الكتاب: نشوة الطرب في تاريخ جاهلية العرب المؤلف: ابن سعيد الأندلسي المحقق: الدكتور نصرت عبد الرحمن الناشر: مكتبة الأقصى، عمان - الأردن عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] ---------- نشوة الطرب في تاريخ جاهلية العرب ابن سعيد المغربي الكتاب: نشوة الطرب في تاريخ جاهلية العرب المؤلف: ابن سعيد الأندلسي المحقق: الدكتور نصرت عبد الرحمن الناشر: مكتبة الأقصى، عمان - الأردن عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] نشوة الطرب في تاريخ جاهلية العرب القسم الأول تاريخ العرب المبلبلة البائدة هؤلاء هم الذين خرجوا من أرض بابل حين تبلبلت الألسن، وتفرقت على الأرض بنو نوح، فتناسلوا في جزيرة العرب، وخرج منهم إلى الشام ومصر وغيرهما من اشتهر في العالم ذكره ................................................................................................................................................................................................................................................... مملكته مثلها، فجلب العمد من أقطار الأرض، وخاطب الملوك في شأنها، فتاحفته بها، وبنى بها الإسكندرية بأرض مصر. وكان له من هنالك إلى البحر المحيط، والبربر رعيته، وكان القفط يدارونه على مصر، وملوكها تخضع له. ولما مات، وبعدت ملوك بني عاد في إفريقية، هدمت الفراعنة الإسكندرية، ثم بناها الإسكندر بما وجده من آلات البينان في مكانها، فنسبت له. ومن الكمائم: أن هوداً عليه السلام لما أهلك الله عاداً بالأحقاف على يده، وخرج من أرض العرب، ونزل بالشام في مكان جامع دمشق، وبنى له هناك متعبداً هو معلوك إلى اليوم. ولم يزل يعبد الله فيه إلى أن مات به. وعظمته الأمم بعده، فتعبدت به كل فرقة إلى أن جعله المسلمون جامعاً. قال: "وآوى إليه من بقي من قوم عاد الذين أخرجتهم العمالقة وجرهم من مكة، وكثر نسلهم بالشام، وتوالت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 ملوكهم، فبنوا في مكان دمشق إرم ذات العماد على حكاية ما بلغهم عن المدينة التي كانت بالأحقاف. وقد حكى ابن خرداذبة في تاريخه أن دمشق بناها جيرون بن سعد بن عاد وسماها جيرون. قال: "وهي إرم ذات العماد". قال ابن عساكر في تاريخ دمشق: "كان جيرون وبريد أخوين، وهما ابنا سعد بن لقمان بن عاد، وهما اللذان يعرف حصن جيرون وباب البريد بهما". وقيل غير ما مر مما هو مذكور في تاريخ بني إسرائيل المتعلق بذكر الشام. تاريخ ثمود بن حاثر بن إرم بن سام من الكمائم: أنهم كانوا فيمن خرجوا من أرض بابل من العرب، فساروا حتى انتهوا إلى ديارهم المشهورة بهم في الحجاز بجهة الحجر ووادي القرى حيث كانوا ينحتون "من الجبال بيوتا فارهين". وبعث الله صالحاً، فكفروا به، وعقروا الناقة، فأهلكهم ولم يبق منهم باقية. ودليل على ذلك قوله تعالى "أهلك عاداً الأولى، وثمود فما أبقى". وتزعم ثقيف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 بالطائف أنها من بقية ثمود، وكان الحجاج يأبى ذلك ويتلو هذه الآية. وفي تواريخ الأمم: أن الله بعث لهم صالحاً عليه السلام حيث بعث هوداً إلى عاد. قال المسعودي: "كان لثمود بالحجر ملك عظيم"، "وأول ملوكهم به عابر بن إرم بن ثمود، ثم جندع بن عمرو، وفي مدته كان صالح عليه السلام". قصص صالح النبي عليه السلام مع ثمود حتى أهلكهم الله من مروج الذهب: "إن الله بعثه إلى ثمود، وهو منهم في حال أنه غلام، وعلى فترة بينه وبين هود المبعوث إلى عاد، وتلك الفترة نحو مائة سنة. فقال له زعيمهم: إن كنت صادقاً فأظهر لنا من هذه الصخرة ناقة (على صفة كذا) . فاستغاث بربه فتحركت الصخرة وبدأ منها أنين وحنين، ثم تمخضت وانصدعت عن ناقة وتلاها فصيل، فأمعنا في رعي الكلأ وطلب الماء". وكانوا يحلبون منها ما يشربون بأجمعهم إلا أنها كانت تقاسمهم في الكلأ والماء، وكان لها يوم ولهم يوم، إلى أن قتلها قدار مع تسعة رهط، وهم الذين ذكرهم الله. فحل بهم العذاب، وخرج صالح عنهم إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 البيت الحرام. وقيل: إنه خرج مع من آمن معه "فنزلوا الرملة من فلسطين، وأتاهم العذاب يوم الأحد". وكان الملك جندع قد آمن به حين أخرج الناقة من الصخرة. قال البيهقي: وضربت العرب المثل بقدار في الشؤم، فقالوا: "أشأم من قدار"، وقالوا: "أشأم من عاقر الناقة"، وكان أشقر أزرق. وقد قيل: إن صالحاً أقام بمكة حتى مات بها، وفيها قبره. ومن تاريخ الطبري: كان في القرية ثمانية رهط يفسدون في الأرض ولا يصلحون. فلما ولد قدار الأشقر الأزرق كان تاسعهم، وكان عقر الناقة على يديه. وصعد فصيلها ربوة ورغا إلى السماء، فنزل بهم العذاب بعد ثلاثة أيام. وقال: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه رضي الله عنهم حين أتى على قرية ثمود: "لا يدخلن أحد منكم القرية، ولا تشربوا من مائهم"، وأراهم مرتقى الفصيل". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 قال الطبري: "وأما أهل التوراة فيزعمون أن لا ذكر لعاد أو لثمود ولا لهود ولا لصالح في التوراة. وأمرهم مشهور عند العرب في الجاهلية والإسلام". قال الطبري: "لما عقروا الناقة أتاهم العذاب في يوم الرابع، وقد أصبحت وجوههم سوداً، وكان ذلك علامة لهم عليه كما أنذرهم صالح، فاستعدوا للبلاء، وتحنطوا بالصبر والمقر، وتكفنوا بالجلود والأنطاع إلى أن أتتهم صيحة من السماء فيها صوت كل صاعقة، وصوت كل شيء في الأرض، فتقطعت قلوبهم في صدورهم، وأصبحوا في ديارهم جاثمين". وذكر الجوزي أنه لم يكن بين نوح وإبراهيم رسول غير هود وصالح وهما من العرب. وليس لثمود تجول في أقطار الأرض كما كان لعاد والعمالقة؛ غير أن السهيلي قد ذكر في كتاب الأعلام "أنه كان بعدن من أرض اليمن أمة من بقايا ثمود، وكان لهم ملك حسن السيرة، فلما مات شق ذلك عليهم، وكان قد اطلى بدهن لما جاءه الموت على عادتهم؛ لتبقى صورته ولا تتغير، فاغتنمها الشيطان منهم، وخاطبهم أنهم لم يمت ولكنه تماوى ليرى صنيعهم بعده، وأمرهم أن يضربوا حجابا بينهم وبينه ويكلمهم من ورائه، فنصبوه صنماً لا يأكل ولا يشرب، وجعلوه إلهاً لهم، والشيطان في أثناء ذلك يتكلم على لسانه، فأصفقوا على عبادته، فبعث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 الله لهم نبياً كان ينزل الوحي عليه في النوم دون اليقظة وهو حنظلة بن صفوان، فأعلمهم كيد الشيطان ونصحهم، وأمرهم بعبادة ربهم، فقتلوه وطرحوه في بئر، ورسوه بالحجارة. فعند ذلك حلت بهم النقمة: فأصبحوا والبئر قد غار ماؤها، وتعطل رشاؤها، فصاحوا، وضجع النساء والولدان والبهائم بالعطش حتى عمهم الموت. وهم أصاب البئر المعطلة والقصر المشيد، قصر شداد بن عاد ابن عوص بن إرم، وكان لم ير في الأرض مثله، فأقفر، وصارت الجن تسكنه". وهما المذكوران في القرآن، وهم أصحاب الرس المذكورون في القرآن، والرسن: البئر. وكان مبعث هذا النبي وقتله بعد سليمان النبي عليه السلام. تاريخ طسم وجديس ابني حام الأصغر بن سام من الكمائم أنهما نزلا أرض اليمامة من جزيرة العرب، وكان لهم بها حروب مع بني هزان من بني حمير، إلى أن غلب عليها طسم وجديس. وكان الملك في طسم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 ومن واجب الأدب والبيهقي: لم تزل جديس تحت ذل وانقياد لأختها طسم باليمامة، إلى أن انتهى الملك في طسم إلى رجل ظلوم غشوم قد جعل سنته ألا تهدى بكر من جديس إلى بعلها حتى تدخل على الملك فيقترعها. ومر على ذلك زمان إلى أن أنف من هذه السنة رجل من جديس يقال له: الأسود. واتفق مع باطنة له أن يصنع للملك وأصحابه طعاماً، ويدفنوا سيوفهم في الرمل، فإذا جلسوا للأكل ثاروا بهم ووضعوا فيهم السيوف، فتم لهم ذلك. (وفي ذلك قيل: يا طسم ما لقيت من جديس إحدى لياليك فهيسي هيسي لا تقنعي اللية بالتعريس) فهرب رياح بن مرة الطسمي إلى تبع حسان بن أسعد ملك اليمن، واستنصر به، وقال: إنما كان ملوك طسم عمالكم، وقد فتكت فيهم جديس، والانتصار واجب على همتك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 فانتصر لهم، وخرج في جيش. فلما كان من اليمامة على ثلاث مراحل، قال له رياح: إن لي أختا مزوجة في جديس، يقال لها: اليمامة، فليقطع كل رجل منهم شجرة فيجعلها أمامه؛ ففعلوا لك. وأبصرتهم وقالت لجديس: الله أكبر! لقد سارت حمير! فكذبوها، قالت: إني أرى رجلا في شجرة، ومعه كتف يتعرقها أو نعل يخصفها. فقالوا: خرفت! ولم يلتفتوا إليها. فصحبهم حسن فأبادهم، وفقأ عين زرقاء اليمامة المذكورة، فوجد فيها الاثمد، وهو الذي كان يعينها على حدة النظر مع ما ركب الله فيها من قوة البصر. وصار الملك إلى [طسم] ، ثم غلبت عليها بنو حنيفة من العرب المستعربة، ولم يبق منهم باقية. وقد ذكر ابن فارس في أمثاله أن زرقاء اليمامة من جديس، وأنها ملكت اليمامة. وقال البيهقي: ذكر في بعض الروايات أنها ملكت اليمامة بعد طسم، وهي أول من ملك من جديس، اختاروها لحكمتها وفضلها، وفيها يقول النابغة الذبياني: احكم كحكم فتاة الحي إذ نظرت ... إلى حمام شراع وارد الثمد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 قال: وجرى المثل فيما أشار إليه: فقالوا: "أحكم من اليمامة"، وكانت قد نظرت إلى حمام يروم الورد وهو في مضيق، فقالت: ليت الحمام ليه ... إلى حمامتيه ونصفه قديه ... تم الحمام ميه قال: كان الحمام ستا وستين، ونصفه ثلاث وثلاثون، فذاك تسع وتسعون، ولها حمامة، فتكمل بذلك مائه. قال صاحب الكمائم: ويقال إنها أول من أخرج السحق وعشق النساء. ما وقع في أمثال أبي عبيدة مما له تعلق بطسم ذكر أن امرأة من طسم يقال لها: عنز، أخذت سبية فحملوها في هودج، وألطفوها بالقول والفعل، فقالت عند ذلك: "شر يوميها وأغواه لها". قال: معنى ذلك شر أيامي حين صرت أكرم للسباء؛ وفيه بيت سائر: شر يوميها وأغواه لها ... ركبت عنز بحد جملا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 قال: ومثل العامة في هذا "ليس من كرامة الدجاجة تغسل رجلاها". قال: وكان لرجل من طسم كلب يسقيه اللبن ويطعمه اللحم، وكان يأمل أن يصيد به ويحرس له، فضري الكلب على ذلك. فجاع يوما، وفقد اللحم، فجاء إلى ربه، فوثب عليه وأكل من لحمه. وقيل في ذلك: هم سمنوا كلباً ليأكل بعضهم ... ولو أخذوا بالحزم ما سمن الكلب تاريخ العمالقة وهم ولد عمليق بن لاوذ بن سام. قال البيهقي: يضرب بهم المثل في القهر والتغلب وتدويخ الأرض، وهم كالعادية في ذلك. وقد ذكر ابن عبد البر أنهم نزلوا عندما خرجوا من أرض بابل بصنعاء في اليمن، ثم تحولوا إلى الحرمين، وأهلكوا من قاتلهم من الأمم وأخرجوهم من بلادهم. وكان من بقاياهم الملوك العادية بالشام والجزيرة، وكان منهم الجبارون الذين قاتلهم موسى عليه السلام، وأفناهم يوشه بن نون، وكان من فراعنة مصر. وقد اختلف في فرعون موسى عليه السلام: هل هو منهم أو من القبط؟ وتقدم ذكر ذلك في تاريخ القبط، وكيف تغلب العمالقة على مصر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 من له ذكر بالحجاز عمليق ابن لاود الذي ينتسبون إليه. ذكر صاحب التيجان "أنه أول من خرج من العرب المبلبلة، وشخص إلى أرض تهامة من الحجاز، وقال: لما رأيت الناس في تبلبل وقد دهانا جهل من لم يعدل قلت بقومي قول من لم يجهل: سيروا لبيت الله في توكل في حرم الله بذات الحومل قال: "ومضى عمليق حتى نزل مكة، وبها بقايا هزان ابن يعفر، وهم من حمير"، فغلبهم في البلاد، وتوارث ملكها إلى أن ملكها منهم: السميدع بن لاوذ بن عمليق وقد ذكر صاحب الكمائم أن السميدع كان يحارب بني هود باليمن. فلما رأى غلبتهم على تلك البلاد، كان سلطان قومه، قال لهم: الحزم عندي أن تبعدوا عن هؤلاء القوم، وتتركوا لهم هذه الأرض، ولا تجاورهم فيها؛ فقد عصفت لهم رياح النصر، وامتدت في تأييدهم يد القدرة، ومن يغالب الله مغلوب. فقالوا: الرأي ما رأيت ونحن طوعك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 فساروا إلى أن حازوا بالحرم وبه جرهم الأولى المبلبلة، فطمعوا فيما بأيديهم، فقال لهم السميدع: إن هؤلاء سبقوكم إلى الحرم، وقد توطنوا واستقروا في بيوتهم، وإنكم إن أخرجتموهم الآن من ديارهم بوشك أن يسلط الله عليكم غدا من يخرجكم من دياركم. فهاجت حفائظهم، وقالوا: إنما أنت دليل لا تصلح للملك، وإن لم تنزل بنا عليهم ونخرجهم وإلا ولينا أمرنا غيرك. فقال العزل مع العدل خير من الولاية مع الجور، شأنكم وولايتكم! فداوروه وسايسوه، ووسوسوا إلى نسائه، وقالوا: نحن أخرجنا غيرنا من بلادنا، فكذلك نخرج هؤلاء من ديارهم. والأرض لله، وإنما هي لمن غلب عليها بسيفه، ولم يجعل الله لأحد قدرة على أرض إلا وقد أراد أن يسكنهم إياها. فخلبوه بهذا الكلام وأشباهه إلى أن أطاعهم. واتصلت الحروب بينهم وبين جرهم إلى أن كانت الدائرة على جرهم، وأخرجوهم من الحرم وملكوه، وكادوا يفنون جرهم ولم يبق إلا من لاذ بالجبال والشعاب. فقال لهم قومه كيف رأيتهم؟ لو كان هؤلاء جيران الله لم يخذلهم. قال: ما تسمعون مني كلمة في هذا، ومن عاش أبصر واعتبر! ثم مات السميدع، وولى بعده أولاده، وصار السميدع لقبا لملوكهم. قال البيهقي: ثم دخلت عليهم جرهم الثانية القحطانية، ولاة التبايعة، فأخرجتهم من أوطانهم كما قال السميدع الأكبر: فمضت منهم فرقة إلى أطرار الشام فملكوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 أيلة ومشارق الفرات، ومضت منهم فرقة إلى مصر كان منهم فراعنتها، وبقيت منهم فرقة إلى جوار جرهم الثانية. قال: ونزل بالمدينة النبوية من العمالقة بنو عبيل بن مهلائيل بن عوص بن عمليق، وملكهم يثرب بن عبيل. قال: وهو أول من نزلها وبناها من العمالقة، فعرفت به، توالت بها ملوكهم. ونزل بخيبر خيبر بن قانية بن مهلائيل بن عوص بن عمليق، فعرفت به، وتوالى ملكها في ولده إلى أن أخذتها اليهود منهم. قال صاحب الأغاني: "كان السبب في كون اليهود بالمدينة، وهي في وسط بلاد العرب، مع أن اليهود أرضهم بالشام، أن العمالقة كانت تغير عليهم من أرض الحجاز، وكانت منازلهم يثرب والجحفة إلى مكة. فشكت بنو إسرائيل ذلك إلى موسى عليه السلام، فوجه إليهم جيشاً وأمرهم أن يقتلوهم ولا يبقوا منهم أحداً، ففعلوا، وتركوا منهم ابن ملكهم الهرم بن الأرقم، فرقوا له، ثم رجعوا إلى الشام وقد مات موسى عليه السلام. فقالت بنو إسرائيل المقيمون: قد عصيتم وخالفتم فلا نؤويكم، فقالوا: نرجع إلى البلاد التي غلبنا عليها، فرجعوا إلى يثرب وغيرها، فتناسلوا بها إلى أن نزل عليهم الأوس والخزرج بعد سيل العرم. وذكر الطبري "أن نزولهم ببلاد الحجاز إنما كان حين وطئ بختنصر بلادهم بالشام وخرب بيت المقدس". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 ومن الكمائم أن أول من نزل مدينة أيلة من طرف الشام من العمالقة أيلة بن هوبر العمليقي، فبناها وتوالى ملكها في ولده، وصار السميدع سمة لكل ملك منهم. ونزل أخوه فاران بن هوبر بالمدينة التي في جهتها المعروفة بفاران. ولما نزل بنو إسرائيل بالتيه الذي أقاموا فيه أربعين سنة، وهو على مرحلتين من أيلة، كان العمالقة يغيرون عليهم، فأذن لهم موسى عليه السلام في غزوهم، ثم غزاهم يوشع بن نون فأفناهم، وامتد بنو إسرائيل بعد ذلك إلى أرض العرب، فسكنوا أيلة وغيرها. من له ذكر من العمالقة بأرياف العراق أباغ بن قطورا بن هوبر العمليقي ذكر البيهقي أنه أول العمالقة الذين دخلوا من أرض العرب إلى أرياف العراق، وإليه تنسب عين أباغ المشهورة التي كانت إياد تنزلها بعد ذلك؛ وكذلك ذكر الطبري أنها تنسب له. من اشتهر من العمالقة بمشارق الشام عمرو بن ظرب ابن حسان بن أذينة بن السميدع بن هوبر العمليقي، ذكر البيهقي أنه من ولد السميدع الذي قتله يوشع وأخذ منه أيلة، وكان يملك مشارق الشام على الفرات ومغارب الجزيرة الفراتية، وله حصن زانوبيا المشهور على الفرات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 وذكر الطبري "أنه كان يحارب جذيمة الوضاح ملك عرب العراق. ثم أن جذيمة جمع جموعه فسار إليه، وأقبل عمرو بجموعه من الشام فالتقوا واقتتلوا، فقتل عمرو بن الظرب وانفضت جموعه، وانصرف جذيمة غائما سالما". [الزباء] "فملكت بعد عمرو ابنته الزباء واسمها نائلة". قال: "وكان جنودها بقايا من العماليق والعاربة الأولى، وسليح وتزيد ابني حلوان بن عمران بن إلحاف بن قضاعة". "وكان للزباء أخت يقال لها زينة، فبنت قصراً حصيناً على الفرات الغربي، فكانت تشتو عند أختها ثم تصير إلى تدمر". قال: "فلما اجتمع للزباء ملكها أخذت في غزو جذيمة مطالبة بثأر أبيها، فقالت لها أختها زينة وكانت ذات رأي ودهاء: يا زباء، إن غزوت جذيمة فإنما هو يوم له ما بعده؛ إن ظفرت أصبت ثأرك، وإن قتلت ذهب ملكك، والحرب سجال وعثراتها لا تقال. وإن كعبك لم غيرا. وما تدرين لمن تكون العاقبة، وعلى من تدور الدائرة. فقالت لها الزباء: قد أديت النصيحة، وأحسنت الروية، وإن الرأي ما رأيت، والقول ما قلت. فانصرفت عما كانت قد أجمعت عليه من غزو جذيمة، وأتت أمرها من وجوه الحيل والخدع والمكر؛ فكتبت إلى جذيمة تدعوه إلى نفسها وملكها، وأن تصل ببلادها ببلاده. وكان فيما كتبت به: أنها لم تجد ملك النساء إلا إلى قبيح في السماع، وضعف السلطان، وقلة ضبط الملكة، وأنها لم تجد لملكها موضعا، ولا لنفسها كفؤاً؛ فأقبل إلي، واجمع ملكي إلى ملكك، وقومي إلى قومك". "فلما وقف على كتابها استخفه ما دعته إليه، وجمع أهل رأيه وهو ببقة على الفرات، فأجمعوا رأيهم على أن يسير إليها ويضم ملكها إلى ملكه. وكان فيهم قصير بن سعد اللخمي، فخالفهم وقال: "رأي فاتر وغدر حاضر"، فذهبت مثلا. وقال لجذيمة: اكتب إليها، فإن كانت صادقة فلتقبل إليك، وإلا لم تمكنها من نفسك، ولم تقع في حبالها وأنت واتر لها في أبيها. فقال له جذيمة: أنت امرؤ "رأيك في الكن لا في الضح"، فذهبت مثلا ودعا جذيمة ابن اخته عمرو بن عدي اللخمي فاستشاره، فشجعه على السير، وقال: إنما قومي مع الزباء، ولو قد رأوك لصاروا معك، فأطاعه. فقال قصير: "لا يطاع لقصير رأي"، فذهبت مثلا". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 "واستخلف جذيمة ابن اخته على ملكه، وسار إلى أن قارب حصن الزباء وهو بالجانب الغربي من الفرات، فدعا قصيرا وقال: ما الرأي؟ فقال: "ببقة تركت الرأي"، فذهبت مثلا". "واستقبلته رسل الزباء بالهدايا والألطاف، فقال: يا قصير، كيف ترى؟ قال: "خطر يسير في خطب كبير"، فذهبت مثلا. ثم قال له: وستلقاك الخيول، فإن سارت أمامك فإن المرأة صادقة، وإن أخذت جنبك وأحاطت بك من خلفك فإن القوم غادرون، فاركب العصا - وكانت فرساً لا تجارى. وفي رواية: واركب العصا فإنه "لا يشق غباره" فذهبت مثلاً. وركب قصير العصا وسايره، فلقيته الخيول والكتائب فحالت بينه وبين العصا، فنجا عليها قصير. ونظر إليه جذيمة موليا على متنها، فقال: "ويل أمه حزماً على ظهره العصا"، فذهبت مثلا. وجرت به إلى غروب الشمس ثم نفقت وقد قطعت أرضاً بعيدة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 فبنى عليها برجاً يقال له برج العصا. وقالت العرب: "خبر ما جاءت به العصا". "وسار جذيمة، وقد أحاطت به الخيول، حتى دخل على الزباء. فلما رأته تكشفت فإذا هي مضمورة العانة، فقالت: يا جذيمة، "أدأب عروس ترى؟ " فذهبت مثلا. فقال: "بلغ المدى، وجف الثرى، وأمر غدر أرى" فذهبت مثلا. ثم قالت: أنبئت أن دماء الملوك شفاء من الكلب، ثم أجلسته على نطع، وأمرت بطست من ذهب، فأسقته الخمر حتى إذا تملأ منها أمرت براهشيه فقطعا، وقدم إليه الطست - وكانت قد قيل لها: إن قطرت من دمه قطرة في غير الطست طلب بدمه، وكانت الملوك لا تقتل بضرب الأعناق إلا في قتال تكرمة - فلما ضعفت يداه سقطتا، فتقطر من دمه في غير الطست، فقالت: لا تضيعوا دم الملك، فقال جذيمة: "دعوا دماً ضيعه أهله"، فذهبت مثلا". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 "فهلك جذيمة، وخرج قصير من الحي الذي هلكت العصا بين أظهرهم، حتى قدم على عمرو بن عدي وهو بالحيرة، فقال قصير: أدائر أم ثائر؟ قال: "لا بل ثائر سائر"، فذهبت مثلا. ثم حرضه على المسير إليها، فقال: فكيف لي بها وهي "أمنع من عقاب الجو"؟ فذهبت مثلا". "وكانت الزباء قد سألت كاهنة لها عن أمرها وملكها، فقالت: أرى هلاكك بسبب غلام مهين غير أمين، وهو عمرو بن عدي. ولن تموتي بيده، ولكن حتفك بيدك، ومن قبله يكون ذلك. فحذرت عمراً، واتخذت نفقاً من مجلسها الذي كانت تجلس فيه إلى حصن لها داخل مدينتها، وقالت: إن فجأني أمر دخلت النفق إلى حصني. ودعت رجلا حاذقا بالتصوير، وأمرته أن يسير إلى بلد عمرو، ويخالط حشمه ويتقرب إليهم حتى يصور عمراً على جميع هيئاته فلما أتقن ذلك رجع إليها به". "ثم إن قصير قال لعمرو بن عدي: اجدع أنفي، واضرب ظهري، ودعني وإياها، فقال عمرو: ما أنا بفاعل، ولا أنت لذلك مستحق. فقال قصير: "افعل ذاك وخلاك ذم"، فذهبت مثلا. وقالت العرب لما فعل به الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 ذلك: "لأمر ما جدع قصير أنفه" ثم خرج كأنه هارب، وأظهر أن عمراً فعل به ذلك وقد ظن أنه مكر بخاله جذيمة ومكن الزباء منه. وسار إلى الزباء، فلما رأته على تلك الحال سألته فأخبرها، وقال: فأقبلت إليك، وعرفت أني لا أكون مع أحد هو أثقل عليه منك! فألطفته وأكرمته، وأصابت عنده من الرأي والتجربة والمعرفة بأمور الملوك ما قرب منزلته منها إلى أن وثقت به. فقال لها: إن لي بالعراق أموالا كثيرة، وبها طرائف وثياب وعطر، فابعثيني إلى العراق لأحمل مالي، وأحمل إليك من بزها وطرائفها ما ندخر وما نصيب فيه أرباحاً عظيمة. وزين لها الكلام حتى أمال سمعها، فأعطته الأموال، وسرحته لذلك. فسار حتى قدم العراق، وأتى الحيرة متنكراً، فدخل على عمرو وأخبره بالخبر، وقال: جهزني بالبز والطرف والأمتعة، لعل الله يمكن من الزباء. فأعطاه حاجته، فرجع بذلك إلى الزباء. ولما عرضه عليها ملأ عينها، وأعجبها ما رأت منه، وسرها ما أتاها به، فزادت به ثقة وله محبة. ثم جهزته بعد ذلك بأكثر مما جهزته به في المرة الأولى، فسار حتى قدم العراق، ولقي عمرو بن عدي، ولم يترك جهداً فيما حمله". ثم عاد الثالثة إلى العراق، وقال لعمرو: اجمع لي ثقات أصحابك وجندك، وهيئ لهم الغرائر والمسوح. ثم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 حمل رجلين في غرارتين، وجعل مقعد رؤوس الغرائر من بواطنها، واتفق معهم على ما فعلوه". "ولما شارفوا مدينتها تقدم قصير إليها فبشرها وأعلمها بكثرة ما حمل إليها في هذه المرة، وسألها أن تخرج فتنظر إلى قطار تلك الإبل وما عليها، وقال لها: فاني قد "جئت بماء صاء وصمت"، فذهبت مثلا. قال ابن الكلبي: وكان قصير يكمن النهار ويسير الليل، وهو أول من فعل ذلك". قال الطبري: "فخرجت الزباء، وأبصرت الإبل تكاد قوائمها تسوخ في الأرض من الثقل، فقالت: يا قصير، ما للجمال مشيها وئيدا! أجندلا يحملن أم حديدا أم صرفاناً بارداً شديدا أم الرجال فوقها قعودا؟ قال البيهقي: والصرفان الرصاص. قال: "فدخلت الإبل المدينة حتى كان آخرها بعيراً على بواب المدينة، وهو نبطي بيده منخسة، فنخس الغرارة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 فأصاب [خاصرة الرجل الذي فيها] ، فضرط. فقال النبطي: "في الجواليق شر"، فذهبت مثلا. "فلما توسطت الإبل المدينة أنيخت. ودل قصير عمراً على باب النفق قبل ذلك، وخرجت الرجال من الغرائر، وصاحوا بأهل المدينة ووضعوا فيهم السلاح. وقال عمرو على باب النفق، وأقبلت الزباء مبادرة النفق لتدخله، فأبصرت عمراً واقفاً، فعرفته بالصورة التي كان مصورها قد أتقنها، فمصت خاتمها وكان فيه سم، وقالت: "بيدي لا بيدك يا عمرو". فذهبت مثلاً. وجللها عمرو بالسيف فقتلها، وأصاب ما أصاب من أهل المدينة، وانكفأ راجعاً إلى العراق". قال البيهقي: وتفرق جند الزباء، وليس بعدها للعمالقة هنالك خبر مذكور. تاريخ أميم بن لاود بن سام قال البيهقي: ليس لها من النباهة من العرب البائدة ما لأخوتها، ومع ذلك فإنها مذكورة في أشعار العرب وأخبارها. وكانت قد نزلت أبان من ديار نجد [الذي] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 سكنته بعد هذا فزاره. ولحقها ما لحق العرب البائدة، وتغلب عليها بنو إسماعيل فأهلكوها. وقيل: إن أميم كان له ولدان: فارس، وهو أبو الفرس نزل بأرضهم المنسوبة إليهم، وتوارث بنوه الملك هنالك، وانفصلوا عن العرب، والولد الآخر وبار، وهي أمة مشهورة، في القدم نزلت رمل عالج ما بين اليمامة والشحر، فطغت وكفرت، فأهلكها الله وخرب بلادها، فسكنتها الجن فلا يألفها بعدها إنسي. وضربت العرب بها الأمثال، وخوفت من سلوك أقطارها. وذكر الطبري أن جذيمة الوضاح ملك العرب بريف العراق من وبار بن أميم. قال: "وكان من أفضل ملوك العرب رأيا، وأبعدهم مغاراً، وأشدهم نكاية، وأظهرهم حزماً، وغزا بالجيوش. وكان به برص فكانت العرب تكني عن ذلك فتقول: جذيمة الوضاح وجذيمة الأبرش. وكانت منازله فيما بين الحيرة والأنبار وبقة وهيت وناحيتها وعين التمر وأطراف البر إلى الغمير وخفية وتجبى إليه الأموال، وتفد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 عليه الوفود. وكان غزا طسما وجديسا في منازلهم من اليمامة، فأصاب حسان بن تبع قد غزاها، فانكفأ راجعا لجذيمة. وأتت سرية لتبع على خيل لجذيمة فاجتاحها، فبلغه خبرهم، فقال شعراً منه البيت المشهور الذي يستشهد به النحاة: ربما أوفيت في علم ... ترفعن ثوبي شمالات ومنه: ثم أبنا غانمي نعم ... وأناس بعدنا ماتوا" قال الطبري: "في مغازيه وغاراته على الأمم الخالية من العاربة الأولى يقول الشاعر: أضحى جذيمة في يبرين موطنه ... قد حاز ما جمعت في دهرها عاد قال: "وكان جذيمة قد تنبأ وتكهن، واتخذ صنمين يقال لهما: الضيزنان، ومكانهما بالحيرة معروف، وكان يستسقى بهما، ويستنصر بهما على العدو. وكانت إياد بعين أباغ، وكان يغزوها جذيمة. فأرسلت إياد من سقى سدنة الصنمين خمراً وسرق الصنمين، فأصبحا في إياد. فبعثت إلى جذيمة: إن صنميك أصبحا فنيا زهدا فيك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 ورغبة فينا، فإن واثقتنا ألا تغزونا رددناهما إليك. قال: ويكون معهما عدي بن نصر اللخمي، فأعطوه ذلك، وعاهدهم، واستخلص عدياً لشرابه" فجرى له الحكاية التي تذكر في تاريخ لخم مع ما يتعلق بها من ملك آل نصر أصحاب الحيرة. وعمرو بن عدي هو الذي ورث ملك خاله جذيمة، واتصل الملك بتلك الجهة في ولده إلى كان منهم النعمان بن منذر. وقد تقدم خبر جذيمة وعمرو مع الزباء. وذكر صاحب الكمائم أن جذيمة من كبره لا يناده أحداً، وكان يشر على الفرقدين، وهما ندماناه اللذان ذكرا في الأشعار. وقيل: هما مالك وعقيس اللذان جاءا إليه بابن أخته بعدما استهوته الجن، فخيرهما فاختارا منادمته حتى فرق بينهم الموت. تاريخ جرهم الأولى ذكر البيهقي أنهم بنو جرهم بن يقطن بن عابر بن شالخ بن أرفخشد بن سام، وأنهم نزلوا في الحرم قبل جميع من نزله بعد الطوفان، ثم نزلت عليهم العمالقة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 وأخرجتهم كما تقدم في تاريخ العمالقة. ولم يكن لهم في الأرض أخبار مذكورة، وخمدت آثارهم، وإنما اشتهرت بعدهم بالحرم جرعم الثانية وهي قحطانية، وسيأتي ذكرها. ويقال: إن من جرهم الأولى. الأسعد بن سعد الجرهمي قال: ويقال إنه من بقايا العمالقة. كان قد أتت عليه الثانية وكان جواداً: أيا لائم الوجناء في جهد سيرها ... وقد قرحت ما بين خف ومنسيم إلى عبد يا ليل المعظم جرهم ... ثناها الندى فاقعد لذلك أو قم مجيب بني الأوجال مما عراهم ... ومنتجع الآمال في كل موسم وأما قطورا فقد ذكر البيهقي أنهم ينتسبون إلى قطورا ابن يقطن، وهم إخوة جرهم الأولى، وكانوا معهم في ملكهم وحروبهم بالحرم. وقد قيل: إن قطورا المشهورين بالحرم من جرهم الثانية. ووقع في الروض الأنف للسهيلي أنهم ينتسبون إلى قطورا بن كركر بن عمليق، وأنهم ملكوا مكة في وقت وكن ملكهم السميدع. ومن ولده الزباء ملكة العرب بالشام. ولبنى كركر من العمالقة ذكر في الأشعار والأخبار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 مقدمة في العرب الباقية قبل ذكر القسمين المشتملين عليهما ونسق تاريخهما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 قد تقدم ذكر العرب البائدة الذين لم يبق لهم نسل مذكور. وكانوا صائبة يعبدون الأصنام، ومنهم من يرتفع عن ذلك إلى عبادة الكواكب. ونحن الآن ذاكرون أحوال العرب العاربة والمستعربة، وهم القحطانية والعدنانية، ولهم في الإسلام ذكر آخر يتعلق بالتاريخ الإسلامي. من طبقات الأمم لصاعد: "الأمة العربية فرقتان: بائدة وباقية، فأما البائدة فكانت أمما ضخمة كعاد وثمود وطسم وجديس والعمالقة وجرهم، أبادهم الزمان، وأفناهم الدهر بعد أن سلف لهم في الأرض ملك جليل، وخبر مشهور. لا ينكر لهم ذلك أحد من أهل العلم بالأمم الماضية. ولتقادم انقراضهم ذهبت عنا حقائق أخبارهم. "وأما الفرقة الباقية فهي متفرعة من جذعين: قحطان وعدنان، ويضمها حالان: حال الجاهلية، وحال الإسلام". "فأما حال العرب في الجاهلية فحال مشهورة عند الأمم من العز والمنعة. وكان ملكهم في قحطان، ومنهم التبابعة الذين ضعضعوا الممالك، وتركوا الآثار العظيمة، والأخبار [الشريفة] في أقطار الأرض. قال: "إلا أنهم لم يكن لهم اعتناء بشيء من أمور الفلسفة، ولا أرصاد الكواكب كما كان لغيرهم". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 "وأما سائر عرب الجاهلية بعد الملوك منهم فكانوا طبقتين: أهل مدر، وأهل وبر. فأهل الدر هم أهل الحواضر وسكان القرى، وكانوا يحاولون المعيشة من الزرع والنخل والماشية والضرب في الأرض للتجارة، وغير ذلك من ضروب الاكتساب. ولم يكن منهم عالم مذكور، ولا حكيم معروف". "وأما أهل الوبر فهم قطان الصحاري وعمار الفلوات، وكانوا يعيشون على ألبان الإبل ولحومها. وكانوا زمان النجعة ووقت التبدي يراعون جهات إيماض البروق ومنشأ السحاب، فيؤمونها منتجعين لمنابت الكلأ، مرتادين لمواقع القطر، فيخيمون هنالك ما ساعدهم الخصب وأمكنهم الرعي، ثم يقوضون لطلب العشب وابتغاء المياه، فلا يزالون في حل وترحال كما قال المثقب العبدي عن ناقته: تقول إذا درأت لها وضيني: ... أهذا دأبه أبداً وديني أكل الدهر حل وارتحال ... أما تبقي علي ولا تقيني؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 فكان ذلك دأبهم زمان الصيف والربيع والخريف، فإذا جاء الشتاء واقشعرت الأرض انكمشوا إلى أرياف العراق وأطراف الشام، وركنوا إلى القرب من الحواضر والقرى، فشتوا هنالك مقاسين لكبد الزمان ومصطبرين على بؤس العيش. وهم خلال ذلك يتواسون بقوتهم، ويتشاركون في بلغتهم، ولا ينامون عن إباء الضيم، ونصرة الجار، والذي عن الحريم". "وكانت أديانهم مع ذلك مختلفة: فكانت حمير تعبد الشمس إلى أن تغلب سليمان على بلقيس، فتهود أهل اليمن. وكانت كنانة تعبد القمر، ولخم وجذام المشتري، وطيء سهيلا، وقيس الشعري العبور، وأسد عطارداً. وكانت ثقيف وإياد تعبد بيتا بأعلى نخلة يقال له: اللات. ثم عبدت إياد وبكر بن وائل كعبة سنداد وكان لحنيفة صنم من حسيس - وذلك أخلاط من تمر وأقط وسمن - فلحقتهم المجاعة فأكلوه، فقال في ذلك أحد الشعراء: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 أكلت حنيفة ربها ... عام التقحم والمجاعة لم يحذروا من ربهم ... سوء العواقب والشناعة" "وقال ابن قتيبة: كانت النصرانية في ربيعة وغسان وبعض قضاعة، وكانت اليهودية في حمير وكنانة وبني الحارث بن كعب وكندة، وكانت المجوسية في تميم منهم زرارة بن عدس وابنه حاجب والأقرع بن حابس، وكانت الزندقة في قريش وأخذوها من أهل الحيرة". "وكانت عبادة الأوثان فاشية في العرب حتى جاء الإسلام". ومن الملل والنحل للشهرستاني: "العرب أصناف شتى منهم معطلة ومنهم محصلة. فالمعطلة الذين أشار إليهم تعالى بقوله: "وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين"، وقوله: "وما يهلكنا إلا الدهر". وصنف آخر أقر بالخلق وأنكر البعث، وهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 المذكورون في قوله تعالي: "وضرب لهم مثلا ونسي خلقه قال من يحي العظام وهي رميم". وصنف آخر أقروا بالخالق ونوع من الإعادة، وأنكروا الرسل، وعبدوا الأصنام، وزعموا أنها شفعاؤهم عند الله في الآخرة، وحجوا إليها، ونحروا وقربوا القرابين؛ وهم الدهماء من العرب. وقد أخبر الله تعالى عنهم في قوله: "ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق". قال: "وشبهات العرب كانت مقصورة على هاتين الشبهتين: إحداها إنكار البعث بعث الأجساد، والثانية جحد بعث الرسل. وقالوا في أشعارهم: حياة ثم بعث ثم موت ... حديث خرافة يا أم عمرو وقالوا في مرثية أهل بدر: يخبرنا الرسول بأن سنحيا ... وكيف حياة أصداء وهام؟ "ومن العرب من يعتقد التناسخ، فيقول: إذا مات الإنسان أن قتل اجتمع دم الدماغ أو جزء منه، فاجتمع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 طيراً هامة تندبه على قبره. ولذلك أنكر عليهم النبي عليه السلام، فقال: "لا هامة ولا عدوى ولا [صفر] . وقال الله تعالى لمن كان منهم يعترف بالملائكة ويجحد الرسل من البشر: "وما منع الناس أن يؤمنوا إذا جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشراً رسولا". وفرقة قالت: "الشفيع والوسيلة منا إلى الله الأصنام، فعبدت وداً وسواع ويغوث ويعوق ونسرا". قال: "كان ود لكلب وهذيل بدومة الجندل. وسواع لهذيل، ويغوث لمذحج وقبائل من اليمن، ونسر لذي الكلاع بأرض حمير، ويعوق لهمدان. وأما اللات فكان لثقيف بالطائف، والعزى لقريش وجميع كنانة وقوم من بني سليم، ومناة للأوس والخزرج وغسان. وهبل أعظم أصنامها عندها، وكان على ظهر الكعبة. وإساف ونائلة على الصفا والمروة وضعهما عمرو بن لحي، وقيل: إنهما رجلان فجرا في الكعبة فمسخا حجرين". قال: "وكانت العرب إذا لبت وهللت قالت: لبيك اللهم لبيك، لبيك لبيك لا شريك لك إلا شريك "هو لك، تملكه وما ملك". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 قال: "ومن العرب من مال إلى النصرانية واليهودية، ومنهم من مال إلى الصابئة واعتقد في الأنواء اعتقاد المنجمين في السيارات حتى لا يتحرك ولا يسكن ولا يسافر ولا يقيم إلا بنوء من الأنواء، ويقول: مطرنا بنوء كذا". قال: "ومنهم من يصبو إلى الملائكة فيعبدهم، ويعتقدون أنهم بنات الله. قال: "والمحصلة من العرب أثبتت المبدأ والمعاد، ومنهم عبد المطلب، وهو القائل: يا رب أنت الملك المحمود ... وأنت ربي المبدئ المعيد واستسقى بالمصطفى صلى الله عليه وسلم وهو رضيع فسقي، ولذلك قال عنه أبو طالب في مدحه: وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ... ثمال اليتامى عصمة للأرامل قال: "ومنهم من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، وينتظر النور النبوي. وكانت لهم شرائع منهم زيد بن عمرو بن نفيل، وأمية بن أبي الصل، وقس بن ساعدة، وعامر بن الظرب العدواني وحرم الخمر على نفسه في الجاهلية. وممن حرمها في الجاهلية قسيس بن عاصم، وصفوان بن أمية الكناني". قال: "ومن الموحدين المقرين بالبعث زهير بن أبي سلمى الشاعر". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 قال: "وكان دين الجاهلية في النساء على أقسام: امرأة تخطب فتتزوج، وامرأة يكون لها خليل فيختلف إليها، فإن ولدت قيل: هو لفلان فيتزوج بها بعد هذا، وامرأة ذات راية يختلف إليها النفر، وكلهم يواقعونها في طهر واحد. وإذا ولدت ألزمت الولد أحدهم". قال: "وكانوا يحجون ويطوفون سبعاً، ويهدون، ويرمون الجمار، ويمسحون الحجر، ويحرمون الأشهر الحرم فلا يغزون ولا يقاتلون فيها إلا وطيء وخثعم وبعض بني الحارث بن كعب، فإنهم لم يكونوا يحجون ولا يحرمون الأشهر الحرم". وكانوا يكفنون موتاهم، ويصلون عليهم. "وكانت صلاتهم، إذ مات الرجل غسل وحمل على سريره، أن يقوم وليه فيثنى عليه ثم يدفن، ثم يقول: عليك رحمة الله". "وكانوا يداومون على طهارة الفطرة التي ابتلي بها إبراهيم عليه السلام". وقد ذكرت [ذلك] في تاريخ العبرانيين. "وكانوا يقطعون يد السارق اليمنى إذا سرق، وكانوا يؤمنون بالعقود، ويكرمون الجار والضيف". قال الشهرستاني: "وعلوم العرب في الجاهلية ثلاثة: الأول، علم الأنساب والتواريخ والأديان". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 "والثاني: علم الرؤيا، وكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يعبرها في الجاهلية". "والثالث: علم الأنواء، وقد جاء في الحديث: "أصبح من عبادي كافر بي ومؤمن، فمن قال: مطرنا بنوء كذا فهو كافر بن مؤمن بالكوكب، ومن قال: مطرنا بفضل الله ورحمته فهو مؤمن بي كافر بالكوكب". قال صاعد: "وأما علم العرب الذي كانت تتفاخر به فعلم لسانها، ونظم الأشعار، وتأليف الخطب". "قال أبو محمد الهمداني: وليس يوصل إلى خبر من أخبار العرب والعجم إلا بالعرب"، إذ كانوا أعنى الناس بأخبارهم، وإذا سافروا في التجارات إلى بلاد العجم استعادوا أخبارهم، ونقلها أصحاب السير عنهم. قال صاحب الطبقات: "والعرب أهل حفظ ورواية، لخفة الكلام عليهم، ورقة ألسنتهم لأنهم تحت نطاق فك البروج الذي ترسمه الشمس بمسيرها، وتجري فيه الكواكب السبعة الدالة على جميع الأشياء". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 "وكان للعرب مع هذا معرفة بأوقات مطالع النجوم ومغاربها، وعلم بأنواء الكواكب وأمطارها على حسب ما أدركوا بفرط العناية وطول التجربة، لاحتياجهم لمعرفة ذلك في أسباب المعيشة لا على طول تعلم الحقائق، ولا على سبيل التدرب في العلوم". "وأما جزيرة العرب فإن بحر الهند الكبير يصادرها من جنوبها، ويعانقها من غربها بخليج جدة الواصل إلى القلزم، ومن شرقها بخليج فارس الواصل إلى البصرة، ولا تبقى لها طريق متصل إلى البر إلا ما هو من جهة الشمال حيث بلاد الشام". قال البيهقي: ودون هذه الجزيرة العربية على السواحل والحد المتصل بالبر خمسة آلاف وأربعمائة ميل، فلا يستوفي الراكب ذرع نطاقها إلا في مقدار نصف سنة؛ وفي نحو ذلك يقطع النصف من المعمور من الأرض. فاعلم مقدار ما أخذته هذه الجزيرة العربية من مساحة الأرض، وما حازته هذه الأمة منها. ثم إنها لم تقتنع بها في الجاهلية بل خرجت منها إلى العراق والجزيرة والشام، وكان لها بها ديار معلومة. وأما في الإسلام فلم تكد أمة تسلم من الاستيلاء على أرضها إن شاركتها فيها. وللناس كلام كثير في تفضيل العرب، وكلام أيضاً في تفضيل العجم عليهم. ويعرف الذين يفضلون العجم بالشعوبية. وما تقف عليه من أخبارهم وآثارهم وكلامهم في جاهليتهم وإسلامهم يغنيك عن الإطناب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 وأكثر ما تعيبهم به الشعوبية قلة اهتمامهم بالمباني والمعاقل، وأن معظمهم أهل خيام وإبل مجبولين على الغارات وسفك الدماء وطلب الثأر. والسهم المصيب في جواب من استهدف للغض منهم بالاهمال في البوادي أنهم جبلوا على إطعام الطعام، وإعداد القرى لمن يجتاز بهم من المرتادين والسالكين من أخلاط الفرق الذين يشيعون بالذكر بذلك في كل مكان يحلونه ويمرون به. وذلك لا يتمكن في الحاضرة كما يتمكن في البادية. وقد ملأوا أشعارهم برفع النيران للضيفان، واستدلالهم بنباح الكلاب، وما أشبه ذلك من خواص البادية. ويكفي من التمثل في ذلك قول إمامهم في هذا الشأن: الليل فيه ظلمة وقر فشعشع النيران يا شمر عل يرى نارك من يمر إن جلبت ضيفاً فأنت حر وأيضاً فإن سكان البادية عذرهم أبسط في تقديم ما يتيسر للضيف كألبان الغنم، وصيد الغلاة، وغير ذلك لا يلزمهم التقيد بالتجمل الذي يلزم أهل الحاضرة، ويؤدي إلى الامتناع من إظهار القليل إذا أعوز الكثير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 قال البيهقي: وديار العرب جمهورها كما قال شاعرهم: بأودية أسافلهن روض ... وأعلاها إذا خفنا حصون وأخبرني النجم الريحاني، وزير أبي عزيز صاحب مكة، أنه أشير على أبي عزيز أن يشيد له قصراً تظهر عليه أبهة الملك، ويكون منه اعتناء في تشييد سوق مكة، فقال: نحن أمة أسوارنا سيوفنا، ومعاقلنا خيولنا، وقد قال شاعرنا: ونحن أناس لا حصون بأرضنا ... نلوذ بها إلا السيوف القواضب ثم أطرق ساعة وقال: إذا افتخر الأعاجم بابتناء ... تميل به إذا بلي الدعائم فان بناءنا أبداً جديد ... دعامه مشيدات المكارم ويحكي أن أنوشروان ملك الفرس عاب على بعض العرب تجولهم في أقطار الأرض، وقلة سكناهم في المباني، فقال: ذلك لأنا ملكنا الأرض ولم تملكنا. وهذه من البلاغة العجيبة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 القسم الثاني تاريخ الغرب العاربة وهم القحطانية في حال الجاهلية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 ذكروا في معرفتهم بالعرب من أجل أنهم ينتسبون إلى يعرب بن قحطان بن هود عليه السلام بن عابر بن شالخ ابن أرفخشد بن سام، هكذا في كتاب التيجان لابن هشام، وفي مروج الذهب وغيره: يعرب بن قحطان بن عابر المذكور. وكثير من النسابين يجعلون العرب العاربة من ولد إسماعيل ابن إبراهيم، قال المسعودي: ويستدلون بقول النبي عليه السلام للأنصار: "ارموا بني إسماعيل فإن أباكم كان رامياً". وإنما نسبهم من جهة الأمهات، و"سائر قحطان تأبى النسبة إلى إسماعيل وتنكر هذا القول" إلى الآن. وعرفت بنو قحطان بالعاربة؛ لأنهم أعربوا كلامهم، وقالوا الأشعار الحسنة بخرف المبلبلة البائدة. قحطان بن هود عليه السرم قيل: إنه أول من ملك اليمن، وأول من تتوج، وإنه الذي حارب بني يافث وبني سام على جزيرة العرب حتى طردهم عنها وحازها دونهم. وزحف النمرود بن كنعان بن مازيغ بن كنعان ابن حام ملك أرض كنعان إلى البيت، فقاتل العمالقة، فأقبل عليه قحكان بن هود، وكان قد دوخ البلاد إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 سمرقند على ما ذكره صاحب التيجان، فأخذ قحطان النمرود أسيراً وصلبه على بيت المقدس. ولما مات قحطان صار الملك إلى ابنه: يعرب بن قحطان وقد ذكر الأكثرون - ومنهم صاحب تواريخ الأمم، وصاحب المعارف: إنه "أول من نطق البينة، وأول من تتوج باليمن، وحياه بنوه تحية الملك، وهي: أبيت اللعن، وأنعم صباحا". قال ابن هشام صاحب كتاب التيجان الذي صنعه في الملوك المتوجة من حمير: "إن يعرب هو الذي خرج بالعرب إلى اليمن، ونزلها، فسميت به لأن اسمه يمن". قال البيهقي: يعرب أول من تكلم بالعربية المبينة، وخرج عن نمط العرب المبلبلة، وكان له ولنسله الظفر، فأورثهم الله بلاد اليمن. وكان منهم الملوك التبابعة الذين دوخوا أقطار الأرض. ولهم الشرف على العدنانية بهذا القدر، والعدنانية تفخر عليهم بالنبوة المحمدية. ومن التيجان: "كان بنو حام لما تبلبلت الألسن قد سبقوا إلى الأرض العالية من اليمن وغيرها، ثم جاورهم القوط من بني يافث". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 "ثم أتى هود النبي عليه السلام آت في المنام وهو ببابل، فقال له: إذا (حدثت) رائحة المسك لأحد ولدك من ناحية من النواحي فليتبعها، حتى إذا ركدت عنه فلينزل فذلك مستقره، ولله فيه علم وقضاء مكنون. فقص الرؤية على ولده وقومه، وعاد له الآتي في الليلة الثانية، وأكد عليه ذلك". "ثم إن يعرب بن قحطان وجد رائحة المسك، فقال له جده هود: أنت أيمن ولدي، مر فإذا سكنت الرائحة فانزل على اليمن والايمان فإنها خير وطن، وجاور بيت الله بأحسن جوار". "فسار يعرب بمن تبعه من بني قحطان وبني عابر ومن خف معه من بني أرفخشد في جميع عظيم من وجوه بابل، وكان أحسن غلام ببابل، فنطق حينئذ بالعربية البينة، والناس مختلطو الألسن قد تبلبلوا، فقال يعرب: أنا الغلام ذو النصيب الأجزل الأيمن المعروف بالتجمل أنا ابن قحطان الهمام الأقيل أعربت والأمة في تبلبل ? بالمنطق الأبين غير المشكل ومنطق الأملاك بعدي الكمل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 قال: وأراد بالكمل التبابعة من ولده. ثم قال: يا قوم سيروا في الرعيل الأول فحظنا الأوفر غير الأرذل ثم بشر بالنبي عليه السلام، فقال: محمد الهادي النبي المرسل لله در الماجد المستقبل قال: "ثم سكنت رائحة المسك على رأس العالية من أرض اليمن، فنزل بجوار بني حام، وتشاجروا فغلب يعرب، ونفاهم إلى غربي الأرض. فأتاه القوط من بني يافث مذعنين له، فأمرهم بالإقامة، ورفع عنهم الخراج الذي كانوا يؤدونه لبني حام". قال: "وأقام يعرب هنالك يغرس ويجري الأنهار. وكان أول من قال الشعر في العرب ووزنه، وتفنن في أعاريضه وأنواعه: فمدح وافتخر وتغزل، فتعلم منه إخوته وبنو عمه، فوصل ذلك إلى المقيمين ببابل وغيرها، فأعجبهم الشعر، وحسدوا يعرب وأصحابه على ما هم فيه. فيقال: إن ذلك كان سبب خروج عاد من أرض بابل، ونزولها بجوار اليمن في الأحقاب". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 قال: "وكان يعرب يرى الأسباب في نومه، فأتاه آت ودلة على معدن الذهب في أرض برهوت، وبشرقية معدن لجين، ثم أخرج معادن كثيرة جوهرية باليمن، وبلغ ذلك عاداً فحسدته، وطمعت في أرضه، فوقعت الحرب بينهم، فهزمهم على بارق، وقال في ذلك شعراً منه: لعمري لقد أودت بعاد وملكهم ... سيوف بني قحطان في يوم بارق قال: "وحج يعرب مع أبيه قحطان وجده هود والبيت غير مبني، فأراد يعرب أن يبنيه، فنبهه هود على أن بانيه إبراهيم عليه السلام، فتركه". ثم إن يعرب نفى بني يافث عن أرض العرب، وولى إخوته على البلاد، واستقل بالملك بعد أبيه، وطال عمره إلى أن مات. وذكر صاحب التيجان: "أنه كان ليعرب عشرة إخوة هو أكبرهم وأرأسهم؛ والمشهورون منهم جرهم وعاد وناعم وأيمن وحضرموت. فولى على الحجاز جرهم بن قحطان فورثها ولده. وهي جرهم الثانية أخوال العدنانية، وسنذكر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 دولتهم. وولى على بلاد عاد الأولى، وهي الشحر، عاد بن قحطان. وقيل: إنه ولاه أيضاً على بابل لما صارت له، وقيل: إن عاد بن قحطان هم عاد الثانية. وولى على بلاد حضرموت حضرموت بن قحطان فسميت باسمه وتناسل ولده إلى اليوم. وولى على عمان ناعم بن قحطان، وقيل: إن اسمه عمان وبه سميت. وولى على اليمن أيمن بن قحطان، قيل: وبه سميت. وقد قيل: إن ذلك اسم ليعرب. قال: واشتغل يعرب بالخروب وتدويخ الأرض، وصار في مرتبة ملك الملوك". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 دولة التبابعة وهم اليمانية الخالصة من بني يعرب ذكر البيهقي: أن يعرب لما قسم الممالك بين إخوته أعطى المملكة العظمى وهي اليمن لابنه يمن، وهو يشجب ابن يعرب. قال: ويمن اسمه، وإنما لقب يشجب لسقم طال به. قال: واختص اليمن بسرير السلطنة؛ لأنه أعظم بلاد جزيرة العرب به الأنهار والمعادن وخيرات البر والبحر والجبال لتي تبنى فيها المعاقل، وصار من يملك اليمن له عمود الملك، وهو تبع الذي تتبعه الممالك والملوك. قال: وقد قيل: إن يعرب سمى ابنه يمن بتبع لهذه العلة، وبقيت تلك سمة لكل ملك منهم تكون له المملكة الكبرى. وقد قيل: إن سمة تبع كانت لمن يملك اليمن وتتبعه حضرموت، وهذا هذيان، إنما وضعت لمن يملك اليمن وتتبعه ممالك أرض العرب. قال: وكان لهم الأقيال، وهم مثل المرازبة عند الفرس، يولونهم على الولايات العظيمة، ولا يكلم الملك غيرهم. وقد قيل: إن الأذواء فوقهم، وإن الملوك الذين كانوا يلون الجهات، فتنسب إليهم، فيقال: ذو رعين، وذو أصبح. والأقيال بعدهم، وهم بمنزلة الأمراء والقواد. ولهم أوضاع مستحسنة في ترتيب مراتبهم. "ومن كتاب الأكليل لأبي محمد الهمداني المؤلف في أخبار حمير أن ملوكها لم يكونوا يستعملون من قوادهم، ولا يصرفون من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 كفاتهم إلا من عرفوا مولده، ووجدوا أدلته من البروج والكواكب موافقة لأدلتهم ومشاكلة لها. وأنهم كانوا إذا أرادوا غزو أمة من الأمم تخيروا لذلك الأوقات السعيدة، والطوالع المشاكلة لمواليدهم، والملائمة لنصب دولتهم، ومكثوا في ارتيادها الأزمان الطويلة حتى تمكنهم على اختيارهم فكانوا يبلغون بها حيث شاءوا من المراتب العلية والمنازل الرفيعة من الظفر بالأعداء وبعد الصيت في البلاد. وأما ما توصف به بلادهم فأخبرني كمال الدين بن فارس - وكان في خدمة الملك المسعود بن أيوب: أن اليمن تشتمل على ثلاثة آلاف حصن، وأن أوديتها تحدق بها جبال معظمها لا يدخل إليه إلا من جهة واحدة، وعلى فمه حصنان من الجانبين يمنع الداخل إليه. والسكر فيها كثير، وأنواع الفواكه والخيرات. يمن بن يعرب ذكر البيهقي أنه أول ملوك اليمانية التبابعة، وقد قيل: إن أول المتوجة، وأن يعرب وقحطان لم يتتوجا. ولما ولي بعد أبيه أطاعه أعمامه وأهل بلاده، ثم إنه لزمه سقم طويل عرف من أجله بيشجب. ولما كثر احتجاجه صارت أعمامه مستقلة بما في أيديها، واضطربت المملكة، فلم يطل عمره، ومات والبلاد مضطربة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 عبد شمس بن يشجب ذكر صاحب التيجان: "انه ولي الملك بعد أبيه، وكان أمر بني قحطان قد خرج، فقام فيهم، وتكلم بخطبة بليغة، قال فيها: يا بني قحطان إنكم إن لم تقاتلوا الناس قاتلوكم، وإن لم تغزوهم غزوكم، ولم يغز قوم قط في عقر دارهم إلا ذلوا". "ثم نهض إلى أرض بابل حتى بلغ أرمينية، وبنى قنطرة سنجة على نهر الساجور الخارج في أرض الشام من الفرات، وهي من آثار الدنيا العجيبة، وجاز عليها إلى ما أراده من بلاد الشام. وسار إلى مصر، وبنى بها مدينة عين شمس الجليلة الآثار". "وكان يعبد الشمس، ودان بذلك بنوه من بعده، فكان يبني الهياكل لها حيث اختار. وولي على مصر ابنه بابليون، وبه سميت أرض مصر: بابليون، وإلى اليوم تعرفها الروم بذلك". قال ابن هشام: "ولما بنى مدينة عين شمس قال لابنه: إني بنيتها لتكون صلة بين المشرق والمغرب. وأوصى ابنه وخاطبه بهذا الشعر: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 ألا قل لبابليون والعقل حكمة ... ملكت زمام الشرق والغرب فاعدل وخذ لبني حام من الأمر وسطه ... وإن صدفوا يوماً عن الحق أقبل ولا تأخذن المال من غير وجهه ... فانك إن تأخذه بالرفق يسهل قال: "ورجع إلى اليمن وقد سبى خلقا كثيراً فسمى: سبأ، وبني السد الذي ذكره الله في كتابه، وفجر إليه سبعين نهراً، وساق إليه السيول من أمد بعيد". "ولما بلغ خمسمائة عام أشرف على الموت، وكان له من الولد عدد عظيم غير أن الملك صار لحمير". ومن واجب الأدب أن آباءه كانوا قد حلوا العالية وبنوا هنالك، فارتاد سبأ موضع مدينة مأرب، وبناها ونزل بها، وعرفت بمدينة سبأ. قال السهيلي في الروض الأنف: "ويقال: إن مأرب كان لقبا للملك الذي يلي اليمن، أن تبعا للملك الذي يلي اليمن وتتبعه حضرموت والشحر". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 قال ابن قتيبة: "وإنما لقب سبأ لأنه أول من سبى السبي من ولد قحطان". قال البيهقي: وقد قيل: إن مأرب قصر الملك، والملك والمدينة سميا باسم الملك. وكان لسبأ عدد كثير من الولد والعقب؛ والذكر والملك لولدين: حمير وكهلان ابني سبأ. حمير بن سبأ ذكر صاحب التيجان أنه لم يكن لسبأ على كثره ولده من يستقبل بملكه إلا حمير، ثم نسق التبابعة والمتوجين من بنيه. قال البيهقي: ملك بعد أبيه، ونزل مدينة مأرب، واحتذى حذو أبيه في تدويخ الأرض، وأخذ الملك بالغلبة. قال صاحب التيجان: "ورثى حمير أباه بهذا الشعر، وهو أول رثاء قيل في الدنيا من شعر العرب: عجبت ليومك ماذا فعل ... وسلطان ذكرك كيف انتقل جريت مع الدهر إطلاقه ... ونلت من الملك ما لم ينل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 وحملك العزم ثقل الأمور ... فقام بها ناهضاً واستقل قال: "وغزا شرقاً وغرباً، وأخرج ثمود من أرض اليمن إلى آخر الحجاز". قال: "وحمير أول من كتب بالقلم المسند، وتسمى بذلك لأنه مسند عن جبريل. وبلغ عامة الأرض، وبلغ عمره أربعمائة عام وخمسة وأربعين عاماً. ولما احتضر قال شعراً منه: غدر الزمان بعهد ملكك فانقضى ... وبعبد شمس قبل ذاك وسام" واثل بن حمير ذكر صاحب التيجان: "أنه ملك بعد أبيه، وكان أول من نزل قصر غمدان بظاهر صنعاء وبناه، ثم نزلته الملوك بعده". وقد قيل: إن الدهاء بني غمدان هيكلا على اسم الزهرة، وخربه في الإسلام عثمان بن عفان. قال البيهقي: وبنى مدينة صنعاء للصناع فسميت بصنعاء، وعليها كلام كثير: فقد قيل: إن أول من بناها عاد ابن عوص من المبلبلة، وإنها أول حائط صنع باليمن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 وذكر الهروي في المزارات: "أن بصنعاء مسجد سام بن نوح". قال ابن هشام: "وكان لواثل بن حمير حزم ومحاربات مع أخيه مالك بن حمير الظاهر عليه في عمان. ثم مات مالك، وولي بعده ابنه مصاعد بن مالك، وحاربه واثل إلى أن مات واثل بحسرة محاربته. قال البيهقي: ذكر أصحاب السير اليمانية أن واثلا لما مات أخوه مالك قال: قد دفع الله عنا من كان يشاركنا في مرتبتنا فلا نقدر أن ندفعه، وليس يقوم بعده من نبالي به. وقال في ذلك شعراً على جهة الشماتة منه: تولى مالك فالأرض أرضي ... وما لي في المعالي من مسام وقد كنا بمنزلة سواء ... ورثنا المجد عن أبناء سام فمن يطلب سواه مقام عز ... تزل خطاه عن ذاك المقام ثم إن قضاعة نهض بما كان ينهض به أبوه، وحارب واثلا عمه، وظهر له منه ما لم يكن يقدره، فيقال: إنه مات أسفاً من ذلك. السكسك بن واثل ولي بعد أبيه وتتوج. قال ابن هشام: "وكان حازماً، وسمي: مقعقع العمد؛ لأنه كان إذا غلب على من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 ناوأه هدم بناءه، وغير آثاره. وأول ما ولي زاحف قضاعة الخارج على أبيه بعمان، فغلب على قضاعة، وأخرجه من اليمن". فلذلك سكن بنوه في أطراف الحجاز، وعدهم بعض النسابين من المعدية. قال: "ولما اجتمع له ملك، وعلا أمره، خرج من جزيرة العرب، وغلب على الشام. ولقيه عمرو بن امرئ القيس بن بابليون بن سبأ صاحب مصر بالهدايا، ومت إليه بالقرابة، فتركه واليا عليها وعلى غيرها من بلاد الغرب. وأقر له بالطاعة بنو عبد ياليل الجرهميون ملوك الحرم، وكذلك طسم ملوك اليمامة. وعاد إلى قتال بابل، فمات في طريقه، فافترق ملك اليمن على ملوك شتى". يعفر بن السكسك ولي التبعية بعد أبيه، وتتوج وكان حديث السن، واشتغل بمزاحفة الخوارج عليه. ولم يطل عمره، ولا قرت بالملك عينه، ومرج أبو حمير بعد موته، وطالت كل يد إلى الملك. ذو رياش عامر بن باران بن عوف بن حمير ذكر صاحب التيجان: "أنه كان بالبحرين من ملوك الأطراف، فزحف إلى غمدان مقر السلطنة، واستولى عليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 ونزله، ولم يكن ينزله إلا من استحق اسم تبع. ومكن له الملك بأن يعفر لما مات لم يترك ولداً ظاهراً فيستحق الملك، بل ترك النعمان بن يعفر في بطن أمه، ووضع التاج على بطنها. وترقب الناس ذلك المولود، فغصب ذو رياش التبعية، وأخرج الملك عن بني واثل بعدما تأثل فيهم. وحمل النعمان لما ولد في يد ذي رياش، فحبسه في قصر غمدان. واشتغل ذو رياش بمحاربة ملوك الطوائف باليمن على التبعية، فمنهم من انقاد له، ومنهم من اشتغل بحربة. فبينا هو في محاربة مالك بن إلحاب بن قضاعة، ملك عمان، إذ وصله الخبر بأن النعمان بن يعفر قد استمال الحرس فنقبوا السجن وخرجوا به، وجمع بني حمير ودعاهم إلى نصرته على طلب ملك أبيه، فقاموا معه، واستوسق له الملك. النعمان بن يعفر ابن السكسك بن واثل بن حمير. كان يقول الأشعار في حبسه، ويتعلل باليمن إلى أن تخلص على ما تقدم. ولما سمع بقيام ذو رياش سقط في يده، وندم على تركه في الحياة، وجد في قتال مالك بن إلحاف حتى هزمه وطرده من عمان. ثم أقبل إلى غمدان، فاستقبله النعمان بن يعفر بالمشلل وأمره في جدته وإقباله، فهزمه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 النعمان، وأخذه أسيراً، وحبسه في الموضع الذي كان قد حبسه فيه، وقال: حبس بحبس والبادئ أظلم، وقال شعراً منه: إذا أنت عافرت الأمور بقدرة ... بلغت معالي الأقدمين المقاول فلقب بالمعافر. "وسار إلى بابل فغلب عليها، ثم سار إلى خرسان، ودوخ البلاد وقتل الملوك وتغلب، ثم نزل مكة فتلقاه بقيلة بن مضاض الجرهمي من بيت الله المتوارث فأقره، ثم رجع إلى غمدان". "وكان ذو رياش قد خرجت عليه حية في الحبس فمارسها، فلدغته فمات". "ثم مات المعافر بقصر غمدان، وقال لقومه: إذا مت فلا تضجعوني فيتضجع ملككم، ولكن اقبروني قائماً، فلا يزال ملككم قائماً مادمت كذلك". قال صاحب التيجان: "ووجد في مدة سليمان بن عبد الملك في مغارة باليمن وهو قائم، ولديه مال جسيم من الجوهر والذهب والسلاح، وعلى رأسه سارية فيها مكتوب بالحميرية: أنا المعافر بن يعفر، عشت ثلاثمائة عام، وملكت البلاد، فلم يغن ذلك عني شيئاً". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 قال البيهقي: وللمعافر أشعار كثيرة قالها في حبسه، منها: إذا أبصرت نجمي في السماء ... رجعت إلى الأماني والرجاء لعل الله يأتيني بملك ... يسرحني إلى رحب الفضاء فأقتنص المعالي من أناس ... أقاموا والبهائم بالسواء وأبني كل ما قد هدموه ... وأنهض عازماً تحت اللواء أسمح بن المعافر ولي بعد أبيه فلم تكن له نجدة، وكان يقال له: لواء الرمل؛ لأنه لم يقم منه مقام ما، فتفرقت كلمة بني قحطان على ملوك لم ينته إلى عددهم. وكان عبد الله بن عمرو بن العاص يقول: والذي نفسي بيده، ما حمير في الدنيا إلا كالأنف بين العينين؛ لقد ملكت على الدنيا منهم عشرون ملكاً، وكان منهم سبعون ملكاً غير الأقيال والأذواء والمقاول والعباهلة والمباهلة. شداد بن عاد ابن الملطاط بن عبد شمس بن واثل بن حمير. ذكر صاحب التيجان: "أن الملك استقام في بني قحطان، واجتمع بعد أسمح لشداد بن عاد هذا، ولقي الأمر بالحزم، وداس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 الأرض إلى أن بلغ أقصى المغرب وأهلك ملوكه. ثم سار إلى التبت، وبنى المدائن والمصانع، وأبقى الآثار العظيمة. وأقام بالمغرب مائتي عام، ثم رجع إلى الشرق. وأنف أن يدخل غمدان، فمضى إلى مأرب، وبنى القصر العتيق الذي قيل: إنه إرم ذات العماد، وجمع من أقطار الأرض جميع جوهر الدنيا وذخائرها ومعادنا وجعل ذلك فيها، ورصعها بطرائفه، وجعل أرضها زجاجاً أبيض وأحمر وغير ذلك من الألوان البديعة، وجعل أسرابا أفاض إليها الماء من السد الذي صنعه، فكان قصراً لم ير في الدنيا مثله". ولما مات فتحت له مغارة في جبل شمام باليمن ودفن فيها، وجعل هنالك جميع ذخائره. وفي شأن هذه المغارة خبر طويل مختصره: أنه كان باليمن في الجاهلية رجل من عاد بن قحطان، يقال له: الهميسع، وكان صعلوكاً فاتكأ، فاهتدى إلى هذه المغارة مع رفيقين له، فرأوا وحشة عظيمة، ونظروا مكتوباً على باب الكهف الأول بالحميرية: لا يدخل الكهف إلا ذو مخاطرة ... أو جاهل بدخول الكهف مغرور إن الذي عنده الآجال حاضرة ... موكل بالذي يغشاه مأمور الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 قال: ففر أحدهم جزءاً، ثم دخل الاثنان، فآل الأمر بهما إلى أن نظرا إلى حيات تصفر، وباب أعظم من الباب الأول وخلفه دوي عظيم وحنش هائل، وعلى ذلك الباب بالحميرية: انظر لرجلك لا تزل فإنما ... حتم الحمام إلى الغرير يساق يا ساكني جبلي شمام لعله ... يوفي بما عاهدتم الميثاق قوموا إلى الإنسي قومة ثائر ... فلعله قد حان منه فراق فولى الآخر هارباً، وتجاسر [الهميسع] حتى دخل الباب الثالث، فبرز تنني عظيم أحمر العينين فاتح فاه، فولى الهميسع هارباً فسكن حس التنين، فعلم أنه طلسم إذ لو كان حيواناً لتبعه، فرجع إليه، وصبر قلبه عليه، فقلع عينيه فإذا هما ياقوتتان لا قيمة لهما. ودخل البيت فإذا في وسطه سرير من ذهب، وعليه شيخ على رأسه تاج من ذهب معلق بسقف البيت مرصع بأصناف اليواقيت، وعلى رأسه لوح من ذهب فيه مكتوب: أنا شداد بن عاد، عشت خمسمائة عام، وافتضضت ألف بكر، وقتلت ألف مبارز، وركبت ألف جواد، [وهأنذا] حيث أنا. وتحت مكتوب: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 يا ويح شداد بن عاد أصبحت ... آماله مهزومة الأقدام يامن رآني إنني لك عبرة ... من بعد ملك الدهر والأعوام فكأنني ضيف ترحل مسرعاً ... وكأنني حلم من الأحلام ثم وجد لوحاً آخر فيه مكتوب: أنا حبة، وهذه أختي لبة بنتا شداد بن عاد، أتت علينا أزمات طلبنا فيها صاعاً من بر بصاع من در فلم نجده. فأخذ الهميسع ما وجده، وفاز به. أخوه لقمان بن عاد من التيجان: "ولي بعد أخيه، وهو تبع متوج، وأعطاه الله قوة مائة رجل، وبصر مائة رجل، وكان طوالا لا يقاربه أحد من أهل زمانه". ويقال: "إنه كان نبياً غير مرسل. قال وهب بن منبه: "لقيت عامة من العلماء يقولون إن ذا القرنين ولقمان ودانيال أنبياء غير مرسلين، وعامة يقولون: عباد صالحون". قال وهب: وتسمية حمير الرائش؛ لأنه راشهم وأحسن إليهم، وكان متواضعاً لله، ولم يتتوج على عادة من كان قبله من الملوك. وكان يدعو قبل كل صلاة وفي عقبها، فيقول: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 اللهم يا رب البحار الخضر والأرض ذات النبت بعد القطر سألك عمراً فوق كل عمر فنودي: قد أجيبت دعوتك، وأعطيت سؤلك ولكن لا سبيل إلى الخلد. وخير في أشياء فاختار بقاء سبعة أنسر كلما هلك نسر أعقب من بعده نسر. فيذكر أنه عاش ألفي سنة وأربعمائة سنة، وكان يأخذ الفرخ من النسور من وكره، فيربيه، وهو يطير مع النسور ويرجع إليه". وفي أثناء ذلك دانت له الأرض، وعز ملكه. ثم إن بني كركر بن عاد بن قحطان عتوا في أطراف اليمن وكفروا، فحاربتهم القبائل وأجلتهم، فسار بهم رئيسهم السميدع إلى لقمان برجز أوله: سيروا بني كركر في البلاد ... لنهتدي فالخير في الرشاد ثم وصلوا إلى لقمان وآمنوا على يده، وأقاموا في جواره إلى أن عشق السميدع سيدهم سوداء بنت مامة زوج لقمان، وشاور خواصه في أمرها، فعزموا على أن يجمعوا بينها وبينه، فقال عمرو الكركري أحد شعرائهم شعراً منه: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 أفي كل عام سبة تحد ثونها ... ورأي على غير الطريقة يعبر فضربه السميدع، ففر منه هارباً. وجاءوا إلى لقمان وقالوا له: إننا نتوقع الحرب فيما بيننا، وقد أردنا أن نخبئ سلاحنا عندك في كهفك - وكان يتعبد فيه هو وزوجته. قالوا: فإن نحن سارعنا إلى الحرب لم يكن لنا سلاح حاضر. فأنعم لهم بذلك، فجاءوا بسلاحهم وفي طيها السميدع، فجعل في الكهف. فلما خرج لقمان خرج إليها، فقالت له سوداء: من أنت؟ فأخبرها بشأنه، فأمكنته من نفسها، ثم أطعمته وسقته وردته إلى مكانه. ولم يزل على ذلك إلى أن كان في بعض الأيام، فرقد على سرير لقمان، ثم تنخم نخامة، فألقاها في سقف البيت، فالتصقت هنالك. ثم إن لقمان أتى وألقى نفسه على سريره، ورفع بصره ونظر إلى النخامة، فقال للمرأة: من بصق هذه البصقة؟ قالت: أنا! قال: فابصقي، فبصقت فلم تدرك السقف. فقال: من السلاح أتيت! ثم بادر إليه فأخرجه. (قال البيهقي: فقالت له: لا تقتله فإنه أخي، فقال: "رب أخ لك لم تلده أمه"، فسارت مثلا) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 وأخرجهما وقرنهما، ورمى بهما من أعل الجبل، ثم أمر الناس أن يرجموهما بالحجارة، فكان أول من رجم في الزناء وأخرج بني كركر من جواره. قال: ويقال: أن النسر الآخر من السبعة الأنسر التي سأل أن يعيش على قدر عمرها عاش ألف سنة، واسمه لبد، فعندما مات مات لقمان. وقالت العرب: "أختي أبد على لبد". وضربت العرب بذلك الأمثال في أشعارها. ولعظم موقع لقمان بن عاد في النفوس قال الشاعر: تراه يطوف الآفاق حرصاً ... ليأكل رأس لقمان بن عاد وكان مسكنه بمأرب، "ودفن بالأحقاب بجوار قبر هود عليه السلام". ذو شدد بن عاد ذكر صاحب التيجان أنه ولي التبعية بعد أخيه لقمان، وتتوج، وأخذ الملك أخذاً شديداً، واستمرت سيرته على الشدة والقهر إلى أن مات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 ابنه الرائش الحارث بن ذي شدد يقال له: الرائش الأصغر، ويعرف أيضاً بذي مراثد. وهنا اختلاف كثير بين المصنفين. ومن الرائش الحارث ابتدأ ابن قتيبة في المعارف بعد حمير بن سبأ، وكلك الأصفهاني في طبقات تواريخ الأمم. وقال ابن قتيبة: "إن الملك لم يزل في ولد حمير بعده، لكن ملكهم لا يعدو اليمن، ولا يغزو أحد منهم حتى مضت قرون، وصار الملك إلى الرائش الحارث، فكان أول من غزا منهم وأصاب الغنائم، وأدخلها اليمن، فسمي: الرائش، لأنه راش الناس بتلك النعم. وقال الأصفهاني: "هو تبع الأول، وكان الملك قبله مقسماً بين صاحب سبأ وصاحب حضرموت وغيرهما، فاجتمع له ذلك، وتبعه الجميع، فقيل له: تبع". وذكر انه كان بينه وبين حمير خمسة عشر أباً، وذكر نسبه على هذه الصورة: الحارث [بن قيس] بن صيفي بن سبأ الأصغر. والاعتماد على ما ذكره ابن هشام في التيجان عن علماء اليمن، وهو عمود الترتيب الذي بنينا عليه. وكان لقب الملك قبله من ملوك اليمن: مأرب، باسم المدينة التي كانوا ينزلونها، إلى أن تبع أهل اليمن وحضرموت الرائش الحارث، فعرف بتبع، فجرى عليهم هذا الاسم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 قال صاحب التيجان: "كان قد غزا الهند قبل الرائش من ملوكهم أربعة: سبأ، وحمير، وواثل، والسكسك. وأبقوا عليهم خراجاً يحملونه إلى اليمن. فلما ولي الرائش، وجاءته هدايا الهند، رأى فيها من العجائب واللطائف ما حمله على غزو الهند، فوصل إليها، وبنى فيها مدينة سماها: الرائش". قال: "وهي مدينة الهند العظمى التي تسميها الهند: الرائد، وبها ملكهم إلى اليوم". "وأوقع بالسند، ودوخ أذربيجان وأرمينية، وقابلته ملوك الأرض بما يقابل به الملوك العظماء، وكتب على صخور في الأقطار ما سنح لخاطره، فكان من ذلك: يا جازعاً أرض خراسان ... ملججاً في أرض تركان ومنه: إن الرائش ذا مراثد، سيد الأوابد، بلغ من الدنيا أمله، وبقي ينتظر أجله. ثم نزل غمدان، ومات عن مائة عام وخمسة وأربعين عاماً". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 ابنه ذو القرنين الصعب بن الرائش حكى صاحب التيجان عن وهب بن منبه أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: حدثوا عن حمير فإن في أحاديثها عجائب، ومن أعجبها حديث ذي القرنين. وقد اختلف فيه اختلافاً كثيراً: فقيل: كان نبياً، وقيل كان ملكاً إلا أنه كان صالحاً مصدعا له بلطف الله، وقيل: كان من العرب، وقيل: كان من العجم. ثم اختلف في أي العجم كان، فتجاذبته الأمم لعلو ذكره كل أمة تدعي أنه منها. والاعتماد في شأنه على ما ذكره صاحب التيجان، قال: "سئل ابن عباس رضي الله عنه عن ذي القرنين من هو؟ فقال: من حمير، وهو الصعب بن ذي مراثد الذي مكنه الله في الأرض، وأتاه من كل شيء سببا، فبلغ قرني الشمس، وداس الأرض، وبني السد على يأجوج ومأجوج. قيل له: فالإسكندر؟ قال: كان رجلاً رومياً صالحاً حكيماً بنى على البحر مناراً، ودوخ المغرب، وبنى فيه المدن والمصانع". وقد فخرت التبابعة بأن جدهما ذو القرنين، وذكرت ذلك في أشعارها. قال: وكان ذو القرنين قد رأى في منامه ما أوجب موعظته ورجوعه عما كان عليه من التجبر الذي لم يسبقه إليه أحد من الملوك، فتواضع لله، وعدل ورجع عما كان عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 ثم رأى في منامه أنه أخذ الشمس بيمينه، والقمر بشماله، والدراري تتبعه. ثم رأى أنه يأكل الأرضين وقد اشتد عطشه، فشرب البحار بحراً بحراً حتى أتى على السبعة الأبحر، ثم أقبل على البحر المحيط فشربه، فلما أمعن فيه بلغ إلى طين وحمأة سوداء، فلم يسغ له فتركه. ثم أفاق، ثم رأى أن جميع الحيوان قد حشرت له، فذكر ذلك لأصحابه، فقال له شيخ منهم: لا يفسر لك ما رأيت إلا نبي من ولد إسحق بن إبراهيم بالبيت المقدس. فسار ذو القرنين بجنوده إليه بعدما أمر بعمود من رخام عند مدينة مأرب، فنقش فيه. إذا كان الإمام يحيف جوراً ... وقاضي الأرض يدهن في القضاء فويل ثم ويل ثم ويل ... لقاضي الأرض من قاضي السماء ثم دخل بجنوده إلى الحرم، فمشى فيه حافياً". ثم ذكر الجوزي وغيره من المؤرخين أنه اجتمع بالحرم مع إبراهيم الخليل عليه السلام. واجتمع بالخضر ببيت المقدس، فقال للخضر: أيوحى إليك؟ قال: نعم يا ذا القرنين! قال: ما هذا الاسم الذي دعوتني به؟ فقال له: أنت صاحب قرني الشمس. ثم ذكر له الرؤيا. ففسرها عليه بما تقضي له بملك الدنيا، والبلوغ إلى العين الحمئة، والانتهاء إلى الظلمة. وكان الخضر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 يوحي إليه في أمر ذي القرنين فيبلغه، فقال له الخضر: أمرت أن تسير إلى المغرب، وتبلغ وداي الياقوت. فسارا وداسا الأمم وذو القرنين يقتل ويسبي. ومر على سودان زرق العيون، وعلى أخر آذانهم كآذان الجمال، ثم على أخر آذن الرجل منهم من أعلى رأسه إلى [ذقنه] ، وغلب على أرض السودان، وجلب منهم مما بين يدي عسكره. ثم جاز إلى الأندلس، فغلب على أقطارها. ثم رام ركوب البحر المحيط، فرأى الرياح تعلو بموجه كالجبال، فبنى هنالك منارة نحاس عقد بها عاصفات الرياح. ثم سكن البحر، ولان ركوبه حتى انتهى إلى عين الشمس "فوجدها تغرب في عين حمئة"، ووجد دونها جزائر فيها أمم لا يفقهون ما يقال لهم، فأراد قتلهم، فقال له الخضر: "إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسناً.. (الآية) ثم أتبع سبباً"، وهو المنام يراه فيفسره له الخضر. فسار حتى بلغ أرض الرمل، فأقبلت الشمس حتى وقعت في العين الحمئة، فكاد يهلك هو ومن معه من وجبة الشمس. ووجد وادي الرمل يسيل بالرمال كالجبال، فرام أن يعبره فلم يطق، فأقام عليه أربعة أيام حتى دخل عليه السبت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 فسبت، وقدم بين يديه آلافا ليعبروه، فهلكوا ولم يرجع منهم أحد. ثم أتبع سببا، وسار مع وادي الرمل حتى بلغ الظلمة، فسار ليله ونهاره سواء، وعين الشمس تسقط خلفه حتى شق واديا تزلق فيه الخيل وجميع ما معهم من الدواب، فقال له أصحابه: يا ذا القرنين، ما هذا؟ قال: هذا شيء من أخذ منه ندم، ومن تركه ندم! فساروا فيه أياماً إلى أن أشرق عليهم مكانهم، وفاض نور الصخرة، ونظروا لما حملوا معهم من ذلك الوادي فإذا هو ياقوت، فندم من حمل منه على كونه لم يستكثر منه، ومن لم يحمل ندم على كونه ضيع ما تركه خلفه. ثم دنا ليرقى على الصخرة فاضطربت، فرجع عنها فسكنت. ثم رقي عليها الخضر فسكنت، ولم يزل يرقى وذو القرنين ينظر إليه إلى أن غاب. وناداه مناد: امض أمامك، واشرب وتطهر فإنها عين الحياة! وإنك تعمر إلى يوم النفخ في الصور، ويموت أهل السموات والأرض، وتذوق أنت الموت حقاً! فشرب وتطهر ورجع فأعلم بذلك ذا القرنين، وقال له: ليس بعد هذا مزيد لا لإنس ولا جان. ثم أتبع سببا، ونودي بالمسير إلى مطلع الشمس، فسار ونزل على قصر المجدل وهو قصر عابر بن شالخ، فرأى من عجائبه أن يرى من داخل القصر من هو خارجه، فقال فيه. ثم أمر أن يكتب عليه شعراً فيه: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 نزلنا من قرى الصخر ... على القصر فقلناه فمن سال عن القصر ... فمبني وجدناه ثم سار حتى بلغ نهاوند، فاعترضته جبال شاهقة وشعاب عظيمة، فقيل له: إن هذه الشعاب تنقل إلى جابلقا وجابرصا، وشعب إلى بلخا وحابلجا وأرض يأجوج ومأجوج، وشعب إلى خرسان، فأخذ على شعب جابرصا وغلب على من كان بها، وعطف على باب الأبواب، وهو سماه بذلك وقال: جزعنا الشرق والغرب ... وجزنا باب أبواب وأيدنا من الغيب ... بآيات وأسباب وفي الأمر تصاريف ... وآيات لألباب وعلم فوق علام ... وغلاب لغلاب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 وكان قد أعطاه الله كل لسان يكلم به جميع من يمر عليه، فبلغ يأجوج ومأجوج فقاتلهم فغلبهم، وأتى منه بأمة يقال لهم: بنو علجان بن يافث، فتركهم في ناحية منقطعة، ومضى إلى الشمال فسموا الترك، وبلغ في الشمال الأرض الهامدة فافتتحها - وهي أرض مبسوطة لا تلعة فيها ولا رابية - ثم بلغ جزائر البحر الزوراء التي تزاور عنها الشمس عند طلوعها، فوجد عندها قوماً صغار الوجوه مشعرين كأنهم قرود، لا يظهرون إلا بالليل، ثم وجد قوماً من يأجوج سوداً وجوههم كوجوه الخنازير، وهم في مطلع الشمس لا يظهرون إلا بالليل من شدة الحر، كما قال تعال: " [ثم أتبع) سببا. حتى إذا بلغ مطلع الشمس وجدها تطلع على قوم لم نجعل لهم من دونها سترا". ثم ركب البحر المحيط فسار فيه حولا كاملا حتى ترك الشمس عن يمينه. ولجج الظلمات، فوصل إلى أرض بيضاء كالثلج لا ينبت فيها شيء، وعليها ضوء كضوء الشمس يخطف الأبصار، وهي أرض الفضة البيضاء. فلم تستطع الدواب [أن] تمشي عليها، فسار وحده أياماً حتى بلغ إلى دار بيضاء وعليها رجل أبيض واقف، فقال له: أين تريد يا ذا القرنين؟ لم تكفك أرض الجن والأنس حتى انتهيت إلى أرض الملائكة؟ وكان على سطح الدار رجل قد أخذ في فمه شيئاً كقرن، أراد الله بذلك أن يري ذا القرنين كيف ينفخ إسرافيل في الصور، وأعلمه بذلك الملك، وقال له: ارجع فليس لك من مدخل. وأعطاه عنقوداً من عنب أكل منه جميع عسكره ولم ينقص منه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 شيء، فكان ذلك مما زاد أصحابه فيه يقينا. ثم وزن الحجر بجميع جواهر الأرض من حديد وغيره والحجر يرجح. وكان الخضر في ذلك كله معه، فقال له الخضر: هذا الحجر مثل لعينك لا يملأها شيء من جميع ما في الأرض، ولكن يملأها هذا - وغرف قبضة من تراب فحملها في كفة والحجر في كفة، فرجح التراب. وبنى ذو القرنين السد على ما هو مذكور. ويقال: إنه مسيرة سبعة أشهر، قال: ثم دوخ الأرض، وداس الهند والسند وانثنى راجعاً إلى بابل، فتغلب على من بها. ورأى بها في الأسباب أنه يموت، وأعلمه الخضر بذلك، فقال في ذلك شعراً طويلاً، يصف فيه ما لقي من الأمم، وما جال من الأقطار، ثم مات بالعراق. وغاب الخضر، فلم يظهر لأحد بعده إلا لموسى بن عمران عليهما السلام. وقد تقدمت ترجمة الخضر. ودفن ذو القرنين عند قراقر في طريق الحجاز. وذكر صاحب التيجان أنه ينسب إلى ذي القرنين الشعر المشهور: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 منع البقاء تقلب الشمس ... وطلوعها من حيث لا تمسي ومنه في وصف عسكره: وبألف ألف كالنجوم لهم ... [زجل] كأسراب القطا الهمس والصعب ذو القرنين يقدمها ... لصلاح أرض الترك والفرس وأنشد لها شعراً منه: جررت كماة الشرق والغرب ظاهراً ... على موج يم مزبد متلاطم عقدت بعنق الريح عقداً يكنها ... فأمسك عن مجرى المدى المتلاطم ابنه ذو المنار أبرهة بن ذي القرنين ذكر صاحب التيجان "أنه ولي بعد أبيه، واسمه بالحبشية أبرهة، ومعناه: وجه أبيض. وكان وسيماً جميلاً من التبابعة المتوجين، وتولع بتدويخ الأرض والضرب في البلاد، فظهرت له الزمردة، وهي حية ذات رأسين عظيمة السم لا يشبهها شيء من الحيوان المسموم، وهي تظهر بالنهار وتسكن بالليل. فجل يسري في الليل ويعرس بالنهار خوفاً منها، فكثر ضلال عساكره، فأمرهم باشعال النيران على رؤوس الجبال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 وهو أول من فعل ذلك، فاهتدت بذلك عساكره، وعرف بذي المتار". وذكر صاحب التيجان "أنه عشقته امرأة جنية من الجن الذين كانوا يسكنون بوادي الجن عند المشلل من أرض اليمامة، وكان من نزل بذلك الوادي أحرقته الجن، فخطبها من أبيها فزوجها منه، فولدت له العبد ذا الأشعار وعمراً ذا الأذعار". وقد أنكر هذا جماعة من العلماء، وقالوا: إن الجن لا تناسل من الأنس، وإنما هذا حديث ينقل على ما تداولته الألسن. وقد اختلف في ذي المنار واسمه واسم أبيه: فذكر ابن قتيبة أنه "ذو المنار أبرهة بن الحرث بن الرائش"، وقال: "إنما عرف بذلك لأنه ضرب المنار على طريقه في مغازية ليهتدي بها إذا رجع. وكان ملكه مائة وثلاثاً وثمانين سنة". وقال صاحب تواريخ الأمم: "هو ذو المنار أبرهة بن الحرث الرائش". وقال السهيلي في الروض الأنف: "إن المنار هو شمر بن الأملوك". وكان من حمير، وهو الذي بنى مدينة ظفار، ولا يقال ذمار، وقيل: المدينة ظفار وأرضها ذمار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 وذكر صاحب تواريخ الأمم "أن شمر بن الأملاك كان في زمان موسى عليه السلام، وكان يدين لمنوجهر ملك الفرس، وهو الذي بنى ظفار باليمن، وأخرج من كان بها من العماليق". وكذلك ذكر الجوزي في المنتظم. وأنشد صاحب الكمائم من شعر ذي المنار في الجنية التي عشقها: ألا من لعين لا تنام عن التي ... وهبت لها قلبي ولم أعط نائلا من الجن إلا أن سيماء وجهها ... من الملأ العلوي يسبي المقاولا أخوه ذو الأشعار العبد بن ذي المنار هكذا ذكر صاحب التيجان: ملك من بعد أبيه، ولم يطل ملكه، وإنما سمي ذا الأشعار لأنه كان عليه شعر كثير قد ملأ جسده. ولم يطل ملكه، ولا ورخ له خبر. أخوه ذو الأذعار عمرو بن ذي المنار قال صاحب التيجان: "لما ولي عمرو قهر الناس وجار عليهم وذعرهم، فسموه بذي الأذعار". وقال صاحب المعارف: سمي بذلك أنه "غزا بلاد النسناس، فقتل منهم مقتلة عظيمة، ورجع إلى اليمن من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 سبيهم بقوم وجوههم في صورهم، فذعر الناس منهم، فسمي ذا الأذعار؛ وكان هذا في زمان أبيه. فلما ملك أصابه الفالج فذهب شقة، فقل غزوه. وكان ملكه خمسا وعشرين سنة". قال ابن هشام: "ولما أفرط ذو الأذعار في الجور، وشرد الناس عن أوطانهم، وجعل يسم كل من يسخط عليه من أبناء الملوك بالنار، كرهت حمير دولته، وجهدت في تغييرها". قال صاحب الكمائم: ذو الأذعار هو الذي ظهر في غمدان، وقاتل بلقيس حتى ضعفت عنه، ثم تحيلت عليه بأن تزوجته، فقتلته وملكت. ومن شعره قوله وهو في النزاع: حسبت بأني أخدع الناس كلهم ... فمال بعقلي أضعف الناس جانبا وأمسيت ملقى ضاع ملكي بعدما ... تركت حديد الهند مني ذائبا شر حبيل بن عمرو بن غالب ابن المنتاب بن زيد بن يعفر بن السكسك بن واثل بن حمير. ذكر صاحب التيجان "أن ذا الأذعار لما كرهته حمير خلعت طاعته، وقلدت الملك شر حبيل المذكور، فقام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 خطيباً بمأرب، وتوجوه، وزحفوا إلى حرب ذي الأذعار، فمات بينهم خلق كثير". وليس في أخباره فائدة. ابنه الهدهاد بن شر حبيل هكذا ذكر صاحب التيجان. وقال صاحبا تواريخ الأمم والمعارف أنه "هداد" بن شراحيل بن عمرو بن الرائش". وقال ابن هشام: ويقال له: ذو مرصد، وكان شجاعاً حازماً، وكان ملكاً بمأرب وذو الأذعار في الحياة بقصر غمدان. وتزوج الهدهاد جنية ولدت له بلقيس، فغلبها على أهل بيته، واستخلفها على ملكه، ومات بعدما أقام في الملك عشرين سنة، وقال: خمساً وسبعين سنة. بنته بلقيس بنت الهدهاد قال صاحب التيجان: لما وليت بلقيس بعد أبيها لم تثبت لعمرو ذي الأذعار، وفرت أمامه، فاستجارت بملك اليمامة جعفر بن قرط الهزاني، وكان بنو هزان قد استولوا عليها، وأخرجوا عنها طسما وجديساً إلى ضواحيها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 ولما سارت بلقيس إلى جعفر وجدته بحصنه المشهور بنهر الحفيف، فأقامت عنده. فاتفق أن حضر شرابه عمرو بن عباد الأودي الفاتك، فاغتاله وقتل الملك. وكان عمرو قد عشق بنته جدجاد بنت جعفر، فكرهت أن تكون عند قاتل أبيها، وأخذت في ذلك مع بلقيس. فقالت لها: دعيني أسر إليه عوضك؛ فقالت: شأنك وإياه! فأخذت معها مدية وأخفتها في قرون شعرها، فلما عزم على مباشرتها قتلته بتلك المدية، وردت الملك إلى أهله. فشكروا لها ذلك، وسعوا في الإصلاح بينها وبين ذي الأذعار، وبنوا الأمر معها في الحقيقة على الحيلة: فأخذوا معه أن يتزوجها، ويرجع الملك كله إليه، فاغتر بذلك، وصنعت معه مثل صنيعها مع عمرو الأودي. ولما قتلته استولت على جميع الملك، واستبشر بها أهل اليمن؛ لأن ذا الأذعار كان ظلوماً جباراً، وكانت مدته قد طالت مائة وخمساً وعشرين سنة. قال: "ثم غلبت بلقيس على بابل وغيرها، وطار ذكرها، وعلا أمرها. وكانت لا أرب لها في الرجال، ووجدها سليمان عذراء". وكان أهل اليمن قد طغوا وتجبروا وكفروا واشتغلوا بعبادة الشمس، فأرسل الله إليهم سليمان عليه السلام، فسار والريح تنقل بساطه "غدوها شهر ورواحها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 شهر"، والطير تظلله، والأنسر عن يمينه وشماله، والجن من ورائه. فمر بالمدينة، وذكر أنها مهجر نبي كريم يخرج في أخر الزمان من العرب، ثم سار إلى مكة فطاف بالبيت، وملكها حينئذ البشر بن الأغلب الجرهمي قد ورث الملك عن آبائه، وهو تحت طاعة بلقيس على عادة آبائه. ثم سار إلى نجران، وبها أفعى نجران، وهو القلمس بن عمرو الحميري، قد ورث ملكها عن آبائه إلا أنهم تحت سلاطين اليمن، وكان أحكم العرب في وقته. فلما رأى طوالع عسكر سليمان قد طلعت بتواضع وتذلل قال: تواضع وذلة وعز وقدرة، إن الأمر سماوي. ثم جمع أهل نجران وهي حينئذ دار علم، فاجتمع الرأي أن يلبس عباءة ويسير إليهم بثلاثة: كهانة وطب وحكمة، فإن كان فيهم نبي لم يحتاجوا إلى شيء من ذلك. فلما سار إليهم رأي الجبال تسبح بين يدي سليمان والطير تظلله، فقال: قد بطلت حكمتي. ثم نظر إلى البقل بين يديه، وكل بقلة تقول: يا نبي الله، اسمي كذا وأنفع بين كذا وأضر في كذل، فقال: بطلت كهانتي وطبي! فآمن به. ورجع إلى قومه، فقالوا له: ما رأيت؟ قال: "الرائد لا يكذب أهله"، وأرسلها مثلا. وكتب إلى بلقيس: إني رأيت قوماً لبسوا الذل تحت العز، والفاقة تحت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 الغنى، والصبر تحت القدرة، ينصرون [بلا حرب] ، ويقدرون بلا استطالة. فكتبت إليه: إن الملوك تفعل ذلك حتى تستميل هذا العالم، فإذا قدروا عزوا. وكتبت إليه: إن تختبرهم بأشياء تفرق بين أهل الملك وأهل النبوة. فكتب لها: إنه تحقق أنهم أهل نبوة، وأمرها بالسلم وألا تغالبه، فإن أمر الله لا يغالب. ولما أراد سليمان النزول وكان لا ينزل إلا على ماء، والهدهد دليله يبصر الماء تحت الأرض وكثافة التراب بينه وبينه لما أعطاه الله من قوة بصره في ذلك، تفقده فقال: "مالي لا أرى الهدهد" (الآية) إلى أن تاه الهدهد، وأخبره أنه لقي هدهداً آخر من أرض بلقيس، وكان ما قصه الله تعالى في القرآن من كلام الهدهد وكلام بلقيس وكلام سليمان. وكان في الهدية التي بعثت بها بلقيس إلى سليمان خيل بحرية من نسل الخيل التي جلبها إلى اليمن ذو القرنين، وحق فيه ياقوت من الذي جلبه من وادي الياقوت؛ وأوصت الرسل أن يختبروا سليمان بأن يسألوا عن نسب الخيل وعما في الحق، فأخبرهم عليه السلام بحقيقة ذلك. وكان من سليمان ما ذكره الله تعالى في كتابه عن قصة عرش بلقيس، وكان من ذهب عامته مرصع بأنواع الدر والياقوت، طوله عشرون ذراعاً في عرض عشر أذرع، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 وتاجها معلق فيه بسلاسل ذهب. فقال العفريت: "أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك"، فقال آصف كاتب سليمان وهو "الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك". فلم يكن إلا ما ذكر وإذا بالعرش بين يدي سليمان. وكانت بلقيس قد صارت على انفراد من عساكرها إلى سليمان لتختبر أنبي هو أم ملك؟ فأمر سليمان الجن فصنعوا عن يمينه وشماله حائطين من الذهب، وبنوا خلف ذلك داراً ومجلساً، وجعلوا لبن الدار كلها ذهباً. ثم أذن لبلقيس في الدخول، فلما رأت ذلك وكانت قد جاءت معها بلبنة ذهب تجلس عليها إن أمرت بالجلوس، فكرهت حين أبصرت ذلك أن تدخل بها في يدها، فطرحتها خارج الدار وسليمان ينظر إليها. فحيته بتحية الملوك، وتواضعت له، فقال لها سليمان: أهذا عرشك؟ قالت: "كأنه هو". وقامت بين يديه، فلم يأمرها بالجلوس ولا نهاها عن القيام حتى طال عليها، فرفع سليمان رأسه، وقال لها: الأرض أرض الله، فمن شاء أن يجلس ومن شاء أن يقوم! فقالت: الآن علمت أنك نبي؛ لأن الملوك لا يجلس عندهم إلا بأذن، ولكنك قلت مقال أهل العلم بالله. وأنا أريد أن أسالك عن ثلاث، فإن أخبرتني بها دخلت في طاعتك. قال: قولي، ولا قوة إلا بالله، قالت: أخبرني عن ماء ليس من الأرض ولا من السماء، وأخبرني عن شبه الولد أباه من أي ناحية، وأخبرني عن لون الرب تبارك وتعالى. فقال سليمان للجن: اركبوا هذه الخيول وأجروها، فإذا رأيتم جلودها قد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 تصببت بالعرق، فخذوه وجيئوني به؛ ففعلوا، فقال: هذا ماء ليس من الأرض ولا من السماء. وأما شبه الولد أباه فإن النطفة إذا سبقت من الرجل كان الشبه له. قالت: صدقت؛ فما الثالثة؟ وبقي سليمان متفكراً، فأوحى الله إليه: إني قد أنسيتها ذلك، فسألها عن ذلك فقالت: لا أدري عما سألتك! ولما أراد سليمان تزوجها توقعت الجن شر ذلك، وقالت: إذا تزوجها حطنا بين فطنة الجن وحيلة الإنس وكيد النساء، ولم نصب راحة. فأعلموا سليمان أن حافرها مثل حافر الحمار، وأن رجلها [شعراء] ؛ وأراد أن يطلع إلى ذلك، فاحتالوا بأن صنعوا له مجلساً أرضه لجة ماء وسرح فيه السمك، ثم جعل فوقه صرحا ممرداً من قوارير؛ ثم قالوا له: أرسل إليها لتدخل عليك، فأرسل إليها وليس في البيت غيره، فلما رأت الماء والسمك يجول فيه "حسبته لجة وكشفت عن ساقيها" لتخوض إليه، فنظر على ساقيها شعراً كثيراً أسود، فقال لها: لا تكشفي فإنه "صرح ممرد من قوارير"، فقالت: يا نبي الله، جاء الحق وزهق الباطل، ثم قالت: "رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 العالمين". وصرف سليمان وجهه عن ساقيها، فشعرت بذلك، فقالت: يا نبي الله، إن الرمانة لا تعلم ما هي حتى تذاق؛ فتلوم في أمرها. ولما عزم على تزويجها صنع له الجن النورة والحمام وهو أول من عمل ذلك. وتزوجها فولدت له إرخيعم، وكانت بلقيس بمأرب، وسليمان يتردد إليها على الريح. وقد قيل: إنه حملها إلى تدمر وقبرها هنالك، وجعل له نائباً على اليمن. إرخيعم بن بلقيس وأبوه سليمان النبي عليه السلام. ذكر صاحب التيجان أنه لما مات سليمان ملك اليمن إرخيعم المذكور، فأقام بها سنة، فأتته رسل بني إسرائيل من الشام يخبرونه أن أهل الشام ارتدوا من بعد سليمان عن دين الله وطاعة بني إسرائيل، فسار نحو الشام حتى بلغ أنطاكية، فقتله أهلها، وقتلوا من كان معه من المؤمنين. وبلغ ذلك بلقيس باليمن وقد أخذ منها الهرم، فلم يكن لها طاقة بطلب الثأر من الأرض البعيدة ولا تتبع الثوار، وتغلب كل أحد على ما تحت يده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 وذكر صاحب تواريخ الأمم "أن بلقيس بنت سد العرم على ما تزعم حمير، وخالفهم الجمهور في ذلك، وقالوا: إن بانيه لقمان بن عاد ولكن رمته بلقيس". وذكر صاحب المنتظم أنها بلقيس بنت ذي شرح بن الحارث بن بلقيس بن صيفي بن سبأ، ملكت بعد أبيها لمعرفتها بسياسة الملك، وكانت بمأرب، وكان ملكها تسع سنين، وذكر أن ذلك كان على عهد أفريدون ملك الفرس. ناشر النعم مالك بن عمرو بن يعفر بن عمرو بن المنتاب بن عمرو بن زيد بن يعفر بن السكسك بن واثل بن حمير. ذكر صاحب التيجان أن ناشر النعم كان قد ظهر في حمير، وقام فيهم خطيبا، وحرضهم على القيام بالملك وجمعه، فتبعوه، وأبقى بلقيس في مأرب، وعاشت في ملكه سنة ثم ماتت. قال: وتتوج ناشر النعم، ودوخ الأرض، وسار في المغرب حتى أتى وادي الرمل الجاري، فوجه جيشاً في الرمل فهلكوا عن آخرهم، فأمر بصنم من نحاس فصنع، وكتب عليه بالمسند: ليس ورائي مذهب. ورجع إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 غمدان، فنشر النعم على الناس حتى سموه ناشر النعم. وكانت في زمانه حروب بني إسرائيل مع أهل مكة، وذلك أن التبابعة داست بلاد الشام واستعبدت أهلها، فوجدت بنو إسرائيل فترة بدخول ناشر النعم إلى المغرب، فجمعت جموعاً كثيرة من بني إسرائيل والروم الأول، وساروا إلى جزيرة العرب، وقصدوا البيت لأنه فخر العرب، وكان لهم هنالك ما يتعلق بدولة بني جرهم الثانية. ثم كان دخول بختنصر بلاد العرب على ما سيذكر. ومن كتاب التيجان أن ناشر النعم لما قام خطيباً في حمير كان من خطبته: "يا حمير، نطق الدهر وسكتم، وانتبه الشر ونمتم. أما ترون الجبابرة تجاهلت، وكل يد تطاولت، وسفهت الأحلام، ورأست العوام؟ وقد دعوتكم ودعاكم الذل، فأجيبوا من اخترتم، فلكم نبأ ولله قضاء. وقد عهد إليكم الهدهاد بما فيه الفضل والرشاد، فملكوه". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 قال: "وكان ملك حمير قد دثر ومات فأنشره، فسموه ناشر النعم". ابنه شمرير عش بن ناشر النعم ذكر صاحب التيجان أنه ولي بعد أبيه ملك اليمن بغمدان، وطال سيره في الأرض، وامتد عمره إلى أن صار يرعش من الهرم. وتلخيص خبره أنهم سموه تبعا الأكبر وإن كان قد تقدمه غيره من التبابعة، ولكن كان ذلك لعظمه في النفوس. وهو الذي ذكره الله في كتابه "أهم خير أم قوم تبع"؛ لأنه لم يقم قط للعرب قائم أحفظ لهم منه: يتجاوز عن مسيئهم، ويحسن إلى محسنهم. وكان بنو قحطان شاكرين له، داعين لله في بقائه. وكان أعقل من رأوه من الملوك، وأبعدهم مكراً لمن حاربه، فضربت به الأمثال. وكان أبوه ناشر النعم قد مات بأرض العجم ودفن في جهة الدينور، فبلغ شمراً أن الصغد والكرد وأهل نهاوند والدينور نبشوه وهدموا قبره، وعبثوا برخامه وزجاجه فنذر شمر ليرفعن ذلك القبر بجماجم الرجال حتى يعود جبلا منيفا. وغضبت العرب لغضبه، ونهض بالجموع العظيمة التي قال فيها: يا لك من جمع إذا ما يرى ... ليس بذي نزر ولا خاذل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 ومنه: إن أغفلوا العهد وآياته ... فان شمراً ليس بالغافل وصار سلطان الفرس بلاس تحت يده، وذلك أن جموع بني يافث اجتمعت لقباذ بن شههريار، فلم تكن له طاقة بشمر. وبلغ شمر إلى الغاية القصوى من النصر، وتحصن منه قباذ ملك الفرس بجبل، وقال لابنه بلاس: اقتلني فاني ميت على يد تبع، فقال له ابنه: لا تطاوعني يدي على ذلك. قال: إن أنت لم تفعل قتلت أنا وإخوتك وقومك، وطلب من بقي من فارس فلا يبقى منهم أحد. ولكن الرأي أن تقتلني فتتقرب بذلك إليه، وأحمل له رأسي، وخذ أماناً لك ولاخوتك، ودار عن فارس ما أمكنه. فاتفقا على أن فصده في الأكحل حتى مات، وحمل رأسه إلى شمر، وقال له: أيها الملك، هذا سبيل من عصاك، فكيف سبيل من أطاعك وسعى في رضاك؟ فقال له شمر: قتلت يا بلاس أباك في رضاي فلك رضاي، فقال بلاس: أيها الملك، لم يرد أبي هلاكي ولكن أراد بقائي. ثم مت إليه بجهة القرابة في سام، فملكه على فارس، وصار في طاعته، وجعله مقدمة على أعدائه، فقال: أيها الملك، إن لم أقاتلهم بالسهام الفارسية والسيوف الكرمانية والنصال الهندية لم أوف لك. فسار بين يديه، فقتل الصغد والزط والخزر، فهم أقل بني يافث اليوم وكانوا أكثرهم. وكان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 الصغد بنهاوند والدينور في جوار الكرد، فساروا خلف النهر. ولما أراد أن يوفي نذره قال له أشراف حمير: أيها الملك أي شرف في أن تبني قبر أبيك برؤوس الأعاجم وقد بلغت إربك؟ فأعاده إلى بنائه الأول، ولم يوف بذلك النذر بعد القدرة عليه. وسار إلى الهند، وكان ملكهم حينئذ تحته السند والحبشة والنوبة والقبط وجميع بني حام، واسمه تقمير، فلاقاه تبع، فهزمه تبع. فاحتال ملك الهند بأن ضرب نفسه، وأظهر أنه هارب من قومه لما أشار عليهم بمهادنة تبع، وخدع شمراً حتى وجه معه عسكراً تغلغل به في المهالك والعطش. وكان عند شمر علم من الزجر عن بلقيس، فرأى أن عساكره عطاش، فوجه إليهم عبيده بالمياه، فلحقوهم ولم يمت إلا اليسير، ورجعوا إليه بملك الهند. فقال له شمر: لم غدرت؟ قال: بل وفيت لقومي وغدرت بعدوهم، فإن قتلت قتلت جانحاً، وإن تركت تركت ناصحاً. فأحسن له وولاه على قومه، فقال: إن عندي نصيحة في مقابلة ما فعلت؛ فقال: قل تسمع؛ فال: إن أرض الهند وبيئة فلا تقابلها بالمهج، فمن تاجر بروحه لم يربح. وأوصاه تبع بأهل الهند وقال: بلغهم مراتبهم؛ فإن كل أمة إن لم تبلغ مراتبها نغلت صدورها، وهانت عليها أعمارها. ثم أحضر أولاده لتبع ودله على مكان ابنه جلهم، فملكه على الصين والهند، وهو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 أول متوج بالصين. وقال له تبع: أنت كنت أولى بهذا الملك، فقال: أيها الملك، إنه وهن عظمي، وأحسست من روحي العجز، وأخشى ألا أقدر على مكافأة إحسانك. وثانية أني جدعت أنفي حيلة للدفع عن قومي. فكرهت أن ينظر إلي بعين النقص من كان ينظرني بعين التمام. وإني بصير بكيد الملوك وإدارات الحروب، وإن الملك ينبغي له أن يكون في عسكره الصناع ورجال التجارات ورجال الخدمة وأصحاب المشورة وإدارات الحروب، ولا يقوم ملك إلا بهذه الأوصاف. وإنها أيها الملك عندي، وأريد أن أكون في خدمتك. ثم سار معه، وأوصى ولده. قال صاحب التيجان: وكان معه في هذه الغزوة جيوش إياد وربيعة ومضر، ومدحهم في شعر يقول فيه مبشراً بالنبي صلى الله عليه وسلم: إلى أن يلي الأمر من هاشم ... نبي أمين كريم النسب فلو مد عمري إلى عمره ... لفرجت عنه جميع الكرب "ولما سبى نساء بني يافث قال لقومه: لا تحبسوا من نساء الكرد سبيا؛ فانهن يفسدن النسل، ويغيرن العقول". "ثم حرضه قومه على قتال السودان، وقالوا له: وأنت تعلم، أيها الملك، أن نصف حمق الدنيا مصبوب في رؤوس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 السودان! فعبر النيل، وقاتلهم بالبهسناء ثم هزمهم وأخرجهم إلى الرمال، فتلف جمهورهم. وحارب الحبشة، ودوخ الأرض شرقا وغربا". "وهو أول ملك صنع الدروع السابغة التي منها سواعدها وأكفها". "وكان عامله على الفرس بلاس بن قباذ، وعلى الروم ماهان، وكانوا يرسلون الإتاوة. وفي ذلك يقول صريع الغواني: ملكوا على الدنيا فما أحد بها ... إلا وهو في ملكهم مقهور أعطاهم ذل الإتاوة قيصر ... وجبى إليهم خرجه سابور" قال: "وأمر أن يكتب على قبر أبيه في أرض الهجم: هذا أثر ملك العرب والعجم شمر يرعش الأشم، نزل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 هنا في الشهم الأصم، فروى السيف من مهج ودم، فمن فعل بعدي فعلي فهو مثلي، ومن جاوزه فهو أفضل مني. بررت قسمي، ووفيت لذمتي". "ثم رجع تبع إلى غمدان وقد ملك الأرض". "ومات وكان عمره ألف عام وستين عاماً". ورأيت في تواريخ الأمم للأصفهاني ترجمته: وهو "أبو كرب شمر بن أفريقس بن أبرهة، ولي بعد ناشر النعم. وتزعم أهل اليمن أنه ذو القرنين، سمى بذلك لذؤابتين كانتا تنوسان على ظهره". "وبلغ من بعد مغاره أنه غزا الشرق، فدوخ خراسان، وهدم أسوار مدنها، ومما هدمه مدينة الصغد، فقيل بعد ذلك: شمر كند، أي شمر خربها، ثم عربت فقيل: سمرقند. وقيل: كان في زمان يستاشف ملك الفرس. وكان ملكه مائة وسبعاً وثلاثين سنة، والاختلاف كثير". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 وترك في بلاد الترك طائفة من العرب يكونون رابطة هنالك، فقيل: الثبت لأنهم ثبتوا. وله حكاية مشهورة في حيلته على فتح سمرقند، وكيف جعل الرجال في الجواليق حتى ثاروا في وسط المدينة وغلبوا عليها، وكانت لامرأة من الترك، فأخذوها وسلبوها ملكها. وقيل: إن أباه أفريقس بن أبرهة كان السلطان، وأنه أنفذه إلى المشرق، وسار هو إلى المغرب، وبنى أفريقية، وأنزل بها بقية الكنعانين وهم البربر. ابنه صيفي بن شمر ذكر صاحب التيجان أنه "ولي الملك باليمن بعد أبيه، وهو تبع مترج، وكان من أجمل أهل زمانه، ومن أجود التبابعة، فأقام بغمدان عشرين سنة، ووجه الجيوش فغزت شرقاً وغرباً، ثم أقام بمكة عشرين سنة ومات". وكان قد تعبد، ورأى أن يجاور بيت الله. وانتقل الملك من بعده من حمير إلى كهلان، ثم عاد بعد ذلك. وقال صاحب تواريخ الأمم: "إن الوالي بعد تبع شمر أبو مالك الذي يقول فيه الشاعر: وحاز النعيم أبو مالك ... وأي امرئ لم يخنه الزمن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 وقد ذكر صاحب الكمائم أن بني إسرائيل الذين أجلاهم بختنصر عن القدس إنما دخلوا بلاد العرب وسكنوا في أيلة والمدينة وخيبر في أيام صيفي، وأنهم خاطبوه في ذلك فأذن لهم، وقال: الأرض لله، فاسكنوا حيث شئتم. عمران بن عامر بن حارثة ابن امرئ القيس بن ثعلبة بن مازن بن الأزد بن الغوث بن نبت بن مالك بن أدد ابن زيد بن كهلان بن سبأ بن يعرب بن قحطان. ذكر صاحب التيجان "أنه لما مات صيفي بن شمر الحميري ملك اليمن عمران الأزدي" المذكور، وانتقل الملك باليمن من نخلة حمير إلى نخلة قحطان. "وتتوج عمران، وولوه التبعية، وكان كاهنا لم يكن في الأرض أعلم منه، وكان بيده أثر من بقايا سليمان وبلقيس؛ فلما حضره الموت أعلم أخاه عمراً أن بلاده تخرب، وقال له: يا عمرو، إن لله علينا رحمتين وسخطتين: فأما الرحمة الأولى فهذه أنتم فيها. والسخطة الأولى ينهدم السد، ويفيض عليكم فتخرب بلادكم، وتغرق جنائنكم، وتفسد أحوالكم. والسخطة الثانية تغلب عليكم الحبشة. والرحمة الثانية يبعث الله النبي محمداً التهامي صلى الله عليه إلى أهل الأرض. ثم يغلب أهل الأوثان في آخر الزمان على أهل الأديان، فيخرجونهم من البيت الحرام ويخربونه، فيرسل الله عليهم رجلاً من حمير يقال له: شعيب بن صالح، فيهلكهم ولا يكون بالدنيا إيمان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 إلا باليمن. وأعلمه أن النجاة له ولقومه أن يتزوج بطريقة الكاهنة بنت الحبر؛ فإنها وارثة علمه من الكهانة". ومن الكمائم أن صيفي بن شمر الحميري بلغه من جهة الزجر والعلم الذي كانوا يتوارثونه عن بلقيس أن بلاد العرب تخرب عن قرب، فزهد في الملك، وجاور بالحرم، ونهى حميراً عن أن يمدوا للملك يداً فإنه وبال عليهم، فحينئذ طمع فيه بنو كهلان، فاستولى عليه عمران المذكور إلى أن مات. أخوه مزيقيا عمرو بن عامر الأزدي "إنما قيل له: مزيقيا؛ لأنه كانت تنسج له ثلاثمائة وستون حلة في السنة، فإذا أراد الدخول إلى مجلسه رمى الحلة التي عليه في ذلك اليوم، فقطعت مزقاً كيلا يجد أحد فيها ميلبسه بعده". "ويقال لأبيه: عمر ماء السماء لأنه كان يقوم في القحط مقام القطر، وجده حارثة يعرف بالغطريف"، وكانوا بيتاً مخلوقين للملك. ثم تزوج عمرو طريفة الكاهنة، فرأت في كهانتها دلائل خراب سد العرم، وإتلاف الأرض التي كانت تحته. قال المسعودي: "كانت أرض سبأ أخصب اليمن وأنزهها، وأكثرها جناناً، وهي من بين قصر مرصوف وشجر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 مصفوف. وكانت مسيرة ذلك أكثر من شهر لراكب من هذه الحال لا يرى فيها الشمس ولا يفارقه الظل. وكان وراء السد أنهار عظام، وكانت المياه تخرج من أنقاب في مجار لها حتى ترتوي الجنان بتدبير أهل الحكمة. وكانت السيول تنحدر من الجبال هابطة على رؤوسها حتى تهلك الزرع، فصنعت له مصارف إلى البحر بتقدير عمرت به البلاد. ثم طالت الإعصار، فعمل الماء في تلك الأنقاب فأضعفها، فغلب الماء عليها، وجاء السيل فدفعها، فخرجت البلاد حتى تقوض سكان تلك الأرض عنها. وقيل: خربت الفأرة السد ليكون ذلك أظهر في الأعجوبة. وقال: وذلك لا اختلاف فيه عند أهل تلك الديار لشهرته". ومن نكت الماوردي: بعث الله لسبأ ثلاثة عشر نبياً فكفروا بهم، فعاقبهم الله بسيل العرم. وكان لهم بستان عن يمين الوادي وشماله، وكانت المرأة تمشي ومكتلا على رأسها فيمتلئ من الثمر. قال: والعرم: المطر الشديد أو المسناة بلغة أهل الحبشة، أو اسم الوادي الذي كانت تجتمع فيه المياه، سدوه بين جبلين بالحجارة والقار، وجعلوا له أبواباً، يأخذون منها بقدر ما يحتاجون. فلما تركوا أمر الله، وكفروا بأنبيائه، بعث الله عليهم جرذاً يقال له: الخلد، فخرقة وأفسد أرضهم. قال: والقرى التي في قوله تعالى: "والقرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة"، قيل في القرى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 الظاهرة: كانت بين مأرب والشام، وقيل: هي السروات، وأنهم لما قالوا: "باعد بين أسفارنا" مللا من النعيم والسفر في العمران المتصل، وكفروا بالراحة، عاقبهم الله فأهلك أرضهم ومزقهم، وجرى المثل فيهم فقيل: "تفرقوا أيدي سبا". وقال المسعودي: "كان أهل مأرب يعبدون الشمس، فبعث الله لهم رسلا، فكذبوهم وقالوا لهم: إن كنتم رسلا فادعوا الله أن يمزقنا كل ممزق، ويباعد بين أسفارنا، فدعوا الله فأجابهم". قال صاحب التيجان: "وكان لمزيقيا بتلك البلاد أملاك عظيمة لم يكن لأحد من تبابعة اليمن مثلها. فأعمل الحيلة في الخروج من اليمن وبيع أملاكه، وخاف إن نادى ببيع أملاكه أن ينكر قومه ذلك، فقال لولده ثعلبة العنقاء: إذا أنا قعدت في محفل قومي وأمرتك بكذا، فأظهر عصياني، فاني سأنكر ذلك وأضربك، فقم فالطمني في خدي. ففعل ما أمر به أبوه، فأراد قومه قتله إعظاماً لما فعل بالملك، فقال: لا تقتلوه فإن الرحمة غلبت له في قلبي على السخط، ولكن سأبلغ منه أعظم مبلغ: إنما استطال ثعلبة وأطغاه المال، وأنا أبيع جميع مالي بمأرب تحت السد؛ ونذر لله نذراً ليفعلن. فاغتنم الأزد ذلك وحمير واشتروه". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 "فلما باع جميع ماله أخذ في الرحيل مع خواصه ومن نهض معه. قال: وكانوا يعمرون أعماراً طوالا، حتى إنه ليكون مع الرجل من صلبه عسكر جرار. وكان مع عمرو ثلاثة وعشرون رهطاً من أولاده وعقبهم. فسار عمرو مزيقيا حتى نزل على عك، وأرسل إليهم في الجوار، فجمعهم سيدهم وصاحب أمرهم للرأي، فقالوا له: ذلك إليك، غير أنه ما نزل قوم قط على قوم، فعرفوا وجوه أرضهم ووطئوها، إلا كانت لهم الغلبة عليهم. وقد قال يعرب: ويل للمنزول عليه من النازل! فمال الأمر بينهما إلى الحرب بعد العهد والمجاورة". وبعث مزيقيا الرواد يرتادون له حيث ينزل من البلاد، فمات في عك قبل أن يرجع رواده، واستخلف على قومه ابنه ثعلبة العنقاء، وأمه ذات القرطين مارية بنت ظالم ابن معاوية الكندية. وآل الأمر إلى أن انهزمت الأزد أمام عك، ثم عطفوا عليهم لما اشتغلوا في الغنائم وكانت الدائرة لهم. ثم أحسن إليهم العنقاء بأن دفع إليهم أموالهم ورحل عن بلادهم، فقالوا: أيها الملك، أوحشنا قدومك وقد ساءتنا فرقتك، فما أحسن الفرقة قبل المعرفة، وأحسن الاجتماع بعد الفرقة! ثم رحلوا عنهم، ثم مروا على نجران، وتحاربوا عليها مع مذحج فانهزمت مذحج، ثم تصالحوا. ومن هنا وقع الافتراق على ما نذكر من تاريخ الأزد: لحق بعمان والبحرين بنو نصر بن الأزد، فكان الملك فيهم في بيت عمرو بن الجلندي؛ ولحقت أزد شنوءة بالسراة المطلة على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 تهامة الحجاز، فكانت الرياسة فيهم في بيت عامر ابن الجادر بن الحارث بن كعب بن عبد الله بن مالك بن نصر بن الأزد، وسمي الجادر لأنه جدد جدار البيت، وملك المدينة منهم الأوس والخزرج، وانخزعت خزاعة ببطن مر على مكة، وسار إلى الشام فملكها بنو جفنة، وكل هؤلاء من الأزد. قال البيهقي: ولما كان العرم لم ترم حمير من اليمن ولا تغرب منها قبيلة. وأقام باليمن مع حمير من بني كهلان طائفة من الأزد ومذحج وكندة والأشعريون وأنمار، وتشأمت حمير لخم وجذام وعاملة وغسان. قال: ثم سارت بعدهم طيء. قال: ولم يكن لأحد من اليمانية اسم التبعية حتى قام بأمر حمير أسعد أبو كرب، وهو تبع الأوسط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 ملوك الطوائف باليمن ذكر البيهقي أن رؤساء اليمن وأذواءها بعد سيل العرم لم ينقادوا إلى تبع يعينوه، بل صاروا ملوك طوائف. ووافق ذلك كائنة الاسكندر في قتل دارا ملك الفرس، ووضعه ملوك الطوائف في بلادهم، فكان الذي اجتمع عليه أهل مأرب بعد رحيل عمرو مزيقيا: مالك بن النعمان ابن عمرو بن مازن بن الأزد، فلم يحسبوه في التبابعة. ثم غلبت لخم على الأزد بمأرب مدينة الملك، فملك منها: ربيعة بن نصر اللخمي وهو أول ملوك الحيرة الذين منهم النعمان بن المنذر. قال صاحب التيجان: "وهو الذي رأى رؤيا هالته، فأرسل عن سطيح الكاهن، فقال: أيها الملك، رأيت حممة خرجت من ظلمة، فوقعت في رياض تهمة، فأكلت كل ذي جمجمة. وأحلف بما بين الحرتين [من حنش] ليملكن أرضكم الحبش ما بين أبين إلى جرش؛ ثم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 أخبره بالكوائن بعده. ثم قدم شق الكاهن، وهو تلميذ طريفة الكاهنة تفلت في فيه فورث علمها، فقال له قول سطيح باختلاف عبارة. فجهز ربيعة بيته وأهله إلى العراق، وكتب كتاباً إلى سابور، فأسكنهم الحيرة. وذكر البيهقي أن ربيعة بن نصر دخل ريف العراق في مدة ملوك الطوائف، وكان ملك العراق منهم حينئذ سابور الأشغاني الذي ظهر في زمانه المسيح عليه السلام، فنزل في جوار الدوسيين والملك لهم، فنقله الله إلى ولده. وفي هذا المكان تخليط في ملوك طوائف اليمن. وذكر صاحب تواريخ الأمم فيهم من وصفه بالتبعية، والاعتماد على ما رتبه صاحب التيجان، والاستغناء عما ليس في ترجمته مريح للخاطر. تبع أسعد بن عدي بن صيفي ابن سبأ الأصغر الحميري. ذكر صاحب التيجان أنه أبو كرب تبع أسعد. وقال ابن قتيبة: "هو ابن كليكرب، وهو المعروف بتبع الأوسط". وقال صاحب تواريخ الأمم: "إنه المعني بقوله تعالى: "أهم خير أم قوم تبع"". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 وتلخيص ذكره من التيجان، والمعارف، وكتاب أشعار الملوك لابن المعتز، وكتاب الأشعار فيما للملوك من النوادر والأشعار، والكمائم للبيهقي: إنه لما كثرت الثوار باليمن - وكانت مثل ملوك الطوائف بالعراق في ذلك الزمان - اجتمعت حمير إليه لأنه من بيت الملك العظيم المتوارث، فضمن لهم الكفاية، وسأل منهم الإعانة، ثم أخذ في التغلب على من باليمن حتى صارت في قبضته، وسمت همته إلى ملوك الطوائف، ودوخ البلاد، وسار شرقاً وغرباً، ومر في طريقه على المدينة المنورة، فأودع فيها ولداً له عند الأوس والخزرج، فلما عاد ظافراً، وقد عظم في النفوس، سموه بتبع الأوسط. ثم إن أهل المدينة قتلوا ولده، فتجهز إليهم بالعساكر وأناخ عليهم، فكان بنو قيلة - وهم الأوس والخزرج - يحاربونه نهاراً ويقرونه ليلا، فيعجبه ذلك ويقول: إن إخواننا هؤلاء لكرام! واتفق أن كان لهذيل بيت يعبدونه ويعظمونه، فقصده أحد بني معد وخرئ فيه، فعظم ذلك عليهم، فأرسلوا إلى تبع، وهو على المدينة: إن خلفك بيتا فيه الكنوز العظيمة التي تغنيك وتغني عقبك آخر الدهر، فإن صرفت وجهك إليه وهدمته واستخرجت كنوزه، وصرفت وجه العرب إلى بيت تبنيه عندك بلغت أعظم من غرضك. وتمكن هذا الكلام من خاطره، ثم خرج إليه حبران من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 المدينة، ونهياه عن قتالها، وقالا له: إنها مهاجر نبي يأتي في آخر الزمان، فكف عن ذلك. وأخذ الحبرين معه، وانصرف إلى هدم البيت، فلما كان بين أمج وعسفان أظلمت عليهم الأرض، فدعا بالحبرين اللذين كانا معه، وسألهما عن معنى ذلك، فقالا: هل هممت لهذا البيت بسوء؟ قال: نعم، وأعلمهم. فقالا له: بدل نيتك فيه، وانو له خيراً لأنه محرم مدفوع عنه، ففعل. وانجلت الظلمة، وأمر بقتل الهذليين الذين أغروه بالبيت. ثم وصل إلى مكة، وأقام بها ينحر كل يوم مائة بدنة، لا يرزأ هو ولا أحد من عسكره شيئاً منها، ولا يصد عنها أحداً من مكة ولا سبعا ولا طائراً، وكسا البيت - وهو أول من كساه - وحجه وعظمه، وقال في ذلك شعراً، وآمن بالنبي صلى الله عليه وسلم، وقال مبشراً به: شهدت على أحمد أنه ... رسول من الله باري النسم فلو مد عمري إلى عمره ... لكنت وزيراً له وابن عم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 وقد ورد فيه حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم يتضمن النهي عن سبه، والإشارة إلى أنه كان مسلماً. ثم انصرف إلى اليمن. وكانت باليمن نار تعبدها حمير، فإذا قرب منها الظالم أهلكته، فطالبهم أسعد بأن يرجعوا إلى دين اليهودية وما ألقى إليه الحبران من شريعة موسى، فجاء أكبرهما إلى تلك النار، فسلم منها الحبران ومعهما التوراة، وأكلت الأوثان. فاتفقت حمير على اليهودية من ذلك الزمان، وهدموا بيتهم الذي كانوا يعبدونه، وكان فيه شيطان يكلمهم؛ واسم البيت المذكور ريام. قال: ثم اشتدت وطأته على حمير، وكثرت غزواته، فقتلته حمير؛ وثقل عليهم ما كان يأخذهم به من الغزو، فسألوا ابنه حسان بن أسعد أن يمالئهم على قتله ويملكوه، فأبى ذلك. ثم قتلوه، واختلفوا فيمن يملكونه بعده، فاضطرتهم الأمور إلى أن ملكوا ابنه حسان بن أسعد، وأخذوا عليه المواثق ألا يؤاخذهم بما كان في أبيه. وكانت مدة عمره ثلاثمائة وعشرين سنة. وقد ذكر المسعودي في المروج "أن تبعا أبا كرب خرج من ظفار، وهدم ملك العراق في مدة ملوك الطائف، وملك العراق والشام وكثيراً من الشرق، وقال في ذلك شعرا يفتخر به، منه: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 إذ حثثنا جيادنا من ظفار ... ثم سرنا بها مسيراً بعيدا" ابنه حسان بن أسعد ذكر المؤرخون وصاحب التيجان أن حمير اجتمعت على حسان بعدما اتفقوا معه على قتل أبيه، فلم يفعل - كما تقدم - واضطروا إلى تقديمه، فأسر في نفسه الفتك بهم. واتفقت في صدر دولته كائنة طسم وجديس باليمامة. وقد تقدم ذلك في تاريخ العرب المبلبلة. قالوا: ثم رجع حسان من اليمامة بعدما غزا جديساً، وعزم على أن يطيل مغاره، ويطأ أرض العجم والعرب على عادة التبابعة. فتبرمت حمير من معاودة المسير معه، وتشاورت فيما بينها، ولم يخف عنهم أنه يريد إهلاكهم ويتتبع قتلة أبيه، وقد بان لهم ذلك في كيده وسياسته. فجاءوا إلى أخيه عمرو بن أسعد، وتشاوروا معه في قتله، وقالوا: نحن لا غرض لنا في إخراج الملك عنكم، ولكن نسعى إلى حقن دمائنا، ونطلب حسن سياستنا. فكلهم اتفق على ذلك غير رجل من ذي الكلاع، يقال له: ذو رعين، فإنه حذر عمراً سوء العاقبة، وقال له: إن فعلت ذلك منعت من النوم! فحمله حب الملك على رفض النصيحة، فقال له ذو رعين: أما وقد أبيت إلا ما حملك قومك عليه، فخذ إليك هذه الرقعة، فإذا رأيت أن رأي قومك كان خطأ ففكها وأبصر ما فيها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 فقتل أخاه، واستولى على ملكه. وكان ملك حسان سبعين سنة. أخوه عمرو بن أسعد من كتاب التيجان وغيره أن عمراً لما استقل بملك اليمن بعد قتل أخيه سلط الله عليه السهر، فشكا ذلك، فقيل له: إن النوم لا يأتيك أو تقتل قتلة أخيك. فنادى في جميع مملكته: إن الملك يريد أن يعهد عهداً فاجتمعوا. وأقام لهم الرجال، وقعد في مجلس الملك، ثم أمرهم أن يدخلوا خمسة خمسة وعشرة عشرة، فإذا دخلوا عدل بهم فقتلوا حتى أتى على عامة القوم. وأحضر ذو رعين صاحب الرقعة مع جملتهم، فلما رآه ذكره، وأحضر رقعته فوجد فيها: ألا من يشتري سهراً بنوم ... سعيد من يبيت قرير عين فان تلك حمير غدرت وخانت ... فمعذرة الإله لذي رعين فأمر بتخليته وإكرامه، واخصه. ثم اضطربت عليه أموره، وفنيت رجال دولته، وفسدت عليه قلوب بطانته، ولزمته علة كان ينقل معها في النعوش، فلقب: ذا الأعواد. وبطل الغزو في أيامه، وطمعت ملوك الأطراف فيه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 قال صاحب تواريخ الأمم: "وإياه عنى الأسود بن يعفر: ولقد علمت سوى الذي أنبأتني ... أن السبيل سبيل ذي الأعواد وفي أيامه علا قدر عمرو بن حجر جد امرئ القيس الشاعر في كندة، وقدمه أهل دمون عليهم، وكتب له عمرو بولايته على كندة، وزوجه بنت أخيه حسان بن أسعد، فعظم شأنه، وتوارث ملك كندة عقبه. وذكر ابن قتيبة أنه "في زمانه انتقل مزيقيا من اليمن مع من اتبعه خوف سيل العرم"، وهذه مناقضة لما تقدم. قال: "وكان ملكه سبعاً وثلاثين سنة". وذكر البيهقي أنه في دولة عمرو هذا انتقل مفتاح الكعبة من ولد إسماعيل إلى خزاعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 عبد كلال بن مثوب الحميري كان أخا عمرو المذكور من أمه، ومن بيت الملك، فحصلت له التبعية باليمن بعده. وبلغه قوة دين النصرانية، فمال إليها، وكان يكتم ذلك. واشتهر بالزهد وطلب الآخرة. وفي مدته عاثت العرب في بلادها وأرياف العراق، فخرج عليها سابور ذو الأكتاف، وفعل فيهم الأفعال الشنيعة. وذكر صاحب الكمائم أن عبد كلال كان قد هم بأن يحمل أهل اليمن على دين المسيح لما رأى من غلبته على دين اليهود الذي دانت به اليمانية في ذلك الأوان، فبلغه ما فعل سابور بأهل هذه الملة، وأنه حصر مدينتهم العظيمة القسطنطينية وأقسم أن يكسر الصلبان ويفني أهل هذا الدين، فخاف إن أظهر ذلك أن يجعله سببا لغزوه مع ما كان يعتقده من إفناء العرب واستئصالهم، فمات وهو كاتم له، ولم يظهره إلا لبعض خواصه، ووجد الصليب في بيته حين مات. وكان ملكه أربعاً وثلاثين سنة. تبع بن حسان بن أسعد ذكروا أن اسمه تبع وإن كانت هذه صفة لكل واحد منهم. وقيل له: تبع الأصغر؛ لأنه كان آخر العظماء من التبابعة، واختلت التبعية بعده. وكان مهيباً مشهوراً بالعظمة وعلو الهمة، وعندما صار إليه الملك بعث ابن أخته الحارث بن عمرو الكدني ملكاً على بلاد المضرية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 "وأتاه قوم من الأوس والخزرج النازلين على اليهود بيثرب فشكوا إليه، وذكروا سوء مجاورتهم، ونقضهم الشروط التي كانت بينهم، ومتوا إليه بالرحم، فأحفظه ذلك. وسار إلى يثرب، وبعث إلى اليهود فقتل منهم نيفا على ثلاثمائة صبراً. وأراد إحراق المدينة وإخراجها واستئصال اليهود، فقال إليه رجل منهم قد أتت له مائتان وخمسون سنة، فقال: أيها الملك، مثلك لا يقبل على الغضب، ولا يقبل قول الزور، وأمرك أعظم من أن يطير بك نزق أو يسرع بك لجاج، وإنك لا تستطيع أن تخرب هذه القرية. قال: ولم؟ قال: لأنها مهاجر نبي من ولد إسماعيل يخرج من هذه البنية - يعني البيت - فكف عنهم، وانصرف لشأنه". وملكه ثمان وسبعون سنة. مرثد بن عبد كلال الحميري ذكروا أنه كان أخا تبع بن حسان لأمه، فولته التبابعة عليها. قال ابن قتيبة: "وكان ذا رأي وبأس وجود، وبعده تفرق ملك حمير وضعف، وكان ملكه إحدى وأربعين سنة". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 وليعة بن مرثد ولي بعد أبيه، وليس له أخبار مدونة. قال صاحب المعارف: "كان عاقلاً حسن التدبير، وملك سبعاً وثلاثين سنة". أبرهة بن الصباح الحميري ذكروا أنه ولي اليمن بعد وليعة، "وكان عالماً جواداً. ومدته في الملك ثلاث وسبعون سنة". حسان بن عمرو بن أسعد ذكروا أنه ولي اليمن بعد أبرهة، "وهو الذي أتاه خالد بن جعفر العامري في أساري قومه، فأطلقهم له، ومدحه خالد. وكان ملكه سبعاً وخمسين سنة". ذو شناتر الحميري ذكروا أنه "لم يكن من أهل بيت الله، وإنما ولي لاضطرابه واختلال عمود السلطنة. وكان من أبناء المقاول فظاً غليظاً قتالا، ولا يسمع بغلام قد نشأ من أبناء المقاول والكبراء إلا بعث عنه وأفسده. ثم إنه بعث إلى غلام منهم يقال له: ذو نواس؛ وكان له ذؤابتان تنوسان على عاتقيه. فأدخل عليه ومعه سكين لطيفة مخفية، فلما دنا منه للعمل الذميم شق بطنه، واحتز رأسه. وكان ملكه سبعاً وعشرين سنة". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 ذو نواس أسعد بن تبان لما قتل ذا شناتر وهو من ذرية الملك "قالوا له: لا نرى أحق [معك] بالملك فملكوه. وهو صاحب الأخدود المذكور في القرآن: وذلك أنه كان على اليهودية، فبلغه عن أهل نجران أنهم دخلوا في النصرانية برجل أتاهم من قبل آل جفنة ملوك غسان فعلمهم إياها وحببها إليهم. فسار ذو نواس إلى غزوهم بنفسه، فمن تابعه على دينه خلى عنه، ومن أقام على النصرانية قذفه فيها، حتى أتي [بامرأة] معها صبي لها ابن سبعة أشهر، فقال لها الصبي: يا أماه، أمضي على دينك، فإنه لا نار بعدها! فرمى بالمرأة وابنها بالنار، وكف. ومضى رجل من اليمن يقال له: ذو ثعلبة، في البحر إلى ملك الحبشة وهو على النصرانية، فخبره ما صنع ذو نواس بأهل ملته. فكتب ملك الحبشة إلى قيصر يعلمه بذلك، ويستأذنه في التوجه إلى اليمن؛ فكتب له أن يصير إليها، وأعلمه أنه سيظهر عليها. فأقبل ملك الحبشة في سبعين ألفاً، وجازوا البحر إلى اليمن، فخرج إليهم ذو نواس وحاربهم، فهزموه وقتلوا خلقا كثيراً من أصحابه، ومضى منهزماً وهم في أثره حتى أتى البحر، فاقتحم فيه بفرسه، فكان آخر العهد به". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 ذو جدن الحميري ذكروا أنه قام مكان ذي نواس لما أغرق نفسه، ورام ارتجاع ملك حمير وقد أدبر، فلم تكن له بالحبشة طاقة، ولم يزالوا به حتى "هزموه، وألجأوا للبحر أيضاً، فاقتحم فيه، فغرق هو ومن تبعه من أصحابه". قال صاحب المعارف: "وكان ملك ذي نواس ثمانية وستين عاماً"، وأما ذو جدن فهلك عن قرب. قال السهيلي صاحب الروض الأنف: "قام بأمر أهل اليمن بعدما غرق ذو نواس ذو جدن - والجدن: حسن الصوت - ويقال: إنه أول من أظهر الغناء باليمن". وزعم البكري أن جدن مفازة باليمن نسب إليها. وقال البيهقي: كان ذو جدن من المقاول الذين يلون الجهات الكبار من اليمن. وكان له بينون - مدينة جليلة بين عمان والبحرين - ومدينة سلحين، وكانت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 الحبشة قد خرجتهما في أول خروجها، فكان قلبه عليهم قد امتلأ غيظا لذلك. فقام بالأمر عند إدباره، وبذل فيها جهده. وقال لما قيل له: ابن بنياناً تمتنع فيه من الحبشة، وقاتلهم دونه: أبعد بينون لا عين ولا أثر ... وبعد سلحين يبني الناس أبياتا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 تغلب الحبشة على اليمن وانقراض ملك حمير إلى أن رجع ثم ذهب وما آلت إليه اليمن إلى أن جاء الإسلام قال الجوزي في المنتظم: كان ملك اليمن لا مطمع فيه إلى أن ظهرت الحبشة عليه من البحر. وكان المقدم على الحبشة أرياط الحبشي ومعه أبرهة الأشرم. فلما غرق ذو جدن نفسه في البحر، وخلصت اليمن للحبشة، عمد أبرهة الأشرم الحبشي إلى أرياط فقتله، واستبد بملك اليمن. فحلف النجاشي ملك الحبشة أن يطأ بلاده ويريق دمه. فبعث له أبرهة بقارورة من دمه، وجراب فيه من تراب أرضه، ليخرج بذلك عن يمينه، ويسكن غيظه، فرضي بذلك وأقره. ثم إن أبرهة بنى باليمن البيت العظيم الارتفاع الذي سماه القليس، وعزم على أن يصرف حج العرب إليه، ويزهدهم في الكعبة. فأحدث فيه رجل من فقيم، فغضب أبرهة، وتجهز بالفيل لهدم الكعبة. وكان دليله أبا رغال الثقفي، فأهلكه الله، وجعل قبره مرجوما إلى يوم القيامة، وأرسل على الحبشة الطير الأبابيل "ترميهم بحجارة من سجيل فجعلهم كعصف مأكول". وكانوا قد استقبلوا الكعبة بالفيل في اليوم الذي عزموا على هدمها، فلم يرد إليها وجهه البتة، وكلما ضربوه ليسير إلى ما قدامه رد وجهه إلى ما خلفه وسار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 قال ابن قتيبة: "وقعت الاكلة في صدر أبرهة، فحمل إلى اليمن، فهلك بها؛ وفي ذلك العصر كان مولد النبي صلى الله عليه وسلم. ثم ملك بعد أبرهة ابنه يكسوم، فساءت سيرته وسيرة الحبشة باليمن، وركبوا في أهلها العظائم". ثم مات، وولي بعده أخوه مسروق بن أبرهة. سيف بن ذي يزن واجتمعت حمير في السر إلى سيف بن ذي يزن بن مالك بن سهل بن عمرو بن قيس بن معاوية بن جشم بن عبد شمس بن واثل بن الغوث بن قطن بن عريب بن زهير بن يمن بن الهميسع بن حمير، وشكت له ذهاب ملكها بالعبيد، وتكمهم في حرمهم وأموالهم [فامتعض] لذلك. وتجهز في طلب الثأر إلى قيصر ملك الروم، فاعتذر له بأن الحبشة قائلة بالنصرانية، ولا يسوغ له أن ينصره على أهل ملته. فقدم الحيرة على النعمان بن المنذر، وشكا إليه ذل العرب مع الحبشة، فقال له: إن لي على كسرى وفاده كل عام، فأقم عندي إلى حين وفادتي. فأقام معه حتى وفدوا على كسرى أنوشروان، فدخلا عليه، [وتكلم] النعمان فيما شكا إليه سيف، فاستنطقه عن ذلك، فقال له فيما تكلم به: أنت، أيها الملك، خير لنا منهم. ونحن طالبو ثأر لا ملك، والدماء لنا والأرض لك! فقال: بعدت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 أرضك من أرضنا، وهي مع ذلك قليلة الخير! وأمر له بعشرة آلاف درهم وخلعة. فلما قبضها خرج وجعل ينثر الدراهم، فنهبتها العبيد والصبيان. وبلغ ذلك كسرة، فقال: إن لهذا الرجل شأنا، وأمر أن يلام على ذلك. فقال: إن جبال أرضي ذهب وفضة، وإنما رغبت في إزالة الظلم، ورفع الذل الذي لا يقدر عليه إلا الملك. فاستشار أنوشروان ثقاته في ذلك، فأشير عليه أن يبعث معه رجالا كانوا في سجونه، فإن نصروا كان الاسم للفرس من غير مرزئة، وإن هلكوا استرحنا منهم. وكانوا ثمانمائة، فغرق مائتان في البحر، وسلم ستمائة. وكان المقدم على الفرس وهرز، فقرن سيف بن ذي يزن رجله مع رجله، وتحالفا. وعندما نشبت المعركة قتل الحبشة أبنا لوهرز فزاد حنقه، وأقبل مسروق بن أبرهة وهو على فيل، وبين عينية ياقوتة حمراء، ثم تحول عنه إلى بغلة، فقال: انتقل إلى بنت الحمار! ذلك ملكهم! ثم ضربه بنشابة خرجت من قفاه، وهلك، وانقرضت مدة الحبشة. وقد اختلف فيها، والأكثر يقولون: إنها اثنتان وسبعون سنة. قال صاحب تواريخ الأمم: "كان قدوم سيف بن ذي يزن مع وهرز إلى اليمن وللنبي صلى الله عليه وسلم ثلاثون سنة. وأقام ملك اليمن ولكنه تحت طاعة أنوشروان ومعترف له". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 ولما ملك اليمن وقتل الحبشة وفدت عليه الوفود من الأقطار. وكان فيمن وفد عليه عبد المطلب بن عبد مناف، فسر به وأكرمه وحباه، وبشره بأن النبي الذي يعز الله به العرب من صلبه. وكان فيمن وفد عليه أبو الصلت بن ربيعة الثقفي، وأنشده قصيدته التي منها: ليطلب الملك أمثال ابن ذي يزن ... لجج في البحر حتى غاب أميالا تلك المكارم لا قعبان من لبن ... شيبا بماء فعادا بعد أبوالا فاشرب هنيئاً عليك التاج مرتفقاً ... في رأس غمدان داراً منك محلالا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 ثم إن سيف بن ذي يزن أساء الرأي "فاتخذ من بقايا الحبشة خدماً، فخلوا به يوماً في متصيد، فزرقوه بحرابهم، فوقع ميتاً، وهربوا في رؤوس الجبال". وتفرق أهل اليمن بعده في مخاليفهم، وصاروا ملوك طوائف لا ينقاد بعض لبعض. وكان بصنعاء الأبناء - وهم أبناء الفرس الذين فتحوا اليمن - ومنهم عمال الأكاسرة. ودخل زمان الهجرة النبوية وباذان الفارسي عامل أبرويز ملك الفرس، ثم أسلم في زمان ابنه شيرويه بن أبرويز. قال صاحب تواريخ الأمم: "ليس في جميع التواريخ أسقم من تاريخ ملوك حمير؛ لما يذكر فيه من كثرة عدد سنيهم مع قلة ملوكهم". قال: "وقد زعموا أن جميع ملوك حمير باليمن ستة وعشرون ملكاً في مدة ألفين وعشرين سنة. ثم ملك بعدهم من الحبشة ثلاثة، ثم من الفرس ثمانية، وانتقل الملك بها إلى قريش". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 من له من حمير ذكر في الجاهلية من غير عمود سلطنة اليمن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 بنو هزان بن يعفر ابن السكسك بن واثل بن حمير. ذكر صاحب الكمائم أنهم كانوا أحسن حمير صوراً، وأطول أجساماً وأعناقاً. وكان (يعفر بن) السكسك قد ولى ابنه هزان على اليمامة، فتوالى ملكها في بني هزان، ثم انقرض على يد: جعفر بن قرط الهزاني وقد ذكر صاحب التيجان، وأخبر أن قومه بني هزان كان يقال لهم: الغرانيق؛ لطولهم وحسنهم، وكان جعفر أعظمهم يأكل من النخلة السحوق وهو قاعد، وعلى يديه انقرض ملك هزان من اليمامة، وصار إلى طسم الذين كانوا ملوكها من قبل. وكان له حصن بالحفيف من جهة الأحقاف، فخرج يزور قبر هود عليه السلام ومعه ظعائن له، فخرج عليه عمرو بن عباد الفاتك في أصحاب له قد استعدوا لذلك، فطالبوه بأن يسلم الظعائن، فقال شعراً منه: خل الظغائن تسلك جانب الوادي ... واصرف عنانك عنها يا ابن عباد لا تعرضن لقوم حول أظعنة ... فان خلفهم ضرغامة عاد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 فأبى عمرو إلا لجاجاً، فأسره جعفر، ثم أحسن إليه وأطلقه. فجاءه عمرو بعد ذلك بهدية احتفل فيها شكراً على ما صنعه معه، فقبلها جعفر، وأنس به، وأحضره شرابه. فلما سكر جعفر ملك اليمامة قتله عمرو. وكان عمرو قد عشق ابنته جدجاد فطلبها حينئذ، وكانت بلقيس ملكة اليمن قد هربت من ذي الأذعار، واستجارت بجعفر، فتحيلت على عمرو بن عباد حتى قتله كما تقدم في تاريخ بلقيس. وملكت جدجاد بنت جعفر بن قرط اليمامة، وكان قومها قد طردوا طسماً وجديسا إلى بريتهما، فلما سمعوا ما جرى على جعفر، وأن الملك في يد امرأة عادوا إلى الحرب حتى أخذوا اليمامة، وانقرض ملك بني هزان. (وذكر صاحب التيجان أن جعفر بن قرط هو القائل وقد بلغ ثلاثمائة سنة: إن الليالي أسرعت في نقضي ... أكلن بعضي وتركن بعضي الأعقب بن هزان ذكر صاحب التيجان أنه كان من شعرائهم، وأنشد له قوله حين تحارب بنو هزان مع جديس على أرض عدن، فانهزم بنو هزان إلى اليمامة: قد غرنا من دهرنا طول المنى ... وشتت الله علينا شملنا) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 بنو همدان أفعى نجران ملكها ذكر البيهقي أن سلفه [كانوا] يلون نجران وطاعته للتبابعة، وكان كل ملك منهم لقبه الأفعى. والمشهور منهم بهذه الصفة القلمس بن عمرو بن همدان بن مالك بن منتاب بن زيد بن واثل بن حمير. قال صاحب التيجان: "كان داعياً من دعاة سليمان" عليه السلام، أرسلته إليه بلقيس وكان نائبها على نجران، فرأى من سليمان ما علم به أنه نبي وآمن وحسن إيمانه. وخطب الناس بعد موت سليمان وأحسن ذكره، ورثاه بشعر قال فيه في ذكر ذي القرنين: وكان الصعب في دنياه صعباً ... وحكم الدهر كان له قرين وكان عليه للأيام دين ... فقد قضيت عن المرء الديون وطال عمره حتى جرى له مع أولاد نزار ما هو مذكور في تاريخ العدنانية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 عمه القلمس بن همدان ذكر صاحب التيجان أنه أول من حرم الخمر في الجاهلية على نفسه؛ لأنه سكر وأغار على بلاد أخيه والد أفعى نجران، وواقع أم الأفعى، فحملت منه بالأفعى، فلذلك قال فيه بنو نزار: إنه لزنية، وقال عمه شعراً ندم فيه على ما فعل، وذكر الخمر: لها سورة تدعو الحليم إلى الصبا ... وتظهر من أحواله كل فاضح وذكر أن المشلل والبحرين كانا لأفعى نجران، واستولى على نجران بعدهم بنو مذحج، والملك منهم في بني الحارث ابن كعب. قضاعة بن مالك بن حمير في تقدم في عمود سلطنة التبابعة أن مالك بن حمير نافس أخاه واثل بن حمير، فخرج عليه ببلاد الشحر، وما زال يحاربه وواثل في قصر غمدان، حتى مات مالك وولي بعده ابنه قضاعة. ذكر صاحب التيجان أنه حارب السكسك بن واثل إلى أن قهره السكسك، واقتصر قضاعة على ما بيده من بلاد الشحر. ووجد قبر قضاعة في جبل الشحر بقرب قبر هود عليه السلام، وعليه مكتوب بالمسند: هذا قبر قضاعة بن مالك بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 حمير. ومكتوب أيضاً بعده: كنا زينة للناظرين، فصرنا عبرة للزائرين! وأبيات تدل أنه ملك غمدان وذمار والعراقين. وملك بعده ولده: إلحاف بن قضاعة ثم ملك بعده ابنه: مالك بن إلحاف وجرت له حروب مع التبابعة، فأخرجوه من البلاد، وطردوه إلى الحبشة، ثم آل أمره إلى أن ملك بعمان. قال البيهقي: وملك مهرة بن حيدان بن إلحاف بن قضاعة بلاد الشحر، وحارب عمه مالك بن إلحاف صاحب عمان عليها، فتغلب هو وولده على الصقع، ونسب إليهم إلى اليوم، فقيل بلاد مهرة. قال البيهقي: ولما دخلت فضاعة بالفتنة التي كانت بينها وبين بني عمها التبابعة إلى الحجاز، خمد ذكرهم في اليمن وجهاته، واشتهروا بالحجاز، ونسبوا إلى معد بن عدنان، فقيل: قضاعة بن معد بن عدنان. وإنما الأصح والأشهر ما قاله شاعرهم: نحن بنو الشيخ الهجان الأزهر ... قضاعة بن مالك بن حمير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 وأشهر قبائل قضاعة وأضخمها: كلب بن وبرة ابن ثعلبة بن حلوان بن عمران بن إلحاف بن قضاعة، وهي من الأرحاء المذكورة في العرب، تديرت في الجاهلية دومة الجندل، وتيماء وتبوك، وأطرار الشام، وجاورت النصرانية فغلبت عليها. ولما جاء الإسلام دخل منهم خلق كثير ممن أبى الإسلام إلى بلاد الروم، فكانوا بها ضاحية، ونال بلاد الإسلام منهم شر كثير. وأعلام كلب في الجاهلية ممن له ترجمة: زهير بن جناب الكلبي من واجب الأدب: كان رئيس كتاب كلب في الجاهلية وقائدها في حروبها، وطال عمره. وهو من شعراء كتاب الأغاني، وله البيتان المشهوران: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 إذا ما شئت أن تسلى حبيباً ... فأكثر دونه عدد الليالي فلما سلى حبيبك مثل نأي ... ولا أبلى جديدك كابتذال وأنشد له أبو تمام في حماسته: فارس يكلأ الصحابة منه ... بحسام يمر مر الحريق لا تراه لدى الوغى في مجال ... يعتلي العير لا ولا في مضيق من يراه يخله في الحرب يوماً ... أنه أخرق مضل الطريق وذكر صاحب قطب السرور أنه أسره همام بن مرة سيد وائل، فعرض عليه في فدائه مائة من الإبل، فأبى أن يقبلها، وقال: أحسن من ذلك عندي أن أطلقك على ألا تشرب شراباً أبداً إلا بدأت بذكري وحياتي، وشربت قبل نفسك. فأطلقه على ذلك الشرط. زهير بن شريك الكلبي من واجب الأدب: كان من رؤساء كلب في الجاهلية، وكان منهوماً في الخمر، وهو القائل: ألا أصبحت أسماء في الخمر تعذل ... وتزعم أني بالسفاه موكل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 وأني جعلت المال فيها خسارة ... فليس على مال لدى معول فقلت لها: كفي عتابك نصطحب ... وإلا فبيني فالتعزب أمثل عمرو بن حذام الكلب من واجب الأدب: هو الذي عناه امرؤ القيس في قوله: نبكي الديار كما بكى ابن حذام قال ابن الكلبي: إذا سئلت كلب عما وصف به جذام الديار أنشدوا أبياتا من قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل وذكروا أن أمرئ القيس أغار عليها وكان يصحبه، وهو أول من وصف الديار. حارثة بن شراحيل الكلبي هو أبو زيد بن حارثة مولى النبي صلى الله عليه. وكان ابنه زيد قد أصابه سباء في الجاهلية، فصار إلى خديجة زوج النبي عليه السلام، فوهبته له فتبناه. وأنشد ابن عبد البر في كتاب الصحابة لحارثة المذكور يبكي ابنه زيداً لما فقده: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 بكيت على زيد ولم أدر ما فعل ... أحي يرجى أم أتى دونه الأجل؟ فيا ليت شعري هل لك الدهر رجعة ... فحسبي من الدنيا رجوعك أن يحل تذكرنيه الشمس عند طلوعها ... وتعرض ذكره إذا قارب الطفل وإن هبت الأرواح هيجن ذكره ... فيا طول ما حزني عليه ويا وجل! وحج جماعة من كلب، فزاروا زيداً بمكة، فأعلموا أباه فسار إلى مكة في طلبه، واجتمع بالنبي صلى الله عليه وسلم في شأنه، فأحضره وخيره، فاختار النبي عليه السلام على أبيه وأهله. ومن قبائل قضاعة المشهورة في الجاهلية والإسلام: جهينة قال الحازمي: "هي قبيلة عظيمة ينتسب إليها بطون كثيرة". وكانت منازلها أطراف الحجاز الشمالي من جهة بحر جدة. وهي الآن قبيلة ضخمة باقية على أنبه ما كانت عليه، ومنازلها بصعيد مصر، وتجاورها إلى جهة الحجاز بلي، وهي أيضاً من قبائل قضاعة الضخمة إلى الآن. وللقبيلتين تراجم في الإسلام، ولم أقع من تراجمهم في الجاهلية إلا على: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 عبد الشارق بن عبد العزى الجهني من شعراء الجاهلية، أنشد له أبو تمام في حماسته أبياتاً تقع في منصفات العرب، منها: ولما لم ندع قوساً وسهماً ... مشينا نحوهم ومشوا إلينا فآبوا بالرماح مكسرات ... وأبنا بالسيوف قد انحنينا فباتوا بالصعيد لهم كلوم ... ولو خفت لنا الكلمى سرينا ومن قبائل قضاعة المشهورة: تنوخ قال الحازمي: "ينتسبون إلى تنوخ، واسمه مالك بن فهم بن تيم الله بن أسد بن وبرة"، وأسد أخو كلب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 وذكر البيهقي أنه كان لتنوخ ملك في عين التمر، ولهم محاربات في الجاهلية مع ملوك بني نصر أصحاب الحيرة. قال: ثم انقرضوا من هنالك وتفرقوا على البلاد. ومن قبائل قضاعة المشهورة في الجاهلية: بنو سليح وهو عمرو بن حلوان بن عمران بن إلحاف بن قضاعة. قال الحازمي: "منهم نفر يسير بالشام ومصر". قال البيهقي: كان لهم صيت في الجاهلية بالشام، ثم قلوا وذلوا. ومن تواريخ الأمم أن بني سليح ملكوا بادية الشام وهم عمال للقياصرة، إلى أن نزل عليهم غسان الذين خرجوا من اليمن عند سيل العرم، فغلبوا عليهم، وأذهبوا ملكهم. ومن قبائل قضاعة: بنو نهد سكنت أجواز السروات باليمن؛ والمذكور منها: الصقعب بن عمرو النهدي ذكر صاحب العقد أن اسمه جشم بن عمرو، وكان سيد نهد في الجاهلية، وكان قصيراً أسود دميماً. وكان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 النعمان قد سمع بشرفه، فلما بصر به نبت عينه عنه، فقال: "تسمع بالمعيدي خير من أن تراه"، فقال: أبيت اللعن، إن الرجال ليست بمسوك فيستقى فيها الماء، وإنما المرء بأصغريه، إن نطق نطق ببيان، وإن صال صال بجنان؛ قال: صدقت. ثم قال: كيف علمك بالأمور؟ قال: أنقض منها المفتول، وأبرم السحيل، وليس لها بصاحب من لا ينظر في العواقب. (ومن أمثال أبي عبيدة: كان الصقعب من حكماء العرب، فقال له النعمان بن المنذد: ما الداء العياء؟ فقال: جار السوء إن خاصمك بهتك، وإن غبت عنه سبعك) . ومن واجب الأدب: كان ابنه خالد بن الصقعب رئيساً في الإسلام مشهوراً بالشجاعة. والصقعب القائل في وصف رقاص: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 عجبت من رجليه يتبعانه يعلوهما طوراً ويعلوانه كأن أفعيين يلسعانه ومن قبائل قضاعة المشهورة في الجاهلية: بنو العبيد ملوك سنجار والحضر من بلاد الجزيرة. وقد ذكر ابن إياس صاحب تاريخ الموصل أنهم ينتسبون إلى بني سليح. قال: والعبيد هو ابن الأبرص (بن عمرو) ابن أشجع بن سليح بن حلوان بن عمران بن إلحاف بن قضاعة. كانوا في خلق كثير بالجزيرة؛ والمذكور منهم: الضيزن بن معاوية بن العبيد قال: هو صاحب الحضر بأرض الثرثار، والعجم تعرفه بالساطرون، وفيه قال أبو دواد الايادي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 وأرى الموت قد تدللى من الحض ... ر على رب أهله الساطرون وقد قيل: إنه الذي غزا الأعرج من ولد سليمان النبي عليه السلام بالقدس، وكاتبه بختنصر. ولما قتل سابور الضيزن قال عمرو بن كلثوم سيد بني تغلب، وكان معه: ألم يأتيك والأنباء تنمي ... بما لاقت سراة بني العبيد قال: وملك بختنصر الحضر بعد ملك الضيزن؛ وقد تقدم ذكره في تاريخ السريان. ومن تاريخ الطبري أنه اختلف في الضيزن: فقيل: إنه من قضاعة، وقيل: إنه من الجرامقة. قال: وذكروا "أنه ملك أرض الجزيرة، وكان معه من قبائل قضاعة ما لا يحصى، وكان ملكه قد بلغ الشام، وتطرف بسواد العراق في غيبة سابور بخراسان. فلما قدم سابور شخص إليه، وأناخ على حصنه، فلم يقدر عليه نحو أربع سنين". "ثم إن النضيرة بنت الضيزن عركت، فأخرجت إلى ربض المدينة، وكانت من أجمل أهل زمانها، وكان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 سابور من أجمل أهل زمانه؛ فرأى كل منهما صاحبه، فتعاشقا وتراسلا، إلى أن قالت له: ما تجعل لي إن دللتك على ما تهدم به سور المدينة وتقتل أبي؟ قال: أحكمك، وأرفعك على نسائي، وأخصك بي دونهن. قالت: عليك بحمامة ورقاء مطوقة، فاكتب في رجلها: بحيض جارية بكر زرقاء؛ ثم أرسلها، فإنها تقع على سور المدينة فتتداعى - وكان ذلك طلسم المدينة. ففعل، فتداعى سور المدينة، وفتحها عنوة، وقتل الضيزن، وأباد بني قضاعة الذين كانوا معه فلم يبق منهم باقية؛ فقال عمرو بن إله وكان مع الضيزن: ألم يأتيك والأنباء تنمي ... بما لاقت سراة بني العبيد ومصرع ضيزن وبني أبيه ... وأحلاس الكتائب من تزيد أتاهم بالفيول مجللات ... وبالأبطال سابور الجنود الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 قال: "وكانت أم الضيزن من تزيد بن حلوان [بن عمران بن إلحاف] ابن قضاعة". "وأخرب سابور المدينة، واحتمل النضيرة بنت الضيزن، فأعرس بها في عين التمر. فذكر أنها لم تزل ليلتها تتضور من خشونة فرشها، وهي من حرير محشوة بالقز، فالتمس ما كان يؤذيها، فإذا ورقة آس ملتزقة بعكنة من عكنها قد أثرت فيها. وكان ينظر إلى مخها من لين بشرتها، فقال لها سابور: ويحك! بأي شيء كان يغذوك أبوك؟ قالت: بالزبد والمخ وشهد الأبكار من النحل وصفو الخمر! قال: وأبيك لأنا أحدث عهداً [بك] وأوثر لك من أبيك الذي غذاك بما تذكرين؟ وأمر رجلاً فركب فرساً جماحاً، ثم عصب غدائرها بذيله، ثم استركض الفرس فقطعها قطعاً؛ فذلك قول الشاعر: أقفر الحضر من نضيرة فالمر ... باع منها فجانب الثرثار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 قال الطبري: "وقد أكثر الشعراء ذكر الضيزن، وإياه عنى عدي بن زيد في قوله: وأخو الحضر إذ بناه وإذ دج ... لة تجبى إليه والخابور شاده مرمراً وجلله كل ... ساً فللطير في ذراه وكور لم يهبه ريب المنون فباد ال ... ملك عنه فبابه مهجور الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 تاريخ بني كهلان بن سبأ إخوة حمير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 هم أهل العدد والقبائل الكثيرة في أقطار المشرق والمغرب. وعظماء قبائلها الكبار: الأزد، وطيء، ومذحج (وهمدان) ، ثم كندة، ثم مراد. تاريخ الأزد قال الحاتمي: "الأزد هو دراء بن الغوث بن نبت بن مالك بن أدد بن زيد بن كهلان". وجاء في الحديث النبوي: "الأزد جرثومة العرب"، وقد جاء ذكرهم والثناء عليهم في غير حديث. وقال صلى الله عليه وسلم: "الأزد أسد الله في الأرض، يريد الناس أن يضعوهم ويأبى الله إلا أن يرفعهم. وليأتين على الناس زمان يقول الرجل: يا ليتني كان أبي أزدياً، أو كانت أمي أزدية". ومن الكامل للمبرد: "إن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال للأزد: أربع ليست لحي: بذل لما ملكت أيديهم، ومنع لحوزتهم، وحي عمارة لا يحتاجون إلى غيرهم، وشجعان لا يجبنون". فمن الأزد غسان الذين منهم ملوك الشام، ومن غسان الأوس والخزرج. ومن (الأزد) خزاعة، ومنهم بارق، ومنهم دوس، ومنهم العتيك، ومنهم غافق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 من له ذكر في الجاهلية من الأوس والخزرج ويعرف من أسلم منهم بالأنصار الأوس والخزرج هما ابنا قيلة وهي أمهما، وأبوهما حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن عامر بن حارثة بن ثعلبة بن امرئ القيس بن مازن بن مالك بن الأزد. وكان حارثة بن ثعلبة قد سار في قضية سيل العرم التي كانت باليمن إلى الشام، فجري لهم مع الروم ما أوجب رجوع حارثة بأهله إلى أرض العرب فنزل المدينة المنورة، وهي حينئذ لليهود وملكهم شريف بن كعب اليهودي، فقال لحارثة: لا تنزلوا علينا إلا على شرط، وهو أن اليهود لغسان حاضرة وغسان لليهود بادية. فكتبوا بذلك عهداً، إلى أن جرى خصام بين يهودي وغساني، فقال شريف للغساني: أنتم معشر غسان لكم أنفة تحملكم على شهادة الزور! فقال أحد غسان: كذبت، بل لنا أحساب تمنعنا من شهادة الزور، ولكن يا شريف، أنتم أذلاء إلا بأرض العرب، فكيف لا تسرع بلسنك إلى سبهم؟ ولو ألسبوك الذلة لعرفت لهم حقهم! ثم إن جذع بن سنان الغساني الفاتك هاج الحرب بين الفريقين. وأعانتهم غيبة ملك اليهود عن يثرب في حصنه - وبينهما عشرة أميال - ففتكت غسان باليهود، وسبت نساءهم، وملكت ديارهم؛ ولم يصل الملك إلا وقد ملكوا المدينة. فطلبوا الصلح، واستنصروا بإخوانهم الذين بخيبر وجهات الشام، فوقع الصلح والهدنة على المشاركة في سكنى يثرب، إلى أن كانت الغلبة للعرب، وأخرجتهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 للحصون. وملكت الأوس والخزرج المدينة إلا أنه كانت الحرب كثيراً ما تقع بين الفريقين، ولم يستقم لهم أن يستبد بهم ملك، إلى أن رحل إلى النعمان بن المنذر ملك الحيرة: عمرو بن الإطنابة الخزرجي فملكه على المدينة. وكان شاعراً مشهوراً في الجاهلية، وله الأبيات المشهورة التي أنشدها أبو تمام في الحماسة: أبت لي عفتي وأبى بلائي ... وأخذي الحمد بالثمن الربيح وإقحامي على المكروه نفسي ... وضربي هامة البطل المشيح وقولي كلما جشأت وجاشت ... مكانك تحمدي أو تستريحي لأدفع عن مآثر صالحات ... وأحمي بعد عن عرض صحيح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 قال المسعودي: غلبت الخزرج على الأوس فيما قرب من الإسلام، وهمت أن تتوج عبد الله بن أبي بن سلول الخزرجي، فوافق ذلك مجيء النبي صلى الله عليه، فبطل ملكه. أحيحة بن الجلاح الأوسي ذكر صاحب الكمائم وغيره أنه كان من رؤساء الأوس في الجاهلية ببيته وماله، وكان له بالزوراء في المدينة ما لم يكن لأحد من التمر، فرآه شخص وهو يلقط تمرة فعاتبه، فقال: "التمرة إلى التمرة تمر"، ثم قال: استغن أو مت ولا يغررك ذو نشب ... من ابن عم ولا عم ولا خال إني مقيم على الزوراء أعمرها ... إن الحبيب إلى الإخوان ذو المال كل النداء إذا ناديت يخذلني ... إلا نداي إذا ناديت يا مالي فاشتهر بالبخل لذلك. وقالت له الأوس: فضحتنا ببخلك، كلما أردنا أن نقدمك قالوا: بخيل لا يصلح للتقديم. فقال: أنتم إنما أردتم تقديمي وإكرامي بسبب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 مالي، ولم يجتمع إلا من بخل عليه، وأنا لا أريد أن أضيع شيئاً أكرم من أجله. وأدرك ابنه محمد بن أحيحة الإسلام. قيس بن الخطيم الأوسي قال البيهقي: هو وإن كان معروفاً بالشعر في الجاهلية فإنه كان من أبطال الأوس وشجعانها والمشهوين فيها. وقد لخصت ترجمته من كتاب الأغاني. كان قد قتل أباه الخطيم رجل من الخزرج، وقتل جده عدياً رجل من عبد قيس. وكان في صباه يسأل أمه عن أبيه، فصنعت له قبراً مزوراً وقالت: هذا قبره؛ خفية أن يخرج في طلب الثأر. فلما كبر جرى بينه وبين شخص منازعة، فعيره بقعوده عن طلب أبيه وجده، فبحث عن ذلك، فعلم الحقيقة. فخرج إلى خداش بن زهير من سادات عبس، وسأله الإعانة، فأعانه حتى بلغ الغرض مما كان في نفسه، وقتل الشخصين اللذين قتلا أباه وجده، وقال أبياته المشهورة المختارة التي أوردتا أبو تمام في حماسته: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 ثأرت عدياً والخطيم فلم أضع ... وصية أشياخ جعلت إزاءها طعنت ابن عبد القيس طعنة ثائر ... لها نفذ لولا الشعاع أضاءها ملكت بها كفي فأنهرت فتقها ... يرى قائم من دونها ما وراءها وكنت امرأ لا أسمع الدهر سبة ... أسب بها إلا كشفت غطاءها وإنا إذا ما ممتر والحرب بلحوا ... أقمنا بأسياد العرين لواءها متى بأت هذا الموت لا يلف حاجة ... لنفسي إلا قد قضيت قضاءها إذا ما شربت أربعاً خط مئزري ... وأتبعت دلوي في السماح رشاءها قال: وكان أجمل أهل زمانه، لا تراه امرأة إلا فتنت به. وكان يتغزل في عمرة زوج حسان بن ثابت، وكان حسان يتغزل في ليلى بنت الخطيم. وقتل قيس بن الخطيم قبل الهجرة النبوية، قتله الخزرج. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 "وقال أنس بن مالك: جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلس ليس فيه إلا خزرجي، ثم استنشدهم قصيدة قيس بن الخطيم أتعرف رسماً كاطراد المذاهب فأنشدها بعضهم، فلما بلغ إلى قوله: أجالد في يوم الحديقة حاسراً ... كأن يدي بالسيف مخراق لاعب التفت الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال: هل كان كما ذكر؟ فشهد له (ثابت بن) قيس بن شماس، وقال: والذي بعثك بالحق لقد خرج إلينا يوم سابع عرسه وعليه غلالة، ومخلقة مورسة، وهو يجالدنا بسيفه كما ذكر". ولما أنشد النابغة الذبياني هذه القصيدة وأولها: أتعرف رسماً كاطراد المذاهب ... لعمرة وحشاً غير موقف راكب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 قال له: أنت أشعر الناس! ومنها: تبدت لنا كالشمس تحت غمامة ... بدا حاجب منها وضنت بحاجب ومنها: إذا قصرت أسيافنا كان وصلها ... خطانا إلى أعدائنا فنضارب ومن واجب الأدب أن جريراً قدمه بقوله: أني سريت وكنت غير سروب ... وتقرب الأحلام غير قريب ما تمنعي يقظي فقد نولته ... في النوم غير مصرد محسوب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 فرأيت مثل الشمس عند طلوعها=في الحسن أو كدنوها لغروب وله: وإذا تكون عظيمة في عامر ... فهو المدافع عنهم والكافي أبو صرمة الخزرجي ذكر البيهقي أنه من بني البخار، شاعر جاهلي، أدرك ابنه صرمة الإسلام فأسلم؛ ومن شعره: لنا صرم يؤول الحق فيها ... وأخلاق يسود بها الفقير ونصح للعشيرة حيث كانت ... إذا امتلأت من العسر الصدور وحلم لا يصوب الجهل فيه ... وإطعام إذا اشتد الصبير بذات يد على ما كان منها ... تجود به قليل أو كثير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 ثابت بن المنذر بن حرام ذكر صاحب الكمائم أنه من بني النجر، وهو أبو حسان بن ثابت، كان شاعراً، وأبوه حرام شاعراً، وابنه حسان، ثم عبد الرحمن بن حسان، ثم سعيد بن عبد الرحمن، كلهم شعراء على نسق. ومات ثابت قبل الإسلام. ومن شعره قوله في أبيات في عمرو بن الإطنابة الخزرجي، لما ملكه النعمان بن المنذر على المدينة: ألكني إلى النعمان قولا محضته ... وفي النصح للألباب يوماً دلائل بعثت إلينا بعضنا وهو أحمق ... فيا ليته من غيرنا وهو عاقل الفريعة بنت خالد الخزرجية ذكر البيهقي أنها من بني ساعدة من الخزرج، وهي أم حسان بن ثابت. كانت من شواعر الجاهلية، وهي القائلة فيمن كانت تحبه: للناس بيت يديمون الطواف به ... ولي بمكة لو يدرون بيتان فواحد لجلال الله أعظمه ... وآخر لي به شغل بانسان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 ومن العقد لابن عبد ربه: قال عبد الرحمن بن حسان بن ثابت لعطاء بن [أبي] صيفي: إن أصبت زكرة مملوءة بالبقيع خمراً، ما كنت صانعاً بها؟ قال: كنت أعرضها في بني النجار، فإن لم تكن لهم فهي لك، ولكن أخبرني: الفريعة أكبر أم ثابت؟ قال: لا أدري، قال: فلم تساب الناس وأنت لا تدري هذا؟ وقد تزوجها قبل ثابت أربعة، كلهم يلقاها بمثل ذراع ألبكر، ثم يطلقها عن قلى؛ فيقال لها: لم تطلقين وأنت جميلة وحلوة؟ فتقول: يريدون الضيق ضيق الله عليهم"!. فاطمة بنت الأحجم الخزرجية من واجب الأدب: هي من بني النجار، شاعرة جاهلية، لها الأبيات التي أنشدها أبو تمام في حماسته: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 قد كنت لي جبلا ألوذ بظله ... فتركتني أضحى بأجرد ضاح ?قد كنت ذات حمية ما عشت لي ... أمشي البراز وكنت أنت جناحي فاليوم أخضع للذليل وأتقي ... منه وأدفع ظالمي بالراح قال: وكان لها إخوة سبعة، فاطلعت في بئر، فسقطت لها مدرى من فضة، فنزل أحدهم يخرجها، فأسن فمات. ومازال ذلك دأبهم واحداً بعد واحد إلى أن هلك السبعة. وفيهم تقول الأبيات التي أنشدها صاحب الأغاني: إخوتي لا تبعدوا أبدا ... وبلى والله قد بعدوا لو تملتهم عشيرتهم ... لاصطناع العرف أو ولدوا هان من بعد التذكر أو ... هان من وجدي الذي أجد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 ملوك عرب الشام الغسانيين النسب في الأزد كما تقدم، وغسان ماء شربوا منه فعرفوا به؛ قال حسان بن ثابت: إما سألت فأنا معشر نجب ... الأزد نسبتنا والماء غسان وقد تقدم أنهم لما خرجوا من اليمن عند سيل العرم تفرقوا على البلاد. ومن تواريخ الأمم: "نزلت غسان من الأزد بادية الشام، والملك بها في سليح بن حلوان بن قضاعة وهم من قبل القياصرة، فضربت عليهم ملوك سليح وهم الضجاعمة الاتاوة. فلما أتى سبيط والي الجباية لأخذها من ثعلبة بن عمرو الغساني وأغلظ له، رفق به ثعلبة وكان حليماً، وقال له: هل لك فيمن يزيح عللك في الإتاوة؟ قال: نعم؛ قال: عليك بأخي جذع بن عمرو، وكان فاتكاً. فأتاه سبيط، وأغلظ له في المقال، فسل جذع سيفه، وضربه حتى برد، فقيل: "خذ من جذع ما أعطاك"، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 وذهبت مثلا. ووقعت الحرب بين سليح وغسان، فأخرجت غسان سليحا من الشام، وصارت ملوكها". وكان أول ملوكهم: جفنة بن عامر مزيقيا الأزدي وقد تقدم ذكر أبيه في التبابعة ملوك اليمن ولم سمي مزيقيا. وقيل: إنه "سمي بذلك لأن الأزد تمزقت على عهده عند الخروج من اليمن بسبب سيل العرم". قال صاحب تواريخ الأمم: "وكان سيل العرم قبل الإسلام بأربعمائة سنة". قال: "ولما ملك جفنة بني جلق - وهي دمشق - وعدة مصانع، وكان ملكه خمسا وأربعين سنة وثلاثة أشهر". ثم ولي ابنه: عمرو بن جفنة وبني الأديار، ودان بالنصرانية، ثم ملك ابنه: ثعلبة بن عمرو وبنى المباني بالبلقاء، ثم ملك ابنه: الحارث بن ثعلبة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 ثم ملك ابنه: جبلة بن الحارث وبنى القناطر، ثم ملك ابنه: الحارث بن جبلة وأمه مارية ذات القرطين بنت عمرو بن جفنة. وكان مسكنه بمعان، ثم ملك ابنه: المنذر بن الحارث ثم ملك أخوه: النعمان بن الحارث ثم ملك أخوه: جبلة بن الحارث ثم ملك أخوه: الأيهم بن الحارث وبنى أدياراً، ثم ملك أخوه: عمرو بن الحارث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 وبنى مباني، ثم: جفنة بن المنذر الأكبر بن الحارث ابن مارية، وهو محرق، سموه بذلك لأنه حرق الحيرة، فعرف ولده بآل محرق. وكان جوالا في الآفاق. وملكه ثلاثون سنة. وملك بعده: النعمان الأصغر ابن المنذر الأكبر بن الحارث بن مارية. ثم: النعمان بن عمرو بن المنذر الذي بنى قصر السويداء، وقصر حارب عند صيداء. قال: وأبوه عمرو لم يكن ملكاً، وإنما كان يغزو بالجيوش، وفيه يقول النابغة الذبياني: لعمرو علينا نعمة بعد نعمة ... لوالده ليست بذات عقارب وذكر أباه فقال وقبر بصيداء الذي عند حارب ثم ملك ابنه: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 جبلة بن النعمان وكان منزله بصفين، وهو صاحب عين أباغ، وكانت له الوقعة المشهورة على المنذر بن ماء السماء ملك الحيرة، حتى ظهرت النجوم بالنهار من شدة العجاج، وقتل المنذر في ظهر اليوم. ويعرف أيضاً هذا اليوم بيوم حليمة، وهي بنت جبلة الملك، وفيه قيل: "ما يوم حليمة بسر". ثم ملك: النعمان بن الأيهم بن الحارث بن مارية ثم ملك: الحارث بن الأيهم ثم ملك ابنه: النعمان بن الحارث ثم ملك ابنه: المنذر بن النعمان ثم ملك أخوه: عمرو بن النعمان ثم ملك أخوه: حجر بن النعمان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 ثم ملك ابنه: جبلة بن الحارث وهو ابن أبي شمر. ثم ملك أخوه: أبو كرب النعمان بن الحارث ولقبه قطام، وبكاه النابغة الذبياني بقوله: بكى حارث الجولان من فقد ربه ... وحوران منه خاشع متضائل وحارث: قصر كان له بالجولان، وحوران بلد في جهات دمشق ثم ملك: الأيهم بن جبلة بن الحارث وهو صاحب تدمر المدينة المشهورة بالشام والموقع الحرب بين جسر وعاملة. ثم ملك أخوه: المنذر بن جبلة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 ثم ملك أخوه: إسرافيل بن جبلة ثم ملك أخوه: عمرو بن جبلة ثم ملك ابن أخيه: جبلة بن الحارث ثم ملك: جبلة بن الأيهم ابن جبلة بن الحارث بن مارية. قال: وهو آخر ملوك غسان بالشام، أسلم ثم تنصر". وهو باني مدينة جبلة على ساحل الشام. وذكر البيهقي أن طوله كان اثني عشر شبراً. وحكايته طويلة استوفاها ابن عبد ربه في العقد، واختصارها أنه لما أسلم ووفد على عمر بن الخطاب رضي الله عنه، طاف بالبيت، فوطئ فزاري على إزاره، فلطمه جبلة فهشم أنفه، فاستعدى عليه عمر، فقال: إما أن ترضيه وإلا أقدته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 فرغب منه أن يمهله إلى غد ذلك اليوم، فلما كان الليل فر بأصحابه إلى القسطنطينية وتنصر. وقال بعد ذلك: تنصرت الأشراف من أجل لطمة ... وما كان فيها لو صبرت لها ضرر تكنفني فيها لجاج ونخوة ... وبعت لها لعين الصحيحة بالعور فيا ليت أمي لم تلدني وليتني ... رجعت إلى الأمر الذي قاله عمر ويا ليتني أرعى المخاض بقفرة ... وكنت أسيراً في ربيعة أو مضر ولما جاء رسول عمر رضي الله عنه إلى هرقل بالقسطنطينية اجتمع بجبلة - وهو في رفاهية عظيمة كما يكون الملوك، والجواري تغنيه بشعر حسان بن ثابت، وكان مداحا له في الجاهلية - فدعاه ذلك الرسول إلى الإسلام، فقال: إن كنت تضمن لي زواج بنت عمر، والأمر من بعده، رجعت إلى الإسلام. فضمن له التزويج ولم يضمن له الأمر ثم سأله عن حسان الشاعر، فأمر له بكسوة وجمال موقرة براً، وقال: إن وجدته حياً فادفع إليه الهدية، وإن وجدته ميتاً فادفع إلى أهله، وانحر الجمال على قبره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 فلما أخبر عمر بذلك، قال له: هلا ضمنت له الأمر، فإذا أفاء الله به إلى الإسلام قضى عليه بحكمه. وبعث عمر رضي الله عنه إلى حسان، فأقبل وقد كف بصره، فقال: يا أمير المؤمنين، إني لأجد ريح آل جفنة عندك. قال: نعم، هذا رجل أقبل من عند جبلة. قال: هات ما بعث معك، فقال له: وما علمك بذلك؟ قال: إنه كريم من عصبة كرام، مدحته في الجاهلية فحلف ألا يلقى أحداً يعرفني إلا أهدى إلي شيئاً. فدفع إليه تلك الهدية، وأخبره بما حد له في الجمال، فقال: وددت أنك وجدتني ميتا، فنجرتها على قبري! ثم عاد الرسول، فأمره عمر أن يضمن له الأمر من بعده، فعندما دخل القسطنطينية وجد الناس منصرفين من جنازته. ومن عقبه البرجلوني أحد ملوك النصارى بالأندلس. قال صاحب تواريخ الأمم: "جميع ملوك بني جفنة من غسان اثنان وثلاثون ملكا، وملكهم ستمائة سنة وسنة". ومن الكمائم: هؤلاء الملوك كانوا لا يستقرون في مدينة يتوارثون فيها الملك مثل بني نصر بالحيرة. نزلوا في أول أمرهم بجلق، وأحيوا رسومها بعدما خرجت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 ودفن جفنة أول ملوكهم بالبريص، وهي قرية عند وادي الشقراء بظاهر دمشق. ولذلك يقول حسان فيهم: لله در عصابة نادمتهم ... يوماً بجلق في الزمان الأول أولاد جفنة حول قبر أبيهم ... قبر ابن مارية الكريم المفضل يسقون من ورد البريص عليهم ... بردى يصفق بالرحيق السلسل وبردى: نهر دمشق. قال: وبالبريص كان قصر ملكهم، ثم استحسنت الروم دمشق، فأخذتها منهم، وصارت متنزها لملوكهم. وأخرجتهم إلى عمان مدينة البلقاء، فتولوها، ونزلوا اليرموك من حوران، والجولان، وصيداء، وجبلة، وترددوا في هذه الأماكن إلى أن جاء الإسلام. وكان آخر ملوكهم جبلة، فانقرضت دولتهم، وصار كثير من فرسان غسان إلى بلاد الروم وتنصروا، وورث الأرض من العرب غيرهم، إلى أن استقر بها الآن العرب المعروفون بالأمراء من بني طيء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 خزاعة وأما خزاعة فإنها قبيلة مشهورة انخزعت عن غيرها من قبائل اليمن الذين تفرقوا أيدي سبا من سيل العرم، ونزلت ببطن مر على قرب من مكة، ثم حصلت لها سدنة البيت والرياسة. قال الحازمي: "خزاعة هو كعب بن عمرو بن ربيعة، وهو لحي بن حارثة بن عمرو" مزيقيا الأزدي. وقد تقدم عمرو مزيقيا في التبابعة. قال البيهقي: وقد اختلف في نسب خزاعة بين المعدية واليمانية، والأكثرون يقولون: إنها يمانية من الفرق التي خرجت من سيل العرم. وذكر المؤرخون أنه لما سارت قبائل اليمن في البلاد بعد سيل العرم أقام حارثة بن مزيقيا بمكة، فولي أمرها، وغلب على من كان فيها من جرهم والمعدية، ثم أخذه الرعاف فمات. وصار كل من يليها منهم لا يقيم إلا سبعة أيام ويموت بالرعاف. فهربوا إلى جهة المدينة، وتخزعت خزاعة، فأقامت ببطن مر من جهة مكة، وسميت خزاعة. وقال فيها عمرو بن أنيف الغساني: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 ولما هبطنا بطن مر تخزعت ... خزاعة منا في بطون كراكير حمت كل واد من تهامة واعتلت ... بسمر القنا والمرهفات البواتر وأول من عظم بمكة من خزاعة، ورأس وأخذ مفتاح الكعبة واشتهر: عمرو بن لحي ابن حارثة بن مزيقيا الأزدي. هذا هو النسب المشهور عند اليمانية، ونساب المعدية تجعله منها لشرفه وسمو ذكره في الجاهلية، وتقول: إنه عمرو بن لحي بن قمعة بن إلياس بن مضر. وإن الرياسة وولاية البيت لم تزل في بني إسماعيل إلى أن انتهت إلى عمرو المذكور، فدانت له العرب، واتخذته رباً تمتثل كل ما أمرها به في أديانها. ومنهم من قال: إنه من ولد قنص بن معد، وإنهم عادوا إلى مكة فملكوها. واليمانية تذكر ما تقدم، وأنه ورث سلطنة مكة عن آبائه، وأنه من نسل مزيقيا المذكور في التبابعة. قال البيهقي: ولم يكن لخزاعة في ولاية البيت نصيب، إلى أن صار لعمرو بن لحي. وذلك أن خزاعة لما ملكوا مكة كان الشرط على أن يخلوا مفتاح البيت في أيدي بني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 إسماعيل، وعاهدوهم على ذلك. فاستقر بنو إسماعيل على سدانة البيت، وخزاعة على ولاية الأمر. وكان بنو إياد قد بقيت منهم بقايا في مكة، فرغب المضريون إلى خزاعة أن يعينوهم على إخراجهم، فأخرجوهم، فعمدوا إلى الحجر الأسود، ودفنوه في الليل في موضع خفي حسداً لبني مضر؛ وبصرت به امرأة من خزاعة. وأصبح الناس من فقده في أمر عظيم؛ وجاءت المرأة فأعلمت بذلك عمراً، فجمع بني إسماعيل وخزاعة، وقال: يا بني إسماعيل، إن الله ملككم البيت وأمر الناس ما شاء، ثم نزعه منكم إلى ما يشاء، والأديام دول، والأحوال تحول، وإنما يأبي قضاء الله من فسد حسه. وقد أصبح الملك فينا، وولاية البيت كانت لكم بشرط عقدناه بيننا. وكان الحجر الأسود أعظم ما بمكة، وبه كمال الحج، فكيف ترون أمركم بعد فقده؟ فقالوا: ما لنا حياة بعده، وما بقي لنا منسك دونه! قال: فإن رده أحد عليكم، أتسندون له ولاية البيت؟ فقالوا: كيف لنا به وإياد قد حملته معها! قال: جاوبوني على ما قلت لكم؛ قالوا: نعم. فأحضر المرأة الخزاعية، ودلتهم على المكان الذي دفنوه فيه، فأخرجوه، وردوه إلى مكانه. وصارت حجابة البيت في يد عمرو وولده من بعده، ولم يبق لبني إسماعيل لا سلطنة ولا سدانة. قال البيهقي: وحين استوى لعمرو أمره بالملك والسدانة، قال في خاطره أن يغير دين بني إسماعيل، ويخرج من عنده دينا يتبع؛ وأعانه على ما أراده كثرة المال والكرم وعز القوم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 قال صاحب الروض الأنف: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قد عرفت أول من سيب السائبة ونصب النصب عمرو بن لحي وجدته يؤذي أهل النار بريح قصبه". قال: "وكان عمرو بن لحي حين غلبت خزاعة على الحرم قد جعلته العرب رباً لا يبتدع بدعة إلا اتخذوها شريعة، وربما كان ينحر في الموسم عشرة آلاف بدنة، ويكسو عشرة آلاف ثوب. وكان يلت السويق على صخرة اللات، ثم أمرهم بعبادتها، وأن يبنوا عليها بيتاً سموه اللات. ويقال: دام أمره وأمر ولده على هذا ثلاثمائة سنة". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 "وذكر الأزرقي في أخبار مكة أن عمرو بن لحي فقأ أعين عشرين بعيراً، وكانوا من بلغت إبله ألفا فقأ عين بعير. وفيهم قيل: وكان شكر القوم عند المنن ... كي الصحيحات وفقء الأعين" "وكانت التلبية في عهد إبراهيم عليه السلام: اللهم لبيك لا شريك لك، حتى كان عمرو بن لحي، فبينما هو يلبي إذ تمثل له الشيطان في صورة شيخ يلبي معه، فقال عمرو: لبيك لا شريك لك؛ فقال الشيخ: إلا شريكاً هو لك! فأنكر ذلك عمرو، فقال الشيخ: تملكه وما ملك؛ فإنه لا بأس بهذا! فقالها عمرو ودانت بها العرب". قال صاحب الكمائم: وتوالى الملك بمكة وحجابة البيت في ولد عمرو بن لحي، ثم قويت قريش، وصار كل رئيس له أمر أهل بيته، إلا أن مفتاح الكعبة كان في يد: أبي غبشان الخزاعي قال الأصفهاني في كتاب أفعل: "وما قولهم: "أحمق من أبي غبشان" فإنه رجل من خزاعة. ومن حديثه أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 خزاعة كانت لها سدانة البيت قبل قريش، وكان أبو غبشان يلي ذلك، فاتفق عليه أن اجتمع مع قصي بن كلاب في شرب بالطائف، فخدعه قصي عن مفاتيح الكعبة بأن أسكره، ثم اشترى المفاتيح منه بزق خمر وأشهد عليه، ودفع المفاتيح لابنه عبد الدار بن قصي، وطيره إلى مكة. فلما أشرف عبد الدار على دور مكة رفع عقيرته وقال: معاشر قريش، هذه مفاتيح بيت أبيكم إسماعيل، قد ردها الله عليكم من غير غدر ولا ظلم. فأفاق أبو غبشان من سكرته أنجم من الكسعي، فقال الناس: "أحمق من أبي غبشان" و"أندم من أبي غبشان" و"أخسر صفقة من صفقة أبي غبشان". وأكثر الشعراء القول في ذلك، فقال بعضهم: باعت خزاعة بيت الله إذ سكرت ... بزق خمر فبئست صفقة البادي باعت سدانتها بالنزر وانصرفت ... عن المقام وظل البيت والنادي وقال آخر: إذا افتخرت خزاعة في قديم ... وجدنا فخرها شرب الخمور الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 وبيعا كعبة الرحمن حمقاً ... بزق بئس مفتخر الفخور" ومن كتاب مروج الذهب: "إن قصي بن كلاب كان قد تزوج في خزاعة، فجعل أبو زوجته ولاية البيت لها، فجعلته لأبي غبشان الخزاعي، فباعه إلى قصي ببعير وزق خمر". قال البيهقي: وجمع قصي أشتات قريش، وظهر على خزاعة، وأخرجها من مكة إلى بطن مر، فسكنت هنالك إلى جهات المدينة، ثم أخنى عليها الذي أخنى على لبد، وتفرقت في البلاد. وشعراؤها في تاريخ الإسلام: مطرود بن سعد بن كعب الخزاعي فانه كان من شعراء الجاهلية، وأنشد له صاحب السيرة النبوية: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 يا أيها الرجل المحول رحله ... هلا نزلت بال عبد مناف هبلتك أمك لو حللت بدارهم ... منعوك من خزي ومن إقراف المطعمون إذا النجوم تغورت ... والظاعنون لرحلة الايلاف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 بارق وأما بارق فذكر النسابون أنهم ينتسبون إلى سعد بن عدي بن عمرو مزيقيا الأزدي، نزلوا جبلا بجانب اليمن يقال له بارق، فسموا به. ومن شعراء الجاهلية منهم: معقر بن حمار البارقي ذكره صاحب الأغاني، وأخبر أن اسمه سفيان، وأنه لقب بذلك لقوله كما نهدت للزوج حسناء عاقر. ومن مشهور هذه القصيدة: وحلت سليمى في هضاب وأيكة ... فليس عليها بعد ذلك قادر وألقت عصاها واستقر بها النوى ... كما قر عيناً بالاياب المسافر قال: "وحضر يوم جبلة وهو شيخ كبير أعمى". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 دوس وأما دوس فهو ابن عدثان بن عبد الله بن وهزان بن كعب بن الحارث بن كعب بن مالك بن نصر بن الأزد، سكنوا إحدى السروات المطلة على تهامة، وكانت لهم دولة بالعراق. وأصل خبرها - على ما ذكر صاحب تواريخ الأمم: "أن مالك بن فهم بن غنم بن دوس سار في جمهور من الأزد، ومالك بن تيم الله بن أسد بن وبره بن تغلب بن حلوان بن إلحاف بن قضاعة [في جمهور من قضاعة] ، فتنخوا - أي أقاموا - بالبحرين، وتحالفوا على من سواهم، فقيل لهم: تنوخ، وكان ذلك في مدة ملوك الطوائف. فسارت الأزد إلى العراق مع مالك بن فهم الدوسي؛ وسارت قضاعة إلى الشام، فصار الملك بالشام في سليح القضاعيين إلى أن غلب عليهم الغسانيون. وتملك على تنوخ بالعراق مالك بن فهم، وحل بالأنبار". وقال مسكويه: أما تنوخ فهم قبائل كانوا يسكنون بالمظال وبيوت الشعر والوبر في غربي الفرات ما بين الحيرة والأنبار، وأبوا الإقامة في مملكة أردشير بن بابك ملك الفرس، فخرجوا إلى الشام. وأول ملوك الدوسيين بالعراق: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 مالك بن فهم ابن غنم بن دوس. ذكر صاحب تواريخ الأمم: أنه ملك بالأنبار وريف العراق في مدة ملوك الطوائف، وكان قد أغري بأن يعلم ولده سليمة الرمي إلى أن برع في الرماية، فاتفق أن رمى سليمة بالليل، فوقع السهم في أبيه مالك وهو لا يدري، فلما علم مالك أن ابنه رماه قال: جزاني لا جزاه الله خيراً ... سليمة إنه شراً جزاني أعلمه الرماية كل يوم ... فلما اشتد ساعده رماني ومات في أثر ذلك، وهرب سليمة إلى عمان، فعقبه بها. وأخذ الملك بعد مالك جذيمة الأبرش، فبعضهم يقول: جذيمة بن مالك هذا، وبعضهم يقول: إنه من وبار من العرب البائدة، وقد تقدم ذكره فيها. وقد قيل: إن الذي ورث ملك مالك بن فهم بالعراق ابنه: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 جهضم بن مالك قالوا: وإليه تنسب الجهاضمة رهط أبي حمزة الخارجي المختار. قال الحازمي: "والجهاضم أثنتا عشرة فخذاً" منها الفراهيد رهط الخليل بن أحمد، وثمالة رهط المبرد. وقيل: إنهم ينتسبون إلى جهضم بن جذيمة الأبرش؛ وقيل: لم يعقب جذيمة، ولذلك ورث ملكه بالعراق ابن أخته عمرو بن عدي بن نصر اللخمي. العيتك وغافق وأما العيتك وغافق من الأزد فأعلامهم مذكورة في تاريخ الإسلام شرقاً وغرباً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 بنو نصر بن الأزد ومن بني نصر بن الأزد: بنو الجلندا الذين توارثوا ملك عمان إلى وقت النبي صلى الله عليه وسلم. وقد ذكر البيهقي أن الجلندا لقب كل ملك منهم، ومنهم الجلندا الذي كان "يأخذ كل سفينة غصباً". وكان ملك عمان في أول الإسلام إلى حبقر وعبد ابني الجلندا، وأسلما مع أهل عمان على يدي عمرو بن العاص؛ ثم ارتدت العرب بعد موت النبي صلى الله عليم وسلم، فارتدت الأزد بعمان وعليها حينئذ لقيط بن مالك الأزدي ذو التاج، ووجه إليه أبو بكر جيشاً قتله، وردهم إلى الإسلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 تاريخ طيء وهي الرحى الجليلة التي نزلت حين خرجت من اليمن بعد سيل العرم على بني أسد، فحاربتها إلى أن اصطلحتا على الجوار، فحلت طيء بجبلي أجأ وسلمى من نجد الحجاز إلى اليوم، وانتشرت في الأقطار؛ ولها اليوم دولة العرب بالحجاز والشام. قالوا: وطيء وهو أدد بن زيد بن كهلان. قال البيهقي: طيء كثيرة الكرماء والسادة، وكانت الرياسة في الجاهلية في بني تيم الذين يقول فيهم امرؤ القيس بن حجر ملك كندة حين استجار بهم: أقر حشا امرئ القيس بن حجر ... بنو تيم مصابيح الظلام وكان ملكهم المعلى الذي يقول فيه من هذه الأبيات: فما ملك العراق على المعلى ... بمقتدر ولا الملك الشآمي وذكر البيهقي: من بلاد طيء المشهورة في طريق الحجاج: سميرا وفيد؛ ونحن نذكر أعلامهم المشهورين في الجاهلية على ما بني عليه شرط هذا الكتاب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 حاتم بن عبد الله بن سعد ابن الحشرج بن أخزم بن امرئ القيس بن عدي بن ربيعة بن جرول بن ثعل. وثعل من أكبر قبائل طيء، ينتسبون إلى ثعل بن عمرو بن عدي بن طيء، وهم مشهورون بالرماية. وشهرة حاتم بالجود أجل من أن ينبه عليها، وقد اختصرت ترجمته في الأغاني. "كان حاتم من شعراء الجاهلية، جواداً يشبه جوده شعره، ويصدق قوله فعله. وكان حيثما نزل عرف منزله، وكان مظفراً، إذا قاتل غلب، وإذا غنم أنهب، وإذا ضرب بالقداح فاز، وإذا سابق سبق، وإذا أسر أطلق. وكان أقسم بالله ألا يقتل واحد أمه؛ وكان إذا أهل رجب - والعرب تعظمه في الجاهلية - نحر في كل يوم عشراً من الإبل، وأطعم الناس، واجتمعوا إليه. وكان ممن يقصده من الشعراء: الحطيئة وبشر بن أبي خازم". "وكان قد تزوج ماوية بنت عفزر، وكانت تعذله على إتلاف المال وتلومه"، فلا يقبل منها. وكان لها ابن عم يقال له: مالك، فقال له يوماً: ما تصنعين بحاتم؟ فوالله لئن وجد مالا ليتلفنه، ولئن لم يجد ليتكلفن له، ولئن مات ليتركن ولدك عيالا على قومك! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 قالت: صدقت، إنه لكذلك - وكان النساء [أو بعضهن] يطلقن الرجال في الجاهلية، وعلامة الطلاق أن تحول بيتها إلى الجهة الأخرى - ووعدها أن يتزوجها وله المال الكثير. فأتى حاتم وقد حولت باب الخباء، فقال لولده: يا عدي، أما ترى أمك عدا عليها فلان! ثم هبطا بطن واد، ونزلا فيه. وجاء قوم فنزلوا على باب الخباء كما كانوا ينزلون، فاجتمعوا خمسين رجلا؛ فضاقت بهم ماوية ذرعاً، وقالت لجاريتها: اذهبي إلى مالك، فقولي له: إن أضيافا لحاتم قد نزلوا بنا وهم خمسون رجلا، فأرسل إلينا بلحم نقريهم ولبن نسقيهم؛ وقالت لجاريتها: انظري إلى جبينه وفمه، فإن شافهك بالمعروف فاقبلي منه، وإن هز بلحيته على زوره وأدخل يده في رأسه، فأقبلي ودعيه. ففعل ما قدرته فيه من اللؤم، وقال: قولي لها هذا الذي أمرتك أن تطلقي حاتما فيه، وما عندي ما يكفي هؤلاء. فرجعت وأخبرت سيدتها، فقالت: اذهبي إلى حاتم. فعندما عرفته بمكان الأضياف، قام إلى الإبل فأطلق ثنيتين من عقاليهما، ثم صاح بهما حتى أتيا الخباء، ثم ضرب عراقيبهما، فطفقت ماوية تصيح: هذا الذي طلقتك من أجله، تترك أولادك وليس لهم شيء". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 وقيل لماوية: "حدثينا ببعض عجائب حاتم، فقالت: كان كل أمره عجباً: أصابت الناس سنة أذهبت الخف والظلف، فإني وإياه ليلة وقد أسهرنا الجوع، فأخذ عدياً، و [أخذت] بنته سفانة نعللهما حتى ناما، فأقبل علي يحدثني ويعللني حتى أنام، فأمسكت عن كلامه لينام، فقال: نمت؟ فلم أجبه، فسكت. ثم نظر في فتق الخباء فإذا شيء من أقبل، فرفع رأسه فإذا امرأة، فقال لها: من هذا؟ قالت: يا أبا سفانة أتيتك من عند صبية يتعاوون كالذئاب جوعا، فقال: أحضري صبيانك، فوالله لأشبعنهم! قالت: فقمت سريعاً فقلت: بماذا يا حاتم؟ فوالله ما نام صبيانك من الجوع إلا بالتعلل! فقال: والله لأشبعن صبيانك مع صبيانها. ثم قام إلى فرسه فذبحها، ثم قدح ناراً وأججها ثم دفع لها شفرة، وقال لها: اشوي وكلي. ثم قال لي: أيقظي صبيانك، ثم قال: والله إن هذا للؤم، تأكلون وأهل الصرم حالهم مثل حالكم! فجعل يأتي القوم بيتاً بيتاً، فيقول: انهضوا عليكم بالنار. قال: فاجتمعوا حول تلك الفرس، وتقنع بكسائه وجلس ناحية، فما أصبحوا وعلى الأرض منها قليل أو كثير إلا عظم أو حافر، وإنه لأشد جوعاً منهم وما ذاقه". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 ومن مشهور شعره قوله: أماوي إن المال غاد ورائح ... ويبقى من المال الأحاديث والذكر وقد علم الأقوام لو أن حاتماً ... يريد ثراء المال كان له وفر أماوي إن يصبح صادي بقفرة ... من الأرض لا مال لدي ولا خمر تري أن ما أبقيت لم أك ربه ... وأن يدي مما بخلت به صفر قال البيهقي: أعجب ما في جود حاتم أنه أطعم أضيافه وهو ميت؛ ولذلك قال أحد شعراء طيء: ومنا الذي قد جاد حياً بنفسه ... وجاد على أضيافه وهو في القبر وذلك أن قوماً من العرب باتوا على قبره، وفيهم رجل يقال له: أبو الخيبري، فجعل يقول: يا حاتم، أضيافك الليلة جياع! فلما ناموا رأى أبو الخيبري في نومه حاتماً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 قد قام من قبره بسيفه ونحر ناقته، فقام مذعوراً، فوجد الناقة منحورة لأكلها. فلما أصبحوا جاء عدي بن حاتم بناقة بدلها لأبي الخيبري، وعرف أنه رأى أباه في النوم، وأمره بذلك. وأنشد أبو تمام لحاتم: وما أنا بالساعي بفضل زمامها ... لتشرب ماء الحوض قبل الركائب وما أنا بالطاوي حقيبة رحلها ... لأبعثها خفاً وأترك صاحبي إذا كنت رباً للقلوص فلا تدع ... رفيقك يمشي خلفها غير راكب وقوله: وإني لأستحيي رفيقي أن يرى ... مكان يدي من جانب الزاد أقرعا وإنك إن أعطيت بطنك سؤله ... وفرجك نالا منتهى الذم أجمعا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 وقوله: متى ما يجئ يوماً إلى المال وارثي ... يجد جمع كف غير ملأى ولا صفر يجد فرساً ملء العنان وصارماً ... حساماً إذا ما هز لم يرض بالهبر وأسمر خطياً كأن كعوبة ... نوى القسب قد ألقى ذراعاً على عشر وقوله: أضاحك ضيفي قبل إنزال رحله ... ويخصب عندي والمحل جديب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 وما الخصب للأضياف أن يكثر القرى ... ولكنما وجه الكريم خصيب أبوه عبد الله بن سعد من واجب الأدب أنه كان فارساً كريماً سيداً في قومه شاعراً. وله تنسب الأبيات التي أنشدها أبو تمام في حماسته لعنترة الطائي: أطل حمل الشناءة لي ودعني ... وعش ما شئت فانظر من تضير فما بيديك نفع أرتجية ... وغير صدودك الخطب الكبير إذا أبصرتني أعرضت عني ... كأن الشمس من قبلي تدور وكيف تعيب من تمسي فقيراً ... إليه حين تخز بك الأمور ألم تر أن شعري سار عني ... وشعرك حول بيتك يستدير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 وأمه عنبة أم حاتم من واجب الأدب: كانت نهاية في الجود، وأسرفت حتى لم تبق شيئاً، فقال قومها: لو سلبناها مالها فقاست الفقر لرجعت! فلما فعلوا ذلك ثم ردوا إليها مالها - وقد ظنوا أنها تصير أبخل خلق الله لما كابدته من الحاجة - أنهبته، وأفرطت في الإحسان به، وقالت: لعمري لقدماً عضني الجوع عضة ... فاليت ألا أمنع الدهر جائعا فقولا لهذا اللائمي اليوم أعفني ... وإن أنت لم تسطع فعض الأصابعا وهل ما ترون اليوم إلا طبيعة ... وكيف بتركي يا ابن أم الطبائعا! أوس بن حارثة بن لأم من بني ثعلبة بن جدعان بن طيء، وكان يضارع حاتماً في الكرم والرياسة. ومن العقد أنه "كان سيد وطيء". وهو ابن سعدي الذي عناه جرير بقوله لعمر بن عبد العزيز: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 وما كعب بن مامة وابن سعدي ... بأجود منك يا عمر الجوادا ومن واجب الأدب: كان سيد قومه، ونشر الله عقبه، فمنهم بنو لأم الذين هم الآن مشهورون في بلاد طيء، وإن كان فيهم من أولاد حارثة بن لأم من خرج عن عقبة، فإنهم قليل والأغلب ولده. وكان بينه وبين حاتم على الاشتراك في الرياسة والمنافسة ألطف ما يكون بين اثنين، فتحدث في ذلك جلساء النعمان بن المنذر، وأظهروا التعجب منه. فقال النعمان: والله لأفسدن بينهما! قالوا: لا تقدر على ذلك؛ قال: قلما جرت الرجال في شيء إلا بلغته. فدخل عليه أوس، فقال: يا أوس، ما الذي يقول حاتم؟ قال: وما يقول؟ قال: يزعم أنه أفضل منك وأشرف. قال: صدق أبيت اللعن، لو كنت أنا وأهلي وولدي لأنهبنا حاتم في مجلس واحد! ثم خرج وهو يقول: يقول لي النعمان لا من نصيحة ... أرى حاتماً في فعله متطاولا له فوقنا باع كما قال حاتم ... وما النصح فيما بيننا كان حاولا ثم دخل حاتم على النعمان، فقال له مثل ذلك، فقال: صدق، وأين أقع منه، وله عشرة ذكور [أخسهم] أفضل مني؟ ثم خرج، وهو يقول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 يسائلني النعمان كي يستزلني ... وهيهات لي من أن أزل وأخدعا كفاني نقصاً أن أضيم عشيرتي ... بقول أرى في غيره متوسعا فقال النعمان: ما سمعت بأكرم، منهما". وقال النعمان مرة لأشراف العرب: تحضرون غداً لألبس أشرفكم حلة؛ فحضروا، ولم يحضر أوس. فقيل له في ذلك، فقال: إن كان الشريف غيري فقبيح حضوري، وإن كنت أنا وجه إلي. فافتقده النعمان فلم يجده، فأحضره وألبسه الحلة. فقيل للحطيئة: اهجه، وضمن له حساده على ذلك مراده، فقال: كيف الهجاء وما تنفك صالحة ... من آل لأم بظهر الغيب تأتيني الهذيل بن مشجعة البولاني من بني بولان من طيء، وهو من شعراء الحماسة. ويغلب الظن أنه كان جاهليا، وذكر ذلك البيهقي وأنشد له: ألا عائذ بالله من عدم الغنى ... ومن رغبة يوماً إلى غير مرغب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 وله تنسب الأبيات المنسوبة إلى أبي عروبة المدني التي منها: إني وإن كان ابن عمي خاذلا ... لمدافع من دونه وورائه البرج بن مسهر الطائي من واجب الأدب: شاعر فارسي طويل العمر جاهلي. كان معاصراً لوالد حاتم الطائي. واتفق له أن شرب الخمر، فعلبت على عقله، ففعل ببنته قبيحاً. واشتهر ذلك عنه، فحرم الخمر على نفسه، وخرج عن بلاد قومه، وجال إلى أن انتهى إلى القدس، وتنصر، ولازم بها العبادة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 وأنشد له أبو تمام في حماسته: فنعم الحي كلب غير أنا ... لقينا في جوارهم هنات ونعم القوم كلب غير أنا ... رزينا من بنين ومن بنات فان الغدر قد أمسى وأضحى ... مقيماً بين خبت إلى المسات تركنا قومنا من حرب عام ... ألا يا قوم للأمر الشتات وأخرجنا الأيامى من حصون ... بها دار الاقامة والثبات فان نرجع إلى الجبلين يوماً ... نصالح قومنا حتى الممات ومن الكمائم: هو الذي سمع أخته تبول، فقال: إني لأسمع شخة لابد لها من زخة - وكان سكران - فوثب عليها، فنالها. فلما أفاق أخبر بذلك، ففر إلى الشام وتنصر، ثم جعل يأسف على الذي كان منه، فشرب الخمر صرفا حتى ذهبت بروحه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 نفر الطائي من الكمائم: هو جد الطرماح الشاعر، ومن شعره: ألا قالت بهيسة ما لنفر ... أراه غيرت فيه الدهور! وأنت كذاك قد غيرت بعدي ... وكنت كأنك الشعري العبور سيار بن الفحل الطائي من واجب الأدب أنه من شعراء الجاهلية، وسألته امرأة عن أبيها وقد آب من حرب، فقال: وقائلة يا فارس الخيل دلني ... أبي هل ترى عنه المنية زلت؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 فقلت لها: لا علم لي غير أنني ... رأيت سيوف المشرفية سلت ودارت عليه الخيل دورين بالقنا ... وحامت عقاب الموت ثم تدلت عارق بن أمامة الطائي من واجب الأدب: كان من شعراء الجاهلية معاصراً للبرج ابن مسهر، وكان مولعاً بهجو النعمان بن المنذر [عمرو] بن هند، وهو القائل: فمن مبلغ عمرو بن هند رسالة ... إذا حملتها العيس تنضى من البعد أيوعدني والرمل بيني وبينه ... تبين رويداً ما أمامة من هند الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 حصان وأخرى لانقاء لعهدها ... تلاعب شبان الضيوف على عمد حاجر بن ثعلبة الطائي من شعراء طيء، ولا أتحقق أنه كان في الجاهلية، وله البيتان المشهوران: كأن الفتى لم يعر يوماً إذا اكتسى ... ولم يك صعلوكاً إذا ما تمولا ولم يك في بؤسى إذا بات ليلة ... يناغي غزالا ساجي الطرف أكحلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 تاريخ مذحج قال الحاتمي: اسمه مالك بن أدد بن زيد بن كهلان، وهي قبيلة كبيرة، ولها بطون كثيرة. كان الملك والرياسة فيها في بني الحارث بن كعب، هكذا ذكر صاحب العقد. وقد قيل: إنه الحارث بن كعب بن عبد الله بن مالك بن نصر بن الأزد. فمن يقول إنهم من مذحج يقول: كانت بنو مذحج قد نزلت نجران، وعليها حاربت قبائل الأزد حين خرجت من سيل العرم، ولم تزل الرياسة بها في بني الحارث إلى أن جاء الإسلام وإلى اليوم. ومن يقول إنهم من الأزد يقول: إن بني الحارث نزلوا حينئذ فيهم، وغلبوا عليهم بالرياسة، وصار نسبهم فيهم. وأسلم أهل نجران والرياسة فيهم لبني عبد المدان من بني الحارث، وصاحبها حينئذ يزيد بن عبد المدان. عبد يغوث بن صلاءة بن الحارث من الأغاني: "كان من شعراء الجاهلية فارساً سيداً، وهو قائد بني الحارث بن كعب يوم الكلاب الثاني إلى بني تميم. وهو من بيت معرق في الشعر [منهم اللجلاج الحارثي، وهو طفيل بن يزيد بن عبد يغوث بن صلاءة] ، وأخوه مسهر شاعر فارس، وهو الذي طعن عامر بن الطفيل"؛ ولذلك يقول اللجلاج الحارثي الشامي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 سائل بفيف الريح عنا عامراً ... هل بات ذا سهر بطعنة مسهر قال: "وأسر عبد يغوث يوم الكلاب فتى من بني عبد شمس، وأنطلق به إلى أهله، وكان أهوج. فقالت له امرأته ورأت عبد يغوث رجلاً عظيماً جميلاً: من أنت؟ قال: سيد القوم؛ فضحكت: قبحك الله من سيد قوم حين أسرك هذا الأهوج! ". ففصده بنو تيم في الأكحل، وشدوا لسانه بنسعة لئلا يهجوهم. ولما فصد وجعل الدم يفور، قالوا له: كيف رأيت؟ جمعت أهل اليمن، وجئت إلينا لتصطلمنا، وكيف رأيت الله صنع بك! فقال: ألا لا تلوماني كفى اللوم ما بيا ... فما لكما في اللوم خير ولا ليا ألم تعلما أن الملامة نفعها ... قليل وما لومي أخي من شماليا أيا راكباً إما عرضت فبلغن ... نداماي من نجران ألا تلاقيا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 وعطل قلوصي في الركاب فإنها ... ستبرد أكباداً وتبكي بواكيا وتضحك مني شيخة عبشمية ... كأن لم تري قبلي أسيراً يمانيا وقد علمت عرسي مليكة أنني ... أنا الليث معدواً عليه وعاديا أقول وقد شدوا لساني بنسعة ... أمعشر تيم أطلقوا لي لسانيا فان تقتلوني تقتلوني سيداً ... وإن تطلقوني تسلبوني ماليا ومن قبائل مذحج المشهورة الكبيرة: سعد العشيرة وهو ابن مذحج. قال الحازمي: "إنما قيل له سعد العشيرة لأنه كان يركب في ثلاثمائة من ولده وولد ولده؛ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 فإذا قيل له: من هؤلاء؟ قال: عشيرتي! خوف العين عليهم". وحا وحكم ابنا سعد العشيرة، وبلادهم مشهورة إلى جانب زبيد . ومن قبائل مذحج المشهورة: خولان لهم بلاد متسعة مشهورة في جانب اليمن إلى جانب صعدة، ولم ذكر نابه في الشرق والغرب. ومن قبائل مذحج: زبيد قبيل عمرو بن معدي كرب، ولها صيت. وإلى الآن منها جمع كبير قد نزلوا بين مكة والمدينة، يقال لهم: بنو حرب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 ومن قبائل مذحج: أود بن صعب بن سعد العشيرة ومنهم: الأفوه الأودي الشاعر الذي له البيت المشهور: لا يصلح القوم فوضى لا سراد لهم ... ولا سراة إذا جها لهم سادوا ومنهم: عنس قال الحاتمي: هو زيد بن مذحج، وفيهم يقول الشاعر: لا مهل حتى تلحقي بعنس ... أهل الرياط البيض والقلنس وديارهم باليمن حول صنعاء. وهم رهط عمار بن ياسر صاحب رسول الله صلى الله عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 ومنهم: الأسود الكذاب الذي ادعى النبوة في زمان النبي صلى الله عليه وسلم، وكان له نير نجات وسحر، فنفق على الجهال، ولحق به كثير من رعاع اليمن، إلى أن قتله باذان نائب الفرس على اليمن؛ وكان قد أسلم النائب المذكور. همدان وأما همدان فهم أوسلة بن ربيعة بن حيان بن مالك بن زيد بن كهلان. ولها صيت في الجاهلية وفي صدر الإسلام. وبلادهم في جهات صعدة باليمن مشهورة إلى اليوم. وقد كان منهم ملوك في الإسلام باليمن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 تاريخ كندة قال الحازمي: "هو ثور بن عفير بن الحارث بن مرة بن أدد بن يشجب بن عريب بن زيد بن كهلان. ولقب بذلك لأنه كند أباه نعمته - أي كفرها". وبلادها مشهورة باليمن، وكان بها مدينة دمون كان يحلها ملوك كندة. قال البيهقي: بلاد كندة من جبال اليمن تلي حضرموت والشحر، وكان لهم بها ملوك، وقاعدتهم دمون، وهي مذكورة في شعر امرئ القيس. ومن قبائلها المشهورة: السكسك، الذين فيهم السحر والكهانة، يرقون السحابة، فر تبرح مكانها تمطر. ومنهم: تجيب قبيل كبير. والملك في معاوية الأكرمين، قالوا: وهو معاوية بن كندة، ومنهم ملوك كندة الذين مدحهم الأعشى؛ ولهؤلاء الملوك باب مفرد في كتاب تواريخ الأمم للأصفهاني. حجر آكل المرار قال فيه: "ملك معداً منهم حجر آكل المرار بن عمرو بن معاوية الكندي حين أقبل تبع سائراً إلى العراق، فنزل بأرض معد الحجازية، وولى عليهم حجراً؛ فبقى حجر لحسن سيرته مطاعاً في مملكته. وكان زياد بن الهبولة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 السليحي، ملك الشام، قد انتزح أمام بني جفنة، وداخل أطراف الحجاز، فنهض له حجر وقتله"، وأفنى بني سليح وقد أدبرت دولتهم. وملك بعده ابنه: عمرو بن حجر وكان الذي رفع من شأنه عمرو بن أسعد تبع اليمن، وزوجه بنت أخيه حسان بن أسعد، فعظم شأنه. وولي بعده مكانه ابنه: الحارث المقصور بن عمرو وكان قباذ ملك الفرس قد تزندق، واتبع دين مزدك الذي رأى إباحة النساء. فطالب قباذ بذلك المنذر بن ماء السماء اللخمي ملك الحيرة، فأبى وقال: للعرب غيرة لا يسوغ معها الاشتراك في النساء! فعزله وطلبه، فهرب أمامه، وأسلم ملكه. فولى قباذ الحارث على الحيرة والعرب المعدية على أن يدخل في هذا الدين، فأجابه لذلك. وعظم قدر الحارث، وولى بنيه على بكر وتميم وتغلب وأسد وعس، ودام ذلك إلى أن ولي ملك الفرس أنوشروان بن قباذ، فرد المنذر بن ماء السماء اللخمي إلى ملكه بالحيرة وطلب الزنادقة وقتلهم بكل مكان، فهرب منه الحارث، وأدرك المنذر ابنا له فقتله. قال البيهقي: وكان بنو جفنة، ملوك غسان، يتعصبون لملوك كندة، وبنيهم المهاداة والمراسلة، ويبغضون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 ملوك الحيرة. فلما عاد ملك الحيرة إلى المنذر حسده الحارث الأعرج الجفني، وجمع معه كثيراً من عرب أطراف الشام والحجاز الشمالي، وقصد بلاد المنذر، وأراد أن يرد ملك المعدية إلى حجر بن الحارث . فخرج له المنذر بن ماء السماء، وتلاقوا بعين أباغ المشهور يومه في وقائع العرب الذي قيل فيه: "ما يوم حليمة بسر"، وكانت الهزيمة على المنذر، وملك الحيرة وقتله الحارث الأعرج. وقيل: "إن يوم عين أباغ بعد يوم حليمة، والمقتول في عين أباغ هو المنذر بن المنذر، خرج يطلب بدم أبيه، فقتله الحارث الأعرج أيضاً". قال صاحب تواريخ الأمم: "وقد سمعنا [من يذكر] أن قاتله مرة بن كلثوم أخو عمرو بن كلثوم سيد تغلب". وأما ما كان من حديث الحارث الكندي فإن صاحب تواريخ الأمم ذكر أنه انهزم من المنذر ملك الحيرة إلى جهة كلب، فوقع عليه بنو كلب بمسحلان، فقتلوه؛ واختلف أولاده فقتل عامتهم. حجر بن الحارث وكان حجر بن الحارث قد ملكه أبو على بني أسد فتماسك فيهم، وكان له أيضاً ملك غطفان، وكانت له عليهم إتاوة في كل سنة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 قال صاحب الأغاني: "فعمر بذلك دهراً طويلاً. ثم بعث إليهم جابيه، فمنعوه وضربوا رسله، وحجر يومئذ بتهامة، فبلغه ذلك، فسار إليهم بجند من ربيعة وقيس وكنانة، فأخذ سرواتهم وجعل يقتلهم، وأباح أموالهم، وحبس منهم عبيد بن الأبرص الشاعر الأسدي، فأنشده شعراً منه: أنت الأمير عليهم ... وهم العبيد إلى القيامة عيوا بأمرهم كما ... عيت ببيضتها الحمامة جعلت لها عودين من ... نشم وآخر من ثمامة يعني أن العاقل الصلب الرأي اختلط رأيه برأي السفيه، فهلك التدبير بينهم. فرق عليهم حجر، وأطلقهم، وأوفدهم عليه. فلما أشرفوا على قبته هجموا عليه وقتلوه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 وكان قاتله علباء بن الحارث الكاهلي - وكان حجر قد قتل أباه - وقالت أسد للعرب المعدية الذين كانوا جنده: أنتم بنو عمنا، والرجل بعيد النسب منا ومنكم، وقد رأيتم سيرته؛ فكفوا عن قتالهم. امرؤ القيس بن حجر ولما سمع ذلك امرؤ القيس بن حجر وهو بدمون من أرض كندة "قال: تطاول الليل علي دمون دمون إنا معشر يمانون وإننا لأهلنا محبون ثم قال: ضيعني صغيراً، وحملني دمه كبيراً، لا صحو اليوم، ولا سكر [غداً] ، اليوم خمر، وغداً أمر". قال صاحب الأغاني: "ثم شرب سبعاً، فلما صحا أقسم بالله ألا يأكل لحماً، ولا يشرب خمرا ً، ولا يدهن، ولا يصيب امرأة، ولا يغسل رأسه من جنابة حتى يدرك ثأره". وارتحل حتى نزل ببكر وتغلب، فسألهم النصر على بني أسد فأجابوه، ووقع الخبر على بني أسد وكانوا مع كنانة، فارتحلوا بالليل، وقائدهم علباء الكاهلي. وأقبل امرؤ القيس ومن معه، فوقعوا ببني كنانة، فوضعوا السيف فيهم وهم يظنونهم بني أسد، وصاحوا: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 يا لثارات الملك! يا لثارات الهمام! فخرجت إليهم عجوز وقالت: أبيت اللعن، لسنا لك بثأر، نحن بنو كنانة، وإن القوم ارتحلوا بالأمس! فتبع بني أسد، ففاتوه فقال: ألا يا لهف هند إثر قوم ... هم كانوا الشفاء فلم يصابوا وقاهم جدهم ببني أبيهم ... وبالأشقين ما كان العقاب وأفلتهن علباء جريضاً ... ولو أدركنه صفر الوطاب وجهد امرؤ القيس حتى لحق ببني أسد على الماء وقد هلكت خيله وتقطعت، فقاتلهم، وكثرت الجرحى والقتلى حتى حجز بينهم الليل. وهربت بنو أسد، وأبت بنو وائل أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 يتبعوهم، وقالوا لامرئ القيس: أنت رجل مشؤوم، وكرهوا محاربة من يقرب إليهم بالنسب. وانصرف امرؤ القيس إلى حمير، فنزل بقبيلة تدعى مرثد الخير من ذي جدن وكانت بينهم قرابة، فاستنصرهم، فأمدوه بخمسمائة رجل، وتبعهم شذاذ من العرب، فسار بهم إلى بني أسد، ومر بتبالة وبها صنم للعرب تعظمة، ويقال له: ذو الخلصة، فاستقسم عنده بقداحه، وهي ثلاثة: الأمر والناهي والمتربص، فأجالها فخرج الناهي، ثم أجالها فخرج الناهي، ثم الثالثة، فجمعها وكسرها وضرب بها وجه الصنم وقال: مصصت بظر أمك، لو أبوك قتل لما عوقتني! فقيل: إنه ما استقسم عند ذي الخلصة أحد بقدح بعد ذلك حتى جاء الإسلام، وهدمه جرير بن عبد الله البجلي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 وقال: ولج المنذر صاحب الحيرة في طلب امرئ القيس، وأمده أنوشروان بجيش من الأساورة فسرحهم في طلبه. وتفرقت حمير ومن كان معه، فنجا بمن خف. ومازال ينتقل في القبائل حتى لحق "بقيصر ملك الروم، فقبله وأكرمه، وكانت له عنده منزلة. فاندس رجل من بني أسد يقال له: الطماح، وكان امرؤ القيس قتل أخاه، فأتى بلاد الروم، وأقام مستخفياً". ثم إن امرؤ القيس ضم إليه قيصر جيشاً كثيراً. فلما فصل بهم قال له [الطماح] : إن امرأ القيس غوي عاهر، وإنه لما انصرف من عندك بالجيش ذكر أنه يواصل ابنتك، وأنه قائل في ذلك أشعاراً يشهرها بها في بلاد العرب. فبعث قيصر حينئذ له بحلة وشيء مسمومة، وقال: إني أرسلت إليك بحلتي التي كنت ألبسها تكرمة لك، فإذا وصلت إليك فالبسها باليمن والبركة، واكتب إلي بخبرك من منزل إلى منزل. فلما وصلت إليه لبسها، واشتد سروره بها" فأسرع إليه السم وسقط جلده فلذلك سمي: ذا القروح، وقال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 لقد طمح الطماح من بعد أرضه ... ليلبسني من دائه ما تلبسا فلو أنها نفس تموت احتسبتها ... ولكنها نفس تساقط أنفسا ثم مات، ودفن بأنقرة من بلاد الروم. قال البيهقي: وهي التي يقال لها: أنكورية. ومن الأغاني: "أم امرئ القيس فاطمة بنت ربيعة بن الحارث، وهي أخت كليب ومهلهل سيدي تغلب. وقيل: أمه من زبيد رهط عمرو بن معدي كرب. وكان يقال له: الملك الضليل. "قال ابن الكلبي: بلغني أن حجراً أباه كان قد طرد امرأ القيس، وآلى ألا يقيم معه أنفة من قوله الشعر، وكانت الملوك تأنف من ذلك. فكان يسير في أحياء العرب [ومعه أخلاط من شذاذ العرب] من طيء وكلب وبكر، فإذا صادف غديراً أو روضة أو موضع صيد أقام فذبح لمن معه، وخرج للصيد، وأكل وشرب الخمر، وغنته قيناته، فلا يزال كذلك حتى ينفذ ماء الغدير، ثم ينتقل عنه إلى غيره". وفي تلك الحال كان حين أتاه الخبر يقتل أبيه كما تقدم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 قال: "ومن حكاياته أنه آلى ألا يتزوج امرأة حتى يسألها عن ثمان وأربع وثنتين. فجعل يخطب النساء، فإذا سألهن قلن: أربع عشرة. فبينا هو يسير في جوف الليل إذا هو برجل يحمل ابنة له صغيرة كالبدر، فقال لها: يا جارية، ما ثمان وأربع واثنتان؟ فقالت: أما الثمان فأطباء الكلبة، وأما الأربع فأخلاف الناقة، وأما اثنتان فالثديان. فخطبها إلى أبيها، فزوجها إياها. وشرطت هي عليه أن تسأله ليلة بنائها عن ثلاث خصال، فجعل لها ذلك، وساق إليها مائة من الإبل، وعشرة أعبد، وعشر وصائف، وثلاثة أفراس. ثم إنه بعث عبداً له إلى المرأة، وأهدى لها نحيا" من سمن ونحيا من عسل، وحلة من عصب اليمن، فنزل العبد ببعض المياه، فنشر الحلة ولبسها فعلقت بسمرة فانشقت، وفتح النحيين فأطعم أهل الماء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 فنقصا. ثم قدم على حي المرأة وهم خلوف، فسألها عن أبيها وأمها وأخيها ودفع إليها الهدية، فقالت أعلم مولاك أن أبي ذهب يقرب بعيداً ويبعد قريباً، وأن أمي ذهبت تشق نفسين، وأن أخي يراعي الشمس، وأن سماءكم انشقت، وأن وعاءيكم نضبا. فقدم الغلام عليه فأخبره، فقال: أما أبوها فإنه ذهب يحالف قوماً على قومه، وأما أمها فإنها ذهبت تقبل امرأة نفساء، وأما أخوها فإنه في سرح له يرعاه، وهو ينتظر وجوب الشمس ليروح؛ وأما قولها: إن سماءكم انشقت فإن الحلة التي بعثت إليها انقشت؛ وأما قولها: إن وعاءيكم نضبا فإن النحيين نقصا! فأصدقني فصدقه، فقال: أولى لك! ثم ساق مائة من الإبل، وخرج نحوها ومعه الغلام، [فنزلا منزلا] ، فسقى الإبل فعجز، وأعانه امرؤ القيس فرماه الغلام في البئر، وفر حتى أتى المرأة بالإبل، وأخبرهم أنه زوجها! فقيل لها: قد جاء زوجك، فقالت: والله ما أدري أزوجي هو أم لا؟ ولكن انحروا له جزوراً، وأطعموه من كرشها وذنبها؛ فلما فعلوا ذلك أكل. فقالت: أسقوه لبناً حازراً فشرب؛ فقالت: افرشوا له عند الفرث والدم فنام. فلما أصبحت أرسلت إليه: إني أريد أن أسألك، قال: اسألي عما شئت؛ قالت: مم تختلج شفتاك؟ قال: لتقبيل فمك؛ قالت: مم تختلج كشحاك؟ قال: لالتزامي إياك؛ قالت: مم يختلج وركاك؟ قال: لتوركي إياك؛ قالت: عليكم العبد فشدوه! ففعلوا. ومر قوم فاستخرجوا امرأ القيس من البئر، فرجع إلى حيه، واستاق مائة من الإبل، وأقبل إلى امرأته، فقيل لها: قد جاء زوجك؛ فأمرتهم أن يختبروه بما اختبروا به العبد، فقال لما أطعموه الكرش والذنب: أين الكبد والسنام والملحاء؟ وأبى أن يأكل؛ وقال لما سقوه اللبن الحازر: أين الصريف والرثيئة؟ وأبى أن يشرب؛ وقال لما فرشوا قريباً من الفرث والدم: افرشوا لي فوق التلعة الحمراء، واضربوا لي عليها خباء! ثم أرسلت إليه: هلم شريطتي عليك في المسائل، فقال: سلي عما بدا لك. قالت: مم تختلج شفتاك؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 قال: لشرب المشعشعات؛ قالت: مم تختلج كشحاك؟ قال: للبس المحبرات؛ قالت: مم تختلج فخذاك؟ قال لركض المطهمات؛ قالت: هذا زوجي لعمري، فعليكم به! فدخل امرؤ القيس بها". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 ومن نثر الدر: جاء وفد من اليمن، فقالوا: يا رسول الله، لقد أحيانا الله ببيتين من شعر امرئ القيس؛ قال: وما ذاك؟ قالوا: أقبلنا نريدك، حتى إذا كنا بموضع كذا وكذا أخطأنا الماء، فمكثنا ثلاثا لا نقدر عليه، وانتهينا إلى موضع طلح وسمر، فانطلق كل رجال إلى أصل شجرة ليموت في ظلها. فبينا نحن في آمر رمق إذا راكب قد أقبل، فلما رآه بعضنا تمثل: ولما رأت أن الشريعة همها ... وأن البياض من فرائصها دام تيممت العين التي عند ضارج ... يفيء عليها الظل عرمضها طام فقال الراكب: من يقول هذا الشعر؟ فقال بعضنا: امرؤ القيس؛ قال: وهذه والله ضارج عندكم وقد رأى ما بنا من الجهد. فزحفنا إليها، فإذا بيننا وبينها نحو خمسين ذراعاً، وإذا هي كما وصف امرؤ القيس، فشربنا وعشنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ذاك رجل مشهور في الدنيا، خامل في الآخرة، يجيء يوم القيامة ومعه لواء الشعراء يقودهم إلى النار". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 ومن كتاب الأشعار فيما للملوك من النوادر والأشعار أن امرأ القيس لما أيقن بالموت، نظر إلى جبل يقال له: عسيب؛ وبه قبر بنت ملك، فأوصى أن يدفن إلى جانبها، وقال في ذلك: أجارتنا إن الخطوب تنوب ... وإني مقيم ما أقام عسيب أجارتنا إنا غريبان هاهنا ... وكل غريب للغريب نسيب قال: وكان امرؤ القيس قد اضطر في حال صغره إلى أن أرضعته كلبة، فكان منتن الرائحة، ولم يزل مفركا عند النساء. وقالت له امرأته أم جندب: إنك سريع الإراقة بطيء الإفاقة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 وفضله علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فقيل: بم فضلته؟ قال: رأيته أسبقهم بادرة، وأحسنهم نادرة، ولم يقل رغبة ولا رهبة. وقيل: إنه أول من وقف واستوقف، وبكى واستبكى، وذكر الحبيب والمنزل في مصراع واحد، وهو قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل وأخذ خاطره باختراع المعاني، وإبداع الألفاظ الرائقة التي يحاضر بها كل عصر. فمن مخترعاته قوله: سموت إليها بعدما نام أهلها ... سمو حباب الماء حالا على حال وقوله: وقد أغتدي والطير في وكناتها ... بمنجرد قيد الأوابد هيكل والأوابد: المتقدمات من الوحش. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 وقوله في العقاب: كأن قلوب الطير رطباً ويابساً ... لدى وكرها العناب والحشف البالي وقوله: كأن عيون الوحش حول خبائنا ... وأرحلنا الجزع الذي لم يثقب ومن مبتدعات ألفاظه الرائقة التي تشبه كلام المعاصرين قوله: إذا التفت نحوي تضوع نشرها ... نسيم الصبا جاءت بريا القرنفل وقوله: وصرنا إلى الحسنى ورق كلامها ... ورضت فذلت صعبة أي إذلال وقوله: ألم ترياني كلما جئت طارقاً ... وجدت بها طيباً وإن لم تطيب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 ومن فحل كلامه: بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه ... وأيقن أنا لاحقان بقيصرا فقلت له: لا تبك عينك إنما ... نحاول ملكاً أو نموت فنعذرا وقوله: ولو أن ما أسعى لأدنى معيشة ... كفاني ولم أطلب قليل من المال ولكنما أسعى لمجد مؤثل ... وقد يدرك المجد المؤثل أمثالي ومن واجب الأدب: قالوا: أشعر الشعراء امرؤ القيس إذا كلب، والنابغة إذا رهب، وزهير إذا رغب، والأعشى إذا شرب، وعنترة إذا ركب. ومن يقدم التشبيه على كل فن يقول: الشعراء ثلاثة: جاهلي وهو امرؤ القيس، وإسلامي وهو ذو الرمة، ومحدث وهو ابن المعتز. وسئل الفرزدق من أشعر الناس؟ فقال: ذو القروح بقوله: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 وأفلتهن علباء جريضا ... ولو أدركنه صفر الوطاب ويقدمه دعبل بقوله في وصف عقاب: ويل أمها من هواء الجو طالبة ... ولا كهذا الذي في الأرض مطلوب صبت عليه وما تنصب من أمم ... إن الشقاء على الأشقين مصبوب وقدمه غيره بقوله: وإنك لم يفخر عليك كفاخر ... ضعيف ولم يغلبك مثل مغلب ومن مختار نسيبه قوله: أفاطم مهلا بعض هذا التذلل ... وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي وإن كنت قد ساءتك مني خليقة ... فسلي ثيابي من ثيابك تنسل أغرك مني أن حبك قاتلي ... وأنك مهما تأمري القلب يفعل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 وما ذرفت عيناك إلا لتقدحي ... بسهميك في أعشار قلب مقتل وبيضة خدر لا يرام خباؤها ... تمتعت من لهوبها غير معجل خرجت بها تمشي تجر وراءنا ... على أثرينا ذيل مرط مرحل إذا التفتت نحوي تضوع نشرها ... نسيم الصبا جاءت بريا القرنفل كبكر مقاناة البياض بصفرة ... غذاها نمير الماء غير المحلل تصد وتبدي عن أسيل وتتقي ... بناظرة من وحش وجرة مطفل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 ويضحي فتيت المسك فوق فراشها ... نؤوم الضحى لم تنتطق عن تفضل وهذا من باب التتبيع، وهو أول من نطق به، فإنهم كانوا يقولون: طويلة الجيد، فقال: بعيدة مهوى القرط، كما أنهم كانوا يقولون عن الفرس: يسبق الظليم؛ فقال: قيد الأوابد. ومن فرائده قوله: وقد أغتدي والطير في وكناتها ... بمنجرد قيد الأوابد هيكل مكر مفر مقبل مدبر معاً ... كجلمود صخر حطه السيل من عل له أيطلا ظبي وساقا نعامة ... وإرخاء سرحان وتقريب تنفل ورحنا وراح الظرف ينفض رأسه ... متى ما ترق العين فيه تسهل كأن دماء الهاديات بنحره ... عصارة حناء بشيب مرجل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 ومما حاز فيه غاية الإحسان في وصف الفرس قوله: على هيكل يعطيك قبل سؤاله ... أفانين جرى غير كز ولا وان وهذا من بديع الوحي والإشارة. قال أبو هفان: لم يقل في الثقة بالصيد كقول امرئ القيس: إذا ما ركبنا قال ولدان أهلنا ... تعالوا إلى أن تأتي النار نحطب وذكر صاحب تواريخ الأمم أن الملك في كندة بعدهم صار في بني جبلة بن عدي بن ربيعة معاوية الأكرمين، واشتهر في الملك منهم: معدي كرب بن جبلة وقد مدحه أعشى بكر. ثم ملك بعده ابنه: قيس بن معدي كرب وعلى عهده قام الإسلام بمكة، وولده الأشعث بن قيس مذكور في الصحابة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 مراد وأما مراد من قبائل كهلان فبلادها إلى جانب زبيد من جبال اليمن، ولها أعلام مشهورون في الإسلام. أنمار ومن قبائل كهلان على ما فيها من الاختلاف: "أنمار بن إراش بن عمرو بن الغوث بن بنت بن مالك بن زيد بن كهلان. وقيل: أنمار هو ابن نزار بن معد". ولأنمار فرعان مشهوران: خثعم بن أنمار، و بجيلة بن أنمار، وبلادهم سروات اليمن وتبالة إلى الآن. خثعم فأما خثعم فمنها في الجاهلية: نفيل بن حبيب دليل الحبشة أصحاب الفيل إلى الكعبة بغير اختيار. ولما رمى الله عليهم الطير الأبابيل، وضلوا الطريق، جعلوا يسألون عنه وقد هرب منهم، فقال: وكل القوم يسأل عن نفيل ... كأن علي للحبشان دينا بجيلة وأما بجيلة فهي رهط جرير بن عبد الله صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 من له ذكر في هذا الكتاب من سبأ بن يشجب بن يعرب من غير فرعي حمير وكهلان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 قال ابن قتيبة في المعارف، والبيهقي في الكمائم: إن من ولده عمرو بن سبأ، والأشعر بن سبأ، وأنمار بن سبأ. تاريخ لخم ابن عدي بن عمرو بن سبأ. منهم بنو نمارة بن لخم جند الزباء ملكة عرب مشارق الشام، ومنهم بنو الدار بن هانئ بن حبيب بن نمارة بن لخم رهط تميم بن أوس الداري صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومنهم: بنو نصر ملوك الحيرة عمرو بن عدي بن نصر اللخمي وأولهم عمرو بن عدي بن نصر اللخمي. ذكر صاحب تواريخ الأمم أنه ملك بعد خاله جذيمة الأبرش الدوسي مائة [وثمانيا] وعشرين سنة، وقيل: ثمان عشرة. منها في زمان ملوك طوائف العراق خمس وتسعون سنة، وفي زمان ملوك بني ساسان ثلاث وعشرون سنة. وكان سبب رجوع الملك في لخم بعدما كان في دوس بريف العراق أن جذيمة الأبرش كان له ساق يقال له: عدي بن نصر، وكان من أحسن شباب أهل زمانه، فعشقته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 أخته رقاش. فلما وجد نشوة من جذيمة ورضي عنه، سأله أن يزوجه بها، فأنعم له فواقعها من حينه. ثم أفكر في عاقبة ذلك، فهرب. وعلقت منه رقاش بعمرو، فنشأ من أحسن أهل زمانه؛ فيقال: إن الجن استهوته، وصار في البرية في صورة المتوحشين. فمر يوماً بمالك وعقيل فجلس إليهما، فناولاه شيئاً من الطعام، فطلب أكثر منه، فقالت له جاريتهما أم عمرو: "أعطي العبد كراعاً فطلب ذراعاً". ثم لما شربا أجازت عنه الكأس، فقال: أجزت الكأس عنا أم عمرو ... وكان الكأس مجراها اليمينا وما شر الثلاثة أم عمرو=بصاحبك الذي لا تصبحينا فعلما أن له شأناً، فسألاه عن نفسه فعرفهما، فاستبشرا به وأكرماه، ثم حملاه إلى خالة جذيمة وكان قد فارقه صغيراً، فسيق له ثوب كان يلبسه، فضاق طوقه عنه، فقال: "شب عمرو عن الطوق"؛ ثم اعتكف خاله على حبه وآثره، ولم يكن له ولد ذكر فتبناه، وجعل له الملك بعده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 وذكر أبو عبيدة في الأمثال أن جذيمة الأبرش نزل منزلا، وأمر أن يجني له أناس الكمأة، فكان بعضهم إذا وجد منها شيئاً يعجبه ربما آثر نفسه على جذيمة، وكان عمرو بن عدي يأتيه بخير ما يجده، ويقول: "هذا جناي وخياره فيه ... إذ كل جان يده إلى فيه" وقد تقدم في تاريخ الزباء كيف قتلها عمرو وأخذ ثأر خاله جذيمة، وورث ملكه بعده. قال صاحب تواريخ الأمم: "إن الحيرة والأنبار بالعراق بنيتا في زمان بختنصر، فخربت الحيرة بتحول أهلها عند هلاك بختنصر إلى الأنبار، وعمرت الأنبار خمسمائة وخمسين سنة إلى أن بدأت الحيرة في العمارة أيام ملك عمرو بن عدي باتخاذه إياها منزلا، فعمرت الخيرة خمسمائة وبضعا وعشرين سنة إلى أن وضعت الكوفة وبناها عرب الإسلام. ولما مات عمرو بن عدي ملك بعده ابنه: امرؤ القيس بن عمرو مائة وأربع عشرة سنة: في زمن سابور بن أردشير، وزمن هرمز بن سابور، وزمن بهرام بن هرمز، وبهرام بن بهرام، وبهرام بن بهرام بن بهرام وفي زمن نرسي بن بهرام بن بهرام، وفي زمن هرمز بن نرسي، وفي زمن سابور ذي الأكتاف عشرين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 سنة وخمسة أشهر. وكل هؤلاء الملوك قطعهم بحياته وملكه. ثم ملك بعده ابنه: عمرو بن امرئ القيس ثلاثين سنة: في زمن سابور ذي الأكتاف، وأردشير بن سابور؛ واستخلف بعد موته أردشير من غير بيته أوس بن قلام العمليقي خمس سنين، ثم عاد الملك إلى بيته، فتولى الحيرة والعرب: امرؤ القيس بن عمرو بن امرئ القيس ويقال له: محرق الأول، وإياه عنى الأسود بن يعفر الإيادي: ماذا أؤمل بعد آل محرق ... تركوا منازلهم وبعد إياد وكان بنو فاران - وهم من عمالقة الحيرة - قد ثاروا بأوس بن قلام فقتلوه، وعاد الملك إلى بني نصر، وقام منهم امرؤ القيس المذكور. وهو أول من عاقب بالنار، ولذلك قيل له: محرق. وكان ملكه خمساً وعشرين سنة في زمن أردشير بن سابور، وزمن سابور بن سابور، وزمن بهرام بن سابور، وزمن يزدجرد بن سابور. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 ولما مات ولي مكانه ابنه: النعمان بن امرئ القيس وهو ابن الشقيقة؛ قال الطبري: "هي شقيقة بنت أبي ربيعة بن ذهل بن شيبان، وهو فارس حليمة، وصاحب الخورنق. وكان سبب بناء الخورنق أن يزدجرد الأثيم بن بهرام كان لا يبقى له ولد، فسأل عن منزل بريء صحيح من الأدواء والأسقام، فدل على ظهر الحيرة، فدفع ابنه بهرام جور إلى النعمان هذا، وأمره ببناء الخورنق مسكناً له، وأنزله إياه. وكان بانيه سنمار، فلما فرغ منه تعجبوا من بنائه وإتقان عمله، فقال: لو علمت أنكم توفوني أجري، وتصنعون بي ما أنا أهله [لبنيته] بناء يدور مع الشمس حيث دارت! فقالوا: فانك لتقدر على أن تبني ما هو أفضل منه ثم لم تبنه! فأمر به النعمان، فطرح من رأس الخورنق، فهلك. وفي ذلك قال أبو الطمحان القيني: جزاء سنمار جزاها وربها ... [وباللات والعزى جزاء المكفر] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 قال الطبري: "وكان النعمان هذا قد غزا الشام مراراً، وأكثر المصائب في أهلها، وسبى وغنم؛ وكان من أشد الملوك نكاية في عدوه، وأبعدهم مغاراً فيهم. وكان ملك الفرس قد جعل معه كتيبتين يقال لإحداهما: دوسر، وهي لتنوخ؛ وللأخرى: الشهباء، وهي لفارس، فكان يغزو بهما بلاد الشام، ومن لم يدن له من العرب". وذكروا "أنه جلس يوماً في مجلسه من الخورنق، فأشرف على النجف وما يليه من البساتين والنخل والجنان والأنهار مما يلي المغرب، وعلى الفرات مما يلي المشرق، وهو على متن النجف في يوم من أيام الربيع، فأعجبه ما رأى، فقال لوزيره: هل رأيت مثل هذا المنظر! فقال: لا، لو كان يدوم! قال: فما الذي يدوم؟ قال: ما عند الله في الآخرة! قال: فبم ينال ذلك؟ قال: بترك الدنيا وعبادة الله. فترك مكله من ليلته، ولبس المسوح، وخرج مستخفياً هارباً لا يعلم به، وأصبح الناس لا يعلمون بحاله إلى أن علموه. وفي ذلك يقول عدي بن زيد العبادي: وتبين رب الخورنق إذ أش ... رف يوماً وللهدى تبصير سره حاله وكثرة ما يم ... لك والبحر معرض والسدير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 فارعوى قلبه وقال: وما غب ... طة حي إلى الممات يصير؟ " قال صاحب تواريخ الأمم: كان ملكه إلى أن ساح في الأرض ثلاثين سنة. ويقال له: السائح الأعور، وهو باني الخورنق والسدير في جهة الحيرة على مياه الفرات. وملك بعده ابنه: المنذر بن النعمان وهو الذي دفع إليه يزدجرد ابنه بهرام فرباه عنده، وسعى له في الملك، حتى ملك على ما تقدم في تاريخ الفرس. قال صاحب تواريخ الأمم: كان ملكه أربعاً وأربعين سنة في زمن يزدجرد، وبهرام جور، ويزدجرد بن بهرام، وفيروز بن يزدجرد. وملك بعده ابنه: الأسود بن المنذر عشرين سنة في زمن فيروز، وبلاش بن فيروز، وقباذ بن فيروز. ثم ولي بعده آخر: المنذر بن المنذر سبع سنين في زمن قباذ بن فيروز. ثم ملك بعده ابن أخيه: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 النعمان بن الأسود أربع سنين في زمن قباذ. ثم ملك بعده من غير بيت الملك: أبو يعفر بن علقمة الذميلي وذميل: بطن من لخم؛ ملك ثلاث سنين في زمن قباذ، ثم ملك بعده من بيت الملك: امرؤ القيس بن النعمان الأعور السائح قال صاحب تواريخ الأمم: "وهو الذي غزا بكراً يوم أوارة، وكانوا أنصار بني آكل المرار ملوك كندة، فهزمهم. وهو أيضاً باني الحصن الذي بناه سنمار الرومي، وقتله حين فرغ منه. وملك سبع عشرة سنة في زمن قباذ". وملك بعده ابنه: المنذر بن امرئ القيس وهو الذي يقال له: المنذر بن ماء السماء؛ وهي أمه مارية بنت ربيعة أخت كليب ومهلهل، سميت بذلك لجمالها. قال: ويقال له ذو القرنين، وكان ملكه تسعاً وأربعين سنة في زمن قباذ وزمن أنوشروان بن قباذ. وقتله الحارث الأعرج، وهو الحارث الوهاب الجفني، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 يوم عين أباغ، وهو الذي قيل فيه: "ما يوم حليمة بسر"، ظهرت فيه الكواكب في الظهر. وفي معارف ابن قتيبة أن "الذي قتله الحارث الأعرج في يوم حليمة هو المنذر بن امرئ القيس، وكان يوم أباغ بعد يوم حليمة؛ والمقتول في يوم أباغ هو المنذر بن المنذر، خرج يطلب بدم أبيه، فقتله الحارث الأعرج أيضاً". قال: "وقد قيل: إن قاتله مرة بن كلثوم أخو عمرو بن كلثوم سيد تغلب". وطلب قباذ ملك الفرس المنذر بن امرئ القيس بما دان به من دين مزدك من إباحة النساء والاشتراك فيهن، فأبى ذلك، ولم تساعده عليه غيرة العرب، وهرب من الحيرة، ونزل على بني كلب. وملك قباذ على الحيرة بذلك الشرط الحارث بن عمرو ملك كندة؛ وقد تقدم ذكره في تاريخهم. قال الأصفهاني: وليس بمعدود في ملوك الحيرة لأنه لم ينزلها وإنما كان جوالا في بلاد العرب. ولما استقل أنوشروان بالملك، وقتل المزدكية، رد المنذر بن امرئ القيس إلى ملكه بالحيرة. وقتله الحارث بن أبي شمر الغساني قبل مولد النبي عليه السلام بنحو أربعين سنة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 وملك بعده ابنه: عمرو بن هند نسب إلى أمه لاشتهارها، وهي عمة امرئ القيس بن حجر الشاعر؛ لأنها بنت الحارث بن عمرو المذكور. ولدت للمنذر من ماء السماء: عمراً، وقابوساً، والمنذر. وعمرو بن هند هو مضرط الحجارة لشدته، وهو محرق الثاني، وهو الذي فتك به عمرو بن كلثوم فقتله. وعمرو بن هند هو الذي حرق بني تميم بالنار: وكان نبو دارم قد قتلوا أخاه أسعد بن المنذر، فحلف أن يقتل منهم مائة بالنار، فهجم عليهم يوم أوارة الثاني، وحمل له تسعة وتسعون فرماهم في النار، فعلا لهبها ودخانها، فرأى ذلك أحد البراجم، فظن أنها قرى، فأقبل إليها، فجيء به إلى عمرو فقال له: من تكون؟ فانتسب له، فقال عمرو: "إن الشقي وافد البراجم"، ثم تمم به المائة، ورمى به في النار. وكان ملك عمرو بن هند ست عشرة سنة في زمان أنو شروان، وكان يضرب المثل بجوره حتى قال أحد شعراء العرب: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 فآليت لا آتي السدير وأهله ... ولو جاء منه بالحياة بشير به البق والحمى وكل مصيبة ... وعمرو بن هند يعتدي ويجور وملك بعده أبوه: قابوس بن المنذر وكان أهوج، له يوم بؤس ويوم نعيم، وفيه يقول طرفة: لعمرك إن قابوس بن عمرو ... ليخلط ملكه نوك كثير لنا يوم وللكروان يوم ... تطير البائسات ولا نطير فأما يومهن فيوم شر ... يصيدهن بالحدب الصقور وأما يومنا فنظل ركباً ... حيارى لا نعود ولا نسير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 قال صاحب تواريخ الأمم: "ملك أربع سنين في زمن أنوشروان وقد ولد النبي صلى الله عليه، وكان في قابوس لين، فسموه: قنية العرس. ويقال: إنه كان ضعيفاً مهينا، فقتله رجل من يشكر". وولى أنوشروان على الحيرة فتشهرب الفارسي سنة، ثم ملك أخوه: المنذر بن المنذر أربع سنين في زمن أنوشروان (وابنه هرمز) ، وخرج إلى جهة الشام طالباً بدم أبيه، فقتله الحارث بن أبي شمر الغساني قاتل أبيه. وملك بعده ابنه: النعمان بن المنذر أبو قابوس "وهو قاتل عبيد بن الأبرص الشاعر يوم بؤسه، وقاتل عدي بن زيد العبادي، وصاحب النابغة الذبياني وله فيه الأمداح الجليلة والاعتذارات، وهو غازي قرقيسياء، وباني الغريين وهما طربالان كان يغريهما بدم من يقتله في يوم بؤسه. وكان هو وآباؤه يعبدون الأوثان على مذهب العرب، فاتفق أن خرج يوماً متنزها ومعه عدي بن زيد العبادي، فوقف بظهر الحيرة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 على مقابر، فقال له عدي: أبيت اللعن، أتدري ما تقول؟ قال: لا؛ قال: فإنها تقول: أيها الركب المخبو ... ن على الأرض المجدون مثل ما أنتم سنبلى ... وكما نحن تكونون فقال: أعد، فقال: إنها تقول: رب ركب قد أناخوا حولنا ... يشربون الخمر بالماء الزلال ثم أضحوا لعب الدهر بهم ... وكذاك الدهر حالا بعد حال فارعوى وتنصر من حينئذ. وكان ملكه اثنتين وعشرين سنة في زمن هرمز وزمن أبرويز بن هرمز". قال صاحب تواريخ الأمم: "وقتله أبرويز، فانقطع الملك في لخم، وبسبب قتله وقعت حرب ذي قار" بين الفرس والعرب. وذكر الطبري: أن المنذر أبا النعمان كان قد ترك عشرة أولاد ذكور يقال لهم: الأشاهب، من حسنهم. وكان النعمان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 من بينهم قصيراً أحمر أبرش، وأمه بنت صائغ من فدك؛ وكان أبوه قد جعله في حجر عدي بن زيد. ولما مات المنذر جعل أبرويز ملك الفرس على أمره وولده إياس بن قبيصة الطائي، وجعل يختبر أولاد النعمان، ويقال إنهم كانوا ثلاثة عشر، فخلا عدي بن زيد بكل واحد منهم وجعل يقول له: إذا سألك كسرى وقال لك: أتكفيني أمر العرب؟ فقل: نعم إلا النعمان! وقال للنعمان: إن سألك عن إخوتك فقل: إن عجزت عنهم فأنا عن غيرهم أعجز؛ فكان ذلك سبب ولاية النعمان. وكان عدي بن مرينا الشاعر يريد ولاية أخيه الأسود بن المنذر، فاتفق معه في الباطن على السعي في هلاك عدي بن زيد، وأخذ ابن مرينا في إلطاف النعمان بالهدايا والتحف - وكان كثير الأموال، وكان عدي بن زيد غائباً عن النعمان بباب أبرويز يرسم النيابة لملك العرب والترجمة على عادتهم في ذلك. فجعل ابن مرينا إذا جرى ذكر عدي بن زيد أثنى عليه، ووضع من يقول إثر ذلك: إلا أنه يمن على الملك ويقول: لولاي ما ملك! ويتبعون ذلك بما يملأ قلب النعمان عليه، إلى أن وضعوا عليه كتاباً بما يسوء النعمان، وعرضوا حامله لأن يعثر عليه، فحمل للنعمان، فلم يملك النعمان حلمه، وأرسل إلى عدي بن زيد يستعجله ويستزيره؛ فلما وصل إليه حبسه، وجعل عدي يخاطبه بالأشعار المشهورة التي منها: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 أبلغ النعمان عني مألكاً ... أنه قد طال حبسي وانتظاري لو بغير الماء حلقي شرق ... كنت كالغصان بالماء اعتصاري ولما طال حبسه كتب إلى أخيه أبي زيد شعراً، وكان نائبه بباب أبرويز، فكتب أبرويز إلى النعمان في إطلاقه، وأرسل رسولاً بكتابه، فنم بذلك أعداؤه إلى النعمان وقالوا له: بادر بقتله قبل أن يصل إليك الكتاب، فيخرج على غير اختيارك، ويسعى في هلاك الجميع! فبادر النعمان بأن بعث إليه من قتله. فلما وصل الرسول، ودفع إليه الكتاب، أمر بإطلاقه، وأنعم عليه بمال جزيل، فسار إلى الحيرة ليخرجه، فأعلم أنه قد مات منذ أيام ولم يجسر أحد [أن] يخبر الملك بذلك. ثم كتب النعمان إلى أبرويز يعزيه فيه، وأرسل إليه ابنه زيد بن عدي عوضاً منه، فجعله أبرويز في مكان أبيه، فأعجب به كسرى وقربه، وصار يكثر من الدخول عليه. وكانت لملوكهم صفة في النساء مكتوبة عندهم، فكانوا يبعثون في تلك الأرضين بتلك الصفة غير أنهم لم يكونوا يتناولون أرض العرب بشيء من ذلك. فكتب كسرى بتلك الصفة، فأعلمه زيد بن عدي أن عند النعمان من بناته وأهله أكثر من عشرين امرأة على هذه الصفة! وقال: الرأي في ذلك أن تبعثني إليه في هذا الشأن فإن العرب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 تتكرم ببناتها عن العجم فلا آمن أن يغبهن، ويكون معي رجل من حرسك يفقه العربية؛ فكان ذلك. وشق [ذلك] على النعمان وقال لزيد: أما كان في عين السواد وفارس ما تبلغون به حاجتكم؟ فقال الرسول لزيد: ما العين؟ قال: البقر! ثم انفصلا عنه، وكتب إلى أبرويز بالاعتذار. فلما رجعا إلى كسرى قال زيد للرسول: اصدق الملك! فأخبره بما سمع منه، وأنه قال: أما في بقر السواد ما يكفيه حتى يطلب ما عندنا؟ فظهر الغضب في وجه أبرويز وتغير عليه، وبلغ ذلك النعمان فاستعد لوقوع البلاء. وبعد أشهر كتب إليه أبرويز يستدعيه، فجمع ماله وأهله، وسار إلى جبل طيء ليجيروه، وكان عنده بنت سعد بن حارثة بن لأم، فلم يجيروه. فسار إلى سيد بني شيبان، فترك عنده ماله وأهله وسار إلى أبرويز، فلقي عدي بن زيد على قنطرة ساباط، فقال: انج نعيم، فقد والله وضعت لك أخية لا يقطعها المهر الأرن. فلما بلغ كسرى أنه بالباب بعث إليه من قيدع وحمله إلى خانقين، فلم يزل في سجنها حتى وقع الطاعون فمات، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 واشتهر عند الناس أن أبرويز ألقاه بساباط تحت أرجل الفيلة حتى هلك. وولى كسرى على العرب والحيرة: إياس بن قبيصة الطائي بقي في الملك سبع سنين. قال صاحب تواريخ الأمم: "ولسنة وستة أشهر من ملك إياس بعث النبي صلى الله عليه". ومن تاريخ الطبري أن أبرويز أرسل في طلب وديعة النعمان، وكانت عند هانئ بن مسعود سيد بني شيبان، فامتنع أن يخفر ذمته، وكان فيها ثمانمائة درع، فأرسل إليهم أبرويز جيشاً من الفرس والعرب، فهجم عليهم في ذي قار، فتذامرت بكر وبنو عجل، وقاتلوا دون نسائهم. وكانت الرياسة يومئذ لحنظلة بن ثعلبة بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 سيار العجلي، وهو الذي قطع ذلك اليوم وضن الهوادج لئلا تهرب العرب بنسائها إن هربوا، فسمي: مقطع الوضن؛ وضرب قبة ببطحاء ذي قار، وآلى ألا يفر حتى تفر القبة، فكادت العجم تهلك من العطش والحر، وجعلت نساء العرب يحرضن فرسانهن، وامرأة منهم تقول: إن تهزموا نعانق ونفرش النمارق أو تهزموا نفارق فراث غير وامق ثم إن إياداً أرسلت في الباطن إلى العرب أن تنهزم بالأعاجم، ويسرت أسباب السعادة هزيمة الفرس، وكانت وقعة ذي قار المشهورة. وقال النبي صلى الله عليه فيها: "اليوم انتصف العرب من العجم، وبي نصروا". قال صاحب تواريخ الأمم: وملك الحيرة والعرب بعد إياس بن قبيصة زاذبة الفارسي سبع عشرة سنة زمن أبرويز وشيرويه بن أبرويز، وأردشير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 0000000000000000000000 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 تاريخ جرهم الثانية 0000000000000000000000 وكان ممدحا بالأشعار. ثم ولي بعده ابنه: نفيلة بن عبد المدان وكان تحت طاعة سبأ ملك اليمن، وكذلك كان إياد وبنوه في طاعة التبابعة. وفي كتاب التيجان أنه كان مكتوبا على قبره: عشت خمسمائة عام، وقطعت الأرض في طلب الثروة والملك، ولم يكن بد من الموت. وتحت ذلك هذه الأبيات: قد قطعت البلاد في طلب الثر ... وة والملك قالص الأثواب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 فأصاب الردى صميم فؤادي ... بسهام من المنايا صياب فانقضت شرتي وأقصر جهلي ... واستراحت عواذلي من عتابي ودفعت السفاه بالحلم لما ... نزل الشيب في محل الشباب صاح أبصرت أو سمعت براع ... رد في الضرع ما قرى في الحلاب وملك بعده ابنه: عبد المسيح بن نفيلة فغزا بالجيوش، وعلا صيته، وكان مكتوباً على قبره ما ذكره صاحب التيجان: "أنا فلان بن فلان عشت مائة سنة، وركبت مائة فرس، وافتضضت مائة بكر، وقتلت مائة مبارز، وآخر أمري أن أخذني الموت غصبا. فأودعني أرضي. وتحته: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 حلبت الدهر أشطره حياتي ... ونلت من المنى فوق المزيد وكافحت الأمور وكافحتني ... فلم أخضع لمعضلة كؤود وكدت أنال بالشرف الثريا ... ولكن لا سبيل إلى الخلود" ثم ملك بعده ابنه: مضاض بن عبد المسيح فغزا وعلا ذكره، "وكان مكتوباً على قبره: عشت ثلاثمائة عام، وأخذت مصر وبيت المقدس، وهزمت الروم بالدرب، ولم يكن لي بد مما تراه؛ وأبيات منها: كل شيء تأتي عليه الليالي ... آخر الحزن والسرور الممات" ثم ملك بعده ابنه: عمرو بن مضاض ذكر صاحب التيجان "أنه كان من عادتهم أن يعلقوا التاج على رؤوسهم يوماً، وعلى رتاج الكعبة يوماً؛ وأنه أتى رجل من بني إسرائيل، ومعه در وياقوت للتجارة. فلما وصل إلى مكة غيب عن عمرو أفخر ما عنده، فغضب عمرو، ونزع ما وجد عند التاجر وجعله في التاج. فترصد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 التاجر الإسرائيلي الغفلة في الذي يحمل التاج إلى الكعبة في يومها، فقتله وأخذ التاج، وركب وسرى تحت الليل، وخفي أمره إلى أن جاء الخبر من بيت المقدس؛ وكان صاحب أمرهم فاران بن يعقوب من سبط يامين. فأرسل له في التاج أن يرده، فأبى وقال: إني أعلقته على بيت المقدس! فنشأ بينهما في ذلك حرب، فخرج إليه عمرو في مائة ألف فارس، ونصرته قضاعة، ونصر فاران إخوته الروم". وسار فاران حتى نزل جبل فاران عند مكة، فسمي باسمه، وكان معه ابن ملك الروم. ولما تقعقعت السلاح بينهم سمي ذلك الموضع: قعيقعان. وأدرك عمر وفاران على تل فقتله، فسمي: تل فاران؛ وقتل ابن ملك الروم. ثم مضى عمرو إلى بيت المقدس وأخذ التاج، فأذعن له بنو إسرائيل بالطاعة، وتزوج برة بنت شمعون أجمل نسائها، ورحل بها. فلما نزلوا أجياداً عند مكة، عمدت برة إلى حسكة من حديد فسمتها، ثم ألقتها على فراش عمرو عند نومه، وأعدت جمالاً وخيلاً وهربوا بها، ومضوا هاربين إلى بيت الحسكة، وداخله السم فمات. وركبت الخيل في طلب الهاربين، فأدركوهم وردوهم، فقتلوا بأجياد. وكان الأول منهم قد قال للسياف: تحفظ ولا ترفع ولا تخفض، وأنزل السيف على الأجياد؛ فسمي ذلك المكان بأجياد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 الحارث بن مضاض قال الحارث بن مضاض: ثم وليت بعد أخي عمرو. وسرت إلى بني إسرائيل والروم وأهل الشام في مائة ألف من جرهم، ومائة ألف من العمالقة، فهزمتهم. وكانوا قد زحفوا إلي بتابوت داود الذي فيه السكينة فألقوه، فأخذته العمالقة وجرهم، ودفنوه في مزبلة، فاستخرجته ودفعته للهميسع بن نبت بن قيدار بن إسماعيل عليه السلام. وذكر حكاية طويلة في استبقاء برة قاتلة أخيه عمرو، وتلخيصها: أن سبب ذلك كان حملها بمضاض بن عمرو إلى أن ولدته، فنشأ وليس بمكة أجمل منه، فمات من العشق. قال صاحب الكمائم: والحارث بن مضاض هذا هو الذي يضرب به المثل في طول الغربة. قال صاحب التيجان: ثم إن جرهم هلكت بالوباء في مدة الحارث بن مضاض، فخرج الحارث هارباً يجول في الأرض، فجال فيها ثلاثمائة عام، فضربت العرب به الأمثال؛ قال أبو تمام: غربة تقتدي بغربة قيس ب ... ن زهير والحارث بن مضاض قال: وطال عمر الحارث حتى اجتمع بإياد بن نزار حين تغرب إياد من مكة بالإبل التي حصلت له في الوراثة. وتعيش بكرائها، فاكتراها من الشام إلى المدينة. قال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 فبينا أنا بالمدينة التمس من يكتريها إلى مكة [إذ] سمعت شيخا وهو ينادي: من يحملني إلى البيت الحرام وله وقر جمله دراً وياقوتا؟ والناس يستهزئون به، ويتحامونه لفقره وعظم جثته، [فقلت لنفسي: ومالي لا أعطيه جملا! فإن كان صادقاً كان في ذلك الغنى، وإن كان كاذباً فلم يضرني ذلك. فلم أزل أتبع الصوت حتى ظهر لي] ، فإذا به الحارث بن مضاض الجرهمي، ملك مكة صاحب الغربة الدائمة والعمر الطويل، قد سلب ملكه، وعمي بصره مما بكى على أهله ووطنه وملكه. ثم أمره أن يحمله إلى مواضع من جهات مكة، أخرج منها دفائن استغنى بها إياد وولده. قال إياد: ولقد كان يقول لي: اعدل ذات اليمين! اعدل ذات اليسار! ويدخلني إلى شعاب وأماكن ما دخلتها قط. وهي مسقط رأسي، وكنت بها فاتكاً. ثم أوصاه بوصية، وأسر إليه بأن محمداً خاتم الأنبياء الذي يعز الله به العرب من ولد مضر. وقال له: إن أدركته فصدق وحقق، وقبل الشامة التي بين كتفيه؛ وقل له: يا خير مولود دعا إلى خير معبود! فعند ذلك إما تأتيك ملك أو هلك! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 فلما بلغ إلى مكان يقال له: الموت، بكى وقال شعراً أوله: أموت فقيداً والعيون كثيرة ... ولكنها جهلا علي جوامد ثم حدثه بأحاديث طوال إلى أن قال له: شكرت مسارعاً خير الأيادي ... لخير الناس كلهم إياد ثم حفر الأرض حتى بلغ إلى صخرة فقلعها، ودخل في سرب وإياد معه، فإذا بحيات تصفر عن اليمين والشمال، حتى أفضيا إلى دار تحت الأرض! قال إياد: فعجبت من ضيائها من أين يكون، ثم أدخلني إلى بيت قبلي لجهة مكة، وإذا فيه أربعة أسرة: ثلاثة عليها ثلاثة رجال، وواحد ليس عليه شيء؛ وفي وسط البيت كرسي من در وياقوت ولجين وعقيان، فقال لي: خذ وقر جملك ليس لك غيره، قال: ثم قال لي: أتدري من هؤلاء الموتى؟ فقلت: لا؛ قال: هذا مضاض أبي، وهذا عبد المسيح أبوه، وهذا نفيلة أبوه. وكان على رأس كل واحد منهم ما تقدم ذكره من النظم والنثر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 قال: ثم نظرت إلى اللوح الذي على السرير الخالي، فإذا فيه مكتوب: أنا الحارث بن مضاض، عشت أربعمائة عام، وجلت في الأرض مائة عام مغترباً بعد هلاك قومي جرهم، وتحته شعر. قال: ثم قال لي: أعطني القارورة التي في تلك الكوة، فأعطيته إياها، فشرب بعضاً ثم انطلى ببعضها على جسده، ثم قال لي: إذا أنت أتيت إخوتك فقالوا لك: من أين هذا المال؟ فقل لهم: إن الشيخ الذي حملته هو الحارث بن مضاض الجرهمي؛ فهم يكذبونك، فقل لهم: آية ذلك أن تعمدوا إلى الحجر المدفون بجوار زمزم، فتجدوا فيه مقام إبراهيم، وتجدوا في الحجر الآخر شعر الحارث بن مضاض الذي بكى به أهله وملكه ووطنه: كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا ... أنيس ولم يسمر بمكة سامر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 بلى نحن كنا أهلها فأذا لنا ... صروف الليالي والجدود العواثر فما فرج آت بما أنت خائف ... وما حذر ينجيك مما تحاذر وكنا ولاة البيت من بعد نابت ... نطوف بهذا البيت والخير ظاهر فأخرجنا منها المليك بقدرة ... كذاك بآمر الله تجري المقادر قال إياد: ثم حرم علي أن أعود إلى الموضع بعدها. وامتد الحارث على ذلك السرير، وصاح صيحة ما ظننت إلا أن أهل مكة سمعوها، ثم مات. وهجم التنين فاستدار في وسط البيت على ما بقي من المال. قال صاحب التيجان: وكان الشعر المكتوب على قبر الحارث بن مضاض: يا لدمعي لفرقة الأحباب ... واعترافي من بعدهم واغترابي أوطنوا الجزع جزع آل أبي مو ... سى إلى النخل بين سدر وغاب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 من ملوك متوجين لديه ... وكهول أعفه وشباب وبهاليل كالليوث مصالي ... ت صعاب على الأمور الصعاب ونساء خواطر عاطرات ... وبدور محجوبة في القباب نازلات من الحجون إلى الخي ... ف حسان مثل الدمى أتراب أسعدتهم أيامهم ثم ولت ... ما على الدهر بعدهم من عتاب فهم المطعمون جودا وعادوا ... طعمة للثرى وصم الهضاب فلي الويح بعدهم وعليهم ... وإليهم من بعد ذاك مآبي وذكر إياد أنه خرج من المكان بالمال ووصل إلى مكة، فجري له مع إخوته ما قدره الحارث حتى وقفوا على الآية. وذكر صاحب التيجان أن الحارث كان ملكاً في زمن شرحبيل وعمرو ذي الأذعار من التبابعة، وامتد عمره إلى أن اجتمع في غربته مع إياد بن نزار بعد مبعث المسيح عليه السلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 وذكر أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: [أخبرني عبد مناف عن أبيه عبد المطلب بن هاشم أنه قال] : أدركت الحكماء المعمرين، وأهل الآثار بالعلم الأول من أهل تهامة، يذكرون غربة الحارث بن مضاض الجرهمي الملك المتوج، فإن الحارث قال لإياد: كنت ملك مكة وما والاها من الحجاز إلى هجر وحصن العلمين إلى مدين، وكنا أهل تيجان. وذكر أنه قال هذا الشعر عند موته: أموت فقيداً والعيون كثيرة ... ولكنها جهلا علي جوامد ولكن ستبكيني الغمام بدمعها ... وتشجى على قبري البروق الرواعد تمادت بي الأيام حتى تركنني ... كمثل حسام أفردته القلائد يهنا بي الأعداء يرزا بي الندى ... ويأمن كيدي الكاشحون الأباعد قالوا: وبلغ الحارث بن مضاض في غربته إلى ما نطق به قوله: تجشمت من كرمان كل تنوفة ... وجاوزت حد القصر من أرض فارس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 وملك في غيبة الحارث بن مضاض ابنه: عمرو بن الحارث وكان مضعفا غير صالح للملك، ثم مات، وملك بعده أخوه: بشر بن الحارث قال صاحب التيجان: فأقام دهراً تحت طاعة بلقيس، صاحبة اليمن، إلى أن مر سليمان النبي عليه السلام بمكة، فأمره تسليم مفتاح الكعبة والرياسة إلى بني إسماعيل، فانقرضت حينئذ دولة الجرهميين من الحجاز. أتباع هذه الدولة الجرهمية من أبناء الملوك مضاض بن عمرو بن مضاض الجرهمي ذكر صاحب الكمائم أن أباه الذي كان ملك مكة، وأن برة بنت شمعون الإسرائيلية أمه، وقد تقدم ذكرها. ونشأ مضاض في دولة عمه الحارث بن مضاض متأدبا لطيف المزاج. وكانت في زمانه مي بنت مهلهل بن عامر - وهي من بنات عمه - أجمل من رأته العيون، فعشقها. فاتفق أن وقع بينهما ما أوجبته الغيرة، ووشى بينهما أبو قبيس الذي ينسب إليه جبل مكة، فقال مضاض: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 يعشى عن الناس طرف عيني ... وعنك يامي غير عاش أتهجريني بغير ذنب ... وتقتليني بقول واش وكانت قد رحلت من مكة إلى أخوالها قضاعة بالجار، فتبعها مضاض إلى هنالك، فتعرض لها في طريقها وأنشدها: علام قبست النار يا أم غالب ... بقدح قبيس إذ أطيرت شراره سألتك بالرحمن لا تجمعي هوى ... عليه وهجرانا وحبك جاره فتجهمته ولم تقبل عليه، فقال لأصحابه: تصد بلا جرم علي بوجهها ... وتبعدني إما أردت التقربا كأني أنادي صخرة حين أقبلت ... تراض فما تزداد إلا تصعبا قال: فسمي ذلك المكان بالجار لما تقدم في شعره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 وفي كلام التيجان ما يدل على أنه رفض تاج الملك في طلب الهوى. قال: ثم تعرض لها في مكة بالمكان الذي يقال له: الدار، فقال: فإن لم يكن وصل فلفظ مكانه ... وإلا فإن الموت لاشك داره وبهذا سمي ذلك المكان الدار. فقالت له: والله لا ألقاك أبداً! فقال: وأنا لا أشرب بعدها ماء أبداً! وصار إلى الموضع المعروف بالموت - وهو مدفن ملوك بني جرهم - وبقي هنالك يعالج سكرات الموت والعطش إلى أن مات. وذكر صاحب التيجان أن صديقين له أدركاه وهو يجود بنفسه، فعللاه، ونظر إليهما فقال: خليلي هذا موطن الموت فاندبا ... مضاض بن عمرو حين شط مزاره سلا صاحب الخيمات عن قبر هالك ... لدى جرعات الموت قر قراره ويروى: لدى دوحة الزيتون. ابنة عمه مي بنت مهلهل الجرهمية ذكر صاحب الكمائم والتيجان أنها من بنات سلاطينهم، وأن جمالها كان يضرب به المثل في وقتها. وعشقها ابن عمها مضاض بن عمرو المتقدم الذكر، فبينما هما يطوفان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 بالبيت إذ كانت هنالك رقية بنت البهلول الجرهمية، وكان لها قدره جمال مشهور، فعطشت من شدة الحر وهي تطوف، فنادت: يا مضاض بن عمرو، بدالة الشباب والقرابة اسقني، فاني أخشى الموت! فاحتال لها في ماء وسقاها، فلما بصرت به مي جعلت ترعد غيرة، ورجعت إلى أبيها وقالت له: الموت لا يكتم، وإليك شكواي لأنك عمادي، وقد انصدع قلبي انصداعاً لا يلتئم أبداً! وأخبرته بما جرى، وأقسمت لا تقيم بموضع يكون فيه مضاض أبداً، ورحلت إلى أخوالها من قضاعة، وقالت شعراً منه: مضاض غدرت العهد والحب صادق ... وللحب سلطان يعز اقتداره غدرتم ولم أغدر وللحر موثق ... وليس فتى من لا يقر قراره ثم إن أبا قبيس أتاها وأنشدها أشعاراً صنعها على لسان مضاض في رقية، فألهب قلبها عليه، وصنع أيضاً جواباً على لسان رقية؛ فكان ذلك سبب طلب مضاض أبا قبيس ليقتله حتى فر أمامه. وآل الأمر بمضاض إلى أنه آلى ألا يشرب ماء؛ لأنه كان سبب التهاجر بينه وبين ابنة عمه، فمات عطشاً. وبلغ ذلك ميا، فقالت: أيا موطن الموت الذي فيه قبره ... سقتك الغوادي الساريات الهوامع ويا ساكناً بالدوحتين مغيباً ... لئن طرت عن إلف فالفك تابع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 ثم أقسمت أن تموت عطشاً كما مات، وأن تدفن إلى جواره. ومن شعراء جرهم بن قحطان: أبو قبيس بن شارج الجرهمي ذكر البيهقي أنه كان من شعرائهم، وله ينسب الجبل المشهور فوق مكة بأبي قبيس، وأخبر بما لخصته أيضاً من التيجان، وهو أن أبا قبيس عشق مي بنت مهلهل المذكورة، وأراد الايقاع بينها وبين ابن عمها حتى يخلو له وجهها منه فجعل يصنع الأشعار على لسان مضاض، ويتعزل في بنت البهلول؛ فمما صنعه قوله: رقية قلبي قد تباين صدعه ... وللحب منه شاهد ودليل رأيت الهوى إن دام يهوي بربه ... فهل لك أن يلقى الخليل خليل؟ وصنع على لسان رقية تخاطب مضاضا: أصون الهوى والطرف مني كاتم ... ولا يعلم الأقوام في الدهر ما دائي سوى أنني قد فزت منك بنظرة ... تجرعت فيها النار منك مع الماء فآلى مضاض أن يقتله، فهرب أمامه في البرية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 القسم الثالث تاريخ العرب المستعربة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 العرب المستعربة هم بنو إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام، قيل لهم ذلك لأنهم تعلموا من أخوالهم جرهم بن قحطان العاربة. دخول الخليل عليه السلام أرض العرب وما يتصل منه بذكر ابنه إسماعيل وتناسل العرب المستعربة منه 0000000000000000000000000 قال البيهقي: الأشهر والأظهر أن مالك أمر البيت وسلطنة الحجاز بعد إسماعيل ابنه: قيدار بن إسماعيل قال السهيلي: وقد ذكر "أن قيدار كان الملك في زمانه، ومعنى قيدار الملك". قال صاحب الكمائم: وفي شأن الملك بين بني إسماعيل وبني جرهم بن قحطان اختلاف كثير: فمن قائل: إن سلطنة الحجاز كانت في جرهم، ومفتاح الكعبة وسدانتها في يد ولد إسماعيل؛ ومن قائل: إن قيدار توجته أخواله بنو جرهم وملكته عليها. ودانت له عرب الحجاز، وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر، وأظهر أحكام النبوة. وإن العمالقة وقع بينهم وبين جرهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 ما أوجت حرباً في الحرم، فقام قيدار فيهم خطيباً، وقال: "اعلموا معشر العرب أن هذا الحرم كنتم قد عثتم فيه، وأبحتم حرمته، وسفكتم الدماء في أرجائه، فشتت الله شملكم منه، وأبعدكم عنه، وزالت البركة منكم، وارتفعت الرحمة عنكم. ثم رحمكم الله بنبيه إبراهيم وابنه إسماعيل، فعمرت بهما بلادكم، وردكم الله ببركتهما إلى أوطانكم؛ فلا يكن شكر نعمة الله التعرض لنقمته. أين عقولكم؟ أين أفكاركم؟ اعتبروا بما تقدم، وانظروا فيما تأخر! ". ثم نزل فاصطلحوا، ودانوا له على ألا يكون الملك لا في العمالقة ولا في جرهم، وتوارثته بنو إسماعيل من حينئذ. وذكر السهيلي وغيره أنه كان فيمن ملك بور بن شوحا، وهو أول من عتر العتيرة، وأن أباه شوحا ملك قبله، وهو أول من سن تعظيم رجب وحرمته، فتبعته العرب. ومنهم يزن، وهو الطعان الذي تنسب إليه الرماح اليزنية، ومنهم دوس العتيق، وكان أحسن الناس وجها، وكان قطورا بن كركر بن عملاق قد غلب بنوه على الحرم، فأخرجهم دوس منه. وذكر صاحبا التيجان والكمائم أن الذي ولي ملك مكة وسدانة البيت بعد قيدار ابنه: نبت بن قيدار ثم تغلب بنو جرهم على ذلك، فجاء سليمان عليه السلام إلى مكة، وسلطان الحجاز حينئذ البسر بن الأغلب بن عمرو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 بن مضاض الجرهمي، وهو تحت طاعة بلقيس صاحبة اليمن. فأمر سليمان البسر أن يبرأ من ملك مكة والكعبة إلى نبت بن قيدار. وعظم نبت في العرب وأيده سليمان، ورغب إليه أخواله أن يكون الملك له، ويشرفهم بمفتاح البيت وولايته، فدفع لهم ذلك عارية؛ ولهذا قال الحارث بن مضاض الجرهمي في شعره المتقدم: وكنا ولاة البيت من عند نابت ... نطوف بذاك الركن والبيت عامر وذكر البيهقي أن نبتاً قال للبسر الجرهمي الذي كان صاحب الأمر قبله: قد سلبك الله ملكك فلا يسلبك عقلك، اخرج عني من مكة وإلا أخرجت روحك من بدنك؛ فبأي عين تنظرني بعدما أخذت ملكك! وبأي عين أنظرك وأنا أعتقد أنك تطمع في رد ما أخذ منك! فرحل عنه، وولي سدانة البيت غيره من بينهم. الهميسع بن نبت ثم مات نبت وترك ابنه الهميسع صغيراً، فلم يقدر على الملك مع أخواله جرهم. وملك سلطنة الحجاز عمرو بن مضاض الذي جرى له الحروب العظيمة مع بني إسرائيل، ثم أخوه الحارث بن مضاض. وكانت جرهم والعمالقة قد أخذوا التابوت من بني إسرائيل، ودفنوه في مزبلة، فنهاهم الهميسع عن ذلك فلم ينتهوا، وأعلمهم الحارث أن ذلك مما لا يبقي الله [على] من فعله، فاستخرجه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 الحارث بالليل ودفعه إلى الهميسع، فتوارثوه بنوه بعده، وجاء الحارث الهميسع بمفتاح البيت لما كبر. ثم إن جرهم والعمالقة أخذهم الوباء فهلكوا وتفانوا، وكبر بنو إسماعيل فأظهرهم الله، وولوا البيت وبقي ضم الملك، فرأى الحارث بن مضاض الذي في نفسه، وأيقن لدولة جرهم بالإبادة، ولدولة بني إسماعيل بالإقبال، فخرج من مكة على وجهه، وكانت غربته المشهورة. وقد تقدم في دولته من ولي بعد الحارث، وأن أمرهم انقرض عن قرب وتغلب عليهم بنو إسماعيل، ولم يبقوا جرهميا ولا عمليقيا بالحرم، وصارت السدانة والسلطنة للهميسع. قال البيهقي: وكان اسمه زندا _ بالنون _ فلقبوه الهميسع، وهي السلطان عندهم، كما أن السميدع سلطان العمالقة. قال: والهميسع أول من قال الشعر من بني إسماعيل، علمه ذلك الحارث بن مضاض، فرويت عنه قصيدة يذكر فيها طغيان جرهم والعمالقة في الحرم، وكيف أبادهم الله، وشتت شملهم، وأولها: سلوا من بقي عمن مضى فهو مخبر ... لقد كفروا في بيته وتجبروا صبرنا فنلنا الملك بعد فنائهم ... كذلك عقبى من يتوق فيصبر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 ولو صحبتنا سرعة في مرادنا ... بهم أصبحت أعمارنا وهي تقصر وذكر صاحب التيجان أنه ولي بعده أمر مكة ابنه: أدد بن الهميسع وكذلك ذكر البيهقي، وأخبر أنه كتب إلى أفعى نجران سلطان التبابعة في شأن كعبة نجران التي أحدثوها كتاباً منه: وقد انتهى إلينا أنكم أقمتم بجهتكم كعبة للشيطان، وجعلتموها مناظرة لكعبة الرحمن. ولسنا ممن نترككم في سنة الغفلة، ولا نتعجل بالانتصار، والله أنظر في بيته، وأحكم بين عباده. وكذلك بلغنا أن سوق عكاظ أقمتموها معاندة لموسم الحرم، فما الذي تركتم لبني إسماعيل؟ وكيف عمدتم إلى ما أسسه الله فأردتم هدمه وإزالته؟ والأقدار معينة لهم، وعليهم مقبلة، والظلم بئس القرين، والكفر بالنعمة مصارع إذا أمكنته فرصة لا يدعها. وذكر صاحب التيجان أنه ولي بعده ابنه: عدنان بن أدد وقال صاحب الكمائم: إن ولده كثروا وتفرقوا في أرض العرب، وطال عمره، ولم تكن الشهرة إلا لولده معد، وكذلك العقب العظيم. قال: وكان عدنان كثير الغارات والغزوات، فعز به الحرم، وأقام الملة الحنفية حق قيامها. ثم إن العرب طغت وعاثت في أرضها، ثم تعدت إلى الحرم فانتهكت حرمته. وقبض الله إليه عدنان، فنهضت طوائف العرب إلى البيت وقالت: هذا يجعل لبني إسماعيل علينا ولاية ورياسة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 ونحن نهدمه حتى نستريح منهم! فوعظهم أصحاب العقول منهم، وطلبوا بني إسماعيل ليقتلوهم، ففروا على وجوههم. معد بن عدنان وكان معد بن عدنان حينئذ صغيراً. قال البيهقي: فاختفي من طوائف العرب في غار، وكان له من يتفقده فيه بما يعيش به، إلى أن بعث الله له بختنصر فخلصه. قال الطبري: كان معد في زمان بختنصر ابن اثنتي عشرة سنة. وإن الله أوحى إلى إرميا أن اذهب إلى بختنصر فمره أن يهلك العرب، ويحمل معداً على البراق إلى الشام. قال السهيلي: "فنشأ معد مع بني إسرائيل، ومن ثم وقع في كتب الإسرائيليين نسب معد". وكان بختنصر حينئذ قد سلطه الله على بني إسرائيل وعلى العرب، على ما تقدم في التاريخ، وذلك قبل أن يولد المسيح عليه السلام. وكانت العرب حينئذ قد طغت فقتلت بأرض اليمن حنظلة بن صفوان النبي عليه السلام - وقد تقدم ذكره، وقتلت بحضوراء من أرض الحجاز شعيب بن ذي مهدم. قال صاحب الروض الأنف: "وكان رجوع معد بن عدنان إلى الحجاز مدة رفع الله بأسه عن العرب، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312 ورجعت بقاياهم التي كانت في الشواهق إلى مواطنهم بعد أن دوخ بختنصر بلادهم، وخرب المعمور، واستأصل أهل حضور". قال البيهقي: ثم إن معداً رده الله في حق بني إسماعيل، فدانت له، وملكته عليها. قال: وحفظ عنه من الكلمات المفيدة أن أحد أعزاء العرب طلب منه أن يميل معه في الحكم وقال له: كن معي! فقال: لا أكون إلا مع من ردني إلى أن أحكم عليك وعلى غيرك بغير طاقة ولا مقدرة! فأقر ذلك الرجل، وعلم أنه مع الحق، واعترف لخصمه. ولما حضرته الوفاة قيل له: من تقدم من ولدك على الناس، فقد جرت العادة بذلك؟ فقال: أما أنا فأريد أن أقدم قنصاً، والله يريد أن يقدم نزاراً! قم قضى نحبه. قال صاحب التيجان: ثم ولي أمر مكة بعد موت معد ابنه قنص بن معد بن عدنان . قنص بن معد بن عدنان ذكر صاحب الكمائم أن أخاه نزاراً كان أولى بالسلطنة منه، ولكن غلب حب قنص على قلب أبيه فولاه، وكان أيضاً أكبر ولده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 وعندما ولي أراد إخراج أخيه من الحرم، فوعظه واستعطفه فلم يفعل، فقال له: علام تخرجني وأنت أخي؟ فقال: الملك ليس معه إخوة، وإن لم أخرجك تخرجني، بذلك يحدثني خاطري؛ فقال: إذ عزمت على هذا فأمهلني قليلاً حتى أرحل بمن معي؛ فقال: ما أجد في خاطري أن في مهلتك ما يعود علي بخير، [ومع] ذلك فقد أمهلتك! فمضى نزار، واشتغل بنقله أهله وماله عن الحرم، فلما أبصره أهل مكة على تلك الحال قالوا: كنا نخاف على بني إسماعيل من غيرهم، وأما وقد بدأ هذا الظالم بأن يسلط بعضهم على بعض، ويفتح عليهم باب النفي والخلاف لا نتركه لذلك. قال: فما تصنعون؟ قالوا: نجعلك تقيم على رغمه. فقال: إذاً أذوق مرارة العيش من ملك من لا يريدني، ومجاورة من يقدر علي ولا أقدر عليه. فقالوا: فإن كان لك قلب يصبر على إخراجه أخرجناه؛ قال: لم يكن لي قلب يصبر على ذلك، ولكن قد قساه عليه وسهل عليه ما يصعب عقوقه. واتفق رأيهم على إخراجه، فرجعوا إليه وأنذروه بالخروج وإلا قتلوه! قال: قد كنت أعلم ذلك من إمهال نزار، وأنا خارج عنكم! فخرج بأهله وماله إلى أرياف العراق، ونزلوا بجهات الحيرة، وصادفوا وقت غلبة الإسكندر على سلطنة الفرس وتفرقها على ملوك الطوائف، فعاثوا هنالك وكثروا، واجتمعت إليهم أخلاط العرب، إلى أن كبر سابور [ذو] الأكتاف، فوضع فيهم السيف وأفناهم، فكان من بقاياهم على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314 ما قيل رهط النعمان بن المنذر. وزعم بعض النسابين أنهم ضميمة في لخم. واستقل بملك الحجاز: نزار بن معد وذكر البيهقي أنه كان ممن غزا مع شمر تبع صاحب اليمن، فأعانه على ملك الحجاز، وعظمت به صولته على العرب. وذكر صاحب التيجان أن نزاراً لما حضرته الوفاة قسم أمواله بين أولاده وكانوا أربعة أكبرهم إياد، فقال يا إياد لك الحلة والعصا، وأنت وصي ولدي ومن كان مكياً؛ وقال: يا مضر، لك القبة الحمراء - وكانت من أدم، وقال: يا ربيعة، لك الفرس؛ وقال: يا أنمار لك الحمار. وأعطاهم أربع قلل مختومة، وأوصاهم أنهم بعد موته يتحاكمون في الميراث إلى أفعى نجران - قال البيهقي: وهو ملكها وحكيمها في ذلك الأوان. فلما مات رحلوا إليه، فبينا هم في طريق نجران إذ مر بهم أعرابي يطلب جملا شرد له، فسألهم عنه، فقال أحدهم: أما إنه لأعور؟ قال: نعم؛ وقال الآخر: أما إنه لأزور؟ فقال: كذلك هو؛ فقال الآخر: أما إنه لأبتر؟ فقال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 315 صدقتم؛ فقال الآخر: أما إنه لشرود مخدر؟ فقال: جملي عندكم! ولزمهم إلى أن وصل معهم إلى أفعى نجران، وسبق إليه الأعرابي فأخبره، فعلم أن لهم شأنا. فأحسن نزلهم، وأرسل إليهم خروفاً مشوياً وخمراً وعسلاً، فأكلوا وشربوا وسكروا؛ فقال أحدهم: نعم ما أكرمنا به الملك لولا أن الخروف أرضعته كلبة، وقال الآخر: ولولا أن الخمر معصورة من كرمة عرمت في قحف ميت، وقال الآخر: ولولا أن العسل وضعته النحل في جوف حمار، وقال الآخر: ولولا أن الملك ولد زنى! فنقل ذلك للملك، فأحضرهم وسألهم عن قصة الجمل في الأول، فقال أولهم: علمت أن أعور لأني رأيته في أثره يأكل من جهة واحدة وهي التي تبصرها عينه السالمة، وقال الثاني: علمت أنه أزور لأني رأيت آثار مشيه عادلة عن الطريق، وفي الجهة الواحدة تقل وطئاً عن الأخرى؛ وقال الثالث: علمت أنه أبتر لأني رأيت بعره ينزل في مكان واحد مجتمعاً، ولو كان بذنب لفرقه؛ وقال الرابع: علمت أنه شرود مخدر لأني أبصرته لا يستقر في مكان ولا يأكل بطيءاً! فقال: أحسن جميعكم! ثم قال للأعرابي: قم فاطلب جملك؛ فالقوم حكماء وليسوا بلصوص! ثم صرفهم للكرامة، وسأل في باطن منزله عن المعاني التي ذكروها في الخروف والعسل والخمر فوجدها كما ذكروا، وسأل أمه في الخفية عما قالوه في حقه، فأخبرته أن أباه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 316 كان لا يولد له، فخافت من انقطاع الملك عن عقبه فتحيلت في ولادته من غيره. فتعجب من القوم، وأحضرهم وسألهم عما ترك لهم أبوهم فأخبروه، فقال أفعى نجران: القبة والخاتم لمضر وإليه حكومتهم، والحلة الشمطاء والعصا لإياد وإليه أمر حاشيتكم، ولربيعة القنا واللواء والفرس وإليه أمر حريمكم، وأما أنمار صاحب الحمار فاحملوا عليه كل فادح؛ فإن الحمار يحمل الأثقال، وهو صاحب خدمة الدنيا. ثم نظر في القلال، فوجد في قلة إياد تقليم الأظفار، فقال له: خذ ما لأبيك من عبد وأمة. ووجد في قلة مضر قطعة من ذهب وفضة، فحكم له بالذهب والفضة. ووجد في قلة ربيعة قطعة من حافر، فحكم له بذوات الحافر. ووجد في قلة أنمار ظلفا، فحكم له بذات الظلف والخف. فتراضوا بحكمه، وقبل إياد الشمطاء، ومضر الحمراء، وربيعة الفرس، وأنمار الحمار. تفرق بني نزار من الحرم ذكر صاحب تواريخ الأمم أن العدنانية كانت في أول أمرها تؤرخ من نزول إسماعيل بالحرم، ثم صارت تؤرخ بتفرق بني نزار من الحرم. وكذلك ذكر البيهقي، وأخبر أن بني نزار الأربعة المذكورين لما رجعوا إلى مكة غلب على الرياسة وسدانة البيت مضر بن نزار، وعلاصيته في العرب؛ وكان إياد أكبر منه، فلم تحمل نفسه أن يقيم تحت رياسته، فخرج بولده وأهله إلى أرياف العراق والجزيرة، فتناسلوا هنالك؛ وسيذكر تاريخهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 317 قال البيهقي: ثم إن القحط توالى على مكة وأجائها، وضاقت بني إسماعيل، فغلب القوي الضعيف، وخرج من أراد الراحة من المغالبة، فسار ربيعة بخيله التي توالدت عنده إلى أطراف نجد وأرياف الشام والجزيرة، فتناسل بنوه هنالك؛ وسيذكر تاريخهم. وفي ولده وولده مضر العدد والعز، إلا أن النبوة في ولد مضر، والناس يقولون: هم على عدد ربيعة ومضر. ومضى أنمار إلى السروات وتبالة من بلاد اليمن، فتناسل بنوه بتلك الجهات، وحسبوا من العرب اليمانية؛ وقد تقدم نسبهم فيهم، وهم: بجيلة وخثعم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 318 تاريخ المضرية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 319 إليها انتهى الشرف والعدد أولاً وآخراً، وخصها الله بالنبوة والخلافة، وبها عز الإسلام وعظمت فتوحه لما دخلت فيه أفواجاً. وقد كان رسول الله صلى الله عليه يشكو إلى ربه من عصيانهم وعتوهم حتى قال: "اللهم أشدد وطأتك على مضر، واجعلها عليهم سنين كسني يوسف. وقد طبقت قبائل مضر إلى وقتنا أقطار المشرق والمغرب وقلت ربيعة، ثم انقسمت مضر على جذمين: خندف وقيس. تاريخ خندف ينتسبون إلى أمهم خندف. وأبوهم إلياس بن مضر، وفيهم النبوة والشرف. قال ابن حزم: والجمهور أن من ولد خندف [اللذين] إليهما النسب الأعظم: مدركة وطابخة. تاريخ مدركة بن خندف فيها الشرف والنبوة والخلافة، وافترقت مدركة على خزيمة وهذيل. تاريخ خزيمة بن مدركة فيه العدد والنبوة والخلافة. وخزيمة جذمان عظيمان، وهما: أسد وكنانة، ولها جدم دونهما وهو الهون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 321 تاريخ كنانة ابن خزيمة بن مدركة بن خندف بن مضر، فيها النبوة والخلافة، والفخر منهم لقرسش، فنبدأ بتاريخهم ثم نذكر باقي كنانة. تاريخ قريش هم ولد النضر بن كنانة، وهم معدن النبوة والخلافة والشرف. ذكر البيهقي أن قريشا لم تكن تسمى بهذا الاسم حتى قرشها قصي بن كلاب رئيسها _ أي جمعها حول الحرم _ فعظمت من ذلك الحين. وقد أرخت العرب من حينئذ. وقيل: إنما سميت قريشا باسم دابة في البحر تلتقم دوابه، ولها الغلبة والصولة يقال لها: القرش، وهي معروفة إلى اليوم. ومن كتاب المعاقل في فضل قريش: عن النبي صلى الله عليه: "فضل الله قريشاً بسبع خصال: أني منهم، وأن الله أنزل فيهم سورة في كتابه العزيز لم يذكر فيها أحداً غيرهم، وأنهم عبدوا الله عشر سنين ما عبده أحد قبلهم، وأن الله نصرهم يوم الفيل، وأن الخلافة والسدانة والسقاية فيهم". قال ابن حزم: من ولده النضر بن كنانة فهو من قريش، ومن لم يلده فليس بقرشي. وصار لقريش الحرم. وأخرجوا إلى ضواحي مكة سائر كنانة، فكان لهم الشرف بذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 322 وأول من ضم أمرهم وجمعهم - كما تقدم - وأخذ مفتاح البيت من خزاعة. قصي بن كلاب ابن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر. قال البيهقي: لما صار له مفتاح البيت، ووقعت الحرب بين خزاعة وبين بني فهر فأخرجتهم بنو فهر من مكة، صار لهم المفتاح والسلطنة إلا أن خزاعة لم تدن بسلطتهم ولا سائر كنانة، ولم ينقد بعض رؤسائهم إلى بعض. فاتفقوا على الرياسة بأسطارها المعلومة عندهم، وهي ستة: السدانة، وهي ولاية مفتاح الكعبة؛ والثانية: الرفادة وهي الطعام الذي يصنع في الموسم لفقراء الحجاج؛ والثالثة: السقاية، وهي حياض من أدم كانت على عهد قريش توضع بفناء الكعبة ويشرب الحجاج منها؛ والرابعة: دار الندوة، كانوا يجتمعون فيها للمشاورة؛ والخامسة: اللواء؛ والسادسة: إمارة الجيوش والكتائب. وأعلى هذه من جهة الدين الكعبة، ومن جهة الدنيا الإمارة، وكان قصي قد جمعها كلها. وقيل في قريش: أبوكم قصي كان يدعى مجمعاً ... به جمع الله القبائل من فهر قال صاحب تواريخ الأمم: "وكان قصي بن كلاب في زمن فيروز بن يزدجرد" ملك الفرس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 323 وقال البيهقي: إن العرب أرخت بموت جده كعب بن لؤي لعظمته عندها، ثم أرخت باجتماعها لقصي وأخذه مفتاح الكعبة. قال البيهقي: وكان قصي معدوداً في السلطنة، ولما كثرت الحروب بين قريش وخزاعة، وكانت الرسل تتردد بين الفريقين فلا تؤدي من الكلام ما يقضي بانفصال الحرب، قال لقومه: قد طال الخطب بيننا وبين هؤلاء القوم، وسببه أن الرسل الذين تتردد بيننا تقصر في الكلام، فيطول أمد الحرب. فقالوا: فما الرأي؟ قال: أن أكون المتكلم معهم؛ قالوا: وكيف ذلك؟ قال: نرسل إلى إخواننا من قبائل كنانة ويدخلون بيننا، وأكون أنا المتكلم والحيان متقابلان. وحضرت كنانة وأميرها الشداخ الشاعر البطل، وحضرت خزاعة، وحضرت قريش، وتقابلوا على هيئة الحرب، فبرز قصي على فرسه وقال: يا معشر خزاعة، لما كان لكم مفتاح البيت والملك علينا، أنازعناكم في شيء من ذلك؟ قالوا: لا؛ قال: فلما أعاد الله لنا بيت آبائنا، لم حسدتمونا فيه وجعلتم تقاتلونا عليه؟ وأيم الله، لو قاتلنا عليه ولم نكن نأخذه بحق، لكنا في ذلك معذورين؛ فإن طلب الوراثة في الرياسة بالسيف مكرمة، وقد علمتم أنا لا نخليه أبداً! وهؤلاء أخواننا بنو كنانة معنا لا معكم، وأنتم غرباء بعداء من اليمانية في أرض المعدية، فإن جنحتم إلى السلم وطلبتم القرار في مهاد العافية، فأقيموا ما شئتم في بطن مر، ولكن رياستكم، ونحن لا نؤمر عليكم ولا نعترضكم، ولسنا طالبي ملك، ولا حاجة لنا في غير هذا البيت وجوره. فإن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 324 انقدتم إلى ما قلته انقدنا إلى حسن جواركم، وشدخت هذه الدماء التي بيننا؛ وإن أبيتم فالسيوف لها الحكم، والنصر من السماء. وللأمور دلائل، وللإقبال علامات، والشقي من عاند السعد عند إقباله! قال: فامتلأت أسماع خزاعة بهذا الكلام، وعلم عقلاؤهم أنه الحق، فقالوا: ومن يشدخ هذه الدماء، ويضمن ما سلف منها ألا يطالب أحد به، وما يستقبل ألا يراق هدراً؟ فقال قصي: يتولى ذلك سيد بني كنانة يعمر بن عامر الليثي، وهو شداخها، فسمي في ذلك الحين: بالشداخ وعقدوا الأيمان على ذلك، وقر كل أحد في مكانه. قال صاحب الكمائم: ولما استقر بقصي القرار بمكة خاف على قريش من التحاسد والتباغض في المجاورة مع المكاثرة، فنظر المستحقين لقرب البيت والقادرين على ذلك قد نازعهم الفريق الآخر، فألزمهم السكنى بمكة والحرم فيما قرب من المدينة والبطاح، وسماهم: قريش البطاح، وأخرج الآخر إلى ظواهر مكة، وسماهم: قريش الظاهر، فصارت كنانة وخزاعة وقريش الظواهر بادية لقريش البطاح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 325 تاريخ قريش البطاح وفيهم العز والنبوة والخلافة ومجاورة الكعبة. قال ابن حزم: جميع ولد قصي بن كلاب المذكور من قريش البطاح، وانضاف لها في السكنى معها من قريش سائر بني كعب بن لؤي بن عامر بن لؤي. وانضاف لقريش البطاح من بني الحارث بن فهر بن هلال بن أهيب بن ضبة بن الحارث، وبنو هلال بن ضبة بن الحارث؛ ومن سوى هؤلاء فهم من قريش الظواهر. قال ابن حزم: "المطيبون من قريش هم: بنو عبد مناف، وبنو عبد العزى، وبنو زهرة، وبنو تميم، وبنو الحارث بن فهر؛ والأحلاف منهم وهم لعقة الدم: بنو عبد الدار، وبنو مخزوم، وبنو سهم، وبنو جمح، وبنو عدي". فأما الأول فإنهم تحالفوا على طيب تطيبوا به، والأخر تحالفوا على دم لعقوه. وقال هشام بن محمد الكلبي: الواصلون الذين انتهى إليهم الشرف من قريش في الجاهلية فوصلوه بالإسلام عشرة رهط من عشر أبطن: هاشم، وأمية، ونوفل، وعبد الدار وأسد، وتيم، ومخزوم، وعدي، وجمح، وسهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 326 تاريخ بني عبد مناف بن قصي ذكر البيهقي أنه كان أعظم ولد قصي، وبعده عبد الدار، ثم عبد العزى. وكان عبد مناف في الجاهلية عبد مناة، منسوب للصنم المشهور، ثم كره ذلك، فقيل: عبد مناف. وكان أبوه قصي قد أعطاه من رياسات قريش: الإمارة مكان المقدم على جيوشهم وكتائبهم، والرفادة فكان يطعم الحجاج في الموسم، والسقاية فكان له سقي الحجيج من بئر زمزم عند الكعبة. قال: وذهب شرفه كل مذهب، وصار أعظم بني قصي. وكان في زمان قباذ، سلطان الفرس، الذي تزندق واتبع مذهب مزدك، وعزل بني نصر عن الحيرة لأنهم أنفوا من ذلك المذهب، وولى عليها الحارث الكندي جد امرئ القيس الشاعر، وأمر الحارث أن يأخذ العرب المعدية من أهل نجد وتهامة بذلك. فلما انتهى إلى مكة راسل قريشا في الزندقة، فمنهم من تزندق - وجاء الإسلام ومنهم جملة يشار إليهم بذلك - ومنهم من امتنع؛ وكان رأس الممتنعين عبد مناف، جميع قومه وقال: صارت الأديان بالملك، وأذهبت نواميس الأنبياء والشرائع! أنا لا أتبع دينا بالسيف وأترك دين إسماعيل وإبراهيم! فبلغ ذلك الحارث، فكتب به إلى قباذ، فأمره أن ينهض إلى مكة ويهدم البيت، وينحر عبد مناف عنده، ويزيل رياسة بني قصي. فكره ذلك الحارث، وداخلته حمية للعرب فدارى عنهم، وشغل قباذ بغيرهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 327 وذكر الطبري أن اسم عبد مناف المغيرة، وكانت أمه قد أخدمته مناف الصنم، فقيل: عبد [مناف] . قال الزبير بن بكار: فنظر قصي فوجده يوافق عبد مناة بن كنانة، فحوله إلى عبد مناف. قال الطبري: وكان يقال له: قمر البطحاء. قال الأصفهاني في كتاب أفعل في الأمثال: "وساد الأربعة من أولاد عبد مناف: هاشم وعبد شمس ونوفل والطلب بعده، ولم يسقط لهم نجم، وجبر الله بهم قريشاً فقيل: "أقرش من المجبرين"؛ لأنهم كانوا سببا في جبر قريش، والتقرش: التجمع، وذلك بالإيلاف الذي صنعوه، وفدوا على الملوك بتجائرهم، فأخذوا منهم لقريش العصم، فأخذ لهم هاشم حبلا من ملوك الشام حتى اختلفوا بذلك السبب إلى أرض الشام وأطراف الروم، وأخذ لهم عبد شمس حبلا من النجاشي حتى اختلفوا بذلك السبب إلى أرض الحبشة، وأخذ لهم نوفل حبلا من ملك الفرس حتى اختلفوا بذلك السبب إلى أرض العراق وبلاد فارس، وأخذ لهم المطلب حبلا من ملوك حمير حتى اختلفوا بذلك السبب إلى بلاد اليمن". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 328 وقيل فيهم: "أوفد من المجبرين" لكثرة وفادتهم على الملوك. قال صاحب الكمائم: كانت قريش قد انقطعت عند البيت، وكانت العرب التي حولها تمنعهم من الخروج في طلب المعاش، ولم يكن لهم عيش إلا ما يأتي الموسم أيام الحج. فلما نشأ بنو عبد مناف المذكورون أخذوا العرب بالسياسة والمهاداة إلى أن انقادوا لهم، وفتحوا الطريق لسفارهم حيث شاءوا، فاخترعوا الإيلاف الذي ذكره الله عز وجل، فقال: "لإيلاف قريش إيلافهم رحلة الشتاء والصيف" (السورة) ، وقد تقدم في تاريخ خزاعة مدح مطرود الخزاعي لهم بذلك. ذكر هاشم بن عبد مناف وعقبه ذكر البيهقي وغيره أن اسمه عمرو، وقيل له: هاشم؛ لأنه لما رحل إلى الشام جاء معه بكعك كثير لم يكن لقريش به عهد، وقد توالى عليها القحط، فهشمه لهم في الرفادة وأطعمهم إياه، فقيل في ذلك: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 329 عمرو الذي هشم الثريد لمعشر ... بفناء مكة مسنتين عجاف قال البيهقي: وهاشم معدود في خطباء العرب وبلغائهم، وكان مولده بغزة من بلاد الشام. ولما رحل في شأن الإيلاف على قيصر، قال له قيصر: وما قدر الحاجة إليكم حتى نتكلف لكم هذه الذمة؟ قال: ليس كل من يحسن إليه الملك يكون الملك محتاجاً لما عنده، ولو كان ذلك لقل إحسان الملوك؛ ولأن نأتيك بوجه الضراعة والحاجة إليك خير من أن نأتيك بوجه الاستغناء عنك والدالة عليك! ففسر له كلامه فأعجبه، وأمضى له ما أحب. وهو كان أكبر ولد عبد مناف سنا وقدراً، وكانت له من رياسات قريش الرفادة والسقاية، ولم يكن له ولد ذكر غير: عبد المطلب بن هاشم وبنو هاشم كلها ترجع إليه. قال البيهقي: الصحيح في اسمه أنه شيبة، وعاش مائة وأربعين سنة. وذكر ابن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 330 قتيبة أن شيبة "كان عند أخواله بالمدينة، فقدم به عمه المطلب إلى مكة، فقالوا: عبد المطلب؛ ولزمه هذا الاسم". قال البيهقي: أما بنو هاشم فذهبوا في الشرف كل مذهب نبوة وخلافة وكثرة وشهرة. ومن كتاب الإنباه: "إن النبي عليه السلام قال: "إن الله اصطفى كنانة من بني إسماعيل، واصطفى من كنانة قريشاً، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم". ومن كتاب المعاقل: عن عائشة رضي الله عنها، عن النبي عليه السلام، عن جبريل قال: "فتشت مشارق الأرض ومغاربها، فلم أر بني أب أفضل من بني هاشم"؛ وهم الموصوفون بالأشراف. وذكر صاحب الكمائم أن عبد المطلب معدود في خطباء قريش وبلغائهم. ولما وفد وفدهم على سيف بن ذي يزن يهنئونه بأخذ ثأره من الحبشة والاستيلاء على اليمن، خلا معه سيف وبشره بأن النبي صلى الله عليه من ولده، ووهب له وخلع عليه، فخرج وقومه يهنئونه بما يبصرونه عليه وفي يده؛ فقال لهم تهنئوني بما تبصرون، وأنا أهنئ نفسي بما أودعه الملك خاطري مما لم تطلعوا عليه! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 331 ولما جاء ملك الحبشة صاحب الفيل إلى هدم الكعبة خرج له عبد المطلب، فحسب أنه يكلمه في البيت، فلم يقل له في ذلك حرفاً بل سأله في إبل له أغارت الحبشة عليها، فاستقصر همته في ذلك وقال: كنت أحسب أنك تكلمني في هذا البيت الذي هو شرفكم! فقال: إن الإبل لي فكلمتك فيها، وأما البيت فله رب غيري سيمنعه منك! فرد عليه الإبل، وأصبح عبد المطلب ممسكاً بباب الكعبة وهو يقول: لا غرو أن المرء يم ... نع رحله فامنع حلالك لا يغلبن محالهم ... وصليبهم كيداً محالك وانصر على آل الصلي_ب وعابديه اليوم آلك وكانت قريش لعظمتها في العرب، وتوارثها حماية البيت يقال لهم: آل الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 332 ومات عبد المطلب والنبي صلى الله عليه وسلم في ثمان سنين وهو الذي كان يكفله. ذكر بني عبد المطلب في المعارف: "ليس في الأرض هاشمي إلا من ولد عبد المطلب". وفي الشهاب، من كلام رسول الله صلى الله عليه: "من أولى رجلا من بني عبد المطلب معروفاً في الدنيا، فلم يقدر أن يكافئه، كافأته عنه يوم القيامة". قال ابن قتيبة: "ولد لعبد المطلب عشرة بنين وست بنات". ومن كتاب ابن فارس أن كل واحد من العشرة كان يأكل جذعة. ومن نسب ابن حزم: عبد المطلب وأبو طالب والزبير وعبد الكعبة والبيضاء - وهي أم حكيم توأمة عبد الله - وعاتكة وبرة وأروى وأميمة، أمهم جميعاً فاطمة بنت عمرو المخزومية. وحمزة والمقوم وحجل - واسمه المغيرة - وصفية، أمهم هالة الزهرية. والعباس وضرار أمهما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 333 قرية. والحارث وقثم وأبو لهب والغيداق. زاد على من عدهم غيره ثلاثة، وهم: عبد الكعبة وحجل وقثم. ويذكر منهم في تاريخ الإسلام: حمزة والعباس وصفية وأبو الزبير رضي الله عنهم. وعمات النبي صلى الله عليه كلهن روى لهن صاحب السيرة أشعاراً، إلا أنهن نازلات عن طبقة الاختيار. وكان [من أعمامه] في الحياة حين [بعث] النبي صلى الله عليه: أبو طالب فلم يؤمن به وكان يحبه ويكافح عنه، وأبو لهب وكان يعاديه. عبد الله بن عبد المطلب والد رسول الله صلى الله عليه، مات شاباً قبل أن يولد، ولم يكن له ولد غيره. وأنشد له ابن رشيق في العمدة: وأحور مخضوب البنان محجب ... دعاني فلم أعرف إلى ما دعا وجها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 334 بخلت بنفسي عن مقام يشينها ... فلست مريداً ذاك طوعا ولا كرها الزبير بن عبد المطلب ذكر البيهقي أنه كان من وجوه قريش المشار إليهم بالتعظيم؛ لأن ماله من شرف اتلبيت أعطى قوة في بدنه، وشجاعة في نفسه، وفصاحة في لسانه. وقد كان سيد حلف الفضول الذي عقدته قريش في دار عبد الله بن جدعان. فإن قريشاً كانت تتظالم في الحرم، فأنكر ذلك الزبير، وأبت نفسه الأبية الظلم، واستعان على ذلك مع ابن جدعان، فحلفوا على ألا يظلموا، وأن يتناصروا على الظالم. قال: وكان محبا في النبي صلى الله عليه، ولم يلحق نبوته، وذكره عليه السلام، فقال: "كان يرحمني". قال: ومن شعره قوله _ وينسب لعبد الله بن جعفر الطالبي الأصغر: إذا كنت في حاجة مرسلا ... فأرسل حليماً ولا توصه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 335 وإن باب أمر عليك التوى ... فشاور لبيباً ولا تعصه ولا تورد الدهر في مجلس ... حديثاً إذا أنت لم تحصه ونص الحديث إلى أهله ... فان الوثيقة في نصه وذكر صاحب المعارف انه "من رجالات قريش في الجاهلية، وأنه القائل: ولولا الحمس لم يلبس رجال ... ثياب أعزة حتى يموتوا" والحمس: قريش، من الحماسة في دينهم وهي الشدة والشجاعة. وقيل: الحمس: كنانة كلها. وأنشد له الحاتمي في حلية المحاضرة: إن القبائل من قريش وغيرها ... ليرون أنا هام هذا الأبطح ونزالنا فضلا على نظرائنا=فضل المهار على الطريق الأوضح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 336 وولده عبد الله بن الزبير في الصحابة. أبو طالب عبد مناف بن عبد المطلب ذكر الأزرقي في كتاب مكة أن أبا طالب ورث الرفادة وهي إطعام الحجاج. وأقامه في الإسلام أبو بكر ثم من بعده من ولاة الأمر. ومن صحيح مسلم: "قال العباس لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أبا طالب يحوطك وينصرك، فهل نفعه ذلك؟ قال: "نعم، وجدته في غمرات النار، فأخرجته إلى ضحضاح". ومنه: "أهون أهل النار عذاباً أبو طالب، وهو منتعل بنعلين يغلي منهما دماغه". وفي السيرة من نصرته النبي صلى الله عليه، وأشعاره في مخاطبة قريش من أجله، ما يطول ذكره. وأحسن مدحه له عليه السلام قوله من قصيدة أنشدها صاحب السيرة: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 337 وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ... ثمال اليتامى عصمة للأرامل يلوذ به الهلاك من آل هاشم ... فهم عنده في نعمة وتواصل كذبتم وبيت الله نقتل محمداً ... ولما نقاتل دونه ونناضل ولا ننتهي حتى نصرع دونه ... ونذهل عن أبنائنا والحلائل ومن المشهور أن النبي عليه السلام لما استسقى فسقي، وجاء الناس يصيحون: الغرق! الغرق! فرفع يديه وقال: "اللهم حوالينا ولا علينا"، فانجابت عن المدينة حتى صارت كالإكليل، ضحك حتى بدت نواجذه، ثم قال: "لله در أبي طالب لو كان حياً لأقررت عينه! من ينشدها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 338 قوله؟ فقام علي وقال: يا رسول الله، أردت قوله: وأبيض يستسقى الغمام بوجهه؟ قال: أجل". وكان صلى الله عليه حريصاً على إسلامه حتى نزلت "إنك لا تهدي من أحببت". ولما احتضر حرص به أن يقول الكلمة ليموت على الإسلام، وتشهد له بها، فقال: لولا أن تعيرني قريش لأقررت بها عينك! ومن المعارف: "مات أبو طالب قبل الهجرة بثلاث سنين وأربعة أشهر"، و"كان أعرج". وقال البيهقي: كان معدوداً في خطباء قريش. وذكر أن أبا جهل وغيره من مردة قريش قالوا له: كم تحامي عن محمد! إن كنت تعلم أن على الحق فصدقه واتبعه؛ فقال: الأنفة تمنعني أن أكون تبعاً لابن أخي، وأن أقر أن أبي كان ضالا، وكذلك أنا حتى هداني؛ والحمية تمنعني أن أسلمه إليكم. وذكر أنه كان يرى ابنه علياً يصلي، فيقول له: نعم ما تصنع! اتبع ابن عمك! وكانوا يحرضون به أن يصلي فيقول: والله لا علتني أبداً! يعني عجيزته عند السجدة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 339 وكان له أربعة أولاد: طالب ولا عقب له، وهو المذكور هنا لأنه لم يسلم؛ والثلاثة: عقيل وجعفر وعلي مذكورون في تاريخ الإسلام. وكان كل واحد من هؤلاء يزيد على الذي يليه عشر سنين. طالب بن أبي طالب من كتاب السيرة: "كان في المشركين الذين خرجوا من مكة في نصرة أهل بدر، فقالت قريش: والله لقد عرفنا يا بني هاشم، وإن خرجتم معنا، أن هواكم مع محمد، فرجع إلى مكة، وقال: يا رب إما يغزون طالب في مقنب من هذه المقانب فليكن المغلوب غير الغالب" وفقد فلم يوجد له خبر. وأنشد له صاحب السيرة من شعر يذكر فيه تألب قريش على النبي صلى الله عليه: فيا أخوينا عبد شمس ونوفلا ... فدى لكما لا تبعثوا بيننا حربا وما إن جنينا في قريش عظيمة ... سوى أن حمينا خير من وطئ التربا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 340 أبو لهب عبد العزى بن عبد المطلب من المعارف: "كان أحول. وقيل له أبو لهب لجماله، وأصابته العدسة فمات بمكة. وهو سارق غزال الكعبة وكان من ذهب". وذكر البيهقي أنه كان من أعدى عدو لرسول الله صلى الله عليه، وهو وامرأته حمالة الحطب بنت حرب بن أمية، كانت تضع الشوك في طريق رسول الله صلى الله عليه. وكان أبو لهب من خطباء قريش. وقال له أبو جهل: إن محمداً قد هجاك حين نزلت "تبت يدا أبو لهب وتب"، وأنت قدير على الكلام، فلم لا تهجوه؟ فقال: والله إن لساني حيث أردت إلا في جواب محمد، فاني أراه معقولا! قال: ولما كنت قضية بدر لم يخرج من المشركين فيها بل وجه بديلا عنه؛ ولما بلغه تأييد النبي صلى الله عليه حسده، ومات غماً عقب ذلك، وقبره في الثنية المشرفة على مكة في طريق حاج الشام، وبعض الناس يرجمونه. ومن نكت الماوردي: أنه أتى رسول الله صلى الله عليه، فقال: ماذا أعطى إن آمنت بك؟ قال: كما يعطى المسلمون؛ قال: مالي عليهم فضل! قال وأي شيء تبتغي؟ قال: تباً لهذا من دين، أن أكون أنا وهؤلاء سواء! فنزلت "تبت يدا أبي لهب وتب". قال: وذكره الله بكنيته لأنها أشهر من اسمه، ولأن اسمه كان عبد العزى، وهي صنم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 341 قال: ولما نزلت "وأنذر عشيرتك الأقربين" صعد الرسول صلى الله عليه وسلم على الصفا، فنادى: يا صباحا فاجتمعوا فقال: أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلا تخرج من صخرة بسفح هذا الجبل تريد أن تغير عليكم، صدقتموني؟ قالوا: نعم؛ قال: فاني نذير لكم بين يدي عذاب شديد! فقال أبو لهب: تباً لك آخر الدهر ما دعوتنا إلا لهذا! فنزلت السورة. وقيل: إنه كان إذا وفد وفد على رسول الله صلى الله عليه، انطلق إليهم أبو لهب فسألوه عنه، فيقول: إنه ساحر كذاب! فيرجعون عنه ولا يلقونه. فأتاه مرة وفد، وفعل معهم مثل هذا، فقالوا: لا ننصرف حتى نراه ونسمع كلامه؛ فقال أبو لهب: إنا من نزل نعالجه من الجنون، فبلغ الرسول صلى الله عليه ذلك، فاكتأب له، ونزلت السورة. وفي عقب أبي لهب شرف وخير كثير في الإسلام. ذكر عبد شمس بن عبد مناف وولده ذكروا أنه كان توأما مع هاشم وكان الخارج أولا هاشم، فقدر الله أن يكون بين أولادهما في الجاهلية والإسلام من المقاطعة والحرب ما ملئت به السير والتواريخ. وشرف هذا البيت دائر على العنابس والأعياص، فالعنابس من ولد عبد شمس شبهوا بالأسود لشجاعتهم. وسيدهم الذي له العقب النابه: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 342 حرب بن أمية بن عبد شمس كانت بيده العقاب، وهي راية قريش التي من كانت له ولي إمارة الحرب، وكان أمير قريش يوم الفجار الرابع الذي كان بين كنانة وقيس، والدائرة على قيس الذين فجروا بابتداء القتال في الأشهر الحرم. في هذا الانفجار قيد حرب ابن أمية وأخواه سفيان وأبو سفيان أنفسهم لكيلا يفروا، فسموا: العنابس. وذكر صاحب الكمائم أن حرب بن أمية وصف له طريق منقطع بسبب الجن، وأنها تعبث فيه ببني آدم. وكان لا يبالي من لقي، فركب فرسه وقال: والله لأضربن عليهم مكانهم ناراً، وأخذ الزند وسار إلى مكانهم، وحرق ما به من الأشجار والنبات، فقتلته الجن، وقالت فيه الشعر المشهور: وقبر حرب بمكان قفر ... وليس دون قبر حرب قبر وكان موته عظيماً على أهل مكة: خرجت نساء قريش حواسر يصحن: واحرباه! ومن ذلك اليوم صار النساء إذا ندبن أحداً قلن: واحرباه! تعظيما لأمر من يندبه، وتهويلا للمصيبة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 343 قال البيهقي: وهو من المعدودين في بلغاء قريش وفصائحهم: أرسل إليه عيينة بن حصن قائد غطفان يقول: إذا كنت شجاعاً فابرز إلي إذا ناديت باسمك في الحرب؛ فأجابه: إن كنت صادقاً في الشجاعة فاثبت إلي إذا برزت إليك! وقال له عبد المطلب: كم تنفس علينا وكم تفخر! فقال: إني أفخر عليكم بي وبإخوتي، وأفخر بكم على كل من وطئ الحصى! وابنه أبو سفيان ورث إمارة قريش بعده، وهو مذكور في تاريخ الإسلام. وبنته: أم جميل بنت حرب هي حمالة الحطب المذكورة في القرآن، وهي زوجة أبي لهب، وقد تقدم ذكرها في ترجمته. ومن النكت للماوردي: أنها كانت تحطب، فتلقي الشوك في طريق رسول الله صلى الله عليه. فلما نزلت "تبت يدا أبي لهب" وجاء فيها "وامرأته حمالة الحطب في جيدها حبل من مسد" أقبلت تولول وبيدها فهر، وهي تقول: مذمماً قلينا وأمره عصينا ودينه أبينا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 344 والرسول صلى الله عليه وأبو بكر رضي الله عنه في المسجد، فقال: يا رسول الله، إني أخاف أن تراك؛ فقال: إنها لن تراني، وقرأ قرآنا اعتصم به، فلم تره. فقالت: أخبرت أن صاحبك هجاني، فقال: لا ورب الكعبة ما هجاك! فولت فعثرت في مرطها وهي تقول: تعس من محمد! عقبة بن أبي معيط ذكوان بن أبي عمرو بن أمية. ذكروا أن أبا عمرو أخا حرب من العنابس؛ وقيل: إن ذكوان ولده؛ وقيل: مولاه. وفي عقبه نباهة. وكان عقبة أعدى عدو لرسول الله صلى الله عليه، فلما أسر يوم بدر قدمه ليضرب عنقه، فقال: أقتل من بين قريش صبرا؟ فقال عمر بن الخطاب: "حين قدح ليس منها"، وقال له رسول الله صلى الله عليه: "إنما أنت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 345 يهودي من أهل صفورية". فقال: من للصبية بعدي؟ قال رسول الله صلى الله عليه: "النار لهم بعدك"؛ ثم ضربت عنقه. وقيل له بمكة: إن محمداً قد نصرته الأوس والخزرج، فقال: لو نصره الثقلان - الإنس والجن - ما ازددت في تكذيبه إلا بصيرة؛ وإن الرياسة علينا قعدت به من جهة الدنيا، فجاء يطلبها بالآخرة! ومن الأعياص وهم رهط عثمان بن عفان رضي الله عنه ومروان بن الحكم والأشدق: أبو أحيحة سعيد بن العاص بن أمية كان يقال له: سيد البطحاء، وكان إذا اعتم لا يعتم أحد على صورة عمامته إجلالا له ومزية لعظم قدره؛ ولذلك قيل: أبو أحيحة من يعتم عمته ... يضرب ولو كان ذا مال وذا عدد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 346 وفي عقبه نباهة. ومن بني ربيعة بن عبد شمس: عتبة بن ربيعة ذكر البيهقي أنه ساد في قريش. ولما كان أبو سفيان وارث الإمارة عن أبيه غائباً مع العير التي جاءت من الشام، أمرت قريش على النفير الذي نهز لنصرته عتبة، وجرى المثل "لا في العير ولا في النفير". وقتل عتبة يوم بدر عبيدة بن الحارث بن المطلب، وكان قتله فاجعاً لقريش، وبكته ابنته هند أم معاوية ورثته، ولم تزل تبكيه حتى قتل حمزة بن عبد المطلب يوم أحد، فأكلت من كبده ثأراً بأبيها وبابنها حنظلة بن أبي سفيان. قال صاحب الكمائم: وكان عتبة معدوداً في فصحاء قريش. قال له أبو جهل وقد رأى منه تأخراً يوم النفير: أما لو كنت قائد النفير ما تأخرت؛ فقال: أما لو كنت ممن يقدمك ما سفهت رأيك، وإني لبصير بموضع التقدم ومكان التأخر، ولذلك قدموني. أخوه شيبة بن ربيعة قالوا: لم يسد رئيس وهو فقير إلا شيبة بن ربيعة؛ وقتله يوم بدر حمزة بن عبد المطلب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 347 قال البيهقي: وكان غير مقصر عن أخيه في البلاغة: قيل له يوم بدر والقتل يعمل في أصحابه: سقتم أنفسكم إلى النحر؛ فقال: لأن نسوقها خير من أن تساق. بنو نوفل بن عبد المطلب وساد في الجاهلية من بني نوفل بن عبد المطلب: المطعم بن عدي بن نوفل كان ممن يقدم في قريش، وساد بجوده وبيته. وذكر عنه صاحب الكمائم أنه كان نسابة، وأن ابنه جبير بن مطعم الصحابي ما أخذ علم النسب إلا منه. وكان له حظ من البلاغة. ولما خرج النبي عليه السلام إلى الطائف لينصروه فلم يفعلوا ورجع إلى مكانه، لم يقدم أحد على إجارته غير المطعم؛ فقال له أحد بني نوفل: لا تضرم ناراً قد خمدت؛ فقال: يا بني إن خمدت والله صار بنو عبد مناف رماداً! ثم أجاره، وقال له: انظر لنفسك في الخروج من بين أظهر هؤلاء القوم؛ فإن الواحد كم يغالب الجميع؟ فنظر رسول الله صلى الله عليه في شأن الهجرة للمدينة. بنو عبد الدار بن قصي بن كلاب ومن بني عبد الدار بن قصي بن كلاب أعلام في الإسلام، ولهم ذكر ورياسة في الجاهلية. قال الماوردي: إن قوله تعالى "إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون" نزلت في بني عبد الدار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 348 وذكر الأزرقي أن قصياً كان يحب ابنه عبد الدار، فأراد أن يبقى له ذكراً مع أخيه عبد مناف، وكان قد ذهب شرفه كل مذهب، فأعطاه من أشطار رياسة قريش الحجابة للبيت، ودار الندوة التي كانوا يجتمعون فيها للأواء واللواء. وورث مفتاح البيت منهم بنو شيبة بن عثمان بن أبي طلحة بن عبد الله بن عبد العزى بن عثمان ابن عبد الدار إلى اليوم؛ لأن النبي صلى الله عليه دفع مفتاح الكعبة يوم الفتح إلى شيبة وقال: "خذوها يا بني [أبي] طلحة خالدة مؤبدة لا يأخذها أحد منكم إلا ظالم". والعبدريون منسوبون إلى عبد الدار. هذا ومنهم أعلام كثيرة في الإسلام، ومنهم في الجاهلية: النضر بن الحارث بن كلدة ابن علقمة بن عبد مناف بن عبد الدار. ذكر ابن حزم أنه كان شديد العداوة لرسول الله صلى الله عليه، فأخذ يوم بدر، فقتله صلى الله عليه بالصفراء منصرفه من بدر؛ وتولى ضرب عنقه علي بن أبي طالب رضي الله عنه. قال البيهقي: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا شرع في أن يتلو سورة أو آية جمع النضر لنفسه جماعة، وكان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 349 قد ابتاع كتب الدجالين الذين يقرأونها على العامة في الخلق، فإذا قرأها على جماعته قال: أليس هذا أحسن مما يسمعه محمد أصحابه، فنزلت في حقه "ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله". وذكر الماوردي في كتاب النكت أنه أنزلت في النضر بضع عشرة آية، منها: "اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك.."، ومنها: "عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب"، ومنها: "سأل سائل..". بنو أسد بن عبد العزى ومن بني أسد بن عبد العزى بن قصي رهط الزبير بن العوام رضي الله عنه: عثمان بن الحويرث بن أسد ذكر ابن حزم أنه وفد على قيصر، وتوصل إلى أن ملكه على مكة، فأعلن ابن عمه الأسود بن المطلب بانكار ذلك وتابعته قريش، فانصرف عثمان إلى قيصر، فدست قريش إلى عمرو بن جفنة ملك عرب الشام أن يريحهم منه، فوضع له من سمه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 350 قال البيهقي: لما رجع إلى الشام صنع له بنو جفنه طعاماً، ووضعوا السم أمامه، فلم ينصرف إلا وقد وجد أثره وأيقن بالموت. فقال له أحد من حضره: بئس ما صنعت، لا أنت بالملك ولا أنت بروحك! فقال: هل كان لي بد من الموت؟ ولأن أموت واسمي في أسماء الملوك خير من أن يكون في أسماء أهل اللؤم والعجز والفضول! ثم قضى نحبه. ومنهم: الأسود بن المطلب بن أسد كان من سادات قريش في الجاهلية وشعرائهم، وهو الذي صد ابن عمه عثمان المذكور عن ملك مكة. وذكر صاحب السيرة أنه "كان قد أصيب له يوم بدر ثلاثة من ولده، وكان يحب أن يبكي عليهم وكانت قريش قد حرمت البكاء على قتلاها حتى تصيب بثأرها. فبينما هو كذلك إذ سمع نائحة في الليل، فقال لغلام له وقد ذهب بصره: انظر هل أحلت قريش البكاء والنحيب على قتلى بدر، لعلي أبكي على زمعة - وهو أحدهم - فإن جوفي قد احترق! فقال: إنها تبكي على بعير لها أضلته؛ فقال: أتبكي أن يضل لها بعير ... ويمنعها من النوم السهود الجزء: 1 ¦ الصفحة: 351 فلا تبكي على بكر ولكن ... على بدر تقاصرت الجدود ألا قد ساد بعدهم رجال ... ولولا يوم بدر لم يسودوا" ومن الاستيعاب أن الأسود كان من المستهزئين الذين قال الله فيهم "إنا كفيناك المستهزئين". وذكروا أن جبريل رمى في وجهه بورقة فعمي. ومنهم: ورقة بن نوفل بن أسد ذكره صاحب المعارف فيمن كان على غير دين العرب في الجاهلية؛ لأنه "رغب عما كانت تعبده من الأوثان، وطلب الدين فتنصر. وذكرت له خديجة شيئاً من أمر النبي عليه السلام، فقال: إنه ليأتيه الناموس الأكبر الذي يأتي موسى". وذكر البيهقي أنه قال للنبي صلى الله عليه حين أخبره بما رأى: هذا الناموس الذي أنزله الله على موسى؛ يا ليتني فيها جذع! يا ليتني معك حين يخرجك قومك! فقال: أو مخرجي هم؟ قال: نعم، لم يأت رجل قط بما جئت به إلا عودي وكذب، وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 352 وتروى له الأبيات المذكورة في ترجمة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أولها: لا شيء مما ترى تبقى بشاشته ... يبقى الإله ويفنى المال والولد وأنشد له صاحب السيرة شعراً جيمياً يذكر فيه النبي عليه السلام. ومات قبل أن يسلم، وهو ابن عم خديجة أم المؤمنين. تراجم بني كعب بن لؤي بن غالب الذين تقدمت عليهم الإحالة في قريش البطاح بنو تيم بن مرة بن كعب رهط أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وطلحة بن عبد الله. ساد منهم في الجاهلية: عبد الله بن جدعان ابن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم. ذكر ابن حزم أنه كان على بني تيم في يوم الفجار، ووصفه بسيد قريش. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 353 ومن كتاب أفعل للأصفهاني أنه يضرب به المثل في الجود، فيقال: "أقرى من حاسي الذهب" لأنه كان لا يشرب الماء إلا في آنية الذهب. وكان قد أصاب كنزاً، فكثر منه بذله ونفقته، وهو أول من أظهر الرفاهية. وفيه يقول أمية بن أبي الصلت الثقفي، وكان مداحاً له: له داع بمكة مشمعل ... وآخر فوق دارته ينادي إلى ردح من الشيزى عليها ... لباب البر يلبك بالشهاد وكان يقال: لو بقي أحد لسخاء لبقي ابن جدعان. وفي الحديث: أن عائشة رضي الله عنها قالت: يا رسول الله، ابن جدعان كان في الجاهلية يصل الرحم، ويطعم المساكين، فهل ذلك نافعة؟ فقال: "لا تنفعه لأنه لم يقل يوماً: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين". ومن كتاب حلى العلا لابن جبر القيرواني: أن الجن نعته قبل أن يعلم بموته في أرض بعيدة بشعر أوله: ألا هلك السيال غيث بني فهر ... وذو الباع والعز القديم وذو الفخر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 354 ومن كتاب قطب السرور للرقيق: كان ابن جدعان مغرى بالمنادمة، ومن قوله: شربت الخمر حتى قال صحبي ... أليس من الغواية بالمفيق؟ وحتى ما أوسد في منام ... أنام به سوى الثوب السحيق وحتى أغلق الحانوت رهني ... وأنكرت العدو من الصديق ثم إن قريشاً اجتمعت في حمالات سئلتها، فقال بعضهم: لو بعثتم لابن جدعان، فقيل: ذلك رجل مشغول بشرابه! ثم بعثوا له، فقال لأصغر ولده: لا حق أوجب من حق الكأس، فاخرج لعمومتك فاحمل عني مثل ما يحمل الجميع، ففعل؛ وقال القوم: نعم العون على الحروب المال! بنو مخزوم بن يقظة بن مرة بن كعب يقال لهم: ريحانة قريش؛ وهم رهط خالد بن الوليد سيف الله في الأرض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 355 الوليد بن المغيرة ابن عبد الله بن عمرو بن مخزوم. من الكمائم: كان قد ساد في قريش ببيته وماله. وهو سيد بني مخزوم في الجاهلية، وولدها خالد سيدها في الإسلام. والوليد أحد الرجلين في قوله تعالى حكاية عن قريش "لولا [نزل] هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم". وكان عند قريش بليغا فصيحا، وأراد معارضة القرآن، فأتى بالهذيان. ومن النكت للماوردي أنه الذي فكر وقدر، ثم قال: إن هذا إلا سحر يؤثر، إن هذا إلا قول البشر. وقال ابن عباس: نزلت في الوليد بن المغيرة مائة وأربع آيات، منها: "لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ثم رددناه أسفل سافلين"؛ ومنها: (حلاف مهين". وعرض على الرسول مالا، وحلف أن يعطيه إياه على أن يرجع عن دينه. وفيه نزلت "ويل لكل همزة لمزة" (السورة) . وكان له زنمة كزنمة الشاة أسفل أذنه. وفيه نزلت "ذرني ومن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 356 خلقت وحيدا وجعلت له مالا ممدوداً وبنين شهوداً ومهدت له تمهيداً" مهد له المال والولد والرياسة في قومه، ولم يزل يرى النقص في ماله وولده، وكان له اثنا عشر ولداً. وفيه، وفي العاص بن وائل، والأسود بن المطلب، وأمية بن خلف نزلت "قل يا أيها الكافرون" (السورة) : لقوا رسول الله صلى الله عليه، فقالوا: يا محمد، هلم فلنعبد ما تعبد، وتعبد ما نعبد، ونشترك نحن وأنت في أمرنا كله، فإن كان الذي جئت به خيراً مما في أيدينا شركناك فيه وأخذنا بحظنا منه، وإن كان الذي بأيدينا خيراً مما بيدك كنت قد شاركتنا في أمرنا وأخذت بحظك منه. ابنه عمارة بن الوليد هو من شعراء الأغاني، ومن القوم الذين قيل فيهم: أزواد [الركب] ؛ لأنهم كانوا إذا سافروا مع أحد لم يحوجوه إلى زاد. وأنشد له صاحب قطب السرور: نديمي قد خف الشراب ولم أجد ... له سورة في عظم رأس ولا يد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 357 نديمي هذا عيهم فاشربا به ... فلا خير في شرب الشراب المصرد وعيهم: جمل له. وشرب مع مسافر بن أبي عمرو بن أمية، فقال للقينة غني: خلق البيض الحسان لنا ... وجياد الخيل والحبر كابراً كنا أحق بها ... حين صيغ الشمس والقمر فقال مسافر: غني: هل أخو كأس موقرها ... وموق صحبه سكره ومحييهم إذا شربوا ... ومقل فيهم هذره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 358 خلق البيض الحسان لنا ... وجياد الخيل والحبره كابراً كنا أحق بها ... كل شيء تابع أثره قال الرقيق: وكان فاتكاً غزلا معجبا بالنساء. وسافر مع عمرو بن العاص في البحر إلى النجاشي، فراود زوج عمرو، ودفعه يوماً عن السفينة في البحر فنجا عمرو بسباحته. واضطغن له ذلك إلى أن أعلمه عمارة بقلة عقله أن زوج النجاشي ملك الحبشة قد علقت به، وأنه يدخل عليها؛ فقال: إن كنت صادقاً فقل لها تدهنك من دهن النجاشس! ففعل ذلك، وأعطته قارورة، فجاء بها إلى عمرو وأعطاه منها. فأعلم عمرو النجاشي وأراه الدهن. فدعا بالسواحر، فنفخن في إحليله، فهام وصار في عداد الوحش. وفي ذلك يقول عمرو: إذا كنت ذا بردين أحوى مرجلا ... فلست براع لابن عمك محرما إذا المرء لم يترك طعاماً يحبه ... ولم ينه قلباً غاوياً حيث يمما قضى وطراً منه يسيراً وأصبحت ... إذا ذكرت أفعاله تملأ الفما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 359 أبو جهل عمرو بن هشام بن المغيرة المخزومي كان يكنى أبا الحكم، وقال فيه حسان بن ثابت: الناس كنوه أبا حكم ... والله كناه أبا جهل وذكر ابن حزم أن أباه هشاماً كان على بني مخزوم يوم الفجار، وأرخت قريش من موت هشام لعظمته عندهم. قال: وكان أبو جهل ذا عارضة في قريش، وكان رسول الله صلى الله عليه يقول: "اللهم أيد الإسلام بعمر أو بأبي جهل". وكان أعدى عدو لرسول الله صلى الله عليه. وقتل يوم بدر؛ وقيل: قتلته الملائكة. وقد ذكر الماوردي أنه نزل في أبي جهل أربع وثمانون آية. ولما مات القاسم ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أبو جهل: بتر محمد، فليس له من يقوم بأمره من بعده؛ فنزلت "إن شانئك هو الأبتر". وقال الماوردي: إنه لما تآمرت قريش في شأن الرسول صلى الله عليه في دار الندوة، فقال قائل: قيدوه واحبسوه في حيث يتربص به ريب المنون؛ وقال أبو البختري: أخرجوه منكم مطروداً؛ فقال أبو جهل: ما هذا برأي، ولكن ليجتمع عليه من كل قبيلة رجل، فيضربونه ضربة رجل واحد، فيرضى حينئذ بنو هاشم بالدية! فنزلت "وإذ يمكر بك الذين كفروا" (الآية) ، فخرج عليه السلام إلى الغار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 360 وقال الماوردي: في أبي جهل وأتباعه: "فويل للقاسية قلوبهم"؛ وفيه نزلت: "كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى"؛ وفيه نزلت: "أرأيت الذي ينهى عبداً إذا صلى": حلف إن رأى رسول الله صلى الله عليه ليطان رقبته، وليعفرن وجهه؛ فجاءه وهو يصلي ليطأ رقبته، فأراه الله بينه وبينه خندقاً من نار وهواء وأجنحة، فنكص. وقال صلى الله عليه: "لودنا مني لاختطفته الملائكة عضواً عضواً". قال الأصفهاني في كتاب الأمثال: وأما قولهم: "أخنث من مصفر استه" فهو مثل من أمثال الأنصار كانوا يكيدون به المهاجرين من بني مخزوم، وكانوا يعنون بذلك أبا جهل، وقد كان يردع أليتيه بالزعفران لبرص كان هنالك، فادعت الأنصار إنما كان يطليها بالزعفران تطييبا لمن يعلوه لأنه كان مستوها. ولذلك قال فيه عتبة بن ربيعة: سيعلم مصفر استه أينا انتفخ سحره". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 361 قال البيهقي: والأبيات التي أنشدها الأصفهاني للرجل القرشي الذي لم يحب ذكره تروى لأبي جهل، وهي: يا جواري الحي عدننيه ... أخواتي لا تلمننيه كيف التذ الحياة وقد ... حجبوا عني معلليه ثم يلحوني على رجل ... لو سقاني سم ساعتيه لم أقل: إني مللت ولا ... إن من أهواه ملنيه وقيل: إنه كان إذا هاج عليه ذلك الداء عمد إلى حجارة الرمضاء، فكوى بها دبره وقال: والله لا علاك ذكر! وكان أحول. هبيرة بن أبي وهب ابن عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم. ذكر ابن حزم أنه فر من الإسلام، فمات بنجران. وكانت تحته أم هانئ بنت أبي طالب، ومنها ولده جعدة بن هبيرة ولاه علي خراسان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 362 ومن السيرة النبوية أن هبيرة مات كافراً، وقال لما بلغه إسلام زوجه المذكورة: وتزعم أني إن أطعت عشيرتي ... سأردى وما يرديك إلا زيالها وإني لحام من وراء عشيرتي ... إذا كان في تحت العوالي مجالها وإن كلام المرء في غير كنهه ... لكالنبل ترمى ليس فيها نصالها فان كنت قد تابعت دين محمد ... وقطعت الأرحام منك حبالها فكوني على أعلى سحيق بهضبة ... ململمة غبراء يبس بلالها بنو عدي بن كعب رهط عمر بن الخطاب وسعيد بن زيد رضي الله عنهما. زيد بن عمرو بن نفيل بن عبد العزى ابن رياح بن عبد الله بن قرك بن رزاح بن عدي. من المعارف: "كان قد رغب عن عبادة الأوثان وطلب الدين، فقتلته النصارى بالشام". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 363 وكان رسول الله صلى الله عليه قد حبب له الانفراد، فكان يخلو في شعاب مكة. قال: "فرأيت زيد بن عمرو في بعض الشعاب، فجلست إليه، وقربت له طعاماً في لحم، فقال: يا ابن أخي لا آكل من هذه الذبائح". وقال في تجنب عبادة الأصنام: فلا عزى أدين ولا ابنتيها ... ولا صنمي بني عمرو أزور أرباً واحداً أم ألف رب ... أدين إذا تقسمت الأمور ومن الاستيعاب: "قال سعيد بن زيد لرسول الله صلى الله عليه: إن زيداً كان كما رأيت وبلغك، أفأستغفر له؟ قال: نعم، استغفر له فإنه يبعث أمة وحده". بنو جمح بن عمرو بن هصيص بن كعب أمية بن خلف بن حذاقة بن جمح سيد بني جمح في الجاهلية، وكان من أعداء رسول الله صلى الله عليه، وكان يعذب بلالا ليرده عن الإسلام أشد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 364 العذاب، فقتله بلال يوم بدر، وهنأه أبو بكر رضي الله عنه بقوله: هنيئاً زادك الرحمن خيراً ... فقد أدركت ثأرك يا بلال وذكر ابن حزم أنه "كان يعرف بالغطريف". قال الماوردي: وأمية بن خلف من القوم الذين نزلت فيهم "قل يا أيها الكافرون". وقال البيهقي: إنه قال: لئن بقيت أنا وأخي لمحمد لنصيرن عزه ذلا، ووجوده عبرة! فقدر الله أن قتل هو يوم بدر، وقتل النبي صلى الله عليه أخاه أبي بن خلف يوم أحد. أبو عزة عمرو بن عبد الله ابن أهيب بن حذافة بن جمح. من شعراء المشركين المشهورين. ذكر العسكري في الأمثال النبوية أنه كان يهجو رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويحرض الكفار عليه، فأخذ أسيراً يوم بدر، فسأل النبي صلى الله عليه أن يمن عليه، فأطلقه. ثم حضر أحداً مع كفار قريش، وكان يحرض أيضاً على النبي صلى الله عليه، فأخذ أسيراً فأعاد السؤال، فقال صلى الله عليه: "كلا لا تتحدث بالأبطح، وتفتل سبالك، وتقول: خدعت محمداً مرتين"؛ وقال: "لا يلسع المؤمن من حجر مرتين". وأمر به فضربت عنقه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 365 وذكر البيهقي أن أهل مكة قالوا له حين عاد: كيف أفلت من محمد؟ قال: خدعته باللسان الذي هجوته! بنو سهم بن عمرو بن هصيص رهط عمرو بن العاص داهية قريش. قيس بن عدي بن سعد بن سهم من الكمائم أنه كان سيد بني سهم في الجاهلية. ولما احتضر قيل له: ما تورث ابنك عبد الله؟ قال: السودد ووراثة الأشراف والمال ووراثة العوام. واتفق أن ساد بعده ابنه عبد الله، وزاد على أبيه. وهو كان على بني سهم يوم الفجار. بنو زهرة بن كلاب بن مرة بن كعب رهط عبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص رضي الله عنهما. الأسود بن عبد يغوث ابن وهب بن عبد مناف بن زهرة. وهو ابن أخي آمنة بنت وهب أم النبي صلى الله عليه. وذكر البيهقي أنه كان شديد العداوة لرسول الله صلى الله عليه، وقيل له: أنت أولى الناس بإتباع محمد ونصرته؛ فقال: والله ما فعلت ذلك وما كان بين جنبي قلب! بينا نقول: ابن أختنا، نصير إلى أن نقول: رسول الله، ما على هذا صبر! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 366 قال ابن حزم: كان الأسود من المستهزئين، وقتله جبريل عليه السلام بمكة. سوداء بنت زهرة الكاهنة من الروض الأنف: "لما ولدت رآها أبوها زرقاء شيماء، فأمر بوأدها - وكانوا يئدون من البنات من كانت على هذه الصفة - فأرسلها إلى الحجون لتدفن هنالك. فلما حفر لها الحافر، وأراد دفنها سمع هاتفاً يقول: لا تئد الصبية! وخلها في البرية! فالتفت فلم ير شيئاً؛ فعاد، فهاد الهاتف. فرجع إلى أبيها وأخبره فقال: إن لها شأناً! وتركها، فكانت كاهنة قريش. وهي التي قالت يوماً لبني زهرة: إن فيكم نذيرة أو من تلد نذيرا، فاعرضوا علي نساءكم! فعرضوا عليها، فقالت في كل واحدة منهن قولا ظهر بعد حين؛ ثم عرضت عليها آمنة بنت وهب، فقالت: هذه النذيرة أو ستلدين نذيراً"؛ فولدت رسول الله صلى الله عليه. بنو عامر بن لؤي بن غالب ومن بني عامر بن لؤي بن غالب من قريش البطاح: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 367 عمرو بن عبد ود ابن أبي قيس بن عبد ود بن نصر بن مالك بن حسل بن عامر، فارس قريش الذي قتله علي رضي الله عنه يوم الخندق، ولا عقب له. وفيه قيل: عمرو بن ود كان أول فارس ... جزع المذاد وكان فارس أليل وقالت أخته ترثيه، وأنشد ذلك صاحب زهر الآداب: لو كان قاتل عمرو فيه قاتله ... لقد بكيت عليه آخر الأبد لكن قاتله من لا يعاب به ... وكان يدعى قديماً بيضة البلد من هاشم في ذراها وهي صاعدة ... إلى السماء تميت الناس بالحسد قوم أبى الله إلا أن تكون لهم ... مكارم الدين والدنيا بلا أمد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 368 قريش الظواهر وأما قريش الظواهر فإنهم كانوا بادية لقريش البطاح، وكانت منازلهم في ظواهر مكة. قال البيهقي: وظواهر المدينة ما كان منها على أقل من مرحلة. وكان من منازل قريش الظواهر: نعمان بين مكة والطائف، وحنين، والجعرانة. قال: ولما جاء الإسلام انتقل من أراد من قريش إلى مكة وغيرها من البلاد، وبطل ذلك الحكم الذي كان في الجاهلية. قال ابن حزم: وقريش الظواهر هم: بنو معيص بن عامر بن لؤي بن غالب بن فهر، و بنو الأدرم بن غالب، وبنو محارب بن فهر، وبنو الحارث بن فهر؛ حاشا من ذكرتهم في قريش البطاح. بنو معيص وبنو محارب قال ابن حزم: فأما بنو معيص وبنو محارب فكان يقال لهم الأحربان من أهل تهامة لشدة طبعهما. ولبني محارب نباهة، وأنبههما في الجاهلية: الخطاب بن مرداس ابن كبير بن عمرو بن حبيب بن عمرو بن شيبان بن محارب. ذكر ابن حزم أنه كان رئيس بني محارب يوم الفجار، وكان يأخذ المرباع كما تأخذه الملوك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 369 وولده ضرار بن الخطاب شاعر قريش وفارسها، ولكنه أسلم فيذكر هنالك. بنو الأدرم قال ابن قتيبة: "وأما بنو الأدرم فهم [من] أعراب قريش، وليس منهم بمكة أحد، وفيهم يقول الشاعر: إن بني الأدرم ليسوا من أحد [ليسوا إلى قيس وليسوا من أسد] ولا توفاهم قرسش في العدد" وذكر ابن حزم أن منهم هلال بن خطل الشاعر. هلال بن خطل قال البيهقي: كان قد أشقاه الله تعالى، فحبب له إبليس بغض النبي صلى الله عليه، وكان له قينتان قد حفظهما هجوه، فإذا شرب مع ندمائه أمرهما أن يغنيا بذلك، ويقول: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 370 لا أجد لذة فوق التلذذ بهجاء ابن [أبي] كبشة فعل الله به وصنع. فأمر النبي صلى الله عليه أن يقتل يوم فتح مكة ولو وجد متعلقاً بأستار الكعبة، فقتل في ذلك اليوم وهو متعلق بها. قال: وهو القائل: وإنما أعجب من معشر ... قد أهلكوا الأنفي في واحد ففرقة تحسبه صادقاً ... وفرقة تدعوه بالجاحد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 371 تاريخ السائة من بني كنانة وهم البطون الذين كانوا في ضواحي مكة. قال البيهقي: ومن منازلهم في طريق مكة شامة وطفيل: جبلان ذكرهما بلال في قوله: وهل أردن يوماً مياه مجنة؟ ... وهل يبدون لي شامة وطفيل؟ قال: ومجنة آبار لكنانة بالقرب منهما، وكان بها سوق للعرب. وذكر ياقوت أن "مجنة كانت منزلا للدئل من كنانة". قال البيهقي: ومن منازل كنانة في طريق الطائف معدن البرم التي تحمل إلى الآفاق، وفي طريق العراق وادي نخلة: وفيه قرى ومزارع، بينه وبين عرفات مرحلة. ولهم فيما بين الحرمين: الأبواء وهو جبل، وودان وكان يختص بها منهم بنو ضمرة، والفرع وواديه يصب في ودان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 372 وقد دثرت كنانة من تلك الجهات، وبها الآن العلويون، وبنو حرب من زبيد من اليمن. بنو مالك بن كنانة قال ابن حزم: يقال لهم: الحي الممنوع، ومنهم بنو فراس. ذكر صاحب العقد أنهم "أشجع بيت في العرب، وفيهم قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه لأهل الكوفة: لوددت أن لي بمائة منكم عشرة من بني فراس". جذل الطعان الفراسي عمرو بن قيس، شاعر فارس جاهلي، عرف بجذل الطعان لثباته للرماح مثل الجذل. وأنشد له صاحب الكمائم: لقد علمت قريش أن قومي ... كرام الناس إن ذكروا الكراما وكنا الناسئين على معد ... شهور الحل نجعلها حراما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 373 قال هذا لأن بني فقيم من بني مالك بن كنانة كانوا النسأة الذين ذكر الله شأنهم في قوله تعالى "إنما النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاماً ويحرمونه عاماً". كان القلمس سيد بني فقيم يقف وينادي: أنا الذي لا يرد لي قول، ولا يعصى لي أمر، وقد حللت شهر كذا من الأشهر الحرم، وحرمت كذا من أشهر الحلال! فتتبعه على ذكر ذلك سائر العرب، ويكون ذلك في موسم الحاج. قال ابن حزم: القلمس سيدهم، وابن خمسة سادة في نسق نسأوا الشهور. ريطة بنت جذل الطعان من واجب الأدب: يقال إنها الظعينة التي حماها ربيعة بن مكدم، وكان الذي أغار عليها دريد بن الصمة. واتفق أن دريدا أسرته بنو كنانة، فوقعت عينها عليه، فقالت: سنجزي دريداً عن ربيعة فعلة ... وكل سيجزى بالذي كان قدما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 374 سنجزيه نعمى لم تكن بصغيرة ... بإعطائه الرمح الطويل المقوما فقد أدركت كفاه فينا جزاءه ... وأهل بأن يجزى الذي كان أنعما فأطلقوه ولحق بقومه، فلم يزل كافاً عن غزوهم. ربيعة بن مكدم بن جذل الطعان من الأغاني: المعروف في الجاهلية بحامي الظعائن، "أحد فرسان مضر المعدودين وشجعانهم. قتله نبيشة بن حبيب السلمي يوم الكديد"، لقيه مع ظعن من قومه فحماهن، فرماه نبيشة، فقال للظعائن: أوصعن ركابكن حتى تنتهين إلى البيوت، فاني [ميت] لما بي، وسوف أبقى دونكن لهم على العقبة، واعتمد على رمي، فلن يقدموا عليكن ما أقمت مكاني؛ فأوضعن ونجون. وكانت القضية على ما قدره، ولم يتجاسر أحد أن يقربه وهو معتمد على رمحه وقد مات. ولا يعلم قتيل حمى ظعائن قبله، وكان يومئذ غلاما. ولم يقدم عليه القوم إلى أن قال نبيشة: إنه مائل العنق، وما أظنه إلا قد مات! فرمى فرسه فقمصت، فوقع عنها ميتاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 375 وقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لعمرو بن معدي كرب: أخبرني عن أشجع الناس؛ فقال: ربيعة بن مكدم، وكان قد طارده، فطرده ربيعة، وأسره وجز ناصيته، وقال له: إني أنفس بمثلك عن القتل لما رأى من شجاعته وفروسيته. وقد ذكر قضيته في حماية الظعائن الأصفهاني في كتاب أفعل؛ وفيها طول، وتلخيصها أنه قتل كل من تعرض له من الفرسان في شأن الظعائن من أصحاب دريد بن الصمة إلى أن انكسر رمحه، ولحقه دريد وقد دنا من حيه، ووجد أصحابه قد قتلوا، فقال: أيها الفارس، إن مثلك لا يقتل، ولا أدري معك رمحاً والخيل ثائرة بأصحابها، فدونك هذا الرمح، فاني منصرف إلى أصحابي فمثبطهم عنك! فانصرف دريد، وقال لأصحابه: إن فارس الظعائن قد حماها، وقتل أصحابكم، وانتزع رمحي، ولا مطمع لكم فيه فانصرفوا! وقال دريد: ما إن رأيت ولا سمعت بمثله ... حامي الظعائن فارساً لم يقتل أردى فوارس لم يكونوا نهزة ... ثم استمر كأنه لم يفعل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 376 متهلل تندى أسرة وجهه ... مثل الحسام جلته كف الصيقل يزجى ظعائنه ويسحب ذيله ... متوجها يمناه نحو المنزل وترى الفوارس من مخافة رمحه ... مثل البغاث خشين وقع الأجدل وقال ربيعة بن مكدم: إن كان ينفعك اليقين فسائلي ... عني الظعائن يوم الأخرم إذ هي لأول من أتاها نهزة ... لولا طعان ربيعة بن مكدم إذ قال لي أدنى الفوارس ميتة ... خل الظعائن طائعاً لا تندم فهتكت بالرمح الطويل إهابه ... فهوى صريعاً لليدين وللفم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 377 ومنحت آخر بعده جياشة ... نجلاء مثغرة كشدق الأضجم ولقد شفعتهما بآخر ثالث ... وأبى الفرار لي الغداة تكرمي قال البيهقي: والأخرم: جبل مشهور في بلاد كنانة. وقال ياقوت: "الأخرم: عدة مواضع، منها جبل في ديار بني سليم". بنو ليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة يعمر بن عامر الشداخ الذي ذكر البيهقي أنه كان أمير كنانة في الجاهلية، وله الشعر والفصاحة والكرم، وهو الذي قام في نصرة قصي حتى حصل له مفتاح الكعبة حين باعه منه أبو غبشان الخزاعي. وقال ابن حزم: لقب بالشداخ لأنه شدخ من قريش وخزاعة الدماء التي كانت بسبب حروبهم على البيت، أي هدرها، وتمم الصلح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 378 وهو من شعراء الحماسة، له في الأبيات المشهورة التي عير بها خزاعة في تحولها عن قريش، ورغبتهم إليه في كل ساعة في الدخول بينهم: فقاتلي القوم يا خزاع ولا ... يأخذكم في قتالهم فشل القوم أمثالكم لهم شعر ... في الرأس لا ينشرون إن قتلوا أكلما قاتلت خزاعة تح ... دوني كأني لأمهم جمل بلعاء بن قيس بن الشداخ ذكر صاحب الكمائم أنه سبط الشداخ المذكور، وهو مشهور بالحكمة والشعر، وله ينسب: لسان الفتى نصف ونصف فؤاده ... ولم يبق إلا صورة اللحم والدم وكائن ترى من صامت لك معجب ... زيادته أو نقصه في التكلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 379 وقيل: إنهما للهيثم بن الأسود النخعي. وبلعاء القائل لولده: يا بني، لا تفش سر صديق أو عدو، فإن السر أمانة عند الكريم؛ وإن غلب صاحب عن إخفائه فلا تغلب عن هتك ستره فيه! أبو بكر بن الأسود الليثي أنشد له صاحب السيرة يبكي قتلى بدر من المشركين: فماذا بالقليب قليب بدر ... من السادات والشرب الكرام يخبرنا النبي بأن سنحيا ... وكيف حياة أصداء وهام! بنو ضمرة بن بكر بن عبد مناة بن كنانة اشتهر منهم في الجاهلية: البراض بن القيس الضمري من كتاب أفعل للأصفهاني: "كان، وهو في حيه، عياراً فاتكا يجر الجنايات على أهله، فتبرأوا منه، ففارقهم وقدم مكة، وحالف حرب بن أمية. ثم نبا به المقام، فقدم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 380 على النعمان بن المنذر. وكان النعمان يبعث إلى عكاظ لطيمة كل عام تباع له هنالك، فقال وعنده البراض والرحال عروة بن جعفر بن كلاب: من يجير لطيمتي حتى يقدم بها عكاظ؟ فقال البراض: أنا أجيرها على كنانة؛ فقال الرحال: أنا أجيرها على أهل الشيح والقيصوم من نجد وتهامة؛ فقال: خذها! ورحل بها الرحال، وتبع البراض أثره، حتى إذا صار الرحال في قومه بجانب فدك نزلت العير، فأخرج البراض قداحاً يستقسم بها في قتل الرحال، فمر به الرحال فقال: ما الذي تصنع؟ قال: استقسم واستخبر القداح في قتلي إياك! وقال: "استك أضيق من ذلك"، فوثب البراض بسيفه إليه، فضربه ضربة خمد منها، واستاق العير. فبسبب ذلك هاجت حرب الفجار بين خندف وقيس"، قاتلوا في الأشهر الحرم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 381 هني بن أحمر الضمري ذكر البيهقي أنه من شعراء الجاهلية، وأنشد له الأبيات التي في معجم الآمدي له أيضاً: يا ضمر أخبرني ولست مخبري ... وأخوك ناصحك الذي لا يكذب هل في القضية أن إذا استغنيتم ... وأمنتم فأنا العبد الأجنب وإذا الشدائد والشدائد مرة ... أشجتكم فأنا المحب الأقرب وإذا تكون كريهة أدعى لها ... وإذا يحاس الحيس يدعى جندب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 382 ولمالكم طيب البلاد ورعيتها ... ولي الثماد وعمتهن المجدب هذا لعمركم الصغار بعينه ... لا أم لي إن كان ذاك ولا أب بنو جذيمة (بن عامر بن عبد مناة) بن كنانة ذكر البيهقي أنهم الذين قتلهم خالد بن الوليد بالغميصاء بين الحرمين، فوداعم رسول الله صلى الله عليه؛ وقال: وذلك أنه أرسله إليهم، فعجل عليهم وقاتلهم قبل أن يتثبت فيهم، فقال عليه السلام: "اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد". واشتهر منهم في هذه الكائنة: عمرو بن علقمة الكناني ومن الأغاني: "يروى أن خالد بن الوليد كان جالساً عند النبي عليه السلام، فسئل عن غزوته بني جذيمة، فقال: إن أذن لي رسول الله صلى الله عليه تحدثت. فقال له: تحدث. فقال: لقيناهم بالغميصاء عند وجه الصبح، فقاتلناهم حتى كادت قرن الشمس تغرب، فمنحنا الله أكتافهم، فاتبعناهم نطلبهم فإذا بغلام له ذوائب على فرس ذنوب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 383 في أخريات الناس، فوضعت الرمح بين كتفيه، فقال: لا إله إلا، فرفعت الرمح فقال: إلا اللات أحسنت أو أسأت! فهمسته همسة أذريته وقيذا. ثم أخذته أسيراً فشددت وثاقة، ثم كلمته فلم يكلمني، واستخبرته فلم يخبرني. فلما كان ببعض الطريق رأى نسوة من بني جذيمة يسوق بهن المسلمون، فقال: هل أنت واقفي على هؤلاء النسوة؟ ففعلت، وفيهن جارية تدعى حبشية، فقال لها: ناوليني يدك، فناولته يدها في ثوبها، فقال: اسلمي حبيش على انقطاع العيش! فردت عليه التحية، وقال شعراً منه: فقد قلت إذ أهلي وأهلك جيرة ... أثيبي بود قبل إحدى العوائق قال: فغاظني ما رأيت من غزله وشعره على حاله تلك، فضربت عنقه". ومن واجب الأدب: أن اسم هذا العاشق عمرو بن علقمة، وكان من شجعان قومه وشعرائها، وكان يهيم بابنة عمه حبشية. ولما اشتهر حبه لها حجبت عنه، فزاد غراماً وتغزلا فيها، فقالوا لها: عديه، فإذا أتاك [فقولي] له: نشدتك الله لم تحبني، ووالله ما على الأرض أبغض إلي منك! ونحن قريب نسمع ما تقولين. فوعدته، وأقبل لوعدها، فلما دنا منها دمعت عينها والتفتت إلى حيث أهلها فعرف أنهم قريب فرجع، وبلغه ما قالوا لها أن تقول، فقال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 384 لو قلت ما قالوا لزدت جوى بكم ... على أنه لم يبق ستر ولا صبر ولم يك حبي عن نوال بذلته ... فيسليني عنه التجهم والهجر وما أنس ملأشياء لا أنس دمعها ... ونظرتها حتى تبين لي السر وبينهما مراجعة بالشعر يوم قتله. بنو غفار وبنو مدلج وأما بنو غفار بن ضمرة وبنو مدلج بن ضمرة بن عبد مناة الكنانية المشهورون بالقيافة _ وهي المعرفة بتتبع الأثر _ فلم نجد لهم في الجاهلية من هو من شرط هذا التاريخ، ولهم في الإسلام أعلام. من سائر كنانة من غير تخصيص ومن سائر كنانة من غير تخصيص: حفص بن الأحنف الكناني من شعراء الجاهلية. ذكر الأصفهاني في أمثاله أنه "مر بجيفة ربيعة بن مكدم المتقدم الذكر فعرفها، فأمال عليها الحجارة وقال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 385 لا يبعدن ربيعة بن مكدم ... وسقى الغوادي قبره بذنوب نفرت قلوصي من حجارة حرة ... نصبت على طلق اليدين وهوب لا تبعدن يا ناق منه فانه ... شراب خمر مسعر لحروب لولا السفار وبعد خرق مهمه ... لتركتها تجثو على العرقوب" ومن المجهول العصر ممن تنضبط ترجمته إلى القبائل لا إلى الدول: الشويعر ربيعة بن عثمان الكناني أنشد له الآمدي في معجم الشعراء: وأفلتنا أبو ليلى طفيل ... سليم الجلد من أثر السلاح وأنشد له صاحب الكمائم: وكم ليلة بت مستوحشاً ... تسد علي الهموم الأماني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 386 حكمة بن قيس الكناني نسب له صاحب التذكرة الحمدونية الأبيات التي تمثل بها المنصور في قتل إبراهيم بن عبد الله بن الحسن بن الحسن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 387 تاريخ بني أسد ابن خزيمة بن مدركة بن خندف بن مضر تتبعت ديار بني أسد، فوجدتها _ على ما ذكره البيهقي وغيره _ فيما يلي الكوفة من البلاد النجدية، ومجاورة طيء. وقد ذكر صاحب الكمائم أن بلاد طيء كانت في يد بني أسد، فلما خرجت طيء من اليمن تحاربت مع أسد، واحتوت على الجبلين أجأ وسلمى وما قاربهما، ثم اصطلحتا على المجاورة. ولبني أسد من القرى المشهورة: زبالة، والثعلبية، وواقصة، وغاضرة، وهي في طريق حجاج العراق. ولهم من المنازل المذكورة في الأشعار: ناظرة، والنعف، وغير ذلك مما يذكره امرؤ القيس في شعره؛ لأن أباه حجراً كان ملكهم، وكان امرؤ القيس يتردد في بلادهم، ثم إنهم قتلوا حجراً، فطلبهم امرؤ القيس بثأره كما تقدم في ترجمته، فأفنى خلقا منهم. ثم إن بني أسد سار منهم جمع كبير في الإسلام، وافترقوا على البلاد، وكان منهم ملوك الحلة وسيذكرون. ثم خمدوا فلم تبق لهم بالبادية باقية إلا من خمل اسمه في البادين. وبلدهم الآن بنجد قد احتوى عليه طيء وبنو عقيل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 388 قال البيهقي: وبنو أسد من أرحاء العرب الذين أحرزوا دياراً ومياها لم يكن للعرب مثلها، ولم يبرحوا من أقطارها، وداروا عليها دور الرحى على قطبها. قال ابن حزم: وكان لأسد أولاد، أشهرهم في العقب: كاهل، ودودان. كاهل بن أسد فأما كاهل بن أسد فمنهم: الطماح الذي قتل أخوه حجراً أبا امرئ القيس، ولذلك قال امرؤ القيس: والله لا يذهب شيخي باطلا ... حتى أبير مالكاً وكاهلا قال البيهقي: لم يزل امرؤ القيس يحط شدة ثأره على بني كاهل حتى كاد يفنيهم، وقتل منهم خلقاً كثيراً، فليس لهم أعلام كما لإخوتهم بني دودان. ثم إن الطماح لم يزل في أمر امرئ القيس حتى كان مسبب قتله عند قيصر كما تقدم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 389 ومن بني كاهل في الجاهلية: جنوب الكاهلية من واجب الأدب أنها كانت شاعرة مجيدة، وكان أخوها عمرو يغزو فهما فيصيب منهم، فوضعوا له رصدا وقتلوه. ثم مروا بأخته جنوب، فقالوا: إنا طلبنا أخاك عمراً قالت: لئن طلبتموه لنجدنه منيعاً، ولئن ضفتموه لتجدنه مريعاً، ولئن دعوتموه لتجدنه سميعاً سريعاً! قالوا: لقد وجدناه وقتلناه! فقالت: لرب سبي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 390 منكم قد افترشه، ونهب قد افترسه، وضرب قد احترشه. وذكر هذا صاحب نثر الدر فيما اختاره. وأصحاب البديع ينشدون قولها في رثاء أخيها: فأقسم يا عمرو لو نبهاك ... إذاً نبها منك داء عضالا إذاً نبها ليث عريسة ... مفيتاً مفيداً نفوساً ومالا وخرق بعيد تجشمته ... بخرقاء [حرف] تشكى الكلالا فكنت النهار به شمسه ... وكنت دجى الليل فيه الهلالا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 391 دودان بن أسد وأما دودان بن أسد فهم الجمهور الأعظم، ومنهم الأعلام المشهورون في الجاهلية والإسلام؛ وفيهم يقول امرؤ القيس: قولا لدودان عبيد العصا ... ما غركم بالأسد الباسل فمن بني قعين بن الحارث بن ثعلبة بن دودان: بشر بن أبي خازم القعيني ذكر ذلك صاحب العقد؛ وهو من أعلام الجاهلية. ومن العمدة لابن رشيق: قيل للحطيئة: من أشعر الناس؟ قال: ابن أبي خازم بقوله: رمتني صروف الدهر من حيث لا أرى ... فما حال من يرمى وليس برام فلو أنها نبل إذاً لا تقيتها ... ولكنني أرمى بغير سهام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 392 وسئل الفرزدق عن ذلك فقال: ابن أبي خازم بقوله: ثوى في ملحد لابد منه ... كفى بالموت نأياً واغترابا ومن واجب الأدب: كان مسلطاً على هجو أوس بن حارثة بن لأم، سيد طيء المشهور بالجود والرياسة، وكان قد أغراه به حساده، فحلف لئن ظفر به ليعاقبنه أشد العقوبة، فقال فيه الأبيات التي في حماسة أبي تمام، منها: أتوعدني بقومك يا ابن سعدي ... وذلك من ملمات الخطوب وحولي من بني أسد عديد ... ألوف بين شبان وشيب ثم إن أوسأ أظفر به، فساقه إلى أمه سعدي وكان قد آذاها بلسانه، فقالت: الرأي عندي أن تسرحه، وتحسن إليه ليمحو هجوه بمدحه، ففعل ذلك، فحلف بشر ألا يمدح طول حياته غيره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 393 وله فيه أمداح كثيرة منها: إلى أوس بن حارثة بن لأم ... ليقضي حاجتي فيمن قضاها فما ركب المطايا كابن سعدي ... ولا لبس النعال ولا احتذاها أبو ذؤاب ربيعة بن ذؤاب القعيني من واجب الأدب: هو أبو ذؤاب قاتل صياد الفوارس عتيبة بن الحارث بن شهاب سيد بني يربوع. وكان البحتري يسمي قوله: ولقد علمت على التجلد والأسى ... أن الرزية كان قتل ذؤاب إن يقتلوك فقد ثللت عروشهم ... بعتيبة بن الحارث بن شهاب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 394 بأحبهم فقداً إلى أعدائه ... وأعزهم فقداً على الأصحاب سلاسل الذهب. وكان ابنه ذؤاب قد تبعه عتيبة بالليل، وكان ذؤاب على حجر وعتيبة على حصان، فشم الحصان ريحها في الليل، فلم يشعر عتيبة حتى اقتحم حصانه على فرس ذؤاب، فطعنه ذؤاب، فقتله غلطاً ولم يكن من أعدائه. ولحق الربيع بن عتيبة فوافاه وأسره، ولم يعلم أنه قاتل أبيه، ففداه منه أبوه بابل، وتواعدا الموافاة في سوق عكاظ في الأشهر الحرم. فأقبل أبو ذؤاب باربل، وانشغل الربيع فلم يأته، فظن أن ابنه قد قتل، فرثاه بالشعر الذي منه الأبيات. واشتهر الشعر فبلغ عتيبة، فقتلوا ابنه ثأراً بأبيهم. ومن بني سعد بن ثعلبة بن دودان: عبيد بن الأبرص كذلك ذكر صاحب العقد. وأخبر الآمدي في معجم الشعراء أنه شاعر مشهور من شعراء الجاهلية. ومن واجب الأدب أنه القائل يخاطب حجراً أبا امرئ القيس ملك بني أسد: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 395 أبلغ أبا كرب عني وإخوته ... قولا سيذهب غوراً بعد إنجاد لأعرفنك بعد الموت تندبني ... وفي حياتي ما زودتني زادي الخير يبقى وإن طال الزمان به ... "والشر أخبث ما أوعيت من زاد" وله أبيات في مخاطبته أيضاً قد تقدمت في ترجمته. ولقي عبيد بن الأبرص النعمان بن المنذر في يوم بؤسه، فقال: أنشدني قصيدتك أقفر من أهله ملحوب فقال وعلم أنه قاتله: أقفر من أهله عبيد ... فالشعر لا يبدي ولا يعيد ثم قتله على ما اقتضته سنته الذميمة. وقصيدته هذه البائية فيها أبيات خارجة عن الوزن نص عليها العرضيون وغلطوه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 396 ومن المجهولي العصر من شعراء أسد: أبو حبال البراء بن ربيعي الفقعسي من فقعس بن طريف بن قعين، وله الأبيات المذكورة في حماسة أبي تمام: أبعد بني أمي الذين تتابعوا ... أرجي الحياة أم من الموت أجزع ثمانية كانوا ذؤابة قومهم ... بهم كنت أعطي ما أشاء وأمنع أولئك إخوان الصفاء رزئتهم ... وما الكف إلا إصبع ثم إصبع جزء بن كليب الفقعسي له في الحماسة الأبيات التي منها: وإن التي حدثتها في أنوفنا ... وأعناقنا من الإباء كما هيا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 397 ربيعة بن حذار الأسدي من الكمائم: كان في زمانه عراف نجد وكاهنها، وهو القائل: سيبعث من نصير له رعايا ... ويبطل ما ورثنا من أبينا ويحلم ثم يعدل تابعوه ... ويحكم بعده السفهاء فينا ومن نثر الدر: تخاصم بنو كلاب وبنو رباب وعبد المطلب بن هاشم في مال قريب من الطائف، فقال عبد المطلب: المال مالي، فسلوني أعطكم؛ قالوا: لا؛ واختاروا ربيعة بن حذار الأسدي ليحكم بينهم، وعقلوا مائة ناقة بالوادي، وقالوا: من حكم له فالإبل والمال له. وخرجوا وخرج مع عبد المطلب حرب بن أمية، وخبأوا له ما ذكره الكاهن بقوله: خبأتم خبئا حياً، قالوا: زد، قال: ذو برثن أغبر، وبطن أحمر، وظهر أنمر. قالوا: قربت، قال: فسما فسطع، ثم هبط فلطع، فترك الأرض بلقع. قال: قربت فطبق؛ قال: عين جرادة، في مزادة، في عنق سوار ذي القلادة. قالوا: أصبت، فاحكم لأشدنا طعانا وأوسعنا مكانا. قال عبد المطلب: أحكم لأولانا بالخيرات، وأبعدنا من المعرات، وأكرمنا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 398 أمهات. قال ربيعة: والغسق والشفق ما لبني كلاب ورباب من حق، فانصرف يا عبد المطلب على الصواب وفصل الخطاب! فوهب عبد المطلب المال لحرب بن أمية. الحارث بن السليل الأسدي من حلى العلا: كان حليفا لعلقمة الطائي، فزاره في بعض الأوقات، فرأى بنتاً له لم يكن في وقتها أجمل منها، فأعجب بها فخطبها لأبيها. فقال علقمة: امرؤ كريم نقبل منه الصفو ونأخذ العفو، فأقم ننظر في أمرك. ثم انكفأ إلى أمها فقال لها: إن الحارث بن السليل سيد قومه، فلا ينصرف إلا بحاجته، فأديري ابنتك على رأيها في أمره. فقالت لها: أي بنية، أي الرجال أحب إليك: الكهل الجحجاح، الفاضل المناح، أم الفتى الوضاح، الدموك الطماح؟ فقالت: الفتى الوضاح! قالت: إن الفتى يغيرك، وإن الشيخ يميرك؛ وليس الكهل الفاضل، الكثير النائل كالحدث السن الكثير المن. قالت: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 399 يا أمتاه، إن الفتاة تحب الفتى كما تحب الرعاء لين الكلا. فقالت لها: أي بنية، إن الفتى كثير الحجاب، كثير العتاب. قالت: يا أمتاه، أخشى الشيخ أن يدنس ثيابي، ويشمت بي أترابي! فلم تزل بها أمها حتى غلبتها على رأيها، فتزوجها وحملها إلى قومه. فبينا هو ذات يوم بفناء بيته، وهي جالسة إلى جنبه، إذ أقبل فتيان يعتجلون في مشيهم، فتنفست الصعداء، وأرخت عينيها [بالبكاء] فقال لها: ما يبكيك؟ فقالت: مالي وللشيوخ الناهضين كالفروخ! [فقال] : ثكلتك أمك "تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها"، أما وأبيك لرب غارة شهدتها، وخيل وزعتها، وسبية أردفتها، وخمر سباتها، فالحقي بأهلك! ثم قال: تهزأت أن رأتني لابساً كبراً ... وغاية الناس بين الموت والكبر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 400 فان بقيت لقيت الشيب صاغرة ... وسوف تعرف ما تأتي من الغير إليك عني فاني لا يوافقني ... عور الكلام ولا شرب على الكدر أبو المهوش الأسدي من واجب الأدب: شاعر جاهلي، أنشد له صاحب اللآلي البيت المشهور: وإذا تسرك من تميم خصلة ... فلما يسوءك من تميم أكثر وقوله: إذا ما مات ميت من تميم ... فسرك أن يعيش فجد بزاد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 401 بخبز أو بتمر أو بسمن ... أو الشيء الملفف في البجاد تراه يطوف الآفاق حرصاً ... ليأكل رأس لقمان بن عاد الكميت بن ثعلبة الأسدي من واجب الأدب: هو الكميت الأكبر، والأوسط ابن معروف، والأصغر ابن زيد، وكلهم من أسد؛ والأخير مذكور في تاريخ الإسلام. واشتهر للأكبر الأبيات التي منها في هجو فزارة: بلى أير الحمار وخصيتاه ... أحب إلى فزارة من فزار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 402 ومن حديثهم في هذا أن ثلاثة صادوا حمار وحش أحدهم فزاري، فغاب الفزاري في حاجة، فطبخا اللحم وأكلاه، ورفعا له أير الحمار وخصيتيه، فأكل ذلك حين رجع، فصارت فزارة تعير بذلك. الكميت بن معروف الأسدي مذكور في الأغاني، وله الأبيات التي أنشدها صاحب زهر الآداب وغيره: إن يحسدوني فاني غير حاسدهم ... قبلي من الناس أهل الفضل قد حسدوا فدام لي ولهم ما بي وما بهم ... ومات أكثرنا غيظاً بما يجد أنا الذي يجدوني في صدورهم ... لا أرتقي صدراً عنها ولا أرد أخوه طلحة بن معروف أنشد له الآمدي في رثاء أخويه: أجدك لن تلقى الكميت ولا صخرا ... وإن أنت أعلمت المطية والسفرا هما أخواي فرق الدهر بيننا ... إلى الأمد الأقصى، ومن يأمن الدهرا؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 403 ومن المجهولي العصر: الأشعر الرقبان الأسدي ذكر الآمدي أن اسمه عمرو بن حارثة، وأنشد له الأبيات المشهورة: إذا ابتدر القوم لم تأتهم ... كأنك قد ولدتك الحمر مسيخ مليخ كلحم الحوار ... [فلا] أنت حلو ولا أنت مر وقد علم الجار والنازلون ... بأنك للضيف جوع وقر قالوا: "المسيخ من اللحم الذي لا ودك له، والمليخ الذي لا طعم له". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 404 مطير بن الأشيم الأسدي من واجب الأدب: له البيت الذي يعدونه في التشبيهات العقم: تظل فيه بنات الماء طافية ... كأن أعينها أشباه خيلان أبو القمقام الأسدي من شعراء الحماسة، أنشد له أبو تمام: اقرأ على الوشل السلام وقل له: ... كل الموارد مذ هجرت ذميم سقياً لظلك بالعشي وبالضحى ... ولبرد مائك والمياه حميم لو كنت أملك منع مائك لم يذق ... ما في قلاتك ما حييت لئيم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 405 ألهون بن خزيمة وأما الهون بن خزيمة فالخمول غالب عليهم بالنظر إلى إخوتهم بني أسد وبني كنانة؛ ومنهم عضل والقارة رماة العرب، وكانا متحاربين، وفيهما جرى المثل: "قد أنصف القارة من راماها". وأمهما عائذة نسبوا إليها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 406 ومنهم: مقاس العائذي الشاعر قال صاحب الكمائم: هو من شعراء الحماسة، وأنشد له أبو تمام: لئن جربت أخلاق بكر بن وائل ... لقد جعلت أخلاق تغلب تطبع ترى الشيخ منهم يمتري الأير باسته ... كما يمتري الثدي الصبي المرضع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 407 تاريخ هذيل ابن مدركة بن خندف بن مضر ذكر البيهقي أنهم من أفصح العرب، ومن سكان السروات المطلة على تهامة من الحجاز. وسراة هذيل متصلة بجبل غزوان الذي يتصل به جبل الطائف. ولهذيل أماكن ومياه في أسفلها، من نجد وتهامة بين مكة والمدينة منها: الرجيع، ومنها: بئر معونة، بحيث أوقع هذيل بأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الوقعة المشهورة. وكانوا مشهورين بالفصاحة، ولهم صولة، وفي شعرائهم كتاب مجموع. ثم افترقوا كما افترقت العرب في ديار الإسلام، وبقي منهم بقايا في جبلهم إلى الآن، وفي أماكن من الحرمين، وليست لهم تلك الصولة ولا تلك الشهرة. ومنهم هذيل الذين بأفريقية يركبون في خيل كثيرة، وقد تبربروا، وصاروا يضربون الإتاوة في بعض الأحيان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 408 قال صاحب العقد: "وبطون هذيل كلها لا تنتسب إلى شيء منها، وإنما تنتسب إلى هذيل، فليست إذاً من جماجم العرب". وافترقت على جذمين: سعد ولحيان ابني هذيل. بنو سعد بن هذيل فمن بني سعد بن هذيل، وهم رهط عبد الله بن مسعود: أبو كبير الهذلي من الكمائم أنه من بني سعد بن هذيل، وهو شاعر مشهور من شعراء الجاهلية، اسمه نابت بن عبد شمس، وهو من شعراء الحماسة، وأنشد له أبو تمام: ولقد سريت مع الظلام بمغشم ... جلد من الفتيان غير مهبل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 409 حملت به في ليلة مزؤودة ... كرهاً وعقد نطاقها لم يحلل فأتت به حوش الفؤاد مبطنا ... سهداً إذا ما نام ليل الهوجل ومبرأ من كل غبر حيضة ... وفساد مرضعة وداء معضل فإذا رميت له الحصاة رأيته ... ينزو لوقعتها نزو الأجدل ما إن يمس الأرض إلا منكب ... منه وحرف الساق طي المحمل وإذا رميت به الفجاج رأيته ... يهوي مخارمها هوي الأجدل وإذا نظرت إلى أسرة وجهه ... برقت كبرق العارض المتهلل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 410 صعب الكريهة لا يرام نزاله ... ماضي العزيمة كالحسام المقصل يحمي الصحاب إذا تكون كريهة=وإذا هم نزلوا فمأوى العيل ومنهم: صخر الغي أضيف إلى ذلك لكثرة باطله، وهو من العدائين المشهورين في جاهلية العرب. بنو لحيان بن هذيل ومن بني لحيان بن هذيل: المتنخل الهذلي مالك بن عمرو، وهو مجهول العصر، أنشد له الحاتمي في حلية المحاضرة: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 411 أبو مالك قاصر فقره ... على نفسه ومشيع غناه إذا سدته سدت مطواعة ... ومهما وكلت إليه كفاه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 412 طاريخ طابخة بن خندف بن مضر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 413 أعظم فروعها تميم بن مر بن أد طابخة، ومنها ضبة، ومنها مزينة، ومنها الرباب. تاريخ تميم ابن مر بن أد بن طابخة وقبر تميم بمران من نجد مما يلي طريق مكة من العراق. وذكر أبو عبيدة أن تميم من أرحاء العرب: وهم الذين غلبوا على ديار ومياه جليلة واسعة، وداروا حولها دوران الرحى حول قطبها. ولم يكن لغيرها من العرب مثلها؛ وهي أيضاً من الجماجم: فمنها بطون كثيرة يقتصرون بالنسب إليها. وتتبعت منازل بني تميم من كتاب أجار، ومن الكمائم وغيرهما، فوجدتها بأرض نجد دائرة على ما والى أرض البصرة وأرض اليمامة، وامتدت إلى العذيب من أرض الكوفة. وليس لها الآن بهذه الأرض قائمة، ولا بطن مشهور. وقد غلبت على أرضها قبائل قيس عيلان وقبائل طيء، وتفرقت تميم في حواضر البلاد وقراها، فلا يوجد منها قبيلة قي شرق ولا غرب جارية على ما هي عليه قبائل العرب من الحل والترحال، بعدما كانوا كما قال أوس بن مغراء: لا تطلع الشمس إلا عند أولنا ... وليس تغرب إلا عند أخرانا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 415 وكما قال جرير: إذا غضبت عليك بنو تميم ... حسبت الناس كلهم غضابا أليسوا أكرم الثقلين طرأ ... وأكثرهم ببطن منى قبابا وكانت لهم الإفاضة بالناس من عرفات في الجاهلية. ومن كتاب الأمثال للخوارزمي: قال دغفل حين سئل عن بني تميم: حجر أخشن إن صدمته كدحك، وإن تركته لم يردك. ومن صحيح مسلم: أن النبي عليه السلام قال: "بنو تميم هم أشد أمتي على الدجال". وكان لهم في الجاهلية صيت عظيم، وكان منهم من يأخذ المرباع كما تفعل الملوك، ومن له ردافة الملوك كبني زرارة وغيرهم. ويعيرون بالنهامة في الطعام؛ لأن عمرو بن هند حلف أن يحرق منهم مائة في النار، فحرق تسعة وتسعين؛ فبينما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 416 ينتظر تمام المائة إذ قدم عليه شخص، فقال: ممن الرجل؟ فقال: من البراجم! وهم من تميم، فقال: "إن الشقي وافد البراجمِ، وأحرقه. وكان قد ظن أن دخان القتلى طعام صنعه الملك. ومما اشتهر في هجائهم: تميم بطرق اللؤم أهدى من القطا ... ولو سلكت سبل المكارم ضلت ويقال: إن أبا دلف قصده شاعر من تميم، فقال له: ممن أنت؟ فقال: من تميم؛ قال: التي يقال فيها: تميم بطرق اللؤم.. وأنشد البيت، فقال الشاعر: بتلك الهداية سرت إليك! فتعجب من حضور جوابه، وأحسن إليه. وكانت تحارب بني أسد في شمالها، وبني حنيفة في جنوبها وغربها. ولما أغارت على مال أنو شروان ملك الفرس الذي أرسله عامله على اليمن، وفد عليه هوذة ملك بني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 417 حنيفة، [وحرضه] على إهلاكهم، فكتب إلى عامله على البحرين المعروف بالمكعبر، فخدعهم وأحضرهم للطعام والخلع، ثم أغلق الأبواب وقتلهم. وقضيتهم مذكورة في تاريخ الطبري. قال البيهقي: والنسب في بني تميم إلى ثلاثة: عمرو، وزيد مناة، والحارث. عمرو بن تميم فأما عمرو بن تميم فهو أحد المعمرين المذكورين بالبلاغة ونباهة الذكر والعقب. حكى صاحب الكمائم أن سابور ذا الأكتاف لما دوخ أرض العرب مر به _ وهو ابن ثلاثمائة سنة لم يقدر على الفرار مع العرب _ وكلمه كلاماً رق له به، فأحسن إليه، ثم كلمه في العرب بما ألان قلبه، وقال له: كل أمة إذا وجدت مكان الطمع طمعت، ولهم العذر أيها الملك؛ بما كان من استطالة غيرهم حين وجدوا الآراء معلولة، والسيوف عليهم غير مسلولة، والدافع غير حاضر، والمالك ليس بقاهر! ثم كلمه فيما هم به من هدم البيت، ووعظه فأثر ذلك عنده. بنو العنبر بن عمرو بن تميم فيهم شرف ورياسة، ولهم أعلام جلة. وأبوهم العنبر (كان رأساً في قومه. وذكر أبو عبيدة في الأمثال أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 418 ابنته الهيجمانة عشقت عبد شمس بن سعد بن زيد مناة بن تميم، وكان يزورها، فنهاه قومها عن ذلك حتى وقعت الحرب بينهم. فأغار عليهم عبد شمس في جيشه، فعلمت به الهيجمانة، فأخبرت أباها، فقال مازن بن مالك: "حنت فلا تهنت، وأنى لك مقروع؟ " - ومقروع: هو عبد شمس - فقال لها أبوها عند ذلك: يا بنية اصدقيني، أكذلك هو؟ "فانه لا رأي لمكذوب"، فقالت: "ثكلتك إن لم أكن صدقتك، فانج ولا أخالك ناجيا"، فذهبت هذه الكلمات كلها أمثالا) . الهدلول بن كعب العنبري من واجب الأدب: كان مملكاً في الجاهلية على سائر بني تميم يأخذ منهم المرباع؛ ومع ذلك فإنه كان فيهم بمنزلة حاتم في طيء كرماً وتواضعاً. ونزل به أضياف، فقام إلى الرحى، فبصرت به زوجه فأنكرت ذلك وصكت صدرها، فقال الأبيات التي أنشدها أبو تمام في حماسته: تقول وصكت صدرها بيمينها ... أبعلي هذا بالرحى المتقاعس؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 419 فقلت لها: لا تعجلي وتبيني ... بلائي إذا التفت علي الفوارس لعمر أبيك الخير إني لخادم ... لضيفي وإني إن ركبت لفارس سالم بن قحفان العنبري من واجب الأدب: أنه من رؤساء بني العنبر في الجاهلية وكرمائها. وله حكاية مشهورة في الكرم: أتاه طالب فأعطاه بعيراً، وقال لامرأته: هاتي حبلا، فأتته بحبل، وربطته ودفعته للطالب. ثم جاء طالب آخر فصنع مثل ذلك. فتكرر هذا الفعل، فعذلته امرأته، فقال الأبيات التي أنشدها أبو تمام في حماسته: لا تعذليني في العطاء ويسري ... لكل بعير جاء طالبه حبلا فلم أر مثل الإبل مالا لمقتر ... ولا مثل أيام الحقوق لها سبلا فقالت زوجه ليلى العنبرية: وتقسم ليلى يا ابن قحفان بالذي ... تفرد بالأرزاق في السهل والجبل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 420 تزال حبال محصدات أعدها ... لها ما مشى يوماً على خفه جمل فاعط ولا تبخل إذا جاء سائل ... فعندي لها عقل وقد راحت العلل طريف بن تميم العنبري من اللآلي: أنه "فارس شاعر مقل جاهلي". ومن حلى العلا لابن جبر: كان قد قتل شراحيل الشيباني، وكانت العرب تتقنع أيام عكاظ لئلا تعرف فتطلب بالثأر، وكان طريف لا يتقنع، فجاءه حمصيصة فناداه: وقال: لله علي بأن أقتلك أو تقتلني، فقال طريف: أو كلما وردت عكاظ قبيلة ... بعثوا إلي عريفهم يتوسم فوسموني إنني أنا ذاكم ... شاكي السلاح وفي الحوادث معلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 421 تحتي الأغلا وفوق جلدي نثرة ... زغف ترد السيف وهو مثلم حولي أسيد والهجيم ومازن ... وإذا حللت فحول بيتي خضم فقتله حمصيصة بعد ذلك. وأنشد له صاحب الأغاني، وكان المنصور يحب أن يحدى بهذه الأبيات: إني وإن كان ابن عمي كاشحاً ... لمراجم من دونه وورائه ومنيله نصري وإن كان امرأ ... متزحزحاً في أرضه وسمائه وأكون مأوى سره وأصونه ... حتى يحق علي يوم أدائه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 422 وإذا أتى من وجهة بطريقة ... لم أطلع مما وراء خبائه وإذا تحيفت الحوادث ماله ... قرنت صحيحتنا إلى جربائه وإذا تريش في غناه وفرته ... وإذا تصعلك كنت من قرنائه وإذا غدا يوماً ليركب مركباً ... صعباً قعدت له على سيسائه ومن تاريخ ابن عساكر أنه كان يعد بألف فارس، وهو القائل، وتمثل بهما مصعب بن الزبير: علام تقول: السيف يثقل كاهلي ... إذا أنا لم أركب به المركب الصعبا سأحميكم حتى أموت ومن يمت ... كريماً فلا لوماً عليه ولا عتبا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 423 بنو أسيد بن عمرو بن تميم أكثم بن صيفي الأسيدي حكيم العرب في الجاهلية. من واجب الأدب: هو أحد أعلام العرب الذين أوفدهم النعمان على كسرى ليتبين بهم عنده مقدار العرب. وله حكم كثيرة مشهورة أورد منها أبو عبيدة في الأمثال، والحمدوني في التذكرة ما منها: "فضل القول على الفعل دناءة، وفضل الفعل على القول مكرمة". "فرط الانبساط مكسبة لقرناء السوء، وفرط الانقباض مكسبة للعداوة". "الوقوف عند الشبهة خير من التمادي واقتحام المهلكة". "مع كل حبرة عبرة، ومع كل فرحة ترحة". "من صحب الزمان رأى الهوان". "أحق من شركك في النعم شركاؤك في المكاره". "من لاحاك فقد عاداك". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 424 "رضا الناس غاية لا تدرك". "من مأمنه يؤتى الحذر". "رب ملوم لا ذنب له". "رب كلمة سلبت نعمة، ورب حرب شبت من لفظة". "لا تفش سرك إلى أمة، ولا تبل على أكمة". "لكل ساقطة لاقطة". "رب قول أشد من صول". وقال حين احتضر: حلبت الدهر أشطره حياتي ... ونلت من المنى فوق المزيد وكدت أنال بالشرف الثريا ... ولكن لا سبيل إلى الخلود قال ابن عبد البر في كتاب الصحابة: "إن أبا علي بن السكن ذكر أكثم في [كتاب] الصحابة ولم يصنع شيئاً. والحديث الذي ذكره له هو أن قال: لما بلغ أكثم بن صيفي مبعث النبي عليه السلام أراد أن يأتيه، فأبى قومه وقالوا: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 425 أنت كبيرنا لم يكن لتخف إليه. قال: فليأت من يبلغه عني؛ فانتدب رجلان لرسالته. فلما وصلا إلى النبي عليه السلام قالا: نحن رسولا أكثم بن صيفي، وهو يسألك: من أنت؟ وما أنت؟ وفيم جئت؟ فقال صلى الله عليه: أنا محمد بن عبد الله، وأنا عبد الله ورسوله؛ ثم تلا عليهما "إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى" (الآية) . فأتيا أكثم فقالا: أبى أن يرفع نسبه، فسألنا عنه فوجدناه زاكي النسب، واسطاً في مضر، وقد رمى إلينا بكلمات قد حفظناها. فلما سمعها أكثم قال: أي قوم، أراه يأمر بمكارم الأخلاق وينهى عن ملائمها، فكونوا في هذا الأمر رؤوساً ولا تكونوا أذناباً، وكونوا فيها أولا ولا تكونوا فيه آخراً. ولم يلبث أن حضرته الوفاة ولم يصح إسلامه، فقال: أوصيكم بتقوى الله وصلة الرحم فإنه لا بُقيا عليهما". أوس بن حجر الأسيدي من الأغاني: "من شعراء الجاهلية وفحولها. قال أبو عمرو بن العلاء: كان أوس بن حجر شاعر مضر حتى أسطقه النابغة وزهير، وهو شاعر تميم في الجاهلية غير مدافع". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 426 "وكان غزلا مغرماً بالنساء. وخرج في سفر، حتى إذا كان بأرض بني أسد في جهة ناظرة، وبينا هو يسبر إذ جالت ناقته فصرعته فاندقت فخذه، فبات مكانه؛ حتى إذا أصبح غدا جواري الحي يجنين الكمأة وغيرها من نبات الأرض، والناس في ربيع، فأبصرنه ملقى ففزعن وهربن، فدعا بجارية منهن فقال لها: من أنت؟ قالت: حليمة بنت فضالة بن كلدة _ وكانت أصغرهن، فأعطاها حجراً وقال: اذهبي إلى أبيك، فقولي: ابن هذا يقرئك السلام! فأتته فأخبرته، فقال: يا بنية، لقد أتيت أباك بمدح طويل أو هجاء طويل. ثم احتمل [هو] وأهله حتى بنى عليه بيته حيث صرع، وقال: لا أتحول أبداً أو تبرأ. وكانت حليمة تقوم عليه حتى استقل". قال: ثم مات فضالة، فقال أوس يرثيه في عدة قصائد، أجلها وأشهرها قصيدته التي منها: أيتها النفس أجملي جزعاً ... إن الذي تحذرين قد وقعا إن الذي جمع السياة والن ... جدة والحزم والتقى جمعا المخلف المتلف المرزأ لم ... يمتع بضعف ولم يمت طبعا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 427 وشعره الذي يغنى به قوله: إني أرقت ولم تأرق معي صاح ... لمستكف بعيد النوم لماح دان مسف فويق الأرض هيدبه ... يكاد يدفعه من قام بالراح كأنما بين أعلاه وأسفله ... ريط منشرة أو ضوء مصباح ومن العمدة أن زهيراً كان راويته، وكان يتوكأ على شعره، وقد حكى الحاتمي في ابتداءات المراثي قوله: أيتها النفس أجملي جزعاً (البيت) وكان الأصمعي يقول: هذا أحسن ابتداء وقع للعرب؛ ألا تراه كيف دلك من أول ما نطق به على مراده؟ ومن واجب الأدب: من فرائد أوس بن حجر قوله: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 428 إذا أنت لم تعرض عن الجهل والخنا ... أصبت حليماً أو أصابك جاهل وقوله: وإنكما يا ابني جناب وجدتما ... كمن دب يستخفي وفي الحلق جلجل بنو كعب بن عمرو بن تميم ومن بني كعب بن عمرو بن تميم: ذؤيب بن كعب من واجب الأدب: من شعراء الجاهلية له البيتان المشهوران: جانيك من يجني عليك وقد ... يردي الصحاح مبارك الجرب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 429 ولرب مأخوذ بصاحبه ... ونجا المقارف صاحب الذنب بنو مازن بن مالك بن عمرو بن تميم ومن بني مازن بن مالك بن عمرو بن تميم: زهير بن السكب المازني من الكمائم: شاعر جاهلي من أشراف تميم، وكان رئيس بني مازن، وله البيت المشهور: كأن السحاب دورين السماء ... نعام يعلقن بالأرجل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 430 وممن جهل عصره منهم: نويرة بن حصن المازني له الأبيات التي أنشدها أبو تمام في حماسته: وإني أري للشامتين تجلداً ... وإني لكطاوي الجناح على كسر يرى واقعاً لم يدر ما تحت ريشه ... وإن شاء لم يسطع نهوضاً إلى وكر ولولا سرور الشامتين لكبوتي ... لما رقأت عيناي من عبرة تجري على من كفاني والعشيرة كلها ... نوائب ريب الدهر في عثرة الدهر زيد مناة بن تميم وأما زيد مناة بن تميم فذكر ابن حزم أن العدد والشرف من ولده في سعد، والبيت والشرف في مالك. سعد بن زيد مناة من نثر الدر: لما حضرته الوفاة جمع ولده، فقال: "يا بني أوصيكم بالناس شراً: كلموهم نزراً، واطعنوهم شزراً، ولا تقبلوا لهم عذراً. قصروا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 431 الأعنة، واشحذوا الأسنة، وكلوا القريب يرهبكم البعيد". قال ابن حزم: وسعد بن زيد مناة هو الفزر لقب لزمه، وفيه المثل المضروب "كما تفرقت معزى الفزر". وذكر النسابون بطونا كثيرة، نذكر المشهور منها المحتاج إليها في هذا الكتاب. بنو مقاعس بن عمرو بن كعب بن سعد ولمقاعس بطون كثيرة ينسب إليها من بني منقر بن عبيد بن مقاعس، رهط قيس بن عاصم "سيد أهل الوبر"، وهو صحابي: سنان بن خالد بن منقر جد قيس بن عاصم، وجد عمرو بن الأهتم. من الكمائم أنه كان ذا أنفة ورياسة، وبينا هو جالس أمام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 432 خيمته إذ مرت به إبل كثيرة، فسأل عن ربها فأعلم، فقال: عهدي وماله قليل! فقالوا: قد زوج أمه فجاءته بمال؛ فقال: اللهم إنا نعوذ بك من بعض الرزق! وقال لولده في وصيته: يا بني، إياكم والتخاذل فإنه لم يجتمع ضعفاء إلا قووا حتى يمنعوا، ولم يفترق أقوياء إلا ضعفوا حتى يخضعوا. بنو [عمرو] بن عبيد بن مقاعس ومن بني [عمرو] بن عبيد بن مقاعس رهط الأحنف: سلامة بن جندل السعدي من واجب الأدب: شاعر جاهلي له البيت المشهور الذي أنشده المبرد في الكامل: كنا إذا ما أتانا صارخ فزع ... كان الصراخ له قرع الظنابيب وقالت له بنو سعد: امدحنا، فقال: افعلوا حتى أقول! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 433 بنو عمير بن مقاعس ومن بني عمير بن مقاعس: السليك بن السلكة الذي كان يعدو على رجليه فلا تلحقه الخيل. نص ابن حزم على أنه منهم، وأنه أحد أغربة العرب. كانت أمه سوداء، ولذلك يقول من شعر أنشده المبرد في الكامل: أشاب الرأس أني كل يوم ... أرى لي خالة وسط الرحال يشق علي أن يلقين بؤساً ... ويعجز عن تخلصهن مالي ومن الأغاني: " أمه السلكة ، وأبوه عمير بن يثربي، وهو أحد الصعاليك من العرب العدائين الذين كانوا لا تلحقهم الخيل إذا عدوا، منهم: الشنفرى، وتأبط شراً، وعمرو بن براق". "وكان السليك إذا كان الشتاء استودع بيض النعام ماء السماء ودفنه، فإذا كان الصيف وانقطعت إغارة الخيل أغار"، فإذا عطش استخرج ذلك البيض من مواضعه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 434 "ويقال: إنه أملق مرة فخرج علبى رجليه رجاء أن يصيب غرة من بعض من يمر به، فيذهب بابله، حتى أمسى في ليلة من ليالي الشتاء مقمرة، فاشتمل الصماء ونام. فبينا هو نائم إذ جثم عليه رجل فقال: استأسر! فرفع إليه السليك رأسه، وقال: "الليل طويل وأنت مقمر"، فأرسلها مثلا. فجعل الرجل يهمزه ويقول: استأسر يا خبيث! فلما آذاه ذلك أخرج السليك يده، فضم الرجل ضمة ضرط منها وهو فوقه، فقال السليك: "أضرطاً وأنت الأعلى"! فأرسلها مثلا. ثم قال له السليك: ما أنت؟ فقال: أنا رجل افتقرت، فقلت: لأخرجن فما أرجع إلى أهلي حتى أستغني. قال: فانطلقا فوجدا رجلا قصته مثل قصتهما، فاصطحبوا جميعاً حتى أتوا جوف مراد. فلما أشرفوا عليه إذا فيه نعم قد ملأ كل شيء من كثرته، فقال لهما السليك: كونا قريبا مني حتى آتي الرعاء، فأعلم [لكما] علم الحي أقريب هو أم بعيد؛ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 435 فإن كانوا قريباً رجعت [إليكما] ، وإن كانوا بعيداً قلت [لكما] قولا أومئ [إليكما] فيه. فانطلق حتى أتى الرعاء، فأعلموه أن الحي بعيد؛ فقال السليك للرعاء: ألا أغنيكم؟ قالوا: بلى! فرفع صوته وأخذ يغني: يا صاحبي ألا لا حي بالوادي ... سوى عبيد وآم بين أذواد أتنظران قريباً ريث غفلتهم ... أم تغدوان فإن الريح للغادي فلما سمعا ذلك أتيا السليك، فأطردوا الإبل وذهبوا بها، ولم يبلغ الصريخ الحي حتى فأتوهم بالإبل". وكان السليك قد لقي رجلاً من خثعم يقال له: مالك بن عمير؛ معه امرأة له من خفاجة يقال لها: النوار. فقال له الخثعمي: أنا أفدي نفسي منك، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 436 فرجع إلى قومها وخلف امرأته رهينة معه فنكحها السليك. وبلغ ذلك شبيل بن قلادة، وأنس بن مدرك الخثعميين، فخالفا إلى السليك على غفلة، فشد عليه أنس فقتله وقتل شبيل وأصحابه من كان معه. والذي يغنى به من شعر السليك قوله: من الخفرات لم تفضح أخاها ... ولم ترفع لوالدها شنارا يعاف وصال ذات البذل قلبي ... ويتبع الممنعة النوارا أمه السلكة من واجب الأدب: السلكة هي الحجلة، وكان الأصمعي يقدم قولها في رثاء ابنها: طاف يبغي نجوة ... من هلاك فهلك ليت شعري ضلة ... أي شيء قتلك؟ أمريض لم تعد ... أم عدو خلتك؟ أم نزال من فتى ... جد حتى جدلك؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 437 أم جحاف سائل ... من جبال حملك؟ كل شيء قاتل ... حين تلقى أجلك والمنايا رصد ... للفتى حيث سلك أي شيء حسن ... لفتى لم يك لك طالما قد نلت في ... غير كد أملك إن أمراً فادحاً ... عن جوابي شغلك ليت روحي قدمت ... للمنايا بدلك سأعزي النفس إذ ... لم تجب من سألك ليت قلبي ساعة ... صبره عنك ملك وكان الأصمعي يقول: أما ترون لهذه الأمة السوداء التي تلبس الشعر وتجمع البعر، وتقول مثل هذا! وهذه الأبيات في كتاب الحماسة؛ وتروى لأخت تأبط شراً. بنو بهدلة بن عوف ومن بني بهدلة بن عوف بن كعب بن سعد: ذو البردين عامر بن أحيمر بن بهدلة من واجب الأدب: من حديثه إلى المنذر صاحب الحيرة وقد أبرز يوماً بردي أبيه محرق، وعنده وفود العرب، فقال: ليقم أغر العرب قبيلة، وأكرمهم بيتاً فيأخذهما، فقام عامر فأخذهما! وقال: العز والعدد في معد، ثم في نزار، ثم في مضر، ثم في خندف، ثم في بني تميم، ثم في سعد، ثم في كعب، ثم في عوف، ثم في بهدلة، فمن أنكر فليغير! فسكتوا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 438 فقال المنذر: هذه عشيرتك كما تزعم، فكيف أنت في أهل بيتك وبدنك؟ فقال: أنا أبو عشرة، وعم عشرة، وخال عشرة، يعينني الأكابر على الأصاغر، والأصاغر على الأكابر. وأما أنا في بدني فشاهد العز شاهدي، ثم وضع قدمه على الأرض وقال: من أزالها فله مائة من الإبل! فلم يقم أحد، فانصرف بالبردين. بنو عطارد بن عوف ومن بني عطارد بن عوف بن كعب بن سعد: كرب بن صغوان العطاردي قال البيهقي: كان رئيساً من رؤساء تميم شاعراً بليغاً، وله كانت الإفاضة بالناس من عرفة، وذلك متوارث في آل صفوان. وفيهم يقول أوس بن مغراء: أولا يريمون في التعريف موقفهم ... حتى يقال: أجيزوا آل صفوانا بنو قريع بن عوف ومن بني قريع بن عوف بن كعب بن سعد: الأضبط بن قريع من العقد أنه كان "رئيس تميم يوم ميط". ومن واجب الأدب: كان سيد سعد في الجاهلية، وكانوا يشتمونه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 439 ويؤذونه، فانتقل إلى حي آخر، فوجدهم يشتمون سادتهم ويؤذونهم، فقال: "أينما أوجه ألق سعداً"، وقال: "في كل واد بنو سعد". وأنشد له صاحب الزهر: لكل ضيق من الأمور سعه ... والصبح والمسي لا بقاء معه أزود عن حوضه ويدفعني ... يا قوم، من عاذري من الخدعه؟ قد يجمع المال غير آكله ... ويأكل المال غير من جمعه فاقبل من الدهر ما أتاك به ... من قر عيناً بعيشه نفعه ولا تعاد الفقير علك أن ... تركع يوماً والدهر قد رفعه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 440 ومن الأغاني: "من شعراء الجاهلية، وكان مفركاً، فاجتمع نساؤه ليلة يسمرن، فتعاهدن على أن يصدقن [الخبر] عن قرك الأضبط، فأجمعن أنه بارد الكمرة، فقالت لإحداهن خالتها: أتعجز إحداكن إذا كانت ليلتها أن تسخن كمرته بشيء من دهن؟ فلما سمع قولها صاح: يا آل عوف! يا آل عوف! فثار الناس، وظنوا أنه قد طرق، فقالوا: ما حالك؟ قال: أوصيكم أن تسخنوا كمراتكم، فإنه لا حظوة لبارد الكمرة! فانصرفوا يضحكون، وقالوا: تباً لك، ألهذا دعوتنا"! أوس بن مغراء القريعي من واجب الأدب: قال النابغة الجعدي: لم نزل نبتدر أنا وأوس بن مغراء بيتاً إذا قاله أحدنا غلب على صاحبه، فلما قال: لعمرك ما تبلى سرابيل عامر ... من اللؤم أو تبلى عليها جلودها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 441 غلب علي. المخبل السعدي من معجم الآمدي أنه "من بني لأي بن أنف الناقة". ومن واجب الأدب: بنو لأي أشراف بن تميم، وهم الذين مدحهم الحطيئة بقوله: أتت آل شماس بن لأي وإنما ... أتاهم بها الأحلام والحسب العد وبنو أنف الناقة هم بنو قريع. قال ابن عبد ربه: "وهم أشرف [بطن] في تميم". قال صاحب الزهر: "وكان يقال لأحدهم: يا ابن أنف الناقة فيغضب، وكانوا ينفرون من هذا اللقب؛ فلما قال الحطيئة في مدحهم: سيري أمام فإن الأطيبين حصى ... والأكرمين إذا ما ينسبون أبا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 442 قوم هم الأنف والأذناب غيرهم ... ومن يساوي بأنف الناقة الذنبا قوم إذا عقدوا عقداً لجارهم ... شدوا العناج وشدوا فوقه الكربا [صار أحدهم إذا سئل عن انتسابه لم يبدأ إلا به] . واسم المخبل ربيعة بن ربيع. وكان يهاجي الزبرقان بن بدر، فغلبه المخبل. وله البيت المشهور: يبكى علينا ولا نبكي على أحد ... فنحن أغلظ أكباداً من الإبل وله: إذا أنت عادين الرجال فلاقهم ... وعرضك من عيب الأمور سليم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 443 بنو عبشمس بن سعد ومن عبشمس بن سعد: نبهان بن علي العبشمي أنشد له المبرد في كامله: يقر بعيني أن أرى من مكانه ... ذرا عقدات الأبرق المتقاود وأن أرد الماء الذي وردت به ... سليمى وقد مل السرى كل واخد وألصق أحشائي ببرد ترابه ... وإن كان مخلوطاً بسم الأساود الجزء: 1 ¦ الصفحة: 444 ومن المنسوبين إلى سعد من غير تخصيص: الخنوت السعدي من شعراء الجاهلية. من واجب الأدب: اسمه توبة بن مضرس، أنشد له الحاتمي في الحلية، وذكر أن زهيراً استلحقهما: وأهل خباء صالح ذات بينهم ... قد احتربوا في عاجل أنا آجله فأقبلت في الساعين أسأل عنهم ... سؤالك بالشيء الذي أنت جاهله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 445 وله: ولما التقى الصفان واختلف القنا ... نهالا وأسباب المنايا نهالها تبين لي أن القماءة ذلة ... وأن أشداء الرجال طوالها المعلوط السعدي من واجب الأدب: ذكروا أن جريراً ادعى قوله: إن الذين غدروا بلبك غادروا ... وشلا بعينك ما يزال معينا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 446 غيضن من عبراتهن وقلن لي: ... ماذا لقيت من الهوى ولقينا؟ وله، وينسب إلى عبد الرحمن بن حسان: إذا المرء أعيته السيادة ناشئاً ... فمطلبها كهلا عليه شديد مالك بن زيد مناة بن تميم ذكر ابن حزم أنه كان أحمق مضعفا، وهو الذي أوصى أخاه سعداً بالقيام على إبله، فلم يقم بها حق القيام، فقال: أوردها سعد وسعد مشتمل ... ما هكذا تورد يا سعد الإبل ولذلك قيل في الأمثال: "آبل من مالك بن زيد مناة". والنسب إليه على جذمين: حنظلة وفيهم الشرف والعدد، وربيعة. بنو خنظلة بن مالك ابن زيد مناة بن تميم، فمنهم البراجم، وهم خمسة من ولد حنظلة، لهم أعلام في الإسلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 447 والشرف والعدد في بني يربوع بن حنظلة، وفي بني دارم بن مالك بن حنظلة. ومن بني حنظلة بنو طهية. بنو يربوع بن حنظلة كانت منازلهم فيما يلي اليمامة من أرض نجد، وكانت في بني رياح الردافة. وبنو العنبر بن يربوع رهط سجاح التي تنبأت في بني تميم، وتزوجها مسيلمة الكذاب، وله معها حكاية في النكاح حتى قيل: "أغلم من سجاح". الكلحبة اليربوعي شاعر جاهلي من بني يربوع، وله البيت المشهور: فقلت لكأس: ألجميها، فإنما ... حللت الكثيب من زرود لأفزعا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 448 وسيد بني يربوع في الجاهلية وفارسهم: عتيبة بن الحارث بن شهاب الذي يقال له: صياد الفوارس، ويضرب به المثل في الشجاعة والفروسية. بنو دارم بن مالك بن حنظلة فيهم شرف وجلالة، وفيهم يقول الفرزدق الشاعر: وإذا نظرت رأيت قومك دارماً ... والشمس حيث تقطع الأبصار ?بنو زرارة بن عدس ابن عبد الله بن دارم. وفي هذا البيت مركز شرف بني دارم، وكانوا أهل مجوسية يعبدون النار من بين العرب؛ لمخالطتهم لملوك الفرس، واتباع مراضيهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 449 زرارة أبوهم كان سيداً في قومه، وله أمثال وكلام سائر. وهو القائل لأولاده: إن أمرتكم بالحروب ثكلتكم، وإن أمرتكم باجتنابها صبرت على ذلكم، والثكل خير من الذل. وقال: لا يقوم عن الغضب بذل الاعتذار. وقال: العزيز منوع، والذليل قنوع؛ والواجد متجن، والطالب متحين. ابنه حاجب بن زرارة كان سيد تميم، وهو الذي دخل على كسرى، فرغب إليه في أن يترك العرب تمير من أريافه؛ فقال: إن العرب غدر فجر، وإن دخلت بلادي عاثت فيها! فقال أيها الملك، أنا ضامن لك أنها لا تعيث، وهذه قوسي عندك رهن! فضحك أصحاب كسرى، فقال لهم كسرى: لا تضحكوا فإن للعرب وفاء! وأخذت منه القوس. ودخلت بنو تميم فامتارت ولم تفسد شيئاً. ومات حاجب فجاء ابنه عطارد بن حاجب إلى كسرى، وأخذ منه القوس؛ فضرب المثل بقوس حاجب، وكان بنو زرارة يفخرون بها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 450 وأنشد أبو عبيدة في أمثاله لحاجب الأبيات المشهورة: أغركم أني بأحسن شيمة ... رفيق وأني بالفواحش أخرق وأنك قد فاحشتني فغلبتني ... هنيئاً مريئاً أنت بالفحش أرفق ومثلي إذا لم يجز أفضل سعيه ... تكلم نعماه بفيه فتنطق أخوه لقيط بن زرارة كان سيداً مثل أخيه. ومن واجب الأدب أنه القائل يوم جبلة، وتروى لمحمد بن حاجب: إن الشواء والنشيل والرغف والكاعب الحسناء والكأس الأنف للطاعنين الخيل والخيل قطف وكان يوم شعب جبلة لقيس على تميم. وقتل من تميم في هذا اليوم عدد كثير، وكان قد ولد النبي صلى الله عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 451 بنو عمرو بن عدس ومن بني عمرو بن عدس: عمرو بن عمرو من واجب الأدب: كانت تخته دختنوس بنت لقيط بن زرارة، وكان ذا مال كثير إلا أنه كبير السن، فلم تزل تسأله الطلاق حتى فعل فتزوجها بعده عمير بن سعد بن زرارة، وكان شابا قليل المال. ففاجأتهم غارة والفتى نائم، فنبهته وقالت له: الخيل! فجعل يقول: الخيل! ويضرط حتى مات! فقيل: "أجبن من المنزوف ضرطا". ولحق دختنوس عمرو بن عمرو، فاستنقذها وأردفها، وقال لها: أي حليليك وجدت خيرا: أألعظيم فيشة وأيرا أم الذي يلقى العدو ضيرا؟ وردها إلى أهلها. فأصابتهم سنة، ومرت بها إبل عمرو، فقالت لجاريتها: انطلقي فقولي له: أسقنا اللبن! فأبلغته، فقال: "الصيف ضيعت اللبن"، فذهبت مثلا؛ فقالت: "هذا ومذقه خير". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 452 مجاشع بن دارم من الأغاني: فيها يقول عمرو بن معدي كرب: الله مجاشع! ما أشد في الحرب لقاءها، وأجزل في اللزبات عطاءها، وأحسن في المكرمات بناءها! قاتلتها فما أجبنتها، وسألتها فما أبخلتها، وهاجيتها فما أفحمتها. وكان قد أتى سيدهم مجاشع بن مسعود المجاشعي، فأمر له بعشرين ألف درهم، وفرس جواد، وسيف صارم، وجارية حسناء، فمر ببني حنظلة، فسألوه عن صاحبهم فقال ذلك. وهم رهط الفرزدق الشاعر. بنو نهشل بن دارم ومن بني نهشل بن دارم: صخر بن نهشل بن دارم ذكر أبو عبيدة في الأمثال أنه كان له مرباع بني حنظلة. وقال له الحارث بن عمرو بن حجر الكندي الملك: هل أدلك على غنيمة ولي خمسها؟ قال: نعم؛ فدله على قبيلة فأغار عليها بقومه، فظفر وغنم، فقال له الحارث: "أنجز حر ما وعد"، فذهبت مثلا، ووفى له صخر. وصخر هو القائل وقد تكلم ابنه بمحضره فأساء: اسكت يا بني، فإن الصمت ستر العي، كما أن الكلام ستر البيان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 453 الأسود بن يعفر النهشلي من الكمائم: مشهور في شعراء الجاهلية، كان يفد على النعمان بن المنذر كثيراً وينادمه. وله الأبيات المشهورة التي أولها: نام الخلي فما أحس رقادي ... وبقيت مطروحاً ببطن الوادي ومنها: ماذا أؤمل بعد آل محرق ... تركوا منازلهم وبعد إياد أهل الخورنق والسدير وبارق ... والقصر ذي الشرفات من سنداد أرضاً تخيرها لدار أبيهم ... كعب بن مامة وابن أم دؤاد نزلوا بأنقرة يسيل عليهم ... ماء الفرات يجيء من أطواد جرت الرياح على محل ديارهم ... فكأنهم كانوا على ميعاد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 454 أخوه حطائط بن يعفر أنشد له صاحب حلى العلا: أريني جواداً مات هزلا لعلني ... أرى ما ترين أو بخيلا مخلدا ذريني فلا أعيا بما حل ساحتي ... أسود فأكفي أو أعين المسودا ضمرة بن ضمرة النهشلي من واجب الأدب: كان من حكماء الجاهلية وخطبائهم، وهو الذي وفد على النعمان بن المنذر، وكان دميماً فاحتقره، وقال: "تسمع بالمعيدي خير من أن تراه"، فقال: أبيت اللعن، إن الرجال لا تكال بالقفزان، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 455 ولا توزن بالميزان، وإنما "المرء بأصغريه: قلبه ولسانه! " فقال: أنت ضمرة بن ضمرة! سبطه نهشل بن حري بن ضمرة من شعراء الحماسة، له فيها الأبيات التي منها: أنا محيوك يا سلمى فحيينا ... وإن سقيت كرام الناس فاسقينا إنا بني نهشل لا ندعي لأب ... عنه، ولا هو بالأبناء يشرينا ورواه الآمدي لبشامة النهشلي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 456 ومن شعر نهشل قوله: ويوم كأن المصطلين بحره ... وإن لم يكن جمر قيام على الجمر أقمنا به حتى تجلى وإنما ... تفرج أيام الكريهة بالصبر بشامة بن حزن النهشلي ذكره الآمدي في معجم الشعراء ونسب له البيتين المتقدمين. وهو من شعراء الحماسة أنشده أبو تمام: ولقد غضبت لخندف ولقيسها ... لما ونى عن نصرها خذالها إني امرؤ أسم القصائد للعدى ... إن القصائد شرها أغفالها بنو فقيم بن جرير بن دارم ومن بني فقيم بن جرير بن دارم: الضحاك بن بهلول الفقيمي من حيلة المحاضرة: قال ابن العلاء: ثلاثة أبيات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 457 قالها أصحابها ولم يعرفوا قدر ما خرج من رؤوسهم: قول المرقش: ومن يلق خيراً يحمد الناس أمره ... ومن يغو لا يعدم على الغي لائما وقول الضحاك الفقيمي: ما كلف الله نفساً فوق طاقتها ... ولا تجود يد إلا بما تجد وقول الآخر: ألا عائذ بالله من عدم الغنى ... ومن رغبة يوماً إلى غير مرغب بنو طهية وهي أمهم، وهو بنو عوف [وأبي] سود ابني مالك بن حنظلة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 458 أبو الغول الطهوي قال الآمدي: لقب بذلك لأنه زعم أنه قتل غولا، وقال شعراً في ذلك. وأنشد له أبو تمام في حماسته: فدت نفسي وما ملكت يميني ... فوارس صدقوا فيهم ظنوني فوارس لا يملون المنايا ... إذا دارت رحى الحرب الزبون ولا يجزون من حسن بسيء ... ولا يجزون من عز بهون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 459 ولا تبلى بسالتهم وإن هم ... صلوا بالنار حيناً بعد حين ?هم منعوا حمى الوقبى بضرب=يؤلف بين أشتات المنون فنكب عنهم درء الأعادي ... وداووا بالجنون من الجنون ولا يرعون أكناف الهوينى ... إذا حلوا ولا روض الهدون وقوله: لو كنت من مازن لم تستبح إبلي ... بنو اللقيطة من ذهل بن شيبانا إذاً لقام بنصري معشر خشن ... عند الحفيظة إن ذو لوثة لانا قوم إذا الشر أبدى ناجذيه لهم ... طاروا إليه زرافات ووحدانا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 460 لا يسألون أخاهم حين يندبهم ... في النائبات على ما قال برهانا لكن قومي وإن عزوا وإن كثروا ... ليسوا من الشر في شيء وإن هانا يجزون من ظلم أهل الظلم مغفرة ... وعن إساءة أهل السوء إحسانا كأن ربك لم يخلق لخشيته ... سواهم من جميع الناس إنسانا فليت لي بهم قوماً إذا ركبوا ... شدوا الإغارة ركبانا وفرسانا شماس بن أسود الطهوي كم شعراء الحماسة، أنشد له أبو تمام: أغرك يوماً أن يقال ابن دارم ... وتقصى كما يقصى من البرك أجرب فأد إلى قيس بن حسان ذوده ... وما نيل منك التمر أو هو أطيب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 461 وإلا تصل رحم ابن عمرو فانه ... يعلمك وصل الرحم عضب مجرب عمرو بن أسود الطهوي قال الآمدي: هو "شاعر وفارس"، وأنشد له: تلوم وما تدري بأية بلدة ... هواي ولا وجهي الذي أتيمم ولم تدر ما مطوية قد أجنها ... ضميري الذي أطوي عليه وأكتم فكم خطة في موطن قد فصلتها ... كما طبق العظم اليماني المصمم ربيعة الجوع هو ربيعة بن مالك بن زيد مناة بن تميم. علقمة بن عبدة الربعي من الأغاني: من شعراء الجاهلية، "يعرف بعلقمة الفحل، سمي بذلك لأنه خلف على امرأة امرئ القيس أم جندب لما حكمت عليه بأنه أشعر منه في صفة الفرس، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 462 فطلقها". وهي "امرأة من طيء، وكان امرؤ القيس لما جاورهم تزوجها، فنزل به علقمة، وقال كل واحد منهما لصاحبه: أنا أشعر، فتحاكما إليها؛ فأنشد امرؤ القيس قصيدته خليلي مرا بي على أم جندب حتى بلغ إلى قوله في الفرس: فللسوط أعلاه وللساق ركضه ... وللزجر منه وقع أهوج منعب وأنشدها علقمة قصيدته ذهبت من الهجران في غير مذهب حتى انتهى إلى قوله في الفرس: فأدركهن ثانيا من عنانه ... يمر كمر الرائح المتحلب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 463 فقالت له: علقمة أشعر منك! قال: وكيف؟ قالت: لأنك زجرت فرسك، وحركته بساقيك، وضربته بسوطك؛ وفرسه جاء الصيد وأدركه ثانياً من عنانه! فغضب امرؤ القيس من قولها، وقال: ليس كما قلت، ولكنك هويته! فطلقها، وتزوجها علقمة". والشعر الذي يغنى به من شعر علقمة قوله: هل ما علمت وما استودعت مكتوم ... أم حبلها إذ تأتك اليوم مصروم يحملن أترجة نضخ العبير بها ... كأن تطيابها في الأنف مشموم قد أشهد الشرب فيهم مزهر صدح ... والقوم تصرعهم صهباء خرطوم كأن إبريقهم ظبي على شرف ... مفدم بسبا الكتان ملثوم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 464 ومن واجب الأدب: أحد الشعراء الستة الجاهلية، لقب بالفحل لأنه كان في قومه شاعر آخر يقال له: علقمة الخصي. وقوله: "يحملن أترجة" هو من أبدع ما وقع في باب الوحي والإشارة، وكنى بذلك عن المرأة التي مسها مضض السفر. وله: وكل بيت وإن طالت إقامته ... على دعائمه لاشك مهدوم وكل قوم وإن عزوا وإن كثروا ... عريفهم بأثافي الشر مرجوم ومن تعرض للغربان يزجرها ... على سلامته لابد مشؤوم ومن مشهور شعره قوله: فان تسألوني بالنساء فإنني ... بصير بأدواء النساء طبيب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 465 إذا شاب رأس المرء أو قل ماله ... فليس له من ودهن نصيب يردن ثراء المال حيث علمنه ... وشرخ الشباب عندهن عجيب وله وقد أسر أخاه شأساً الحارث بن أبي شمر الغساني: وفي كل حي قد خبطت بنعمة ... فحق لشأس من نداك ذنوب وفي عقبه شعراء. ومن المنسوبين إلى تميم من غير تخصيص ولا معرفة عصر: عطاء بن أسيد التميمي وهو أبو المرقال؛ أنشد له الآمدي: وصاحب قلت له بنصح: قم فارتحل قدلاح ضوء الصبيح فقام يهتز اهتزاز الرمح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 466 تاريخ ضبة بن أد ابن طابخة بن خندف بن مضر ذكر النسابون أن ضبة ولد سعداً وسعيداً وباسلا. أما باسل فلحق بأرض الديلم فمن ولده الديلم والجيل. وأما سعيد فخرج مع سعد أخيه، فرجع سعد ولم يرجع سعيد، فذهل عليه أبوه وكاد يفارق عقله، وجعل يقول: "أسعد أم سعيد"، فجرت مثلا. ومن الأمثال لابن فارس: بينا ضبة بن أد ومعه الحارث بن كعب في الشهر الحرام إذ قال له الحارث: لقيت بهذا المكان فتيين - ووصفهما - فقتلت أحدهما، وأخذت سيفه هذا! فنظر إليه فإذا سيف ابنه سعيد، فقال: "الحديث [ذو] شجون"، فسارت مثلا. ثم صب عليه ذلك السيف، فقيل له: أقتلته في الشهر الحرام؟ فقال: "سبق السيف العذل"، فسارت مثلا. والعقب له من ابنه سعد. زيد الفوارس بن حصيص بن ضرار الضبي من واجب الأدب: سمي بذلك لفروسيته. وهو جاهلي من شعراء الحماسة، أنشد له أبو تمام: دعاني ابن مرهوب على شنء بيننا ... فقلت له: إن الرماح مصائد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 467 وقلت له: كن عن شمالي فانه ... سأحميك إن ذاد المنية ذائد الأخضر بن هبيرة الضبي من واجب الأدب: هو شاعر فارس من بني السيد بن مالك بن بكر بن سعد بن ضبة، ذكره أبو تمام في الحماسة وأنشد له: ألا أيها النابح السيد إنني ... على نأيها مستبسل من ورائها دع السيد إن السيد كانت قبيلة ... تقاتل يوم الروع دون نسائها على ذاك ودوا أنني في ركية ... تجذ قوى أسبابها دون مائها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 468 أبو ثمامة بن عازب الضبي من شعراء الحماسة، أنشد له أبو تمام: رددت لضبة أمواهها ... وكادت بلادهم تستلب بكري المطي وإنضاءها ... وبالكور أركبها والقتب أخاصمهم مرة قائماً ... وأجثو إذا ما جثوا للركب وإن منطق زل عن صاحبي ... تعقبت آخر ذا معتقب أفر من الشر في رخوة ... فكيف الفرار إذا ما اقترب؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 469 وله: فجارك عند بيتك لحم ظبي ... وجاري عند بيتي لا يرام عماره بن صفوان الضبي من واجب الأدب: شاعر مجهول العصر، له البيت المشهور ويروى لعنترة: ما أنعم العيش لو أن الفتى حجر ... تنبو الحوادث عنه وهو ملموم وله: أجارتنا من يجتمع يتفرق ... ومن يك رهناً للحوادث يغلق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 470 تاريخ مزينة قال ابن حزم: "ولد عمرو بن أد بن طابخة بن خندف بن مضر عثمان وأوساً، أمهما مزينة بنت كلب بن وبرة، فنسب بنوها إليها". وهم من بين إخوتهم بني طابخة تهاميون محسوبون من أعراب المدينة النبوية، وكانوا من أنصار رسول الله صلى الله عليه. ومن الأغاني أن حسان بن ثابت الشاعر قال لرجل من مزينة: والله لولا سوابق قومك مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لطوقتك طوق الحمام. وذكر صاحب الكمائم أن منازل مزينة كانت في الجاهلية بوادي سالم من ضواحي المدينة، ووادي الصفراء والغميم المذكور في الأشعار. وليس الآن بهذه الأرض من مزينة مذكور بل هي لبني حسن الطالبيين، ومن انضاف إليهم. والمذكور هنا: زهير بن أبي سلمى ربيعة بن رياح بن قرط بن الحارث بن مازن بن حارثة بن ثعلبة بن هذمة بن لاطم بن عثمان؛ وأمه مزينة. من الأغاني: هو أحد الثلاثة ........................................................................... الجزء: 1 ¦ الصفحة: 471 [تاريخ الرباب] ................................................................................. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 472 نشوة الطرب في تاريخ جاهلية العرب تأليف ابن سعيد الأندلسي (610هـ - 685هـ) تحقيق الدكتور نصرت عبد الرحمن كلية الآداب في الجامعة الأردنية الجزء الثاني 1982 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 491 تاريخ قيس عيلان بن مضر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 493 000000000000000000000إذا نادت العرب: يال منصور! بأفريقية، يقال: إنها تجتمع في مائة ألف فارس. ولهم هنالك عز وثروة، وتحكم على البلاد والعباد. وهم من صعيد مصر إلى البحر المحيط قد عمروا مسافة نصف المعمورة؛ ولا نعلم في الشرق ولا في الغرب للعرب جمجمة أعظم منها. وقال لي أحد العارفين من عرب المشرق: إنهم إذا نادوا: يال منصور! في أرض العرب والعراق والجزيرة يجتمع لهم نحو خمسين ألف فارس! وكانت أرضهم في الجاهلية فيما يوالي سروات الحجاز من نجد. والنسب المذكور في عقب منصور في: هوازن وفيها العدد، وفي سليهم وفيها أيضاً عدد ونباهة، وفي مازن وهي دونهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 499 تاريخ هوازن ابن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس عيلان. قال ابن حزم: الأجذام والبيت والعدد والعقب من ولده في بكر بن هوازن؛ والنسب من ولده في: معاوية وفيه البيت والعدد والنباهة، وفي سعد، وفي ثقيف. فأما معاوية بن بكر بن هوازن فالنباهة والعدد من ولده في صعصعة، وفي جشم عدد ونباهة، وفي نصر قلة مع نباهة كانت في الجاهلية. فأما صعصعة بن معاوية فجمهور النسب من ولده والعدد والبيت في عامر، وفي سلول قلة. تاريخ عامر بن صعصعة ابن معاوية بن بكر بن هوازن. جمجمة عظيمة فيها البيت والعدد والأجذام، والعقب النابه ومن ولده في هلال ونمير وربيعة. هلال بن عامر فأما هلال بن عامر رهط حميد بن ثور الشاعر، فافترقوا على جذمين عظيمين: زغبة ورياح، وهما بالمغرب في عدد كثير، ولا ذكر لهما بالمشرق. وفيهما يقول الشاعر حين كانا بصعيد مصر وبرقة: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 500 إذا كنت تكلف بالمكارم فلتزر ... ولدي هلال: زغبة ورياحا لا عيب فيهم غير شح نسائهم ... ومن المكارم أن يكن شحاحا ومنهم في الجاهلية: مادر الهلالي الذي يقال فيه: "ألأم من مادر" سقى إبله، فبقي في أسفل الحوض ماء قليل، فسلح فيه، ومدره بالسلح _ أي لطخه _ لئلا ينتفع به أحد بعده. وفيه قيل: كما جللت خزياً هلال بن عامر ... بني عامر طراً بسلحة مادر بنو نمير بن عامر وأما نمير بن عامر فكانت إحدى جمرات العرب، وهم رهط الراعي النميري الشاعر. وكان أحدهم يفخر بأن يقول: أنا نميري! فلما قال جرير: فغض الطرف إنك من نمير ... فلا كعباً بلغت ولا كلابا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 501 صارت تعدل عن النسب إلى نمير وتنسب إلى عامر! ودخل بنو نمير في الإسلام إلى الجزيرة الفراتية، فكان لهم هنالك دولة، ثم خمدوا فليس لهم ذكر. ربيعة بن عامر وأما ربيعة بن عامر فيقال لولده: بنو مجد، ومجد أمهم، وفيهم يقول لبيد: سقى قومي بني مجد وأسقى ... نميراً والقبائل من هلال قالوا: وبنو مجدهم: كعب وكلاب وعامر بنو ربيعة. كعب بن ربيعة فأما كعب بن ربيعة بن عامر فإن العدد والبيت والأجذام فيه. قال ابن قتيبة: "وولده عقيل، وقشير، وجعدة، والحريش، وعبد الله". تاريخ عقيل بن كعب ابن ربيعة بن عامر. وكان لها في الجاهلية ذكر وأعلام وكثرة، ثم عظم ظهورها في الدولة العباسية، واستولت على بلاد الموصل مع ما كان لها من العراق، وكان من سلاطينها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 502 شرف الدولة مسلم بن قريش ملك الجزيرة والشام. ولم يبق معها بالجزيرة لربيعة الفرس قائمة، ولا بالعراق لبني أسد ذكر، ولا دولة للعرب في البادية بالمشرق أعظم من دولتها. قال ابن حزم: وأما عقيل فيقال: إن عددها يفي بجميع عدد مضر. وأجذام عقيل العظيمة ثلاثة: عبادة، وعمرو، وعامر. عبادة بن عقيل فأما عبادة بن عقيل فهو الأخيل. وكان بنوه في القديم يعرفون بالأخايل، وهم رهط ليلى الأخيلية الشاعرة. وقد ذكر ابن قتيبة أن مجنون ليلى العامري من بني الأخيل. وقد تركوا هذا النسب، والمعروف الآن عبادة. ولا قائمة لها في جزيرة العرب، وأرضها الآن بالجزيرة الفراتية وما والاها من العراق. وهم أهل عافية وأموال تصل إخوتهم خفاجة، والحرب بينهم قائمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 503 عمرو بن عقيل وأما عمرو بن عقيل فالنسب المشهور منهم إلى خفاجة بن عمرو. وقد انتقلوا إلى العراق؛ والدولة الآن في بادية العراق لهم، وهم أصحاب صولة وعيث في الأرض. ومشهورهم في الجاهلية: توبة بن الحمير الخفاجي من الكمائم: كان فارساً عاشقاً شاعراً، وقتلته في الجاهلية بنو عوف بن عامر أبناء عمه. ومن مشهور شعره قوله في ليلى الأخيلية: حمامة بطن الواديين ترنمي ... سقاك من الغر الغوادي مطيرها أبيني لنا لازال ريشك ناعماً ... ولازلت في خضراء غض نضيرها يقول أناس: لا يضيرك نأيها ... بلى كل ما شف النفوس يضيرها بلى قد يضير العين أن تكثر البكا ... ويمنع عنها نومها وسرورها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 504 وأشرف بالقور اليفاع لعلني ... أرى نار ليلى أو يراني بصيرها وكنت إذا ما زرت ليلى تبرقعت ... فقد رابني منها الغداة سفورها وقد زعمت ليلى بأني فاجر ... لنفسي تقاها أو عليها فجورها وقوله: قالت مخافة بيننا وبكيت له ... والبين مبعوث على المتخوف لو مات شيء من مخافة فرقة ... لأماتني للبين طول تخوفي ملأ الهوى قلبي فضقت بحمله ... حتى نطقت به بغير تكلف ومن الأغاني: "كان توبة قد رحل إلى الشام فمر ببني عذرة، فرأته بثينة فجعلت تنظر إليه، فعز ذلك على جميل، فقال: هل لك في الصراع؟ فقال: ذلك إليك. فشدت عليه بثية ملحفة مورسة فائتزر بها، ثم صارعه فصرعه جميل! ثم قال له: هل لك في النضال؟ فقال: نعم؛ فناضلة فنضله جميل، ثم سابقة فسبقه؛ فقال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 505 له توبه: يا هذا، إنما تفعل هذا بريح هذه الجالسة، ولكن اهبط إلى هذا الوادي لتعلم. فهبط، فصرعة توبة ونضله وسبقه". هكذا جاء هذا الخبر، وقد ذكر البيهقي أنه قتل في الجاهلية. عامر بن عقيل وأما عامر بن عقيل فهم بطون، امتاز منها بالشهرة المنتفق بن عامر بن صقيل، وهو نحو ألف فارس، ولهم صولة، وكم غارة لهم على البصرة والحجاج! ومنهم بنو خويلد، وهم فرسان عقيل، وهم الآن بجهة البحرين، ومنهم في عبادة 000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000 [تاريخ جشم بن معاوية بن بكر بن هوازن] 0000000000000000000000000000000000000000000000000 [دريد بن الصمة] 0000000000000000000000000000000000000000000000000"فلقيه ابن جدعان بسوق عكاظ، فحياه وقال: هل تعرفني يا دريد؟ قال: لا، قال: فلم هجوتني، قال: من أنت؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 506 قال: عبد الله بن جدعان، قال: هجوتك لأنك كنت [امرأ] كريما، فأحببت أن أضع شعري موضعه! فقال له: لئن كنت هجوت لقد مدحت! وكساه، وحمل إليه ناقتين برحليهما، فقال يمدحه: إليك ابن جدعان أعلمتها ... مسومة للسرى والنصب فلا خفض حتى تلاقي امرأ ... جواد الرضا وحليم الغضب" وله تغزل في الخنساء الشاعرة. ومن السيرة: أنه "لما فتح رسول الله صلى الله عليه مكة، وسمعت به هوازن، جمعها مالك بن [عوف] النصري، واجتمعت إليه ثقيف؛ وأخرجت بنو جشم دريد بن الصمة، وهو يومئذ شيخ كبير ليس فيه شيء إلا التيمن برأيه، ومعرفته بالحرب. فلما أجمع مالك للمسير حط مع الناس أموالهم وأبناءهم ونساءهم فلما نزلوا بأوطاس اجتمع إليه الناس ومنهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 507 دريد، فقال لهم دريد: بأي واد أنتم؟ فقالوا: بأوطاس، فقال: نعم مجال الخيل! ليس بالحزن الضرس، ولا السهل الدهس! مالي أسمع رغاء الإبل ونهاق الحمير وبكاء الصغير؟ قالوا: ساق مالك بن [عوف] مع الناس أموالهم ونساءهم وأبناءهم، قال: أين مالك؟ فدعي به، فقال: يا مالك، إنك قد أصبحت رئيس قومك، وإن هذا اليوم له ما بعده من الأيام، فلم سقت مع الناس أموالهم ونساءهم وأولادهم؟ قاله: أردت أن أجعل خلف كل رجل أهله وماله ليقاتل عنهم! فقال دريد: هذا رأي راعي ضأن، وهل يرد المنهزم شيء؟ إنها إن كانت لك لم ينفعك إلا رجل بسيفه ورمحه؛ وإن كانت عليك فضحت في أهلك ومالك! فارفعهم إلى أعالي بلادهم، وعليا قومهم، والق القوم بالرجال على متون الخيل، فإن كانت لك لحق بك من وراءك، وإن كانت عليك كنت قد أحرزت أهلك ومالك، ولم تفضح في حريمك. فقال: والله لا أفعل ذلك أبداً، إنك قد خرفت، وخرف رأيك وعلمك، والله لتطيعنني أو لأتكئن على هذا السيف حتى يخرج من ظهري! ونفس على دريد أن يكون له في ذلك ذكر أو رأي؛ فقالوا: قد أطعناك وخالفنا دريداً، فقال دريد: هذا يوم لم أشهده ولم أغب عنه ثم قال: يا ليتني فيها جذع أخب فيها وأضع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 508 أقود وطفاء الزمع كأنها شاة صدع قال: "فلما لقيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم انهزموا، فأتى بعضهم الطائف ومعهم مالك رئيسهم، وأقام بعضهم بأوطاس، وتوجه بعضهم إلى نخلة. وتبعت خيل رسول الله صلى الله عليه من سلك نخلة، فأدرك ربيعة بن رفيع دريد بن الصمة، فأخذ بخطام جمله وهو يظن أنه امرأة، فأناخ به فإذا شيخ كبير، ولم يعرفه الغلام، فقال له دريد: ماذا تريد؟ قال: أقتلك، قال: ومن أنت؟ قال له ربيعة بن رفيع السلمي. ثم ضربه بسيفه فلم يصنع شيئاً، فقال له: بئس ما سلحك أبوك! خذ سيفي هذا من مؤخرة الرحل في القراب، فاضرب به، وارفع عن العظام، واخفض عن الدماغ، فاني كذلك كنت أضرب الرجال! فإذا أتيت أملك فأعلمها أنك قتلت دريد بن الصمة، فرب يوم قد منعت فيه نساءك! فلما ضربه ربيعة سقط فتكشف، فإذا عجانه وبطن فخذيه مثل القراطيس من ركوب الخيل. فلما رجع إلى أمه، وأخبرها بقتله إياه قالت: لقد أعتق قتيلك ثلاثاً من أمهاتك! ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 509 ومن مشهور شعر دريد قصيدته التي منها: أرث جديد الحبل من أم معبد ... يعاقبة أم أخلفت كل موعد وبانت ولم أحمد إليها جوارها ... ولم تزج فينا ردة اليوم أو غد ومنها: فقلت لهم: ظنوا بألفي مدجج ... سراتهم بالفارسي المسرد أمرتهم أمري بمنعرج اللوى ... فلم يستبينوا الرشد إلا ضحى الغد فلما عصوني كنت منهم وقد أرى ... غوايتهم وأنني غير مهتد وهل أنا إلا من غزية إن غوت ... غويت وإن ترشد غزية أرشد نصر بن معاوية وأما نصر بن معاوية بن بكر بن هوازن فهم رهط مالك بن عوف النصري، سيد هوازن يوم حنين؛ وهو مذكور في تاريخ الإسلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 510 سعد بن بكر بن هوازن وأما سعد بن بكر بن هوازن فيقال لهم: أظآر رسول الله صلى الله عليه، استرضع فيهم، وهم أفصح العرب. تاريخ ثقيف وهو عمرو بن منبه بن بكر هوازن؛ وقيل، اسمه قسي، وقيل: قسي لقب له؛ لأنه مر بأبي رغال - وكان مصدقا - فقتله، فقيل: قسا عليه. وقال أحد بني ثقيف: نحن قسي وقسا أبونا وقد قيل: إنه من إياد، وقيل: إنه من بقايا ثمود، والأشهر الذي تقدم ذكره. وكان بنو عدوان يسكنون الطائف، فغلب عليهم بنو ثقيف وسكنوه إلى اليوم؛ وهم أهل مدر. قال البيهقي: الطائف مدينة صغيرة من بلاد نجد، وإن كانت في الولاية كثيراً ما تضاف إلى مكة لقربها منها، ليس بينهما إلا [مرحلتان] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 511 وأنشد صاحب الورقة لمنقذ الهلالي: لله در ثقيف أي منزلة ... حلوا بها بين سهل الأرض والجبل قوم تخير خفض العيش رائدهم ... فأصبحوا يلحفون الأرض بالحلل ليسوا كمن يصبح الترحال همته ... أقبل بعيش على حل ومرتحل ولثقيف أعلام في الإسلام، وهم رهط المغيرة بن شعبة أحد دهاة العرب، ورهط الحجاج. ومنهم في الجاهلية: أبو الصلت عبد الله بن أبي ربيعة الثقفي من واجب الأدب: كان من المشهورين من شعراء الجاهلية ومن رؤساء ثقيف، ووفد على سيف بن ذي يزن يهنئه بغلبته على اليمن وإخراج الحبشة منها، وأنشده القصيدة التي منها: فاشرب هنيئاً عليك التاج مرتفعاً ... في رأس غمدان داراً منك محلالا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 512 ابنه أمية بن أبي الصلت من الأغاني: "أمه رقية بنت عبد شمس بن عبد مناف"، وكان قد قرأ كتب الله عز وجل، وكان يأتي في شعره بأشياء لا يعرفها العرب: كان يسمي الله في شعره السليطيط، وفي مكان آخر التغرور، فقال: "إن السليطيط فوق الأرض مقتدر" قال ابن قتيبة: "علماؤنا لا يحتجون بشعره لهذه العلة". "وكان قد لبس المسوح، وتبع _ على زعمه _ دين إبراهيم وإسماعيل، وحرم الخمر، وشك في الأوثان، وطمع في النبوة؛ لأنه قرأ في الكتب أن نبياً سيبعث من العرب، وكان يرجو أن يكون هو. فلما بعث النبي عليه السلام، فقيل له: هذا الذي كنت تقول فيه، فحسده وقال: إنما كنت أرجو أن أكونه؛ فأنزل الله عز وجل "واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها" (الآية) ، وهو القائل: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 513 كل دين يوم القيامة عند ال ... له إلا دين الخنيفة زور وكان يحرض قريشاً بعد وقعة بدر، وكان يرثي من قتل فيها من قريش: فمن ذلك قوله: ماذا ببدر والعقن ... قل من مرازبة جحاجح وهي قصيدة نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن روايتها". "وقال الزهري: خرج أمية في سفر، فنزلوا منزلا، فأم أمية وجها وصعد في كثيب، فرفعت له كنيسة فانتهى إليها، فإذا شيخ جالس، فقال لأمية حين رآه: إنك لمتبوع، فمن أين يأتيك رئيك؟ قال: من شقي الأيسر؛ قال: فأي الثياب أحب إليك أن يلقك فيها؟ قال: السواد، قال كدت والله أن تكون نبي العرب ولست به، هذا خاطر من الجن وليس بملك؛ فإن نبي العرب صاحب هذا الأمر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 514 يأتيه تابعه من شقه الأيمن، وأحب الثياب أن يلقاه فيها البياض". ومن مشهور شعر أمية قوله يعاتب ابناً له: غذوتك مولوداً وعلتك يافعاً ... تعل بما أجبي إليك وتنهل إذا ليلة نالتك بالشكو لم أبت ... لشكواك إلا ساهراً أتململ كأني أنا المطروق دونك بالذي ... طرقت به دوني فعيناي تهمل تخاف الردى روحي عليك وإنها ... لتعلم أن الموت وقت مؤجل فلما بلغت السن والغاية التي ... إليها مدى ما كنت فيك أؤمل جعلت حبائي منك جبهاً وغلظة ... كأنك أنت المنعم المتطول وسميتني باسم المفند رأيه ... وقلت ولم تصدق: أنا منك أفضل فليتك إذ لم ترع حق أبوتي ... فعلت كما الجار المجاور يفعل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 515 فأوليتني حق الجوار ولم تكن ... علي بمالي دون مالك تبخل تراخ معداً للخلاف كأنه ... برد على أهل الصواب موكل "ولما مرض أمية مرضه الذي مات فيه جعل يقول: قد دنا أجلي، وهذه المرضة آخر مدتي، وأنا أعلم علماً يقيناً أن الحنيفة حق، ولكن الشك يداخلني في محمد! ولما دنت وفاته أغمي عليه قليلا، وأفاق وهو يقول: لبيكما لبيكما هأنذا لديكما لا مالي يفديني! ولا عشيرتي تحميني! ثم أغمي عليه بعد ذلك ساعة أفاق وهو يقول: لبيكما لبيكما هأنذا لديكما لا بري فأعتذر، ولا قوي فأنتصر! ثم أغمي عليه حتى ظنوا أنه قضي نحبه، ثم أفاق وهو يقول: لبيكما لبيكما هأنذا لديكما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 516 محفوف بالنعم إن تغفر اللهم تغفر جما ... وأي عبد لك لا ألما ثم أقبل على القوم وقال: قد جاء وقتي، فكونوا في أهبتي! وحدثهم قليلا حتى أيس القوم من موته، ثم أنشأ يقول: كل عيش وإن تطاول دهراً ... قصره مرة إلى أن يزولا ليتني كنت قبل ما قد بدا لي ... في قلال الجبال أرعى الوعولا اجعل الموت نصب عينيك واحذر ... غولة الدهر إن للدهر غولا ثم قضى نحبه، ولم يؤمن بالنبي عليه السلام". ومن قطب السرور للرقيق أنه كان ينادم عبد الله بن جدعان جواد قريش، فرأى عنده جارية ذهبت بعقله، فكتب إليه: أأذكر حاجتي أم قد كفاني ... حياؤك إن شيمتك الحياء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 517 وعلمك بالحقوق وأنت فرع ... لك الأصل المهذب والسناء كريم لا يغيره صباح ... عن الخلق الجميل ولا مساء إذا أثنى عليك المرء يوماً ... كفاه من تعرضه الثناء تباري الريح مكرمة وجوداً ... إذا ما الكلب أحجره الشتاء ابنه قاسم بن أمية من الكمائم أنه شاعر مثل أبيه وجده. ومن مشهور شعره قوله: قوم إذا نزل الحريب بأرضهم ... تركوه رب صواهل وقيان لا ينكتون الأرض عند سؤالهم ... لتطلب العلات بالعيدان الحارث بن كلدة الثقفي طبيب العرب؛ ذكر صاحب الاستيعاب أنه "كان طبيباً حكيماً، ومات في أول الإسلام، ولم يصح إسلامه. وروي أن رسول الله صلى الله عليه أمر سعد بن أبي وقاص أن يأتيه يستوصفه في مرض نزل به؛ فدل ذلك على جواز تشاور أهل الكفر في الطب إذا كانوا من أهله". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 518 وولده الحارث بن الحارث صحابي من أشراف قومه، وولده أبو بكرة الصحابي رضي الله عنه. تاريخ سليم ابن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس عيلان بن مضر. قال ابن حزم: هي جمجمة عظيمة، ومنهم قبائل ليست بالمشهورة، وأشهرهم: رعل وذكوان. قال البيهقي: والشريد أشهر من قبائل جميع سليم، وأما رعل وذكوان فانهما مشهوران في الكتب، ولا نعلم أعلاماً ينتسبون إليهما. وقبائل سليم ليست لها الآن بالمشرق شهرة ولا ذكر، وإنما هي بالمغرب، ومشاهيرهم: الشريد، وعوف، ورواحة، وذباب، وزغب. بنو الشريد فأما الشريد فهو ابن رياح بن ثعلبة بن عصية بن خفاف بن امرئ القيس بن بهثة ابن سليم. عمرو بن الشريد من واجب الأدب: كان في الجاهلية سيد بني سليم، وكان يمسك بيدي ابنيه صخر ومعاوية في الموسم، فيقول: أنا أبو خيري مضر، فمن أنكر فليغير! فلا يغير ذلك أحد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 519 معاوية بن عمرو وأما معاوية بن عمرو فهو المشهور عند العرب بفارس الجون. صخر بن عمرو وأما صخر بن عمرو فمن واجب الأدب أنه الذي اشتهر ببكاء الخنساء عليه؛ وكان موته من طعنة، وبقي بها مريضاً مدة طويلة حتى ضجرت منه زوجه، فسمعها تقول لمن سأل عنه: لا ميت فينعى، ولا حي فيرجي! فقال: أرى أم صخر لا تمل عيادتي ... وملت سليمى مضجعي ومكاني إذا ما امرؤ سوى بأم جليمة ... فلا عاش إلا في شقا وهوان أهم بأمر الحزم لو أستطيعه ... وقد حيل بين العير والنزوان لعمري لقد أيقظت من كان نائماً ... وأسمعت من كانت له أذنان وما كنت أخشى أن أكون جنازة ... عليك ومن يغتر بالحدثان؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 520 ورثى أخاه معاوية بالأبيات التي في الحماسة ومنها: وطيب نفسي أنني لم أقل له ... كذبت ولم أبخل عليه بماليا وكم إخوة قطعت أقران بينهم ... كم تركوني واحداً لا أخا ليا وذكر أبو بكر بن القوطية أن قاتل صخر وعلة الجرمي، وذلك أن صخراً لقيه، فحمل عليه وفي يد وعلة رمح نسيه بالدهش، فقال له صخر: ألق الرمح؛ فقال وعلة: ألا لا أرى معي رمحاً وأنا لا أشعر! "ذكرتني الطعن وكنت ناسياً"؛ ثم كر على صخر، فطعنه الطعنة التي مات منها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 521 وفي أمثال أبي عبيدة أن قاتله يزيد بن الصعق. ورثاء الخنساء لأخيها صخر كثير، وهو مذكور في تاريخ الإسلام. بنو عوف وأما عوف فهو ابن بهثة بن سليم، وهم في خلق عظيم بأفريقية، وقد انقسموا على جذمين: علاق ومرداس، وفيهم الحرب القائمة. بنو هيب وإخوتهم هيب بن بهثة بن سليم تركب في نحو خمسة عشر ألف فارس في أرض برقة، لها من طلمثيه إلى درنة إلى عقب الاسكندرية. بنو رواحة ورواحة في جوارها إلى إفريقية، تركب في نيف على ألف فارس. ولا أتحقق اتصال نسبها بهيب كيف مر. بنو ذباب وأما ذباب فإنهم خلق كثير، إذا سئلوا قالوا: نحن من سليم، ولا أعلم اتصال نسبهم كيف هو. ومنازلهم برأس أفريقية في جهة طرابلس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 522 بنو زغب وأما زغب فانهم الآن بأفريقية لهم شوكة وفرسان يزيدون على ألف، وذكرهم ابن ماكولا، وضبطهم بكسر الزاي وإهمال العين، وقال: هم خلق كثير بين مكة والمدينة، وهم من بني زغب بن مالك بن بهثة بن سليم. وسألت عنهم بين الحرمين فلم أجد منهم إلا قليلا في جوار بني علي وغيرهم؛ وعددهم بالمغرب. ومن وجدته منسوباً إلى سليم من غير تخصيص، وهو جاهلي وله شعر: نشيبة بن حبيب السلمي من الأغاني أنه قاتل ربيعة بن مكدم الكناني، والقائل فيه: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 523 ولقد طعنت ربيعة بن مكدم ... يوم الكديد فخر غير مجدل تمشي النعام به خلاء وحده ... مشي النصارى حول بيت الهيكل وفي هذا الشعر: فاحذر محل السوء لا تلمم به ... وإذا نبا بك منزل فتحول وقيل: إن قائل هذا الشعر أهبان بن عاديا؛ وقيل: عنترة، وقيل عبد القيس بن خفاف البرجمي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 524 نضلة السلمي من واجب الأدب: هو من شعراء قيس في الجاهلية وفرسانها، وله الشعر المشهور الذي منه: ألم تسل الفوارس يوم غول ... بنضلة وهو موتور جريح رأوه فازدروه وهو خرق ... وينفع أهله الرجل القبيح بنو مازن وأما مازن بن عكرمة بن خصفة بن قيس عيلان فهم رهط عتبة بن غزوان المازني صاحب رسول الله صلى الله عليه، وهو الذي اختط البصرة؛ ولا ذكر لهم بالبادية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 525 بنو محارب وأما محارب بن خصفة بن قيس عيلان فهي قبيلة محقورة عند العرب، ولها قيل: وقيس عيلان لا أريد لها ... من المخازي سوى محاربها ولا ذكر لها الآن بالبادية؛ ولها شعراء في الإسلام. ومنها ممن جهل عصره: أم الضحاك المحاربية قال البيهقي: هي شاعرة بدوية مذكورة، لها في الضبابي الذي كانت تهواه: هل القلب إن لاقي الضبابي خالياً ... لدى الركن أو عند الصفا متحرج وأعجلنا قرب الرحيل وبيننا ... حديث كتنشيج المريضين مزعج حديث لو ان اللحم يصلى بجره ... طرياً أتى أصحابه وهو منضج سعد بن أبي عيلان وأما سعد بن قيس عيلان فولد: غطفان وأعصر؛ والعز والعدد في غطفان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 526 تاريخ غطفان ابن سعد بن قيس عيلان. هي جمجمة عظيمة، وكانت لها ديار منفسحة. ذكر البيهقي أنها خصت من قبائل قيس بالبلاد النجدية التي توالي وادي القرى وجهاتها. ومن حرارها حرة النار، ومن معالمها المشهورة: أبانان والحاجر والهباءة. قال ياقوت في معجم البلدان: "أبان الأبيض شرقي الحاجر فيه نخل وماء، وهو العلم [لبني فزارة وعبس] ؛ وأبان الأسود لبني فزارة، وبينهما ميلان". قال: "وأبرق الحنان المذكور في الأشعار ماء لبني فزارة لا يزال يسمع فيه الحنين، ويقال إنه حنين الجن". وليس لغطفان اليوم في هذه البلاد ذكر، بل تفرقوا على بلاد الإسلام، وغلبت على أرضهم بالحجاز بطون طيئ. وأجذام غطفان المشهور بالنسب إليها: عبس وذبيان وأشجع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 527 بنو عبس بن بغيض أما عبس بن بغيض بن ريث بن غطفان فإن بطونها اقتصرت في النسب إليها، وليست من الجماجم. قال البيهقي: وعبس إحدى جمرات العرب. ولها أعلام في الجاهلية والإسلام. زهير بن جذيمة من بني رواحة بن الحارث بن قطيعة بن عبس؛ كان سيد غطفان في الجاهلية، وقتله خالد بن جعفر بن كلاب. وهو القائل: الحرب ثكل، والدعة مذلة. ورقاء بن زهير ورث ياسة غطفان عن أبيه. وكان لما قتل أباه خالد في الجاهلية أقبل ورقاء بسيفه على خالد، وكان عليه درع، فنبا السيف، فقال ورقاء: رأيت زهيراً تحت كلكل خالد ... فأقبلت أسعى كالعجول أبادر فشلت يميني حين أضرب خالداً ... فيمنعه مني الحديد المظاهر أخوه قيس الحفاظ بن زهير من واجب الأدب: فارس حرب داحس، وصاحب تدبيرها، والمشار إليه فيها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 528 وسبب حرب داحس - وهي من أعظم حروب الجاهلية، تفانت فيها رؤساء عبس وذبيان - أن قيس بن زهير سيد عبس، وحذيفة بن بدر الفزاري سيد ذبيان تخاطرا على سباق، فأجرى قيس داحساً والغبراء، وأجرى حذيفة قزرلا والخطار والخيفاء؛ فجلس أهل حذيفة على الطريق _ وكان المضمار أربعين ليلة، والغاية مائة غلوة - فجاءت الغبراء سابقة فلطموها وردوها، فقال قيس: سبقت! فدفعوه عن ذلك وتشاجروا، فقال قيس: أعطونا بعيراً واحداً ننحره لأهل الماء؛ فقال جذيفة: ما كنا لنقر لك بالسبق! فرحل عنهم، وكان ذلك سبب الحرب. وقتل قيس حذيفة وأخاه حملا، وقال: شفيت النفس من حمل بن بدر ... وسيفي من حذيفة قد شفاني فان أك قد بردت بهم غليلي ... فلم أقطع بهم إلا بناني ولم يرث أحد من قتله إلا قيس. وقال في حمل بن بدر: تعلم أن خير الناس ميت ... على جفر الهباءة ما يريم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 529 ولولا بغيه مازلت أبكي ... عليه الدهر ما بدت النجوم ولكن الفتى حمل بن بدر ... بغى والبغي مرتعه وخيم أظن الحلم دل علي قومي ... وقد يستجهل الرجل الحليم وقتل في هذه الحرب مالك بن زهير أخو قيس، وكان من عظماء غطفان، ورثاه الربيع بن زياد، وعنترة بقوله: فلله عينا من رأى مثل مالك ... عقيرة قوم أن جرى فرسان فليتهما لم يجريا نصف غلوة ... وليتهما لم يرسلا لرهان وليتهما ماتا جميعاً ببلدة ... وليتهما غابا فلا يريان ويضرب المثل بقيس بن زهير في الدهاء، ومن كلامه، أربعة لا يطاقون: عبد إذا ملك، ونذل إذا شبع، وأمة إذا ورثت، وقبيحة إذا تزوجت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 530 وتغرب قيس وأسن، وضعف عن طلب الحرب. وحكى العسكري في الرسالة الشاملة أنه لما أسن، وقعد عن الغارات، اشتدت فاقته؛ فخرج يوماً وأبصر قوما يشتوون لحماً، فلما وجد رائحة القتار دب إليهم، فسألهم أن يطعموه _ ولم يعرفوه _ فردوه أقبح رد؛ فقال: إن بطناً حملتني على هذه الخطة لحقيق ألا يدخلها طعام ولا شراب! وأمسك عن ذلك حتى مات. ومن نثر الدر: لما قتل قيس بن زهير أهل الهباءة، وخرج حتى لحق بالنمر بن قاسط، قال: يا معشر النمر، أنا قيس بن زهير، غريب حديب طريد شريد موتور، فانظروا لي امرأة قد أدبها الغنى، وأذلها الفقر؛ فزوجوه امرأة منهم. فقال: إني لا أقيم فيكم حتى أخبركم بأخلاقي: إني فخور غيور آنف، ولست أفخر حتى أبتلى، ولا أغار حتى أرى، ولا آنف حتى أظلم! فرضوا أخلاقه، وأقام فيهم حتى ولد له، ثم أراد التحول فقال: إني أرى لكم علي حقاً بمصاهرتي إياكم، ومقامي بين أظهركم، وإني أوصيكم بخصال آمركم بها، وأنهاكم عن خصال: عليكم بالأناة فإن بها تدرك الحاجة وتنال الفرصة، وتسويد من لا تعابون بتسويده، والوفاء فان به يعيش الناس، وإعطاء ما تريدون إعطاءه قبل المسألة، ومنع ما تريدون منعه قبل [الإلحاح] ، وإجارة الجار على الدهر، وتنفيس البيوت عن منازل الأيامى، وخلط الضيف بالعيال. وأنهاكم عن الرهان ففيه ثكلت مالكاً أخي، وعن البغي فإنه صرع زهيراً أبي، وعن السرف في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 531 الدماء فإن قتلي أهل الهباءة أورثني العار، ولا تعطوا في الفضول فتعجزوا عن الحقوق، وأنكحوا الأيامى الأكفاء فإن لم تصيبوا بهن الأكفاء فخير بيوتهن القبور. واعلموا أني أصبحت ظالماً مظلوماً: ظلمتني بنو بدر بقتلهم مالكاً، وظلمتهم بقتلي من لا ذنب له. ثم رحل عنهم فلحق بعمان، فتنصر بها، وأقام حتى مات. وقيل: إنه احتاج فكان يأكل الحنظل حتى قتله، ولم يخبر أحداً بحاجته. الجمانة بنت قيس من نثر الدر: قالت لجدها الربيع بن زياد لما أخذ درع أبيها، وشجر ما بينهما: البادئ أظلم، وليس قيس من يخوف بالوعيد، ولا يردعه التهديد؛ فلا تركنن إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 532 منابزته فالحزم في مشاركته؛ والحرب متلفة للعباد، ذهابة بالطارف والتلاد؛ والسلم أرخى للبال، وأبقى لنفوس الرجال. الكملة من بني عوذ ابن قطيعة بن عبس، وهم: ربيع الحفاظ، وعمارة الوهاب، وأنس الفوارق؛ وأمهم فاطمة بنت الخرشب الأنمارية إحدى المنجبات. يقال: إنها رأت في منامها قائلا يقول لها: أعشرة هدرة أحب إليك أم ثلاثة كعشرة؟ فقالت: ثلاثة كعشرة؛ فولدت هؤلاء الثلاثة. فأما أنس فأضيف إلى الفوارس لكثرة زحفه بهم وغاراته، وأما عمارة فسمي الوهاب لأنه حلف بالله لا يسمع صوت أسير بليل إلا فكه، ووهب له نفسه؛ وفيه يقول عنترة: أحولي تنفض استك مذرويها ... لتقتلني؟ فهأنذا عمارا وكان قد حسد عنترة على صيته في الشجاعة، وقال لمن حدثه بشأنه: والله لقد أكثرت من ذكر هذا العبد، ووالله لوددت أني لقيته خاليا? الربيع بن زياد العبسي أحد الأعزة الثلاثة الذين تقدم ذكرهم. من واجب الأدب: كان يلقب بربيعة الحفاظ لمحافظته على قومه، ومن يلوذ به؛ وكان يلقب أيضاً بدالق لكثرة غاراته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 533 واستوزره النعمان بن المنذر مالك الحيرة، ونادمه، وغلب عليه إلى أن أسقطه عنده ليد بن ربيعة الكربي، حين قال مخاطباً النعمان: مهلا أبيت اللعن لا تأكل معه إن استه من برص ملمعه وإنه يولج فيها إصبعه والحكاية مذكورة في ترجمة لبيد. وهجا النعمان، وانفصل عنه إلى قومه. ومن شعر الربيع أبياته التي أنشدها أبو تمام في حماسته يرثي بها مالك بن زهير العبسي، وهي: من كان مسروراً بمقتل مالك ... فليأت نسوتنا بضوء نهار يجد النساء حواسراً يندبنه ... قد قمن قبل تبلج الأسحار قد كن يخبأن الوجوه تستراً ... فالآن حين بدون للنظار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 534 يضربن حر وجوههن على فتى ... عف الشمائل طيب الأخبار قال: وكانوا لا يبكون على قتيل حتى يأخذوا بثأره. وكان عند قيس بن زهير درع يستجيدها، ويضن بها، فاستعارها منه الربيع، فحبسها وأبى ردها؛ فعرض قيس لأم ربيع سفرها، فأراد أن يذهب بها رهناً في الدرع؛ فقالت: أين عزب عقلك؟ أترى بني زياد مصالحيك وقد ذهبت بأمهم يمينا وشمالا، فقال الناس ما شاءوا؟ "وحسبك من شر سماعه"، فذهب مثلا. عروة بن الورد العبسي من بني عوذ. من الأغاني: "هو من شعراء الجاهلية وفرسانها، وصعلوك جواد؛ كان يلقب عروة الصعاليك لجمعه إياهم، وقيامه عليهم". "وكان عبد الملك بن مروان يقول: من قال إن حاتماً أسمح الناس، فقد ظلم عروة ابن الورد". "وقال عبد الله بن جعفر لمعلم ولده: لا تروهم قصيدة عروة بن الورد التي يقول فيها: دعيني للغني أسعى فاني ... رأيت الناس شرهم الفقير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 535 ويقول: إنها تدعوهم للاغتراب عن أوطانهم". وقيل: "إنه أصاب امرأة من بني كنانة باكراً، يقال لها: سليمي وتكنى أم وهب، فاعتقها واتخذها لنفسه، فمكثت عنده بضع عشرة سنة، وولدت له الأولاد وهو لا يشك أنها من أرغب الناس فيه؛ وهي تقول: لو حججت فأمر على أهلي فأراهم! فحج بها، وأتى مكة، ثم أتى المدينة، فأتت سليمى قومها، وقالت إنه خارج بي قبل أن تخرج الأشهر الحرم، فتعالوا إليه، وأخبروه أنكم تستحيون أن تكون امرأة منكم معروفة النسب صحيحة الحسب سبية، وافتدوني منه، فإنه يظن أني لا أفارقه، ولا أختار عليه أحداً. فسقوه الشراب، فلما ثمل قالوا له: فادنا بصاحبتنا؛ فإنها وسيطة النسب فينا معروفة، وإن علينا سبة في أن تكون سبية، فإذا صارت إلينا وأردت معاودتها، فاخطبها إلينا فإننا ننكحك إياها! فقال لهم: لكم ذلك، ولكن لي الشرط في أن تخيروها، فإن اختارتني انطلقت معي إلى ولدها، وإن اختارتكم انطلقتم بها؛ قالوا: ذاك لك. فقال: دعوني ألهو بها الليلة، أودعها، وأفاديها غداً! فلما أصبح جاءوه، فامتنع عن فدائها، فقالوا له: قد فاديتها مذ البارحة، وشهد عليك بذلك جماعة من حضر؛ فلم يقدر على الامتناع، وفاداها. ثم خيروها، فاختارت أهلها؛ ثم أقبلت عليه، فقالت: يا عروة، أما إني أقول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 536 فيك - وإن فارقتك - الحق: والله ما أعلم أن امرأة من العرب ألقت سترها إلى بعل خير منك، وأغض طرفاً، وأقل فحشاً، وأجود يداً، وأحمى حقيقة؛ وما مر علي يوم مذ كنت عندك إلا والموت فيه أحب إلي من الحياة بين قومك؛ لأني لم أكن أشاء أن اسمع امرأة من قومك تقول: قالت أمة عروة كذا وكذا إلا سمعته، ووالله لا أنظر في وجه غطفانية أبداً، فارجع راشداً إلى ولدك، وأحسن إليهم، فقال عروة في ذلك: سقوني الخمر ثم تكنفوني ... عداة الله من كذب وزور "وقال ابن الأعرابي: إن سلمى لما فارقته جاءته تثني عليه، فقالت: والله إنك ما علمت ضحوك السن مقبلا، كسوب مدبراً، خفيف على متن الفرس، ثقيل على قلب العدو، طويل العماد، كثير الرماد، راضي الأهل والجانب، ثم فارقته. فتزوجها ابن عم لها، فقال لها يوما: يا سليم، أثني علي كما أثنيت على عروة؛ فقالت: لا تكلفني ذلك؛ فاني إن قلت الحق غضبت، ولا - واللات والعزى - أكذب عليك! قال: عزمت عليك لتأتيني في مجلس قومي فلتثنين علي بما تعلمين! وخرج فجلس في ندي القوم. وأقبلت فرماها القوم بأبصارهم، فوقفت عليهم وقالت: أنعموا صباحاً، إن هذا عزم علي أن أثني عليه بما أعلم؛ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 537 ثم أقبلت عليه، فقالت: والله إن شملتك لالتحاف، وإن شربك لاشتفتف، وإن لتنام ليلة تخاف، وتشبع ليلة تضاف، وما ترضي الأهل ولا الجانب! ثم انصرفت. فلامه قومه وقالوا: ما كان أغناك عن هذا القول منها! ومن حديث عروة أنه "خرج حتى دنا من ديار هذيل، فكان منها على نحو ميلين وقد جاع، فإذا هو بأرنب فرماها، ثم أورى ناراً واشتواها وأكلها، ودفن النار على مقدار ثلاث أذرع، وقد ذهب الليل، وغارت النجوم. ثم أتى سرحة فصعدها، وتخوف الطلب، فإذا الخيل قد جاءك، وتخوفوا البيات. قال: فجاءت جماعة منهم ومعهم رجل على فرس، فجاء حتى ركز رمحه في موضع النار، وقال: لقد رأيت النار ها هنا! فجاء رجل فحفر قدر ذراع، فلم يجد شيئاً، وأكب القوم يعذلونه ويقولون: عنيتنا في مثل هذه الليلة القرة، وزعمت لنا شيئاً كذبت فيه! قال: ما كذبت، ولقد رأيت النار في موضع رمحي! قالوا: ما رأيت شيئاً لكن تحذلقك وتداهيك هو الذي حملك على هذا، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 538 وما العجب إلا منا حين أطعناك! ولم يزالوا بالرجل حتى رجع الجميع. واتبعهم عروة حتى إذا وردوا منازلهم، جاء عروة فكمن في كسر بيت، وجاء الرجل إلى امرأته وقد خالفه إليها عبد أسود، وعروة ينظر، فأتاها العبد بعلبة فيها لبن فقال: اشربي؛ فقالت: لا، أو تبدأ! فبدأ العبد فشرب. فقال للرجل حين جاء: لعن الله صلفك، عنيت قومك منذ الليلة؛ قال: لقد رأيت ناراً؛ ثم دعا بالعلبة ليشرب، فقال حين ذهب ليكرع: ريح جل ورب الكعبة! فقالت المرأة: وهذه أخرى، أي ريح رجل تجده في إنائك غير ريحك؟ ثم صاحت، فجاء قومها، فأخبرتهم خبره، وقالت: يتهمني ويظن بي الظنون! فأقبلوا عليهم باللوم؛ فقال عروة: هذه ثانية! ثم آوى الرجل إلى فراشه، ووثب عروة إلى الفرس وهو يريد أن يذهب به، فضرب الفرس بيده وزمجر، فرجع عروة إلى موضعه؛ ووثب الرجل فقال: ما كنت لتكذبني! فأقبلت عليه امرأته باللوم. قال: فصنع ذلك عروة ثلاثاً، وصنعه الرجل؛ ثم آوى إلى فراشه، وضجر من كثرة ما يقوم، وقال: لا أقوم إليك الليلة! وأتاه عروة، فحله، وحال في متنه، وخرج ركضاً. وأحس الرجل بذلك، فركب فرساً عنده أنثى. قال عروة: فسمعته خلفي يقول: الحقي فانك من نسله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 539 فلما انقطع من البيوت قلت: أيها الرجل قف، فانك لو عرفتني لم تقدم علي _ أنا عروة بن الورد، وقد رأيت الليلة منك عجباً (وأخبره بشأن النار والأسود) ، ثم قال: فرأيتك في هذه الخصال من أكمل الناس، ولكن تنثني وترجع! قال: فضحك وقال: ذلك لأخوال السوء، والذي رأيت من صرامتي فمن قبل أعمامي وهم هذيل، وما رأيت في كعاعتي فمن قبل أخوالي وهم خزاعة، والمرأة التي رأيتها عندي منهم، وأنا نازل عليهم، وذلك ما يثنيني عن أشياء كثيرة، وأنا لاحق بقومي، وخارج عن أخوالي، وأخلي سبيل المرأة؛ ولولا ما رأيت من كعاعتي لم يقو على مناوأتي أحد من العرب! فقال عروة: خذ فرسك راشداً؛ فقال: ما كنت لآخذه منك وعندي من نسله جماعة خيل، فخذه مبارك لك فيه". "وخرج عروة مرة مع أصحاب له حتى أتوا ماء، فنزل وكنف عليهم كنيفاً من الشجر، وفي ذلك يقول: تنالوا الغنى أو تبلغوا بنفوسكم ... إلى مستراح من عناء مبرح ومن يك مثلي ذا عيال ومقتراً ... من المال يطرح نفسه كل مطرح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 540 ليبلغ عذراً أو ينال رغيبة ... ومبلغ نفس عذرها مثل منجح ثم مضى يبتغي لهم شيئاً وقد جهدوا، فإذا هم بأبيات شعر وبامرأة وشيخ كبير مكتن في كسر البيت، وقد أجدب الناس، وهلكت الماشية، فإذا هو في البيت بشي، فأكله، وقويت به نفسه. فإنه لكذلك عند المساء إذا هو بابل سدت الأفق، وإذا هي تلفت فرقاً، قال: فعلمت أن راعيها جلد شريد الضرب لها. فلما أتت المناخ وبركت مكث الراعي قليلا، ثم نفى ناقة منها فمرى أخلافها، ثم وضع العلبة على ركبته، وحلب حتى ملأها، وسقى الشيخ؛ ثم أتى ناقة أخرى، ففعل مثل ذلك، وسقى العجوز؛ ثم أتى أخرى فسقى نفسه، ثم تلفع واضطجع ناحية. فقال الشيخ _ وأعجبه ذلك _ للمرأة: كيف ترين ابني؟ فقالت: ليس بابنك! قال: فابن من هو ويلك؟ قالت: ابن عروة بن الورد! قال: ومن أين؟ قالت: أتذكر يوم مر بنا ونحن نريد سوق ذي المجاز وقلت: هذا عروة بن الورد، ووصفته لي، فسكت فاني استطرفته! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 541 قال عروة: فسكت، حتى إذا نوم الناس وثبت فصحت بالإبل، فاقتطعت نصفها ومضيت، ورجوت ألا يتبعي الغلام _ وهو حين بدا شاربه _ فلم أشعر إلا به! قال: فتواخذنا فضرب بي الأرض، فتخوفته على روحي، فبادرته وقلت: أنا عروة بن الورد! فارتدع؛ ثم قال: ويلك لست أشك أنك قد سمعت ما كان من أمي؛ قال: فقلت له: ما قلت لك إلا ما يظهر برهانه، فاذهب معي أنت وأمك وهذه الإبل، ودع الشيخ! فقال: الذي بقي من عمره القليل، وأنا مقيم عنده ما بقي فإن له حقاً وذماماً، فإذا مضى فما أسرعني إليك! وخذ من هذه الإبل بعيراً؛ قال: فقلت: ما يكفيني فإن معي أصحاباً، قال: فثان، قلت: لا، قال: فثالث والله لازدتك على ذلك شيئاً! فأخذتها ومضيت إلى أصحابي. قال: ثم إن الغلام لحق بي بعد هلاك الشيخ". ومن شعر عروة قوله: وخل كنت عين الرشد منه ... إذا نظرت ومستمعاً سميعا أطاف بغيه فنهيت عنها ... وقلت له: أرى أمراً فظيعا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 542 أردت رشاده حتى إذا ما ... عصا أمري أتيناها جميعا ومن واجب الأدب: من مشهور شعره قوله: ذريني للغنى أسعى فاني ... رأيت الناس شرهم الفقير وأدناهم وأهونهم عليهم ... وإن أمسى له نسب وخير يباعده الغريب وتزدريه ... حليلته وينهره الصغير وتلقى ذا الغنى وله جلال ... يكاد فؤاد صاحبه يطير قليل ذنبه والذنب جم ... ولكن للغنى رب غفور وقوله: دعيني أطوف في البلاد لعلني ... أفيد غنى فيه لذي الحق مجمل أليس عظيماً أن تلم ملمة ... وليس علينا في الزمان معول فان نحن لم نحسن دفاعاً لحادث ... يلم بنا فالموت بالحر أجمل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 543 وله: تقول سليمى: لو أقمت بأرضنا ... ولم تدر أني للمقام أطوف ومن بني بجاد بن مالك بن غالب بن قطيعة بن عبس: خالد بن سنان العبسي الذي قال فيه النبي صلى الله عليه: "ذاك نبي ضيعه قومه". قال البيهقي: وكان على قرب من المبعث النبوي، وكانت العنقاء قد عاثت في بلاد بني عبس حتى صارت تخطف صبيانهم؛ فدعا الله يرفعها من الأرض، فلا توجد إلا في التصوير. ومن بني بجاد: عنترة بن شداد العبسي أحد الشعراء الستة الجاهليين، وقد اشتهر في العامة بالفروسية شهرة حاتم بالجود. ومن الأغاني: من فحول شعراء الجاهلية، "وإنما ادعاه أبوه عبد الكبر؛ لأن العرب كانت في الجاهلية إذا كان للرجل منهم ولد من أمة استعبده. وكان لعنترة إخوة من أمه عبيد. وكان سبب إلحاق أبيه إياه أن بعض أحياء العرب أغاروا على بني عبس فاستاقوا إبلا، فتبعهم العبسيون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 544 فقاتلوهم ومنهم عنترة؛ فقال له أبوه: كر يا عنترة! فقال: العبد لا يحسن الكر إنما يحسن الحلب والرعي! قال: كر وأنت حر! فكر وهو يقول: أنا الهجين عنتره كل امرئ يحمي حره أسوده وأحمره فقاتل يومئذ قتالا شديداً، وأبلى بلاء حسناً؛ فادعاه أبوه بعد ذلك، وألحق نسبه به". "وهو أحد أغربة العرب"؛ وأنشد النبي صلى الله عليه قول عنترة: ولقد أبيت على الطوى وأظلله ... حتى أنال به كريم المأكل فقال: "ما وصف لي أعرابي قط فأحببت أن أراه إلا عنترة". "وقيل له: أنت أشجع العرب وأشدها؟ قال: لا، قيل فبم شاع لك هذا في الناس؟ قال: كنت أقدم إذا رأيت الإقدام عزماً، وأحجم إذا رأيت الإحجام حزماً، ولا أدخل موضعاً لا أرى منه مخرجاً، وكنت أعتمد الضعيف الجبان، فأضربه الضربة الهائلة يطير لها قلب الشجاع، فأنثني إليه فأقتله". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 545 "وكان عمرو بن معدي كرب يقول: ما أبالي من لاقيت من العرب إذا لم يلقني صريحاها وهجيناها؛ يعني بالصريحين: عامر بن الطفيل، وعتيبة بن الحارث بن شهاب؛ وبالهجينين: عنترة، والسليك". ومن واجب الأدب: كانت امرأة أبيه قد اشتكت إليه، وزعمت أنه راودها، فضربه وغضب عليه؛ فقال عنترة: المال مالكم والعبد عبدكم ... فهل عذابك عني اليوم مصروف؟ وحمى أعقاب الناس في يوم من أيام حرب داحس، فقال قيس بن زهير سيد بني عبس: أحمى أعقاب الناس اليوم ابن السوداء؟ وكان قيس أكولا، فقال عنترة معرضا به: ولقد أبيت على الطوى وأظلله ... حتى أنال به كريم المأكل فأجبتها: إن المنية منهل ... لابد أن أسقى بكأس المنهل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 546 فاقني حياءك لا أبالك واعلمي ... أني امرؤ سأموت إن لم أقتل إن المنية إن تمثل مثلت ... مثلي إذا نزلوا بضنك المنزل إني امرؤ من خير عبس منصباً ... شطري وأحمى سائري بالمنصل ومن قصيدته المختارة التي أولها: هل غادر الشعراء من متردم ... أم هل عرفت الدار بعد توهم قوله: ولقد نزلت فلا تظني غيره ... مني بمنزلة المحب المكرم إن كنت أزمعت الفراق فإنما ... زمت ركابكم بليل مظلم يا شاة ما قنص لمن حلت له ... حرمت علي وليتها لم تحرم فبعثت جاريتي وقلت لها: اذهبي ... فتحسسي أخبارها لي واعلمي قالت: رأيت من الأعادي غرة ... والشاة ممكنة لمن هو مرتم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 547 ومن التشبيه العقيم قوله: جادت عليه كل عين ثرة ... فتركن كل حديقة كالدرهم وخلا الذباب بها فليس ببارح ... هزجاً كفعل الشارب المترنم غرداً يحك ذراعه بذراعه ... فعل المكب على الزناد الأجذم وإذا شربت فإنني مستهلك ... مالي وعرضي وافر لم يكلم وإذا صحوت فما أقصر عن ندى ... وكما علمت شمائلي وتكرمي ومنها: أثني علي بما علمت فإنني ... سهل مخالقتي إذا لم أظلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 548 فإذا ظلمت فإن ظلمي باسل ... مر مذاقته كطعم العلقم ومنها: هلا سألت الخيل يا ابنة مالك ... والخيل تعثر في القنا المتقوم يخبرك من شهد الوقيعة أنني ... أغشى الوغى وأعف عند المغنم ومنها: ومدجج كرة الكماة لقاءه ... لا ممعن هرباً ولا مستسلم جادت يداي له بعاجل طعنة ... بمثقف صدق الكعوب مقوم فشككت بالرمح الطويل إهابه ... ليس الكريم على القنا بمحرم بطل كأن ثيابه في سرحة ... يحذى نعال السبت ليس بتوأم إذ يتقون بي الأسنة لم أخم ... عنها ولكني تضايق مقدمي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 549 يدعون عنتر والرماح كأنها=أشطان بئر في لبان الأدهم مازلت أرميهم بغرة نحره ... ولبانه حتى تسربل بالدم فازور من وقع القنا بلبانه ... وشكا إلي بعبرة وتحمحم لو كان يدري ما المحاورة اشتكى ... أو كان يدري ما الكلام تكلم ومنها: نبئت عمراً غير شاكر نعمتي ... والكفر مخبثة لنفس المنعم ومن المنسوبين إلى عبس من غير تخصيص: أبو الأبيض العبسي من واجب الأدب: من شعراء عبس في الجاهلية، تنسب له الأبيات التي أنشدها أبو تمام في حماسته، وتروى لعروة بن الورد: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 550 لحا الله صعلوكاً إذا جن ليله ... مصافي المشاش آلفاً كل مجزر ولكن صعلوكاً صحيفة وجهه ... كمثل شهاب البارق المتنور مطل على أعدائه يزجرونه ... بساحتهم زجر المنيح المشهر إذا بعدوا لا يأمنون اقترابه ... تشوف أهل الغائب المتنظر فذلك إن يلق المنية يلقها ... حميداً، وإن يستغن يوماً فأجدر وممن جهل عصره: أبي بن حمام العبسي له الأبيات التي في حماسة أبي تمام التي منها: دفعناكم بالقول حتى بطرتم ... وزدتم إلى أن كان دفع الأصابع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 551 أبو وهب طريف العبسي أنشد له أبو تمام في الحماسة: فلهفي وقد واروه ثمت أقبلت ... أكفهم تحثي معا وتهيل وظلت بي الأرض الفضاء كأنما ... تصعد بي آكامها وتجول بنو ذبيان ابن بغيض بن ريث بن غطفان. جماهيرها التي تنتسب إليها: فزارة، ومرة. فزارة بن ذبيان قال ابن حزم: خلاصة قيس فزارة، وبيتهم بنو بدر بن عدي بن فزارة، وعظماؤهم في الجاهلية كانوا يرأسون جميع غطفان، وتدين لهم قبائل قيس، فمنهم: حصن بن حذيفة بن بدر الذي يمدحه زهير بقوله: تراه إذا ما جئته متهللا ... كأنك تعطيه الذي أنت سائله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 552 ويرثيه النابغة الذبياني بقوله: يقولون حصن ثم تأبى نفوسهم ... وكيف بحصن والجبال جنوح وكان في قومه منزلا منزلة الملوك. ومن نثر الدر: قال حصن بن حذيفة: إياكم وصرعات البغي، وفضحات الغدر، وفلتات المزح. وأبوه حذيفة الذي دارت عليه حرب داحس وكذلك عماه: حمل بن بدر، ومالك بن بدر. قالوا: وليوث بني بدر بنو أم قرفة، وهم أولاد مالك بن حذيفة من هذه المرأة، صارت يضرب بها المثل في العز بهم. وأرسل النبي صلى الله عليه إليهم سرية تغير عليهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 553 ومنهم: نهشل بن مالك الفزاري القائل: "إياك أعني واسمعي يا جاره". ومن يجهل عصره من فزارة: أسيد بن عنقاء الفزاري من واجب الأدب: "كان من أكثر أهل زمانه مالا، وأشدهم عارضة ولساناً. وطال عمره، ونكبه دهره، فخرج عشية يتقبل لأهله، فمر به عميلة الفزاري، فقال: يا عم، ما الذي أصارك إلى ما أرى؟ فقال: بخل مثلك بماله، وصون وجهي عن المسألة! فقال: والله لئن بقيت إلى غد لأغيرن حالك! فرجع إلى أهله وأخبرها، فقالت: غرك كلام غلام جنح ليل! فكأنما ألقمته حجراً؛ فبات متململا بين رجاء ويأس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 554 فلما كان السحر سمع رغاء الإبل، وثغاء الشاء، وصهيل الخيل، ولجب الأموال، فقال: ما هذا؟ قيل: عميلة ساق جميع ما عنده فاستخرجه، ثم قسم ماله شطرين، وساهمه عليه، فقال فيه أسيد: رآني على ما بي عميلة فاشتكى ... إلى ماله حالي أسر كما جهر دعاني فآساني ولو ضن لم ألم ... على حين لا بدو يرجى ولا حضر فقلت له خيراً وأثنيت فعله ... وأولاك ما أثنيت من ذم أو شكر ولما رأى المجد استعيرت ثيابه ... تردى رداء سابغ الذيل وأئتزر غلام رماه الله بالحسن يافعاً ... له سمياء لا تشق على البصر كأن الثريا علقت فوق نحره ... وفي أنفه الشعرى وفي خده القمر إذا قيلت العوراء أغضى كأنه ... ذليل بلا ذل ولو شاء لانتصر؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 555 شبل الفزاري من شعراء الحماسة، أنشد له أبو تمام: أيا لهفي على من كنت أدعو ... فيكفيني وساعده شديد وما من ذلة غلبوا ولكن ... كذاك الأسد تصرعها الأسود جميل بن معلى الفزاري ذكره الآمدي في معجم الشعراء، وأنشد له: وأعرض عن مطاعم أشتهيها ... وأهجرها وفي البطن انطواء فلا وأبيك ما في العيش خير ... ولا الدنيا إذا ذهب الحياء بنو مرة بن عوف ابن سعد بن ذبيان. لهم أعلام في الإسلام، وهم رهط مسلم بن عقبة صاحب وقعة الحرة على أهل المدينة، وسيدهم في الجاهلية: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 556 الحارث بن ظالم المري الذي يضرب به المثل في الفتك، فيقال: "أفتك من الحارث بن ظالم" كما يقال: "أمنع من الحارث بن ظالم". وقد لخصت ترجمته من الأغاني والكمائم وواجب الأدب. قال له رجل: ما الفتك؟ قال: أن تستنجز ولا تستأسن، قال: أريد أبين من هذا؛ فاخترط سيفه وقتله، وقال: هذا أبين من ذلك! فعوتب فقال: "سبق السيف العذل". واجتمع مع خالد بن جعفر بن كلاب عند النعمان بن المنذر في أكل تمر، فألقى خالد نوى ما أكل بين يدي الحارث. فلما فرغا قال: انظروا ما أكل الحارث! فقال الحارث: أما أنا فألقيت النوى، وأما أنت فأكلته! فغضب خالد _ وكان لا ينازع _ وقال له: تنازعني وقد تركتك يتيماً؟ فقال الحارث: ذاك يوم لم أشهده، وأنا اليوم مغن مكاني؛ فقال خالد: أفلا تشكر قتلى زهير بن جذيمة وجعلك سيد غطفان؟ فقال له: سأشكرك! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 557 ثم جاءه ليلا، ففتك به وكان عنده عمرو بن الاطنابة ملك الحجاز، فلما قتل الحارث خالداً غضب وقال: لو لقيه يقظان ما نظر إليه، ولو لقيني لعرف قدره، ثم قال: عللاني وعللا صاحبيا ... واسقياني من المدامة ريا إن فينا القيان يعزفن بالد ... ف لفتياننا وعيشاً رخيا أبلغا الحارث بن ظالم المو ... عد والناذر النذور عليا أنما تقتل النيام ولا تقتل ... من كان ذا سلاح كميا فغضب الحارث للشعر، وقال: عللاني بلذتي قينتيا ... قبل أن تبكر الهموم عليا من سلاف كأنها دم ظبي ... في زجاج تخاله رازقيا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 558 لا أبالي إذا اصطحبت ثلاثاً ... أرشيداً دعوتني أم غويا أبلغا عمراً أنني سوف ألقا ... هـ وإن كان ذا سلاح كميا ثم أتى ديار الخزرج ليلا، ودنا من قبة عمرو فنادى: أيها الملك، أغشني وخذ سلاحك! فلما برز له عطف عليه الحارث وقال: أنا أبو ليلى! فخشي عمرو أن يقتله، فألقى رمحه، وقال: سقط رمحي، فدعني آخذه؛ قال: خذه؛ قال: أخشى أن تعدجلني عنه؟ قال: وذمة ظالم لا أعجلتك عنه! قال عمرو: وذمة الإطنابة لا آخذه حتى تنصرف! فانصرف الحارث. ولما قتل خالداً طلبه النعمان بن المنذر وأخوه الأسود بن المنذر، ثم أغار الأسود على جارات له وسباهن، فعظم ذلك على الحارث، فعمد إلى شرحبيل بن الأسود، وكان مرضعاً عند سنان بن حارثة، والمتكفلة به سلمى أخت الحارث بن ظالم، فقال لها: ادفعيه لي لآتي به الأسود شفيعاً؛ فلما دفعته له قتله، فأخذ الأسود سناناً حتى أدى فيه دية الملوك ألف بعير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 559 وضاقت على الحارث الأرض إلى أن استجار بمعبد بن زرارة فأجاره، فجر جواره يوم رحرحان ويوم جبلة، ووجد الأسود نعل ابنه شرحبيل في محارب، فقال: إني لأحذيكم شر نعال! فأمشاهم على الصفا المحمى، فتساقط لحم أقدامهم؛ فلذلك يقول أحد الشعراء اليمانية: على عهد كسرى أنعلتكم ملوكنا ... صفا من أضاخ حامياً يتلهب ثم إن الحارث حصل بعد ذلك في يد النعمان على تأمين، فغدر به، فقال له أتغدر بي بعدما أمنتني؟ فقال: إن غدرت بك مرة فقد غدرت مراراً فقتله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 560 وقيل غير ذلك، قالوا: لما تشاءمت غطفان بالحارث وطردته، انتفى منها، وانتسب إلى قريش إذ كان يقال: إن مرة بن عوف بن سعد بن ذبيان هو مرة بن عوف بن غالب، وفي ذلك يقول: رفعت السيف إذ قالوا قريش ... وبينت الشمائل والقبابا فما قومي بثعلبة بن سعد ... ولا بفزارة الشعر الرقابا وقال عبد الملك بن مروان لجلسائه: هل تعرفون أهل بيت قيل فيهم بيت شعر ودوا لو أنهم افتدوا منه بأموالهم؟ فقال سبأ بن خارجة الفزاري: نحن يا أمير المؤمنين، قال: وما ذاك؟ قال: قول الحارث: فما قومي000000 (البيت) والله يا أمير المؤمنين، إني لألبس العمامة الصفيقة، فيخيل إلي أن شعر قفاي يظهر من تحتها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 561 النابغة الذبياني زياد بن عمرو من غيظ بن مرة، وهو أحد شعراء الجاهلية. من الأغاني: "لقب بقوله فقد نبغت لنا منهم شؤون وهو أحد الأشراف الذين غض منهم الشعر". قال الأصمعي: "كان يضرب للنابغة قبة أدم بسوق عكاظ، فتأتيه الشعراء تعرض أشعارها عليه؛ فأنشدته الخنساء: وإن صخراً لتأتم الهداة به ... كأنه علم في رأسه نار فقال: والله، لولا أن أبا بصير أنشدني آنفاً لقلت إنك أشعر الانس والجن! فقام حسان بن ثابت فقال: والله لأنا أشعر منك ومن أبيك؛ فقال إنك يا ابن أخي لا تحسن أن تقول: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 562 فانك كالليل الذي هو مدركي ... وإن خلت أن المنتأى عنك واسع خطاطيف حجن في حبال متينة ... تمد بها أيد إليك نوازع" "قال أبو عبيدة: كان رجلان من الشعراء يقويان: النابغة وبشر بن أبي خازم، فأما النابغة فدخل يثرب فهابوه أن يقولوا له لحنت وانكفأت، فدعوا له قينة، وأمروها أن تغني من شعره ففعلت، فلما سمع في الشعر غير مزود والغراب الأسود ومدت الكسرة لأجل اللحن حتى صارت ياء، ومدت الضمة حتى صارت واواً فطن لموضع الخطأ فلم يعد. وأما بشر ابن أبي خازم فدله أخوه على ذلك فلم يعد. وكان النابغة يقول: وردت يثرب وفي شعري بعض العاهة، فصدرت عنها وأنا أشعر الناس". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 563 "وقال صالح بن كيسان: كان والله النابغة مخنثاً، أما سمعت إلى قوله: سقط النصيف ولم ترد إسقاطه ... فتناولته واتقتنا باليد فوالله ما يحسن هذه الإشارة، ولا هذا القول إلا مخنث". وكان خاصاً بالنعمان بن المنذر، ثم إنه هرب منه لأجل أنه شبب بزوجة النعمان المتجردة في قصيدته الدالية. وقيل: كان السبب في هروبه أن عبد القيس بن خفاف التميمي ومرة بن سعد بن قريع السعدي عملا هجاء في النعمان، فأنشداه النعمان، ونسباه إلى النابغة، ومنه: قبح الله ثم ثني بلعن ... وارث الصائغ الجبان الجهولا من يضر الأدنى ويعجز عن ضر ... (م) الأقاصي ومن يخون الخليلا يجمع الجيش ذا الألوف ويغزو ... ثم لا يرزأ العدو فتيلا وكان جده لأمه صائغاً ثم إن النابغة بعد ذلك وفد على النعمان مع الفزاريين، فكلموه فيه، فرضي عنه، وأنشد قصيدته الدالية: يا دار مية بالعلياء فالسند الجزء: 1 ¦ الصفحة: 564 وأحسن الاعتذار فيها. ومن واجب الأدب: قيل إنه لقب بالنابغة لكونه نبغ بالشعر كبيراً. وكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يقدمه ويقول: هو أحسنهم شعراً، وأعذبهم بحراً، وأبعدهم قعراً. وقال عمر رضي الله عنه: يا معشر غطفان، من الذي يقول: إلى ابن محرق أعملت نفسي ... وراحلتي وقد هدت العيون أتيتك عارياً خلقاً ثيابي ... على خوف تظن بي الظنون فوفيت الأمانة لم تخنها ... ومن يك في نصابك لا يخون قالوا: النابغة، قال: ذلك أشعر الناس! وكان الخليل بن أحمد يقدمه على زهير، وقال يوماً: إنه دخل على النعمان فأنشده: متوج بالمعالي فوق مفرقه ... وفي الوغى ضيغم في صورة القمر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 565 أخلاق مجد تجلت مالها مثل ... في البأس والجود بين الحلم والخفر فأمر أن يحشى فوه بالدر، وأن يكسى أثواب الرضا. ثم قال الخليل: بمثل هذا تمدح الملوك! وكان أبو عمرو بن العلاء يقدمه بقوله: كم قد أحل بدار الفقر بعد غنى ... عمرو، وكم راش عمرو بن إقتار يريش قوماً ويبري آخرين بهم ... لله من رائش عمرو ومن بار وهو أحد الأشراف الذين غض الشعر منهم، وقد حمله إحسان النعمان بن المنذر على التجاوز في مدحه والذل له، على مكانه في ذبيان. ولما تناهت حاله عند النعمان، وصار من أخص ندمائه، حسده أعداؤه، وعملوا على لسانه الهجاء المتقدم الذكر، ووجدوا له سبيلا بأنه كان جميلا وكان النعمان دميماً، فقالوا له: إن المتجردة زوجة تعشقه، وزاد على ذلك وصفه لها بقوله: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 566 وإذا طعنت طعنت في مستهدف ... رابي المجسة بالعبير مقرمد وإذا نزعت نزعت عن مستحصف ... نزع الحزور بالرشاء المحصد وإذا يعض تشده أعضاؤه ... عض الكبير من الرجال الأدرد وقالوا: ليس يصف هذا الوصف الباطن إلا من جرب! فغضب النعمان عليه، وهم بقتله، ففر منه. وله في الاستعذار والاستعطاف من المحاسن ما انفرد به وتقدم، وهو أشعر الناس إذا رهب؛ فمن فرائد اعتذاره المنصوص على تقديمها قوله: أنبئت أن أبا قابوس أوعدني ... ولا قرار على زأر من الأسد لا تقذفني بركن لا كفاء له ... وإن تأثفك الأعداء بالرفد ما قلت من سيئ مما أتيت به ... إذاً فلا رفعت سوطي إلي يدي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 567 قال أحد النقاد: وإنما دعا على يده؛ لأنه كان قد بلغ النعمان أنه عزم على الغارة على بلاده بقومه. وقوله: أتاني أبيت اللعن أنك لمتني ... وتلك التي أهتم منها وأنصب حلفت فلم أترك لنفسك ريبة ... وليس وراء الله للمرء مذهب لئن كنت قد بلغت عني خيانة ... لمبلغك الواشي أغش وأكذب ولكنني كنت أمرأ لي جانب ... من الناس فيه مستراد ومذهب ملوك وإخوان إذا ما قصدتهم ... أحكم في أموالهم وأقرب كفعلك في قوم أراك اصطفيتهم ... فلم ترهم في فعل ذلك أذنبوا فلا تتركني بالوعيد كأنني ... إلى الناس مطلي به القار أجرب ألم تر أن الله أعطاك سورة ... ترى كل ملك دونها يتذبذب وأنك شمس والملوك كواكب ... إذا طلعت لم يبد منهن كوكب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 568 ولست بمستبق أخاً لا تلمه ... على شعث، أي الرجال المهذب؟ وقوله: وعيد أبي قابوس في غير كنهه ... أتاني ودوني راكس فالضواجع فبت كأني ساورتني ضئيلة ... من الرقش في أنيابها السم ناقع أتاني أبيت اللعن أنك لمتني ... وتلك التي تستك منها المسامع مخافة أن قلت: سوف أناله ... وذلك من تلقاء مثلك رائع لكلفتني ذنب امرئ وتركته ... كذي العر يكون غيره وهو راتع فان كنت لا ذو الضغن عني مكذب ... ولا حلفي على البراءة نافع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 569 فانك كالليل الذي هو مدركي ... وإن خلت أن المنتأى عنك واسع وأنت ربيع ينعش الناس سيبه ... وسيف أعيرته المنية قاطع ومن فرائد نسيبه قوله: سقط النصيف ولم ترد إسقاطه ... فتناولته واتقتنا باليد نظرت إليك بحاجة لم تقضها ... نظر السقيم إلى وجوه العود لو أنها عرضت لأشمط راهب ... عبد الإله صرورة متعبد لرنا لرؤيتها وحسن حديثها ... ولخاله رشداً وإن لم يرشد زعم الهمام بأن فاها بارد ... عذب مقبله شهي المورد زعم الهمام ... ولم أذقه بأنه عذب متى ما ذقته قلت: ازدد تجلو بقادمتي حمامة أيكة ... برداً أسف لثاته بالأثمد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 570 كالأقحوان غداة غب سمائه ... جفت أعاليه وأسفله ند والبيت الثاني عندهم من أغزل ما قالته العرب، وعابه الأصمعي لذكر السقم في صفتها. وقوله من قصيدة في مدح عمرو بن الحارث الأصغر الغساني لما أجاره من النعمان: كليني لهم يا أميمة ناصب ... وليل أقاسيه بطيء الكواكب تطاول حتى قلت ليس بمنقض ... وليس الذي يرعى النجوم بآئب وصدر أراح الليل عازب همه ... تطاول فيه الحزن من كل جانب أراد براعي النجوم الصبح، فأقام مقامه الذي يغدو بالماشية للرعي؛ وهذا من بارع التلويح، وجعل صدره مأوى للهموم، وجعلها كالنعم الشاردة للسرح نهاراً، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 571 الآوبة لمكانها ليلا لتقييد الألحاظ عما هي فيه مطلقة بالنهار، متسلية بسببه. قال صاحب زهر الآداب: "وهو أول من أثار هذا المعنى. وكره امرؤ القيس أن يخف عنه الهم في وقت من الأوقات، فقال: ألا أيها الليل ألا انجل ... بصبح وما الإصباح منك بأمثل" ومن فرائد هذه القصيدة قوله: إذا ما غزوا بالجيش حلق فوقهم ... عصائب طير تهتدي بعصائب جوانح قد أيقن أن قبيله ... إذا ما التقى الجيشان أول غالب تراهن خلف القوم خزراً عيونها ... جلوس الشيوخ في ثياب المرانب ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب تورثن من أزمان يوم حليمة ... إلى اليوم قد جربن كل التجارب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 572 تقد السلوقي المضاعف نسجه ... وتوقد بالصفاح نار الحباحب رقاق النعال طيب حجزاتهم ... يحيون بالريحان يوم السباسب ولا يحسبون الخير لا شر بعده ... ولا يحسبون الشر ضربة لازب وبيته الثالث من التشبيهات العقم. ويوم حليمة هو الذي قتل فيه الحارث بن أبي شمر ملك عرب الشام المنذر بن المنذر ملك عرب العراق، ونسب إلى حليمة بنت الحارث بن أبي شمر؛ لأنها حضرته محرضة لعسكر أبيها، وتزعم العرب أن الغبار ارتفع في ذلك اليوم، وتكاثف حتى سد عين الشمس، وظهرت الكواكب. ولما بلغ النابغة أن النعمان عليل قد اشتد ألمه أقلقه ذلك، ولم يملك الصبر عنه، فسار إليه، فألفاه محمولا على سرير ينقل، فقال لعصام حاجبه: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 573 ألم أقسم عليك لتخبرني ... أمحمول على النعش الهمام؟ فاني لا ألومك في دخول ... "ولكن ما وراءك يا عصام" فان يهلك أبو قابوس يهلك ... ربيع الناس والبلد الحرام وكان النعمان بن الحارث الغساني قد حمى قراقراً لتربع ماله، فتربعته ذبيان، فنهاهم النابغة، وخوفهم عقوبته، فعيروه خوفه منه. ثم إن النعمان أوقع بهم، فقال النابغة: وخوفتني بنو ذبيان خشيته ... وهل علي بأن أخشاك من عار وقلت: يا قوم إن الليث منقبض ... على براثنه لوثبة الضاري الجزء: 1 ¦ الصفحة: 574 ويستحسن في باب رثاء الملوك والعظماء قوله في حصن بن بدر سيد فزارة: يقولون حصن ثم تأبى نفوسهم ... وكيف بحصن والجبال جنوح ولم تلفظ الموتى القبور ولم تزل ... نجوم السماء والأديم صحيح فعما قليل ثم جاء نعيه ... فظل ندي القوم وهو ينوح ومن فرائده التي يتمثل بها قوله في عامر بن الطفيل: فان يك عامر قد قال جهلا ... فان مظنة الجهل الشباب فانك سوف تحلم أو تناهى ... إذا ما شبت أو شاب الغراب وقوله: إذا حاولت في أسد فجوراً ... فاني لست منك ولست مني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 575 وقوله: نصحت بني عوف فلم يتقبلوا ... وصاتي ولم تنجح لديهم وسائلي وقوله: ليهنئ بني ذبيان أن بلادهم ... خلت لهم من كل مولى وتابع ومن تاريخ ابن عساكر أن "الشعبي كان عند عبد الملك بن مروان يوماً، فدخل عليه الأخطل، وأنشده ما قال فيهم من الشعر، فقال الشعبي: قاتل الله النابغة حيث يقول: هذا غلام حسن وجهه ... مستقبل الخير بديع التمام للحارث الأكبر والحارث ال ... أصغر والحارث خير الأنام ثم لهند وهند وقد ... أفرغ في الخيرات منهم إمام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 576 ستة أعلام هم ما هم ... هم خير من يشرب صوب الغمام فقال عبد الملك: يا أخطل، لم لا تقول مثل هذا؟ فقال له الأخطل: أعوذ بالله من شرك يا شعبي". سنان بن أبي حارثة المري من كتاب أفعل للأصفهاني: "عنفه قومه في الجود، فركب ناقة يقال لها: الجهول، وقال: لا أراني يؤخذ على يدي! فلم ير بعد ذلك، فسمته العرب: ضالة غطفان؛ وفيه يقول زهير: إن الرزية لا رزية مثلها ... ما تبتغي غطفان حين أضلت" هرم بن سنان المذكور. من الأغاني: "ذكر أن هرماً كان قد حلف ألا يمدحه زهير الشاعر إلا أعطاء عشرة أعبد أو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 577 وليدة أو فرساً، فاستحيا زهير مما كان يأخذه منه، فكان إذا رآه في ملأ قال: أنعموا صباحاً غير هرم، وخيركم تركت". وله فيه أمداح جليلة قد تقدم منها في ترجمة زهير ما تقدم. أسماء المرية صاحبة عامر بن الطفيل في الجاهلية. من واجب الأدب أنها كانت من شواعر العرب، وهي القائلة: ألا خليا مجرى الجنوب لعله ... يداوي فؤادي من جواه نسيمها وكيف تداوي الريح شوقاً مماطلا ... وعيناً طويلا بالدموع سجومها؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 578 وممن لا يتحقق عصره: عاتكة المرية أنشد لها صاحب الزهر وقد راودها ابن عمها: فما طعم ماء أي ماء تقوله ... تحدر من غر طوال الذوائب بمنعرج من بطن واد تقابلت ... عليه رياح الصيف من كل جانب نفت جرية الماء القذى عن متونه ... فما إن به عيب تراه لشارب بأطيب ممن يقصر الطرف دونه ... تقى الله واستحياء بعض العواقب المثلم بن رياح المري من شعراء الحماسة، أنشد له أبو تمام: تصيح الردينيات فينا وفيهم ... صياح بنات الماء أصبحن جوعا خلطنا البيوت بالبيوت فأصبحوا ... بني عمنا من يرمهم يومنا معا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 579 أشجع بن ريث بن غطفان وأما أشجع بن ريث بن غطفان فلا تفرع لها، وكانت ممن يحسب في أعراب المدينة النبوية. ولا ذكر لها الآن في الحجاز ولا في غيرها. أعصر بن سعد بن قيس عيلان وأما أعصر بن سعد بن قيس عيلان فلها جذمان: الغنويون والباهليون. غني بن أعصر فمن غني بن أعصر: طفيل الخيل الغنوي من واجب الأدب: عرف بذلك لكثرة وصفه الخيل وإحسانه فيه. ومن الأغاني: هو "طفيل بن عوف، جاهلي من الفحول المعدودين. ويقال: إنه أقدم شعراء قيس، وهو من أوصف العرب للخيل". "وقال [قتيبة بن مسلم] لأعرابي من غني: أي بيت قالت العرب أعف؟ قال: قول طفيل الغنوي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 580 ولا أكون وكاء الزاد أحبسه ... لقد علمت بأن الزاد مأكول" وله: فذوقوا كما ذقنا غداة محجر=من الغيظ في أكبادنا والتحوب ومن الكمائم: كان يسمى محبراً لحسن وصفه للخيل؛ وكان معاوية يقول: خلوا لي طفيلا، وخذوا من شئتم. وهو القائل: بساهم الوجه لم تقطع أباجله ... يصان وهو ليوم الروع مبذول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 581 وله: إن النساء كأشجار خلقن لنا ... منها المرار وبعض المر مأكول إن النساء متى ينهين عن خلق ... فانه واجب لابد مفعول وذكر صاحب العقد أنه كان رئيس غني، وأخذ منها المرباع كما تفعل الملوك. وهو القائل: جزى الله عنا جعفراً حين أزلقت ... بنا نعلنا في الواطئين فزلت أبوا أن يملونا ولو أن أمنا ... تقاسيه ما قاسوه منا لملت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 582 هم أسكنونا في ظلال بيوتهم ... ظلال بيوت أدفأت وأظلت وممن لا يتحقق عصره: علي بن الغدير الغنوي ذكر البيهقي أنه من شعراء غني وفرسانها، وأنشد له: كيف صبري إذا نأت بك دار ... وأراني من قبلها ذا اكتئاب رب إن العداة ما عذبوني ... فأليم العذاب من أحبابي نافع بن خليفة الغنوي قال البيهقي: هو شاعر اشتهر من شعره البيت الذي ينشده أهل البديع في محاسن التميم: رجال إذا لم يقبل الحق منهم ... ويعطوه لاذوا بالسيوف القواضب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 583 العباس بن حذيفة الغنوي من واجب الأدب: شاعر اشتهر من شعره قوله: يقولون من هذا الغريب بأرضنا ... أما والهدايا إنني لغريب وماذا عليكم إن أطاف بأرضكم ... مطالب دين أو نفته حروب؟ أمشي بأعطان المياه وأبتغى ... قلائص منها صعبة وركوب باهلة ومن باهلة، وهم بنو معن بن مالك بن أعصر: أعشى باهلة عامر بن الحارث من واجب الأدب: من أعلام شعراء الجاهلية؛ أشهر ما له القصيدة التي يرثي بها المنتشر بن وهب الباهلي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 584 المشهور بالعدو والكرم، منها: إن تقتلوه فقد أشجاكم زمناً ... كذلك الرمح بعد الطعن ينكسر لا يأمن القوم ممساه ومصبحه ... من كل أوب وإن لم يأت ينتظر لا يتأرى لما في القدر يرقبه ... ولا يعض على سوفه الصفر تكفيه فلذة كبد إن ألم بها ... من الشواء ويروي شربه الغمر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 585 فان جزعنا فإن الخطب أجزعنا ... وإن صبرنا فانا معشر صبر صفية الباهلية من واجب الأدب: شاعرة من شواعر العرب، اشتهر قولها: كما كغصنين في جرثومة بسقا ... حسناً بأكثر ما تسمو به الشجر حتى إذا قيل قد طالت فروعهما ... وطاب فيئاهما واستنظر الثمر أنحى على مؤنسي ريب الزمان وما ... يبقي الزمان على شيء ولا يذر كنا كأنجم ليل بينها قمر ... يجلو الدجى فهوى من بينها القمر عمرو بن قيس عيلان وأما عمرو بن قيس عيلان فولداه: فهم وعدوان، وأمهما جديلة إليها ينسب الجدليون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 586 بنو فهم بن عمرو لا ذكر لهم الآن في الحجاز ولا في غيره، ولهم أعلام في الجاهلية والإسلام. تأبط شراً الفهمي من واجب الأدب: قيل: اسمه ثابت بن جابر؛ وقيل ابن عميثل. واختلف في سبب لقبه: لأنه جاء إلى أهله بجراب فيه حيات، فقيل: تأبط شراً؛ وقيل: لأنه قتل الغول، ثم جاء بها في جوف الليل إلى أصحابه. "وكان يكثر الغارات على هذيل، فرصدته حتى أتى مع أصحابه إلى غار في جوف جبل، فتدلى له بحبل، فعلمت به هذيل فجاءت، وهرب أصحابه. وحركوا الحبل، فرفع رأسهم فرآهم، فقالوا له: اطلع! فقال: على أن تطلقوني بالفداء! فقالوا: لا شرط لك، فقال: فأراكم قاتلي وأخذي جناي - وكان قد اشتار من الغار عسلاً - والله لا أفعل! ثم جعل يسيل العسل على فم الغار، وعمد إلى الزق فشده على صدره وألصقه بالعسل، فلم يزل يزلق إلى أن أنزله إلى أسفل الجبل، ففاتهم وبين الموضع الذي وقع فيه وموضعهم مسيرة ثلاثة أيام. وفي ذلك يقول أبياته التي في الحماسة: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 587 إذا المرء لم يحتل وقد جد جده ... أضاع وقاسى أمره وهو مدبر ولكن أخو الحزم الذي ليس نازلا ... به الخطب إلا وهو للقصد مبصر فذاك قريع الدهر ما عاش حول ... إذا جاش منه منخر جاش منخر أقول للحيان وقد صفرت لهم ... وطابي ويومي ضيق الباع معسر هما خطتا: إما إسار ومنة ... وإما دم والقتل بالحر أجدر وأخرى أصادي النفس عنها وإنها ... لمورد حزم إن فعلت ومصدر فرشت لها صدري فزل عن الصفا ... به جؤجؤ عبل ومتن محضر فخالط سهل الأرض لم يكدح الصفا ... به كدحة والموت خزيان ينظر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 588 فأبت إلى فهم وما كنت آبياً ... وكم مثلها فارقتها وهي تصفر ومما أنشده صاحب الحماسة من مختار شعره قوله: وإني لمهد من ثنائي فقاصد ... به لابن عم الصدق شمس بن مالك أهز به في ندوة الحي عطفه ... كما هز عطفي بالهجان الأوارك قليل التشكي للمهم يصيبه ... كثير النوى شتى الهوى والمسالك يظل بموماة ويضحي بغيرها ... وحيداً ويعروري ظهور المهالك ويسبق وفد الريح من حيث تنتحي ... بمنخرق من شده المتدارك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 589 إذا حاص عينيه كرى النوم لم يزل ... له كالئ من حد أخلق صائك يرى الوحشة الأنس الأنيس ويهتدي ... بحيث اهتدت أم النجوم الشوابك [بنو عدوان بن عمرو] 000000000000000000000000000000000000000000000000 [عامر بن الظرب] 000000000000000000000000000000000000000000000000 وأرمي بطرفي إذا ما نظرت ... كأن على الطرف مني غماما وقال في أثناء كلامه: ولا تسألوا أميركم أكثر من ماله، فيعجز ويموت في أيديكم، فتكون حسرة عليكم. وأوصيكم بالضيف فلا يخرج إلا وهو مكموم الفم باحسانكم. وإذا نكح فيكم الغريب فاختاروا له أهل العفاف من نسائكم؛ فإنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 590 أستر لعرضكم. وعليكم بالصلات فإنها تزرع المودة. وإياكم والغيبة فإنها توغر القلوب، وتفرق الجماعة. واذكروا قومكم إذا غالوا عنكم بما تحبون أن يذكروه منكم إذا غبتم. وذكر أنه أدرك كنانة بن جذيمة وهو شيخ محجوب، فأخبره أنه قد آن خروج نبي اسمه محمد صلى الله عليه، وأوصى بأتباعه. ثم قال: وإياكم وعهد الملك قابوس، فإنه حليم ما استحلم، سفيه ما استسفه. وذكر أنه كان خطيب سوق عكاظ غير مدافع في زمانه. ومن واجب الأدب: كان حكيم العرب، وحرم الخمر على نفسه في الجاهلية، وقال: إن أشرب الخمر أشربها للذتها ... وإن أدعها فاني فارك قال سئالة للفتي ما ليس في يده ... ذهابة بعقول القوم والمال ولما طال عمره صار بما يهفو في أحكامه، فتقرع له العصا بنته، فيعود إلى الإصابة ويتنبه. وفي ذلك يقول الشاعر: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 591 لذي الحلم قبل اليوم ما تقرع العصا ... وما علم الإنسان إلا ليعلما وفي الأغاني ذكره. ومن نثر الدر: زوج ابنته من ابن أخيه، فلما أراد تحويلها إليه قال لأمها: مري ابنتك ألا تنزل مفازة إلا ومعها الماء؛ فإنه للأعلى جلاء، وللأسفل نقاء. ولا تكثر مضاجعة الرجل؛ فإنه إذا مل البدن مل القلب، ولا تمنعه شهوته؛ فإن الحظوة الموافقة. فلم تلبث شهراً أن جاءته مشجوجة، فقال له: يا ابن أخي، ارفع عصاك عن بكرتك [تسكن] ؛ فإن كانت نفرت من غير أن تنفر فذاك الداء الذي ليس له دواء، وإن لم يكن بينكما وماق فمذاق الخلع خير من الطلاق! فرد عليه صداقه وخلعها منه، وهو أول خلع كان في العرب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 592 ومن كلامه: الرأي نائم والهوى يقظان، فمن هنالك يغلب الهوى الرأي. قال وكان حكيماً خطيباً رئيساً، وهو الذي قال: يا معشر عدوان، الخير ألوف عزوف، ولن يفارق صاحبه حتى يفارقه؛ وإني لم أكن حكيماً حتى اتبعت الحكماء، ولم أكن سيدكم حتى تعبدت لكم! وشاعرهم: ذو الأصبع العدواني من الروض الأنف أنه من ولد ظرب الذي من ولده عامر بن الظرب. ومن الأغاني: اسمه "حرثان [ابن الحارث] ، وهو من قدماء شعراء الجاهلية، وله غارات كثيرة، ووقائع في العرب". وقيل: اسمه حرثان بن عدوان. "قال الأصمعي: نزلت عدوان على ماء، فأحصوا فيه سبعين ألف غلام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 593 أغرل سوى من كان مختوناً، ثم وقع بينهم بأسهم، فقال ذو الأصبع: عذيري من بني عدوا ... ن كانوا حية الأرض بغى بعضهم بعضاً ... فلم يبق على البعض فقد صاروا أحاديثاً ... برفع القول والخفض ومنهم كانت السادا ... ت والموفون بالقرض ومنهم حكم يقضي ... فلا ينقض ما يقضي ومنهم من يجيز النا ... س بالسنة والفرض" الحكم: ابن الظرب وقد تقدم، والذي يجيز الناس في الحج: أبو سيارة العدواني: أفاض بالعرب من عرفات أربعين سنة على حمار واحد، فقيل: "أصح من حمار أبي سيارة". قال السهيلي في الروض: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 594 وهو الذي كان يقول: "أشرق ثبير كيما نغير". قال: والإجازة: الدفع من مزدلفة وله كانت. ومن دعاء أبي سيارة: اللهم حبب بين نسائنا، وبغض بين رعائنا، واجعل المال في سمحائنا". وأنشد صاحب الأغاني من شعر ذي الأصبع العدواني: أزرى بنا أننا شالت نعامتنا ... فخالني دونه بل خلته دوني فان تصبك من الأيام جائحة ... لم نبك منك على دنيا ولا دين بنات ذي الأصبع من نثر الدر: كان ذو الأصبع غيوراً، وكان له بنات أربع لا يزوجهن غيرة، فاستمع عليهن مرة وقد خلون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 595 يتحدثن، فذكرن الأزواج حتى قالت الصغيرة: "زوج من عود خير من القعود:، فخطبن فزوجن. ثم أمهلهن حولا فزار الكبرى، فسألها عن زوجها فقالت: خير زوج؛ يكرم أهله، وينسى فضله، قال: حظيت ورضيت، فما مالكم؟ قالت: خير مال، قال: وما هو؟ قالت: الإبل نأكل لحمها مزعاً، ونشرب ألبانها جرعاً، وتحملنا وضعيفنا معاً؛ قال: زوج كريم، ومال عميم! ثم زار الثانية فقال: كيف رأيت زوجك؟ قالت: يكرم الحليلة، ويقرب الوسية، قال: فما مالكم؟ قالت: البقرة، قال: وما هي؟ قالت: تأنف الفناء، وتملأ الإناء، وتودك السقاء، ونساء مع نساء؛ قال: رضيت وحظيت! ثم زار الثالثة فقال: كيف رأيت زوجك؟ قالت: لا سمح بذر، ولا بخيل حكر، قال: فما مالكم؟ قالت: المعزى، قال: وما هي؟ قالت: لو كنا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 596 نولدها فطما، ونسلخها أدماً لم نبلغ بها نعما؛ فقال: جزر مغنية! ثم زار الرابعة فقال، كيف رأيت زوجك؟ قالت: شر زوج، يكرم نفسه، ويهين عرسه، قال: فما مالكم؟ قالت: شر مال! الضأن، قال: وما هي؟ قالت: جوف لا يشبعن، وهيم لا ينقعن، وصم لا يسمعن، وأمر مغويتهن يتبعن، فقال: "أشبه امرؤ بعض بزه" فأرسلها مثلا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 597 تاريخ ربيعة ابن نزار بن معد بن عدنان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 599 بين ربيعة ومضر من الفخر والمناقضات بالأشعار ما يطول ذكره. وكلاهما كثير في العدد والشرف والعز، إلا أن النبوة والخلافة في مضر. وكان معظم العز لمن حاز البيت من ولد إسماعيل فحازته المضرية، وخرجت ربيعة عن أرجائه، فتشتتت قبائلها، وتفرقت في البلاد، فاختص منهم تغلب وبكر بن وائل بأطراف نجد من شمال الحجاز وشرقه، والبلاد الجزرية والفراتية التي تعرف الآن بديار ربيعة، منها سنجار ونصيبين. ثم إن تغلب وبكراً وقعت بينهما حرب وائل، فانحازت بكر إلى الجبال، وهي جهات ماردين وميافارقين، فعرفت بديار بكر إلى اليوم. وسكن بنو عجل منهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 601 مما يلي أرض العراق في جهات ذي قار وقراقر، وسكن بنو حنيفة باليمامة، وسكن عبد القيس بالبحرين، وسكن عنزة في جهة عبد القيس. ولم يبق الآن من ربيعة طائل على ما كان فيها من الكثرة والعظمة، وتفرقت قبائلها وبطونها في الحواضر والقرارات. ولقد دوخت بلاد ربيعة بالجزيرة الفراتية فلم أجد فيها من يركب فرساً من تغلب ولا بكر، ولا لهم قائمة. وقد صارت دولة العرب هنالك لزبيد من طيء ولعبادة من المضرية، وتغلب وبكر دخلوا في الفلاحين، وامحي عنهم اسم العرب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 602 ودخلت جزيرة العرب، فسألت: هل بقي في أقطارها أحد من ربيعة؟ فقالوا: لم يبق من يركب الخيل وفيه عربية وحل وترحال غير عنزة، وهم بجهات خيبر، وبني شعبة المشهورين بقطع الطرقات وهتك الأستار في أطراف الحجاز مما يلي اليمن والبحر، وبني عنز في جهة تبالة؛ وغير ذلك لا نعلمه في المشرق ولا في المغرب. وولدا ربيعة اللذان اشتهر إليهما النسب: أسد وفيه العدد والبيت، وضبيعة. فأما أسد بن ربيعة فولداه جديلة وعنزة. فأما جديلة فمنها: وائل بن قاسط بن أفصى بن هنب بن دعمي بن جديلة، وأخوه النمر بن قاسط، وعبد القيس بن أفصى بن دعمي بن جديلة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 603 تاريخ وائل بن قاسط وولده ثلاثة: بكر، وتغلب، وعنز. والشرف القديم والعدد لبكر وتغلب سكان الجزيرة الفراتية؛ والباقية لعنز، وهم الآن قد غلبوا على تبالة من أرض اليمن. تاريخ بكر بن وائل قال البيهقي: هي وعبد القيس من أرحاء العرب لأنهما غلبا على ديار جليلة تدور حولها كالرحى حول قطبها. وهما أيضاً جمجمتان لأن لهما رجالا اشتهروا بالنسب إليهم، واقتصر عليهم دون الارتفاع إلى الأصل. وبكر أجل في ذلك، وبطونها أشهر في الانتساب. وديار بكر بالجزيرة الفراتية مشهورة، وإن لم يبق لهم بها الآن قائمة. وولدا بكر اللذان ينسب إليهما: علي وفيه البيت والعدد، ويشكر. فأما علي بن بكر فافترق النسب المشهور من ولده على: عكابة بن صعب بن علي، ولجيم بن صعب، (ولهم زمان بن مالك بن صعب) . وأما عكابة بن صعب بن علي فأجل بطونها: شيبان بن ثعلبة بن عكابة، ولها ضبيعة بن قيس بن ثعلبة بن عكابة. تاريخ بني شيبان ابن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل بن قاسط بن أفصى بن هنب بن دعمي بن جديلة بن أسد بن ربيعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 604 قال ابن حزم: ولد ذهل بن شيبان مرة بن ذهل، وفيهم البيت والعدد، ولد له عشرة رجال انشأوا عشر قبائل. والمشهور ممن ذكر: همام بن مرة ، و جساس بن مرة . همام بن مرة فأما همام بن مرة بن ذهل بن شيبان فكان سيد وائل في وقته (والقائم بحربها حتى قتل، وقام بها بعده الحارث بن عباد) ، وكان شديد الغيرة. قال ابن حزم: وتفرغ من همام بن مرة ثمانية وعشرون بطنا، منهم بنو الحارث بن همام. وليس لهذه البطون ذكر ولا قائمة في جهة من الجهات. وكان لهمام في الجاهلية بنات قد منعن من التزويج لشدة غيرته، فخلون في بعض الليالي القمر، وتذاكرن في ضياع شبابهن، واتفقن على أن تنشد كل واحدة منهن إباها بيتاً يخص على التزويج، فأسمعته الكبرى: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 605 أهمام بن مرة إن همي ... إلى قنفاء مشرفة القذل فلما سمع ذلك قال: هذه تريد ناقة! وعادت فقالت لأختيها: قد أنشدته كذا وكذا، فقالا: ما صنعت شيئاً! ثم أسمعته الثانية: أهمام بن مرة إن همي ... إلى اللائي يكن مع الرجال فقال: يكون مع الرجال الذهب والفضة وغير ذلك! ولما عادت أخبرتهما بذلك، فقالت لهما الصغرى: ما صنعتما شيئاً! ثم أسمعته: أهمام بن مرة إن همي ... إلى عرد أسد به مبالي فقال: قاتلها الله لقد كشفت عن طلبها! ثم زوجهن في أثر ذلك. جساس بن مرة وأما جساس بن مرة فكان من أبطال بكر في الجاهلية وفتاكها، وهو قاتل كليب وائل سيد بني تغلب، ومسبب حرب وائل التي أتت على الفريقين. وسيأتي ذكرها وسببها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 606 قال البيهقي: ومن ولد جساس بنو الشيخ الذين كانت لهم بآمد دولة متوارثة. قال: وكان حديث جساس من أعجب ما يسطر: وذلك أنه قتل صهره زوج أخته كليب وائل لكونه رمى ناقة جارة له بسهم، وأقام الحرب العظيمة، وأفنت الأبطال والأشراف، وآخر من قتل فيها جانيها جساس المذكور: وذلك أنه ربى ولد كليب من أخته، فنشأ الغلام ولا يعلم له والداً غير جساس؛ فلما كبر وركب أعلم بقضية أبيه، وأن خاله هو الذي قتله، فطلب بثأره، وقتل خاله. جليلة بنت مرة وجليلة بنت مرة من شواعر العرب، ولها الرثاء المختار في زوجها كليب، منه: فعل جساس على ضني به ... قاطع ظهري ومدني أجلي إنني قاتلة مقتولة ... فلعل الله أن يرتاح لي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 607 عوف بن محلم بن ذهل بن شيبان كان سيداً في قومه، وفيه جرى المثل "لا حر بوادي عوف"، أي من كان في جهته كان بمنزلة العبد له. عوف بن النعمان الشيباني قال أبو عبيدة في الأمثال: هو القائل في الجاهلية الجهلاء: "لأن أموت عطشاً أحب إلي من أن أكون مخلاف الوعد". قيس بن مسعود الشيباني ذو الجدين هو الذي ملكته عليها بنو بكر في يوم ذي قار الذي كسرت فيه العرب العجم، وكان بعد وقعة بدر بأشهر. وسببه قتل كسرى النعمان بن المنذر. ثم حصل قيس بن مسعود في يد كسرى، فحبسه بساباط المدائن فمات هناك. وقال قصيدة يومصي بها قومه، منها: ألا ليتني أرشو سلاحي وبغلتي ... لمن ترفع الأبناء بعدي وائل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 608 وأوصيهم بالله والصلح بينهم ... ليذكر معروف ويدحض جاهل وصاة امرئ لو كان فيهم أعانهم ... على الدهر والأيام وهي غوائل وأخبركم والعلم ينفع أنني ... سقطت على ضرغامة وهو آكل (وابنه بسطام سيد وائل بعده، وأخوه هانئ بن مسعود كان المقدم لهم بذي قار) . سدوس بن شيبان وقال الحازمي: "سدوس بن ذهل [بن ثعلبة] بن عكابة الذي ينتسب إليه بنو سدوس كان رئيساً في قومه، وله ردافة آل المرار ملك كندة، وكان له عشرة أولاد. قال البيهقي: لما هزم زياد بن هبولة القضاعي حجر بن عمرو الكندي، وأخذ امرأته هنداً، تلطف سدوس حتى دنا من قبة ابن الهبولة بالليل، فسمعه يداعب هنداً، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 609 ويتكلم معها في شأن حجر، فسرى في ليلته حتى صبح حجراً وقال: أتاك المرجفون بأمر غيب ... على دهش وجئتك باليقين فمن يك قد أتاك بأمر لبس ... فقد وافيت بالنبأ المبين ثم قص عليه ما سمع، فنادى بالرحيل حتى أتيا إلى عسكر ابن الهبولة، وقتل سدوس ابن الهبولة، وأخذ حجر هنداً. وقال الحازمي: "وأما سدوس فبطن كبير من ربيعة، وعامتهم بالبصرة". قال ابن قتيبة: "ومن بني سدوس الحارث بن سدوس كان له أحد وعشرون ذكراً فقيل فيه: فلو شاء ربي كان أير أبيكم ... طويلا كأير الحارث بن سدوس" قال: "وفي سدوس بن شيبان العدد". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 610 تاريخ ضبيعة بن قيس بن ثعلبة ابن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل. قال ابن قتيبة: "فيهم العدد"، ومنهم: الأعشى ميمون بن قيس من واجب الأدب: من كبار شعراء الجاهلية الوافدين على الملوك، وكان يقال له: صناجة العرب، لكثرة جولانه في الأقطار. وسمع بأن النبي صلى الله عليه بعث، فصنع قصيدة في مدحه، وسار إليه. ومن القصيدة: رسول يرى ما لا ترون وذكره ... أغار لعمري في البلاد وأنجدا فجعل يسأل في طريقه عن سيرة النبي صلى الله عليه، فعرف أنه يحرم الخمر، فقال: والله مالي عنها صبر، وسأتزود منها هي السنة، وأعود في السنة الآتية. ثم ثنى ناقته إلى قرى اليمامة ليتزود من الخمر، فسقط عنها، فاندقت عنقه. قالوا: وهو ممن إذا مدح رفع، وإذا هجا وضع؛ ألا تراه كيف نزل بالمحلق وهو خامل في العرب، فلما قام بضيافته، على جهده من الفقر الذي كان فيه، قال فيه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 611 قصيدته المشهورة؛ فجل قدر المحلق، وصار ذكره عالياً إلى اليوم! ومن مختار القصيدة: لعمري لقد لاحت عيون كثيرة ... إلى ضوء نار باليفاع تحرق تشب لمقرورين بصطليانها ... وبات على النار الندى والمحلق رضيعي لبان ثدي أم تقاسما ... بأسحم داج، عوض لا نتفرق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 612 نفي الذم عن رهط المحلق جفنة ... كجابية الشيخ العراقي تفهق ترى الجود يجري ظاهراً فوق وجهه ... كما زان متن الهند واني رونق أبا مالك قد سار ما قد فعلتم ... وأشأم أقوام بذاك وأعرقوا به تنفض الأحلاس في كل منزل ... وتعقد أطراف المطي وتطلق وله أمداح جميلة مشهورة في قيس بن معدي كرب ملك كندة، وفي أبيه، فيها القصيدة التي منها: عودت كندة عادة فاصبر لها ... اغفر لجاهلها ورو سجالها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 613 ومنها: وإذا تكون كتيبة ملمومة ... شهباء قد كره الشجاع قتالها كنت المقدم غير لابس جنة ... بالسيف تضرب أبطالها وله أيضاً أمداح مشهورة في هوذة بن علي الحنفي ملك اليمامة، وله في عامر بن الطفيل سيد بني عامر: علقم، لا أنت إلى عامر ... الناقض الاوتار والواتر إن تسد الحوص فلم تعدهم ... وعامر ساد بني عامر وبهذا نفر عامر على علقمة بن علاثة الكلابي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 614 ولما قال في علقمة تبيتون في المشتى ملاء بطونكم=وجاراتكم غرثى يبتن خمائصا بكى علقمة بالدموع من شدة ما آلمه ذلك. واستحسنوا قوله: كأن مشيتها من بيت جارتها ... مشي السحابة لا ريث ولا عجل وفي هذه القصيدة: علقتها عرضاً وعلقت رجلا ... غيري وعلق أخرى ذلك الرجل وهو معروف بوصف الخمر والاحسان في ذلك، وهو القائل: وكأس شربت على لذة ... وأخرى تداويت منها بها وذاك ليعلم أني امرؤ ... أتيت الفتوة من بابها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 615 سعد بن مالك بن ضبيعة البكري من واجب الأدب: هو جد طرفة بن العبد، وهو من فرسان حرب وائل. وله الأبيات التي أنشدها أبو تمام في حماسته يحرض بها الحارث بن عباد على طلب ثأر ابنه بجير من مهلهل: يا بؤس للحرب التي ... وضعت أراهط فاستراحوا والحرب لا يبقى لجا ... حمها التحيل والمراح إلا الفتى الصبار ذو النجدات والفرس الوقاح من صد عن نيرانها ... فأنا ابن قيس لا براح طرفة بن العبد بن سعد البكري هو أحد الشعراء الستة الجاهلية؛ لقد لخصت ترجمته من عدة كتب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 616 قيل للبيد: من أشعر الناس؟ فقال: الملك الضليل، والشاب القتيل، ثم الشيخ أبو عقيل _ يعني امرأ القيس، وطرفة، ونفسه. قالوا: وطرفة أحسن الثلاثة واحدة عند العلماء، وهي إحدى المعلقات التي منها: ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا ... ويأتيك بالأخبار من لم تزود وكان النبي صلى الله عليه يتمثل بهذا البيت. ومن هذه القصيدة: أنا الرجل الضرب الذي تعرفونه ... خشاشاً كراس الحية المتوقد إذا القوم قالوا: من فتى؟ خلت أنني ... عنيت فلم أكسل ولم أتبلد لعمرك إن الموت ما أخطأ الفتى ... [لك الطول] المرخى وثنياه باليد ومنها في وصف السفينة، وهو من التشبيهات العقم: يشق حباب الماء حيزومها بها ... كما قسم الترب المفايل باليد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 617 ومنها: ولولا ثلاث هن من عيشة الفتى ... وجدك لم أحفل متى قام عودي فمنهن سبق العاذلات بشربة ... كميت متى ما تعل بالماء تزبد وكري إذا نادى المضاف محنباً ... كسيد الغضا نبهته المتورد وتقصير يوم الدجن والدجن معجب ... ببهكنة تحت الخباء الممدد ومنها: رأيت بني غبراء لا ينكرونني ... ولا أهل هذاك الطراف الممدد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 618 وله: إن الغصون إذا قومتها اعتدلت ... ولن تلين إذا قومتها الخشب قد ينفع الأدب الأحداث في مهل ... وليس ينفع بعد الكبرة الأدب وله: تقارب أرواح الرجال إذا التقت ... فمنهم عدو يتقى وخليل وإن امرأ لم يعف يوماً فكاهة ... لمن لم يرد سوءاً بها لجهول وله: وفرق عن بيتيك سعد بن مالك ... وعمراً وعوفا ما تشي وتقول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 619 فأنت على الأدنى شمال عرية ... شآمية تزوي الوجوه بليل وأنت على الأقصى صبا غير قرة ... تذاءب منها مرزغ ومسيل وأعلم علماً ليس بالظن أنه ... إذا ذل مولى المرء فهو ذليل وإن لسان المرء مالم تكن له ... حصاة على عوراته لدليل وله: نحن في المشتاة ندعو الجفلى ... لا ترى الآدب فينا ينتقر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 620 وله: فسقى ديارك غير مفسدها ... صوب الربيع وديمة تهمي وهذا ينشدونه في بديع التتميم. ومن حديثه أنه كان ينادم النعمان بن المنذر، فأشرفت المتجردة وفي يده جام زجاج فيه شراب، فرأى ظلها فيه، فقال ولم يعقل سكراً: ألا باء بي الظبي ال ... ذي يبرق شنفاه ولولا الملك القاع ... د قد ألثمني فاه فرفع النعمان رأسه فرآها، وقد كان اتصل به أنه هجاه، فكره أن يقتله بمحضر قومه، فكتب له وللمتلمس لعامله على البحرين بأن يقتلهما. فأما المتلمس فإنه فك صحيفته فأعطاها غلاماً فقرأها، فرأى فيها ما لم يبعد عن ظنه من القتل، فطرحها وقال ذلك لطرفة فلم يصدقه، وقال: إنك حسدتني على ما في كتابي من خير، وأنا لا أفك خاتم الملك! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 621 ثم وفد على عامل البحرين، فلما قرأ كتابه قال: اختر أي قتلة أقتلك بها، فاختار الفصد في الأكحل، ففصده وجرى دمه حتى هلك. وقد قيل: إن عمرو بن هند هو الذي أمر بقتله، وإياه يخاطب بقوله: أبا منذر كانت غروراً صحيفتي ... ولم أعطكم في الطوع مالي ولا عرضي فان كنت مأكولا فكن أنت آكلي ... فبعض منايا القوم أشرف من بعض قال الحاتمي: "وأخذ هذا عبد الله بن الحجاج الثعلبي، فقال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 622 فان كنت مأكولا فكن أنت آكلي ... وإن كنت مذبوحاً فكن أنت تذبح" فما له أسند رضا الله بغضب يلحقه بناره؟ فما أشد قحته، وأقبح ما عرضه! وطرفة القائل لما أسلمه قومه ومن يعرفه: أسلمني قومي ولم يغضبوا ... لسوءة حلت بهم فادحة كل خليل كنت خاللته ... لا ترك الله له واضحة كلهم أروغ من ثعلب ... "ما أشبه الليلة بالبارحة" عمه المرقش الأكبر عمرو بن سعد بن مالك، وقيل: عوف بن سعد، وقد تقدم ذكر أبيه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 623 قال صاحب الكمائم: وإنما لقب بالمرقش لقوله: النشر مسك والوجوه دنا ... نير وأطراف الأكف عنم والدار وحش والرسوم كما ... رقش في ظهر الأديم قلم وله: سرى ليلا خيال من سليمي ... فأرقني وأصحابي هجود فبت أدير أمري كل حال ... وأذكر أهلها وهم بعيد سكن ببلدة وسكنت أخرى ... وقطعت المواثق والعهود الجزء: 1 ¦ الصفحة: 624 ابن أخيه عمرو بن حرملة المرقش الأصغر وقد قيل: إنه خال طرفة. وهو أحد المتيمين، وسار في المثل: "أتيم من المرقش"؛ لأنه عشق أسماء بنت المنذر ملك الحيرة، فقطع إبهامه وجداً عليها، وقال: ألم تر أن المرء يجذم كفه ... ويجشم من أجل الحبيب المجاشما وفي هذه القصيدة البيت النادر: فمن يلق خيراً يحمد الناس أمره ... ومن يغو لا يعدم على الغي لائما وهو من المذكورين في كتاب الأغاني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 625 عمرو بن قميئة ابن سعد بن مالك بن ضبيعة، من شعراء الأغاني، وهو صاحب امرئ القيس الكندي، وإياه يخاطب بقوله: بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه ... وأيقن أنا لاحقان بقيصرا وقال حماد الراوية: أشعر الناس عمرو بن قميئة بقوله: رمتني صروف الدهر من حيث لا أرى ... فما بال من يرمى وليس برام فلو أنها نبل إذاً لاتقيتها ... ولكنني أرمى بغير سهام وله: كانت قناتي لا تلين لغامز ... فألانها الإصباح والإمساء وسألت ربي في السلامة جاهداً ... ليصحني فإذا السلامة داء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 626 جحدر الضبيعي ربيعة بن قيس بن ضبيعة، نص البيهقي على أنه من ضبيعة هذه، وأنه فارس بكر يوم تحلاق اللمم من حروب وائل، وهو القائل فيها: ردوا علي الخيل إن ألمت قد علمت والدتي ما ضمت أمخدع اليدين أم أتمت إن لم أناجزهم فجزوا لمتي إذا الكماة بالكماة التفت وكانوا في هذا اليوم (قد تحالفوا على أن يحلقوا شعورهم ليكون ذلك شعاراً لهم، وكان جحدر يعاني من القصر، ولهذا لقب بهذا اللقب، فقال لهم: لا تحلقوا شعري فتشينوني، ولكن اشتريه منكم بأول فارس يطلع من القوم، فطلع ابن عناق فقتله) . الحارث بن عباد الضبيعي نص ابن قتيبة على أنه من ضبيعة هذه، وهو من المذكورين في الأغاني. ومن الكمائم أنه لما كانت حرب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 627 البسوس قال: "لا ناقة لي فيها ولا جمل"، ولم يزل معتزلا عنها إلى أن قتل مهلهل التغلبي ابنه بحير بن الحارث، فقال الحارث: نعم القتيل قتيلا أصلح بين ابني وائل، فكف طيشها، وحقن دماءها! فقيل له: إن مهلهلا قال: "بؤ بشسع كليب! "، فقال الحارث: قربا مربط النعامة مني ... لقحت حرب وائل عن حيال لا بجير أغنى قتيلا ولا ره ... ط كليب تراجعوا عن ضلال لم أكن من جناتها علم الله وإني لحرها اليوم صال قربا مربط النعامة مني ... إن قتل الغلام بالشسع غال ثم رأس على بكر في حربهم بعد همام بن مرة، وأسر مهلهلا رئيس تغلب وهو لا يعرفه، فقال له: دلني على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 628 مهلهل، قال: ولي دمي؟ قال: ولك دمك! قال: ولي دمي وذمة أبيك؟ قال: نعم، قال: فأنا مهلهل! قال: دلني على كفؤ لبجير، قال: لا أعلمه إلا امرأ القيس بن أبان، وذاك علمه؛ فجز الحارث ناصية مهلهل، وقصد نحو امرئ القيس فقتله. [لجيم بن صعب] وأما لجيم بن صعب بن علي بن بكر بن وائل فقد حكى أبو عبيدة صاحب الأمثال أنه القائل في امرأته حذام: إذا قالت حذام فصدقوها ... فان القول ما قالت حذام وولداه: حنيفة وعجل، وكلاهما قبيل مشهور. تاريخ حنيفة بن لجيم بن صعب كان بنو حنيفة أجل قدراً من عجل لما حازوه من بلاد اليمامة، واستمر فيهم الملك المتوارث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 629 وذكر ابن حزم أنه لبني حنيفة بطون كثيرة، ولكنها غير مشهورة، ولم يبق الآن لحنيفة باليمامة ولا غيرها باقية. وملوك اليمامة قوم من عرب 000000000000000000000000000 [مسيلمة الكذاب] 000000000000000000000000000 ثرداً، والدافقات دفقاً؛ لقد فضلتم على أهل الوبر، وما سبقكم أهل المدر. وكان رسول الله صلى الله عليه إذا غارت بئر فمج فيها من فيه كثر ماؤها؛ كالذي أخرجه البخاري في الصحيح في البئر بالحديبية. وكان إذا وعجت عين فتفل فيها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 630 برئت، كما فعل في عين علي يوم خيبر. فأراد مسيلمة أن يفعل كفعله، فتفل في عين فعميت، ومج في بئر فغار ماؤها، ومسح بيده ضرع شاة حلوب فارتفع درها. ومن المنتظم: ومن قرآن مسليمة: والشاة السوداء، واللبن الأبيض، إنه لعجب محض. ومن خراج قدامة: لما كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم ملوك الآفاق سنة ست، كتب إلى شنوءة وأهل اليمامة يدعوهم إلى الإسلام، فبعث وفدهم وكان فيهم مسليمة، فقال لرسول الله صلى الله عليه: إن شئت خلينا لك الأمر وبايعناك، على أنه لنا بعدك، فقال: لا، ولا نعمة عين، ولكن الله قاتلك! وكان هوذة قد كتب إلى رسول الله صلى الله عليه أن يجعل له الأمر بعده، ويسير إليه فينصره، فقال: ولا كرامة، اللهم اكفينه! فمات بعد قليل. فلما انصرف وفد حنيفة ادعى مسيلمة النبوة، وكتب: من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم - هكذا في نسخة مسيلمة - إلى أن ولي أبو بكر رضي الله عنه، فوجه له خالد بن الوليد، فقتله وحشي قاتل حمزة عم النبي صلى الله عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 631 [بنو عجل] وأما بنو عجل إخوة بني حنيفة فكانت منازلها في الجاهلية ما بين إخوتها بني حنيفة: بين بلاد اليمامة وبين العراق. ولهم أعلام في الإسلام، وهم أصحاب يوم ذي قار الذي كان للعرب على الفرس. وليس لهم في البادية قائمة. ومنهم في الجاهلية. ابن قردودة العجلي ذكر صاحب الكمائم أنه كان من شعراء الجاهلية، وكان ابن عمار البليغ له صديقاً، فاستشاره في أن ينادم النعمان بن المنذر، فحذره من ذلك، وأعلمه ما هو عليه من الغريزة وسوء الأخلاق، فنادمه، وآل أمره معه إلى أن قتله النعمان؛ فقال ابن قردودة: إني نهيت ابن عمار فقلت له: ... لا تقربن أحمر العينين والشعره إن الملوك متى تنزل بساحتهم ... تطر برجلك من نيرانهم شرره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 632 يا جفنة بازاء الحوض قد كفأوا ... ومنطقاً مثل وشي البردة الحبره [بنو زمان بن مالك] وأما زمان بن مالك بن صعب بن علي بن بكر بن وائل فلا ذكر لها بالبادية، ونزلوا بالبصرة، ومنهم: الفند الزماني قالوا: اسمه شهل - بالشين المعجمة - ابن شيبان. وهو من شعراء الجاهلية. والفند: القطعة من الجبل، وله الأبيات التي أنشدها أبو تمام في الحماسة: أيا طعنة ما شيخ ... كبير يفن بال وما تبقى صروف الده ... ر إنساناً على حال والأبيات التي منها: وبعض الحلم عند الجه ... ل للذلة إذعان وفي الشر نجاة ح ... ين لا ينجيك إحسان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 633 تاريخ يشكر بن بكر قال الحازمي: وقد قيل: إنه أخو بكر وابن وائل. ومن أعلامهم في الجاهلية: المنخل اليشكري من شعراء الجاهلية المذكورين، وممن ذكرهم صاحب الأغاني. وتلخيص ذكره أنه كان من أجمل أهل زمانه وتوصل إلى أن نادم النعمان بن المنذر ملك الحيرة، فرأته المتجردة زوجة النعمان فأحبته. ورصدت غفلة النعمان إلى أن خرج يوما للصيد، فاستدعته المتجردة، وألقت رجلها مع رجله في قيد، واشتغلا بالشرب واللهو؛ فهجم عليهما النعمان وهما على تلك الحالة، فقتل المنخل بالعذاب. وله الشعر الذي أنشده أبو تمام في حماسته: ولقد دخلت على الفتا ... ة الخدر في اليوم المطير الكاعب الحسناء تر ... فل في الدمقس وفي الحرير فدفعتها فتدافعت ... مشي القطاة إلى الغدير ولثمتها فتنفست ... كتنفس الظبي الغرير فدنت وقالت ما بجس ... مك يا منخل من حرور الجزء: 1 ¦ الصفحة: 634 ما شف جسمي غير حب ... ك فاهدأي عني وسيري ولقد شربت من المدا ... مة بالصغير وبالكبير فإذا انتشيت فانني ... رب الخورنق والسدير وإذا صحوت فانني ... رب الشويهة والبعير وأحبها وتحبني ... ويحب ناقتها بعيري الحارث بن حلزة اليشكري قال ابن شرف في رسالة له في الحكم بين أعلام الشعراء: "أما ابن حلزة فسهل الحزون، وقام خطيباً بالموزون؛ والعادة أن يسهل شرح النظم بالنثر، وهو سهل السهل بالوعر، وذلك قوله: أبرموا أمرهم عشاء فلما ... أصبحوا أصبحت لهم ضوضاء من مناد ومن مجيب ومن تص ... هاك خيل خلال ذاك رغاء" قال: "ولو اجتمع كل خطيب ناثر، من أول وآخر، يصفون سفراً نهضوا [بالأسحار] ، وعسكراً تحركوا لطلب الثار، ما زادوا على هذه البلاغة". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 635 وأول هذه القصيدة، وهي إحدى المعلقات السبع: آذنتنا ببينها أسماء ... رب ثاو يمل منه الثواء آذنتنا ببينها ثم قالت: ... ليت شعري متى يكون اللقاء ولما أنشدها عمرو بن هند ملك الحيرة كان بينهما سبعة حجب لبرص كان بالحارث، فما زال يرفعها حجاباً حجاباً استحساناً لما يسمع. ومن مشهور شعره قوله: من حاكم بيني وبي ... ن الدهر مال علي عمدا أودى بسادتنا وقد ... تركوا لنا هماً ووجدا فضعي قناعك إن ري ... ب الدهر قد أفنى معدا وقوله: ما بين ما تحمد فيه وما ... تدعو إليك الذم إلا القليل [الرقاشيون] والرقاشيون بطن من بكر واثل، وذكر النسابون أنهم مالك وعمرو وزيد مناة أولاد شيبان بن ذهل بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر، وهذا شيبان غير المتقدم الذكر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 636 وأشهر الرقاشيين في الجاهلية: الحارث بن وعلة الرقاشي من واجب الأدب: كان رئيساً في بكر وائل، وسبطه هو الحضين صاحب راية علي بن أبي طالب. والحارث هو الذي قصده الأعشى فلم يحمده، فهجاه بقوله: أتيت حريثاً زائراً عن جنابة ... فكان حريث عن عطائي جامدا إذا ما رأى ذا حاجة فكأنما ... رأى أسداً في بيته أو أساودا لعمرك ما أشبهت وعلة في الندى ... شمائله ولا أباه مجالدا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 637 ثم مدح هوذة بن علي ملك اليمامة. ومن مختار شعر الحارث قوله: قومي هم قتلوا أميم أخي ... فإذا رميت يصيبني سهمي فلئن عفوت لأعفون جللا ... ولئن سطوت لأوهنن عظمي لا تأمنن قوماً ظلمتهم ... وبدأتهم بالشتم والظلم أن يأبروا نخلا لغيرهم ... والشيء تحقره وقد ينمي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 638 وزعمتم أن لا حلوم لنا ... إن العصا قرعت لذي الحلم ووطئتنا وطئاً على حنق ... وطء المقيد نابت الهرم وتركتنا لحماً على وضم ... لو كنت تستبقي من اللحم كان المبرد يستحسن هذه الأبيات ويكثر إنشادها. تاريخ تغلب بن وائل ابن قاسط بن أفصى بن هنب بن دعمي بن جديلة بن أسد بن ربيعة. قدمنا أن بلادهم كانت بالجزيرة الفراتية. ولعزتها في ربيعة غلبت على السهل عند حرب وائل، وارتفعت إخوتها بكر إلى الجبال. وكانت النصرانية غالبة على تغلب لمجاورة النصارى؛ وهم رهط الأخطل النصراني شاعر بني مروان. ولم يبق لهم الآن بالبرية قائمة؛ وكان منهم بنو حمدان ملوك الجزيرة - في الإسلام - والشام، وكان منهم فرقة عظيمة يقال لهم: بنو أبي الحسين: غلبوا على البحرين وملكوه زماماً، فغلب عليهم بنو عامر الذين هي بأيديهم الآن، وصاروا فلاحين تحت أيديهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 639 وفيما بين السرين ومكة في شامة وطفيل - وهما جبلان - بنو شعبة الذين يقطعون الطرقات، وهم من بني تغلب. ولم يبق في البادية ممن ينسب لتغلب وله قائمة غيرهم. وبطون تغلب وجماهيرها إنما تنسب إليها، وليست من جماجم العرب كما كانت إخوتها بكر. قال ابن حزم: وأعظم بني تغلب: الأراقم وهم مالك وثعلبة ومعاوية والحارث [وعمرو] وجشم بنو بكر بن حبيب بن عمرو بن غنم بن تغلب؛ قيل لهم ذلك لأن عيونهم كانت في العرب كعيون الأراقم. قال البيهقي: ورؤساء الأراقم بنو جشم المذكور. [بنو جشم] ومن بني الحارث بن زهير بن جشم: كليب بن ربيعة سيد تغلب الذي جرى فيه المثل "أعز من كليب وائل"، وبسبب قتله قامت حرب وائل بين بكر وتغلب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 640 من واجب الأدب: كان لكليب حمى ضرية من بلاد نجد إلى جهة الشام والجزيرة الفراتية، وكان لا يحميه إلا الملوك. فمر يوماً فيه، فإذا قبرة تصفر، فقال: يالك من قبرة بمعمر خلا لك الجو فبيضي واصفري ونقري ما شئت أن تنقري فاتفق أن مشت ناقة للبسوس _ جارة جساس بن مرة البكري _ في الحمى، فوطئت بيض القبرة، فصعب على كليب ورمى الناقة بسهم فقتلها. فلما علم بذلك جساس قال: والله لأقتلنه كما قتل ناقة جارتي! ثم وثب عليه فقتله. قالوا: وهنالك قبره بحمى ضرية. وكان جساس أخاً زوجته، فوقعت بين الفريقين: حرب وائل يقال: إنها مكثت بين الفريقين أربعين سنة. وكان المقدم على بكر جساس بن مرة وأخوه همام. فأما جساس فهو آخر من قتل فيها، وذلك أنه سلم على طول مدة الحرب؛ وكان قد ربى ابن أخته جليلة، وهو هجرس بن كليب، فلما كبر زوجه بنته وصار كأنه ولده والحرب قائمة، فسأل عن معنى اتصال هذه الحرب، فأعلم، فقال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 641 أو أبي هو المقتول في أولها، وخالي قاتله لم يقتل إلى الآن؟ ثم اغتال خاله فقتله، ورجع إلى قومه تغلب، وفارق أمه وقومها. وكذلك طرأ لهمام بن مرة: وجد غلاماً مطروحاً، فالتقطه فرباه وسماه ناشرة. فلما شب تبين أنه من تغلب، فاغتال همام بن مرة وقتله، وعاد إلى قومه. وقام بحرب وائل في رياسة بني تغلب من أولها إلى آخرها: مهلهل بن ربيعة وهو أخو كليب، وسمي مهلهلا لأنه أول من هلهل الشعر، أي رققه. واسمه امرؤ القيس، وتلخيص ترجمته من الأغاني والكمائم وواجب الأدب. قيل: إنه أول من غنى بالشعر من العرب وهلهل صوته، فقيل له مهلهل. وقيل: إن اسمه عدي، واحتجوا بقوله: ضربت صدرها إلي، وقالت: ... يا عدياً لقد وقتك الأواقي وبنته هند أم عمرو بن كلثوم سيد تغلب، وأخته أم امرئ القيس الكندي. وقالوا: إن هذه البداءة قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل له: وأن امرأ القيس الكندي أغار عليها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 642 ومن يؤثر الأنفة وسهولة الكلام والقدرة على الصنعة والتجويد في فن واحد يقول: الشعراء ثلاثة: جاهلي وهو مهلهل، وإسلامي وهو ابن أبي ربيعة، ومولد وهو ابن الأحنف. ومن مشهور شعر مهلهل قوله في رثاء أخيه: أنبئت أن النار بعدك أوقدت ... واستب بعدك يا كليب المجلس وتحدثوا في أمر كل عظيمة ... لو كنت حاضر أمرهم لم ينبسوا وكان كليب لعظمته لا توقد نار في حيه غير ناره، ولا يتكلم بمحضره لمهابته. وكان كليب يسميه: زير نساء، ويقول له: ما أنت والحرب؟ فلما قتل كليب، وقام مهلهل بحرب البسوس قال في قصيدته المشهورة: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 643 فلو نبش المقابر عن كليب ... فيخبر بالذنائب أي زير! ولم يقل في إدراك الثأر أبلغ من قوله: لقد قتلت بني بكر بربهم ... حتى بكيت وما يبكي لهم أحد ومن رثائه قوله: أزجر العين أن تبكي الطلولا ... إن في الصدر من كليب غليلا أنبضوا معجس القسى وأنبض ... نا كما توعد الفحول الفحولا لم يطيقوا أن ينزلوا ونزلنا ... وأخو الحرب من أطاق النزولا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 644 وآل الأمر به إلى أن لم يبق من ينصره ولا من يعينه على القيام بطلب الثأر، ففر إلى اليمن، وجاور جنباً من قبائل اليمن وليست لهم نباهة، فخطبوا بنته فزوجها فيهم، وقال: أنكحها فقدها الأراقم في ... جنب، وكان الحباء من أدم لو بأبانين جاء خاطبها ... ضرج ما أنف خاطب بدم ولما ضعف وأسن خرج في بعض أسفاره مع عبدين له، وكان يكلفهما ما تقتضيه همته مما يشق عليهما، فعزما على قتله. فلما أحس ذلك منهما قال: أوصيكما أن ترويا عني بيت شعر، وهو: من مبلغ الحيين أن مهلهلا ... لله دركما ودر أبيكما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 645 ثم قتلاه! ولما رجعا إلى أهله وزعما أنه مات، قيل لهما: هل أوصاكما بشيء؟ قالا: نعم، أوصانا أن نروي عنه بيت شعر _ وأنشداه، فقالت بنت له: عليكم هذين العبدين! فانما قال أبي: من مبلغ الحيين أن مهلهلا ... أمسى قتيلا بالفلاة مجدلا لله دركما ودر أبيكما ... لا يبرح العبدان حتى يقتلا ثم استقرا، فأقرا فقتلا. قال البيهقي: وبنته التي كان لها هذا الذكاء هي هند، وسمع بقصتها كلثوم سيد تغلب بعد مهلهل، فتزوجها فجاءت ب عمرو بن كلثوم . عمرو بن كلثوم سيد تغلب. قال البيهقي: هو من بني عتاب بن سعد بن زهير بن جشم التغلبي. وتلخيص ترجمته من الأغاني والكمائم وواجب الأدب: كان والده كلثوم أفرس العرب، وكذلك مرة بن كلثوم صاحب الحروب مع ملوك الحيرة وملوك غسان، وورث شرفهما والرياسة في وائل عمرو بن كلثوم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 646 وهو مشهور بالفتك: قتل عمرو بن هند ملك الحيرة في رواقه: وذلك أنه حضر في طعام عند عمرو بن هند، وحضرت أمه عند هند أم عمرو، فأرادت هند أم الملك أن تضع من هند التغلبية، فقالت لها: يا هند، ناوليني ذلك الطبق! فقالت: لتقم صاحبة الحاجة إليها! فألحت عليها فصاحت: وا ذلاه! يا لتغلب! فسمعها ابنها عمرو بن كلثوم، فوثب لسيف كان معلقاً في الرواق، فصبه عليه وقتله؛ فضرب به المثل في الفتك. وصنع عمرو بن كلثوم قصيدته المعلقة التي أولها: ألا هبي بصحنك فأصبحينا ومنها: ألا لا يجهلن أحد علينا ... فنجهل فوق جهل الجاهلينا ورثنا المجد عن آباء صدق ... ونورثه إذا متنا بنينا ولم تزل بنو تغلب تلهج بانشاد هذه القصيدة، وتكثر من ذكرها، حتى قال أحد شعراء بني بكر: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 647 ألهي بني تغلب عن كل مكرمة ... قصيدة قالها عمرو بن كلثوم يفاخرون بها مذ كان أولهم ... يا للرجال لمجد غير مسؤوم ومن القصيدة المذكورة: بأنا نورد الرايات بيضاً ... ونصدرهن حمراً قد روينا ومن مشهور شعر عمرو بن كلثوم: معاذ الاله أن تنوح نساؤنا ... على هالك أو أن نضج من القتل قراع العوالي بالعوالي أحلنا ... بأرض براح ذي أراك وذي أثل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 648 وله يخاطب النعمان بن المنذر ملك الحيرة: ألا أبلغ النعمان عني رسالة ... فمجدك حولي ومجدي قارح وكانت الملوك تبعث إلى عمرو بن كلثوم بحبائه وهو في منزله من غير أن يفد عليها، إلى أن ساد ابنه الأسود بن عمرو، فصارك الملوك تساويه به، وتبعث إليه؛ فغضب عمرو وقال: ساواني بولي! والله لا أقمت في الحياة! ثم شرب الخمر صرفاً حتى مات. وفي ولده نباهة في الإسلام منهم مالك بن طوق صاحب الرحبة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 649 [ممن لا يعلم عصره] وممن لا يعلم عصره: قتادة بن خرجة التغلبي من شعراء الحماسة: خليلي بين السلسلين لو انني ... بنعف اللوى أنكرت ما قلتما ليا ولكنني لم أنس ما قال صاحبي ... نصيبك من ذلك إذا كنت نائيا [عنز بن بكر بن وائل] وأما عنز بن بكر بن وائل فالباقية الآن لهم، وقد غلبوا على تبالة وجهاتها من اليمن، وليس لهم في القديم ولا الحديث أعلام يذكرون في هذا الكتاب. ولقيت منهم غلاماً بمكة يحج مع السرو، وفيه فصاحة وكثرة إلحاف في السؤال، فقلت له: ما هكذا تعرف العرب! فقال: لما عدمت الكرام الأولي يرعون حقها صارت إلى ما ترى! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 650 [النمر بن قاسط] وأما النمر بن قاسط إخوة وائل فكانوا مع بني وائل بالجزيرة الفراتية، وهم رهط منصور النمري الشاعر. ومنهم في الجاهلية: ربيعة بن جعشم النمري من الكمائم أنه شاعر قديم، يقال إنه القائل: كأن المدام وصوب الغمام ... وريح الخزامي ونشر القطر يعل به برد أنيابها ... إذا غرد الطائر المستحر فاستلحقها امرؤ القيس الكندي في شعره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 651 تاريخ عبد القيس ابن أقصى بن دعمي بن جديلة بن أسد بن ربيعة. قال الحارثي: النسب إليها عبدي، ويقال: عبقسي. قال البيهقي: وهي من أرحية العرب، نزلت بالجزيرة وملكتها زماناً. وهم رهط الأشج العبدي، والجارود العبدي؛ وقد بلوا من شعراء العرب بأنهم يعيرون بكثرة الفساء. وجاء الإسلام وهم أصحاب البحرين، ثم غلبت عليهم القرامطة، ثم غلب على البحرين بنو أبي الحسين من تغلب، ثم بنو عامر. ولها بطون لا ينسب إليها لأنها ليست من جماجم العرب، غير أن شن بن أفصى ابن عامر بن عبد القيس رهط الأعور الشني الشاعر ينسب إليها. وفيها جرى المثل "وافق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 652 شن طبقة"، وقيل غير ذلك. والمثل الآخر: "يحمل شن ويفدى لكيز"، وهو أخوه. الممزق العبدي من شعراء الجاهلية، كان يفد على ملوك الحيرة، وهو القائل يخاطب أحدهم: فان كنت مأكولا فكن أنت آكلي ... وإلا فأدركني ولما أمزق ولعبد القيس أعلام في الإسلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 653 تاريخ عنزة عنزة بن أسد بن ربيعة، وقد قيل: إنها ابن أسد بن خزيمة بن مضر، والأول أشهر. قال البيهقي: كانت بلادها في الجاهلية وصدر الإسلام عين التمر وهي بليدة بينها وبين الأنبار ثلاثة أيام. وقد انتقلت عنزة عن بلادها تلك إلى جهة خيبر، وهم في عدد وصولة هنالك إلى اليوم. ويلقى الحجاج منهم مشقة. وذكر النسابون أن عنزة افترقت عن بطنين: يذكر ويقدم ابني عنزة. [بنو يذكر] فمن بني يذكر ثم من بني هزان منها: أم ثواب الهزانية أنشد لها أبو تمام في ولدها الذي عقها: ربيته وهو مثل الفرخ أعظمه ... أم الطعام ترى في ريشه زغبا حتى إذا آض كالفحال شذبه ... أباره ونفى عن متنه الكربا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 654 أنشا يمزق أثوابي ويضربني ... أبعد شيبي عندي يبتغي الأدبا إني لأبصر في ترجيل لمته ... وخط لحيته في وجهه عجبا قالت له عرسه يوماً لتسمعني: ... مهلا فإن لنا في أمنا أربا ولو رأتني في نار مسعرة ... ثم استطاعت لزادت فوقها حطبا [بنو يقدم] ومن بني يقدم بن عنزة: القارظان ومن الأمثال لأبي عبيدة: كلاهما من عنزة، فالأكبر هو يذكر بن عنزة لصلبه، والأصغر هو رهم بن عامر بن عنزة. وكان من حديث الأول أن خزيمة بن نهد كان عشق ابنته فاطمة بنت يذكر، وهو القائل فيها: إذا الجوزاء أردفت الثريا ... ظننت بآل فاطمة الظنونا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 655 قال: ثم إن يذكر وخزيمة خرجا يطلبان القرظ فمرا بهوة من الأرض فيها نحل، فنزل يذكر ليشتار عسلا، ودلاه خزيمة بحبل. فلما فرغ قال يذكر: أصعدني؛ فقال: لا والله حتى تزوجني ابنتك فاطمة! فقال: أما على هذه الحال فلا يكون أبدا! فتركه حتى مات. ففيه وقع الشر بين قضاعة وربيع. قال: وأما الأصغر فإنه خرج يطلب القرظ، فلم يرجع، ولا يدرى ما كان من خبره، فصار حديثهما مثلا في انقطاع الغيبة. قال أبو ذؤيب: وحتى يؤوب القارظان كلاهما ... وينشر في القتلى كليب لوائل ومثله: "حتى يؤوب المنخل". تاريخ ضبيعة بن ربيعة قال ابن قتيبة: وكان سيد ضبيعة في الجاهلية الحارث بن عبد الله الأضجم، وهو الذي قال: ما قبلتم يدي حتى لطمتم خدي مراراً فصبرت! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 656 المسيب بن علس الضبيعي من واجب الأدب والكمائم: اسمه زهير، وهو خال الأعشى، وهو من ضبيعة بن ربيعة لا من ضبيعة بكر؛ وكان الأعشى يتوكأ على شعره، وكان كثير الوفادة على ملوك الحيرة وملوك غسان. وهو القائل، وأنشدها الحاتمي له في حلية المحاضرة. تبيت الملوك على عتبها ... وغسان أن عتبت تعب وكالراح بالمسك أخلاقهم ... وأخلاقهم منهما أعذب وكالمسك ترب مقاماتهم ... وترب مقاماتهم أطيب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 657 وأنشد له أيضاً: فلأرسلن مع الرياح قصيدة ... مني مغلغلة إلى القعقاع ترد المياه فلا تزال غريبة ... في القوم بين تمثل وسماع المتلمس الضبيعي من واجب الأدب والكمائم: اسمه جرير بن عبد المسيح بن ضبيعة بن ربيعة. وهو خال طرفة بن العبد الشاعر، وكانا قد هجيا عمرو بن هند ملك الحيرة، واشتهر قول المتلمس في أمه هند: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 658 ملك يلاعب أمه وقطينها ... رخو المفاصل أيره كالمرود بالباب يطلب كل طالب حاجة ... فإذا خلا فالمرء غير مسدد ثم حمله الحين على أن وفد عليه مع طرفة واستجدياه، فكتب إليهما كتابين لعامله على البحرين بأن يقتلهما. فاستراب المتلمس بالكتاب، وقال: والله ما أحمله بعد أن عرفني هجوته وأحقدته حتى أعلم ما فيه، ثم دفعه إلى غلام من الكتاب، فوجد فيه أمر العامل بأن يقتله، فألقى الكتاب في نهر، وقال: ألقى الصحيفة كي يخفف رحله ... والزاد حتى نعله ألقاها ونجا هارباً. ولم يسمع منه طرفة، فسعى إلى حينه برجله. للمتلمس البيت السائر: قليل المال تصلحه فيبقى ... ولا يبقى الكثير مع الفساد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 659 وقال أحد الشعراء في أديب بخيل يكثر التمثل بهذا البيت: ولا يروي من الأشعار شيئاً ... سوى البيت الثقيل على الفؤاد قليل المال تصلحه فيبقى=ولا يبقى الكثير مع الفساد ومن مشهور شعر المتلمس قوله: ولا يقيم على ذل يراد به ... إلا الأذلان: عير الدار والوتد هذا على الخسف مربوط برمته ... وإذ يشخ فما يرثي له أحد وله القصيدة ذات الحكم التي منها: لذي الحلم قبل اليوم ما تقرع العصا ... وما علم الإنسان إلا ليعلما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 660 ولو غير أخوالي أرادوا نقيصتي ... جعلت لهم فوق العرانين ميسما وما كنت إلا مثل قاطع طفه ... بكف له أخرى فأصبح أجذما يداه أصابت هذه حتف هذه ... فلم تجد الأخرى عليها تقدما أحارث إنا لو تشاط دماؤنا ... تزايلن حتى لا يمس دم دما وله: تفرق أهلي من مقيم وظاعن ... فلله قلبي أي إلفي يتبع أقام الذين لا أبالي فراقهم ... وشط الذين بينهم أتوقع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 661 تاريخ إياد ابن نزار بن معد بن عدنان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 663 ليست من جماجم العرب؛ لأنها ليست لها قبائل تنتسب إليها. وكان إياد قد خرج من الحرم مع بنيه - كما تقدم - إلى جهة العراق والجزيرة. وكانت من منازلهم المشهورة في الجاهلية عين أباغ والعذيب وبارق. وكانت لهم حروب مع جذيمة الأبرش ملك عرب العراق، ومع غيره من الملوك. وكانوا مع كسرى أبرويز على العرب يوم ذي قار، فأرسلوا في الباطن لقبائل بكر أنهم ينهزمون بالعجم عند اللقاء، ففعلوا ذلك، وكانت الكسرى على الفرس. ثم لم يبق من إياد باقية في البادية، وتفرقوا على البلدان شرقاً وغرباً؛ ومنهم أعلام في المشرق والمغرب. كعب بن مامة الإيادي يضرب به المثل في الكرم. وفي حديثه أنه سافر مع قوم في حمارة القيظ، فاضطروا لأن قسموا الماء وكانوا يتناوبونه، وكان في القسمة مع كعب عربي من النمر بن قاسط، فكانت كلما جاءت نوبة كعب أشار له النمري أنه هالك بالعطش، وأن قسمة له يروه، فيؤثره بحظه ويقول: "اسق أخاك النمري"، إلى أن هلك كعب بالعطش، فضربت العرب به المثل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 665 لقيط بن بكر الإيادي كان من شعراء إياد في الجاهلية وبلغائهم، وهو مذكور في الأغاني. وتلخيص ترجمته أن كسرى جمع جمعاً عظيماً أراد به إيادة إياد، وطردهم عن البلاد، فقام لقيط فيهم خطيباً وقال: يا قوم لا تأمنوا إن كنتم غيراً ... على نسائكم كسرى وما جمعا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 666 قوموا قياماً على أمشاط أرجلكم ... ثم افزعوا قد ينال الأمن من فزعا وقلدوا أمركم لله دركم ... رحب الذراع بأمر الحرب مضطلعا لا مترفاً إن رخاء العيش ساعده ... ولا إذا حل مكروه به خشعا مازال يحلب هذا الدهر أشطره ... يكون متبعاً طوراً ومتبعا حتى استمرت على شزر مريرته ... مستحكم الرأي لا قحماً ولا ضرعا فتراخت إياد عن قوله، فهجمت عليها جموع كسرى، وعاثت فيها أشد العيث، وشردت فلهم إلى أطرار الشام. أبو دودا الايادي جارية بن الحجاج. قال صاحب الأغاني: هو "شاعر جاهلي قديم، وكان وصافاً للخيل"؛ وهو القائل: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 667 حاولت حين صرمتني ... والمرء يعجز لا المحالة والدهر يلعب بالفتى ... والدهر أروغ من ثعالة والعبد يقرع بالعصا ... والحر تكفيه المقالة ابنه دواد من شعراء الجاهلية أيضاً، وهو القائل في رثاء أبيه: فبات فينا وأمسى تحت هادية ... لا يستطيع كلاماً بعد إفصاح لا يدفع الموت إلا أن تفديه ... ولو قدرنا دفعنا الموت بالراح قس بن ساعدة الايادي كان قد لزم العبادة في كعبة نجران، فقيل له: قس نجران. وقد لخصت ترجمته من واجب الأدب والكمائم ونثر الدر والبيان للجاحظ: هو أول من اتكأ على عصا، وأول من كتب: من فلان إلى فلان، وأول من قال: أما بعد. ولما وفد وفد عبد القيس على النبي صلى الله عليه قال: أيكم يعرف قس بن ساعدة؟ قالوا: كلنا يعرفه يا رسول الله؛ قال: لست أنساه بعكاظ على جمل أحمر وهو يقول: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 668 أيها الناس، اجتمعوا واسمعوا وعوا، من عاش مات، ومن مات فات، وكل ما هو آت آت. إن في الأرض لعبرا، وإن في السماء لخبرا، آيات محكمات: مطر ونبات، وآباء وأمهات، وذاهب وآت، ونجوم تمور، وبحر لا يغور، وسقف مرفوع، ومهاد موضوع، ليل داج، وسماء ذات أبراج. مالي أرى الناس يذهبون ولا يرجعون؟ أرضوا فأقاموا أم حبسوا فناموا! يا معشر إياد، أين ثمود وعاد؟ أين الظلم الذي لم ينكر؟ أين العرف الذي لم يشكر؟ يقسم بالله قس أن لله ديناً هو خير من دينكم هذا. ثم أنشد: في الذاهلين الأولي ... ن من القرون لنا بصائر لما رأيت موارداً ... للموت ليس لها مصادر ورأيت قومي نحوها ... يمضي الأكابر والأصاغر لا يرجع الماضي ولا ... يبقى من الباقين غابر أيقنت أني لا محا ... لة حيث صار القوم صائر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 669 فقال رجل: لقد رأيت منه عجباً: انتحيت وادياً فإذا أنا بعين خرارة، وروضة مرهامة، وشجرة عادية، وإذا به قاعد إلى أصل الشجرة وبيده قضيب وقد ورد على العين سباع كثيرة، فكلما ورد سبع وأقام ضربه وقال: تنح حتى يشرب صاحبك! فلما رأيت ذلك ذعرت، فالتفت إلي وقال: لا تخف، فالتفت فإذا بقبرين بينهما مسجد، فقلت: ما هذان القبران؟ قال: هنا قبرا أخوين كانا لي، وكنا نعبد الله في هذا الموضع، فمرا وبقيت، وأنا أعبد الله بينهما حتى ألحق بهما. فقلت له: أفلا تلحق بقومك فتكون في خيرهم! فقال: ثكلتك أمك أما علمت أن ولد إسماعيل تركت دين أبيها، واتبعت الأضداد، وعظمت الأنداد؟ ثم أقبل على القبرين، فقال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 670 خليلي هبا طالما قد رقدتما ... أجدكما ما تقضيان كراكما [ألم تعلما أني بسمعان مفرد ... وما لي فيه من حبيب سواكما أقيم على قبريكما لست بارحاً ... طوال الليالي أو يجيب صداكما كأنكما والموت أقرب غاية ... بجسمي من قبريكما قد أتاكما فلو جعلت نفس لنفس وقاية ... لجدت بنفسي أن تكون فداكما] قال البيهقي: وقبره مشهور بجبل سمعان من جهة حلب. وفي قطب السرور أن قيصر قال له: أي الأشربة أفضل؟ فقال: ما صفا في العين، ولذ في الذوق، وطاب في النفس _ شراب الخمر. قال: فما تقول في مطبوخه؟ قال: "مرعى ولا كالسعدان"! قال: فما تقول في نبيذ الزبيب؟ قال: ميت أحيي وفيه بعض المنفعة؛ قال: فما تقول في نبيذ العسل؟ قال: نعم شراب الشيخ للأبردة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 671 والمعدة الفاسدة؛ قال: فنبيذ التمر؟ قال: أوساخ تدعو إليها ضرورات تذم في الأبدان؛ قال: فما الذي يذهب الهموم عند الشرب؟ قال: جوهر فيه لا تناله عقول العباد؛ قال: فما أصلح لوقت الشرب؟ قال: الأصيل؛ قال: فمن أي شيء يكون الخمار؟ قال: من ضعف قوة الجوارح عن بث ما يصعد إلى الدماغ من البخار حتى يغشيه الهواء قليلا قليلا؛ قال: فالصرف خير أم الممزوج؟ قال: الصرف سلطان جائر، والممزوج سلطان عادل؛ قال: أتشربه أنت؟ قال: نعم، ولا أبلغ ما يغير عقلي؛ قال: ولم؟ قال: أخبئه لسؤال مثلك! [أنمار بن نزار] وأما أنمار بن نزار فإنه أنسل باليمن، فحسب ولده منهم. وقد قيل: إن نسبه في اليمانية، وقد تقدم ذكر ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 672 من وجدت له من العرب كلاماً فصيحاً ولم نعلم عصره ولا تمييزه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 673 سئل أعرابي عن زوجته وكان حديث عهد بعرس: كيف رأيت أهلك؟ فقال: أفنان أثلة، وجني نحلة، ومس رملة، ورطب نخلة، وكأني كل يوم آئب من غيبة. وقال آخر في ذم إنسان: أنت والله ممن إذا سأل ألحف وإذا سئل سوف، وإذا حدث خلف، وإذا وعد أخلف؛ تنظر نظرة حسود، وتعرض إعراض حقود. ووصف أعرابي مرح فرس فقال: كأنه شيطان في أشطان. وقال أعرابي: خرجت في ليلة حندس قد ألقت أكارعها على الأرض، فعميت صور الأبدان، فما كنا نتعارف إلا بالآذان، فسرنا حتى أخذ الليل ينفض صبغه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 675 وقال آخر: فصح الألسنة برد السائل، جذم الأكف عن النائل. وقال أعرابي لقومه وقد ضافوا بعض أصحاب السلطان: يا قوم، لا أغركم من نشاب معهم في جعاب كأنها نيوب الفيلة، وقسي كأنها الحواجب، ينزع أحدهم حتى يتفرق شعر إبطه، ثم يرسل نشابة كأنها رشاء منقطع؛ فما بين أحدكم وبين أن يصدع قلبه منزلة! قال: فطاروا رعباً قبل اللقاء. وقف أعرابي على قبر عامر بن الطفيل، فقال: كان والله لا يضل حتى يضل النجم، ولا يعطش حتى يعطش البعير، ولا يهاب حتى يهاب السيل. وكان والله خير ما يكون حين لا تظن نفس بنفس شيئاً. وقيل لأعرابي قد أسن: ما فعل بك الدهر؟ فقال: ضعضع قناتي، وجرأ علي عداتي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 676 ذكر أعرابي ظلم وال وليهم، فقال: ما ترك لنا فضة إلا فضها، ولا ذهباً إلا أذهبه، ولا غلة إلا غلها، ولا ضيعة إلا ضيعها، ولا عقاراً إلا عقره، ولا علقاً إلا اعتلقه، ولا عرضاً إلا عرض له، ولا ماشية إلا امتشها، ولا جليلا إلا جله، ولا دقيقاً إلا دقه. وذكروا أن قوماً أضلوا الطريف، فاستأجروا أعرابياً يدلهم عليه، فقال: إني والله ما أخرج معكم حتى أشرط لكم وعليكم. قالوا: هات مالك، قال: يدي مع أيديكم في الحار والقار، ولي موضعي من النار؛ وذكر والدي محرم عليكم. قالوا: هذا لك، فما لنا عليك إن أذنبت؟ قال: إعراضة لا تؤدي إلى عتب، وهجرة لا تمنع من مجامعة السفرة، قالوا: فإن لم تعتب؟ قال: حذفة بالعصا أصابت أم أخطأت! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 677 وقال أعرابي في وصف بليغ: كان لسانه أرق من ورقة، وألين من سرقة. وسأل أعرابي رجلاً فمنعه، فقال الحمد لله الذي أفقرني من معروفك، ولم يغنك عن شكري. وقال أعرابي لولده: ابذل لصديقك كل المودة، ولا تبذل له كل الطمأنينة؛ وأعطه من نفسك كل المواساة، ولا تفض إليه بكل الأسرار. وشتم رجل أعرابياً فلم يجبه، فقيل له في ذلك، فقال: لا أدخل في حرب الغالب فيها شر من المغلوب. وقال أعرابي: أكثر الناس بالقول مدل، ومن الفعل مقل. * وقال أعرابي: وهو بعيد لا يفقد بره، وقريب لا يؤمن شره. وقال آخر: أبين العجز قلة الحيلة، وملازمة الحليلة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 678 وقال آخر: ألم أكن نهيتك أن تريق ماء وجهك لمن لا ماء في وجهه؟ قال أعرابي: أحسن الأحوال حال يغبطك بها من دونك، ولا يحقرك بها من فوقك. وصف آخر رجلاً، فقال: إن أتيته احتجب، وإن غبت عنه عتب، وإن عاتبته أبدى الغضب. وقال أعرابي: لو عاونني الحال ما استبطأتك إلا بالصبر، ولا استزدتك إلا بالشكر. وقال أعرابي: إن يسير مال أتاني عفواً لم أبذل فيه وجهاً، ولم أبسط إليه كفاً، ولم أغضض له طرفاً، أحب إلي من كثير مال أتاني بالكد واستفراغ الجهد. وقال أعرابي: لا تصغر أمر من حاربت أو عاديت؛ فانك إن ظفرت لم تحمد، وإن عجزت لم تعذر. هنأ بعض الأعراب فتى أراد البناء على أهله، فقال: بالبركة، وشدة الحركة، والظفر في المعركة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 679 وقال أعرابي: هو أفرح من المطل الواجد، والظعان الوارد، والعقيم الوالد. وقال أعرابي: عليك بالأدب؛ فإنه يرفع المملوك حتى يجلسه في مجالس الملوك. وقيل لبعض الأعراب: ما بال فلان يتنقصك؟ قال: لأنه شقيقي في النسب، وجاري في البلد، وشريكي في الصناعة. وقال أعرابي: عباد الله، الحذر الحذر، فوالله لقد أسر من كان غفر. وشكا أعرابي ركود الهواء، فقال ركد حتى كأنه أذن تسمع. وقال آخر: كل مقدور عليه مختور أو معلول. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 680 وقيل لأعرابي له أمة اسمها زهرة: أيسرك أنك الخليفة، وأن زهرة ماتت؟ قال: لا والله! قيل: ولم؟ قال: تذهب الأمة، وتضيع الأمة. ومدح أعرابي قوماً، فقال: يقتحمون الحرب كأنما يلقونها بنفوس أعدائهم. وقال أعرابي: حكم جليس الملوك أن يكون حافظاً للسر، صابراً على السهر. وقال أعرابي: لا يقوم عن الغضب بذل الاعتذار. ووصف أعرابي رجلاً، فقال: ذا ممن ينفع سلمه، ويتواصف حلمه، ولا يستمرأ ظلمه. وقال آخر: فلان حتف الأقران غداة النزال، وربيع الضيفان عشية النزول. وقال أعرابي عن شخص: لا أمس ليومه، ولا قديم لقومه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 681 وقال آخر: فلان أفصح خلق الله كلاماً إذا حدث، وأحسنهم استماعاً إذا حدث، وأسكتهم عن الملاحاة إذا خولف؛ يعطي صديقه الناقلة، ولا يسأله الفريضة؛ له نفس عن العوراء محصورة، وعلى المعالي مقصورة، كالذهب الأبريز الذي يفيد كل أوان، والشمس المنيرة التي لا تخفى بكل مكان؛ وهو النجم المضيء للحيران، والبارد العذب للعطشان. وقال أعرابي: فلان ليث إذا عدا، وغيث إذا غدا، وبدر إذا بدا، ونجم إذا هدى، وسهم إذا أردى. وقال آخر: الاغتراب يرد الجدة ويكسب الجدة. وقيل لأعرابي: كيف ابنك؟ فقال: عذاب رعف به الدهر، فليتني أودعته القبر؛ فإنه بلاء لا يقاومه الصبر، وفائدة لا يجب فيها الشكر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 682 وقال أعرابي: لا تضع سرك عند من لا سر له عندك. وقال أعرابي لرجل: ويحك! إن فلاناً وإن ضحك إليك فإن قلبه يضحك منك، ولئن أظهر الشفقة عليك فإن عقاربه لتسري إليك. فإن لم تتخذه عدواً في علانيتك، فلا تتخذه صديقاً في سريرتك. وحذر أعرابي آخر رجلاً، فقال: احذر فلاناً؛ فإنه كثير المسألة، حسن البحث، لطيف الاستدراج، يحفظ أول عقاربه لتسري إليك. فإن لم تتخذه عدواً في علانيتك، فلا تظهرن له المخافة فيرى أنك قد تحرزت، وباثه مباثة الآمن وتحفظ منه تحفظ الخائف. واعلم أن من يقظة المرء إظهار الغفلة مع الحذر. ومدح أعرابي نفسه، فقيل له: أتمدح نفسك؟ فقال: إلى من أكلها؟ وقال أعرابي: هلاك الوالي في صاحب يحسن القول، ولا يحسن الفعل. وقال أعرابي: نبو النظر عنوان الشر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 683 وقال آخر: الحسود لا يسود. وقال أعرابي: العبوس بؤس، والبشر بشرى، والحاجة تفتق الحيلة، والحيلة تشحذ الطبيعة. وقال أعرابي: مجالسة الأحمق خطر، والقيام عنه ظفر. وقال آخر: العذر الجميل أحسن من المطال الطويل، فإن أردت الإنعام فأنجح، وإن تعذرت الحاجة فأفصح. وقيل لأعرابي: ما وقوفك ها هنا؟ فقال: وقفت مع أخ لي يقول بلا علم، ويأخذ بلا شكل، ويرد بلا حشمة. وقال آخر في دعاء: لا رد لسانك عن البيان، ولا أسكتك الزجر والهوان. وقال أعرابي: حاجتي إليك حاجة الضال إلى المرشد، والمضل إلى المنشد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 684 وقال آخر: بالفحول تدرك الذحول. وقال أعرابي: من جاد بماله فقد جاد بنفسه، إلا يكن جاد بها فقد جاد بقوامها. وذكر رجل عند أعرابي بشدة العبادة، فقال: هذا والله رجل سوء، أيظن أن الله لا يرحمه حتى يعذب نفسه هذا التعذيب! وقال أعرابي في الفخر بتمره: تمرنا جرد فطس عراض كأنها ألسن الطير، تمضغ التمرة في شدقك، فتجد حلاوتها في عقبك. وقال أعرابي: سألت فلاناً حاجة أقل من قيمته، فردني رداً أقبح من خلقته. ووصف أعرابي النساء، فقال: عليك منهن بالجاليات العيون، الآخذات بالقلوب، وتوخ بارع الجمال، وعظم الأكفال، وسعة الصدور، ولين السرة، ودقة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 685 الأنامل، وسبوطة [القصب] وجزالة الأسوق، وجثولة الفروع، ونجالة العيون مع الحور، وسهولة الخدود، وامتداد القوام، ورخامة المنطق، وحسن الثغور، وصغر الأفواه، وصفاء الألوان. ووصف أعرابي امرأة، فقال: هي خالية من ألا وليت. وقيل لأعرابي: "كيف كتمانك للسر؟ قال: أجحد المخبر، وأحلف للمستخبر. وقيل لأعرابي: كيف تغلب الناس؟ قال: أبهت بالكذب، واستشهد بالموتى. وقال أعرابي لأخيه: إن لم يكن مالك لك كنت له، وإن لم تفنه أفناك، فكله قبل أن يأكلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 686 وقال أعرابي في رجل: صغره في عيني كبر الدنيا في عينه. وقيل لأعرابي: كيف تقدر على جمع الضرائر؟ فقال: كنا لنا شباب يظأرهن علينا، ومال يصيرهن لنا؛ ثم قد بقي لنا خلق حسن، فنحن نتعايش به. وقال أعرابي: مع الشعاب التحاب، والإفراط في الزيارة ممل، والتفريط فيها مخل. وقيل لأعرابي عمر مائة وعشرين سنة: ما أطول عمرك؟ قال: تركت الحسد فبقيت؟ وقال آخر في عيي: رأيت عورات الناس بين أرجلهم، وعورة هذا بين فكيه. وقيل لأعرابي: ما تلبس؟ قال: الليل إذا عسعس، والصبح إذا تنفس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 687 وسئل أعرابي عن ألوان الثياب، فقال: الصفرة أشكل، والحمرة أجمل، والخضرة أنبل، والسواد أهول، والبياض أفضل. وسئل رجل عن نسبه، فقال: أنا ابن أخت فلان، فقال أعرابي: الناس ينتسبون طولا، وأنت تنتسب عرضا. وقيل لأعرابي: بم تعرفون السودد في الغلام؟ قال: إذا كان سابل الغرة، طويل الغرلة، ملتاث الأزرة، وكانت فيه لوثة فلسنا نشك في سودده. قال أعرابي: اكتب لابني تعويذاً، فقال: ما اسمه؟ قال: فلان، قال: فما اسم أمه؟ قال: ولم عدلت عن اسم أبيه؟ قال: لأن الأم لا يشك فيها؛ قال: اكتب: فإن كان ابني عافاه الله، وإن لم يكن فلا شفاه الله ولا عافاه! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 688 قيل لأعرابي: ما تقول في ابن العم؟ قال: عدوك، وعدو عدوك؟ وقيل لأعرابي: أتشرب النبيذ؟ فقال: أنا لا أشرب ما يشرب عقلي. وقيل لآخر: والله ما أرضى عقلي مجتمعاً، فكيف أفرقه؟ وقال بعضهم: رأيت أعرابياً في إبل قد ملأت الوادي، فقلت: لمن هذه؟ فقال: لله في يدي. وأثنى أعرابي على رجل، فقال: إن خيرك لصريح. وإن منعك لمريح، وإن رفدك لربيح. وقيل لأعرابي: ما أعددت للشتاء؟ فقال: شدة الرعدة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 689 وقال أعرابي: ما النار بأحرق للفتيلة من التعادي للقبيلة. وقال آخر: مع القرابة والثروة يكون التناكر والتحاسد، ومع الغربة والخلة يكون التناصر والتحاشد. وقال أعرابي لابن عم له: مالك أسرع إلى ما أكره من الماء إلى قرارة، ولولا ضني باجتنابك لما أسرعت إلى عتابك! فقال الآخر: والله ما أعرف تقصيراً فأقلع، ولا ذنباً فأعتب؛ ولست أقول لك كذبت، ولا أقر أني أذنبت. وقال أعرابي: مازال يغطيني حتى حسبته يردعني، وما ضاع مال أودع حمداً. وقيل لأعرابي: على من البرد أشد؟ قال: على خلق في خلق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 690 وقال أعرابي: ما رأيت كفلان إن طلب حاجة غضب قبل أن يرد عنها، وإن سئل رد صاحبها قبل أن يفهمها. وذم رجل آخر فقال: لم يقنع كمياً سيفاً، ولا قرى يوماً ضيفاً، ولا حمدنا له شتاء ولا صيفاً. ووقف أعرابي في بعض المواسم، فقال: اللهم إن لك حقوقاً فتصدق بها علي، وللناس تبعات قبلي فتحملها عني؛ وقد أوجبت لكل ضيف قرى وأنا ضيفك، فاجعل قراي في هذه الليلة الجنة. ووقف سائل أعرابي فقال: رحم الله امرأ أعطى من سعة، وآسى من كفاف، وآثر من قوت. وقال أعرابي في دعائه: اللهم إن كان رزقي في السماء فأحدره، وإن كان في الأرض فأخرجه، وإن كان نائياً فقربه، وإن كان قليلا فكثره، وإن كان كثيراً فبارك فيه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 691 من أمثال العرب التي ليست منسوبة إلى شخص معين وهي منقولة من أمثال أبي عبيدة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 693 1: "ربما أعلم فأذر" أي أني قد أدع ذكر الشيء وأنا عالم به؛ لما أحاذر من غبه.؟ 2: وقال أعرابي لرجل: "إياك أن يضرب لسانك عنقك". 3: "من أكثر أهجر". والهجر: الخروج إلى الكلام الأقبح. 4: "عي صامت خير من عي ناطق". 5: "من حفنا أو رفنا فليقتصد". 6: وعرض رجل فرساً للبيع، فقال له آخر: أهذه فرسك التي كنت تصيد عليها الوحش؟ فقال له رب الفرس: "شاكه أبا فلان"؛ أي قارب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 695 7: ويقال في مثله: "دون ذا ينفق الحمار". 8: وقالوا: "لا تهرف بما لا تعرف". 9: وقالوا: "سبني واصدق". 10: وقالوا: "إذا سمعت بسري القين فإنه مصبح". قال: وأصله أن القين - وهو الحداد - في البادية يتنقل في مياههم، [فيقيم في الموضع أياماً، فيكسد عليه عمله، فيقول لأهل الماء: إني راحل الليلة عنكم وإن لم يرد ذلك، ولكنه يشيعه ليستعمله من يريد استعماله، فكثر ذلك في قوله حتى صار لا يصدق] . 11: وقالوا: "خير مالك ما نفعك". أي في دنياك أو في موعظة. 12: وقالوا: "ليس عليك نسجه فاسحب وجر". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 696 13: وقالوا: "رب ساع لقاعد". 14: وقالوا: "ملك ذا أمر أمره". 15: وقالوا: "سوء حمل الفاقة يضع الشرف". * وقالوا في تملك المال دون أهلية: 16: "عبد وخلي في يديه". وقالوا في الإعطاء بعد الشبع. 17: "أتاك ريان بلبنه". 18: وقالوا: "خرقاء وجدت صوفاً". 19: وقالوا: "استكرمت فاربط". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 697 20: وقالوا: "مرعى ولا أكولة". 21: و: "عشب ولا بعير". وقالوا في التحريض: 22: "أشدد يديك بغرزه". 23: وقالوا: "اطلب تظفر". 24: و: "ألق دلوك في الدلاء". 25: وقالوا: "كلب عس خير من كلب ربض". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 698 26: وقالوا: "يا حرزا وأبتغي النوافلا". أي أحرزت ما أريد، وأنا أبتغي الزيادة. 27: وقالوا: "كلاهما وتمرا". 28: وقالوا: "احلب حلباً لك شطره". 29: وقالوا: "كفى قوماً بصاحبهم خبيرا". 30: ومثله: "أتعلمني بضب أنا حرشته". 31: ومثله: "أنا ابن بجدتها". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 699 32: وتقول العامة في هذا: "أنت أعلم أم من غص بها". 33: وقالوا: "ليس الخبر كالعيان". 34: وقالوا: "على يدي دار الحديث". وقالوا في الحذق بالأمور: 35: "أنا منه كحاقن الإهالة". والإهالة: الودك المذاب، وليس يحقنها الحاذق بها حتى يعلم أنها بردت لئلا تحرق السقاء. 36: وقالوا: "أعط القوس باريها". 37: وقالوا: "لا تعدم صناع ثلة". والثلة: الصوف تغزله المرأة. 38: وقالوا: "قتل أرضاً عالمها، وقتلت أرض جاهلها". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 700 39: ويقولون: "بلغ فلان من العلم أطوريه". أي طرفيه. 40: وقالوا: "إن العالم كالحمة تأتيها البعداء ويزهد فيها القرباء". 41: وقالوا: "يا طبيب طب لنفسك". 42: وقالوا: "كالحادي وليس له بعير". 43: ومثله: "تجشأ لقمان من غير شبع". وقالوا في علم الباطن بالأمور الظاهرة: 44: "أنجد من رأى حضناً". وحضن: اسم جبل. وقالوا في استدامة الشيء لاستحسانه: 45: "محسنة فهيلي". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 701 وقالوا في الحاذق: 46: "هو يرقم الماء". وقالوا في الأخذ بالأحوط: 47: "عش ولا تغتر". 48: ومثله: "أن ترد الماء بماء أكيس". 49: وقالوا: "برد غداة غر عبداً من ظمأ". وأصل ذلك أن عبداً خرج في برد النهار، ولم يتزود الماء لما رأى من روح الغداة، فلما حميت الشمس بالفلاة هلك عطشاً. 50: وقالوا: "ليس بأول من غره السراب". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 702 وقالوا في الحضن على التقدم في الأمر: 51: "شر الرأي الدبري". 52: وقالوا: "آخرها أقلها شرباً". أي دل في الأول. وقالوا في الاستعداد: 53: "قبل الرمي تراش السهام". 54: وقالوا: "دمث لنفسك قبل النوم مضطجعا". 55: وقالوا: "التقدم قبل التندم". 56: وقالوا: "خير الأمور أحمدها مغبة". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 703 وقالوا في التحذير: 57: "لا تكن أدنى العيرين إلى السهم". وقالوا في التوسط: 58: "لا تكن حلواً فتسترط، ولا مراً فتعقى". 59: وقالوا: "عاد غيث على ما أفسد". وقالوا في المدافعة: 60: "جاحش فلان على خيط رقبته". وقالوا في التحذير من الاستبداد: 61: "الذئب خالياً أشد". 62: وقالوا: "كل الحذاء يحتذى الحافي الوقع". والوقع: الماشي في الوقع، وهي الحجارة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 704 63: وقالوا: "من يشتري سيفي وهذا أثره". وقالوا في التحذير من إتباع الهوى: 64: "أمر مبكياتك لا أمر مضحاتك". 65: وقالوا: "أعور، عينك والحجر". وقالوا في الموصوف بالحذر: 66: "العير أوقى لدمه". 67: وقالوا: "الليل وأهضام الوادي". 68: وقالوا: "إن السلامة منها ترك ما فيها". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 705 69: وقالوا: "اتق خيرها بشرها، وشرها بخيرها". ويقال: إن ذلك قيل في اللقطة أو الضالة؛ وقيل: إن ابن عمر قائله؛ وقد روي أن أحد حكماء الجاهلية قاله قبله. 70: وقالوا: "قد أعذر من أنذر". 71: وقالوا: "أجر الأمور على أذلالها". أي على وجوهها. وقالوا في حسن التدبير: 72: "قلب الأمر ظهراً لبطن". 73: وقالوا: "رب أكلة تمنع أكلات". 74: وقالوا: "ما هلك امرؤ عن مشورة". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 706 75: وقالوا: "افعل ذلك وخلاك ذم". أي إنما عليك أن تجتهد. وقالوا في الاجتماع للأمر والمبالغة فيه: 76: "اجمع جراميزك". 77: و: "أشدد حيازيمك". 78: منه: "قرع له ساقه". 79: و: "شمر ذيلا وادرع ليلا". 80: وقالوا: "اتخذ الليل جملا". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 707 81: وقالوا: "كذا وكذا ولو بقرطي مارية". 82: وقالوا: "جئ به من حيث [أيس] وليس". 83: وقالوا: "جاء فلان وفي رأسه خطة". أي في نفسه حاجة قد عزم عليها. 84: وقالوا: "رب عجلة تهب ريثاً". 85: ومثله: "ضح رويداً". 86: ومثله: "الرشف أنقع". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 708 وقالوا في طلب الحاجة المتعذرة: 87: "تسألني برامتين سلجما". والمثل المشهور في هذا: 88: "من سأل صاحبه فوق طاقته فقد استوجب الحرمان". وقالوا [في الاقتناع] : 89: "لم يحرم من فصد له". وكانوا إذا لم يقدروا على قرى الأضياف فصدوا له بعيراً، وعالجوا ذلك حتى يمكن أكله. 90: وقالوا: "الثيب عجالة الراكب". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 709 وقالوا في الاقتناع أيضاً: 91: "خذ ما طف لك وما استطف". 92: و: "خذ من فلان العفو". 93: و: "ارض من المركب بالتعليق". 94: وقالوا: "اصنعه لي صنعة من طب لمن حب". 95: وقالوا: "أتبع الفرس لجامها". وقالوا [في الرجل يعرف بالصدق ثم يحتاج إلى الكذب: 96: "عند النوى يكذبك الصادق". وأصله أن رجلا كان عنده عبد لم يكذب قط، فبايعه رجل ليكذبنه، فبيت العبد عنده، فأطعمه لحم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 710 حوار، وسقاه لبناً حليباً في سقاء حازر، فلما أصبحوا تحملوا، وقال للعبد] : الحق بأهلك. فلما توارى عنهم نزلوا، فأتى العبد سيده، فسأله، فقال: أطعموني لحماً لا سميناً ولا غثاً، وسقوني لبناً لا محضاً ولا حقيناً، وتركتهم قد ظعنوا فاستقلوا، فساروا بعد أو حلوا، وعند النوى يكذبك الصادق، فأحرز سيده الخطر. 97: وقالوا: "صدرك أوسع لسرك". 98: وقالوا: "اجعل هذا في وعاء غير سرب". 99: وقالوا: "أملك الناس لنفسه من كتم سره من صديقه". 100: وقالوا: "سرك من دمك". 101: وقالوا: "صرح الحق عن محضه". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 711 102: ومثله: "أبدى الصريح عن الرغوة". 103: وقالوا: "قد بدا نجيث القوم". والنجيث: المدفون. 104: وقالوا: "قد بين الصبح لذي عينين". 105: "أفرخ القوم بيضتهم". 106: "برح الخفاء". 107: "أخبرته بعجري وبجري". والعجر: العروق المتعقدة. والبجر: المعاء. 108: "كل أحد أعلم بشأنه". 109: "لعل له عذراً وأنت تلوم". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 712 وأضاف رجل قوماً فاستقاهم لبناً فاعتذروا، وعندهم لبن قد حقنوه في وطب، فقال: 110: "أبى الحقين العذرة". 111: "وترك الذنب أيسر من الاعتذار". والعامة تقول: 112: "ترك الذنب أيسر من طلب التوبة". 113: "لا يعدم مذنب عذراً". ونزل رجل بقوم ليلاً، فأضافوه وغبقوه، فلما فرغ قال: إذا صبحتموني غداً كيف آخذ في حاجتي؟ فقالوا: 114: "عن صبوح ترقق". 115: ومثله: "يسر حسواً في ارتغاء". 116: "شوى أخوك حتى إذا أنضج رمد". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 713 117: "المنة تهدم الصنيعة". وقال بعض العرب لبنيه: 118: يا بني "إذا اتخذتم عند رجل يداً فانسوها". 119: وقالوا: "كالممهورة إحدى خدمتيها". وذلك أن رجلاً كانت له امرأة حمقاء، فطلبت مهرها منه فنزع إحدى خدمايها - وهما الخلخالان - فدفعها إليها، وقال: هذا مهرك! فرضيت. 120: "لا تحمدن أمة عام اشترائها، ولا حرة عام بنائها". والبيت السائر: 121: "لا تحمدن امرأ حتى تجربه=ولا تذمنه من غير تجريب". وفي الدعاء للقادم من السفر 122: "خير ما رد في أهل ومال". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 714 123: "عرفتني نسأها الله". أي أخر في أجلها. وأصل ذلك أن فرساً أخذت لرجل، ثم رأته بعد ذلك، فذكرته وحمحمت، فقال هذا القول. وقالوا في النكاح 124: "بالرفاء والبنين". 125: و: "على بدء الخير واليمن". 126: "ذكرني فوك حماري أهلي". وأصله أن رجلاً خرج يطلب حمارين كان قد أضلهما، فرأى امرأة منتقبة، فأعجبته حتى نسى الحمارين، فتبعها، فلم يزل كذلك حتى سفرت فإذا هي فوهاء، فقال تلك المقالة، وانصرف إلى طلب الحمارين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 715 وقالوا في الرمي بالمعضلات 127: "رماه بأقحاف رأسه". 128: "رماه بثالثة الأثافي". وهي القطعة المتصلة بالجبل. وقالوا إذا بهته بعظيمة 129: "يا للعضيهة". 130: و "يا للأفيكة". 131: و: "يا للبهيتة". 132: وقالوا: "كأنما أفرغ عليه ذنوباً". إذا كلمه بما يسكته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 716 133: وقالوا: "لليدين وللفم". 134: وقالوا: "لا لعاً لفلان". 135: وقالوا: "إحدى حظيات لقمان". والحظيات: المرامي. 136: وقالوا: "سبك من أبلغك". 137: "فتل في ذروته وغاربه". 138: "من يأت الحكم وحده يفلج". 139: "المعافى ليس بمخدوع". أي من عوفي لم يضرره ما كان خودع به. 140: وقالوا: "جاء فلان بالترهات والأساطير". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 717 141: وقالوا: "إن يبغ عليك قومك لا يبغ عليك القمر". وأصل ذلك أن رجلين تبايعا على غروب القمر صبيحة ثلاث عشرة: أيسبق غروبه طلوع الشمس أم يسبقه طلوعها؟ فمال قوم الذي ذكر أن غروب [القمر] يسبق مع صاحبهم، فقال الآخر: إنكم تبغون علي؛ فقيل له ذلك. 142: ويقولون: "إن البغاث بأرضنا يستنسر". أي من جاورنا صار بنا عزيزاً. 143: وقالوا: "ما يقعقع لي بالشنان". 144: ومثله: "ما يصطلى بناره". 145: "إن كنت ريحاً فقد لاقيت إعصارا". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 718 146: "الحديد بالحديد يفلح". 147: "النبع يقرع بعضه بعضاً". 148: "رمي فلان بحجره". أي بقرنه. 149: وقالوا: "هو قفا غادر شر". وأصله أن رجلا من بني تميم أجار قوماً، فأرادوا أن يأكلوهم، فمنعهم، فقالت امرأة لأبيها: أرني هذا الوافي! فأراها إياه، فلما أبصرت دمامته قالت: لم أر كاليوم قفا واف! فقال ذلك لما سمعها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 719 وقالوا في الداهية 150: "إنه لصل أصلال". 151: و: "إنه لهتر أهتار". 152: و: "إنه لعضلة من العضل". 153: و: "إنه ليعلم من حيث تؤكل الكتف". 154: وقالوا: "حلب فلان الدهر أشطره". 155: وقالوا: "لا تغز إلا بغلام قد غزا". 156: "زاحم بعود أودع". 157: وقالوا: "إن العوان لا علم الخمرة". 158: "الفحل يحمي شوله معقولا". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 720 159: "خل سبيل من وهى سقاؤه". أي لا تصحب من لا يرى لك مثل ما ترى له. 160: وقالوا: "دع امرأ وما يختاره". 161: و: "ألق حبله على غاربه". 162: ويقولون: "حلبتها بالساعد الأشد". أي حين لم أقدر على الرفق أخذته بالقوة. 163: ومثله: "مجاهرة إذ لم أجد مختلا". 164: وقالوا: "يركب الصعب من لا ذلول له". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 721 165: وقالوا: "مخرنبق لينباع". 166: وقالوا: "تحسبها حمقاء وهي باخس". وقالوا في الذي يوصى بركوب الأمر الشديد لقوته عليه 167: "أطري فانك ناعلة". وأصله أن رجلا قال لراعية له جعلت ترعى في السهل وتترك الحزونة: أطري: أي خذي طرر الوادي، وهي نواحيه، فإن عليك نعلين. قال: أحسبه يعني بالنعلين غلظ جلد قدميها. وقالوا فيمن هان بعد العز. 168: "كان حماراً فأستأتن". 169: و: "أودى العير إلا ضرطاً". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 722 170: وقالوا: "لقد كنت وما أخشى بالذئب". وقالوا في الذي يتعذر ثم يلين 171: "تنزو وتلين". 172: وقالوا: "الحمى أضرعتني إليك". وقالوا في الذي لم يبق من عمره إلى اليسير 173: "ما بقي منه إلا قدر ظمء الحمار". قالوا: وليس شيء من الدواب أقصر ظمئاً منه. وقالوا فيمن تعزز بعد الذل 174: "وكان كراعاً فصار ذراعاً". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 723 وقالوا فيمن يحمد بعد الكبر 175: "عود يقلع". أي تحسن أسنانه وتنقى. 176: ومثله: "ومن العناء رياضة الهرم". 177: وقالوا: "أعييتني بأشر فكيف بدردر؟ ". أي لم تقبلي الأدب وأنت شابة ذات أشر في أسنانك، فكيف وقد كبرت وبدت درادرك، وهي مغارز الأسنان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 724 وقالوا في سوء الخلف 178: "بدل أعور". وقالوا في استعانة الذليل 179: "مثفل استعان بذقنه". وأصله البعير يحمل عليه الحمل فلا يقدر على النهوض، فيعتمد على الأرض بذقنه. 180: ومثله: "عبد صريخه أمة". 181: وقالوا: "معاداة العاقل خير من مصادقة الأحمق". وإذا كان يبلغ حاجته مع حمقه قالوا: 182: "أحمق بلغ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 725 وقالوا في الخداع: 183: "خامري أم عامر". وذلك يقال للضبع حين تخرج من بيتها فيقبض عليها. 184: وقالوا: "كيف بغلام قد أعياني أبوه؟ ". 185: ومثله: "لا تقتن من كلب سوء جرواً". ومثله: 186: "ترجو الوليد وقد أعياك والده=وما رجاؤك بعد الوالد الولدا". وقالوا في الامعة 187: "هو بنت الجبل". وهي الصدى، أي من يجيب كل ذي صوت بمثل كلامه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 726 وقالوا في المخلط 188: "كل نجار إبل نجارها". وقالوا فيمن له منظر بلا مخبر 189: "ترى الفتيان كالنخل وما يدريك ما الدخل". ومن أمثالهم 190: "لن يزال الناس بخير ما تباينوا، فإذا تساووا هلكوا". وقالوا: 191: "لقوم إخوان وشتى في الشيم". وكلهم يجمعهم بيت الألم 192: وقالوا: "الناس أخياف". أي متفرقون في أحسابهم وأخلاقهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 727 وقالوا في الجماعة يأتون عن آخرهم 193: "جاءوا على بكرة أبيهم". 194: و: "جاءوا قضهم بقضيضهم". وقالوا في التساوي 195: "هما زندان في وعاء". ولا يكون هذا في المدح. وقالوا في الاقتناع 196: "سداد من عوز". وقالوا في التفضيل 197: "في كل شجر نار، واستمجد المرخ والعفار". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 728 198: وقالوا: "كل مجر بالخلاء يسر". 199: وقالوا: "ساواك عبد غيرك". 200: وقالوا: "عبد غيرك حر مثلك". 201: وقالوا: "أضئ لنا أقدح لك". 202: وقالوا: "أسق رقاش إنها سقاية". 203: وقالوا: "هذه بتلك فهل جزيتك؟ ". 204: وقالوا: "لا تعدم من ابن عمك نصراً". 205: وقالوا: "الحفائظ تحلل الأحقاد". 206: وقالوا: "منك أنفك ولو كان أجدع". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 729 207: وقالوا: "هو ألزم لك من شعرات قصك"؛ لأنه كلما حلق نبت. 208: وقالوا: "زين في عين والد ولده". 209: وقالوا: "العصا من العصية". 210: وقالوا: "العقوق ثكل من لم يثكل". 211: وقالوا: "الملك عقيم". 212: وقالوا: "إذا نزا بك الشر فاقعد". 213: وقالوا: "الحليم مطية الجهول". 214: و: "لا ينتصف حليم من جاهل". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 730 وقالوا في صفة الحليم 215: "إنه لواقع الطير". 216: و: "إنه لساكن الريح". 317: و: "كأن الطير على رؤوسهم". وقالوا في احتمال الإساءة 218: "طويت فلاناً على بلاله". 219: وقالوا: "ما كفى حرباً جانبها". أي يصلح العقلاء ما أفسده السفهاء. 220: ومنه قولهم: "صار الأمر إلى النزعة". إذا قام به أهل الإصلاح. 221: وقالوا: "إن المقدرة تذهب الحفظية". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 731 وقالوا في العفو 222: "إذا ارجحن شاصياً فارفع يداً". والشاصي: الرافع رجله، أي إذا خضع. 223: وقالوا: "إذا لم تغلب فأخلب". 224: وقالوا: "سوء الاستمساك خير من حسن الصرعة". 225: وقالوا: "كل امرئ في بيته صبي". 226: وقالوا: "الحمد مغنم، والمذمة مغرم". 227: وقالوا: "المصيبة للصابر واحدة، وللجزع ثنتان". وأصيب بعض حكماء العرب بولده، فبكاه حولا ثم سلا، فقيل له في ذلك، فقال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 732 228: "كان جرحاً فبرئ". 229: وقالوا: "إنما سميت هانئاً لتهنأ". أي لتفضل على الناس؛ والهانئ: المعطي. 230: وقالوا: "لا ينفعك من زاد تبقي". أي يصير إلى التغير فلا تدخره. 231: وقالوا: "من حقر حرم". 232: ومثله: "إن الرثيئة تفثأ الغضب". وأصله أن رجلا كان غضبان على قوم، فسقوه رثيئة، فسكن غضبه. والرثيئة: اللبن الحامض يخلط بحلو. 233: وقالوا: "ما حللت ببطن تبالة لتحرم الأضياف". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 733 وتبالة: من بلاد اليمن، وهي مشهورة بالخصب. 234: وقالوا: "هذا بيتي يبخل لا أنا". 235: وقالوا: "شغلت شعابي جدواي". 236: وقالوا: "بالساعد تبطش الكف". 237: وقالوا: "عند الصباح يحمد القوم السرى". وقالوا في ترك المخالفة 238: "هو على حبل ذراعك". 239: وقالوا في مثله: "بين العصا ولحائها". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 734 [وقالوا] في التسهيل 240: "هو على طرف الثمام". لأنه لا يطوف فيشق على المتناول. وقالوا في تسهيل الأمر من وجهين 241: "كلا جانبي هرشى لهن طريق". وقالوا في الحزم والنظر في الشيء إذا فاته غيره 242: "لا يرسل الساق إلا ممسكاً ساقاً". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 735 وأصل ذلك في الحرباء إذا اشتدت عليها الشمس استظلت بشجرة كانت قد أعدتها هي لتحويل الفيء. 243: وقالوا: "من خطب الحسناء يعط مهراً". 244: وقالوا: "من صانع بالمال لم يحتشم من طلب الحاجة". 245: وقالوا: "عمك خرجك". وأصله أن رجلا سافر مع عمه من غير زاد اتكالا على ما في خرج عمه، فلما جاع قال: يا عم أطعمني مما في خرجك، فقال له ذلك. وقالوا في الأمر إذا عرض فيه داخل 246: "قد علقت دلوك دلو أخرى". 247: وقالوا: "الأمر يحدث بعده الأمر". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 736 248: وقالوا: "من لي بالسانح بعد البارح؟ ". وأصل ذلك أن رجلا مرت به ظباء بارحة _ والعرب تتشاءم بها _ فكره ذلك، فقيل له: إنها ستمر بك سانحة؛ فقال ذلك. والسانح: ما مر عن اليمين. والبارح: عن الشمال. 249: وقالوا: "رجع من سفره بخفي حنين". وقالوا: وكان حنين إسكافاً من أهل الحيرة، فساومه أعرابي بخفين، فاختلفا حتى أغضبه، فأراد غيظ الأعرابي: فلما ارتحل أخذ حنين الخف الواحد، فألقاه في طريقه، ثم ألقى الآخر في موضع آخر. فلما مر الأعرابي بأحدها قال: ما أشبه هذا بخف حنين! ولو كان معه أخوه لأخذته! مضى. فلما انتهى إلى الآخر ندم على ترك الأول، فأناخ راحلته عند الآخر، ورجع إلى الأول وقد كمن له حنين، فلما مضى الأعرابي عمد إلى راحلته وما عليها وذهب به! وأقبل الأعرابي وليس معه غير الخفين، فقال له قومه: ماذا جئت به من سفرك؟ فقال: جئتكم بخفي حنين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 737 250: وقالوا: "قد نفخت لو تنفخ في فحم". 251: وقالوا: "إن كنت بي تشد أزرك فأرخه". 252: وقالوا: "رمى برسن فلان على غاربه". إذا خلي وما يريد. 253: وقالوا: "أرسل حليماً ولا توصه". 254: ومثله: "إن الموصين بنو سهوان". وقالوا في الاعتناء 255: "جعلته نصب عيني". 256: و: "لم أجعلها بظهر". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 738 257: وقالوا: "لا تسأل الصارخ وانظره ماله". 258: وقالوا: "عينه فراره". وهو اختباره. 259: وقالوا: "جاء فلان من حاجته وقد لفظ لجامه". إذا انصرف عنها مجهوداً. فان جاء مستحييا قيل: 260: "جاء كخاصي العير". فان جاء وقد قضى حاجته قيل: 261: "جاء ثانياً من عنانه". فان جاء فارغاً قيل: 262: "جاء يضرب أصدريه". بعني عطفيه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 739 وإن جاء بعد الشدة قيل: 263: "جاء بعد اللتيا والتي". 264: ومثله: "جاء بعد الهياط والمياط". 265: وقالوا: "لا أطلب أثراً بعد عين". 266: وقالوا: "ما قرعت عصاً على عصاً إلا حزن لها قوم، وسر بها آخرون". 267: وقالوا: "نعم كلب في بؤس أهله". 268: وقالوا: "الحرب غشوم". لأنها تنال من لم يجنها. 269: وقالوا: "أحشفاً وسوء كيلة؟ ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 740 270: وقالوا: "أكسفاً وإمساكاً؟ ". في البخيل الذي يلقاك بالعبوس. 271: وقالوا: "كالمستغيث من الرمضاء بالثأر". وقالوا في المكروهين 272: عوير وكسير". وقالوا في الزيادة على تحمل المكروه 273: "ضغث على إبالة". والابالة: الحزمة من الحطب. والضغث: الجرزة التي فوقها. 274: وقالوا: "وقع القوم في أم جندب". إذا ظلموا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 741 275: وقالوا: "مطله مطلا كنعاس الكلب". لأنه دائم النعاس. وقالوا في الأمر يبرم ولم يشهده صاحبه 276: "صفقة لم يشهدها حاطب". 277: وقالوا: "يجري بليق ويذم". وهو اسم فرس كان يسبق الخيل، وهو مع ذلك يعاب. 278: ومثله: "السعير يؤكل ويذم". 279: وقالوا: "ابدأهم بالصراخ يفروا". 280: وقالوا: "لو ذات سوار لطمتني". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 742 281: "اضربه ضرب غرائب الابل". 282: "ذل لو أجد ناصراً". قاله رجل لطمه الحارث بن أبي شمر الغساني، ثم لطمه أخرى، فقال: 283: "لو نهيت الأولى لانتهت الأخرى". 284: "هذه بتلك والبادي أظلم". 285: "من حفر مهواة وقع فيها". 286: "كالباحث عن مدية". 287: "لو ترك القطا لنام". وقالوا في البراءة 288: "أنا منه فالح بن خلاوة". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 743 289: وقالوا: "لا ينفعك من سوء توق". 290: وقالوا: "أنت تئق، وأنا مئق، فكيف نتفق؟ " والتئق: السريع إلى الشر، والمئع: السريع إلى البكاء. ومن أمثالهم 291: "ويح الشجي من الخلي". 292: "هان على الأملس ما لاقي الدبر". 293: "عادة السوء شر من المغرم". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 744 294: "عاد فلان في حافرته". أي إلى طريقته الأولى. 295: وقيل "النقد عند الحافر". 296: ومن أمثالهم: "حياك من خلا فوه". وأصله أن رجلا سلم عليه وهو يأكل، فلم يرد السلام، فلما فرغ قال هذه المقالة. 297: ومن أمثالهم: "الكلاب على البقر". 298: ومن أمثالهم: "اتخذ القوم فلاناً حمير الحاجات". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 745 299: وقالوا: "كالفاخرة بحدج ربتها". 300: وقالوا: "ليس هذا بعشك فادرجي". وقال بعض حكماء العرب 301: "شدة الحرص من سبل المتالف". وقالوا في شدة الحرص: 302: "هذا يبعث الكلاب عن مرابضها". أي طمعاً أن يجد تحتها ما يأكله. وقال حكيم من العرب 302: "من استغنى كرم على أهله". وقالوا في التحريض على مجانبة الناس 304: "من يسمع يخل". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 746 305: وقالوا: "عرف حميق جمله". بضرب للرجل يأنس بالرجل حتى يجترئ عليه. ومن أمثالهم 306: "كمستبضع التمر إلى هجر". 307: وقالوا: "من استرعى الذئب ظلم". 308: وقالوا: "خير حالبيك تنطحين". وقالوا في الخليط 309: "اختلط المرعي منها بالهمل". 310: ومثله: "ما يدري أيخثر أم يذيب". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 747 311: وقالوا: "لا ماءك أبقيت، ولا درنك أنقيت". 312: وقالوا: "لا تنقش الشوكة بمثلها". 313: وقالوا: "أساء رعياً فسقى". ومن أمثالهم 314: "لا مخبأ لعطر بعد عروس". وقالوا في البخيل 315: "ما عنده خل ولا خمر". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 748 316: "ما عنده خير ولا مير". 317: "سواء هو والعدم". 318: "سواء هو والقفر". 319: و: "هل بالرمل أو شال". 320: "ما يبض حجره". 321: "ما تبل إحدى يديه الأخرى". وقالوا في البخيل مع السعة 322: "رب صلف تحت الراعدة". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 749 والصلف: قلة النزل والخير. والراعدة: السحابة ذات الرعد. 323: و: "إنه لنكد الحظيرة". 324: وقالوا: "الحر يعطي والعبد يألم قلبه". 325: و: "يمنع دره ودر غيره". 326: وقالوا: "رهباك خير من رغباك". أي أن يعطيك فرقاً خير من حبه لك. ومن أمثالهم 327: "قبل البكاء كان وجهك عابساً". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 750 328: و: "قبل النفاس كنت مصفرة". 329: وقالوا: "إن ضج فزده وقراً". 330: و: "إن جرجر فزده نوطاً". 331: وقالوا: "دقك بالمنحاز حب الفلفل". وقالوا في الاغتنام من البخيل 332: "خذ من الرضفة ما عليها". والرضفة: هي الحجارة المحماة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 751 وقالوا في الاحتياج إلى البخيل 333: "شر ما أجاءك إلى مخة عرقوب". 334: وقالوا: "يا مهدي المال كل ما أهديت". 335: ومثله: "سمنكم هريق في أديمكم". وقالوا في البخيل إذا مات موفورا ً 336: "مات فلان عريض البطان". وقالوا في الذي لا يرى منه الشيء إلا ندرة 337: "إنما هو كبارح الأروى". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 752 لأن الأروى مسكنها أعالي الجبال ولا تكاد ترى. وقالوا في الذي يتحاماه الناس 338: "من شر ما طرحك أهلك". وقالوا في الذي يعطي مرة 339: "كانت بيضة الديك". فان كان يعطي شيئاً ثم قطعه قيل للمرة الآخرة: 340: "إنما كانت بيضة العقر". ومن أمثالهم 341: "عصا الجبان أطول". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 753 وقالوا في الجبان إذا خاف: 342: "قد كاد يشرق بالريق". وقالوا إذا أفلت بعد الاشفاء: 343: "أفلت وانحص الذنب". وإذا أرادوا أنه نفر فلم يعد قالوا: 344: "ضرب في جهازه". وأصله في البعير يسقط عن ظهره القتب بأداته، فيقع بين قوائمه، فينفر منه في مذهب في الأرض. وقالوا في الجبان المتوعد بما لا يفعل 345: "الصدق ينبي عنك ولا الوعيد". 346: ومثله: "أسمع جعجعة ولا أرى طحناً". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 754 وقالوا في توعد الرجل صاحبه وهو ضعيف 347: "لا تبق إلا على نفسك". والعامة تقول: 348: "لا أبقى الله عليك إن أبقيت". وقالوا في الموعد الذي يعرف بخلاف ذلك 349: "برق لمن لا يعرفك". 350: وقالوا: "جاؤنا ينفض مذرويه". أي يتوعدنا. والمذروان: فرعا الأليتين. 351: ويقولون: "ارق على ظلعك". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 755 وقالوا في الرضا بالحاضر ونسبان الغائب 352: "إن ذهب عير فعير في الرباط". ومن أمثالهم 353: "من غاب غاب حظه". 354: وقالوا: "إذا جاء الحين غطى العين". 355: وقالوا: "استمسك فإنه معدو بك". أي المقادير تسوقك إليها. 356: وقالوا: "كيف توقى ظهر ما أنت راكبه". ومن أمثالهم 357: "لا تكن كالباحث عن المدية". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 756 358: و: "لا تكن كالنازي بين القرينين". وقالوا في الشماتة بالجاني على نفسه 359: "احس فذق". 360: "يداك أو كتاو وفوك نفخ". قيل ذلك لرجل نفخ زقاً وسبح به، حتى إذا توسط اللجنة انفتح، فاستغاث. 361: وقالوا: "لاقى كما لقي يسار الكواعب". وكان من حديثه أنه كان عبداً لبعض العرب ولمولاه بنات، فجعل يتعرض لهن ويراودهن، فقلن له: يا يسار، اشرب من ألبان هذه اللقاح، ونم في ظلال هذه الخيام، ولا تتعرض لبنات الأحرار! فأبى، فلما أكثر عليهن واعدنه ليلا - وقد أعددن له موسى - فلما خلا بهن قبضن عليه، فجببن مذاكيره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 757 362: وقالوا: "على أهلها دلت براقش". وهي كلبة نبحت على جيش مروا ولم يشعروا بالحي الذي كانت فيه الكلبة، فعطفوا عليهم واستباحوا. 363: ومثله: "عير عاره وتده". 364: كما يقال: "لا أدري أي الجراد عاره". أي أتلفه. وقالوا في دول الدهر 365: "مرة عيش، ومرة جيش". ومثله: 366: "من ير يوماً ير به=والدهر لا تغتر به". 367: وقالوا: "إن تعش تر ما لم تر". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 758 368: وقالوا: "من يجتمع تتقعقع عمده". 369: وقالوا: "انقطع السلى من البطن". أي فات الأمر وانقضى. 370: وقالوا: "عش رجباً تر عجباً". ومن أمثالهم في الشدائد 371: "رأى فلان الكواكب مظهراً". 372: وقالوا: "تركته على مثل قلع الصمغة". 373: و: "تركته على مثال ليلة الصدر". يعني صدر الناس من حجهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 759 374: و: "تركته على أنقى من الراحة". وقالوا في الهلاك 375: "طارت بهم العنقاء". 376: وقالوا: "القوم في أمر لا ينادى وليده". أي بلغ من الجهد أن تذهل المرأة عن صبيها أن تدعوه. 377: ومثله "وقع القوم في سلى جمل". أي في شيء لا مثيل له؛ لأن السلى يكون للناقة لا للجمل. 378: وقالوا: "بلغ السيل الزبى". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 760 379: و: "جاوز الحزام الطبيين". 380: و: "التقت حلقتا البطانين". وقالوا في الأمر الذي انتهى فساده 381: "كدابغة وقد حلم الأديم". 382: و: "قد أخذ منه بالمخنق". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 761 وقالوا في الإسراف في القتل: 383: "صمت حصاة بدم". وأصله أن يكثر القتل وسفك الدماء، حتى إذا وقعت حصاة من يد راميها لم يسمع لها صوت". ومن أمثالهم في الدواهي 384: "جاء بالداهية الدهياء". 385: و: "جاء بالعنقفير". 386: و: "جاء بالدردبيش". 387: و: "جاء بإحدى بنات طبق". 388: ويقولون: "صمي صمام". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 762 389: و: "صمي ابنة الجبل". وصمام: هي الداهية، أي اخرسي يا داهية. 390: ويقولون: "لقيت من فلان الأمرين". 391: والعرب تقول: "لقيت منه البرحين". 392: و"لقيت منه بنات برح". 393: وقالوا: "غادر وهية لا ترقع". أي فتقاً لا يقدر على رتقه. ويقال في الأمر الذي لا يصبر عليه 394: "هذا أمر لا تبرك عليه الابل". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 763 395: وقالوا في مثله: "جرحه حيث لا يضع الراقي أنفه". أي لا دواء له. وإذا لقي الشدة بكاملها قالوا: 396: "لقيها بأصبارها". وقالوا في العداة 397: "هم سود الأكباد". 398: و: "هم صهب السبال". ومن أمثالهم في إظهار ما في النفس 399: "قشرت له العصا". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 764 وقالوا في شدة العداوة والغيظ: 400: "هو يعض عليه الأرم". أي الأصابع. ويقولون في الشدة 401: "لقيت من فلان عرق القربة". ومن الشدة قولهم: 402: "قد سيل به وهو لا يدري". ويقولون للقوم إذا أوفوا على الشر والفساد 403: "قد ثار حابلهم على نابلهم". وإذا شب الشر بينهم قيل: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 765 404: "قد شرق ما بينهم بشر". وإذا كان دائماً قيل: 405: "بينهم داء الضرائر". 406: وقالوا: "قبح الله معزى خيرها خطه". وخطه: اسم عنز. وقالوا في الشر العظيم: 407: "بينهم عطر منشم". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 766 ومن أمثالهم: 408: "شاهد البغض اللحظ". وقال زهير: متى تك في صديق أو عدو ... تخبرك العيون عن القلوب وقالوا في الرجل إذا ثقل على صاحبه حتى لا يقدر أن ينظر إليه: 409: "إنما هو على حندر عينه". والحندر: النقطة السوداء التي داخل العين. وإذا ساء رأيه فيه قالوا: 410: "رمي منه في الرأس". ويقولون في الوعيد الصادق 411: "لأرينك لمحاً باصراً". 412: ويقولون: "لأطعنن في حوصهم". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 767 والحوص: الخياطة، أي ما أفسد ما أصلحوا. وقالوا في معاشرة أهل اللؤم 413: "أجع كلبك يتبعك". ومن أمثالهم في منتهى التشبيه 414: "إنه لأحذر من غراب". 415: و: "أزهى من غراب". 416: و: "أبصر من غراب". 417: و: "أسمع من قراد". 418: و: "أسمع من فرس". 419: و: "أنوم من فهد". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 768 420: و: "أخف رأساً من الذئب". 421: و: "أخف رأساً من الطير". 422: وقالوا: "أظلم من حية". 422: و: "أمسخ من لحم الحوار". ليس له طعم. 423: و: "أعز من الأبلق العقوق". في الشيء الذي لا يوجد لأن العقوق إنما هو في الاناث. 425: و: "أصدق من قطاة". 426: و: "أصنع من تنوط". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 769 وهو طائر يبلغ من صنعته ورفقه أن يجعل عشه مدلى من الشجر. 427: و: "أصنع من سرفة". وهي دودة. 428: و: "أجود من لافظة". وهي الرحى، سميت بذلك لأنها تلفظ ما تطحنه. 429: و: "أخدع من ضب". 430: و: "أكذب من الشيخ الغريب". 431: و: "أكذب من أخيذ الجيش". 432: و: "أحمق من راعي ضأن ثمانين". وذلك أن أعرابياً بشر كسرى ببشرى سر بها، فقال: سلني ما شئت، فقال: أسألك ضأناً ثمانين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 770 433: و: "أحمق من العقعق". لأن ولده ابن ضائع. 434: و: "أحمق من رجلة". 435: و: "أخزق من حمامة". 436: و: "أذل من فقع القرقر". 437: و: "أذل من وتد". 438: و: "أجوع من كلبة حومل". 439: و: "أعيا من باقل". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 771 وهو من ربيعة. 440: و: "أخيل من مذالة". يضرب للمتكبر في نفسه، وهو عند الناس مهين. والمذلة: الأمة المهانة، وهي في ذلك تتبختر. 441: و: "أحلم من فرخ الطائر". 442: و: "أبر من العملس". وكان يحمل أمه على عاتقه. 443: و: "أعق من ضب". لأنه يأكل ولده. 444: و: "أحيا من ضب". لأنه يطول عمره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 772 445: و: "أصبر من عود بدفيه جلب". وهي: آثار الدبر. 446: و: "أعرى من المغزل". 447: و: "أكسى من الكعبة". 448: و: "أكسى من البصل". 449: و: "أجبن من صافر". 450: و: "أنم من صبح". 451: و: "أبعد من بيض الأنوق". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 773 452: و: "أسأل من فلحس". وهو الطفيلي. 453: و: "أشجع من ليث عفرين". قال الأصمعي: هو دابة مثل الحرباء تتعرض للراكب. وعفرين: بلد. 454: و: "أشهر من فارس الأبلق". 455: و: "أروى من الضفدع". 456: و: "أحن من شارف". وهي الناقة المسنة. 457: و: "أطيش من فراشة". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 774 458: و: "أسرع من عدوى الثؤباء". 459: و: "أجرأ من خاصي الأسد". ويقولون: 460: "لقيت فلاناً أول عين". أي أول شيء. وكذلك: " 461: "لقيت فلاناً أول وهلة". فان هجمت عليه قلت. 462: "لقيته التقاطاً". وفي المواجهة: 463: "لقيته صراحاً". فان عرض لك من غير أن تذكره قلت: 464: رفع لي رفعاً". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 775 فان لقيته بقفر قلت: 465: "لقيته بوحش إصمت". 466: و: "لقيته بين سمع الأرض وبصرها". إذا لم يكن معه أحد. وإن كنت تلقاه في اليومين فصاعداً إلى خمسة عشر يوماً قلت: 467: "لقيته في الفرط". فان لقيته بعد شهر أو نحوه قلت: 468: "لقيته عن عفر". فان لقيته بين الأعوام قلت: 469: "لقيته ذات العويم". فان لقيته في الزمان قلت: 470: "لقيته ذات الزمين". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 776 وقالوا: 471: "لا آتيك ما حنت النيب". 472: و: "لا آتيك ما أطت الابل". 473: و: "لا أفعل ذلك ما اختلف الملوان". وهما الليل والنهار 474: و: "لا أفعل ذلك ما سمر ابنا سمير". 475: و: "لا آتيك السمر والقمر". 476: و: "لا آتيك سن الحسل". وهو ولد الضب، ولا تسقط سنه حتى يموت. 477: و: "لا أفعله عوض العائضين". 478: و: "لا أفعله دهر الداهرين". 479: و: "لا أفعله أبد الآبدين". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 777 480: و: "لا أفعله حتى يرجع السهم على فوقه". 481: و: "لا آتيك ما حملت عيني الماء". وقالوا: 482: "ما بالدار عريب". 483: و: "ما بها دوري". 484: و: "ما بها طوري". 485: و: "ما بها صافر ولا ديار". 486: و: "ما بها نافخ ضرمة". 487: و: "ما بها إرم". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 778 وقالوا: 488: "ماله سبد ولا لبد". وهما الشعر والصوف. وقالوا: 489: "ما ذقت عضاضاً، ولا مضاضاً، ولا قضاماً، ولا لماظاً". وقالوا: 490: "ما اكتحلت غماضاً ولا حثاثاً". وقالوا: 491: "ما يعرف هراً من بر". وقالوا: 492: "ما يدري أي طرفيه أطول". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 779 ومعناه: لا يدري أنسب أبيه أفضل أم أمه. وقالوا: 493: "لا يدري أسعد الله أكثر أم جذام". وذلك في الجاهل. وقالوا: 494: "العاشية تهيج الآبية". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 780 فوائد من أوابد العرب منقولة من كتاب نثر الدر للوزير الآبي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 781 إغلاق الظهر كان الرجل إذا بلغت إبله مائة عمد إلى البعير الذي أمأت به، فأغلق ظهره لئلا يركب، وليعلم أن صاحبه ممء. وإغلاق الظهر أن ينزع سناسن فقرته، ويعقر سنامه. [التعمية والتفقئة] فإذا بلغت إبله ألفاً فقأ عين الجمل، فإذا زادت على الألف عموه بفقء العين الأخرى. ويقولون: إن ذلك يدفع عنها العين والغارة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 783 قال الشاعر ينعى ذلك عليهم: فكان شكر القوم عند المنين ... كي الصحيحات وفقء الأعين عقد الرتم كان الرجل إذا أراد سفراً عمد إلى شجرة، فعقد غصناً من أغصانها بآخر، فإن رجع ورآه معقوداً زعم أن امرأته لم تخنه، وإن رآه محلولا زعم أنها خانته. قال الشاعر: هل ينفعنك اليوم إن هما بهم ... كثرة ما توصي وتعقاد الرتم؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 784 العتائر كان الرجل منهم يأخذ الشاة. وتسمى العتيرة، فيذبحها، ويصب دمها على رأس الصنم الذي يعترها له. كي السليم عند الجرب زعموا أن الإبل إذا أصابها العر، وأخذوا الصحيح وكووه، زال العر عن السقيم. قال النابغة: لكلفتني ذنب امرئ وتركته ... كذي العر يكوى غيره وهو راتع ضرب البقر كانوا إذا امتنعت البقر عن شرب الماء ضربوا الفحل، وزعموا أن الجن تركب الثيران، فتصد البقر عن الشرب. قال الأعشى: لكالثور والجني يضرب ظهره ... وما ذنبه أن عافت الماء مشربا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 785 عقد السلع والعشر كانوا إذا استمطروا يعمدون إلى البقر، فيعقدون في أذنابها ذاك، ثم يضرمون فيها النيران، ويصعدونها في الجبل، ويزعمون أنهم يمطرون في الوقت. كعب الأرنب كانوا يلعقونه على أنفسهم، ويقولون: من فعل ذلك لم تصبه عين ولا سحر؛ وذلك أن الجن يهرب من الأرنب، وليست من مطاياه لأنها تحيض. وطئ المقاليت ويزعمون أن المرأة المقلات _ وهي التي لا يعيش لها ولد _ إذا وطئت قتيلا شريفاً بقي أولادها. قال بشر بن أبي خازم: تظل مقاليت النساء يطأنه ... يقلن: ألا يلقى على المرء مئزر تعليق الحلي على السليم يزعمون أنه إذا علق عليه سبعة أيام، ومنع من النوم، أفاق. قال النابغة: يسهد من نوم العشاء سليمها ... لحلي النساء في يديه قعاقع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 786 شق الرداء والبرقع زعموا أن المرأة إذا أحب رجلاً أو أحبها، ثم لم تشق عليه رداءه، أو يشق عليها برقعها، فسد الحب بينهما. قال الشاعر: إذا شق برد شق بالبرد برقع ... دواليك حتى كلنا غير لابس [رمي السن في الشمس] ويزعمون أن الغلام إذا أثغر فرمى سنه في عين الشمس بسبابته وإبهامه، وقال: أبدليني بها أحسن، ولتكن إياتك فيها! أمن على أسنانه من العوج والقلح وغير ذلك. قال طرفة: بدلته الشمس من منبته ... برداً أبيض مصقول الأشر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 787 [خدر الرجل] ويزعمون أن الرجل إذا خدرت رجله، فذكر أحب الناس إليه ذهب عنه الخدر. قالت امرأة عن كلاب: إذا خدرت رجلي ذكرت ابن مصعب ... فان قلت: عبد الله! أجلى فتورها [حبس البلايا] وكانوا إذا مات الميت يشدون ناقته إلى قبره، ويعكسون رأسها إلى ذنبها، ويغطون رأسها بولية - وهي البرذعة - فإن أفلتت لم ترد عن ماء ولا مرعى. ويزعمون أنهم إنما يفعلون ذلك ليركبها صاحبها في المعاد، فيحشر عليها، ولا يحتاج أن يمشي. قال أبو زبيد: كالبلايا رؤوسها في الولايا ... مانحات السموم حر الخدود [الهامة] وزعموا أن الإنسان إذا قتل ولم يطلب بثأره، خرج من رأسه طائر يسمى الهامة، وصاح على قبره: اسقوني! اسقوني! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 788 قال ذو الأصبع: يا عمرو إن لا تدع شتمي ومنقصتي ... أضربك حتى تقول الهامة: اسقوني! [الحرقوص] ويزعمون أن الحرقوص دويبة أكبر من البرغوث يدخل أحراح الأبكار ويفتضهن. وأنشدوا: ما لقي البيض من الحرقوص ما مارد لص من اللصوص [الصفر] وزعموا أن الإنسان إذا جاع عض على شرسوفه حية تكون في البطن، يقال لها: الصفر. قال أعشى باهلة: لا يتأرى لما في القدر يرقبه ... ولا يعض على شرسوفه الصفر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 789 [الضبع] وزعموا أن الضبع تحيض، وأنها تنتاب جيف القتلى، فتركب كمرها، وتستعمله. وقال في معنى قول الشنفرى: تضحك الضبع لقتلى هذيل ... وترى الذئب لها يستهل فعلى هذا أحدها: [خضاب النحر] وكانوا إذا أرسلوا الخيل للصيد، فسبق واحد منها، خضبوا صدره بدم الصيد علامة له. قال امرؤ القيس: كأن دماء الهاديات بنحره ... عصارة حناء بشيب مرجل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 790 [ذوات الرايات] وكانت العواهر تنصب على أبواب بيوتها رايات لتعرف بها. ومن شتائمهم: يا ابن ذات الراية! [دم الأشراف] ويقولون: إن دم الأشراف ينفع من عضة الكلب الكلب. قال الشاعر: من البيض الوجوه بنو نمير ... دماؤهم من الكلب الشفاء [التصفيق] وكانوا إذا ضل منهم الرجل في الفلاة، قلب ثيابه، وحبس ناقته، وصاح في أذنيها كأنه يومئ إلى إنسان، وصفق بيديه: الوحا الوحا! النجا النجا! هيكل! الساعة الساعة! إلي إلي! عجل! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 791 ثم يحرك الناقة فيهتدي. قال شاعرهم: وآذن بالتصفيق من ساء ظنه ... فلم يدر من أي اليدين جوابها [الدم] وكانوا يجعلون الدم في المصران، ويلقونه على النار، ثم يأكلونه. [جز الناصية] وكانوا إذا أسروا رجلا، ثم منوا عليه وأطلقوه، جزوا ناصيته، ووضعوها في الكنانة. قال الحطيئة: قد ناضلوك فسلوا من كنانتهم ... مجداً تليداً ونبلا غير أنكاس [الاستئسار] وكان الرجل يحمل في الحرب على الرجل بالطرف فيه الزج، فيقول: استأسر! فإن لم يفعل قلب له السنان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 792 قال زهير: ومن يعص أطراف الزجاج فانه ... يطيع العوالي ركبت كل لهذم [الذئاب] ويزعمون أنه إذا ظهر بأحد الذئاب دم، مال عليه صاحبه فقتله. قال ابن الطثرية: فتى ليس لابن العم كالذئب إن رأى ... بصاحبه يوماً دماً فهو آكله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 793 [نباح الكلاب] ويقولون: إن الكلاب إذا نبحت السماء دل ذلك على الخصب. قال: ومالي لا أغزو وللدهر كرة ... وقد نبحت نحو السماء كلابها [نقب لحي الكلب] وكانوا ينقبون لحي الكلب في السنة الصعبة لئلا يسمع الأضياف نباحه. [خرزة السلوان] ويزعمون أن للسلوان خرزة إذا حكها العاشق بماء، وشرب ما يخرج منها، سلا وصبر. قال ذو الرمة: لا أشرب السلوان ما سليت ما بي غنى عنك وإن غنيت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 794 الالتفات ويزعمون أنه من خرج في سفر، فالتفت وراءه، لم يتم سفره، فإن التفت تطيروا له من ذلك، سوى العاشق فانهم كانوا يتفاءلون له بذلك؛ ليرجع إلى من خلف. البحيرة كان أهل الوبر يقطعون لآلهتهم من اللحم، وأهل المدر من الحرث والغرس: فكانت الناقة إذا انتجت خمسة أبطن عمدوا إلى الخامس _ ما لم يكن ذكراً _ فشقوا أذنها؛ فتلك البحيرة. فربما اجتمع منها هجمة فلا يجز لها وبر، ولا يحمل عليها شيء، وكانت ألبانها ومنافعها للرجال دون النساء. السائبة كان يسيب لها الرجل الشيء من ماله، فيكون حراماً أبداً، منافعها للرجال دون النساء. الوصيلة كانت الشاة إذا وضعت سبعة أبطن، عمدوا إلى السابع، فإن كان ذكراً ذبح، وإن كانت أنثى تركت في الشاء. فإن كان ذكراً وأنثى قيل: قد وصلت أخاها؛ فحرما جميعاً. وكانت منافعها للرجال دون النساء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 795 الحامي كان الفحل إذا ركب أولاد أولاده، فصار ولده جداً، قالوا: أحمى ظهره، اتركوه! فلا يحمل عليه، ولا يركب، ولا يمنع ماء ولا مرعى. فإذا ماتت هذه التي جعلوها لآلهتهم، اشترك في أكلها الرجال والنساء. قال الله تعالى "وقالوا ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا وإن يكن ميتة فهم فيه شركاء". وأما أهل المدر فكانوا إذا غرسوا أو حرثوا، خطوا في وسط ذلك خطاً، وقسموه بين اثنين، فقالوا: ما دون هذا الخط لآلهتهم، وما وراءه لله. وإن سقط مما جعلوه لله فيما جعلوه لآلهتهم أقروه، وإذا أرسلوا الماء في الذي لآلهتهم فانفتح في الذي سموه لله سدوه، وإن انفتح من ذاك في هذا قالوا: اتركوه فإنه فقير إليه! فأنزل الله تعالى "وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيباً فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم ساء ما يحكمون". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 796 الأزلام كانوا إذا أرادوا أمراً ولا يدرون ما الشأن فيه، أخذوا قداحاً لهم فيها: افعل، لا تفعل، نعم، لا، خير، شر، بطيء، سريع؛ فيقول السادن من سدنة الأوثان: اللهم إن كان خيراً فأخرجه لفلان! فيرضى بما خرج له. وإذا شكو في نسب الرجل أجالوا له القداح، وفيها صريح وملصق؛ فإن خرج الصريح ألحقوه بهم وإن كان دعيا، وان خرج الملصق نفوه وإن كان صريحاً. فهذه قداح الاستقسام. الميسر وأما الميسر فإن القوم كانوا يجتمعون فيشترون الجزور بينهم فيفصلونها على عشرة أجزاء، ثم يؤتى بالحرضة - وهو رجل لم يأكل لحماً قط بثمن - ويؤتى بالقداح، وهي أحد عشر قدحاً، سبعة منها لها حظ إن فازت، وعلى أهلها غرم إن خابت بقدر ما لها من الحظ، وأربعة [تثقل] بها القداح، لاحظ لها إن فازت، ولا غرم عليها إن خابت. فأما التي لها الحظ: فأولها: الفذ، في صدره خز واحد، فإن خرج أخذ نصيباً، وإن خاب غرم صاحبه ثمن نصيب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 797 ثم: التوأم، له نصيبان إن فاز، وعليه ثمن نصيبين إن خاب. ثم: الضريب، له ثلاثة. ثم: الحلس، له أربعة. ثم: النافس، له خمسة. ثم: المسبل، له ستة. ثم: المعلى، له سبعة. وأما الأربعة التي تثقل بها القداح [فهي] : السفيح، والمنيح، والمضعف، والمصدر. فيؤتى بالقداح كلها وقد عرف كل رجل ما اختار من السبعة، ولا تكون الأيسار إلا سبعة، فإن نقصوا رجلاً أو رجلين، فأحب الباقون أن يأخذوا ما فضل من القداح، فيأخذ الرجل القدح والقدحين، فله فوزهما إن فازا، وعليه الغرم إن خابا، ويدعى ذلك: التميم. قال النابغة: إني أتمم أيساري وأمنحهم ... مثنى الأيادي وأكسو الجفنة الأدما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 798 نكاح المقت كان الرجل إذا مات قام أكبر أولاده فألقى ثوبه على امرأة أبيه فورث نكاحها، فإن لم يكن له فيها حاجة تزوجها بعض إخوته بمهر جديد. فكانوا يرثون النساء كما يرثون المال، فأنزل الله تعالى "يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً ولا تعضلوهن". نيران العرب نار الاستسقاء منها النار التي كانوا يستعملونها في الجاهلية الأولى: كانوا إذا تتابعت عليهم الأزمات، واشتد الجدب، واحتاجوا إلى الاستمطار، اجتمعوا وجمعوا ما قدروا عليه من البقر، ثم عقدوا في أذنابها وبين عراقيبها السلع والعشر، ثم صدوا بها في جبل وعر، وأشعلوا فيها النار، وضجوا بالدعاء والتضرع. وكانوا يرون أن ذلك من أسباب السقيا. نار التحالف ونار أخرى كانوا يوقدونها عند التحالف، ويعقدون عندها حلفهم، ويدعون على ناقض العهد، ويهولون أمرها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 799 قال أوس بن حجر: إذا استقبلته الشمس صد بوجهه ... كما صدعن نار المهول حالف نار الطرد ونار أخرى كانوا ربما أوقدوها خلف المسافر والزائر الذي لا يحبون رجوعه، ويقولون في الدعاء: أبعده الله وأسحقه! وأوقدوا ناراً إثره. نار القرى النار التي يوقدونها للأشعار بالعزة وجمع الأولياء. ونار القرى يوقدها الجواد الليل كله في ليالي الشتاء وغيرها ليستدل بها الأضياف. نار الإياب ونار الإياب توقد للقادم من السفر سالماً غانماً. قال الشاعر: يا لبينى أوقدي النارا=إن من تهوين قد حارا حار: رجع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 800 نار العار ونار العار كان المغدور به يوقد ناراً أيام الحج على الجبل المطل على منى، ثم يصيحون: هذه غدرة فلان! فيدعو عليه أهل الموسم. قالت امرأة من هاشم فان تهلك فلم تقرب عقوقاً ... ولم توقد لنا بالغدر نارا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 801 خيل العرب المشهورة قال الوزير الآبي: عن ابن عباس أن أول من اتخذ الخيل وركبها إسماعيل عليه السلام. وقالوا: كان داود عليه السلام يحبها حباً شديداً، وجمع ألف فرس؛ فأورثها سليمان عليه السلام، فقال: ما أورثني داود ما لا أحب إلي من هذه الخيل! وضمرها. ومن الأفراس القديمة: زاد الركب قالوا: إن قوماً من أزد عمان قدموا على سليمان بعد تزويجه بلقيس، فأعطاهم هذا الفرس، وانتشرت الخيل منه في العرب. وأشهر ما أنتج منه: أعوج الذي كان لهلال بن عامر، وأفراس غني بن أعصر المشهور التي يقول فيها طفيل الغنوي: بنات الغراب والوجيه ولاحق ... وأعوج تنمي نسبة المتنسب والغبراء كانت لقيس بن زهير العبسي، وهي خالة داحس؛ وأخته لأبيه الحنفاء من ولد ذي العقال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 802 الشوهاء فرس حاجب بن زرارة. اللطيم فرس ربيعة بن مكدم. الجون لمتمم بن نويرة. العباب لمالك بن نويرة. شولة لزيد الفوارس. النحام للسليك. المزنوق لعامر بن الطفيل الأبجر لعنترة خصاف لسفيان بن ربيعة الباهلي. فيها جرى المثل: "أجرى من خصاف". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 803 السلس لمهلهل. ولما قال الحارث بن عباد: قربا مربط النعامة مني قال مهلهل: اركب نعامى إني راكب السلس زيم للأخنس بن شهاب التغلبي، ولها يقول: هذا أوان الشد فاشتدي زيم اليحموم فرس النعمان بن المنذر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 804 العصا لجذيمة الأبرش، وهي بنت العصية لإياد، ولها قيل: "العصا من العصية". الضبيب لحسان بن حنظلة الطائي، حمل عليه كسرى حين انهزم عن بهرام جوبين، فنجا. أطلال لبكير بن عبد الله بن الشداح الليثي شهد مع سعد القادسية. ويقال: إنه لما قطعوا الجسر صاح بها وقال: أطلال! فاجتمعت ووثبت فإذا هي وراء النهر، وكان عرضه أربعين ذراعاً؛ فقالت الأعاجم: هذا من السماء! وانهزموا. وقيل فيها: لقد غاب عن خيل بموقان أجحمت ... بكير بن عبد الله فارس أطلال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 805 الصفا لمجاشع بن مسعود السلمي؛ كانت من نسل الغبراء، اشتراها عمر بن الخطاب بعشرة آلاف درهم. ثم غزا مجاشع، فقال عمر: تحبس هذه بالمدينة، وصاحبها في نحر العدو، هو إليها أحوج! فردها إليه. الحرون لمسلم بن عمرو الباهلي؛ من نجل أعوج، تزايد فيه مسلم مع المهلب حتى بلغا به ألف دينار، فاشتراه مسلم وسبق الناس دهراً لا يتعلق به فرس. ومن نتاجه سوابق بني أمية البطين، والرائد، وأشقر مروان. ذو الخمار لمالك بن نويرة. الشقراء للرقاد بن المنذر الضبي، وفيها قال: إذا المهرة الشقراء أدرك ظهرها ... فشب الإله الحرب بين القبائل قرزل للطفيل بن مالك والد عامر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 806 سيوف العرب وأفراس العرب كثيرة، وكذلك سيوف العرب والخطي فالشهير منها في القديم والحديث: ذو الفقار كان للعاص بن منبه السهمي، فقتله علي بن أبي طالب يوم بدر، وأتى بسيفه، فنفله رسول الله صلى الله عليه وسلم إياه. وروي أنه سمع في الهواء يوم أحد لا سيف إلا ذو الفقا ... ر ولا فتى إلا علي وصمصامة عمرو بن معدي كرب، وذو النون له أيضاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 807 تاريخ مدين بن ابراهيم عليه السلام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 809 وهم إخوة العرب المستعربة وجيرانهم في الحجاز الشامي. قال البيهقي: منهم ملوك الأيكة وبني مدين الذين هم على عدد كلمات (أبي جد) ، ملكوا واحداً بعد واحد إلى أن كان آخرهم آخر كلمة من حروف (أبي جد) . وفي زمن الأخير منهم بعث: شعيب بن عنقاء بن بويب بن مدين ذكر الجوزي أنه أرسل إلى أهل مدين ابن عسرين سنة، فدعاهم إلى التوحيد، ونهاهم عن التطفيف، فلم يجيبوا. ومن نكت الماوردي: كلمات (أبي جاد) حروف أسماء من أسماء الله، والأيام التي خلق فيها الدنيا، أو أسماء ملوك مدين. قال شاعرهم: ألا يا شعيب قد نطقت مقالة ... سببت بها عمراً وحي بني عمرو ملوك بني حطي وهوز منهم ... وصعفص أصل في المكارم والفخر هم صبحوا أهل الحجاز بغارة ... كمثل شعاع الشمس أو مطلع الفجر قال الجوزي: ولما لم يجيبوا بعث الله عليهم حراً شديداً أخذ بأنفاسهم، فخرجوا إلى البرية، فبعث عليهم سحابة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 811 أظلتهم، فوجدوا برداً واجتمعوا تحتها، فأرسل الله عليهم ناراً أحرقتهم. وقال قتادة: بل أهلك الله أهل مدين بالصيحة والرجفة، ثم بعث شعيباً إلى أهل الأيكة، فأهلكوا بالحر الشديد كما تقدم. ثم إنه زوج بنته من موسى عليه السلام، ثم خرج إلى مكة، فتوفي بها. وأوصى إلى موسى، وكان عمره مائة وأربعين سنة، ودفن حيال الحجر الأسود. وسميت المدينة مدين باسم القبيل الذين تولوها، وهي على بحر القلزم بينها وبين تبوك _ على ما ذكر ابن حوقل ست مراحل. وفيها البئر التي استقى منها موسى عليه السلام. وقد قيل: إن مدين هي كفر مندة من أعمال طبريا وعندها البئر والصخرة. وقال الشريف الإدريسي: بين مدين ومصر ثمانية أيام وهي الآن خالية. وقال البيهقي: الأيكة اسم جامع للأرض التي فيها مدينة أيلة ومدينة مدين. وقيل: الأيكة بلدة معينة كانت في قديم الزمان، فخربت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 812 تاريخ اليهود الذين جاوروا بني إسماعيل بالحجاز الجزء: 1 ¦ الصفحة: 813 قد تقدم في تاريخ بني إسرائيل سبب دخول آبائهم إلى ديار العرب، وأن ذلك كان في زمن موسى ويوشع عليهما السلام، فسكنوا بالمدينة، وخيبر وحصونها. واشتهر من أعلامهم ملوك مارد والأبلق. قال أبو عبيدة في الأمثال: مارد هو حصن دومة الجندل، والأبلق حصن تيماء. وقال البيهقي: كان أحدهما بالحجارة البيض، والآخر بالحجارة السود. وقيل الأبلق بحجارة سود وبيض. وغزتهما الزباء، وبهما اليهود من نسل هرون، فقالت حين استصعبا عليها: "تمرد مارد وعز الأبلق". وفي معجم ياقوت: أن مارداً هو حصن دومة الجندل قرب جبل طيء، وهو حصن أكيدر بن عبد الملك الكلبي، وقيل: السكوني. ولما نقض الصلح أجلاه عمر رضي الله عنه من مارد. شريح بن عاديا الهروني من واجب الأدب: هو من ولد هرون بن عمران عليه السلام، ورث ملك درمة الجندل وأرض تيماء عن سلفه الذين دخلوا بلاد العرب من الشام، وغلبوا على بأيديهم منها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 815 وهو من شعراء الأغاني، وإليه تنسب القصيدة التي تنسب لابنه السموأل، أنشدها أبو تمام في حماسته، وهي من غر القصائد، وهي: إذا المرء لم يدنس من اللؤم عرضه ... فكل رداء يرتديه جميل وإن هو لم يحمل على النفس ضيمها ... فليس إلى حسن الثناء سبيل تعيرنا أنا قليل عديدنا ... فقلت لها: إن الكرام قليل وما ضرنا أنا قليل وجارنا ... عزيز وجار الأكثرين ذليل وما قل من كانت بقاياه مثلنا ... شباب تسامى للعلا وكهول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 816 لنا جبل يحتله من نجيره ... منيع يرد الطرف وهو كليل رسا أصله تحت الثرى وسما به ... إلى النجم فرع لا ينال طويل هو الأبلق الفرد الذي شاع ذكره ... يعز على من راقه ويطول وإنا لقوم لا نرى القتل سبه ... إذا ما رأته عامر وسلول يقرب حب الموت آجالنا لنا ... وتكرهه آجالهم فتطول وما مات منا سيد حتف أنفه ... ولا طل منا حيث كان قتيل تسيل على حد الظبات نفوسنا ... وليست على غير الظبات تسيل صفونا فلم نكدر وأخلص سرنا ... إناث أطابت حملنا وفحول فنحن كماء المزن ما في نصابنا ... كهام، ولا فينا يعد بخيل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 817 وننكر إن شئنا على الناس قولهم ... ولا ينكرون القول حين نقول إذا سيد منا خلا قام سيد ... قؤول لما قال الكرام فعول وما أخمدت نار لنا دون طارق ... ولا ذمنا في النازلين نزيل وأيامنا مشهورة في عدونا ... لها غرر معلومة وحجول وأسيافنا في كل شرق ومغرب ... بها من قراع الدارعين فلول معودة ألا تسل نصالها ... فتغمد حتى يستباح قبيل ابنه السموأل بن شريح بن عاديا من واجب الأدب: ملك بعد أبيه، وقد قيل: إنه السموأل بن عاديا، وتروى له القصيدة المنسوبة لأبيه. وهو من شعراء الأغاني؛ ويضرب به المثل في الوفاء، فيقال: "أوفى من السموأل". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 818 ومن كتاب أفعل للأصفهاني: "أما قولهم: "أوفى من السموأل" فمن وفائه أن امرأ القيس بن حجر الكندي لما أراد الخروج إلى قيصر استودعه دروعاً، واستودع مثلها أحيحة بن الجلاح بالمدينة. فلما مات امرؤ القيس غزا السموأل ملك من ملوك الشام بني جفنة، فتحصن منه السموأل. فأخذ الملك ابناً للسموأل كان خارج الحصن، وخيره بين ذبحه أو إسلام الدروع، فأبى إلا الوفاء، فذبح ابنه وهو ينظر إليه. ثم انصرف [الملك بالخيبة، فلما دخلت أيام الموسم، وافى السموأل بالدروع الموسم، فدفعها في يد ورثة امرئ القيس، وقال في ذلك] : وفيت بأدرع الكندي إني ... إذا ما خان أقوام وفيت" و [في] هذه القضية قال الأعشى في كناية عن ملك الشام للسموأل: اختر فما فيهما حظ لمختار وقيل: إن الذي طالبه بالدروع الحارث بن ظالم الفتاك؛ وقيل الحارث بن أبي شمر الغساني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 819 سعية بن السموأل من واجب الأدب: ملك بعد أبيه، وله شعر منه: إن يقتلوك فقد قتلت خيارهم ... والمرء أكرم ما يموت قتيلا وله: ارفع ضعيفك لا يحر بك ضعفه ... يوماً فتدركه العواقب قد نما يجزيك أو يثني عليك وإن من ... يثنى عليك بما فعلت فقد جزى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 820 وذكر صاحب زهر الآداب أن النبي صلى الله عليه وسلم أنشد عائشة رضي الله عنها هذين البيتين. ومن يهود خيبر أبو قيس دثار بن رفاعة اليهودي الخيبري. قال البكري في اللآلي: هو الصحيح. وسماه القالي في الأمالي: قيس بن رفاعة، وأنشد له الأبيات التي تمثل بها عبد الملك بن مروان: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 821 من يصلي ناري بلا ذنب ولا ترة ... يصل بنار كريم غير غدار أنا النذير لكم مني مجاهرة ... كيلا ألام على نهي وإنذار فان عصيتم مقالي اليوم فاعترفوا ... أن سوف تلقون خزياً ظاهر العار لترجعن أحاديثاً ملعنة ... لهو المقيم ولهو المدلج الساري وصاحب الوتر ليس الدهر مدركه ... عندى وإني لدراك بأوتار قال أبو عبيد: كان يفد إلى النعمان سنة، وإلى الحارث بن أبي شمر الغساني سنة. وهو من شعراء اليهود من طبقة الربيع بن أبي الحقيق. ومن حصن القموص من حصون خيبر الربيع بن أبي الحقيق اليهودي كان بنو أبي الحقيق من بني النضير، ولهم رياسة القموص. وكان ولد الربيع على عهد رسول الله صلى الله عليه، وممن قتل في أعداد اليهود. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 822 والربيع شاعر مشهور، أنشد له أبو تمام في الحماسة: وما بعض الإقامة في ديار ... يذل بها الفتى إلا عناء وبعض خلائق الأقوام داء ... كداء البطن ليس له شفاء يريد المرء أن يعطى حياة ... ويأبى الله إلا ما يشاء وبعض الداء ملتمس شفاء ... وداء النوك ليس له شفاء ومن غيره من حصون خيبر مرحب ذكر البيهقي أنه كان له حصن بالقرب من خيبر وذكر صاحب السيرة أن مرحباً اليهودي خرج من حصنه وهو يرتجز: قد علمت خيبر أني مرحب شاكي السلاح بطل مجرب أطعن أحياناً وحيناً أضرب إن جنابي أبداً لا يقرب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 823 فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من له؟ فقال محمد بن مسلمة: أنا له يا رسول الله، أنا الموتور، قتل أخي بالأمس. قال: فقم إليه، اللهم أعنه عليه! فقتله مسلمة". وقال صاحب الكمائم وغيره: إن قاتله علي رضي الله عنه. وكذلك هو مصور في كتب الوراقين، ومشهور عند العامة. كعب بن الأشرف اليهودي ذكر البيهقي أنه كان له حصن من حصون خيبر. ومن كتاب السيرة أن كعباً هذا من طيئ، وأمه من بني النضير اليهود. وكان عدواً لرسول الله صلى الله عليه، كان قد سار إلى مكة بعد بدر، وجعل يحرض المشركين عليه، ويضع في ذلك الأشعار. ثم رجع إلى المدينة فشبب بنساء المسلمين، فقال رسول الله صلى الله عليه: من لي بابن الأشرف؟ فقال له محمد بن مسلمة الأنصاري المتقدم الذكر: أنا له يا رسول الله! فقتله، وذلت اليهود بعده. وذكر البيهقي أنه خرج مع جماعته إلى حصنه، فناداه بالليل، وغدر به، فقتله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 824 وذكر صاحب الأغاني أنه "فحل فصيح من شعراء اليهود وفرسانها. وله الأبيات التي أنشدها قدامة، ومنها: ونخيل في قلاع جمة ... تخرج الطلع كأمثال الأكف ومن الروض الأنف: قوله تعالى: "فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا" نزلت في كعب بن الأشرف. ومن النكت للماوردي أن قوله تعالى "وما قدروا الله حق قدره" نزلت فيه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 825 [الخاتمة] كمل كتاب نشوة الطرب في تاريخ جاهلية العرب وهو المجلد الثاني من كتاب القدح المعلى في التاريخ المحلى والحمد لله رب العالمين وصلواته على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه الطاهرين. يتلوه إن شاء الله كتاب مصابيح الظلام في تاريخ الإسلام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 826