تقوم الساعة. ولكن يا للأسف ويا للمصيبة! أن أبناء هذا الدين جهلوا قدره، وجهلوا حقيقته؛ بل كثير منهم عادوه وأصبحوا يدسون عليه معاولهم ليهدموه، وليفرقوا أهله، ويفضلون أهل الغرب على المسلمين، ظنا منهم بعقولهم الفاسدة وآرائهم الكاسدة أن الدين هو الذي أخرهم، وهيهات هيهات أن يكون هو الذي أخرهم، ولكنهم أخروا أنفسهم بالإعراض عن تعاليم دينهم، وأخلدوا إلى الكسل، وقنعوا بالجهل، فأصبحوا في حيرة من أمرهم. إنهم لو عرفوا دينهم، وطبقوا تعاليمه لوصلوا فوق ما وصل إليه غيرهم، من التقدم الصناعي؛ ولكنهم تركوا دينهم، واقتنعوا بالترف والنعيم، وأهملوا العناية به. فوالله لو أن أهله قاموا بما يجب عليهم، لحازوا الجزء: 16 ¦ الصفحة: 247 شرف الدنيا والآخرة. وإن الواجب على أهل الإسلام، خصوصا العلماء منهم، وولاة الأمور، أن يبثوا الدعوة له، وينشروا محاسنه لنشئهم، ليرغبوهم فيه، ويرشدوا الأمة لأحكامه وحكمه، كما فعل أوائلهم الأماجد. فإنهم قاموا بالدعوة، فبينوا للأمم محاسنه وسماحته، شارحين لهم حِكمه، موضحين مزاياه، وبذلك امتد سلطانهم، واتسعت ممالكهم، وأخضعوا من سواهم لتعاليمه. ولكن ما لبث أبناؤهم أن حرفوا فانحرفوا، وتمزقوا بعدما اجتمعوا، واشتبه الحق عليهم والباطل، فتفرقت بهم السبل، وأصبحوا شيعا، متفرقين في آرائهم، متباينين في مقاصدهم. وكيف يحصل لهم الرقي، وأنى يتسنى لهم التقدم، وقد رضوا بقوانين وضعية، استمدوها من أعدائهم، يجرون وراءهم، وينهجون نهجهم تقليدا لهم، ومصادمة للشريعة الإسلامية، التي هي عزهم وفخرهم، وفيها راحتهم وطمأنينتهم. والله سبحانه وتعالى يقول: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [سورة المائدة آية: 50] ، ويقول جل شأنه: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [سورة المائدة آية: 44] ، وقال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 248 فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [سورة المائدة آية: 45] ، وقال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [سورة المائدة آية: 47] ، وقال سبحانه وتعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [سورة النساء آية: 59] . وقد تكفلت بحل جميع المشاكل وتبيينها وإيضاحها، قال تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [سورة الأنعام آية: 38] ، وقال تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [سورة النحل آية: 89] : ففي هذه الآية: أن القرآن فيه البيان لكل شيء، وأن فيه الاهتداء التام، وأن فيه الرحمة الشاملة، وأن فيه البشارة الصادقة للمتمسكين به، الخاضعين لأحكامه. وقال تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} [سورة البقرة آية: 213] ، وقال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [سورة النحل آية: 44] ، وقال صلى الله عليه وسلم: "تركتكم على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك" 1، وقال صلى الله عليه وسلم "تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا: كتاب الله، فيه   1 ابن ماجه: المقدمة (44) , وأحمد (4/126) . الجزء: 16 ¦ الصفحة: 249 نبأ من قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم؛ هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى من غيره أضله الله ..... " 1 الحديث. وقد قال الإمام ابن كثير رحمه الله، على قوله تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} [سورة المائدة آية: 50] الآية: ينكر تعالى على من خرج عن حكم الله المشتمل على كل خير، الناهي عن كل شر، وعدل إلى ما سواه من الآراء والأهواء، والاصطلاحات التي وضعها الرجال، بلا مستند من شريعة الله، كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الجهالات والضلالات، كما يحكم به التتار من السياسات المأخوذة عن "جنكيزخان" الذي وضع لهم: "الياسق" وهو: عبارة عن كتاب أحكام، اقتبسها من شرائع شتى، من اليهودية، والنصرانية، والملة الإسلامية، وفيها كثير من الأحكام، أخذها عن مجرد نظره وهواه، فصارت في بنيه شرعا، يقدمونها على الحكم بالكتاب والسنة؛ فمن فعل ذلك فهو كافر يجب قتاله، حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله فلا يحكم بسواه في قليل ولا كثير، ا?. وقال ابن القيم: رحمه الله تعالى، على قوله عز وجل: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ   1 الترمذي: فضائل القرآن (2906) , والدارمي: فضائل القرآن (3331) . الجزء: 16 ¦ الصفحة: 250 رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً} [سورة النساء آية: 61] : هذا دليل على أن من دعي إلى تحكيم الكتاب والسنة فأبى، أنه من المنافقين، ا?. وقد قتل عمر رضي الله عنه رجلا طلب التحاكم إليه، ولم يرض بحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، والنبي حي ولم ينكر على عمر قتله للرجل؛ فكيف يجترئ من يدعي الإيمان مع هذا البيان الواضح، والآيات البينات، والأحاديث الصحيحة، على الرضى بالتحاكم إلى الطاغوت، والإعراض عن شريعة الله؟ والله قد نفى الإيمان عمن لم يحكم الرسول فيما وقع بينهم من التشاجر، قال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [سورة النساء آية: 65] . وإنه لمن أعظم الضلال، أن يعتقد من يدعي الإسلام، أن الشريعة لم تأت بما يكفل مصلحة الجميع، وأن الناس محتاجون إلى غيرها في شيء من شؤونهم ومشاكل حياتهم. أليس ذلك ظنا وتكذيبا لقوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} [سورة المائدة آية: 3] ، وإنكارا وردا لقوله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [سورة النحل آية: 89] ؟ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 251 وإننا لنربأ بحكومتنا السنية، ورجالها المصلحين أن يفسدوا ما تمسكوا به من تعاليم هذا الدين الحنيف، بإدخال بعض هذه النظم، والقوانين المخالفة للشريعة على المسلمين، أو يلزموهم بها، فيبوؤوا بالإثم، وتتناولهم هذه الآية الكريمة: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} [سورة النحل آية: 25] . فلما تقدم من الأدلة الشرعية على وجوب التمسك بحكم الله ورسوله، وأن لا يلتفت إلى ما سواهما، وبراءة للذمة، ورجاء للمثوبة من عند الله، رأيت أن أبين ما قد لاحظته على هذا النظام المهين. ملاحظات عامة: تضمن هذا النظام أمورا كثيرة مما يخالف الشريعة المطهرة، ويلاحظ عليه على سبيل الإجمال: أن هذا النظام الذي وضعته الحكومة ضمنته أشياء غير سائغة شرعا، وشروطا في صالح المستأجر، وأخرى ليست في صالحه، بل هي ضرر عليه، ومثلها للعامل. والواقع أن كلا يؤجر ويستأجر، وهو لا يعلم بوجود هذا النظام أصلا، ولم يعرف شيئا مما تضمنه من الشروط، سواء كانت له أو عليه، ثم إنه لو حدث تشاجر بينهما، أو خلاف وتكايس أحد الطرفين، وسمع بهذا الجزء: 16 ¦ الصفحة: 252 النظام، ثم بحث عنه ووجد أن له فيه مصلحة، أو قيل له: إن هناك نظاما يرى الحق لك، طالب به، وألزم الطرف الآخر بحسب ما يقضيه به هذا النظام؛ فهل هذا يقره عقل، أو عرف، فضلا عن الشريعة؟ !. كلا، بل هذا يعتبر من أظلم الظلم، وكيف يتحصل أو يقضى له بشيء لم يشترطه قبل إبرام العقد، ولم يلتزم الطرف الآخر به، ولم يعلم به أصلا؟ !. هذا شيء مناقض للشريعة، ومصادم للنصوص، فإنه صلى الله عليه وسلم يقول: "المسلمون على شروطهم، إلا شرطا أحل حراما، أو حرم حلالا" 1: فهذا الحديث ينص على أنه لا يلزم أحد، إلا بما التزم به هو بنفسه، لا باشتراط غيره عليه، وهو لا يعلم. وقال عمر رضي الله عنه: "مقاطع الحقوق عند الشروط". ثم إن المتعاقدين لو اشترطا فيما بينهما ما يخالف الشريعة أيضا، لم يقرا عليه، وبطل الشرط وحده، أو أبطل العقد من أصله، بحسب ما هو مقرر في كتب أهل العلم، المستمدة من القرآن والسنة، لقوله صلى الله عليه وسلم: "من شرط شرطا ليس في كتاب الله، فهو باطل، وإن كان مائة شرط" 2. وكثير من مواد هذا النظام مخالف لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم مع ما اشتمل عليه من الظلم والتناقض، ومع   1 الترمذي: الأحكام (1352) . 2 البخاري: البيوع (2168) , ومسلم: العتق (1504) , وأبو داود: العتق (3929) , ومالك: العتق والولاء (1519) . الجزء: 16 ¦ الصفحة: 253 أن المتعاقدين لم يتفقا عليه، ولم يعلما بمضمونه، ولا ما دل عليه. ثم إنه لو قيل: إن النظام وضعته الحكومة، وهو خاص بأعمالها الحكومية، فهي التي التزمت بهذه الشروط على نفسها لعمالها، لقلنا: هذا ليس صحيحا من وجهين. أحدهما: أن جميع ما فيه من الشروط، سواء كانت للعامل أو عليه، يجب أن تفهم له قبل دخوله في العمل، حتى يفهمها جيدا، بمنطوقها ومفهومها، ليكون على بصيرة من أمره، في كل ما له وما عليه. الثاني: أن لا يتضمن شيئا مما يخالف الشرع؛ فإن تضمن شيئا مما يخالف الشريعة فهو باطل ولو رضي كلا الطرفين. وقد يقال أيضا: إن هذا النظام وضع بين شركة كافرة وبين المسلمين، وغالبه في صالح العامل، والمقصود منه الاستيلاء على أموال هؤلاء الكفار، بأي وسيلة حصلت لنفع المسلمين وتقويتهم. فالجواب: أن هذا من التعليلات، غير مجدية شيئا في جواز تطبيقه، لأمور، منها: أنه ليس كله في صالح العامل، ثم لو فرض ثبوت هذا، فالشرع لا ينظر إلى مصلحة طرف دون الآخر؛ بل كل يرى ما له وما عليه من الحقوق، سواء كان الحق لمسلم أو لكافر، ما لم يكن الكافر حربيا، فليس له أي حق سوى دعوته للإسلام. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 254 ومنها: أن أموال الكفار الذين دخلوا البلاد بأمان من المسلمين، ولم يكونوا حربيين، ولم يحصل منهم ما يخالف التعاليم الصحيحة التي أخذها المسلمون عليهم، لا يجوز الاستيلاء عليها بطريق الغصب، ولا بطريق الحيلة الممنوعة شرعا. فإن الله يقول في حق أهل الكتاب: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [سورة المائدة آية: 49] ، فأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بالحكم بينهم بما تقتضيه الشريعة الإسلامية؛ هذا بين الكفار بعضهم مع بعض، فكيف إذا كان بينهم وبين المسلمين؟ فيكون إذاً من باب أولى. ثم حصل التفريق في هذا النظام بين المسلمين في المواد الجنائية، ولم يرد في الشرع فرق بين المسلمين، إذا كانوا ذكورا أحرارا في الجنايات، سواء في ذلك الصغير والكبير، والغني والفقير، والعالم والجاهل؛ لأنه لا فرق بينهم إلا بالتقوى، والتقوى لا يعلمها إلا الله، ويظهر تفاوت الناس بها في الآخرة، أما في الدنيا فالحكم على الظاهر، فمن ظهر إسلامه عومل معاملة المسلمين كائنا من كان، ماهرا فنيا أو عكسه، فديتهما على السواء. أما ما ذكر في هذا النظام، فهو تحكيم ما أنزل الله الجزء: 16 ¦ الصفحة: 255 به من سلطان، بل هو رد لنصوص القرآن والسنة. هذه ملاحظة عامة. أما الملاحظات التفصيلية الخاصة لكل مادة وفقرة، فهي ما يلي: 1- جاء في هذا النظام، في المادة السادسة، ما نصه: لا يجوز استخدام عمال دون العاشرة من العمر بصفة عامة ويجوز لوزارة المالية لما يأتي ... إلخ. ويلاحظ عليها: أن عدم تجويز استخدام من بهذا السن، لم يرد به الشرع، ولا يجوز لأحد أن يبيح، أو يحرم شيئا بعقله، والله يقول: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} [سورة النحل آية: 116] ، فإذا بلغ الصبي سن التمييز، جاز تصرفه بإذن وليه، بكل شيء، من عمل وبيع أو شراء، إذا كان في مقدوره، وفي حدود طاقته، وعلمت المصلحة وانتفت المفسدة. ثم يلاحظ عليها أيضا: التناقض، حيث جعل هذا النظام الحق لوزارة المالية في رفع هذا السن أو تخفيضه، بناء على ما ترتئيه هذه الوزارة؛ فما الذي منعه على المسلمين ولو رأوا المصلحة؟ وما الذي أباحه لوزارة المالية دون غيرها؟ ! 2- نصت فقرة (ب) من هذه المادة: أنه لا يجوز الجزء: 16 ¦ الصفحة: 256 تشغيل العامل، تشغيلا فعليا أكثر من ثماني ساعات في اليوم ولا شك أن هذا خطأ واضح لما يأتي: أولا: أنه متى استأجره المستأجر يوما، فيجب عليه العمل كل ذلك اليوم، إلا بشرط لفظي أو عرفي، ما عدا أوقات الصلوات الفرائض، وما تدعو إليه الحاجة من أكل وشرب وغيرهما. ثانيا: أن الأعمال تتفاوت، فمنها ما هو شاق، ولا يستطيع العامل أن يعمل ثماني ساعات، ومنها: ما هو سهل، فهو يستطيع العمل يومه وليلته، أكثرها بدون تكليف؛ لأنه لا يستوي العامل الذي يضرب بمرزبته صفائح الحديد، والعامل الذي هو عبارة عن حارس أو بواب، فتحديد العمل بشيء لم يتفقا عليه، ولم يكن مستثنى شرعا، أو عرفا، مع اختلاف تنوع الأعمال، لا يجوز. 3- نصت فقرة (ج) من المادة المذكورة: أنه لا يجوز أن يشتغل العامل أكثر من خمس ساعات متوالية، وهذه كالفقرة السابقة، بل يلزم العمل حسب ما اتفقا عليه، ما لم يكن هناك شرط لفظي أو عرفي أو مستثنى شرعا، كأداء الفرائض، أو حاجة العامل إليه، وكذا لا يجوز تحديد زمن للراحة إلا على حسب الشرط بينهما. 4- جاء في المادة السابعة ما نصه: يجب دفع أجر الجزء: 16 ¦ الصفحة: 257 العامل وكل مبلغ مستحق له في البلاد العربية السعودية، بالعملة السعودية، ويحصل الدفع للعامل نفسه ولو كان قاصرا، ما لم يكن ولي القاصر محتاجا لكده ... إلخ. والجواب عن ذلك: أنه لا يلزم ما ذكر في هذه الفقرة، بل الواجب على المؤجر أن يدفع للعامل ما اتفقا عليه من نوع الأجرة، سواء كانت نقودا، أو عروضا، أو منفعة، لكن لو أجره بعدد من العملة، ولم تختص تلك العملة بعينها وقت العقد، فينصرف ذلك إلى العملة السعودية، لاقتضاء العرف لذلك، فينْزل منْزلة الشرط اللفظي. وقوله في هذه الفقرة: وكل مبلغ مستحق له، أي: للعامل في البلاد العربية السعودية يكون الدفع بالعملة السعودية. أي: لو كان للعامل على آخر دين أو قرض بعملة أخرى، كذهب أو فضة، أو استرليني، يتعين الدفع له بالعملة السعودية، وهذا باطل، بل يندفع إليه نوع العملة التي له على غريمه أيا كانت، ولا يجبر على أخذ ما عداها، إلا برضاه، ما لم يفض إلى الربا. ومما يلاحظ على هذه المادة أيضا: أنها نصت على أنه يلزم دفع الأجرة للقاصر، ما لم يكن وليه محتاجا لكده، وهذا أيضا لا يجوز؛ فإن القاصر محجور عليه، ولا يجوز أن يسلم ماله إلا بيد وليه، سواء كان محتاجا إليه أو غير محتاج. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 258 ولو أتلف القاصر ما دفع إليه من المال، لاعتبر الدافع له ضامنا، لأنها لا تبرأ ذمته إلا بتسليمه لوليه، لأن الله خاطب الأولياء الدفع إليهم عند بلوغهم، إذا آنسوا منهم الرشد. فقال تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [سورة النساء آية: 6] وهذه الآية الكريمة، صريحة في أنه لا يجوز أن يدفع إليه ماله، إلا إذا علم رشده. 5- جاء في فقرة (ج) من المادة السابعة، ما نصه: إذا كان العمل يؤدى بالقطعة، ويحتاج لمدة تزيد على أسبوعين فيجب أن يحصل العامل على دفعة كل أسبوع، تتناسب مع ما أتم من العمل، ويصرف الباقي كله خلال الأسبوع التالي لتسليم العمل ... إلخ. وهذا شيء لا يجب على المؤجر، وإيجابه لم يستند على شيء من نصوص الشريعة، بل هو بعيد عنها، والواجب: أن العامل متى كان عمله على شيء معين، لا يستحق تسليم شيء من الأجرة حتى ينهي ما انبرم عليه العقد بينهما، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه" 1 وهذا كناية عن وجوب تسليمه حقه فور انتهائه، أما قبل الانتهاء، فلا يلزم إلا بشرط، أو تبرع من المؤجر.   1 ابن ماجه: الأحكام (2443) . الجزء: 16 ¦ الصفحة: 259 وجاء أيضا في الفقرة نفسها: أنه إذا انتهت خدمة العمل وجب دفع أجره فورا، إلا إذا كان خروجه من تلقاء نفسه، فيجوز دفع أجره في خلال سبعة أيام، وهذا تفريق بلا فارق، وتحكم بلا دليل. فإن الواجب شرعا أن العامل متى أكمل عمله المتفق عليه من قبله، وقبل المؤجر، وجب على المؤجر الدفع فورا، سواء خرج العامل من تلقاء نفسه، أو برغبة من المؤجر، للحديث السابق: "أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه" 1 ولم يفرق صلى الله عليه وسلم بين الحالتين، فوجب اتباع الحديث، وطرح ما سواه. 6- جاء في المادة الثامنة: إذا تسبب عامل في فقد، أو إتلاف مهمات، أو منتجات مما يملكه الآجر ويكون في عهدته بسبب رعونته، أو عدم احتياطه، أو إهماله، أو تفريطه، كان للآجر أن يقتطع المبلغ اللازم للإصلاح من أجر العامل، بشرط أن لا يزيد ما يقتطع لهذا الغرض، على أجر خمسة أيام في الشهر الواحد، على شرط أن يكون كل ذلك في حالة عجز العامل عن إثبات أن ما وقع كان نتيجة قضاء وقدر. ويلاحظ على هذه المادة عدة أمور، منها: قوله يقتطع المبلغ اللازم من العامل للآجر بشرط أن لا يزيد ما يقتطع على أجرة خمسة أيام في الشهر الواحد، وهذا   1 ابن ماجه: الأحكام (2443) . الجزء: 16 ¦ الصفحة: 260 الشرط فاسد، لا أصل له، فإن الواجب دفع المبلغ المستحق، كاملا فور ثبوته، إلا برضى منهما، أو في حالة إعسار المكلف بالدفع، كسائر الحقوق الثابتة في الذمم، فيكلف الملي بدفعها، وينظر المعسر حتى القدرة على الوفاء. ومنها قوله: على شرط أن يكون ذلك في حالة عجز العامل عن إثبات أن ما وقع كان نتيجة قضاء وقدر. وهذا والله موضع عجب، أيظن الكاتب: أن هناك أشياء تقع لا لنتيجة قضاء وقدر؟ ! بل تكون خارجة عن القضاء والقدر، وأن الرب لم يقدر وقوعها، ولم يقض بوجودها، وأنها خارجة عن مشيئته؟ ! وهذا مذهب باطل، أطبقت الصحابة والتابعون، وسائر أئمة الإسلام، على ذم هذا القول وبدعيته، وتضليل قائله. وأنه لم يؤمن بقوله: {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [سورة البقرة آية: 284] ، وقوله: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [سورة القمر آية: 49] سبحانه وتعالى أن يقع شيء لم يقدره الله ولم يقضه. بل ظن هذا الجاهل، أو المنحرف عن العقيدة الصحيحة أن الذي يقع بسبب من أحد خارج عن القضاء والقدر، وهذا مخالف للكتاب والسنة، وإجماع سلف الأمة، ومكذب لقوله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [سورة القمر آية: 49] . الجزء: 16 ¦ الصفحة: 261 ومنها: أن العامل ليس عليه الإثبات بأن ما حصل لم يكن بسببه، بل الإثبات على المؤجر وغيره، ممن له الحق أن العامل هو الذي فرط، أو تسبب، لأن الأصل براءة الذمم، حتى تقوم البينة بإثبات الحق أن هذا عن نتيجة إهمال العامل، أو تفريطه، لقوله صلى الله عليه وسلم: "البينة على المدعي، واليمين على من أنكر" 1. 7- جاء في المادة التاسعة: لا يجوز للآجر أن يقتطع من العامل أكثر من عشر أجره الشهري، لسداد ما يكون أقرضه إياه، وهذا خطأ بين؛ فإن الواجب على العامل دفع ما عليه من القرض، متى طلبه صاحبه، والمؤجر وغيره سواء، ما لم يكن من عليه الحق معسرا; أما لو فضل شيء من أجرة العامل عما يحتاجه، تعين عليه دفعه لغريمه. وهذه المادة نصت في الحكم على القرض خاصة، ومفهومه: أن غير القرض من الحقوق كثمن مبيع، وقيمة متلف ونحوهما ليس كالقرض، وهذا تفريق باطل، بل كل الحقوق على السواء. وهكذا سبيل النظم والقوانين الوضعية، لا بد لها من التناقض والتباين، صدق الله العظيم: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} [سورة النساء آية: 82] . 8- نصت المادة العاشرة، في الفقرة الأولى منها:   1 الترمذي: الأحكام (1341) . الجزء: 16 ¦ الصفحة: 262 أن الآجر يعيد العامل على نفقته إلى الجهة التي أبرم فيها العقد أو أخذ ورحل منها، إذا طلب العامل ذلك، في خلال خمسة عشر يوما من تأريخ انتهاء العقد إلى آخره. وهذا شيء ليس بلازم شرعا، إلا باشتراطه عند العقد، أو كان معروفا عند أهل تلك الجهة، بحيث أن المؤجر يعرف ذلك، وعالم به وبتكاليف رد العامل إلى المكان الذي أبرم فيه العقد، سلامة من الجهالة المفسدة لعقد الإجارة، والتحديد بخمسة عشر يوما، تحكم بلا دليل. 9- ذكر في الفقرة الرابعة من المادة العاشرة: أنه يجوز للآجر بصفة استثنائية، أو مؤقتة إذا دعت ضرورة ملحة، بسبب القوة القاهرة، أو وقوع حادث مفاجئ، أو إصلاح عاجل لا يتحمل التأخير، عدم التقيد بأحكام الفقرة الثالثة. وهي: أنه لا يجوز للآجر أن يكلف العامل عملا غير ما اتفق عليه أعلاه، وبالشروط الآتية: أن لا تزيد مدة العمل عن إحدى عشرة ساعة في اليوم، وأن لا يشتغل العامل أكثر من ست ساعات متواليات، وعلى أن يصرف للعامل عن ساعة إضافية مبلغ يوازي الأجر العادي الذي يستحقه في الساعة، مضافا إليه خمسة وعشرون في المائة على الأقل. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 263 ويلاحظ: أن هذا الاستثناء غير معتبر شرعا، بل لا حق للآجر أن يلزم العامل بعمل لم يتفقا عليه، سواء كان بزيادة في الزمن المتفق عليه للعمل به، أو بنقله إلى عمل آخر ليس من جنس العمل الذي اتفقا عليه، وعلى أجرته الخاصة. لقوله صلى الله عليه وسلم: "المسلمون على شروطهم" 1، اللهم إلا إذا كان ترك العمل المفاجئ يؤدي إلى إصابة في الأنفس، أو ضرر في أبدان المعصومين، كالغرق والحرق والهدم ونحوها، فهذا يجب على العامل وجوبا استقلاليا، بدون أمر من الآجر. وهو ليس خاصا بالعامل وحده، بل يجب على كل من علم ذلك الخطر من المسلمين، وهو قادر على تخليصه. كما أن التحديد للعمل بإحدى عشرة ساعة، وأنه لا يعمل أكثر من ست ساعات متواليات، وأنه يصرف للعامل عن ساعة إضافية مثل ما صرف له في عمله المعتاد عن كل ساعة، مضافا إليه زيادة ربع على الأقل عما يستحقه: كل هذه أمور باطلة، لا أصل لها في الشريعة الإسلامية، بل يكون على حسب ما اتفق عليه المؤجر، والمستأجر، فلا يلزم أحد بما لم يلتزم به ويرضاه، إذ إن من شروط الإجارة معرفة العمل، ومعرفة مقدار الأجرة،   1 الترمذي: الأحكام (1352) . الجزء: 16 ¦ الصفحة: 264 ومقدار الزمن الذي يعمل فيه، فيكف يلزم العامل أو الآجر بما لم يعلم به أصلا، ولم يلتزم به؟ !. 10- جاء في الفقرة السادسة من المادة العاشرة: أن الآجر يسهل للعمال الذين يعملون في أماكن بعيدة عن العمران المساكن الملائمة، وهذا أيضا ليس بلازم بدون شرط، أما إذا شرط في العقد، أو كان ذلك عرفا مطردا عند أهل تلك الجهة، فيكون لازما؛ لكن يشترط فيه معرفة المسكن، ونوعه في البناء، وسعته، وعدد حجره، وكل وصفه تختلف فيه الأجرة. وأما وصفه بكونه ملائما، فهذا وصف غير منضبط، فقد يكون العامل لا يلائمه إلا بيت من المسلح، يحتوي على شيء كثير من المزايا، وقد يكون العامل ممن يكتفي بأكواخ، وصنادق وخيام ونحوها، فينتج عن ذلك اختلاف بين المؤجر والعامل، فلذا يجب الاحتياط عند العقد، تفاديا للخلاف وحصول الضرر الناتجين عن جهالة المسكن ونوعه، وما يشترط لمعرفته من الشروط التي يصح معها عقد الإجارة. 11- جاء في المادة الحادية عشر، ما نصه: إذا كان العقد مبرما لمدة محدودة، وانتهت المدة المحدودة، دون أن تنقطع خدمة العامل لدى الآجر اعتبر العقد ممددا لمدة غير محدودة. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 265 ويلاحظ عليها: أن هذا الاعتبار، غير معتبر شرعا، بل متى انتهت المدة التي تم العقد عليها، فلا يبقى بينهما عقد آخر، إلا باتفاق جديد بينهما، هذا إذا آجره لمدة شهر فقط، أو أسبوع، أو يوم ونحوها. أما إذا قال: كل يوم تعمله عندي بكذا، أو كل شهر ونحوه، فإن العامل متى تلبسه بعمل اليوم، أو الشهر مثلا، يلزمه إتمامه، بمقدار الأجرة المخصصة لذلك العمل. وأما بدون ذلك، كأن استأجره لمدة شهر، ولم يقل كل شهر تعمله بكذا، فهذا لو تلبس بالعمل بدون اتفاق بينه وبين المؤجر، والمؤجر لم يكفه عن العمل، فإن ما عمله بهذه المدة، لا يستحق عليه الأجر المسمى، ولكن يستحق أجرة مثله، سواء زادت عن أجرة المتفق عليه بينهما أو نقصت، لأنه لم يحصل بينهما عقد شرعي، فيلزم كل منهما به. 12- جاء في المادة الثانية عشر ما نصه: إذا كانت مدة العقد غير محدودة، كان لكل من الطرفين الحق في فسخه، وإعلان الطرف الآخر بذلك على أن يكون ذلك الإعلان سابقا للفسخ بالمدة الآتية: 1- بالنسبة لعمال اليومية، يكون الإعلان سابقا للفسخ لمدة ثلاثة أيام 2- بالنسبة للعمال ذوي الأجور الجزء: 16 ¦ الصفحة: 266 الأسبوعية، يكون الإعلان سابقا للفسخ بمدة أسبوع ; بالنسبة للعمال المعينين بأجور شهرية، يكون الإعلان سابقا للفسخ بمدة ثلاثين يوما. وفي حالة مخالفة المدة المشار إليها، يلتزم الطرف الذي فسخ العقد بأن يدفع للطرف الآخر تعويضا مساويا لأجر العامل عن مدة المهلة، أو الجزء الباقي منها، ويتخذها أساسا لتقدير التعويض متوسط ما تناوله العامل إلى الثلاثة الأشهر الأخيرة من أجر ثابت ومرتبات إضافية. ويلاحظ على هذه المادة، وما تضمنته من فقرات عدة ملاحظات: 13- جاء في أول المادة قوله: وإعلام الطرف الآخر بذلك، على أن يكون الإعلان سابقا للفسخ بالمدة الآتية. وهذا الشرط ليس لازما، وما على لزومه أثرة من علم؛ بل هذا تحكم وإلزام بغير ما ألزم به الشرع. وليس للمؤجر حد على العامل أن يخبره، إلا وقت تركه العمل، فيما إذا كان العقد غير محدد، إلا إذا كان المؤجر شرط ذلك على العامل، فالشرط أملك. وأيضا: لا بد في الشرط من تعيين المدة من قبلهما، بحسب ما يتفقان عليه سواء زادت عن المدة المحددة في هذا النظام، أو نقصت؛ فإذا كان المؤجر قد يتضرر بترك العامل العمل بدون إشعاره، فالذي ينبغي له أن يحتاط الجزء: 16 ¦ الصفحة: 267 لنفسه، ويشترط في ابتداء العقد، تعيين المدة اللازمة لإعلامه. وفي غير هذا فالعامل لا يكلف بشيء لم يلتزم به، ولم يلزمه به الشرع، بل بمجرد التحكم والخرص. وكذلك أيضا ليس للعامل حق على المؤجر، أن يعلن له ذلك الإعلان، إلا وقت إتمامه المدة التي حصل الاتفاق عليها منهما، وهل يلزم المؤجر عندما يريد أن يعمل عملا لا يحتمل أكثر من يوم واحد، أن يعمل ثلاثة أيام معه، بناء على أنه لم يشعر العامل بذلك، أو يدفع له أجرة عمل ثلاثة أيام بدون مقابل؟ وهل ورد في الشرع نظير ذلك؟ أم هو مجرد ظن وخرص وزعم منهم أن هذا يكفل مصلحة الجميع؟ ! وهذا عين الضرر عليهم معا، ولو وقع شيء منه على واضع هذا النظام وألزم به لعلم فساده بنفسه. 14- جاء في الفقرة من المادة نفسها قوله: بالنسبة لعمال اليومية، يكون الإعلان سابقا للفسخ لمدة ثلاثة أيام. سبحان الله! ما هذا التفريق بين العامل ذي اليوم وذي الأسبوع، وذي الشهر؟ ! وما هذا التحديد والإلزام الذي لم يشم رائحة العدل؟ متى وجد في الشرع نظيره، ومن قال به من العلماء؟ وأي مناسبة لثلاثة الأيام، مع اليوم الواحد، الذي استؤجر به العامل؟ ! الجزء: 16 ¦ الصفحة: 268 كيف يستأجر ليوم واحد، ويلزم بثلاثة أيام تبعا لهذا اليوم، فإن ذلك من لازم هذه المادة؟ وهذا التحكيم ينتج عنه: أن من أجر نفسه يوما واحدا، لا يجوز له أن يترك العمل من تلقاء نفسه، إلا بعد ثلاثة أيام، وإلا فيغرم ثلاثة أضعاف أجرة ذلك اليوم الذي تحصل عليها. تأبى الشريعة أن تأتي بمثل هذه التحكمات البعيدة عن العدل، أو تقرها؛ بل تنهى عن مثل ذلك أشد النهي. 15- جاء في فقرة من المادة نفسها، بالنسبة للعمال ذوي الأجور الأسبوعية يكون الإعلان سابقا للفسخ لمدة أسبوع ا?. وهذه الفقرة فيها من الملاحظة كما في الفقرة قبلها، ويلزم على قولهم هذا: أن العامل عندما يعقد لمدة أسبوع ليرى العمل ومناسبته له، يلزمه أحد أمرين: أما أن يعمل أسبوعا آخر من غير رضاه، وإما أن يخسر أجرة أسبوعه الذي عمله أجمع؛ وهذا غاية الجور والظلم والضرر عليه. وكذلك نفس الشيء يعود على المؤجر، هل إذا احتاج لعمل لا يدري ما يكفيه من المدة، واستأجر عمالا ليعملوا عنده أسبوعا واحدا، ثم تطلب العمل زيادة يوم أو يومين، هل يلزم أن يدفع لهم بقية الأسبوع؟ نعم على مقتضى هذه المادة، أليس هذا أكلا للمال بالباطل؟ 16- يلاحظ: على ما تضمنته فقرة (3) مع نفس الجزء: 16 ¦ الصفحة: 269 الشيء السابق في الفقرتين قبلها، وهل يلزم العامل بالعمل ثلاثين يوما بغير رضاه، ومن دون شرط، أو اتفقا بينهما، إذا لم يمكن الفسخ للمؤجر في المدة المعينة، وإلا فيغرم العامل جميع ما تحصل عليه من الأجرة في ذلك الشهر؟! وعلى أي أساس بنيت هذه الغرامات التي ما أنزل الله بها من سلطان؟ ! وهل هي في مقابل عمل أو نفع؟ ! ثم إن هذه الغرامات لم تأت على أساس من الدين، ولا من العقل، ولا من العرف، وذلك أن العامل إذ ترك العمل، وتسبب لضرر أو نقص على المؤجر، فإن الضرر اللاحق بالمؤجر، قد يكون سهلا جزئيا، وقد يكون ضرره جسيما، وقد لا يلحقه أي ضرر. فلم لم يقل: إن العامل يلزمه غرامة بقدر ما حصل من النقص بسببه؟ لأنه قد يقصد إدخال الضرر على المؤجر، فيتلف عليه شيء كبير، أو تفوته مصلحة كبرى لا يوازيها أجرة عمله مدة طويلة. وقد لا يحصل بسبب ذلك شيء من النقص، لا قليل ولا كثير، فهل تستوي هاتان الحالتان، وهذا النظام جعلها على السواء؟! ولا شك أن هذا الإلزام هو عين الظلم على كل من الطرفين، مع ما فيه من التناقض الواضح؛ فلا يلزم واحد منهما الإعلان على حسب ما جاء في هذه الفقرات، الجزء: 16 ¦ الصفحة: 270 ولا يلزم دفع هذه الغرامة المذكورة فيه أيضا، وعلى أي أساس بنيت هذه الغرامة التي تنافي المصلحة العامة لكل من الطرفين، وهذا حكم مخالف لقواعد الشريعة السمحاء. 17- يلاحظ ظهور التناقض لهذه الفقرات، حيث جعل للشهر ثلاثين يوما، وللأسبوع مثله، ولليوم ثلاثة أيام، أي ثلاثة أضعاف اليوم؟ لم لم يجعل لليوم يوما واحدا، نظيرا للشهر، والأسبوع، لو قدر صحة ذلك؟ !. صدق الله العظيم: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} [سورة النساء آية: 82] . أما إذا كان العمل مستمرا، وتلبس به العامل، بأن استمر في اليوم الثاني، والأسبوع، والشهر، بعد انقضاء المدة المتفق عليها بينهما، ولم يحصل من جانب المؤجر إعلام بالفسخ له، حال التلبس بالعمل أو قبله، وكان دخول العامل على أنه يعمل كل يوم، أو كل أسبوع، أو كل شهر بكذا. فهذا يعتبر كعقد جديد، يلزم كلا من الطرفين إتمامه، وله من الأجرة مثل ما سبق؛ هذا قول لبعض العلماء، وطائفة منهم لا يرون صحة مثل هذا، بل يعتبرونه عقدا فاسدا، لا تلزم فيه الأخرة المعينة في العقد الأول، ولكن يستحق أجرة مثله، سواء زادت أو نقصت من المسمى. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 271 18- جاء في المادة (13) إذا كان الفسخ من جانب الآجر، وجب أن يدفع للعامل مكافأة عن مدة خدمته ... إلى آخر الفقرتين منها. ويلاحظ على هذه المادة ملاحظات، قوله: إذا كان الفسخ من جانب الآجر، فمفهومه، أن للآجر الفسخ، وقد سبق في مادة (12) أنه ليس لأحدهما الفسخ، إلا بعد إعلان الطرف الآخر، بالمدة الموضحة هناك، وإلا فيلزمه الغرامة المذكورة أيضا، وهنا ذكر: أن له الفسخ ولم يذكر سابق إعلان، فهذه تناقض تلك. 19- إن المفهوم من كلمة "فسخ" أن يفسخ عقدا مبرما، قبل تمام أجله، لأنه بعد تمامه لا يسمى فسخا، وهذا غير صحيح، لأنه ليس لأحدهما فسخ العقد إلا بعد تمام المدة، سواء في ذلك المؤجر، أو العامل؟ وإن كان المراد من ذلك عدم تجديد عقد آخر، فلا مانع من ذلك لكل من الطرفين، ولا يلحق المؤجر شيء من التعويضات عن ذلك إلا تبرعا منه بغير إلزام. 20- ما ذكر في فقرة (1) من هذه المادة، بالنسبة للعمال باليومية، والعمال ذوي الأجور الأسبوعية، والعمال الذين تحدد أجورهم بالقطعة أجر خمسة عشر يوما، يعني مكافأة ... إلى آخر الفقرة. ونقول: إن إلزام الأجر بذلك غير سائغ شرعا، ولا الجزء: 16 ¦ الصفحة: 272 يجوز هذا الإلزام، فإنه ظلم للمؤجر، وأخذ للمال بالباطل، وظلم للعامل، وإعانة له على الظلم. إلا إذا كان هذا عن شرط بينهما، ودخل المؤجر على بصيرة منه، أو كان ملتزما به لكل عامل عنده، وعرف ذلك منه عند معامليه. 21- جاء في الفقرة (2) من المادة نفسها، وهي قوله: إلا إذا بلغت الخدمة مدة عشرين سنة، فيمكن أن تصل المكافأة إلى ما يعادل أجر سنة ونصف على الأكثر. ا?. والمفهوم من كلمة يمكن، أن هذا شيء قد يحصل للعامل، وقد لا يحصل، فهل هو حق ثابت له فيطالب به، أو لا؟ وهل هذا الإمكان سيتقرر من العامل، أو من جهة المؤجر، أو من جهة أخرى؟! ثم إنه أيضا لم يقف على حد بين، بل قال: على الأكثر، وهذا فيه إبهام، فالعامل مثلا يطالب بالأكثر، والمؤجر يمتنع من ذلك. فإذا كان هذا راجع للمؤجر، ولا حق للعامل في تحديد ما يدفع له، فلم منع من الزيادة على أجر سنة ونصف، إذا كان تبرعا منه؟ فإنه لا حجر على أحد في التبرع من ماله بشيء، إلا إن كان سفيها، أو محجورا عليه. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 273 فهذا شيء لا بد أن يوقع في الخلاف، والشريعة تنهى عن كل ما يكون سببا للخلاف بين المسلمين; والحق أن هذه المكافأة لا يجوز إلزام الآجر بها ما لم يكن شرطا بينهما كما سبق موضحا. 22- ذكر في المادة الرابعة عشر: أنه ينتهي العقد بوفاة العامل، أو عجزه عن تأدية العمل عجزا كاملا، بعد إثبات ذلك بشهادة طبية أو مرضية، مرضا أدى إلى انقطاعه عن العمل، مدة لا تقل عن شهرين متتاليين، أو مدة تزيد في جملتها عن الثلاثة شهور، في خلال سنة واحدة ... إلى آخر المادة، ويلاحظ عليها عدة أشياء. 23- إن قوله: لا يجوز الفسخ من المؤجر إلا بعد انقطاعه عن العمل مدة لا تقل عن شهرين متتاليين، وهذا التوقيت لم يستند إلى شيء من الشرع، ولا يجوز الحجر على المؤجر، وإلزامه بانتظار العامل هذه المدة الطويلة. بل متى انقطع العامل عن العمل لمرضه، ولو يوما واحدا، لزمه أحد أمرين: إما الفسخ برضى منهما، وإما أن يقيم العامل من يعمل مكانه حتى يبرأ، أو تتم المدة المعقود عليها، إذا لم تشترط مباشرة العامل لذلك العمل. وليس للعامل البقاء على العقد بدون عمل منه، إلى مضي شهرين، فإن هذا التحديد لا أصل له في الشريعة الإسلامية، كما أن المؤجر ليس له الفسخ إذا أقام العامل الجزء: 16 ¦ الصفحة: 274 من يقوم بعمله، ما لم تشترط مباشرة العامل للعمل، ولو تجاوزت المدة الشهرين أو أكثر، ما دام العقد باقيا لم يتم. 24- حصرهم اعتماد ذلك على الشهادة الطبية أو المرضية، وعدم الالتفات إلى ما سواهما، فلو أقعده المرض، أو أعجزه عن القيام بعمله قبل أن يأخذ شهادة مرضية، يعتبر متلاعبا، وكأن الإثباتات الشرعية منحصرة في تلك الشهادة المذكورة. فلو شهد رجلان مسلمان من أهل الخبرة والأمانة، بما قام بهذا العامل من العذر، لا يعبأ بهذه الشهادة ما لم تكن من طبيب، وهذا بعينه هو الظلم الذي تنهى عنه الشريعة الإسلامية؛ فإن طرق الإثباتات في الشريعة كثيرة، لا تنحصر فيما حصره هذا النظام، ويتفرع على هذا مسائل كثيرة، لا نطيل بذكرها، فالله المستعان. 25- قوله: ويلزم في حال انتهاء العقد بالكيفية المبينة آنفا، بأن يدفع المكافأة المبينة بالمادة (13) ، وقد سبق بيان مثل هذه; وهو: أن المكافأة ليست لازمة شرعا، ما لم تشترط حال العقد، وتكون معلومة بينهما، فلا يجوز إلزام المؤجر بما لم يلتزمه، ولم يشرط عليه في العقد، والله أعلم. 26- جاء في الفقرة الثالثة من المادة (15) على كل الجزء: 16 ¦ الصفحة: 275 آجر يستخدم خمسين عاملا فأكثر أن يضع نظاما للإسعاف في المصنع، أو محل العمل، مع تخصيص طبيب لعيادة العمال، وعلاجهم مجانا، وإعداد وسائل الصرف للعلاج والأدوية بدون مقابل، سواء في ذلك وقت العمل أو غيره. ويلاحظ عليها: أن هذا الإلزام غير لازم شرعا؛ لأنه لا يمكن ضبطه؛ فالعامل قد يحتاج إليه، وقد لا يحتاج إليه؛ والمرض قد يستغرق علاجه مدة طويلة من الزمن، وكمية كثيرة من الأدوية والمصاريف، وقد يكون علاجه بسيطا في زمنه ومصاريفه. فهذه جهالة شديدة، والشريعة الإسلامية قواعدها تنهى عن كل عقد يكون فيه جهالة أو غرر، وهذا يعتبر كجزء من الأجرة المعلومة، وهذا الجزء المجهول يصير الأجرة كلها مجهولة، فيفسد العقد إذا. 27- جاء في فقرة (4) من نفس المادة (15) : إن على كل آجر يستخدم خمسين فأكثر: أن يضع نظاما للتوفير والادخار. ويلاحظ على هذه الفقرة عدة أمور وهي: أن المؤجر لا يلزمه شيء لم يلتزم به في ابتداء العقد، كما سبق بيانه أكثر من مرة. 28- إن نظام التوفير فيه عدة محاذير، منها: أن ربحه معروف مضمون مقدر بنسبة في مقابل التصرف بهذا المال المعين، وهو الربا الصريح الذي جاء الوعيد فيه الجزء: 16 ¦ الصفحة: 276 بقوله تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} [سورة البقرة آية: 275] ، وهذا بعينه هو ربا الجاهلية، وهو ربا النسيئة الذي هو أشد أنواع الربا تحريما؛ وقد ذكره الله بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} [سورة البقرة آية: 279-278] . فإن قصد بهذا الادخار غير معناه المفهوم، وهو حفظه كأمانة تبقى في صندوق التوفير، متى طلبها صاحبها دفعت إليه، كسائر الأمانات، فهذا لا بأس به؛ غير أن العامل يكون مخيرا في ذلك، إن شاء أمن ما لديه أو بعضه لدى صندوق التوفير أو غيره، وإن شاء غير ذلك، فالأمر إليه، لأنه جائز التصرف في ماله بما يرى فيه مصلحته، ما لم يفض إلى الربا. 29- لا يلزم المؤجر أن يضع لهم هذا النظام، وإلزامه بذلك يعتبر ظلما، ومخلا بالعقد، زيادة على ما فيه من المحذور السابق. 30- ما ذكر في الفقرة نفسها، في حالة استخدام ما دون الخمسين عاملا، يجب أن يكون في كل مشروع صناعي صندوق للإسعافات الطبية، وهذا الواجب، غير الجزء: 16 ¦ الصفحة: 277 واجب شرعا؛ ولا يجوز أن يلزم المؤجر به، ما لم يكن شرطا بينهما، أو ملتزما به المؤجر من قبل نفسه؛ مع أنه لا بد أن يكون معلوما مقدار ما التزم به من كل نوع مما يلزم لذلك. 31- جاء في الفقرة (5) من المادة (16) أن للآجر أن يفسخ العقد إذا تغيب العامل دون سبب مشروع، أكثر من خمسة عشر يوما في خلال السنة الواحدة، أو أكثر من سبعة أيام متوالية. ويلاحظ عليها: أن هذا التحديد، لم يعتمد على شيء من قواعد الشريعة الإسلامية، بل هو تحكم لا يسوغ مثله؛ فالمؤجر له الحق في الفسخ، متى ترك العامل العمل، إلا إذا أقام العامل مكانه من يعمل مثله، أو أقامه الحاكم إذا لم يشترط فيه مباشرة العامل للعمل. وإذا لم يحصل شيء من ذلك، فإن للمؤجر الفسخ في الحال عندما يتغيب العامل. 32- جاء في الفقرة الثامنة من المادة (16) أن للآجر أن يفسخ العقد، إذا ثبت أن العامل قد ارتكب عملا مخلا بالشرف، أو الأخلاق أو الآداب. ا?. ويلاحظ: أن هذه الأشياء، لا تكون مسوغة للفسخ، لأن المؤجر إنما استأجر العامل لعمل مخصوص، ولا حق له أن يتدخل فيما هو خارج عن العمل المستأجر العامل لأجله، اللهم إلا إذا كان العامل قد أخل بشيء يعود بضرر الجزء: 16 ¦ الصفحة: 278 على المؤجر، بحيث يصير مانعا من موانع العمل، أو تكميله، أو غير ذلك من الضرر. ثم إنه يلاحظ: على هذه الفقرة، أنه ذكر فيها الإخلال بالشرف والأخلاق والآداب، ولم يذكر فيها الإخلال بالدين، وكأن الواضع لها، لا يرى أن الإخلال بالدين نقص، مع أن الإخلال به يكون موجبا للفسخ، إذا ارتكب ما يوجبه. والفاسق غير مؤتمن، فربما يخون في عمله، كما خان في دينه، وربما كان جواز الفسخ في مثل هذا له وجه. فمن العجب أن تكون تلك الأشياء مخلة، وارتكاب ما يخل بالدين ليس مخلا!!!. 33- جاء في الفقرة التاسعة، من المادة (16) أن للآجر الفسخ إذا وقع من العامل اعتداء على الآجر، أو على أحد رؤسائه في العمل أو بسببه. ويلاحظ: على هذه الفقرة أشياء، منها: أن ما ذكر فيها ليس مسوغا لجواز الفسخ للإجارة، بل العقد باق على ما كان عليه، وللمؤجر أن يطالب بحقه الخاص، أو لمن هو متول عليه. وأما ما كان لغيره من رؤساء العمل، أو غيرهم، فإذا اعتدى عليهم أحد من العمال، فكل يطالب بحقه، ولا دخل للمؤجر، إلا بما يخصه بنفسه، إلا بوكالة شرعية ممن له الحق. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 279 34- خصص في هذه المادة الاعتداء على الرئيس، أو الآجر، فإذا ما الحكم إذا كان الاعتداء على غير الرئيس في العمل؟ ! وما الفرق بين الرئيس والمرؤوس في حفظ حقوقهم وكرامتهم وحمايتهم، إن كان هذا يعتبر حماية لهم؟ ! 35- جاء في الفقرة الأولى من المادة (17) : أنه يجوز للعامل أن يترك العمل قبل نهايته إذا كان الآجر، أو من يمثله قد أدخل الغش عليه وقت التعاقد، فيما يتعلق بشروط العمل، بشرط أن يتمسك بهذا السبب، قبل مضي شهر من تأريخ دخوله في العمل. والواقع أن هذا التحديد غير مبني على أصل شرعي، فهو تحديد باطل، بل يثبت الخيار وقت علمه بالغش، سواء مضى لذلك شهرٌ أو أكثر، غير أنه متى علم العامل بالغش ثم استمر على العمل بعد علمه به، فإنه ليس له الخيار، سواء كان ذلك بمدة طويلة أو قصيرة، لأن استمراره في العمل يدل على الرضى منه بذلك. 36- جاء في الفقرة الثانية من المادة (17) أن للعامل أن يترك العمل إذا لم يقم الآجر بالتزاماته طبقا لأحكام هذا النظام ... ا?. وبما أن هذا النظام غالب مواده وشروطه ليست موافقة للشريعة الإسلامية، بل كثير منها قد نصت الشريعة الجزء: 16 ¦ الصفحة: 280 على إبطاله، فلا ينبغي أن الآجر يلتزم به، فضلا عن أن يكون للعامل الفسخ بعد التزاماته؛ بل لو التزم به كله، بما فيه المخالف للشريعة، لكان العقد باطلا من أصله. وإنه لمن العجب أن يحتاط لهذا النظام كل هذا الاحتياط، مراعاة لأحكامه، فلو كان ذلك بالنسبة لأحكام الشريعة لكان هو الأولى، بل هو الأوجب، فالله المستعان. 37- جاء في الفقرة الرابعة من المادة (17) : أن للعامل أن يترك العمل، إذا وقع من الآجر اعتداء عليه أو على أحد من أفراد أسرته، ا?. وقد سبق الكلام على نظيرة هذه المسألة في الملاحظة (33) ، والواقع أن هذه المادة ونظيرتها تعتبران مفتاح خلاف وخيانة، فإنه متى سئم العامل من العمل، أو المؤجر من العامل، تعرض وتسبب لمنازعة الطرف الآخر، لعله يحدث منه أي اعتداء، وإن قل، ليحصل له فسخ العقد المبرم بينهما. 38- جاء في الفقرة الخامسة، من المادة (17) إلزام الآجر بدفع مكافأة مالية للعامل، إذا ترك العمل للأسباب المبينة في فقرة (أ) و (ب) و (ج) و (د) والكلام على هذه المادة وفقراتها قد سبق مفصلا في الملاحظة رقم (20) و (21) وبينا هناك وجه بطلانه، فليرجع إليه. 39- جاء في المادة (18) : على صاحب العمل أن الجزء: 16 ¦ الصفحة: 281 يدفع للعامل الذي يثبت مرضه أثناء العمل نصف أجر أيام مدة انقطاعه عن العمل لهذا السبب وحده، دون أن يكون ناشئا عن إصابة وقعت أثناء العمل، بشرط أن لا تزيد المدة التي يدفع عنها نصف الأجر المذكور عن شهر في السنة، ا?. ويلاحظ على هذه المادة ملاحظات، منها: أن إلزام المؤجر بدفع هذا المبلغ غير سائغ، بل هو ظلم، وتعد عليه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام" 1؛ وأكل العامل لهذا المال، من مال المؤجر، من أكل المال بالباطل، حيث لم يرض مالكه بدفعه إليه عن طيب نفس، لأنه ليس في مقابلة عمل، وحرمة مال المسلم كحرمة دمه. 40- ومنها: التحديد بنصف الأجرة، وفي مدة لا تزيد على شهر في السنة، هذا كالذي قبله، لم يستند على نص من كتاب ولا سنة، ولا قول صحابي، ولا تابعي، ولا أحد من أهل العلم. والشريعة الإسلامية احترمت أموال المسلمين، وبينت ما يجوز الأخذ منها، وما لا يجوز، وفيها مقنع وكفاية لطالب الحق، فنعوذ بالله من مخالفتها. 41- التفريق بين ما إذا كان ناشئا عن أسباب أثناء العمل، أو كان غير ذلك، وهذا التفريق لا أصل له في الشريعة الإسلامية؛ بل هو تحكم بدون مستند، فإنه لا فرق بينهما إلا إذا كان ناشئا عن سبب من المؤجر، أو عن   1 البخاري: الحج (1739) , وأحمد (1/230) . الجزء: 16 ¦ الصفحة: 282 عدم إخباره بخطورته، مع علمه به، والعامل لا يعلم ذلك. وأما إذا لم يقع من المؤجر أي سبب، فليس للعامل حق عليه، إذا كان العامل بالغا رشيدا، أو كان صبيا وقد أذن له وليه؛ وإذا كانت الإصابة نشأت عن سبب أحد، فالمتسبب هو الغارم، سواء كان المؤجر أو غيره. 42- جاء في المادة (19) : يدخل في احتساب الأجور التي تقدر على أساس التعويض عن الإصابات طبقا لأحكام هذا النظام، سواء كانت يومية، أو أسبوعية، أو شهرية، كل ما كان يدفع مقابل العمل الزائد، والمدة الزائدة إلى العمال المصابين، كعلاوة إضافية، أو منفعة خاصة، ا?. وسبق أن لوحظ على مماثلتها رقم (20) فقرة (أ) من المادة (13) منه، وكذا في المادة قبل هذا، وقد بينا أن ليس للمصاب على المؤجر أي حق ما لم يكن بسببه أو تفريطه، أو عدم إشعار العامل بالخطر مع علمه، أي المؤجر بذلك. وكذلك المكافأة المشار إليها غير لازمة شرعا إلا بشرط، إلا إذا كان تبرعا من المؤجر؛ وإذا كانت تبرعا، فلا يترتب عليها ما يترتب على الأجرة من اللزوم ونحوه. 43- جاء في الفقرة الرابعة من المادة (20) : أن الجزء: 16 ¦ الصفحة: 283 على الآجر أن يعد مساكن صحية متوفر فيها أسباب الراحة الكاملة، ويشترط على أصحاب المشاريع الصناعية أن لا يسكنوا أكثر من عاملين اثنين من العمال العرب في غرفة مساحتها 12 × 15 قدما ... إلخ. وهذه الفقرة أيضا تقدم الكلام على مماثلتها في رقم (10) على الفقرة السادسة من المادة (10) وأوضحنا فيها أن هذا لا يلزم به المؤجر إلا بشرط؛ ثم إنه لا بد من وصف المسكن وصفا لا يختلف. وقد ذكر هنا: الراحة الكاملة، وهذا شيء لا ينضبط، لأن كمال الراحة قد يحصل لبعض الناس بمجرد الوقاية من الحر والبرد، وحفظ الأمتعة فقط، وبعضهم لا تكفل راحتهم إلا بإيجاد الماء فيه والكهرباء، والهاتف، ونحوها. فلهذا لو حصل الاتفاق من المؤجر والعامل على اشتراط المسكن الكافل للراحة فلا يكفي هذا الوصف، لما فيه من الإيهام والجهالة، لذا يبطل مضمون هذه المادة من جهتين: عدم اشتراطه في العقد، وعدم ضبط المراد منه. 44- جاء في المادة (22) : يجب على العامل أن يقدم للآجر بيانا بأسماء وعناوين من يقوم بإعالتهم ... إلخ، وهذا الذي عبر عنه بالوجوب، غير ظاهر الوجوب، الجزء: 16 ¦ الصفحة: 284 بل ليس ذلك بلازم على العامل. فإن المؤجر لا حق له على أحد سوى العامل الذي جرى بينه وبينه العقد؛ أما حقوق عائلته، فهي على العامل، ولا دخل للمؤجر في ذلك، ولا يلزم العامل الإخبار بذلك إذا امتنع منه. 45- جاء في المادة (23) ما نصه: إذا أصيب العامل بإصابة أقعدته عن العمل، يدفع له أجرة 75% من الأجرة، وذلك بعد مضي سبعة أيام من تاريخ الإصابة التي يجب أن يستوفي فيها أجره كاملا. ويستمر الدفع للـ 75% إلى حين شفاء المصاب، أو انتهاء مدة الإقعاد المؤقت في المادة (3) ... إلخ. ويلاحظ عليها ما يلي: 46- منها: أن الإصابة التي تقع على العامل بدون سبب من المؤجر أو مباشرة، أو بسبب إهماله، فليس للعامل حق في مطالبة المؤجر بشيء من ذلك، وتغريم المؤجر غير سائغ شرعا، بل هو من الحكم بغير ما أنزل الله تعالى. 47- إن التحديد بهذا المبلغ الموضح، تحديد مجانب للعدل؛ وذلك أن الإصابة تتفاوت، وهي هنا جعلت على حد سواء. ثم إنه نص على سبعة أيام، فإن زادت أو نقصت تغير الحكم؛ وهذا التحديد غير مبني على أساس من الشرع، ولا من العقل، ولا يوجد له نظير في معناه الجزء: 16 ¦ الصفحة: 285 من الأحكام الشرعية، بل هو ظلم وجور. 48- نصت هذه المادة على أن للعامل استحقاق السبعة أيام التي قعد فيها عن العمل؛ وهذا أيضا لا يستحقه العامل، ولا يجب على المؤجر، ولا تجوز مطالبته بذلك، كما سبق نظيره أكثر من مرة. 49- إلزام الأجر بدفع 75% من الأجرة ظلم وتعد، فلو كثر المصابون من العمال، فهل يلزم الأجر الدفع لهم 75% من أجورهم بدون مقابل، ولو أدى إلى ضرره ونفاد ماله، ويلزم بالاستدانة لهم مهما كثر عدد المصابين عنده؟ ! حاشا الشريعة الإسلامية، التي هي أساس في العدل والكمال، أن تأتي بمثل هذا، صدق الله العظيم: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} [سورة المائدة آية: 50] . 50- تحديد دفع هذا المبلغ إلى مدة شفاء المريض، هو تحديد مجهول، فقد يبرأ لمدة شهر أو أقل أو أكثر، غاية الأمر: أنه جعل نهايته لسنة، وهذا لا يجعله معلوما، لأنه إما أن تكون المدة بضعة أيام، أو شهور، أو سنة كاملة. 51- ما ذكر من التعريف المشار إليه بمقتضى المادة (25) سيأتي الكلام عليه عند الكلام على المادة نفسها. وبالجملة: ما تضمنته هذه المادة، كله باطل لا أصل له؛ والشريعة الإسلامية تعطي العامل أجره المتفق عليه الجزء: 16 ¦ الصفحة: 286 بينه وبين المؤجر، ما دام قائما بعمله، وإذا تخلف عن العمل فلا شيء له، ما لم يكن يمنع من المؤجر مع بقاء مدة الإجارة، بدون سبب يقتضي ذلك. 52- جاء في المادة (24) يدفع الآجر إلى العامل في حالة الإقعاد الجزئي الدائم المبلغ المندرج في الكشف المربوط; ويلاحظ على هذه المادة ما يلي: 53- منهما: أن إلزام الآجر بشيء لم يلتزم به، جور وتعد، يتنافى مع العدل المأمور به في الكتاب والسنة. 54- أنه لو التزم بما تضمنته هذه المادة لفسد العقد، للجهالة؛ ومن شرط صحة الإجارة العلم بالأجرة. 55- إنه قد أطلق الكلام فيها ولم يفصل فيه أي تفصيل، مع أن الإصابة التي تكون حال العمل لا تخلو من حالات: إما أن تكون بسبب من المؤجر أو إهماله، أو بسبب غيره كأحد العمال، أو بدون سبب. ففي هذه الحالات، لا يلزم المؤجر شيء إلا ما حصل منه مباشرة أو تسببا. والمفهوم من هذه المادة: أنه لو حصل اعتداء من أحد العمال على عامل آخر، فإن جميع ما يترتب أو ينتج من هذا الاعتداء، فغرامته على المؤجر؛ ولا شك أن هذا الجزء: 16 ¦ الصفحة: 287 خطأ، لا يقره الشرع الشريف، ولا العقل السليم، وتصوره كاف في قبحه. 56- فرق هذا النظام بين المصابين، فجعلهم ثلاث درجات، لكل درجة حكم خاص، من حيث الدية للنفس، والمنافع، والأعضاء كما فصل ذلك في المادة الأولى، قسم ثلاثة، في فقرة (أ) و (ب) و (ج) حديث جاء التفريق فيها بين العامل بالشهر، والعامل باليومية، والعامل تحت التمرين، والعامل الفني، وغيره. إذ نوع الدية، فجعل دية عيني العامل درجة أولى (18.000) ودرجة ثانية (12.000) ودرجة ثالثة (8.000) كما جعل دية اللسان، أو الإصابة بالبكم الدائم، درجة أولى (12.000) وثانية (6.000) وثالثة (5330) ، وقس على هذا باقي الأعضاء، والمنافع. وهذا التفريق غير سائغ في الشريعة الإسلامية، بل هو مضاد لها أي مضادة، ومعارض أقبح معارضة; وكيف يتجرأ من يدعي الانتساب إليها، في وضعه أو إقراره أو الرضى به، وقد علم من له أدنى معرفة بالشريعة أنه لم يحصل بين المسلمين أي تفريق من حيث الدية؟ قال تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [سورة المائدة آية: 45] ، وصح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "المؤمنون تتكافأ دماؤهم" 1؛ وهذا النظام المفرق بين المسلمين في الديات مضاد   1 النسائي: القسامة (4746) , وأبو داود: الديات (4530) . الجزء: 16 ¦ الصفحة: 288 لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومخالف لما أجمعت عليه الأمة، فلا فرق بين الصغير والكبير، والغني والفقير، والسيد والمسود، في الدية، لما تقدم. ومن تأمل أسرار الشريعة في مساواة المسلمين بتكافؤ دمائهم، على بطلان هذا النظام الخاطئ، لكن يستثنى من ذلك الفرق بين الحر والعبد، وبين الذكر والأنثى، والمسلم والكافر. 57- فرق هذا النظام بين دية اليد اليمنى واليد اليسرى فجعل لليمين دية أكثر من اليسرى، ثم عكس عندما تكون اليسرى تعمل عمل اليمين. ثم جرى التفريق كذلك بين دية سلامى كل منهما، بناء على التفريق السابق في اليد؛ وهذا كما سبق تحكم، وخرص ما أنزل الله به من سلطان. بل بمجرد التصور الخاطئ، والرأي العازب عن الرشد؛ فإن هذا مع ما جمع من الجور والظلم، والتفريط الذي لم يبن على أساس من الشرع والعقل، فهو مباين لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فإن الشرع لم يفرق بينهما، لا جملة ولا تفصيلا. ولا شك أن حكمة الله بالغة، وأن العقول قاصرة عن إدراك حكمة الله في شرعه؛ ولكن هؤلاء الذين استبدلوا بالشريعة النظم والقوانين، لما انحرفوا عن أصل الدين، الجزء: 16 ¦ الصفحة: 289 حسن الشيطان والهوى كل ما يخالف الشريعة، وتنقصوها، واستهزؤوا بأهلها، فبقوا متحيرين عقوبة لهم، قال تعالى: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [سورة البقرة آية: 15] فلا ينبغي للمسلم الركون إليهم، ولا العمل بشيء من نظمهم لحل المشاكل؛ فالله قد أغناهم بكتابه وهدى رسوله صلى الله عليه وسلم عن سواهما، بل فيهما ما ليس عند أحد من العالمين، من حل المشاكل، ودرء المفاسد، وحفظ المصالح. 58- جعل دية اليدين المقطوعتين من مفصل الكتفين، أكثر من دية النفس وهذا أيضا خطأ؛ فإن الشارع لم يجعل فيها سوى دية واحدة، بدون زيادة، وفي الواحدة نصف الدية. 59- فرق بين فقدان البصر من ذي العينين وذي العين الواحدة؛ فجعل لذي العين الواحدة مثل ما لإحدى العينين، مع سلامة الأخرى، ولم يفرق بين عين الأعور، وبين من بقيت إحدى عينيه، بأن جعل ديتهما درجة أولى (8000) ودرجة ثانية (5400) ودرجة ثالثة (3600) وهذا باطل شرعا وعقلا. فالشريعة سوت بينهما، لقيام العين الواحدة في النفع مقام العينين. 60- إنهم لم يفرقوا بين العامل المسلم، والحر الجزء: 16 ¦ الصفحة: 290 والذكر، وضدهم؛ والواجب فيه التفريق، فإن الشرع فرق بينهم، في دية النفس والأعضاء، والمنافع وسائر الجراحات. 61- إنه لم يفرق بين الإصابة إذا كانت عمدا، أو خطأ؛ والقرآن صريح في التفريق بينهما. 62- إن ما ذكر في هذا الجدول، على سبيل العموم مخالف للشريعة، ومضاد للنصوص؛ فلا يحتاج مناقشة تفصيلية، بل هو باطل من أساسه؛ فلا يجوز العمل به، لأنه متناقض من أصله، حيث فرق بين متماثلين، وماثل بين المتفاوتين. فنجده فرق بين الأسنان والأنياب والأضراس، وما قطع من الكوع أو المرفق، كما فرق بين الأصابع كالسبابة والوسطى، والخنصر والبنصر، ونحو ذلك مما هو كثير. وهذا شأن كل ما لم يستمد من نصوص الكتاب والسنة، تجده متناقضا، بعيدا عن المصلحة، بعيدا عن العدل، بعيدا عن الصواب، {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} [سورة النساء آية: 82] . 63- جاء في المادة (25) : أنه يدفع الآجر إلى العامل درجة أولى في حال الإقعاد الكلي (27.000) ريال، وللعامل درجة ثانية (18.000) ، وللعامل درجة ثالثة (12.000) ا?. ويلاحظ ما يلي: الجزء: 16 ¦ الصفحة: 291 64- إن هذا التفريق بين العمال تفريق ما أنزل الله به من سلطان؛ فيحرم العمل به، لأنه لا يستند على نص، بل هو محض الجور والظلم والتعدي، فيجب احترام أموال المسلمين. ثم لو أن هذا العامل لم يعمل عند الآجر إلا مدة يسيرة، لا تزيد أجرته على مائة ريال مثلا، فما المسوغ لإلزام الأجر بدفع (27.000) ؟ اللهم غفراً!. 65- إن المؤجر لا يلزمه شيء، إلا ما ثبت عليه شرعا، بأنه هو المباشر، أو المتسبب. ثم إن الواجب عليه هو ما أوجبه الشرع، لا ما نص عليه هذا النظام الجائر. 66- نصت المادة (26) على أن الآجر يقوم بمعالجة ومداواة المصابين، ونقلهم إلى المستشفيات، على نفقته مهما كان نوع الإصابة، ولو لم تحدث لهم أثناء العمل. ونصت المادة (27) أيضا: أن الأجر يقدم لعماله المعالجة الطبية، حتى في الأوقات التي لا تمنعهم إصاباتهم الجراحية عن مواصلة العمل. وقد سبق بيان أن هذا غير لازم، كما لوحظ على نظيرتهما، في الملاحظة رقم (45) ، وهو أنه لا يجوز إلزام الآجر بهذا إلا بشرط بينهما، فيما يمكن ضبطه؛ وما لا يمكن ضبطه لا يجوز ولو شرط. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 292 67- نصت المادة (28) على أن العامل إذا مات، بإصابة لحقته أثناء العمل، دفعت لورثته المبالغ المدرجة في المادة (25) وقد سبق أن بينا أن ذلك باطل شرعا، وأنه من التحاكم إلى الطاغوت، ولا يجوز مراعاة ما دلت عليه هذه المادة، لمخالفتها نصوص الكتاب والسنة. 68- جاء في المادة (29) أن العامل المصاب بعجز سابق، أو بمرض جسماني سابق، إذا أصيب بإصابة من النوع المؤدي للعجز الدائم، لا يأخذ تعويضا عن الإصابة الأخيرة ... إلخ. وهذه المادة قد تقدم الكلام على مثيلتها، في الملاحظتين رقم (52) و (63) وبيان أن الأجر لا يلزمه شيء، إلا ما كان منه مباشرة أو تسببا. 69- نصت المادة رقم (33) على أن يعتبر تقدير تعويض الإصابات بهذا النظام، جزءا متمما له، ا?. وقد سبق الكلام على ذلك الجدول، وبيان تناقضه، ومباينته للشريعة بما يغني عن إعادته هنا، وذلك في الملاحظة رقم (63) . 70- جاء في فقرة (أ) من المادة (34) : يجوز حرمان العامل من التعويض عن إصابته، إذا ثبت ثبوتا قطعيا: أن العامل كان متعديا في مشاجرة أو عراك.. ويلاحظ على هذه الفقرة أنه لا يجوز حرمان العامل لما يستحقه شرعا على من تشاجر معه، ولو الجزء: 16 ¦ الصفحة: 293 ثبت تعديه؛ غير أنه يؤاخذ بما عليه، ويعطى ما له من الحق، لأنه قد يتعدى، ثم المعتدى عليه يأخذ أكثر من حقه، وهذا لا يجوز. لأن الله يقول: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [سورة النحل آية: 126] ؛ فإذا زاد المعتدى عليه بالأخذ من حقه، وجب أخذ الحق منه بمقدار ما زاد عما يستحق. 71- جاء فى الفقرة (2) من المادة نفسها: يجوز حرمان العامل من التعويض إذا قصر في إبلاغ الإصابة وظروفها، في مدة ثلاثين يوما من تأريخ الإصابة أو الحادث. ويلاحظ على هذه الفقرة أن تأخر إبلاغ المصاب بالإصابة، لا يضيع حقه على الجاني، متى ثبت شرعا؛ بل إذا كان مستحقا للتعويض، فإن تأخره لا يكون سببا في حرمانه من حقه. ومتى وجد هذا التحديد في كتاب أو سنة، أو كلام لأحد من العلماء؟ ! إن هذا تحديد ما أنزل الله به من سلطان، وجراءة على الله في أحكامه {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [سورة النحل آية: 117-116] . 72- جاء في الفقرة الثالثة من المادة نفسها، فيما الجزء: 16 ¦ الصفحة: 294 يجوز به حرمان العامل، من التعويض إذا ألحق العامل الإصابة بنفسه عمدا، بشرط ألا يتسبب عن الإصابة وفاة، أو عاهة مستديمة. ويلاحظ على هذه الفقرة ما يلي: 73- قوله: إذا ألحق العامل بنفسه عمدا، والمفهوم من قوله: عمدا، أن الحكم يتغير إذا أخطأ، وأنه يرجع الضمان على المؤجر في حالة الخطأ؛ وهذا كسابقه، من القول على الله بلا علم، ومناقضة لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم "كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه" 1. 74- قوله: ألا يتسبب عن الإصابة وفاة، أو عاهة مستديمة، فظاهرها أنه إن حصل شيء من ذلك، فضمان الإصابة أيضا على المؤجر، وهذه كسابقتها، في جانب بعيد عن الصواب. فكيف يلزم المؤجر جناية العامل على نفسه، كما لو ضر العامل يد نفسه، فعابت وتعطل العمل بها؟! سبحان الله! ما أعجب هذا الجهل! فالعقل السليم يأبى هذا وينكره، وقد تقدمت الإشارة إلى مثل هذا. 75- جاء في الفقرة الخامسة من المادة (34) فيما يجوز فيه حرمان العامل من التعويض، ما نصه: إذا امتنع العامل عن عرض نفسه على الطبيب، أو امتنع من قبول معالجة الطبيب المكلف بالمعالجة من قبل الآجر ... إلخ. وهذا كما سبق ليست مسقطا لحقه، إن كان له حق   1 مسلم: البر والصلة والآداب (2564) , وأحمد (2/277) . الجزء: 16 ¦ الصفحة: 295 شرعي على من جنى عليه؛ فيجب بذل ما وجب له من حق، وإن امتنع، لأن امتناعه ذلك، لا يسقط حقه الواجب له شرعا، ولا يلزمه الشرع بالمعالجة من غير اختياره، لعدم وجوب التداوي. بل ربما كان تركه للمعالجة توكلا على الله، ورضى بأقداره، أو لعدم ثقته بالطبيب. ثم إنه ليس من المتيقن زوال الخطر عنه بالعلاج، هذا شيء مشكوك فيه، وإن كان الغالب فيه النجاح، فإنه أيضا ربما كان سببا للوفاة. 76- جاء في المادة (38) يجوز للعامل، أو الآجر، أن يطلب إجراء التحكيم إذا قام نزاع بينهما؛ وذلك بتقديم طلب إلى الحكومة، وتتولى هيئة من عضوين، يعين أحدهما الآجر والآخر الحكومة. فإذا اختلف العضوان، عين وزير المالية حكما ثالثا في الفصل في النّزاع؟ ويلاحظ عليها أمور منها: 77- أن طلب التحكيم إلى شخص ممن يعرف الأحكام الشرعية، لا يتوقف جواز التحكيم إليه إلى تقديم طلب للحكومة؛ بل متى رضيه الخصمان، وكان أهلا لذلك، فإنه ينفذ حكمه بدون تقديم طلب، أو علم من الحكومة، لأن "عمر وأبيا تحاكما إلى زيد بن ثابت، وتحاكم عثمان وطلحة إلى جبير بن مطعم، ولم يكن أحد منهما قاضيا". الجزء: 16 ¦ الصفحة: 296 78- أنه لا يشترط كون التحاكم إلى هيئة مؤلفة من عضوين، يكفي واحد إذا رضيه الكل وهو أهل. 79- أنه إذا اشتبه الحكم على الهيئة إن كانت، أو الواحد مثلا، ولم يحكم كل منهما، فالواجب الرجوع إلى المحكمة الشرعية، من قبل الحكومة، وليس من حق وزير المالية تعيين حكم بينهما بغير رضاهما، إلا إن كان ولي الأمر جعل له ذلك. 80- إن هذه الفقرة فرقت بين الآجر والعامل، فجعلت الحق للآجر أن يختار حكما، ولم تجعل للعامل مثله، بل جعلت ذلك للحكومة؛ والعدل أن كلا منهما يختار لنفسه من يكون أهلا، وإلا فمرجعهما إلى المحكمة الشرعية. 81- جاء في المادة (40) أن المحاكم المحلية أو الهيئات القضائية التي تنشأ خصيصا لذلك هي المرجع المختص لحل عموم القضايا المتنازع فيها، والتي لا يمكن حلها على مقتضى التحكيم المدرج في المادة (38) ا?. ويلاحظ عليها: أن هذه المحاكم المشار إليها في هذه المادة، إن كان يقصد بها المحاكم الشرعية التي تحكم بنصوص الكتاب والسنة، فنعم يلزم الرجوع إليها؛ وإن كان يقصد بها أي محكمة غير شرعية، فالرجوع إليها من التحاكم إلى الطاغوت المأمور بالكفر به في قوله الجزء: 16 ¦ الصفحة: 297 تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ} [سورة النساء آية: 60] . ثم إنه قال: التي لا يمكن حلها على مقتضى المادة (38) ، وقد مر بيان فساد ما تضمنته تلك المادة المشار إليها في هذه، والله المستعان. 82- جاء في المادة (41) مما نصه: يجري فصل الحوادث للإصابات التي وقعت سابقا على العامل على اختلاف درجاتهم، لدى شركات الاستثمار في المملكة، التي لم تفصل إلى تأريخ تصديق هذا النظام ونشره، بمقتضى مواد هذا النظام؛ كما يسري مفعوله على كل ما يقع بعد ذلك من حوادث وإصابات في المشاريع الاستثمارية الحالية والمقبلة، ا?. ويلاحظ عليها: أنه لا يجوز لأحد أن يتحاكم إلى غير ما أنزل الله، سواء هذا النظام أو غيره من النظم المستمدة من غير كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأن هذه القوانين الوضعية من جملة الحكم الطاغوتي، الذي نهى الله ورسوله عن التحاكم إليه؛ وإنما الواجب التحاكم إلى ما أنزل الله في كتابه، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم. قال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [سورة النساء آية: 65] ، لا سيما وقد لوحظ على الجزء: 16 ¦ الصفحة: 298 هذا النظام مباينته للشريعة، ومصادمته لها؛ فكيف يسوغ لأحد أن يدعو الناس إلى التحاكم إليه، ونبذ الأحكام الشرعية، وهو يدعي الإسلام؟ وقد سبق بيان بطلان هذه المواد التي تشير إليها هذه المادة، وأنها لم تبن على أساس من الشرع، ولا أساس من العقل الصحيح. واعتماد هذا النظام في دماء المسلمين، وأموالهم، هو من الفساد في الأرض. كما في قوله تعالى: {وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا} [سورة الأعراف آية: 56] ، وقوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ} [سورة البقرة آية: 12-11] . 83- جاء في المادة (43) ما نصه: كل شرط يخالف أحكام هذا النظام يعتبر باطلا ولا يعمل به، ولو كان سابقا على صدور هذا النظام. ا?. حسبنا الله ونعم الوكيل، إنا لله وإنا إليه راجعون، يا للمصيبة!! ويا للإسلام! أتنسب العداوة هكذا علنا للقرآن، والسنة، ويضرب بأحكامها عرض الحائط بكل جراءة ووقاحة؟ !! إذا رزق الفتى وجها وقاحا ... تقلب في الأمور كما يشاء أليس هذا مشاقة لله ورسوله؟ {وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 299 وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [سورة الأنفال آية: 13] . أليس هذا تضليلا للأمة الإسلامية، وحملا لها على التحاكم إلى الطاغوت؟ ألم يخشوا الوقوع في معنى قوله تعالى: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} [سورة النحل آية: 25] . ويلاحظ: على هذه المادة الشنيعة ملاحظات، منها: 84- أنها جعلت أحكام هذا النظام فوق كل نظام، حتى الأحكام الشرعية، كما هو صريح المادة؛ فنعوذ بالله من مخالفة شرعه ودينة {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [سورة المائدة آية: 50] {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [سورة النساء آية: 65] . 85- قوله: كل شرط يخالف أحكام هذا النظام، يعتبر باطلا، هذا رد صريح لقوله صلى الله عليه وسلم "كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط" 1. وهذا النظام يرد على الحديث ردا قبيحا صريحا، لا يحتمل التأويل، فيقول: كل ما يخالف هذا النظام، فهو باطل، ولو كان شرطا صحيحاً جرى على وفق قول الرسول صلى الله عليه وسلم:"المسلمون على شروطهم" 2 كما لو اشترط أحد المتعاقدين على الآخر نفعا معلوما، لم يذكر في هذا   1 البخاري: الشروط (2729) , ومسلم: العتق (1504) , وأبو داود: العتق (3929) , ومالك: العتق والولاء (1519) . 2 الترمذي: الأحكام (1352) . الجزء: 16 ¦ الصفحة: 300 النظام، يكون باطلا، ما أجرأهم على الشريعة، وعلى القول على الله بلا علم! 86- إن هذه المادة أكدت بطلان ما سوى هذا النظام بستة تأكيدات. أولا: قوله: كل شرط، ومن المعلوم أن لفظ: "كل" يدل على العموم والشمول. ثانيا: أنه أكد بالإشارة إليه، بقوله: هذا النظام، خوفا من توهم غيره. ثالثا: توكيده بلفظة: باطل، لأن التعبير بالبطلان من أعلى الألفاظ التي تدل على فساد العقود. رابعا: توكيده بقوله: لا يعمل به، لأنها تأكيد لقوله: يعتبر باطلا، فإن هذه الجملة كافية في عدم اعتبار غيره. خامسا: توكيده بقوله: ولو كان سابقا عليه. سادسا: تأكيده بالإتيان بالظاهر محل الضمير؛ لأن قوله: على صدور هذا النظام يقوم مقامه لو قيل فيه: على صدوره، وهو أليق بالقواعد العربية في مثل هذا، إلا إذا قصد به التأكيد، فأتى به هنا لهذا الغرض. فلأي شيء يحتاط لهذا النظام كل هذا الاحتياط، مع مصادمته بالشريعة، فلو كانت هذه الاحتياطات في الأمر بالتمسك بالأحكام الشرعية لكان هو الألزم والأوجب، كما هو المتعين فرضا. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 301 87- إن هذه المادة تدل بجملتها، على أنها ناسخة للأحكام الشرعية ومبطلة لها; لأنها ألغت جميع ما تقدم على أحكام هذا النظام، ومن المعلوم: أن الشريعة الإسلامية قبله بقرون، فاعتبر أنه ناسخ لها. فيا عجبا! يصبح هذا النظام المحتقر، المستمد من زبالة الأذهان، ونحاتة الأفكار، يحكم نفسه على الشريعة المطهرة الغراء، المنزلة من حكيم حميد، حكيم في أحكامه، عليم بما يصلح عباده، سار عليها المسلمون أربعة عشر قرنا في غاية من الطمأنينة، وحفظ الحقوق. وكلما كمل تطبيقها كمل الأمن والراحة للبشر، وبحسب ما يهمل منها يحصل القلق والخلل؛ أضف إلى هذا كله: كونها أوضحت جميع ما يحتاج إليه الناس في معاشهم ومعادهم. قال تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [سورة الأنعام آية: 38] ، وقال تعالى في ذم من ابتغى التحاكم إلى غيرها: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [سورة المائدة آية: 50] . وكل ما خالف القرآن والسنة، فهو حكم جاهلي، بعيد عن العدل والإنصاف، مبني على الجور والميل عن طريق الصواب، وهو المعنى بقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 302 يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً} [سورة النساء آية: 60] . وكل ما خالف القرآن والسنة فهو حكم طاغوتي. 88- جاء في المادة (44) ما نصه: يكون للموظفين الذين تنتدبهم وزارة المالية حق التفتيش، على محال العمال المختلفة، والتحقق من اتباع هذا النظام، وتنفيذه، وإثبات ما يقع من مخالفات لأحكامه ... إلخ. وحيث أنه قد علم أن هذا النظام لم يبن على أساس من الشرع، فلا يجوز العمل به ولا تنفيذه، فضلا عن المطالبة باتباعه وتنفيذ مواده؛ فالواجب أن يتبع في جميع ذلك أحكام القرآن والسنة، ويطرح ما سواهما من النظم والقوانين المخالفة لهما، كهذا النظام. 89- جاء في المادة (46) ما نصه: يستحق العامل استراحة أسبوعية قدرها يوم واحد، بأجرة كاملة بعد اشتغاله ستة أيام ... إلخ. ويلاحظ على هذه المادة: أن إلزام الأجر بدفع أجرة يوم واحد للعامل بدون عمل، أن ذلك غير سائغ في الشرع، ولا يجوز للعامل مطالبة المؤجر بذلك، وهذا يعتبر في الحقيقة من أكل المال بالباطل، والله يقول: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [سورة البقرة آية: 188] . 90- جاء في المادة (47) إن للعامل أن يتمتع بإجازة الجزء: 16 ¦ الصفحة: 303 اعتبارية، بأجرته الكاملة عن كل سنة عشرة أيام، على أن يتعين مواعيدها، بموافقة صاحب المشروع ... الخ. ويلاحظ عليها: أن هذه الإجازة ليست لازمة على المؤجر، إلا بشرط بينهما عند العقد، مع بيان عدد أيامها، وتعيينها من الشهر؛ وأما بدون ذلك فهو غير لازم. أما الإجازة المرضية، فقد تقدم الكلام على حكمها في الملاحظة رقم (39) على المادة (18) وبينا عدم لزومهما للآجر. 91- جاء في المادة (57) ما نصه: الإصابات التي تعتبر إقعادا جزيئا دائما، أو إقعادا مؤقتا، أو إقعادا كليا، أو تشويه منظر في الجسم أو إخلالا في الحواس، أو ارتجاجا فيها، تجري التعويضات عنها بمقتضى الجدول المربوط ا?. وقد سبق أن أوضحنا الملاحظات على ذلك الجدول، وبيان بطلانه، وأنه في معزل بعيد عن الصواب مخالف للكتاب والسنة، ومخالف للعقل السليم، كما قال الإمام ابن القيم رحمه الله: ما صادق الحكم المحل ولا هو اسـ ... توفى الشروط فصار ذا بطلان 92- جاء في المادة الأولى من المواد الملحقة بجدول التعويضات ما نصه: الشلل العام الدائمي، والإصابة في الجزء: 16 ¦ الصفحة: 304 المخ التي ينتج عنها عته أو جنون، لا تمكن معالجتها، يعتبران في التعويض كالإقعاد الكلي; ويلاحظ عليها ما يلي: 93- التسوية بين الشلل والعته والجنون مع الفارق الكبير بين هذه الثلاثة، وهذا خطأ؛ فإن الشرع جعل في ذهاب العقل كله الدية كاملة، وفي ذهاب بعض العقل بالنسبة إلى ما ذهب منه بقدره. وأما الشلل: فإن كان العضو المشلول قد تعطل نفعه كليا، ففيه ما في ذلك العضو لو قطع، لأن بقاءه بدون فائدة كذهابه من حيث النفع. وأما إن لم يتعطل ذلك العضو، ولكن نقص نفعه، ففيه حكومة، وكذلك في العقل، إذا لم يمكن معرفة مقدار ما ذهب منه. والحكومة حيث جاءت في هذا الباب، فالمراد منها: أن المجني عليه يقوم عبدا؛ فيقوم سليما من تلك الجناية؛ ثم يقوم وهي به قد برئت، فما نقص من قيمته سليما فله مثل نسبته من ديته الشرعية. 94- يلاحظ عليها ما لوحظ على المادة (25) منه، وهو أن التفريق بين المصابين إذا كانوا رجالا مسلمين أحرارا، فهو تفريق باطل، ما أنزل الله به من سلطان؛ فالواجب المساواة في الدية الشرعية حسب ما نصت عليه النصوص الشرعية وأجمعت عليه الأمة 95- لم يوافق الجدول المشار إليه الشرع، بتقدير الجزء: 16 ¦ الصفحة: 305 الدية في أحد، من المشلول، والمعتوه، والمجنون؛ بل إما زادت أو نقصت. والحق أنه لا يوضع تقدير للدية، ولا لسائر الأعضاء والمنافع، إلا من أحكام الشريعة الإسلامية، التي أوضحت ذلك أتم إيضاح، على وجه العدل والإنصاف. فإن من له ذوق في الشريعة الكاملة في مصادرها ومواردها، وله أدنى اطلاع على كمالها وعدلها وسعتها ومصلحتها، علم يقينا أن الخلق لا صلاح لهم بدونها البتة، وعلم أيضا بطلان هذا النظام الحقير، من أوله إلى آخره. 96- جاء في المادة ثلاثة من الملحق بجدول الإصابات: إذا كان المصاب أعسر، تعتبر تعويضات الإصابات التي تلحق بيده اليسرى كيمنى غيره، وبالعكس، ا?. وبناء على ما علم من الشريعة الإسلامية أنه لا فرق بين دية اليمنى واليسرى، من الأعسر وغيره، فيعتبر هذا التفريق مخالفاً لها؛ ولا يجوز العمل بموجبه. وقد سبق بيان بطلان ذلك، في الملاحظة رقم (57) ، على جدول الإصابات. 97- جاء في المادة (4) من الملحق، ما نصه: فقدان بعض السلامى يعتبر كفقدان السلامى كلها، وفقدان الجزء: 16 ¦ الصفحة: 306 السلامى الثلاثة من أصبع من أصابع اليد عند انفرادها، يعوض بالفرق الواقع بين السلامتين والأصبع كاملا، ا?. ويلاحظ عليه ما يلي: 98- أنها مخالفة لما قرره علماء الشريعة، وكون فقدان بعض السلامى كفقدانها كلها خطأ، بل الواجب في بعض السلامى يكون بقدر نسبة ذلك البعض، من دية تلك السلامى كاملة. 99- أنه لا فرق بين دية السلامى الثلاثة، فإن الواجب في كل واحدة منها ثلث عشر الدية، ما عدا الإبهام، ففيها نصف عشر الدية، لكونها لا تحتوي على أكثر من سلامتين. وقد مر في الملاحظة رقم (52) بيان خطأ ما قرر نحو الأصابع وغيرها مما هو مخالف للشريعة. 100- نصت المادة الخامسة من الملحق: أن الإصابة التي لم يرد ذكرها في جدول التعويضات من تشويه، أو اختلال، أو تغير في الوضع الطبيعي لأي عضو، أو لأي جزء من الجسم أو الحواس، إذا كانت تتصل بعضو من الأعضاء التي ذكرت في الجدول، يقدر تعويضها منسوبا إلى تعويض كامل ذلك العضو، بنسبة مئوية. وإذا كانت لا تتصل بأي عضو منها، يقدر تعويضها من قبل لجنة ... إلخ، ويلاحظ على هذه المادة ما يلي: 101- أن المنصوص عليه في الجدول المشار إليه، الجزء: 16 ¦ الصفحة: 307 لم يسلك فيه مسلك العدل، الذي جاءت به الشريعة الكاملة، بل هو مشاقة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم واتباع غير سبيل المؤمنين، فالواجب على المسلمين نبذه، وعدم الالتفات إليه. 102- أن النسبة المئوية غير معتبرة في كل ما ذكر، بل فيه تفصيل: فمنها ما هو مقدر استحقاقه شرعا، ومنها ما هو مقدر فيه النسبة المئوية، وهى الجناية إذا كانت بالحواس، أو المنافع إذا لم تذهب كلها بل ذهب جزء معلوم المقدار، ومنها ما فيه حكومة، وقد سبق بيانها. 103- إن الذي يحتاج إلى لجنة، هو الذي يكون فيه وجه حكومة، لأجل التقدير السابق بيانه؛ لكن لا يشترط في أعضاء اللجنة ما ذكر في هذه المادة، بل تبعثهم المحكمة الشرعية للتأكد من معرفتهم بالشيء المطلوب؛ ثم المحكمة بدورها تحكم بذلك، وتلزم به. وليس لأحد حق الاعتراض، إذا توفرت شروط الحكم، وانتفت موانعه، وكان جاريا على الأصول الفقهية المستمدة من الشريعة الإسلامية. 104- جاء في ملحق نظام العمل والعمال، ما نصه: صدر الأمر السامي الكريم، رقم 7218 وتأريخ 1/11/67? باعتماد قرار مجلس الشورى الآتي رقم 212 وتأريخ 29/8/67? كتشريع قانوني، يلحق بنظام العمل والعمال. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 308 وقد جاء فيه: أن يقصد بجملة "أثناء العمل" الواردة في نظام العمل والعمال، من الناحية القضائية، استحقاق الموظف العامل لعمل من الأعمال المنوطة به، لكافة الحقوق الممنوحة بموجب نظام العمل والعمال، مقابل الواجبات المطلوب منه أداؤها، سواء كان ذلك في مقر عمله الرسمي، أو في طريقه إلى عمله الرسمي. وكل إصابة يتعرض لها موظف خلال ذلك، وضمن نطاق الأراضي والتشكيلات التي تتمتع الشركة بامتيازها، يعوض عنه بمقتضى نظام التعويض. إلخ، ويلاحظ على هذا الملحق ملاحظات: 105- منها: أن هذا النظام لما كان غير متمشيا فيه مع الشرع، بل هو ضد للشريعة، كان مفتقرا في كل حين وآخر إلى زيادة، وتصحيح، وملاحظات، وتصويب أخطاء، وإيضاح مجهول، وتعديل متناقض، وإكمال ناقص؛ فهذا مما يبين ضعفه وفساده، وأنه دائما ناقص متناقض؛ مما يؤدي إلى اشمئزاز نفس كل من رآه أو سمعه. 106- أن ما ذكر في هذا الملحق مخالف للشريعة؛ وتلك الالتزامات المذكورة غير لازمة للمؤجر، لأنها مبنية على الجهالة والغرر، وعلى الظلم والجور، مع أنه لم يحصل عليها الاتفاق من جانب المؤجر والمستأجر، فصار فيها جملة محاذير: مخالفتها للشريعة، والجهل، والغرر، الجزء: 16 ¦ الصفحة: 309 وعدم الاتفاق عليها وقت العقد، وقد سبق الكلام على مثل ذلك. 107- أنه صدر الأمر باعتماد هذا الملحق، كتشريع قانوني، سبحان الله! ياللأسف! يا للمصيبة! هل هناك مشرع غير الله؟ ! أيجترئ مجترئ فيحاد الله في أمره وشرعه، ويقر على هذا الفعل؟ ! أنحن في حاجة إلى تشريع أحد؟ والله تعالى يقول: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} [سورة الشورى آية: 13] الآية. أنحن في حاجة إلى تشريع لأحد، وكتاب الله بين أيدينا، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا؟ ! هل الشريعة قاصرة على حل مشاكلنا؟ ! كلا والله ثم كلا، إنها والله الكاملة الوافية، التي لم تدع شيئا مما يحتاج إليه البشر في ماضي الزمان وحاضره ومستقبله، إلا أتت به على الوجه الأكمل وأوضحه وأعدله. أليس قد أكمل الله لنا الدين وأتم علينا نعمه، ورضي لنا الإسلام دينا، كما قال عز وجل {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} [سورة المائدة آية: 3] ؟ أيكفي أن نتسمى بالاسلام بدون أن نطبق أحكامه علينا؟ ! لا والله لا يكفي حتى نتمسك به عقيدة وعملا واتباعا لأحكامه {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [سورة النساء آية: 65] هل هناك مشكلة من مشاكل الحياة، لم تحلها الشريعة الجزء: 16 ¦ الصفحة: 310 وتوضحها غاية الإيضاح؟ ألم نصدق بقوله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى} [سورة النحل آية: 89] ؟ ألم يؤكد لنا صلى الله عليه وسلم هذا بقوله: "تركتكم على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها؛ لا يزيغ عنها إلا هالك" 1. ويا عجبا! أترمى شريعتنا بالتقصير في حل مشاكلنا، ونمد يد الفقر والحاجة إلى أعدائنا، ليعلمونا حل مشاكلنا؟! أيشهد أعداؤنا بكمال الشريعة ونضوجها، وصلاحها لكل زمان ومكان، ونكذبهم بأفعالنا؟! أليس من الواجب علينا أن ننشر محاسنها لمن لا يعلمها، ونبلغها إليهم بكل ممكن؟ ما بالنا عكسنا هذه القضية، وأصبحنا نبث مساويا لها لا تعرفها الشريعة التي هي في غاية البعد عنها، ونقف دون تعلم الناس لها، بتقليدنا لهم، واتباعنا سواها؟ !. أيعدل عن الشريعة الكاملة العدل، إلى نظم في غاية من التناقض والظلم والجور، يشهد بعضها على بعض بعدم ملاءمتها، ووضوح تناقضها؟ ! وليس بأدل على ذلك من كونها في كل زمن يطرأ عليها التعديل والتبديل، والملحقات، كما في هذا الملحق. وكل حاكم يتجدد يجدد نظما وقوانين لم تكن لمن قبله; صدق الله العظيم {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيرا} [سورة النساء آية: 82] .   1 ابن ماجه: المقدمة (44) , وأحمد (4/126) . الجزء: 16 ¦ الصفحة: 311 لو سبرت أحوال العالم لوجدت أقر الناس عيشا، وأنعمهم بالا، وأوفرهم طمأنينة، وأعظمهم استقرارا، وأكملهم راحة، من تمسك بها؛ وبحسب تمسك هذه الدولة بالدين يحصل لها ولشعبها الأمن والطمأنينة والاستقرار والراحة. ولذا نرى سائر البلاد تكثر فيها السرقة، والقتل، وهتك الأعراض، وضيق العيش على الأكثر منهم؛ ونرى- ولله الحمد- في هذه البلاد السعودية، لم يحصل فيها ما حصل في غيرها، وما ذاك إلا بسبب ما تمسكوا به، من هذه الشريعة. وإنا نخشى أن يتسرب إليها ما تسرب إلى غيرها، من هذه النظم المخالفة لما شرعه الله في كتابه العزيز وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم. وإنا نبتهل إلى الله بأسمائه الحسنى، وصفاته العليا أن يوفق حكومتنا الرشيدة إلى ما فيه صلاحها، وصلاح دينها، وأمرها، ومجتمعها، وشعبها عموما، وأن يجعلنا وإياهم من المتمسكين بدينه عند فساد الزمان، وتغير الأحوال، لتنال بذلك الأجر الوافر، وتتصف بوصف عباده الذين وصفهم الله بقوله: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [سورة الحج آية: 41] ، وأن يهدينا الصراط المستقيم، صراط {الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 312 عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً} [سورة النساء آية: 69] . إلى آخر ما دعا به وأمل من الحكومة الرشيدة بأن تكون حصنا منيعا لحفظ هذه الشريعة الحكيمة، وأن تذود عنها بالسيف والسنان، وكل ما أوتيته من حول وقوة، وغير ذلك مما سأل ربه أن يحققه، وأثنى به عليه، وصلى على خاتم النبيين، كعادته رحمه الله في ختام رسائله، مع ذكر اسمه وتاريخ التحرير. فجزاه الله أحسن الجزاء، ونفع بعلمه النافع، وعمله الصالح. فالقضيه إذا وقعت وبينت بيانا شافيا، تنفع في نظائرها وأشباهها؛ ولعل هذا من أهم أسباب وضعها هنا، لمسيس الحاجة إليها، وكشف حقائق أشباهها، وما تبقى منها، مما هو قائم وموجود الآن، ولكي يعرف موقف العلماء والمسؤولين إزاءها وقت وقوعها، وكيف يعالجونها، ولما يحصل من براءة ودفاع عنهم وعن غيرهم، وغير ذلك مما يتعطش إليه المسترشد، ويطمئن به البصير، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. آخر القسم الثاني من البيان الواضح وأنبل النصائح; ويليه: تراجم أصحاب تلك الرسائل والأجوبة. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 313 بسم الله الرحمن الرحيم كتاب تراجم أصحاب تلك الرسائل والأجوبة ترجمة إمام الدعوة قدس الله روحه هو الإمام العالم العامل، الحبر العلم، إمام الأئمة، مفتي الأمة، محي السنة، قامع البدعة، المجتهد الحافظ، الثقة النبيل، الأصولي المحدث الجليل، مجدد الدعوة الإسلامية، والملة الحنيفية، العالم الرباني والصديق الثاني، بدر العلوم، وحيد الزمان، شرف الإسلام وفريده، علما وعملا، ومعرفة وشجاعة، وذكاء، وتنويرا إلهيا، وكرما ونصحا للأمة. أشرقت شمس فضائله في الأقطار، وعلت مكارمه على كل منار، أجمع أئمة الدين في زمانه، وبعد زمانه، على تقدمه في شأنه، ونبله وعلو مقامه، ومكانه، خاتمة المجتهدين، وبقية أكابر السلف الماضين. أصدق الناس وأصحهم علما وعزما، وأنفذهم وأعلاهم، في الانتصار للحق والقيام به، وأكملهم اتباعا لسنة النبي صلى الله عليه وسلم، سيف الله على المبتدعين والمرتدين، وكاشف عورات المشبهين المضلين، مشيد أعلام الملة والدين، الجزء: 16 ¦ الصفحة: 314 أبو علي، شيخ الإسلام، قدوة الأنام الشيخ: محمد بن عبد الوهاب بن الشيخ العالم مفتي نجد سليمان بن علي بن محمد بن أحمد بن راشد بن بريد بن محمد بن بريد بن مشرف بن عمر بن معضاد بن ريس بن زاخر بن محمد بن علوي بن وهيب بن قاسم بن موسى بن مسعود بن عقبة بن سنيع بن نهشل بن شداد بن زهير بن شهاب بن ربيعة بن أبي سود بن مالك بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم. ولد رحمه الله تعالى، سنة 1115 من الهجرة، في بلد العيينة من أرض نجد، ونشأ بها، وقرأ القرآن بها قبل بلوغه العشر. وكان حاد الفهم، سريع الإدراك، يتعجب أهله من فطنته وذكائه. ثم اشتغل بالعلم وجد في الطلب، وكان سريع الكتابة ربما كتب الكراسة في المجلس. وبعد بلوغه سن الاحتلام، قدمه والده إماما في الصلاة. ثم حج فقضى فريضة الإسلام، ثم قصد المدينة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام، وأقام بها شهرين؛ ثم رجع إلى وطنه واشتغل بالقراءة على مذهب الإمام أحمد رحمه الله. ثم رحل لطلب العلم، وزاحم العلماء الكبار. ورحل إلى البصرة والحجاز مرارا، واجتمع بمن فيها من العلماء والمشائخ الأحبار. وأتى الأحساء وهي إذ ذاك آهلة الجزء: 16 ¦ الصفحة: 315 بالمشائخ والعلماء، فسمع وناظر، وبحث واستفاد، وساعدته الأقدار الربانية بالتوفيق والإمداد. أخذ العلم عن عدة مشائخ أجلاء، وعلماء فضلاء؛ ففي نجد عن أبيه وغيره، وفي المدينة عن الشيخ العالم محمد حياة السندي المدني، وعن الشيخ إسماعيل العجلوني، وغيرهما. وأخذ عن الشيخ علي أفندي الداغستاني وغيره؛ وأجازه محدثو العصر بكتب الحديث وغيرها. وأخذ أيضا العلم، وروى عن جماعة، منهم الشيخ عبد الله بن إبراهيم النجدي ثم المدني، وأجازه من طريقين، وأول ما سمع منه الحديث المسلسل بالأولية. كتب السماع بالسند المتصل، إلى عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء" 1. وسمع منه مسلسل الحنابلة بسنده إلى أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أراد الله بعبده خيرا استعمله. قالوا: كيف يستعمله؟ قال: يوفقه لعمل صالح قبل موته" 2 وهذا الحديث من ثلاثيات أحمد رحمه الله تعالى. 3   1 الترمذي: البر والصلة (1924) , وأبو داود: الأدب (4941) . 2 الترمذي: القدر (2142) , وأحمد (3/106) . 3 وقد شرحها السفاريني وهي مطبوعة. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 316 وقد سمع رحمه الله تعالى الحديث والفقه، من جماعة بالبصرة كثيرين، وطالت إقامته بها. وقرأ بها كثيرا من كتب الحديث والفقه والعربية، وكتب من الحديث والفقه واللغة ما شاء الله في تلك الأوقات. بلغ في العلوم العقلية والنقلية مبلغا صار بذلك أعجوبة العالم. وكان يدعو إلى التوحيد ويظهره لكثير ممن يخالطه ويجالسه، ويستدل عليه بالكتاب والسنة، ويقول: الدعوة كلها لله، لا يجوز صرف شيء منها لسواه. وربما ذكروا بمجلسه إشارات الطواغيت، أو شيئا من كرامات الصالحين الذين كانوا يدعونهم، ويستغيثون بهم، ويلجؤون إليهم في الملمات فينهى عن ذلك ويزجر، ويورد الأدلة ويحذر، ويخبر أن محبة الأولياء والصالحين إنما هي متابعتهم فيما كانوا عليه من الهدى والدين القويم. ثم خرج منها إلى نجد قاصدا الحج، فحج؛ وقد تبين له بما فتح الله عليه، ضلال من ضل في كل قطر وناحية، فلما قضى الحج وقف بالملتزم، وسأل الله عز وجل أن يظهر هذا الدين بدعوته، وأن يرزقه القبول من الناس. فخرج قاصدا المدينة، وحضر عند العلماء إذ ذاك، منهم حياة السندي وغيره، وكتب الهدي والبخاري، وحضر الجزء: 16 ¦ الصفحة: 317 في فنون العلم. ثم ارتحل يريد الشام، فحصل له عائق لما اقتضته الحكمة الربانية، من ظهور هذا الدين في البلاد النجدية. فقصد نجدا ووجد والده قد ارتحل إلى بلدة حريملاء، فاستقر معه فيها، يدعو إلى السنة المحمديه؛ حتى رفع الله شأنه، ورفع ذكره، ووضع له القبول، وشهد له بالفضل ذووه، من أهل المعقول والمنقول. ثم ارتحل منها إلى بلد العيينة، وساعده أميرها عثمان بن معمر. وأمر الشيخ بهدم القباب والمساجد المبنية في الجبيلة على قبور الصحابة، رضي الله عنهم، وقطع الأشجار التي تنتابها الخلق في كل ساعة. فبادر عثمان وخرج الشيخ معه وجماعتهم، فهدموا تلك المساجد المبنية عليها، وأزالوا تلك المشاهد المصروفة العبادة إليها، ومحق ما في العارض من المعبودات، الأشجار وغيرها، فلم يبق وثن في تلك البلدان؛ فشاع ذلك واستبان. فاستنكرته قلوب أهل الطغيان، وعجوا مطبقين بأنه ساحر كذاب، وحكموا بكفره ومن معه من الأصحاب، وجدوا في التحريش عليه، وأرسلوا بذلك إلى الحرمين الشريفين، والبصرة وغيرها. ولم يزل رحمه الله مقيما في بلد العيينه، يأمر الجزء: 16 ¦ الصفحة: 318 بالمعروف وينهى عن المنكر، ويعلم الناس دينهم، ويقيم الحدود؛ حتى أمر برجم زانية فرجمت، فكثر القيل والقال من أهل البدع والضلال. فشكوا إلى شيخهم رئيس بني خالد، فكتب إلى عثمان يأمره بقتله أو إجلائه؛ فأمر بإجلائه ولم يكن له إلى قتله من سبيل، وذلك لما اقتضته الحكمة الإلهية، والعناية الصمدانية، من إحياء دارس السنة المحمدية، والآثار السلفية. فخرج الشيخ وهاجر إلى بلد الدرعية، فنَزل إلى عبد الله بن سويلم، ثم انتقل إلى تلميذه الشيخ أحمد بن سويلم. فلما سمع بذلك الأمير محمد بن سعود، أسكنه الله دار الخلود، قام مسرعا إليه، فأتاه فسلم عليه، وبادره بالقبول والتقبيل، وأبدى له غاية الإكرام والتبجيل. وأخبره أنه يمنعه مما يمنع منه أولاده، من جميع من عاداه وكاده، إلا أنه طلب من الشيخ العهد والميثاق، أن لا يرحل عن بلده إلى سائر الآفاق، وهذا من عناية الله بهذا الرجل وتوفيقه، و {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [سورة الحديد آية: 21] . فأعطاه الشيخ عقد المرام، وأقام عنده في تلك البلاد، يدعو الناس إلى ما خلقوا له، في وقت طرق الإسلام قد عفت آثارها، وخبت أنوارها، ووهت أركانها، الجزء: 16 ¦ الصفحة: 319 وجهل مكانها؛ فشيد من معالمها ما عفا من كلمة التوحيد، وأوضح سبيل الهداية لمن أراد أن يسلكها، وأظهر كنوز السعادة لمن قصد أن يملكها. وقام منعه على ذلك إخوانه، ووزراؤه، وأعوانه، وأنصاره، من أهل الدرعية؛ فجردوا للدعوة أمضى سنان، وأرخوا في ذلك العنان؛ فصار الشيخ يدعو إلى التوحيد، ويقمع كل شيطان مريد، ويناظر أهل الشرك والعناد، وينكر على أهل البغي والفساد، نصره الله بالحجة واللسان، والسيف والسنان. أمر بالجهاد هو والإمام محمد بن سعود، وشمروا عن ساعد الجد والاجتهاد، وعدوا للجهاد ما استطاعوا من الإعتاد. وكان الشيخ هو الذي يجهز الجيوش، ويبعث السرايا على يد الإمام، ويكاتب أهل البلدان ويكاتبونه، والوفود إليهما، والضيوف عنده، وصدور الأوامر من عنده; حتى أذعن أهل نجد، وتتابعوا على العمل بالحق، وبالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فعمرت نجد بعد خرابها، وصلحت بعد فسادها، واجتمعت بعد افتراقها، وحقنت الدماء، ونال الفضل والفخر والملك من نصره وآواه، وملك الحرمين الشريفين واليمن وعمان، وما دونه وما وراءه. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 320 وفيه مشابهة لنبينا صلى الله عليه وسلم فيما ناله من الرؤساء والأحبار، في ابتداء دعوته؛ فإنه رحمه الله لما أظهر الدعوة إلى توحيد الله وإفراده بالعبادة، استصرخوا بأهل الحرمين، والنجرانيين، وبني خالد وغيرهم عليه، وألبت تلك الطوائف. فثبته الله ومن آواه ونصره، على قلة منهم وضعف، وصبروا على مخالفة الناس، وتحملوا عداوة كل من عادى هذا الدين. بل أشبه أمر الشيخ ما جرى لخاتم النبيين، حتى في مهاجره وأنصاره، وكثرة من عاداه وناوأه في حال الابتداء، كما هو حال الحق في المبادئ، يرده الكثيرون وينكرونه، ويقبله القليل وينصرونه، ثم تكون الغلبه له. فرحمه الله من إمام همام، وحبر شهم ضرغام، عمم الله ببركة علمه الأنام. قام بهذا الدين الحنيف، ولم يكن في البلاد إلا اسمه، وانتشر في الآفاق؛ وكل امرئ نال منه حظه وقسمه، وانتفع بعلمه. حتى أهل الآفاق يرسل إليهم ويدعوهم، ويسألون عما يأمر به وينهى عنه؛ فيقال لهم يأمر بالتوحيد وينهى عن الشرك. فانتهى أناس كثير من أهل الآفاق، وهدم المسلمون ببركة علمه جميع القباب والمشاهد، التي بنيت على القبور وغيرها، في أقاصي الجزيرة، من الحرمين، واليمن وتهامة، وعمان وغير ذلك. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 321 وبالجملة: فمحاسنه وفضائله أكثر من أن تحصر، وأشهر من أن تذكر. ومن طالع مصنفاته، واستقرأ سيرته ومؤلفاته، عرف أنه من أغزر الناس علما، وأحدهم فهما، وأنفذهم عزما وأشجعهم؛ بل هو من أكابر السلف. وهذه كتبه وفتاواه ورسائل دعوته تشهد بذلك؛ وهو المرجع في وقته في سائر العلوم والفتاوى. وما كان يخطر بالبال، ولا يدور في الخيال، أن رجلا فذا يدرك هذا المركز بعينه؛ حتى صار هو بين العالم فذا، فحق له أن يتمثل: أيا لائمي دعني أغالي بقيمتي ... فقيمة كل الناس ما يحسنونه فلقد كان رحمه الله من الفضل آية وحده، وفردا حتى نزل لحده، بل أمة قدوة، أخمل من القرناء كل عظيم، وأخمد من البدع كل حديث وقديم. هو البحر من أي النواحي جئته، والبدر من أي الضواحي رأيته. ولعمري هو شيخ الإسلام، قدوة الأنام، حسنة الأيام، افتخرت به نجد على سائر الأمصار؛ بل زها به عصره على سائر متقدمي الأزمان والأعصار، لما جمع الله له من المناقب والفضائل، التي أوجبت للأواخر الافتخار على الأوائل. قام مقام نبي، ودعا وملأ اسمه الدنيا شرقا وغربا الجزء: 16 ¦ الصفحة: 322 شمالا وجنوبا. وجمع بين خلتي العلم والحسب والنسب، والعقل والفضل، والخلق والخلق، مع سلامة الصدر واللطف والرفق، وحسن النية وطيب الطوية، لم ير في عصره من يستجلي النبوة المحمدية، وسننها وأقوالها وأفعالها إلا هو. اجتمعت الألسن على مدحه والثناء عليه، والقلوب على محبته والميل إليه. شهرته تغني عن الإطناب في ذكره، شمس فضائله شارقة في الأقطار، ومحاسنه علت على كل علم ومنار. أمده الله بكثرة الكتب، وسرعة الحفظ، وقوة الإدراك، وعدم النسيان. سمع الحديث وأكثر في طلبه، وكتب، ونظر في الرجال والطبقات، وحصل ما لم يحصل غيره. برع في تفسير القرآن، وغاص في دقائق معانيه، واستنبط منه أشياء لم يسبق إليها، وبرع في الحديث وحفظه، فقل من يحفظ مثله، مع سرعة استحضاره له وقت إقامة الدليل. وفاق الناس في معرفة الفقه، واختلاف المذاهب، وفتاوى الصحابة والتابعين، بحيث إنه إذا أفتى لم يلتزم بمذهب، بل بما يقوم دليله عنده. تمسك بأصول الكتاب، والسنة، وتأيد بإجماع سلف الأمة. وكان من بيت علم في الجزء: 16 ¦ الصفحة: 323 آبائه وأجداده، واتصل في بنيه وبنيهم، ولا يزال إلى آخر الزمان إن شاء الله تعالى. نصر السنة المحضة، والطريقة السلفية بأوضح حجج وأبين براهين. احتج بمقدمات وأمور وبراهين لم يسبق إليها، فظهرت السنة بعد أن سفت عليها السوافي. أعلى الله مناره، وجمع قلوب أهل التقوى على محبته والدعاء له، وكبت أعداءه. هدى به أمما من أهل الملل والنحل، وجبل قلوب الملوك والأمراء على الانقياد له؛ فظهرت هذه الدعوة، وبلغت مشارق الأرض ومغاربها، وانتشرت؛ فلم يبق أهل وبر ومدر إلا عرفوها وأقروا بها. ودخل أكثرهم فيها، وعرفوا صحتها، وأنها ما كان عليه سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم. وهو أكبر من أن ينبه على سيرته مثلي، فقد انتشرت فضائله واشتهرت، وشاعت دعوته لله وظهرت. وذكر الشيخ: حسين بن غنام وغيره، عن أكابر أهل عصرهم، أنهم شهدوا له بالعلم والدين، وأنه من جملة المجددين لما جاء به رسول رب العالمين؛ وكذلك أهل مصر والشام والعراق والحرمين، والهند وغيرهم، تواتر عن فضلائهم وأذكيائهم مدحه والثناء عليه، والشهادة له أنه جدد هذا الدين، كما قال محمد بن علي الشوكاني قاضي صنعاء: الجزء: 16 ¦ الصفحة: 324 وقام مقامات الهدى بالدلائل ... مقام نبي في إماتة باطل لقد أشرقت نجد بنور ضيائه ... فما هو إلا قائم في زمانه وأثنى عليه في مرثية له، وتأتي. وقال الأمير الشهير محمد بن إسماعيل الصنعاني: وإن كان تسليمي على البعد لا يجدي ... رباها وحياها بقهقهة الرعد ألا يا صبا نجد متى هجت من نجد ... لقد زادني مسراك وجدا على وجد به يهتدي من ضل عن منهج الرشد ... فيا حبذا الهادي ويا حبذا المهدي سلام على نجد ومن حل في نجد ... لقد صدرت من سفح صنعا سقى الحيا سرت من أسير ينشد الريح أن سرت ... يذكرني مسراك نجدا وأهله قفي واسألي عن عالم حل سوحها ... محمد الهادي لسنة أحمد ***** بلا صدر في الحق منهم ولا ورد ... ولا كل قول واجب الرد والطرد فذلك قول جل قدرا عن الرد ... تدور على قدر الأدلة في النقد يعيد لنا الشرع الشريف بما يبدي ... ومبتدع منه فوافق ما عندي مشاهد ضل الناس فيها عن الرشد ... لقد أنكرت كل الطوائف قوله وما كل قول بالقبول مقابل ... سوى ما أتى عن ربنا ورسوله وأما أقاويل الرجال فإنها ... وقد جاءت الأخبار عنه بأنه وينشر جهرا ما طوى كل جاهل ... ويعمر أركان الشريعة هادما إلى أن قال: وكنت أرى هذي الطريقة لي وحدي ... لقد سرني ما جاءني من طريقه الجزء: 16 ¦ الصفحة: 325 ثم قال: يتابع قول الله في الحل والعقد ... وهل غيره بالله في الشرع من يهدي وليس له ذنب سوى أنه غدا ... ويتبع أقوال النبي محمد وقال العالم الرباني، الشيخ محمد بن سرور الهمداني، بعد ثنائه، على الصنعاني في معارضته البولاقي. بمدح إمام قام بالخير والرشد ... بسمر العوالي والقواضب والجرد وبوأه الرضوان في جنة الخلد ... ذوائب عدنان ذوي العقل والمجد خبيث السجايا واحد البكم والبلد ... وما قال إلا الصدق والحق ناطق وأحيا من التوحيد ما كان دارسا ... جزاه إله العرش خير جزائه له نسب زاك إلى خير أسرة ... سلالة إسماعيل ذاك الذبيح يا وقال الشيخ العالم الجليل عبد القادر بن أحمد بن مصطفى، المعروف بابن بدران، الدمشقي. هو العالم الأثري، والإمام الكبير، محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى، يتصل نسبه بزيد مناة بن تميم، رحل إلى البصرة والحجاز لطلب العلم، وأخذ عن الشيخ علي أفندي الداغستاني، وعن المحدث الشيخ إسماعيل العجلوني، وغيرهما من العلماء. وأجازه محدثو العصر بكتب الحديث وغيرها. ولما أمتلأ وطابه من الآثار، وعلم السنة، وبرع في مذهب أحمد، أخذ لينصر الحق، ويحارب البدع، ويقاوم الجزء: 16 ¦ الصفحة: 326 ما أدخل الجاهلون في هذا الدين الحنيفي، والشريعة السمحاء، ولم يزل مثابرا على الدعوة حتى توفاه الله تعالى سنة 1206?. وقال الشيخ عبد الرحمن الجبرتي الحنفي في سنة 1217?: ترادفت الأخبار بأمر ابن عبد الوهاب "الشيخ محمد بن عبد الوهاب" وظهور شأنه من مدة ثلاث سنوات من ناحية نجد؛ ودخل في عقيدته قبائل من العرب كثيرة، وبث دعاته في أقاليم الأرض. ويزعم أنه يدعو إلى كتاب الله وسنة رسوله، ويأمر بترك البدع التي ارتكبها الناس، ومشوا عليها إلى غير ذلك. قال: وأرسل إلى شيخ الركب المغربي كتابا، ومعه أوراق تتضمن دعوته، وعقيدته، وصورتها: بسم الله الرحمن الر حيم، الحمد لله ... إلخ 1 ثم قال: إن كان كذلك، فهذا ما ندين الله به نحن أيضا، وهو خلاصة لباب التوحيد، وما علينا من المارقين والمتعصبين. فانظر ما اعترف به هذا المؤرخ المشهور. وقال صاحب الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي، في ترجمة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى:   1 تقدمت في كتاب العقائد. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 327 ربي بحجر والده، ثم انتقل للبصرة لإتمام دروسه؛ فبرع في علوم الدين واللسان، وفاق الأقران. واشتهر هناك بالتقوى، وصدق التدين، عقيدته السنة الخالصة، على مذهب السلف المتمسكين بمحض القرآن والسنة؛ لا يخوض التأويل والفلسفة، ولا يدخلها في عقيدته. وفي الفروع مذهبه حنبلي، غير جامد على تقليد الإمام أحمد ولا من دونه؛ بل إذا وجد دليلا أخذ به، وترك أقوال المذهب، فهو مستقل الفكر في العقيدة والفروع معا. وكان قوي الحال، ذا نفوذ شخصي، وتأثير نفسي ... إلى أن قال: فأصبح ابن عبد الوهاب ذا شهرة طبقت العالم الإسلامي وغيره، معدودا من الزعماء المؤسسين للمذاهب الكبرى. وقال في: "حاضر العالم الإسلام": طلب العلم، وتشرب مبادئ الإمام الحافظ، حجة الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم، وابن عروة وغيرهم من فحول أئمة الحنابلة؛ وهناك أيضا ازداد ريا من مواد المذهب الحنبلي، وأخذ يفكر في إعادة الإسلام إلى نقاوته الأولى: عقيدة الصحابة والتابعين. فلذلك الوهابية، يسمون مذهبهم: عقيدة السلف، ومن هناك أنكر الاعتقاد بالأولياء، وزيارة القبور، الجزء: 16 ¦ الصفحة: 328 والاستغاثة بغير الله، وغير ذلك مما جعله من باب الشرك؛ واستشهد على صحة آرائه، بالآيات القرآنية والأحاديث المصطفوية. وكذلك اعترف أعداؤه من معاصريه، والحق ما شهدت به الأعداء، ولو وجدوا سبيلا إلى الطعن لم يبقوا ممكنا، بل شهد له سائر الكل بأنه المصلح الأكبر. وقال الشيخ: ملا عمران بن علي، نزيل لنجة، في أثناء رد له، نصرا، للحق، وللشيخ محمد، رحمه الله تعالى: صح المبين وبالكلام الجيد ... إلا المهيمن ذا الجلال السرمدي كلا ولا من صالح أو سيد ... فأتاهم الشيخ المشار إليه بالنـ يدعو همو لله أن لا يعبدوا ... لا يشركوا ملكا ولا من مرسل إلى أن قال: أهل الزمان اشتد غير مقلد ... لله أندادا بغير تعدد فالشيخ لما أن رأى ذا الشأن من ... بادا همو يا قوم كيف جعلتمو إلى أن قال: إظهار ما قد ضيعوه من اليد ... ليكافئوه على وفاق المرشد لو أنصفوا لرأوا له فضلا على ... ودعوا له بالخير بعد مماته إلى أن قال: لرأي المحب محمد المحمد ... عجبا لهم لو كان فيهم منصف الجزء: 16 ¦ الصفحة: 329 للحب في نص الكتاب الأمجد ... الحق شمس للبصير المهتدي حسب يقربنا له بتودد ... نمتار نعمته ولم نسترفدي لذوي البصيرة فاهتدى من يهتدي ... من حيث إن الاتباع مقارن قالوا صبأتم نحوه قلنا لهم ... ما بيننا نسب نميل إليه أو أيضا ولا هو جارنا الأدنى الذي ... لكنها شمس الظهيرة قد بدت * * * * ن له أقروا بالفضائل واليد ... كالشعرة البيضا بجلد أسود حق القليل مقالة لم تجحد ... شك وريب واختلاف يبتدي تجدوها حقا ظاهرا للمقتدي ... فالعالمون العاملون المنصفو لكن قليل منهمو في عصرنا ... والله قد ذم الكثير وقال في فإن اعتراكم في الذي قد قاله ... فزنوا بميزان الشريعة قوله وقال الشيخ العلامة: أحمد بن محمد الحفظي في أرجوزة له: قد جاءنا في آخر العصر القذي ... بأمر رب العالمين الخالق من أرض نجد عالما مجتهدا ... الحنبلي الأثري الأحمد بين الورى وقد طغى واعتكرا ... يصرخ بين أظهر القبيلة ليس إلى نفس دعا أو مذهب ... حركني لنظمها الخبر الذي لما دعا الداعي من المشارق ... وبعث الله لنا مجددا شيخ الهدى محمد المحمدي ... فقام والشرك الصريح قد سرى دعا إلى الله وبالتهليلة ... ولم يزل يدعو إلى دين النبي الجزء: 16 ¦ الصفحة: 330 أن لا إله غير فرد يعبد ... رسوله إليكم وقصده شيئا به والابتداع فاتركوا ... يعلم الناس معاني اشهدوا محمد نبيه وعبده ... أن تعبدوه وحده لا تشركوا وقال أيضا رحمه الله تعالى، داعيا ملوك اليمن وعلماءهم، أن يدخلوا في دعوة الشيخ: وارمق عواقب حالها المتحول ... لم أدر ما حيلولة المتحيل فهو البريء من الخلاف المبطل ... جريد والتفريد للرب العلي ويذم من يدعو النبي أو الولي ... وبدائعا وصنائعا لم تقبل وفظاظة وشكاية لم تجمل ... وهيونة للمقبل المستقبل أو يقتل الأبطال إن لم تبطل ... غرض بمذهب آخر عن أول ثم اتباعا للنبي المرسل ... فعلام ينفر كل ندب أفضل لهما ولوا عبدا فكيف بمن ولي ... واستشهد الأيام وانظر شأنها والحق أولى أن يجاب وإنما ... إن كان ظنا أن ذاك مخالف بل قام يدعو الناس للتوحيد والتـ ... ويذب عن شرع النبي محمد ولقد أضاء فكم أزال شنائعا ... أو كان ظنا أن فيه غلاظة فأقول حاشا إن فيه ليونة ... لا يطلب الأموال من خزانها أو ينزع الملك المولى أوله ... بل قصده التوحيد في أفعالنا هذان ليس سواهما قصده ... والواجب الشرعي إجابة من دعا وقال: ومقدمات نتائج الأشكال ... شهدت عدول شواهد الأفضال الجزء: 16 ¦ الصفحة: 331 في العلم بالله العلي المتعالى ... أن المعالي والعوالي والعلا ثم ذكر ما الناس فيه من الشرك، وقال: نبأ عظيم أمره متوالي ... ـاس بالتوحيد والإفراد بالأعمال لله ليس الشرك في مثقال ... ومجدد العصر الأخير التالي كافاه ربي بالجزاء العالي ... حتى أتانا من مشارق أرضنا داع بأعلى الصوت يدعو النـ ... ويحث في صرف العبادة كلها أعني بذاك إمامنا شيخ الهدى ... بحر العلوم أبا حسين محمدا وقال: مناهج دعواه وصحت لداعيها ... وعبد العزيز القائم العدل محييها بأقلام حق والسيوف تحاذيها ... وبرهن بالوحيين حتى تلألأت إمام الهدى أعني محمدا الفتى ... فحياهما من جهبذين تناصرا وقال عالم الأحساء، حسان وقته، الشيخ: أحمد بن علي بن مشرف، بعد ثنائه على أنصار السنة العلماء: للدين ذو علم وذو إقدام ... بثواقب من علمه وسهام وضلالهم أكرم به من حام ... فأزاح ليل الشوك والأوهام بدليل وحي قاطع وحسام ... فجلا به قطعا من الإظلام وحباه بالإحسان والإنعام ... منهم بنجد عالم ومجدد نصر الهدى ونفى الردى، ورمى العدا ... وحمى حمى التوحيد من شبه العداي وأدلة التوحيد ألف شملها ... ومشاهد الإشراك هد بناءها فأتاهم بالنور من صبح الهدى ... فجزاه رب العرش خير جزائه الجزء: 16 ¦ الصفحة: 332 وقال: وقد جد في إخفائه كل ملحد ... فأكرم به من عالم ومجدد كما قد أمات الشرك بالقول واليد ... بكل دليل كاشف للتردد لقد أوضح الإسلام عند اغترابه ... وجدد منهاج الشريعة إذ عفت وأحيا بدرس العلم دارس رسمها ... وكم شبهة للمشركين أزاحها وقال الشيخ حسين بن غنام الأحسائي، رحمه الله: وقد كان فيه للبرية مرتع ... بوقت به يعلو الضلال ويرفع أزيل بها عنه حجاب وبرقع ... وعام بتيار المعارف يقطع وأهوى به من مظلم الشرك مهيع ... ومصباحه عال ورياه ضيع سواه ولا حاذى فناها سميدع ... يشيد ويحمي ما تعفى ويرقع ويدمغ أرباب الضلال ويدفع ... أمرنا إليها في التنازع نرجع لقد غاص بحر العلم والفهم والندى ... لقد رفع المولى به رتبة الهدى أبان له من لمعة الحق لمحة ... سقاه نمير الفهم مولاه فارتوى فأحيا به التوحيد بعد اندراسه ... فأنوار صبح الحق باد سناؤها سما ذروة المجد التي ما ارتقى لها ... وشمر في منهاج سنة أحمد وينفي الأعادي عن حماه وسوحه ... وناظر بالآيات والسنة التي وقال عبد الجليل البصري: وبالخير من قد كان أصدق قائم ... هو الحبر ذو الأفضال حاوي المكارم هو القانت السجاد في جنح فاحم ... جزى الله رب العرش بالصفح والرضى بنصرة دين المصطفى وظهيره ... هو الورع الأواه شيخي محمد الجزء: 16 ¦ الصفحة: 333 فريد طريد ماله من مسالم ... وفي الله لم تأخذه لومة لائم على محض شرك في العبادة لاجم ... لقد قام يدعو للمهيمن وحده وجاهد للرحمن حق جهاده ... همام بدا والناس إلا أقلهم إلى أن قال: ولا آمرا بالعرف بين العوالم ... بآيات حق للضلال صوارم قواعد زيغ محلكات الدعائم ... ولم تلق عن بادى المناكر ناهيا فجرد عضب العزم إذ وضح الهدى ... وقد بها هام الغواية فانمحت وقال الشيخ سليمان بن سحمان، رحمه الله تعالى: إلى السيد المعبود بالجد والجهد ... على الكفر بالمعبود والجعل للند ويدعون من لا يملك النفع للعبد ... عداوة من قد خالفوه على عمد جناية ذي بغي ولا زيغ ذي صد ... عليه لكي يطفوا من النور ما يبدي وقد قام يدعو الناس في جاهلية ... وقد كان أهل الأرض إلا أقلهم ينادون أرباب القبور سفاهة ... فجاهد في ذات الإله ولم يخف ولم يثنه عن نصرة الحق والهدى ... وتأليب أعداء الشريعة جندهم * * * * به الملة السمحا على كل ذي جحد ... وقد ضاء نور الحق من طالع السعد وقد طبق الآفاق من سائر البلد ... فألزم كلا عجزه من ذوي الطرد وقد جهدوا إلى كيده غاية الجهد ... وأعلن بالتوحيد لله فاعتلت فأضحى بنجد مهيع الحق ناصعا ... وأقلع ديجور الضلالة والهوى وجادلة الأحبار فيما أتى به ... فآبوا وقد خابوا وما أدركوا المنى الجزء: 16 ¦ الصفحة: 334 عليه وأولاه من العز والحمد ... وأكمد أكبادا بها الحسد المردي فاظهره المولى على من بغى ... بما كلت الأقلام عن حصر بعضه * * * * فحل على هام المجرة والسعد ... وكم مشهد قد شيد أوهاه بالهد بنور الهدى حتى استبانت لذي الرشد ... من العلماء المنصفين ذوي النقد وأرسل نظما ثابتا عنه في الوفد ... عليه بما أبدى من الحق في نجد يعيد لنا الشرع الشريف بما يبدي ... فلله من حبر تسامى إلى العلا فكم سنن أحيا وكم بدع نفى ... وكم شبهة جلت فجلا ظلامها وحسبك ما قال الأمير محمد ... فقد قال في الشيخ الإمام محمد فمن قوله في معرض الشكر والثنا ... وقد جاءت الأخبار عنه بأنه ثم قال: وما لم يقل في فضله فبلا حد ... كهذا التقي الفاضل العلم الفرد ولا كل منشور بحمد لذي عد ... وضعضع من ركن العدا كل مسند فدونك ما قد قاله في نظامه ... وكم من أخي علم أقر بفضله فليس بمحص فضله كل ناظم ... لقد أوضح الإسلام بعد اندراسه وقال أيضا: بعد أن ذكر ما كان بنجد من الشرك والبدع: وجود وإحسان إماما مفهما ... نبيلا جليلا بالهدى قد ترسما يشق له فيها غبار ولن وما ... فأظهر مولانا بفضل ورحمة تقيا نقيا ألمعيا مهذبا ... تبحر في كل الفنون فلم يكن الجزء: 16 ¦ الصفحة: 335 وبحر خضم أن تلاطم أو طما ... وأرشد حيرانا لذاك وعلما وهد من الإشراك ما كان قد سما ... بنجد وأعلى ذروة الحق فاستما وسباق غايات وطلاع أنجد ... فأطد للتوحيد ركنا مشيدا وحذر عن نهج الردى كل مسلم ... فأتوى وأوهى كل كفر ومعبد * * * * وكل امرئ منهم لدى الحق أحجما ... عليه وعادوه عنادا ومأثما ولا صده كيد من القوم قد طما ... وبالكفر والتجهيل والبهت قد رمى عليه وعاداه فما نال مغنما ... فكم مقول منهم تحدى فأبكما وكان إذا لاقى العداة عثمثما ... بوقت به الكفر ادلهم وأجهما وفل حسام كان بالكفر لهذما ... بإشراق نور الحق لما تبسما وجادله الأحبار فيما أتى به ... وألزم كلا عجزه فتألبوا فلم يخش في الرحمن لومة لائم ... وكل امرئ أبدى العداوة جاهدا فأظهره المولى على كل من بغى ... وكيف وقد أبدى نوابغ جهلهم وألقمه بالحق والصدق صخرة ... وقد رفع المولى به رتبة الهدى فزالت مباني الشرك بالدين وانمحت ... وحالت معاني الغي واللهو والهوى [مكانته العلمية ومؤلفاته] ومن عرف الرجال بالعلم، عرف حال الشيخ رحمه الله، ورسوخه ومتانة علمه ودينه، وأنه يلحق بأكابر السلف وعلمائهم، وإن تأخر عصره؛ وقد تتبع العلماء مصنفاته وفتاواه من أهل زمانه، ومن بعدهم، فأعجزهم أن يجدوا فيها ما يعاب. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 336 وقد كانت أقواله في أصول الدين، مما أجمع عليه أهل السنة والجماعة، وفي الفروع حنبلي المذهب، متوخيا الدليل، لا يوجد له قول مخالف لما ذهب إليه الأئمة الأربعة. وكان رحمه الله، مع قيامه بأعباء الدعوة، ومجاهدة المشبهين والمبطلين، متبتلا في العبادة، كثير الإفادة، غزير الاستفادة، رحل إليه في طلب العلم من جميع النواحي، وضربت إليه آباط الإبل. له مجالس عديدة مشهورة في التدريس، كل يوم وكل وقت، معمورة بالفقهاء في جميع فنون العلم، في التوحيد والتفسير والفقه وغيرها؛ وانتفع الناس بعلمه، وصنف مصنفات كثيرة، وألف مؤلفات نافعة شهيرة، سارت في الآفاق سيرورة ذكاء في الإشراق. منها: 1- كتاب التوحيد، فيما يجب من حق الله على العبيد، لم يعلم له نظير في الوجود. 2- كتاب كشف الشبهات. 3- كتاب أصول الإيمان. 4- كتاب فضائل الإسلام. 5- كتاب فضائل القرآن. 6- كتاب السيرة المختصرة. 7- كتاب السيرة المطولة. 8- كتاب مجموع الحديث على أبواب الفقه. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 337 9- كتاب مختصر الإنصاف والشرح الكبير. 10- كتاب مختصر الصواعق. 11- كتاب مختصر فتح الباري. 12- كتاب مختصر الهدي. 13- كتاب مختصر العقل والنقل. 14- كتاب مختصر المنهاج. 15- كتاب مختصر الإيمان. 16- كتاب آداب المشي إلى الصلاة. وله رسائل وأجوبة في التوحيد والنصائح، وأجوبة في الفقه كثيرة مفيدة، تقدمت في هذا الكتاب على حسب الترتيب؛ وله من المسائل المستنبطات من كتاب الله، ما يقصر عنه فهم الفحول الأفاضل، ولا يقدر على إبرازه ذوو التدقيق من الأماثل، تكلم على غالب السور، واستنبط منها من الفوائد ما لم يسبق إليه. [تلاميذه وتوليه لبيت المال] أخذ عنه العلم عدة من العلماء الأجلاء من بنيه وبنيهم، وغيرهم من علماء الدرعية، وأهل النواحي ممن تأهل؛ فمنهم أبناؤه الجهابذة الشيخ حسين، والشيخ عبد الله، والشيخ علي، والشيخ عبد العزيز، وأخذ عنه ابن ابنه الشيخ عبد الرحمن بن حسن. وأخذ عنه الشيخ حمد بن ناصر بن معمر، والشيخ عبد العزيز الحصين الناصري، والشيخ سعيد بن حجي، الجزء: 16 ¦ الصفحة: 338 والشيخ محمد بن عبد الله بن سويلم، والشيخ عبد الرحمن بن خميس، والشيخ عبد الرحمن بن نامي، الشيخ محمد بن سلطان العوسجي، والشيخ عبد الرحمن بن عبد المحسن أبا حسين، والشيخ حسن بن عبد الله بن عيدان، والشيخان عبد العزيز ومحمد آل سويلم، والشيخ حمد بن راشد العريني. وكل واحد من هؤلاء ولي القضاء في ناحية، وأخذ أيضا عنه ممن ولي القضاء وممن لم يله، من الفقهاء والأعيان الخلق الكثير، والجم الغفير، وكان كثيرا ما ينشد هذه الأبيات: بأي لسان أشكر الله إنه ... لذو نعمة أعجزت كل شاكر حباني بالإسلام فضلا ونعمة ... علي وبالقرآن نور البصائر فبالنعمة العظمى اعتقاد ابن حنبل عليها اعتقادي يوم كشف السرائر وكانت حاله رحمه الله في العبادة، والزهد والورع، مشهورة بين الأنام، سميره القرآن في دجى الظلام، وإحياء كثير من الليل بالقيام، مع اشتغاله في النهار بالتدريس، والتصنيف، وتنفيذ الأحكام؛ فساعاته كلها مواسم، وله من الرأي والفراسة والتدبير ما يعجز عنه الملوك. وكان يتولى بيت المال، من جميع بلدان المسلمين، ويفرقه عليهم، وكان عن كثرة الأكل منه متعففا، بل يعجله خروجا ومصرفا، وكان سمحا جوادا كريما، لا يلفى عنده المال مقيما، الجزء: 16 ¦ الصفحة: 339 ومحافظا على ما له من الأحزاب والأوراد، مشمرا في تحصيل نافع الزاد، متجردا للاستعداد ليوم المعاد، وكثيرا ما يلهج بقول: {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [سورة الأحقاف آية: 15] . فأجاب الله دعاءه، وصار ذريته وذريتهم، هم الباقين، وعلماء عاملين; توفي رحمه الله وأسكنه الفردوس الأعلى سنة 1206?، يوم الاثنين آخر شهر شوال، وكان يوما مشهودا؛ تزاحم الناس على سريره، وصلوا عليه في بلده الدرعية، وخرج الناس مع جنازته الكبير والصغير، وحصل بموته الخطب العظيم، والفادح العميم. فضلا وجودا وتكريما وإحسانا ... ورحمة منه إحسانا ورضوانا فالله يعليه في الفردوس منْزلة ... والله يوليه ألطافا ومغفرة [ما قيل في رثائه] ورثاه طوائف من العلماء منهم العالم النبيل محمد بن علي الشوكاني، رحمه الله، فقال: وأصمى بسهم الإفتجاع مقاتلي ... فأمست بفرط الوجد أي ثواكلي وأنهلني قسرا أمر المناهل ... حليف أسى للقلب غير مزائل مصاب دهى قلبي فأذكى غلائلي ... وخطب به أعشار أحشائي صدعت ورزء تقاضى صفاء معيشتي ... فغدوت به رهن التياع ولاعج الجزء: 16 ¦ الصفحة: 340 وقلب من الحزن المبرح ذاهل ... ومن كرب لاقيت أعظم هائل وعن حمله قد كل متني وكاهلي ... أسير جوى أفنى فؤادي رسيسه مصاب به قامت علي قيامتي ... مصاب به ذابت حشاشة مهجتي * * * وكان على حال من الحزن هائل ... وقد شمخت أعلام قوم أسافل بها نجم روحي كان أسرع آفل ... وشد بناء الغي مع كل باطل نعيق غراب بالمذلة هائل ... هوان انهدام جاء من كل باطل بسم لنفس الدين مرد وقاتل ... مصاب به قد أظلم الكون كله مصاب به الدنيا قد أغبر وجهها ... رميت به عن قوس أبرح لوعة به هد ركن الدين وأنبتّ حبله ... وقام على الإسلام جهرا وأهله وسيم منار الاتباع لأحمد ... وهبت لنار الابتداع سمائم * * * ويا كبدي انقشي بحزن مواصل ... ويا فجعتي للقلب ما عشت نازلي وجودي بدمع دائم السكب هاطل ... ويا سلوتي ولي وللقلب زائلي ومركز أدوار الفحول الأفاضل ... وغيب وجه الحق تحت الجنادل ومروي الصدى من فيض علم ونائل ... وجم القرى صدر الصدور الأوائل فيا مهجتي ذوبي أسى وتأسفا ... ويا لوعتي دومي وزيدي ولازمي ويا مقلتي نحي الكرى عنك جانبا ... ويا جزعي لا غبت كن متجددا فقد مات طود العلم قطب رحى العلا ... وماتت علوم الدين طرا بموته إمام الهدى ماحي الردى قامع العدى ... جمال الورى رحب الذرى شامخ الذرى الجزء: 16 ¦ الصفحة: 341 جالي الخفا عن مشكلات المسائل ... منيل المنى من سيبه كل آمل عظيم الوفا كنْز الشفا معدن الصفا ... بهي السنا عذب طيب الثناء * * * وشيخ الشيوخ الحبر فرد الفضائل ... وجل مقاما عن لحوق المطاول سلالة إنجاب زكي الخصائل ... تبل ثراه بالضحى والأصائل وقام مقامات الهدى بالدلائل ... من الفضل تثني عزة المتطاول له في تقادير لها من مماثل ... وميدان فخر سابق للأوائل وكامل أوصاف وحسن شمائل ... منيب وعن مولاه ليس بغافل وجفن بهتان المدامع هامل ... وفي الجهر طول الدهر ليس بذاهل إمام الورى علامة العصر قدوتي ... محمد ذو المجد الذي عز دركه إلى عابد الوهاب يعزى وإنه ... عليه من الرحمن أعظم رحمة لقد أشرقت نجد بنور ضيائه ... إمام له شأن كبير ورتبة فريد كمال في العلوم فهل ترى ... تأخر ميلادا وفي حلبة العلا على خلق يحكي النسيم لطافة ... وقلب سليم للمهيمن خاشع وقلب تجافيه المضاجع في الدجى ... وعن ذكر رب العرش في السر دائما * * * إلى الشيم يعزى ليس يهفو لعاجل ... ضحوك ووجه للبشاشة باذل وعن منكر ينهى وليس بقابل ... برأي وتدبير وحسن تعامل عفو عن الجاني صفوح وحلمه ... يقابل من يلقى ببشرى ومبسم ويأمر بالمعروف في كل حالة ... ولم يأل جهدا في نصيحة مسلم الجزء: 16 ¦ الصفحة: 342 وبالجاه عن مستوجه غير باخل ... ولم يمض منه العمر في غير طائل لمن كان مظلوما وليس بخاذل ... يجازي بإحسان إساءة غيره تقمص بالتقوى وبالخشية ارتدى ... ومن شأنه قمع الضلال ونصره * * * بماضي سنان دامغ للأباطل ... مضل وبدعي ومغوي وفائل وما نكست أعلامه بالأراذل ... ولا عن وصال الاعتبار بغافل ولا اشتد للإسلام ركن المعاقل ... يقيم اعوجاج السير من كل عادل مقام نبي في إماتة باطل ... سيبكيه عني جفن طل ووابل ويبكيه طرسي دائما وأناملي ... وكم كان في الدين الحنيفي مجاهدا وكم ذب عن سامي حماه وذاد من ... ففيم استباح أهل الضلال لعرضه وليس له شيء عن الله شاغل ... فلولاه لم تحرز رحى الدين مركزا ولا كان للتوحيد واضح لا حب ... فما هو إلا قائم في زمانه ستبكيه أجفاني حياتي وإن أمت ... وتبكيه أقلامي أسى ومحابري * * * يميد ببحر فائض العلم سائل ... هنيئا له إذ كان أشرف حامل فقد كان غيث الجود كهف الأرامل ... وآها على تلك العلوم الجلائل وتوضيحه للمعضلات المشاكل ... يبين المخبا منهما للمحاول عجبت لقبر ضمه كيف لم يكن ... ومن نعش كان حامل جسمه ولا غرو أن يبكي الزمان لفقده ... فآها على ذاك المحيا وحسنه وآها على تحقيقه في دروسه ... فمن للبخاري بعده ولمسلم الجزء: 16 ¦ الصفحة: 343 لأحكام فقه الدين من للرسائل ... وكشف لثام الحكم عند النوازل ومن ذا لتفسير الكتاب ومن ترى ... ومن لمسانيد سمت ومعاجم * * * عليه وذو جسم من الحسن ناحل ... وردع أخي الجهل الغوي المجادل بها أنزل القرآن أشرف نازل ... بجد ولا يخشى ملامة عاذل لقد عبت حقا وارتجلت بباطل ... وفل التعصب بالسيوف الصواقل صرختم له بالقذف مثل الزواجل ... إلي دين آباء له وقبائل أتانا بها طه النبي خير قائل ... ألم تر أن الدهر نصف كآبة ومن للمعالي والبيان ومنطق ... ومن لك بالأصلين واللغة التي ومن بعده للصدع بالحق قائم ... أفق يا معيب الشيخ ماذا تعيبه نعم ذنبه التقليد قد جذ حبله ... ولما دعا الله في الخلق صارخا أفيقوا أفيقوا إنه ليس داعيا ... دعا لكتاب الله والسنة التي * * * عليه ويا حزني لأكرم راحل ... ولكن قضاء الله أغلب حائل لكنت له بالجهد أي محاول ... أتاه من الرحمن أكرم ناقل وكان لها كفوا وأسرع واصل ... أظلتها أهني وأرفه قائل تقول له قد فزت يا خير عامل ... فوا أسفي وا لهف قلبي وحسرتي ويا ندمي لو كان يجدي من القضا ... ولو كان من ريب المنية مخلص وما مات كلا بل إلى جنة العلا ... ولما له الفردوس زاد اشتياقه وكان على حسن الأرائك في ذرى ... شذت ورق أغصان الهناء ترجعا الجزء: 16 ¦ الصفحة: 344 [هنيئا برغد في رفيع المنازل 1 ... اعزيكمو مع ذي انتساب وائل بجاري القضا في عاجل ثم آجل ... لديه تعالى من أجور جزائل وما الحزن برد للقضاء بفاعل ... ولا وهن في فادحات النوازل فقد كان فينا معقبا كل كامل ... بعلم وفضل شامخ القدر شامل وخاطبه التاريخ فألا بقوله ... فيا سائر الأولاد للشيخ إنني وأوصيكمو بالصبر طرا وبالرضى ... بتسليم أمر الله ثم احتساب ما فما جزع يوما بنافع جازع ... ومثلكمو لا يعتريه تزلزل فإن كان للجنان والدكم مضى ... وأنتم بحمد الله عنه خلائف * * * بكم يقتدي في دينه كل فاضل ... تحث إليكم مضمرات الرواحل ويحميكمو من طارقات الغوائل ... ويعقبكم طرا جمال المحافل يعاديكم من كل حاف وناعل ... برزء لموصول المسرة فاضل وجمل زاكي ذكركم كل عاطل ... وإنا لنرجو أن تكونوا أئمة وللخير والإحسان من كل وجهة ... ونسأل رب العرش يعظم أجوركم ويجبر صدع القلب والكسر منكمو ... ولا زلتمو غيظ القلوب لكل من ولا فجعت في الدهر ساحة سوحكم ... عليكم سلام الله ما هب ناسم   1 كان موضع ما بين القوسين بياضا في الأصل, فكمله شيخنا وفقه الله, أي: الشيخ محمد بن إبراهيم. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 345 وأزكى محيات سوام كوامل ... هداة الورى من محتدي فرع وائل وأوفى الثنا مني عليكم مكررا ... وأضعافها للمقرنين كلهمو * * * * جميع بني الدنيا فما للمجادل ... إلى أن أقاموا بالضبا كل مائل فحقهم التبجيل بين القبائل ... كما حالف الآبا ليحس براحل كما دمغوا داعي الهوى بالقنابل ... وما اهتزت الأزهار في صبح هاطل على المصطفى الهادي كريم الشمائل ... وآل وأصحاب كرام أفاضل هم الناس أهل الباس يعرف فضلهم ... لقد جاهدوا في الله حق جهاده فناديهمو في كل ناد مبجل ... سعود مضى والسعد حالف نجله لقد نصروا دين الإله وحزبه ... عليهم سلام الله ما ذر شارق وأزكى صلاة الله ثم سلامه ... محمد المختار من فرع هاشم وممن رثاه الشيخ حسين بن غنام الأحسائي، رحمه الله تعالى: وليس إلى غير المهيمن مفزع ... فسالت دماء في الخدود وأدمع وطاف بهم خطب من البين موجع ... وحل بهم كرب من الحزن مفظع نجم ثوى في التراب واده بلقع ... وبدر له في منْزل اليمن مطلع فداجي الدياجي بعده متقشع ... إلى الله في كشف الشدائد نفزع لقد كسفت شمس المعارف والهدى ... إمام أصيب الناس طرا بفقده وأظلمت أرجاء البلاد لموته ... شهاب هوى من أفقه وسمائه وكوكب سعد مستنير سناؤه ... وصبح تبدى للأنام ضياؤه الجزء: 16 ¦ الصفحة: 346 إلى آخر ما رثى به، رحمه الله وعفا عنه، وجزاه عن الإسلام والمسلمين الفردوس الأعلى، في جنات النعيم المقيم. ومن أراد الاطلاع على حقيقة حاله، وما منحه الله في مبدإ أمره ومآله، من النور المبين، وتجديد الملة والدين، وما حباه الله من نيل مقصوده، وبلوغه الأمل من توحيد معبوده، وما من الله به عليه من الظفر والتمكين، ولسان الصدق في العالمين، فعليه بكتاب "روضة الأفكار والأفهام لمرتاد حال الإمام، الشيخ: محمد بن عبد الوهاب" وهو تأريخ الإمام الشيخ: حسين بن غنام الأحسائي الشافعي، رحمه الله تعالى. الإمام محمد بن سعود رحمه الله هو الإمام الرئيس، مجدد الجهاد بالعرمرم الخميس، الثبت الشجاع الحازم الألمعي، الهمام الصارم، إمام المسلمين، محيي العدل في العالمين، جامع كلمة المؤمنين، ناصر الموحدين، قائد المجاهدين، العادل المؤيد، بدر الزهاد، سلالة الأمجاد، إمام الهدى، مطفي الردى، الأوحد بدر الزمان، الأمجد: محمد بن سعود بن محمد بن مقرن بن مرخان بن إبراهيم بن موسى بن محمد بن ربيعة بن مانع بن الجزء: 16 ¦ الصفحة: 347 الحسيب بن المقلد بن بدران بن مالك بن سالم بن مالك بن حسان بن ربيعة بن مرة بن منقذ بن الحارث بن سعد بن همام بن مرة بن ذهل بن شيبان بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل، ذو الرأي الباهر، والعقل الوافر، أجمع قومه على توليته؛ فساسهم، ودبر أمورهم، بحسن السيرة والكرم، وقوة الباس. جددت الدعوة الإسلامية على يديه، وأحييت السنة المحمدية بمواضيه، لما نور الله قلب شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، وأظهر التوحيد، ونهى عن الشرك والتنديد، قبل منه الأقلون، واشمأزت قلوب الذين لا يوقنون، ونفرت الرؤساء والأحبار، واستصرخت بأهل القوى والأمصار. فقال للشيخ: أبشر بالعز والمنعة، فقال له الشيخ: وأنا أبشرك بالعز والتمكين، والنصر المبين. وهذه كلمة التوحيد، دعت إليها الرسل كلهم، ومن تمسك بها، وعمل بها ونصرها، ملك العباد والبلاد. وأنت ترى نجدا كلها وأقطارها، أطبقت على الشرك والجهل، والفرقة والاختلاف، والقتال لبعضهم بعضا; فأرجو أن تكون إماما يجتمع عليه المسلمون، وذريتك من بعدك أئمة متعاقبون. فتلقاه الإمام بالقبول والتحية، ونصره وأواه. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 348 وما أحسن ما قيل: يلقاه بالإجلال وهو يرحب ... به اشتد للشيخ المبجل منكب كما بايعت في وفدها قبل يثرب ... آواه في الدرعية البطل الذي محمد أصل المجد في آل مقرن ... وبايعه في نصرة الدين والهدى فأجد وأمد، وعن ساعده شمر واجتهد، وأعد للجهاد ما استطاع من قوة الآلات، ومن رباط الخيل في سبيل الله، فأعز الله به الإسلام والمسلمين، وألف به قلوب المؤمنين، وظهر الحق وانتصر الدين، وقمع الباطل وأولياءه من المشركين. ولم يزل رحمه الله مساعدا للشيخ في دعوة الناس إلى التوحيد، وجهاد من أبى عنه من كل شيطان مريد، حتى ارتجع الله له الحق الذي كان نادا، ورد على يديه الأمر الذي لم يكن له غير الله رادا، وبلغ كل مؤمن من إعلاء كلمة الإيمان ما كان له وادا. وأيده الله وتولاه، وهزم ضده وأعداءه، وصار فيه شبه من الأنصار، بل الأنصار من نصر الدين، مع تطاول الأعصار؛ فأعز الله بهما الدين، وأذل بهما الشرك والمشركين، وجعل ذريتهما الباقين، وحقق رجاء إمام هذه الدعوة، وجعله إماما لخلقه، ووارثا لأرضه، وداعيا إلى الله بإذنه. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 349 فصار هو وذريته الذين حازوا فضائل المفاخر، وأذل لهيبتهم كل عنيد من باد وحاضر؛ وملؤوا هذه الجزيرة بإدمان سيف قهرهم، كما ملؤوها بسيف عدلهم وبرهم. واستبشرت بهم الحرمان الشريفان، لما أزالوا عنهما الجور والطغيان، والبناية على القبور، التي ما أنزل الله بها من سلطان، ونادوا في فجاجهما: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ} [سورة النحل آية: 90] . وكسوا الكعبة المشرفة بالحرير، وسارت الظعينة إليها من العراق والشام واليمن والبحرين، والبصرة وما حولها وما دونها، لا تخشى أحدا إلا الله الواحد المنان؛ وبطلت في زمانهم جوائز الأعراب على الدروب، وسكنت تلك الفتن والحروب، يجلس الرجل ويأكل مع قاتل أبيه وأخيه كالإخوان. وزالت سنن الجاهلية، وسارت عمالهم إلى جميع الأعراب في الشام والعراق، واليمن وأقصى الحجاز، وما وراء الينبع إلى دون مصر، وإلى عدن وما دون البصرة. وهدموا المواضع الشركية في تلك الأقطار، وعمروا المساجد للصلاة والتدريس والأذكار؛ والأمر- والحمد لله وحده- مستمر إلى هذا الحين، أدام الباري لهم العز والتمكين، والقيام بشريعة سيد المرسلين. فإن الناس قيامهم بقيام آثار نبيهم وشرائعه بينهم، الجزء: 16 ¦ الصفحة: 350 وقيام أمورهم وحصول مصالحهم، واندفاع أنواع البلاء والشر عنهم، بحسب ظهورها بينهم، وقيامها؛ وهلاكهم، وعنتهم وحلول البلاء والشر بهم، عند تعطلها والإعراض عنها. ومن تأمل تسليط الله من سلط على البلاد والعباد من الأعداء، علم أن ذلك بسبب تعطيلهم لدين نبيهم، وسنته وشرائعه؛ حتى إن البلاد التي لآثار النبي صلى الله عليه وسلم وسننه وشرائعه فيها ظهور، دفع عنهم بسبب ظهور ذلك بينهم. ويشهد أن هذا الإمام وخلفاءه، على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأنهم على الحق، وعدوهم على الباطل، ما جرى عليهم ممن عاداهم؛ وأيدهم الله، ونصرهم على قلة منهم وضعف، وقوة من عدوهم وكثرة. وصارت الغلبة والظهور لهم، وكثير ممن ناوأهم لم تقم لهم قائمة، وصار كل من في نجد وما حولها، سامعا مطيعا لإمام المسلمين، القائم بهذا الدين بأمن وأمان؛ وأثنى عليه علماء الأمصار والبلدان، القاصي منهم والدان. قال الشيخ: أحمد بن محمد الحفظي اليمني، في أرجوزة له بعد ثنائه على مجدد هذه الدعوة: آل سعود الكبراء القادة ... ونصرة الإسلام والشم الأنف وعرفوا من حقه ما أنكروا ... والسابقون الأولون السادة هم الغيوث والليوث والشنف ... فأقبلوا والناس عنه أدبروا الجزء: 16 ¦ الصفحة: 351 وكم وكم لله من ضنائن ... محمد الرئبيل والعيسوب وجند ربي قبله حيزوم ... حفوا به كأسد العرائن وابن سعود كأبي أيوب ... قال اذهبوا فأنتم سيوم وقال الشيخ: أحمد بن علي بن مشرف الأحسائي: تهلل وجه الفخر وابتسم المجد ... فهم للعدا حتف وهم للهدى جند ومعشر صدق فيهم الجد والحد ... وإن أشعلت نار الوغى فهم الأسد وكم مشهد للشرك بنيانه هدوا ... فهم دون ما يخشونه الردم والسد ومهما ذكرت الحي من آل مقرن ... همو نصروا الإسلام بالبيض والقنا غطارفة ما أن ينال فخارهم ... وهم أبحر في الجود إن ذكر الندى فكم مسجد قد أسسوه على التقى ... بهم أمن الله البلاد وأهلها وقال الشيخ: سليمان بن سحمان، بعد ثنائه على الشيخ محمد، رحمهما الله تعالى: أئمة عدل مهتدون ذوو رشد ... بآل سعود واستطالوا على الضد إلى الله بالتقوى وبالصارم الهندي ... بنوهم وقد ساروا على منهج الرشد وقد جرهم قوم طغاة إلى نجد ... وساعده في نصرة الدين والهدى وقد نال مجدا أهل نجد ورفعة ... بإظهار دين الله قسرا ودعوة وقام بهذا الأمر من بعد من مضى ... وقد جاهدوا أعداء دين محمد إلى أن قال: مناهم فباؤوا بالخسارة والطرد ... ومجدا بنصر الدين والكسر للضد فما نال من عاداهمو من ذوي الردي ... ونال ذوو الإسلام عزا ورفعة الجزء: 16 ¦ الصفحة: 352 بنصر وإسعاف على كل ذي حقد ... فلا زال تأييد الإله يمدهم ولو ذهبنا نتتبع ما أثنى به عليه، لذهب بنا عن المقصود؛ وأصح الثناء ما اعترف به الأعداء. وقد قال دحلان في رده على أهل هذه الدعوة، مما اعترف به، بأن من خصالهم أمرهم البوادي بإقامة الصلاة، والمحافظة على الجمع والجماعات، ومنعهم من الفواحش الظاهرة، كالزنا، واللواط، وقطع الطريق، فأمنوا الطرقات، وصاروا يدعون الناس إلى التوحيد. ولو وجد مجالا لأنكر تلك الأعمال الفاضلة، ولكنه اضطر إلى الاعتراف بها، لأنها أشهر من الشمس في رابعة النهار. وقبله من معاصري الشيخ ممن اشتهر عناده، عثمان بن سند البصري، الفيلكاوي، قال في تاريخه: ومن محاسن الوهابية: أنهم أماتوا البدع ومحوها، ومن محاسنهم: أنهم أمنوا البلاد التي ملكوها، وصار كل ما كان تحت حكمهم، من هذه البراري والقفار، يسلكها الرجل وحده على حمار بلا خفر، خصوصا بين الحرمين الشريفين، ومنعوا غزو الأعراب بعضهم على بعض. وصار العرب على اختلاف قبائلهم، من حضرموت إلى الشام، كأنهم إخوان أولاد رجل واحد، وهذا بسبب قسوتهم في تأديب القاتل، والناهب والسارق، إلى أن عدم الجزء: 16 ¦ الصفحة: 353 هذا الشر، في زمان ابن سعود؛ وانتقلت أخلاق الأعراب، من التوحش إلى الإنسانية. وكفى برهانا على شجاعته، وثبات جأشه، وشهامته وإرادته الحديدة، وعزمه البات، وقوة إيمانه، وسائر خصاله الحميدة: إيواؤه للشيخ، وقيامه بنصرته، وقد رأى وعلم ما وراء ذلك من الأخطار، وتألب الملوك والأمراء، وعامة الناس عليه. ولولا أنه هو الأوحد، فرد زمانه، لما نجح في توطيد دعائم ملكه ونشر سلطته على البلدان، وتوحيد كلمة التوحيد تحت لوائه بين خطوب سود، ونظراء أقوياء، وتكالب من جميع أطراف جزيرة العرب؛ فلهو القائد الباسل، والأوحد الحلاحل، فما قام بنصرة هذا الشيخ، ولا أخذ بساعده، إلا عن اعتقاد راسخ، وإيمان قوي. ولقد كانوا على حالة تشبه حال مسلمي الصدر الأول في مقاومة المشركين الذين جاهدهم النبي صلى الله عليه وسلم، وفي مقاومة تاركي الصلاة ومانعي الزكاة كالذين قاتلهم أبو بكر رضي الله عنه، وفي مجاهدة البغاة كالذين قاتلهم علي رضي الله عنه، وفي مجادلة المبتدعين كالذين ناضلهم الإمام أحمد رحمه الله. فأعادوا نشأة الإسلام في الصدر الأول، من ولاية وبراءة، وهجرة وجهاد بالسيف والسنان، وبالحجة الجزء: 16 ¦ الصفحة: 354 والبرهان؛ فجزاهم الله عن الإسلام والمسلمين، أفضل ما جزى به من سلكوا سبيلهم، وأخذوا بهديهم؛ إنه سميع قريب. صار هو: الخليفة في نجد، من سنة 1158? إلى 1179? وتتابعت الخلافة في ذريته إلى الآن. جاهدوا في الله حق جهاده؛ حتى أنجح الله لهم المآرب، وحقق لهم ما راموا من المطالب. وأشرقت جزيرة العرب بالتوحيد، وطهرت من الشرك، والبدع والتنديد. وكانت أعلامهم في غالب البلدان خافقة، وشموس سعدهم في الآفاق شارقة، وألسنتهم بين التوحيد والشرك فارقة، وجياد أبطالهم إلى الجهاد سابقة، حتى محقوا جميع البدع والأهواء، إزالة وتغييرا. وسطروا آيات الرشد تسطيرا، وحازوا من الفخر أعلى مقام، حيث قاموا من الدين بذروة السنام، وأصبح جندهم على جنود الأعداء منصورا، وأضحى التوحيد مشرقا مستنيرا؛ طهر الله بهم جزيرة العرب من الإشراك تطهيرا. وشاما إلى البصرى بل الغرب والشرقا ... وكانوا أولي بأس فسل كل من تلقى وقد ملكوا نجدا وغورا واتهموا ... حنيفية في دينها سلفية وهو أشهر من أن ينبه على سيرته، قد انصبغت في القلوب مودته، وظهر حسن خليقته، ونطقت الألسن بحسن الجزء: 16 ¦ الصفحة: 355 طريقته، وسارت الركبان بنشر فضيلته؛ كان في العبادة والزهادة فردا، محافظا على أوراده متأهبا لمعاده. قاضيه في الدرعية شيخ الإسلام: محمد بن عبد الوهاب، وهو المدرس والمفتي; وأميره على عرقة إبراهيم الهلالي، وعلى منفوحة إبراهيم بن سعيد، والوشم عبد الله بن حمد بن غيهب، وفي الخرج إبراهيم بن عفيصان، وفي ضرمى علي بن سلطان، وفي المحمل ساري بن يحيى. توفي رحمه الله، وأسكنه النعيم، سنة 1179?، في بلد الدرعية، وضج الناس لفقده، وشيعوه إلى لحده، وعجوا بالدعاء له وحمده. الإمام عبد العزيز بن محمد بن سعود رحمه الله هو الخليفة الراشد، والملك الهمام القائد، سلالة الأماجد، الألمعي المهذب، الصارم المجرب، أسد الأسود، مورد الجود، مؤيد السنة، نجل الأكابر، بحر الندى، إمام الهدى: عبد العزيز بن الإمام محمد بن سعود. ولد سنة 1133?، في بلد الدرعية، وأخذ العلم عن الشيخ محمد وغيره، وشب شجاعا شهما، فاتكا ماجدا، سائقا للجنود وقائدا. اجتمعت له المكارم والفضائل، وزانت به المجالس والمحافل، طلعت بشائر سعوده مشهودة، وفاق عشائره وجدوده. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 356 ولي الملك بعد أبيه فبايعه الناس، ورئيسهم في تلك البيعة شيخ الإسلام. وفتح الله على يديه البلدان والأقطار، وأرعب به ملوك الأمصار؛ وظهر صيته وشاع، وأثنى عليه القريب والبعيد، والتابع والمطاع. قال الشيخ محمد بن أحمد الحفظي اليمني: مجدد دين الله بالمرهف الحد ... فيا حبذا التشمير في ذلك القصد بتلك ارتقى أعلى المراتب والمجد ... وأمواله قطعا يصدق بالوعد صفوة التوحيد من كدر الضد ... ونزهه عن قول طاغ ومرتد سلام على من حل نجدا موحدا ... ويدعو إلى التوحيد ذلك قصده له همة في نصرة الدين والهدى ... وجاهد في ذات الإله بنفسه إمام الهدى عبد العزيز الذي حما ... وأوضح منهاج الهدى وأبانه وقال أيضا في أرجوزة له: عبد العزيز من ومن ومن ... ودوخ البر وخاض للثبج على طريق العدل والإحسان ... مجاهد بالأربع المراتب والصدق للقلوب مغناطيس ... وقام فاروق الزمان المؤتمن فسار في الناس كسيرة الأشج ... يسوس بالآثار والقرآن يدعو إلى الله بحزب غالب ... ونفسه لله والنفيس وقال الشيخ أحمد بن عبد القادر الحفظي، بعد ثنائه على الشيخ: فقام وقاموا واستقاموا بحجة ... بحجة قرآن وضرب المواضيا الجزء: 16 ¦ الصفحة: 357 هو القائم الفاروق بالعدل قاضيا ... وأجرى إلى برك الغماد العواديا وفي شن غارات وتجهيز غازيا ... وكل نفيس والأسود الضواريا وشيبته داع وراع وساعيا ... وجدد توحيدا وقد كان باليا ورد إلى الدين الحنيفي غاويا ... ولا سيما عبد العزيز فإنه حما بيضة الإسلام بالبيض والقنا ... وما زال في بعث الجيوش مجاهدا بنفس وأولاد وأهل وإخوة ... وأنفق في ذات الإله شبابه وبدد جيش الشرك في كل بلدة ... ودوخ بالتهليل شرقا ومغربا وقال الشيخ حسن بن محمد بن حسن الحفظي: هو غرة الزمان، وبهجة المكان والأوان، وخدين المعالي والفضائل والإحسان، الداعي إلى توحيد الله الملك الديان، بالصوافن والهواجن، والكتائب والهندوان، وارث السطوات والعدوات، خالفا عن سالف بلا توان، الباذل لله همته وماله ورجاله والفرسان، أمير المؤمنين، وحامي شريعة سيد المرسلين، بالضرب والطعان، حتى بحمد الله ابلولج، وانهار غسق البهتان: وتظاهرت من فيض فتح الباري ... بسماع تلك لطائف الأخبار فتسابك المعطار بالعطار ... بشر الهواتف في قرى الأمصار لله في الإعلان والإسرار ... طلعت بدور النور بالأنوار وبشائر وافت فطاب سرورنا ... فاحت نفائح مسكها بعواطر نطقت بنصر إمامنا وتبادرت ... أعنيك يا عبد العزيز المنتدب الجزء: 16 ¦ الصفحة: 358 باب الإله بحكمة الغفار ... فلقد هزمت عساكر الكفار فتراهم صرعى بلا مقدار ... الجهبذ النحرير والداعي إلى هنيت بالظفر المبين على العدىبصوارم الأسياف تلمع بينهم * * * وضياعه في سائر الأقطار ... يا ابن الكرام وبضعة الأبرار في دار أخرانا وهذي الدار ... في حوز دعوتكم بلا إنكار واستأنست في السهل والأغوار ... ريع والتدريس والتذكار بدع الجهالة بضيا الأنوار ... والوحش والأنعام والأطيار فلقد نصرت الشرع بعد مماته ... أضحت بلاد المسلمين جميعهم وبك الجهات استبشرت وتنورت ... وتدوخت بالأمن والإيمان والتشـ وتحولت وتغيرت وتبدلت ... واهتزت الغبراء من فرح بكم وقال الشيخ حسين بن غنام الأحسائي، رحمه الله: كان الإمام عبد العزيز، رحمه الله، كثير الخوف من الله والذكر له، آمرا بالمعروف، ناهيا عن المنكر، كثير الرأفة والرحمة بالرعية، شديدا على من جنى جناية أو قطع سبيلا، أو سرق شيئا، ثم قال: وأبناء أسد بل بأسهم أسطى ... وزال ظلام الشرك من بعد مالطا وأهل المعالي والفخار بهم ينطى ... لقد رفعت أعلامهم بأميرهم بهم أسفرت شمس الدجى بعد دجنها ... ذوو العزم والتسديد والعلم والنهى الجزء: 16 ¦ الصفحة: 359 ويسخون في نيل المزايا بها سفطا ... يذودون عن ورد الدنايا نفوسهم وقال الشيخ أحمد بن مشرف الأحسائي، رحمه الله بعد ثنائه على الشيخ: على قلة منهم وعيش منكد ... ولم يثنه صولات باغ ومعتد إلى حين ووري في الصفيح الملحد ... فما وهنوا للحرب أو للتهدد وكم طارف حووه ومتلد ... وكم هدموا بنيان شرك مشيد وإن تسأل السمار عن ذاك ترشد ... بها أيد الرحمن سنة أحمد فوازره عبد العزيز ورهطه ... فما خاف في الرحمن لومة لائم وقفى سعود أثره طول عمره ... وقد جاهدوا في الله أعداء دينه وكم غارة شعواء شنوا على العدى ... وكم سنة أحيوا وكم بدعه نفوا وقائعهم لا يحصر النظم عدها ... وكم لهم من وقعة شاع صيتها * * * ودانت لهم بدو، وسكان أبلد ... وما بين جعلان إلى جنب مزبد قلوصك من مبدي سهيل إلى الجد ... ذوي الشرك والإفساد كل مطرد وبالصلوات الخمس للمتعبد ... كما عمرت أيديهمو كل مسجد وناد به في كل ناد ومشهد ... وأسكنهم روض النعيم المخلد وكم فتحوا من قرية ومدينة ... وكم ملكوا ما بين ينبع بالقنا ومن عدن حتى تنيخ بأيلة ... وقد طهروا تلك الديار وطردوا بأمر بمعروف ونهي عن الردى ... وقد هدموا الأوثان في كل قرية فكن ذاكرا فوق المنابر فخرهم ... تغمدهم رب العباد برحمة الجزء: 16 ¦ الصفحة: 360 وقال عبد الجليل: مطارف أمن شاملات المعالم ... أتاه به من غاب ضاري الضراغم إلى الخط 1 لا يخشى مكائد غاشم ... وفي العهد تلقى خير واف ملازم وباني المعالي بالقنا والصوارم ... طوارق شر فهو أمنع عاصم وأيامه بالخير خير المواسم ... ويبغض ذا الفحشاء رب الجرائم إمام كسا ظهر البسيطة عدله ... فلو ضاع حلس في الفلا من مسالم فيرحل من أقصى تهامة راكب ... عزيز جوار لم ينل جاره الردى حليف التقى والعلم والفضل والندى ... يغار على الإسلام عن أن يصيبه لياليه بالبر العميم بواسم ... ويحب أخا التقى ويرفع قدره * * * * ففاز بكلتا الضرتين البواسم ... بإظهار دين الأبطحي ابن هاشم لها لجب كالرعد إثر الغمائم ... بأسر وقتل واكتساب الغنائم ومزق شمل الباطل المتراكم ... وما قد نالوا غير شر الهزائم ودانوا به من بعد كفر مفاقم ... وطاطأ له رأس الكفور المراغم لقد عمر الدنيا وآثر غيرها ... حريص على إعلاء أمر إلهنا ورب جيوش كالسيول يقودها ... فألبس أهل الشرك أثواب ذلة إلى أن أباد الله كل معاند ... ورد جموع المشركين بغيظهم فآبوا لدين الله من بعدما أبوا ... وأعلن بالتوحيد كل موحد   1 اسم لأرض القطيف ونواحيه, انظر: صفحة 405 من عنوان المجد في تاريخ نجد. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 361 وشجاعته، وكرمه، وفتوحاته، وسائر محاسنه، أشهر من أن تذكر. وكان كثير الخوف من الله والذكر له، آمرا بالمعروف، ناهيا عن المنكر، لا تأخذه في الله لومة لائم؛ ينفذ الحق ولو في أهل بيته وعشيرته، لا يتعاظم عظيما إذا ظلم، فيقمعه عن الظلم، وينفذ الحق فيه؛ ولا يتصاغر حقيرا ظلم، فيأخذ له الحق ولو كان بعيد الوطن. وكان لا يخرج من المسجد بعد صلاة الصبح حتى ترتفع الشمس، ويصلي فيه صلاة الضحى، كثير الرأفة والرحمة بالرعية، خصوصا أهل البلدان بإعطائهم الأموال من الفيء والزكاة، وبثها في فقرائهم، والدعاء لهم، والفحص عن أحوالهم، ويكثر لهم الدعاء في ورده. ويقول: اللهم أبق فيهم كلمة الإخلاص "لا إله إلا الله"، حتى يستقيموا عليها، ولا يحيدوا عنها؛ فاستقاموا عليها ولله الحمد والمنة. وكانت الأقطار والرعية في زمنه آمنة مطمئنة؛ فكان الشخص يسافر بالأموال العظيمة أي وقت يمنا وشاما، شرقا وغربا، في نجد والحجاز، واليمن، وتهامة. وعمان، وغير ذلك؛ لا يخشى أحدا إلا الله، لا سارقا ولا مكابرا. وكان رحمه الله، مع رأفته بالرعية، شديدا على من جنى جناية، من الأعراب وغيرهم، أو قطع سبلا، أو الجزء: 16 ¦ الصفحة: 362 سرق شيئا من مسافر أو غيره، أخذ ماله نكالا أو بعضه أو شيئا، وعزره على حسب جنايته، وأدبه أدبا بليغا. وكانت الحواج والقوافل وجميع أهل الأسفار، يأتون من البصرة وعمان، وبلاد العجم، وغير ذلك، إلى الدرعية، ويرجعون إلى أوطانهم، لا يخشون إلا الله. وكان أكثر أهل الأقطار يمرون ببلد الدرعية، في مسيرهم إلى الحج. وكانت ضوال الإبل، من وجد منها شيئا أتى بها إلى بلد الدرعية؛ وجعل الإمام عليها رجلا يحفظها، ومن له شيء أتى وأخذه. وهذا الأمن في هذه المملكة، شيء وضعه الله في قلوب العباد، من البادي والحاضر، مع الرعب العظيم في قلوب من عادى أهلها؛ ولم يكن يوجد هذا إلا في زمن عمر رضي الله عنه. وكان ما يحمل في زمنه وزمن ابنه سعود، بل وفي زمن فيصل، وإمامنا عبد العزيز، من الفيء، والأخماس، والزكوات، وغير ذلك، من السلاح، والخيل العتاق، والإبل، غير ما يفرق على أهل النواحي والبلدان، وضعفائهم، وضعفاء البوادي، ما يخرج عن الحد، ولا يحصيه العد. وكانوا يوصون عمالهم بتقوى الله، وأخذ الزكاة على الوجه المشروع، وإعطاء الضعفاء والمساكين، ويزجرونهم الجزء: 16 ¦ الصفحة: 363 عن الظلم، وأخذ كرائم الأموال؛ وكانوا مع ذلك كثيري العطاء، والصدقات للرعية، والوفود والأمراء، والقضاة وأهل العلم والطلبة، ومعلمي القرآن والمؤذنين وأئمة المساجد. وكان إذا مات الرجل من جميع نواحي نجد، يأتي أولاده إليهم، فيستخلفونه، فيعطيهم عطاء جزيلا، وربما كتبوا لهم راتبا في الديوان. وكانوا كثيرا ما يفرقون على أهل النواحي والبلدان، كثيرا من الصدقات في كل وقت، كل سنة يعطى أهل كل بلد، وأهل كل ناحية الوفا; ويسألون عن الضعفاء والأيتام، في الدرعية والرياض وغيرها، ويأمرون بإعطائهم. وكثيرا ما يكتبون لأهل النواحي، لتعلم القرآن وتعليمه، والعلم وتعليمه، ويجعلون لهم راتبا في الديوان؛ ومن كان منهم ضعيفا، يأمرونهم بالرحلة إلى الدرعية والرياض، ويقومون بجميع ما ينوبه؛ وهكذا كان يفعل أبوه الإمام محمد.. وبالجملة: فمحاسنهم، وفضائلهم، أشهر من أن تذكر، وأكثر من أن تحصر; ولو بسطت القول في وقائعهم، وغزواتهم، وسعوداتهم، وما مدحوا به من الأشعار، ومن قصد أبوابهم، من الرؤساء والعظماء من الجزء: 16 ¦ الصفحة: 364 أقصى الأقطار، وما حمل إليهم من الأموال، والسلاح، والخيل الجياد، لبلغ أسفارا. وكان قضاته في الدرعية بعد الشيخ، رحمه الله، بنيه: الشيخ حسين، والشيخ عبد الله، والشيخ علي، والشيخ ابن غريب، وعلى ناحية الوشم: الشيخ عبد العزيز بن عبد الله الحصين، وعلى ناحية سدير: الشيخ حمد بن راشد العريني، وعلى منيخ وما يليه: الشيخ محمد بن عثمان بن شبانة، وعلى ناحية القصيم: الشيخ عبد العزيز بن سويلم من أهل الدرعية، وعلى ناحية الخرج: الشيخ محمد بن سويلم، وعلى ناحية الجنوب: الشيخ سعيد بن حجي في الحوطة، وغيرهم. وكان أميره على المحمل ساري بن يحيى بن سويلم، وعلى ناحية الوشم: عبد الله بن حمد بن غيهب، في شقراء، وعلى ناحية سدير: عبد الله بن جلاجل، وعلى ناحية القصيم: حجيلان بن حمد في بريدة. وعلى جبل شمر: محمد بن فائز، في بلد حائل، وعلى ناحية الخرج: إبراهيم بن عفيصان، وعلى وادي الدواسر: ربيع بن زيد، وعلى الحجاز وما يليه من النواحي: عثمان المضايفي. وعلى تهامة وما يليها من اليمن: عبد الوهاب أبو الجزء: 16 ¦ الصفحة: 365 نقطة، وعلى الأحساء ونواحيه: سليمان بن محمد بن ماجد، وعلى القطيف ونواحيه: أحمد بن غانم، وعلى الزبارة والبحرين: سليمان بن خليفة، وعلى عمان صقر بن راشد; وتحت كل أمير عدة أمراء. توفي رحمه الله وأسكنه رفيع الدرجات سنه 1218?، في العشر الأخير من رجب، طعنه رافضي في أثناء صلاة العصر، من أهل مشهد الحسين؛ فاضطرب أهل المسجد، ثم حمل رحمه الله، إلى قصره وقد غاب ذهنه فلم يلبث أن توفي، وقتل الرافضي، واشتد الأمر بالمسلمين وبهتوا. وكان ابنه سعود في نخله، فلما بلغه الخبر أقبل واجتمع الناس عنده، ووعظهم وعزاهم وبايعوه، وبعث إليه بالمرائي والتعزيات. الإمام سعود بن عبد العزيز بن محمد رحمهم الله هو الملك الشجاع، الهمام الباسل العادل، المؤيد الموفق المسدد، فخر الشجرة الزكية; فاتح الأقطار، مرجف الجنود والأمصار، مبيد الطغاة والبغاة والكفار، مؤمن الحرمين الشريفين. جامع كلمة المؤمنين، ناشر لواء العدل والإحسان، إمام الهدى بحر الندى، نافي الردى: أبو عبد الله، إمام المسلمين سعود بن الإمام عبد العزيز بن الإمام محمد بن سعود، شب سعيدا، وعاش حميدا، وولي الخلافة رشيدا. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 366 كان في نخله، فلما بلغه وفاة أبيه، رحمه الله تعالى، أقبل واجتمع الناس عنده، وقام فيهم خطيبا، فوعظهم موعظة بليغة، وعزاهم؛ فقام المسلمون فبايعوه، خاصتهم، وعامتهم، وعزوه بأبيه، وكتب إلى أهل النواحي، يعظهم ويخبرهم، ويعزيهم. ويأمرهم يبايعون أمراءهم له فبايع جميع أهل النواحي والبلدان، وجميع قبائل العربان، ولم يختلف منهم اثنان وبعثوا إليه بالتهاني والثناء، وشاع ذكره في الأقطار، وأرعب منه أهل الأمصار، وفتح على يديه الفتوحات، وشهد له بالخلافة والفضل العلماء والرؤساء. قال الشيخ: أحمد بن عبد القادر الحفظي: سعود وفي لطف جلي وخافيا ... فناصحه والصدق أمضى المواضيا وينصر مظلوما ويقمع عاصيا ... ويأمر بالتوحيد قاص ودانيا وفعلا فطابت للرعايا المراعيا ... أسانيدها في الخافقين عواليا تخلف عنه لاكعا والمعاديا ... لأمر رسول الله في المدح كافيا وإن سعودا من مساعيه دام في ... خليفة صدق ناصح الله جهرة على محكم التنْزيل يهدي ويهتدي ... وينهى عن الشرك الذي طم بحره تحقق بالأصلين قولا ونية ... أحاديثه في الهجرتين صحيحة فحدث عن البحر المحيط وقل لمن ... سياسته شرعية واتباعه الجزء: 16 ¦ الصفحة: 367 سواه فقد حاز العلا والمعاليا ... فذلك ظل الله في الأرض ساريا وللحرم المكي إماما وحاميا ... إليه أمور الحج بالقسط وافيا عطاء حلالا، لا مكوس المجابيا ... وللكعبة البيت المحرم كاسيا وأصبح شيطان التفرق خاسيا ... ومن حكم المختار في نفسه وفي ويا سعد من أضحى سعود إمامه ... وأصبح في أكناف طيبة نازلا وقام بإحياء المناسك وانتهت ... وجيران بيت الله مد عليهم وطهر بيت الله من كل مشرك ... وصلى الصلاة الخمس جمعا بواحد وقال الشيخ محمد بن أحمد الحفظي: يجاهد لم يردعه باد وحاضر ... ويقظتهم هم والندامى السوامر على صهوات الصافنات يسامر ... وإن الجياد المشبعات ضوامر وعاد غريبا والغريب يسافر ... وألقى العصا والعسر منه مياسر وهذا سعود، ذو السعادة ساعيا ... ولم يلهه نوم الملوك استراحة يبيت يجافي جنبه عن فراشه ... ويعدو على الكمت العناجيج ضامر يجدد دينا قد بدا في غرابة ... فألفه حتى استقر به النوى * * * ودالت على الأمصار منه عساكر ... وقرر توحيدا وقرت نواظر عراها الأذى وهي الطهور الطواهر ... فجوزي بالحسنى فنعم التجائر عدول رماح أو سيوف شواهر ... ودانت له الأعراب بعد جفائها وأقرى وفادا وأقرأ طالبا ... وطهر ساحات المحجة بعدما فجددها حسنا ونورا ومنهجا ... له ظفر بالحرب قد شهدت به الجزء: 16 ¦ الصفحة: 368 تجبك البوادي عنهمو والبنادر ... سجايا كرام في الندى لا تناظر فسل عنه أهل الشط والشام سلهم ... تحاكي سجاياه الكرام وجندا وقال: مقدم جيش الحق وارية الزند ... ويعسوبهم في كل معترك يعدي فحاز فنون الفضل بالجد والحد ... هو البحر في الإحسان والجود والمد يطوف به العطشان في كل ذي ورد ... على كل ذي جبار وذى عمل مرد سلامي على الندب الكبير ومن غدا ... سعود كمي للسراة أميرهم وذلك في التوحيد ليس كغيره ... هو الشمس لكن لا أفول لمجده هو المورد العذب الذي طاب ورده ... هو الحق والسيف الصقيل مهند وقال: لما طلب منه إمام صنعاء المتوكل، ليخبره عنه: العالم العلامة العمال ... من يحمل الأسياف والأسنة عندهم البعيد كالحميم ... والنصر معقود بتلك الهمة وهادما مشاعر الأصنام ... ذاك الإمام الفارس المفضال وعنده من علماء السنة ... من خلق مستحسن كريم وقد أجابته الجموع الجمة ... معظما شعائر الإسلام وقال في أرجوزة له بعد ثنائه على والده: بأمر رب العالمين الوازع ... سعود مخ الراس قلب الهيكل من فارس والروم والزنجان ... وبعده قام الإمام البارع وهو الهزبر الضيغم العدل الولي ... كم زع بالقرآن والسلطان الجزء: 16 ¦ الصفحة: 369 ومصر من صولته مرعود ... دوخها بالقهر والمغازي قد أصبحت بعدله مطهره ... ومن أبى يطره بالمشرفي وفي العراقين له رعود ... واليمن الميمون كالحجاز والحرمين وهي المطهرة ... بالرفق يدعوهم وبالتعطف * * * * وشاهد الواقع فيه يكفي ... فريه من أمراء العصر مجاهدا في يومه وأمسه ... في خارج بيعا بلا إقالة ليظهر الحق وتعلو الكلمة ... ببيضة الإسلام أن ترضا في الأرض والعلو والعنادا ... وإنما مطلوبه التوحيد ولم يكن في نزعه من ضعف ... فلم أر من عبقري يفري وهكذا من يبتدي بنفسه ... فإنه يطاع لا محاله ونغمات أمره مترجمة ... وهو الغيور الشهم ليس يرضى لا يطلب الدنيا ولا الفسادا ... أو مذهبا أو ذهبا يريد وقال عبد الجليل، بعد أن ذكر إعلانه التوحيد: وتأييده تاج الملوك القماقم ... وكان له الإقبال خير ملازم كؤوس الردى حتى اهتدى كل راغم ... وتعلو على هام السهى والنعائم نهوضا بأعباه بهمة حازم ... بعون إله العرش جل ثناؤه سعود أدام الله أيام سعده ... إمام الهدى بحر الندى من سقى العدى أخو همة يستصغر الخطب عندها ... إذا نزل الأمر الفظيع رأيته الجزء: 16 ¦ الصفحة: 370 بها الله عنا زاح هول العظائم ... فليس له في فضله من مزاحم تدفق بالدر النفيس لناظم ... إذا أخلفت أيدي السحاب الرواكم إذا عم أمر المعضلات الكوالم ... أليس محاكي الراسيات بواهم وإنا لنرجو الله طوع الأعاجم ... له عزمات تنقي الأسد بأسها إمام حوى مجدا وعز مناقب ... إذا رمت علما فهو في العلم لجة وإن رمت جودا فهو كالغيث للورى ... ورأي سديد يستضاء بنوره وحلم رزين لا يجاري ببعضه ... وطاع له عرب القبائل كلها ولو ذهبنا نذكر فضائله ومحاسنه، وفتوحاته، وما أثني به عليه، لخرج بنا عن المقصود. وقد قال الشيخ: عثمان بن بشر، في تاريخه: كان ذا رأي باهر وعقل وافر، ثبتا شجاعا، محببا إليه الجهاد في صغره وكبره؛ فأمنت به البلاد، وطابت قلوب العباد، وانتظمت مصالح المسلمين بحسن مساعيه، وانضبطت الحوادث بين مراعيه. فبلغ من الشرف منتهاه، ومن سنام المعالي أعلاه، وكان متيقظا، بعيد الهمة، وذكر شيئا من محاسنه ومآثره، ثم قال: ولو تتبعت فضائله، ونائله، وغزواته وفتوحاته، وما مدح به من الأشعار، من أقاصي الأقطار في حياته، وما رثي به من الشعر بعد وفاته، لم يسعه كتاب كبير. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 371 وقد كان، رحمه الله، شجاعا في الحروب، محببا إليه الجهاد في صغره وكبره، بحيث إنه لم يتخلف في جميع المغازي، والحج، ويغزو معه بجملة من العلماء من أهل الدرعية، وأهل النواحي، ويستخلف في الدرعية أحد بنيه. وكثيرا ما يستخلف ابنه عبد الله، ويغزو معه بنوه، وإخوته وبنو عمه عبد الله؛ وكل واحد من هؤلاء، معه دولة عظيمة من الخيل والركاب، والخيام والرجال، في الجهاد وبذل الاجتهاد. وفتح أكثر البلاد في أيام أبيه وبعد موته، وأعطي السعادة في مغازيه، ولا يعلم أنه هزم له راية، بل نصر بالرعب الذي ليس له نهاية، وكل أيامه مواسم، ومغازيه مغانم. وقد قذف الله الرعب في قلوب أعدائه؛ فإذا سمعوا بمغزاه ومعداه، هرب كل منهم، وترك أباه وأخاه، وما حواه. رفع رايات التوحيد، فيما وراء الحرة وعمان، وشيد قصرا على حدود مسقط، ألف قدم فوق البحر، واجتاز إلى حوران والكرك، فوصل إلى أبواب الشام وفلسطين، وأرسل إلى الولاة هناك يدعوهم إلى توحيد الله. ويأمر جنوده بالصبر في مواطن اللقاء ويزجرهم عن العجب بالكثرة، والزيادة في النفوس، الذي هو سبب الفشل والهزيمة، ويزجرهم عن الغلول. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 372 وإذا صلى الصبح ركب بالمسلمين، وضجوا بالتكبير، وأغاروا؛ فتظلم الأرض والسماء من إثارة النقع؛ فيغيب الذهن في تلك الساعة، ويوقن المسلمون بالنصر. فيوقع الله بأسه فيمن قصدته تلك الجنود؛ فلا يرفع السيف إلا عمن لم يبلغه الحلم، أو امرأة أو شيخ كبير، وتؤخذ جميع الأموال. ثم يرحل عن مغارة القوم، بجميع تلك الغنائم، مع البادي والحاضر، وينْزل قريبا منها على بعض الموارد، فتعزل الأخماس، وتباع الغنائم بدراهم، وتقسم على جميع الغزو، للراجل سهم، وللفارس ثلاثة أسهم، سهم له، وسهمان لفرسه. وأما جنوده، ومماليكه، وخيله ومدافعه، فلا يحصيها العد، ولا يبلغها الحصر والحد. وكان يرسل لقبض زكاة السائمة من بوادي جزيرة العرب، مما وراء الحرمين، وعمان واليمن، والعراق والشام، وما بين ذلك من بوادي نجد، بضعا وسبعين عاملا، مع كل عامل طائفة. فما تجبيه تلك العوامل، ويجبى إلى الدرعية من أموال البحرين والقطيف، وعمان واليمن، والحجاز وتهامة، وغير ذلك، وزكاة ثمار نجد وعروضها، لا يستطيع أحد عده; وما ينقل من الأخماس والغنائم أضعاف ذلك، وما يدفع للوفود وفقراء البلدان من الصدقات، ألوف مؤلفة. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 373 وكان رحمه الله آمرا بالمعروف، ناهيا عن المنكر، كثير الحض على ذلك في مجالسه ومراسلاته، ناصرا لأهله، محببا إليه أهل العلم، ويعظهم ويكرمهم، ويجزل عطاياهم، ويلزم أهل البلدان بإكرامهم، وتعظيمهم وتوقيرهم. وإذا أراد إنفاذ أمر، أرسل إلى خواصه من رؤساء البوادي، واستشارهم، ثم يرسل إلى خواصه وأهل الرأي من أهل الدرعية، ثم يرسل إلى أبناء الشيخ وأهل العلم من أهل الدرعية، ومال إلى رأيهم وأظهر لهم رأيه. وفضائله ومحاسنه، ونائله، وغزواته، وفتوحاته، وما مدح به من الأشعار، من أهل نجد والأمصار أشهر من أن تذكر. وبالجملة: فمحاسن هؤلاء الأمجاد، وفضائلهم، ومحامدهم، ومآثرهم، طبق الأرض. أزال الله بهم عن الناس الجهل، والمحن والظلم والجور والبغي والفتن. كان قضاته على الدرعية بني الشيخ: حسين، وعبد الله، وعلي، وابني ابنيه: عبد الرحمن بن حسين، وعلي بن حسين ابني الشيخ، والشيخ حمد بن ناصر بن معمر، وقاضيه على الرياض الشيخ: عبد الوهاب بن صالح، ثم ابنه محمد. وقاضيه على الأحساء الشيخ: محمد بن سلطان الجزء: 16 ¦ الصفحة: 374 العوسجي، ثم الشيخ عبد الرحمن بن نامي، وعلى القطيف الشيخ: محمود الفارسي، وعلى جبل شمر وما يليه الشيخ: عبد الله بن سليمان بن عبيد، وعلى ناحية القصيم الشيخ: غنيم بن سيف، وعلى ناحية الوشم الشيخ: عبد العزيز الحصين، وعلى ناحية سدير الشيخ: علي بن يحيى بن ساعد، وعلى ناحية منيخ الشيخ: عثمان بن عبد الجبار، وعلى حريملاء والمحمل الشيخ: عبد الرحمن بن عبد المحسن أبا حسين، وعلى ناحية الخرج الشيخ: حمد بن راشد العريني، وعلى اليمن الشيخ: حسين بن خالد الشريف، وعلى الطائف وناحية الحجاز الشيخ: عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين، وعلى تهامة الشيخ: أحمد الحفظي؛ وأما مكة فأقر فيها قضاتها، ثم أرسل إليها الشيخ: عبد الرحمن بن حسن، وفي جدة الشيخ: سليمان بن الشيخ عبد الله بن الشيخ; وعلى المدينة الشيخ: حمد إلياس الحنفي، والشيخ أحمد بن رشيد الحنبلي؛ وأما غير ذلك من النواحي، فكان يبعث إليها القاضي نحو سنة، ثم يرجع، ويبعث غيره، وأميره على الرياض: عبد الله بن حسن الفضلي، وأميره على الأحساء إبراهيم بن عفيصان، وعلى القطيف الجزء: 16 ¦ الصفحة: 375 أحمد بن غانم، وعلى البحرين سليمان بن خليفة، وعلى عمان سلطان بن صقر بن راشد، وعلى الجيوش في عماد: مطلق المطيرى. وعلى جبل شمر والجوف: محمد بن عبد المحسن بن فائز بن علي، وعلى ناحية القصيم: حجيلان بن حمد، وعلى ناحية سدير حمد بن سالم، ثم عبد الكريم بن معيقل، وعلى ناحية الوشم: محمد بن غيهب، وعلى المحمل ساري بن يحيى، وعلى ناحية الخرج: عبد الله بن عفيصان، وعلى وادي الدواسر: ربيع بن زيد، وعلى بيشة ونواحيها: مسلط بن قطنان، وعلى الطور وتهامة: عبد الوهاب أبو نقطة، ثم طامي بن شعيب، وعلى الطائف والحجاز: عثمان المضائفي، وعلى مكة: غالب بن مساعد الشريف، وعلى المدينة: حسن قلعي، وعلى ينبع: جابر بن جبارة الشريف. توفي رحمه الله وأسكنه جنات النعيم، سنة 1229?، في بلد الدرعية، ورثاه جم غفير من جهابذة العلماء. الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد، رحمهما الله تعالى هو الإمام الحبر الهمام، بدر الأعلام مفتي الأنام، حجة الإسلام قمر الدجى، شمس الضحى، الثقة الثبت، العلم البارع، التقي النقي، الورع الفارس في العلوم، والسيف الصارم المسلول على المبتدعين، والحبر القائم بأمور الدين، الجزء: 16 ¦ الصفحة: 376 ذو الهمة والشجاعة والإقدام، فائق علماء زمانه، مجتهد زمانه فلك هو قطبه، يزيد عليهم زيادة الشمس على البدر، إذا ذكر المسألة بهت الناس من كثرة محفوظه، وجودة إيراده، وإعطائه كل قول ما يستحقه. يقول الحق الذي أدى إليه اجتهاده، مع ما اشتهر عنه من الورع، وكمال الفكر، وسرعة الإدراك، والخوف من الله، والتعظيم لحرماته. لم ير تحت أديم السماء بعد والده مثله علما وعملا، وحالا ومقالا، وحلما وخلقا، واتباعا وكرما، وقياما في حق الله. هو عالم نجد ومفتيها بعد والده، ولد في بلد الدرعية، وأخذ العلم عن أبيه وخلق. وتفقه في المذاهب، وأدرك في الأصول والفنون أعلاها، وتفنن في علوم الإسلام، حتى بلغ علاها. كان عارفا بالتفسير لا يجارى، وبأصول الدين وإليه فيها المنتهى، وبالحديث ومعانيه وفقهه، ودقائق الاستنباط منه، لا يلحق في ذلك، وبالفقه وأصوله، وبالعربية. وبالجملة له اليد الطولى في كل فن من فنون العلم; له المصنفات المشهورة المقبولة، والفتاوى القاطعة غير المعلومة، والرسائل والنصائح السامقة المبرورة; منها: 1- الرد على الزيدية أسماه "جواب أهل السنة في نقض كلام الشيعة والزيدية" مجلد. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 377 2- مختصر السيرة "مجلدان"، وله مشاركة في كتاب التوضيح. 3- الفصول النافعة في المكفرات الواقعه. 4- منسك في الحج. 5- رسائل وفتاوى تبلغ مجلدا، فرقناها في مواضعها على حسب الترتيب. وله مجالسة في التدريس مشهورة، بإحياء علوم أصول الدين معمورة، يأتي إليه العلماء من الأمصار، والسؤالات من جميع النواحي، والأقطار؛ فيفهم أحسن إفهام، ويجيب أصوب إيقاع بإيجاز، وانتظام. أثنت عليه أهل نجد بأسرها، وأهل الخبرة في برها وبحرها. قال الشيخ: حسين بن غنام يثني عليه، وعلى إخوانه علماء الدرعية: وما ثبطوا عن نشر أحكامهم ثبطا ... وعلما وتحديثا بذا تسمع اللغطا وتنكيل من قارف الذنب والسخطا ... وتوبيخ من عنها تخلف أو أبطا مدارسهم معمورة بعلومهم ... فلست ترى إلا مفيدا وهاديا وأمرا بمعروف وتنكير منكر ... وحثا على فعل الصلاة جماعة وقال الشيخ أحمد بن علي بن مشرف، بعد ثنائه على الشيح: محجته المثلى وفي نصرها جدوا ... فكم قد أفادوا من يروح ومن يغدو وكم شبهة جلوا وأبوابها سدوا ... وأبناؤه الغر الكرام قد اقتفوا فكانوا إلى التوحيد يدعون دأبهم ... وكم سنة أحيوا وكم بدعة نفوا الجزء: 16 ¦ الصفحة: 378 وقال الشيخ: أحمد بن عبد القادر الحفظي: على حلقات الذكر حق إلهيا ... لهم طالما عفت عليها العوافيا على الأرض والشرك المحرم خازيا ... وأحمد خريت الطريق وهاديا عليهم من المولى السلام يوافيا ... عليها خصوصا تابعا وصحابيا وحف بآل الشيخ أعلام مكة ... مدارس في التوحيد تصنيف والد فأصبح توحيد العبادات ظاهرا ... أئمة حق والنصوص طريقهم على مذهب الحبر الإمام ابن حنبل ... عقائدهم سنية أجمع الملا أخذ عنه العلم الخلق الكثير، والجم الغفير، الجهابذة النبلاء، منهم بنوه: الشيخ سليمان، وعلي وعبد الرحمن، والشيخ عبد الرحمن بن حسن، والشيخ عبد اللطيف، والشيخ حسن بن حسين، والشيخ عبد الرحمن بن حسين، وحمد وعلي ابنا الشيخ حسين بن الشيخ، والشيخ محمد بن سلطان، والشيخ محمد بن عبد العزيز، والشيخ أحمد الوهيبي، وعبد الله الوهيبي، والشيخ عبد العزيز بن معمر، والشيخ سعيد بن حجي، والشيخ جمعان، ومسفر بن عبد الرحمن، والشيخ أبا بطين، والشيخ محمد بن مقرن، والشيخ عثمان بن عبد الجبار، والشيخ إبراهيم بن سيف، وغيرهم. كان رحمه الله ذا عبادة وتهجد، وطول قيام، ولهج بالذكر، وشغف بالمحبة والإنابة، والافتقار إلى الله، الجزء: 16 ¦ الصفحة: 379 والانكسار، والانطراح بين يديه، على عتبة عبوديته؛ لم ير في معناه مثله. نقل إلى مصر سنة 1233 هـ، وتوفي فيها سنة 1242?، ورحمه الله وعفا عنه، وأسكنه الفردوس الأعلى. الشيخ حسين بن الشيخ محمد رحمهما الله هو العالم الفاضل، مفيد الطالبين، قامع المشبهين، الشيخ القدوة: حسين بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمهما الله تعالى. كانت له المعرفة في الأصول والفروع، والتفسير وغيره. انتفع الناس بعلمه. وله همة وشجاعة، وشهامة مشهورة، وسمعة دائرة في السنن والأقوال، وكمال فكر وتصور من ربه، وزهد وعبادة، وتعظيم لحرمات الله. أخذ العلم عن أبيه الشيخ محمد وغيره، وكان متواضعا عند الخاصة والعامة، ذا أناة وحلم ووقار، مجالسه عامرة بالفقهاء والمحدثين، وأهل الخير، كثير الإفادة، فضائله مشهورة، وأوقاته، بالخير والنفع معمورة. قال الشيخ محمد بن أحمد الحفظي يذكر فضله وإخوته: أئمة دين الحق موضحة الرشد ... كذاك عبد الله واسطة العقد فبان لنا وجه الصواب بلا رد ... وكل غلو أو فساد لذي حقد سلام على الأحباب من كل جهبذ ... حسين وإبراهيم نجلي محمد وقد وضحوا في ديننا كل مشكل ... وقد هدموا في الدين كل ضلالة الجزء: 16 ¦ الصفحة: 380 بهم يهتدي من حار في الغور أو نجد ... وهم في ظلام الجهل أشرف أنجم وهو أشهر من أن يذكر، له فتاوي. وكان هو القاضي في بلد الدرعية بعد والده، والإمام في الجمعة في مسجد الجامع، مسجد الطريف الكبير في الدرعية، الذي تحت قصر آل سعود في المنازل الغربية، وإماما في مسجد البجيري. وله مجالس في التدريس، أخذ عنه العلم جماعة من العلماء، من القضاة وغيرهم. منهم أبناؤه: الشيخ علي، والشيخ حسين وابنه عبد الرحمن، والشيخ سليمان بن عبد الله، والشيخ عبد الرحمن بن حسن وابنه، وعلي بن عبد الله، والشيخ عبد العزيز بن حمد بن ناصر، والشيخ أحمد الوهيبي، والشيخ سعيد بن حجي، وخلق ممن تأهل وغيرهم. توفي رحمه الله وأسكنه الفردوس الأعلى سنة 1224?، في ربيع الآخر، في بلد الدرعية؛ وبكته تلك المجالس وسائر الرعية، ورثاه بعض معاصريه، فرحمه الله وعفا عنه. الشيخ إبراهيم بن الشيخ محمد، رحمهما الله تعالى هو الثقة العابد الورع، حسنة الأيام، فخر الأنام، لم ير أزهد ولا أورع، ولا أعبد منه، متواضعا لينا كيسا، حسن الأخلاق، كأن النور يخرج من وجهه، كثير العبادة، كثير الزهادة، أخذ العلم عن أبيه وغيره. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 381 أدرك حظا من العلوم وأفاد، وانتفع به فئام من العباد، له مشاركة كثيرة في رسائل وأجوبة، ولم أقف له على وفاة ولكنه موجود سنه 1251?، فى مصر، وتوفي فيها رحمه الله تعالى وعفا عنه. الشيخ علي بن الشيخ محمد رحمهما الله تعالى هو الإمام العالم العلامة، الثقة الثبت الزاهد الورع، كان شهما هماما، فقيها صدوقا، حسن الطريقة، كيسا متواضعا، مع غزارة العلم، عذب العبارة، مكرما للطلبة. أخذ العلم عن أبية وغيره، ورزق علما وفهما، حتى صار يتكلم في المسائل مع الفقهاء. وله مجالس مشهورة، وأياد مذكورة، وأخلاق حسنة مشكورة، وأجوبة ونصائح، قال محمد الحفظي بعد ثنائه على الشيخ محمد: أولاده مشائخ التحقيق، وسدرة في منتهى الطريق. توفي رحمه الله وعفا عنه بمصر. الشيخ حمد بن معمر، رحمه الله تعالى هو الإمام العالم العلامة، الحبر البحر الفهامة، المحقق المجتهد، الحافظ المتقن الورع، الفارس في العلوم، والسيف الصارم المسلول، قامع المشبهين، بقية السلف، قدوة الخلف. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 382 الشيخ الجليل: حمد بن ناصر بن عثمان بن معمر كان فقيها محدثا، زاهدا عابدا كثير الخير، له قدم راسخ في الفتوى، ذا جلالة ومهابة، وذكاء وكيس، ومروءة، نبيها شهما حسن السمت، حسن الخلق. آخذ العلم عن الشيخ محمد بن عبد الوهاب، والشيخ سليمان بن عبد الوهاب، وأخذ العربية عن الشيخ حسين بن غنام وغيرهم. بلغ في العلوم العقلية والنقلية مبلغا، له اليد الطولى في الأصول، والفروع، والحديث واللغة العربية وغيرها، قليل المثل في الديانة والعبادة. جمع أنواع المحاسن والمعالي، قرن بين خلتي العلم والحلم، والحسب والنسب، والعقل والفضل، والتدريس والتصنيف، والفتاوي والنصائح. أوحد العصر في أنواع الفضائل، مجالسه بالعلم معمورة، وبالفقهاء مشحونة، وأوقاته بالخير مقرونة، وأخلاقه بالزكاء مشهورة. أخذ عنه العلم ابنه الشيخ عبد العزيز، والشيخ عبد الرحمن بن حسن، والشيخ عبد الله أبا بطين، والشيخ سليمان بن عبد الله، والشيخ علي بن الحسن اليماني، وخلق. وله رسائل وأجوبة تبلغ مجلدا، فرقناها في مواضعها على حسب الترتيب. وكان قاضيا في الدرعية وغيرها؛ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 383 وأرسله الإمام سعود قاضيا ومعلما في مكة المكرمة، وأقام فيها مدة، وتوفي فيها رحمه الله تعالى، وأسكنة الفردوس الأعلى، سنة 1225?، في العشر الأخير من ذي الحجة. وصلى عليه المسلمون تحت الكعبة المشرفة، ثم خرجوا به إلى البياضية، وخرج الإمام سعود، وصلى عليه عدد كثير من المسلمين، ودفن بمكة، فرحمه الله وعفا عنه. الشيخ سليمان بن عبد الله بن الشيخ، رحمه الله هو: الحافظ المحدث الفقيه المجتهد، الثقة أوحد الحفاظ، تاج عصره جمال الزمان، الشيخ: سليمان بن الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ولد سنة 1200 هـ. كان آية في العلم والحلم، والحفظ والذكاء، له المعرفة التامة في الحديث ورجاله، وصحيحه وحسنه وضعيفه، والفقه والتفسير والنحو. وكان في معرفة رجال الحديث يسامي أكابر الحفاظ، وضرب به المثل في زمنه بالذكاء، وكان حسن الخط، ليس في زمنه من يكتب بالقلم مثله. أخذ العلم عن أبيه، والشيخ حمد بن معمر، وعن عميه الشيخ حسين، والشيخ علي، والشيخ حسين بن الجزء: 16 ¦ الصفحة: 384 غنام، والشيخ عبد الله بن فاضل، والشيخ عبد الرحمن بن خميس، والشيخ عبد الله الغريب، وأجازه الشيخ: محمد بن علي الشوكاني. برع في الفنون، كانت له اليد الطولى في الحديث ورجاله؛ يروى عنه أنه كان يقول: أنا برجال الحديث أعرف مني برجال الدرعية. لم ير شخص حصل له من الكمال والعلوم، والصفات الحميدة، التي لم يحصل بها الكمال لسواه، على صغر سنه. صنف شرح كتاب التوحيد لجده، فمن بعده عيال عليه؛ ولكنه لم يكمله، وله حاشية على شرحه، والدلائل في حكم موالاة أهل الإشراك، كان طلبة العلم يحفظونها عن ظهر قلب، ورسالة في عدد الجمعة لم ينسج على منوالها، وأجوبة فرقناها على حسب الترتيب، ومن وقف على كلامه، شهد له بالشهامة والجودة، والذكاء والحفظ، وحسن الفهم. أخذ عنه العلم عدد كثير من أهل الدرعية وغيرهم، منهم الشيخ محمد بن سلطان وغيره. وكان رحمه الله آمرا بالمعروف، ناهيا عن المنكر، لا تأخذه في الله لومة لائم؛ فلا يتعاظم رئيسا في الأمر والنهي، ولا يتصاغر ضعيفا أتى إليه يطلب فائدة. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 385 اخترته المنية في عنفوان شبابه، بكت عليه العيون بأسرها، فيا له من خطب ما أعظمه! وعاجل أجل ما أوجعه! ومصاب ما أكبره وأهوله! نمي به رحمه الله عند إبراهيم باشا فقتله، أكرمه الله بالشهادة، سنة 1233?، رحمه الله وأسكنه الفردوس الأعلى. الإمام عبد الله بن سعود رحمهما الله هو الإمام الهمام، فرع شجرة الفخار، سلالة الأطهار: عبد الله بن سعود بن عبد العزيز بن محمد بن سعود، رحمهم الله تعالى. كان ذا سيرة حسنة، مقيما للشرائع، آمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر، كثير الصمت حسن السمت، باذلا العطاء، صالح التدابير في مغازيه، شجاعا فى مواطن اللقاء، ثبتا في مصابرة الأعداء، وكانت سيرته في مغازيه، وفي الدرعية، وترتيب الدروس، وقضاء حوائج المسلمين، وغير ذلك على سيرة آبائه. وكان قضاته ومدرسوه على الدرعية: الشيخ عبد الله بن الشيخ، وابنه الشيخ سليمان، والشيخ علي بن حسين، والشيخ عبد الرحمن بن حسن، والشيخ عبد الله الوهيبي، وعلى الأحساء ونواحيه: الشيخ عبد الرحمن بن ناصي، وعلى عمان: الشيخ على بن حمد العريني. وعلى الحوطة والحريق: رشيد السردي، وعلى ناحية سدير: الشيخ إبراهيم بن سيف، وعلى منيخ: الشيخ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 386 عثمان بن عبد الجبار، وعلى الوشم: عبد العزيز الحصين، وعلى حريملاء والمحمل: الشيخ محمد بن مقرن، وعلى ناحية القصيم: عبد العزيز بن سويلم، وعلى جبل شمر: الشيخ عبد الله بن عبيد. وكان أميره على ناحية الأحساء: فهد بن سليمان بن عفيصان، وعلى القطيف: إبراهيم بن غانم، وعلى عمان: حسن بن رحمة، وأمير الجيش في عمان: بتال المطيري، وعلى وادي الدواسر: قاعد بن ربيع، وعلى الوشم: حمد بن يحيى بن غيهب، وعلى الخرج: عبد الله بن سليمان بن عفيصان، وعلى بلدان المحمل: ساري بن يحيى، وعلى سدير ومنيخ: عبد الله بن معيقل، ثم إبراهيم أبا الغنيم، وعلى ناحية القصيم: حجيلان بن حمد، وعلى جبل شمر: محمد بن عبد المحسن بن علي. وباقي النواحي عليها قضاة أبيه وأمراؤه الذين تقدم ذكرهم. نقل سنة 1233?، إلى مصر، ثم إلى قسطنطينية، وقتل هناك، رحمه الله وعفا عنه. الشيخ عبد العزيز الحصين، رحمه الله تعالى هو الإمام العلامة، الفقيه الزاهد الورع، الشيخ: عبد العزيز بن عبد الله بن إبراهيم الحصين الناصري الحنبلي، رحمه الله تعالى. كان عالما عاملا زاهدا ورعا، حليما الجزء: 16 ¦ الصفحة: 387 فاضلا، مهيبا فقيها; وجعل الله في علمه البركة للناس وانتفع به أناس كثير من أهل النواحي. أخذ الفقه في صغره عن الشيخ: إبراهيم بن محمد بن إسماعيل. ثم أخذ العلم عن الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وابنه الشيخ عبد الله، والشيخ حسين، والشيخ حمد بن ناصر بن معمر، وخلق غيرهم. له مجالس في التدريس مشهورة، وأوقاته بالعبادة معمورة، وله رسالة في معنى التوحيد، وفتاوي. ولي القضاء في الوشم، في ولاية الإمام عبد العزيز بن محمد، وأول ولاية الإمام سعود. وأخذ عنه عدة من العلماء، منهم: الشيخ عبد الله أبا بطين، والشيخ إبراهيم بن سيف، والشيخ غنيم بن مسفر والشيخ عبد الله بن سيف، والشيخ محمد بن عبد الله الحصين، والشيخ علي بن يحيى بن مساعد، والشيخ عبد الله بن سليمان بن عبيد، والشيخ محمد بن سيف، والشيخ إبراهيم بن حجي، والشيخ عثمان بن عبد المحسن أبا حسين، والشيخ محمد بن نشوان، والشيخ عبد الله القضيبي، والشيح عبد الكريم بن معيقل، وغيرهم ممن لم يل القضاء الجم الغفير. توفي رحمه الله تعالى، في 13 من رجب، سنة 1237هـ. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 388 الشيخ عبد العزيز بن معمر رحمه الله تعالى هو الإمام العالم العلامة، الحبر الفهامة، المجتهد المتقن، بحر العلوم، الشيخ: عبد العزيز بن الشيخ حمد بن ناصر بن عثمان بن معمر. ولد في بلد الدرعية، وأخذ العلم عن أبيه، والشيخ عبد الله، والشيخ علي ابني الشيخ، والشيخ حسين بن غنام، والشيخ أحمد بن رشيد الحنبلي، وغيرهم. وبرع في جميع الفنون؛ فكان أديبا محققا مدققا، فائقا في الأصول والفروع، شهما هماما، يتوقد ذكاء، زاهدا ورعا، آمرا بالمعروف، ناهيا عن المنكر. اختصر النظم المعروف لابن عبد القوي، وله كتاب فتح القريب المجيب في الرد على عباد الصليب في مجلد، وله أجوبة ورسائل، توفي رحمه الله في البحرين سنة 1244?، ورثاه الشيخ أحمد بن علي بن مشرف فقال: أم النجم أمسى لونه وهو حائل ... أم العلم قد أوهت بناه الزلازل لدن غيبت حبر الزمان الجنادل ... فكم نصر الإسلام منه رسائل فأنجمها تبكي عليه أوافل ... وتندبه للمشكلات مسائل وكانت له فيها تشد الرواحل ... أشمس الهدى غابت أم البدر آفل أم الدين هد الخطب جانب طوده ... نعم أفلت شمس العلوم وبدرها إمام الهدى عبد العزيز بن ناصر ... رثته علوم الدين أن غاب نجمه وظلت ربوع العلم تهتف باسمه ... فمن بعده للمعضلات وحلها الجزء: 16 ¦ الصفحة: 389 ومن للهدى يحمي وعنه يناضل ... وكلم فمن ذا بالعلاج يحاول إذا نزلت بالمسلمين النوازل ... وكل لنيل المعالي رسائل سوى أنه للبحر يوجد ساحل ... جواب من التحقيق شاف ونائل وعاش زمانا ذكره فيه خامل ... وهذا زمان تسمو منه الأسافل ومن للعدا يرمي بشهب علومه ... لقد صار في الإسلام ثلم بموته وقد كان للإسلام حصنا ومفزعا ... فأصبح مقصودا لمن طلب الهدى هوا البحر إن رمت العلوم وبحثها ... إذا ما أتاه السائلون عنده وقد جهل الأقوام مقدار فضله ... فلا عجب فالكنْز يجهل غالبا * * * * إلا أنه بالجزم للحق نائل ... بأحرف علم هن فيه عوامل إلى كل خير فهو بالعلم عامل ... كما يستحق الرفع في النحو فاعل وليس له في عقله من يعادل ... وما طال من شيء فما فيه طائل لقد جد في علم الشريعة ناصبا ... وقد كان مخفوض الجناح تواضعا أضيف إليه العلم النفيس فجره ... وفعل المعالي أوجبت رفع قدره ولكنه في الفضل ما عنه نائب ... فحسبك من حسن الثنا ما ذكرته * * * * لدن فقدت عبد العزيز المحافل ... وعم الرضى من غيبته الجنادل فحكم المنايا للبرية عادل ... لقد فقد العلم العزيز ونشره سقى روحه الرحمن هطال رحمة ... فأوصيك بالصبر الجميل وبالرضى الجزء: 16 ¦ الصفحة: 390 لعاش الهداة الأكرمون الأفاضل ... وخطب عميم للبرية شامل فلو كان سهم الموت يخطئ واحدا ... لكنه حكم من الله نافذ الإمام تركي بن عبد الله، رحمهما الله تعالى هو الإمام الشجاع، الفارس المجيد، والشهم اللوذعي الوحيد، لا يماثل في الشجاعة والبراعة، ولا نظير له في الحلم والعفو والأناة، الخليفة حقا، الشجاع صدقا، بل أوحد الشجعان: تركي بن الأمير عبد الله بن الإمام محمد بن سعود. افتتح قرى نجد، واستولى عليها حربا وصلحا، بعد أن كان بعضهم يضرب رقاب بعض، ورفضوا أكثر شعائر الإسلام؛ فجاهد حق الجهاد، حتى دانت له البلاد والعباد، وصاروا كلهم جماعة، وبايعوه على السمع والطاعة. كان ذا رأي وفطنة وبراعة، وله من الشهامة والشجاعة ما ليس لغيره من الملوك، بل له الحظ الأوفر، خصوصا الشجاعة والديانة؛ حتى إنه لا يقاس به في زمانه قرين، مع تواضع للأرامل واليتامى والمساكين، في هيبة جعلها الله عليه، ومحبة في القلوب معروفة إليه. وأعاد الله به أبهة هذا الملك، فعمر أبنية المجد والكرم، ورفع شرف آبائه وأعمامه. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 391 قال الشيخ عثمان بن بشر: هو الإمام الشهير الفارس، المجيد الذي لا يماثله أحد في الشجاعة والبراعة، ولا يعرف له نظير في العفو والحلم والأناة. وقال: كان شجاعا مقداما، مجاهدا في سبيل الله. أطفأ الله به نار الفتنة بعد اشتعال ضرامها، وتعذرت بين البلدان الأسفار، فحاصر البلدان وقاتل العربان; ودعاهم إلى الجماعة، والسمع والطاعة؛ حتى ضرب الإسلام بجرانه، وسكنت الأمة في أمنه وأمانه. قدمت الوفود إليه من البلدان والعربان، وأكرمهم وأحسن جوائزهم، وكان يخرج كل خميس واثنين لحضور الدرس، واجتماع المسلمين. وكان الجالس المعلم في ذلك الدرس، الشيخ: عبد الرحمن بن حسن؛ وكان آمرا بالمعروف، ناهيا عن المنكر، ويرسل النصائح إلى البلدان، ويحضهم على القيام بشرائع الإسلام. وبالجملة: فمناقبه ومكارمه مأثورة، وفضائله ووقائعه مشهورة، ولو تتبعنا ما مدح به من الشعر والنثر، لطال غاية، وفيما نبهنا عليه كفاية. وكان قاضيه على الرياض: الشيخ عبد الرحمن بن حسن، والشيخ علي وحسن ابنا الشيخ حسين، وعلى الحوطة: الشيخ سعد العجيري، ثم الشيخ علي بن حسين، ثم الشيخ عبد الملك بن حسين; وعلى ناحية الخرج: الجزء: 16 ¦ الصفحة: 392 الشيخ: عبد الرحمن بن حسين، وعلى وادي الدواسر: الشيخ جمعان بن ناصر، وعلى المحمل ونواحيه: الشيخ محمد بن مقرن، وعلى الأحساء ونواحيه: الشيخ عبد الله الوهيبي، وعلى سدير: الشيخ عبد الله بن عبيد، ثم الشيخ عبد الرحمن الثميري، وعلى منيخ والغاط والزلفي: الشيخ عثمان بن عبد الجبار، ثم ابنه الشيخ عبد العزيز، وعلى ناحية الوشم: عبد الله أبا بطين، وعلى القطيف: محمود الفارسي، وعلى القصيم: الشيخ قرناس. وكان يبعث إلى جبل شمر وعمان والقطيف وغيرها قضاة من عنده ثم يرجعون ويرسل غيرهم كل سنة. وكان أميره على الأحساء ونواحيه: عمر بن محمد بن عفيصان، وعلى القطيف ونواحيه: عبد الله بن غانم، وعلى وادي الدواسر: عبد الله بن إبراهيم الحصين، ثم محمد بن عبد الله بن جلاجل، وعلى ناحية سدير: محمد بن الأمير، ثم محمد بن عبدان، وعلى ناحية الخرج وما يليه: علي بن محمد بن عفيصان، وعلى المحمل وبلدانه: يحيى بن ساري، وعلى الوشم: حمد بن يحيى بن غيهب، ثم محمد بن عبد الكريم البواردي، وعلى بلد بريدة: عبد العزيز بن محمد بن حسن; وعلى بلد عنيزة: يحيى بن سليمان بن زامل، ثم محمد بن ناهض، وعلى الجزء: 16 ¦ الصفحة: 393 جبل شمر: صالح بن عبد المحسن بن علي. قتل رحمه الله وعفا عنه، سنة 1249?، يوم الجمعة آخر ذي الحجة، بعد صلاة العصر، وذلك أن مشاري بن عبد الرحمن، قدم عليه فأكرمه، وزاد في إكرامه، واستعمله أميرا على منفوحة؛ ثم وشى به عند خاله تركي، فعزله عن الإمارة، فعزم على إثارة الفتنة، بمساعدة أسافل من الخدام والأراذل. فاعترض الإمام تركي رحمه الله، خادم لهم فقتله. فإذا مشاري قد خرج من المسجد، فشهر سيفه وتهدد الناسك وتوعدهم، وشهر أناس، سيوفهم معه، فبهت الناس وعلموا أن الأمر قد تشوور فيه، وقضي بليل. ثم جلس للمبايعة، وأرسل إلى آل الشيخ فبايعوه، وبايعه الناس، ولكن البغي مصرعة الرجال: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً} [سورة الإسراء آية: 33] ثم بلغ الأمير فيصل الخبر وهو في القطيف، فرحل قافلا، فلما قدم الأحساء فشا ذلك في الناس، وكان مع الأمير فيصل رؤساء المسلمين، من الأمراء والأعمار. فأرسل إليهم وأخبرهم بالأمر، وأبدى لهم أنه لا بد أن يأخذ بالثأر، ويضرم عليهم نار الحرب، لا يقر له عن ذلك قرار. وذاكرهم وذكرهم، فقاموا كلهم وبايعوه، ثم رحل الجزء: 16 ¦ الصفحة: 394 وساعدته الأقدار، حتى قتل مشاري وسط القصر، والقصاص يكفر الله به عن الجاني، فلم يلبث مشاري بعد قتل الإمام تركي إلا أربعين يوما، وقتل ليلة الخميس من صفر، سنة 1250?. الإمام فيصل بن تركي رحمهما الله تعالى هو الخليفة العادل، الزاهد العابد، فخر الإسلام والمسلمين، ناصر شريعة سيد المرسلين، محيي العدل في العالمين، نصرة المظلومين، قامع المعتدين والمسرفين، منبع الكرم والإحسان، مؤيد السنة والقرآن، الذاب عن حوزة الدين، القائم في مصالح المسلمين، الملتجئ إلى الله، المستضاء بداره، المطروق مورد فنائه، المصدوق في مورد ثنائه، المحقوق من كل ولي بولائه، نجل السادة الغر، القادة الزهر. أبو عبد الله الإمام فيصل بن الإمام تركي بن الأمير عبد الله بن الإمام محمد بن سعود، ولد سنة 1213?، وطلعت بشائر سعوده، وهو ملتف في مهوده، فحاز مفاخر الأوائل والأواخر، وصلحت منه البواطن والظواهر، واجتمعت فيه المكارم، والفضائل، وزانت به المجالس والمحافل، واقتحم عظائم لم يقتحمها عشائره، وجدوده. وجيش الجيوش برا وبحرا، وأخذ الممالك طوعا وقهرا، وتوفرت بحسن سيرته مصالح المسلمين، وجمع في الجزء: 16 ¦ الصفحة: 395 سياسته بين الشدة واللين. سياسة تعجز عنها الملوك وأعوانها، وصلحت بها الممالك وسكانها، لم يكن سفاكا للدم الحرام، ولا غاصبا للمال الحرام من أيدي الأنام، معرضا عن جميع الحطام، مستغيثا بربه في دياجي الظلام له من السيرة المحمودة وتقديم الشرع، وترك الظلم والجور، وإقامة العدل، الحظ الأوفى. عفيف، شريف النفس، للفضل عارف، حليم كريم، سالم القلب منصف، استبشرت الأرض بطلعته، وأمنت الطيور فى حوزته، وحفت الملائكة برياض جنته; وسوت بولايته الأوطان والأوطار، وأنفذ الله به أمره ونهيه في الأقطار. ولي الخلافة بعد مقتل مشاري، وقارنه العز والتمكين، وجلس على سرير الملك والشرف، وأعلن بالحمد والشكر واعترف. وأطلع الله شمس سعادته مشرقة الأنوار، ولبست الدنيا ملابس الافتخار. أخذ الولاية لا عن كلالة، وأتاه الملك مستبشرا يجر أذياله، فلم يكن يصلح إلا له. إليه تجر أذيالها ... ولم يك يصلح إلا لها لزلزلت الأرض زلزالها ... لا زال ظلا دائما ممدودا أتته الإمامة منقادة ... فلم تك تصلح إلا له ولو رامها أحد غيره ... ورث الإمامة كابرا عن كابر الجزء: 16 ¦ الصفحة: 396 فرحا به وتأودت تأويدا ... فكأنهن جعلن له مهودا تعب الجلاد وكم تشق جلودا ... أعني بها التكبير والتحميدا هزت بمظهره الولاية عطفها ... ملك رقى المعالي وهو مرعرع ملك براحته الصوارم تشتكي ... ملك له عند الكفاح علامة أثنت عليه الأقاليم والأمصار، وفرح به الإسلام واستنار، وشاع صيته وطار في الأقطار، وأثنت عليه جهابذة العلماء، في المحافل والأسطار، وما أحسن ما قيل فيه: وبالعز والعدل العميم وبالرشد ... عراه وقام الحق في شده العضد معاهدها مأهولة في حمى صهد ... بهدي ابن تركي ذا الأعاريب تشهد قرير سرير القلب والعيش في رغد ... وبالرأي إدراك الفتى قبل ذي جد ويرتاض من أعمالها كل مشتد ... ففي الحرب يسطو سطوة الأسد الوردي وأخلاقه الأزهار مطلولة البرد ... إذا بخلت أيدي الكرام عن الرفد إمام أتانا بالمسرة والهنا ... به شد أزر الدين واستوثقت به وعادت قضايا الشرع مخضرة الربى ... هو النوربين الرشد والغي فيصل به الجار من كل الحوادث آمن ... بآرائه سود الفوادح تنجلي أخو همة تدنى له كل شاسع ... يهاب ويرجى حاربا ومسالما وفي السلم برأي يحيى مهذب ... له راحة في الجود تغني عن الحيا الجزء: 16 ¦ الصفحة: 397 وقال الشيخ أحمد بن مشرف الأحسائي: لدن جمعتنا بالإمام المسدد ... مناقبه فوق الثريا وفرقد من الحسب السامي إلى خير محتد ... بنوا في المعالي كل فخر وسؤدد يقصر عن إدراكها كل سيد ... ومردي العدى بالمشرفي المهند وأمنها من كل باغ ومعتد ... وغيث اليتامى والفقير المضهد ببذل العطايا هاطل كفه ندي ... بكل نفيس من لجين وعسجد ليالي المنى جادت علينا بالسعد ... حليف المعاني فيصل من سمت به تفرع عن روح المكارم وانتمى ... كريم السجايا ماجد من أماجد ولكنه أضحى بأعلى أرومة ... إمام الهدى جالي الصدى منهل الندى حمى أرض نجد بالصوارم والقنا ... هو البطل المقدام كالليث في الوغى رفيق شفيق بالورى متواضع ... له نفس حر تشتري المجد والثنا وقال: فقد زانت الدنيا بوجهك والعصر ... لئن لبست نجد بملكك مفخرا وقال: فمن مثله في الفضل والبأس والندى ... حليف العلا من كان في الفضل أوحدا له بسطتا فضل وفصل على العدى ... وآباؤه الغر الكرام أولو الهدى من السنة الغراء ما قد تأودا ... إذا ريم خسفا وجهه يتربدا أخو همة في شامخ العز قد علت ... أبو المجد وابن المجد والمجد أصله إمام همام باسل باذخ العلا ... فأكرم به فرعا سلالة مقرن لقد نصروا دين الإله وقوموا ... هو الأسد الضرغام والضيغم الذي الجزء: 16 ¦ الصفحة: 398 بوطأته الأعدا ومن كان ملحدا ... لقد أمن الله البلاد وأهلها وقال: من آلة للحرب أو متمول ... جعل الخلافة في الإمام الأعدل كل النفوس على إمامة فيصل ... لا تحسب الملك القصور وما حوت بل مالك الملك الإله وإنه ... جمع الإله له القلوب فأجمعت وقال: وطاب له في العالمين أروم ... نماه إلى أعلى الفخار صميم لهم مكرمات جمة وحلوم ... له بين سكان البلاد رسوم إمام حوى كل المكارم والعلا ... له نسب في وائل بن ربيعة تفرع من صيد الملوك الذين هم ... هم نصروا دين الهدى بعد أن عفت لخير الورى منها العظام رميم ... فعاد كريم الأصل وهو كريم إذا شب من نار الحروب جحيم ... وأحيوا بأطراف الأسنة سنة وقد ورثوا المجد الأثيل لفيصل ... هو الضيغم الضرغام في كل معرك وما أحسن ما قيل: تلقاه عن أسلافه السادة الغر ... وفيصل في ذا العقد واسطة الدر وترفل في ثوب الجلالة والفخر ... له في سرير الملك أصل مؤثل هم العقد من أعلى اللآلئ منظما ... غدت أرض نجد منه تزهو ملاحة وهو أشهر من أن يذكر. وكان له رحمه الله تعالى سر مع ربه، يلتجئ به إليه في الشدائد، وثقة به في كل نازلة يرجوه ويعول عليه. وكان قد حفظ القرآن عن ظهر قلبه الجزء: 16 ¦ الصفحة: 399 صغيرا، وحافظ على تلاوته والتهجد به شابا وكبيرا. وله الحظ الأوفى من الليل والقيام فيه، وكثرة التضرع والابتهال بين يدي بارئه; وكم حامت عليه الحوائم، وجلت الخطوب، فيعجل الله له بالفرج القريب، ويجعل له المخرج العجيب. كان قضاته على الرياض ومدرسوه: الشيخ عبد الرحمن بن حسن، وابنه الشيخ عبد اللطيف، والشيخ علي بن حسين، وابنه الشيخ حسين، والشيخ إبراهيم بن سيف، والشيخ عبد العزيز بن شلوان، والشيخ عبد الرحمن بن عدوان، والشيخ عبد العزيز بن صالح المرشدي، وعبد الرحمن بن بشر. وقاضيه على بلد عرقة: الشيخ محمد بن سلطان، وعلى منفوحة: الشيخ عبد الله بن جبر، وعلي ضرمى: الشيخ عبد الله بن نصير، ثم الشيخ عبد الله بن مرخان، وعلى المحمل: الشيخ محمد بن مقرن، ثم الشيخ عبد العزيز بن يحيى، وعلى سدير: الشيخ عبد العزيز بن عبد الجبار، ثم عثمان بن منصور، ثم الشيخ عبد العزيز بن صالح المرشدي. وعلى الوشم: الشيخ إبراهيم بن عيسى، وعلى الحوطة: الشيخ علي بن حسين ثم الشيخ عبد الملك بن حسين، وعلى الحريق: الشيخ حسين بن حمد، وعلى نعام: الشيخ محمد بن عجلان، وعلى الحلوة: الشيخ ناصر بن الجزء: 16 ¦ الصفحة: 400 عيد، وعلى الخرج: الشيخ عبد الرحمن بن حسين، ثم الشيخ حمد بن عتيق، ثم الشيخ محمد بن عجلان. وعلى الإفلاج: الشيخ حسين بن فرج، ثم رشيد بن عوين، ثم الشيخ حمد بن عتيق، وعلى وادي الدواسر: جمعان بن ناصر، ثم ناصر بن عيد، ثم الشيخ حمد بن عبد العزيز، ثم الشيخ محمد بن محمود، وعلى القويعية: علي بن فراج، ثم الشيخ سعود بن محمد. وعلى بريدة: سليمان آل مقبل، وعلى عنيزة: الشيخ عبد الله أبا بطين، ثم الشيخ علي بن محمد، وعلى حائل: الشيخ محمد بن إبراهيم بن سيف، ثم الشيخ علي بن سليم، ثم الشيخ الغنيمي، وعلى الأحساء: الشيخ محمد بن عبد القادر، ثم الشيخ عبد الله الوهيبي، ثم الشيخ عبد الرحمن الوهيبي، ثم عبد اللطيف آل مبارك. وكان يخلف في الرياض أميرا: سعد بن خير الله، وأميره على عرقة: محمد الهلالي، ثم ابنه عبد العزيز، وعلى الدرعية: إبراهيم بن رواف ثم إبراهيم الطويل، وعلى ضرمى: محمد بن عبد العزيز، ثم علي بن عبد الله بن عبد العزيز، وعلى الخرج: سليمان بن منديل، ثم ابنه الأمير سعود بن الإمام فيصل، ثم محمد بن سنبل. وعلى الحوطة: محمد الجبر، ثم أخوه عثمان، وعلى آل حسين: ناصر بن عبد الله، ثم رشيد بن حمد، وعلى الجزء: 16 ¦ الصفحة: 401 الحريق: تركي الهزاني، ثم ابنه سعد، وعلى الحلوة: إبراهيم بن خريف، وعلى الإفلاج: ابن عبيد الله، ثم عبد الرحمن بن إبراهيم، وعلى وادي الدواسر: ناصر بن عيد، ثم عبد الرحمن بن إبراهيم، وعلى القويعية: ناصر بن سعود، ثم حمد بن جبرين، وعلى الشعيب والمحمل: فيصل بن مبارك في حريملاء، وسعد بن محمد في ثادق، وعلى سدير: إبراهيم العسكر، وعلى الوشم: محمد الجميح، وعلى الشعراء: سعد بن سعود، وعلى بريدة: عبد العزيز آل محمد، ثم مهنا بن عرفج. وعلى عنيزة: جلوي بن تركي، ثم يحيى بن زامل آل سليم، وعلى حائل: عبد الله الرشيد، ثم طلال الرشيد، وعلى الأحساء: أحمد السديري، ثم ابنه محمد، وعلى عمان: سعد المطيري، ثم أحمد السديري، ثم ابنه تركي، وعلى القطيف: عبد الله المداوي، ثم محمد بن مرشد، ثم محمد بن عبد العزيز صاحب ضرمى. وكان رحمه الله آمرا بالمعروف، ناهيا عن المنكر، محبا للعلماء، ومجالستهم، وكان على طريقة آبائه في تعاهد الرعية بالنصائح. توفي رحمه الله وأسكنه الفردوس الأعلى، في رجب سنة 1282?، في بلد الرياض، ورثاه جمع منهم الشيخ أحمد بن مشرف: الجزء: 16 ¦ الصفحة: 402 بكينا بدمع مثل صوب الغمائم ... بسمر القنا والمرهفات الصوارم وأفنى رؤوسا منهم في الملاحم ... ويرميهم في حربه بالقواصم تغير بنجد خيله والتهائم ... وأصبح عرش الملك عالي الدعائم وما زال ينهى عن ركوب المحارم ... سماحا ويعفو عن كثير الجرائم فحاز الثنا من عربها والأعاجم ... وأسكنه الفردوس مع كل ناعم على فيصل بحر الندى والمكارم ... إمام نفى أهل الضلالة والخنى فكم فل من جمع لهم جاء صائلا ... يجر عليهم جحفلا بعد جحفل فما زال هذا دأبه في جهادهم ... إلى أن أقيم الدين في كل قرية وأخلى القرى من كل شرك وبدعة ... ويعطي جزيل المال محتقرا له مناقب جود قد حواها جبلة ... تغمده المولى الكريم برحمة الشيخ محمد بن مقرن رحمه الله تعالى هو العلامة الشهم الفقيه النبيه، ذو العقل الفائق، والرأي الصائب الرائق، الشيخ الفاضل: محمد بن مقرن بن سند بن علي بن عبد الله بن فطاي الودعاني، الدوسري القحطاني. نشأ في بلد القرينة; وأخذ العلم عن الشيخ: عبد الله بن الشيخ محمد، وغيره من علماء الدرعية وغيرهم وحصَّل; وكان فطنا مستيقظا، له عقل راجح، ورأي وشهامة وسماحة، وحسن خلق؛ استعمله الإمام سعود قاضيا في بلدان المحمل. وفي بعض الأوقات يرسله في نواحي مملكته؛ فأرسله الجزء: 16 ¦ الصفحة: 403 مرة قاضيا في عمان، فنفع الله به، وأصلح الله عمان على يديه، ثم أرسله قاضيا لجهة اليمن وغير ذلك. ثم في ولاية الإمام تركي أرسل إليه وأقامه عنده، ثم جعله قاضيا في ناحية المحمل؛ ثم لما ولي عبد الله بن ثنيان إمارة نجد مضى عنده، فلا يسلك جهة إلا وهو معه. فلما قدم الإمام فيصل، وذهب الشقاق عن المسلمين، أكرمه، وأرسله قاضيا في الأحساء في وقت الموسم، فمرض بحمى، ولم يزل محموما سقيم البدن، حتى توفي رحمه الله. أخذ عنه العلم جماعة من أهل النواحي، وأهل المحمل، منهم الشيخ: عبد الرحمن بن عدوان، والشيخ عبد الرحمن بن عزاز، والشيخ عبد العزيز بن يحيى، وغيرهم؛ وله أجوبة، توفي رحمه الله سنة 267?. الشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمه الله هو الإمام العالم العلامة، الحبر البحر الفهامة، مفيد الطالبين، مرجع الفقهاء والمتكلمين، المحفوف بعناية رب العالمين، العالم الرباني والمجدد الثاني، جامع أنواع العلوم الشرعية، ومحقق العلوم الدينية، والأحاديث النبوية، والآثار السلفية، وارث العلم كابرا عن كابر. رجع العلم به غضا بعد أن كان دابرا، وظاهرا بعد أن كان غابرا، مفتي فرق الأنام، الجزء: 16 ¦ الصفحة: 404 ناصر شريعة سيد الأنام، الموفق للصواب في الجواب، شيخ الإسلام، الشيخ: عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب. ولد سنة 1196?، في بلد الدرعية، وشب بها، وأخذ العلم عن جده الشيخ: محمد، وعمومته، الشيخ: عبد الله، والشيخ علي، والشيخ حسين; وعن الشيخ حمد بن ناصر بن معمر، والشيخ عبد الله بن فاضل; وقرأ على الشيخ: عبد الرحمن بن خميس، في الفرائض، وفي الجزرية على أحمد بن حسن الحنبلي، وشرح الفاكهي على المتممة في النحو على الشيخ حسين بن غنام. وأخذ العلم أيضا عن علماء مصر، إذ كان ثم مع أعمامه، ومن فضلائهم الشيخ حسن القويسيني، والشيخ عبد الله سويدان، والشيخ عبد الرحمن الجبرتي; وأخذ العلم عن مفتي الجزائر: محمد بن محمود الجزائري الحنفي، وقرأ على الشيخ إبراهيم العبدي، شيخ مصر في القراءات، قرأ عليه أول القرآن. وقرأ على الشيخ أحمد سلمونه كثيرا من الشاطبية وشرح الجزرية، وقرأ على الشيخ يوسف الصاوي والشيخ إبراهيم البيجوري شرح الخلاصة؛ وأجازه جماعة من المحدثين. وأخذ العلم أيضا عن جماعات سوى هؤلاء المذكورين. وكان رحمه الله: له اليد الطولى في الأصول الجزء: 16 ¦ الصفحة: 405 والفروع، حتى لم يكن في زمانه أفقه ولا أورع ولا أزهد ولا أتبع للسنة منه. وكان من الجبال التي لا ترتقى ذروتها، ولا ينال سنامها، ومن أكابر السلف وأعلامها، غزير الفضل، كامل العقل، شديد التثبت، حسن السمت، إماما في جميع الفنون الدينية، معرضا عن الدنيا وأهلها، هينا لينا شجاعا مهيبا، متواضعا محبا للطلبة والمساكين، حسن الخلق والخلق، جوادا سخيا كثير العبادة والتضرع والدعاء، كان النور يخرج من وجهه. عن الدنيا ما كان أصبره، وبالسلف ما كان أشبهه، وبالصالحين ما كان ألحقه; اختصه الله بنصر دينه، والقيام بحفظ سنته، ورضيه لإقامة حجته، قام مقام نبوة، واشتهر ذكره وانتشر، وأجمع على إمامته في الدين أهل نجد والأمصار، وشاع صيته في الأقطار وشمائله. وما قال الأئمة في مدحه كثير، قال الشيخ عبد الرحمن بن محمد بن مانع رحمه الله: بعيد عن الأدناس ناء عن الكبر ... أشد لدى هتك الحدود من النمر وأسقى غراس العلم في سائرالعمر ... وفي بحثه التوحيد نادرة العصر وكل فنون العلم أربى على البحر ... فلا يبعدنك الله من شيخ طاعة قوي بأمر الله شهم مهذب ... تجرد للتدريس والحفظ دائبا ففي الفقه والتفسير بحر غطمطم ... وفي النحو والتأصيل قد صار آية الجزء: 16 ¦ الصفحة: 406 يزيح به الإشكال عن مرتج الفكر ... بتحقيق أبحاث أدق من الشعر غدابين تلك الكتب كالكوكب الدر ... من الملحدين المعتدين أولي الغدر يجيب على الفتيا جوابا مسددا ... فيضحى عويص المشكلات موضحا فسل عنه في التوحيد تهذيبه الذي ... وفي رده تشبيه كل مشبه **** جلاها كما يجلى دجى اللبل بالفجر ... تصانيفه في كل مصر وفي كل قصر وغرره ما لفقوه من الهذر ... فراح ابن جرجيس على الذل والصغر ودحض فولى بالبوار وبالخسر ... وفضل إله العرش يسمو على الحصر ولكن ذا نزر يدل على الغمر ... إذا مبطل يأتي بتزويق شبهة ففي كل إقليم له الرد فانتهت ... ولما طغى علج العراق بجهله رماه كما يرمى الرجيم بثاقب ... وباء ابن منصور بإرغام حجة وفي كل معنى وفي الله قسمة ... ولست بمحص بعض تعداد فضله وقال الشيخ أحمد بن علي بن مشرف بعد ثنائه على الشيخ محمد: بنور الهدى يهدي فمن ذا يعادله ... فيبطل تمويهاته ويناضله كذا عابد الرحمن أعني حفيده ... ينافح عن دين الهدى كل مبطل وقال: أكرم به من عالم وإمام ... زين لأهل العلم والحكام ندت وقاد صعابها بزمام ... ونحا طريقة الإمام حفيده أعني بذلك شيخنا علم الهدى ... قد رد من كل العلوم شواردا الجزء: 16 ¦ الصفحة: 407 وأذل من أضحى ألد خصام ... كم أيقظوا من معشر نوام فلقد كفى وشفى بتصنيفاته ... فهم دعاة الدين بل أنصاره وقال: أتاه بتيار من العلم كالبحر ... بنور هدى يجلي الغياهب كالفجر فعالمنا بين الكواكب كالبدر ... إذا مبطل أجرى من الجهل جدولا فجلى ظلام الجهل والشك والعمى ... لئن كان أهل العلم كالشهب في السما وقال الشيخ عثمان بن بشر: هو العالم النحرير، والبحر الزاخر الغزير، مفيد الطالبين، وافتخار العلماء الراسخين، ومرجع الفقهاء والمتكلمين، المحفوظ بعناية رب العالمين، عمدة السلف وبقية الخلف، جامع أنواع العلوم الشرعية، ومحقق العلوم الدينية، والأحاديث النبوية، والآثار السلفية، مفتي فرق الأنام، ومؤيد شريعة سيد الأنام. [مصنفاته ومكانته وتلاميذه] وقال الشيخ إبراهيم بن عيسى: هو الإمام العالم الفاضل القدوة، رئيس الموحدين، وقامع الملحدين، كان إماما بارعا محدثا فقيها، ورعا تقيا نقيا صالحا، له اليد الطولى في جميع العلوم الدينية؛ وكان ملازما للتدريس، مرغبا في العلم، معينا عليه، كثير الإحسان للطلبة، لين الجانب، كريما سخيا، ساكنا وقورا، كثير العبادة. ولو تتبعنا محاسنه وفضائله لطال المقام، وله مصنفات شهيرة مقبولة، منها: الجزء: 16 ¦ الصفحة: 408 1- كتاب فتح المجيد شرح كتاب التوحيد. 2- قرة عيون الموحدين حاشية على التوحيد. 3- كشف ما ألقاه إبليس، على داود بن جرجيس 1 مجلد; ورد عليه أيضا غيره. 4- كتاب في الرد على عثمان بن منصور مجلد. 5- وله الرد والودع على داود أيضا. 6- مشاركة مع عمه الشيخ عبد الله، في رده على الزيدية. 7- اختصر قطعة من العقل والنقل. 8- تفسير الفاتحة. 9- مختصر تفسير قل هو الله أحد. وله ردود مختصرات على ابن منصور وغيره، وأجوبة مفيدة، ورسائل ونصائح عديدة، أكثر من مجلد، فرقناها في مواضعها على حسب الترتيب. وبالجملة: فهو رئيس قضاة المسلمين، وانتفع بعلمه الفئام. فممن أخذ عنه العلم من القضاة والعلماء، من ذريته وذرية أعمامه: ابناه الشيخ عبد اللطيف، وإسماعيل، والشيخ عبد الله بن عبد اللطيف، والشيخ حسن بن حسين بن الشيخ، والشيخ عبد الرحمن بن حسين، وابنه عبد العزيز، والشيخ عبد الملك وابنه إبراهيم   1 والمسمى بالقول الفصل النفيس. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 409 والشيخ حسين بن حمد بن حسين، والشيخ حسين وحسن ابنا علي بن حسين، والشيخ عبد الله بن حسن بن حسين، والشيخ عبد الله بن محمد بن علي، وأبناء الشيخ علي بن الشيخ، وغيرهم ممن لم يل القضاء خلق. وأخذ عنه من القضاة والفقهاء: الشيخ عبد الرحمن بن ناصر بن بشر، والشيخ عبد العزيز بن صالح بن مرشد، والشيخ محمد بن عبد الله بن سليم، والشيخ محمد بن عمر بن سليم، والشيخ صالح بن محمد الشثري، والشيخ زيد بن محمد آل سليمان، والشيخ عبد العزيز بن شلوان، والشيخ علي بن عبد العزيز بن سليم; والشيخ إبراهيم بن عيسى وابنه أحمد، والشيخ علي بن عبد الله بن عيسى، والشيخ عمر بن محمد بن يوسف، والشيخ عبد الرحمن بن محمد بن مانع، والشيخ عبد الله الخرجي، والشيخ عبد الله المخضوب، والشيخ مرشد، والشيخ محمد بن علي بن موسى، والشيخ عبد العزيز بن فرحان، والشيخ عيسى بن إبراهيم الشثري، والشيخ عيسى الزير، والشيخ الصيرامي، والشيخ حمد بن فارس، والشيخ عثمان بن عبد الجبار، والشيخ عبد الله بن نصير، والشيخ ناصر بن عيد، والشيخ محمد بن سلطان، والشيخ عبد الرحمن بن حمد الثميري، والشيخ حمد بن عتيق، والشيخ عبد الله بن الجزء: 16 ¦ الصفحة: 410 جبر، والشيخ محمد بن إبراهيم بن سيف، والشيخ عبد العزيز بن حسن بن يحيى، والشيخ محمد بن إبراهيم بن عجلان، والشيخ عبد الله بن علي بن مرخان، والشيخ حمد بن عبد العزيز، والشيخ عبد الرحمن بن عدوان، وغيرهم ممن ولي القضاء. وأما من أخذ عنه ممن تأهل ولم يل القضاء فخلق كثير لا يحصى، نفع الله الطالب بحسن تعليمه، بحيث لا يلبث إلا يسيرا حتى يكون فائقا. ضربت إليه آباط الإبل من جميع نواحي نجد والأمصار، وظهرت آثار البركة من تعليمه، وبذل نصحه للأئمة، ولسائر الأمة، وكان مشهورا بالكرم، وحسن الخلق، وحسن الدعوة، والغيرة لله ولدينه، والقيام بذلك علما، وعملا. وكان يتفقد طلبة العلم والفقراء، ويبذل لهم مما خوله الله مع تعفف مشهور. وفضائلة ومحاسنه ومناقبه أشهر من نار على علم; فرحمه الله وجزاه عن الإسلام والمسلمين أحسن الجزاء; فلقد بذل نفسه لله، وفي ذات الله، لا تأخذه في ذلك لومة لائم، ولا عذل عاذل; وألقي عليه من المهابة والجلالة والبهاء، ما لا يعرف لغيره. توفي رحمه الله تعالى وقدس روحه ونور ضريحه، في 8 من ذي الحجة، سنة 1285?، وصلى عليه بعد طلوع الجزء: 16 ¦ الصفحة: 411 الشمس في مسجد العيد، وحضر جنازته خلائق لا يحصون، وأصاب المسلمين بموته من الحزن والبكاء والتوجع، حتى ربات الخدور، حصل لهن من الفزع والحزن ما يعز وصفه; ولم يصب المسلمون بمصيبة أعظم من مصيبته، وجاءت التعازي من جميع النواحي. قال الشيخ: عبد الرحمن بن محمد بن مانع: وفوض بتسليم مع الحمد والشكر ... ونعم الدرع الصبر في العسر واليسر مشيع بما يهدي إلى المسمع الوقر ... بماذا ينادي والفؤاد على جمر بأن إمام الدين أوفى على العمر ... لفيه الحصى ماذا يقول من الشر وهيل عليه الترب من جانب القبر ... وحرك أشواقا بها عيل من صبري تردّ رداء الصبر في حادث الأمر ... فنعم احتساب المرء في حال رزئه لقد ساءنا ما جاءنا من مبلغ ... فصخت له سمعا وألححت سائلا فقيل ينادي أخطأ الله شره ... فقلت نعي جاء من نحو داره فقال سراج الدين أصبح ثاويا ... فأزعج من ألبابنا كل ساكن * * * وأن الفضا مما بنا صار كالشبر ... حيارى كأيتام أصيبوا على صغر ويا عبرتي خلي غروب الأسى تجري ... سعير حريق القلب أو أنة الصدر بعيد عن الأدناس ناء عن الكبر ... وأيقنت أن الأرض مادت بأهلها لقد ظل أهل الحق من بعد موته ... فيا مهجتي حقا عليه تفتتي ويا أضلعي لا تسأمي إن تصدعت ... فلا يبعدنك الله من شيخ طاعة الجزء: 16 ¦ الصفحة: 412 رفيق لدى الإفتا لطيف لدى النجا ... رقيق لدى النجوى إلى عالم السر وأطال في الثناء عليه ثم قال: ويثني به القاري ويدعو له المقري ... لخلد نحرير الهدى سائر الدهر لزدناه من وقت به منتهى العمر ... لسمنا نفوسا تحت راياتها الخضر بأعناقنا لا تفديها من الأسر ... وموت أهيل العلم قاصمة الظهر فلهفي على أهل النهى الجلة الطهر ... ونقل خيار الناس من جملة النذر ويجبر منا ما تصدع من كسر ... رحيم ودود قد تفرد بالأمر عسى يحيى ذكراه لنا بعد فقده ... فلو كان يبقى بالفضائل فاضل أو الأجل المحتوم يدفع برهة ... أو الحتف تدفعه جنود وجحفل ولكن أطواق المنايا قلائد ... لقد بان فينا النقص من بعد موته فكان كسلك قد وهى من نظامه ... فهذي علامات القيامة قد بدت فنرجو إله العالمين يثيبنا ... ويسكنهم في جنة الخلد إنه الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن رحمهما الله هو الإمام العالم العامل، الحبر العلم الكامل، سيد أهل الإسلام في زمانه، وقطب فلك الأنام في أوانه، أوحد البلغاء، بدر الفصحاء، خصه الله بالفضل والشهامة والشجاعة، طنت بذكره الأعصار، وضنت بمثله الأمصار، أخذ بمجامع الحقائق النقلية والعقلية، سيف السنة المسلول، حاوي المعقول والمنقول، البليغ المصقع، واللوذعي البلتع، الفاضل الفصيح، المجاهد النصيح، أبو الجزء: 16 ¦ الصفحة: 413 عبد الله الشيخ عبد اللطيف بن الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب. ولد في بلد الدرعية سنة 1225? ونشأ بها وقرأ القرآن فيها إلى أن بلغ ثماني سنين، ونقل مع والده وأعمامه وحمولته لمصر، وأخذ العلم فيها عن والده وعميه، الشيخ عبد الله والشيخ إبراهيم، وهم إذ ذاك بمصر، وأخذ عن عمه الشيخ علي بن الشيخ، وخاله الشيخ عبد الرحمن بن الشيخ عبد الله، والشيخ أحمد بن رشيد الحنبلي. وأخذ عن علماء مصر، منهم: الشيخ مفتي الجزائر، محمد بن محمود بن محمد الجزائري; والشيخ إبراهيم البيجوري شيخ الأزهر، والشيخ مصطفى الأزهري، والشيخ حمد الصعيدي وغيرهم من العلماء، وأجازه جماعة، وبرع حتى صار إماما في جميع الفنون؛ لم ير شخص له من الكمال في العلوم والصفات الحميدة التي لم يحصل بها الكمال لسواه. فإنه رحمه الله: كان كاملا في صورته ومعناه، من الحسن والإحسان، والحكم والسؤدد، والعلوم المتنوعة، والأخلاق الجميلة، والأمور المستحسنة، التي لم تكمل من غيره، وقد علم من كرم أخلاقه، وحسن عشرته، وهيبته وجلالته، ووفور حلمه، وكثرة علمه، وغزير فطنته، وكمال مروءته ودوام بشره، وعزوف نفسه عن الدنيا الجزء: 16 ¦ الصفحة: 414 وأهلها، والمناصب لأربابها، ما قد عجز عنه كبار الأكياس، ولا يظن أن يدركه أحد من الناس. أدرك مقام الأئمة الكبار، وناسب قيامه من بعض الأمور مقام الصديقين. وأما شجاعته فبها تضرب الأمثال، وببعضها يتشبه الأكابر الأبطال؛ فلقد أقامه الله في نصرة دينه، والتقاء أعباء الأمر بنفسه; وقام وقعد، وعزل ونصب، واجتمع بالملك وشجعه، ومرة أخافه وأرعبه، وله حدة قوية، وإقدام وشهامة، وقوة نفس، يضرب بها المثل، وفيه مروءة، وقيام مع الناس، وسعي في مصالحهم. لم ير أزهد منه عن الدنيا، والدرهم لا يذكره، ولا أظنه يدور في ذهنه، وكان كثيرا ما يتمثل بهذه الأبيات: وهو المؤمل في الضراء والباس ... فلا تكلني إلى خلق من الناس وجهي المصون ولا تخضع لهم راسي ... رزقي وصني عمن قلبه قاسي بحسن صنعك مقطوعا عن الناس ... يا من له الفضل محضا في بريته عودتني عادة أنت الكفيل بها ... ولا تذل لهم من بعد عزته وابعث على يد من ترضاه من بشر ... فإن حبل رجاثي فيك متصل قد شاعت مناقبه ومحاسنه في الورى، وأثنى عليه علماء نجد والأمصار، ودار في ساثر الأقطار، فقال ابنه الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف: لما رأيت أهل الفهم الجزء: 16 ¦ الصفحة: 415 والذكاء لم يتعرضوا لرثي شيخ الإسلام، وقدوة العلماء الأعلام، علامة دهره ووحيد عصره، الوالد الشيخ عبد اللطيف، ثبت الله حجته، أحببت أن أبذل وسعي في ذلك، وإن كنت لست من رجال ذلك الميدان، ولكن يستأنس بالمثل: كم ترك الأول للآخر، وكم زل من ذكي ماهر، وقلت مستعينا بالله شعرا: وقد كان لي في عهدها بالهدى عهد ... وأنوار هذا الدين من أفقها تبدو ولاح لنا من وجهها القمر الفرد ... فكل مقال لا تقرره رد فإن كل ما يبني من الأمر منهد ... وحصباؤها در وأمواهها شهد به ارتفع الإسلام وانهزم الضد ... وقد مس أهل الزيغ في بأسهم حد لدن غاب من آفاقها الطالع السعد ... لقد أظلمت من كل أرجائها نجد وكنا وأهلوها على خير حالة ... وقد ساعدت ليلى وطاب وصالها بها قام سوق للشريعة عامر ... وكل إمام لا ينفذ أمرها فصحراؤها روض تفتق زهره ... فلله عصر قد مضى في حمائها صحبناهم والدهر مسترخ رواقه ... لقد حل بالسمحا من الخطب فاظع ***** عبد اللطيف العالم الأوحد الفرد ... لما قاله في السالف العالم المجد أم الفتنة الظلماء قد أقبلت تعدو ... فأظلمت الآفاق إذ أظلمت نجد إمام التقى بحر الندى علم الهدى ... فمذ غاب عن عيني تمثلت منشدا الليل غشى الدنيا أم الأفق مسود ... أم السرج النجدية الزهر أطفئت الجزء: 16 ¦ الصفحة: 416 وضعضع ركن للهدى فهو منهد ... ومن دونها النسران والنجم والسعد وأحمد والنعمان والليث والمجد ... مليك جليل القدر تعفو له الأسد طوالعها لا يستطاع لها جحد ... وكم من هدى أبداه إذ أشكل الرد نعم كورت شمس الهدى وبدا الردى ... حليف المعاني قد رقى ذروة الهدى وعلامة ما الشافعي ومالك ... يرى في ثياب النسك حبرا كأنه فسائل به آيات مجد شواهدا ... فكم من ضلال تصدى لرده * * * عليك سلام الله ما سبح الرعد ... به من قبلك الأب والجد أناس رعاهم قبلك الذيب والفهد ... وكيف يقادالجيش والجرد والجند يرام له إرث وإن عظم الجد ... إمام سما في العلم ليس له ند وقد عز من دهر تقادم أن يبدو ... وأن إله الحق في حكمه فرد وكادت إلى فوق السماكين تعتد ... يفوح به من طيبه المسك والورد إلى شرف العليا فحق له المجد ... فيا أيها الحبر الذي كان حجة بنيت بناء للشريعة قد سما ... وأسست هذا الدين حتى سما به وأنبأتهم كيف السياسة والعلا ... فأورثتهم مجدا وما كان مثله حظوظ بميراث النبي أشادها ... أعاد لنا نهج الشريعة واضحا وجلى لنا أسرار شرعة أحمد ... فجرت به نجد ذيول افتخارها حديث رسول الله إن جاء درسه ... محاسن من دنيا ودين سما بها الجزء: 16 ¦ الصفحة: 417 وقال الشيخ عبد القادر البغدادي الحنفي: يوم الجزاء بأجر غير ممنون ... في الشرق والغرب من نجد إلى الصين بديع در عزيز القدر مكنون ... عبد اللطيف جزاه الله خالقنا هو الهمام الذي شاعت فضائله ... بحر من العلم يبدي من معارفه حما طريق رسول الله عن شبه ... إلخ.. وقال الفاضل علي أفندي المدرس بمدينة البصرة: ودها الشرك والعناد زوال ... بعد ما كان دونها ظلال من سما الحق عارض هطال ... الإمام المهذب المفضال من عنده تنتهي الآمال ... هو بحر للعلم بحر زلال لاح نور الهدى وزال الضلال ... وتجلت شمس الكمال عيانا ورياض التوحيد جاد رباها ... وبدا الجهبذ المحقق للحق والهزبر الهمام والعالم النحرير ... ذاك عبد اللطيف كنْز المعالي وقال الشيخ أحمد بن مشرف الأحسائي: إمام هدى بالعلم تزهو محافله ... وعبد اللطيف الحبر لا تنس فضله وقال الشيخ عبد الرحمن بن محمد بن مانع: سواه ولم يبلغ سناها ذوو الصدر ... فأضحت بعيد الطي توصف بالنشر إذا ما انتدى للقوم في محفل الذكر ... مصيب ولم يثن اللسان على هجر فتشفي أوام الصدرعن مغلق الحصر ... سما رتبة في العلم لم يتصل بها فأنعش بعد الدرس بالدرس ميتها ... فكان أحق الناس في قول من مضى إذا قال لم يترك مقالا لقائل ... وأقلامه تجري على متن طرسه الجزء: 16 ¦ الصفحة: 418 أزاح له الإشكال بالسبر والخبر ... فراح بها يدري وقد كان لا يدري ويمنح أهل العلم من سيبه الغمر ... لدين الهدى فانضاح في البر والبحر وإن طالب يأتيه يبغي إفادة ... وأنهله من بحره الجم نهلة فلا زال يولي الطالبين من الهدى ... يجدد منهاج الأئمة جددوا وقال الشيخ عبد الرحمن بن عبد الله بن طوق: قوي جليد لم يروعه غاشمه ... جلت ليله أقلامه وعزائمه يقصر عنها تبع وصوارمه ... حسام الهدى ممن يعاديه قاصمه ومن ذا هزبر هيبة فيكالمه ... يكاد جهول قال للغيب عالمه ولا كرم إلا حوته مكارمه ... من الناس إلا فوق تلك عزائمه هزبر إذا ما قام لله داعيا ... فكم ليل أشكال بتلبيس مبطل له فتكات بالحديث على العدى ... وتروى به جرد الشريعة منتضى فلا تنطق العوراء يوما بناده ... له حدس من دونه حدس أكثم فما الجود إلا صورة في أكفه ... ولا فتكة أو عزمة لابن حرة وقال الشيخ سليمان بن سحمان: إمام هدى قد كان لله داعيا ... وثقلا على الأعداء عضبا يمانيا وحل رواق المجد إذ كان عاليا ... بنته عداة الدين من كان طاغيا ويحمي حماها من شرور الأعاديا ... بما فاق أبناء الزمان تساميا فعبد اللطيف الحبر أوحد عصره ... لقد كان فخرا للأنام وحجة إماما سما مجدا إلى المجد وارتقى ... تصدى لرد المنكرات وهد ما فأضحت به السمحاء يبسم ثغرها ... حباه إله العرش في العلم والنهى الجزء: 16 ¦ الصفحة: 419 ولم يأل في رأب اللثا والمناهيا ... وقد جد في ذات الإله بجهده وقال: وسد ينابيع الغواة الأخاسر ... وتأسيس أصل الدين سامي الشعائر وقمع لمن ناواه من كل غادر ... وتحذيره عنهم بكل الزواجر تؤول إلى رفض الهدى من مقامر ... أولي العلم والحلم الهداة الأكابر إلى الله من قد ند من كل نافر ... قلوبا لعمري مقفلات البصائر لقد جد في نصر الشريعة والهدى ... وإعلاء دين الله جل ثناؤه وإحيائه بعد الدروس ونشره ... وإبعاد أعداء الهدى وجهادهم وقد رد بل قد سد كل ذريعة ... قفا إثر آباء كرام أئمة ببذلهمو للجد والجهد في الدعا ... فكم فتحوا بالعلم والدين والهدى وقال في أثناء قصيدة له ذكر فيها وثبته على ابن جرجيس: وجهبذ ألمعي فاضل فطن ... غربا وشرقا ومن بصرى إلى عدن في العلم فيما علمنا من بني الزمن ... من العراق أتت عن خانع عشن وقاد ذهن ذكي ليس باللكن ... ملفقات لأهل الغي والدرن يسمو بها حيث يحمي حوزة السنن ... من ضيغم باسل حبرا أخي ثقة عبد اللطيف الذي شاعت مناقبه ... ما مصقع بلتع حاذاه أو علم فانظر صواعق علم أحرقت شبها ... جواب حبر هزبر حازم يقظ أوهى به ما بنى داود من شبه ... فالله يعليه في الفردوس منْزلة [مصنفاته] ولو تتبعنا سيرته ومحاسنه، وما أثني به عليه لبلغ مجلدا; وله رحمه الله مصنفات عديدة منها: الجزء: 16 ¦ الصفحة: 420 1- كتاب مصباح الظلام، في الرد على عثمان بن منصور، مجلد. 2- كتاب منهاج التأسيس، في كشف شبهات داود بن جرجيس، مجلد. 3- كتاب البراهين الإسلامية في الرد على شبهات الفارسية. 4- كتاب تحفة الطالب والجليس في الرد على داود بن جرجيس. 5- رسائل عديدة وأجوبة مفيدة تبلغ مجلدا، جمع أكثرها الشيخ سليمان بن سحمان، وقال: لقد اشتملت على أصول أصيلة ومباحث جليلة، لا تكاد تجدها في كثير من الكتب المصنفة، والدواوين المشهورة المؤلفة، إذا سرح العالم نظره فيها علم أن هذا الإمام قد حاز قصب السبق في الفروع والأصول، واحتوى منه على ما سمق وسبق به الأئمة الفحول. وشرع في شرح كتاب الكبائر، وشرح النونية، فاخترمته المنية. فرحمه الله من إمام بلتع، وفاضل فصيح مصقع؛ فلقد تبحر في جميع فنون العلم، وهذه رسائله تطلعك على ما هنالك، وثواقب علومه يهتدي بها السائر عن سلوك معاطب المهالك. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 421 ولم يأل جهدا في ارتفاع ذراها ... عن السنة الغرا ورام خفاها رسائله اللاتي أضاء ضياها ... وأعشى عيون الملحدين سناها لأسئلة قد أشكلت فجلاها ... نبوق عبير المسك طيب شذاها بفيح 1 معانيها وشاو ذراها ... وإن قد تسامى للعلا فعلاها فقد قام في نصر الشريعة جاهدا ... ورد على من ند من كل ملحد وقد شيدت أركان سنة أحمد ... فأشرق منها الحق للخلق ناصعا وأجوبة تسمو وتسمق بالهدى ... يضوع لأهل الحق منها نواشر إذا أرسل النحرير ثاقب فكره ... أقر له بالفضل والعلم والحجى وجميع رسائله وأجوبته، ومختصرات ردوده، فرقناها في مواضعها، على حسب الترتيب. [تلاميذه] أخذ عنه العلم خلائق لا يحصون، منهم أبناؤه: الشيخ عبد الله، والشيخ إبراهيم، والشيخ محمد وعبد العزيز، وأخوه إسحاق، والشيخ حسن بن حسين بن علي، والشيخ عبد العزيز بن محمد بن علي، والشيخ حسن بن علي، والشيخ إبراهيم بن عبد الملك، والشيخ عبد الله بن حسن بن حسين بن علي، وعبد العزيز بن عبد الرحمن بن حسين، والشيخ ناصر بن حسين، والشيخ إسماعيل بن عبد الرحمن، والشيخ سليمان بن عبد الرحمن بن حسين، والشيخ حمد بن عتيق، والشيخ سليمان بن سحمان،   1 كذا بالأصل. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 422 والشيخ علي بن عيسى، والشيخ أحمد بن عيسى، والشيخ إبراهيم بن عيسى، والشيخ عثمان بن عيسى، والشيخ عبد العزيز بن حسن، والشيخ حمد بن عبد العزيز; والشيخ محمد بن محمود، وحمد بن فارس، والشيخ عبد الرحمن بن عدوان، والشيخ عبد الرحمن بن مانع، والشيخ محمد بن عبد الله بن سليم، والشيخ محمد بن عمر بن سليم، والشيخ علي بن سليم، والشيخ عبد الله بن محمد بن مفدى، والشيخ صالح الشثري، والشيخ عبد العزيز بن صالح المرشدي. والشيخ صالح بن قرناس، والشيخ محمد بن إبراهيم بن سيف، والشيخ عمر بن يوسف، والشبخ عبد العزيز الصيرامي، والشيخ عبد الله بن حسين المخضوب، والشيخ محمد بن خميس، والشيخ عبد العزيز بن عبد الجبار، والشيخ عبد الله بن جريس، والشيخ عبد العزيز بن شلوان، والشيخ عبد الرحمن الوهيبي، والشيخ عبد الله بن محمد الخرجي، والشيخ حسين بن تميم، والشيخ أحمد الرجباني، والشيخ أحمد بن عبيد، والشيخ محمد بن حسن بن جريبة; والشيخ عبد الرحمن بن بشر، والشيخ علي بن نفيسة، والشيخ عبد الرزاق، وخلائق من أهل نجد ومصر والأحساء وغيرها. [وفاته وما قيل في رثائه] توفي رحمه الله وأسكنه النعيم المقيم، في 4 من ذي الجزء: 16 ¦ الصفحة: 423 الحجة سنة 1292? وأصيب المسلمون بفقده، ولم تسد ثلمته من بعده; وبكته المجالس والقبائل، وفقدته الرؤساء والمحافل، وقد رثي بقصائد منها ما رثاه به الشيخ عبد الرحمن بن عبد الله بن طوق، مطلعها: وإن عظمت هماته وعزائمه ... وأيتمه للعلم إذ مات عالمه بأوحش أنباء بريد يكاتمه ... فأظلم كل الكون وارتج عالمه وجاد بماء الجفن سحا غمائمه ... وهد بسور العلم أوهاه ثالمه وكنْزا أبى مضروبها أن يقاومه ... تلقاه فرع أصلته أكارمه فإني وأيم الله للفضل ظالمه ... فما هو إلا دارسات معالمه أبي خلق الأيام حيا تسالمه ... فما أوحش الدنيا ويا حزن نجدها فما مر يوم مر يوم أتى به ... وجدنا كأن الأرض حتما تزلزلت وهاجت رياح من زفير تنفس ... فيا لك من رزء فظيع على الورى فقد كان للدنيا وللدين عدة ... بقية أهل العلم والعلم الذي فإن لم يكن دمعي جرى فيه عن دم ... فإن تبكه فالعلم نبكهما معا إلى أن قال: من الدهر قد دبت إليه أراقمه ... يشرعه جفن لها وسواجمه فزاد برزء منك مرا علاقمه ... فلي بعده من رزئه قلب ثاكل وعين لها حرم الكرى صح ملة ... وما زال هذا العصر مرا وعلقما ثم قال: على المبلغ المنجي طريق ملازمه ... سواه ولا بد المنون تزاحمه وعاش سعيدا ثم مات موحدا ... فلا حي إلا الحي والكل هالك الجزء: 16 ¦ الصفحة: 424 وللدهر يوما سوف يدركك صارمه ... وجافته عن دار الغرور عزائمه إذا ما خلا حبر به قام قائمه ... وماذا وإن أعطيت عمرا كآدم فطوبى لعبد أيقظته عناية ... وما زال هذا النور فيكم شامخا ومنها مرثية الشيخ سليمان بن سحمان: وتظهر مكنونا من الحزن ثاويا ... وبالعلم يزهو ربع تلك الروابيا وأطواد شرع الله فيها رواسيا ... جناها ينلها والقطوف دوانيا مناهلها كالشهد فعم صوافيا ... يرجعن ألحان الغواني تهانيا وأنوار هذا الدين تعلو سواميا ... علينا بأنواع الهموم الروازيا وننبأو عنها في القرون الخواليا ... وأوجعها فقدان تلك المعاليا فحق لنا إهراق دمع المآقيا ... مصابيح داجيها لخطب وداهيا مذيق العدى كاسات سم الأفاعيا ... تذكرت والذكرى تهيج البواكيا معاهد كانت بالهدى مستنيرة ... وأراضها بالعلم والدين قد زهت وقد أينعت منها الثمار فمن يرد ... وأنهارها للواردين شريعة وقد غردت أطيارها برياضها ... وكنا على هذا زمانا بغبطة فما كان إلا برهة ثم أطبقت ... فكنا أحاديث كأخبار من مضى لعمري لئن كانت أصيبت قلوبنا ... لقد زادت البلوى اضطراما وحرقة فقد أظلمت أرجاء نجد وأطفئت ... لموت إمام الدين والعلم والتقى إلى أن قال: وأصبح ناعي الدين فينا مناديا ... وحل بها من موجعات التآسيا ولما نمى الركبان إخبار موته ... رثيناه جبرا للقلوب لما بها الجزء: 16 ¦ الصفحة: 425 وغيظ العدى فليبك من كان باكيا ... وحل بنا خطب من الرزء شاجيا يضيء سناها للورى متساميا ... وهطال سحب العفو من كل غاديا على قبره ذا ديمة ثم هاميا ... وألحقه بالصالحين المهاديا وأضحى دفينا في المقابر ثاويا ... ويبهر ضوء الشمس أزكى سلاميا لشمس الهدى بدر الدجى علم الهدى ... لئن ظهرت منا عليه كآبة فقد كسفت للدين شمس منيرة ... سقى الله رمسا حله وابل الرضى ولا زال إحسان الإله وبره ... وأسكنه الفردوس فضلا ورحمة عليه تحيات السلام وإن نأى ... يفوق عبير المسك عرف عبيرها * * * مضى لسبيل كلنا فيه ماضيا ... ربوع ذوي الإسلام منه خواليا بآثار آباء كرام المساعيا ... وأحيوا من الأعلام ما كان عافيا يقصر عن تعدادهن نظاميا ... وليس يواريها غطاء المعاديا وبالعفو عنهم يا مجيب المناديا ... إلى الخير يا من ليس عنا بلاهيا فيا معشر الإخوان صبرا فإنما ... فإن أفل البدر الفريد وأصبحت فقد شاد أعلام الشريعة واقتفى ... همو جددوا الإسلام بعد اندراسه وكم لهمو من منحة وفضيلة ... مناقبهم لا يحصيها النظم عدة فيا رب جد بالفضل منك تكرما ... وأبق بنيهم سادة يقتدى بهم الجزء: 16 ¦ الصفحة: 426 الشيخ عبد الله أبا بطين رحمه الله هو الإمام العالم العلامة، الفقيه البحر الفهامة، المدقق النبيه، المحقق الموفق، مفيد الطالبين وقامع المشبهين، شيخ الإسلام: عبد الله بن عبد الرحمن بن عبد العزيز بن عبد الرحمن بن عبد الله بن سلطان بن خميس أبا بطين العائذي، ولد في بلد الروضة سنة 1194 من الهجرة، ونشأ بها نشأة حسنة، في الديانة والصيانة، والعفاف، وطلب العلم. أخذ العلم عن الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد، والشيخ محمد بن عبد الله بن طراد الدوسري الحنبلي؛ فمهر في الفقه، وفاق أهل عصره في إبان نشاته، ثم ارتحل إلى شقراء، وأخذ العلم عن الشيخ عبد الله بن عبد العزيز الحصين، في التفسير والحديث والفقه، وأصوله، وأصول الدين، حتى برع، وأخذ عن الشيخ أحمد بن حمزة بن رشيد العفالقي الأحسائي ثم المدني، وعن الشيخ حمد بن ناصر بن معمر، واجتهد حتى صار منارا يهتدى به، وإماما يقتدى به. ولي القضاء زمن الإمام سعود في بلد الطائف، ودرس فيه؛ وأخذ عنه جماعة في الحديث والتفسير، وعقائد السلف، ثم رجع إلى بلده قاضيا عليها وبلدان الوشم. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 427 قال الشيخ إبراهيم بن عيسى: هو الإمام، والحبر الهمام، العالم العلامة، القدوة الفهامة، حسن السيرة والورع، والديانة، والصيانة، والعفاف، جلدا على التدريس، لا يمل ولا يضجر، ولا يرد طالبا، كريما سخيا، وقورا دائم الصمت قليل الكلام، كثير التهجد والعبادة، حسن الصوت بالقراءة، قراءته مرتلة مجودة، معرضا عن القال والقيل، ماشيا على أهدى سبيل، وأثنى عليه هو وغيره، وهو أشهر من أن يذكر. وله: 1- حاشية على شرح المنتهى مجلد. 2- حواش وتعليقات على شرح الزاد وغيره. 3- رسالة في تجويد القرآن. 4- كتاب كشف تلبيس داود بن جرجيس. 5- الانتصار، رد عليه أيضا. 6- فتاوى تبلغ مجلدا، فرقناها في مواضعها. وكتب كثيرا من الكتب الجليلة بخطه الحسن المتقن، ونقل على كثير منها كثيرا من الفوائد. وصار قاضيا أيام الإمام تركي، في عنيزة وبلدان القصيم. أخذ عنه العلم جماعة منهم: ابنه عبد الرحمن، والشيخ محمد بن عبد الله بن مانع، والشيخ محمد بن عبد الله بن سليم، والشيخ محمد بن عمر بن سليم، الجزء: 16 ¦ الصفحة: 428 والشيخ علي بن محمد بن راشد، والشيخ إبراهيم بن حمد بن عيسى، وابنه الشيخ أحمد، والشيخ علي بن عبد الله بن عيسى، والشيخ حسن بن علي، والشيخ عبد العزيز بن محمد، والشيخ محمد بن إبراهيم بن سيف، والشيخ محمد بن عبد الله بن حميد، والشيخ علي بن محمد، والشيخ علي البناني، والشيخ علي بن محمد آل مقبل، والشيخ إبراهيم بن عجلان، والشيخ سليمان بن عبد الرحمن، والشيخ عبد الله بن عبد الكريم، والشيخ صالح بن حمد بن نصر الله، وغيرهم جم غفير. توفي رحمه الله تعالى في شقراء، سنة 1282?. الشيخ عبد العزيز بن حسن رحمه الله تعالى هو العالم العلامة، الأريب الأديب، ذو العنصر الزكي، والبيت التقي، الشيخ الفاضل: عبد العزيز بن حسين بن عبد الله بن محمد بن يحيى، من جرثومة بني لام، الذين لهم سابقة مشهورة قديمة في الإسلام، ولأهل الإسلام. ولد في بلدة ملهم وشب بين أبويه وعمومته. وأخذ العلم عن الشيخ محمد بن مقرن، ثم رحل إلى الشيخ عبد الرحمن بن حسن، فأخذ عنه الفقه والتفسير، والتجويد والعربية وغيرها، وعن ابنه الشيخ عبد اللطيف وغيرهم. وكان رحمه الله شهما، هماما تقيا، آمرا بالمعروف الجزء: 16 ¦ الصفحة: 429 ناهيا عن المنكر، مفيدا للطالبين واعظا للراغبين، قامعا للمفسدين، لا تأخذه في الله لومة لائم، سخيا حسن الخلق، ذا عفاف وسمت، وفصاحة وكرم وسماحة. وكان يلقب بـ "حصام". ولي القضاء في ولاية الإمام فيصل، وله فتاوي. أخذ عنه العلم ابنه الشيخ ناصر، وعبد الرحمن وسعد. وقرأ عليه ابنه عبد الله، وأخذ عنه الشيخ حمد بن عبد العزيز، والشيخ عبد الله بن حمد الحجازي، والشيخ محمد القصير وعلي القصير، وعبد الرحمن بن عبد العزيز، وعبد المحسن ومحمد آل يحيى، وعبد الله بن مفدى، وناصر بن ناصر وغيرهم. توفي رحمه الله تعالى سنة 1298?. الشيخ حمد بن عتيق رحمه الله تعالى هو الإمام العلامة، الورع الفهامة، الثقة الفارس في العلوم، ذو الهمة والشجاعة، الشيخ: حمد بن علي بن محمد بن عتيق بن راشد بن حميضة، ولد في الأفلاج 1، وأخذ العلم عن الشيخ عبد الرحمن بن حسن، وابنه الشيخ   1 وذكر الشيخ إسماعيل بن سعد بن إسماعيل بن حمد بن عتيق أنه ولد في الزلفى ولم يظهر له أيضا أنه أخذ العلم عن الشيخ عبد اللطيف فالله أعلم. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 430 عبد اللطيف، والشيخ علي بن حسين وغيرهم، وبرع في العلوم. وكان له حظ من العلوم، وإقدام وشهامة، وعبادة وتهجد، وطول صلاة ولهج بالذكر، شديد المحبة للعلم وكتابته ومطالعته، وتصنيفه والحث عليه. قال الشيخ سليمان بن سحمان، رحمه الله: لحل عويص المشكلات البوادر ... إذا ما تبدت من كفور مقامر فحل على هام النجوم الزواهر ... يعوم بتيار من العلم زاخر يجدد من منهاجهم كل داثر ... ويعمر من بنيانه كل دامر بها وارتقى مجدا سمي المظاهر ... فليس له في عصره من مناظر وفي العلم ذو حظ أطيد ووافر ... أريب رسيب الجأش ليس بطائر إذا ما أجنت حالكات الفواقر ... يعز علينا أن نرى اليوم مثله وللشبهات المعضلات وردها ... فلله من حبر تصعد للعلا ولله من حبر إمام وبلتع ... ويقفو لآثار النبي وصحبه ويحيي علامات من العلم قد عفت ... إمام تزيا بالعبادة فاستمى لقد كان إماما في السماحة والندى ... وفي الحلم قد أضحى لعمرك آية تقي نقي ألمعي مهذب ... وبدر منير يستضاء بضوئه إلى أن قال: حميد المساعي مشمعل المآثر ... وقد كان ذا علم يفقه الأواخر تسامى بها فوق النجوم الزواهر ... فما حمد بالعلم إلا متوج عليم بفقه الأقدمين محقق ... وقد حاز في علم الحديث محلة الجزء: 16 ¦ الصفحة: 431 من القول بالفتوى وقطع التشاجر ... فضائله أعيت على كل حاصر سميا شهيرا بين باد وحاضر ... وبالسلف الماضين كان اقتفاؤه وفي كل فن فهو للسبق حائز ... وحسبك أن قد صار مشهور فضله له عشرة من الولد. أخذ عنه العلم منه ابنه الشيخ سعد، والشيخ عبد العزيز، والشيخ عبد اللطيف، وأخذ عنه الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف، والشيخ محمد بن عبد اللطيف، والشيخ إبراهيم بن عبد اللطيف; والشيخ سليمان بن سحمان، والشيخ عمر بن يوسف، والشيخ حسن بن عبد الله بن حسن، والشيخ حسن بن حسين، والشيخ عبد العزيز الصيرامي، والشيخ محمد بن علي آل موسى، والشيخ سعود بن مفلح، والشيخ ناصر بن حسين، والشيخ عبد المحسن بن باز، وخلق. وله حاشية على التوحيد، وردود، ونصائح، ورسائل، وفتاوي، فرقناها على حسب الترتيب. [وفاته وما قيل في رثائه] توفي رحمه الله سنة 1301?، وبكت عليه الخلق، واشتد الحزن، قال الشيخ سليمان بن سحمان يرثيه: وشمس الهدى فليبك أهل البصائر ... عليه كثج المعصرات المواطر خلي من الأشجان ليس بغائر ... وثلم من الإسلام إحدى الفواقر على الحبر بحر العلم بدر المنابر ... وأية عين لا تثج بمائها فلا نعمت يوما ولا قلب قالئ ... فوالهفا من فادح جل خطبه الجزء: 16 ¦ الصفحة: 432 ورزء فظيع بل مريع ولائع ... بشمس هدى أضحى نزيل المقابر ثم قال: وأقوت رباع من حماة أساور ... يغطي سناها كل باغ وكافر ونهي الورى عن موبقات المناكر ... لتأخذه في الله لومة ساخر لئن كان قد أضحى له القبر منْزلا ... لقد كسفت للدين شمس منيرة لقد عاش في الدنيا على الأمر بالتقى ... يجاهد في ذات الإله ولم يكن إلى أن قال: وصار إلى رب كريم وغافر ... لدن طرق الناعي بفخر المحاظر يضعضع من ركن الهدى كل عامر ... وأظلم من نجد سطيع الدساكر ورحمته والله أقدر قادر ... فأضحى رهينا في المقابر آويا لقد صابنا صاب من الحزن مفجع ... وأرق جفن العين خطب عصبصب فجالت لنا الأشجان من كل جانب ... تغمده المولى الكريم بفضله الشيخ إسحاق بن عبد الرحمن رحمهما الله تعالى هو الإمام العلامة الحبر الفهامة، المحدث الفقيه، الواعظ المحقق النبيه، العامل الزاهد التقي، الشيخ الفاضل: إسحاق بن الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب. ولد سنة 1276?، في بلد الرياض، ونشأ نشأة حسنة، وأخذ العلم عن أبيه الشيخ عبد اللطيف، والشيخ عبد الله بن عبد اللطيف، والشيخ حمد بن عتيق، والشيخ محمد بن محمود، والشيخ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 433 عبد الله بن حسين المخضوب، والشيخ عبد العزيز بن صالح بن مرشد. وارتحل إلى الهند سنة 1309?، وأخذ عن الشيخ نذير حسين، وحصل له منه ومن غيره السماع والقراءة والإجازة، وأخذ عنه الحديث المسلسل عن مشائخه، وأخذه من طريق علماء الهند عن المولوي، وقرأ عليه ثم ارتحل إلى بهوبال، فقرأ فيها على الشيخ حسين بن محسن الأنصاري، والشيخ سلامة الله وأجازاه. وأخذ عن الشيخ محمد بشير وغيرهم، وأخذ عن علماء مصر وغيرهم، وحصل له منهم أيضا السماع والقراءة والإجازة. ونبغ في عصره وبرع في فنون العلم: الأصول والفروع، والنحو وغيرها، حتى صار إماما يقتدى به، فاضلا ورعا يهتدى به، حسن السمت دائم البشر، مشتغلا بإلقاء الدروس، غزير الفوائد، كثير التحري فيما يورده، كثير التواضع؛ شهد له بالفضل والنبل، أهل التحقيق والإنصاف. قال الشيخ سليمان بن سحمان: سلالة أنجاب كرام ذوي مجد ... فتى ألمعي لوذعي مهذب وقال فوزان بن عبد الله السابق، رحمه الله بعد ثنائه عليه: وحاز لما يسمو به في المجالس ... وأعني به بحر العلوم ومن سما الجزء: 16 ¦ الصفحة: 434 وهد بناء الناكبين الأبالس ... وجاؤوا بهمط من تشيع البسابس بها صار أهل الزيغ من كل حادس ... وجدد من أعلامه كل طامس لعلم نصوص الوحي خير ممارس ... ذوي الجرح والتعديل من كل فارس وعلم بما قد حاز أهل التنافس ... لها الخط في بحث من العلم دارس لآلئ در نضدت في الملابس ... وأردى لأعداء الشريعة والهدى وفرق جمعا منهم قد تألبوا ... وجلّى بنص الوحي كل ضلالة فأعلى لركن الحق بعد وهائه ... وذاك الذي يدعى بإسحاق من غدا وقدوة خير للثقاة أولي التقى ... فيا من له حلم وعقل وفطنة أجل منك فكرا في مطاوي دفاتر ... ترك بديعا من عويص غويصه [تلاميذه ووفاته وما قيل في رثائه] وفضله ومناقبه مشهورة، ومجالسه بالعلم معمورة. أخذ عنه العلم الشيخ إبراهيم بن عبد اللطيف، والشيخ عبد الله العنقري، والشيخ عبد الله بن فيصل، والشيخ فالح، والشيخ سالم الحناكي، والشيخ عبد الله السياري، وعبد العزيز بن عبد الله بن عبد الوهاب، والشيخ عبد العزيز بن عتيق، والشيخ عبد الرحمن بن محمد بن داود، وغيرهم. وله رد على ابن حنش، ورسائل ونصائح وفتاوى فرقناها على حسب الترتيب. توفي رحمه الله وعفا عنه، في بلد الرياض، سنة 1319?، وبكته تلك المجالس المعمورة بتعليمه وتفهيمه، وأصيب المسلمون به، ورثاه بعض الأدباء، ومنها ما قاله الجزء: 16 ¦ الصفحة: 435 فوزان بن عبد الله السابق، مطلعها: وشمس الهدى فليبك أهل التدارس ... وقلب من الأشجان ليس ببائس على فقده في الناس ليس بعابس ... بدا سعده خلف النجوم الطوامس إذا ما دجت مغسوسقات الحنادس ... ويحمي حمى التحقيق عن لبس لابس وخطب فظيع بل مريع وواكس ... جزاء الفتى بالصبر نيل النفائس لحبر تقي فاضل غير ناحس ... بهم صين ركن الحق من كل خالس لعبد منيب سائل غير آيس ... وألبسه في الفردوس خير الملابس وأنصارهم من كل هاد وسائل ... على الحبر بحر العلم بدر المدارس فلا نعمت عين تشح بمائها ... ولا وجه ذي لب تلكّا وقد غدا فوا حزنا من فقده بعد مالنا ... يعز علينا أن نرى اليوم مثله وعز الذي بالنص يتقن قوله ... فيا لك من ثلم به الدين قد وهى فصبرا ذوي الإسلام صبرا فإنما ... وأبدوا الدعا في كل وقت إجابة سلالة أحبار هداة أئمة ... فيا حي يا قيوم يا خير سامع تغمده بالغفران منك وبالرضى ... وآباءه بالجود منك فعمهم الشيخ حمد بن عبد العزيز رحمه الله هو العالم العلامة، الفقيه الزاهد، المذكر العابد، الشهم النبيه، الشيخ حمد بن عبد العزيز بن محمد بن عبد العزيز بن محمد بن حمد بن علي بن سلامة بن عمران العوسجي البدراني الدوسري، ولد سنة 1245?، في بلدة ثادق. وأخذ العلم عن الشيخ عبد الرحمن بن حسن، وابنه الشيخ عبد اللطيف، والشيخ محمد بن مقرن، والشيخ عبد الجزء: 16 ¦ الصفحة: 436 العزيز بن حسن، والشيخ عبد الرحمن بن عدوان، والفرائض عن الشيخ عبد العزيز بن شلوان وغيرهم. برع في جميع الفنون، وكان يقظا فطنا، قليل المثل في الشهامة والذكاء، والديانة والعبادة، كثير الخير، له قدم راسخ في الفتوى، ووقع في النفوس، دمث الأخلاق، قوي الجأش في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ولي قضاء ناحية سدير، في ولاية الإمام فيصل وابنه بعده، ثم في الوشم، ثم في بلدان المحمل بعد الشيخ عبد العزيز بن حسن، وله أجوبة سديدة، ونصائح مفيدة، ومجالس في التدريس، أخذ عنه العلم ابنه محمد، وغيره من سائر بلدان المحمل. توفي رحمه الله تعالى، في شعبان سنة 1330?. الشيخ إبراهيم بن عبد اللطيف رحمه الله هو الإمام العالم العلامة الفقيه، الحبر الثقة اليقظ النبيه، الشهم الملك المتقن، الحافظ المجتهد، الورع الزاهد العابد، مفيد الطالبين، ذو العقل الفائض، والرأي الصائب الرائع، والأخلاق السنية المرضية، الشيخ إبراهيم بن الشيخ عبد اللطيف بن الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب. ولد في بلد الرياض سنة 1280?، ونشأ بها نشأة حسنة، وقرأ بعض القرآن على أبيه عن ظهر قلب؛ وأخذ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 437 العلم أيضا عن أخيه الشيخ عبد الله، والفقه والنحو عن الشيخ حمد بن فارس، وغيرهم. برع في العلوم النقلية والعقلية، وكان آية في الفهم، لم ير مثله في الذكاء، والفطنة والحفظ، برز في كل فن، حتى كاد يستوعب السنن والآثار حفظا، وفاق أهل عصره. له المعرفة التامة في الحديث، والتفسير، والفقه، مع ما جمعه الله له من الزهد والعبادة، والورع والديانة، ونصرة الحق، والقيام به. أخذ من ذلك بالمأخذ الأولى، غريب المثل في زمانه، شارف مقام الأئمة الكرام. أجمع أهل وقته على فضله، وشهد ذووه بنبله; يضرب به المثل فى الذكاء والشهامة والحفظ، أثنى عليه أهل المعرفة. قال الشيخ سليمان بن سحمان: فأم إلى هاماتهن الشواهق ... ونهمة مشتاق إليها وشائق يرى إنما تحصيلها في التسابق ... إلى ثبج هاتيك العلوم الشوارق فنال المنى منها بأسنى الطرائق ... وليس بغيرالعلم ترجى لوامق أبي وفي عالم بالحقائق ... كريم سليم القلب دمث الخلائق نقيبته التقوى وبغض المماذق ... يروم المعالي باهتمام ورغبة بهمته العليا لنيل مرامها ... وقلب عقول مطمئن مفهم فعام بتيار المعارف قاصدا ... علوم أصول الدين والفقه فارتوى بهن ينال المرء كل فضيلة ... فلله من حبر هزبر محقق تقي نقي ألمعي مهذب ... لبيب أريب أحوذي موفق الجزء: 16 ¦ الصفحة: 438 وذي حذر عن معضلات العوائق ... وقاد ذهن حازم متيقظ * * * وليس بطياش ولا المتحامق ... وميل إلى القول الصواب الموافق لحل عويص المشكلات الدقائق ... يفوق بها الأقران من كل حاذق لما كان معنيا يراد لسائق ... وعلم وتحقيق وحلم مطابق وليس لأعداء الهدى بالمرافق ... وذي دغل جاف جهول منافق على رغم أنف الكاشح المتحاذق ... وقد كان ذا عقل رزين مؤيد له في فنون العلم باع ومسرح ... يغوص بفهم ثاقب متوقد وإدراك ذي علم وحسن روية ... وحفظ وإتقان وحسن تصور يؤم إلى كل العلوم بخبرة ... قريب إلى أهل التقى وذوي النهى بعيد عن الأشرار من كل فاسق ... حباه إله العرش منه تفضلا * * * إذا ما دهتهم معضلات الوثائق ... بكل الذي يهوى بمحض الحقائق وأقوال أهل العلم من كل سابق ... يقول به الأصحاب من كل لاحق على قمع صنديد كفور مشاقق ... بأهل الهدى أو مستريب منافق لدى الناس لا تخفى على كل رامق ... تحلى فأضحى فائقا كل فائق وقد كان للطلاب كهفا وموئلا ... فيصدر كل من أولئك راجعا فيفتيهمو بالنص إن كان واردا ... فإن لم يجد أقوالهم قال بالذي وقد كان لي بالحق خير مساعد ... ومبتدع في الدين أو متهوك فسيرته محمودة مستفيضة ... بكل جميل من محاسن من مضى الجزء: 16 ¦ الصفحة: 439 وكان رحمه الله هينا لينا، مهابا سمحا، كريما متحببا، ومفيدا للطالبين، قويا في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يُهاب ولا يَهاب، ولا يخاف في الله لومة لائم، له قوة وإقدام، وشهامة وهيبة منها العجب، كريما عن الدنيا لا يذكرها، ولا تدور فى ذهنه، روي من كرم أخلاقه، وحسن عشرته، ووفور حلمه، وغزير فطنته ما لا يدرك. ولي القضاء في بلدة الرياض من سنة 1321?، إلى أن توفي رحمه الله. وله مجالس في التدريس كثيرة، زاهرة بالعلم مستنيرة، أخذ عنه بنوه الشيخ محمد، وعبد الله، والشيخ عبد اللطيف، قرأ عليه القرآن. وأخذ عنه العلم ممن تأهل، وتولى القضاء: الشيخ عبد الملك بن الشيخ إبراهيم بن حسين، والشيخ عبد الرحمن بن داود، والشيخ عبد الله بن حمد الدوسري، والشيخ مبارك بن باز، والشيخ عبد الرحمن بن سالم، والشيخ فالح بن عثمان، والشيخ إبراهيم بن حسين بن فرج; والشيخ سالم الحناكي، والشيخ سعد بن سعود، وغيرهم ممن تأهل الجم الغفير. فله رد على أمين بن حنش، وفتاوي فرقناها في مواضعها. [وفاته وما قيل في رثائه] توفي رحمه الله تعالى، وأسكنه النعيم المقيم سنة 1329?، ورثاه جمع، منهم الشيخ: سليمان بن سحمان، قال: الجزء: 16 ¦ الصفحة: 440 نريق كصوب المدجنات الدوافق ... وحق لذي لب محب ووامق على الشيخ إبراهيم شمس الحقائق ... من اشتهروا بالفضل بين الخلائق من الأرض في غربها والمشارق ... وهدوا رعان الكفر من كل شاهق وبدر سمت أنواره في الغواسق ... على الحبر بحر العلم شمس الحقائق دما بدموع وكفها متتابع ... إراقة دمع العين سحا ودائما على علم الأعلام نجل ذوي التقى ... همو أظهروا الإسلام في كل وجهة همو جددوا الإسلام بعد اندراسه ... فلهفي على شمس تشعشع ضوؤها * * * ورزء دهى بالمعضلات الطوارق ... لست من الساعات من جنح غاسق ثلاث مئين بعد ألف مطابق ... فأعول كل بالبكا والتشاهق كصبح تولوا بالحبيب المفارق ... وسالت جفون بالدموع الدوافق وكهلا إلى غير النهى غير تائق ... فما طرقتنا ليلة بمصيبة لست مضت من شهر ذي الحجة انتهى ... لتسع سنين بعد عشرين قد تلت بأعظم منها لوعة ومصيبة ... ولا كصباح مر يوما بمره فضجوا جميعا بالبكاء وبالدعا ... لفقد محب كان مذ شب يافعا إلى أن قال: يفوز بها أهل التقى والسوابق ... وخالقنا الرحمن رب المشارق ومحو الذنوب المثقلات العوائق ... لقد خلف الأحزان في كل وامق لئن كان في الدنيا على خير حالة ... لدى الملك العلام ذي العرش والعلا فنرجو من المولى له العفو والرضى ... وإن كان قد أضحى رهينا لرمسه الجزء: 16 ¦ الصفحة: 441 من العلم للطلاب بين الخلائق ... من الحزن لم يلمم بها حزن ماذق عليه علا من فوق سبع الطرائق ... لهيب لظى عند احتضار المضائق وأضحت ربوع العلم قفرا دوارسا ... فيالهف نفسي قد أمضى بها الضنا فيا من على العرش استوى فوق خلقه ... أنله الرضى والفوز بالقرب واكفه وبكاه ورثاه الخلق الكثير، منهم الشيخ عبد الله بن عبد العزيز العنقري، فقال: ونرخي أكفا للدعاء ونرفع ... تلم لنا شعثا وللشمل تجمع أتانا بها أمر فظيع مروع ... وأيتمني والقلب مني مصدع ومن في فنون العلم بحر مترع ... وحق لها عند الزلازل تدمع وقلبي لفقد الأكرمين مفجع ... إلى الله نشكو ما دهانا ونفزع عسى نفحة من جوده حين سؤلنا ... فما مر في أزماننا مر ساعة فما أوحش الدنيا علينا بما دهى ... بموت إمام فاضل متفضل لقد سالت العينان مني بالبكا ... وهي شديد من خطوب جليلة * * * تكاد لها الأحشاء مني تقطع ... وهد بسور الدين من أين يرقع وبدرا على أهل البسيطة يسطع ... ونجم لطلاب الهداية يطلع غياهب سحب الغي عنا يقشع ... ويبدو لنا التوحيد يسمو ويلمع فيا لك من جرح ممض ولوعة ... ويا لك من رزء فظيع على الورى لقد كان شمسا للورى مستنيرة ... شهاب على هام الشياطين مرصد إذا ما دجا ليل الشكوك وأظلمت ... فتضحى لنا السمحا يلوح طريقها الجزء: 16 ¦ الصفحة: 442 ويدخله الجنات يرقى فيرفع ... إلى صالح الأعمال بالسعي يسرع أمنّ علينا من الآباء وأنفع ... عسى ربنا الباري يجود بمنه إلى حضرة الفردوس من كل مخلص ... ويبقي لنا ذرية الشيخ منهمو الشيخ حسن بن حسين، رحمه الله هو الإمام العالم العلامة، الفقيه الفهامة، الفاضل الزاهد العابد، الشيخ: حسن بن الشيخ حسين بن الشيخ علي بن الشيخ حسين بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ولد سنة 1267?، في بلد الرياض، ونشأ بها. أخذ العلم عن الشيخ عبد الرحمن بن حسن، وابنه الشيخ عبد اللطيف، والشيخ عبد الله بن حسين المخضوب، والشيخ عبد الرحمن بن عدوان، والشيخ محمد بن محمود، والشيخ حمد بن عتيق. وأخذ الفرائض عن الشيخ حمد بن فارس، وغيرهم، وبرع في فنون العلم. وكان فاضلا، ورعا، حسن السمت، دائم البشر، كريم النفس، مشتغلا بإلقاء الدروس المفيدة، نفاعا للخلق، حسن الخلق والخلق، له فضل وجلالة، وطال عمره ونفع الله به الخلق. وَلِيَ القضاء للإمام عبد الله بن فيصل في الأفلاج، وفي ناحية سدير، وفي الرياض في ولاية ابن رشيد; وله الجزء: 16 ¦ الصفحة: 443 مجالس مشهورة في البلدان التي ولي القضاء فيها، ثم في منفوحة، ورسائل وفتاوى. أخذ عنه العلم أبناؤه: الشيخ حسين، والشيخ عبد الله، وعمر; وأخذ عنه الشيخ محمد، والشيخ إبراهيم، والشيخ عبد الرحمن، بنو الشيخ عبد اللطيف، والشيخ عبد الله بن عبد العزيز العنقري، والشيخ عبد الله بن فيصل، والشيخ عبد الرحمن بن سالم، والشيخ إبراهيم بن ناصر، والشيخ سعد بن سعود، والشيخ إبراهيم السياري، والشيخ حسن بن إبراهيم بن عبد الملك، والشيخ عبد الملك بن إبراهيم; والشيخ مبارك أبو حسين، والشيخ فالح، والشيخ سالم، ومحمد بن حميد، وخلق. توفي رحمه الله تعالى، وعفا عنه، سنة 1341?، في الرياض، وبكته الناس، ورثاه عبد الرحمن بن عقلا وغيره، ومنهم ابنه عمر في مرثية مطلعها: على الحبر بحر العلم شيخي ووالدي وقطب رحى ذا الدين جم المحامد الشيخ سليمان بن سحمان، رحمه الله هو الإمام النبيل، الورع الزاهد، العابد، مفيد الطالبين، قامع المبتدعين، كاشف شبهات المشبهين والمبطلين، حامي حوزة الدين، صاحب التصانيف المشهورة، والفضائل المأثورة، البليغ المصقع، اللوذعي الجزء: 16 ¦ الصفحة: 444 البلتع، الثقة الحجة، مشيد أعلام المحجة، الشهم اليقظان، الشيخ سليمان بن سحمان، ولد سنة 1268?، في قرية السقا من بلدان أبها، ونشأ بها حتى راهق البلوغ، قال رحمه الله: وأرض بها علي نيطت تمائمي ... تسمى السقا دار الهداة أولي الأمر بلاد بني تمام حيث توطنوا ... وآل يزيد من صميم ذوي الفخر ثم انتقل منها إلى الرياض، وأخذ العلم عن الشيخ عبد الرحمن بن حسن، وابنه عبد اللطيف، وابنه الشيخ عبد الله، والشيخ حمد بن عتيق، والشيخ حمد بن فارس، وغيرهم. وبلغ في العلوم مبلغا، حتى صار منارا يهتدى به، إماما هماما، شهما مقداما، أصوليا مجتهدا، متبحرا، كثير التصانيف، كشف جميع شبه المشبهين نظما ونثرا؛ حتى أدحض حججهم، وأرغم أنوفهم، منارا يهتدى به، أمة وحده، وفردا حتى نزل لحده. أخمل من القرناء كل عظيم، وأخمد من أهل البدع كل حديث وقديم، قام في رد الشبه مقاما فاق به أهل وقته؛ فثبته الله وسدده، وأدحض به الباطل وأخمده، شهد له بالفضل والأمانة من اجتمع به من أهل الشهامة، ووقف على نثره ونظامه، وحسن تعبيره وانسجامه، وأثنى عليه القريب والبعيد، ومسطره بذلك شهيد. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 445 قال محمد بن حسين الأنصاري الهندي: بسرور مبشر بالأمان ... ثابت الجأش ما له من ثان وفيها قد قام بالبرهان ... ذا سليمان عالي البنيان وعلوما تسمو مدى الملوان ... مما يشين في كل آن وبكتب تخال مثل السنان ... وسيف في حلبة الميدان فبعضب يرى كسيف يمان ... حق له ديدن على كل شان طائر السعد بالتهاني أتاني ... أن بدا طالع الزمان بحبر بعلوم بها لقد أفحم الخصـ ... أعني حبر الأنام قدوة نجد فسليمان جل قدرا وفضلا ... سالم العرض والشمائل والأخلاق قامع الملحدين منه بوعظ ... بلسان كوابل الغيث في السلم يفحم الخصم بالدليل وإلا ... يطلب الحق والرشاد إلى الم وقال الشيخ محمد بن حسن المرزوقي، صاحب قطر، مقرظا على كتاب له: لسحمان سامي القدر والبشر ... وشاد برهانه في واضح الخبر فصار يحكي سناها ساطع القمر ... والحق يعلو وليل الجهل ذو غير من مخلب الليث فتكا غير منجبر ... نجد القصيم وآل الشوم في هجر يعزى لفارس ثغر الدين في زمن ابن ... شهما نبيلا حوى فهما ومعرفة كم سنة صاح أحيا رسم دارسها ... وبدعة درست واندك شامخها كم جاهل جال في الميدان حل به ... من العراق وشام والحجاز إلى الجزء: 16 ¦ الصفحة: 446 وقال الشيخ عبد اللطيف بن الشيخ إبراهيم بن عبد اللطيف، بعد ثنائه على عمه الشيخ عبد الله: ففينا أخو السمحاء غيظ المحارب ... يذود عن السمحاء كل مشاغب يناضل عن دين الهدى كل ثالب ... وبذل جود في الليالي السواغب فحل على هاماتها والغوارب ... غدا واحدا في شرقها والمغارب ويحمي حمى السمحاء عن ثلب ثالب ... وردما عن الأعداء أهل المشاغب لئن كان شيخ الجود أضحى موليا ... عسى الله أن يبقي نبيلا مهذبا عنيت سليمان بن سحمان من غدا ... إمام همام ماجد ذو تورع له همة تسمو إلى المجد والعلا ... إمام همام ماجد متورع يرى نصرة الإسلام حقا وواجبا ... لقد كان بدرا في البسيطة ساطعا [مصنفاته ومكانته] وقال الشيخ محمود شكري الألوسى: هو علامة الزمان، وملاذ الفضل والعرفان، الكمال المجسد، والفرد الأوحد، ذو التصانيف الفائقة، والتآليف الرائقة، وهو أشهر من أن ينبه عليه. وله المصنفات المقبولة; منها: 1. الأسنة الحداد، في رد شبهات علوي الحداد 2. كتاب هداية الأنام وجلاء الأوهام، عن معتقد الإمام، وعلم الهداة الأعلام، الشيخ محمد بن عبد الوهاب. 3. الجواب المنكي في الرد على الكنكى. 4. البيان المبدي لشناعة القول المجدي، في الرد على أبا بصيل. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 447 5. التبيان في القول المنيف، في الرد على ابن عمرو، مجلد، ومجلد آخر أخصر منه، وجزء أيضا في الرد عليه. 6. كشف غياهب الظلام، عن أوهام جلاء الأوهام، وبراءة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، عن مفتريات هذا الملحد الكذاب، علي أحمد باشا. 7. كتاب الضياء الشارق، في رد شبهات الماذق المارق، جميل أفندي الزهاوي. 8. تنبيه ذوي الألباب السليمة، عن الوقوع في الألفاظ المبتدعة الوخيمة. 9. كتاب تبرئة الشيخين، عن تزوير أهل الكذب والمين، رد على ولد الصنعاني. 10. إقامة الحجة والدليل، وإيضاح المحجة والسبيل، على ما موه به أهل الكذب والمين، من زنادقة أهل البحرين. 11. الصواعق المرسلة الشهابية، على الشبه الداحضة الشامية. 12. كشف الشبهتين، عن رسالة يوسف بن شبيب، والقصيدتين. 13. الجواب المستطاب عما أورده الجاهل المرتاب، المسمى بمبروك. 14. كشف الأوهام والالتباس، عن تشبيه بعض الأغبياء من الناس. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 448 15. الجواب الفارق بين العمامة والعصائب. 16. حل الوثاق في أحكام الطلاق. 17. نبذة في الزيارة. 18. إرشاد الطالب إلى أهم المطالب. 19. منهاج الحق. ورسائل ونصائح وأجوبة، فرقناها في مواضعها على حسب الترتيب، فجزاه الله عن الإسلام والمسلمين أحسن الجزاء، وأعلى منازله في جنات العلا؛ فلقد نصر الإسلام وأظهره، وقمع الباطل وأدحضه، واشتهرت مصنفاته، وأثني عليها. قال الشيخ حمود بن حسين الشغدلي، في ثنائه عليه ومصنفاته: فهي من أكبر النعم على الطلاب النجديين الموحدين، من الشرقيين والغربيين، ثم قال: وذلك من تذكار فقد الأجلة ... فغادرنا جيش الهنا والمسرة تزف لأرباب الهدى والعناية ... لأهل التقى في كل قطر وبلدة لنصر الهدى مشحونة بالأدلة ... يصول بها أهل الشقا والتعنت ذوي الشرك والأطر أو جحد الألوهة ... توالت همومي مدة وأمضت وقلة من يرجى لكبت عادتنا ... وما هو إلا طبع كتب أنيقة فجاءت على وفق المنى تنشر العلا ... فقربها يا صاح عينا فإنها وفيها الهدى من كل شك وشبهة ... كمثل الغلاة الناكبين عن الهدى الجزء: 16 ¦ الصفحة: 449 ومن كان عن نهج التقى ذا جفاوة ... كذا كل فدفد إن تجاوز واعتدى * * * فأعظم بها من نعمة قد تجلت ... وأردى بها أهل الخنى والشقاوة أريب نهيك سابق في النكاية ... إذا جاء خطب أو قيام بضلة يجندل أهل الزيغ في كل حفرة ... بنثر ونظم مفحم مع عذوبة ويزداد غما عندها ذو الغواية ... وأبقاه دهرا ناشرا للفضيلة مع السادة الأبرار في خير رفعة ... أضاءت لنا كالشمس في فلك العلا أقام بها سوق الجهاد وما انثنى ... إمام همام لوذعي ومصقع وشهم حديد ألمعي غشمشم ... عنيت سليمان بن سحمان من غدا فسل عنه ما أبداه للناس جهرة ... يسر بها والله من كان منصفا جزى الله منشيها المسرة دائما ... ومن بعده الحسنى بخلد مؤبد وقال الشيخ فوزان بن عبد العزيز: ملفقات لهم نالوا بها الشللا ... مردي العداة الذي للحق قد عقلا منه الردود على الأعدا وما غفلا ... معالم الحق إذ أحيا له سبلا مسيرة الشمس في الأقطار إذ فضلا ... في بحره وانجلى بالحق ما انسدلا وانظر صواعق علم أحرقت شبها ... الجهبذ الفاضل الموهوب تكرمة ومن حمى ملة الإسلام وانتشرت ... بالنظم حقا وبالمنثور فاتضحت أعني سليمان من سارت فضائله ... فانظر لحزب الردى حقا فقد غرقوا وقال الأديب: محمد بن عبد العزيز الهلالي، مقرظا لديوانه: أملاه الحبر الأريب الماهر، والبحر العذب الجزء: 16 ¦ الصفحة: 450 الزاخر، معجز الأوائل والأواخر، لم يسبقه إليه سابق، ولا أظن يلحقه في مثله لاحق، ثم قال بعد ثنائه على ما كان له، من الشعر في نصرة الهدى: ومن لم يزل في حلة المجد قد رفل ... وذو الأدب السامي على كل من نقل كما أنه في العلم أضحى هو الأجل ... فما فن إلا حظه فيه قد كمل ووثبته كالليث إن هم ما نكل ... لمستبهر يدري وعن ربه عقل أتى عن رسول الله بالقول والعمل ... له في ذرى الإنصاف حظ ومدخل كمثل الذي أملاه نحرير عصرنا ... سليمان من يعزى لسحمان ذو الحجى لقد كان في بحر البلاغة واحدا ... حوى العلم مع نثر الكلام ونظمه يحل عويص المشكلات بفكره ... فما نثره إلا كشمس منيرة دلائل من آي الكتاب أو الذي ... وقول ذوي التحقيق من كل جهبذ * * * ولكنه الأبهى لدى كل من عقل ... من الشيح والحوذان والكرش والنفل وغنى به طفل وشيخ ومكتهل ... بشبهته أدلى وبالباطل احتفل من السنة الغرا ومحكم ما نزل ... وارتقى للمكرمات ولم يزل أتى شطحا في الدين بالقول والعمل ... وما نظمه إلا كعقد منضد وما هو إلا روضة طاب نبتها ... إذا قال قولا سار في الناس منشدا قصاراه نصر الدين أو قمع مارق ... فيكشف ما أوهى بأقوى دلالة فديوانه هذا يدل بأنه سما ... ينافح عن دين الهدى كل مبطل [تلاميذه] أخذ عنه العلم أبناؤه: صالح، وعبد العزيز، الجزء: 16 ¦ الصفحة: 451 وعبد الله، ومحمد بن الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف، والشيخ عبد اللطيف، والشيخ عبد الملك أبناء الشيخ إبراهيم، والشيخ عبد العزيز بن صالح بن مرشد، والشيخ سليمان بن حمدان، والشيخ عبد الرحمن بن ناصر بن حسين، وغيرهم. وهو القائل: حنيفية نسقي لمن غاظنا المرا ... سنصقعه صقعا ونكسره كسرا نعم نحن وهابية حنفية ... ومن هاضنا أو غاظنا بمغيظة والقائل: فعاد حسيرا خاسئا نائلا شرا ... نصول على الأعداء فنأطرهم أطرا وكم من أخي جهل رمانا بجهله ... بمحكم آيات وسنة أحمد والقائل: يؤيد أهل الحق أرجو بها الأجرا ... وألفت كتبا نثرها ونظامها [وفاته وما قيل في رثائه] توفي رحمه الله تعالى، وأسكنه الفردوس الأعلى، سنة 1349? في بلد الرياض. ومما قاله حمد بن محمد بن جاسر، يرثيه هو والشيخ سعد رحمهما الله تعالى: وأمر نافذ ما منه بد ... بنفع أو به قد نيل قصد سيغلب صبره الخطب الأشد ... قضاء لا يطاق له مرد وهل يجدي التأسف لو تناهى ... ولكن الصبور ولو تسلى الجزء: 16 ¦ الصفحة: 452 لشدة وقعه تنهار نجد ... ومجدا ساميا لا يسترد وحالف أهلها حزن وسهد ... فهل يرجى لها التقويم بعد يضمهما عن الأنظار لحد ... ومنها النور قدما كان يبدو وهل خطب كخطب منه كادت ... به فقدت فخارا لا يضاهى وحالفها خمول مستمر ... هدّا ركنان قد رفع علاها وأصبح نيراها في خفاء ... فأضحت في ظلام مكفهر * * * يؤم أمامه قد سار سعد ... يحاربه كثير وهو فرد يروم لكيده أشر ووغد ... لنصر الشرعة الغرا يعد يزينهما لدى العلماء زهد ... إذا قصدا له لم يكب زند صريح منهما ما فل حد ... حوى التوفيق قولهما الأسد يقر بذلك خصمهما الألد ... مضى عنها سليمان محثا فأضحى العلم بعدهما يتيما ... وأضحى الدين بعدهم مهانا هما سيفان ما لهما نظير ... هما حبران أهل تقى وعلم ففي حل العويص إذا تعامى ... وفي قمع الكفور بنص وحي وفي الإفتاء إن قالا بقول ... وحازا للصواب بلا نزاع الشيخ سعد بن حمد بن عتيق، رحمهما الله تعالى هو الإمام العالم العلامة، الحبر البحر الفهامة، الحافظ الثقة المحدث المجتهد، المفتي المدرس، الورع الزاهد، بدر زمانه، وسعد أوانه: الشيخ سعد ابن الشيخ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 453 حمد بن علي بن محمد بن عتيق بن راشد بن حميضة، ولد في بلد العمار من الأفلاج. وأخذ العلم عن والده، ثم سافر لطلب العلم نحو تسع سنين، فأخذ العلم عن الشيخ نذير حسين الدهلوي، والشيخ شريف حسين، والشيخ صديق حسن القنوجي، وعن الشيخ حسين بن محسن الأنصاري الخزرجي، والشيخ محمد بشير السندي، والشيخ سلامة الله الهندي، وأخذ عن الشيخ أحمد بن إبراهيم بن عيسى النجدي، وكلهم أجازوه. وأخذ عن جماعة من علماء مكة، منهم الشيخ حسب الله الهندي، والشيخ عبد الله الزواوي، والشيخ أحمد أبو الخير، وجم غفير، وبرع حتى أدرك من العلوم حظا وافرا، وفاق أهل زمانه محصولا، وسمق حتى كان حجة حافظا، وكان كامل العقل، شديد التثبت، حسن السمت، حسن الخلق، له اليد الطولى في الأصول والفروع، تام المعرفة في الحديث ورجاله، وكان من العلماء العاملين، واشتهر ذكره في العالمين، وأثنت عليه ألسن الناطقين. قال الشيخ سليمان بن سحمان: لما رجع من رحلته لطلب العلم من الهند، ثم من مكة إلى بلده الأفلاج: فآبت لها الألطاف من كل جانب ... مآثر تزهو كالنجوم الثواقب على بلد الأفلاج أشرق سعده ... هنيئا لكم أهل العمار بمن له الجزء: 16 ¦ الصفحة: 454 سلالة حبر فاضل ذي مناقب ... هنيئا لكم هذا القدوم بعالم إلى أن قال: أخي ثقة في وده غير كاذب ... سمات العلا من عليات المراتب وللعلم يسمو مشمعل المناقب ... وأهلا به من ألمعي مهذب تسامت به هماته فتألقت ... فشام إليها طرفه فسما لها ولو تتبعنا مناقبه وفضائله لطال، أوقع الله محبته في القلوب; وأمده بسعة العلم، وكان كثير الدعاء والابتهال، متواضعا عند العامة، مرتفعا عند الملوك، مجالسه معمورة بالعلماء، مشحونة بالفقهاء والمحدثين، مشتغلا بنفسه، وبإلقاء الدروس المفيدة على أصحابه. [تلاميذه] أخذ عنه العلم الجم الغفير، وانتفع بعلمه الخلق الكثير، حسن الإفادة، حسن الاستفادة، أخذ عنه العلم أبناؤه محمد، وعبد العزيز، وحمد. وأخذ عنه إخوته الشيخ عبد العزيز، والشيخ عبد اللطيف، والشيخ عبد الله، ومحمد ابن أخيه عبد العزيز، والشيخ محمد بن عبد اللطيف، والشيخ محمد، وعبد اللطيف وعبد الملك، بنو الشيخ إبراهيم بن عبد اللطيف، والشيخ عبد الله، وعمر، ابنا الشيخ حسن بن حسين، والشيخ سعد بن سعود، والشيخ عبد الرحمن، وإبراهيم ابنا حسين، وعبد الرحمن بن الشيخ إسحاق، الجزء: 16 ¦ الصفحة: 455 والشيخ عبد اللطيف بن محمد بن عبد الرحمن آل الشيخ، والشيخ محمد بن عثمان الشاوي، والشيخ سليمان بن حمدان، والشيخ عبد الله بن حمد الدوسري، والشيخ إبراهيم بن سليمان، والشيخ فيصل بن عبد العزيز، والشيخ عبد العزيز بن سوداء، وعبد العزيز بن مرشد، وعبد الله بن عبد الرحمن بن غنام، والشيخ عبد الله بن حسن بن إبراهيم بن عبد الملك، وعبد الله بن فوزان، والشيخ عبد العزيز بن محمد الشثري، والشيخ عبد الله بن رشيدان، والشيخ عبد الرحمن بن عودان، والشيخ محمد بن علي البيز، وعبد الله بن سعدون، ومحمد بن إسحاق، وغيرهم خلق لا يحصون. ونظم متن الزاد وصل إلى الشهادات، وله حجة التحريض في الذبح عند المريض، ونصائح ورسائل، وفتاوى فرقناها في مواضعها. وأملى عند وفاته، على تلميذه عبد العزيز بن صالح بن مرشد، هذه الآبيات: رزاق يا ذا الفضل والإحسان ... وكذا تقلب مقلتي وجناني قلبي وتعصمني من الشيطان ... فضي بصاحبه إلى الرضوان والتابعين لهم على الإحسان ... يا حي يا قيوم يا خلاق يا بيدك أنفاسي ورزقي كله ... يا رب هب لي رحمة تهدي بها ومن الضلال عن الصراط القيم المـ ... دين النبي محمد وصحابه الجزء: 16 ¦ الصفحة: 456 بهوى يضل وبالحطام الفاني ... المستعيذ به من الخذلان يا واسع الإحسان والغفران ... وقني إلهي فتنة أشقى بها فأنا الضعيف المستجير بخالقي ... وأنا العظيم الذنب فاغفر زلتي [وفاته وما قيل في رثائه] توفي رحمه الله وأسكنه الفردوس الأعلى، في 13 جمادى الأولى، سنة 1349?، في بلد الرياض، وأصيب المسلمون بموته، وضجوا بالبكاء والعويل، والدعاء له، ورثاه جماعة، منهم محمد بن عبد الله بن عثيمين، مطلعها: ويفقد العلم لا عين ولا أثر ... أهكذا البر تخفي نوره الحفر إلى أن قال: بذكر أفعاله الأخبار والسير ... ولا يحابي امرأ في خده صعر أضحى وقد ضمه في بطنه المدر ... حارت بغامضها الأفهام والفكر ينتابها زمر من بعدها زمر ... ثكلى عليه ولكن عزها القدر كانوا فبانوا وفي الماضي معتبر ... فعلمك الجم في الآفاق منتشر وابك على العلم الفرد الذي حسنت ... من لم يبال بحق الله لائمة بحر من العلم قد فاضت جداوله ... فليت شعري من للمشكلات إذا من للمدارس بالتعليم يعمرها ... هذي رسوم علوم الدين تندبه طوتك يا سعد أيام طوت أمما ... إن كان شخصك قد واراه ملحده الجزء: 16 ¦ الصفحة: 457 وقال الشيخ عبد الملك بن الشيخ إبراهيم بن عبد اللطيف: ورزء عظيم قد أهاج بلابل ... وخطب عرا مذك سعير الغلائل وأظلمت الآفاق من عظم نازل ... وللعين تبكي بالدموع الهواطل بموت إمام العلم زاكي الشمائل ... بكل فنون العلم بين القبائل تقي نقي ما له من مماثل ... يراقب ربا ليس عنه بغافل يقرر للتوحيد بين المحافل ... وذو خشية لله ليس بذاهل فقيه نبيه فاضل وابن فاضل ... مصاب دهى بالمعضلات النوازل وكسر دهى الإسلام من أين جبره ... به الأرض ضاقت والسماء تغيرت فآن لقلبي أن يحالفه الأسى ... لدن جاءنا الناعي مساءً مخبرا هو الشيخ سعد من غدا متفردا ... إمام لعمري ناسك متورع إمام لعمري كان بالعلم عاملا ... إمام لعمري كان للعلم باذلا إمام لعمري ذو علوم كثيرة ... إمام لعمري متقن بل وحافظ * * * وغيظ لأفاك جهول مماحل ... ولم يخش في الرحمن لومة عاذل ويحمي حماها من جميع الغوائل ... تشد إليه مضمرات الرواحل تراهم عكوفا بين قار وسائل ... يحل عويص مشكلات المسائل رحيب لأهل الخير يحنو عليهمو ... يجاهد أعداءالشريعة دائبا وملة إبراهيم أضحى يحوطها ... له مجلس بالعلم يزهر دائما يأمونه الطلاب من كل وجهة ... فيلقون حبرا للغوامض كاشفا الجزء: 16 ¦ الصفحة: 458 بها جاء نعي الشيخ جم الفضائل ... وأسكنه الفردوس مع كل عامل بديمة عفو بالضحى والأصائل ... فما مرنا في دهرنا مر ساعة تغمده رب العباد برحمة ... سقى الله قبرا حله وابل الرضى الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف، رحمهما الله تعالى هو الإمام العالم العلامة، الشهم الثقة الفهامة، محيي السنة قامع البدعة، الزاهد الورع العابد، ذو العقل الكامل، والخلق الحافل، أوحد العصر في أنواع الفضائل، أبو عبد الملك شيخ الإسلام، الشيخ: عبد الله بن الشيخ عبد اللطيف بن الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب. ولد في الأحساء سنة 1265?، وقدم بلد الرياض سنة 1272?، وأخذ العلم عن أبيه وجده، والشيخ حمد بن عتيق، والشيخ عبد الرحمن بن عدوان، والشيخ عبد الله بن حسين المخضوب; والشيخ محمد بن محمود، والشيخ عبد العزيز المرشدي; وفارس الرميح، وغيرهم. وبرع في جميع الفنون: الأصول والفروع، والتفسير والنحو، وغيرها؛ وصار رفيع القدر، جم الفضائل. انتهت إليه الرئاسة في العلم، والرأي والكرم، قدوة الأنام، حسنة الأيام، افتخرت به نجد على سائر الأمصار، وشاع صيته في الأقطار، وضرب به المثل في الهيبة والاشتهار. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 459 له اليد الطولى في الفروع والأصول، والمجالس للتدريس المحفوفة بالفحول; وله صدور المجالس والمحافل، وإلى قوله المنتهى في الفصل بين العشائر والقبائل، مع ما أمده الله من سعة العلم، وفطره عليه من الكرم والحلم؛ وكان لا يوفر جانبه عمن قصده، قريبا كان أو بعيدا، ولا يدخر شفاعته عمن اعتمده بريا أو بحريا، ضعيفا أو شديدا، ينتابه الأمراء والملوك، والعلماء، وأثنى عليه القريب والبعيد. قال الشيخ إبراهيم بن صالح بن عيسى: وعن ندب أطلال عفت بالذنائب ... وإن تيمت قلبي بزج الحواجب حسان الوجوه الناعمات الكواعب ... ألا ذاك عبد الله فرع الأطائب سما مجده أوج النجوم الثواقب ... بكل القرى من شرقها والمغارب حميد السجايا الشم جم المناقب ... رحيب الفنا جزل الحبا والمواهب ثمال لمعتر وكنْز لراغب ... وغيث سماح هاطل بالرغائب همام له في الفضل أعلى المراتب ... صحا القلب عن ذكر الحمى والأخاشب وأقلعت عن شوق ووجد بزينب ... وأبدلت من وصف اللوا وظبائه بمدح إمام الدين والحق والهدى ... هو العالم النحرير والماجد الذي هو العلم الفرد الذي سار ذكره ... حليف التقى والعلم والحلم والنهى شقيق الندى عف الإزار أخو الثنا ... كريم المحيا باسم متهلل ضياء علوم إن دجا ليل مشكل ... فصيح بليغ متقن متفنن الجزء: 16 ¦ الصفحة: 460 يقصر عنها كل ساع وراكب ... خطيبا فيا لله من وعظ خاطب حباه بها الرحمن أكرم واهب ... يشد رجال القوم نجب الركائب يجلى بشمس العلم ليل الغياهب ... بفكر كعضب للإصابة صائب يزيح بها الإشكال عن فكر طالب ... مقالا لأرباب العلا والمناصب أنامله مخلوقة من سحائب ... فضائلهم لم يحصها عد حاسب كرام المساعي عن جدود مناجب ... لقد نال من نهج البلاغة رتبة إذا قام يوما فوق أعواد منبر ... مهيب عليه للوقار سكينة إليه لأخذ العلم من كل بلدة ... فيلقون حبرا في العلوم مهذبا يحل الذي أعيا ويكشف ما خفي ... يجيب على الفتيا جوابا مسددا فيا لك من شهم إذا قال لم يدع ... هو الندب وضاح الجبين كأنما أشم عصامي من النفر الأولى ... مقاوم من عليا تميم توارثوا ولو ذهبنا ننتبع مآثره، ومحاسنه وفضائله، وما أثني به عليه، لخرج بنا عن المقصود؛ وهو أشهر من أن ينبه على فضله، يضرب بشهرته المثل. له رسائل وفتاوى ونصائح كثيرة مفيدة، ورأي راجح في الحوادث المدلهمة، وهيبة وجلالة ألبسها بين الأمة، ومجالس في التدريس، عليها من المهابة جمة، في سنين عديدة، مشهورة مستنيرة، بل هو المتصدي للتدريس والفتوى بنجد. [تلاميذه] أخذ عنه العلم بنوه: عبد الملك، وعبد اللطيف، ومحمد، وصالح، وأخذ عنه العلم عمه الشيخ إسحاق بن الجزء: 16 ¦ الصفحة: 461 عبد الرحمن، وإخوته الشيخ: محمد، والشيخ إبراهيم، والشيخ عبد العزيز، والشيخ عبد الرحمن، والشيخ صالح بن عبد العزيز، والشيخ محمد بن إبراهيم، وعبد اللطيف، وعبد الرحمن بن الشيح إسحاق، وعبد الرحمن بن الشيخ محمد، والشيخ عبد الملك بن إبراهيم بن عبد الملك، وعبد الله بن حسن بن إبراهيم بن عبد الملك. وعلي ابن الشيخ عبد العزيز، وعمر بن الشيخ حسن، وصالح، وعبد الرحمن أبناء الشيخ عبد العزيز بن محمد، والشيخ عبد الله بن عبد العزيز العنقري، والشيخ عبد الله بن فيصل، والشيخ عبد العريز بن بشر، والشيخ عبد الرحمن بن سالم، والشيخ عبد الرحمن بن محمد بن داود، والشيخ عبد العزيز بن حمد بن عتيق، والشيخ عبد الله بن سليمان السياري، والشيخ عبد الله بن حمد الدوسري، والشيخ سالم الحناكي، ومحمد الحناكي، والشيخ عمر بن سليم، والشيخ عبد الرحمن بن عودان، والشيخ محمد بن عثمان الشاوي، وناصر بن سعود بن عيسى. والشيخ مبارك بن عبد المحسن، والشيخ عبد الله بن زاحم، والشيخ عبد الله بن بليهد، والشيخ عبد العزيز بن عبد الله النمر، والشيخ سعد بن سعود، والشيخ فيصل بن الجزء: 16 ¦ الصفحة: 462 عبد العزيز آل مبارك، والشيخ إبراهيم بن سليمان بن راشد، والشيخ عبد الله بن عتيق، والشيخ عبد اللطيف بن عتيق، والشيخ إبراهيم وعبد الرحمن ابنا حسين، والشيخ عبد الله بن رشيدان، والشيخ سليمان بن حمدان، والشيخ محمد بن علي البيز، والشيخ فالح بن عثمان بن صغير، والشيخ عبد العزيز الشثري، وعبد العزيز بن مرشد، وحمد بن محمد بن موسى، وخلق لا يحصيهم إلا الله تعالى. [وفاته وما قيل في رثائه] توفي رحمه الله تعالى سنة 1339?، ورثاه الجم الغفير، منهم الشيخ محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف، قال: نريق كصوب الغاديات الهواطل ... ولوعة محزون مهاج البلابل وتسكب دمعا بالضحى والأصائل ... فؤادي على حزن به متواصل فإني مصاب القلب مذكى الغلائل ... كيوم وفاة الشيخ زاكي الشمائل به الكل مفجوع مصاب المقاتل ... وداهية من قاصمات الكواهل وهد بسور الدين صافي المناهل ... على الشيخ عبد الله بدر المحافل دموعا على الخدين تجري بعبرة ... فقد حق أن العين تهراق ماءها وآن لكبدي أن تذوب وينطوي ... وللأنس أن يزور عني جانبا فما مرنا يوم فظيع على الورى ... فأعظم به من فادح جل خطبه ويا لك من رزء به انبتّ حبلنا ... ويا لك من نقص عظيم وثلمة * * * وفرجته هيهات ذا غير حاصل ... فهل أحد يرجى لسد انثلامه الجزء: 16 ¦ الصفحة: 463 تحن على فقدانه في المنازل لدن قيل مات الشيخ جم الفضائل يبين الهدى في مشكلات المسائل وغايته كي ينتهي عن أباطل طبيب زمان ما له من مماثل وثابت جأش في اشتداد النوازل وذو خلق زاك وحسن شمائل وذو نصف في أمره غير مائل وذو شبه بالسالفين الأماثل لدين الهدى العالي على كل طائل فما أم بكر قد أظلته يوما بأعظم مني لوعة ومصيبة هو العالم النحرير والجهبذ الذي هو الناصح البذال في النصح وسعه إمام لعمري عارف أهل وقته تقي نقي حازم ذو رزانة حليم ذكي ذو دها وسماحة فقيه نبيه ناسك متورع مهيب إذا ما جئته ذو تبسم قفا أثرهم بالصالحات ونصرهم * * * ظهور الفلا من شاسعات المنازل صفوح عن الزلات من جهل جاهل وعن نائل من عرضه أي نائل وكهفا لعمري للهداة الأفاضل وأجناد إبليس اللعين المخاتل ويثنيه مغلولا على غير حاصل يفلق من هاماتهم كل طائل وعبادة الأوثان أهل الغوائل وأحزاب سوء قد أقاموا لباطل إليه تشد اليعملات وتمتطى وصول لأرحام إن قطعت له عفو عن الجاني عليه وجارم وقد كان شمسا للأنام منيرة وكان شهابا محرقا لذوي الردى يرد على ذي الابتداع ابتداعه وسيفا على الكفار قد سل نصله من الترك والأرفاض أخبث شيعة وجهمية في غيرهم من طوائف الجزء: 16 ¦ الصفحة: 464 تنوب شجا في حلق كل مماحل ووالد أيتام وغيث أرامل وبهجته للارتياح لنائل بأجمعها سبحان مولي الفضائل فوالله نزر من أقل القلائل يسار بها في الضاعنين ونازل على وجناتي واستمري وواصلي ويبكيه غيري من شريف وخامل ويشجو على تقريره في المحافل أراد به الأعلام من كل فاضل لمرجوحها من راجحات المسائل من العلماء العالمين الأماثل وأعينهم كالمستهل بوابل لدين الهدى من ذي استماع وسائل وآخر بالأقلام راو وناقل ولا سيما الأصل المنافي لباطل وغيرهما من أمهات الدلائل وقد كان ردما دون كل كريهة وقد كان قصدا للعفاة1 ومحتدا إذا منصف يوما تأمل حاله تيقن أن الشيخ قد أحرز العلا وما قلته من زاكيات خصاله وشهرته تكفي وأخباره التي فيا عين سحي أدمعا بعد أدمع سأبكيه جهدي ما حييت بحرقة ويبكيه أصل الدين قطب رحى الهدى ونشر له من بعد لف يبين ما وتبكي فروع طال ما كان موضحا ويبكيه حقا كل صاحب سنة ويبكيه طلاب العلوم بلوعة على مجلس ينتابه كل مبتغ ومن حافظ تقريره بفؤاده ومن قارئ ما يشفي من مصنف وكتب حديث للبخاري ومسلم * * * وقد أدنيت منها القطوف لنائل فكان لعمري جنة قد تزخرفت   (1) نسخة: قصدا الفاة. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 465 قطفناه منها عاجلا غير آجل كمجلسه يوما فأروي غلائلي لياليه بالحسنى وجم الفضائل وأسكنه الفردوس أعلى المنازل عشيرته والله مولى الفضائل عن الملة السمحا برد الأباطل قريب لداع مستجيب لسائل لإرشاد غاو بل وتعليم جاهل فهل عوض منها فنقطف مثلما ويا ليت شعري أنني كنت واجدا فهيهات هيهات انقضى وتصرمت جزاه إله الناس عنا بجنة وأخلفه بخير في عقب وفي وأبقاهمو دهرا يذبون جهدهم ووفقهم للصالحات فإنه وأحي لنا أشياخنا أنجم الهدى وقال الشيخ سليمان بن سحمان: وقد صاب أهل الدين إحدى الفواقر لدن غيبوا في الرمس بدر المنابر وجالي الصدى بالقاطعات الظواهر ومفتي القرى شيخ الشيوخ الأكابر لدى كل صقع في بعيد الجزائر مآثر تزهو كالنجوم الزواهر نبي الهدى أكرم بهم من أطاهر وقاموا بنشر الدين بين العشائر ورحمته والله أكرم غامر بصدق وجد قامع للمكابر على رغم أهل الشرك من كل كافر لقد كسفت شمس العلا والمفاخر وقد فتقت في الدين أعظم ثلمة عنيت به شيخ الهدى معدن الندى جمال الورى جزل القرى شامخ الذرى هو الشيخ عبد الله من عم صيته سليل الرضى عبد اللطيف الذي له سلالة من أحيوا لدين محمد لقد أشرقت نجد بنور ضيائهم تغمدهم رب العباد بفضله همو جددوا دين الهدى بعدما عفا فأصبح أصل الدين يزهو بنوره الجزء: 16 ¦ الصفحة: 466 عصابة حق من كرام العناصر بهم تقترى غرثى السباع الضوامر فقد جردوا في نصره للبواتر بحزم وعزم في الوغى والتشاجر على حالة يرضى لها كل شاكر ولا زال حزب الله أهل تناصر على الخد مني مثل تسكاب ماطر لواهبها اورت أليم السعائر يرى فيض دمعي والنجوم الزواهر وكيف ونومي لا يلم بخاطر مجدد أصل الدين غيظ المناظر وبشرا وجودا في الليالي العسائر ومن طبعه حسن الوثوق بقادر ووازرهم في نصرة الدين والهدى ليوث إذا الهيجاء شب ضرامها بآل سعود أظهر الله دينه وقد جاهدوا في الله حق جهاده إلى أن أعاد الله دين نبينا فلا زال من أبنائهم نصرة له أقول ودمع العين يهمي بعبرة وفي القلب نار الحزن تذكى ضرامها أرقت ومالي في الدجى من مسامر أروم لنفسي فى دجى الليل راحة ألا ذهب الحبر المحبب في الورى أبو مضيف من يقصده يلق بشاشة به الجود طبعا لا يفارق كفه * * * وعلم وإنصاف وعفة صابر وإرشاد ذي جهل وقمع مقامر لدى الحادثات المنصعات البوادر لدى الصحب والإخوان أو ذي أطامر ولا سيما عند الغواة الغوادر وليس بمحصيها يراع لحاصر له السبق في غايات مجد وسؤدد وحلم عن الجاني وصدق مودة ورأي سديد يستضاء بنوره أبي وخذ ما شئت من لين جانب ولكنه ليث عليه مهابة وكم من مزايا لا يطاق عدادها الجزء: 16 ¦ الصفحة: 467 شمائله مشهورة في العشائر وحق بأن يرثى له كل شاعر من الأجل المحدود في علم قاهر وقد منح المولى مثوبة صابر وليس بمحتاج إلى مدح نادب ولكن لنا بعض التسلي بذكرها وما مات إلا بانقضاء لمدة فلا جزع مما قضى الله ربنا وقال الشيخ عبد اللطيف بن الشيخ إبراهيم رحمه الله: بكينا عليه بالدموع السواكب وللأنس أن يزور عني بجانب وللجسم أن يمسي كجسم لشاحب أصاب سويدا القلب بين الحواجب مصيبته تنسي جميع المصائب لما عمها من فادحات النوائب لدن غيبوا أسد الهداة الأطائب مآثر مجد عاليات المراتب على الحبر بحر العلم زاكي المناقب وحق لعيني أن تريق دموعها وحق لقلبي أن يرى متصدعا وذاك لخطب قد دهانا مروع فأعظم به من فادح جل خطبه به أظلمت أرجاء نجد جميعها فوالله إن العيش عاد منغصا وأعني بة الشيخ الإمام الذي له * * * وذو الحلم والإحسان صافي المشارب وكهفا لأيتام وغيثا لطالب وثابت رأي في اشتداد النوائب شهاب على الأعداء من كل ناكب وكان لعمري ما له من مقارب هو الشيخ عبد الله ذو الجود والتقى إمام لعمري كان بالعلم عاملا حليم عليه للوقار مهابة إمام لدين الله كان مجددا تفرد في التقوى وفي الحلم والحجى الجزء: 16 ¦ الصفحة: 468 وذو خلق زاك وجم المناقب لهم همة فوق النجوم الثواقب أبي وفي صادق ذو سماحة تفرع من قوم كرام أعزة * * * على الخد مني ساكب أي ساكب وكشاف هم مدْلهمِّ الغياهب وليس بمحصيها يراع لكاتب تسير بها الركبان فوق النجائب يحف به من مستفيد وطالب لكي يرتووا من صافيات المشارب من العلم والتحقيق خير المساكب ويهتك أستار الغواة الكواذب فنرجو له الجنات أعلى المطالب بأعلى الجنان يا سميعا لطالب أقول ودمع العين جار بعبرة ألا ذهب الشيخ الإمام أخو الندى مناقبه في الناس أضحت شهيرة فوائده سارت بشرق ومغرب له مجلس بالعلم يزهر دائما إليه أتى الطلاب من كل وجهة فيلقون ما قد أملوه وزائدا يقرر توحيد العبادة دهره لئن عاش في الدنيا عزيزا منعما فيا رب يا مولاي بوئه منْزلا وقال الأديب ناصر بن سعود بن عيسى: أن البرية تفنى بالمنيات ـع الدهر شمس الهدى عالي السجيات أتقى وأنقى وأحجى ذو مروات فينا على الدين حقا والولايات راجعون إليه في الملمات وابكي أخا المجد مأمون السريرات قضى الإله الذي فوق السموات نعى النعاة لنا شيخ الوجود قريـ نعوا إماما هماما حازما يقظا إنسان عين الزمان خير مؤتمن فالحمد لله إنا للإله وإنا يا عين جودي على شيخي بعبرات الجزء: 16 ¦ الصفحة: 469 وابكي على الشيخ عبد الله أفضل ... أهل العصر أكثرهم تقوى وخيرات وابكي على شيخنا بحر العلوم وقا ... موس الفهوم الزكيات الصحيحات * * * خير امرئ قد علمنا في البريات ... يا لهف نفسي عليه بين أموات على الذي يرتضي رب السماوات ... برا نصيحا منيلا للكرامات موت الإمام الزكي الأورع الرات ... فأذهبت عنهم كل المسرات ومن دم تستهل العين عبرات ... فراعنا إذ أتانا أي روعات وابكي على عالم جم فضائله ... علما وحلما وجودا لا نظير له كان الضياء وكان النور يتبعه ... وينشر العلم لطلاب كان بهم مصيبة عظمت لا كالمصيبات ... ريعت لها من ذوي الإسلام أفئدة كادت تفيض عليه النفس من حزن ... خطب عظيم الشأن فاجانأ * * * سحوا الدموع التي كانت غزيرات ... في المكرمات وفي حسن الخليقات في الأصل والفرع من نفي وإثبات ... عن الخنى والمساوي والدناءات فأصبحت بعد ذاك النور ظلمات ... للطالبين وأصحاب السؤالات يا أيها المسلمون ابكوا لشيخكمو ... هل يشبه الشيخ عبد الله من أحد هل يشبه الشيخ عبد الله من أحد ... بر رحيم لطيف الطبع مبتعد نور أضاء على نجد وساكنها ... كانت مجالسه بالعلم عامرة إلى آخر ما أثنى به مما أجاد فيه، فرحمه الله وعفا عنه. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 470 الشيخ محمد بن عبد اللطيف، رحمه الله هو العالم الجليل، الشيخ محمد بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن. ولد في الرياض سنة 1282?، ونشأ في بيت علم نشأة حسنة مباركة. قرأ القرآن وحفظه، وشرع في طلب العلم بهمة عالية. فقرأ على علماء الرياض، ومن أبرزهم: أخوه عبد الله بن عبد اللطيف، ومحمد بن محمود، وحمد بن عتيق، وسليمان بن سحمان؛ حتى نبغ في العلم وتأهل للقضاء، فعين في شقراء، وبعث داعية إلى عسير وغامد وزهران. وجلس للطلبة؛ وكان حسن التعليم واسع الاطلاع، يحب جلب الكتب ومشتراها، وتولى قضاء الرياض، وانتهى إليه الإفتاء والتدريس بعد وفاة أخيه عبد الله، وغير ذلك. توفي رحمه الله سنة 1367? وخلف أبناءه الثلاثة عبد الرحمن، وعبد الله، وإبراهيم. انتهى باختصار من روضة الناظرين لمؤلفها محمد بن عثمان القاضي. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 471 الشيخ صالح بن عبد العزيز، رحمه الله هو العالم الجليل، الشيخ صالح بن عبد العزيز بن عبد الرحمن بن حسين، ولد في قرية السلمية من بلدان الخرج سنة 1287?، توفي والده وهو صغير وكفله ابن عمه حسن بن حسين، حين تزوج أمه، ورعاه رعاية حسنة، فقرأ عليه القرآن حتى حفظه، وقرأ عليه مبادئ العلوم. ولما بلغ رشده زوجه فاستقل بنفسه، وصار يتعاطى البيع والشراء، ولم يصده ذلك عن طلب العلم. فمشايخه من أبرزهم ابن عمه الذي تقدم ذكره، والشيخ عبد الله بن عبد اللطيف، وهو أكثر مشايخه نفعا وملازمة، والشيخ عبد الله الخرجي، ومحمد بن محمود، وحمد بن فارس. وتعين إماما بمسجد ابن شلوان المجاور لبيته، ودرس فيه، فتخرج عليه ثلة من طلبة العلم. وكان يصدع بالحق، لا يخاف في الله لومة لائم، غزا مع الملك عبد العزيز، وكان من الشجعان البواسل وإماما في الجيش. تولى القضاء في الرياض، مع الشيخ سعد بن عتيق. توفي رحمه الله سنة 1372هـ انتهى باختصار من روضة الناظرين. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 472 الشيخ عبد الرحمن بن سعدي، رحمه الله هو العالم الورع الزاهد، الشيخ عبد الرحمن بن ناصر بن سعدي، ولد في مدينة عنيزة بالقصيم سنة 1307 من الهجرة، وعرض له اليتم في صغره، وبعد حفظه للقرآن قرأ على المشايخ، ومنهم صالح بن عثمان قاضي عنيزة. ثم جلس للتدريس وأخذ عنه العلم عدد كثير، منهم الشيخ سليمان بن إبراهيم البسام، والشيخ محمد بن عبد العزيز المطوع، والشيخ محمد بن صالح العثيمين. وله مؤلفات مشهورة، منها: تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن. توفي رحمه الله في جمادى الآخر سنة 1376هـ، وخلف ثلاثة أبناء. انتهى باختصار من روضة الناظرين المتقدم ذكرها. ولمزيد من المعرفة عن ترجمته انظر ما في الجزء الثالث من كتاب الشيخ البسام. الشيخ عبد الله الخليفي، رحمه الله هو العالم الجليل والفقيه الفرضي الشهير، الشيخ عبد الله بن صالح بن عبد الرحمن الخليفي، ولد في البكيرية بالقصيم سنة 1300 من الهجرة، ونشأ نشأة حسنة، قرأ القرآن وحفظه مع مبادئ العلوم على خاله محمد العبد الله الخليفي. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 473 ثم علت همته للتزود من العلم فسافر إلى مدينة حائل، ولازم علماءها بجد ونشاط، ومن أبرزهم عبد العزيز الصالح المرشد قاضي حائل، وعبد الله بن مسلم، وعبد الله بن سليمان بن بليهد. وكان لا يسأم من المطالعة، ومشغولا بكتب ابن تيمية وابن القيم، وذو تبحر في الفقه والفرائض، تولى القضاء والتدريس في عدد من المدن. توفي رحمه الله سنة 1381هـ، وخلف أربعة أبناء. انظر روضة الناظرين إن شئت معرفة أكثر عنه. الشيخ محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف، رحمه الله هو العالم الجليل، والفهامة المهيب الشيخ محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن، خليفة الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف، ولد سنة 1311هـ بمدينة الرياض، في بيت علم وشرف ودين. رباه والده إبراهيم أحسن تربية، ونشأ نشأة حسنة، وحفظ القرآن نظرا وهو في العاشرة، وحفظ مبادئ العلوم. وفقد بصره وهو في السادسة عشر من عمره، فأخذ يحفظه شيئا فشيئا حتى أكمله، وصار يدارس والده القرآن ويحفظ المتون، وكان أبوه قاضيا في مدينة الرياض. ولازم علماء الرياض، ومن أبرزهم: الشيخ سعد بن حمد بن عتيق، والشيخ حمد بن فارس، والشيخ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 474 عبد الله بن راشد. ولازم أباه وعمه عبد الله، وأقبل على العلم إقبالا منقطع النظير. وكان المشايخ معجبين بفرط ذكائه ونبله، فصار على حسن ظنهم، حيث كان خليفة الشيخ عبد الله في الإفتاء ورئاسة القضاء، وكل مرفق يحتاج في رئاسته إلى عالم يرجع إليه، فله فيه الباع الطويل. فله الأثر الكبير في التعليم وحسن التأسيس له، والحرص التام على التخصص في العلوم الشرعية، بل والحرص على تعلم الناس دينهم الذي لا نجاه لهم إلا به. وقد أخذ العلم عنه خلق كثير منهم الآن من تولى الرئاسة في الإفتاء والقضاء، وهيئة التمييز، وهيئة كبار العلماء ومنهم المدرسون والدعاة إلى الله، ورؤساء الهيئات، والمستشارون، وغير ذلك من آثار طيبة وجليلة. رحم الله الشيخ رحمة واسعة وجزاه أحسن الجزاء، ولا شك أن المسند إليه ذلك له نصيب كبير في ذلك. توفي رحمه الله سنة 1389 من الهجرة وجمع له رسائل وفتاوى بلغت 13 جزءا مرتبة ترتيبا جيدا، لا يستغني عنها طالب العلم لما فيها من الوضوح، ولما فيها من حسن الجواب، وما يربط بين الماضي والحاضر فى معرفة الأمور وحل المشاكل وغير ذلك، ولا تزال شجرته خضراء - ولله الحمد - فقد خلّف أولادا وأحفادا فيهم خير وبركة. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 475 الشيخ عبد الله بن محمد بن حميد، رحمه الله هو العالم الجليل والحبر الفهامة النبيل، المحقق المدقق، الشيخ عبد الله بن محمد بن حميد، ولد بمدينة الرياض سنة 1329 من الهجرة، وفقد بصره في طفولته. حفظ القرآن، وشرع في طلب العلم بهمة ونشاط، فقرأ على الشيخ حمد بن فارس، والشيخ سعد بن عتيق، والشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ، ومحمد بن عبد اللطيف، والشيخ محمد بن إبراهيم وغيرهم. وكان مشايخه يتفرسون فيه الذكاء والنباهة، ويقولون سيكون لهذا الفتى شأن، فكان على حسن ظنهم، نفع الله به الإسلام والمسلمين، فكان قاضيا ومفتيا، وداعية إلى الله ومصلحا، ومحبوبا. تولى مناصب عدة منها: القضاء، ورئاسة المجلس الأعلى للقضاء، ورئاسة الحرم المكي، والمجمع الفقهي لرابطة العالم الإسلامي، وعضو في هيئة كبار العلماء مع قيامه بالتعليم في كل مدينة يسكنها، وبعثه الرسائل في الدعوة إلى الله، والرد على من ظهر منه الخطأ في الصحف والمجلات، وإجابته عن الأسئلة في المحاضرات والندوات، وغير ذلك من الأعمال الصالحة التي قلّ من يقوم بمثلها، فرحمه الله رحمة واسعة، وجزاه الله أحسن الجزاء. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 476 وافته المنية في 20/11/1402 من الهجرة، وقد خلف أولادا وتلامذة فيهم خير وبركة، فلله الحمد والمنة، ونسأله تعالى أن يجعلهم خير خلف لخير سلف، ورثاه ثلة من العلماء منهم الشيخ محمد بن عبد الله بن سبيل، وأحمد الغنام، كما في روضة الناظرين. ولمزيد من المعرفة عنه انظر ترجمته في "علماء نجد خلال ثمانية قرون" ج 4. الشيخ عبد الله بن سليمان بن حميد، رحمه الله عالم جليل وداعية إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، ولد في بريدة بالقصيم عام 1322 من الهجرة، وتعلم فيها القراءة والكتابة، ثم بدأ بطلب العلم على الشيخ عبد الله بن محمد بن سليم، والشيخ عمر بن محمد بن سليم، والشيخ عبد العزيز العبادي، وغيرهم من علماء بريدة حتى أدرك وصار من العلماء. وقد رشحه شيخه عمر للقضاء في برك الغماد من مقاطعة جيزان، ثم تنقل في محاكم تهامة، فصار رئيسا لمحكمة القنفذة، ثم رئيسا لمحكمة جيزان، ثم نقل رئيسا لمحكمة البكيرية، ثم نقل رئيسا لهيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالقصيم، ثم أحيل للتقاعد في عام 1383?. وله نشاط في الدعوة والإرشاد، والنصح، وقد تولى في آخر حياته الإشراف على مدارس تحفيظ القرآن في الجزء: 16 ¦ الصفحة: 477 القصيم، فقام بذلك بجد واجتهاد، وكان يجلس للتدريس في أحد مساجد بريدة؛ والتف عليه عدد من الطلبة، ونفع الله بعلمه حتى أقعده المرض. توفي رحمه الله في يوم الاثنين 3/6/1404? وحضر الصلاة عليه جمع غفير فرحمه الله وعفا عنه، انتهى باختصار مع بعض التصرف من كتاب البسام "علماء نجد خلال ثمانية قرون " ج 4. الشيخ محمد بن عبد العزيز بن مهيزع، رحمه الله عالم جليل وحبيب لبيب متواضع، ولد في حريملاء سنة 1325 من الهجرة، ونشأ فيها وتعلم مبادئ القراءة والكتابة. فلما صار في طور الشباب من عمره وعلت همته لطلب العلم، رحل إلى الرياض وقرأ على الشيخ محمد بن إبراهيم، وعلى أخيه الشيخ عبد اللطيف، ولازم الشيخ محمد في كثير من العلوم الشرعية حتى عدّ من الطلاب المدركين. فلما بلغ هذا المبلغ، ولما له من سجايا طيبة، عيّن قاضيا في عدة قرى، ثم في المحكمة الكبرى بالرياض، ثم أحيل على التقاعد برغبة منه; ومع أعماله القضائية فله مشاركة هامة في التدريس والإفتاء والبحوث وغير ذلك. فجزاه الله أحسن الجزاء، ونسأله تعالى أن يجعل منازلنا وإياه في الفردوس الأعلى. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 478 توفي رحمه الله عام 1404 هـ. انتهى باختصار مع بعض التصرف من كتاب البسام "علماء نجد خلال ثمانية قرون" ج 6. الشيخ صالح بن إبراهيم البليهي، رحمه الله الحبيب اللبيب والعالم الجليل، والداعية إلى الله، اليقظ الفطن، ولد رحمه الله سنة 1331 من الهجرة في الشماسية، ثم انتقل إلى بريدة مع أسرته وقرأ القرآن، واشتغل مع والده في التجارة، ثم الزراعة. وتفرغ لطلب العلم، فأخذ يطلب العلم على الشيخ عمر بن محمد بن سليم، ولازمه ملازمة تامة، وقرأ أيضا على الشيخ عبد الله بن محمد بن حميد، وعلى الشيخ صالح بن أحمد الخريصي، وغيرهم، وعرض عليه القضاء، ولكنه اعتذر. وفي عام 1373هـ عيّن مدرّسا في المعهد العلمي ببريدة، وفي عام 1384? عيّن إماما في مسجد الوزان، وأخذ يدرس العلوم الشرعية لطلاب العلم. وكان له مكتبة كبيرة تضم أمهات الكتب، فيقضي فيها كثيرا من وقته في البحث والتأليف والمطالعة. وطلب منه أن يكون محاضرا في كلية الشريعة بالقصيم فوافق على ذلك، واستفاد منه الطلاب; ثم أحيل للتقاعد، الجزء: 16 ¦ الصفحة: 479 فتفرغ للدعوة. ومن أجل أعماله إنشاء الجماعة الخيرية لتحفيظ القرآن، وجمعية البر التي من أهم أهدافها رفع المستوى الاجتماعي والصحي والثقافي ببريدة وضواحيها. ومن تلاميذه الشيخ صالح الفوزان والشيخ إبراهيم الدباسي وحمد المحيميد وغيرهم; وله مؤلفات منها عقيدة المسلمين والرد على الملحدين، والسلسبيل في معرفة الدليل، والهدى والبيان في أسماء القرآن وغيرها; فجزاه الله عنا وعن المسلمين أحسن الجزاء، وجعل منازلنا وإياه في الفردوس الأعلى. توفي رحمه الله في يوم الجمعة 3/5/1410 من الهجرة. انتهى باختصار مع بعض التصرف من كتاب الشيخ البسام "علماء نجد خلال ثمانية قرون" ج 2. الشيخ حمود بن عبد الله التويجري، رحمه الله العالم العابد الزاهد، الحبيب اللبيب، الصبور المحتسب، المجاهد في إظهار الحق ورد الباطل، بلسانه وقلمه وماله، فلا تأخذه في الله لومة لائم، ولد عام 1334 من الهجرة، وتعلم القراءة والكتابة في صغره، وحفظ القرآن. ثم ابتدأ في طلب العلم، ولازم أهل العلم منهم الشيخ عبد الله بن عبد العزيز العنقري، وقد أجازه في رواية الجزء: 16 ¦ الصفحة: 480 الصحاح والسنن والمسانيد، وفى رواية كتب ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، وفي غير ذلك. وقرأ على الشيخ محمد بن عبد المحسن الخيال، والشيخ عبد الله بن محمد بن حميد، وكان مثالا يحتذى في الورع والأدب وحسن الخلق، عيّن في القضاء في المنطقة الشرقية، وفي الزلفى، ثم اعتذر، وطلب للتعليم مرارا; لكنه اعتذر وآثر التفرغ للعلم والبحث والتأليف. فألف كتبا ورسائل، الناس في أمسّ الحاجة لمثلها، فنفع الله بها، ولا تزال - بحمد الله - تتجدد ويرجع إليها، لما فيها من الأدلة والبراهين وحسن التوجيه لما عليه السلف الصالح، وكشف ما وقع فيه بعضا من الخلف ممن غفل عن منهج السلف، أو أعرض عنه لجهله وبعده عنه، وغير ذلك من الأسباب. توفي رحمه الله عام 1413هـ، وخلف أولادا فيهم خير وبركة. فرحم الله الشيخ حمود وأسكنه فسيح جناته، وبارك له في الباقيات الصالحات إنه سميع مجيب. ولمزيد من المعرفة عنه انظر ترجمته في الجزء الثاني من كتاب "علماء نجد خلال ثمانية قرون" للشيخ عبد الله البسام حفظه الله. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 481 الشيخ صالح بن أحمد الخريصي، رحمه الله العالم، الورع، الزاهد، ولد سنة 1327 من الهجرة، وتعلم القرآن الكريم والنحو على يد الشيخ صالح الكريديس، وباقي العلوم الشرعية على عدد من المشايخ، منهم: محمد بن عبد الله الحسيني، ومحمد السليم، وعبد الله بن محمد بن حميد، رئيس مجلس القضاء الأعلى. تولى الإمامة وفتح حلقة ذكر وتدريس في المسجد عام 1354هـ، وعيّن في القضاء في القصيم، ثم في الأسياح ثم في الدلم، ثم تولى رئاسة المحكمة الكبرى ببريدة، ثم عين رئيسا لمحاكم القصيم. وله تلامذة كثيرون، وكان لا يدع الحج والعمرة، ولا يدع صيام ثلاثة أيام من كل شهر، ولا يدع قيام الليل. وكان شافعا لأصحاب الحاجات والغارمين واليتامى والمساكين والأرامل، وجلّ وقته لقضاء مصالح المسلمين. له رسائل ونصائح طبع بعضها وانتشر، توفي رحمه الله سنة 1415 من الهجرة، غفر الله له وجزاه عنا وعن جميع المسلمين أحسن الجزاء. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 482 الشيح عبد الرحمن بن عبد الله بن حمود التويجري، رحمه الله عالم جليل، وورع عفيف، ولد سنة 1336 من الهجرة، توفي والده وهو صغير فاعتنت به والدته، فتعلم مبادئ القراءة والكتابة عند الشيخ أحمد الصانع. ولما تجاوز سن الصبا قرأ على الشيخ عبد الله العنقري، والشيخ محمد الخيال، والشيخ سعود بن رشود، عددا من العلوم الشرعية فأدرك إدراكا جيدا، وصار له مشاركة كبيرة في العلوم التي درسها. وطلب منه القضاء ولكنه اعتذر، وتولى الإمامة والوعظ وتدريسه الطلاب في مسجدين في المجمعة 43 سنة. ومن تلاميذه أبناؤه، وأبناء أخيه حمود، وألف كتابه "الشهب المرمية" طبع سنة 1374هـ، نقد فيه كثيرا مما اتبعته العامة من تقليد للغربيين في أعمالهم وعاداتهم، وله رسالة لاحظ فيها على كتابي علماء نجد بعض الأخطاء المطبعية وغير ذلك. توفي رحمه الله في 16/10/1416هـ. انتهى باختصار مع بعض التصرف من كتاب "علماء نجد خلال ثمانية قرون" ج 3. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 483 الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، حفظه الله هو العالم الجليل، والمحدث الفقيه، المفيد للطالبين، المحفوف بعناية رب العالمين، الورع الزاهد، المحبوب المعمر في طاعة رب العالمين، قد خيّب الله بطول عمره، توقع الجاهلين، وظن الحاقدين. ولد حفظه الله في سنة 1330 من الهجرة، بمدينة الرياض، وكان بصيرا، ففقد بصره سنة 1350هـ، حفظ القرآن قبل سن البلوغ، ثم جدّ في طلب العلم، على علماء الرياض. ومن أبرزهم الشيخ محمد بن عبد اللطيف، والشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ، والشيخ سعد بن عتيق، والشيخ حمد بن فارس، والشيخ محمد بن إبراهيم وغيرهم، ولما برز في العلوم الشرعية واللغة العربية عيّن في القضاء سنة 1357هـ. ولم ينقطع عن العلم والتعليم، بما شغل به من مناصب في القضاء في أي مدينة كان، فهو القاضي والمفتي، والداعية والمصلح، والرئيس والإمام والمعلم، والمكرم للضيوف، والحنون على الأرامل والأيتام، ومطعم المساكين، والواسطة في الأمور الخيرة. نشأ على يديه عدد فيهم خير وبركة، له تأسيس كبير الجزء: 16 ¦ الصفحة: 484 في الندوات والمحاضرات، واختيار الموضوعات. ظهر له كتب ورسائل كثيرة وأشرطة عديدة، يعجز عن إحصائها المتتبع لها، لا يضيع عليه شيء من أوقاته، فما أحسن وأحلى وأعظم حياته! فهنيئا له ولكل من سار على نهجه في حياته فصبر وصابر، وعمر أوقاته في طاعة ربه ومرضاته. وأسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يزيد لنا في مدّ عمره بكامل حواسه وقواته، وأن يرزقنا وإياه حسن الخاتمة في الأمور كلها، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. 1. الشيخ صالح بن علي بن فهد بن غصون التميمي، حفظه الله عالم جليل، وفقيه ورع، مفيد للطالبين، ومحفوف بعناية رب العالمين، ولد حفظه الله سنة 1341 من الهجرة في الرس، حفظ القرآن في صغره، وفقد بصره في السنة 12 من عمره. وعلت همته إلى طلب العلم فتوجه إلى الرياض، وقرأ على الشيخ عبد اللطيف بن إبراهيم الفرائض   1 وانظر إن شئت ترجمة له في الجزء الأول من فتاوى اللجنة الدائمة. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 485 والأجرومية، وقرأ على الشيخ محمد بن إبراهيم جميع العلوم النافعة، عشر سنين. ثم عيّن في القضاء في سدير سنة 1368هـ، ومكث فيه أربع سنين، ثم في شقراء عشر سنين، بالإضافة إلى التدريس في المعهد، والإمامة والخطابة في الأماكن التي عيّن فيها. وفي نهاية عام 1381? عيّن في الأحساء رئيسا للمحاكم فيها، إلى نهاية سنه 1390هـ ثم صار عضوا في هيئة التمييز في الرياض، وفي سنة 1391هـ عيّن أيضا عضوا في هيئة كبار العلماء، وفي عام 1399هـ عيّن في المجلس الأعلى للقضاء. وفي 1408هـ طلب الإحالة للتقاعد للاستجمام لصحته والتفرغ لعبادة ربه، ومع ذلك فلم ينقطع نفعه عن المسلمين؛ فله مشاركة في الإذاعة في برنامج نور على الدرب، مستمرة من عام 1391?، إلى الآن يجيب فيها على الأسئلة، ويوجه الناس لما هو الأصلح في دينهم ودنياهم، بأسلوب مبسط، وسهل، يعيه العامي والمتعلم، وهذا من حسن تواضعه، ورغبته في إيصال الخير لمريده. كما أنه أيضا يجيب على الأسئلة، في المسجد وفي بيته، وعلى جهاز الهاتف، وغير ذلك; فحياته - ولله الحمد - كلها جدّ واجتهاد وعمل وصبر. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 486 أرجو الله الكريم أن يضاعف له الأجر، وأن يمد في عمره بصحة وعافية وهناء، وأن يحسن لنا وله الخاتمة في الأمور كلها، وصلى الله على محمد، حرر في ليلة الاثنين 8/1/1419 هجرية. الشيخ عبد الرحمن بن عبد الله بن فريان، حفظه الله عالم جليل، وشهم شفيق، معلم، وإمام، وخطيب، ولد حفظه الله سنة 1348هـ، وحفظ القرآن في سن مبكر في الخامسة عشر من عمره. وقرأ على الشيخ محمد بن إبراهيم، والشيخ محمد بن عبد اللطيف، والشيخ عبد اللطيف بن إبراهيم، والشيخ عبد العزيز بن باز، والشيخ عبد الرحمن المقوشي، والشيخ عبد العزيز الشثري، والشيخ إسماعيل الأنصاري، والشيخ عبد الحميد الجزائري وغيرهم. وقرأ عليه عدد كبير في مكتبة ابن تيمية الخيرية وفي مسجده الجامع، وله جهد كبير في الدعوة إلى دين الله الحق والتمسك به؛ فله مشاركات كثيرة في الندوات والمحاضرات في جامع الإمام تركي وغيره. وله تجول في المملكة للدعوة إلى الله في المدارس والمعاهد، وقطاع الأمن، وغيرها، ويفتح مجالا للأسئلة والإجابة عليها. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 487 وله رسائل ونصائح فيما يهم المسلمين، فهو مصلح ومحتسب، ومحسن للفقراء والمحتاجين والأرامل بالتوسط لدى المحسنين، وغير ذلك من طرق الخير. ومؤسس الجماعات الخيرية، ومنها جماعة تحفيظ القرآن سنة 1387 من الهجرة، وله جهد كبير في تسهيل حلقات القرآن في المساجد وغيرها; يقول الحق ولا يخاف في الله لومة لائم. فله نشاط في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن ذلك إقامة الصلاة جماعة في الدوائر الحكومية وغيرها، وحثه على بناء المساجد فيها. وله مكانة عند المسؤولين وقبول فيما يراجعهم فيه من أمور الدين والدنيا، مع الملوك والأمراء، وكبار المشايخ وغيرهم. فجزاه الله أحسن الجزاء، وبارك في أوقاته، ونسأل الله لنا وله حسن الخاتمة، وأن يجعل في ذريته وتلامذته الخير والبركة، فيكون امتدادا لصالح عمله. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 488 الشيخ صالح بن محمد اللحيدان، حفظه الله عالم جليل وداعية إلى الله، ذو هيبة وقدر، وإمام وخطيب، ولد بمدينة البكيرية بمنطقة القصيم عام 1350 من الهجرة. وقد تخرّج من كلية الشريعة بالرياض عام 1379? وعمل سكرتيرا لسماحة الشيخ محمد بن إبراهيم، رحمه الله في الإفتاء بعد تخرجه، إلى أن عين عام 1383? مساعدا لرئيس المحكمة الكبرى بالرياض، ثم صار رئيسا للمحكمة عام 1384هـ. وقد حصل على رسالة الماجستير من المعهد العالي للقضاء، عام 1389?، واستمر رئيسا للمحكمة الكبرى إلى أن عين عام 1390? قاضي تمييز، وعضوا بالهيئة القضائية العليا. وفي عام 1403هـ، عين رئيسا للهيئة الدائمة بمجلس القضاء الأعلى، واستمر في ذلك نائبا لرئيس المجلس في غيابه إلى أن عين عام 1413هـ رئيسا للمجلس بهيئته العامة والدائمة. وهو أيضا عضو في هيئة كبار العلماء منذ إنشائها عام 1391هـ، وعضو في رابطة العالم الإسلامي، وكان له نشاط في تأسيس مجلة راية الإسلام، ومديرها ورئيس تحريرها. وله دروس في المسجد الحرام وتذاع، وفتاوى في برنامج نور على الدرب، وله محاضرات وندوات، الجزء: 16 ¦ الصفحة: 489 ومشاركة في مناقشة رسائل الماجستير والدكتوراه، وغير ذلك مما فيه صلاح وإصلاح، فجزاه الله أحسن الجزاء، وأحسن لنا وله الخاتمة في الأمور كلها وصلى الله على محمد، حرر في 9/1/1419هـ. الشيخ عبد الرحمن بن حماد العمر البدراني، حفظه الله عالم جليل، وداعية إلى الله بالحكمة، والموعظة الحسنة، ولد في روضة سدير في 17/2/1354 من الهجرة، وتربى على يدي والديه، وتعلم مبادئ القراءة والكتابة على يد إمام جامع البلد عبد العزيز بن عبد الرحمن بن فنتوخ، وتعلم القرآن على فوزان القديري وابنه عبد الله، وأكمل دراسة القرآن وحفظ الأصول الثلاثة وأدلتها، وشروط الصلاة وأحكامها على والده، رحمه الله. والتحق بالمدرسة الابتدائية عام 1369هـ، ثم بالمعهد العلمي بالرياض، ثم بكلية الشريعة فتخرج منها عام 82 - 83 ?، وأخذ قبل التخرج وبعده عن كثير من العلماء، وفي مقدمتهم الشيخ محمد بن إبراهيم، والشيخ عبد العزيز بن باز، والشيخ عبد الله بن محمد بن حميد، والشيخ سليمان بن حمدان، وقد أجازه كتابة بما أجازه أهل العلم; وأخذ العلم أيضا عن غيرهم من أهل العلم. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 490 وكان يكثر من قراءة كتب شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وكتب أئمة الدعوة، والمراجع الكبار في التفسير والحديث والأصول والفقه وغير ذلك. وله كتب ورسائل بلغت 18 طبع بعضها وانتشر، منها: "فى سبيل الحق"، "الإرشاد إلى توحيد رب العالمين"، "الذكرى"، "دين الحق" وقد ترجم إلى لغات كثيرة، وغير ذلك. وله مشاركة في المحاضرات والندوات في المساجد وعمل محاسبا بوزارة المالية بمدة أشهر، ثم مديرا للمبيعات بالخطوط الجوية، ما يزيد على خمس سنوات. ثم عمل مدرسا بوزارة المعارف ما يقارب ثلاثين عاما حتى تقاعد في سنة 1415هـ، وله أولاد فيهم خير وبركة. ولا يزال - بحمد الله - يشارك في المحاضرات والندوات، والتأليف. نسأل الله أن يحسن لنا وله الخاتمة، وأن يتقبل منا ومنه الحسنات، ويغفر لنا وله السيئات آمين، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. الشيخ محمد بن عبد الله بن حمدان ولد في "البير" من بلدان المحمل شمال غرب الرياض عام 1357?. وتلقى تعليمه في الكتاتيب في "البير"، ثم في مدرسة "تمير" الابتدائية، حيث كان جده إماما فيها، ثم التحق بمعهد إمام الدعوة في الرياض سنة 1373هـ، كما واصل دراسته المتوسطة والثانوية ليلا. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 491 وحين تخرّج من المعهد التحق بكلية الشريعة بالرياض، ثم تعين موظفا واستمر منتسبا حتى تخرّج منها عام 1383هـ، وتنقل في وظائف عدة كان آخرها في إمارة منطقة الرياض حتى طلب التقاعد عام 1400هـ بعد أن بلغت خدمته في الدولة 20 عاما. كتب عدة مقالات وبحوث فى المجلات والصحف السعودية القديمة والحديثة، وصدر له بعض من الكتب، منها: "بنو الأثير"، و"صبا نجد"، و"ديوان حميدان"، وله كتب أخرى ينوي طبعها. ونشأت لديه هواية جمع المخطوطات والكتب والجرائد، والمجلات القديمة، واجتمع عنده الكثير، فأنشأ "مكتبة قيس" لشراء وبيع ما اجتمع لديه، وانتفع بذلك، ولديه "متحف قيس" يضم نوادر وطرائف من المأثورات الشعبية; يكره المديح والكبر، ويهوى السياحة والسباحة. نسأل الله لنا وله حسن الخاتمة في الأمور كلها، وأن يجعل في ذريته من تقر بهم عينه في طاعة الله وطاعة رسوله، وأن يكونوا له من الباقيات الصالحات إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله على محمد، حرر في 1/2/1419هـ. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 492 نبذة عن هذه الطبعة الجديدة وإليك نبذة عن هذه الطبعة الجديدة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده. وبعد: فحيث أن الطبعة الأولى للدرر السنية التي طبعت في مكة بمطابع أم القرى في عهد الملك عبد العزيز، قلّ وجودها، حتى في المكتبات العامة، وتتكون من أربعة مجلدات. ثم صورت على الطبعة الأولى في عهد الملك فيصل، وقلت أيضا مع ما حصل عليها من بعض التغيير، ونفدت إلا ما شاء الله منها، وكثر السؤال عنها في وقت قد تيسّر الطبع فيه وسهلت مئونته، وأن جامعها قد احتفظ بنسخة منها مزيدة، وكان حريصا على طباعتها قبل وفاته بما يقرب من ثلاث سنوات ولم يتيسر له ذلك. ولأهميتها والاستفادة منها، وتيسر الطبع على نفقة الأخ ناصر، فقد استعنت بالله في الإشراف على طبعها والقيام بما يلزم، من مقابلة، ومراجعة، وتدقيق، وتنقيح، ونسخ ما يحتاج إلى نسخ، وبذلت الجهد بأن تكون هذه الطبعة وفق ما ذكر في أول الجزء الأول، في التمهيد، والتنبيهات. وعلقت على ما يحتاج إلى تعليق، مما يوضح الجزء: 16 ¦ الصفحة: 493 المراد، وما يظن أنه متكرر وليس بمتكرر، وما له علاقة بما قبله أو بعده، ليسهل الرجوع إليه، وما يحتاج إلى تقديم أو تأخير، أو إضافة أو حذف وهو قليل جدا، مع الإشارة إلى ذلك، وإبدال كلمة "وفقه الله" لمن قد توفي بكلمة "رحمه الله". وقمت بفهرسة الرسائل المضافة والترجمة لأصحابها، على نمط فهرسة جامعها، وتراجمهم، علما بأن مجموع ما فرق في الأجزاء، يقرب من جزء، وبسبب مراعاة الأشياء الفنية في الطباعة وتغير حجم الصفحات وما حصل من إضافات فقد بلغ عدد الأجزاء بما فيها المخطوط المسمى: "بالبيان الواضح وأنبل النصائح" 16 جزءا. ولمزيد من الإيضاح عن هذه الطبعة الجديدة: فقد تم بحمد الله طبع هذه النسخة الجديدة في ستة عشر جزءا، كما يلي: (أ) الجزء الأول ويشتمل على تقريظات، وتمهيد، وتنبيهات، وكتاب العقائد، وعدد صفحاته 607. والجزء الثاني يشتمل على كتاب التوحيد، وعدد صفحاته 371. والجزء الثالث يشتمل على كتاب الأسماء والصفات وعدد صفحاته 388، وقد تم طبع هذه الثلاثة الأجزاء سنة 1413هـ- 1992 م. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 494 (ب) الجزء الرابع ويشتمل على القسم الأول من كتاب العبادات، أوله في أصول مأخذهم، ثم من كتاب الطهارة إلى نهاية باب صلاة أهل الأعذار، وعدد صفحاته 449. والجزء الخامس ويشتمل على القسم الثاني من كتاب العبادات، من أول باب صلاة الجمعة إلى نهاية العقيقة، وعدد صفحاته 425. والجزء السادس من أول كتاب البيع إلى نهاية اللقطة، وعدد صفحاته 483; وقد تم طبع هذه الثلاثة أيضا سنة 1314? - 1994 م. (ج) الجزء السابع من أول كتاب الوقف إلى نهاية الإقرار، وعدد صفحاته 619. والجزء الثامن ويشتمل على القسم الأول من كتاب الجهاد، وعدد صفحاته 512. والجزء التاسع ويشتمل على القسم الثاني من كتاب الجهاد، والقسم الأول من كتاب حكم المرتد، وعدد صفحاته 455. والجزء العاشر ويشتمل على القسم الأخير من كتاب حكم المرتد، وعدد صفحاته 533، وهذه الأربعة الأجزاء تم طبعها سنة 1416?- 1995 م. (د) الجزء الحادي عشر، ويشتمل على القسم الأول الجزء: 16 ¦ الصفحة: 495 من كتاب مختصرات الردود، عدد صفحاته 600. والجزء الثاني عشر ويشتمل على القسم الثاني من كتاب مختصرات الردود، وعدد صفحاته 564. والجزء الثالث عشر ويشتمل على تفسير واستنباط لسور وآيات من القرآن الكريم، عدد صفحاته 465. والجزء الرابع عشر، ويشتمل على كتاب النصائح، عدد صفحاته 600. وهذه الأجزاء الأربعة تم طبعها سنة 1417? - 1996 م و 1997 م. (هـ) الجزء الخامس عشر، ويشتمل على القسم الأول من كتاب البيان الواضح وأنبل النصائح، عدد صفحاته 450. والجزء السادس عشر، يشتمل على القسم الأخير من كتاب البيان الواضح وأنبل النصائح، وعلى تراجم أصحاب تلك الرسائل والأجوبة الموجودة في الطبعة الأولى والمزيدة في هذه الطبعة، وهو آخر ما جمعه الوالد ورتبه لهذه الدرر، فجزاه الله أحسن الجزء، وكذا كل من أعانه عليها وساعده في نشرها. وآخر دعوانا: الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. المشرف على الطبع ابنه سعد الجزء: 16 ¦ الصفحة: 496