الكتاب: شرح مقدمة التفسير لابن تيمية الشارح: صالح بن عبد العزيز بن محمد بن إبراهيم آل الشيخ   [الكتاب مرقم آليا، دروس مفرغة] ---------- شرح مقدمة التفسير لصالح آل الشيخ صالح آل الشيخ الكتاب: شرح مقدمة التفسير لابن تيمية الشارح: صالح بن عبد العزيز بن محمد بن إبراهيم آل الشيخ   [الكتاب مرقم آليا، دروس مفرغة] شرح مقدمة في أصول التفسير لشيخ الإسلام ابن تيمية للشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ -حفظه الله تعالى- [مفرّغ] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1 بسم الله الرحمن الرحيم بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أيها الأحبة في لله يسر إخوانكم في تسجيلات الراية الإسلامية بالرياض أن يقدموا لكم شرح كتاب المقدمة في أصول التفسير لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى والذي قام بشرحه وبسطه فضيلة الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ. وقد بدأ الشيخ حفظه تعالى هذا الشيح في الرابع والعشرين من شهر ربيع الثاني لعام 1414 من الهجرة المباركة وانتهى في اليوم الثاني والعشرين من شهر شوال من العام نفسه. وقد تبقى من هذا الشرح ثلاثة فصول قام حفظه الله بشرحها وإتمامها في اليوم الثاني عشر من شهر محرم 1424 هجري والآن نترككم مع شرح الكتاب والذي بدأه الشيخ بمحاضرة بعنوان: مدارس التفسير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1 الدرس الأول مدارس التفسير بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي نزل الكتاب على عبده ليكون للعالمين نذيرا، الحمد لله الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا. أحمده وأثني عليه الخبر كله وهو للحمد وللثناء أهل، حمدا متواترا متتابعا دائما لا ينفذ. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله وصفيه وخليله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين. أما بعد: فأسأل الله جل وعلا أن يُلهمني وإياكم الرشد والسداد والتوفيق في الأمر كله، نعوذ به من فتنة القول ومن فتنة العمل، نعوذ به من أن نضل أو نُضَل أو أن نزل أو نُزَل أو أن نجهل أو يُجهل علينا. ثُم إن هذه الدروس التي ستكون في تفسير كلام المنان جل وعلا، ومع ذلك التفسير نبذ من أصول التفسير ومن معاقده وقواعده هذه الدروس إنما هي فتح أبواب لمن رام علم التفسير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1 وقد كان السلف الصالح رضوان الله عليهم من الصحابة فمن بعدهم يعتنون كثيرا بتفسير كلام الله جل وعلا وبفهم معانيه؛ لأنه هو الحجة على الخلق؛ ولأن التعبد وقع به وبتلاوته وبفهم معانيه وفي أنحاء كثيرة غير ذلك. فلا غرابة أن ظهر كثير من الصحابة وقد اعتنوا بهذا العلم -علم التفسير- لحاجة الأمة إليه؛ لحاجة المؤمن بنفسه إليه ثم لحاجة الأمة لهذا العلم، فلا أعظم من أن يشرح للناس وأن يُفسر لهم وأن يبين كلام الله جل وعلا إذْ هو الحق الذي لا امتراء فيه وهو الحجة التي ليس بعدها حجة، وهو القاطع الذي تقنع به النفوس وترضى به دليلا وبرهانا وحجة عند الاحتجاج وإيراد البرهان والدليل. وهذا الكتاب العظيم جعله الله جل وعلا كتابا بلسان عربي؛ بل بلسان عربي مبين، يعني بيّنا في نفسه ومبينا لما يحتاجه الناس من الأخبار ومن الأحكام، والنبي عليه الصلاة والسلام قد بيّن للناس ما نُزِّل إليهم، بيّن للصحابة رضوان الله عليهم ما يحتاجونه من معاني كلام الله جل وعلا، إذْ قد كلف بذلك عليه الصلاة والسلام بقوله جل وعلا {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 44] ، لكن حاجة الصحابة -رضوان الله عليهم- لم تكن في فهم كلام الله جل وعلا كحاجة غيرهم؛ بل إنهم إنما احتاجوا بعض التفسير وذلك لعلمهم بمعاني كلام الله جل وعلا لأنه نزل باللسان الذي يتكلمون به وباللغة التي ينطقون بها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2 فسر النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ آيات كثيرة من القرآن فيما نقل إلينا؛ لكن لم يُنقل إلينا من النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ فسر أكثر القرآن؛ بل إنما كان تفسيره عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ للقرآن فيما نُقل إلينا كان ليس بالكثير، قد ثبت أن النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ فسر القوة مثلا بالرمي في قوله تعالى {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ} [الأتفال: 60] فقال «ألا إن القوة الرمي ألا إن القوة الرمي ألا إن القوة الرمي» . وفسّر عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ قوله جل وعلا {غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7] ، بأن المغضوب عليهم هم اليهود وأن الضالين هم النصارى، وكذلك فسّر عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ الزيادة في قوله تعالى {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26] ، بأنها النظر إلى وجه الله الكريم. ولكن مع ثبوت كثير من التفسير عنه عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ لكن لم يفسر للصحابة كل القرآن؛ نعم بيّن لهم معاني القرآن وأفهمهم معاني القرآن بحسب حاجاتهم. وهكذا من بعد الصحابة من التابعين، الصحابة نقلوا لهم التفسير الذي سمعوه عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو الذي أُوتوه من العلم بالقرآن بمعاني آي الذكر الحكيم، وكان نقلهم لذلك قليلا بالنسبة لما تكلم به المفسرون بعد ذلك من تفسير آيات القرآن؛ وذلك لأن القرآن -كما ذكرت لك آنفا- نزل بلسان عربي مبين، والناس إذا اعتنوا باللغة فهموا كثيرا من القرآن، وربما لم يعلموا بعض الآي وذلك لعدم العلم ببعض اللغات أو لأسباب أخر تأتي في موضعها مفصلة إن شاء الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 3 من ذلك مثلا أن عمر رَضِيَ اللهُ عنْهُ كان يتلو كثيرا سورة النحل على المنبر يوم الجمعة، وذات مرة تلا السورة وتوقّف عند قوله جل وعلا {أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} [النحل: 47] ، فقال: ما التخوف؟ كأنه لم يظهر له أن التخوف من الخوف، ورام رَضِيَ اللهُ عنْهُ معنى آخر ليكون أكثر دلالة على المعنى المراد في الآية، فقال رجل من هذيل في المسجد: يا أمير المؤمنين التخوف في لغتنا التنقص قال شاعرنا أبو كبير الهذلي: تخوف الرحل منها يصف ناقة: تَخَوَّفَ الرَّحْلُ منها تَامِكًا قَرِدًا ... كما تَخَوَّف عُودَ النّبْعَةِ السَّفَنُ معنى تخوف أي تنقص. فإذن يكون أمير المؤمنين عمر رَضِيَ اللهُ عنْهُ في عدم علمه بتفسير هذه الآية على هذا الوجه من التفسير كان من جرّاء أنه أن هذا اللفظ وهو التخوف كان على لغة هذيل، فسأل عنه رَضِيَ اللهُ عنْهُ. وهكذا في كثير من الآيات لا يُجزم بأن الصحابة رضوان الله عليهم علموا معنى كل آية أو علموا معنى كل كلمة في كل آية؛ بل ربما لم يعلموا معنى ذلكـ وعلمهم بذلك بالأكثر لكن هذا باعتبار أفرادهم، أما مجموع الصحابة رضوان الله عليهم فهم يعلمون معاني كلام الله جل وعلا فلا يفوت معنى من معاني القرآن على مجموع الصحابة؛ بل العلم بكلام الله جل وعلا محفوظ في كلام الصحابة وما فسر به الصحابة القرآن إنما هو بعض علومهم بالقرآن، فقد ثبت عن ابن مسعود رَضِيَ اللهُ عنْهُ أنه قال: ما من آية في القرآن إلا وأعلم معناها وأعلم متى أنزلت وكيف أنزلت وفيما أنزلت. كما رواه البن جرير في مقدمة التفسير ورواه غيره. وإنما فسّر الصحابة القرآن بحسب الحاجة، إما لحاجة السؤال يأتي السائل ويقول: ما معنى قول الله جل وعلا كذا وكذا؟ وربما فسروه إبداء في كلامهم في ما يعلمون به الناس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 4 اشتهر من الصحابة رضوان الله عليهم في التفسير كثير؛ ولكن أكثرهم تفسير أربعة: عبد الله ابن عباس رَضِيَ اللهُ عنْهُ، وعبد الله بن مسعود وأبي بن كعب وعلي ابن أبي طالب رَضِيَ اللهُ عنْهُم أجمعين. هؤلاء الأربع أكثر المنقول عن الصحابة في التفسير يدور عليهم. والخلفاء الراشدون نقل عنهم التفسير يعني أبو بكر وعمر عثمان نقل عنهم أشياء من التفسير كما روى أحمد وغيره أن أبا بكر تلا قول الله جل وعلا في سورة المائدة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة: 105] ، وقال: يا أيها الناس إنكم تقرؤون هذه الآية وتضعونها في غير موضعها، وقد سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول «إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك الله أن يعمهم بعقاب من عنده» ، وقد نُقل عن أبي بكر أشياء كثيرة في التفسير ونُقل عنه أنه أحجم عن تفسير بعض الآي. وكذلك عن عمر رَضِيَ اللهُ عنْهُ، لكن المشهورون بالتفسير من الصحابة هم الأربعة الذين ذكرت أسماءهم آنفا. وتفاسير الصحابة هي التفاسير الأثرية التي يُعلم بيقين أنهم أصابوا فيها إذ لا يُحرم الصحابة العلم ويؤتاه من بعدهم. فالعلم النافع، العلم الذي هو علم صحيح لابد وأن يكون عند الصحابة رَضِيَ اللهُ عنْهُم، ولهذا كان أشرف التفسير وأعظم التفسير وأبلغ التفسير ما كان منقولا عن الصحابة رضوان الله عليهم، وهذا يأتي مفصلا إن شاء الله في مقدمة التفسير يسّر الله ذلك. تفاسير الصحابة رضوان الله عليهم تميزت بمزايا كثيرة: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 منها أنهم كانوا يعلمون القرآن، والمفسر يحتاج في مصادر تفسيره أن يعلم القرآن؛ لأن بعض الآي تكون مجملة في موضع وتكون مفصلة في موضع آخر، ويعلمون سنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آله وصحبه، والعلم بالسنة لابد مكنه في فهم كلام الله جل وعلا إذ السنة مبينة للقرآن مبينة لمجمله ربما مقيدة لمطلقه وربما مخصصة لعامه ونحو ذلك من العلوم النافعة التي لابد للمفسر منها. فالصحابة رضوان الله عليهم تميزت تفاسيرهم بأنهم يفسرون كثيرا القرآن بالقرآن، وهذا التفسير قد يكون موضحا في من قبل الصحابي الذي فسر أنه اعتمد على آية في تفسيره وقد لا يكون ذلك مذكورا، وإنما يعلم ذلك أهل العلم، وكذلك فيما يفسرون من القرآن ويكون دليلهم سنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ثم إن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا عالمين بأحوال العرب وأحوال الملل التي كانت وقت نزول القرآن، ومن المعلوم أن من مصادر التفسير المهمة العلم بالأحوال التي نزل القرآن وكان العرب على تلك الأحوال. معرفة أحوال المشركين على وجه التخصيص أحوال عبادتهم معرفة أحوالهم الاجتماعية معرفة ما يتعبدون به، معرفة أحوال اليهود، معرفة أحوال النصارى ونحو ذلك، معرفة أحوال الطوائف، لأن القرآن فيه آي كثير فيها وصف لهؤلاء، وإذا لم يكن المفسر عالما بتلك الأحوال فسر القرآن على غير بصيرة، لهذا كان من مصادر التفسير المهمة العلم بالأحوال التي كانت في زمن تنزيل القرآن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 كذلك من مميزات تفسير الصحابة أنهم أهل اللسان وأهل اللغة، والقرآن نزل بلسان عربي، ومعنى ذلك أنه يُفهم باللسان العربي، وفهمهم للغة ليس محل احتجاج ولا محل استدلال؛ لكن كانوا يعلمون ذلك من منثور كلام العرب ومن منظوم كلام العرب، ومرّ معنا ما استشهد به الرجل الهذلي في معنى قوله تعالى {أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ} [النحل: 47] ، رُوي أن عمر قال بعد أن سمع ذلك من الهذلي قال: عليكم بديوان العرب فإن به فهم كلام ربكم. ويعني بديوان العرب شعر العرب. وقد روى الطبراني في المعجم الكبير وابن الأنباري في أول كتابه الوقف والابتداء وجماعة أسئلة نافع ابن الأزرق المشهورة لابن عباس، وقد كان ابن عباس رَضِيَ اللهُ عنْهُم يُكثر تفسير القرآن، وكان يفسر أو يجيب على من يسأل على التفسير في فناء الكعبة، وكان في فناء الكعبة في ناحية من المسجد نافع ابن الأزرق وصاحب له، فقال نافع وهو من الخوارج لصاحبه: قم بنا وقد كان ابن عباس رَضِيَ اللهُ عنْهُم يكثر تفسير القرآن وكمان يفسر أو يجيب على من يسأل على التفسير في فناء الكعبة فكان في فناء الكعبة في نحاية من المسجد نافع ابن الأزرق وصاحب له. فقال نافع وهو من الخوارج لصاحبه: قم بنا إلى هذا الذي يجترئ على تفسير القرآن. يعنون به ابن عباس، وهذا من أنواع جرأة الخوارج على أهل العلم على الصحابة رضوان الله عليهم. قال: قم بنا إلى هذا الذي يجترئ على تفسير كلام الله جل وعلا نسأله عن مصادقه من كلام العرب. فقاما فقالا: يا ابن عباس إنا سائلوك عن آية من القرآن لتخبرنا بمعانيها، وتبين لنا مصادق ما تقول من كلام العرب. فقال ابن عباس لنافع ولصاحبه: سلا عما بدا لكما. فقال نافع: أخبرني عن قول الله جل وعلا {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} [المائدة: 35] ما الوسيلة؟ فقال ابن عباس الوسيلة الحاجة. فقال نافع وهل تعرف العرب ذلك؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 قال نعم ألم تسمعا لقول عنترة: إنّ الرجال لهم إليك وسيلة … … أن يأخذوك تكحلي وتخضبي قال فأخبرنا عن قول الله جل وعلا {عَنْ الْيَمِينِ وَعَنْ الشِّمَالِ عِزِينَ} [المعارج: 37] ، ما العزون؟ قال: العزون الجامعات في تفرقة. فقالا له: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم أوَ ما سمعتم قول الشاعر: فجاءوا يُهرعون إليه حتى … يكونوا حول منبره عزينا في أسئلة كثيرة معروفة اعتنى بها علماء التفسير، وإن كان بعض المحققين من المفسرين وعلماء اللغة يكرهون الاستشهاد عن معاني القرآن بالشعر كما كره ذلك ابن فارس وغيره من العلماء؛ لكن جرت سنة أهل التفسير على أنهم يستشهدون بكلام العرب لفهم ما كان غامضا من معاني القرآن، وما ذُكر عن الصحابة في الاستشهاد في الشعر كثير وإن كان في أسانيده على طريقة المحدثين ما لا يقبل. المقصود أن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا على علم تام بلغة العرب بمنظومها ومنثورها، وهذا لاشك يجعلهم في الرّيادة في تفسير كلام الله جل وعلا، وما بعدهم عندهم من النقص في التفسير بقدر نقصهم في فهم اللغة. الصحابة رضوان الله عليهم من مميزات تفاسيرهم أنه يكثر فيها اختلاف التنوع. وسيأتي في بيان مقصود التفسير أن الاختلاف في التفسير ينقسم إلى قسمين: اختلاف تنوع واختلاف تضاد؛ بل الاختلاف عموما ينقسم إلى هذين القسمين. واختلاف التنوع كالاختلاف في الأسماء مثلا فإنهم اختلفوا في تفسير الصراط في قوله تعالى {اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ} [الفاتحة: 6] ، فقال بعضهم: الإسلام. قال بعضهم: القرآن، قال بعضهم: الصراط محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وكلها كالأفراد لمعنى عام واحد هذا تفسير منهم. وهذا الاختلاف -اختلاف التنوع- منهم أفاد المفسرين بعد ذلك كثيرا؛ لأنه يكون كالإشارات يستفيد منها المفسر للتعبير عن معنى الآية بما يناسب الحاجة -حاجة الناس- لذلك لأن القرآن نزل هاديا للناس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 بعد ذلك بعد زمن الصحابة نشأت مدارس على أثر تفسير الصحابة للقرآن: فنشأ في مكة مدرسة التفسير معلمها عبد الله بن عباس رَضِيَ اللهُ عنْهُ الذي دعا له النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأن يعلمه الله التأويل فقال «اللهم علمه التأويل» وفي لفظ آخر «اللهم فقهه في الدين وعلمه الكتابة» ونحو ذلك من الألفاظ التي فيها دعاء النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ لابن عباس أكثر من مرة؛ يعني في أكثر من موضع. وابن عباس تميزت مدرسته بحذق التفسير وبحسن الكلام عليه. ومن تلامذته الذين نقلوا التفسير مجاهد ابن جبر أبو الحجاج العالم المعروف، فإنه عرض القرآن عن ابن عباس ثلاث مرات يوقفه عند كل آية يسأله عن معناها، ولهذا كان سفيان الثوري وغيره من أئمة الحديث يقولون: إذا جاءك التفسير عن مجاهد فعليك به أو فحسبك. وذلك لأنه أخذه عن ابن عباس. كذلك نقل عن ابن عباس أصحابه في مكة سعيد بن جبير وكعكرمة وكطاووس وجماعة فنشأت مدرسة التفسير في مكة، ثم توسعت هذه المدرسة في تبع التابعين وهكذا. كذلك في الكوفة في بلد البلد التي سكنها عبد الله بن مسعود إثر بعث عمر له للناس هناك يعلمهم ويفقههم، نشأت مدرسة لعبد الله بن مسعود في التفسير. وعبد الله بن مسعود رَضِيَ اللهُ عنْهُ ممن هو في الذروة في الصحابة في فهم كلام الله جل وعلا، وكثيرا ما يفسر القرآن بما يعلمه من أسباب النزول فإنه ممن أسلم قديما وكان يقرأ القرآن أحسن قراءة وقد قال في ذلك النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ «من سرّه القرآن غضا طريا كما أنزل فليقرأه على قراءة ابن أم عبد» يعني عبد الله ابن مسعود رَضِيَ اللهُ عنْهُ. نشأ في الكوفة أصحاب ابن مسعود رَضِيَ اللهُ عنْهُ نقلوا عنه التفسير وهكذا. وكذلك في المدينة نشأ أصحاب أبي بن كعب، وكذلك ما نقل من التفسير عن علي رَضِيَ اللهُ عنْهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 وهكذا حتى كثر التفسير فاحتاج الناس بعد ذلك لما ظهر التدوين إلى أن يدوّنوا تفاسير السلف، وهذه الكتب التي دوّنت تفاسير السلف تسمى كتب التفسير بالمأثور؛ لأنه ليس فيها رأي لأصحابها كتفسير عبد الرزاق بن همام الصنعاني قد طبع مؤخرا وكتفسير الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى وكتفسير بابن مردويه وكتفسير ابن المنذر وكتفسير عبد بن حميد، وتفسير ابن أبي حاتم، أتى بعد ذلك ابن جرير فجمع كثيرا من تلك التفاسير المنقولة عن السلف في كتابه المشهور بالتفسير. وهذه التفاسير المنقولة عن السلف في كتب التفسير بالمأثور هي عمدة الذين يفسرون القرآن بالمأثور عن الصحابة رضوان الله عليهم؛ لكن الصحابة رضوان الله عليهم ربما اجتهدوا في التفسير بل كثيرا ما اجتهدوا في التفسير، فليس كل ما فسروا به القرآن قد سمعوه عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو أخذوا تفسيرهم من القرآن في آية أخرى؛ بل إنهم اجتهدوا فيه. وهذا كما يقول شيخ الإسلام وغيره يقول (وَالْعِلْمُ إمَّا نَقْلٌ [مُصَدَّقٌ] عَنْ مَعْصُومٍ وَإِمَّا قَوْلٌ عَلَيْهِ دَلِيلٌ مَعْلُومٌ) ، (إمَّا نَقْلٌ مُصَدَّقٌ. وَإِمَّا [قول] (1) مُحَقَّقٌ بالبرهان. والصحابة رضوان الله عليهم فيما اجتهدوا فيه في التفسير لم يفسروا القرآن بالرأي المجرد المذموم الذي جاءت الأدلة بذمه وإنما فسروا القرآن بما عندهم من آلات الاجتهاد والاستنباط. ولهذا أهل العلم بعد ذلك ربما فسروا القرآن بالاجتهاد وبالاستنباط لأن الصحابة رضوان الله عليهم فسروا القرآن بالاجتهاد وبالاستنباط، فظهرت هناك تفاسير اجتهد فيها أصحابها أن يفسروا القرآن إما على وفق اللغة في كتاب مجاز القرآن ويعني بالمجاز معاني القرآن لأبي عبيدة معمر بن المثنى الإمام اللغوي المعروف، وككتاب الفراء معاني القرآن ونحو ذلك.   (1) استدلال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 فنشأ مع مدرسة التفسير بالمأثور مدرسة أخرى في التفسير هي تفسير بالاجتهاد وبالاستنباط إما من جهة النظر في اللغة وإما من جهة النظر في النحو، وإما من جهة النظر في أسباب النزول ونحو ذلك، وأولئك الذين فسروا بالرأي يعني بالاجتهاد بالاستنباط منهم المصيب ومنهم المخطئ. ابن جرير الطبري رحمه الله جمع علوم من قبله في كتابه الذي يعد أعظم كتب التفسير المؤلفة التي وصلت إلينا؛ فإنه جمع فيها ما نُقل في التفسير عن الصحابة بالأسانيد المشهورة عند المفسرين -المرضية عند المفسرين- وأخلى تفسيره من رواية المتهمين بالكذب كما يقوله كثير من أهل العلم، وساق أسانيد ساق أقوال السلف أقوال أهل الأثر بالأسانيد المشهورة التي يتناقلها العلماء عنهم، وذكر أيضا ما نقله أولئك عن الأئمة أو عن العلماء الذين فسروا القرآن بالاستنباط وبالاجتهاد؛ فترى في تفسير ابن جرير رحمه الله تعالى أنه يورد التفاسير بالمأثور ويورد التفسير بالاجتهاد؛ بل إنه يذكر أحيانا تصويبا لقولٍ من الأقوال مع أنه تسنده قراءة متواترة ويخطئ الأخرى، وذلك مصير منه إلى أن التفسير بالاجتهاد والاستنباط لا بأس به إذا كان عند المفسر بالاجتهاد وبالاستنباط ملكة واكتملت فيه شروط الاجتهاد في التفسير، فإن الاجتهاد في التفسير شروط قد بينها العلماء تأتي في موضعها في مقدمة أصول التفسير إن شاء الله تعالى. فتفسير ابن جرير يعد الكتاب العظيم في التفسير ترى فيه البحث في القراءات، ترى فيه البحث في اللسان واللغة، ترى فيه الاحتجاج بأبيات العرب على المعاني، ترى فيه المباحث النحوية المختلفة والاحتجاج لأحد الأقوال بقول طائفة من النحاة ونحو ذلك، فالإمام ابن جرير خلط هذه العلوم في تفسيره، ترى فيه البحوث الفقهية عند بعض الآيات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 يعني أن كتاب ابن جرير رحمه الله تعالى يعد كتابا جامعا لعلوم التفسير، ففيه التفسير الفقهي وفيه التفسير النحوي، وفيه التفسير اللغوي وفيه وإن كان على قلة والتفسير البلاغي وفيه التفسير الإجمالي، وفيه التفسير التفصيلي، وفيه التفسير بالأثر وهو غالب عليه وهكذا في أنواع من التفسير. الناس بعد ذلك في التفسير أخذوا علوم ابن جرير ونثروها في مصنفات في التفسير: فمنهم من أخذ التفاسير الفقهية وأحكام القرآن فأفردها فصارت هناك مدرسة لتفسير القرآن بخصوص الأحكام وهي التي يسمي أصحابها كتبهم أحكام القرآن، فاعتنى الشافعية مثلا بتفسير لهم يعتني بأحكام القرآن إما على طريقتهم في الفقه وإما على ما اجتهد فيه مؤلف ذلك التفسير كتفسير أحكام القرآن لإلكيا ... وكذلك المالكية وكذلك الحنفية فسر ابن عطية القرآن وأورد فيه أحكاما كثيرة وابن العربي المالكي في كتابه أحكام القرآن والقرطبي المالكي في كتاب أحكام القرآن. وكذلك الحنفية في كتاب القرآن للجصاص وغيره من الكتب. وكذلك الحنابلة وهكذا. في مدرسة فقهية اعتنى أصحابها ببعض علوم القرآن ببعض تفسير القرآن، وهو ما يستنبط من آي القرآن من أحكام فقهية. هناك مدرسة أخرى اعتنت بالقراءات وتفسير القرآن بالقراءات ولها مصنفات. هناك مدرسة أخرى اعتنى أصحابها بالتفسير بتفسير القرآن على وفق اللغة إما من جهة المفردات كغريب القرآن وهي كثيرة، وإما من جهة الاشتقاق، وإما من جهة البلاغة ككتاب الزمخشري، في تفاسير مختلفة. ومن ذلك تفاسير نحوية اعتنى أصحابها بتفسير القرآن على وجه النحو. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 ومنها تفاسير عقدية اعتنى فيها أصحابها بأن يفسروا القرآن على ما تقتضيه عقيدة ذلك المفسر، وقد دخل أهل البدع وأهل الضلالات والفرق الضالة في نشر عقائدهم وبدعهم وضلالاتهم عن طريق تفسير القرآن؛ لأن تفسير القرآن يقبل عليه العامي ويقبل عليه المتعلم، يأخذون هذا العلم فأدخلوا عقائدهم وبدعهم عن طريق تفسير القرآن، فكثرت التفاسير التي فيها العقائد المذمومة والبدع المردية في أنواع من التفاسير كتفسير الماوردي وتفسير الكشاف للزمخشري ونحوها من التفاسير وكتفسير الرازي وأبي السعود ونحوها التفاسير التي ملئت بعقائد أصحابها إما المعتزلة وإما الأشاعرة وإما الماتوريدية كتفسير النسفي ونحو ذلك من أنواع التفاسير. وأهل السنة أيضا اعتنوا بتفاسير القرآن، فهم في تفسير القرآن بين غيرهم كالشامة في البدن في حسنها وظهورها؛ فإنهم فسروا القرآن على وَفق تفاسير السلف واجتهدوا واستنبطوا من آي القرآن ما لم يَأثروا فيه علما عن السلف لكن كان على وفق العلم النافع فإن أقوالهم في ذلك أقوال محققة منقولة عن السلف أو أقوال مدعومة بالأدلة، هذا كتفسير البغوي رحمه الله تعالى وتفسير ابن الكثير والتفاسير المنقولة عن شيخ الإسلام ابن تيمية وعن ابن القيم ونحوهم من أهل العلم، في هذا الأصل فسر عدد من أهل العلم تفاسير حسنة من جنس تفاسير مدرسة الأثر أو التفاسير السلفية كتفسير الشيخ عبد الرحمن بن سعدي ونحوه. المقصود من هذا أن التفاسير كثرت جدا في مدارس مختلفة، فما الذي يجب على طالب العلم بالتفسير، هل يأخذ كل هذه التفاسير بعضها مختصر وبعضها مطول، بعضها تفاسير موسوعية مثل تفسير الفخر الرازي يذكر فيه كل شيء ومثل تفسير الألوسي روح المعاني تفاسير كثيرة مختلفة، فأيها يعتني به طالب العلم؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 لاشك أن العلم بالتفسير أمر مهم والتفاسير ما بين مختصرة ومطولة، فالذي ينبغي على طالب العلم بالتفسير أن يعتني أولا بمعاني المفردات أن يعلم المعنى للمفردة؛ يعني في آية لا يعلم معنى الكلمة منها يذهب يبحث عن معنى هذه الكلمة في التفاسير المختصرة ومن التفاسير المختصرة التي تعتني ببيان بعض الكلمات تفسير الجلالين -الجلال المحلي والجلال السيوطي- على بدع في تفسيرهما؛ لكن العلماء في هذه البلاد قد أقرؤوا على التفسير للطلاب في مرحلة المعاهد كما هو معلوم؛ وذلك لأن البدع التي فيه معلومة وهي قليلة بالنسبة للانتفاع الكثير الذي فيه، وإذا رام التفصيل أكثر له أن يستزيد يذهب إلى تفسير ابن كثير إلى تفسير ابن جرير إلى تفاسير أهل اللغة وهكذا. ثم يعتني بعد قراءته كتب المفردات بقراءة كتب التفسير المختصرة كما ذكرت لك من تفسير الجلالين مثلا أو إذا كان عنده صبر لتفسير ابن كثير رحمه الله تعالى أو إذا رام المزيد في تفسير ابن جرير وهكذا. فإذن العلم بالتفسير لابد أن يكون على وفق التدرج؛ لأنك إذا فرأت كتبا مطولة في التفسير ربما استحضرت بعض المعاني ولم تستحضر البعض، ومن المعلوم أن العناية بعلم التفسير في هذا الوقت؛ بل وفي طلاب العلم عندنا قليلة، ولهذا مما ينبغي أن يُحفظ هذا العلم وأن يعتني به؛ لأن فهم معاني كلام الله جل وعلا أعز ما يكون، وإن في فهم القرآن وفي فهم تفسير القرآن إن فيه من العلم ما لا يوصف ولا يحفظ يَعرفه من أقبل عليه. إذن يكون طالب العلم في قراءته التفسير يبدأ بالمختصر ثم يتدرج. أما عن طريقتنا في التفسير إن شاء الله تعالى التي سنفسر بها القرآن فثم طريقتان طريقة مختصرة وطريقة مطولة: أما الطريقة المختصرة فهي أن يؤخذ كتاب من كتب التفسير المختصرة ويُقرأ ثم يقرر عليه؛ يعني يشرح ما غمض منه ويبين ما فيه يوضح معنى الآية إن كان ثم مزيدا على ما ذكره المفسر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 وهناك طريقة أخرى مطولة أحسبها أنا أنفع للمتعلمين لأنها وإن كانت مطولة والتفسير الذي يقطع معها قليل لكنها تضع أصولا لطالب العلم بالتفسير يمكنه معها إذا فهمها أن يقيس عليها وأن يطلب علم التفسير على منوالها: وهي أن يؤخذ في فهم الآية بالمعنى العام أولا المعنى الإجمالي الذي يحتاجه طالب العلم في فهم المعنى العام للآية وهو الذي تعتني به بعض التفاسير الذي يسمى تفسير الإجمالي للآية. ثم بعد ذلك يؤتى للتفسير التفصيلي للآية في فهم معانيها ومفرداتها وما فيها من البلاغة وتركيباتها؛ لأن في هذا من العلم بإعجاز القرآن، والعلم بأنواع من العلوم المهمة، العلم بالسنة، العلم بالعقيدة في تقرير التوحيد، العلم باللغة بالاشتقاق بالبلاغة بالنحو، ونحو ذلك من العلوم المهمة التي ربما لم يهتم بها طالب العلم إلا إذا سمعها من جهة التفسير. لهذا نقول التفسير فيمن رام تسير القرآن ينبغي أن يكون مستحضرا فيه أن القرآن نزل هاديا للناس، والله جل وعلا جعل القرآن نورا والقرآن شفاء لما في الصدور وهدى للناس وبينات، فهو مبين وهو هاد وهو نور. وعلى هذا ينبغي أن يكون المفسّر في تفسيره للقرآن ينظر إلى أن المقصود منه أ، يهدي للتي هي أقوم {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9] ، وحال الناس في كل زمن مختلفة، فكل زمن الناس فيه بحاجة لهداية القرآن والقرآن يهدي للتي هي أقوم، والمفسر الذي يفسر القرآن أول ما يجب عليه أن ينظر إلى أن القرآن كتاب هداية، فيفسر القرآن ليهتدي به الناس. فإذا كان الناس في مرض في نفوسهم بقلة تعبد مثلا كان تفسيره منظورا به إلى هذه الجهة. إذا كان الناس في ضعف من الاهتمام بالعقيدة والتوحيد وعدم معرفة بتواطؤ الأدلة في ذلك، فإنه يعتني في تفسير القرآن ببيان حق الله جل وعلا وتوحيده وما كان عليه أهل الشرك من العبادات الباطلة، وهذا لاشك أنه في هذا الزمان أحوج ما نكون إليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 كذلك إذا كان الناس في أمور في مجتمعهم أو في أنفسهم من منكرات فاشية ومن ضلالات فاشية أو تُفشى في الناس فيعتني المفسر ببيان مواقع الحجج على إبطال ذلك وإصلاح الناس وإصلاح المجتمع عن طريق تفسير القرآن؛ لأن القرآن نزل هاديا للناس وهو يهدي للتي هي أقوم. ولاشك أن العناية بالتفسير غرض كل متعلم، وما أحسن ندم شيخ الإسلام رحمه الله تعالى في آخر عمره على أنه لم يستغل طوال عمره بتفسير القرآن للناس نعم فسر القرآن في مواضع كثيرة، وما نقل عنه من تفسير القرآن هو كالشمس ضياء في وضوحه وبرهانه ودلالاته؛ لكن هو ندم على أنه لم يهدِ الناس عن طريق تفسير القرآن، وقد ذكر من ترجم له كابن عبد الهادي وغيره أنه مكث سنة كاملة يفسر سورة نوح وهي سورة قصيرة يفسر سورة نوح، مكث سنة كاملة يفسرها يوم الجمعة في مجلس له في التفسير، وهذا لا يكون له إلا على وجه التفسير المطول ليس التفسير الذي فيه بيان معاني الكلمات وحسب؛ بل التفسير المطول الذي يعرض فيه المفسر لما يحتاجه الناس من العلم بالتفسير، وهذا ولاشك هو أمثل الطرق لأن المقصود هداية الناس بالتفسير، وأما إسماع الناس التفسير فإن القرآن طويل، وتفسيره يأخذ أعمارا خاصة إذا لاحظنا أنه في مثل هذا الزمان لا يصبر الناس على دروس يومية في التفسير وإنما إذا صبروا صَبروا على درس واحد في الأسبوع أو اثنين في الأسبوع، وهذا لا يمكن معه أن يفسر القرآن كاملا إلا أن يُقرأ كتاب مختصر في التفسير ويعلق عليه تعليقات يسيرة فإنه ربما ختم في بضع سنين. هذا العلم بالتفسير الذي كان عند شيخ الإسلام رحمه الله تعالى وورثه لأصحابه رحمهم الله تعالى على هذه الطريقة، هذا يحتاجه الناس ولاشك فالقرآن هو الشفاء وهو الهداية، من رام الهدى في غيره أضله الله، ولكن الشأن في فهم معاني القرآن، هل كل يفسر .... الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 هذا له مدرسة كبيرة هي مدرسة تفسير القرآن بالرأي؛ ويُعني بالرأي في هذا الموضع عند أهل التفسير الاستنباط والاجتهاد، فمعنى تفسير القرآن بالرأي تفسيره بالاجتهاد، والرأي رأيان رأي ممدوح ورأي مذموم: أما الرأي الممدوح فهو تفسير القرآن بالاستنباط وبالاجتهاد على وَفق الأصول المعتبرة في الاستنباط والاجتهاد، وفسر الصحابة كما ذكرت لكم بالاستنباط، هناك شروط لمن يفسر القرآن بالاجتهاد والاستنباط، وهذه الشروط جماعها: أولا أن يكون عالما بالقرآن حافظا له، يعني مستظهرا لآياته عالما بمواقع حججه، مستحضرا لكثير من القراءات المختلفة فيه؛ لأن القراءات المختلفة تفسير لبعض القرآن كما في قراءة مثلا كما في قوله تعالى {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} فإنه في القراءة الأخرى {وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ يَطَّهَّرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ} [البقرة: 222] فهذه تفسير لقوله {حَتَّىَ يَطْهُرْنَ} ، {حَتَّىَ يَطَّهَّرْنَ} قراءة أخرى تفسير لقوله {يَطْهُرْنَ} . فإذن العلم بالقرآن بحفظه واستظهاره ومعرفة مواقع حججه، هذا شرط أول فيمن يريد أن يفسّر القرآن بالاستنباط والاجتهاد. أيضا أن يكون عالما بالسنة إما بالقوة القريبة؛ يعني بالبحث أو بالملكة أن يكون حافظا للسنة ونحو ذلك أو بالبحث ... (1) يكون عالما كيف يعلم ما بينت السنة من القرآن وكيف يُثبت ذلك يعني أن يكون عارفا بطريقة إثبات السنن وهو المعروف عند أهل العلم بعلم مصطلح الحديث وعلم الرجال، فلابد للمفسر -المفسر بالاستنباط والاجتهاد- أن يكون عالما بالسنة بالبحث بالحفظ أو بالبحث وعالما بطريقة إثبات السنن عن طريق علم مصطلح الحديث والجرح والتعديل وقواعد ذلك.   (1) انتهى الوجه الأول من الشريط الأول. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 كذلك من الشروط أن يكون عالما بلغة العرب؛ يعني عنده معرفة بلغة العرب في مفرداتها وفي نحوها وفي علم المعاني بخصوصه من علم البلاغة ونحو ذلك من علوم اللسان العربي الشريف. وهذه لابد منها للمفسر؛ لأن من فسر القرآن بالاستنباط وبالاجتهاد وهو جاهل باللغة فإن تفسيره من قبل الرأي المذموم الذي ورد فيه النهي. كذلك يحتاج المفسر أن يكون عالما بأصول الفقه؛ لأن أصول الفقه هي أصول الاستنباط، وأصول الاستنباط يحتاجها المفسر كثيرا، فكثير من مواضع الاجتهاد والاستنباط إنما تكون عن طريق أصول الفقه، أرأيت مثلا مجيء الخاص بعد العام، أو مجيء المبيَّن بعد المجمل، أو مجيء المقيد بعد المطلق، أو مجيء النص أو مجيء الظاهر أو الحقيقة أو نحو ذلك التي كلها من مباحث أصول الفقه، فمن لم يكن ضابطا لأصول الفقه فإنه لا يحسن له بل يذم إذا تعاطى التفسير بالاجتهاد فيه. في علوم أخر ذكرها أهل العلم ثم ختامها وواسطة عقدها أن يكون عالما بكلام أهل السنة في توحيد الله جل وعلا، عالما بالاعتقاد الحق الذي دلت عليه النصوص من الكتاب والسنة وأجمع عليه سلف الأمة؛ لأن هذا الاعتقاد الذي هو حق لا مرية فيه لابد أن يفسر القرآن على وفقه، فمن كان جاهلا بذلك جهلا بسيطا فإنه إذا فسر القرآن في آيات الاعتقاد والقرآن كما هو معلوم توحيد كله فإنه يَضل وربما يُضل، ومن كان عنده الجهل المركب في هذا الباب وفي هذا العلم الذي هو العلم بالتوحيد علم الاعتقاد بأن كان يعتقد خلاف الحق من أصحاب الأقوال الزائغة والأقوال المبتدعة فإن هذا يَحرم عليه أن يفسر القرآن على وفق آرائه المبتدعة الضالة التي ما كانت على وفق نصوص الكتاب والسنة، وإنما كانت على وفق تقديم العقل على النقل كما هي أصول أهل البدع بأجمعهم. هذه العلوم لابد منها لمن يستنبط معاني القرآن. الرأي الثاني الرأي المذموم وهو قسمان: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 أن يفسر القرآن برأي عن جهالة أو أن يفسر القرآن برأيٍ باطل إما باعتقاد له أو نحلة له ونحو ذلك كتفاسير أهل البدع، تفاسير أهل البدع للقرآن هي كلها من قبيل الرأي المذموم الذي جاءت به عدة أحاديث تنهى عنه وتتوعد من فسر القرآن برأيه بأن يتبوأ مقعده من النار. هذه الخلاصة ومقدمة لما سنتعاطاه في هذه الدروس من التفسير. وفي مقدمة التفسير أو في أصول التفسير سنقرأ إن شاء الله تعالى مقدمة شيخ الإسلام في أصول التفسير، مع بيان ما اشتملت عليه من العلوم النافعة المتصلة بتفسير القرآن. وأما في التفسير نفسه فسنبتدئ إن شاء الله تعالى بتفسير سورة الفاتحة فإذا أتممناها، إما أن تختاروا كتابا في التفسير، وإما أن تختاروا تفسيرا للقرآن على منوال ما ستسمعون إن شاء الله تعالى من تفسير سورة الفاتحة، ونرجئ الاختيار إلى الدرس القادم إن شاء الله تعالى. أسأل الله جل وعلا وأن ينفعني وإياكم بالقرآن، وأن يرفعنا به وأن يجعله حجة لنا وأن يجعله مظللا لنا يوم القيامة. وأسأله جل وعلا أن يوفقني وإياكم للسداد في القول في تفسير القرآن وفي فهمه إنه أكرم مسؤول. اللهم إنا نسألك بصيرة في قلوبنا وبصيرة في أقوالنا وبصيرة في أعمالنا، ربنا لا تكلنا لأنفسنا طرفة عين فإنه لا حول لنا ولا قوة إلا بك، وصلى الله وسلم على نبينا محمد. [الأسئلة] السؤالان الأولان يسألان عن تفسير في ظلال القرآن لسيد قطب. س1/ وهذا يقول: كما تلاحظ الحضور فيهم مبتدئون في الطلب ولو استخدمنا طريقة التفسير المطولة فستكون شاقة عليهم. - أخشى أن تكون شاقة على السائل أيضا- وسوف تطول مدة التفسير جدا خصوصا وأن الدرس مدته قصيرة جدا ويوم واحد. ج/ على كل حال إن أخذنا بالطريقة المطولة فلنا فيها سلف، وقد فسر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى سورة نوح في سنة، نحن لو فسرنا مثل سورة نوح في شهر ما أظن تكون مطولة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 وأما الطريقة المختصرة فالتفضيل بينها وبين الطريقة المطولة أتركها لكم بعد إسماعكم إن شاء الله تعالى تفسير سورة الفاتحة. س2/ يقول: لو غُيّر وقت الدرس إلى مغرب السبت أو مغرب الاثنين؛ لأن مغرب الأحد يوافق درس سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز حفظه الله تعالى ونحن محتاجون لمثل هذا الدرس في التفسير. ج/ الواقع أن تغيير هذا اليوم بالنسبة لي لا يمكن؛ لأن كل يوم بعد المغرب عندي درس في الجهة التي أسكن فيها، وقد تباحثنا في هذا الأمر مع الأخ الشيخ سعد حفظه الله، ورُئي أنه لا أنسب من هذا اليوم. ولاشك أنه مما يحز على النفس؛ بل يعظم على النفس أن يكون فينا الشيخ عبد العزيز بن باز حفظه الله وأن يُقبل الشباب وطلاب العلم على مثل هذا الدرس أو على أمثاله، فإن العلم إنما يؤخذ عن الأكابر وهذه سنة العلم؛ لكن كثر طلب العلم وكثر الشباب واحتاجوا إلى دروس مختلفة، اُرتكب شيء من المفسدة في ذلك وإلا فإن الأصل أن الدرس وطلب العلم يكون عند الأكابر عند أكابر العلماء لأنهم هم الحقيقون بالعلم الذين يفهمون العلم ويفهمون أدلته ويبينونه على وَفق ما عُلِّموه أو على وفق ما اجتهدوا فيه وهم أهل لذلك كله. لكن لا يمكن إما أن نترك هذا الدرس ولو كان الحضور جميعا أو الأغلب فيهم أنهم سيحضرون درس الشيخ عبد العزيز حفظه الله لما عُقد هذا الدرس أصلا؛ لكن رئي أن كثيرين من الشباب لا يحضرون الدرس أصلا، فمجيء هذا الدرس في وقت درس الشيخ بما نتج من البحث مع الإمام وفقه الله وجد أنه لا بأس به، وإلا فإن في النفس حسرة من ذلك؛ لكن الشكوى على الله جل وعلا. س3/ ما اسم كتاب شيخ الإسلام في أصول التفسير؟ ج/ اسمه مقدمة في أصول التفسير هي التي سنبدأ بها إن شاء الله تعالى من الدرس القادم. س4/ ما رأيكم في الكتب التالية: التحرير والتنوير، في ظلال القرآن، أيسر التفاسير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 ج/ السؤال عن التفاسير ربما يطول لعله يكون أسئلة عن علم أخص من السؤال عن التفاسير لأني ذكرت لكم مدارس التفسير المختلفة. س5/ هذا سؤال مهم يقول ذكرت أن من مدارس تفسير أهل السنة تفسير الإمام البغوي، فما تعليلكم لاضطرابه في بعض آيات الصفات؟ ج/ هو لم يضطرب، ربما نقل تفسيرا ظاهره التأويل؛ لكن يحمل على أنه تفسير باللازم، وهذا ربما وقع في تفسير ابن كثير وتفاسير بعض أهل السنة فإنهم يذكرون المعنى المراد الذي يلزم من المعنى الأصلي، مثلا في قوله تعالى {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ} [فصلت: 11] ، يقول {اسْتَوَى} بمعنى قصد، ومعلوم أن الاستواء في اللغة وفي تفاسير السلف لا يكون بمعنى القصد؛ لكن هنا فسروا استوى بمعنى قصد لأنه عُدي بـ {إِلَى} والتعدية بـ {إِلَى} أفادت أنّ {اسْتَوَى} مضمّنة معنى فعل آخر يناسب التعدية بـ {إِلَى} ، {اسْتَوَى إِلَى} استوى معناها في اللغة في تفاسير السلف على، {اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} يعني استوى على السماء، فلم فسرت بالقصد هنا؟ فإن هذا التفسير لا يعد تأويلا لأنه تفسير باللازم لأن المعنى الأصلي معروف وإنما هذا المعنى الثاني؛ يعني لأن الكلمة استوى مثلا مضمنة مع المعنى الأصلي معنى قصَد، فَهُم لم يذكروا المعنى الأصلي لظهروه، وإنما ذكروا المعنى الثاني لأنه هو الذي يُحتاج إليه؛ لأن التعدية بحرف (إلى) مثلا في هذا الموضوع يدل على أن المحتاج إليه لم عُديت بـ {إِلَى} ، وهذا يسمى تفسير باللازم، والتفسير هذا لا ينفي المعنى الأول ولا يعد تأويلا، وإنما هو تفسير بلازم الإثبات. فإذن يكون تفسير {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} بقصد هذا تفسير باللازم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 والفرق بين التفسير باللازم والتفسير بالمطابقة هذا سيأتي إن شاء الله مفصلا في قاعدة شيخ الإسلام أو في المقدمة؛ وهو أن اللفظ له دلالات: دلالة بالمطابقة، ودلالة بالتضمن، ودلالة التزام، وهذا اللازم هو خارج عن اللفظ عن مطابقته وعما تضمنه ولكن قد يكون مضمنا إذا كان معدًّى بحرف يناسب الفعل الذي ضمن فيه مثل {اسْتَوَى إِلَى} استوى إلى إذا كانت بمعنى على فهي تكون معداة بـ: على. يعني (على) التي هي حرف جر كما قال جل وعلا {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] ، {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ} [الفرقان: 59] استوى تعدى بـ (على) ، {فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ} [المؤمنون: 28] ، هذا بمعنى العلو، فإذا أُريد بأن يكون مع العلو معنى آخر ضُمِّن اللفظ الأول معنىً -معنى فعل آخر- ودُلّ عليه بتعديته بحرف جر يناسب المعنى الذي ليس بمطابقة اللفظ مثل هنا {اسْتَوَى إِلَى} لما عدى بحرف الجر (إلى) علمنا أنه ضُمن معنى قصد. وهذا التفسير فيه إثبات للمعنى الأول فيكون المعنى (على) على السماء قاصدا إلى السماء، فليس نفي للمعنى الأول فيكون تأويلا أو تحريفا للكلم عن مواضعه وإنما فيه إثبات للمعنى الأول وإثبات معنى ثان دل عليه المقام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 وهذا له نظائر التضمين له نظائر مثلا في قوله جل وعلا في سورة الحج {وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج: 25] ، قال {وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ} معلوم أن كلمة (أراد) تتعدى بنفسها يقال: أراد كذا، أراد الخير، أراد الشر، {فَمَن يُرِدِ اللهُ أَن يَهْدِيَهُ} يعني من يرد الله هدايته، تتعدى بنفسها عدى أراد بحرف جر الذي هو الباء {وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ} لو كانت أراد بمعنى أراد المعروف لكانت التعدية بدون الباء: ومن يريد فيه إلحادا بظلم؛ لكن لما عداه بالباء دلّنا على أن أراد مع معناها الأصلي ضُمنت معنى فعل آخر يناسب هذا الحرف الذي عُدي به والي يناسب الباء هو الهم؛ لأنه يقال همّ بكذا، ولهذا كثيرون من أهل التفسير يقولون إن معنى قوله {وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ} يعني من هم فيه بإلحاد، وهذا من خصائص مكة كما قرره ابن القيم مفصلا في أول الهدي النبوي يعني أول زاد المعاد، وهذا له نظائر. فإذن ليس كل ما يكون ظاهره -في تفسير البغوي أو غيره- يكون ظاهره ليس تفسيرا للصفة بما هو معناها مطابقة أنه يكون تأويلا ومخالفة لمنهج السلف، لا، أحيانا يكون تفسيرا باللازم. وهذا من العلم المهم أن يعرف، ويأتي إن شاء الله التنبيه عليه في مواضعه. س6/ فيه ثلاثة أسئلة عن كتاب في ظلال القرآن، وسؤال عن كتاب التحرير والتوير، وسؤال عن أيسر التفاسير؟ ج/ أما كتاب التحرير والتنوير فهو كتاب اعتنى به صاحبه بالبلاغة، ومؤلفه هو ابن عاشور أحد علماء تونس المشهورين في اللغة الحفاظ، وله مؤلفات في البلاغة، منها موجز في البلاغة نفيس جدا له مطبوع في تونس قديما وطبق قواعد البلاغة في تفسير القرآن؛ لكنه ما فرق في البلاغة لين البلاغة العربية السلفية وبين البلاغة المعتزلية الخلفية؛ فإن البلاغة قسمان: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 منها بلاغة، يعني النظر في علوم اللغة في القرآن على وَفق ما وضع من قواعد البلاعة ويكون هذا صحيحا، وهذا إذا كان على وفق علوم العرب وما قرره السلف وما قرر في العقائد فهذا لاشك من العلم النافع الغزير. ومنها أشياء مما أحدثه الناس بعد ذلك ولا يُحتاج إليها أصلا. فهو خلط هذا؛ يعني طبق قواعد البلاغة وأسس البلاغة وتفصيلات البلاغة في القرآن وهو كتاب نافع للمتخصصين، أما طالب العلم المبتدئ، فلا يذهب إليه ولا يطّلع عليه؛ لأن فيه كثيرا من التأويلات والتحريفات التي في جنسه من كتب من لم يستق من عين عقيدة السلف رحمهم الله تعالى. وكتاب أيسر التفاسير للجزائري هو كتاب مختصر وعليه بعض الملاحظات؛ لكن في الجملة لا بأس به، في الجملة لا بأس به وعليه بعض الملاحظات لاحظها عليه العلماء، ما يحتاج نمثل بأمثلة، موجودة الملاحظات، وهو في الجملة كتاب نافع سليم من البدع؛ لكن ربما نقل أشياء أو ظن أشياء من الحق وهي من أقوال البدع أو من أقوال أهل العصر في المحدثات وتشبيه ما في القرآن من أخبار بما في العصر من مستجدات ووسائل ونحو ذلك. أما كتاب في ظلال القرآن فهو كتاب دعوي، ولا يصح أن يُنسب إلى كتب التفاسير وإنما هو كما ذكر صاحبه في مقدمة كتابه أنه مشاعر له وتدبُّر في الآيات، فليس من كتب التفاسير؛ لأنه لم يفسر الآية على وفق تفاسير الذين اعتنوا بالتفسير، وإن كان يسمى تفسيرا في هذا العصر؛ لأنه كثرت كتب التفاسير التي على منواله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 هو كتاب رام صاحبه فيه أن يضع قواعد ومرجعا للدعاة ولمن يتأثرون بطريقته على القرآن الكريم، وكتابه في مواضع أحسن العبارة جدا مما يُستفاد منه، وفي مواضع أخر أساء العبارة لما فيه من تأويلات وما فيه من متابعة للمعتزلة أو متابعة للأشاعرة، وهو ليس عنده أمر واضح بل ربما انتقد السلف في اهتمامهم ببعض مسائل الاعتقاد كما ذكر في أول سورة الأنفال عند قوله {زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} [الأنفال: 2] ، فإنه ظنّ أن مبحث أو ذكر أن مبحث زيادة الإيمان ونقصانه أنه مباحث علم الكلام، وهذا في أمثاله من المآخذات الكبيرة عليه، هذا في مسائل الصفات. وهناك فيه مسائل أخر كمسائل التكفير فإن عند مؤلفه وهو السيد قطب إبراهيم رحمه الله تعالى عنده كثير من الغلو في هذه المسائل، ففي سورة الأنعام مثلا عند قوله تعالى {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام: 121] ، تكلّم بكلام على أن مجرّد طاعة الكفار يكون مشركا، ولهذا من تلمذ لكتابه هذا واقتصر عليه ربما خرج لأفكار من نحو هذه. وفي أمثال ذلك من مثل كلامه على أن النساء اللاتي يتابعن ما تُخرجه-على حسب قوله- آلهة الأزياء في فرنسا. يقول: لم يعلم النساء أولئك -يعني به مصممي الأزياء في فرنسا في الكاتالوجات هذه المعروفة- يقول: لم يعلم أولئك النساء أنهن اتخذن أولئك المصممين آلهة؛ لأنهن أطعن أولئك المصممين في تحريم الحلال وفي تحليل الحرام، فليسن ما حرم الله طاعة لأولئك فأطعن النساء أطعن آلهة الأزياء. وسمى أولئك آلهة، وهذه لاشك أنه من الغلو ونحو ذلك. فالكتاب فيه مواضع مفيدة، وفيه مواضع كثيرة جدا فيها أنواع من الانحراف عن جادة معتقد السلف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 ولهذا الذي ليس عنده علم بالتفسير لا يحسن به أن يقرأ مثل هذا الكتاب والذي ليس متحصنا في عقيدة لا يحسن به أن يقرأ مثل هذا الكتاب، إلا إن اختار له أحد من أهل العلم فيه موضعا معينا أحسن فيه وأجاد، هذا ربما كان سائغا؛ ولكن في كتب أئمة السلف وفي التفاسير النافعة ما يغني عنه، وفي كلام علمائنا وأهل الحق الذين بيّنوا ما يجب بيانه من معاني كلام الله جل وعلا أو من مسائل الدعوة أو نحو ذلك فيه كفاية عن مثل هذا التفسير. فالمقصود من هذا أن الواجب أن يعتني طالب العلم بالتفسير بتفاسير السلف؛ لأنه يريد أن يعلم علما نافعا واضحا لا إشكال فيه لمعاني كلام الله جل وعلا، فكيف يعرّض نفسه للهلكة بإقباله على كتب مختلفة، ربما لم يحسن استخراج ما خالف فيها أصحابها منهج السلف الصالح رضوان الله عليهم. لهذا في هذه البلاد كان العلماء من قديم يمنعون التفاسير الضالة مثل تفسير الفخر الرازي مثلا أو مثل تفاسير الأشاعرة ونحوها تمنع من نحو عشرين ثلاثين سنة بعد ثلاثين يعني من عشرين سنة فأكثر أو نقول خمس وعشرون سنة فأكثر كانت تمنع تفاسير مثل تفسير الفخر الرازي لا يباع أصلا، وقد ذكر لي بعض علمائنا أنه لما كان يدرس التفسير على -يعني في الكليات- وكان يدرسهم الشيخ عبد الرزاق عفيفي حفظه الله ذكروا له أنه: لِمَ لا نرجع إلى تفسير الفخر الرازي ولتفسير فلان ولتفسير فلان؟ فقال لهم كلمة من بصير حاذق ناقد قال: علماؤكم أرادوا لكم السلامة في دينكم، وتلكم الكتب فيها شوك وأنتم لا تحسنون الابتعاد عن الشوك، ولا استخراج الشوك. هذه كلمة معبرة نفيسة منه رحمه الله، مثل تفاسير الأشاعرة الكبيرة ما كانت تباع عندنا من قديم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 ولهذا ينبغي على أهل العلم أن ينبهوا طلاب العلم على العلم النافع المستقى من كلام أئمة السلف وتفاسير السلف فيها كفاية، وإذا احتيج إلى غيرها لمسألة فيه أو لبلاغة أو لبيان أو نحو ذلك فينبغي أن يكون القارئ على أشد الحذر من التأثر بتلك الكتب. س/ الشيخ: التفاسير كثيرة يعني لو تسألون عن كل تفسير فيه أكثر من مائة تفسير. سؤال عن فتح البيان للصديق حسن خان، ما رأيكم في تفسير الجلالين؟ ج/ يعني الكتب كتب التفسير كثيرة فصعب أن نجيب عن هذه الأسئلة لأنني إذا أجبت أنا بإجابة مختصرة تناسب المقام ربما ما أعطيناك فكرة كافية عن تلكم التفاسير، وإذا أطلنا فيها لم يناسب المقام وربما صار فيه تضييق على بعض الأسئلة الأخرى، ولهذا حبذا لو لم يسأل عن كتب التفسير، إذا كانت فيه مسائل معينة في قواعد التفسير في أصول التفسير وكان ثم علم فيها أجيب عنها إن شاء الله تعالى. وفقني الله جل وعلا وإياكم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد. (( (( ( أعدّ هذه المادّة: سالم الجزائري الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 الدرس الثاني بسم الله الرحمن الرحيم [المتن] قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية الحرَّاني رحمه الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم رَبِّ يَسِّرْ وَأَعِنْ بِرَحْمَتِك الْحَمْدُ لِلَّهِ نَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا. أَمَّا بَعْدُ: فَقَدْ سَأَلَنِي بَعْضُ الْإِخْوَانِ أَنْ أَكْتُبَ لَهُ مُقَدِّمَةً تَتَضَمَّنُ قَوَاعِدَ كُلِّيَّةً تُعِينُ عَلَى فَهْمِ الْقُرْآنِ. وَمَعْرِفَةِ تَفْسِيرِهِ وَمَعَانِيهِ وَالتَّمْيِيزِ فِي مَنْقُولِ ذَلِكَ وَمَعْقُولِهِ بَيْنَ الْحَقِّ وَأَنْوَاعِ الْأَبَاطِيلِ وَالتَّنْبِيهِ عَلَى الدَّلِيلِ الْفَاصِلِ بَيْنَ الْأَقَاوِيل؛ فَإِنَّ الْكُتُبَ الْمُصَنَّفَةَ فِي التَّفْسِيرِ مَشْحُونَةٌ بِالْغَثِّ وَالسَّمِينِ وَالْبَاطِلِ الْوَاضِحِ وَالْحَقِّ الْمُبِينِ. وَالْعِلْمُ إمَّا نَقْلٌ مُصَدَّقٌ عَنْ مَعْصُومٍ، وَإِمَّا قَوْلٌ عَلَيْهِ دَلِيلٌ مَعْلُومٌ، وَمَا سِوَى هَذَا فَإِمَّا مُزَيَّفٌ مَرْدُودٌ وَإِمَّا مَوْقُوفٌ لَا يُعْلَمُ أَنَّهُ بَهْرَجٌ وَلَا مَنْقُودٌ. [الشرح] بسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1 هذا شروع في شرح هذه المقدمة النفيسة التي كتبها شيخ الإسلام والمسلمين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية رحمه الله تعالى. وقد ذكر لك فيما سمعت أن العلم نوعان لا ثالث لهما. إما أن يكون نقلا عن معصوم؛ يعني عن معصوم من الخطأ، وذلك هو الكتاب والسنة والإجماع، فإن الكتاب والسنة إنما هي من الله جل وعلا، والإجماع كذلك معصوم من الخطأ؛ ذلك أنه قد جاءت عدة أحاديث يعضد بعضها يعضا بأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيّن أن الأمة لا تجتمع على ضلالة. فالحجة المعصومة الكتاب والسنة والإجماع. قال (وَإِمَّا قَوْلٌ عَلَيْهِ دَلِيلٌ مَعْلُومٌ) العلم إما نقل عن معصوم، وإما اجتهاد من أحد المتأهلين للاجتهاد عليه دليل معلوم، وهذا فيه إخراج للدليل المتوهَّم لأن بعض المتعصبين للعلماء يقولون: لابد أن يكون ثَم دليل عند العالم على هذه المسألة لكنه لم ينقل إلينا، وإنما نحن متعبدون بما دلّت عليه الأدلة؛ لأن هذا هو العلم. وقد ذكر ابن عبد البر رحمه الله تعالى في كتابه الجامع أن العلماء أجمعت على أن المقلد لا يسمى عالما، وإنما الذي يسمى عالما الذي يأخذ القول بدليله. والعلم القول الذي عليه دليل معلوم، إما النقل المعصوم أو القول عليه دليل معلوم؛ يعني عالم يجتهد ثم يكون لقوله دليل: إما منه بأن يتكلم بالدليل، يُعطف كلامه بالدليل وهذا سنستفيد منه في التفسير. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 2 وإما أن يكون الدليل واضحا لكلامه لا يكون كلامه عليه دليل يعلمه العلماء فيقولون دليل ابن عباس مثلا كذا، دليل علي في تفسيره كذا أو في غير التفسير، مثل ما ذكرنا في تفسير ابن عباس لما رواه ابن جرير وابن أبي حاتم وجماعة بأنه كان يقرأ {وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ} [الأعراف: 127] ، {وَيَذَرَكَ وَإِلَهَتَكَ} ما دليله؟ قال ابن عباس لأنه كان يُعبد ولا يَعبد، واستدل له العلماء بهذا القول من اجتهاد ابن عباس القراءة الصحيحة التي نقلها هو استدلوا لها بقول الله تعالى مخبرا عن قول فرعون {مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص: 38] . فإذن العلم بالتفسير: إما أن يكون نقلا عن معصوم وهذا أن تكون الآية مفسرة بالقرآن، القرآن مفسر بالقرآن، أو القرآن مفسر بالسنة، مثلا آية أُطلق في موضع وبُيِّن في موضع كما قال جل وعلا {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِن قَبْلُ} [النحل: 118] ، ما هو الذي حرم عليهم هو المذكور في آية الأنعام {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ} [الأنعام: 146] ، وليس المذكور في سورة النساء في قوله {فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللهِ كَثِيرًا} [النساء: 160] ، ذلك لأن هذا كان كالتفسير لما قبله {حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِن قَبْلُ} والأنعام متقدمة على ذلك. في القرآن إجمال في موضع وبيان في موضع آخر، وهذا كثير، مثلا في قوله تعالى في سورة طه في قصة موسى {وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا} [طه: 46] ، فتناك فتونا ما هذا الفتون؟ {وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا} ما هذه الفتون التي هي جمع فتنة التي فتن بها موسى عليه السلام؟ تبينها قصة موسى بأنواع ما حصل له من الابتلاء، وهذا هو الذي فهمه ابن عباس وساق عليه الحديث المعروف عند أهل التفسير في حديث الفتون الطويل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 3 المقصود أنّ القرآن قد يجمل في موضع ويبين في موضع، يطلق في موضع يقيد في موضع إلى آخره، هذا علم نقل عن معصوم. كذلك تفسر السنة القرآن. الإجماع، الإجماع على أن تفسير هذه الآية هو كذا، وهذا سيأتينا له أمثلة إن شاء الله تعالى. الدليل المعلوم يعني عالم يفسر القرآن باجتهاده؛ لكن دليله له دليل صحيح، تفسيره صحيح عن اجتهاد نعم؛ لكن له دليله لم يخرج عن الأدلة، يعني بمعنى أن قوله ليس باطلا. القسم الثالث قول ليس بنقل عن معصوم وليس بقول له دليل معلوم، فهذا القسم الثالث ليس من العلم وهو ما يوقف فيه -كما ذكر- ليس معروف بأنه منقود ولا أنه بهرج، يعني لا يعرف أنه صحيح ولا أنه فاسد ليس عليه دليل، لا نعرف دليلا عليه فهذا إذا لم يدل الدليل على بطلانه ينسب إلى قائله دون أن يعتمد عليه، وهذا مهم فيما سيأتينا إن شاء الله تعالى في هذه الرسالة من تفسير. نعم [المتن] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 4 وَحَاجَةُ الْأُمَّةِ مَاسَّةٌ إلَى فَهْمِ الْقُرْآنِ الَّذِي هُوَ حَبْلُ اللَّهِ الْمَتِينُ وَالذِّكْرُ الْحَكِيمُ وَالصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ، الَّذِي لَا تَزِيغُ بِهِ الْأَهْوَاءُ وَلَا تَلْتَبِسُ بِهِ الْأَلْسُنُ وَلَا يَخْلَقُ عَنْ كَثْرَةِ التَّرْدِيدِ وَلَا تَنْقَضِي عَجَائِبُهُ، وَلَا يَشْبَعُ مِنْهُ الْعُلَمَاءُ مَنْ قَالَ بِهِ صَدَقَ وَمَنْ عَمِلَ بِهِ أُجِر، َ وَمَنْ حَكَمَ بِهِ عَدَلَ وَمَنْ دَعَا إلَيْهِ هُدِيَ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، وَمَنْ تَرَكَهُ مِنْ جَبَّارٍ قَصَمَهُ اللَّهُ، وَمَنْ ابْتَغَى الْهُدَى فِي غَيْرِهِ أَضَلَّهُ اللَّهُ. قَالَ تَعَالَى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى} [طه: 123-126] . وَقَالَ تَعَالَى: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [المائدة: 15-16] . وَقَالَ تَعَالَى: {الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1) اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [إبراهيم: 1-2] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 5 وَقَالَ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (51) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ} [الشورى: 51-52] . وَقَدْ كَتَبْتُ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةَ مُخْتَصَرَةً بِحَسَبِ تَيْسِيرِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ إمْلَاءِ الْفُؤَادِ وَاَللَّهُ الْهَادِي إلَى سَبِيلِ الرَّشَادِ. [الشرح] هذه الجمل تضمّنت في أولها وصف القرآن بأنواع من الأوصاف معروفة عند العلماء بأنها في حديث علي -يعني علي بن أبي طالب رَضِيَ اللهُ عنْهُ-، وهذه الأوصاف التي سمعتم رُويت عن علي مرفوعة وموقوفة بوصف القرآن بأنه حبل الله المتين وصراطه القويم، من حكم به عدل، ومن دعا إليه هُدي إلى آخره، من تركه من جبار قسمه الله ومن ابتغى العزة في غيره أذله الله، إلى آخره. والصواب أنها موقوفة على علي ولا يصح رفعها كما صحح ذلك الحفاظ كابن كثير وكشيخ الإسلام وجماعة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 6 القرآن وُصف بأنه نور وذلك لأن الله جل وعلا هو النور، من الأسماء، من أسماء الله جل وعلا النور وكلامه نور ودينه نور، ولاشك أنّ النور إنّما يكون مع حامله بقدر إفادته منه، ولهذا كان مهما أن نفهم القرآن حتى يعظم النور فليس كل حافظ للقرآن معه ذلك النور؛ بل العالم بالقرآن المهتدي به، الوقّاف عند حدوده، المحل لحلاله، المحرم لحرامه، معه من النور في قلبه وفي بصيرته بقدر ما حَمَل من النور من نور القرآن، ونور القرآن عظيم جدا {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ} وهو النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لأنه يهدي إلى النور وهو الإسلام، وجاء بالنور وهو القرآن، فالله جل وعلا النور وكتابه نور ورسوله نور والإسلام دينه نور، {أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا} [الأنعام: 122] فالنور هنا هو الإسلام. فإذا كان كذلك وكان الكتاب هو النور، لاشك أنه تعظم الحاجة إلى العناية بتفهيم القرآن وبتفسير القرآن ومعرفة معاني القرآن، حتى إذا تُلي القرآن علم العبد معانيه، ولهذا من جهل الناس بالقرآن وعدم معرفتهم به أنهم ربما سَكَبَت عيونهم الدمعة مرات تلو مرات بغير القرآن وقلما يكون عند تلاوة القرآن. والله جل وعلا وصف الذين يتلون الكتاب حق التلاوة الذين يعلمون معاني القرآن بأنهم {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} [مريم: 58] ، القرآن له سلطانه على قلوب محبيه لاشك؛ لكن هذا إنما يكون عند من له فهم في القرآن، له معرفة، له علم به، وبقدر ما عنده وما يفتح الله جل وعلا عليه من أمور الإيمان يوفق إلى ذلك، فسبيل النور هذا والصفة في هذه الآيات التي استدل بها شيخ الإسلام رحمه الله شيخ الإسلام رحمه الله تعالى، إنما يكون بفهم القرآن. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 7 وهذه المقدمة منه تبين لك أن الاهتمام بتفسير القرآن من أهم المهمات، لفهم معاني القرآن، ولا يكون ذلك إلا بفهم أصول التفسير، فإن معرفة معاني القرآن مبنية على مقدمات هي من أصول التفسير في كثير منها. فأصول التفسير التي سيأتي بيانها يحتاج إليها المتلقي للتفسير والمفسر جميعا. نختم بهذا ونصلي ونسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه. وأما الأسئلة التي جاءت فنجمعها مرة إن شاء الله ونجيب عليها جميعا. (( (( ( أعدّ هذه المادّة: سالم الجزائري الجزء: 2 ¦ الصفحة: 8 الدرس الثالث بسم الله الرحمن الرحيم [المتن] فَصْلٌ [فِي أنّ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيَّنَ لِأَصْحَابِهِ مَعَانِيَ الْقُرْآنِ] يَجِبُ أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيَّنَ لِأَصْحَابِهِ مَعَانِيَ الْقُرْآنِ كَمَا بَيَّنَ لَهُمْ أَلْفَاظَهُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ} [النحل: 44] ، يَتَنَاوَلُ هَذَا وَهَذَا. وَ [قَدْ] قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السلمي: حَدَّثَنَا الَّذِينَ كَانُوا يُقْرِئُونَنَا الْقُرْآنَ كَعُثْمَانِ بْنِ عفان وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَغَيْرِهِمَا أَنَّهُمْ كَانُوا إذَا تَعَلَّمُوا مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشْرَ آيَاتٍ لَمْ يُجَاوِزُوهَا حَتَّى يَتَعَلَّمُوا مَا فِيهَا مِنَ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ. قَالُوا: فَتَعَلَّمْنَا الْقُرْآنَ وَالْعِلْمَ وَالْعَمَلَ جَمِيعًا; وَلِهَذَا كَانُوا يَبْقَوْنَ مُدَّةً فِي حِفْظِ السُّورَةِ. وَقَالَ أَنَسٌ: كَانَ الرَّجُلُ إذَا قَرَأَ الْبَقَرَةَ وَآلَ عِمْرَانَ جَلَّ فِي أَعْيُنِنَا. وَأَقَامَ ابْنُ عُمَرَ عَلَى حِفْظِ الْبَقَرَةِ عِدَّةَ سِنِينَ قِيلَ: ثَمَانِ سِنِينَ ذَكَرَهُ مَالِكٌ؛ وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} [ص: 29] ، وَقَالَ: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} [محمد: 24] ، وَقَالَ: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ} [المؤمنون: 68] ، وَتَدَبُّرُ الْكَلَامِ بِدُونِ فَهْمِ مَعَانِيهِ لَا يُمْكِنُ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1 وَكَذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: {إنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [يوسف: 2] ، وَعَقْلُ الْكَلَامِ مُتَضَمِّنٌ لِفَهْمِه. وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ كُلَّ كَلَامٍ فَالْمَقْصُودُ مِنْهُ فَهْمُ مَعَانِيهِ دُونَ مُجَرَّدِ أَلْفَاظِهِ فَالْقُرْآنُ أَوْلَى بِذَلِكَ. وَأَيْضًا فَالْعَادَةُ تَمْنَعُ أَنْ يَقْرَأَ قَوْمٌ كِتَابًا فِي فَنٍّ مِنَ الْعِلْمِ كَالطِّبِّ وَالْحِسَابِ وَلَا يَسْتَشْرِحُوهُ فَكَيْفَ بِكَلَامِ اللَّهِ الَّذِي هُوَ عِصْمَتُهُمْ وَبِهِ نَجَاتُهُمْ وَسَعَادَتُهُمْ وَقِيَامُ دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ؟. وَلِهَذَا كَانَ النِّزَاعُ بَيْنَ الصَّحَابَةِ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ [قَلِيلًا] جِدًّا وَهُوَ وَإِنْ كَانَ فِي التَّابِعِينَ أَكْثَرَ مِنْهُ فِي الصَّحَابَةِ فَهُوَ قَلِيلٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَنْ بَعْدَهُمْ. وَكُلَّمَا كَانَ الْعَصْرُ أَشْرَفَ كَانَ الِاجْتِمَاعُ والائتلاف وَالْعِلْمُ وَالْبَيَانُ فِيهِ أَكْثَرَ، وَمِنْ التَّابِعِينَ مَنْ تَلَقَّى جَمِيعَ التَّفْسِيرِ عَنْ الصَّحَابَةِ كَمَا قَالَ مُجَاهِدٌ عَرَضْتُ الْمُصْحَفَ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ أُوقِفُهُ عِنْدَ كُلِّ آيَةٍ مِنْهُ وَأَسْأَلُهُ عَنْهَا؛ وَلِهَذَا قَالَ الثَّوْرِيُّ: إذَا جَاءَك التَّفْسِيرُ عَنْ مُجَاهِدٍ فَحَسْبُك بِهِ. وَلِهَذَا يَعْتَمِدُ عَلَى تَفْسِيرِهِ الشَّافِعِيُّ وَالْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُمَا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَكَذَلِكَ الْإِمَامُ أَحْمَد وَغَيْرُهُ مِمَّنْ صَنَّفَ فِي التَّفْسِيرِ يُكَرِّرُ الطُّرُقَ عَنْ مُجَاهِدٍ أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 2 وَالْمَقْصُودُ أَنَّ التَّابِعِينَ تَلَقَّوْا التَّفْسِيرَ عَنْ الصَّحَابَةِ كَمَا تَلَقَّوْا عَنْهُمْ عِلْمَ السُّنَّةِ وَإِنْ كَانُوا قَدْ يَتَكَلَّمُونَ فِي بَعْضِ ذَلِكَ بِالِاسْتِنْبَاطِ وَالِاسْتِدْلَالِ كَمَا يَتَكَلَّمُونَ فِي بَعْضِ السُّنَنِ بِالِاسْتِنْبَاطِ وَالِاسْتِدْلَالِ. ا. هـ [الشرح] الحمد لله، هذه الكلمات اشتملت على مسائل: الأولى: أن الله جل جلاله أمر عباده أن يتدبروا القرآن فقال {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} وقال {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ} ، وهذا فيه حث وأمر لتدبر القرآن، وقال {لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} ، ومعلوم أنّ التدبر لا يمكن أن يحصل إلا بفهم المعاني، وفهم معاني القرآن هو التفسير، فتنتج من هذه المقدمات أنّ التفسير مأمور به. ولهذا تكون عناية أهل العلم بالتفسير بأنه مأمور به في قوله تعالى {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 24] ، فالذي يعرض عن التفسير معناه يعرض عن التدبر؛ لأنه لا يمكن أن يتدبر إلا بعقل المعاني، وعقل المعاني لا يمكن أن يكون إلا بمعرفة أقوال المفسرين في ذلك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 3 الأمر الثاني: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيّن للناس معاني القرآن، بينه للصحابة وهم كانوا يأخذون من ذلك ما يحتاجون إليه، فربما كان البيان واقعا عمّا يفهمونه فيكون في مجرى التأكيد، وربما كان البيان عما لا يعلمونه فيكون علما جديدا لا يأخذونه من اللغة، وهذا لاشك وقع كثيرا؛ ولكن المنقول عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ الأحاديث التي فيها التفسير عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قليلة جدا بالنسبة إلى التفسير المنقول عن الصحابة. (1) وذكر أن الصحابة بينوا لمن بعدهم تفسير القرآن، وتفسيرهم له إنما هو في مجموعة مأخوذ من بيان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقد يتكلمون في ذلك باجتهاد والاستنباط، وأعظمهم في ذلك عبد الله بن عباس بن عبد المطلب رَضِيَ اللهُ عنْهُما فإنه قد دعا له النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأن يعلم الكتابة فقال عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ في دعائه له «اللهم علمه الكتابة» وقال «اللهم علمه الحكمة» وقال «اللهم علمه التأويل» ، وهذا مما يعتني به أهل العلم لأن ابن عباس رَضِيَ اللهُ عنْهُ ظهرت فيه قوة فهمه بالتفسير، وقد أثني عليه في ذلك ابن مسعود حيث قال ابن مسعود رَضِيَ اللهُ عنْهُ: نِعْمَ ترجمان القرآن ابن عباس.   (1) انتهى الشريط الأول. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 4 فابن عباس رَضِيَ اللهُ عنْهُ كانت له مدرسة في مكة في التفسير، أخذ عنه التفسير جماعة من أصحابه، ومنهم من لازمه في التفسير وأطال الملازمة وهو مجاهد بن جبر أبو الحجاج التابعي الإمام المعروف؛ فإنه عرض على ابن عباس التفسير من القرآن ثلاث مرات يوقفه عند كل آية لا يعلم معناها ويسأله عن معناها، ومن أصحاب ابن عباس من تلامذته في التفسير عطاء بن رباح، ومنهم سعيد بين جبير، ومنهم طاووس بن كيسان اليماني وجماعة، فهؤلاء مدرسة، تلامذة ابن عباس أخذوا التفسير عن ابن عباس، كلهم في الغالب يقولون فيما قال ابن عباس، أو إذا استنبطوا على وفق أصول ابن عباس رَضِيَ اللهُ عنْهُما فيما قال لهم. أما مجاهد بخصوصه فكما قال شيخ الإسلام هنا ورواه ابن جرير فيما أذكر وغيره أن سفيان الثوري (إذَا جَاءَك التَّفْسِيرُ عَنْ مُجَاهِدٍ فَحَسْبُك بِهِ) لم؟ لأن مجاهدا عرض القرآن عن ابن عباس عدة مرات فهو في مظنة من حفظ التفسير تماما، وربما فسر القرآن بدون أن يعزوه لابن عباس وربما عزاه لابن عباس. ولهذا أهل العلم يجعلون الصحيفة الصادقة في التفسير وهي صحيفة علي بن أبي طلحة عن ابن عباس يجعلونها أصح المرويات عن ابن عباس في التفسير، وهي التي قال فيها الإمام أحمد رحمه الله تعالى: إن بمصر صحيفة في التفسير عن ابن عباس، لو رحل إليها رجل ما كان كثيرا. وهي ليست بالطويلة اعتمدها البخاري في صحيحه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 5 علي بن أبي طلحة عن ابن عباس وهي صحيفة أخذها علي بالوجادة يعني ليس بالسماع؛ لأن علي بن أبي طلحة لم يدرك ابن عباس، وقال العلماء: علي بن أبي طلحة قد أخذها بالسماع عن مجاهد. قال الحافظ ابن حجر: فإذا علمت الواسطة لم يضر أن تكون وجادة. لأن الذي نقل ذلك عن ابن عباس هو جاهد وعلي بن أبي طلحة يروي هذه الصحيفة عن مجاهد، ولهذا تجد أن ابن جرير أكثر ما يروي عن ابن عباس ما وجد إلى ذلك سبيلا أن يقول في طريق معاوية عن علي عن ابن عباس يعني علي بن أبي طلحة عن ابن عباس. ومجاهد يعتني به العلماء كثيرا، فإذا وجد من مجاهد وتفسيره موجود مطبوع تفسير مجاهد، إذا وجد عن مجاهد -يعني التفسير المجموع- عن مجاهد التفسير فإنهم يعتمدونه لأنه أصح أو أقوى من يتكلم في التفسير من التابعين وذلك لكثرة ما أخذ عن ابن عباس رَضِيَ اللهُ عنْهُ. إذن نخلص من هذا إلى أن الصحابة ربما اختلفوا في التفسير، وذلك راجع إلى تنوع نظرهم واستنباطهم واستدلالاتهم. التابعون كذلك ربما اختلفوا، وذكر لك رحمه الله أنه كلما كان الزمن أشرف كان الاجتماع والائتلاف أكثر وأعظم، لأن شرف الزمان بشرف أهله، وإذا عقل أهل الزمان وعلموا فإنهم يكونون أحرص ما يكونون على الاجتماع في الدين وعلى الاجتماع في أمورهم؛ لأن الخلاف في أمور الدين بل وفي الأمور جميعا ليس محمود. قال: كلما كان الزمن أشرف كان الاجتماع والائتلاف أعظم وأوسع. وهذا خذه فيما بعد ذلك من الزمن، كلما نزل الزمن تجد أن الاختلاف في التفسير يكثر، لهذا يعتد أهل العلم الأثريون في التفسير على تفاسير الصحابة وعلى تفاسير التابعين؛ لأنهم في الغالب يكونون مجتمعين على ذلك. نعم قد يكون ثم إجماع منهم في بعض الآي وقد يكون ثم اختلاف بينهم، وسيأتي بيان أنواع الاختلاف، وأنواع الاجتماع في ذلك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 6 وذكر هنا تفسير الإمام أحمد، وهذا تفسير مفقود لا يعلم وقد ذُكر أنه كبير، ذُكر أنه كبير جدا كما ذكر أن الإمام أحمد يكرر الطرق عن مجاهد في تفسيره. هكذا؟ أعد العبارة: [المتن] وَلِهَذَا يَعْتَمِدُ عَلَى تَفْسِيرِهِ الشَّافِعِيُّ وَالْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُمَا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَكَذَلِكَ الْإِمَامُ أَحْمَد وَغَيْرُهُ مِمَّنْ صَنَّفَ فِي التَّفْسِيرِ يُكَرِّرُ الطُّرُقَ عَنْ مُجَاهِدٍ أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهِ. [الشرح] تفسير الإمام أحمد هذا لا نعرف له ذكرا، وقد أنكره بعض العلماء كالذهبي في تذكرة الحفاظ وفي السير أنكر كبره، وابن القيم نقل نقولا كثيرة عنه -يعني عن الإمام أحمد في التفسير- لا أدري هي عن هذا الكتاب أم عن غيره في كتاب بدائع الفوائد. نعم [المتن] وَالْمَقْصُودُ أَنَّ التَّابِعِينَ تَلَقَّوْا التَّفْسِيرَ عَنْ الصَّحَابَةِ كَمَا تَلَقَّوْا عَنْهُمْ عِلْمَ السُّنَّةِ، وَإِنْ كَانُوا قَدْ يَتَكَلَّمُونَ فِي بَعْضِ ذَلِكَ بِالِاسْتِنْبَاطِ وَالِاسْتِدْلَالِ كَمَا يَتَكَلَّمُونَ فِي بَعْضِ السُّنَنِ بِالِاسْتِنْبَاطِ وَالِاسْتِدْلَالِ. [الشرح] الاستنباط والاستدلال في التفسير لا يجوز إلا بشروط جمعها أهل العلم في الآتي: الأول: أن يكون عالما بالقرآن؛ لأنه إن فسر بغير علم بالقرآن ربما جهل أن هذه الآية قد بُينت في موضع آخر قد فسرتها آية أخرى. الثاني: أن يعلم السنة حتى لا يفسر القرآن بما بعارض السنة. الثالث: أن يكون عالما بلغة العرب؛ لأنه إذا كان عالما بلغة العرب؛ لأنه إذا كان عالما بلغة العرب أمكنه الاستنباط، وإذا كان غير عالم بلغة العرب في مفرداتها ونحوها وبلاغتها ونحو ذلك لحقه من النقص في التفسير بقدر ذلك، فإن كان يجهل المفردات أصلا وتراكيب الكلام والنظم فإنه لا يجوز له أن يتعاطى التفسير أصلا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 7 الرابع: أن يكون عالما بأدوات الاجتهاد وآلات العلوم وهي أصول فقه وأصول لغة وأصول الحديث. أما أصول الفقه فلأن فيه تقرير القواعد أصول التفسير. واما أصول اللغة فلأن بها معرفة كيف يفسر وعلى مقتضى اللغة، وقد يكون اللفظ له دلالة في اللغة؛ لكنه نقل إما دلالة شرعية أو دلالة عرفية، فإذا لم يعلم ترتيب الحقائق في أصول اللغة لغوية عرفية شرعية دخله الخطأ، وهكذا في أصول اللغة من الاشتقاق ونحو ذلك. أما أصول الحديث حتى يميز الغلط من الصواب في المنعقول عن الصحابة، لهذا غلّط العلماء الفيروز آبادي صاحب القاموس في كتاب جمعه في التفسير عن ابن عباس وسمّاه تنوير المقباس -بالباء- تنوير المقباس من تفسير ابن عباس، جمعه من أوْهى الطرق في التفسير عن ابن عباس؛ طريق السُّدِّي الصغير محمد بن مروان عن الكلبي عن أبي سعيد أو عن ابن صالح عن ابن عباس وهذه طريق أوهى الطرق عن ابن عباس. فلأجل عدم علمه بأصول الحديث وكيفية إثبات الأسانيد فإنه جهل ذلك ونسب لابن عباس ما هو منه براء. نعم هاهنا تنبيه مهم وهو أنه ليست قواعد مصطلح الحديث منطبقة دائما على أسانيد المفسرين، لهذا يخطئ كثيرون من المعاصرين في نقدهم لأسانيد التفسير على طريقة نقدهم لأسانيد الحديث؛ بل تجد أحدهم يتعّجب من ابن جرير وابن كثير والبغوي بل ابن أبي حاتم ونحو ذلك من إيرادهم التفاسير عن الصحابة والتابعين بالأسانيد التي هي على طريقة مصطلح الحديث ربما كانت ضعيفة؛ لكنها على طريقة مصطلح الحديث الذي اعتمده المفسرون تكون صحيحة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 8 مثال ذلك حديث السّدي، السدي صاحب تفسير، له تفسير يفسر باستنباطه ويفسر وينقل عن غيره، يروي التفسير عنه أسباط بن نصر يروي التفسير عنه أسباط بن نصر، السدي فيه ربما كلام، وأسباط بن نصر أيضا فيه كلام ربما ضُعِّف بل جعل ممن اُنتقد على مسلم إيراد حديثه، فيأتي فيقول هذا الإسناد حسن بل ربما يقول هذا ضعيف، وهذا عند العلماء بالتفسير هذا من أجود الأسانيد؛ بل هو أجود أسانيد تفسير السدي، وإن كان أسباط فيه كلام فذلك الكلام فيه في الحديث، أما في العناية بالتفسير فلو به خصوصية خاصة تفسير السدي، وقد نقله عن كتابه وحفظه، ولهذا لما ترجم له العلماء قال راوي تفسير السدي. مثل علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، يأتي كثيرون يقولون علي بن أبي طلحة لم يدرك ابن عباس، فهذا منقطع فالتفسير ضعيف، وتفسير علي بن أبي طلحة عن ابن عباس هذا الذي اعتمده البخاري فيما يعلقه في التفسير عن ابن عباس في صحيحه، وقد ذكر الحافظ ابن حجر كما ذكرت لكم آنفا أن الواسطة هي مجاهد وهي وجادة يعرف العلماء هذا. فليست كل قاعدة عند أهل الحديث تطبق على أسانيد المفسرين بل المفسرون لهم في ذلك خصوصيات يعرفها المتحققون بذلك نعم. نعم إن أصول المصطلح -مصطلح الحديث- تنطق على أسانيد المفسرين إلى حد ما؛ لكن ليست على إطلاقها، أحيانا يكون بعض الأسانيد ضعيفة على طريقة المحدثين لكن مروية من جهة [الشرف] (1) مثل الإسناد المعروف عن ابن عباس الذي فيه: حدثني أبي عن جدي عن عمه عن أبيه عن جده عن ابن عباس، إسناد يكثر في تفسير ابن جرير، وهذا الإسناد وإن كان ضعيفا من جهة ضعف الرجال لجهالة بعضهم وعدم معرفته؛ لكن اعتمده العلماء لأجل أن الغرض من ذكر هذا جهة [الشرف] . وهذا إلى تفصيل يعني أن يترك الراوي في الرواية عن أبيه وأنهم رووا التفسير دون نظر إلى أنه هل هو ثقة أو غيره فإنهم تلقوا ذلك وتتابعوا عليه.   (1) أو قال: الشرع. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 9 على كل حال هذا المقام له مزيد تفصيل، أيضا من الشروط، الآن نتكلم عن شروط الاستنباط؟ صحيح. من الشروط أن يكون عالما بتوحيد الله في ربوبيته وفي ألوهيته وأسمائه وصفاته، فإذا كان جاهلا بالتوحيد لم يجز له أن يفسر، فإن فسر كان من أهل الرأي المذموم، ولذلك جُعلت التفاسير المبتدعة جميعا في تفسير آيات الصفات أو التوحيد من التفاسير بالرأي المذموم لأنهم جهلوا الحق في ذلك أو لم يلتزموه. أضاف بعضهم إلى الشروط -وهو محل تأمل- العلم بأحوال العرب، العلم بأحوال المشركين وأحوال العرب وأمورهم الدينية والاجتماعية وعلاقاتهم ببعضهم البعض ونحو ذلك. وأضاف بعضهم العلم بأسباب النزول. وأضاف آخرون العلم بسيرة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. لكن هي داخلة فيما مضى بنحو أو بآخر. نعم، التابعون اجتهدوا والصحابة اجتهدوا لتوفر ذلك فيهم، فاجتهادهم من الاجتهاد المقبول السائغ، وإن حصل من بعضهم اجتهاد عن غير دليل ولا برهان أو يرده الدليل فإنه يُرد عليه، كما رُدّ على مجاهد بعض تفاسيره فإن كان هو مجاهد رد عليه بعض التفسير؛ وذلك في تفسير قوله تعالى {عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا} [الإسراء: 79] ، فإنه فسر المقام المحمود بإجلاسه عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ على العرش. وهذا وإن كان أهل السنة يُثبتون الخبر عن مجاهد؛ لأن فيه ردا على أهل التجهّم وأنّ أهل التجهم معاندون مخالفون للتابعين -ونحو ذلك مما بيانه في التوحيد- لكن هذه الخصوصية في التفسير لم تُرْوَ إلا عن مجاهد، وإن كان هو الإمام مجاهد بن حبر رحمه الله لكن لم يدل دليل على هذا الاستنباط؛ بل دل الدليل على خلاف قوله من أن المقام المحمود هو الشفاعة العظمى في يوم القيامة. لهذا نقول الاجتهاد والاستنباط كثير في الصحابة، كثير في التابعين، كثير فيمن بعدهم، ولا يجوز إلا بشروط وإلا خرج إلى التفسير المذموم. وصلى الله وسلم على نبينا محمد. * * * أعدّ هذه المادّة: سالم الجزائري الجزء: 3 ¦ الصفحة: 10 الدرس الرابع بسم الله الرحمن الرحيم [المتن] فَصْلٌ [فِي اخْتِلاَفِ السَّلَفِ فِي التَّفْسِيرِ وَأَنَّهُ اخْتِلاَفُ تَنَوُّع] الْخِلَافُ بَيْنَ السَّلَفِ فِي التَّفْسِيرِ قَلِيلٌ، وَخِلَافُهُمْ فِي الْأَحْكَامِ أَكْثَرُ مِنْ خِلَافِهِمْ فِي التَّفْسِيرِ، وَغَالِبُ مَا يَصِحُّ عَنْهُمْ مِنْ الْخِلَافِ يَرْجِعُ إلَى اخْتِلَافِ تَنَوُّعٍ لَا اخْتِلَافِ تَضَادٍّ، وَذَلِكَ صِنْفَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُعَبِّرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَنْ الْمُرَادِ بِعِبَارَةِ غَيْرِ عِبَارَةِ صَاحِبِهِ تَدُلُّ عَلَى مَعْنًى فِي الْمُسَمَّى غَيْرِ الْمَعْنَى الْآخَرِ مَعَ اتِّحَادِ الْمُسَمَّى بِمَنْزِلَةِ الْأَسْمَاءِ الْمُتَكَافِئَةِ الَّتِي بَيْنَ الْمُتَرَادِفَةِ وَالْمُتَبَايِنَةِ. كَمَا قِيلَ فِي اسْمِ السَّيْفِ: الصَّارِمُ وَالْمُهَنَّدُ، وَذَلِكَ مِثْلُ أَسْمَاءِ اللَّهِ الْحُسْنَى وَأَسْمَاءِ رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَسْمَاءِ الْقُرْآنِ، فَإِنَّ أَسْمَاءَ اللَّهِ كُلَّهَا تَدُلُّ عَلَى مُسَمًّى وَاحِدٍ، فَلَيْسَ دُعَاؤُهُ بِاسْمِ مِنْ أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى مُضَادًّا لِدُعَائِهِ بِاسْمِ آخَرَ؛ بَلْ الْأَمْرُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} . وَكُلُّ اسْمٍ مِنْ أَسْمَائِهِ يَدُلُّ عَلَى الذَّاتِ الْمُسَمَّاةِ وَعَلَى الصِّفَةِ الَّتِي تَضَمَّنَهَا الِاسْمُ. كَالْعَلِيمِ يَدُلُّ عَلَى الذَّاتِ وَالْعِلْمِ. وَالْقَدِيرُ يَدُلُّ عَلَى الذَّاتِ وَالْقُدْرَةِ. وَالرَّحِيمُ يَدُلُّ عَلَى الذَّاتِ وَالرَّحْمَةِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1 وَمَنْ أَنْكَرَ دَلَالَةَ أَسْمَائِهِ عَلَى صِفَاتِهِ مِمَّنْ يَدَّعِي الظَّاهِرَ، فَقَوْلُهُ مِنْ جِنْسِ قَوْلِ غُلَاةِ الْبَاطِنِيَّةِ الْقَرَامِطَةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ: لَا يُقَالُ هُوَ حَيٌّ وَلَا لَيْسَ بِحَيِّ؛ بَلْ يَنْفُونَ عَنْهُ النَّقِيضَيْنِ، فَإِنَّ أُولَئِكَ الْقَرَامِطَةَ الْبَاطِنِيَّةَ لَا يُنْكِرُونَ اسْمًا هُوَ عِلْمٌ مَحْضٌ كَالْمُضْمَرَاتِ وَإِنَّمَا يُنْكِرُونَ مَا فِي أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى مِنْ صِفَاتِ الْإِثْبَاتِ؛ فَمَنْ وَافَقَهُمْ عَلَى مَقْصُودِهِمْ كَانَ مَعَ دَعْوَاهُ الْغُلُوَّ فِي الظَّاهِرِ مُوَافِقًا لِغُلَاةِ الْبَاطِنِيَّةِ فِي ذَلِكَ. وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ بَسْطِ ذَلِكَ. وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ أَنَّ كُلَّ اسْمٍ مِنْ أَسْمَائِهِ يَدُلُّ عَلَى ذَاتِهِ وَعَلَى مَا فِي الِاسْمِ مِنْ صِفَاتِهِ، وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي فِي الِاسْمِ الْآخَرِ بِطَرِيقِ اللُّزُومِ. وَكَذَلِكَ أَسْمَاءُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مِثْلُ مُحَمَّدٍ وَأَحْمَد وَالْمَاحِي وَالْحَاشِرِ وَالْعَاقِبِ. وَكَذَلِكَ أَسْمَاءُ الْقُرْآنِ: مِثْلُ الْقُرْآنِ وَالْفُرْقَانِ وَالْهُدَى وَالشِّفَاءِ وَالْبَيَانِ وَالْكِتَابِ. وَأَمْثَالِ ذَلِكَ. فَإِذَا كَانَ مَقْصُودُ السَّائِلِ تَعْيِينَ الْمُسَمَّى عَبَّرْنَا عَنْهُ بِأَيِّ اسْمٍ كَانَ إذَا عُرِفَ مُسَمَّى هَذَا الِاسْمِ. وَقَدْ يَكُونُ الِاسْمُ عَلَمًا، وَقَدْ يَكُونُ صِفَةً كَمَنْ يَسْأَلُ عَنْ قَوْلِهِ: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي} [طه: 124] مَا ذِكْرُهُ؟ فَيُقَالُ لَهُ: هُوَ الْقُرْآنُ مَثَلًا أَوْ هُوَ مَا أَنْزَلَهُ مِنْ الْكُتُبِ. فَإِنَّ الذِّكْرَ مَصْدَرٌ. وَالْمَصْدَرُ تَارَةً يُضَافُ إلَى الْفَاعِلِ وَتَارَةً إلَى الْمَفْعُولِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2 فَإِذَا قِيلَ ذِكْرُ اللَّهِ بِالْمَعْنَى الثَّانِي كَانَ مَا يُذْكَرُ بِهِ مِثْلَ قَوْلِ الْعَبْدِ سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ. وَإِذَا قِيلَ بِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ كَانَ مَا يَذْكُرُهُ هُوَ وَهُوَ كَلَامُهُ وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ فِي قَوْلِهِ: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي} لِأَنَّهُ قَالَ قَبْلَ ذَلِكَ {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى} [البقرة: 38] ، وَهُدَاهُ هُوَ مَا أَنْزَلَهُ مِنْ الذِّكْرِ وَقَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: {قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا} [طه: 125-126] . وَالْمَقْصُودُ أَنْ يُعْرَفَ أَنَّ الذِّكْرَ هُوَ كَلَامُهُ الْمُنَزَّلُ أَوْ هُوَ ذِكْرُ الْعَبْدِ لَهُ، فَسَوَاءٌ قِيلَ ذِكْرِي كِتَابِي أَوْ كَلَامِي أَوْ هُدَايَ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ كَانَ الْمُسَمَّى وَاحِدًا. وَإِنْ كَانَ مَقْصُودُ السَّائِلِ مَعْرِفَةَ مَا فِي الِاسْمِ مِنْ الصِّفَةِ الْمُخْتَصَّةِ بِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ قَدْرٍ زَائِدٍ عَلَى تَعْيِينِ الْمُسَمَّى مِثْلَ أَنْ يَسْأَلَ عَنْ الْقُدُّوسِ السَّلَامِ الْمُؤْمِنِ، وَقَدْ عَلِمَ أَنَّهُ اللَّهُ؛ لَكِنَّ مُرَادَهُ مَا مَعْنَى كَوْنِهِ قُدُّوسًا سَلَامًا مُؤْمِنًا وَنَحْوَ ذَلِكَ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 3 إذَا عُرِفَ هَذَا فَالسَّلَفُ كَثِيرًا مَا يُعَبِّرُونَ عَنْ الْمُسَمَّى بِعِبَارَةٍ تَدُلُّ عَلَى عَيْنِهِ وَإِنْ كَانَ فِيهَا مِنْ الصِّفَةِ مَا لَيْسَ فِي الِاسْمِ الْآخَرِ كَمَنْ يَقُولُ: أَحْمَد هُوَ الْحَاشِرُ وَالْمَاحِي وَالْعَاقِبُ، وَالْقُدُّوسُ هُوَ الْغَفُورُ وَالرَّحِيمُ أَيْ إِنَّ الْمُسَمَّى وَاحِدٌ لَا أَنَّ هَذِهِ الصِّفَةَ هِيَ هَذِهِ الصِّفَةُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا لَيْسَ اخْتِلَافَ تَضَادٍّ كَمَا يَظُنُّهُ بَعْضُ النَّاسِ. مِثَالُ ذَلِكَ تَفْسِيرُهُمْ لِلصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ: فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ الْقُرْآنُ: أَيْ اتِّبَاعُهُ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ الَّذِي رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَرَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ مِنْ طُرُقٍ مُتَعَدِّدَةٍ: «هُوَ حَبْلُ اللَّهِ الْمَتِينُ وَهُوَ الذِّكْرُ الْحَكِيمُ وَهُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ» . وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ الْإِسْلَامُ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ الَّذِي رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ: «ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا وَعَلَى جَنَبَتَيْ الصِّرَاطِ سُورَانِ، وَفِي السُّورَيْنِ أَبْوَابٌ مُفَتَّحَةٌ، وَعَلَى الْأَبْوَابِ سُتُورٌ مُرْخَاةٌ، وَدَاعٍ يَدْعُو مِنْ فَوْقِ الصِّرَاطِ وَدَاعٍ يَدْعُو عَلَى رَأْسِ الصِّرَاطِ، قَالَ: فَالصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ هُوَ الْإِسْلَامُ وَالسُّورَانِ حُدُودُ اللَّهِ وَالْأَبْوَابُ الْمُفَتَّحَةُ مَحَارِمُ اللَّهِ وَالدَّاعِي عَلَى رَأْسِ الصِّرَاطِ كِتَابُ اللَّهِ، وَالدَّاعِي فَوْقَ الصِّرَاطِ وَاعِظُ اللَّهِ فِي قَلْبِ كُلِّ مُؤْمِنٍ» . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 4 فَهَذَانِ الْقَوْلَانِ مُتَّفِقَانِ؛ لِأَنَّ دِينَ الْإِسْلَامِ هُوَ اتِّبَاعُ الْقُرْآنِ، وَلَكِنْ كُلٌّ مِنْهُمَا نَبَّهَ عَلَى وَصْفٍ غَيْرِ الْوَصْفِ الْآخَرِ، كَمَا أَنَّ لَفْظَ "صِرَاطٍ" يُشْعِرُ بِوَصْفِ ثَالِثٍ. وَكَذَلِكَ قَوْلُ مَنْ قَالَ: هُوَ السُّنَّةُ وَالْجَمَاعَةُ. وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: هُوَ طَرِيقُ الْعُبُودِيَّةِ. وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: هُوَ طَاعَةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ"صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَمْثَالُ ذَلِكَ. فَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ أَشَارُوا إلَى ذَاتٍ وَاحِدَةٍ ; لَكِنْ وَصَفَهَا كُلٌّ مِنْهُمْ بِصِفَةِ مِنْ صِفَاتِهَا. [الشرح] بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله. وبعد: هذا الكلام مهم جدا للناظر في كلام السلف في التفسير، وقدّم له بمقدمة؛ وهي أن كلام السلف من الصحابة والتابعين في التفسير قد يكون مختلفا؛ ولكن خلافهم واختلافهم في التفسير قليل إذ بالنسبة إلى اختلافهم في الأحكام الفقهية، فإن اختلافهم في الأحكام كثير جدا، وأما اختلافهم في التفسير فقليل. وهذا الكلام قد لا يُسَلّم له إذا نظر إلى أن الاختلاف في كل آية موجود عن السلف موجود عنهم الخلاف في تفسير كلمات الآيات أو في تفسير الآيات بين الصحابة والتابعين، وهنا لا يُعترض بمثل هذا الاعتراض قعّد شيخ الإسلام رحمه الله هذه القاعدة التي هي من القواعد الأصولية وهي أن الاختلاف نوعان: اختلاف تنوع واختلاف تضاد. وبين لك اختلاف التنوع ببيان أصله -أصل معناه-، ثم ببين أمثلة عليها واضحة من غير القرآن، ثم مثل لذلك بالصراط المستقيم في القرآن، وقبله بالذكر في القرآن. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 5 وتقرير ذلك أن الاختلاف -الاختلاف في الآية بتفسيرها أو في كلمة منها- لا يعني أن يكون القول بل أقول: إن الاتفاق في تفسير الآية أو في تفسير كلمة منها لا يعني أن يكون القول من الصحابي موافقا للقول الآخر في حروفه؛ بل قد يكون الاتفاق في المعنى ولا يسمى هذا اختلافا؛ بل هو اتفاق؛ لأنه في الحقيقة اتفقوا على المعنى، أما اللفظ فجرى بينهم خلاف فيه، فمن الناس من ينظر إلى اللفظ ويقول: السلف اختلفوا في ذلك. وهذا ليس بصحيح؛ بل المفسر ينظر إلى المعنى؛ لأن من يرد التفسير إنما يبين معنى الكلام، وتبيين معنى الكلام يختلف باختلاف المفسِّر، يختلف باختلاف المعبِّر؛ لأنه تعبير عما فهمه من الكلام، قد يكون هذا التعبير بالنظر إلى حاجة المتكلم من أنه سأل عن شيء معين أو لحاجته التي فيها إصلاحه من جهة الهداية، أو بالنظر إلى عموم اللفظ وما يشمله ونحو ذلك، فقال: إن الاختلاف في التنوع هذا في منزلة الألفاظ المتكافئة التي هي بين المترادفة والمتباينة. وعند الأصوليين الألفاظ إما أن تكون متواطئة أو مشتركة أو [مشككة] أو مترادفة أو متباينة. والترادف التام لا يوجد في القرآن ولا في اللغة، أو إن وجد عند بعض المحققين من بعض العلم فإنه نادر الترادف التام؛ يعني أن هذا اللفظ يساوي هذا اللفظ من كل جهاته، يساويه في المعنى من كل جهاته، هذا الترادف. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 6 أما التباين فأن تكون هذه غير تلك لفظا ومعنى، بينهما -كما ذكر شيخ الإسلام وهو اختيار له-، عند طائفة من الأصوليين غير ذلك؛ لأنهم يجعلون الأسماء المتكافئة من المتباينة، ويجعلون المتباينة قسمين؛ لكن نسير على كلامه في أن الألفاظ المتكافئة بين المترادفة والمتباينة، فهي ليست مترادفة، كل لفظ هو الآخر لفظا ومعنى، وليست هي المترادفة لأن اللفظ مع الآخر متساوية في المعنى تاما لا اختلاف فيه، وليست هي المتباينة من أن هذا اللفظ غير ذاك تماما -يعني مع معناه-؛ المعنى مختلف تماما كما أن اللفظ مختلف تماما؛ بل هي بين هذا وهذا؛ يعني هي متكافئة لاشتراك في شيء واختلاف في شيء، في دلالتها على المسمى على الذات هذه واحدة، في دلالتها على أوصاف الذات هذه مختلفة. مثل ما ذكر من أسماء السيف أنه السيف والصارم والمهند والبتار إلى آخره، هذه هي متباينة؟ على كلامه ليست بمتباينة؛ لأن البتار والصارم والمهند كل هذا معناه السيف، وهل هي مترادفة؟ لا؛ لأن دلالتها على الذات واحدة؛ لكن مختلفة في المعنى البتار فيه أنه سيف وزيادة وصف وهو كونه بتارا، المهند سيف وزيادة كونه جاء من الهند، الصارم سيف وزيادة أن من وصفه الصّرامة وهكذا. فإذن فيها ترادف من جهة الدلالة على المسمّى وفيها تباين من جهة المعنى فصارت بيْن بيْن، وسميت متكافئة؛ يعني يكافئ بعضها بعضا وهذا لا يقتضي التبيان ولا يقتضي الترادف. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 7 هذا مثل ما جاء في الأسماء الحسنى كما مثّل لك، فإن اسم الله العليم والمؤمن والقدوس والسّلام هذه بدلالة الذات، فإن العليم هو الله، والقدوس هو الله، والسلام هو الله، والرحيم هو الله، والملك هو الله، من جهة دلالتها على الذات واحدة، ومن جهة دلالتها على الصفة مختلفة، فإن اسم الله القدوس ليس مساويا في المعنى -من جهة الصفة- لاسم الله الرحيم، اسم الله العزيز ليس مساويا من جهة المعنى -يعني الصفة التي اشتمل عليها الاسم- لاسم الله القوي، ونحو ذلك، هذه تسمى متكافئة؛ يعني من حيث دلالتها على المسمى واحدة؛ لكن من حيث دلالتها على الوصف الذي في المسمى مختلفة؛ لأن المسمى الذات ذات أي شيء والمسمى هذا يختلف، فيه صفات متعددة؛ إذا نظرت له من جهة يوصف بكذا، من جهة أخرى يوصف بكذا، وهو ذات واحدة. مثّل لهذا بالذكر {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا} [طه: 124] ، الذكر ما هو؟ هل هو القرآن؟ هل هو السنة؟ هل هو الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ هل هو ذكر الله؛ يعني التسبيح والتحميد؟ هذه كلها متلازمة؛ يعني من حيث ظاهرها مختلفة، أناس فسّروها بالقرآن، أناس فسروها بالسنة، أناس فسروها بكذا؛ لكن من حيث الدّلالة فإنها متلازمة؛ يعني من أعرض عن القرآن أعرض عن السنة، أعرض عن الإسلام، أعرض عن اتباع الرسول. من أعرض عن السنة أعرض عن القرآن أعرض عن الإسلام، إلى آخره. فإذن الاختلاف هنا باعتبار المعنى، باعتبار ما اشتمل عليه المسمى من أوصاف. فإذن هذا لا يسمى اختلافا بين مفسري السلف؛ بل هو اتفاق؛ لكن الاختلاف جاء في الدلالة على المعنى، وهذا له أسباب كما ذكرت بعضها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 8 تفسير الصراط، مرّ معنا أن الصراط فُسر بأنه القرآن، بأنه السنة والجامعة، بأنه السنة، بأنه الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هذه التفاسير متلازمة بعضها لازمٌ لبعض، فإن الصراط الذي هو القرآن هو دال على السنة وهو الإسلام، هل سيهتدي إلى القرآن من لم يهتد إلى السنة؟ هل سيهتدي إلى السنة من لم يهتد إلى الإسلام، وهكذا. فإذن إذا رأيت اختلافا للسّلف في آية أو في كلمة من آية فانظر المسمّى الذي يجمع هذا الاختلاف، ثم انظر إلى هذا المسمى من جهة صفاته من جهة معانيه المختلفة. فتنظر إلى تفاسيرهم هل بينها تلازم، فإذا كان ثم تلازم بينها، وأن الواحد يؤول إلى الآخر أو مرتبط بالآخر لا يقوم هذا إلا بهذا أو أنها صفات مختلفة كل واحد ينظر إلى جهة، فإن هذا لا يسمى اختلافا؛ بل تقول: فسرها بعضهم بكذا، لا تقول: اختلف المفسرون فيها إلا إن عنيت اختلاف التنوع؛ بل تقول: فسرها بعضهم بكذا، وفسرها بعضهم بالإسلام، فسّر بعضهم الصراط بكذا، ثم تقول بعد ذلك كما قال ابن كثير وابن جرير وجماعات العلماء بأن هذه الأقوال مؤداها واحد لأنك تجمع ذلك. مثلا في قوله تعالى {لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً} في سورة النحل؛ {وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي اللهِ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَة} [النحل: 41] ، هذه الحسنة ما هي؟ قال بعض المفسرين من السلف هي المال، {لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً} يعني لنعطينهم ولننزلنهم في هذه الدنيا مالا ونعطيهم مالا جزيلا. قال آخرون هي الزوجات والجواري. قال آخرون هي الإمارة حيث ينفذ أمرهم ونهيهم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 9 هذه كلها تفاسير، نعم ظاهرها مختلف؛ لكن يجمعها الحسن، الحسن الذي يلائمهم، والحسنة فسرها العلماء بأنها ما يلائم الطبع ويسرّ النفس، وهم كانوا ظلموا من جهة أموالهم فإعادة الأموال وتوسيع الأموال عليهم وكثرة الأرزاق عندهم، هذا حسنة لاشك، والإمارة من ذلك والزوجات وكثرة الجواري لما حرموا منها في أول الإسلام من ذلك. إذن فهذه التفاسير ترجع إلى شيء واحد، لا يعتبر هذا اختلاف لأن كل واحد ينظر إلى جهة. ونكمل إن شاء الله بعد [الأذان] . المثال الذي ذكرته من حسنة {لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً} ويصدق على الصنف الثاني الذي سيذكره شيخ الإسلام أكثر من دلالته على الأول لأنه من قبيل إطلاق بعض أفراد العام على العام؛ لأن الحسنة تجمع أشياء كثيرة، وتفسيرهم لها بأنها الزوجة أو المال أو الإمارة؛ ببعض أفرادها، وهذا هو النوع الثاني الذي سيذكره شيخ الإسلام ابن تيمية وهو ليس من النوع الأول. فإذن النوع الأول من اختلاف التنوع أن يدل كلُّ مفسر على المسمى الواحد ببعض صفاته أو ببعض ما يتَّصل به. القسم الثاني سيأتي. [المتن] الصِّنْفُ الثَّانِي: أَنْ يَذْكُرَ كُلٌّ مِنْهُمْ مِنْ الِاسْمِ الْعَامِّ بَعْضَ أَنْوَاعِهِ عَلَى سَبِيلِ التَّمْثِيلِ وَتَنْبِيهِ الْمُسْتَمِعِ عَلَى النَّوْعِ، لَا عَلَى سَبِيلِ الْحَدِّ الْمُطَابِقِ لِلْمَحْدُودِ فِي عُمُومِهِ وَخُصُوصِهِ. مِثْل سَائِلٍ أَعْجَمِيٍّ سَأَلَ عَنْ مُسَمَّى "لَفْظِ الْخُبْزِ" فَأُرِيَ رَغِيفًا وَقِيلَ لَهُ: هَذَا. فَالْإِشَارَةُ إلَى نَوْعِ هَذَا لَا إلَى هَذَا الرَّغِيفِ وَحْدَهُ. مِثَالُ ذَلِكَ مَا نُقِلَ فِي قَوْلِهِ: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} [فاطر: 32] . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 10 فَمَعْلُومٌ أَنَّ الظَّالِمَ لِنَفْسِهِ يَتَنَاوَلُ الْمُضَيِّعَ لِلْوَاجِبَاتِ وَالْمُنْتَهِكَ لِلْمُحَرَّمَاتِ. وَالْمُقْتَصِدُ يَتَنَاوَلُ فَاعِلَ الْوَاجِبَاتِ وَتَارِكَ الْمُحَرَّمَاتِ. وَالسَّابِقُ يَدْخُلُ فِيهِ مَنْ سَبَقَ فَتَقَرَّبَ بِالْحَسَنَاتِ مَعَ الْوَاجِبَاتِ. فَالْمُقْتَصِدُونَ هُمْ أَصْحَابُ الْيَمِينِ {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} [الواقعة: 10-11] ، ثُمَّ إنَّ كُلًّا مِنْهُمْ يَذْكُرُ هَذَا فِي نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الطَّاعَاتِ كَقَوْلِ الْقَائِلِ: السَّابِقُ الَّذِي يُصَلِّي فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ، وَالْمُقْتَصِدُ الَّذِي يُصَلِّي فِي أَثْنَائِهِ، وَالظَّالِمُ لِنَفْسِهِ الَّذِي يُؤَخِّرُ الْعَصْرَ إلَى الِاصْفِرَارِ. أو يَقُولُ: السَّابِقُ وَالْمُقْتَصِدُ وَالظَّالِمُ قَدْ ذَكَرَهُمْ فِي آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ فَإِنَّهُ ذَكَرَ الْمُحْسِنَ بِالصَّدَقَةِ وَالظَّالِمَ بِأَكْلِ الرِّبَا وَالْعَادِلَ بِالْبَيْعِ وَالنَّاسُ فِي الْأَمْوَالِ إمَّا مُحْسِنٌ وَإِمَّا عَادِلٌ وَإِمَّا ظَالِمٌ؛ فَالسَّابِقُ الْمُحْسِنُ بِأَدَاءِ الْمُسْتَحَبَّاتِ مَعَ الْوَاجِبَاتِ وَالظَّالِمُ آكِلُ الرِّبَا أَوْ مَانِعُ الزَّكَاةِ وَالْمُقْتَصِدُ الَّذِي يُؤَدِّي الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ وَلَا يَأْكُلُ الرِّبَا. وَأَمْثَالُ هَذِهِ الْأَقَاوِيلِ. فَكُلُّ قَوْلٍ فِيهِ ذِكْرُ نَوْعٍ دَاخِلٍ فِي الْآيَةِ وإِنَّمَا ذُكِرَ لِتَعْرِيفِ الْمُسْتَمِعِ بِتَنَاوُلِ الْآيَةِ لَهُ، وَتَنْبِيهِهِ بِهِ عَلَى نَظِيرِهِ؛ فَإِنَّ التَّعْرِيفَ بِالْمِثَالِ قَدْ يَسْهُلُ أَكْثَرَ مِنْ التَّعْرِيفِ بِالْحَدِّ الْمُطْلَقِ. وَالْعَقْلُ السَّلِيمُ يَتَفَطَّنُ لِلنَّوْعِ كَمَا يَتَفَطَّنُ إذَا أُشِيرَ لَهُ إلَى رَغِيفٍ فَقِيلَ لَهُ: هَذَا هُوَ الْخُبْزُ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 11 وَقَدْ يَجِيءُ كَثِيرًا مِنْ هَذَا الْبَابِ قَوْلُهُمْ: هَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ فِي كَذَا، لَا سِيَّمَا إنْ كَانَ الْمَذْكُورُ شَخْصًا؛ كَأَسْبَابِ النُّزُولِ الْمَذْكُورَةِ فِي التَّفْسِيرِ. كَقَوْلِهِمْ: إنَّ آيَةَ الظِّهَارِ نَزَلَتْ فِي امْرَأَةِ أَوْسِ بْنِ الصَّامِتِ. [الشرح] هذا النوع الثاني أو الصنف الثاني من اختلاف التنوع، وذلك أن في القرآن كثيرا ما تستعمل الألفاظ العامة التي لها معاني كثيرة، مثل ما ذكر من اسم المقتصد، من اسم الظالم لنفسه، السابق بالخيرات، مثل ما ذكرنا في لفظ الحسنة، ومثل ما ذُكر الحسنة ويقابلها السيئة {إِذَا جَاءتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُواْ لَنَا هَذِهِ} [الأعراف: 131] ، ولفظ السيئة كذلك وأتباع هذا. فيه ألفاظ كثيرة تكون دلالات اللفظ متنوعة باعتبار أفراده يعني عام له أفراد كثيرة، فيأتي المفسر من السلف من الصحابة فيذكر لفظا منها، يذكر لفظا من أفراده تدخل تحت العام، وهذا لا يعد خلافا لأنه ذكره كالتنبيه -كما ذكر الآن شيخ الإسلام- على أن هذا اللفظ يدخل فيه -يعني اللفظ العام- يدخل فيه هذا المعين وهذا المفرد باعتبار الحاجة إلى هذا التعيين بحسب حال السائل أو حال المستمع، ومثاله كما ذكر قال {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ} الظالم لنفسه، {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ} بأكل الربا، هذا صحيح، الظالم لنفسه يدخل فيه أكل الربا؛ لكن أكل الربا ليس مساويا بالمطابقة للظالم للنفس؛ بل الظلم للنفس يكون بارتكاب أي من المنهيات أو بالتفريط في أي من الواجبات. فإذا ذكر المفسر بعض أفراد الظلم إما بالتفريط في بعض الواجبات أو بارتكاب بعض المنهيات وذكر غيره فردا آخر من أفراد العام هذا فإن هذا لا يعد اختلافا، وإن سمي اختلافا فهو من اختلاف التنوع، وهذا كما ذكر من التعبير عن العام ببعض أفراده. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 12 {وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ} المقتصد من هو؟ قال: هو الذي أدى الصلاة وترك الحرام. أداء الصلاة هذه بعض الواجبات، المقتصد هو الذي أدى الواجبات وترك المحرمات، فإذا تذكرت بعض أفراد المقتصدين، ذكرت أوصاف لبعض أوصاف المقتصدين فإن هذا لا يعني تعيينا لتفسير اللفظ من حيث حقيقته؛ بل ذكروا ما يتضمنه اللفظ باعتبار أنه فرد دخل تحت عام. مثل ما مثلت لكم بالحسنة، الحسنة عند العلماء هي ما يلائم الطبع ويسر النفس، النساء من ذلك يعني الزوجات والجواري من ذلك، المال من ذلك، الإمارة والأمر والنهي من ذلك، فلما قال الله جل وعلا فيهم {لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً} ، {وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي اللهِ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَة} [النحل: 41] ، فمن فسرها بأنها المال فسر الحسنة ببعض أفرادها ببعض ما يدخل فيها، قال الآخر هي المال، الزوجات قال الثالث الإمارة، قال الرابع أن يطاع والجاه ونحو ذلك، فهذا لا يعد اختلافا بل كله داخل تحت الاسم العام. وهذا يفيد الفائدة وهو أن السلف فسّروا القرآن لأجل الهداية لا لأجل الألفاظ، وهذا مما يحتاجه المفسر جدا أن يرى حاجة السائل فيفسر الآية باعتبار حاجته أو حاجة المستمعين، فإن فسرها ببعض أفرادها فإن هذا التفسير منه صحيح وليس مخالف لتفاسير السلف، فلا يرد اعتراض من اعترض تقول أنت فسرت الحسنة بأنها المال، لا هم فسروا الحسنة بأنها الجاه مثلا أو الأمر والنهي، نقول: لا تعارض؛ فإن المفسر قد يرى أن الحاجة أن ينص على بعض الأفراد. إذن فإذا كان اللفظ عاما يدخل فيه كثير من الأفراد فإنه لا يسوغ تخصيصه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 13 مثال أيضا في سورة النحل في قوله تعالى {وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ} [النحل: 72] ، {جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً} [النحل: 72] هنا الحفدة اختلف فيها المفسرون: فمنهم من قال: الحفدة هو أولاد الأولاد، الحفيد يعني ابن الابن. قال آخرون: الحفدة هم الأصهار؛ يعني أزواج البنات. وقال آخرون: الحفدة هم العبيد والخدم. هذا لا يعتبر اختلافا لأن إرجاع معنى اللفظ إلى أصل لغوي يوضح لك أن هذه جميعا من أفراد اللفظ وليست تخصيصا له. ذلك لأن الحفْد في اللغة هو المسارعة، ومن أوصاف الخادم أنه يسارع في خدمة سيده، وقد جاء في الحديث «إليك نسعى ونَحْفِد» . يعني نسرع في طاعتك بالسعي وبما هو أسرع من السعي، نحفد يعني من جهة السرعة، وسُمي الخادم خادما لأنه يسرع في إرضاء سيده، كذلك ولد الولد باعتبار صغره وحداثة سنه ونحو ذلك وما لجده من الحقوق هو يسرع في إرضاء جده. الأصهار أزواج البنات الأصل أنهم يرضون ويسرعون في إرضاء آباء أولادهم من جهة البنات، وهكذا. فإذن التفسير الحفدة يشمل هذا كله، فمنهم من عبر عنها بأبناء البنين، ومنهم من عبر عنها بالأصهار، ومنهم من غبر عنهم بالخدم والعبيد، وكل هذا صحيح لأن الحفدة جمع حافد، وهو اسم فاعل الحفد، والحفد المسارعة في الخدمة، وهذا يسقط على هؤلاء جميعا. هذا من هذا القسم وهو أن يكون اللفظ عاما فيُفسر بأحد أفراده، وهذا لا يعتبر اختلاف لهذا ينظر المفسر، أو تنظر وأنت تقرأ في التفسير إلى هذا بعناية، الاختلافات حاول تجمع بينها: إما بالجهة الأولى المسمى والصفات. وإما من هذه الجهة العام وأفراده. ((1) [الأسئلة] هذا اقتراح، نجيب على بعض الأسئلة. س1/ يقول: أقترح قراءة مقدمة ابن كثير قبل قراءة التفسير؟   (1) انتهى الوجه الأول من الشريط الثاني. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 14 ج/ مقدمة تفسير ابن كثير لخص فيها مقدمة شيخ الإسلام هذه، وقراءتنا لهذه المقدمة لشيخ الإسلام تكفي عن قراءة مقدمة تفسير ابن كثير. س2/ يقول هل هناك طبعة معينة -يعني لتفسير ابن كثير- أم هل هناك مختصر أو الأصل؟ ج/ الآن نقرا في الأصل لأنه أكثر فوائد ففيه الحديث والأسانيد وفيه اللغة وفيه علوم كثيرة، والطبعة التي هي أحسن فيما ظهر لي طبعة [ .... ] في ثمانية أجزاء هذه أصح الطبعات فيما ظهر لي والله أعلم. س3/ هذا سؤال طويل يقول: هل هناك في القرآن مجاز وكيف ذلك؟ ج/ هذا تفصيله يحتاج إلى محاضرة كاملة؛ لكن المختصر أنّ القرآن الصحيح أن ليس فيه مجاز، ومن ادّعى المجاز في القرآن فهو على أحد قسمين: إما أن يدعي المجاز في آيات الصفات والآيات التي فيها ذكر للغيب، هذا بدعة وضلال، وغلط أيضا في دعوى المجاز؛ لأن المجاز عند من عرفه هو نقل الكلام من وضعه الأول إلى وضع ثانٍ لمناسبة بينهما، وفي هذا التعريف اشتراط أن يكون اللفظ الأول معلوما، والأمور الغيبية لا يُعلم الصفات وما يحدث يوم القيامة واليوم الآخر والأشياء التي لم تر ولم تعرف وذكرها الله جل وعلا في كتابه لا يعلم وضعها الأول، فنقلها إلى وضع ثاني غلط من جهة تطبيق المجاز كما قاله جمع من المحققين ممن ادعوا المجاز أو ممن بحثوا المجاز. أما إن ادُّعي المجاز في غير آيات الصّفات في الألفاظ في سياق الكلام في بعض الآيات، فإن هذا غلط نقول هذا غلط وخلاف الصواب، والمحققون حققوا أن ليس في القرآن مجاز لأن أصل المجاز وقاعدته أنه يصح نفيه، إذا قال القائل: رأيت أسدا لقائل أن يقول ليس بأسد. رأيت أسدا فكلمني. كل مجاز معياره صحة نفيه القائلين به، فإذا قال القائل: رأيت أسدا فكلمني، لمن كلمه أو سمع منه أو هو أن يقول ليس بأسد؛ يعني يصح النفي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 15 والقرآن لا يجوز أن ينفى كلمة فإذا قال الله تعالى {جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ} [الكهف: 77] القائلون أن فيها مجازا على قاعدتهم يجوز أن يقال لا يريد أن ينقض لقوله تعالى {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيْرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا} [يوسف: 82] ، من ادعى المجاز يقال له وهو يعترف أنه يصح أن يقال {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} ليست بقرية والعير ليست بعير وهذا نفي للقرآن، وهذا ممتنع، وهذا من أقوى الأدلة التي أقامها من يدخل المجاز في غير آيات الصفات وأخبار الغيب؛ لكن هو اختلاف أدبي إذا ادعي في غير الآيات، نقول: خلاف الصواب، لكن نقول ليس ببدعة لكثرة القائلين به من العلماء. المجاز فيه بحوث مطولة جدا لكن أحسنها وأفضلها كتاب للشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله في المجاز سماه: منع جواز المجاز في المنزل للتعبد والإعجاز. س4/ يسأل عن آية ما معناها إذا لم يكن في القرآن مجاز؟ ج/ البحث يطول يعني القرآن كله حقيقة، فالحقيقة قد تكون على جهة الإفراد تُفهم من جهة أفراد الكلام وقد تكون من جهة تركيب الكلام مثل الظاهر، الظاهر قد يفهم من كلمة وقد تفهمه من التركيب، فقول الله جل وعلا {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} هذا يفهم من الظاهر ليس من اللفظ {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} ظاهرها معلوم أن السؤال يقع على من في القرية، هذا ظاهر اللفظ، واللغة العربية حقيقة نأخذ بظاهر ألفاظها ومن ادّعى المجاز حصر الحقيقة في الألفاظ ولم يذكر الحقيقية في التركيب، وحصر الظاهر في اللفظ ولم يذكر الظاهر في التركيب، وهذا باطل؛ لأن الحقيقة قد تكون في التركيب، والظاهر الذي هو القابل التأويل هذا قد يكون أيضا في التركيب. {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ} [الفرقان: 45] ، واضح لأن المراد ليس رؤية الله جل وعلا؛ لأنه قال {كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ} وهذا يفهم من ظاهره التركيب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 16 كذلك قوله تعالى في سورة النحل {فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ} [النحل: 26] ، ما يؤخذ من هذه الآية صفة الإتيان لله لأنه ليس المراد هنا إتيان الله جل وعلا بذاته؛ لأنه قال {فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمْ السَّقْفُ} [النحل: 26] ، فظاهر الكلام الحقيقة التركيبية مفهومة تُفهم أن المراد بعذابه أو قدرته ونحو ذلك. وهذا لا يعد تأويلا ويعد قولا بالمجاز. س5/ ما رأيك أن تكون القراءة مختصر الرفاعي لابن كثير؟ ج/ ليس بمناسب. س6/ يقول: هل تقصد باختلاف التنوع أن كل مفسر نظر من زاوية فيفسره حسب المقام وحسب سؤال السائل، فلا يسمى بذلك اختلافا بل أقوالا؟ ج/ هذا جهة أن الشيء الواحد المسمى الواحد قد تكون صفات كثيرة مثلما ذكرنا السيف صارم ومهند وبتار، الأسد أسامة وله عدة أسماء. هذا لكه باعتبار الصفات أما الذات واحدة، أسماء الله جل وعلا الحسنى، أسماء النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ الحاشر والعاقب والماحي وأحمد ومحمد، كلها دلالة على ذات واحدة وهو رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لكن باعتبار الصفات تختلف. إذا نظرت إلى كثرة صفاته المحمودة فهو محمد، إذا نظرت باعتبار تجدد صفاته المحمودة فهو أحمد، إذا نظرت إلى أنه عاقب للأنبياء فهو العاقب، إذا نظرت إلى أن الأنبياء يحشرون على عقبه فهو الحاشر، وهكذا. فهذا باعتبار الصفات، قد يكون أيضا مثل ما ذكر الصنف الثاني الأفراد مع العام. ونقف عند هذا، وصلى الله وسلم على نبينا محمد. * * * أعدّ هذه المادّة: سالم الجزائري الجزء: 4 ¦ الصفحة: 17 الدرس الخامس بسم الله الرحمن الرحيم [المتن] [وَقَدْ يَجِيءُ كَثِيرًا مِنْ هَذَا الْبَابِ قَوْلُهُمْ: هَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ فِي كَذَا، لَا سِيَّمَا إنْ كَانَ الْمَذْكُورُ شَخْصًا؛ كَأَسْبَابِ النُّزُولِ الْمَذْكُورَةِ فِي التَّفْسِيرِ. كَقَوْلِهِمْ: إنَّ آيَةَ الظِّهَارِ نَزَلَتْ فِي امْرَأَةِ أَوْسِ بْنِ الصَّامِتِ.] وَإِنَّ آيَةَ اللِّعَانِ نَزَلَتْ فِي عُوَيْمَرْ العَجْلاَنِي أَوْ هِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ. وَأَنَّ آيَةَ الْكَلَالَةِ نَزَلَتْ فِي جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ. وَأَنَّ قَوْلَهُ: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 49] ، نَزَلَتْ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ. وَأَنَّ قَوْلَهُ: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ} [الأنفال: 16] ، نَزَلَتْ فِي بَدْرٍ. وَأَنَّ قَوْلَهُ: {شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} [المائدة: 106] (1) نَزَلَتْ فِي قَضِيَّةِ تَمِيمٍ الداري وَعَدِيِّ بْنِ بَدَاءٍ. وَقَوْلَ أَبِي أَيُّوبَ إنَّ قَوْلَهُ: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195] ، نَزَلَتْ فِينَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ. الْحَدِيثَ.   (1) وأيضا في البقرة الآية 181. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1 وَنَظَائِرُ هَذَا كَثِيرٌ مِمَّا يَذْكُرُونَ أَنَّهُ نَزَلَ فِي قَوْمٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ بِمَكَّةَ أَوْ فِي قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، أَوْ فِي قَوْمٍ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ؛ فَاَلَّذِينَ قَالُوا ذَلِكَ لَمْ يَقْصِدُوا أَنَّ حُكْمَ الْآيَةِ مُخْتَصٌّ بِأُولَئِكَ الْأَعْيَانِ دُونَ غَيْرِهِمْ; فَإِنَّ هَذَا لَا يَقُولُهُ مُسْلِمٌ وَلَا عَاقِلٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ. وَالنَّاسُ وَإِنْ تَنَازَعُوا فِي اللَّفْظِ الْعَامِّ الْوَارِدِ عَلَى سَبَبٍ هَلْ يَخْتَصُّ بِسَبَبِهِ أَمْ لَا؟ فَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ: إِنَّ عمومات الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ تَخْتَصُّ بِالشَّخْصِ الْمُعَيَّنِ. وَإِنَّمَا غَايَةُ مَا يُقَالُ إنَّهَا تَخْتَصُّ بِنَوْعِ ذَلِكَ الشَّخْصِ، فَيَعُمُّ مَا يُشْبِهُهُ وَلَا يَكُونُ الْعُمُومُ فِيهَا بِحَسَبِ اللَّفْظِ. وَالْآيَةُ الَّتِي لَهَا سَبَبٌ مُعَيَّنٌ إنْ كَانَتْ أَمْرًا أو نَهْيًا فَهِيَ مُتَنَاوِلَةٌ لِذَلِكَ الشَّخْصِ وَلِغَيْرِهِ مِمَّنْ كَانَ بِمَنْزِلَتِهِ، وَإِنْ كَانَتْ خَبَرًا بِمَدْحِ أَوْ ذَمٍّ فَهِيَ مُتَنَاوِلَةٌ لِذَلِكَ الشَّخْصِ وَغَيْرِهِ مِمَّنْ كَانَ بِمَنْزِلَتِهِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2 وَمَعْرِفَةُ سَبَبِ النُّزُولِ يُعِينُ عَلَى فَهْمِ الْآيَةِ فَإِنَّ الْعِلْمَ بِالسَّبَبِ يُورِثُ الْعِلْمَ بِالْمُسَبَّبِ؛ وَلِهَذَا كَانَ أَصَحُّ قَوْلَيْ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ إذَا لَمْ يُعْرَفْ مَا نَوَاهُ الْحَالِفُ رُجِعَ (1) إلَى سَبَبِ يَمِينِهِ وَمَا هَيَّجَهَا وَأَثَارَهَا. وَقَوْلُهُمْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي كَذَا يُرَادُ بِهِ تَارَةً أَنَّهُ سَبَبُ النُّزُولِ وَيُرَادُ بِهِ تَارَةً أَنَّ هَذَا دَاخِلٌ فِي الْآيَةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ السَّبَبُ كَمَا تَقُولُ عَنَى بِهَذِهِ الْآيَةِ كَذَا. [الشرح]   (1) قال الشيخ صالح هنا: يعني رُجِع الحالف ببعض الأيمان يُسأل عن نيته ماذا قصد بذلك، إذا قال ما اتضح له الأمر، فيرجع، قال: والله أنا ما أدري ما عندي يقين هو كذا أو كذا فهذا يحصل كثيرا، ويرجع في ذلك إلى سبب اليمين وما هيجها، أوش السبب؟ ينظر فإذا كان غضب و [ ... ] بحكمه، إذا كان الرضى يقول: لا، أنا والله جالس مرتاح ثم فأطلقت هذه العبارة هذا ما فيه سبب يحمله على شيء معين؛ يعني يريد أن أخذ الأحوال، المعاني، من جهة الأسباب أنه مطرد عند العلماء؛ يعني رعاية الأسباب وفهم الشيء بفهم سببه هذا موجود عند العلماء حتى في الفقه فكيف بالتفسير. نعم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3 قوله هنا في أول الكلام أنه قد يجيء السبب الواحد للآية مختلفا، وقد يجيء ذكر السبب واحدا فإذا جاء السبب واحدا مثل قولهم في آية الظهار نزلت في أوس بن الصامت، فهذا لا يعني أن عموم اللفظ يُخص بهذا السبب بل إن العلوم له أفراد ومن أفراده هذه الحادثة التي حدثت، وهذا يدل له دلالة واضحة ما جاء في الصحيح أن رجلا قبل امرأة في الطريق وجاء للنبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ قال: إني لقيت امرأة في الطريق أو قال في أحد البساتين أو قال في أحد الحوائط ولا شيء يأتيه الرجل من أمراه إلا فعلته إلا النكاح. يعني إلا الوطء، فسكت النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ، ثم أنزل الله جل وعلا عليه قوله {وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114] ، الحسنات ومنها الصلاة تذهب السيئات، فأخذها، فقال الرجل: يا رسول الله ألي وحدي. هذا السائل قال: ألي وحدي قال: «لا بل لأمتي جميعا» ، وهذا يعني أن خصوص السبب لا يُخص به عموم اللفظ {وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} هل هو بخصوص هذا الرجل؟ لا، قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «بل لأمتي جميعا» فاستدل العلماء بهذا الحديث الذي في الصحيح أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. وإذن ما ذكره هنا لأن أحد قسمي اختلاف التنوع أنه يرد لفظ عام يفسّره الصحابة يفسره السلف لأحد أفراده، ذكر لك أمثلة، ثم ذكر هنا أمثلة أسباب النزول، فأسباب النزول من ذلك، يكون اللفظ عام كل واحد يقول نزلت في كذا، أحيانا يقول بعضهم نزلت في كذا وفي كذا وهذه كلها أفراد. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 4 نعم إن العلم بالسبب يورد العلم بمعنى الآية لأنها هي التي تسبب عنها أو التي أنزلت لهذا السبب تارة يقول الآية يقولون نزلت في كذا أو نزلت في كذا، ولا يعنون أنه سبب النزول؛ ولكن يعنون أنه يصلح للآية. مثلا في سورة المطففين هل هي مكية أو مدنية؟ قالوا: نزلت في مكة، ثم قال بعضهم: نزلت في المدينة. وفي سورة الفاتحة قالوا: نزلت في المدينة. مثل المعوذتين قل أعوذ برب الفلق وقل أعوذ برب الناس قالوا: نزلت في كذا لما سُحر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ونزلت بعد ذلك، ونحو ذلك من هذه الأنواع. هذا عند الصحابة وعند السلف يعنون به أنها تصلح لهذا المعنى، نزلت في كذا؛ يعني تلاها النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ عليهم سورة المطففين لما ذهب إلى المدينة تكون نزلت بكذا لأنهم خوطبوا بها. فإذن قولهم: نزلت في كذا -هذا كالخلاصة- نزلت في كذا يعني: أولا تخصيص المعنى بالسبب، هذا واحد؛ لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. الثاني أنه قد تذكر أكثر من حادثة نزلت في كذا أو في كذا، وهذه كلها أفراد للعام؛ لا يعني تخصيصها أو إلغاء معنى الآية لأجل الاختلاف في السبب؛ سبب النزول. الفائدة الثالثة: أنهم قد يقولون أنها نزلت في كذا. ولا يعنون سبب نزولها أو مرة ولكن يعنون أن الآية صالحة لتناول هذا الذي حصل حيث تلا النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ تلك الآيات. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 5 السبب الثاني: يختلفون، بعضهم يقول نزلت في كذا، وبعضهم نزلت في كذا، وبعضهم يقول نزلت في كذا؛ يعني الاختلاف في هذا السبب كذا وكذا لا يلغي دلالة الآية؛ يعني لا يكون أن الآية لا تدل على ما عمّه لفظها لأجل أنه اختلفوا في سبب النزول، فأسباب النزول أفراد للعموم، مثل ما تقول مثلا القوم يدخل فيها فلان وفلان وفلان، إذا قلنا فلان وفلان وفلان اختلفنا، تقول دخل الرجال، قلت أنت: محمد وصالح وأحمد. قال الثاني: لا خالد وأحمد وعبد العزيز. قال الثالث: عبد الله ومحمد وخالد. اختلفوا في من هم الرجال؛ هل الاختلاف في هذا في تحديد المعنى هل يعني اختلاف الدخول؟ فهم دخلوا لكن التحديد هذا هو الذي الاختلاف فيه، طيب حضرت الواقعة ما الذي لم؟ قال بعضهم السبب كذا وكذا وكذا، وقال الآخرون: لا، سبب هذه الواقعة كذا وكذا وكذا، فالاختلاف في السبب لا يعني أنها لم تحصل أو أن المعنى الذي فيها ليس بمأخوذ به. لا. فإذن اختلاف في أسباب النزول هو من قبيل ذكر أفراد العام لا من قبيل التقسيم، يريد شيخ الإسلام أن يذكر هذه القاعدة؛ لأنه ذكرها بعد ذكر العام وأفراده. [المتن] وَقَدْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي قَوْلِ الصَّاحِبِ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي كَذَا هَلْ يَجْرِي مَجْرَى الْمُسْنَدِ كَمَا يَذْكُرُ السَّبَبَ الَّذِي أُنْزِلَتْ لِأَجْلِهِ، أَوْ يَجْرِي مَجْرَى التَّفْسِيرِ مِنْهُ الَّذِي لَيْسَ بِمُسْنَدِ؟ فَالْبُخَارِيُّ يُدْخِلُهُ فِي الْمُسْنَدِ وَغَيْرُهُ لَا يُدْخِلُهُ فِي الْمُسْنَدِ، وَأَكْثَرُ الْمَسَانِيدِ عَلَى هَذَا الِاصْطِلَاحِ كَمُسْنَدِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ؛ بِخِلَافِ مَا إذَا ذَكَرَ سَبَبًا نَزَلَتْ عَقِبَهُ فَإِنَّهُمْ كُلَّهُمْ يُدْخِلُونَ مِثْلَ هَذَا فِي الْمُسْنَدِ. [الشرح] الجزء: 5 ¦ الصفحة: 6 روى الحافظ في المستدرك قال كلمة في كتاب التفسير مهمة يقول: وقول الصاحب الذي شهد التنزيل -لاحظ الكلمة الذي شهد التنزيل- نزلت في كذا حديث مسند. يعني مرفوع لأنه هو شهد ذلك هذا معناه متصل، هو شهده ورآه ويذكر ما شهده، فبناءً على هذا قول الصحابة الذين شهدوا الأمور تكون من قبيل المسند لا من قبيل الموقوف؛ يعني ليست بآثار بل هي مسندة، وهذا مثل ما ذكر ما جرى عليه الإمام أحمد في مسنده وأصحاب المسانيد، فليس كل ما فيها مرفوعة؛ بل قد يكون منها شيء يقول نزلت في كذا حصل كذا لأن مشاهدته للتنزيل مشاهدته للحادثة هذه تكفي في كونها مسندا فيكون المراد بالمسند أنه متصل بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إما قولا أو زمانا إما قولا أو زمانا. [المتن] وَإِذَا عُرِفَ هَذَا؛ فَقَوْلُ أَحَدِهِمْ: نَزَلَتْ فِي كَذَا، لَا يُنَافِي قَوْلَ الْآخَرِ نَزَلَتْ فِي كَذَا إذَا كَانَ اللَّفْظُ يَتَنَاوَلُهُمَا كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي التَّفْسِيرِ بِالْمِثَالِ. وَإِذَا ذَكَرَ أَحَدُهُمْ لَهَا سَبَبًا نَزَلَتْ لِأَجْلِهِ وَذَكَرَ الْآخَرُ سَبَبًا؛ فَقَدْ يُمْكِنُ صِدْقُهُمَا بِأَنْ تَكُونَ نَزَلَتْ عَقِبَ تِلْكَ الْأَسْبَابِ، أَوْ تَكُونَ نَزَلَتْ مَرَّتَيْنِ مَرَّةً لِهَذَا السَّبَبِ وَمَرَّةً لِهَذَا السَّبَبِ. [الشرح] هنا يقول قد تكون نزلت مرتين، طبعا النزول الاصطلاحي يكون للمرة الأولى، نزلت لكذا التي هي المرة الأولى، أما المرة الثانية فيكون إنزالها للتذكير بها، ينزل بها جبريل عليه السلام إما سورة كاملة كسورة الفاتحة وإما بعض سورة مثل سورة ويل للمطففين وغيرها، فيكون للتذكير بشمول ما حدث لهذه الآيات أو بشمول الآيات لما حدث، بدخول ما حدث في الآية وبشمول الآية لما حدث. [المتن] وَهَذَانِ الصِّنْفَانِ اللَّذَانِ ذَكَرْنَاهُمَا فِي تَنَوُّعِ التَّفْسِيرِ: تَارَةً لِتَنَوُّعِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 7 وَتَارَةً لِذِكْرِ بَعْضِ أَنْوَاعِ الْمُسَمَّى وَأَقْسَامِهِ كَالتَّمْثِيلَاتِ. هُمَا الْغَالِبُ فِي تَفْسِيرِ سَلَفِ الْأُمَّةِ الَّذِي يُظَنُّ أَنَّهُ مُخْتَلِفٌ. وَمِنْ التَّنَازُعِ الْمَوْجُودِ عَنْهُمْ مَا يَكُونُ اللَّفْظُ فِيهِ مُحْتَمِلًا لِلْأَمْرَيْنِ؛ إمَّا لِكَوْنِهِ مُشْتَرَكًا فِي اللُّغَة (1) كَلَفْظِ (قَسْوَرَة) الَّذِي يُرَادُ بِهِ الرَّامِي وَيُرَادُ بِهِ الْأَسَدُ. وَلَفْظِ (عَسْعَسَ) الَّذِي يُرَادُ بِهِ إقْبَالُ اللَّيْلِ وَإِدْبَارُهُ. [الشرح] يعني أن بعض الخلاف المنقول عن السلف راجع إلى اللغة، فيكون اللفظ الذي اختلفوا فيه في اللغة محتملا، احتماله لا من جهة الحقيقة والمجاز كما يدّعيه المتأخرون؛ لكن من جهة أنه مشترك يطلق على هذا وهذا، مثل لفظ (قسورة) مثل مثلا لفظ (العين) العين يطلق على أشياء كثيرة هذا عين؛ عين الإنسان وعين الذهب وعين الماء ونحو ذلك. القسورة وتطلق على الأسد، الأسد هو قسورة سمي بذلك، والقوس هذه قسورة {كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ} [المدثر: 50-51] ، يعني فرت من أسد لأنها خافت منه، أو فرت من رام بقوسه؟ هذا محتمل وهذا محتمل، لاحتمال اللفظ، لاحتمال اللفظ لاشتراكه في هذا وهذا، عسعس {وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ} [التكوير: 17] ، كذلك. فإذن هذا الاختلاف -اختلاف المنقول- قد يكون سببه اللغة وهذا لا يعني أنه اختلاف تضاد؛ بل إذا كان في اللغة هذا وارد وهذا وراد، فإننا نقول إن هذا صحيح وهذا صحيح كل من القولين صحيح. سؤال يقول: ذكرتَ أن اللام تأتي إذا كان المخاطب منكرا أو منزلا منزلة المنكر. فمن هو مخاطب في قوله تعالى {إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} [يس: 3] .   (1) بعض الطبعات: اللفظ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 8 الجواب: المخاطب بهذا الخطاب الخاص هو النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ؛ لكن القسم وهذه المؤكدات ليست لإعلام النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالرسالة وتأكيد الأمر للنبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ؛ لكن هي لمن أنكر رسالة النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ، يعني أن المخاطب الخاص هو النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ، ليس المراد بالتنزيل بهذه المؤكدات النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ، وإنما المراد المخاطب العام الذي يسمع هذا الوحي وهم كفار قريش. كثير من الآيات فيها مخاطبة النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ ويُعنى بخطابه ذكر ما عليه المشركون أو ذكر أحوالهم ونحو ذلك. نعم. [المتن] وَإِمَّا لِكَوْنِهِ مُتَوَاطِئًا فِي الْأَصْلِ لَكِنَّ الْمُرَادَ بِهِ أَحَدُ النَّوْعَيْنِ أَوْ أَحَدُ الشَّيْئَيْنِ كَالضَّمَائِرِ فِي قَوْلِهِ: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} [النجم: 8-9] ، وَكَلَفْظِ: {وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ} [الفجر: 1-3] وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. فَمِثْلُ هَذَا قَدْ يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ كُلُّ الْمَعَانِي الَّتِي قَالَتْهَا السَّلَفُ، وَقَدْ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ؛ فَالْأَوَّلُ إمَّا لِكَوْنِ الْآيَةِ نَزَلَتْ مَرَّتَيْنِ فَأُرِيدَ بِهَا هَذَا تَارَةً وَهَذَا تَارَةً. وَإِمَّا لِكَوْنِ اللَّفْظِ الْمُشْتَرَكِ يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ مَعْنَيَاهُ إذْ قَدْ جَوَّزَ ذَلِكَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ: الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنْبَلِيَّةُ وَكَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ. وَإِمَّا لِكَوْنِ اللَّفْظِ مُتَوَاطِئًا فَيَكُونُ عَامًّا إذَا لَمْ يَكُنْ لِتَخْصِيصِهِ مُوجِبٌ فَهَذَا النَّوْعُ إذَا صَحَّ فِيهِ الْقَوْلَانِ كَانَ مِنَ الصِّنْفِ الثَّانِي. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 9 وَمِنْ الْأَقْوَالِ الْمَوْجُودَةِ عَنْهُمْ وَيَجْعَلُهَا بَعْضُ النَّاسِ اخْتِلَافًا أَنْ يُعَبِّرُوا عَنْ الْمَعَانِي بِأَلْفَاظِ مُتَقَارِبَةٍ لَا مُتَرَادِفَةٍ فَإِنَّ التَّرَادُفَ فِي اللُّغَةِ قَلِيلٌ. وَأَمَّا فِي أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ فَإِمَّا نَادِرٌ وَإِمَّا مَعْدُومٌ. وَقَلَّ أَنْ يُعَبَّرَ عَنْ لَفْظٍ وَاحِدٍ بِلَفْظِ وَاحِدٍ يُؤَدِّي جَمِيعَ مَعْنَاهُ؛ بَلْ يَكُونُ فِيهِ تَقْرِيبٌ لِمَعْنَاهُ وَهَذَا مِنْ أَسْبَابِ إعْجَازِ الْقُرْآنِ. فَإِذَا قَالَ الْقَائِلُ: {يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا} [الطور: 9] ، إنَّ الْمَوْرَ هُوَ الْحَرَكَةُ كَانَ تَقْرِيبًا إذْ الْمَوْرُ حَرَكَةٌ خَفِيفَةٌ سَرِيعَةٌ. وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ: (الْوَحْيُ) الْإِعْلَامُ، أَوْ قِيلَ: {أَوْحَيْنَا إلَيْكَ} أَنْزَلْنَا إلَيْك أَوْ قِيلَ: {وَقَضَيْنَا إلَى بَنِي إسْرائِيلَ} [الإسراء: 4] أَيْ أَعْلَمْنَا وَأَمْثَالُ ذَلِكَ؛ فَهَذَا كُلُّهُ تَقْرِيبٌ لَا تَحْقِيقٌ، فَإِنَّ الْوَحْيَ هُوَ إعْلَامٌ سَرِيعٌ خَفِيٌّ، وَالْقَضَاءُ إلَيْهِمْ أَخَصُّ مِنْ الْإِعْلَامِ فَإِنَّ فِيهِ إنْزَالًا إلَيْهِمْ وَإِيحَاءً إلَيْهِمْ. [الشرح] الكلام على الترادف هذا مهم للمفسر جدا، وكما ذكر شيخ الإسلام أن الترادف في القرآن قليل نادر أو معدوم، يقول في اللغة قليل وفي القرآن نادر أو معدوم، والصواب أنه معدوم لا يوجد كلمة في القرآن تساوي الكلمة الأخرى بجميع معانيها؛ بل يكون تفسيرها تقريبا لها، وهذا التقريب قد يكون فيه تنازع من جهة المفسرين؛ لأن كل واحد يقرّب المعنى ببعضه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 10 فإذا فسر المور كما ذكر في قوله {يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا} قال المور الحركة، قال آخر المور نفوذ في سرعة، فهذا وهذا كله مقرّب، المور كلمة في اللغة معناها ليس هو الحركة فقط؛ بل هو الحركة وزيادة، حركة وزيادة أشياء، كل كلمة نفسر في القرآن ليس تفسيرها تحقيقا؛ يعني أن تفسيرها هو معناها بالمطابقة؛ يعني لا تخرج منه أبدا، هذا ليس كذلك لهذا نقول إن تفسير المفسر هو نقل للمعاني. ومن هذا الوجه مُنعت ترجمة القرآن حرفيا؛ لأنه لا يمكن أحد أن يترجم القرآن بمعانيه وإنما يمكنه أن ينقل تفسيره، ينقل معاني القرآن يذكر بعض كما دلت عليه مما يفهمه المفسر، أما اللفظ نفسه فإنه في اللغة لا يمكن أن تفسر شيء بشيء. تقول مثلا: العهن هو الصوف {كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ} [القارعة: 5] ، العهن كالصوف لا العهن صوف في حالة خاصة، العهن صوف في حالة خاصة. مثلا في قوله {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} نقول كوت صارت كرة أو كالكرة، هذا تقريب؛ لأن التكوير هو جعْلها كرة مع الزيادة أوصاف. في قوله مثلا {فَإِذَا انشَقَّتِ السَّمَاء فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ} [الرحمن: 37] ، قال: الوردة ما كان فيه حمرة مع تفتّح. هذا تقريب أيضا؛ لأن الوردة قد يفهم العربي معناها لكن يُقرِّب المعنى في كلمتين تارة في ثلاث كلمات تارة يقرب معنى الكلمة في أربع، وهذا من عجائب أسرار اللسان العربي. أما غيره من الألسنة فيكثر فيها أن تعبر الكلمة بأخرى. مثل فاسعوا السعي والمشي، يقول لك: السعي هو مشي سريع هذا أيضا تقريب، السعي مشي سريع لكن فيه أيضا معنى القصد مع ذلك يعني مشي سريع من جهة القصد والرغبة، وهكذا. فإذن نقول: مما ينبغي أن يعتني به المفسِّر والمطالِع في التفسير أن يعلم أن أخذ معنى الكلمة من معجمات اللغة أنه ليس تفسيرا للألفاظ بمعناها العام وإنما هو تقريب. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 11 ولهذا شَرُفَتْ تفاسير السلف؛ لأنهم يفسّرون لا من جهة اللفظ فقط ولكن من جهة فهمهم للمعنى، فَهُم يفهمون المعنى والسياق الذي جاء فيه اللفظ -يعني سياق الآية- فيفسرون ناضرين إلى الجهتين جهة اللفظ ومعناه وجهة السياق؛ لأن الجميع تقريبا تفسير اللفظ في اللغة يعني بمفردها تقريب وتفسير اللفظ بما دل عليه السياق تقريب أيضا للمعنى؛ ولكن التقريب الذي فيه الدرجتان وفيه الأمران -الذي هو لآية الأمر ولأية السياق كما عليه السلف- هذا لاشك أنه أبلغ وأبلغ. ولهذا يشرف في التفسير العلماء، كلما زاد علم العالم لكما نال من التفسير أكثر وأكثر، لم؟ لأنه يفسر من الجهتين، إذا كان عالما باللغة فهو ينظر إلى المعنى وينظر إلى السياق ويقرب من جهتين. وهذه مسألة مهمة من جهة التقريب. فإذن لا تنازع في تفسير بعض الكلمات، مثلا لو فسرها بعض السلف فسر يعض الآيات بكلمة، ثم وجدت من المفسرين من ذكر معنى آخر، فهنا لا يعد هذا اختلافا للسلف بل تنظر: هل هذا المعنى الثاني مواكب لمعان السلف، أم مضاد لها، إذا كان يدور في فلكها فالعمدة جميعا التقريب تقريب المعنى، وأما إذا كان مضادا لها فإذا هو الذي ينكر، ولهذا توسع العلماء في التفسير في التقريب، التفسير بالتقريب توسعوا فيه، فيذكروا العالم فيذكر العالم ما يفهمه من الآية مقربا المعنى للناس، وهذا التقريب لابد أن يكون محكوما بأصول تفاسير السلف، وهذه طريقة المحققين من العلماء الذين يتابعون السلف في التفسير. ويذكرون مثالا مثل ما مر معنا في قوله تعالى {وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي اللهِ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَة} [النحل: 41] ، حسنة هذه ما هي؟ قال بعضهم: المال، الإمارة، الزوجة الصالحة، هذا تمثيل. مثل الصراط المستقيم: القرآن، الإسلام، السنة والجماعة، هذا إذا فسره فإنما يعني به أن يذكر بعض أفراده؛ يعني تمثيل له حتى يتضح المعنى. [المتن] الجزء: 5 ¦ الصفحة: 12 وَالْعَرَبُ تُضَمِّنُ الْفِعْلَ مَعْنَى الْفِعْلِ وَتُعَدِّيهِ تَعْدِيَتَهُ وَمِنْ هُنَا غَلِطَ مَنْ جَعَلَ بَعْضَ الْحُرُوفِ تَقُومُ مَقَامَ بَعْضٍ كَمَا يَقُولُونَ فِي قَوْلِهِ [تعالى] : {لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إلَى نِعَاجِهِ} [ص: 24] ، أَيْ مَعَ نِعَاجِهِ و {مَنْ أَنْصَارِي إلَى اللَّهِ} [آل عمران: 52، الصف: 14] أَيْ مَعَ اللَّهِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ. وَالتَّحْقِيقُ مَا قَالَهُ نُحَاةُ الْبَصْرَةِ مِنْ التَّضْمِينِ فَسُؤَالُ النَّعْجَةِ يَتَضَمَّنُ جَمْعَهَا وَضَمَّهَا إلَى نِعَاجِهِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إلَيْكَ} [الإسراء: 73] ، ضُمِّنَ مَعْنَى يُزِيغُونَك وَيَصُدُّونَك. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} [الأنبياء77] ، ضُمِّنَ مَعْنَى نَجَّيْنَاهُ وَخَلَّصْنَاهُ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} [الإنسان: 6] ، ضُمِّنَ يُرْوَى بِهَا وَنَظَائِرُهُ كَثِيرَةٌ. [الشرح] هذه قاعدة عظيمة تحتاج إلى بيانها البيان المفصل، وتحتاج إلى محاضرة كاملة لأنها من أنفع علوم التفسير؛ قاعدة التضمين. وذلك أن العلماء -علماء العربية- اختلفوا في الأحرف؛ أحرف الجر هذه وأحرف المعاني، اختلفوا فيها على قولين: منهم من يقول: إن الأحرف قد ينوب بعضها عن بعض، مثل ما قال بعضهم في تفسير {لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إلَى نِعَاجِهِ} يقول {إلَى} هنا بمعنى مع. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 13 القول الثاني أن هذا ليس بصحيح؛ بل الفعل إذا كان الجادة أن يُعدى بنفسه أو يعدى بحلاف جر ثم خولفت الجادة، وأوتي بحرف جر آخر؛ ليس معنى هذا الاختلاف من المتكلم أنه يريد بالحرف الثاني هو الحرف الذي هو حرف الجادة، مثل هنا يريد بـ {إلَى نِعَاجِهِ} مع نعاجه، هذا ما يكون في الكلام عمق؛ ولكن يقول نحاة البصرة كما ذكر وهو التحقيق وهو الصحيح وهو كثير في القرآن يقولون: إن تعدية الفعل بحرف جر لا يناسب معناه أن يثبت معنى الفعل الأصلي ومعه يثبت معنى فعل آخر مضمّن فيه في داخله يناسب حرف الجر. فالعربي يريد أن يفهم شيئين بكلامه؛ يريد أن يفهم فعلين، كيف هل يكرر الفعل؟ هو أتى بفعل قال {لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ} قال جل وعلا سبحانه وكلامه باللسان العربي المبين قال {لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إلَى نِعَاجِهِ} ، هنا سؤال {لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إلَى نِعَاجِهِ} السؤال ما يتعدى بـ {إلَى} سأله كذا إلى كذا! فإذن يكون يريد السؤال ومع السؤال شيء آخر؛ فعل آخر نستنتجه من حرف الجر المذكور الذي هو {إلَى} ، فما الذي يناسب حرف {إلَى} ؟ في هذا يناسبه الضم} ضمّ شيئا إلى شيء، جمع شيئا إلى شيء. فإذن هم سألوا ومع السؤال ضمّوا شيئا إلى شيء {لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إلَى نِعَاجِهِ} ، إذن هم سألوا وأيضا حصل منهم الضم وحصل منهم الجمع، وهذا نبه عليه بـ {إلَى} ، هذا كثير في القرآن. مثلا قال {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه: 71] ، قالوا: {فِي} بمعنى على. ليس كذلك، التحقيق أن {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} أن التصليب أصلا لا يكون إلا على الجذع؛ ولكن {فِي} دلّت على فعل آخر ضمنه الفعل أصلب. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 14 كذلك قوله {وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج: 25] أراد، ما تقول بكذا، الله سبحانه وتعالى قال {وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ} والجادة أن أراد تتعدى بنفسها، تقول: أردتُ الشيء، أراد الذهاب، أردتُ الظلم، أردتُ الحق. فلم عداه بالباء؟ هذا معناه أنه أراد معنى الإرادة ومع معنى الإرادة معنى فعل آخر تستنتجه بهذا الحرف المذكور. ولهذا قال السلف في تفسيره مثلا {وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ} قال أراد هامّا بظلمٍ، وهذا لأجل عدم التكرير لأجل أن مبنى اللغة على الاختصار، فبدل أن يكرر الفعلين يقول: أراد الظلم وهم بالظلم، أراد الظلم هاما به. هذا يكون فيه تطويل في الكلام. فإذن العرب عمدة كلامها على الاختصار والقرآن العظيم كلام الله جل وعلا الذي أعجز الخلق أن يأتوا بمثله ولو اجتمعوا جميعا، هذا فيه من أسرار التضمين الشيء الكثير، التضمين علم مهم. قال { [وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ] (1) مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ} [آل عمران: 75] ، يقولون: الباء بمعنى (على) . ليس كذلك. نعم هي المعنى تأمنه على قنطار؛ لكن لماذا أتى بالباء؟ أمنه على الشيء، ما يقال أمنه بالشيء، فمعنى الباء أن هناك كلمة أخرى؛ فعل آخر دخل في كلمة {تَأْمَنْهُ} ، كيف تستنتجه؟ تذهب إلى الفعل الذي يناسب التعدية بالباء. وانتبه لهذه القاعدة قاعدة التضمين، وانظر إلى كلام المفسرين فيها والتطبيقات عليها سترى أنها من أعظم الفوائد في التفسير، ولاشك أن علمها يكون بمعرفة حروف المعاني.   (1) الشيخ قال: ومنهم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 15 ذكرنا لكم مثال فيما سبق واضح مثلا قوله تعالى {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء} [البقرة: 29، فصلت: 11] ، {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء} هنا {اسْتَوَى إِلَى} هل {إِلَى} بمعنى على؟ أصلا استوى الجادة أنها تعدى بـ (على) {فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ} [المؤمنون: 28] ، {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ} [الزخرف: 13] . هنا عداها بـ {إِلَى} ، فمعنى ذلك أنه أراد الاستواء الذي هو بمعنى العلو أولا، ثم أراد فيه معنى الاستواء الذي هو بمعنى العلو فعل آخر تناسبه التعدية بـ {إِلَى} الذي هو القصد والعمد. فيكون المعنى أنه جل وعلا عَلَا على السماء قاصدا عامدا على وقصد وعمد، بخلاف المؤولين فإنهم يقولون استوى بمعنى قصد ويزيلون معنى العلو، وهذا غير طريقة أهل السنة، فأهل السنة في باب التضمين يقولون المعنى الأول مراد ومعه المعنى الثاني الذي يناسب التعدية بـ {إِلَى} . فانتبه لهذه القاعدة، فإنها مهمة للغاية. نكتفي بهذا القدر. [الأسئلة] س1/ يقول هل نستطيع أن نقول أنه لا يوجد اسم يدل على صفة فعلية لله جل وعلا؟ ج/ لا، لا نستطيع؛ لأن أسماء الله جل وعلا منها ما يكون فيه الصفات الذاتية، ومنها ما يكون فيه الصفات الفعلية، نعم ليس كل صفة فعل لله جل وعلا تصاغ له منها اسم ولن قد يكون من أسمائه ما هو من قبيل الصفات الفعلية مثل الخالق والرازق والسّتير ونحو ذلك. س2/ يقول: فُسرت كلمة (عسعس) بأقبل وأدبر. فظاهر التفسيرين التناقض، فكيف الجمع بينهما؟ ج/ ليس متناقضا، هذا يسمى الألفاظ المشتركة، يعني يرِد هذا ويرد هذا، عسعس الشيء بمعنى أقبل، عسعس الشيء بمعنى أدبر. اللديغ هو الملدوغ واللديغ هو السليم من اللدغ، تقول فلان لديغ يعني سلم من الدغ، وفلان لديغ بمعنى ملدوغ أصابه اللدغ. هذا يرد، بعض العلماء يجعل هذا في باب التضاد، وبعضهم لا يجعله في باب التضاد، هذا من استعمال اللفظ في معنيين فأكثر، يسمى المشترك. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 16 هنا {وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ (18) } [التكوير: 17-18] ، هنا الليل إذا عسعس يكون المراد بتفسير من فسّر عسعس بأنه أقبل يعني: والليل إذا أقبل. أو من فسر عسعس بالإدبار قال: والليل إذا أدبر. ورُجّح الثاني وهو الإدبار لفائدة قوله {وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ} ؛ لكن كلا القولين صحيح، يعني أن تفسير اللفظ بالمشترك لا يعدّ اختلافا؛ لأن هذا صحيح وهذا صحيح وقد يرجح أحدهما عن الآخر بأضرب من الترجيح. نكتفي بهذا القدر وصلى الله وسلم على نبينا. * * * أعدّ هذه المادّة: سالم الجزائري الجزء: 5 ¦ الصفحة: 17 الدرس السادس بسم الله الرحمن الرحيم [المتن] وَمَنْ قَالَ: لَا رَيْبَ لَا شَكَّ. فَهَذَا تَقْرِيبٌ، وَإِلَّا فَالرَّيْبُ فِيهِ اضْطِرَابٌ وَحَرَكَةٌ، كَمَا قَالَ: «دَعْ مَا يَرِيبُك إلَى مَا لَا يَرِيبُك» . وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ: مَرَّ بِظَبْيٍ حَاقِفٍ. فَقَالَ: «لَا يَرِيبُهُ أَحَدٌ» ، فَكَمَا أَنَّ الْيَقِينَ ضُمِّنَ السُّكُونَ وَالطُّمَأْنِينَةَ فَالرَّيْبُ ضِدُّهُ ضُمِّنَ الِاضْطِرَابَ وَالْحَرَكَةَ. وَلَفْظُ (الشَّكِّ) وَإِنْ قِيل: إنَّهُ يَسْتَلْزِمُ هَذَا الْمَعْنَى; لَكِنَّ لَفْظَهُ لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ. (1) وَكَذَلِكَ إذَا قِيلَ: ذَلِكَ الْكِتَابُ هَذَا الْقُرْآنُ فَهَذَا تَقْرِيبٌ؛ لِأَنَّ الْمُشَارَ إلَيْهِ وَإِنْ كَانَ وَاحِدًا فَالْإِشَارَةُ بِجِهَةِ الْحُضُورِ غَيْرُ الْإِشَارَةِ بِجِهَةِ الْبُعْدِ وَالْغَيْبَةِ، وَلَفْظُ (الْكِتَابِ) يَتَضَمَّنُ مِنْ كَوْنِهِ مَكْتُوبًا مَضْمُومًا مَا لَا يَتَضَمَّنُهُ لَفْظُ (الْقُرْآنِ) مِنْ كَوْنِهِ مَقْرُوءًا مُظْهَرًا بَادِيًا. فَهَذِهِ الْفُرُوقُ مَوْجُودَةٌ فِي الْقُرْآنِ، فَإِذَا قَالَ أَحَدُهُمْ: {أَنْ تُبْسَلَ} [الأنعام: 70] ، أَيْ تُحْبَسَ وَقَالَ الْآخَرُ: تُرْتَهَنَ وَنَحْوَ ذَلِكَ. لَمْ يَكُنْ مِنْ اخْتِلَافِ التَّضَادِّ وَإِنْ كَانَ الْمَحْبُوسُ قَدْ يَكُونُ مُرْتَهَنًا وَقَدْ لَا يَكُونُ إذْ هَذَا تَقْرِيبٌ لِلْمَعْنَى كَمَا تَقَدَّمَ.   (1) انتهى الشريط الثاني. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1 وَجَمْعُ عِبَارَاتِ السَّلَفِ فِي مِثْلِ هَذَا نَافِعٌ جِدًّا؛ فَإِنَّ مَجْمُوعَ عِبَارَاتِهِمْ أَدَلُّ عَلَى الْمَقْصُودِ مِنْ عِبَارَةٍ أَوْ عِبَارَتَيْنِ، وَمَعَ هَذَا فَلَا بُدَّ مِنْ اخْتِلَافٍ مُحَقَّقٍ بَيْنَهُمْ كَمَا يُوجَدُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي الْأَحْكَامِ. وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ عَامَّةَ مَا يُضْطَرُّ إلَيْهِ عُمُومُ النَّاسِ مِنَ الِاخْتِلَافِ مَعْلُومٌ؛ بَلْ مُتَوَاتِرٌ عِنْدَ الْعَامَّةِ أَوْ الْخَاصَّةِ كَمَا فِي عَدَدِ الصَّلَوَاتِ وَمَقَادِيرِ رُكُوعِهَا وَمَوَاقِيتِهَا وَفَرَائِضِ الزَّكَاةِ وَنُصُبِهَا وَتَعْيِينِ شَهْرِ رَمَضَانَ وَالطَّوَافِ وَالْوُقُوفِ وَرَمْيِ الْجِمَارِ وَالْمَوَاقِيتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. ثُمَّ [إنَّ] اخْتِلَافُ الصَّحَابَةِ فِي الْجَدِّ وَالْإِخْوَةِ وَفِي الْمُشَرَّكَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ لَا يُوجِبُ رَيْبًا فِي جُمْهُورِ مَسَائِلِ الْفَرَائِضِ بَلْ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ عَامَّةُ النَّاسِ هُوَ عَمُودُ النَّسَبِ مِنْ الْآبَاءِ وَالْأَبْنَاءِ وَالْكَلَالَةِ؛ مِنْ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ وَمِنْ نِسَائِهِمْ كَالْأَزْوَاجِ فَإِنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ فِي الْفَرَائِضِ ثَلَاثَ آيَاتٍ مُفَصَّلَةٍ ذَكَرَ فِي الْأُولَى الْأُصُولَ وَالْفُرُوعَ وَذَكَرَ فِي الثَّانِيَةِ الْحَاشِيَةَ الَّتِي تَرِثُ بِالْفَرْضِ كَالزَّوْجَيْنِ وَوَلَدِ الْأُمِّ وَفِي الثَّالِثَةِ الْحَاشِيَةَ الْوَارِثَةَ بِالتَّعْصِيبِ وَهُمْ الْإِخْوَةُ لِأَبَوَيْنِ أَوْ لِأَبٍ وَاجْتِمَاعُ الْجَدِّ وَالْإِخْوَةِ نَادِرٌ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَقَعْ فِي الْإِسْلَامِ إلَّا بَعْدَ مَوْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. [الشرح] الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2 الحمد لله، هذا تتمة ما سبق الكلام عليه من أسباب اختلاف التنوع الذي يقع في تفاسير السلف رضوان الله عليهم ورحمة الله عليهم، من أسبابه أنّ الكلمة تكون لها معنى أصلي، ويكون لها معنى ضُمِّن فيها يكون التفسير برعاية المعنى المضمن. مثل ما ذكر في (الريب) فإن (الريب) فُسِّر بأنّه الشك؛ لكن هذا كما قلنا إن الترادف لا يوجد في القرآن؛ بل لا يوجد في اللغة على التحقيق، بمعنى أن الكلمة معناها كلمة أخرى مطابقة دون زيادة كلمة مكان كلمة، نقول: هذا غير موجود. ولهذا يكون ثم تقريب وإفهام للمعنى بأحسن عبارة تدل عليه. ففي قوله {ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ} [البقرة: 2] ، فُسِّر بأنَّ الريب الشك، فسر بأنه الشك اكنهذا كما قلنا إن الترادف لا يوجد في القرآن لا ريب فيه لاشك فيه، وفسر قوله تعالى {وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ} [البقرة: 22] ، يعني إن كنتم في شك، {وَلَا يَرْتَابَ} [المدثر: 31] ، قال ولا يشك، ونحو ذلك. هذا تقريب لكلمة الريب، فإن الريب هنا شك معه اضطراب وعدم هدوء، اضطراب شديد وعدم هدوء، وهذا زيادة عن معنى الشك. فيقول هنا: إذا فسّرها بعض السلف بكلمة واحدة، وفسرها آخرون بزيادة عن تلك الكلمة أو بكلمة أخرى، فإنه قد يكون من أسباب ذلك أنه رُعي المعنى المقارب كما فُسِّر الريب بالشك أو رُعي المعنى الذي يكون أكثر قُرْبًا مثل الريب الذي هو الشك الذي فيه تردد واضطراب، أو يكون برعاية ما ضمن بالكلمة من معنى. مثل قولهم {أَنْ تُبْسَلَ} ، يعني أن تحبس، أو {أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ} [الأنعام: 70] ؛ يعني أن ترتهن النفس بما كسبت، لاشك أن هذا وهذا من باب اختلاف التنوع، وليس من باب اختلاف التضاد. إذا تقرر هذا فإن اختلاف التنوع الذي ذكره شيخ الإسلام فيما سبق وأطال فيه، هذا له فوائد منها وقد ذكرها: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3 أن يكون المعنى يشمل ذلك كله؛ يعني يشمل المعنى التقريبي ويشمل المعنى الأكثر قربا ويشمل الكلمة التيس ضمنت فيكون هذا عدة للمفسر، فإن المفسر إذا رأى أن هذه الكلمة فسرت بكذا وفسرت بكذا وفسرت بكذا، فإنه يفسرها بحسب احتياج الناس لما يناسب الكلمة، فإن اختلاف السلف في التفسير يستفيد منه المفسر كثيرا؛ لأنه يكون أحيانا في رحاب بعض تفاسير رعاية لمعنى بعض الأفراد، وفي التفسير الآخر رعاية لمعنى بعض الأفراد، فإذا نُص على هذا الفرق ولم يستفد العموم كان في هذا فائدة للمفسر في التنصيص عليها بخصوصه لحاجته في الإصلاح أو لحاجته في التنبيه أو لغير ذلك من مقاصد المفسرين. وهذا الذي ذُكر له أمثلة مثل ما ذكر في تفاسير في اختلاف في الفقهيات في الفروع فإن اختلافهم: قد يكون من اختلاف التضاد وهو الأكثر. وقد يكون من اختلاف التنوع وهو الأقل. بعكس التفسير. التفسير في اختلافهم لتفسير القرآن هذا الأكثر فيه الغالب أنه اختلاف تنوع مثل ما ذكر والأقل بل النادر جدا أن يكون اختلاف تضاد. ووجود الاختلاف لما ذكر شيخ الإسلام الفقهيات يقول: وجود الاختلاف في الفقهيات بين السلف لا يعني أن لا يؤخذ بقول السلف لما رجح من أقوالهم، كذلك اختلافهم في التفسير لا يعني أن يقال إنهم اختلفوا فلا نأخذ بشيء من أقوالهم؛ بل يرى المفسر بمثل ما رأوا ويأخذ من حيث أخذوا، فإن هذا ليس بصحيح مطلقا بل الأفضل أن تتبع تفاسيرهم؛ لأنهم أهل الدراية بالقرآن، واختلافهم في التفسير لا يعني عدم أخذ أقوالهم في التفسير كما اختلافهم في الفقهيات لا يعني عدم أخذ أقوالهم في الفقهيات؛ بل الأئمة منهم من نزع إلى بعض الأقوال التي اختلف فيها أو التي اختلف إليها الصحابة من الأقوال المختلفة المتضادة، وذلك مصير منهم إلى أنّ الأخذ بأحد الأقوال أنه صحيح؛ لأنه إذا ترجّح عند الإمام ما يُستدل به لذلك القول فإنه يأخذ به. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 4 هذا مع كونها متضادة وهذا هو الأصل فيها، أما الاختلاف في التفسير بين السلف فالأصل فيه أنه اختلاف تنوع، ولهذا يعظم قدره ويتحتّم الأخذ به، ولا ينبغي الخروج عنه في أقوال التفاسير ولأنهم هم أدرى باللسان والبيان والتفسير بالرأي يعني بغير الأثر ذكرنا شروطه فيما سبق. [المتن] وَالِاخْتِلَافُ قَدْ يَكُونُ لِخَفَاءِ الدَّلِيلِ أَوْ الذُهُولِ عَنْهُ وَقَدْ يَكُونُ لِعَدَمِ سَمَاعِهِ وَقَدْ يَكُونُ لِلْغَلَطِ فِي فَهْمِ النَّصِّ وَقَدْ يَكُونُ لِاعْتِقَادِ مُعَارِضٍ رَاجِحٍ فَالْمَقْصُودُ هُنَا التَّعْرِيفُ بِجُمَلِ الْأَمْرِ دُونَ تَفَاصِيلِهِ. [الشرح] هذا الاختلاف في الفقهيات هذه الجملة بينها شيخ الإسلام وفصلها في كتابه رفع الملام عن الأئمة الأعلام وهذه جملة أشار بها إلى جماع الأسباب اختلاف الأئمة الأربعة رحمهم الله تعالى أبو حنيفة رحمه الله ومالك رحمه الله والشافعي رحمه الله وأحمد بن حنبل رحمه الله تعالى، هذه أسباب الاختلاف، ولا يريد أنها أسباب اختلاف في التفسير لا أسباب الاختلاف الفقهي. نعم [المتن] فَصْلٌ [فِي نَوْعَيْ الاخْتِلاَفِ فِي التَّفْسِيرِ الْمُسْتَنَدِ إِلَى النَّقْلِ وَإِلَى طُرُقِ الاسْتِدْلاَلِ] الِاخْتِلَافُ فِي التَّفْسِيرِ عَلَى نَوْعَيْنِ: مِنْهُ مَا مُسْتَنَدُهُ النَّقْلُ فَقَطْ. وَمِنْهُ مَا يُعْلَمُ بِغَيْرِ ذَلِكَ. إذْ الْعِلْمُ: إمَّا نَقْلٌ مُصَدَّقٌ. وَإِمَّا اسْتِدْلَالٌ مُحَقَّقٌ. وَالْمَنْقُولُ: إمَّا عَنْ الْمَعْصُومِ. وَإِمَّا عَنْ غَيْرِ الْمَعْصُومِ. [الشرح] هذه الجملة مر الكلام عليها في أول الرسالة، وأن العلم قسمان: إما نقل عن معصوم وإما قول عليه دليل معلوم، إما نقل مصدق أو قول محقق، ويعبر عنها شيخ الإسلام في بعض كتبه أو بحث محقق. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 5 يعني أن القول يكتسب الصحة إذا كان عليه دليل معلوم، ويكتسب الصحة إذا كان نقلا عن معصوم، إذا كان القول بنقل مصدق إما من الكتاب أو السنة فهذا اكتسب صوابا وصحة، وإما أن يكون القول صوابه جاء من جهة أنه بحث محقق؛ بحث صاحبه فيه وتوصّل إلى هذه النتيجة وذلك الحكم من طريق بحث محقق مدقق، فهذا أحد طريقي الوصول إلى القول الصحيح. الآن يأتي إلى تفصيل هذه الجملة. نعم [المتن] النَّوْعُ الْأَوَّلُ الخِلاَفُ الوَاقِعُ فِي التَّفْسِيرِ مِنْ جِهَةِ النَّقْلِ وَالْمَقْصُودُ بِأَنَّ جِنْسَ الْمَنْقُولِ - سَوَاءٌ كَانَ عَن الْمَعْصُومِ أَوْ غَيْرِ الْمَعْصُومِ وَهَذَا هُوَ النَّوْعُ الْأَوَّلُ - فَمِنْهُ مَا يُمْكِنُ مَعْرِفَةُ الصَّحِيحِ مِنْهُ وَالضَّعِيفِ. وَمِنْهُ مَا لَا يُمْكِنُ مَعْرِفَةُ ذَلِكَ فِيهِ، وَهَذَا الْقِسْمُ الثَّانِي مِن الْمَنْقُولِ، وَهُوَ مَا لَا طَرِيقَ لَنَا إلَى الْجَزْمِ بِالصِّدْقِ مِنْهُ؛ عَامَّتُهُ مِمَّا لَا فَائِدَةَ فِيهِ فَالْكَلَامُ فِيهِ مِنْ فُضُولِ الْكَلَامِ. وَأَمَّا مَا يَحْتَاجُ الْمُسْلِمُونَ إلَى مَعْرِفَتِهِ فَإِنَّ اللَّهَ [تعالى] نَصَبَ عَلَى الْحَقِّ فِيهِ دَلِيلًا. فَمِثَالُ مَا لَا يُفِيدُ وَلَا دَلِيلَ عَلَى الصَّحِيحِ مِنْهُ اخْتِلَافُهُمْ فِي لَوْنِ كَلْبِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ. وَفِي الْبَعْضِ الَّذِي ضُرِبَ بِهِ قَتِيلُ مُوسَى مِنَ الْبَقَرَةِ. وَفِي مِقْدَارِ سَفِينَةِ نُوحٍ وَمَا كَانَ خَشَبُهَا. وَفِي اسْمِ الْغُلَامِ الَّذِي قَتَلَهُ الْخَضِرُ. وَنَحْوُ ذَلِكَ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 6 فَهَذِهِ الْأُمُورُ طَرِيقُ الْعِلْمِ بِهَا النَّقْلُ فَمَا كَانَ مِنْ هَذَا مَنْقُولًا نَقْلًا صَحِيحًا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَاسْمِ صَاحِبِ مُوسَى أَنَّهُ الْخِضْرُ - فَهَذَا مَعْلُومٌ. (1) وَمَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ بَلْ كَانَ مِمَّا يُؤْخَذُ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، - كَالْمَنْقُولِ عَنْ كَعْبٍ وَوَهْبٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ إسْحَاقَ وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ يَأْخُذُ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ - فَهَذَا لَا يَجُوزُ تَصْدِيقُهُ وَلَا تَكْذِيبُهُ إلَّا بِحُجَّةِ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إذَا حَدَّثَكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ فَلَا تُصَدِّقُوهُمْ وَلَا تُكَذِّبُوهُمْ فَإِمَّا أَنْ يُحَدِّثُوكُمْ بِحَقِّ فَتُكَذِّبُوهُ وَإِمَّا أَنْ يُحَدِّثُوكُمْ بِبَاطِلِ فَتُصَدِّقُوهُ» . وَكَذَلِكَ مَا نُقِلَ عَنْ بَعْضِ التَّابِعِينَ وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُ أَخَذَهُ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ؛ فَمَتَى اخْتَلَفَ التَّابِعُونَ لَمْ يَكُنْ بَعْضُ أَقْوَالِهِمْ حُجَّةً عَلَى بَعْضٍ.   (1) يعني أنه أيضا فيه لفظ في الصحيح أنه الخِضْر؛ لكن المشهور أنه الخَضِر، سُمي بذلك لأنه جلس على حشيشة يابسة بيضاء فاهتزت تحته خضراء، قيل له الْخَضِر لأجل ذلك. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 7 وَمَا نُقِلَ فِي ذَلِكَ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ نَقْلًا صَحِيحًا فَالنَّفْسُ إلَيْهِ أَسْكَنُ مِمَّا نُقِلَ عَنْ بَعْضِ التَّابِعِينَ؛ لِأَنَّ احْتِمَالَ أَنْ يَكُونَ سَمِعَهُ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ مِنْ بَعْضِ مَنْ سَمِعَهُ مِنْهُ أَقْوَى. وَلِأَنَّ نَقْلَ الصَّحَابَةِ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَقَلُّ مِنْ نَقْلِ التَّابِعِينَ. وَمَعَ جَزْمِ الصَّاحِبِ فِيمَا يَقُولُهُ، فَكَيْفَ يُقَالُ إنَّهُ أَخَذَهُ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَقَدْ نُهُوا عَنْ تَصْدِيقِهِمْ؟ وَالْمَقْصُودُ أَنَّ مِثْلَ هَذَا الِاخْتِلَافِ الَّذِي لَا يُعْلَمُ صَحِيحُهُ وَلَا تُفِيدُ حِكَايَةُ الْأَقْوَالِ فِيهِ هُوَ كَالْمَعْرِفَةِ لِمَا يُرْوَى مِنْ الْحَدِيثِ الَّذِي لَا دَلِيلَ عَلَى صِحَّتِهِ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ. [الشرح] يريد شيخ الإسلام رحمه الله بما سمعتم أن يبين أن النقل على قسمين؛ يعني الأقوال في التفسير المنقولة على قسمين: إما أن تكون منقولة عن النّبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهذا لاشك أنه نقل مصدَّق يجب المصير إليه إذا صحّ السند بذلك عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وإما أن يكون النقل عن الصحابة رضوان الله عليهم وعن التابعين. فالنقل عن النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ هذا نقل عن معصوم. والنقل عن أفراد الصحابة رضوان الله عليهم ليس بنقل عن معصوم؛ بل هو نقل عن غير المعصوم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 8 ولهذا إذا أجمع الصحابة في التفسير على قولٍ فإنه يصير هذا القول نقلا عن معصوم؛ لأن إجماع الصحابة لا يكون إلا على حق، فلا يجتمعون على ضلالة لإخبار النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ بذلك عن أمته في الحديث الذي قد يكون حسنا بقوله «لا تجتمع أمتي على ضلالة» يعني أنّ إجماع الصحابة مأخوذ به، وهذا نقل الإجماع منه في التفسير في عدة في آيات كثيرة والذي يعتني بهذا كثيرا ابن جرير رحمه الله تعالى يعبّر عن ذلك بقوله يقول وإنما قلنا ذلك لإجماع الحجة من أهل التأويل على هذا. وما أجمعوا عليه يجب المصير إليه؛ لأنه نقل عن معصوم، والمعصوم ليس هو الصحابة بالنظر إلى أفرادهم وإنما هم الصحابة بالنظر إلى إجماعهم. القسم الثاني النقل عن أفراد الصحابة وعن أفراد التابعين، فهذا من العلوم أن هؤلاء ليسوا بمعصومين فأقوالهم فيها القوة وفيها الضعف خاصة إذا اختلفوا، فإن بعض الأقوال تجده قوية وبعض الأقوال تجده أضعف، والأكثر في اختلاف الصحابة -كما ذكرنا سالفا- أنه اختلاف تنوع فلا يوصف القول بقوة ولا ضعف، وإنما يقال هؤلاء رأوا الجهة فسروا العام بأحد أفراده، فسروا المشترك بأحد معنييه، فسروا المجمل بما يبينه، فسروا الكلمة بما تضمنته، فسروا الفعل بما عدي به يعني بالتضمين ونحو ذلك من الأنواع التي اختلف ذكرها، وهي أحد أنواع الاختلاف أو هي أنواع اختلاف التنوع الذي جرى عند الصحابة رضوان الله عليهم في تفسيرهم لكلام الله جل وعلا. أما كلام التابعين فمن المعلوم أنه ليس بقول أحدهم حجة على أحد، كذلك قول أحد التابعين لا يؤخذ حجة مطلقا؛ بل إنما يكتسب القوة إذا كان إما مدللا عليه، وإما أن يكون أخذه عن الصحابي. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 9 ولهذا مجاهد مثلا تميز عن أئمة التفسير بأنه أخذ التفسير عن ابن عباس رَضِيَ اللهُ عنْهُ، ولهذا يعتني أئمة السنة بتفسير مجاهد خاصة ويكثرون نقل تفسير مجاهد ويكثرون الأسانيد عن مجاهد خاصة كما قال سفيان الثوري وغيره: إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به. يعني يكفيك ذلك وذلك؛ لأن مجاهد عرض التفسير عن ابن عباس ثلاث مرات. يعني أن تفاسير التابعين ليست بقوية في نفسها؛ بل هي قوية في غيرها. أما الصحابة فهم أقوياء في التفسير في أنفسهم؛ لأنهم شاهدوا التنزيل، ولأنهم يعلمون معاني اللغة العربية أقوى من غيرهم، ولأن عندهم من العلم بالأحكام الشرعية وبما كان في أحوال العرب وعلى عهد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما يكون به قولهم له القدر الذي هو أعظم من أقوال من بعدهم. بالنسبة إلى التفاسير المنقولة عن أهل الكتاب هذه كثرت في التابعين، إذْ أن طائفة من التابعين ينقلون التفسير عن المفسرين من أهل الكتاب أو عن الذين يحكون قَصص الأولين من أهل الكتاب، كما يذكرون في اسم أو لون كلب أصحاب الكهف وفي أسماء أصحاب الكهف وفي أسماء ملوك القرى ونحو ذلك، وهذه كلها لاشك ليست من المنقول عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا عن الصحابة، وإنما هي منقولة عن طائفة من أهل الكتاب كما ينقل ذلك عن محمد بن إسحاق بن يسار صاحب السير في السيرة وفي غيرها وكما يقوله غيره من المفسرين ومن التابعين أو من تبع التابعين. تفاسير الصحابة النقل فيها عن بني إسرائيل قليل جدا، وفي الغالب أنهم إذا نقلوا النقل فلا يحمل إذا نقلوا النقل الذي فيه يكون فيه ذكر أمور غيبية لا يحمل أنهم نقلوه عن بتي إسرائيل بل يحمل في الغالب مما استثني يحمل على أنه أخذوه تفقها من القرآن أو مما جاء في السنة أو سمعوه من بعض الصحابة أو نحو ذلك، هذا لأن النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ قال لهم: إذا حدثكم بني إسرائيل فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 10 وإذا ذكروا الشيء كتفسيرٍ للقرآن دون بيان أو دليل على أنه من كلام أهل الكتاب فإن في هذا نوعا من التصديق لهم وهذا فيما لم يرد في شرعنا ذكره. لكن هذا الكلام الذي قاله شيخ الإسلام رحمه الله تعالى بالنظر إلى الأقوال التي تجدها في التفاسير ربما كان عليها بعض التحفظ، ذلك لأنك تجد في التفاسير كتفسير ابن جرير وكتفسير ابن كثير وابن أبي حاتم وغير تلك التفاسير تجد النقول عن الصحابة في أشياء أشبه ما تكون بالإسرائيلية، وهذا قد يُقال إنه مما لم يصح السند به عنهم؛ يعني أن المنقول عن الصحابة مما قد يكون من آثار بني إسرائيل فيجاب بأحد الجوابين: الأول أن يكون مما لم يصح به الإسناد عنهم. الثاني أن يقال إنهم نقلوا التفسير بالاستنباط أو بما فهموه من القرآن والسنة، ويظن الناس أن هذا عن بني إسرائيل، وهذا كثير من الأقوال التي تنسب لابن عباس خاصة، تجد أنها قد يظن أنها من الإسرائيليات ولكنها من باب الاستنباط؛ من مثل حديث الفُتون، ومن مثل نزول القرآن ليلة القدر جملة واحدة إلى السماء الدنيا، ونحو ذلك من التفسيرات؛ يعني [طبعا] هذا على من كلام شيخ الإسلام رحمه الله. يأتي تفصيل لأقوال التابعين في التفسير، والأقوال التي عليها دليل معلوم، وكيف يمكن استنباط الأدلة في التفسير والاعتناء بذلك، وممن اعتنى به فيما يأتي من هذه الرسالة المباركة إن شاء الله تعالى. في هذا القدر كفاية، وأسأل الله جل وعلا أن ينفعني وإياكم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد. (( (( ( أعدّ هذه المادّة: سالم الجزائري الجزء: 6 ¦ الصفحة: 11 الدرس السابع بسم الله الرحمن الرحيم [المتن] وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الِاخْتِلَافِ الَّذِي لَا يُعْلَمُ صَحِيحُهُ وَلَا تُفِيدُ حِكَايَةُ الْأَقْوَالِ فِيهِ هُوَ كَالْمَعْرِفَةِ لِمَا يُرْوَى مِن الْحَدِيثِ الَّذِي لَا دَلِيلَ عَلَى صِحَّتِهِ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ الَّذِي يُمْكِنُ مَعْرِفَةُ الصَّحِيحِ مِنْهُ فَهَذَا مَوْجُودٌ فِيمَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ، فَكَثِيرًا مَا يُوجَدُ فِي التَّفْسِيرِ وَالْحَدِيثِ وَالْمَغَازِي أُمُورٌ مَنْقُولَةٌ عَنْ نَبِيِّنَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَسَلَامُهُ، وَالنَّقْلُ الصَّحِيحُ يَدْفَعُ ذَلِكَ؛ بَلْ هَذَا مَوْجُودٌ فِيمَا مُسْتَنَدُهُ النَّقْلُ وَفِيمَا قَدْ يُعْرَفُ بِأُمُورِ أُخْرَى غَيْرِ النَّقْلِ. فَالْمَقْصُودُ أَنَّ الْمَنْقُولَاتِ الَّتِي يُحْتَاجُ إلَيْهَا فِي الدِّينِ قَدْ نَصَبَ اللَّهُ الْأَدِلَّةَ عَلَى بَيَانِ مَا فِيهَا مِنْ صَحِيحٍ وَغَيْرِهِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 1 وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمَنْقُولَ فِي التَّفْسِيرِ أَكْثَرُهُ كَالْمَنْقُولِ فِي الْمَغَازِي وَالْمَلَاحِمِ؛ وَلِهَذَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَد: ثَلَاثَةُ أُمُورٍ لَيْسَ لَهَا إسْنَادٌ: التَّفْسِيرُ وَالْمَلَاحِمُ وَالْمَغَازِي. وَيُرْوَى لَيْسَ لَهَا أَصْلٌ أَيْ إسْنَادٌ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ عَلَيْهَا الْمَرَاسِيلُ مِثْلُ مَا يَذْكُرُهُ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ وَالشَّعْبِيُّ وَالزُّهْرِيُّ وَمُوسَى بْنُ عُقْبَةَ وَابْنُ إسْحَاقَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ كَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأُمَوِيِّ وَالْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ والواقدي وَنَحْوِهِمْ فِي الْمَغَازِي. فَإِنَّ أَعْلَمَ النَّاسِ بِالْمَغَازِي أَهْلُ الْمَدِينَةِ، ثُمَّ أَهْلُ الشَّامِ، ثُمَّ أَهْلُ الْعِرَاقِ. فَأَهْلُ الْمَدِينَةِ أَعْلَمُ بِهَا لِأَنَّهَا كَانَتْ عِنْدَهُمْ. وَأَهْلُ الشَّامِ كَانُوا أَهْلَ غَزْوٍ وَجِهَادٍ فَكَانَ لَهُمْ مِنْ الْعِلْمِ بِالْجِهَادِ وَالسِّيَرِ مَا لَيْسَ لِغَيْرِهِمْ، وَلِهَذَا عَظَّمَ النَّاسُ كِتَابَ أَبِي إسْحَاقَ الفزاري الَّذِي صَنَّفَهُ فِي ذَلِكَ وَجَعَلُوا الأوزاعي أَعْلَمَ بِهَذَا الْبَابِ مِنْ غَيْرِهِ مِنْ عُلَمَاءِ الْأَمْصَارِ. وَأَمَّا التَّفْسِيرُ فَإِنَّ أَعْلَمَ النَّاسِ بِهِ أَهْلُ مَكَّةَ ; لِأَنَّهُمْ أَصْحَابُ ابْنِ عَبَّاسٍ كَمُجَاهِدِ وَعَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ وَعِكْرِمَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَصْحَابِ ابْنِ عَبَّاسٍ كَطَاوُوسِ وَأَبِي الشَّعْثَاءِ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَأَمْثَالِهِمْ. وَكَذَلِكَ أَهْلُ الْكُوفَةِ مِنْ أَصْحَابُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَمِنْ ذَلِكَ مَا تَمَيَّزُوا بِهِ عَلَى غَيْرِهِمْ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 2 وَعُلَمَاءُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ فِي التَّفْسِيرِ مِثْلُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ الَّذِي أَخَذَ عَنْهُ مَالِكٌ التَّفْسِيرَ وَأَخَذَهُ عَنْهُ أَيْضًا ابْنُهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَأَخَذَهُ [عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ] عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ. والْمَرَاسِيلُ إذَا تَعَدَّدَتْ طُرُقُهَا وَخَلَتْ عَنْ الْمُوَاطَأَةِ قَصْدًا أَوْ الِاتِّفَاقِ بِغَيْرِ قَصْدٍ كَانَتْ صَحِيحَةً قَطْعًا. فَإِنَّ النَّقْلَ إمَّا أَنْ يَكُونَ صِدْقًا مُطَابِقًا لِلْخَبَرِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ كَذِبًا تَعَمَّدَ صَاحِبُهُ الْكَذِبَ أَوْ أَخْطَأَ فِيهِ؛ فَمَتَى سَلِمَ مِنْ الْكَذِبِ الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ كَانَ صِدْقًا بِلَا رَيْبٍ. فَإِذَا كَانَ الْحَدِيثُ جَاءَ مِنْ جِهَتَيْنِ أَوْ جِهَاتٍ وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ الْمُخْبِرَيْنِ لَمْ يَتَوَاطَآ عَلَى اخْتِلَاقِهِ وَعُلِمَ أَنَّ مِثْلَ ذَلِكَ لَا تَقَعُ الْمُوَافَقَةُ فِيهِ اتِّفَاقًا بِلَا قَصْدٍ عُلِمَ أَنَّهُ صَحِيحٌ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3 مِثْلُ شَخْصٍ يُحَدِّثُ عَنْ وَاقِعَةٍ جَرَتْ وَيَذْكُرُ تَفَاصِيلَ مَا فِيهَا مِنْ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ، وَيَأْتِي شَخْصٌ آخَرُ قَدْ عُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يُوَاطِئْ الْأَوَّلَ فَيَذْكُرُ مِثْلَ مَا ذَكَرَهُ الْأَوَّلُ مِنْ تَفَاصِيلِ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ. فَيُعْلَمُ قَطْعًا أَنَّ تِلْكَ الْوَاقِعَةَ حَقٌّ فِي الْجُمْلَةِ، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا كَذَّبَهَا عَمْدًا أَوْ خَطَأً لَمْ يَتَّفِقْ فِي الْعَادَةِ أَنْ يَأْتِيَ كُلٌّ مِنْهُمَا بِتِلْكَ التَّفَاصِيلِ الَّتِي تَمْنَعُ الْعَادَةُ اتِّفَاقَ الِاثْنَيْنِ عَلَيْهَا بِلَا مُوَاطَأَةٍ مِنْ أَحَدِهِمَا لِصَاحِبِهِ، فَإِنَّ الرَّجُلَ قَدْ يَتَّفِقُ أَنْ يَنْظِمَ بَيْتًا وَيَنْظِمَ الْآخَرُ مِثْلَهُ أَوْ يَكْذِبَ كِذْبَةً وَيَكْذِبَ الْآخَرُ مِثْلَهَا. أَمَّا إذَا أَنْشَأَ قَصِيدَةً طَوِيلَةً ذَاتَ فُنُونٍ عَلَى قَافِيَةٍ وَرَوِيٍّ، فَلَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ بِأَنَّ غَيْرَهُ يُنْشِئُ مِثْلَهَا لَفْظًا وَمَعْنًى مَعَ الطُّولِ الْمُفْرِطِ؛ بَلْ يُعْلَمُ بِالْعَادَةِ أَنَّهُ أَخَذَهَا مِنْهُ وَكَذَلِكَ إذَا حَدَّثَ حَدِيثًا طَوِيلًا فِيهِ فُنُونٌ، وَحَدَّثَ آخَرُ بِمِثْلِهِ فَإِنَّهُ إمَّا أَنْ يَكُونَ وَاطَأَهُ عَلَيْهِ أَوْ أَخَذَهُ مِنْهُ أَوْ يَكُونَ الْحَدِيثُ صِدْقًا. وَبِهَذِهِ الطَّرِيقِ يُعْلَمُ صِدْقُ عَامَّةِ مَا تَتَعَدَّدُ جِهَاتُهُ الْمُخْتَلِفَةُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مِنْ الْمَنْقُولَاتِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَحَدُهَا كَافِيًا إمَّا لِإِرْسَالِهِ وَإِمَّا لِضَعْفِ نَاقِلِهِ. [الشرح] بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه. أما بعد: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4 فبعد أن قرّر شيخ الإسلام أن العلم قسمان، إما نقل عن معصوم أو قول عليه دليل معلوم، إما نقل مصدق أو قول محقق يعني محقق بالأدلة، تكلّم على النقل المصدق وصلة ذلك في التفسير، وقال: إن النقل الذي ينقل في التفسير كثير ليس بنقل صحيح. وهذا واقع فإن النقول التي تكون في كتب التفسير عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالأسانيد أو عن الصحابة كثير منها ليس بذي أسانيد جيدة؛ بل إما أن تكون ضعيفة لضعف أحد رواتها أو ضعيفة لجهالة بعض الرواة أو أن تكون ضعيفة بالإرسال أو نحو ذلك. وبين أن كلمة الإمام احمد في هذا وهي قوله: ثلاثة ليس لها أصول التفسير والملاحم والمغازي. أنها كما رُويت باللفظ الآخر ثلاثة ليس لها إسناد؛ ويعني بالإسناد الإسناد المتصل الذي يعتمد على مثله، وأن أكثر الأسانيد التي نُقلت به تلك الأمور التفسير والمغازي والملاحم أنها أسانيد إما مرسلة وإما غير صحيحة. ثم ذكر طبقات الناس في العلوم فقال مثلا في المغازي: أعلم الناس بالمغازي أهل المدينة، ولهذا تكون روايات أهل المدينة في المغازي تكون عند أهل العلم أكثر قدرا من رواية غيرهم، مثل كلام ابن إسحاق ومثل مغازي ابن شهاب الزهري ومثل مغازي عقبة بن نافع ومثل مغازي عروة بن الزبير، ونحو ذلك من المغازي التي جمعت، ثم يليهم في ذلك أهل الشام، ثم يلي أهل الشام في ذلك أهل العراق فكل له خصوصية. مثل السير: السير أهل الشام أعلم بها، ولهذا قال هنا أن سير الفزاري وهو كتاب جليل في السير مطبوع؛ يعني السير أحوال أحكام الحروب، أحكام المغازي من حيث هي أحكام، لا من حيث هي أخبار، فقال أن أهل الشام في ذلك أقعد؛ لأنهم قريبوا لجنب، الثغور بجنبهم، والروم بجنبهم والكفار قريبون منهم، وهم أهل الجهاد وأهل القتال، فلذلك يحتاجون إلى معرفة أحكام السير أكثر من احتياج غيرهم، ولهذا صار مثل سير الفزاري يعتمد عليها وكذلك مثل سير الأوزاعي نحو ذلك. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 5 التفسير مثل هذه العلوم التي ذُكرت له مدارس من جهة المدن: من أحسنها مدرسة التفسير بمكة؛ فإنها أقوى المدارس في التفسير، وذلك لأنهم أخذوا التفسير عن ابن عباس، فابن عباس رضي الله عنهما مكث في مكة سنين طويلة منذ أن ترك عيا رَضِيَ اللهُ عنْهُ في أواخر خلافته إلى أن توفي ابن عباس أو إلى قريب من وافته كان في مكة، ثم في آخر عمره ذهب إلى الطائف؛ يعني أن مدرسته كانت في مكة قوية في التفسير، وكان يفسر القرآن كثيرا في المسجد الحرام وفي بيته وفي سوقه، ويُسأل عن ذلك وعن أخبار عنه بذلك مروية مسندة في غير ما كتاب. ولهذا صار أهل مكة تميّزوا بمعرفة التفسير؛ بل أكثر التفسير المسند -يعني المنقول بالأسانيد ليس المسند الاصطلاحي أعني المنقول بالأسانيد- أكثره يكون عن أهل مكة، تجد أنه يروى عن ابن عباس عن مجاهد عن أبي الشعثاء عن طاووس عن عكرمة ونحو ذلك من التفسير أكثر من غيرهم، وأهل العلم يفرحون بالتفسير إن جاء عن أهل مكة؛ لأنهم في الغالب أخذوه عن ابن عباس رَضِيَ اللهُ عنْهُ. يقول: إنّ هذا كله من الأقوال المنقولة. وهذه كلها ليست بمرفوعة، إنما أكثرها يكون موقوفة أو إذا كان مرفوعا كان مرسلا، إذا كان كذلك فليس مجيء الحديث والأسانيد على هذا النحو ليس موجبا لأي منقولة ليست بصدق؛ لأن النقل الصحيح لا يقبل إلا إذا كان نقلا صدق فيه قائله أو القول كان قولا حققه صاحبه. وهنا تكلم عن الصدق كيف يحصل على الصدق في النقل، الصدق في الإسناد، فذكر أن الصدق يكون بتحقيق الأمرين معا: أن يحقق أن لا يكون صاحبه تعمد الكذب فيه. الثاني أن يحقق أن يكون صاحبه لم يخطئ فيه. لأنه إذا لم يتعمد الكذب ولم يخطئ فليس ثم إلا الثاني يعني أن يكون صادقا فيه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 6 ثم قال: إن الصدق بهذا المعنى يمكن أن يكون بالنقل المتعدد الذي تكون أفراده غير كافية لإثبات الصدق، ومثّل له برواية مرسلة مثلا رواية في التفسير أو في الحديث أو في الأحكام تكون مرسلة يرسلها سعيد بن المسيب ويأتي ورواية أخرى مثلا في الأحكام يرسلها عامر بن شراحيل الشعبي، ثم مثلا رواية ثالثة في الأحكام يرسلها قتادة، ونحو هؤلاء، فهؤلاء ينظر فيهم هل يقال أنهم تواطؤوا جميعا على هذا؛ يعني اجتمعوا أو اخرجوا هذه الرواية جميعا؟ فإذا كانوا تواطؤوا عليها، هذا يحتمل أن يكون ثم خطأ أو كذب في ذلك، وإما أن يقال أنهم لم يتواطؤوا عليها وهذا هو الظن بهم، ولذلك تكون رواية الشعبي مثلا عاضدة لرواية السعيد بن المسيب، ورواية قتادة عاضدة لرواية الشعبي ورواية سعيد، ويكون الجميع من تحصيل هذه المراسيل: العلم بأن النقل هذا نقل صحيح مصدق؛ لأنه يستحيل أن يتواطؤوا على الكذب ويستحيل أيضا أن يجتمعوا على خطأ، إلا إذا قيل الثلاثة أخذوا من فك واحد فهذا يكون من الخطأ؛ لأنهم أخذوا عن شخص واحد؛ لكن فإذا كان ما أخذوه متعد مثل الأمثلة التي ذكرته فإن سعيد بن المسيب في المدينة وعامر بن شراحيل الشعبي في الكوفة، وقتادة في البصرة، فيبعد أن يأخذ هذا عن هذا أو يأخذ الجميع عن شخص واحد، فمعنى ذلك أنه يُشعر التعدد بأن النقل مصدق. وغالب ما يكون التفسير لا تكون أسانيده في تلك القوة، فتجد الأسانيد ضعيفة، فمثلا الذي ينظر فيما ذكرت لكم من قبل لا يُنظر إلى أسانيد التفسير من جنس النظر إلى أسانيد الحديث؛ لأن أسانيد التفسير مبناها على المسامحة وأن بعضها يعضد بعضها إذا ترجّح عند الناظر أن النقل ليس فيه خطأ ولا تعمد كذب. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 7 فإننا نجد رواية عن ابن عباس بإسناد ضعيف أو مجهول رواية أخرى عن ابن عباس بإسناد ضعيف أو مجهول، فنحمل هذه على هذه سيما إذا تعددت المخارج عن ابن عباس وكانت الطرق غير صحيحة يعضد هذا هذا، وكذلك عن التابعين وكذلك الأعظم عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إذا كانت مرسلة من وجه ومرسلة من وجه آخر، فإننا نعضد هذه بتلك يعني أن التفسير فيه مسامحة، والفقهاء كثير منهم يجعلون المراسيل يقوي بعضها بعضا إذا تعددت مخارجها، إذا تعددت المخارج فبعضها بقوي بعضا، وهذا هو الصحيح الذي عليه عمل الفقهاء وعمل الأئمة الذين احتاجوا إلى الروايات المرسلة في الأحكام والاستنباط. إذن فهذا القسم الأول، وهو أن يكون النقل عن معصوم، يكون النقل مصدقا، إذا كان النقل مصدقا صح، والنقل المصدق لا تنظر إليه كنظرك المصدق إلى الحديث، لا، التفسير فيه نوع تسامح؛ لأنه يكفي فيه ما ذكر أن يظن عدم تعمد الكذب وعدم وقوع الخطأ ولا يشدد فيه التشدد في الأحكام. هذا باب واسع. [المتن] لَكِنْ مِثْلُ هَذَا لَا تُضْبَطُ بِهِ الْأَلْفَاظُ وَالدَّقَائِقُ الَّتِي لَا تُعْلَمُ بِهَذِهِ الطَّرِيقِ فَلَا يَحْتَاجُ ذَلِكَ إلَى طَرِيقٍ يَثْبُتُ بِهَا مِثْلُ تِلْكَ الْأَلْفَاظِ وَالدَّقَائِقِ؛ وَلِهَذَا ثَبَتَتْ بِالتَّوَاتُرِ غَزْوَةُ بَدْرٍ بِالتَّوَاتَر وَأَنَّهَا قَبْلَ أُحُدٍ بَلْ يُعْلَمُ قَطْعًا أَنَّ حَمْزَةَ وَعَلِيًّا وَعُبَيْدَةَ بَرَزُوا إلَى عُتْبة وَشَيْبَةَ وَالْوَلِيدِ، وَأَنَّ عَلِيًّا قَتَلَ الْوَلِيدَ وَأَنَّ حَمْزَةَ قَتَلَ قَرْنَهُ ثُمَّ يُشَكُّ فِي قَرْنِهِ هَلْ هُوَ عتبة أَوْ شَيْبَةُ. وَهَذَا الْأَصْلُ يَنْبَغِي أَنْ يُعْرَفَ فَإِنَّهُ أَصْلٌ نَافِعٌ فِي الْجَزْمِ بِكَثِيرِ مِنَ الْمَنْقُولَاتِ فِي الْحَدِيثِ وَالتَّفْسِيرِ وَالْمَغَازِي وَمَا يُنْقَلُ مِنْ أَقْوَالِ النَّاسِ وَأَفْعَالِهِمْ وَغَيْرِ ذَلِكَ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 8 وَلِهَذَا إذَا رُوِيَ الْحَدِيثُ الَّذِي يَتَأَتَّى فِيهِ ذَلِكَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وَجْهَيْنِ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ أَحَدَهُمَا لَمْ يَأْخُذْهُ عَنْ الْآخَرِ جُزِمَ بِأَنَّهُ حَقٌّ، لَا سِيَّمَا إذَا عُلِمَ أَنَّ نَقَلَتَهُ لَيْسُوا مِمَّنْ يَتَعَمَّدُ الْكَذِبَ وَإِنَّمَا يُخَافُ عَلَى أَحَدِهِمْ النِّسْيَانُ وَالْغَلَطُ. فَإِنَّ مَنْ عَرَفَ الصَّحَابَةَ كَابْنِ مَسْعُودٍ وأبيّ بْنِ كَعْبٍ وَابْنِ عُمَرَ وَجَابِرٍ وَأَبِي سَعِيدٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَغَيْرِهِمْ عَلِمَ يَقِينًا أَنَّ الْوَاحِدَ مِنْ هَؤُلَاءِ لَمْ يَكُنْ مِمَّنْ يَتَعَمَّدُ الْكَذِبَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَضْلًا عَمَّنْ هُوَ فَوْقَهُمْ كَمَا يَعْلَمُ الرَّجُلُ مِنْ حَالِ مَنْ جَرَّبَهُ وَخَبَرَهُ خِبْرَةً بَاطِنَةً طَوِيلَةً أَنَّهُ لَيْسَ مِمَّنْ يَسْرِقُ أَمْوَالَ النَّاسِ وَيَقْطَعُ الطَّرِيقَ وَيَشْهَدُ الزُّورَ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ التَّابِعُونَ بِالْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ وَالشَّامِ وَالْبَصْرَةِ فَإِنَّ مَنْ عَرَفَ مِثْلَ أَبِي صَالِحٍ السَّمَّانِ وَالْأَعْرَجِ وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ وَزَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ وَأَمْثَالِهِمْ عَلِمَ قَطْعًا أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مِمَّنْ يَتَعَمَّدُ الْكَذِبَ فِي الْحَدِيثِ فَضْلًا عَمَّنْ هُوَ فَوْقَهُمْ مِثْلِ مُحَمَّدِ بْنِ سيرين أَوْالْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ أَوْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَوْ عُبَيْدَةَ السلماني أَوْ عَلْقَمَةَ أَوْ الْأَسْوَدِ أَوْ نَحْوِهِمْ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 9 وَإِنَّمَا يُخَافُ عَلَى الْوَاحِدِ مِنْ الْغَلَطِ؛ فَإِنَّ الْغَلَطَ وَالنِّسْيَانَ كَثِيرًا مَا يَعْرِضُ لِلْإِنْسَانِ وَمِنْ الْحُفَّاظِ مَنْ قَدْ عَرَفَ النَّاسُ بُعْدَهُ عَنْ ذَلِكَ جِدًّا كَمَا عَرَفُوا حَالَ الشَّعْبِيِّ وَالزُّهْرِيِّ وَعُرْوَةَ وقتادة وَالثَّوْرِيِّ وَأَمْثَالِهِمْ لَا سِيَّمَا الزُّهْرِيُّ فِي زَمَانِهِ وَالثَّوْرِيُّ فِي زَمَانِهِ فَإِنَّهُ قَدْ يَقُولُ الْقَائِلُ: إنَّ ابْنَ شِهَابٍ الزُّهْرِيَّ لَا يُعْرَفُ لَهُ غَلَطٌ مَعَ كَثْرَةِ حَدِيثِهِ وَسَعَةِ حِفْظِهِ. والْمَقْصُودُ أَنَّ الْحَدِيثَ الطَّوِيلَ إذَا رُوِيَ مَثَلًا مِنْ وَجْهَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ مِنْ غَيْرِ مُوَاطَأَةٍ امْتَنَعَ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ غَلَطًا كَمَا امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ كَذِبًا; فَإِنَّ الْغَلَطَ لَا يَكُونُ فِي قِصَّةٍ طَوِيلَةٍ مُتَنَوِّعَةٍ وَإِنَّمَا يَكُونُ فِي بَعْضِهَا فَإِذَا رَوَى هَذَا قِصَّةً طَوِيلَةً مُتَنَوِّعَةً وَرَوَاهَا الْآخَرُ مِثْلَمَا رَوَاهَا الْأَوَّلُ مِنْ غَيْرِ مُوَاطَأَةٍ امْتَنَعَ الْغَلَطُ فِي جَمِيعِهَا كَمَا امْتَنَعَ الْكَذِبُ فِي جَمِيعِهَا مِنْ غَيْرِ مُوَاطَأَةٍ. وَلِهَذَا إنَّمَا يَقَعُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ غَلَطٌ فِي بَعْضِ مَا جَرَى فِي الْقِصَّةِ مِثْلِ حَدِيثِ اشْتِرَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْبَعِيرَ مِنْ جَابِرٍ؛ فَإِنَّ مَنْ تَأَمَّلَ طُرُقَهُ عَلِمَ قَطْعًا أَنَّ الْحَدِيثَ صَحِيحٌ وَإِنْ كَانُوا قَدْ اخْتَلَفُوا فِي مِقْدَارِ الثَّمَنِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 10 وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ فَإِنَّ جُمْهُورَ مَا فِي الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ مِمَّا يُقْطَعُ بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَهُ؛ لِأَنَّ غَالِبَهُ مِنْ هَذَا النَّحْوِ; وَلِأَنَّهُ قَدْ تَلَقَّاهُ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالْقَبُولِ وَالتَّصْدِيقِ وَالْأُمَّةُ لَا تَجْتَمِعُ عَلَى خَطَأٍ؛ فَلَوْ كَانَ الْحَدِيثُ كَذِبًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ; وَالْأُمَّةُ مُصَدِّقَةٌ لَهُ قَابِلَةٌ لَهُ لَكَانُوا قَدْ أَجْمَعُوا عَلَى تَصْدِيقِ مَا هُوَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ.. [الشرح] الجزء: 7 ¦ الصفحة: 11 هذا بحث استطرادي ليس بصلة قوية بأصول التفسير، وإنما يريد منه تقرير ما ذكر سابقا من معنى النقل المصدق وأنه قد يعرض عن النقل المصدق الخطأ؛ يعني ثم احتمال الخطأ في رواية الراوي الذي يروي التفسير لا يعني أنّ تفسيره غير مقبول؛ لأن الذي يُرد أن يكون ممن تعمد الكذب وأكثر الذين يروون التفسير فإنهم لا يتعمدون الكذب خاصة من الصحابة فالتابعين، فكثير من تبع التابعين، هؤلاء لا يتعمدون الكذب، أما الخطأ فقد يجوز على أحدهم أن يخطئ، والخطأ والنسيان عرضة لابن آدم؛ لكن هذا الخطأ والنسيان في القصص الطوال، إذا نقل تابعي قصة طويلة في التفسير أو صحابي نقلها ثم نقلها الآخر، فإن العلم بحصول أصل هذه القصة يحصل باتفاق النقلين؛ لكن قد تختلف ألفاظ هذا وألفاظ هذا فيكون البحث في بعض الألفاظ، من جهة الترجيح؛ يعني هل يرجح هذا على هذا إذا اختلفت الروايتان، أما أصل القصة فقد اجتمعوا عليه، مثل ما ذكر من المثال في قصة بيع جابر جمله على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهذه الرواية وما فيها من الاختلاف من حيث الشروط والألفاظ وبعضها مطولة وبعضها مختصرة، عند أهل العلم هذه الحادثة معلومة يقينا أن جابرا باع جمله على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (1) بثمن، وأنّ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما ذهب إلى المدينة ردّ عليه الجمل والثمن، وهذا علم حصل لأن من نقلها كثير، وتفاصيل القصة اختلفوا فيها.   (1) انتهى الوجه الأول من الشريط الثالث. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 12 فإذن يريد أن الاختلاف في بعض الألفاظ في الأحاديث الطوال لا يعني أن أصل القصة غير صحيح؛ بل كثير من القصص الطوال التي اشتمل عليها أكثر من واحد في النقل في التفسير وفي غيره، فهذا يشعر بأن أصل القصة واقع وصحيح لأنهم لا يجتمعون على الكذب بيقين، ثم إن الخطأ يبعد أن يتفق اثنان في خطإ لم يتواطأ عليه ولم يجتمع عليه، هذا يخطئ وهذا يخطئ في نفس المسألة وفي نفس اللفظة، هذا بعيد، قصة كاملة هذا يخطئ فيها وهدا يخطئ فيها من أصلها قد يخطئ بعضهم في بعض الألفاظ هذا وارد، ولهذا يؤخذ تما اجتمعوا عليه، وأما ما اختلفوا فيه فيطلب ترجيحه من جهة أخرى، وهذا كثير من جهة النقل. نقف عند هذا. [الأسئلة] س 1/ هنا السؤال يقول: حبذا لو كان درس التفسير متأخر لدرس الأصول؛ أصول التفسير متقدم. ج/ طيب إذن إن شاء الله من الأسبوع القادم يكون درس أصول التفسير هو الأول، ويكون درس التفسير بعده، وذلك لاقتراح ورد؛ لأن ما بين الأذان والإقامة يكثر من يريدون سماع التفسير، أما أصول التفسير فهو للمتخصصين كما ذكر، وهو اقتراح وجيه بارك الله في الجميع. س2/ هنا سؤال يقول: ما الفرق بين الأحكام والتفسير مع أن التفسير يحتوي على مسائل الاعتقاد والأحكام؟ نأمل المزيد من الإيضاح. ج/ لا، المقصود من التفسير إذا أُطلق ما لا يدخل فيه الأحكام؛ لأن استنباط آيات الأحكام، استنباط الأحكام من الآيات هذا ليس داخلا في مطلق التفسير؛ يعني إذا أطلقنا التفسير فلا نريد منه فقط آيات الأحكام، آيات الأحكام أو آيات العقائد النقل فيها يحتاج إلى النقل المتبع المعروف في الأحكام وفي العقائد؛ ولكن أكثر التفسير يكون تفسيرا للألفاظ ليس تفسيرا للأحكام أو تفسيرا للعقائد، التفسير للألفاظ. هذا التفسير للألفاظ ما مرجعه؟ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 13 أقوى مرجع له النقل، اللغة مرجع نعم، والنقل نقل الصحابة أو نقل التابعين الذين هم أول الناس لمعرفة اللغة لأجل عدم فشو اللحن بينهم، وقبل فشو اللحن هذا هو المعتمد. هنا في هذه التفاسير ما الراجح؟ مثل ما مرّ معنا من خلافهم في القرية هل هي أنطاكية أو غيرها؟ هل المرسلون ممن أرسلهم المسيح أو أرسلهم الله جل وعلا؟ هذا خلاف بين السلف في التفسير، هذا الخلاف هو الذي نتكلم عليه، لأنه يرجع إلى دلالة اللفظ دلالة الألفاظ القرآن. أما آيات الأحكام لاشك أن استنباط الأحكام من الآيات أو استنباط العقائد من آيات العقائد هذا إما أن يؤخذ بظاهرها يعني بدون ضميمة أدلة أخرى من السنة، أو أن تكون محتاجة في بيانها لأدلة من السنة وهذا لابد فيه من رعاية قواعد الأسانيد في العقيدة والأحكام. نعم. س3/ هو يسأل عن التفسير والمغازي والملاحم؟ ج/ التفسير معروف. المغازي ما حصل من غزوات للنبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ وللصحابة من الفتوح أو غيرها. والملاحم ما يكون في آخر الزمان أو ما يكون في الأزمة المتوالية من حصول المقاتل العظيمة، هذه جاءت بها أحاديث كثيرة لكن أكثرها ليس لها أصول؛ يعني فيها تسمّح في النقل. نكتفي بهذا القدر، وصلى الله وسلم على نبينا محمد. (( (( ( أعدّ هذه المادّة: سالم الجزائري الجزء: 7 ¦ الصفحة: 14 الدرس الثامن بسم الله الرحمن الرحيم [المتن] وَلِهَذَا إنَّمَا يَقَعُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ غَلَطٌ فِي بَعْضِ مَا جَرَى فِي الْقِصَّةِ مِثْلِ حَدِيثِ اشْتِرَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْبَعِيرَ مِنْ جَابِرٍ؛ فَإِنَّ مَنْ تَأَمَّلَ طُرُقَهُ عَلِمَ قَطْعًا أَنَّ الْحَدِيثَ صَحِيحٌ وَإِنْ كَانُوا قَدْ اخْتَلَفُوا فِي مِقْدَارِ الثَّمَنِ. وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ، فَإِنَّ جُمْهُورَ مَا فِي الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ مِمَّا يُقْطَعُ بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَهُ؛ لِأَنَّ غَالِبَهُ مِنْ هَذَا النَّحْوِ; وَلِأَنَّهُ قَدْ تَلَقَّاهُ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالْقَبُولِ وَالتَّصْدِيقِ وَالْأُمَّةُ لَا تَجْتَمِعُ عَلَى خَطَأٍ؛ فَلَوْ كَانَ الْحَدِيثُ كَذِبًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ؛ وَالْأُمَّةُ مُصَدِّقَةٌ لَهُ قَابِلَةٌ لَهُ لَكَانُوا قَدْ أَجْمَعُوا عَلَى تَصْدِيقِ مَا هُوَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ كَذِبٌ، وَهَذَا إجْمَاعٌ عَلَى الخطأ، وَذَلِكَ مُمْتَنِعٌ وَإِنْ كُنَّا نَحْنُ بِدُونِ الْإِجْمَاعِ نُجَوِّزُ الْخَطَأَ أَوْ الْكَذِبَ عَلَى الْخَبَرِ فَهُوَ كَتَجْوِيزِنَا قَبْلَ أَنْ نَعْلَمَ الْإِجْمَاعَ عَلَى الْعِلْمِ الَّذِي ثَبَتَ بِظَاهِرٍ أَوْ قِيَاسٍ ظَنِّيٍّ أَنْ يَكُونَ الْحَقُّ فِي الْبَاطِنِ; بِخِلَافِ مَا اعْتَقَدْنَاهُ، فَإِذَا أَجْمَعُوا عَلَى الْحُكْمِ جَزَمْنَا بِأَنَّ الْحُكْمَ ثَابِتٌ بَاطِنًا وَظَاهِرًا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 1 وَلِهَذَا كَانَ جُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ جَمِيعِ الطَّوَائِفِ عَلَى أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ إذَا تَلَقَّتْهُ الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ تَصْدِيقًا لَهُ أَوْ عَمَلًا بِهِ أَنَّهُ يُوجِبُ الْعِلْمَ. وَهَذَا هُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُونَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد إلَّا فِرْقَةً قَلِيلَةً مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ اتَّبَعُوا فِي ذَلِكَ طَائِفَةً مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ أَنْكَرُوا ذَلِكَ؛ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ أَوْ أَكْثَرِهِمْ يُوَافِقُونَ الْفُقَهَاءَ وَأَهْلَ الْحَدِيثِ وَالسَّلَفَ عَلَى ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْأَشْعَرِيَّةِ كَأَبِي إسْحَاقَ وَابْنِ فُورَك. وَأَمَّا ابْنُ الباقلاني فَهُوَ الَّذِي أَنْكَرَ ذَلِكَ وَتَبِعَهُ مِثْلُ أَبِي الْمَعَالِي وَأَبِي حَامِدٍ وَابْنِ عَقِيلٍ وَابْنِ الْجَوْزِيِّ وَابْنِ الْخَطِيبِ (1) والآمدي وَنَحْوِ هَؤُلَاءِ. وَالْأَوَّلُ هُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَأَبُو الطَّيِّبِ وَأَبُو إسْحَاقَ وَأَمْثَالُهُ مِنْ أَئِمَّةِ الشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ وَأَمْثَالُهُ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ شَمْسُ الدِّينِ السَّرَخْسِيُّ وَأَمْثَالُهُ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ. وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ أَبُو يَعْلَى وَأَبُو الْخَطَّابِ وَأَبُو الْحَسَنِ بْنُ الزاغوني وَأَمْثَالُهُمْ مِنْ الْحَنْبَلِيَّةِ.   (1) قال الشيخ صالح: ابن الخطيب يعني الرازي، الرازي يسمى في كثير من الكتب ابن الخطيب؛ لأن أباه كان خطيبا في الري، يقال له ابن الخطيب الري، أو اختصارا ابن الخطيب. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 2 وَإِذَا كَانَ الْإِجْمَاعُ عَلَى تَصْدِيقِ الْخَبَرِ مُوجِبًا لِلْقَطْعِ بِهِ فَالِاعْتِبَارُ فِي ذَلِكَ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ، كَمَا أَنَّ الِاعْتِبَارَ فِي الْإِجْمَاعِ عَلَى الْأَحْكَامِ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْإِبَاحَةِ. والْمَقْصُودُ هُنَا: أَنَّ تَعَدُّدَ الطُّرُقِ مَعَ عَدَمِ التَّشَاعُرِ (1) أَوْ الِاتِّفَاقِ فِي الْعَادَةِ يُوجِبُ الْعِلْمَ بِمَضْمُونِ الْمَنْقُولِ؛ لَكِنَّ هَذَا يُنْتَفَعُ بِهِ كَثِيرًا فِي عِلْمِ أَحْوَالِ النَّاقِلِينَ. وَفِي مِثْلِ هَذَا يُنْتَفَعُ بِرِوَايَةِ الْمَجْهُولِ وَالسَّيِّئِ الْحِفْظِ وَبِالْحَدِيثِ الْمُرْسَلِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَلِهَذَا كَانَ أَهْلُ الْعِلْمِ يَكْتُبُونَ مِثْلَ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ وَيَقُولُونَ: إنَّهُ يَصْلُحُ لِلشَّوَاهِدِ وَالِاعْتِبَارِ مَا لَا يَصْلُحُ لِغَيْرِهِ. قَالَ أَحْمَد: قَدْ أَكْتُبُ حَدِيثَ الرَّجُلِ لِأَعْتَبِرَهُ. وَمَثَّلَ هَذَا بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ لَهِيعَةَ (2)   (1) قال الشيخ صالح: (مَعَ عَدَمِ التَّشَاعُرِ) يعني -إذا صحت هذه اللفظة- فكأن معناها أن طائفة من هؤلاء الذين نقلوا لم تشعر بما نقلته الطائفة الأخرى منهم؛ يعني لم يقع منهم الاشتراك في ذلك، التشاعر؛ يعني ما شعر هؤلاء بما نقله أولئك، ولم يشعر هؤلاء بما نقله أولئك؛ لكن لفظ التشاعر به غرابة، ولعله أن يكون لفظ التشاور بالواو من المشاورة؛ يعني ما شاور بعضهم بعضا ولم يقع هذا الاتفاق عن تشاور منهم؛ لأن التشاور هو الاتفاق، فالتشاور يكون أولى. (2) قال الشيخ صالح: هو في الحقيقة ابن لهيعة في مصر أكثر أهل مصر الحديث؛ لأن علم طبقة تابعي التابعين وصغار التابعين في مصر صارت إليه وهو قاضي مصر وعالم مصر، علم المصريين آل إليه؛ عبد الله بن لهيعة رحمه الله تعالى. ثم هل حديثه من باب الصحيح أو من باب الضعيف هذا فيه بحث معروف ليس هذا موضعه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3 قَاضِي مِصْرَ؛ فَإِنَّهُ كَانَ مِنْ أَكْثَرِ النَّاسِ حَدِيثًا وَمِنْ خِيَارِ النَّاسِ؛ لَكِنْ بِسَبَبِ احْتِرَاقِ كُتُبِهِ وَقَعَ فِي حَدِيثِهِ الْمُتَأَخِّرِ غَلَطٌ فَصَارَ يَعْتَبِرُ بِذَلِكَ وَيَسْتَشْهِدُ بِهِ وَكَثِيرًا مَا يَقْتَرِنُ هُوَ وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ وَاللَّيْثُ حُجَّةٌ ثَبَتٌ إمَامٌ. وَكَمَا أَنَّهُمْ يَسْتَشْهِدُونَ وَيَعْتَبِرُونَ بِحَدِيثِ الَّذِي فِيهِ سُوءُ حِفْظٍ، فَإِنَّهُمْ أَيْضًا يُضَعِّفُون مِنْ حَدِيثِ الثِّقَةِ الصَّدُوقِ الضَّابِطِ أَشْيَاءَ تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ غَلِطَ فِيهَا بِأُمُورِ يَسْتَدِلُّونَ بِهَا وَيُسَمُّونَ هَذَا عِلْمَ عِلَلِ الْحَدِيثِ؛ وَهُوَ مِنْ أَشْرَفِ عُلُومِهِمْ بِحَيْثُ يَكُونُ الْحَدِيثُ قَدْ رَوَاهُ ثِقَةٌ ضَابِطٌ وَغَلِطَ فِيهِ وَغَلَطُهُ فِيهِ عُرِفَ. إمَّا بِسَبَبٍ ظَاهِرٍ كَمَا عَرَفُوا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم تَزَوَّجَ مَيْمُونَةَ وَهُوَ حَلَالٌ. [الشرح] بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه. أما بعد: هذا الكلام يعني به المؤلف شيخ الإسلام رحمه الله تعالى أن الإجماع معتبر في التفسير، وكما أن الإجماع حجة في الفقه فهو حجة في التفسير؛ لأن الإجماع لا يقع في هذه الأمة وتكون الأمة غالطة فيما أجمعت عليه؛ لأن هذه الأمة عصمت أن تجتمع على ضلالة، فكان ما اجتمعت عليه حجة بيقين، قال: من حيث الأصل فإن الإجماع يكون إما على الخبر؛ يعني على حكم الخبر، وإما أن يكون على نسبة الخبر. فمثلا يكون الإجماع على حكم الخبر مثل الإجماع على حكم أن الصلاة مثلا يُبطلها الأكل والشرب، فإن الأكل والشرب ما جاء فيه دليل خاص في إبطال الصلاة ولكن هذا بالإجماع عرف هذا الحكم بالإجماع، والأمة أجمعت على هذا فصار هذا حقا لا محيد عنه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4 القسم الثاني أن تجتمع على الخبر؛ يعني أن تجمع على صحته، وهذا الإجماع إما أن يكون بالنقل الخبر بتواتر، وإما أن يكون بتلقي الخبر بالقبول، مثل ما تلقت الأمة أحاديث الصحيحين بالقبول، فإن أحاديث الصحيحين تلقتها الأمة بالقبول، وتلقي الأمة لأحاديث الصحيحين بالقبول أفادنا الإجماع على أن ما في الصحيحين من حيث الجملة ومن حيث العموم من حيث الجنس منسوب إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكما قال طائفة من العلماء: لو حلف رجل أن ما في الصحيحين صحيح النسبة إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد قاله رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فكان بارا صادقا ولم يحنث. وهذا المقصود به عامة ما في الصحيحين ما أنهم تنازعوا في بعض الألفاظ في الصحيحين. يعني الإجماع هنا جاء على اعتبار ما في الصحيحين من الأحاديث عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بتلقي الأمة لهذه الأحاديث بالقبول، فهذه الأحاديث تلقّتها الأمة بالقبول فكان إجماعا على صحة هذين الكتابين. ولهذا نقول: أجمعت الأمة على أنه ليس أصح بعد كتاب الله جل وعلا من صحيح البخاري ثم صحيح مسلم، وذلك لأن ما فيهما صحيح النسبة إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. إذا تبين ذلك فإنه كذلك أحاديث التفسير وآثار التفسير فإن نقْلها قد يكون الإجماع عليه منعقد على حكم الخبر: يعني على ما في الخبر على مضمونه على أن الآية تفسر بكذا. وإما أن يكون على تلقي تلك الأخبار بالقبول. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5 وهذا مهم فإن في أحاديث التفسير أخبار نُوزع في صحتها من حيث الإسناد؛ لكن تلقاها علماء التفسير بالقبول، وتلقاها العلماء بالقبول من دون قدح فيها، فهذا يُكسب تلك الأخبار قوة لأنّ تتابعت لأن الأمة تتابعت على الثناء على تلك الأخبار، نعم تلك الأخبار ليس ثم حصرت لها في كتاب كما حصرت في الأحاديث غير البخاري ومسلم وتلقتها الأمة بالقبول؛ لكن من حيث الأصل هذا يعتبر، فإذا كان الحديث مشتهرا بين أهل التفسير بلا نكير فيكون هذا في القوة من جنس الأحاديث التي تلقيت بالقبول. هذا من حيث التأصيل، ويريد بذلك ما هو أخف من هذا، وهو الإجماع معتبرا في نقل التفسير، الإجماع معتبر في الحجة في التفسير والإجماع على نوعين: الإجماع إما أن يكون على ألفاظ التفسير. وإما أن يكون على المعنى. فمثلا يُجمع الصحابة أو يجمع المفسرون على أن تفسير الصراط هو الطريق المستقيم الذي لا عوج فيه، هذا إجماع، أجمعوا على هذا اللفظ. كما قال ابن جرير أجمع أهل التأويل على أن الصراط هو الطريق المستقيم الذي لا عوج فيه هذا إجماع لفظي. وهناك قسم ثانٍ من الإجماع هو: الجماع على المعنى فتكون عباراتهم مختلفة لكن المعنى واحد، وهذا يدخل فيه عند شيخ الإسلام وعند جماعة، يدخل فيه اختلاف التنوع؛ لأن اختلاف التنوع اختلاف في الألفاظ مع الاشتراك في المعنى العام: إما من جهة أن تفسير بعض أفراد العام. وإما أن يكون أحد معنيي اللفظ المشترك. وإما أن يكون تفسير في بعض الحالات. أو نحو ذلك مما مر معنا من أحوال وأنواع اختلاف التنوع بين السلف. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 6 يعني أنّ اختلاف التنوع هذا عند شيخ الإسلام وعند جماعة يعني الإجماع على أصل المعنى، مثل ما ذكر في حديث جابر في أول الكلام، الاختلاف في حديث جابر في إشتراء النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لجمله وبيعه الجمل على جابر وقع الاختلاف في القصة على ألفاظ كثيرة، بعضها يثبت وبعضها غير ثابت لكن الإجماع منعقد على ثبوت أصل القصة. هكذا في روايات التفسير فإن الروايات في التفسير قد يكون الإجماع مأخوذا من اختلاف الألفاظ؛ لكن لأنّ الأصل واحد مثل ما مرّ معنا في تفسير قوله تعالى مثلا الذي مر معنا أو نأتي بمثال آخر - لأني نسيت الأمثلة التي مثلتُ بها- مثلا في قوله تعالى في سورة النحل صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {وَيَجْعَلُونَ لِلّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى} [النحل: 62] ، {وَيَجْعَلُونَ لِلّهِ مَا يَكْرَهُونَ} ، هنا إذا قال قائل {مَا يَكْرَهُونَ} هو البنات لله جل وعلا، هذا مصيبة لأنهم يكرهون البنات. إذا قال قائل الذي يكرهونه هو الزوجة لأن طائفة من النصارى تكره الزوجة للقساوسة وللرهبان وللكبار وينزهونهم عن هذا الأذى ومع ذلك يجعلون لله جل وعلا ما يكرهونه لكبارهم ولمعظميهم، كان هذا تفسيرا صحيحا، وكما قيل يكرهون {وَيَجْعَلُونَ لِلّهِ مَا يَكْرَهُونَ} يعني ما يكرهونه لرسلهم، يجعلون لله ما يكرهونه لأنفسهم يكرهون لأنفسهم أن تهان رسلهم وأن تذل رسلهم، ومع ذلك جعلوا لله ما كرهوه لأنفسهم من إهانة رسل الله وإذلال رسل الله. هذه كلها تفاسير منقولة لكن كل هذه اختلاف التنوع مثلما مثلنا؛ لأنها داخلة في عموم قوله {وَيَجْعَلُونَ لِلّهِ مَا يَكْرَهُونَ} . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 7 فهذا الاختلاف لا يعني أنه لن يقع الإجماع على التفسير، هو اختلاف في الأفراد؛ لكن الأصل المجمع عليه الذي نستطيع أن نقول أنهم أجمعوا عليه هو ما دلّ عليه ظاهر الآية وهو أن المشركين نسبوا لله جل وعلا أشياء يكرهونها لأنفسهم ويُنكرون نسبتها لهم ولا يرضون بنسبتها إليهم، مثل أن تنسب البنات لهم، مثل أن تهان الرسل، مثل أن لا تحترم كتبهم إلى آخر هذه الأمثلة. هناك مثل المشترك في لفظ قسورة {فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ} [المدثر: 51] مرت معنا أن القسورة، إما أن تكون الأسد -السبع-، وإما أن تكون القوس الذي يرمى به، وهذا الاختلاف في المشترك لا يعني لا ينفي أصل المعنى يعني أن الأصل {فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ} أي فرت مما يخاف منه؛ يعني أن هذا إجماع معنوي، إجماع على المعنى، وهذا مثل له شيخ الإسلام في هذه الاختلافات الطويلة التي ذكرها من أن الاختلاف في الأحاديث وتلقي الأمة لها بالقبول -يعني في أصلها- لأن هذا يمكن أن يكون أيضا في التفسير يعني تلقى لأصل تلك الأخبار وإن لم تكن أسانيدها قوية؛ بل يعتبر بها ويستشهد مثل أحاديث ابن لهيعة وأشباهه، فإن أحاديثهم تؤخذ للاستشهاد؛ لكن قد يتلقى خبره عند أهل التفسير بالقبول فيكون جاريا مجرى الإجماع بين المفسرين على ذلك. وهذا يعني أن الإجماع مهم في علم التفسير، فمن أصول التفسير رعاية الإجماع، كيف السبيل إلى معرفة الإجماع في هذين الطريقين؟ إما أن يكون إجماع على اللفظ وهذا أعلاه؛ لكن هذا نادر. وإما أن يكون وهو الأكثر الإجماع على المعنى، إما على المعنى العام بذكر بعض أفراده أو على المعنى الأصلي من جهة المشترك أو على المعنى العام عند ذكر بعض الأحوال. وهذا تقدم لنا في أول الرسالة. الإجماع الاتفاق على اللفظ الاتفاق على اللفظ أو الاتفاق على أصل المعنى؛ يعني تنظر نص على الإجماع؛ قال ابن جرير: أجمع أهل التأويل على كذا. خلاص هذا إجماع نقل الإجماع. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 8 قال ابن كثير: أجمع المفسرون من السلف على كذا. هذا إجماع لا يجوز مخالفته إلا لعالم يقول: [أصدع] والإجماع غير صحيح. هذا بحث آخر؛ يعني ينازع في الإجماع؛ لكن إجماعهم حجة. وإما أن يكون الإجماع فُهِم من المعنى يعني لاتفاقهم على أصل المعنى، لم يتفقوا على اللفظ مثال ما ذكرت لكم في الصراط ونحوه، وإنما اتفقوا على أصل المعنى، وهذا هو الأكثر؛ لكن هذا فيه بحث هل يعد إجماعا أم أنه عدم خلاف تضاد. شيخ الإسلام يعده إجماع بالمعنى إجماع المعنى يأتي إن شاء الله مزيد تفصيل. [المتن] كَمَا عَرَفُوا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَزَوَّجَ مَيْمُونَةَ وَهُوَ حَلَالٌ. وَأَنَّهُ صَلَّى فِي الْبَيْتِ رَكْعَتَيْنِ، وَجَعَلُوا رِوَايَةَ ابْنِ عَبَّاسٍ لِتَزَوُّجِهَا حَرَامًا، وَلِكَوْنِهِ لَمْ يُصَلِّ مِمَّا وَقَعَ فِيهِ الْغَلَطُ. وَكَذَلِكَ أَنَّهُ اعْتَمَرَ أَرْبَعَ عُمَرٍ، وَعَلِمُوا أَنَّ قَوْلَ ابْنِ عُمَرَ: إنَّهُ اعْتَمَرَ فِي رَجَبٍ، مِمَّا وَقَعَ فِيهِ الْغَلَطُ. وَعَلِمُوا أَنَّهُ تَمَتَّعَ وَهُوَ آمِنٌ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَأَنَّ قَوْلَ عُثْمَانَ لِعَلِيّ: كُنَّا يَوْمَئِذٍ خَائِفِينَ. مِمَّا وَقَعَ فِيهِ الْغَلَطُ. وَأَنَّ مَا وَقَعَ فِي بَعْضِ طُرُقِ الْبُخَارِيِّ: أَنَّ النَّارَ لَا تَمْتَلِئُ حَتَّى يُنْشِئَ اللَّهُ لَهَا خَلْقًا آخَرَ. مِمَّا وَقَعَ فِيهِ الْغَلَطُ. وَهَذَا كَثِيرٌ. وَالنَّاسُ فِي هَذَا الْبَابِ طَرَفَانِ: طَرَفٌ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَنَحْوِهِمْ مِمَّنْ هُوَ بَعِيدٌ عَنْ مَعْرِفَةِ الْحَدِيثِ وَأَهْلِهِ، لَا يُمَيِّزُ بَيْنَ الصَّحِيحِ وَالضَّعِيفِ فَيَشُكُّ فِي صِحَّةِ أَحَادِيثَ أَوْ فِي الْقَطْعِ بِهَا مَعَ كَوْنِهَا مَعْلُومَةً مَقْطُوعًا بِهَا عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِهِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 9 وَطَرَفٌ مِمَّنْ يَدَّعِي اتِّبَاعَ الْحَدِيثِ وَالْعَمَلِ بِهِ، كُلَّمَا وَجَدَ لَفْظًا فِي حَدِيثٍ قَدْ رَوَاهُ ثِقَةٌ أَوْ رَأَى حَدِيثًا بِإِسْنَادِ ظَاهِرُهُ الصِّحَّةُ يُرِيدُ أَنْ يَجْعَلَ ذَلِكَ مِنْ جِنْسِ مَا جَزَمَ أَهْلُ الْعِلْمِ بِصِحَّتِهِ حَتَّى إذَا عَارَضَ الصَّحِيحَ الْمَعْرُوفَ أَخَذَ يَتَكَلَّفُ لَهُ التَّأْوِيلَاتِ الْبَارِدَةَ أَوْ يَجْعَلُهُ دَلِيلًا لَهُ فِي مَسَائِلِ الْعِلْمِ مَعَ أَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ يَعْرِفُونَ أَنَّ مِثْلَ هَذَا غَلَطٌ. وَكَمَا أَنَّ عَلَى الْحَدِيثِ أَدِلَّةً يُعْلَمُ بِهَا أَنَّهُ صِدْقٌ وَقَدْ يُقْطَعُ بِذَلِكَ فَعَلَيْهِ أَدِلَّةٌ يُعْلَمُ بِهَا أَنَّهُ كَذِبٌ وَيُقْطَعُ بِذَلِكَ؛ مِثْلُ مَا يُقْطَعُ بِكَذِبِ مَا يَرْوِيهِ الْوَضَّاعُونَ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ وَالْغُلُوِّ فِي الْفَضَائِلِ: مِثْلِ حَدِيثِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ وَأَمْثَالِهِ مِمَّا فِيهِ أَنَّه مَنْ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ كَانَ لَهُ كَأَجْرِ كَذَا وَكَذَا نَبِيًّا. وَفِي التَّفْسِيرِ مِنْ هَذِهِ الْمَوْضُوعَاتِ قِطْعَةٌ كَبِيرَةٌ مِثْلُ الْحَدِيثِ الَّذِي يَرْوِيهِ الثَّعْلَبِيُّ وَالْوَاحِدِيُّ والزَّمَخْشَرِي فِي فَضَائِلِ سُوَرِ الْقُرْآنِ سُورَةً سُورَةً فَإِنَّهُ مَوْضُوعٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ. والثَّعْلَبِيُّ هُوَ فِي نَفْسِهِ كَانَ فِيهِ خَيْرٌ وَدِينٌ وَكَانَ حَاطِبَ لَيْلٍ يَنْقُلُ مَا وُجِدَ فِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ مِنْ صَحِيحٍ وَضَعِيفٍ وَمَوْضُوعٍ. والْوَاحِدِيُّ صَاحِبُهُ كَانَ أَبْصَرَ مِنْهُ بِالْعَرَبِيَّةِ ; لَكِنْ هُوَ أَبْعَدُ عَنْ السَّلَامَةِ وَاتِّبَاعِ السَّلَفِ. والبغوي تَفْسِيرُهُ مُخْتَصَرٌ مِنْ الثَّعْلَبِيِّ لَكِنَّهُ صَانَ تَفْسِيرَهُ مِنْ الْأَحَادِيثِ الْمَوْضُوعَةِ وَالْآرَاءِ الْمُبْتَدَعَةِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 10 وَالْمَوْضُوعَاتُ فِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ كَثِيرَةٌ مِثْلُ الْأَحَادِيثِ الْكَثِيرَةِ الصَّرِيحَةِ فِي الْجَهْرِ بِالْبَسْمَلَةِ. وَحَدِيثِ عَلِيٍّ الطَّوِيلِ فِي تَصَدُّقِهِ بِخَاتَمِهِ فِي الصَّلَاةِ فَإِنَّهُ مَوْضُوعٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَمِثْلُ مَا رُوِيَ فِي قَوْلِهِ: {وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} [الرعد: 7] ، أَنَّهُ عَلِيٌّ {وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ} [الحاقة: 12] ، أُذُنُك يَا عَلِيٌّ. [الشرح] وهنا كله الاستطراد عما تقدم يريد أن يقول: إن أهل الحديث أهل علم ومعرفة بفنهم، وإنهم يثبتون في الأحاديث التي اشتهر نقلها وفاضت الأمة واستفاضت على أنها غلط مقطوع به، ويثبتون في أحاديث أخر لم تستفض عند الأمة على أنها صحيح مقطوع به يعني بصحته، وهذا ليس بابه الشهرة من عدمها؛ ولكن بابه المعرفة قد يكون الأحاديث، قد تكون الأحاديث معللة بأنواع العلة التي يعرفها أهل الحديث أما من جهة جهالة الراوي؛ جهالة حاله وإما من جهة جهالة عينه وإما لمخالفة الحديث، أو نحو ذلك من العلل التي يعل بها أهل الحديث؛ لكن قد يكون مع هذا الاختلاف عندهم إشعار بثبوت أصل ذلك البحث، ففرق بين الشيء الذي وقع فيه اختلاف في ألفاظه، وبين ما هو كذب في أصله. إذا تبين هذا فينظّر هذا على أخبار التفسير، فإنّ في أخبار التفسير ما هو مقطوع بكذبه وإن كان مشهورا، مثل الأحاديث الطويلة المروية في فضل سور القرآن التي ذكرها الثعلبي وذكرها صاحبه الواحدي وذكرها الزمخشري، والزمخشري لا يروي رواية إنما يذكرها ذكره؛ لكن الثعلبي والواحدي يذكرونها في تفاسيرهم بأسانيدهم، ولو كان هذا ذكره الثعلبي، والثعلبي اعتمد عليه كثير من المفسرين مثل البغوي وجماعة والخازن وكثير لكن مع ذلك أهل الحديث يعلمون أن تلك الأحاديث ولو كانت مشتهرة في كتب التفاسير أنها مكذوبة على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلا تقوم الحجة بها. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 11 هناك قسم آخر من الأحاديث يكون موجودا في كتب التفسير ويعلها أهل الحديث بعلل لكن الإعلال لا يعني الوضع والكذب؛ بل قد يكون الإعلال لطريق بلفظ، وقد يكون اتهام الراوي بجهالة أو بسوء حفظ ونحو ذلك؛ لكن يكون معتبرا به في الشواهد، فيكون الأصل الذي دل عليه هذا الحديث الذي تكلموا عليه وأعلّوه مع غيره يكون الأصل الذي فيهما يثبته أهل الحديث؛ يعني أهل الحديث من المفسرين الذين ذكروا الأحاديث بالأسانيد. وهذا لاشك أنه موجود كثير وهو الأكثر في أحاديث المفسرين فإنك إذا نظرت في أسانيد عند ابن جرير وعند عبد الرزاق وهو أقل من ابن كثير وعند عبد بن حميد وابن المنذر وابن مردويه وأشباههم وعند ابن أبي حاتم وأشباه هؤلاء وجدت أن الأسانيد يقلّ فيها الإسناد السالم من العلة عن طريقة أهل الحديث الإسناد السالم من الإعلال من الجرح من الضعف يقلّ جدا بل أكثر أسانيد المفسّرين فيها نوع ضعف إما لجهالة وإما لسوء حفظ وإما لانقطاع أو نحو ذلك، وهذا مشهور؛ لكن هذا لا يعني أن لا تكون صحيحة عند أهل التفسير لأن أهل التفسير من أهل الحديث الذين نقلوا التفسير تلقوا أخبارا كثيرة بالقبول، فإذا تلقوها بالقبول كان ذلك حجة في أنهم عرفوا أن أصلها صحيح. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 12 ولهذا لا يقال في أسانيد تفسير ما يقال في أسانيد الحديث؛ أسانيد الحديث تختلف لأن فيها تفسير، أما أسانيد التفسير خصصوا فيها أهل العلم، لذلك تجد ابن أبي حاتم مثلا مع أنه صنف كتاب العلل وأعل أحاديث في الأحكام بعلل قد لا تكون قادحة عند غيره، ذكر فيه علل باب مختص لأحاديث أُعلّت في التفسير وفي فضائل السور وفي فضائل القرآن ونحو ذلك، وأعلّها بعلل دون العلل التي تكون في ذلك، يعني ما شدد فيها شدته في ذلك، كذلك كتب تفسيره المشهور تفسير ابن أبي حاتم وشرط في أوله أنه لا يحتج إلا بما هو صحيح عند أهل الحديث، أو بما هو ليس فيه ضعف أو جرح أو نحو ذلك، وفي أحاديث تفسيره -تفسير ابن أبي حاتم- أشياء كثيرة ينازع فيها على طريقة أهل الحديث. شيخ الإسلام يريد بهذا أن يذكر لك أن التفسير التسمّح فيه كثير من حيث الأسانيد، وهذا التسمّح من جهة أن يعني سببه من جهة أن التفسير إنما ينقله من لم يعتنِ به، الأحكام الحلال والحرام اعتنى به العلماء وأهل الحديث وحفظوها وأدوها، وأما التفسير لم تكن العناية به مثل العناية بالحلال والحرام، ولهذا تجد أن في الأسانيد فيها مطاعن كثيرة؛ لكن روايتها واستفاضتها ينبئ عن أن أصلها مقبول عند أهل العلم بالتفسير، فنأخذ منها ما اشتركت فيه، وأما تفردت به الرواية مما يخالف قواعد الشرع أو أصول الاعتقاد، أو يخالف ما نقله الآخرون فإنّ هذا لا يؤخذ به، ولو كان في إسناده نوع جرح يتسمح به بغيرها. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 13 مثلا في حديث الكرسي ابن عباس ذكر ابن جرير عنه في التفسير آية الكرسي ذكر عنه روايتين: رواية أن الكرسي موضع القدمين، والرواية أن كرسي الرحمن علمه. وتلك الرواية رواية أن الكرسي موضع القدمين إسنادها صحيح لا مطعن فيه، والرواية الثانية بعض أهل العلم صححها وبعضهم طعن فيها، والصواب أنها مقدوح فيها؛ لأن فيها راو تفرد أو راو ليس بجيد الحفظ وخالف الرواية الثانية، فلابد أن تكون الرواية هذه والرواية هذه هاتان الروايتان متغايرتان لا يمكن أن يصحح الجميع؛ لأن هذه عن ابن عباس الكرسي العلم وتلك عن ابن عباس الكرسي موضع القدمين، فلابد أن تكون إحداهما صحيحة والأخرى باطلة، فلا تسمح بالرواية المخالفة، بخلاف الروايات التي يكون بعضها يعضد بعضا، بعضها جارٍ في بعض، إما الأولى عامة والثانية أخص منها، وإما الأولى فيها إطلاق والثانية فيها تقييد أو نحو ذلك هذا يتسمح فيه؛ لأنّ مثله كثير ولا يعد من التضاد والتضارب بين الروايات. إذن فنخلص من هذا إلى أن أسانيد التفسير الغالب عليها أن يكون فيها مقال. هذا واحد. الثاني أن أسانيد التفسير ينظر فيها إلى قبول العلماء أو ردهم لها، فإن قبلها علماء الشأن علماء الحديث أخذ بها، وإن ردوها لعلة تفسيرية أو علة مخالفة أو نحو ذلك فترد. الثالث أنه يُنظر فيها إلى اتفاقها، فتعضد الرواية الأخرى فيما اشتركت فيه ولو كان نوع اشتراك؛ يعني اشتراك في أصل المعنى، اشتراك في المعنى العام، اشتراك في الدلالة على حال واحدة ونحو ذلك. وهذا إنما يظهر لكم بالتطبيق، إذا طبقت هذا يعني نظرت في التفاسير، أنظر تفسير الطبري مثلا يلحق به الروايات التي فيه خاصة مع تعليق الشيخ أحمد شاكر والأستاذ محمود شاكر تجد أنه كثيرا يطعن في الأسانيد لكنها حجة احتج بها ابن جرير واحتج بها ابن أبي حاتم كيف يكون هذا على هذا النمط الذي ذكره شيخ الإسلام رحمه الله. أولا أسانيد التفسير الغالب عليها أن فيها مقالا، هذا واحد. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 14 الثاني يُنظر في أسانيد التفسير إلى قبول العلماء من أهل الشأن لها وردهم لها، فإن ردوها بعلة تفسيرية فإنها ترد وإن قبلوها فيؤخذ قبولهم لها ولو كان في إسناد مطعن. الثالث أنه يُنظر في الأسانيد في الأخبار التي جاءت بالأسانيد إلى المعنى الذي اشتملت عليه دون النظر في الألفاظ فتجد الألفاظ مختلفة لكن لا تنظر إلى اختلاف الألفاظ، أنظر إلى ما اشتركت فيه من أصل المعنى، إما أن الألفاظ المختلفة أفراد للعام، وإما أن تكون نوعين أو معنيي المشترك، أو أن تكون في حالات مختلفة، مثل ما ذكرنا لكم في تفسير قوله {وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي اللهِ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَة} [النحل: 41] ، (حسنة) هذه ما هي؟ كل واحد فسؤها بخال من الأحوال بعضهم فسرها بأنها المال، بعضهم فسرها بالإمارة بعضهم فسرها بالجاه ونحو ذلك. مثل أيضا ما اختلفوا فيه التفسير في سورة الإسراء عند قوله تعالى {رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِن تَكُونُواْ صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُورًا} [الإسراء: 25] ، هنا لفظ الأوابين اختلف فيه إلى الأقوال بعضها إسنادها جيد بعضها منقطع بعضها ضعيف بأنواع من العلل: بعضهم قال: الأوابون هم الذين يصلون الضحى. بعضهم قال: الأوابون هم الذي يرجعون إلى الله كلما عصوا. بعضهم قال: الأواب هو الذي يتبع السيئة الحسنة، إذا أساء أتبعها الحسنة. إلى غير ذلك. الذي فسر الأواب هو المصلي للضحى هذا راع شيء، كل هذه مختلفة في أصل المعنى وإن كان الاختلاف؛ لكن أصل المعنى واحد وهو أن الأبواب هو الذي ينيب إلى ربه بأنواع من الإنابة، إما بالتوبة، وإما بحسنات بعد السيئات وإما بصلاة الضحى أو نحو ذلك. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 15 فهذا ولو اختلف ولو كانت الأسانيد ضعيفة في ذلك، ما ينظر فيها إلى ضعفها؛ لأن الجميع فسروه بما يدل عليه اللفظ ببعض أفراده، وليس ببعيد أن تكون هذه التفاسير منقولة عن السلف؛ لأنها من حيث المعنى صحيحة، فهذا ينظر فيه إلى أنها ما تعارضت مشتركة هذه. فإذن ما ينظر فيه إلى قوة الإسناد من ضعفه لأنها جميعا مشتركة في شيء واحد فيكون بعضها يعضد بعضا، هذه طريقة أئمة التفسير في إيرادهم للأسانيد. ومر معنا كلمة للإمام أحمد ثلاثة ليس لها أصول، وذكر منها التفسير؛ يعني ليس لها أصول مسندة يعني بعضها مرسل بعضها منقطع بعضها ضعيف؛ يعني أصولها ضعيفة فكأنه ليس لها أصول. ليس جميع أهل الحديث، أهل الحديث الذين اعتنوا بالتفسير؛ لأن أهل الحديث على قسمين: منهم من اعتنى بالتفسير. ومنهم من لم يعتنِ بالتفسير. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 16 الذي لم يعتنِ بالتفسير سينظر إلى أسانيد المفسرين كأنه ينظر إلى أسانيد الحديث؛ يعني الحلال والحرام، هذا ليس كذلك؛ لأن التفسير مثل ما ذكرت لك أخص، نعم قد يكون إسناد في التفسير جاء به حديث بإثبات عقيدة، قد يكون إسناد في التفسير جاء به حديث بإثبات حكم شرعي، ليس هذا الكلام فيه، هذا الكلام عليه من جنس النظر في أسانيد الحديث؛ لأن هذا -العقيدة والحديث- كلها فيها ينبغي أن يؤخذ بالحزم؛ لكن مثل تفسير لفظ ونحو ذلك هذا ينظر فيه أهل الحديث الذين ذكروا التفسير صنفوا في التفسير مثل الإمام أحمد مثل ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه وابن المنذر هؤلاء تجد عندهم من معرفة التفسير ما يصير حجة في نقل الأسانيد ولو كان فيها خلاف الإسناد؛ أنا ذكرت أن يكون الرد إذا رده أهل الحديث أو أهل الشأن لعلة تفسيرية هذا يؤخذ، أما إذا رده أحد من أهل الحديث لعلة حديثية، فينازع بأن صنيع أهل التفسير من أهل الحديث مقابل لإعلالهم، فمثلا هو يعل بأن الإسناد فيه فلان وفلان هذا ضعيف فلا يقبل هذه الرواية، هذا لا يؤخذ به؛ لكن من قال هذه الرواية فيها ذكر فيها تفسير اللفظ بكذا، وهذا معارض لتفسير اللفظ بكذا لأن هذا يكثر مع هذا، هذا يناقض الرواية الأخرى في التفسير، فيكون هنا الإعلال بالتفسير لا من جهة الإسناد فهذا يقبل؛ لأنه يكون من أهل الاختصاص للفن، الذي هو التفسير، قد يكون أحيانا إعلال التفسير في موضع لتفسيره في موضع أخر. (( (( ( أعدّ هذه المادّة: سالم الجزائري الجزء: 8 ¦ الصفحة: 17 الدرس التاسع بسم الله الرحمن الرحيم [المتن] فَصْلٌ [فِي النَّوْعُ الثَّانِي الخِلاَفُ الوَاقِعُ فِي التَّفْسِيرِ مِنْ جِهَةِ الاسْتِدْلاَلِ] وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّانِي مِنْ مُسْتَنَدَيْ الِاخْتِلَافِ وَهُوَ مَا يُعْلَمُ بِالِاسْتِدْلَالِ لَا بِالنَّقْلِ فَهَذَا أَكْثَرُ مَا فِيهِ الْخَطَأُ مِنْ جِهَتَيْنِ حَدَثَتَا بَعْدَ تَفْسِيرِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَتَابِعِيهِمْ بِإِحْسَانِ. فَإِنَّ التَّفَاسِيرَ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا كَلَامُ هَؤُلَاءِ صِرْفًا لَا يَكَادُ يُوجَدُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ هَاتَيْنِ الْجِهَتَيْنِ مِثْلَ تَفْسِيرِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ وَوَكِيعٍ وَعَبْدِ بْنِ حميد وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ إبْرَاهِيمَ دُحَيم، وَمِثْلَ تَفْسِيرِ الْإِمَامِ أَحْمَد وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهُويَه وبقي بْنِ مخلد وَأَبِي بَكْرِ بْنِ الْمُنْذِرِ وَسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنة وَسَنِيدٍ وَابْنِ جَرِيرٍ وَابْنِ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبِي سَعِيدٍ الْأَشَجِّ وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَاجَه، وَابْنِ مَرْدُويَه: إحْدَاهُمَا (1) : قَوْمٌ اعْتَقَدُوا مَعَانِيَ ثُمَّ أَرَادُوا حَمْلَ أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ عَلَيْهَا.   (1) قال الشيخ صالح: هذا كل ما مضى من التفاسير كالجملة المعترضة، ثم قال (إحْدَاهُمَا) يعني الوجهين اللذين يدخل منهما الغلط في التفسير بالاجتهاد. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1 والثَّانِيَةُ: قَوْمٌ فَسَّرُوا الْقُرْآنَ بِمُجَرَّدِ مَا يُسَوِّغُ أَنْ يُرِيدَهُ بِكَلَامِهِ، (1) مَنْ كَانَ مِنَ النَّاطِقِينَ بِلُغَةِ الْعَرَبِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إلَى الْمُتَكَلِّمِ بِالْقُرْآنِ وَالْمُنَزَّلِ عَلَيْهِ وَالْمُخَاطَبِ بِهِ. (2) فالْأَوَّلُونَ رَاعَوْا الْمَعْنَى الَّذِي رَأَوْهُ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إلَى مَا تَسْتَحِقُّهُ أَلْفَاظُ الْقُرْآنِ مِنْ الدَّلَالَةِ وَالْبَيَانِ. والْآخَرُونَ رَاعَوْا مُجَرَّدَ اللَّفْظِ، وَمَا يَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ عِنْدَهُمْ بِهِ الْعَرَبِيُّ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إلَى مَا يَصْلُحُ لِلْمُتَكَلِّمِ بِهِ وَلِسِيَاقِ الْكَلَامِ. ثُمَّ هَؤُلَاءِ كَثِيرًا مَا يَغْلَطُونَ فِي احْتِمَالِ اللَّفْظِ لِذَلِكَ الْمَعْنَى فِي اللُّغَةِ كَمَا يَغْلَطُ فِي ذَلِكَ الَّذِينَ قَبْلَهُمْ، كَمَا أَنَّ الْأَوَّلِينَ كَثِيرًا مَا يَغْلَطُونَ فِي صِحَّةِ الْمَعْنَى الَّذِي فَسَّرُوا بِهِ الْقُرْآنَ كَمَا يَغْلَطُ فِي ذَلِكَ الآخَرُون، وَإِنْ كَانَ نَظَرُ الْأَوَّلِينَ إلَى الْمَعْنَى أَسْبَقَ وَنَظَرُ الآخرين إلَى اللَّفْظِ أَسْبَقُ. [الشرح] بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين. اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علما وعملا وخشية، يا أرحم الراحمين، أما بعد:   (1) قال الشيخ صالح: (أَنْ يُرِيدَهُ بِكَلَامِهِ) يعني فسروه بمجرد احتمال إرادة المتكلم من العرب بكلامه هذا المعنى لو تكلم بهذه الجملة. هذا ما يريد. والله أعلم. (2) انتهى الشريط الثالث. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 2 فهذا صلة بما سبق الكلام عليه في أصول التفسير، وكلامه فيما سمعنا متصل بتفاسير الناس بعد القرون الثلاثة المفضلة، والتفاسير المنقولة عن الصحابة وعن التابعين وعن تبع التابعين، هذه التفاسير يقلّ أو يندر فيها الغلط، وذلك لأنهم فسروا القرآن، رَعَوْا فيه المتكلم به، وهو الله جل جلاله، ورَعَوْا فيه المخاطب به وهو النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ورَعَوْا فيه المخاطَبين به أيضا وهم العرب قريش ومن حولهم في أول الأمر أو العرب بعمومهم، وأيضا رَعَوْا فيه اللفظ وراعوا فيه السياق، ولهذا تجد أن تفاسيرهم قد تبتعد في بعض الألفاظ عن المشهور في اللغة؛ لكنها توافق السياق. أما المتأخرون -يعني ما جاء بعد هذه الطبقات الثلاث- فيكثر في تفاسيرهم الغلط، وجهة الغلط إما أن تكون أن المفسر اعتقد اعتقادات باطلة، كحال أصحاب الفرق الضالة إما المجسمة كمقاتل، أو المرجئة أو المؤولة أو المنكرين للصفات كالجهمية والمعتزلة وما شابه هؤلاء، تجد أنهم فسّروا القرآن ونزّلوه على وفق ما يعتقدون، فجاء الغلط في أنهم قرروا عقيدة عندهم وجعلوا القرآن يفهم على وفق ما يعتقدونه، وهذا نوع من أنواع التفسير بالرأي المذموم، وفي الأصل التفسير بالرأي معناه التفسير بالاجتهاد والاستنباط، والتفسير بالرأي من السلف من منعه أصلا ومنهم من أجازه واجتهد في التفسير وهؤلاء هم أكثر الصحابة، وإذا جاز الاجتهاد فتفسير القرآن بالرأي، فإنما نعني بذالك أن يُفسر القرآن بالاجتهاد الصحيح وبالرأي الصحيح؛ يعني بالاستنباط الصحيح، وأما الرأي المذموم فهو استنباط أو تفسير من ردود، وذلك لعدم توفر شروط التفسير بالرأي فيه. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 3 من ذلكم أن يفسر القرآن على وفق ما يعتقده، يأتي الجهمي مثلا يفسر أسماء الله جل وعلا التي جاءت في القرآن بأثر تلك الأسماء المنفصلة في ملكوت الله جل وعلا، يأتي المرجئ يفسر آيات الوعيد على نحو ما يعتقده، يأتي الرافضي يفسر الألفاظ التي في القرآن مثل قوله تعالى {وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي القُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيَانًا كَبِيرًا} [الإسراء: 60] ، يفسِّرون الشجرة الملعونة بأنها معاوية رَضِيَ اللهُ عنْهُ وذريته، هذا كله من التفسير بالرأي المذموم؛ لأنه تفسير عن هوى اعتقد اعتقادات، ثم حمل القرآن عليها هذا من جهة العقيدة. كذلك من جهة الفقه تجد أن بعض المفسرين الذين جاؤوا بعد القرون الثلاثة ينحى في الفقه منحىً، يذهب إلى مذهب يرجح في المسألة ترجيحا، ثم هو يأتي إلى الآية فيفسر الآية التي فيها الأحكام يفسرها على ما يعتقد من المذهب الفقهي؛ يعني يفسرها على ما يذهب إليه، فيأتي بذلك يأتي في ذلك بغلط أي أنه فسر الآية لا على ما تدل عليه؛ ولكن على ما يذهب إليه هو فيكون حمل القرآن على رأيه. وهذا وأمثاله هو الذي جاء فيه قول النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ «من تكلم في القرآن برأيه فقد تبوأ مقعده من النار» وفي لفظ آخر «من قال في القرآن فقد أخطا لو أصاب» ، وهي أحاديث أسانيدها ضعيفة لكنها بمجموعها لعلها تبلغ مرتبة الحسن. المقصود من ذلك أن هذا من قسم التفسير بالرأي المذموم. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 4 إلى خلاف هذا؛ يعني من العقيدة والفقه في غير هذا، مثلا يعتقد الأصولي مسألة ويرجحها في حكم الأصولي، فإذا أتى إلى الآية التي تدل على خلاف ما يقول حمل الآية على ما يرجحه ويراه، وهذا كثير في تفاسير المتأخرين، ولهذا صنف أصحاب المذاهب العقدية كل مذهب صنّف في تفسير القرآن مصنفا ينصر به مذهبه، فصنف المجسمة تصنيفا، وصنف المعتزلة في تفسير القرآن، وصنف الماتريدية تصنيف الماتريدي موجود، وصنف الأشاعرة كذلك وصنف المرجئة وهكذا في أصناف شتى. كذلك في المذاهب الفقهية تجد أحكام القرآن للبيهقي مثلا، أحكام القرآن للجصاص الحنفي، أحكام القرآن لابن العربي المالكي، أحكام القرآن لابن [عاد] الحنبلي مثلا إلى آخره، وهذا يدخل المفسر إلى الغلط وذلك أنه يحمل القرآن على ما يميل إليه ويعتقده ويذهب إليه، لاشك انه إذا كان المفسر على هذه الحال فإن قوله لا يقبل؛ لأن القرآن يجب أن يُفهم مع التجرد عن تلك الأمور السابقة للاستدلال بالقرآن، نعم إذا المرء اعتقد العقيدة الصحيحة المبنية على الدلائل من الكتاب والسنة فان اعتقاده على العقيدة الصحيحة المبنية للدلائل يعينه على فهم القرآن فهما صحيحا، وهذا هو الذي كان عليه اجتهاد الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يجتهدون ويفسرون ويكون اجتهادهم واجتهاد التابعين -أعني غالب التابعين- يكون اجتهادهم صوابا؛ وذلك لأنهم فهموا القرآن بمجموعه واستدلوا بأدلتهم باستدلالات صواب في نفسها ولهذا يفهمون ويفسرون بعض الآيات التي تشكل بما فهموه وعلموه من الآيات الأخرى هذا يختلف عن التفسير بالرأي المذموم. هذا صنف من الناس. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5 والطريقة الأخرى والجهة الأخرى التي دخل الغلط إلى كثير من المفسرين من جهتها أنهم فسّروا القرآن بمجرد احتمال اللفظ في اللغة، وتفسير القرآن بمجرد احتمال اللفظ لمعانٍ، هذا ليس في مراعاة الحال، وقد ذكرنا أنّ من مميزات تفسير الصحابة أنهم رعوا حال المخاطب به ورعوا في تفاسيرهم أسباب النزول ورعوا في تفاسيرهم ما يعلمون من السنة، ورعوا في تفاسيرهم اللغة. فإذن هم حين يفسرون لا يفسرون بمجرد اللفظ؛ بدلالة اللفظ؛ بل يفسرون بدلالة اللفظ مع العلم الذي معهم وفيما ذكرت ولهذا تجد أن تفاسيرهم في الغالب لا يكون فيه اختلاف أعني اختلاف تضاد؛ بل هي متفقة لأنهم راعوا ذلك الأصل. أما كثير من المتأخرين فوسّعوا الأمر ففسروا بمجرد احتمال اللفظ في اللغة، واحتمال اللفظ في اللغة الذي جاء في القرآن قد يكون له عدة معاني في اللغة؛ لكن لا يصلح في التفسير إلا واحدا منها، وذلك إما مراعاة لمعنى اللفظ في القرآن، القرآن العظيم ترد فيه بعض الألفاظ في أكثر القرآن أو في كله على معنى واحد، وهذا يكون باستقراء، فتحمل الآية التي فيها اللفظ يحمل على معهود القرآن لا يحمل على احتمالات بعيدة. لهذا صنف العلماء في ذلك مصنفات بعيدة من الوجوه والنظائر لبيان هذا الأصل فمثلا الخير في القرآن يقول العلماء الأصل فيه أنه المال {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} [العاديات: 8] ؛ يعني لحب المال. قال {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور: 33] ؛ يعني طريقا لتحصيل المال، وهكذا فإذا إذا أتى في آية استعمال لفظ الخير فأول ما يتبادر للذهن أن المراد بالخير المال، فإذا لم بناسب للسياق صرف إلى معنى آخر هذا يسمّى المعهود؛ معهود استعمال القرآن. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 6 مثال آخر في الزينة، الزينة في القرآن أخص من الزينة في لغة العرب، لغة العرب فيها أن الزينة: كل ما يتزين به، وقد يكون من الذات، وقد لا يكون من الذات. يعني إذا تزيّن المرء بالأخلاق سمي متزينا، لكن في القرآن الزينة أطلقت واستعملت في أحد المعنيين دون الآخر ألا وهو الزينة الخارجة عن الذات التي جلبت لها الزينة، لهذا قال جل وعلا {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الكهف: 7] ؛ لأن ما على الأرض زينة لها، فإذن الزينة ليست من ذات الأرض وإنما هي مجلوبة إلى الأرض، {يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31] ، الزينة خارجة عن ذات ابن آدم فهي شيء مجلوب ليتزين به. {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ} [الصافات: 6] ، زينها جل وعلا بزينة هذه الزينة من ذاتها أو خارجة عنها؟ قال {زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ} ، فالكواكب هي خارجة عن ذات السماء وهي في السماء فجعلها الله جل وعلا زينة.. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 7 فإذا أتت آية مشكلة مثل آية النور في قوله تعالى {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور: 31] ؛ يأتي لفظ الزينة هنا، فيُحمل هل يحمل على كل المعهود في اللغة أو يحمل على المعهود في القرآن؟ لاشك أنّ الأولى -كما قال شيخ الإسلام في تفصيله أن يراعى حال معهود المتكلم به والمخاطب والمخاطبين والحال، فهنا في أحد هذه فالقرآن فيه أن الزينة خارجة عن الذات، شيء مجلوب إلى الذات، إذا أتى واحد وقال {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} أن ما ظهر من الزينة هو الوجه، هذا فسر الزينة بأنه شيء في الذات، وهذا معناه أنه فسرها بشيء غير معهود في استعمال القرآن للفظ الزينة، لهذا كان الصحيح التفسير المشهور عن الصحابة كابن عباس وابن مسعود وغيرهما أنّ الزينة -التفسير المشهور عن ابن عباس وهو مروي عن ابن مسعود وجماعة- أن الزينة هي القرط مثلا الكحل اللباس ونحو ذلك، {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} فإذن لا تبدي الزينة؛ لكن ما ظهر منها، ما ظهر من الزينة، ما ظهر من الشيء المجلوب للتزين به فلا حرج على المرأة في ذلك. فإذن لا تفسر الزينة بأنها الوجه لماذا؟ لأن تفسير الزينة بأنها الزوجة تفسير للزينة بشيء في الذات، وهذا مخالف لما هو معهود من معنى الزينة في القرآن، وهذا له أمثلة كثيرة نكتفي بما مر. والمقصود بهذا أن معرفة استعمال القرآن للألفاظ التي لها في العربية معاني كثيرة هذا من أعظم العلم بالتفسير، وهذا لا يؤتاه إلا الحافظ للقرآن المتدبر له الذي يعلم تفاسير السلف؛ لأنك تأتي للكلمة ويُشكل تفسيرها فيوردها المفسر على نظائر هذا اللفظ في القرآن، ثم بعد ذلك يظهر له تفسير بعد ذلك وهذه كانت طريقة الصحابة رضوان الله عليهم فيما اجتهدوا في ذلك. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 8 أحيانا وفسروا الآية بخلاف حال المخاطبين، تفسر الآية باحتمال لغوي لكن هذا الاحتمال ليس بوارد على حال المخاطبين، مثلا في قوله تعالى {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: 189] فيأتي من يأتي من المفسرين بالرأي فيجعلون سؤالهم عن الآلهة سؤالا فلكيا معقدا، وهم إنما سألوا عن الهلال علم يبدوا في أول الشهر صغيرا ثم يكبر ثم يكبر، وكان سؤالا بسيطا؛ لأن هذه هي حال العرب لم يكن عندهم علم الفلك العلم المعقد، إنما سأله عن أمر ظاهر بيّن، فتفسير سؤالهم بأنه سؤال عن أمر فلكي معقد، هذا لم يرعَ فيه حال أولئك، وإنما فُسِّر بغرائب الأهلة {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ} فيأتي المفسر مثل الرازي وغيره يأتون ينطلقون في الأحوال الفلكية في ذلك. هذا ليس من المعهود ولا من المعروف في حال الذين سألوا ولا حال العرب الذين نزل القرآن ليخاطبهم أول الأمر. إذن فهنا حصل الغلط من هذه الجهة. وهاتان الجهتان لاشك أن الغلط واقع فيهما وكلا الجهتين من التفسير بالرأي؛ لكن الأولى من التفسير بالرأي المذموم الذي توعد فاعله، والثانية من التفسير بالرأي الذي أخطأ من ذهب إليه، فيكون الضابط في التفسير بالرأي أنه فيما اتبع هواه في التفسير صار ذلك من التفسير بالرأي المذموم المردود الذي جاء الوعيد على من قال به، أما التفسير بالرأي الذي يخطئ فيه صاحبه هو ما لم يرعى فيه ما ذكره شيخ الإسلام هنا، وإنما وجهه على أحد الاحتمالات العربية وأخطأ فيما وجه إليه الكلام. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 9 لاشك أن هذا الكلام من شيخ الإسلام تفصيل نفيس، وهو يدل على سعة الإطلاع على كلام المفسرين واختلافهم وآرائهم المباينة لآراء السلف، فلهذا قال: إن التفاسير التي تُذكر فيها أقوال الصحابة والتابعين وتبع التابعين لا تجد فيها مثل هذه الآراء. ذكر لك جملة من التفاسير، وهذه التفاسير منها ما هو مطبوع منها ما هو مخطوط ومنها ما هو مفقود أصلا كتفسير الإمام أحمد رحمه الله تعالى. نعم [المتن] وَالْأَوَّلُونَ صِنْفَانِ: تَارَةً يَسْلُبُونَ لَفْظَ الْقُرْآنِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ وَأُرِيدَ بِهِ. وَتَارَةً يَحْمِلُونَهُ عَلَى مَا لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ وَلَمْ يُرَدْ بِهِ. وَفِي كَلَا الْأَمْرَيْنِ قَدْ يَكُونُ مَا قَصَدُوا نَفْيَهُ أَوْ إثْبَاتَهُ مِنْ الْمَعْنَى بَاطِلًا فَيَكُونُ خَطَؤُهُمْ فِي الدَّلِيلِ وَالْمَدْلُولِ. وَقَدْ يَكُونُ حَقًّا فَيَكُونُ خَطَؤُهُمْ فِي الدَّلِيلِ لَا فِي الْمَدْلُولِ. وَهَذَا كَمَا أَنَّهُ وَقَعَ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ فَإِنَّهُ وَقَعَ أَيْضًا فِي تَفْسِيرِ الْحَدِيثِ. فَاَلَّذِينَ أَخْطَئُوا فِي الدَّلِيلِ وَالْمَدْلُولِ - مِثْلُ طَوَائِفَ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ - اعْتَقَدُوا مَذْهَبًا يُخَالِفُ الْحَقَّ الَّذِي عَلَيْهِ الْأُمَّةُ الْوَسَطُ الَّذِينَ لَا يَجْتَمِعُونَ عَلَى ضَلَالَةٍ كَسَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا وَعَمَدُوا إلَى الْقُرْآنِ فَتَأَوَّلُوهُ عَلَى آرَائِهِمْ. تَارَةً يَسْتَدِلُّونَ بِآيَاتِ عَلَى مَذْهَبِهِمْ وَلَا دَلَالَةَ فِيهَا. وَتَارَةً يَتَأَوَّلُونَ مَا يُخَالِفُ مَذْهَبَهُمْ بِمَا يُحَرِّفُونَ بِهِ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ، وَمِنْ هَؤُلَاءِ فِرَقُ الْخَوَارِجِ وَالرَّوَافِضِ والجهمية وَالْمُعْتَزِلَةِ وَالْقَدَرِيَّةِ وَالْمُرْجِئَةِ وَغَيْرِهِمْ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 10 وَهَذَا كَالْمُعْتَزِلَةِ مَثَلًا فَإِنَّهُمْ مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ كَلَامًا وَجِدَالًا، وَقَدْ صَنَّفُوا تَفَاسِيرَ عَلَى أُصُولِ مَذْهَبِهِمْ؛ مِثْلِ تَفْسِيرِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كيسان الْأَصَمِّ شَيْخِ إبْرَاهِيمَ بْنِ إسْمَاعِيلَ بْنِ عُلَيَّةَ الَّذِي كَانَ يُنَاظِرُ الشَّافِعِيَّ. وَمِثْلِ كِتَابِ أَبِي عَلِيٍّ الجبائي. وَالتَّفْسِيرِ الْكَبِيرِ لِلْقَاضِي عَبْدِ الْجَبَّارِ بْنِ أَحْمَد الهمداني. والجَامِعُ لِعِلْمِ القُرْآنِ لِعَلِيِّ بْنِ عِيسَى الرُّمَّانِيِّ. وَالْكَشَّافِ لِأَبِي الْقَاسِمِ الزَّمَخْشَرِي؛ فَهَؤُلَاءِ وَأَمْثَالُهُمْ اعْتَقَدُوا مَذَاهِبَ الْمُعْتَزِلَةِ. وَأُصُولُ الْمُعْتَزِلَةِ خَمْسَةٌ يُسَمُّونَهَا هُمْ: التَّوْحِيدُ وَالْعَدْلُ وَالْمَنْزِلَةُ بَيْنَ الْمَنْزِلَتَيْنِ وَإِنْفَاذُ الْوَعِيدِ وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ. وتَوْحِيدُهُمْ هُوَ تَوْحِيدُ الجهمية الَّذِي مَضْمُونُهُ نَفْيُ الصِّفَاتِ وَعَنْ قَالُوا: إنَّ اللَّهَ لَا يُرَى، وَإِنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ، وَإِنَّهُ لَيْسَ فَوْقَ الْعَالَمِ، وَإِنَّهُ لَا يَقُومُ بِهِ عِلْمٌ وَلَا قُدْرَةٌ، وَلَا حَيَاةٌ، وَلَا سَمْعٌ، وَلَا بَصَرٌ، وَلَا كَلَامٌ وَلَا مَشِيئَةٌ وَلَا صِفَةٌ مِنْ الصِّفَاتِ. وَأَمَّا عَدْلُهُمْ فَمِنْ مَضْمُونِهِ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَشَأْ جَمِيعَ الْكَائِنَاتِ وَلَا خَلَقَهَا كُلَّهَا وَلَا هُوَ قَادِرٌ عَلَيْهَا كُلِّهَا؛ بَلْ عِنْدَهُمْ أَنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ لَمْ يَخْلُقْهَا اللَّهُ، لَا خَيْرَهَا وَلَا شَرَّهَا، وَلَمْ يُرِدْ إلَّا مَا أَمَرَ بِهِ شَرْعًا وَمَا سِوَى ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَكُونُ بِغَيْرِ مَشِيئَة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 11 وَقَدْ وَافَقَهُمْ عَلَى ذَلِكَ مُتَأَخِّرُو الشِّيعَةِ كَالْمُفِيدِ وَأَبِي جَعْفَرٍ الطوسي وَأَمْثَالِهِمَا، وَلِأَبِي جَعْفَرٍ هَذَا تَفْسِيرٌ عَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ؛ لَكِنْ يُضَمُّ إلَى ذَلِكَ قَوْلُ الْإِمَامِيَّةِ الِاثْنَيْ عَشَرِيَّةَ؛ فَإِنَّ الْمُعْتَزِلَةَ لَيْسَ فِيهِمْ مَنْ يَقُولُ بِذَلِكَ وَلَا مَنْ يُنْكِرُ خِلَافَةَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ. وَمِنْ أُصُولِ الْمُعْتَزِلَةِ مَعَ الْخَوَارِجِ إنْفَاذُ الْوَعِيدِ فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُ فِي أَهْلِ الْكَبَائِرِ شَفَاعَةً وَلَا يُخْرِجُ مِنْهُمْ أَحَدًا مِنْ النَّارِ. وَلَا رَيْبَ أَنَّهُ قَدْ رَدَّ عَلَيْهِمْ طَوَائِفُ مِنْ الْمُرْجِئَةِ والكَرَّامِيَّة والكُلاَّبِيَّة وَأَتْبَاعِهِمْ؛ فَأَحْسَنُوا تَارَةً وَأَسَاءُوا أُخْرَى حَتَّى صَارُوا فِي طَرَفَيْ نَقِيضٍ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَالْمَقْصُودُ أَنَّ مِثْلَ هَؤُلَاءِ اعْتَقَدُوا رَأْيًا ثُمَّ حَمَلُوا أَلْفَاظَ الْقُرْآنِ عَلَيْهِ وَلَيْسَ لَهُمْ سَلَفٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَلَا مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ لَا فِي رَأْيِهِمْ وَلَا فِي تَفْسِيرِهِمْ. وَمَا مِنْ تَفْسِيرٍ مِنْ تَفَاسِيرِهِمْ الْبَاطِلَةِ إلَّا وَبُطْلَانُهُ يَظْهَرُ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ وَذَلِكَ مِنْ جِهَتَيْنِ: تَارَةً مِنَ الْعِلْمِ بِفَسَادِ قَوْلِهِمْ. وَتَارَةً مِنَ الْعِلْمِ بِفَسَادِ مَا فَسَّرُوا بِهِ الْقُرْآنَ، إمَّا دَلِيلًا عَلَى قَوْلِهِمْ، أَوْ جَوَابًا عَلَى الْمُعَارِضِ لَهُمْ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 12 وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَكُونُ حَسَنَ الْعِبَارَةِ فَصِيحًا وَيَدُسُّ الْبِدَعَ فِي كَلَامِهِ، وَأَكْثَرُ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ كَصَاحِبِ الْكَشَّافِ وَنَحْوِهِ، حَتَّى إنَّهُ يُرُوجُ عَلَى خَلْقٍ كَثِيرٍ مِمَّنْ لَا يَعْتَقِدُ الْبَاطِلَ مِنْ تَفَاسِيرِهِمْ الْبَاطِلَةِ مَا شَاءَ اللَّهُ. وَقَدْ رَأَيْت مِنْ الْعُلَمَاءِ الْمُفَسِّرِينَ وَغَيْرِهِمْ مَنْ يَذْكُرُ فِي كِتَابِهِ وَكَلَامِهِ مِنْ تَفْسِيرِهِمْ مَا يُوَافِقُ أُصُولَهُمْ الَّتِي يَعْلَمُ أَوْ يَعْتَقِدُ فَسَادَهَا وَلَا يَهْتَدِي لِذَلِكَ. ثُمَّ إنَّهُ لِسَبَبِ تَطَرُّفِ هَؤُلَاءِ وَضَلَالِهِمْ دَخَلَتْ الرَّافِضَةُ الْإِمَامِيَّةُ ثُمَّ الْفَلَاسِفَةُ ثُمَّ الْقَرَامِطَةُ وَغَيْرُهُمْ فِيمَا هُوَ أَبْلَغُ مِنْ ذَلِكَ وَتَفَاقَمَ الْأَمْرِ فِي الْفَلَاسِفَةِ وَالْقَرَامِطَةِ وَالرَّافِضَةِ، فَإِنَّهُمْ فَسَّرُوا الْقُرْآنَ بِأَنْوَاعِ لَا يَقْضِي مِنْهَا الْعَالِمُ عَجَبَهُ. فَتَفْسِيرُ الرَّافِضَةِ كَقَوْلِهِمْ: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} [المسد: 1] هُمَا أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ. [الشرح] نكتفي لهذا القدر. * * * أعدّ هذه المادّة: سالم الجزائري الجزء: 9 ¦ الصفحة: 13 الدرس العاشر بسم الله الرحمن الرحيم [المتن] ثُمَّ إنَّهُ لِسَبَبِ تَطَرُّفِ هَؤُلَاءِ وَضَلَالِهِمْ دَخَلَتْ الرَّافِضَةُ الْإِمَامِيَّةُ ثُمَّ الْفَلَاسِفَةُ ثُمَّ الْقَرَامِطَةُ وَغَيْرُهُمْ فِيمَا هُوَ أَبْلَغُ مِنْ ذَلِكَ وَتَفَاقَمَ الْأَمْرِ فِي الْفَلَاسِفَةِ وَالْقَرَامِطَةِ وَالرَّافِضَةِ، فَإِنَّهُمْ فَسَّرُوا الْقُرْآنَ بِأَنْوَاعِ لَا يَقْضِي الْعَالِمُ مِنْهَا عَجَبَهُ. فَتَفْسِيرُ الرَّافِضَةِ كَقَوْلِهِمْ: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} [المسد: 1] ، هُمَا أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ و {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65] ، أَيْ بَيْنَ أَبِي بَكْرٍ وَعَلِيٍّ فِي الْخِلَافَةِ. و {إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة: 67] ، هِيَ عَائِشَةُ. و {فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ} [التوبة: 12] ، طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرَ. و {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ} [الفرقان: 53] ، عَلِيٌّ وَفَاطِمَةُ. و {اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} [الرحمن: 22] ، الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ. و {وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إمَامٍ مُبِينٍ} [يس: 12] ، فِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ. و {عَمَّ يَتَسَاءلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ} [النبإ: 1-2] عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ. و {إنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} [المائدة: 55] ، هُوَ عَلِيٌّ، وَيَذْكُرُونَ الْحَدِيثَ الْمَوْضُوعَ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَهُوَ تَصَدُّقُهُ بِخَاتَمِهِ فِي الصَّلَاةِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 1 وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ} [البقرة: 157] ، نَزَلَتْ فِي عَلِيٍّ لَمَّا أُصِيبَ بِحَمْزَةِ. وَمِمَّا يُقَارِبُ هَذَا مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ مَا يَذْكُرُهُ كَثِيرٌ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ: {الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِين بِالْأَسْحَارِ} [آل عمران: 17] ، أَنَّ الصَّابِرِينَ رَسُولُ اللَّهِ وَالصَّادِقِينَ أَبُو بَكْرٍ وَالْقَانِتِينَ عُمَرُ وَالْمُنْفِقِينَ عُثْمَانُ وَالْمُسْتَغْفِرِين عَلِيٌّ. وَفِي مِثْلِ قَوْلِهِ: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ} أَبُو بَكْرٍ {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ} عُمَرُ {رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} عُثْمَانُ {تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا} [الفتح: 29] عَلِيٌّ. وَأَعْجَبُ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُ بَعْضِهِمْ: {وَالتِّينِ} أَبُو بَكْرٍ {وَالزَّيْتُونَ} عُمَرُ {وَطُورِ سِينِينَ} عُثْمَانُ {وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ} [التين: 1-3] عَلِيٌّ. وَأَمْثَالُ هَذِهِ الْخُرَافَاتِ الَّتِي تَتَضَمَّنُ: تَارَةً تَفْسِيرَ اللَّفْظِ بِمَا لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ بِحَالِ، فَإِنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ الَّتي لَا تَدُلُّ عَلَى هَؤُلَاءِ الْأَشْخَاصِ. وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا} كُلُّ ذَلِكَ نَعْتٌ لِلَّذِينَ مَعَهُ وَهِيَ الَّتِي يُسَمِّيهَا النُّحَاةُ خَبَرًا بَعْدَ خَبَرٍ. والْمَقْصُودُ هُنَا: أَنَّهَا كُلَّهَا صِفَاتٌ لِمَوْصُوفِ وَاحِدٍ وَهُمْ الَّذِينَ مَعَهُ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنْهَا مُرَادًا بِهِ شَخْصٌ وَاحِدٌ! الجزء: 10 ¦ الصفحة: 2 وَتَتَضَمَّنُ تَارَةً جَعْلَ اللَّفْظِ الْمُطْلَقِ الْعَامِّ مُنْحَصِرًا فِي شَخْصٍ وَاحِدٍ كَقَوْلِهِ: إنَّ قَوْلَهُ: {إنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا} أُرِيدَ بِهَا عَلِيٌّ وَحْدَهُ. وَقَوْلِ بَعْضِهِمْ: أَنَّ قَوْلَهُ: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ} [الزمر: 33] ، أُرِيدَ بِهَا أَبُو بَكْرٍ وَحْدَهُ. وَقَوْلِهِ: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ} [الحديد: 10] ، أُرِيدَ بِهَا أَبُو بَكْرٍ وَحْدَهُ. وَنَحْوِ ذَلِكَ. وتَفْسِيرُ ابْنِ عَطِيَّةَ وَأَمْثَالِهِ أَتْبَعُ لِلسُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَأَسْلَمُ مِنَ الْبِدْعَةِ مِنْ تَفْسِيرِ الزَّمَخْشَرِي، وَلَوْ ذُكِرَ كَلَامُ السَّلَفِ الْمَوْجُودُ فِي التَّفَاسِيرِ الْمَأْثُورَةِ عَنْهُمْ عَلَى وَجْهِهِ لَكَانَ أَحْسَنَ وَأَجْمَلَ فَإِنَّهُ كَثِيرًا مَا يَنْقُلُ مِنْ تَفْسِيرِ مُحَمَّدِ بْنِ جَرِيرٍ الطبري وَهُوَ مِنْ أَجَلِّ التَّفَاسِيرِ وَأَعْظَمِهَا قَدْرًا، ثُمَّ إنَّهُ يَدَعُ مَا نَقَلَهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ السَّلَفِ لَا يَحْكِيهِ بِحَالِ، وَيَذْكُرُ مَا يَزْعُمُ أَنَّهُ قَوْلُ الْمُحَقِّقِينَ، وَإِنَّمَا يَعْنِي بِهِمْ طَائِفَةً مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ الَّذِينَ قَرَّرُوا أُصُولَهُمْ بِطُرُقِ مِنْ جِنْسِ مَا قَرَّرَتْ بِهِ الْمُعْتَزِلَةُ أُصُولَهُمْ، وَإِنْ كَانُوا أَقْرَبَ إلَى السُّنَّةِ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ؛ لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يُعْطَى كُلُّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ وَيَعْرِفَ أَنَّ هَذَا مِنْ جُمْلَةِ التَّفْسِيرِ عَلَى الْمَذْهَبِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 3 فَإِنَّ الصَّحَابَةَ وَالتَّابِعِينَ وَالْأَئِمَّةَ إذَا كَانَ لَهُمْ فِي تَفْسِير الْآيَةِ قَوْلٌ وَجَاءَ قَوْمٌ فَسَّرُوا الْآيَةَ بِقَوْلِ آخَرَ لِأَجْلِ مَذْهَبٍ اعْتَقَدُوهُ، وَذَلِكَ الْمَذْهَبُ لَيْسَ مِنْ مَذَاهِبِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ، صَارُوا مُشَارِكِينَ لِلْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ فِي مِثْلِ هَذَا. وَفِي الْجُمْلَةِ مَنْ عَدَلَ عَنْ مَذَاهِبِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَتَفْسِيرِهِمْ إلَى مَا يُخَالِفُ ذَلِكَ كَانَ مُخْطِئًا فِي ذَلِكَ بَلْ مُبْتَدِعًا وَإِنْ كَانَ مُجْتَهِدًا مَغْفُورًا لَهُ خَطَؤُهُ. فَالْمَقْصُودُ بَيَانُ طُرُقِ الْعِلْمِ وَأَدِلَّتِهِ وَطُرُقِ الصَّوَابِ. وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ الْقُرْآنَ قَرَأَهُ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ وَتَابِعُوهُمْ وَأَنَّهُمْ كَانُوا أَعْلَمَ بِتَفْسِيرِهِ وَمَعَانِيهِ. كَمَا أَنَّهُمْ أَعْلَمُ بِالْحَقِّ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَمَنْ خَالَفَ قَوْلَهُمْ وَفَسَّرَ الْقُرْآنَ بِخِلَافِ تَفْسِيرِهِمْ فَقَدْ أَخْطَأَ فِي الدَّلِيلِ وَالْمَدْلُولِ جَمِيعًا. وَمَعْلُومٌ أَنَّ كُلَّ مَنْ خَالَفَ قَوْلَهُمْ لَهُ شُبْهَةٌ يَذْكُرُهَا إمَّا عَقْلِيَّةٌ وَإِمَّا سَمْعِيَّةٌ. كَمَا هُوَ مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعِهِ. والْمَقْصُودُ هُنَا: التَّنْبِيهُ عَلَى مَثَارِ الِاخْتِلَافِ فِي التَّفْسِيرِ، وَأَنَّ مِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِهِ الْبِدَعَ الْبَاطِلَةَ الَّتِي دَعَتْ أَهْلَهَا إلَى أَنْ حَرَّفُوا الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ، وَفَسَّرُوا كَلَامَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِغَيْرِ مَا أُرِيدَ بِهِ وَتَأَوَّلُوهُ عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهِ. فَمِنْ أُصُولِ الْعِلْمِ بِذَلِكَ: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 4 أَنْ يَعْلَمَ الْإِنْسَانُ الْقَوْلَ الَّذِي خَالَفُوهُ، وَأَنَّهُ الْحَقُّ. وَأَنْ يَعْرِفَ أَنَّ تَفْسِيرَ السَّلَفِ يُخَالِفُ تَفْسِيرَهُمْ. وَأَنْ يَعْرِفَ أَنَّ تَفْسِيرَهُمْ مُحْدَثٌ مُبْتَدَعٌ. ثُمَّ أَنْ يَعْرِفَ بِالطُّرُقِ الْمُفَصَّلَةِ فَسَادَ تَفْسِيرِهِمْ بِمَا نَصَبَهُ اللَّهُ مِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى بَيَانِ الْحَقِّ. وَكَذَلِكَ وَقَعَ مِنْ الَّذِينَ صَنَّفُوا فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ وَتَفْسِيرِهِ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ جِنْسِ مَا وَقَعَ فِيمَا صَنَّفُوهُ مِنْ شَرْحِ الْقُرْآنِ وَتَفْسِيرِهِ. [الشرح] بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه. أما بعد: فهذا السياق الطويل من شيخ الإسلام رحمه الله تعالى أراد به أن يمثل على نوع من أنواع التفسير بالرأي المذموم، وبيان بطلان ذلك من طريق مجمل وكذلك الإشارة إلى أنه يبطل بالطريق المفصل. هذا التفسير بالرأي المذموم -هو كما ذكرت لكم- هو أن يفسره بما يعتقده من خالف نهج الصحابة والتابعين ونهج سلف هذه الأمة، مثل تفاسير الرافضة فيما ذكر من أنواع التفسير الذي نقله شيخ الإسلام رحمه الله عن تفاسيرهم، ولاشك أن هذه التفاسير التي فسروها باطلة لأوجه: أولا لأن اللفظ لا يحتمل ذلك، فكونهم يفسرون آية ما بأنها (علي) ، واللفظ لا يدل عليه، مثل ما ذكروا، نعم مثل {إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة: 67] ، وتفسيرهم للجبت والطاغوت بأنهما أبا بكر وعمر ونحو ذلك. هذه التفاسير لا يدل عليها اللفظ، كونهم فسروا لفظا معروفا معناه في اللغة بأن المراد به معين من الصحابة، هذا باطل من أوجه كما ذكرت، الأول أن هذا لا يدل عليه معنى اللفظ في اللغة. يقولون: إن هذا تأويل. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5 والتأويل هو صرف اللفظ عن ظاهره المتبادر منه إلى معنى آخر لقرينة تدل على ذلك، ويقولون صرفناه لقرينة التي دلت على ذلك، القرينة عندهم حججهم التي بين أيديهم، الحجج الباطلة التي فيها الأمر بذبح أبي بكر مثلا أو بذبح عثمان أو بذبح عمر رَضِيَ اللهُ عنْهُ ونحو ذلك، أو أنّ الجبت والطاغوت اللذان أضلا الناس وهما أبو بكر وعمر. لكن التأويل عند العلماء ثلاثة أنواع؛ منه تأويل صحيح، ومنه تأويل مرجوح، ومنه تأويل باطل؛ وهو من اللعب، وذلك إذا كان التأويل لغير قرينة تدلّ عليه من اللغة أو من مقصد الشارع الصحيح. فهذه التفاسير التي فسروها إذا سموها تأويلا يقولون: خرجنا عن ظاهر اللفظ للتأويل. كما يزعمه الرافضة، الجواب عنه: أن هذا تأويل باطل ومن اللعب والتلاعب بالقرآن وبنصوص الكتاب والسنة؛ لأن هذا تأويل لم يأت عليه دليل؛ بل الأدلة تُبطل ذلك فإن فضل أبي بكر وفضل عمر وأنهما أفضل الصحابة على الإطلاق هذا جاءت به الأدلة، فكيف يصرفونه عن ظاهره إلى غيره. المقصود أن هذا وإن سَمَّوه تأويلا فإنه تأويل من نوع اللعب وهذا كفر عند كثير من العلماء. الوجه الثاني أنّ هذه التفاسير باطلة لأن معتمدها أنها الهوى فهو فسروا القرآن الذي أنزل على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بما أُحْدِثَ من الاعتقادات بعد أكثر من قرن من وفاة النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ، فتلك الاعتقادات من اعتقادات الرافضة واعتقادات المعتزلة ومن شابه هؤلاء وهؤلاء، تلك الاعتقادات أُحدثت، ولم يكن شيء منها في الصحابة ولا في كبار التابعين، وإنما أحدثت بعد ذلك، فكيف يكون المراد بالقرآن الذي أنزل على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ يكون المراد به التأويلات والاعتقادات المحدثة بعد أكثر من قرن من نزول هذا القرآن ومن وفاة النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6 الوجه الثالث من إبطال هذه التفاسير أنها تفاسير خرجت عن تفسير الصحابة والتابعين، وهذا هو الأصل العظيم الذي يريد شيخ الإسلام رحمه الله تقريره، هذه التفاسير خرجت عما فسر به الصحابة والتابعون لهم فإحسان تلك الآيات، فالصحابة تفاسيرهم لتلك الآيات محفوظة، وكذلك التابعين تفاسيرهم لتلك الآيات محفوظة، فمن خرج عن تفاسيرهم وأتى بمعنىً بناقض ما قالوه فإنه مردود قطعا؛ لأن أعلم الأمة بالقرآن هم صحابة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا يجوز أن يقال إن هناك معنًى في القرآن حُجب عن الصحابة وحُجب عن التابعين لهم بإحسان وأدركه من بعدهم، يكون المعنى من أصله حجبوا عنه، وأدركه من بعدهم هذا باطل، وذلك لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين أن خير الأمة قرنه عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ فقال «خيركم قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم» والخيرية لها جهات، ومن أعظم جهات الخيرية العلم، فالعلم بالكتاب وبالسنة كان محفوظا في الصحابة رضوان الله عليهم ولم يحجب عن مجموع الصحابة علم مسألة من الكتاب والسنة، نعم قد يكون بعض الصحابة يجهل بعض معاني الكتاب والسنة؛ لكن يعلمه بعض الصحابة الآخرون، وأما بعمومهم فلا يجهل الصحابة بمجموعهم معنى آية أو معنى سنة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. لهذا نقول: هذا الطريق مجمل طريق في بيان بطلان تلك الأقوال من أصلها. ما هذا الطريق المجمل؟ أن تلك الأقوال خرجت عن أخبار الصحابة والتابعين في تفاسيرهم، تفاسير الصحابة والتابعين محفوظة لدينا وليس فيها شيء من تلك البدع والضلالات التي يذكرها الرافضة أو يذكرها أهل الاعتزال. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 7 الطريق الثاني طريق مفصل وهذا أشار إليه شيخ الإسلام، وهو أن الأقوال التي تخالف أقوال الصحابة والتابعين في التفسير، تخالفها؛ بمعنى أن أقوال الصحابة لا تدل عليها ولا تشمل ذلك التفسير المحدث، مثل تفسير آيات الصفات بالمعان المؤولة والمحرفة، ومثل تفاسير الرافضة، ومثل تفاسير الصوفية في إشارياتهم، ومثل تفاسير أهل البدع والإسماعيلية والباطنية ونحو ذلك. هذه التفاسير باطلة أيضا على التفصيل، وذلك أنه ما من قول وإلا وفي الكتاب والسنة من الدلائل ما يدلّ على بطلان ذلك القول الذي أحدثه المبتدعة وكل قول له دليل يبطله، فإذا قالوا مثلا: الجبت والطاغوت عمر وأبو بكر رَضِيَ اللهُ عنْهُما. أو قال المعتزلة: إن قوله {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} المراد به الإنعام، أو نفوا الحوض في السنة أو نفوا الميزان الذي جاء ذكره في القرآن وقالوا لا ميزان أو نفوا الصراط هذه كلها أقوال لأهل الاعتزال ومن شابههم، إذا أتت آية فيها ذكر الصراط فإنهم ينفون أن يكون ثَم صراط على متن جهنم، كذلك الميزان في قوله {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الأنبياء: 47] ، وفي قوله {فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ} [المؤمنون: 102] ، ونحو ذلك، ينفون وجود الميزان الحسي ويقولون هذه تشبيهات. هذه أقوال، كل قول منها ثم أدلة مفصلة من الكتاب والسنة على بطلان ذلك القول بخصوصه. (1) ..في الآية وعلى بطلان نفي ما جاءت الأدلة بإثباته، فمثلا في الصفات الأدلة من الكتاب والسنة على إثبات صفة الرحمة أكثر من إن تحصى، وهذا جواب مفصل؛ يعني رد مفصل على تأويلاتهم الباطلة التي هي من جنس اللعب وشر التحريف لآيات القرآن. وكذلك الذين نفوا الميزان هناك أدلة كثيرة من الكتاب والسنة تمنع ذلك، وهذا هو الدليل المفصل.   (1) انتهى الوجه الأول من الشريط الرابع. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 8 فإذن نقول على وجه الاختصار من خالف تفاسير الصحابة والتابعين وأتى بمعنى جديد لا يشمله تفاسير الصحابة والتابعين لهم بإحسان، فهذا قولهم مردود عليه من جهتين: الجهة الأولى مجملة، الدليل الأول مجمل؛ يعني بدليلين، الدليل الأول مجمل وذلك الدليل الأول هو أن ما خرج عن تفاسير الصحابة والتابعين فهو مردود؛ لأن العلم محفوظ فيهم، ولا يمكن أن يدّخر لمن بعدهم علم ويحجب عن الصحابة؛ لأنهم خير هذه الأمة. الثاني دليل مفصل ووجه مفصل وهو أنه ما من تفسير يخالف تفاسيرهم ويأتي بمعنى محدث إلا وثم أدلة كثيرة من الكتاب والسنة تبطل ذلك التفسير المعيَّن. نعم. [المتن] وَأَمَّا الَّذِينَ يُخْطِئُونَ فِي الدَّلِيلِ لَا فِي الْمَدْلُولِ؛ فَمِثْلُ كَثِيرٍ مِنْ الصُّوفِيَّةِ وَالْوُعَّاظِ وَالْفُقَهَاءِ وَغَيْرِهِمْ، يُفَسِّرُونَ الْقُرْآنَ بِمَعَانٍ صَحِيحَةٍ؛ لَكِنَّ الْقُرْآنَ لَا يَدُلُّ عَلَيْهَا؛ مِثْلَ كَثِيرٍ مِمَّا ذَكَرَهُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السلمي فِي حَقَائِقِ التَّفْسِيرِ وَإِنْ كَانَ فِيمَا ذَكَرُوهُ مَا هُوَ مَعَانٍ بَاطِلَةٌ فَإِنَّ ذَلِكَ يَدْخُلُ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ وَهُوَ الْخَطَأُ فِي الدَّلِيلِ وَالْمَدْلُولِ جَمِيعًا حَيْثُ يَكُونُ الْمَعْنَى الَّذِي قَصَدُوهُ فَاسِدًا. [الشرح] وهذا هو الذي يسمى عند الصوفية بالتفسير الإشاري، يقولون: أشارت الآية إلى كذا. فيفسرونها بما تُشير، ويجعلون ما يفهمونه من الآية بالإشارة يجعلونه تفسيرا للآية وهو مشهور باسم التفسير الإشاري. وثَم كتب كثيرة من جنس كتاب حقائق التأويل لأبي عبد الرحمن السلمي الصوفي المشهور وهو كتاب مطبوع، وكذلك كتاب التفسير تفسير القرآن المشهور لأبي بكر ابن العربي، وكذلك ما ذكره في الإشاريات الألوسي في أواخر كل مجموعة من الآيات يفسرها في كتابه روح المعاني، هذه تسمى التفاسير الإشارية، والتفاسير الإشارية على أقسام: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 9 منها أن يكون المعنى الذي ذكروه صحيحا في نفسه؛ لكن كما قال شيخ الإسلام الآية لا تدل عليه، فتكون الآية مثلا في فتح من الفتوح في الجهاد، فيفسر الآية بفتح القلب؛ فتح باب المجاهدة في القلب، وأن هذا يعقب نصرا على الشيطان، فيجعل الجهاد جهاد القلب والنصر والغلبة -غلبة العدو الكافر الذي هو الشطيان-، هذا المعنى في نفسه صحيحا؛ لكن هو معنى لم يرد بالآية؛ لأن الآية فيها ذكر معاني واضحة بالعربية من ذكر مثلا جهاد المؤمنين ضد الكفار ونحو ذلك، وهذا يراد به الجهاد الظاهر لجماعة المؤمنين ضد الكفار الذي هم من البشر. القسم الثاني أن يكون التفسير باطلا في نفسه، وهذا رده يكون من جهتين: الجهة الأولى: أنه مخالف لما تدل الآية عليه. الثاني: أنه باطل في نفسه؛ لأن الشرع أتى بغير هذا الكلام. مثل ما يذكرون في أحوالهم التي لم تدل عليها السنة؛ بل كان هدي السلف على غيرها فيستدلون ببعض الآيات على ما اصطلحوا عليه، أو على ما كانت عليه أحوال الصوفية بما خالفوا فيه سيرة السلف الصالح رَضِيَ اللهُ عنْهُم في الزهد والورع والسلوك، هذا معنى باطل في نفسه. القسم الثالث معاني يتوقف فيها لا يمكن أن تحكم عليها في نفسها بالصحة ولا بالبطلان، وذلك لاشتمالها على مصطلحات للصوفية، فيتوقف تصحيح المعنى أو إبطاله على فهم تلك المصطلحات، فإنهم لهم مصطلحات، لهم مصطلح معنى المقام عنهم له كمعنى، الحال عندهم له معنى، الرضى عندهم له تفسير خاص، وهكذا في مصطلحات كثيرة للصوفية، الشهود له معنى، الفناء له معنى، فهناك تفسيرات يفسر بها هؤلاء القوم. والتفسير في نفسه مثلا يظهر للمتأمل الذي يعرف مصطلحات الصوفية صحة ذلك التفسير ولا بطلانه حتى يقف على مرادهم من مصطلحاتهم. وجميع هذه الأنواع الثلاثة والأقسام الثلاثة لا تمت إلى الآية بصلة لأنها من باب الإشاريات عندهم. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 10 إذا تقرر هذا، فهل التفسير الإشاري مردود مطلقا؟ هل التفسير الإشاري باطل أم أن التفسير الإشاري لبعض الآيات الكتاب والسنة منه ما هو صحيح؟ الجواب: التفسير الإشاري منه ما هو صحيح، وتفسير الآية بالإشارة يؤخذ به إذا توفرت فيه شروط ذكرها ابن القيم رحمه الله في كتابه التبيان في أقسام القرآن، (1) وأشار إليه ابن تيمية رحمه الله في بعض كتبه. أول شرط من تلك الشروط التي يصح معها التفسير بالإشارة أن يكون ثم اشتراك في اللغة؛ يعني أن يكون التّفسير بالإشارة تحتمله الآية لغةً، ما يكون فيه معنى لا تعلمه الآية لغةً. مثلا إن فسر البيت بالقلب، القلب بيت، وإذا فسر آية مثلا أو حديث فيه ذكر البيت بأنه القلب، هذا له دلالة في اللغة؛ لأن القلب بيت وهذا المعنى صحيح. الشرط الثاني أن يكون التفسير مما دلّت عليه أدلة أخرى في الشرع. يقول: في الآية الإشارة إلى كذا، الشرط الأول أن يكون في الآية لفظ يحتمل وهذه الإشاري لغة، الثاني أن يدل على هذا التفسير دليل شرعي آخر على صحته؛ يعني أن يكون المعنى المشار غلبه أتى دليل آخر به. الشرط الثالث أن لا يناقض دليلا من الكتاب والسنة، فإذا كان التفسير بالإشارة يُناقض دليلا آخر فإنه باطل. ومثال ذلك من السنة كما ذكر ابن القيم أن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فسَّر الحديث الصحيح عن النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ وهو قوله «إن الملائكة لا تدخل بيتا فيه كلب أو صورة» قال شيخ الإسلام رحمه الله: فالملائكة لا تحيط بقلب قد ملئ من كلاب الشبهات وصور الشهوات.   (1) قال ابن القيم في كتابه التبيان: تفسير على الإشارة والقياس وهو الذي ينحو إليه كثير من الصوفية وغيرهم وهذا لا بأس به بأربعة شرائط: أن لا يناقض معنى الآية. وأن يكون معنى صحيحا في نفسه. وأن يكون في اللفظ إشعار به. وأن يكون بينه وبين معنى الآية ارتباط وتلازم. فإذا اجتمعت هذه الأمور الأربعة كان استنباطا حسنا. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 11 فأولا البيت فسره بالقلب، هذا ذكره إشارة. الكلاب قال إشارة إلى الشبهات، وهكذا الشبهات كلاب، لماذا؟ لأن الكلب لا يزال يلهث، وهكذا الشبهة لا تزال تلهث بصاحبها أما الشهوة تعرض وتزول، أما الشبهة ملازمة له. الثالث الصورة، الصورة من جنس الشهوات، الصورة من الشهوات، وعلى هذا يكون شيخ الإسلام في تفسير ذلك قد فسره بالشروط جميعا: أولا دلالة الألفاظ في اللغة واردة. الثاني أن المعنى الّذي ذهب إليه وقال إن في الحديث إشارة إليه، هذا المعنى صحيح جاءت الأدلة بذكره. فالشبهات والشهوات مرض إذا استحكم في العبد أو دخل القلب حفت الشياطين واستحوذت صاحبها وابتعدت عنه ملائكة الرحمة. الثالث الشبهات والشهوات هي من فهم معنى الكلب والصورة. إذن نقول التفسير الإشاري إذا استعمله أحد من أهل العلم في باب الاستنباط فإنه يكون صحيحا إذا توفرت فيه هذه الشروط الثلاثة، وأما إذا لم تتوفر فه هذه الشروط الثلاثة فهو من باب اللعب والتفسير الذي لم تدل الآية عليه، مثل صنيع الصوفية يعتقدون معتقدا يدخل في الآية على أي موضع. بل إنهم عجب -يعني الصوفية- من إشاراتهم، حتى شكل الحروف دخلوا فيه يعني شكل حروف القرآن دخلوا فيه بدلالات عندهم وإشارات، مثلا قالوا في (بسم الله) قالوا الباء أبتدئ بها الكلام ونقطت من تحتها نقطة واحدة إشارة إلى توحيد الله جل وعلا، لا علاقة، وهذا الكلام موجود وهو تفسير صوفي بحت لا دليل عليه، موجود في كتاب توحيد الخلاّق المنسوب للشيخ سليمان بن عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وهذا الكتاب توحيد الخلاق فيه في أوله كثير من الصّوفيات وهو ليس للشيخ سليمان، وإنما هو لرجل من أهل العراق قدِم على الشيخ في الدرعية، وعُثر عليه بتهمة في الدين كأنه له شأن أو نحو ذلك فقتل في الدرعية بعد تصنيفه لهذا الكتاب. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 12 المقصود أنه فيه إشاريات كثيرة، هذا الكتاب الإشاريات التي فيه غلط، منها هذه، يقول: السين [شُرْشِرَت] بثلاث يعني ثلاث شرطات فسرت بثلاث بعد الباء المنقوطة من تحت ردا على المثلثة. لا علاقة، هذا كلام ما له علاقة؛ يعني بمعنى أنه أوهام جعلوها تفسيرا. الميم دُورت حتى يحيط اسم الله بالقلب، يعني صارت دائرة فيها أيضا حتى يحيط اسم الله بالقلب هذا خرافة. فإذن التفسير الإشاري منه ما هو تفسير معان، ومنه ما هو تفسير للخط أيضا، وهذا كله باطل إلا ما كانت المعاني توفّرت فيه الشروط التي ذكرنا. نكتفي بهذا القدر، وصلى الله وسلم على نبينا محمد. (( (( ( أعدّ هذه المادّة: سالم الجزائري الجزء: 10 ¦ الصفحة: 13 الدرس الحادي عشر بسم الله الرحمن الرحيم [إضافة إلى ما سبق] نعم صحيح، نذكر إضافة على ما ذكرنا، تنبيه جيد من الأخ، يعني استشكال جيد، وهو أنّ التفسير الإشاري أضف إلى شروطه أن لا يكون معه نفي المعنى الظاهر، وهذا معلوم؛ لأنه هو إشارة فيقول في الآية إشارة؛ لكن للإيضاح اشترط هذا الشرط يعني اجعله رابعا للشروط، وهو أن لا يكون فيه نفي للمعنى الأصلي، وأظن ابن القيم ذكر هذا الشرط لكن ما استحضره جيدا الآن. إذن نفي المعنى الأصلي ليس مرادا عند من صحح التفسير الإشاري، فإذا توفرت الشروط التي منها ما أضفنا الآن وهو أن المعنى الأول مثبت وإنما هذا معنى ثاني زيادة وهو ما أشارت إليه الآية. في الحديث الملائكة لا تدخل بيتا فيه كلب أو صورة ما يعني شيخ الإسلام أن ينفي دخول الملائكة البيت الذي هو بيت السكن إذا كان فيه كلب أو صورة هو لا يريد أن ينفي ذلك، لا، هو يقول: هذا مثبت وفيه إشارة إلى الشيء الآخر. فإذن المعنى الظاهر من الآية أو من الحديث هذا مراد ومثبت عند من صحّح التفسير الإشاري بشروطه المعتبرة. فإذن هي أربعة شروط: الأول: أن لا ينافي اللغة. الثاني: أن يدل عليه دليل صحيح. الثالث: أن لا يكون ثَم دليل يبطله. الرابع: أن يكون المعنى الأول مثبتا عند من فسر التفسير الإشاري. ويفسر بالتفسير الإشاري زيادة على المعنى الأول. ابن القيم ذكره في التبيان في أقسام القرآن وذكره الشروط فيها، وأظن هذا الشرط منها لكن الآن ما أستحضره جيدا. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 1 نعم يمكن.. التفسير الإشاري ليس ضروريا بعض الآيات ما يكون فيها إشارة لكن، هذا الآن بعض الزهاد من السلف جاءت عنه عبارات في التفسير الإشاري لكنها عبارات صحيحة، لهذا صحّح شيخ الإسلام وابن القيم وجماعة من العلماء صححوا التفسير الإشاري بشروطه، والتفسير الإشاري ليس مقصودا، قد يتوفر وقد لا يتوفر، وإذا جهله المرء ليس هو من العلم المرغوب فيه إنما هو من اللطائف. نعم؛ فيه سؤال ثاني؟ هو ما فيه شك الذي يخرج عن تفاسير الصحابة والتابعين، خروجه عنها ابتداع، فأول من خرج عن هذه التفاسير أحدث بدعة في الدين، تبعه عليها أناس، قد يكون هو خرج عنها باجتهاد؛ لكن الاجتهاد أخطأ فيه، فِعله وهو خروجه عن تفاسير الصحابة والتابعين إبداع، كونه اجتهد في تفسير الآية فأخطأ هذا له أجر المجتهد أو يُغفر له لأنه مجتهد، يوصف بأنه مبتدع، يجتمع في حقه الجهتان جهة العقوبة والإثم لابتداعه وجهة المغفرة له لخطئه؛ لأنها جهتان. التفسير الخروج عن تفاسير الصحابة هذا القدر بدعة لاحظ الخروج، قبل أن يتكلم في تفسير الآية، خرج عن تفاسير الصحابة والتابعين بدينه ورام شيئا جيدا هذا ابتداع، هذا يؤزر عليه، الآن اجتهاده في بعض الآية هذا قد يكون صوابا وقد يكون خطأ فهو إذا كان أخطأ في ذلك فقد يغفر له ويكون من جملة المجتهدين. اتضح لك ولا ما اتضح لك؟ اتضح لكم الفرق، هذه يرددها شيخ الإسلام كثيرا، مثل ذكره في المولد في كتابه اقتضاء الصراط المستقيم، قال في المولد: وإن كان بعض من يعمل الموالد أو يحضرها يؤجر على ذلك. ذكر هذه العبارة التي يحتج بها أهل الموالد. نعم لكن المولد في نفسه بدعة، والحضور فيه بدعة؛ لكن قد يؤجر إذا قام في قلبه محبة نبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في موطن المولد، فهو عنده جهتان: الله جل وعلا حكم عدل أسرع الحاسبين، والملائكة تكتب. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 2 فأولا الحضور المولد في نفسه بدعة، وحضوره في مكان البدعة هذا ذنب. هنا يأتي انتهى هذا تأثيم مجال التأثيم أو العمل الذي أثم عليه انتهى. يأتي ما قام في قلبه من المحبة ومن تعظيم الرسول، هذا يؤجر عليه. لهذا قال شيخ الإسلام: قد يؤجر من يحضر تلك؛ يعني لما قام في قلبه من محبة الرسول عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ، لكن ليس معنى ذلك أنه لا يأثم من جهة أخرى. كذلك في هذا الموطن، شيخ الإسلام له مثل هذا في مواطن كثيرة تحل الإشكال باختلاف الجهات أراد أنه يجمع في المكلف الجهتان: جهة التأثيم لابتداعه، وجهة الأجر أو المغفرة لخطئه في نفسه أو جهة الأجر إذا قام في قلبه بعض الإيمان. نعم، ارفع صوتك،، لا الابتداع له جهة، وقد يجتهد في شيء له الاجتهاد فيه هذا مجتهد من جنس الذين يجتهدون في مسائل الفروع ونحو ذلك؛ لكن إذا اجتهد في مسائل الصفات، اجتهد في آيات الصفات، هل هذه ما يجتهد فيها؟ فسرها يغير تفاسير الصحابة والتابعين لها هل هذا مما يعذر فيه؟ أو هو قد أحدث رأيا وفسّر القرآن برأي خارج عن تفاسير الصحابة؟ هنا الجهة منفكة يؤزر على ابتداعه، وأمّا فعله في نفسه فجعله في نفسه وتفسيره للآية هذا قد يكون معذورا وقد لا يكون معذورا، قد تكون شبهة قامت عنده أو غير ذلك. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 3 لهذا شيخ الإسلام عذر بعض العلماء مثل البيهقي مثل الخطابي قال: إنهم اجتهدوا في مسائل الصفات؛ لكن ما عذر غيرهم فهناك من يعذر في هذه المسائل ومن لا يعذر، وليس معنى أنه يعذر أنه لا يؤاخذ على بدعته، فهو مبتدع من الجهة الأولى، ثم التأثيم في المسألة الثانية مرفوع عنه؛ يعني بَدَل يتراكب عليه الإثم من الجهتين هو يأثم من جهة واحدة وقد يكون يأثم من جهة الابتداع ومن الجهات الأخرى، فأما اسم المبتدع فيطلق عليه اسم المبتدع فالذين حرفوا القرآن عن ظاهره وفسروا مثلا آيات الرحمة بأنها الأنعام أو فسروا قوله تعالى {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75] ، {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} أي يدي الرحمن جل وعلا هما قدرتاه ونحو ذلك تفسير مبتدع وصاحبه مبتدع في نفسه، ويؤزر على ابتداعه هذا؛ لكن الجهة الثانية وهي خطؤه في تفسير الآية هل يعذر عليه أم لا؟ هذه مسألة أخرى هذه ننبه إليها في كلام شيخ الإسلام. وهذا التفصيل لا يذكر أئمة السلف، أئمة السلف ليس عندهم هذا التدقيق عندهم أنه أخطأ في البداية ابتدع في البداية فما ترتب على الأمر المبتدع له حكمه، هذا كلام أئمة السلف فإذا كان مبتدعا في الاجتهاد في الصفات فهو مبتدع في أوله، وما ترتب على ابتداعه فهو مأزور عليه. شيخ الإسلام يختلف عن هذا في مواضع كثيرة يفصل بين المقامين، مثل هذا الموضع يفصل بين المنشأ وبين النتيجة، فيقول هو مبتدع الحكم عند الجميع واحد أنه مبتدع فيؤزر على بدعته الأولى، وأما اجتهاده في بعض الموارد إذا كانت قامت عنده شبهة فقد يعذر يعني عند الله حل وعلا وقد لا يعذر. واضح الكلام؟ لأن المسألة مشتبهة ودقيقة فشيخ الإسلام له طريقة في ذلك حتى نفهم كلامه وحتى لا يستدل عليك أحد بكلام شيخ الإسلام ويناقض به قول السلف، لا، شيخ الإسلام يعمل بهاتين منفكتين، والسلف جعلوا النتيجة مترتبة على الأصل. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 4 نعم، نعم، يعني هذا متّجه، الكلام الذي تفضّل به الأخ عبد العزيز متجه؛ يعني يريد أن يقول في عصر شيخ الإسلام كثرت الشبه، صنّف الناس وأعظموا الشبهة والاستدلالات، ولما كثرت الشبه شيخ الإسلام ذكر هذا التفريق، وأما في عهد السلف فكان قربهم عصر النبوة وقرب عهدهم من كلام الصحابة والتابعين والمخالف قليل، المخالف والخارج عن تفاسير السلف قليل ونادر سواء في الصفات أو في الإيمان أو في القدر نادر، فهم خرجوا مبتدعين، وما ظهرت لهم الحجج وما ظهرت لهم الأدلة، مثل ما ظهرت الشبه بعد ذلك، فكانت الشبه والأدلة عندهم محصورة، ورد عليهم الأئمة في ردود كثيرة، وبعد ذلك تنوعت الشبه كثيرا ولهذا راجت الشبه على بعض الأئمة المشهورين مثل النووي ونحوه من علماء المسلمين. اقرأ [المتن] فَصْلٌ [في أَحْسَنُ طُرُقِ التَّفْسِيرِ] فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَمَا أَحْسَنُ طُرُقِ التَّفْسِيرِ؟ فَالْجَوَابُ: أَنَّ أَصَحَّ الطُّرُقِ فِي ذَلِكَ: أَنْ يُفَسَّرَ الْقُرْآنُ بِالْقُرْآنِ، فَمَا أُجْمِلَ فِي مَكَانٍ فَإِنَّهُ قَدْ فُسِّرَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، وَمَا اُخْتُصِرَ مِنْ مَكَانٍ فَقَدْ بُسِطَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ. فَإِنْ أَعْيَاك ذَلِكَ فَعَلَيْك بِالسُّنَّةِ فَإِنَّهَا شَارِحَةٌ لِلْقُرْآنِ وَمُوَضِّحَةٌ لَهُ؛ بَلْ قَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ إدْرِيسَ الشَّافِعِيُّ: كُلُّ مَا حَكَمَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ مِمَّا فَهِمَهُ مِنْ الْقُرْآنِ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 5 قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إنَّا أَنْزَلْنَا إلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا} [النساء: 105] ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَنْزَلْنَا إلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 44] ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [النحل: 64] ؛ وَلِهَذَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلَا إنِّي أُوتِيتُ الْقُرْآنَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ» يَعْنِي السُّنَّةَ. وَالسُّنَّةُ أَيْضًا تَنْزِلُ عَلَيْهِ بِالْوَحْيِ كَمَا يَنْزِلُ الْقُرْآنُ؛ لَا أَنَّهَا تُتْلَى كَمَا يُتْلَى. وَقَدْ اسْتَدَلَّ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ الْأَئِمَّةِ عَلَى ذَلِكَ بِأَدِلَّةِ كَثِيرَةٍ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ ذَلِكَ. َالْغَرَضُ أَنَّك تَطْلُبُ تَفْسِيرَ الْقُرْآنِ مِنْهُ فَإِنْ لَمْ تَجِدْهُ فَمِنَ السُّنَّةِ، كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمُعَاذِ حِينَ بَعَثَهُ إلَى الْيَمَنِ: بِمَ تَحْكُمُ؟ قَالَ: بِكِتَابِ اللَّهِ. قَالَ: فَإِنْ لَمْ تَجِدْ؟ قَالَ: بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ. قَالَ: فَإِنْ لَمْ تَجِدْ؟ قَالَ: أَجْتَهِدُ رَأْيِي. قَالَ: فَضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَدْرِهِ وَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِ اللَّهِ لِمَا يُرْضِي رَسُولَ اللَّهِ. وَهَذَا الْحَدِيثُ فِي الْمَسَانِدِ وَالسُّنَنِ بِإِسْنَادِ جَيِّدٍ. [الشرح] بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه، وبعد: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6 فهذا الفصل هو الذي من أجله أنشئت هذه الرسالة الموسومة بالمقدمة في أصول التفسير، فأحسن طرق التفسير كما ذكر العلامة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله هي تفسير القرآن بالقرآن؛ لأن القرآن الكريم كلام الله جل وعلا وكلام الله يفسر بعضه بعضا وتفسير الآية بعضها ببعض يكون على أنحاء: الأول منها أن يكون في الآية بيان لمعنى اللفظ المشكِل فيها أو لمعنى الكلمة المشكلة فيها، فإذا كانت الآية في نفسها ما يدل على المعنى، فالمصير إليه أولى من طلب شيء خارج، وهذا الذي يسمى تفسير بالدليل المتّصل، والدليل المتصل معتبر عند الأصوليين في تقييد المطلق وفي تخصيص العام وفي تبيين المجمل، وأشباه ذلك، فاعتباره في تفسير الآي ظاهر؛ لأن الآية فيها ما يبين المعنى المراد. الثاني أن يكون الدليل ليس في الآية، أن تكون الآية ليست متصلة أو تكون آية أخرى، ويكون ما أشكل في موضع فسر في موضع آخر، وهذا يكون باعتبار دلالة اللفظ ودلالة السياق تارة أخرى، بمعنى أنه يكون هناك إشكال في لفظ الآية وفي تفسيرها فيطلب في موضع آخر فيتحرر المقصود من الموضع الآخر إما بلفظه تفسر لفظه، أما بالسياق يحدد المراد من الآية الأخرى. قد نأتي ببعض الأمثلة. الثالث أن يكون التفسير بما يسمى لغة القرآن؛ بمعنى أن يكون مورد هذا اللفظ المختلَف فيه المطلوب أن يفسر، المطلوب تفسيره، أن يكون مورده في القرآن بهذا المعنى، فإذا استقرئت الآيات وُجد أنها في كل موضع المعنى هو هذا، فتفسير اللفظة في الموضع المشتبه لما جرى عله ما يسمى بلغة القرآن أولى من تفسيرها بأمر خارج عن ذلك. الرابع من تفسير القرآن بالقرآن أن يكون تفسير الآية راجعا لما يفهم من آيات كثيرة في معنى هذه الآية، معناه أنه ليس دليلا متصلا ولا منفصلا ولا عرفا لغويا ولكن يفهم المفسر من مجموعه فهمه لآيات أن يكون هذا تفسير هذه الآية. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 7 نضرب مثالا على الأخير لقربه ثم نرجع لأمثلة الأولى مثلا في قوله جل وعلا في سورة طه {وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا} [طه: 46] ، في قصة موسى عليه السلام {وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا} ما هي هذه الفتون؟ فسرها ابن عباس رَضِيَ اللهُ عنْهُما في الحديث الطويل المشهور بحديث الفتون، وذكر معنى الفتون، كل ما جاء في قصة موسى من مواضع مختلفة، فصار تفسير الفتون هو ما حصل له من الافتتان بكل في كل آية في كل موضع من مواضع في القرآن، فجمعها فسُمِّي هذا الحديث الطويل في تفسير الفتون {وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا} . مثاله أيضا تفسير شيخ الإسلام في قوله جل وعلا {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا} [الفرقان: 45] . أن هذه الآية نفهم من مجموع الآيات في القرآن أم المراد بها ذكر دلائل قدرة الله جل وعلا وعظمته وبديع صنعه، وليس المقصود بالرؤية الرؤية إلى ذات الله جل وعلا، فالظاهر {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ} هذا نفهم هنا أن الرؤية ليس المراد بها ظاهر التفسير، فكيف تفسر الرؤية هنا؟ الرؤية إلى صفات الله جل وعلا الظاهرة وقدرة الله جل وعلا خلقه ونحو ذلك. تفسير الآية تارة يكون بجزء منها ويصلح مثالا لذلك في قوله في تفسير ابن عباس رَضِيَ اللهُ عنْهُما لقوله تعالى {وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ} قال: أنا من القليل الذي يعلم، كانوا سبعة وثامنهم كلب. أخذ ذلك من السياق المذكور في الآية لأنه قال قبلها {سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} [الكهف: 22] هنا ما جعله من الرجم، فهنا فسر هذه الآية بأنها هذا تفسيرها بدلالة السياق. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 8 لدلالة آية أخرى يعني هذه أمثلة عليها كثيرة، مثلا في قوله {اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ} [الفاتحة: 6] هذا الصراط ما هو؟ فسرته الآيات الأخرى، {غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ} [الفاتحة: 7] المغضوب عليهم هم اليهود فسرته آيات أخرى {غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِم} ، الضالين النصارى فسرته آيات أخرى وهذا كثير الآية تفسرها آية أخرى. بقي التمثيل بالثالث وهو لغة القرآن هذا مهم جدا في تفسير القرآن بالقرآن، أن يرعى المفسِّر اللغة في القرآن بمعنى أنه يعتني بما دارت عليه هذه اللفظة في القرآن، تعلمون أن عددا من أهل العلم كتبوا في الأشباه والنظائر أو الوجوه والنظائر، الأشباه والنظائر والوجوه والنظائر أسماء لكتب، وهي موضوع واحد قد تطلق عليه الأشباه والنظائر وقد يطلق عليه الوجوه والنظائر، والأكثر على أن الأشباه لما كان من قبيل التواطؤ، والوجوه لما كان من قبيل ألفاظ المشككة؛ لأن دلالة اللفظ إما أن تكون مطابقة أو موافقة أو تواطؤ تشكك مشترك تراجع، هذه دلالات الألفاظ، في الوجوه والنظائر الاشتباه والنظائر مهمة في هذا الباب، هي تساعد ما في معاني الكلمة في القرآن كله، مثل يأتي ابن الجوزي في كتابه الوجوه والنظائر يقول مثلا هذه الكلمة مثلا باب الاثنين باب الثلاثة؛ يعني الكلمة جاءت على معنيين في باب واحد كلمة لها معنى واحد، هذا بحسب اجتهاده أو حسب نظره في تفسير السلف؛ لكن يأتي المجتهد من أهل العلم يقول لا هذه اللفظة في القرآن جميعا لها معنى واحدا. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 9 من الأمثلة التي اختلف فيها ورجح بالسياق بالمعنى الواحد لفظ (الزينة) في القرآن، لفظ الزينة في قوله تعالى {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور: 31] ؛ فهنا اختلف أهل العلم، هل الزينة يقصد بها البدن أو المراد بها الملابس، فإذا كانت البدن صارت إلا ما ظهر منها يعني ما ظهر من البدن، فيكون هو الوجه والكفان مما يحتاج إلى إظهاره، أو يكون الزينة هنا بمعنى الملابس، فيكون {إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} يعني الملابس، الأصل تظهر عادة لأنها لابد أن تظهر بعض الملابس ففسر بهذا وفسر بهذا فغلى شي يرجع تفسر اللفظة بدلالته اللغوية أو بما يسمى لغة القرآن يتطلب النظر في معنى هذه الكلمة في القرآن كله، وإذا نظرنا في القرآن كله وجدنا أن لفظ الزينة يرجع إلى شيء مستجلب خارج عن الذات المزينة. قال الله جل وعلا {يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31] ، وأجمع العلماء في تفسير أن الزينة هي ما تستر به العورة يعني ما يتعلق بالملابس. قال الله جل وعلا في السماء {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ (6) وَحِفْظًا مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ} [الصافات: 6-7] ، {بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ} جعل هناك سماء جاء شيء وزين هذه السماء وهي الكواكب. كذلك قال فيما على الأرض {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا} [الكهف: 7] جعل الزينة خارجة عن ذات الأرض فجعل عليها أشياء من الزينة. تجد في القرآن كلبه أن الزينة شيء خارج عن الذات يُجلب لتزين به الذات، إذا نظرنا في الآية {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} [النور: 31] ؛ جعلنا هذا باحتمالين: إما أن تكون البدن. وإما أن يكون خارج. فسرها المحققون بأنها الخارج عن البدن وهي الملابس المعتادة؛ وذلك لأنها هي المجلوبة لتزين بها حتى يستقيم التفسير. ولكل نوع من الأمثلة ما هو كثير مشهور في ذلك. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 10 قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: فإن لأعياك ذلك، فتذهب إلى السنة؛ لأنها شارحة للقرآن أي موضحة له ومبينة له. وهذا ظاهر بيّن، السنة بيان للقرآن، وبيان السنة للقرآن في طلب التفسير يكون أيضا على أنحاء: الأول منها أن يكون في السنة تفسير للآية بظهور، كما فسر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آيات كثيرة معروفة كتفسير {المَغضُوبِ عَلَيهِمْ} وتفسير {الضَّالِّينَ} وتفسير الخيط الأبيض والخيط الأسود، وأشباه ذلك من التفسير، {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ} [الأتفال: 60] قال «ألا إنَّ القوَّة الرَّمي» وما شابه ذلك، وهذا ظاهر بيّن. النوع الثاني من التفسير بالسنة أن يكون هناك توضيح للمعنى المختلف فيه للسنة، مثل تفسير القرء في آيات الطلاق {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ} [البقرة: 228] ، والقرء هنا اُختلِف فيه: هل هو الحيض أم هو الطهر؟ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما ذكر ذلك قال في المرأة «أليست تدع الصلاة أيام أقرائها» قالت: بلى. فقوله «أليست تدع الصلاة أيام أقرائها» دلّ على أن القرء هناك هو الحيض، وذلك من جهتين: الجهة الأولى: السياق أنها تدع الصلاة أيام القرء، ومعناه الحائض لا تصلي، فصارت القروء هنا بمعنى الحيضات. والجهة الثانية: هي المختلف فيها بين أهل العلم وذكر الاختلاف ابن [ ..... ] في أول كتابه المهم الإنصاف وأطال عليها أنه هنا قال الأقراء وفي الآية جمع القرء بالقروء، وقال: أنه إذا كان المراد بالقرء هو الطهر فلا يكون جمعه قروء، وإنما يكون الجمع أقراء الطهر، وهنا دل الحديث على أن كلمة الأقراء تصلح للحيض كما أنها تصلح للطهر، فصار هنا لفظ القرء الواحد يُجمع على قروء وعلى أقراء، وهذا ظاهر في تفسير الآية بدليل من السنة ليس المقصود من تفسير الآية ولكن هو يفسر الآية. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 11 الثالث أم السنة تبين المجمل تقيد المطلق تخصص العام وهو نوع من التفسير كما هو معروف. الرابع أن يكون السنة العملية للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيها تفسير للآية أو الآيات لوله جل وعلا {وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} [الأنفال: 41] ، الآية النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كيف قسم ذلك، وهل قسم بالتساوي أو قسمها بهذا، السنة العملية مفسرة لهذا الأمر، وفي قوله وأتموا الحج والعمرة لله كيف فسرها الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وسنته العملية، {فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} [البقرة: 198] كيف يكون الذكر عند المشعر الحرام بالسنة العملية. {أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} [الإسراء: 78] ، ما معنى هذا فشره بالسنة العملية وهذا كثير بين في هذا الصدد. إذن حصل في هذا المقال لشيخ الإسلام رحمه الله تعالى أن أعظم ما يُعتني به في التفسير تفسير القرآن بالقرآن، هذا أحد الأنحاء التي ذكرت، ثم إن أعيى ذلك فسرتها السنة بأحاديث الأنحاء وأيضا، وقلَّ ما تحتاج إذا طبقت هذين الأصلين تحتاج إلى تفاسير الصحابة بعد ذلك؛ بل ستجد أن تفاسير الصحابة مستقاة من أحد هذين الوجهين أو منهما معا ولابد. * * * أعدّ هذه المادّة: سالم الجزائري الجزء: 11 ¦ الصفحة: 12 الدرس الثاني عشر بسم الله الرحمن الرحيم [المتن] [تَفْسِيرُ القُرْآنِ بِأَقْوَالِ الصَّحَابَةِ] وَحِينَئِذٍ إذَا لَمْ نَجِدْ التَّفْسِيرَ فِي الْقُرْآنِ وَلَا فِي السُّنَّةِ رَجَعْنَا فِي ذَلِكَ إلَى أَقْوَالِ الصَّحَابَةِ فَإِنَّهُمْ أَدْرَى بِذَلِكَ لِمَا شَاهَدُوهُ مِنَ الْقُرْآنِ وَالْأَحْوَالِ الَّتِي اخْتَصُّوا بِهَا؛ وَلِمَا لَهُمْ مِنْ الْفَهْمِ التَّامِّ وَالْعِلْمِ الصَّحِيحِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ؛ لَا سِيَّمَا عُلَمَاؤُهُمْ وَكُبَرَاؤُهُمْ كَالْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَالْأَئِمَّةِ الْمَهْدِيِّينَ، كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ. قَالَ الْإِمَامُ أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطبري: حَدَّثَنَا أَبُو كريب قَالَ أَنْبَأَنَا جَابِرُ بْنُ نُوحٍ أَنْبَأَنَا الْأَعْمَشُ عَنْ أَبِي الضُّحَى عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ يَعْنِي ابْنَ مَسْعُودٍ (1) : وَاَلَّذِي لَا إلَهَ غَيْرُهُ مَا نَزَلَتْ آيَةٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ إلَّا وَأَنَا أَعْلَمُ فِيمَنْ نَزَلَتْ وَأَيْنَ نَزَلَتْ وَلَوْ أَعْلَمُ مَكَانَ أَحَدٍ أَعْلَمَ بِكِتَابِ اللَّهِ مِنِّي تناوله الْمَطَايَا لَأَتَيْته. وَقَالَ الْأَعْمَشُ أَيْضًا عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ مِنَّا إذَا تَعَلَّمَ عَشْرَ آيَاتٍ لَمْ يُجَاوِزْهُنَّ حَتَّى يَعْرِفَ مَعَانِيَهُنَّ وَالْعَمَلَ بِهِنَّ.   (1) انتهى الشريط الرابع. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1 وَمِنْهُمْ الْحَبْرُ الْبَحْرُ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ، ابْنُ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتُرْجُمَانِ الْقُرْآنِ بِبَرَكَةِ دُعَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَهُ حَيْثُ قَالَ: اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ أَنْبَأَنَا وَكِيعٌ أَنْبَأَنَا سُفْيَانُ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ مُسْلِمٍ عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ يَعْنِي ابْنَ مَسْعُودٍ: نِعْمَ تُرْجُمَانُ الْقُرْآنِ ابْنُ عَبَّاسٍ. ثُمَّ رَوَاهُ عَنْ يَحْيَى بْنِ داود عَنْ إسْحَاقَ الْأَزْرَقِ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ صُبَيْحٍ أَبِي الضُّحَى عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: نِعْمَ التُّرْجُمَانُ لِلْقُرْآنِ ابْنُ عَبَّاسٍ. ثُمَّ رَوَاهُ عَنْ بُنْدَارٍ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ عَوْنٍ عَنْ الْأَعْمَشِ بِهِ كَذَلِكَ. فَهَذَا إسْنَادٌ صَحِيحٌ إلَى ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ هَذِهِ الْعِبَارَةُ، وَقَدْ مَاتَ ابْنُ مَسْعُودٍ فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ عَلَى الصَّحِيحِ، وَعَمَّرَ بَعْدَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ سِتًّا وَثَلَاثِينَ سَنَةً فَمَا ظَنُّك بِمَا كَسَبَهُ مِنْ الْعُلُومِ بَعْدَ ابْنِ مَسْعُودٍ؟. وَقَالَ الْأَعْمَشُ عَنْ أَبِي وَائِلٍ: اسْتَخْلَفَ عَلِيٌّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ عَلَى الْمَوْسِمِ فَخَطَبَ النَّاسَ فَقَرَأَ فِي خُطْبَتِهِ سُورَةَ الْبَقَرَةِ - وَفِي رِوَايَةِ سُورَةِ النُّورِ - فَفَسَّرَهَا تَفْسِيرًا لَوْ سَمِعَتْهُ الرُّومُ وَالتُّرْكُ وَالدَّيْلَمُ لَأَسْلَمُوا. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 2 وَلِهَذَا فإنّ غَالِبَ مَا يَرْوِيهِ إسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ السّدي الْكَبِيرُ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ: ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَلَكِنْ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ يَنْقُلُ عَنْهُمْ مَا يَحْكُونَهُ مِنْ أَقَاوِيلِ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّتِي أَبَاحَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ (1) قَالَ: «بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً وَحَدِّثُوا عَنْ بَنِي إسْرَائِيلَ وَلَا حَرَجَ وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو. وَلِهَذَا كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو قَدْ أَصَابَ يَوْمَ الْيَرْمُوكِ زَامِلَتَيْنِ مِنْ كُتُبِ أَهْلِ الْكِتَابِ فَكَانَ يُحَدِّثُ مِنْهُمَا بِمَا فَهِمَهُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ الْإِذْنِ فِي ذَلِكَ. وَلَكِنَّ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ الإسرائيلية تُذْكَرُ لِلِاسْتِشْهَادِ لَا لِلِاعْتِمَاد فَإِنَّهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: مَا عَلِمْنَا صِحَّتَهُ مِمَّا بِأَيْدِينَا مِمَّا يَشْهَدُ لَهُ بِالصِّدْقِ فَذَاكَ صَحِيحٌ. والثَّانِي: مَا عَلِمْنَا كَذِبَهُ بِمَا عِنْدَنَا مِمَّا يُخَالِفُهُ.   (1) يعني فيما يجمله من الحديث أنه روايات في هذا يدخل حديث ابن عباس في حديث ابن مسعود، يقول دخل حديث بعضهم في بعض يعني وهذا كثير عند ابن جرير ويميّز ... الجزء: 12 ¦ الصفحة: 3 والثَّالِثُ: مَا هُوَ مَسْكُوتٌ عَنْهُ لَا مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ وَلَا مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ فَلَا نُؤْمِنُ بِهِ وَلَا نُكَذِّبُهُ وَتَجُوزُ حِكَايَتُهُ لِمَا تَقَدَّمَ، وَغَالِبُ ذَلِكَ مِمَّا لَا فَائِدَةَ فِيهِ تَعُودُ إلَى أَمْرٍ دِينِيٍّ، وَلِهَذَا يَخْتَلِفُ عُلَمَاءُ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي مِثْلِ هَذَا كَثِيرًا وَيَأْتِي عَنْ الْمُفَسِّرِينَ خِلَافٌ بِسَبَبِ ذَلِكَ: كَمَا يَذْكُرُونَ فِي مِثْلِ هَذَا أَسْمَاءَ أَصْحَابِ الْكَهْفِ وَلَوْنَ كَلْبِهِمْ وَعِدَّتَهُمْ وَعَصَا مُوسَى مِنْ أَيِّ الشَّجَرِ كَانَتْ؟ وَأَسْمَاءَ الطُّيُورِ الَّتِي أَحْيَاهَا اللَّهُ لِإِبْرَاهِيمَ، وَتَعْيِينَ الْبَعْضِ الَّذِي ضُرِبَ بِهِ الْقَتِيلُ مِنْ الْبَقَرَةِ، (1) وَنَوْعَ الشَّجَرَةِ الَّتِي كَلَّمَ اللَّهُ مِنْهَا مُوسَى، إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا أَبْهَمَهُ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ مِمَّا لَا فَائِدَةَ فِي تَعْيِينِهِ تَعُودُ عَلَى الْمُكَلَّفِينَ فِي دُنْيَاهُمْ وَلَا دِينِهِمْ، وَلَكِنَّ نَقْلَ الْخِلَافِ عَنْهُمْ فِي ذَلِكَ جَائِزٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْب وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا} فَقَدْ اشْتَمَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ عَلَى الْأَدَبِ فِي هَذَا الْمَقَامِ. وَتَعْلِيمِ مَا يَنْبَغِي فِي مِثْلِ هَذَا؛   (1) هل هو الفخذ هل هو الكتف؟ هل هو ... الجزء: 12 ¦ الصفحة: 4 فَإِنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ عَنْهُمْ بِثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ ضَعَّفَ الْقَوْلَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ وَسَكَتَ عَنِ الثَّالِثِ فَدَلَّ عَلَى صِحَّتِهِ؛ إذْ لَوْ كَانَ بَاطِلًا لَرَدَّهُ كَمَا رَدَّهُمَا. ثُمَّ أَرْشَدَ إلَى أَنَّ الِاطِّلَاعَ عَلَى عِدَّتِهِمْ لَا طَائِلَ تَحْتَهُ فَيُقَالُ فِي مِثْلِ هَذَا: {قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ} ، فَإِنَّهُ مَا يَعْلَمُ بِذَلِكَ إلَّا قَلِيلٌ مِنْ النَّاسِ مِمَّنْ أَطْلَعَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ؛ فَلِهَذَا قَالَ: {فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا} أَيْ: لَا تُجْهِدْ نَفْسَك فِيمَا لَا طَائِلَ تَحْتَهُ وَلَا تَسْأَلْهُمْ عَنْ ذَلِكَ فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ مِنْ ذَلِكَ إلَّا رَجْمَ الْغَيْبِ. فَهَذَا أَحْسَنُ مَا يَكُونُ فِي حِكَايَةِ الْخِلَافِ: أَنْ تُسْتَوْعَبَ الْأَقْوَالُ فِي ذَلِكَ الْمَقَامِ وَأَنْ يُنَبَّهَ عَلَى الصَّحِيحِ مِنْهَا وَيُبْطَلَ الْبَاطِلُ وَتُذْكَرَ فَائِدَةُ الْخِلَافِ وَثَمَرَتُهُ؛ لِئَلَّا يَطُولَ النِّزَاعُ وَالْخِلَافُ فِيمَا لَا فَائِدَةَ تَحْتَهُ فَيُشْتَغَلُ بِهِ عَنِ الْأَهَمِّ. فَأَمَّا مَنْ حَكَى خِلَافًا فِي مَسْأَلَةٍ وَلَمْ يَسْتَوْعِبْ أَقْوَالَ النَّاسِ فِيهَا فَهُوَ نَاقِصٌ؛ إذْ قَدْ يَكُونُ الصَّوَابُ فِي الَّذِي تَرَكَهُ أَوْ يَحْكِي الْخِلَافَ وَيُطْلِقُهُ وَلَا يُنَبِّهُ عَلَى الصَّحِيحِ مِنْ الْأَقْوَالِ فَهُوَ نَاقِصٌ أَيْضًا. فَإِنْ صَحَّحَ غَيْرَ الصَّحِيحِ عَامِدًا فَقَدْ تَعَمَّدَ الْكَذِبَ. أَوْ جَاهِلًا فَقَدْ أَخْطَأَ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 5 كَذَلِكَ مَنْ نَصَبَ الْخِلَافَ فِيمَا لَا فَائِدَةَ تَحْتَهُ أَوْ حَكَى أَقْوَالًا مُتَعَدِّدَةً لَفْظًا وَيَرْجِعُ حَاصِلُهَا إلَى قَوْلٍ أَوْ قَوْلَيْنِ مَعْنًى فَقَدْ ضَيَّعَ الزَّمَانَ وَتَكَثَّرَ بِمَا لَيْسَ بِصَحِيحِ فَهُوَ كَلَابِسِ ثَوْبَيْ زُورٍ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ. [الشرح] بسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه. أما بعد: فأسأل الله جل وعلا أن يعلمنا من القرآن ما فيه انشراح صدورنا وثبات أمرنا واستقامة أحوالنا، وأن يذكرنا منه ما نسينا، وأن يعلمنا منه ما جهلنا إنه سبحانه جواد كريم. قد ذكر المصنف رحمه الله الشيخ تقي الدين ابن تيمية رحمه الله تعالى فيما سبق أنّ تفسير القرآن يكون بالقرآن، ثم يكون بالسنة، وقد يكون بأقوال الصحابة رضوان الله عليهم، والصحابة رضوان الله عليهم الذين نُقل عنهم التفسير ليسوا بالكثير؛ بل كانوا قليلين فممن نقل عنهم التفسير الخلفاء الأربعة: أبو بكر رَضِيَ اللهُ عنْهُ، كما نقل عنه تفسير قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة: 105] ، فإنه لما قرأها قال: يا أيها الناس إنكم تقرؤون هذه الآية وتضعونها في غير موضعها، وإني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول. إلى آخر الحديث ففسر هذه الآية لأنهم ذهبوا إلى غير التفسير الصحيح فيها. عمر رَضِيَ اللهُ عنْهُ أيضا نقل عنه تفسير كثير فيلك وعثمان. وكان أكثر الخلفاء الأربعة تفسيرا الأمام الحبر علي رَضِيَ اللهُ عنْهُ؛ ولهذا صار تلامذة علي بن أبي طالب في التفسير الذين تلقوا عنه التفسير والأقوال في تفسير الآي أكثر من غيره من الخلفاء الأربعة يعني من الخلفاء الثلاثة. وفسر القرآن أيضا من الصحابة ابن مسعود، وكان له مدرسة كبيرة في التفسير في الكوفة. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 6 وفسره أيضا ابن عباس، وله مدرسة كبيرة في مكة، أخذ عنه جمع كثير كما هو معروف. وحاصل مدارس التفسير عند الصحابة ترجع إلى ثلاث مدارس: مدرسة المدينة هي مدرسة الخلفاء الأربعة وأكثرهم علي بن أبي طالب. ومدرسة الكوفة عبد الله بن مسعود وتلامذته. ومدرسة مكة رفيها عبد الله بن عباس وتلامذته. وهناك آخرون من الصحابة نُقل عنهم التفسير الكثير؛ لكنها أقل من هؤلاء كأبي بن كعب وعبد الله بن عمر رضي الله عنهم أجمعين، وغير هؤلاء من الصحابة. ولاشك أن تفسير الصحابة للقرآن هو أوثق التفاسير بعد تفسير النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقد ذكر شيخ الإسلام هنا كما سمعتم عدة أسباب لذلك تُجمل في الآتي: أولا أنهم شهدوا التنزيل شهدوا تنزيل الآي على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومعرفة سبب النزول ومشاهدة وقت التنزيل الآية هذا يعين كثيرا على فهم معنى الآي، لهذا أجمع العلماء على أن معرفة سبب نزول الآية يعين على فهم الآية ويحقق أو يدرك به المفسر الصحيح في معنى الآية وإن لم يصر إلى الاقتصار على ورود السبب أو على السبب، والعبرة كما هو معلوم بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب؛ لكن هذه مهمة. لهذا الصحابة شهدوا التنزيل وعرفوا مواقعه ومتى أنزلت الآية، وهذا يعطي الدلالة عن معنى هذه الآية، والصحابة هم أولى الناس بذلك. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 7 السبب الثاني أنّ أعمق هذه الأمة في فهم اللغة التي نزل بها القرآن هم صحابة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وخاصة القرشيين منهم؛ لأن علماء الصحابة كانوا يعتنون بموارد التفسير في اللغة، كما جاء مثلا عن عمر رَضِيَ اللهُ عنْهُ حينما فسر قوله تعالى في سورة النحل {أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} [النحل: 47] ، قام رجل وقال: يا عمر أو عمر قال: ما التخوف؟ سأل الناس على المنبر؛ لأنه كان يقرؤها يوم الجمعة كثيرا قال: ما التخوف؟ فسكت الناس فقال رجل من هذيل وقال: يا أمير المؤمنين التخوف في لغتنا التنقص، قال شاعرنا أبو كبير الهذلي: تَخَوَّفَ الرَّحْلُ منها تَامِكًا قَرِدًا ... كما تَخَوَّف عُودَ النّبْعَةِ السَّفَنُ فالتخوف التنقص؛ يعني نقص. {أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ} قال عمر: عليكم بديوان العرب فإن به معرفة كلام ربكم؛ يعني التخوف التنقص، يأخذهم على تخوف يعني يبدؤهم ينقصهم شيئا فشيئا في النعمة مما هم فيه حتى يهلكهم. عَلِمَ اللغة والصحابة هنا نظروا إلى اللغة ففسرها بذلك. وهكذا بقية الصحابة ابن عباس رَضِيَ اللهُ عنْهُ كان عالما بأشعار العرب، فكان يجلس في منزله في مكة ويصيح غلامه من أراد أن يسأل عن شعر العرب ولغتها فليدخل، فيدخل من يريد أن يسأل عن الأشعار فيجيب ابن عباس رضي الله عنهما وهكذا. فالاهتمام باللغة هذا أساس التفسير لأن القرآن أنزل اللسان عربي مبين أصح الناس لفهم اللغة هم الصحابة؛ لأن اللحن لا يوجد فيهم ولم يداخلهم العجم ولم تدخلهم العجمة، ولم يتفرقوا في البلاد بمخالطة من ليس من أهل اللغة، فهم أهل اللسان الصحيح، هذا هو السبب الثاني من أن الاعتماد على تفاسير الصحابة يتعيّن وصحة تفاسيرهم في ذلك ظاهرة. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 8 السبب الثالث: هو أن الصحابة رضوان الله عليهم هم أسلم الأمة في التعبير عن القرآن من حيث ما يتورّع أن لا يدخل في القرآن، ولذلك كان كلامهم في التفسير قليلا كثير الفائدة فلم يكونوا يكثرون من الكلام خشبة أن يقال في القرآن ما ليس بحق، فكان كلامهم قليلا كثير الفائدة في التفسير، فهم يعرفون مواطن الزلل ومواطن الهداية فيتفعون الناس في تفسير القرآن فالصحابة رضي الله عليهم شهد لهم الله جل وعلا بعمومهم ولعلمائهم بخصوصهم. ثم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شهد للخلفاء الراشدين ولعلماء الصحابة في التفسير ومتهم ابن عباس وابن مسعود وأبي بن كعب وجماعات منهم، فقال لابن عباس «اللهم علمه التأويل» وقال لابن مسعود «من سره أن يقرأ القرآن غضا طريا كما أنزل فليقرأ على قراءة ابن أم عبد» وابن مسعود وقال عن نفسه: والله لو أعلم أن أحدا ف الأرض يعلم أية من كتاب الله جل وعلا تبلغه المطي لرحلته إليه. وشهد أبي مسعود لابن عباس كما ذكر شيخ الإسلام بإسناد الصحيح شهد له قال: نعم ترجمان القرآن ابن عباس. وهذه شهادة من بعضهم لبعض في ذلك. المصير إلى تفاسير الصحابة بعد التفسير بالقرآن والسنة هو أقوى طرق التفسير ولابد من الرجوع إليه، فلا يصح لأحد أن يفسر القرآن بدون الرجوع إلى تفاسير الصحابة، قد يزيد يفصل في تفاسير الصحابة، يفصل ما أجملوه؛ لكن لا يصح أن يكون هناك تفسير للصحابة، ونذهب عنه إلى غيره؛ لأن هذا مصير إلى أنهم لم يدركوا الصواب في تفسير القرآن. ذكر شيخ الإسلام بعد ذلك الكلام على الإسرائيليات، لما ذكر جمع إسماعيل بن عبد الرحمن السُّدي الكبير تفسيرا عن ابن عباس وتفسير ابن مسعود. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 9 طبعا من طرق التفسير لهؤلاء الصحابة منها ما هو صحيح ومنها ما هو حسن ومنها ما هر ضعيف، وطرق التفسير بمعنى الأسانيد، منها ما هو؟ جادة معروفة يروى بها التفسير آيات كثيرة عن علي رَضِيَ اللهُ عنْهُ بإسناد، عن ابن مسعود بإسناد، وهذه معروفة اسمها جواد الأسانيد في التفسير، لذلك تجد ابن جرير يكررها لأنها منقولة في نسخ، أكثرها رواية بمعنى نسخ موجودة رواها المتأخر عن تلامذة ابن مسعود، وظلت نسخة فيها تفسير آيات كثيرة جدا ثم يفرّقها من ألّف في التفسير في تفسيره، وهكذا ابن عباس رَضِيَ اللهُ عنْهُ مجاهد عرض عليه القرآن من أوله إلى آخره ومعرفة أسانيد التفسير لها بحث آخر ربما يطول. ممن نقل التفسير بأسانيد على الجادة إسماعيل بن عبد الرحمن السُّدي الكبير، وقولنا هنا السُّدي الكبير؛ لأنه فيه السُّدي الصغير محمد بن مروان وهو متهم بالكذب، أما إسماعيل بن عبد الرحمن فهو صدوق في الرواية، لكنه عمدة في نقل التفسير، وهو في الحديث صدوق، وإن روى له مسلم في الصحيح لكنه هو ليس بمرتبة الثقات الرواة الضابطين؛ لكنه في التفسير صحيح الرواية إلا أنه نصرف في تفسير ابن مسعود وابن عباس ونصه على ذلك يقول: دخل حديث بعضهم في بعض. وربما قال: وربما زدتُ أشياء من غير حديثهم، فخلط. وذكر لك بن تيمية أن إسماعيل بن عبد الرحمن السدي أدخل أشياء من الإسرائيليات في التفسير بما سمع لماذا أدخلها؟ لقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «حدثوا عن بتي لإسرائيل ولا حرج» وهذا قاده إلى البحث في الكلام على الإسرائيليات وأن هذه الإسرائيليات طغت في كتب التفسير وزادت حتى دخلت في أشياء لا فائدة منها البتة كما ذكر عن أهل الكهف عدتهم، كلبهم، لون كلبهم، والشجرة التي كلم الله موسى، ونوع كذا أو نوع كذا؛ يعني تفاصيل يذكرها أصحاب الإسرائيليات، الإسرائيليات ذكر شيخ الإسلام بن تيمية أنها ثلاثة أنواع والصحيح أنها أربعة: الجزء: 12 ¦ الصفحة: 10 أما الأول يعني ما ذكره مما يعلم أنه في شريعتنا، هذا لا بأس بروايته لأنه جاء في شريعتنا ما يؤيده. والثاني ما نعلم في شريعتنا ما يكذّبه ويرده؛ مسائل العقائد والأخبار عن الأنبياء أو عن الكتب ونحو ذلك، فهذا يجب علينا أن لا ترويه؛ لأن روايته هي رواية ما جاء بشريعتنا خلافه، والمعتمد ما جاء في شريعتنا؛ لأن الإسرائيليات دخل فيها الكذب في ذلك. والثالث ما لا نعلم في شريعتنا أنه صحيح أو أنه غير صحيح لا نعلم ما يؤيده أو ما يبطله، فهذا هو الذي قال فيه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إذا حدثكم بني إسرائيل فلا تصدقوهم ولا تكذّبوهم» فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم؛ لأنهم إذا حدثوا بشيء لا نعلم صدقه بشريعتنا ولا نعلم كذبه من شريعتنا، ولا نعلم صدقه ولا كذبه فينطبق عليه قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لا تصدقوهم ولا تكذبوهم» ، وينطبق عليه الحديث الآخر «وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج» ، وهذا هو الذي جعل الصحابة يروون التفسير كما فعل عبد الله بن عمرو وغيرهم؛ رووا التفسير عن الإسرائيليات خاصة في قصص الأنبياء وذكر المغيبات مما هو موجود في كتبهم وشروحهم، توسعوا فيه لأجل «حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج» . أما النوع الرابع فهو ما تحيله العقول؛ يعني هو لم يرد في شريعتنا؛ لكن العقول تحيله، العقل يرفضه العقل الصحيح والعقل الصريح هنا يرفضه، هنا يجب أن يرد، من مثل تفسير ق أنه جيل محيط بالأرض أو أن الأرض صفتها كذا وأنها تنتهي إلى طرف كذا وطرف كذا، وأن الشمس كانت كذا ثم مسخت إلى الجبل؛ يعني تفاصيل تتعلق بمواقع أو تتعلق بأجرام، أكثر هذا النوع مما يتعلق بمواقع أو أجرام أكثر هذا النوع مما يتعلق بمواقع، هذا إذا أحالته العقول فيجب أن يرد ولا يدخل القسم الثالث، ما يدخل في القسم الثالث مما لا تحيله العقول، أما إذا حالته العقول فيجب رده ولا يروى. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 11 لذلك دخل كثير من التفسير في هذا النوع في كتب التفسير من قبيل أنه «لا تصدقوهم ولا تكذبوهم» ولكنه مما تحيله العقول. وهذا لو قيدناه بهذا القيد صار ما ورد عن بني إسرائيل مما يدخل تحت قوله إذا حدثكم بنو إسرائيل فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم فيكون قليلا جدا بالنسبة لما هو موجود. فإذا استغنينا عن القسم الأول وهو ما جاء في شريعتنا ولا حاجة لنا لمرويات بني إسرائيل فيه، وإن ذكرت فتذكر هكذا، لا حاجة لنا بما جاء في شريعتنا رده، ما جاء ما رده العقل أيضا لا حاجة لنا به، فبقي نوع واحد وهذا قليل بالنسبة للبقية. فهذا القول هو الصحيح -ما ذكره ابن تيمية هنا- هو التوسط في مسألة النقل عن بني إسرائيل؛ لأن الناس النقل عن بني إسرائيل من زمن التابعين وزمن الأئمة على ثلاث أنحاء: منهم من يمنعها. ومنعم من يقبلها مطلقا. ومنهم من ينقل ما يدخل تحت هذه الشروط التي ذكرنا، وهو أن يكون النوع الثالث، ولا يكون داخل في النوعين الآخرين الثاني والرابع. أهل العصر اليوم كما تسمعون ينقدون أي تفسير لأن فيه إسرائيليات، يقولون: هدا فيه لإسرائيليات، ونقّوا كتب التفسير من الإسرائيليات. هذا ليس بمنهج علمي صحيح لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال «حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج» وقال «إذا حدثكم بنو إسرائيل فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم فإنه إن يكن حقا فتكذبوهم أو يكن باطلا فتصدقوهم» . وهذا جعل كثيرا الآن يعتني بتخليص كتب التفسير من الإسرائيليات، وأحيانا الإسرائيليات هذه توضح المقصود، مثل مثلا في حديث الفتون المعروف عن ابن عباس الحديث الطويل عند قوله تعالى {وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا} [طه: 46] ، ذكر الحديث الطويل، بعضه من القرآن، وبعض ما ذكر ابن عباس من قصة موسى عليه السلام والفتون يعني ما تدرج به وابتلاه الله جل وعلا به؛ بعضه من بني إسرائيل؛ لكن دخل في تفسير بن عباس ويقبل في ذلك لأنه مما لم يأتِ في القرآن رده. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 12 فالقول بأن كل تفسير فيه إسرائيليات مردود أو ضعيف أو لا يصلح، هذا فيه نظر؛ بل ينبغي أن يقيد بهذه الضوابط التي قلنا. المسالة الثانية التي بحثها شيخ الإسلام هي مسائل خلاف الترجيح بين الأقوال، وهذه لها ميدان بحث يطول الترجيح بين أقوال أهل التفسير في ذلك، وهو ذكر مثال في الخلاف حول عدة أصحاب الكهف، ورجح قولا واعتمد في الترجيح على نوع برهان وهو أنه في قوله {وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} [الكهف: 22] ، لم يقل بعدها (رجما بالغيب) وإنما قال {رَجْمًا بِالْغَيْبِ} [الكهف: 22] ، قبلها، وهذا مما يؤيد هذا مع ضميمة قول بن عباس أنت أعلم عنهم كانوا سبعة وثامنهم كلبهم. هذا نوع من الترجيح والترجيح باللفظ لأنه قال في الأول رجما بالغيب وفي الآخر لم يقل، والترجيح يقول بقول الصحابي قول بن عباس: أنا أعلم عدتهم. طبعا ابن عباس يعلم عدتهم بناء على برهان من الفائدة في ذلك. وأوجه الترجيح كثيرة متعددة وهي التي سيصير المصنف رحمه الله إلى الكلام عن اختلاف التنوع واختلاف التضاد، وأن اختلاف السلف في التفسير -يعني اختلاف الصحابة في التفسير- هو اختلاف تنوع ليس اختلاف تضاد؛ بمعنى أن أحدهما يسقط الآخر أو ضده، وأن اختلاف التضاد قليل جدا بالنسبة لاختلاف التنوع. اختلاف التضاد هذا هو الذي يرجح الصواب فيه بناء على براهين وأدلة في ذلك، لكل مقام ما يناسبه. [المتن] فَصْلٌ [فِي تَفْسِيرِ القُرْآنِ بِأَقْوَالِ التَّابِعِينَ] الجزء: 12 ¦ الصفحة: 13 إذَا لَمْ تَجِدْ التَّفْسِيرَ فِي الْقُرْآنِ وَلَا فِي السُّنَّةِ وَلَا وَجَدْته عَنْ الصَّحَابَةِ فَقَدْ رَجَعَ كَثِيرٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ فِي ذَلِكَ إلَى أَقْوَالِ التَّابِعِينَ؛ كَمُجَاهِدِ بْنِ جَبْرٍ فَإِنَّهُ كَانَ آيَةً فِي التَّفْسِيرِ كَمَا قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إسْحَاقَ: حَدَّثَنَا أَبَانُ بْنُ صَالِحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: عَرَضْتُ الْمُصْحَفَ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ ثَلَاثَ عَرضَات مِنْ فَاتِحَتِهِ إلَى خَاتِمَتِهِ أُوقِفُهُ عِنْدَ كُلِّ آيَةٍ مِنْهُ وَأَسْأَلُهُ عَنْهَا. وَبِهِ إلَى التِّرْمِذِيِّ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ مَهْدِيٍّ الْبَصْرِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مُعَمَّرٍ عَنْ قتادة قَالَ: مَا فِي الْقُرْآنِ آيَةٌ إلَّا وَقَدْ سَمِعْتُ فِيهَا شَيْئًا وَبِهِ إلَيْهِ قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عيينة عَنْ الْأَعْمَشِ قَالَ: قَالَ مُجَاهِدٌ: لَوْ كُنْت قَرَأْت قِرَاءَةَ ابْنِ مَسْعُودٍ لَمْ أَحْتَجْ أَنْ أَسْأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ الْقُرْآنِ مِمَّا سَأَلْت. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 14 وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا أَبُو كريب قَالَ: حَدَّثَنَا طَلْقُ بْنُ غَنَّامٍ، عَنْ عُثْمَانَ الْمَكِّيِّ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ (1) قَالَ: رَأَيْت مُجَاهِدًا سَأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ وَمَعَهُ أَلْوَاحُهُ قَالَ: فَيَقُولُ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: اُكْتُبْ حَتَّى سَأَلَهُ عَنْ التَّفْسِيرِ كُلِّهِ. وَلِهَذَا كَانَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ يَقُولُ: إذَا جَاءَك التَّفْسِيرُ عَنْ مُجَاهِدٍ فَحَسْبُك بِهِ. وَكَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ. وَعِكْرِمَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ. وَعَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ. وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ. وَمَسْرُوقِ بْنِ الْأَجْدَعِ. وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ. وَأَبِي الْعَالِيَةِ. وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ. وقتادة. وَالضِّحَاكِ بْنِ مُزَاحِمٍ.   (1) يصح أنك تقول في أي لفظ من ألفاظ التحمل أو ألفاظ الأسانيد أن تجعل قبلها (قال) ، إذا قال: حدثنا تقول: قال حدثنا، إذا قال: أخبرنا، تقول قال أخبرنا، إذا قال عن. يصح أن تقول: قال عن، (عن) هذه هو يبتدئ الكلام؛ المحدث تارة يقول: حدثنا وتارة يبتدئ الكلام ويقول: عن مجاهد؛ هو قوله؛ عن مجاهد، ويصح أن تحذف أيضا وهو الأكثر عندهم أنهم قبل (عن) لا يقول قال؛ لأنه هناك احتمال أن يكون لفظ التحمل وهو حدثنا أخبرنا أنبأنا ونحو ذلك أنه من قبل، وليس مما ينسب له أنه قال عنه؛ يعني احتمال أن يقول عن مجاهد احتمال أن يكون أصله حدثنا مجاهد؛ لكن هو الأعمش قال حدثنا مجاهد أسقط وقال عن مجاهد لأجل طول الصحبة وما أشبه ذلك، تارة تحذف اللفظة من الرواة وتارة يبقونها على ما هي عليه، لذلك في (عن) يصح أن تقول: عن. وإذا قلت: قال عن. ليس فيها إشكال. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 15 وَغَيْرِهِمْ مِنَ التَّابِعِينَ وَتَابِعِيهِمْ وَمَنْ بَعْدَهُمْ؛ فَتُذْكَرُ أَقْوَالُهُمْ فِي الْآيَةِ فَيَقَعُ فِي عِبَارَاتِهِمْ تَبَايُنٌ فِي الْأَلْفَاظِ يَحْسَبُهَا مَنْ لَا عِلْمَ عِنْدَهُ اخْتِلَافًا فَيَحْكِيهَا أَقْوَالًا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّ مِنْهُمْ مَنْ يُعَبِّرُ عَنْ الشَّيْءِ بِلَازِمِهِ أَوْ نَظِيرِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنُصُّ عَلَى الشَّيْءِ بِعَيْنِهِ، وَالْكُلُّ بِمَعْنَى وَاحِدٍ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَمَاكِنِ، فَلْيَتَفَطَّنْ اللَّبِيبُ لِذَلِكَ وَاَللَّهُ الْهَادِي. وَقَالَ شُعْبَةُ بْنُ الْحَجَّاجِ وَغَيْرُهُ: أَقْوَالُ التَّابِعِينَ فِي الْفُرُوعِ لَيْسَتْ حُجَّةً، فَكَيْفَ تَكُونُ حُجَّةً فِي التَّفْسِيرِ؟! يَعْنِي: أَنَّهَا لَا تَكُونُ حُجَّةً عَلَى غَيْرِهِمْ مِمَّنْ خَالَفَهُمْ، وَهَذَا صَحِيحٌ أَمَّا إذَا أَجْمَعُوا عَلَى الشَّيْءِ فَلَا يُرْتَابُ فِي كَوْنِهِ حُجَّةً، فَإِنْ اخْتَلَفُوا فَلَا يَكُونُ قَوْلُ بَعْضِهِمْ حُجَّةً عَلَى بَعْضٍ، وَلَا عَلَى مَنْ بَعْدَهُمْ وَيُرْجَعُ فِي ذَلِكَ إلَى لُغَةِ الْقُرْآنِ أَوْ السُّنَّةِ أَوْ عُمُومِ لُغَةِ الْعَرَبِ أَوْ أَقْوَالِ الصَّحَابَةِ فِي ذَلِكَ. [الشرح] بسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى لآله وصحبه ومن اهتدى بهداه، وبعد: فصلة لما سبق من الكلام عن طرق التفسير، ذكر أنّ القرآن يفسر بالقرآن، ثم القرآن يفسر بالسنة، ثم يفسر بأقوال الصحابة، هذا سبق شرحه وبيانه فيما مضى. والآن صار إلى تفسير القرآن بأقوال التابعين، والتابعون في مآخذهم في التفسير أخذوا من عدة اتجاهات أو مدارس: الجزء: 12 ¦ الصفحة: 16 الأولى هي مدرسة ما سمعوه من الصحابة وهي الأكثر، تجد أن الملازم للصحابي يفسر بتفسيره، الملازم لابن مسعود يفسر بتفسيره، الملازم لأبيّ يفسر بتفسيره، الملازم لعلي رَضِيَ اللهُ عنهم أجمعين يفسر بتفسيره، وكذلك من لازم ابن عباس رضي الله عنهما فإنه يفسر بتفسيره. كما لأطال هنا في الكلام عن مجاهد وهو من أوضح الصور في التزام مدرسة ابن عباس في التفسير، هذا هو المأخذ الأول. المأخذ الثاني: أن يجتهد التابعي في التفسير فيفسر باجتهاده، وهذا الاجتهاد راجع إلى نظره في الآيات، أو نظره في السنة أو إلى ما سمعه ويكون لديه من علوم مختلفة، وهذا كثير الاجتهاد عند التابعين، كثير باعتبار ما سمعوه أو اللغة أو ما شابه ذلك، ولهذا كثر اختلافهم من أجل كثرة اجتهاداتهم. القسم الثالث أو النوع الثالث في مآخذهم: هو حال التّابعي في التفسير؛ يعني في أثناء تفسيره، وهو تارة يفسر فيختصر بكلمة لأنه سئل عنها، وتارة يفسر فيطيل لأن المقام يقتضي ذلك، ولهذا تستغرب؛ لأن التابعين حينما فسروا، تجد أن من تفاسيرهم ما هو مقتضب جدا، ومنه ما هو مطول تجده يسهب في تفسير الآية. وسبب ذلك اختلاف الحال التي فسر فيها، وهذه الأحوال في الغالب لا تُنقل لنا، وإنما ينقل لنا القول الذي قاله دون الحال أو بساط الحال الذي جعل التابعي يُطنب أو يختصر، كما هو أيضا في حال الصحابة رضوان الله عليهم. وذكر لك عددا من أسماء مفسري التابعين ممن نُقل عنهم التفسير، وهؤلاء مشاهير تفاسيرهم منقولة في التفسير بالأثر. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 17 هذه المدرسة مدرسة التفسير القرآن بالقرآن، تفسير القرآن بالسنة، تفسير القرآن بأقوال الصحابة تفسير القرآن بأقوال التابعين، هذه تسمى مدرسة التفسير بالأثر؛ يعني بالأثر يعني من نقل عن صحابي فإنه يكون فسر بالأثر، من نقل عن التابعي فإنه يكون قد فسر بالأثر، حتى ولو كان تفسير الصحابي اجتهادا منه في اللغة، أو كان تفسير التابعي اجتهادا منه في اللغة، وليس مما نقله. وتفسير القرآن هناك مدرستان مشهورتان مدرسة التفسير بالأثر ومدرسة التفسير بالرأي. مدرسة التفسير بالرأي لها عدة مدارس بداخلها منها مدرسة التفسير باللغة. والصحابة رضوان الله عليهم اجتهدوا في التفسير باللغة وكما ذكر لكم أمثلة في الماضي إن كان [ذكري] صحيحا وكذلك التابعون فسروا باللغة؛ لكن ما نقل عنهم التفسير حتى ولو كان تفسيرا لغويا لا يصنفهم في مدرسة التفسير باللغة بل هي مدرسة التفسير بالأثر، وسبب ذلك أن اجتهادهم في اللغة ليس اجتهادا راجعا إلى اجتهاد في اللغة، هذا الاجتهاد في التفسير ليس لاجتهادهم في اللغة؛ ولكن لأن اللغة العربية هي اللغة التي يتكلمون بها وهي سليقتهم وفطرتهم لم يأخذوها بالتطبع مثلما جاء في مدرسة التفسير بالرأي فشا اللحن وفشا الفساد في اللغة فيكون تفسير العالم في اللغة يكون مما تعلمه من اللغة وليس مما طبع عليه. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 18 ولهذا لم يعد العلماء تفسير التابعين ولا تفاسير الصحابة من التفاسير اللغوية، حتى ولو كان ما اجتهدوا فيه لغويا لهذا السبب وهو أن تفسيرهم باللغة كان عن طبع ولم عن اجتهاد، فسروا في اللغة صحيح اجتهدوا في اللغة التي هي طبعهم وهي سليقتهم لا اللغة التي تعلموها كما هو صنيع المتأخرين، ولذلك لا تجد في تفسيرهم باللغة تفسيرا بالنحو لا تجد فيه التفسير البلاغي لا تجد فيه تفسير ألفاظ اللغة عن طريق الاشتقاق الذي كان عند المتأخرين، وإنما هو بالسليقة العامة التي ينقلون فيها الكلام عن الصحابة أو عن من أدركوه من أصحاب السليقة العربية. تفاسير التابعين قد يكون فيها اختلاف، وقد ذكر لك المصنف الشيخ تقي الدين ابن تيمية رحمه الله تعالى أن ما اختلفوا فيه فيندر أو يقلّ أن يكون فيه اختلاف تضادّ في التفسير الواحد وإنما يكون التنوع في العبارات والمآل واحد، إما أن يكون بعضهم جاء بالعموم وبعضهم خص، بعضهم جاء بفرد من الأفراد والآخر أتى بالكل، واحد جاء بالكل وآخر جاء بالجزء، وهكذا فيما اختلفوا فيه اختلاف تنوع. المسألة الثالثة التي طرقها مسألة خيالية لا مصير إليها وهي مسألة الإجماع في التفسير، والتابعون صعب بل لا أذكر أحدا من أهل العلم قال أجمع التابعون على أن تفسير هذه الكلمة هي كذا؛ لكن شيخ الإسلام فيما ذكر هذا بناء على تنظيره المعتاد أنهم إن أجمعوا على شيء فالحجة فيما أجمعوا عليه؛ لكن في الواقع لم ينقل عنهم الإجماع في تفسير آية، وإنما الصحابة رضوان الله عليهم نقل أما التابعون فإنهم لم ينقل عنهم أنهم أجمعوا في تفسير كلمة أو آية أنها كانت تفسر بكذا. ولهذا صار خلاف المفسرين والأئمة في التفسير بتفسير التابعين سائغا لأنهم اختلفوا، وإذا كان كذلك فيرجع فيه المجتهد في التفسير إلى الحجة من القرآن أو الحجة من السنة أو طرق التفسير الأخرى. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 19 فتفاسير التابعين ليست حجة إلا في حال أنهم أجمعوا، وهذه حال خيالية كما قال الإمام أحمد من ادّعى الإجماع فقد كذب؛ لأن الإجماع في المسائل الفروعية صعب، فكيف عن المسائل العلمية فالتفسير عند التابعين، سيما وأن مدارس التابعين في التفسير مختلفة متباينة، مدرسة مكة، مدرسة المدينة، والكوفة والبصرة والشام، هي تفاسير لاشك أنها عرضة للاختلاف الكبير. يمكن أن نقول هنا أن تفسير التابعين يتميز بمزايا: الأولى أنه لا خلط فيه من حيث النواحي العقدية؛ بل تفاسيرهم فيما يتعلّق بالاعتقاد صحيحة، هذا الذي جعل عددا من أئمة السنة ينقلون بعض تفاسير التابعين في كتب العقيدة والسنة، مثل ما يروى عن عكرمة وعن مجاهد في بعض المسائل التي منها مسألة الإجْلاس ونحوها. (1) فالأصل أنهم لا يقع عندهم خلل فيما يذكرونه في أبواب الغيبيات، وهذه ميزة لتفاسيرهم قد يكون هناك نزاع بين أهل السنة في مسألة مما نقل عنهم لكن الأصل أن ما نقلوه في مسائل الاعتقاد الأصل فيه السلامة؛ لأنهم مؤتمنون على ذلك بما أثنى الله عليهم به وأثنى عليهم به رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. الميزة الثانية أن كلامهم قليل الألفاظ كثير المعاني كسمة تفاسير الصحابة، تجد أن تفاسير التابعين إذا تأملته يمكن أن تخرج من التفاسير إشارة أو معنى كبير جدا يتطرق له الداعية، يتطرق له العالم يتطرق له الواعظ، وهكذا في كلمات وجيزة وكثيرة المعاني. السّمة الثالثة أن تفاسيرهم لا تخالف اللغة، تفاسير التابعين متفقة مع اللغة بخلاف تفاسير من أتى بعدهم فإنه قد فشا اللحن وقد يقع الخلل في التفسير اللغوي عندهم.   (1) انتهى الوجه الأول من الشريط الخامس. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 20 المزية الرابعة من مزايا تفسير التابعين الإجمالي أن تفاسير التابعين في كثير منها دُونت وأصبحت تنقل من طريق صحف أو من طريق أسانيد ثابتة عرفت تفاسير التابعين بها تفسير نجاهد منقول بإسناد معروف عنه، أو صحيفة مجاهد نفسها منقولة بتفسير وبإسناد واحد، وكذلك المشاهير الآخرون من التابعين، إما أن يكون عنده صحيفة في التفسير مكتوبة أو يكون هناك جادة في الإسناد واحدة منقول عنها في التفسير، ويكون الأسانيد الأخرى التي نقلت عنه في التفسير قليلة، وهذا بخلاف تفاسير الصحابة فإن الكتابة عنهم غير موجودة إلا ما ذكر عن كتابات قليلا عن ابن عباس وعلي رَضِيَ اللهُ عنْهُما وابن مسعود لكنها ليست كاملة كتفاسير التابعين، والأسانيد أيضا متنوعة في الصحابة بخلاف أسانيد التابعين. هذا بعض ما يحضرني من مزايا تفسير التابعين رحمهم الله تعالى. سائل: يفسرونها تفسيرا واحدا وإنما يكون الاختلاف في العبارة، هذا كثير جدا، هل هذا يعتبر إجماع؟ لا، هذا ليس إجماعا؛ لأن الإجماع أن يكون كل من عُرف بالتفسير من التابعين نُقل تفسيره للآية فاتفقوا عليه، نجد أن المنقول في الآية ينقل عن واحد اثنين فقط، لا يسوغ أن نقول أن البقية الذين لم يُنقل كلامهم متفقون معهم في ذلك، كذلك عدم ذكر الخلاف لا يعني الإجماع، بعض العلماء يسميه إجماع سكوتي وبعضهم يقول لم يعلم لهم مخالف فكان إجماعا هذه كلها فيها تجوّز وليس موافقة لشروط الأصوليين في مسألة الإجماع. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 21 قراءة ابن مسعود مفسرة، ابن مسعود رَضِيَ اللهُ عنْهُ قراءته قراءة مفسرة ابن مسعود يذكر الآية يعني الآية ويقرأ معها التفسير يعني يضيف كلمات فيها التفسير، لذلك اشتبه هذا على عدد من المتأخرين لأنهم يعتقدون أن هذه الزيادات في قراءة ابن مسعود وهذا ليس بصحيح، وإنما هي متن تفسيرات ابن مسعود مثل الآية المشهورة (وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً أَو امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ منه) هذه في قراءة ابن مسعود، وهي تفسيرية ليست بقراءته؛ لكن يقال بالتجوّز أنها كقراءة ابن مسعود لكن ابن مسعود كان يفسر يعني يقرأ ويفسر لها أمثلة كثيرة، قد ذكر كثيرا منها الحافظ ابن أبي داوود في كتابه المصاحف؛ يعني أطنب في هذه المسألة تعرفون الكتاب المصاحف لابن أبي داوود كتاب مشهور بالأسانيد نقل كثيرا من هذا. نعم [المتن] [تَفْسِيرُ القُرْآنِ بِالرَّأْيِ] فَأَمَّا تَفْسِيرُ الْقُرْآنِ بِمُجَرَّدِ الرَّأْيِ فَحَرَامٌ حَدَّثَنَا مُؤَمَّلٌ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَالَ فِي الْقُرْآنِ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ» . حَدَّثَنَا وَكِيعٌ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَبْدِ الْأَعْلَى الثَّعْلَبِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنٍ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَالَ فِي الْقُرْآنِ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ» . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 22 وَبِهِ إلَى التِّرْمِذِيِّ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ بْنُ حميد حَدَّثَنِي حَسَّانُ بْنُ هِلَالٍ قَالَ حَدَّثَنَا سُهَيْلٌ أَخُو حَزْمٍ القطعي قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو عِمْرَانَ الجوني عَنْ جُنْدُبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَالَ فِي الْقُرْآنِ بِرَأْيِهِ فَأَصَابَ فَقَدْ أَخْطَأَ» . قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ، وَقَدْ تَكَلَّمَ بَعْضُ أَهْلِ الْحَدِيثِ فِي سُهَيْلِ بْنِ أَبِي حَزْمٍ. وَهَكَذَا رَوَى بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَيْرِهِمْ أَنَّهُمْ شَدَّدُوا فِي أَنْ يُفَسَّرَ الْقُرْآنُ بِغَيْرِ عِلْمٍ. وَأَمَّا الَّذِي رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ وقتادة وَغَيْرِهِمَا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُمْ فَسَّرُوا الْقُرْآنَ فَلَيْسَ الظَّنُّ بِهِمْ أَنَّهُمْ قَالُوا فِي الْقُرْآنِ وَفَسَّرُوهُ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَوْ مِنْ قِبَلِ أَنْفُسِهِمْ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُمْ مَا يَدُلُّ عَلَى مَا قُلْنَا أَنَّهُمْ لَمْ يَقُولُوا مِنْ قِبَلِ أَنْفُسِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَمَنْ قَالَ فِي الْقُرْآنِ بِرَأْيِهِ فَقَدْ تَكَلَّفَ مَا لَا عِلْمَ لَهُ بِهِ، وَسَلَكَ غَيْرَ مَا أُمِرَ بِهِ، فَلَوْ أَنَّهُ أَصَابَ الْمَعْنَى فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لَكَانَ قَدْ أَخْطَأَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْتِ الْأَمْرَ مِنْ بَابِهِ كَمَنْ حَكَمَ بَيْنَ النَّاسِ عَلَى جَهْلٍ فَهُوَ فِي النَّارِ، وَإِنْ وَافَقَ حُكْمُهُ الصَّوَابَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ؛ لَكِنْ يَكُونُ أَخَفَّ جُرْمًا مِمَّنْ أَخْطَأَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 23 وَهَكَذَا سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى الْقَذَفَةَ كَاذِبِينَ فَقَالَ: {فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [النور: 13] ، فَالْقَاذِفُ كَاذِبٌ، وَلَوْ كَانَ قَدْ قَذَفَ مَنْ زَنَى فِي نَفْسِ الْأَمْرِ؛ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ بِمَا لَا يَحِلُّ لَهُ الْإِخْبَارُ بِهِ وَتَكَلَّفَ مَا لَا عِلْمَ لَهُ بِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَلِهَذَا تَحَرَّجَ جَمَاعَةٌ مِنْ السَّلَفِ عَنْ تَفْسِيرِ مَا لَا عِلْمَ لَهُمْ بِهِ؛ كَمَا رَوَى شُعْبَةُ عَنْ سُلَيْمَانَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُرَّةَ عَنْ أَبِي مَعْمَرٍ قَالَ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ: أَيُّ أَرْضٍ تُقِلُّنِي وَأَيُّ سَمَاءٍ تُظِلُّنِي إذَا قُلْتُ فِي كِتَابِ اللَّهِ مَا لَمْ أَعْلَمْ؟ وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَامٍ: حَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ يَزِيدَ عَنْ الْعَوَّامِ بْنِ حَوْشب عَنْ إبْرَاهِيمَ التيمي أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ سُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ: {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} [عبس: 31] ، فَقَالَ: أَيُّ سَمَاءٍ تُظِلُّنِي وَأَيُّ أَرْضٍ تُقِلُّنِي إنْ أَنَا قُلْت فِي كِتَابِ اللَّهِ مَا لَا أَعْلَمُ؟ مُنْقَطِعٌ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ أَيْضًا حَدَّثَنَا يَزِيدُ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَرَأَ عَلَى الْمِنْبَرِ: {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} فَقَالَ: هَذِهِ الْفَاكِهَةُ قَدْ عَرَفْنَاهَا فَمَا الْأَبُّ؟ ثُمَّ رَجَعَ إلَى نَفْسِهِ فَقَالَ: إنَّ هَذَا لَهُوَ التَّكَلُّفُ يَا عُمَرُ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 24 وَقَالَ عَبْدُ بْنُ حميد حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَفِي ظَهْرِ قَمِيصِهِ أَرْبَعُ رِقَاعٍ فَقَرَأَ: {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} فَقَالَ: مَا الْأَبُّ؟ ثُمَّ قَالَ: إنَّ هَذَا لَهُوَ التَّكَلُّفُ فَمَا عَلَيْك أَنْ لَا تَدْرِيهِ. وَهَذَا كُلُّهُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُمَا رَضِيَ اللهُ عنْهُما إنَّمَا أَرَادَا اسْتِكْشَافَ عِلْمِ كَيْفِيَّةِ الْأَبِّ وَإِلَّا فَكَوْنُهُ نَبْتًا مِنْ الْأَرْضِ ظَاهِرٌ لَا يُجْهَلُ؛ لقوله تعالى تَعَالَى: {فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28) وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا} [عبس: 27-30] . وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إبْرَاهِيمَ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ: أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ سُئِلَ عَنْ آيَةٍ لَوْ سُئِلَ عَنْهَا بَعْضُكُمْ لَقَالَ فِيهَا فَأَبَى أَنْ يَقُولَ فِيهَا. إسْنَادُهُ صَحِيحٌ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ إبْرَاهِيمَ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ: سَأَلَ رَجُلٌ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ: {يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ} [السجدة: 5] ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ فَمَا: {يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج: 4] ؟ فَقَالَ الرَّجُلُ: إنَّمَا سَأَلْتُك لِتُحَدِّثَنِي فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُمَا يَوْمَانِ ذَكَرَهُمَا اللَّهُ فِي كِتَابِهِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِهِمَا. فَكَرِهَ أَنْ يَقُولَ فِي كِتَابِ اللَّهِ مَا لَا يَعْلَمُ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 25 وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ يَعْنِي ابْنَ إبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ عَنْ مَهْدِيِّ بْنِ مَيْمُونٍ عَنْ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ، قَالَ: جَاءَ طَلْقُ بْنُ حَبِيبٍ إلَى جُنْدُبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ فَسَأَلَهُ عَنْ آيَةٍ مِنْ الْقُرْآنِ. فَقَالَ: أُحَرِّجُ عَلَيْك إنْ كُنْت مُسْلِمًا لَمَا قُمْت عَنِّي أَوْ قَالَ: أَنْ تُجَالِسَنِي. وَقَالَ مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ: أَنَّهُ كَانَ إذَا سُئِلَ عَنْ تَفْسِيرِ آيَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ قَالَ: إنَّا لَا نَقُولُ فِي الْقُرْآنِ شَيْئًا. وَقَالَ اللَّيْثُ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ: إنَّهُ كَانَ لَا يَتَكَلَّمُ إلَّا فِي الْمَعْلُومِ مِنَ الْقُرْآنِ. وَقَالَ شُعْبَةُ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ قَالَ: سَأَلَ رَجُلٌ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ عَنْ آيَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ فَقَالَ: لَا تَسْأَلْنِي عَنِ الْقُرْآنِ وَسَلْ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهُ شَيْءٌ يَعْنِي عِكْرِمَةَ. وَقَالَ ابْنُ شوذب: حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ أَبِي يَزِيدَ قَالَ: كُنَّا نَسْأَلُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ عَنْ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ وَكَانَ أَعْلَمَ النَّاسِ فَإِذَا سَأَلْنَاهُ عَنْ تَفْسِيرِ آيَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ سَكَتَ كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي أَحْمَد بْنُ عبدة الضبي حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ قَالَ: لَقَدْ أَدْرَكْت فُقَهَاءَ الْمَدِينَةِ وَإِنَّهُمْ لَيُعَظِّمُونَ الْقَوْلَ فِي التَّفْسِيرِ، مِنْهُمْ سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَالْقَاسِمُ بْنُ [مُحَمَّدٍ] ، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَنَافِعٌ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 26 وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ عَنْ اللَّيْثِ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ قَالَ: مَا سَمِعْت أَبِي تَأَوَّلَ آيَةً مِنْ كِتَابِ اللَّهِ قَطُّ. وَقَالَ أَيُّوبُ وَابْنُ عَوْنٍ وَهُشَامٌ الدستوائي عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سيرين قَالَ سَأَلْت عُبَيْدَةَ السلماني عَنْ آيَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ فَقَالَ: ذَهَبَ الَّذِينَ كَانُوا يَعْلَمُونَ فِيمَا أُنْزِلَ مِنْ الْقُرْآنِ فَاتَّقِ اللَّهَ وَعَلَيْك بِالسَّدَادِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: حَدَّثَنَا مُعَاذٌ عَنْ ابْنِ عَوْنٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مُسْلِمِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: إذَا حَدَّثْت عَنِ اللَّهِ فَقِفْ حَتَّى تَنْظُرَ مَا قَبْلَهُ وَمَا بَعْدَهُ. حَدَّثَنَا هشيم عَنْ مُغِيرَةَ عَنْ إبْرَاهِيمَ قَالَ: كَانَ أَصْحَابُنَا يَتَّقُونَ التَّفْسِيرَ وَيَهَابُونَهُ. وَقَالَ شُعْبَةُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي السَّفَرِ قَالَ: قَالَ الشَّعْبِيُّ وَاَللَّهِ مَا مِنْ آيَةٍ إلَّا وَقَدْ سَأَلْت عَنْهَا وَلَكِنَّهَا الرِّوَايَةُ عَنِ اللَّهِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: حَدَّثَنَا هشيم، أَنْبَأَنَا عُمَرُ بْنُ أَبِي زَائِدَةَ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: اتَّقُوا التَّفْسِيرَ فَإِنَّمَا هُوَ الرِّوَايَةُ عَنِ اللَّهِ. فَهَذِهِ الْآثَارُ الصَّحِيحَةُ وَمَا شَاكَلَهَا عَنْ أَئِمَّةِ السَّلَفِ مَحْمُولَةٌ عَلَى تَحَرُّجِهِمْ عَنْ الْكَلَامِ فِي التَّفْسِيرِ بِمَا لَا عِلْمَ لَهُمْ بِهِ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 27 فَأَمَّا مَنْ تَكَلَّمَ بِمَا يَعْلَمُ مِنْ ذَلِكَ لُغَةً وَشَرْعًا فَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ؛ وَلِهَذَا رُوِيَ عَنْ هَؤُلَاءِ وَغَيْرِهِمْ أَقْوَالٌ فِي التَّفْسِيرِ وَلَا مُنَافَاةَ؛ لِأَنَّهُمْ تَكَلَّمُوا فِيمَا عَلِمُوهُ وَسَكَتُوا عَمَّا جَهِلُوهُ، وَهَذَا هُوَ الْوَاجِبُ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ، فَإِنَّهُ كَمَا يَجِبُ السُّكُوتُ عَمَّا لَا عِلْمَ لَهُ بِهِ فَكَذَلِكَ يَجِبُ الْقَوْلُ فِيمَا سُئِلَ عَنْهُ مِمَّا يَعْلَمُهُ؛ لقوله تعالى: {لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران: 187] ، وَلِمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الْمَرْوِيِّ مِنْ طُرُقٍ: «مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ فَكَتَمَهُ أُلْجِمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِلِجَامِ مِنْ نَارٍ» . وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا مُؤَمَّلٌ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: التَّفْسِيرُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: وَجْهٌ تَعْرِفُهُ الْعَرَبُ مِنْ كَلَامِهَا. وَتَفْسِيرٌ لَا يُعْذَرُ أَحَدٌ بِجَهَالَتِهِ. وَتَفْسِيرٌ يَعْلَمُهُ الْعُلَمَاءُ. وَتَفْسِيرٌ لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ. وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. [الشرح] هذا ختام هذا الكتاب العظيم المفيد جدّا المسمى مقدمة في التفسير، وذكر فيه مسألة التفسير بالرأي. والتفسير بالرأي معناه أن نفسر القرآن بلا حجة وبلا دليل يرجع إليه، وإنما بمجرد رأي رآه هو، فليس له ما يدل على كلامه من القرآن ولا من السنة ولا من أقوال الصحابة ولا من اللغة ولا من السياق والسباق، وإنما هو رأى رأيا ففسر به. وهذا قول بلا علم، الله جل وعلا جعل القول عليه بلا علم قرين الشرك به؛ لأن الشرك به قول على الله بلا علم. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 28 فلا يحل لأحد أن يفسر القرآن بمجرد رأيه، فالتفسير بالرأي المجرد مذموم ومنهي عنه؛ لأنه داخل في القول على الله جل وعلا بلا علم، فالذي يفسر بالرأي هو يقول إن معنى قول الله هو كذا بغير دليل يستدل عليه وإنما لمجرد شيء بدر له وظهر بدون حجة لا نقلية ولا لغوية، ولهذا الأحاديث التي جاء فيها الوعيد فيمن فسر القرآن برأيه، معناها ما جاء في الروايات الكثيرة يعني المتعددة في النهي عن تفسير القرآن أو الوعيد بتفسير القرآن بغير علم؛ لأنه جاء لفظان «من فسر القرآن بغير علم» واللفظ الثاني «من قال في القرآن» ، وجاءت رواية «من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار» فنرجع بالرأي إلى الرأي الذي ليس عليه علم، وهو الذي صار إليه شيخ الإسلام في آخر الكلام بعد النقول عن السلف الكثيرة: أولا عن لأبي بكر رَضِيَ اللهُ عنْهُ بعد أن ساق الأحاديث من قال في القرآن بغير علم ذكر عن أبي بكر وإسناده عن أبي بكر حسن، وعن عمر لا تثبت في قوله {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} وإنّما هي أقرب عن أبي بكر لتعدد رواياتها عنه، وفيها التحذير الشديد من أن يقال في القرآن بغير علم. أما إذا احتج بعلم إما بآية أو بسنة أو بلغة، فإن هذا علم يصح أن يفسر بناء على فهمه من آية أو حديث أو لغة، وهذا هو الذي صار من الصحابة رضوان الله عليهم، فقد اجتهدوا بناء على فهم فهموه، فهو قول في القرآن بعلم وليس بغير علم، فيحمل المروي عنهم عن الخلفاء وعن الصحابة من النهي عنه تفسير القرآن بالرأي، أو أن يقول قولا في القرآن؛ لأن هذا القول هو الذي لا يستند إلى حجة ودليل. أما ما يستند إلى حجة ودليل عند صاحبه فهو مأذون له به كما هو الشائع في تفاسير العلماء في هذا الصدد. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 29 إذا تبين ذلك فيجب الحذر الشديد من أن يُقدم على القرآن بتفسير الآي بغير علم، ما يكون عند الإنسان حفظ للقرآن حيث يحمل بعض الآيات على بعض وفهم لمعانيها، أو معرفة بالسنة أو معرفة باللغة، وإنما هو يفسّر بحسب وَجْدِه أو ما يطرأ له. فحينئذ فالعلم الذي تكون معه النجاة في هذا الأمر بحيث يستطيع أن يفسر بعلم وأنه إذا اجتهد بالتعبير يكون مقبولا أن يكون يراجح التفاسير الأثرية أولا كتفسير الحافظ عبد الرزاق بن همام الصنعاني رحمه الله تعالى وكتفسير الإمام أحمد فيما نقل عنه وكتفسير سعيد وابن جرير وتفسير ابن مردويه وتفسير ابن المنذر وما أشبهها من التفاسير الأثرية، وكذلك ما لخصت فيه هذه التفاسير كتفسير ابن الجوزي وتفسير الحافظ ابن كثير وغيرها. ثم هو مع ذلك يكون عنده بصر بالعقيدة الصحيحة التي قررها أئمة الإسلام وأئمة السنة حتى يفهم القرآن عليها، وعنده بصر أيضا بمواقع التفسير من اللغة بمواقع اللغة حتى يعرف الإعراب يعرف المتقدم والمتأخر ويعرف طرفا من علم المعاني حتى يعرف فائدة التقديم والتأخير وفائدة الحصر وفائدة التأكيد وفائدة تنوع وحروف وأشباه ذلك مما هو مقرر في علم المعاني، إذا كان عنده طرف من علوم اللغة هذه مع معرفة بالقرآن والسنة ومراجعة لكتب التفسير فإنه إذا اجتهد يُرجى أن يكون اجتهاده ليس به تجاوزا لقولي «من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار» . الأمر الثاني فيما ذكرت أن تفسير القرآن بالرأي المذموم له أشكال وله أنحاء: تفسير القرآن بالرأي المذموم في المسائل الغيبية كمسائل صفات الله جل وعلا أو الجنة والنار أو ما يحصل يوم القيامة، القرآن مملوء بالآيات التي فيها ذكر للغيبيات، فالإقدام على تفسير هذه الغيبيات بما يخالف قاعدة أمرّوها كما جاءت، هذا تفسير بالرأي، إلا ما كان فيه علم مقتفى فإن هذا يُصار إليه كتفسير الكرسي بأنه موضع القدمين، وتفسير الميزان بأنه له كفتان وأشباه ذلك. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 30 الأمر الثاني أن التفسير بالرأي يكون بحمْل القرآن على ما يخالف ما علم من الآيات الأخرى كصنيع أصحاب المذاهب الرّدية والفرق المنحرفة في تفسير بعض الآيات بما يخالف آيات أخر، آيات فيها ثناء على الصحابة رضوان الله عليهم لا يأخذون لها فيفسرون آيات أخر بتفسير يضاد هذه الآيات، وهكذا في مسائل الحلال والحرام فإن تفسيرها بما يناقض غيرها هذا يعدّ من التفسير بالرأي المذموم. المسألة الثالثة أو الشكل الثالث التفسير بالرأي المذموم هو التفسير بالتأويل المردود، والتأويل قد يكون صحيحا وقد يكون باطلا، والباطل هو أن يكون ليس هناك حجة في صرف اللفظ عن ظاهره المتبادر منه، هذا أيضا يكون تفسيرا بالرأي، من صرف لفظا عن ظاهره أو إلى غيره دون قرينة دون حجة تدل على ذلك فهذا من التأويل المذموم كما هو صنيع أصحاب المذاهب والفرق المختلفة. إذا تبين هذا فمدارس التفسير بالرأي عند علماء التفسير وعلماء علوم القرآن تنقسم إلى قسمين شهيرين: الأول التفسير بالرأي المقبول على ما ذكرنا. القسم الثاني التفسير بالرأي المذموم المردود، وهو القول على الله بغير علم. أما التفسير بالرأي المقبول فيسمونه الرأي، وصحته أن يقال بالاجتهاد} التفسير بالاجتهاد مقبول، هو ما كانت عناصر الاجتهاد فيه تامة أو متوافرة، وهذا له عدة أمثلة أو مدارس في داخله: منها المدرسة الفقهية في التفسير، كل أصحاب مذهب فسر القرآن تفسيرا فقهيا خاصة في الآيات التي لها صلة بالفقه أو بأصول الفقه، وهذا كثير الحنابلة لهم تفاسير فقهية، والمالكية لهم تفاسير فقهية، والحنفية لهم تفاسير فقهية، والشافعية لهم تفاسير فقهية، والظاهرية لهم أيضا تفسير فقهي وهكذا، هذا تفسير بالاجتهاد الفقهي الذي له دليله لكن لم يفسر القرآن من حيث هو، لكن فسروه لكن بما يوافق المذهب الفقهي هذا داخل في هذه المدرسة. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 31 الثاني مدرسة التفسير بالاجتهاد النحوي، وهذا كثير ويدخل فيها الكتب المسماة إعراب القرآن، كإعراب القرآن للزجاج، وإعراب القرآن للزجاجي وإعراب القرآن للفراء، وتفاسير اعتنى فيها بالإعراب كإعراب القرآن للعكبري وتفسير البحر المحيط لأبي حيان وأشباه هذه الكتب. الثالث مدرسة التفسير بالاجتهاد اللغوي، واللغوي يدخل فيه التفسير في المفردات، أو في البلاغة وهذه عدد من الكتب التي اعتنت بهذا التفسير، وقد تشترك مع غيرها في مدرسة مثلا مدرسة فقهية أو مدرسة عقدية ونحو ذلك، وهذه لها أمثلة متعددة كتفسير ابن الجوزي وتفسير البحر المحيط وكتفسير السمعاني وتفسير السمين الحلبي وتفاسير كثيرة في هذا الصدد، ومن المتأخرين تفسير الألوسي وما شابه ذلك، وهذه قد يكون ذلك عناية بالبلاغة أو عناية بالاشتقاق والمفردات. الصنف الرابع فيها التفاسير العقدية وهي التي اعتنت بالاجتهاد لكنها مالت إلى تقرير العقيدة، وهذه يصح أن نقول أن ما يدخل في هذه المدرسة، مدرسة الاجتهاد المقبول هي المدرسة العقدية السلفية أو التي تكون تبعا لأئمة الحديث رحمهم الله تعالى، والتي توافق ظاهر القرآن، هذه يصح أن نقول فيها أنها تفسير بالاجتهاد المقبول. والمدرسة الأخيرة المدرسة الإشارية، والمدرسة الإشارية هي مدرسة للتفسير بالاجتهاد لكن بذكر الإشارة، ومنها ما هو مقبول، ومنها ما يدخل في الرأي المذموم في القسم الثاني. والتفسير بالإشارة سبق أن ذكرته لكم لكن أعيده باختصار إنه يصح التفسير الإشاري بأربعة شروط. أما النوع الثاني وهو التفسير بالرأي المذموم فهو كل ما كان الاجتهاد فيه غير متوافر الشروط، ويدخل فيها كل التفاسير التي يذهب إليها أهل البدع، مثل تفاسير غلاة الصوفية، وتفاسير الشيعة التي ينحون فيها إلى منحى التأويل والرأي الذي لا حجة فيه، مثل تفاسير الباطنية وتفاسير المعتزلة والخوارج وما أشبه ذلك من التفاسير. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 32 على العموم تقسيم المدارس يعني يحتاج إلى تفصيل أكثر لكن سبق أن أشرنا إليه أظن بأحد المحاضرات يمكن أن يرجع إليه في ذلك. وقد صار ابن تيمية رحمه الله في آخر الكلام إلى ما سبق أن ذكرناه في الأول؛ وهو أن التفسير بالاجتهاد إذا توافرت الشروط فإنه لا حرج منه. وأما إذا كان قولا بمجرد الرأي فهو مذموم فليحذر منه؛ لأن القول على الله بلا علم شديد جدا وكبيرة من الكبائر، وقد يكون كفرا إذا كان متعلقا بإباحة ما لم يأذن به الله. ذَكر فيما سمعتم في الأخير كلمة يجب أن توضَّح وهي أن من سُئل عن علم فإنه يجب عليه؛ سئل عن آية ولديه علم فإنه يجب عليه أن يجيب وأن يبين المعنى إذا كان لديه علم، وهذا ليس على إطلاقه، وإنما يجب عليه إذا كان ليس هناك من يعلمها إلا هو، أما إذا كان من يعلم غير المسؤول فإنه يجوز له أن يمتنع عن الجواب ويُحيل إلى غيره كما كان الصحابة رضوان الله عليهم يحيل بعضهم إلى بعض، أما إذا تعينت عليه فإنه يجب عليه أن يبين، ولا يجوز له الكتمان، إذا لم تتعين عليه بوجود من يجيب غيره أو بوجود من يبين غيره فإنه حينئذ له في ذلك مندوحة. وهذا ختام بيان بعض ما يتعلق بهذه الرسالة النفيسة. أسأل الله جل وعلا أن يرحم مؤلفها؛ كاتبها شيخ الإسلام ابن تيمية، وأن يجزيه عنا وعن الموحدين خير الجزاء، وأن يجمعنا به في دار كرامته، وأن ينفعنا بعلومه إنه سبحانه جواد كريم. كما أسأله سبحانه أن ينور قلوبنا جميعا وأن يفيض علينا من الفهم الصحيح، وأن يقينا العثار ويجنبنا الزلل وأن يلهمنا في كل تقوى البدار إنه سبحانه خير مسؤول، وهو المعطي قبل السؤال، والمنيل قبل استحقاق النوال سبحانه وتعالى تعالى اسمه وتقدست أسماؤه لا إله إلا هو، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد. [الأسئلة] الجزء: 12 ¦ الصفحة: 33 س/ قول مجاهد رحمه الله تعالى: إن الله أنزل من الكتب ألفا، ثم عادت علومها إلى التوراة والإنجيل والزبور والقرآن ثم عادت علوم الأربعة إلى القرآن، ثم عادت علوم القرآن إلى المفصل منه، ثم عادت علوم المفصل منه إلى الفاتحة، ثم عادت علوم الفاتحة إلى البسملة منه، ثم عادت علوم البسملة إلينا؟ ج/ هذا لا يدخل في التفسير الإشاري؛ لأن الإشارة كما ذكر فيها أربعة شروط لصحتها، وهي غير موجودة هنا، الإشارة أن يكون هناك لفظ يقال إنه إشارة إلى كذا، إشارة إلى معنى وهذا يصح بشروطه، مثل الماء تقول الماء إشارة إلى الوحي في بعض الآيات الماء وإحياء الأرض الميتة أنه إشارة إلى الوحي {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [الحديد: 17] ، إحياء هنا إشارة إلى إحياء القلوب، هذا نقول صحيح، من قال هذا إحياء القلوب نقول هذا صحيحا لماذا؟ لأنه اجتمعت شروطه: أولا أن لا يشتمل على عقيدة باطلة. ثانيا اللفظ المنقول منه ثابت يعنى الأرض الميتة ثابت المعنى. وفيه إشارة مزيدة على ذلك إلى القلب، والقلب أرض والإحياء صحيح، وهذا الربط صحيح. مثل ما فسر الحديث «إن الملائكة لا تدخل بيت فيه كلب ولا صورة» قال ابن تيمية في تفسيره، وكذلك لا تدخل قلبا لأن البيت جعله قلبا، وهو صحيح القلب بيت، قال: لا يدخل قلبا قد ملئ بكلاب الشبهات وصور الشهوات. وهذا صحيح النقل يعني الربط هذا صحيح. أما الأثر الذي ذكرته فأنا في ظني إن كان حفظي صحيحا أنه لا يصح وأنه نقله بعض المتصوفة، سيما وأن الباء ليس فيها سرّ، قد يحمل يعني فيه تكلف إذا قلنا المقصود هنا يرجع إلى معنى واحد وهو الاستعانة، وهذه الاستعانة لا ترجع لها علوم كتب الله جل وعلا، الاستعانة فيها الربوبية وهي مفتاح كل خير؛ لكن لا ترجع إليها علوم القرآن جميعا وعلوم الفاتحة جميعا. س/ .... ج/ هذا تفسير بالاجتهاد أي نعم؛ يعني بالرأي إذا استوفي الشروط فهو مقبول، أو يكون مذموما، نعم الجزء: 12 ¦ الصفحة: 34 س/ ... ج/ ثلاثة؟ يمكن جاء الوهم مني، أنا أذكر: أن يكون أن لا يشتمل على عقيدة باطلة يعني نعلم أنها باطلة الثاني أن يكون المعنى الأصلي ثابت. الثالث: أن يكون المعنى المنقول إليه أيضا صحيح في نفسه في اللغة وفي نفسه. الرابع: أن لا يكون هناك دليل يبطل هذه الإشارة. على العموم أنا أذكرها من كتاب ابن القيم التبيان هي موجودة فيه، التبيان هو كتاب مهم مهم جدا، التبيان قل يمكن من يطالعه ويمر عليه؛ لكن فيه علوم كثيرة خاصة فيما يتعلق بالقرآن وتفسيره فيه فوائد كثيرة جدا. ثلاثة ليس لها أصول قال: التفسير والمغازي والملاحم يعني ما لها أصول أسانيد أكثرها تنقل بدون أسانيد. نعم س/ .... ج/ لا تكون صحيحة من حيث التفسير أو من حيث النقل، لا، من حيث التفسير ما لها علاقة، قد يكون الإسناد ضعيف والتفسير صحيح؛ يعني بمعنى الإسناد هو نقل الكلام إلى قائله، طيب نقول: هذا النقل إلى القائل الإسناد ضعيف، ولا يعني كون الإسناد ضعيفا أن يكون ضعيفا في نفس الأمر لأن الضعيف قد يحصل؛ لكن من باب الاحتياط قلنا أنه ضعيف، ولذلك في الحلال والحرام نشتد في مسألة الأسانيد لكن في أسانيد التفسير لا ينبغي التشدد أولا. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 35 ثاني ليس كل راوي يحكم عليه في باب الحلال والحرام بأنه ضعيف أن يكون ضعيفا في التفسير، هناك رواة كثير ضعاف في حفظ أحاديث الأحكام لكنهم أصحاب قرآن، هذا كيف أضعفهم فيما هو صنعتهم؟ يجيء مثلا يقول نلقاه في التقريب يقول الضعيف تراجعه تجده ضعيف في الروايات؛ لكنه صاحب قرآن، إذا كان صاحب قرآن فأضعفه في التفسير فيه نظر، إذا إسناد ضعيفا لكن التفسير في نفسه عن ابن عباس مستقيما؛ يعني أن لا يستغرب أن يقوله ابن عباس لأنه يوافق تفسير الآية مثلا يفسر (الأب) نقول الإسناد ضعيف، يقول ما يصح عن ابن عباس ما فيه ما يستغرب، ولذلك مسألة اللجوء إلى أن الإسناد في التفسير نقول ضعيف ليس هو الأصل، الأصل أن نقبل ما جاء في التفسير إلا إذا كان هناك غرابة في التفسير. أما التفسير هو تفسير آية، ويكون لهذا التفسير مستنده، بخلاف ما إذا كان الإسناد منكرا أو الإسناد موضوع ونحو ذلك هذا يجب صده، مثل إسناد الكلبي المشهور الذي يروى به تفسير ابن عباس الطويل المسمى تنوير المقباس، هذا في إسناده الكلبي الذي هو والسُّدي الصغير محمد بن مروان ... (( (( ( تم هذا الشرح المبارك تم بحمد الله أعدّ هذه المادّة: سالم الجزائري الجزء: 12 ¦ الصفحة: 36