الكتاب: تتمة صوان الحكمة المؤلف: أبو الحسن ظهير الدين علي بن زيد بن محمد بن الحسين البيهقي، الشهير بابن فندمه (المتوفى: 565هـ)   [الكتاب مرقم آليا غير موافق للمطبوع] ---------- تتمة صوان الحكمة البيهقي، ظهير الدين الكتاب: تتمة صوان الحكمة المؤلف: أبو الحسن ظهير الدين علي بن زيد بن محمد بن الحسين البيهقي، الشهير بابن فندمه (المتوفى: 565هـ)   [الكتاب مرقم آليا غير موافق للمطبوع] بسم الله الرحمن الرحيم رب يسر وتمم بالخير الحمد لله المنعم الذي له نعم أبت أوضاحها إلا امتداداً، وأمدادها إلا ازدياداً، يفوح عرف عرفانه في آفاق القلوب، ويمحو غفرانه من دفاتر الأعمال رقوم الذنوب، اللطيف الذي له ألطاف لا يدرك كنهها رائد الفكر، ولا يتسع لها نطاق التعداد والحصر، الوهاب الذي له مواهب لا مطمع للحمد في جزائها، ولا قيام للشكر بازائها. والصلاة على محمد الذي أزاهير رياض نبوته مونقة، ومجاري أنهار شريعته مغدقة، (من) نشأت من آفاق رسالته سحابة عيمها نعمة سابغة وغيثها حكمة بالغة. ثم السلام على أصحابه وخلفائه الراشدين من بعده، فإن كل خير وبركة ونجاة عندهم وعندنا من عنده. قال الشيخ الإمام ظهير الدين أبو الحسن بن الإمام أبي القاسم البيهقي: كنت أبسم في تصانيفي عن ثغر الإفادة وأشيم بوارقها. وأتأمل التصانيف المتقدمة وأتبعها لواحقها، وأظن أنه تتهلل لي وجوه من الذكر الجميل، وجدتها في مدة حياتي عابسة، وتورق لي غصون من لسان صدق في العالمين بعدما صادفتها يابسة. وعسى الأيام أن يرجعن قوماً، وأن ترجع إلي الحبيب يوماً، ويساعدنا زمان ألذ من خلسات العيون وأحلى من فترات الجفون، وليت شعري هل عشيات الحمى برواجع، أم نجوم المنى بطوالع، والله ولي التوفيق، ومعين أهل التحقيق. وهاءنذا ناسج في تصنيفي هذا على منوال مصنف كتاب صوان الحكمة، وهو أبو سليمان محمد بن طاهر بن بهرام السجزي، مشيد بمالهم من حرمة، وذاكر من تواريخ الحكماء وفوائدهم ما قرب غروب نجومه في مغارب النسيان، وأدرجه الدهر تحت طي الحدثان والله المستعان. وكل من ذكره وأثبت اسمه مصنف كتاب صوان الحكمة، فأنا ما سقيت شماريخه، وما ذكرت فوائده وتواريخه، فإنه أنصف في ذكرهم، وبالغ في حقهم، ونشر أردية جلهم ودقهم. حنين بن اسحق المترجم كان أول من فسر اللغة اليونانية، ونقلها إلى السريانية والعربية، ولم توجد هذه الأزمنة بعد الإسكندر أعلم منه باللغة العربية واليونانية. وكان حنين في عهد المأمون والمعتصم، وكان بغدادي المولد، وقد نشأ بالشام وتعلم بها. وكان يدخل بيعة النصارى، ويتعبد على قوانين شريعة عيسى عليه السلام، فرأى يوماً في بيعة صورة عيسى فتفل فيها، وقال: هذه بدعة لا يجوزها الشرع والعقل، وكيف يجوز نصب الصور في مواضع يعبد فيها الله تعالى، الذي هو منزه عن الصورة والهيئة، فحبسه الجاثليق مدة في داره. فصنف في مدة حبسه المسائل المنسوبة إليه في الطب، وفسر كتب أرسطو وأفلاطون. ثم اعتذر الجاثليق فما قبل عذره، وما عاد إلى البيعة واشتغل بنشر العلوم. قال حنين: من ترك إلا كل من السكر، والتمتع في الحمام، وإدخال الطعام على الطعام فقد استغنى عن الطبيب. وقال: لا تتعجب من موت الحيوان فإن طعامه وشرابه سبب هلاكه (وقال: كل زمان يلائم علماً وعادة وصنفاً من الإنسان) وقال: من شرب على الريق، وجامع على الجوع، فقد جر الموت إلى نفسه بحبل. وقال: من وضع علماً وصناعة كان كمن بنى داراً، ومن شرح وفسر ذلك الأصل كان كمن طين سطحها وجصصها، وليس من جصص داراً وكنسها كمن بناها. وقال: ما خاف شقاوة الدنيا، من اكتسب سعادة العقبى. اسحق بن حنين بن اسحق كان من ندماء المكتفي بالله، وقد دعاه يوماً ليختار طالعاً حتى يجعل فيه ابنه ولي العهد، ومعه الوزير العباس بن الحسن فقال لهما: بايعا أولاً، فبايعا ولده الطفل، فقال له اسحق بن حنين: يا أمير المؤمنين، قد بايعنا ولدك الطفل، ولكن الطفل ناقص لا يتم أمره ولا يصلح للخلافة وأشار إلى الوزير العباس بن الحسن وقال: تأملت طالع المكتفي بالله فوجدت صاحب عاشره في ثالث طالعه، فعلمت أن الأمر بعده لأخيه وكان الأمر كما قال، وجلس بعده أخوه المقتدر بالله. ولإسحق تصانيف كثيرة، وكان الغالب عليه علم الأحكام والطب ومن كلماته أنه قال يوماً للوزير العباس بن الحسن: أيها الوزير إن من تصدى لحفظ مصالح الناس ذكرته الألسن بالمدح والذم، فاجتهد أن تكون ممدوحاً في ذاتك " لا بحسب " أغراض الناس. وقال للمكتفي، وقد قرب أجله: يا أمير المؤمنين، قرب منك ما كنت بعده عن نفسك، فلا تلتفت إلى ما بعد عنك، ولا يعود إليك، واشتغل بما قرب منك ولا يفارقك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1 واسحق بن حنين كان من جلة المسلمين، وقد حسن إسلامه، وأشركه المكتفي في بيعة ابنه مع وزيره العباس بن الحسن. حبيش الطبيب وحبيش كان من الأطباء المتقدمين والمهندسين. وله تصانيف كثيرة في الطب، وكان مصيباً في المعالجات. ومما حكي عنه قوله: الكذب رأس كل بلية من ترك الحقد أدرك معالي الأمور قد يكون القريب بعيداً بعداوته، والبعيد قريباً بمودته من كرمت نفسه، لم يكن إلا بالحكمة أنسه. العافية نظام كل مأمول. ثابت بن قرة الحراني كان حكيماً كاملاً في أجزاء علوم الحكمة. وقيل إنه كان من الصابئين وهو جد محمد بن جابر بن سنان صاحب الرصد. وكان المعتضد بكرمه، ومن إكرامه له أن المعتضد طاف معه في بستان له. ويده على يد ثابت (فانتزع بغتة يده من يد ثابت ففزع من ذلك فقال له المعتضد: يا ثابت، أخطأت حين وضعت يدي على يدك وسهوت، فإن العلم يعلو ولا يعلى فهذه غاية إكرامه في بابه. ومما نقل عنه: ليس شيء أضر بالشيخ من أن يكون له طباخ حاذق وامرأة حسناء. لأنه يستكثر من الطعام فيسقم، ومن النكاح فيهرم. وقال لما ارتبطه بجكم الما كاني حاجتي إلى الأمير أن يعينني على حفظ صحته بشيئين وهما ترك الأكل على السكر، والتمتع في الحمام. وكتاب الذخيرة من تصنيفه كتاب نادر في الطب. محمد بن زكريا الرازي المتطبب كان محمد بن زكريا الرازي في بدء أمره صائغاً، ثم اشتغل بعلم الإكسير، فرمدت عيناه بسبب أبخرة العقاقير المستعملة في الإكسير، فذهب إلى طبيب ليعالجه، فقال له الطبيب: لا أعالجك حتى آخذ منك خمسمائة دينار. فدفع ابن زكريا الدنانير إلى الطبيب وقال: هذا هو الكيمياء لا ما اشتغلت به. فترك صناعة إلا كسير واشتغل بعلم الطب، حتى نسخت تصانيفه تصانيف من قبله من الأطباء المتقدمين. وقال أبو علي بن سينا في حقه: هو المتكلم الفضولي الذي من شأنه النظر في الأبوال والبرازات. وقد صدق لأنه بلغ الغاية في المعالجات الطبية وتكلم بالعوراء والخبائث فيما سوى ذلك. ومما نقل عنه: الطب حفظ الصحة، ومرمة العلة وقال: السموم ثلاثة: أكل الشواء المغموم، واللبن الفاسد، والسمك المنتن. علي بن ربن الطبري كان من كتاب مدينة مرو وله همة رفيعة، وعلم بالإنجيل والطب. وتفسير ربن العلم العظيم وابنه كان حكيماً كاملاً، يعرف ذلك من كتابه المعنون بفردوس الحكمة، وبه تصانيف كثيرة، أكثرها في الطب. ومما نقل عنه: السلامة غاية كل سؤال. طول التجارب زيادة في العقل التكلف يورث الخسارة شر القول ما نقض بعضه بعضاً. إسحاق بن سليمان قال: من تناول الطين تسدر العين، ويصفر اللون، ويبخر الفم، وتحفر الأسنان وقال: عجبت لمن اقتصد في أكل الخبز الحنطي، واللحم الحولي، واحترز من الهواء الوبي، والماء الردي، كيف يمرض. أبو الحسن البسطامي قال: الأكل على الشبع داء، والشرب على الجوع ردى وقال: راحة الجسم في قلة الطعام وراحة الروح في قلة الكلام، وراحة العقل في قلة الاهتمام. وقال: اجتنب ثلاثة وعليك بأربعة، ولا حاجة لك إلى الطبيب: اجتنب الغبار والنتن والدخان، وعليك بالحلو والدسم والحمام والطيب مع الاقتصاد. وقال: عمى العقل داء لا دواء له. اسحق بن قريش قال: لا سواء أكل يوم يمنعك أكل حول، وصبر يوم يسوق إليك أكل حول. وقال: خير الطعام أنظفه وأخفه وأمرؤه. أبو زكار النيسابوري كان حاذقاً عالماً بأجزاء العلوم الحكمية، وصنف كتاباً وسماه " المبتدى والمنتهى " وفيه فوائد كثيرة. وقال: إن للنصارى شياطين يدعونهم إلى تناول لحم الخنزير وللمسلمين شياطين يدعونهم إلى شرب الخمر، وأكل الجبن اليابس، والقديد والكواميخ. أبو الحسن الصميري كان حكيماً معروفاً في زمانه قال: الحمية في العلة هي الزمام لاقتياد الصحة. قال: من أثنى على نفسه فقد أظهر حمقه. وقال: بالبر تذهب الوحشة. أبو الحسن بن تكين البغدادي الضرير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2 قاد الحكمة بزمامها، وكان مكفوفاً يقوده تلميذه إلى ديار المرضى. وكان أبو الخير يهجنه في كتاب امتحان الأطباء. وقال: من قاد أعمى شهراً، يعني ذلك الطبيب، تطبب وعالج وأهلك الناس. وقال ابن تكين: إن الحمية في النهاية ليست بمحمودة، والطرفان من الإجحاف والإسراف مذمومان، والواسطة أسلم. الحكيم أبو الخير الحسن بن بابا بن سوار بن بهنام كان بغدادي المولد وقد حمل إلى خوارزم ثم لما استولى السلطان محمود بن سبكتكين على خوارزم حمله إلى غزنة، وعرض عليه الإسلام فأبى، وعمره جاوز المائة. فمر يوماً بمكتب فيه معلم حسن الصوت يقرأ سورة ألم أحسب الناس. فوقف وبكى ساعة ومر، فرأى في هذه الليلة في منامه النبي عليه السلام وهو يقول له: يا أبا الخير مثلك مع كمال علمك يقبح أن تنكر نبوتي. فأسلم أبو الخير في منامه على يد رسول الله. فلما انتبه من منامه أظهر الإسلام، وتعلم الفقه على كبر سنه، وحفظ القرآن، وحسن إسلامه. وقد حكم له أبو الريحان المنجم بنكبة قاطعة، فدعاه السلطان محمود يوماً، لعارض عرض له، وبعث إليه مر كوبه، فمر على سوق الخفافين فنفرت دابته، وأهلكت أبا الخير. وتمام قصته وقصة ابنه أبي علي ابن أبي الخير مذكور في تاريخ آل سبكتكين. وقد صنف ذلك التاريخ أبو الفضل محمد ابن الحسن البيهقي الكتب. وقال أبو علي ابن سينا في بعض كتبه: فأما أبو الخير فليس من عداد هؤلاء ولعل الله يرزقنا لقاءه فيكون إما إفادة وإما استفادة. وبعض الناسخين يكتب فأما أبو نصر وهذا غلط عظيم، لأن أبا نصر الفارابي مات قبل ولادة أبي علي بثلاثين سنة. وقد أفرد السلطان محمود للحكيم أبي الخير ناحية يقال ناحية خمار، ونسب أبو الخير إلى تلك الناحية وقيل له أبو الخير خمار، تمييزاً بينه وبين أبي الخير صاحب البريد بقصدار وقدسها من قال هو أبو الخير الخمار. وله تصانيف كثيرة في أجزاء العلوم الحكمية ورأيت له (رسالة) إلى الوزير الأمين أبي سعيد فيها كلمات نافعة شافية. وقيل لأبي الخير بقراط الثاني وحق له ذلك فإن النبي عليه السلام سماه في منامه عالماً. وسئل أبو الخير حين كان نصرانياً عما يأكل ويشرب كل (يوم) فقال: المدققة والمرققة والملبقة والمروقة. وله تصانيف لطيفة في تدبير المشايخ عجيب جداً. ومما نقل عنه: أحسن القول ما وافق الحق. من طلب ما في أيدي الناس حقروه ومن صنع خيراً أو شراً فبنفسه ابتدأ. المتمسك بالغرور كالمقتبس من ضوء البرق الخاطف. الحكيم متى بن يونس المترجم كان حكيماً نصرانياً شرح كتب أرسطو وله تصانيف في المنطق وغير ذلك. ومما نقل عنه أنه قال: السعادة ثلاثة نفسانية وبدنية وخارجية، فالنفسانية هي العلوم الحقيقية ويتبعها الأخلاق المحمودة والفضائل والسيرة الحسنة والبدنية كمال الأعضاء (المتشابهة الأجزاء والأعضاء) الآلية وجودة التأليف والتركيب والخارجية حسن اكتساب الدنيا وتحصيلها (من) وجوهها وإنفاقها في وجوهها على ما يوجبه العقل والدين ولا تجتمع تلك السعادات لأحد إلا في النوادر. يحيى بن منصور المنجم هو صاحب الرصد في أيام المأمون، وكان متبحراً في علوم الهندسة قال إذا غلبت القوة الغضبية والشهوانية العقل لا يرى المرء الصحة غلا صحة جسده ولا العلم إلا ما استطال به ولا الأمن إلا في قهر الناس ولا الغنى إلا مكسبة المال وكل ذلك مخالف للقصد مقرب من الهلاك. محمد بن جابر الحراني البتاني هو محمد بن جابر بن سنان بن ثابت بن قرة الحراني صاحب الرصد المشهور بعد أيام المأمون وكان حكيماً عارفاً بتفاصيل أجزاء علوم الحكمة وقد أنفق أموالاً في الرصد وبتان قرية في حدود حران، وإليها ينسب محمد بن جابر. ومما نقل عنه كدورة العمر في جار السوء والولد العاق والمرأة السيئة الأخلاق. وقال: ثلاثة أشياء لا يستقل قليلها: الدين والعداوى والمرض. الشيخ أبو نصر الفارابي هو محمد بن محمد بن طرخان من فاراب تركستان، وهو الملقب المعلم الثاني ولم يكن قبله أفضل منه في حكماء الإسلام. وقيل الحكماء أربعة اثنان قبل الإسلام وهما أرسطو (وأبو قراط) واثنان في الإسلام وهما أبو نصر وأبو علي وكان بين وفاة أبي نصر وولادة أبي علي ثلاثون سنة وكان أبو علي تلميذاً لتصانيفه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 3 وقال أبو علي أييست من معرفة غرض ما بعد الطبيعة حتى ظفرت بكتاب لأبي نصر في هذا المعنى، فشكرت الله تعالى على ذلك، وصمت وتصدقت بما كان عندي. وله تصانيف كثيرة أكثرها موجود بالشام وما يوجد منها بخراسان المختصر الأوسط في المنطق والمختصر الموجز وكتاب البرهان وجوامع كتب المنطق وآراء المدينة الفاضلة والتعليقات وشرح كتب أرسطو وشرح اوقليدس في الموسيقى أربع مجلدات وكتاب النفس وكتاب التفسرة وطماناوس ورسائل كثيرة. وقد رأيت في خزانة كتب نقيب النقباء بالري من تصانيفه ما لم يقرع سمعي اسمه وأكثر ما رأيته كان بخطه وخط تلميذه أبي زكريا يحيى بن عدي. ورأيت في كتاب أخلاق الحكماء أن الصاحب الجليل كافي الكفاة إسماعيل بن عباد بن عباس بعث إلى أبي نصر هدايا وصلات واستحضره واشتاق إلى ارتباطه وأبو نصر يتعفف وينقبض ولا يقبل منه شيئاً حتى ضرب الدهر ضرباته ووصل أبو نصر إلى الري وعليه قباء زري وسخ وقلنسوة بلقاء. وكان أثط قصيراً على هيئة بعض الأتراك وكان الصاحب يقول من أرشدني إلى أبي نصر أودعاه إلي أعطيته مالاً أغناه فانتهز أبو النصر الفرصة حتى دخل مجلس الصاحب متنكراُ وكان المجلس غاصاً بالندامى والظرفاء وأرباب اللهو فأضافوا الجرم إلى البواب ورموا إليه أسهم العتاب واستهزأ بأبي نصر كل من كان في ذلك المجلس، وهو يحتمل أذى الإيذاء ويغضي على قذى الإستهزاء حي اطمأنت أنفسهم بمجالسته وأنساهم الشراب ذكره ودارت الكؤوس ومالت الرؤوس وطربت النفوس وحمل أبو نصر مزهراً واستخرج لحناً مع وزن نوم المستمعين وصار كل واحد منهم كالذي يغشى عليه من الموت وقيل كانت معه آلة أعدها لهذا الشأن وكتب على البربط قد حضر أبو نصر الفارابي واستهزأتم به فنومكم وغاب. ثم خرج من الري متنكراً مع رفقة، متوجهاً تلقاء بغداد، فلما أفاق الصاحب وندماؤه تعجبوا من حذقه في صناعة الموسيقى، وتأسفوا على فوات منادمته. ثم قال الصاحب: أديروا الكؤوس على اسمه لعل الزمان يرده علينا. فلما حمل المطرب العود قال: أيها الصاحب قد كتب ذلك (الرجل) شيئا على مزهري، فلما نظرا إليه الصاحب وعرف انه أبو صر شق جيبه واستغاث، وجهز أعوانه في طلبه، فكان كالقارظ العنزي، فلم يجدله أثراً، ولم يسمع عنه خبرا، وبقي بقية عمره متأسفا على فوات منادمته، والفعلة عن معرفته عن مشاهدته، وأين من المشتاق عنقاء مغرب وقد سمعت أستاذي رحمه الله (يقول) أن أبا نصر كان يرتحل من دمشق إلى عسقلان فاستغفله جماعة من اللصوص الذين يقال لهم الفتيان فقال لهم أبو: خذوا ما معي من الدولاب والأسلحة والثياب (وخلوا) سبيلي فأبوا ذلك وهموا بقتله. فلما صار أبو مضطرا ترجل وحارب حتى قتل مع من معه، ووقعت هذه المصيبة في أفئدة أمراء الشام (أسوأ) وقع فطلبوا اللصوص ودفنوا أبا نصر، وصلبوهم على جذوع عند قبره. وبعض من لم يكن له معرفة بالتواريخ يحكي أن أبا نصر قد عراه الماليخوليا، ومرعلى شط دجلة برجل يبيع التمر فقال له: كيف تبيع التمر فأجاب الرجل بكلام غير ملائم، فضربه أبو نصر وقال: أسألك عن الكيف وأنت عن الكم، وهذا أبو نصر الطبيب السمر قندي لا أبو نصر الفارابي، والله تعالى أعلم. وقال الحكيم أبو نصر الفارابي: ينبغي لمن أراد الشروع في علم الحكمة أن يكون شاباً، صحيح المزاج، متأدبا بآداب الأخيار، قد تعلم القرآن واللغة وعلم الشرع أولا، ويكون صينا عفيفا متحرجا صدوقا، معرضا عن الفسق والفجور والغدر والخيانة، والمكر والحيلة، ويكون فارغ البال عن مصالح معاشه، ويكون مقبلا على أداء الوظائف، غير مخل بركن من أركان الشريعة، بل غير مخل بآداب من اداب السنة، ويكون معظما للعلم والعلماء ولم يكن عنده شئ قدر إلا للعلم وأهله، ولا يتخذ علمه من جملة الحرف والمكاسب، وآلة لكسب الأموال، ومن كان بخلاف فهو حكيم زور ونبهرج فكما أن الزور لا يعد من الكلام الرصين، ولا النبهرج من النقود، فكذلك من كانت أخلاقه خلاف ما ذكرنا لا يعد من جملة الحكماء وقال: من لا يهذب علمه أخلاقه في الدنيا لا تسعد نفسه في الآخرة. وقال: تمام السعادة بمكارم الأخلاق كما أن تمام الشجرة بالثمرة. وقال: من رفع نفسه فوق قدرها، صارت نفسه محجوبة عن نيل كمالها فصل إخوان الصفا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 4 وأما أبو سليمان محمد بن معشر البستي ويعرف بالمقدسي، وأبو الحسن علي بن هارون الزنجاني وأبو أحمد النهرجوري، والعوقي، وزيد بن رفاعه، فهم حكماء اجمتمعوا وصنفوا رسائل إخوان الصفا. وألفاظ هذا الكتاب للمقدسي. ومن حكمهم: مثل السلطان كمثل المطر،فما ظنك به إذا كان عادلا. الهوى آفة العفاف، واللجاج آفة الرأي المدن تبنى على الماء والمرعى والمحتطب المرأة (تفسد المرأة) كما أن الأفعى تأخذ السم من الأفعى الدنيا سوق المسافر الرماد دخان كثيف والدخان رماد لطيف. من أماتته حياته، أحيته وفاته.القناعة عز المعسر. الحكيم أبو عبد الله الناتلي كان حكيماً عالماً متخلقاً بأخلاق جميلة وكان أبو علي يقول قد ارتبطه والدي وكنت استفدت منه قوانين المنطق وانتهيت إلى غوامض يتعجب الناتلي منها فلما انتهيت في تعلم الرياضيات إلى المعطيات والمخروطات. قال لي الناتلي: استخرج هذه الأشكال من ظنك ثم أعرضها علي وكان يستفيد بسبب هذه الواسطة مني. وقد رأيت للناتلي رسالة في (واجب) الوجود وشرح اسمه وهذه الرسالة دالة على أنه كان مبرزاً في هذه الصناعة بالغاً الغاية القصوى في علم الإلهيات. ورأيت له أيضا رسالة في علم الإكسير وابو علي لا يذكره في مصنفاته إلا في كتاب المقضيات (السبعة) . قال أبو عبد الله الناتلي: عليك بالبحث عن جواهر النفس الشريفة وقال: النفس القديسة لا تنفع بالقياس الجدلي والخطابي. وقال: لا تدخر ما تخاف فقده. وقال: العارف لا يختار عرفان الحق على الحق. وقال: الحق يطلب لذاته، والخير يطلب لأجل العمل به. وقبل: إذا اشتبه عليك فلا أمران تدري في أيما الصواب فانظر أقربهما إلى هواك فاجتنبه. والله أعلم. يحيى النحوي الملقب بالطريق والمنسوب إلى الديلم كان يحيى الديلمي من قدماء الحكماء وكان نصرانيا فيلسوفا فأراد عامل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه إزعاجه عن فارس وتخريب ديره، فكتب يحيى قصته إلى أمير المؤمنين وطلب منه الأمان فكتب محمد بن الحنفية له كتاب الامان بامر امير المؤمنين. وقد رايت نسخة هذا الكتاب في يدي الحكيم أبي الفتوح المستوفى النصراني الطوسي. وكان أبو الفتوح طبيبا حاذقاً، ماهراً في صناعة الاستيفاء وكان توقيع امير المؤمنين عليه بخطه عليه " الله الملك وعلي عبده ". إما كتاب يحيى النحوي فظاهره سديد، وباطنه ضعيف. وفي الوقوف على تلك الشكوك والتوصل إلى حلها قوة للنفس، وغزارة للعلم، وتلك الشكوك ليس مما يفطن لعقدها الرشميون ممن نعلمه. فان انحلالها مبنية على فروع (و) أصول من كتاب السماع الطبيعي. ويحيى النحوي البطريق هو الذي صنف كتبا ورد وفيها على أفلاطون وأرسطو حين همت النصارى بقتله، وقال في شأنه أبو علي هو يحيى النوي المموه على النصارى، وأكثر ما أورده الإمام حجة الإسلام الغزالي رحمه الله في تهافت الفلاسفة تقرير كلام يحيى النحوي. (ومن كلامه) يجب التعب والكد في طلب العلوم، وتحقيق ماهيات الأشياء، والاحتياط في النقل والبحث عن المنقولات. وله تصانيف كثيرة، منه أخذ الطلب خالد بن يزيد بن معاوية. قال يحيى: ليس منا من لم يعمل في صدره نهاره لدنياه وفي آخره لعقباه وقال: أقبح الأشياء بالسلطان اللجاج، وبالمقاتلة الجبن، وبالأغنياء البخل، وبالفقراء الكبر، وبالشيوخ المزاح، وبالشباب الكسل، وبجماعة الناس التباغض والتحاسد. وقال: الفقر الموت الأكبر. وقال: كل من الطعام ما اشتهيت، والبس ما تشتهيه الناس. وقال: من عرف فضل من هو فوقه عرف فضله من هو دونه. يعقوب بن اسحق الكندي كان مهندسا خائضا غمرات العلم، وله تصانيف كثيرة، وقد جمع في بعض تصانيفه بين أصول الشرع وأصول المعقولات واختلفوا في ملته فقال قوم: (كان) يهودياً ثم أسلم، وقال بعضهم كان نصرانياً. وإنا ما حصلت علم المناظر، وما تخيلت أشكال ذلك العلم إلا من تصنيفه الذي هو نادر في ذلك الفن. وقد ارتبطه المعتصم. (وكان أستاذ ولده أحمد بن المعتصم وله رسائل إلى أحمد بن المعتصم) . قال يعقوب: اعتزل الشر فإن الشر للشرير خلق. وقال: من لم ينبسط بحديثك فارفع عنه مؤونة الاستماع منك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 وقال: اعص الهوى وأطع من شئت، ولا تغتر بمال وإن كثر، ولا تطلب حاجة إلى كذوب، فإنه يبعدها وهي قريبة، ولا (إلى) جاهل فإنه يجعل حاجتك وقاية لحاجته. وقال: لا تنجو مما تكره حتى تمتنع عن كثير مما تحب وتريد. أبو زيد البلخي كان من حكماء الإسلام وفصحائه وبلغائه وله تصانيف كثيرة في كل فن، منها كتاب الأمد الأقصى وكتاب بيان وجوه الحكمة في الأوامر والنواهي الشرعية وسماه كتاب الإبانة عن علل الديانة وكتاب في الأخلاق وكتب أخر. قال: للصدق أصل وفرع ونبات (من أ) كل من ثماره وجد حلاوة طعمه، والكذب عقيم لا أصل له ولا ثمرة فاحذره. وقال: إذا كثر الخزان للأسرار زادت ضياعاً. وقال: من طلب لسره حافظاً أفشاه. وقال: لا بد من الموت فلا تخف، وإن كنت تخاف مما بعد الموت فأصلح شأنك قبل موتك وخف سيئاتك لا موتك. وقال لطباخ سيء الطبخ ما أكيسه يصير الطعام قبل لا كل والهضم برازاً، وقال يوماً لطبيب جاهل: عالج نفسك أولاً ثم شخص غيرك ثانياً وقال إذا مدحك واحد بما ليس فيك فلا تأمن أن يذمك أيضاً بما ليس فيك. وقال: الشريعة الفلسفة الكبرى، ولا يكون الرجل متفلسفاً حتى يكون متعبداً مواظباً على أداء أوامر الشرع. وقال: من سره ما ليس فيه من الفضائل ساءه ما فيه من الرذائل. وقال: الدواء الأكبر هو العلم. الفيلسوف أبو الفرج بن الطيب الجاثليق كان الشيخ أبو علي يذمه ويهجن تصانيفه، ويقول في المباحث من حق تصنيفه أن يرد على بايعه، ويترك عليه ثمنه، ولعل ذلك لتحاسد يكون بين أهل العصر. وأبو الفرج كان من حكماء بغداد وكان حكيماً ملء إهابه، داخلاً بيت الحكمة من أبوابه، وله تصانيف في المنطق وغير ذلك وقد وجدت له تصنيفاً لطيفاً في كمية الأعمار ورسائل وكان عالماً باللغة الرومية واليونانية. وكان أبو علي يعترف بتقدمه في صناعة الطب ثم يعترض على بعض رسائله في الطب ويقول ظننت أن أبا الفرج كان مقدماً في الطب إلا أن كلامه غير فصيح، فبعضه مستقيم وبعضه سقيم فهو من المستطرفين لا من أصحاب الصناعة وأنا قد رأيت كتاباً لأبي الفرج في علل الأشياء واستفدت منه واعترفت بأنه كان حكيماً ولكن بينه وبين أبي علي بون بعيد، وأبو علي كان مؤذياً مهجناً. وقد رأيت في بعض الكتب أن أبا علي دخل على الحكيم أبي علي ابن مسكويه صاحب كتاب تجاب الأمم وكتاب الشوامل والهوامل، والتلامذة حوله فرمى أبو علي إليه جوزة وقال بين مساحة هذه الجوزة بالشعيرات، فرفع ابن مسكويه أجزاء في الأخلاق ورماها إلى ابن سينا وقال: أما أنت فأصلح أخلاقك أولاً حتى استخرج مساحة الجوزة وأنت أحوج إلى إصلاح أخلاقك مني إلى مساحة الجوزة. وهكذا يطعن أبو علي في أثناء تصانيفه على أبي الفرج وليس الذم والتثريب والتهجين من دأب الحكماء المبرزين بل تقرير الحق، ومن قرر الحق، استغني عن تهجين أهل الباطل، صاننا الله عن الرذائل وأسبغ علينا نعم الفضائل. وقد بعث أبو الريحان البيروني مسائل إلى أبي علي فأجاب عنها أبو علي، واعترض أبو الريحان على أجوبة أبي علي وهجنه وهجن كلامه وأذاقه مرارة التهجين وخاطب أبا علي بما لا يخاطب به العوام فضلا عن الحكماء فلما تأمل أبو الفرج الأسئلة والأجوبة قال: من نخل الناس نخلوه ناب عني أبو الريحان. وكان أبو الفرج يقول: أنا من أولاد فولوس وفولوس كان ابن أخت جالينوس. ولما بعث الله تعالى عيسى بالحق إلى الناس كان جالينوس شيخا عاجزاً فبعث إلى عيسى عليه السلام ابن أخته فولوس واعتذر إليه وقال: أنا محبوس الهرم. وكتب إلى عيسى عليه السلام كتابا، وكان عيسى يقرأ ويكتب، ومضمون الكتاب: يا طبيب النفوس ونبي الله ربما عجز المريض عن خدمة الطبيب بسبب عوارض جسمانية، وقد بعثت إليك بعضي وهو فولوس لتعالج نفسه بالآداب النبوية والسلام. فلما وصل فولوس إلى عيسى أكرمه عيسى عليه السلام وصار من الحواريين وكتب عيسى إلى جالينوس: يا من أنصف من علمه، الصحيح لا يحتاج إلى الطبيب إلا في حفظ صحته والمسافة لا تحجب النفوس عن النفوس والسلام وادعت النصارى أن فولوس صار بعد شمعون الصفا نبيا وله كتاب فيه دلائل البعث والحشر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 ومن كلمات أبي الفرج: قوله في هذا العالم ربما صار التولدي توالديا فلا يتعجب من أن يصير نوع التوالدي تولديا لا في هذا العالم كالشمس في ازمان والنار تؤثر فإنها تؤثر في آن، وقال: " آ " لا يكون سببا لوجود " ب " وب لا يكون سببا لوجود " ا " لأن من حق السبب أن يكون متقدما في الوجود على المسبب ومن حق المسبب أن يكون متأخرا، وإذا اعتبرت ذلك عرفت أن " آ " لا تكون علة لما هي " ب " و " ب " علة لوجود " آ ". وقال: إذا قامت حجتك على الكريم أكرمك ووقرك، وإذا قامت على الخسيس (ازدراك) وامتهنك. الفقير المتشبه بالغني كالوارم المتشبه بالسمين. البخيل تغافله عن عظيم الجرم اسهل عليه من المكافأة على صغير الإحسان شرير العالم يفرح بالطعن على من تقدمه من العلماء، ويسوءه بقاء من في عصره منهم، لأنه يحب ألا يكرم سواه، والغالب عليه في العلم شهوة الرياسة. من مدحك بما ليس فيك فهو مخاطب غيرك، وكذا من هجنك البخيل يسخو من عرضه بمقدار ما يبخل من ماله. إذا أقبلت الدولة خدمت الشهوات العقول، وإذا أدبرت خدمت العقول الشهوات. إذا أصحبت العاقل فأرضه وأسخط حاشيته، وإذا خدمت الجاهل فافعل ضد ذلك. حرام على الملك السكر فإنه حارس المملكة، وقبيح أن يحتاج الحارس إلى من يحرسه. الشجاع يختار حسن الذكر على البقاء، والجبان يختار البقاء على حسن الذكر. الأماني أحلام المستيقظ. وقال: أول ما يظهر بعد الطوفان والأمراض الوبائية المفنية للناس الضروريات من الملابس والمآكل، ثم بعد ذلك يطلبون الحسن منها. الجند والمدن والحصون تتخذ أولا هربا من السباع الضاربة ثم بعد ذلك لتوقي (الناس) بعضهم من بعض. إذا تمسك الأبناء بسنن الآباء فربما داخلتهم المصيبة فدعت الضرورة إلى صاحب شرع حق يدعوهم إلى شئ واحد فيه صلاحهم. الحكيم العالم أبو القاسم الكرماني كان حكيما جرت بينه وبين أبي علي مناظرة، أدت إلى مشاجرة لزمها سوء الأدب. ونسبه أبو علي إلى قلة العناية بصناعة المنطق، ونسب أبو القاسم أبا علي إلى الغلط والمغالطة. وكتب هذه المناظرة أبو علي إلى الشيخ الوزير الأمين أبي سعيد الهمذاني الذي صنف أبو علي باسمه الرسالة الأضحوية، وكتب الحكيم أبو الخير إليه رسالته المعروفة. ومن كلمات الحكيم أبي القاسم قوله: الطبيب خادم القدر صح المريض أو هلك. وقال: تأثير العلويات بتقدير الله تعالى في السفليات لا ينكر، لأن الأسفل مربوط بالأعلى، والتفاصيل لا تدرك، فاختر أمراً بين أمرين فإنك في ذلك تحتاج إلى علم زماني وغير زماني. وقال يوما للشيخ أبي علي: لا يقدر ما عندك بتهجين ما عند غيرك فإن الحق ابلج والإنصاف لم ينعدم. وقال: المبتهج بمدحه الذي يسمعه كمادح نفسه وقال: معاتبة الجاهل كالطالب من الأعمى صحة البصر. أبو الفتح يحيى بن علي بن محمد الكاتب البستي كان أبو الفتح حكيما شاعرا من خدم الملوك السامانية وندماء الأمير خلف بن احمد واستخدمه الأمير ناصر الدين سبكتكين فقال له أبو الفتح أنا غرس أعدائك فلا تثق بي إلا بعد تجربتي فان التجربة تزيل الشبهة. وعاش هو إلى أيام السلطان محمد بن محمود، وخلع عليه السلطان محمد بن محمود مراراً، وقيل هو كاتب باتبور صاحب بست واستحضره الأمير سبكتكين، وكان كاتب السلطان محمود مدة، ثم اتفق له مفارقة خراسان مع الخاقانية، وتوفي بما وراء النهر. فللأمور مواقيت مقدرة ... وكل أمر له حد وميزان فلا تكن عجلاً في الأمر تطلبه ... فليس يحمد قبل النضج بحران يا أيها العالم المرضي سيرته ... أبشر فأنت بغير الماء ريان ويا أخا الجهل لو أصبحت في لجج ... فأنت ما بينها لا شك ظمآن وقوله: تق الله والزم عرى دينه ... وبعدهما فاعرف الفلسفة ودع عنك قوماً يعيبونها ... ففلسفة المرء فل السفه وقوله: يا خادم الجسم كم تشقى بخدمته ... أتطلب الريح مما فيه خسران أقبل على النفس واستكمل فضائلها ... فأنت بالنفس لا بالجسم إنسان وقوله: لا تلمني على اضطراب تراه ... في كتاب أخطه أو قريض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 فأعز الأشياء عندي وجوداً صحة القول في الزمان المريض وقوله: منحتكم صدق المودة كاملاً ... وكان جزائي عندكم ظاهر النقص كموجبة كلية إن عكستها ... فحاصلها جزئية عند ذي الفحص ومن كلماته قوله: إذا وجب عن العلة البسيطة التي هي مثلاً " ى " معلولان هما " ح " و " ب " معاً ذاتيه (؟) لم تكن " ى " علة بسيطة. أبو العباس أحمد بن إسحاق الجرمقي كاتب فيلسوف مهندس شاعر من كتاب الأمير خلف بن أحمد (الذي) دوخ البلاد، وتعلق ببدر بن حسنوية. ومن حكمه: أن قل مالي فذاك من قب ... ل الأقدار إما اعتبرت لا قبلي ويلزم اللوم في الخصاصة لو ... كانت تنال الحظوظ بالحيل إن زال ما كنت فيه من عمل ... فإن ما كان في لم يزل الحكيم الوزير شرف الملك أبو علي الحسين بن عبد الله بن سينا البخاري أبوه رجل من رجال أهل بلخ من الكفاة والعمال، وانتقل إلى بخاري في أيام الأمير الحميد ملك المشرق نوح بن منصور، واشتغل بالتصرف، وتولى العمل بقربة خرميتن من ضياع بخاري، وتزوج أبوه إمرأة اسمها ستارة وولد أبو علي بهذه القرية في صفر سنة سبعين وثلثماءة، والطالع (السرطان) درجة شرف المشتري والقمر على درجة شرفه، والشمس على درجة شرفها، والزهرة على درجة شرفها، وسهم السعادة في كط من السرطان وسهم الغيب في أول السرطان مع سهيل والشعري اليمانية ثم ولد أخوه محمود بعده بخمس سنين، ثم انتقلوا إلى بخارى. وأحضر أبو علي معلم القرآن ومعلم الأدب فلما بلغ عشر سنين حفظ أشياء من أصول الأدب، وأبوه كان يطالع ويتأمل رسالة إخوان الصفا وهو أيضاً أحياناً يتأملها، وأبوه يوجهه إلى بقال يبيع البقل، ويعرف حساب الهندسة والجبر والمقابلة، يقال له محمود المساح. ثم توجه تلقاء بخاري الحكيم أبو عبد الله الناتلي، وقد سبق ذكره فأنزله أبوه وآواه وأكرمه، وكان أبو علي يختلف في الفقه إلى إسماعيل الزاهد، ويتلقف مسائل الخلاف ويناظر ويجادل. ثم ابتدأ أبو علي بقراءة كتاب ايساغوجي على الناتلي حتى أحكم عليه المنطق، ثم ابتدأ بكتاب أوقليدس ثم المجسطي. فلما فرغ الناتلي من تعليمه توجه تلقاء خوارزم قاصداً حضرة خوارزم شاه مأمون بن محمد مولى أمير المؤمنين. واشتغل أبو علي بتحصيل العلوم من الطبيعي والآلهي، ونظر في النصوص والشروح، وانفتحت عليه أبواب العلوم، ثم رغب في علم الطب وتأمل الكتب المصنفة فيه. وعلم الطب ليس من العلوم الصعبة فلا جرم صار فيه في مدة قليلة عديم المثيل، فقيد القرين والنظير. وفضلاء الطب يختلفون إليه، ويقرؤون عليه المعالجات المقتبسة من التجربة، وهو مع ذلك يختلف في الفقه إلى إسماعيل الزاهد الفقيه. فلما جاوز اثنتي عشرة سنة من مولده أقبل بعد ذلك سنة ونصف سنة على العلوم، وأعاد قراءة المنطق وجميع أجزاء الفلسفة وفي هذه المدة ما نام ليلة واحدة بطولها، ولا اشتغل في النهار بشيء سوى المطالعة، وجمع بين يديه ظهوراً من القراطيس، وكل حجة ينظر فيها يثبت مقدماتها القياسية، ويكتبها في تلك الظهور، وراعى شرائط المقدمات وفضل ما هو منتج مما هو عقيم. وإذا تحير في مسألة وما ظفر فيها بالحد الأوسط تردد إلى الجامع وصلى وابتهل إلى الله تعالى حتى يفتح الله تعالى له المنغلق منها. وكان يعود كل ليلة إلى داره، ويضع السراج ويشتغل بالقراءة والكتابة. فإذا غلبه النوم أو ابتدره ضعف مزاج شرب قدحاً من النبيذ. وكان الحكماء المتقدمون مثل أفلاطن وغيره زهاداً وأبو علي غير سنتهم وشعارهم، وكان مشغوفاً بشرب الخمر، واستفراغ القرى الشهوانية، ثم اقتدى به في الفسق والانهماك من بعده. وأحكم جميع العلوم، ووقف عليها بحسب الإمكان الإنساني. وكل ما علمه في ذلك فهو كما علمه لم يزدد إلى آخر عمره، حتى فرغ من المنطق والطبيعي والرياضي. و (لم) يبالغ في علم الرياضي لأ (ن) من ذاق حلاوة المعقولات بضن بصرف فكره في الرياضيات. إلا فيما يتصوره مرة واحدة ويتركه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 ثم أقبل على العلم الإلهي، وقرأ كتاب ما بعد الطبيعة، وأعاد قراءته أربعين مرة، وصار له محفوظاً، ومع ذلك لا يفهمه ولا المقصود منه، وأيس من نفسه وقال: هذا كتاب لا سبيل إلى فهمه. واتفق أنه كان يوماً من الأيام في سوق الوراقين فعرض عليه دلال يقال له محمد الدلال كتاباً ينادي عليه، فرده أبو علي رد متبرم، معتقداً ألا فائدة في هذا العلم، فقال الدلال اشتر مني فإنه رخيص بثلاثة دراهم وصاحبه محتاج إلى ثمنه، فاشتراه فإذا هو كتاب لأبي نصر الفارابي الفيلسوف الذي هو المعلم الثاني في أغراض كتاب ما بعد الطبيعة. قال فرجعت إلى بيتي وأسرعت قراءته فانفتح علي في الوقت أغراض ذلك الكتاب بسبب أنه كان لي محفوظاً، ففرحت بذلك وتصدقت بشيْ كثير على الفقراء شكراً لله تعالى. وكان ملك المشرق وخراسان في ذلك الزمان الأمير نوح بن منصور فعرض له مرض أعجز الأطباء. وكان اسمه اشتهر في التوفر على العلم والقراءة. فسألوا الأمير إحضار أبي علي فحضره وشاركهم في معالجته فوسم بخدمته. وصار أول حكيم توسم بخدمة الملوك. وكان الحكماء قبل أبي علي يترفعون عن ذلك ولا يقربون أبواب السلاطين. فسأل الأمير نوح بن منصور الرئيس أبو علي الأذن له في دخول دار له فيها بيوت الكتب فنال الإيجاب فطالع من جملتها فهرست كتب الأوائل وطلب ما احتاج إليه فرأى من الكتب ما لم يقرع أسماع الناس اسمه لأبي نصر الفارابي وغيره. فقرأ تلك الكتب وظفر بفوائدها وعرف مرتبة كل رجل في علمه من المتقدمين. فاتفق احتراق تلك الدار، واحترقت الكتب بأسرها، وقال بعض خصماء أبي علي إنه أحرق تلك الكتب ليضيف تلك العلوم والنفائس إلى نفسه، ويقطع أنساب تلك الفوائد عن أربابها والله أعلم. فلما بلغ أبو علي سنة ثمان عشرة من عمره فرغ من العلوم كلها، ولم يتجدد له بعدها شيء، وكان في جواره رجل يقال له أبو الحسن العروضي، فسأله أن يصنف كتاباً جامعاً في هذا العلم، فصنف له المجموع وذكر اسمه فيه، وأثبت فيه سائر العلوم سوى الرياضي (فإنه ليس فيه زيادة مرتبة وسعادة في العقبى) . و (كان) في جواره أيضاً رجل يقال له أبو بكر البرقي الخوارزمي فقيه زاهد مفسر مائل إلى هذه العلوم، فسأله شرح الكتب فصنف له كتاب الحاصل والمحصول. وكان في بيت كتب بوزجان منه نسخة فقدت. وأتم كتاب الحاصل والمحصول في عشرين مجلدة. وصنف له كتاباً في الأخلاق وسماه البر والإثم. ورأيته عند الإمام محمد الحارثان السرخسي رحمه الله بخط رديء مقرمط في سنة أربع وأربعين وخمسمائة ثم مات والده وسن أبي علي اثنتان وعشرون سنة. وتصرفت (به) الأحوال، وتقلد عملاً من أعمال السلطان. ولما اضطربت أمور السامانية دعته الضرورة إلى الخروج من بخارء والإنتقال إلى كر كانج والإختلاف إلى خوارزم شاه علي بن مأمون بن محمد وكان أبو الحسن السهلي المحب لهذا العلم بها وزيراً. وكان أبو علي على زي الفقهاء بطيلسان وعمامة (تحت الحنك) ، فأثبتوا له مشاهرة تقوم بكفاية مثله. ثم دعت الضرورة أيضاً إلى الإنتقال عن خوارزم والتوجه تلقاء نسا وأبي ورد ثم إلى طوس ثم إلى سمنقان ولم يدخل نيسابور، ثم إلى جاجرم رأس حد خراسان ثم إلى جرجان. وكان يقصد الأمير شمس المعالي قابوس بن وشمكير، فاتفق في أثناء تلك الحالات أخذ قابوس وحبسه في بعض القلاع وموته هناك. ثم مضى إلى دهستان ومرض بها مرضاً صعباً. وعاد إلى جرجان، واتصل به الفقيه أبو عبيد الجوزجاني، واسمه عبد الواحد، وبجرجان رجل يقال له أبو محمد الشيرازي قد ارتبط الشيخ واشترى له داراً في جواره. وأبو عبيد يختلف إليه كل يوم يقرأ المجسطي ويستملي المنطق، فأملى عليه المختصر الأوسط في المنطق، لذلك يقال له الأوسط الجرجاني. وصنف لأبي محمد الشيرازي كتاب المبدأ والمعاد وكتاب الأرصاد الكلية. وصنف في جرجان كتباً كثيرة كأول القانون والمختصر من المجسطي وكثيراً من الرسائل والكتب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 وهذا فهرست جميع مصنفاته: كتاب المجموع مجلدة، كتاب الحاصل والمحصول عشرون مجلدة، كتاب البر والإثم مجلدتان، كتاب الشفاء ثمان عشرة مجلدة كتاب القانون أربع مجلدات، الأرصاد الكلية مجلدة، الأنصاف عشرون مجلدة، النجاة مجلدة، الهداية مجلدة، الإرشادات مجلدة، الأوسط مجلدة، العلائي مجلدة، كتاب لسان العرب عشر مجلدات، الأدوية القلبية مجلدة، الموجز مجلدة، الحكمة القدسية مجلدة بيان ذوات الجهة مجلدة، كتاب المبدأ والمعاد مجلدة، كتاب المعاد مجلدة، كتاب المقتضيات مجلدة. ومن رسائله رسالة في القضاء والقدر والإجرام العلوية والآلة الرصدية وغرض قاطيغورياس والمنطق بالشعر. ورسالة التحقة ورسالة في الحروف وتعقب المواضع الجدلية، ومختصر أوقليدس وفي النبض وفي الجدل وأقسام علوم الحكمة وفي النهاية واللا نهاية، وحي بن يقظان، وفي أن أبعاد الجسم غير ذاتية له، وفي الهندباء ومسائل جرت بينه وبين فضلاء العصر. ثم انتقل إلى الري، واتصل بخدمة السيدة وابنها الملك مجد الدولة أبي طالب رستم بن فخر الدولة علي، وعرفوه بسبب كتب وصلت معه، وتضمنت تعريف قدره. وقد استولت على مجد الدولة علة الماليخوليا فاشتغل الشيخ بمداواته، وصنف هناك كتاب المعاد وأقام إلى أن قصد شمس الدولة قتل هلاك بن بدر بن حسنوية وهزيمة عسكر بغداد. ثم اتفقت أسباب أوجبت بالضرورة خروجه إلى قزوين ومنها إلى هنذان واتصاله بخدمة كدبانويه وبالنظر في أسبابها. ثم اتفقت له معرفة شمس الدولة، وأمر بإحضاره مجلسه بسبب قولنج أصابه، فعالجه حتى شفاه الله، وفاز من ذلك المجلس بخلع كثيرة، ورجع إلى داره بعد ما أقام هناك أربعين يوماً بلياليها، وصار من ندماء الأمير. ثم اتفق نهوض الأمير إلى قرمسين لحرب عناز. وخرج الشيخ منخرطاً في سلك خدمته، ثم توجه تلقاء همذان، منهزماً راجعاً. ثم سألوه تقلد الوزارة فتقلدها، ثم اتفق تشويش العسكر بسببه وإشفاقهم منه على (أنفسهم) فأغاروا على داره وأخذوه وحبسوه، وسألوا الأمير قتله فامتنع منه الأمير. ثم أطلق الشيخ فتوارى في دار الشيخ أبي سعد بن دخدوك أربعين يوماً. فعاود الأمير شمس الدولة مرض القولنج، فطلب الشيخ وحضر مجلسه فاعتذر إليه الأمير، فاشتغل الشيخ بمعالجته، وأقام عنده مكرماً مبجلاً، وأعيدت الوزارة إليه ثانية. ثم سأله الفقيه أبو عبيد شرح كتب أرسطو فذكر أنه لا فراغ له، ولكن إن رضيت مني بتصنيف كتاب أورد فيه ما صح عندي من هذه العلوم بلا مناظرة مع الخصوم، ولا اشتغال بالرد عليهم فعلت. قال أبو عبيد: فرضيت بذلك، فابتدأ بالطبيعيات من كتاب الشفاء وقد صنف المجلد الأول من القانون. فكان يجتمع كل ليلة في داره طلبة العلم وأبو عبيد يقرأ من كتاب الشفاء نوبةً، ويقرأ المعصومي من القانون نوبة، وابن زيلة يقرأ من الإشارات نوبة، وبهمن يار يقرأ من الحاصل والمحصول نوبة، فإذا فرغوا حضر المغنون واشتغلوا بالشراب. وكان التدريس بالليل لعدم الفراغ بالنهار. ثم توجه شمس الدين تلقاء طارم لحرب الأمير بهاء الدولة، وعاوده القولنج قرب ذلك الموضع واشتدت علته، وانضاف إلى ذلك أمراض أخر جلبها سوء تدبيره، وقلة القبول من الشيخ. فخاف العسكر وفاته، فرجعوا سار بين إلى همذان، فتوفي شمس الدولة في الطريق، ثم بويع ابن شمس الدولة وطلبوا استيزار الشيخ فأبى عليهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 وكان علاء الدين سأل الشيخ المصير إليه، فأقام في دار أبي غالب العطار متوارياً، وصنف فيها بلا كتاب يطالعه جميع الطبيعيات والإلهيات من كتاب الشفاء، وابتدأ بالمنطق وكتب منه جزءاً. ثم اتهمه تاج الملك بمكاتبة علاء الدولة فأخذه وحبسه في قلعة نردوان وبقي فيها أربعة أشهر. ثم قصد علاء الدولة أبو جعفر كاكويه همذان واستولى عليها. ثم رجع علاء الدولة وعاد تاج الملك وابن شمس الدولة من القلعة إلى همذان وحملا معهما الشيخ، فنزل في دار علوي واشتغل بتصنيف المنطق من كتاب الشفاء، وصنف في القلعة كتاب الهداية وكتاب حي بن يقظان ورسالة الطير وكتاب القولنج، فأما الأدوية القلبية فقد صنفها في أول وروده همذان. ثم عن للشيخ التوجه تلقاء أصفهان، فخرج متنكراً، ومعه أخوه محمود والفقيه أبو عبيد وغلامان له في زي الصوفية، فلما وصلوا إلى الطبران على باب أصفهان استقبله خواص الأمير علاء الدولة، وحمل إليه الثياب والمراكب الخاصة، وأنزل في دار عبد الله بن بابي في محلة كونكنيذ. وكان الشيخ في ليالي الجمعات يحضر مجالس علاء الدولة مع علماء البلدة. وإذا تكلم استفادوا منه في كل فن. واشتغل بتتميم كتاب الشفاء. أما في المجسطي فأورد عشرة أشكال في اختلاف المنظر. وأورد في علم الهيئة أشياء لم يسبق إليها، وأورد في أقليدس شكوكا، وفي الارتماطيقي خواص (حسنة) ، وفي الموسيقى مسائل غفل عنها الأولون. أما كتاب الحيوان والنبات من الشفاء فقد أنهاه في السنة التي توجه فيها علاء الدولة تلقاء سابور خواست، وكان الشيخ في خدمته وكان السلطان محمود بن سبكتكين وابنه مسعود لا يعدان واحدا من الملوك من أقرانهما وخصائصهما سوى علاء الدولة أبي جعفر بن كاكويه وكان يقيم ابن علاء الدولة بحضرة غزنة مدة، وجرى يوما عند علاء الدولة ذكر الخلل الواقع في التقاويم المعمولة بحسب الأرصاد القديمة، فأمر علاء الدولة الشيخ بالإشتغال برصد الكواكب، وأطلق من الأموال ما احتاج إليه، وابتدأ الشيخ به والفقيه أبو عبيد هو القيم بهذه الأمور يتخذ آلاتها ويستخدم صناعتها، حتى ظفر بكثير من المسائل. وكان الخلل واقعا في أمر الرصد لكثرة الأسفار، وتراكم العوائق. وصنف الشيخ في أصفهان كتاب العلائي. ومن عجائب أحوال الشيخ أن أبا عبيد صحبة ثلاثين سنة قال إنه ما رآه ينظر في كتاب في كتاب جديد على الولاء بل يقصد المواضع الصعبة، والمسائل المشكلة منه، فينظر ما قاله المصنف فيها، فتبين عنده مرتبته في العلم. وكان الشيخ جالساً يوماً بين يدي الأمير، والأديب أبو منصور الجبان حاضر، فجرت في اللغة مسألة تكلم الشيخ فيها بما حضره، فقال له أبو منصور: إنك حكيم، ولكنك لم تقرأ من اللغة ما يرضى به كلامك، فاستنكف الشيخ من هذا الكلام، وتوفر على درس كتب اللغة ثلاث سنين. وكان ينظر في كتاب تهذيب اللغة من تصنيف أبي منصور الأزهري. فبلغ الشيخ في اللغة طبقة قلما يتفق مثلها. وأنشأ ثلاث قصائد وضمنها ألفاظاً غريبة، وكتب ثلاث رسائل على طريقة ابن العميد والصاحب والصابي وأمر بتجليدها وأخلاق جلدها. ثم سأل الأمير عرض تلك المجلدة على أبي منصور الجبان وذكر أنا ظفرنا بهذه المجلدة في الصحراء في وقت الصيد، فيجب أن تنتقدها وتقرر لنا ما فيها. فنظر فيها الشيخ أبو منصور، وأشكل عليه كثير منها فقال له الشيخ أبو علي إن ما تجهله من هذا الكتاب مذكور في موضع كذا وكذا، وذكر له كتباً معروفة في اللغة، ففطن أبو منصور أن هذه القصائد والرسائل من إنشاء أبي علي فتنصل واعتذر إليه. ثم صنف الشيخ كتاباً في اللغة وسماه لسان العرب، لم يصنف مثله، ولم ينقله إلى البياض فبقي على مسودته، لا يهتدي أحد إلى ترتيبه. وقد حصل للشيخ تجارب في المعالجات وعلقها في أجزاء، وعزم على تدوينها في كتاب القانون فضاعت الأجزاء. ومن تجاربه أنه صدع يوماً، فتصور أن مادة نزلت إلى حجاب رئته وأنه لا يأمن ورماً يحصل فيه، فأمر بإحضار ثلج كثير ولفه في خرقة وغطى رأسه بها حتى تقوى الموضع، وامتنع عن نزوله تلك المادة وعوفي. ومن تجاربه أن إمرأة مسلولة بخوارزم حضرته، فأمرها إلا تتناول من الأشربة إلا جلنجبين السكر حتى تناولت على مر الأيام منه مائة من، وشفيت المرأة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 وكان الشيخ صنف بجرجان المنطق الذي وضعه في أول النجاة، ووقعت منه نسخة إلى شيراز فنظر فيها جماعة من أهل العلم، فوقعت لهم شبه في مسائل فكتبوها على جزء، وكان القاضي بشيراز من جملة القوم، فأنفذوا الجزء إلى الحكيم أبي القاسم الكرماني، فدخل أبو القاسم على الشيخ عند اصفرار الشمس في الصيف، ووضع الجزء بين يدي الشيخ. فلما خرج أبو القاسم صلى الشيخ العشاء، وكتب خمسة أجزاء مربعة كل جزء عشرة أوراق على الربع الفرعوني ثم نام، فلما صلى الغداة، بعث الأجزاء إلى أبي القاسم وقال: استعجلت في الجواب حتى لا يمكث القاصد. فلما رأى أبو القاسم (ذلك) تعجب وكتب إلى شيراز بهذه القصة. ثم وضع بسبب الرصد آلات ما سبقه بها أحد. واشتغل بالرصد، ثماني سنين، ثم صنف الشيخ كتاب الإنصاف. ووقعت محاربة بين العميد أبي سهل الحمدوني صاحب الري عن جهة السلطان محمود وبين علاء الدولة، قصد السلطان مسعود بن محمود أصفهان، وأخذ أخت علاء الدولة. فبعث أبو علي إلى السلطان مسعود وقال: إن تزوجت بهذه المرأة التي هي كفؤ لك سلم علاء الدولة إليك الولاية، فتزوجها السلطان مسعود، ثم اشتغل علاء الدولة بالمحاربة، فبعث السلطان إليه رسولاً وقال: أنا أسلم أختك إلى ولوده (؟) العسكر، فقال علاء الدولة لأبي علي: أجب فقال أبو علي: إن كانت المرأة أخت علاء الدولة فهي زوجتك، وإن طلقتها فهي مطلقتك، والغيرة على الأزواج لا على الأخوات، فأنف السلطان من ذلك ورد أخت علاء الدولة عليه عزيزة مكرمة. ثم نهب العميد أبو سهل الحمدوني مع جماعة من الأكراد أمتعة الشيخ وفيها كتبه، ولم يؤخذ من كتاب الإنصاف إلا أجزاء. ثم ادعى عزيز الدين الفقاعي الزنجاني في شهور سنة خمس وأربعين وخمسمائة أنه اشترى منه نسخة بأصفهان وحملها إلى مرو والله أعلم. وأما الحكمة المترقية بتمامها والحكمة العرشية، فقال الإمام إسماعيل الباخرزي أنهما في بيوت كتب السلطان مسعود بن محمود بغزته، حتى أحرقها ملك الجبال الحسين وعسكر الغور والغز، في شهور سنة ست وأربعين وخمسمائة. وكان أبو علي قوي المزاج، وكانت قوة المجامعة عليه أغلب، وكان يشتغل باستفراغها، فأثر ذلك في مزاجه، وكان لا يعالج شخصه، حتى ضعف في السنة التي حارب فيها علاء الدولة الأمير حسام الدولة أبا العباس تاش فراش على باب الكرخ وعرا الشيخ داء القولنج فحقن نفسه في يوم واحد ثماني مرات، فتقرح بعض أمعائه، وظهر له سحج، وكان لا بد له من المسير مع علاء الدولة، فظهر به الصرع الذي يتبع علة القولنج، فأمر يوماً باتخاذ دانقين من بزر الكرفس في جملة ما يحقن به، وخلطه بها طلباً لكسر ريح القولنج. فقصد بعض الأطباء الذي يعالجه، وطرح من بزر الكرفس خمسة دراهم، ولا يدري أعمداً فعله أم سهواً، فازداد السحج به من حدة بزر الكرفس، وكان يتناول مثروديطوس لأجل الصرع فقام بعض غلمانه وطرح في مثروديطوس شيئاً كثيراً من الأفيون وتناوله. وكان سبب ذلك أن ذلك الغلام خان في خزانته فخاف عاقبة فعله عند برئه. ونقل الشيخ في المهد كما كان إلى أصفهان، فاشتغل بتدبير نفسه وكان من الضعف بحيث لا يقدر على القيام، فانصرف علاء الدولة إلى أصفهان، والشيخ يعالج شخصه، وغلمانه بتمنون هلاكه، بسبب خيانتهم في أمواله، فقدر الشيخ على المشي، وحضر مجلس علاء الدولة، لكنه مع ذلك لا يحتمي ولا يتحفظ ويكثر التخليط في أمر المعالجة. ولم يبرأ من العلة كل البرء، وكان يبرأ أسبوعاً ويمرض أسبوعاً. ثم قصد علاء الدولة همذان ومعه الشيخ، فعاود الشيخ القولنج في الطريق إلى أن وصل إلى همذان، وعلم أن قوته قد سقطت، وأنها لا تفي بدفع المرض، فأهمل من أداة نفسه، وقال: المدبر الذي في بدني، عجز عن تدبير بدني، فلا تنفعني المعالجة، ثم ا (غتسل وتا) ب وتصدق بما بقي معه على الفقراء، ورد المظالم إلى عرفه من أربابها، وأعتق غلمانه. وكان يحفظ القرآن فيختم في كل ثلاثة أيام. ثم مات في الجمعة الأولى من رمضان سنة ثمان وعشرين وأربعمائة ودفن في همذان. وفي هذه الجمعة خطبوا في نيسابور للسلطان طغرلبك محمد بن ميكائيل بن سلجوق، وأعرضوا عن ذكر السلطان مسعود بن محمود. وكان عمر الشيخ نح سنة من السنين الشمسية مع كسر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 حكاية عجيبة: كان أبو علي يحضر مجلس علاء الدولة وعليه قباء داري وعمامة خيش وخف أدم، ويجلس بين يديه قريباً منه. وكان يتبين أثر السرور في وجه الأمير إذا حضر، لتعجبه من جماله وفضله وظرفه، فإذا تكلم بين يديه استمع له أهل المجلس، لا ينبسون بحرف حتى (ينتهي) . واتفق أن أعطاه الأمير علاء الدولة منطقة مفضضة مذهبة مع السكاكين، ثم رآها الأمير مع غلام من خواص غلمانه، فقال له من أين هذه المنطقة؟ فقال أعطانيها الحكيم. فاشتد غضبه عليه، وصك وجهه ورأسه وأمر بقتله، فطلبوه فوجده واحد من أصحاب الأمير فخلاه حتى هرب، وقد غير ثيابه وزيه. فورد الري على هيئة المتصوفة وعليه مرقعة، وليس معه شيء ينفقه على نفسه، فدخل السوق لتحصيل القوت، فرأى أن يطالع مقامات الناس ليتخذ ما هو أروح، وكان يطالع واحداً بعد واحد، حتى اطلع على شاب ظريف اتخذ مقاماً على باب داره، وقد اجتمع عليه خلق كثير فأرته إمرأة تفسره فقال لها: هذه تفسرة يهودي، فاعترفت وقالت: هي كما نقول. ثم قال: وقد تناول رائباً. فقالت: نعم. ثم قال: داركم في المدينة في موضع منخفض من الأرض، فقالت: هي كذلك. فتعجب الحكيم من ذلك، فنظر الشاب إليه وقال: أنت أبو علي بن سينا، هربت من علاء الدولة فاجلس، فجلس بجنبه حتى فرغ الشاب من شأنه، وأخذ بيده وأدخله داره، وأمر حتى أدخل الحمام، وألبسه ثياباً حسنة، ودعا با (لطعام فقال) للشيخ أبي علي: كيف تعرف من التفسرة أنها تفسرة يهودي فقال: رأيت في يدها قميصاً عليه غيار اليهود، ورأيته ملوثاً بشيء من الرائب، فحدست أنه اشتهى الرائب وتناوله، واليهود كلهم يسكنون المدينة الداخلة من بلدنا، وجميع الدور في تلك المدينة في انخفاض. فقال له الشيخ وكيف عرفتني؟ فقال الشاب: كنت أسمع بجمالك وحسن هيئتك وفطانتك، فلما نظرت إليك حدست أنك هربت من علاء الدولة، وأني لأعلم أنه يزول غضبه عليك، ويشتاق إلى لقائك، ويردك إلى مجلسه، فأردت أن أتخذ عندك يداً. قال أبو علي: فما حاجتك؟ فقال الشاب أن تحضرني مجلس الأمير، وتحكي له ما رأيته لعله يستظرفني للمنادمة. فما مضى إلا أيام قلائل (حتى) طلب علاء الدولة الحكيم، وخلع عليه، ورده إلى مجلسه. فحمل أبو علي معه الشاب إلى أصفهان، وحكى للأمير ما رأى من حاله، وارتضاه الأمير وصار من ندمائه. نسخت عما كتبه أبو علي لنفسه وما كان في النسخة التي انتسخت منها غير مكتوب تركته ضرورة عدم وجوده، وشرعت بذكر الحكيم أبي الريحان محمد بن أحمد البيروني. أبو الريحان البيروني من أجلاء المهندسين وقد سافر في بلاد الهند الأربعين سنة ونصف كتباً كثيرة، ورأيت أكثرها بخطه. والقانون المسعودي الذي صنفه في عهد السلطان شهاب الدولة مسعود بن محمود غرة في وجوه تصانيفه، وله مناظرات مع أبي علي، ولم يكن الخوض في بحار المعقولات من شأنه، وكل ميسر لما خلق، وزادت تصانيفه على حمل بعير، وكان موفقاً في هذا السعي المشكور. وبيرون التي هي منشأوه ومولده، بلدة طيبة فيها غرائب وعجائب. ولا غرو فإن الدر ساكن الصدف. قال في تحقيق أمر منازل القمر: سهولة الشيء وصعوبته قلما تطلق. وإنما تضافان إليه بحسب اختلاف الأحوال، فيسهل بها من جهة ويتعذر (من) أخرى. وقال: جل خطر الملوك عن المجازاة بالانتقام. ليس للملك أن يحسد إلا على حسن التدبير والسياسة. الملك أقل الناس خوفاً من الفقر، وأكثر الناس خطراً وقرباً إلى الهلاك، فليس له أن يبخل ويجبن، فإن ما قل عنده لا يكثر، وما كثر لا ينعدم. المن يبطل إحسان المحسن. العاقل من استغنى بتدبير اليوم (عن تدبير الغد) لا تحقر الأمر الصغير، فللأمر الصغير موضع ينتفع به، وللأمر الكبير موقع لا يستغنى عنه. ما اجتمعت عليه الألفة والعادة واصطلحت عليه العامة فلا تخالفه من كفاه التأديب بالكلام لا يؤدب بالسوط والسيف. مدارسة أخلاق الحكماء والعلماء تحيي السنة الحسنة، وتميت البدعة (السيئة) . السنن الصالحة علامات الخير والحق. لكل يوم أمر حاضر، ولكل غد ما فيه يحدث الحكيم أبو المحسن علي بن رامساس العوفي له رسالة في تفسير أقسام الموجودات، وتصانيف لطيفة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 قال: البيضة صارت رطبة لغلبة الماء والهواء والنار عليها ونقصان طبيعة الأرض، فصفرة البيض تشبه طبيعة الهواء، وبياضها يشبه طبيعة الماء، فلذلك يطير الطائر والمادة الترابية فيه أقل، لذلك لم تخلق له الأسنان والأضراس، والصفرة والبياض هما النطفة والدم، والحضانة في الطائر معينة للقوة المولدة. وقال: (من) لم يكن خيراً متخلقاً بأخلاق الحكماء فلا خير لأحد في علمه اجعل لنفسك من حسن الظن بالناس نصيباً مفروضاً. الفضائل مبدأ الخيرات، والرذائل أساس الشرور الرجوع عن الصمت خير من الرجوع عن الكلام، والإقدام على العمل بعد التأني أحزم من الإمساك بعد الإقدام عليه. بالمشورة تضاف العقول إلى عقل واحد. أبو علي عيسى بن اسحق بن زرعة الفيلسوف كان حكيماً منطقياً، ومنطقياً كاملاً. وله رسالة في أن علم الحكمة أقوى الدواعي إلى متابعة الشرائع. منها: (من زعم أن الحكمة تخالف الشريعة فهي مفسدة لها) مقدمة غير كلية، وتقريرها: الحكمة مخالفة للشريعة، وكل ما هو مخالف لشيء مفسد له، والكبرى غير كلية فإن الحلاوة تخالف البياض ولا تفسده، والصور تخالف المادة ولا تفسدها، فإذا كانت الكبرى غير كلية لا ينتج القياس. منها: الغرض من المنطق تمييز الحق من الباطل والكذب من الصدق فمن قال إن الناضر في صناعة المنطق مستخف بالشريعة، فإن ذلك القائل طاعن في الشريعة، لأن كلامه في قوة قول من قال إن الشريعة لا تثبت عند البحث والتحقيق، ومنزلته منزلة رجل حامل للدراهم المبهرجة الذي يهرب بعين من النقاد، ويأنس بمن ليس من أهل المعرفة. فمن قال إن الحكمة تفسد الشريعة فهو الطاعن في الشريعة، لا المنطقي الذي يميز بين صدق الكلام و (كذ) به. و (منها) قول من قال إن الحكيم يستخف بالشريعة لأن الحكيم يبحث عن غوامض الأمور وحقائقها، فليس له أن يتفوه بلائمة، لأنه اعتقد في الشريعة أن البحث عنها يفسدها، فهو أولى باللوم بسبب هذا الاعتقاد. ويقال له: أتعلم يقيناً أن المنطق يفسد الشريعة، أم تعتقد ذلك ظناً وحسباناً؟ فإن قال: يقيناً لزمه ما ذكرناه، وإن قال: ظناً، فالظن لا يغني من الحق شيئاً، وان ذلك من طريق الشيوع والاستفاضة فليس كل شائع حقاً وإن قال: ذلك بسبب أن الشارع صلوات الله عليه نهى عن ذلك، والشرع يفسد المنطق وليس للمنطق أن يفسد الشرع بل الشرع يفسده، فنحن لم نجد في قول صاحب الشرع عليه السلام ولا في أفعاله ما يدل على فساد علم المنطق ثم نقول: يلزم هذا القائل أن يكون قوله بذلك عن علم منه بالمنطق، وأنه يؤدي إلى ما ادعاه عليه وعلى أهله من أجله، أو عن غلبة الظن. فإن كان القائل بذلك من أهل المعرفة بالصناعة المنطقية فقد أدى علمه إلى إفساد الشريعة، فهو أيضاً مخالف للشريعة بسبب علمه، فمن حقه أن يبين كيف يؤدي هذا العلم إلى إفساد الشريعة، أو كيف يؤدي الشرع إلى إفساد المنطق وإن قال ذلك عن غلبة الظن والتقليد فهو مخالف للشريعة، لأن الشرع نهى عن التقليد والحكم على الناس بغلبة الظن. ومنها: لا يعرف صدق النبي عليه السلام إلا بالمعجزات، ومن لم يعرف حقائق المعجزات فلا سبيل (له) إلى تصديق النبي عليه السلام فمن عرف حقائق المعجزات وحقائق النبوة فهو أقرب إلى تصديق النبي عليه السلام من المقلد المتمسك بظواهر الأمور. وهذه رسالة طويلة لا يحتمل الموضع إثباتها بكمالها وتمامها. ومن كلماته: كل من فكر فكراً رديئاً في غيره فهو من نفسه يقبل الرديء. الشقي من لا يذكر عاقبته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 وذكر ذلك الحكيم في بعض تصانيفه عن أرسطو أنه قال: إني ربما خلوت بنفسي كثيراً، وخلعت بدني فصرت كأني جوهر مجرد بلا بدن، فأكون داخلاً في ذاتي وخارجاً من سائر الأشياء، فأرى في ذاتي من الحسن والبهاء ما أبقى له متعجباً باهتاً، فاعلم أني جزوء من العالم الشريف، وإني ذو حياة فعالة، فلما بقيت كذلك ترقيت بذهني من ذلك العالم إلى العوالم الإلهية فصرت كأني موضوع فيها، معلق بها، فأكون فوق العالم العقلي فأرى كأني واقف في ذلك الموقف الشريف وأرى هناك من البهاء والنور ما لا تقدر الألسن على صفته، والأسماع على قبول نعته فإذا استعز الشأن وغلبني ذلك النور والبهاء، ولم أقو على احتماله، هبطت من العقل إلى الفكرة، وحجبت الفكرة عني ذلك النور، فأقضي عجباً أني كيف انحدر (ت) من هذا العالم، وعجبت أني كيف رأيت نفسي ممتلئة نوراً، وهي مع البدن كهيئتها. أبو الحسن بن سنان الطبيب كان حكيماً فاضلاً، وطبيباً حاذقاً، وصديقاً للحكيم أبي الخير الذي تقدم ذكره. ومن كلماته: البدن بناء، وحفظ الصحة عماده، ولا غناء للبيت عن الأساس والعماد. قال: لذة الهوى لذة ساعة وألم دهر. أبعث عينيك على نفسك، حتى لا يكون الناس بعيبك أعلم منك بنفسك. في الناس معايب سترها أولى من كشفها. إصلاح الأمور بوثاقة الرأي وشدة الرحمة. رأس مروءة الملوك حب العلم والعلماء، ورحمة الضعفاء، والإجتهاد في مصلحة العامة. من صرف رأيه في غير المهم ازرى بالمهم أبو الحسن بن هرون الحراني طبيب ماهر وحكيم متفلسف، والغالب عليه علم الرياضة وعلم الطب. قال: إصابة الرأي حلية الملوك. وقال: عليك في مشورتك بالخبير العالم غير الحسود، فإن الجبان يضيق الأمور، والبخيل يقصر في طلب الغايات، والحريص يطلب الأمور من غير استكمال الآلات والأسباب. المستشار اللبيب كالطبيب العالم الذي إن رأى ظاهر حال المريض في عرقه وتفسرته ولونه أطلع من باطن أمره على ما لا يطلع عليه المريض من نفسه، ثم عالجه على حسب ذلك. العماني الطبيب كان أبو الخير أثنى على العماني وقال: هو أقوى أهل الزمان في صناعته. ومن كلماته قوله: حق على المرء أن يوكل معه كالئين أحدهما يكلؤه من أمامه والآخر من ورائه، وهما عقله وأخوه الناصح. ما ينفعك في ذاتك فاطلبه، وإن لم يكن فيه افتخار، وما يضرك في الدنيا والآخرة فاتركه وإن كان به افتخار. من استبد بمعالجته في حال مرضه وإن كان طبيباً حاذقاً فقد يعرض للخطأ بجهده والاستشارة أداة كاملة. الحكيم ابن سيار الطبيب كان حكيماً طبيباً وكان يعالج أصحاب الحميات معالجة شافية وله تصانيف في الحكمة والطب وكان في صناعة المنطق من الظاهرين. ومن كلماته قوله: لا يرجى نيل معالي الأمور بكثرة الأعوان لكن بصلحاء الأعوان. أعوذ بالله من صديق يحسن القول ولا يحسن العمل. إذا باعدت صديقك ولايته، فاعلم أن أخلاقه تبدلت، فإن الأخلاق تستحيل في الولاية. المحاسن إذا قويت انهزمت المساوي الولاية تبسط اللسان بالغلظة، فلا تغضبن من شتم الوالي. أذكر دائماً تلون الأحوال. الحكيم دانيال الطبيب كان طبيباً لمعز الدولة، وقد أصاب معز الدولة فلج بشابور خواست فعالجه دانيال وصح. فبعد ذلك بثلاث سنين عرا معز الدولة سرسام حاد. فقال له الحمقى من الأطباء: هذه تأثيرات الأدوية الحارة التي عالجك بها دانيال دفعاً للفلج، فقبل المعز ذلك الكلام وغضب على دانيال، ولم يكن في حضرة المعز عالم منصف، فصار دانيال بسبب ذلك منكوباً، كما ذكره أبو الخير في كتابه محنة الأطباء. ومن كلمات دانيال قوله: إذا سئل غيرك فلا تجب، فإن ذلك استخفاف بالسائل والمسؤول. لكل إنسان أليف قد أنس به فلا يطمع في أن يفرق بينهما. من شرع في أمر بسبب حرصه بلا آلة وعلم فقد لبس لباس الغرور. إذا جاء المرض من قبل الدواء النافع وجهته عجز الطبيب. من خدم السلطان قاسى في ساعة واحدة من الأذى والخوف ما لا يقاسيه غيره في زمان طويل. الحكيم أبو سليمان محمد بن طاهر بن بهدام السجستاني مصنف كتاب صوان الحكمة، كان حكيماً له تصانيف كثيرة أكثرها في المعقولات، منها رسالة في انتصاص طرق الفضائل، ومنها رسالة في المحرك الأول. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 ومن كلماته قوله: الحسود لا يرجى الاستمتاع به، وكيف يرجى الاستمتاع (بمن) مضرته تنال القريب فضلاً عن الغريب. الفضيلة في ذوي الأخطار زينة العالم. لسان العلم أفصح من كل لسان. كفى بالعلم نفاسة أنه يفخر به من لا يعرفه، وكفى بالجهل ذلالة أنه يأنف منه من يعرفه من نفسه. الإنسان موزون بين كفتي النفس والطبيعة. الإصرار على الشر مع ذي الإقلاع عنه زيادة في الشر. كذبت حواسك الخمس إلا إذا شهد لدعواها العدل الرضا. احرص على أن تعمل جيداً لا على أن تقول جيداً. لا تنازع من فوقك، ولا تقل ما لا تعلم. استصغر الكبير في طلب المنفعة، واستعظم الصغير عند دفع المضرة. أعط من دونك ما تحب أن يعطيك من فوقك. النظر في أعمال الأخيار وسننهم جلاء العقول. لا تأس على ما فاتك أسى القنوط، ولا تفرح بما أتاك فرح أشر. الحكيم أبو حامد أحمد بن اسحق الأسفزاري الحكيم المتقي والفيلسوف المبرز، له تصانيف في الرياضيات والمعقولات، وكلامه في تصانيفه منقح لا غبار عليه، ولا يشوبه ضعف. ومن كلماته: أحق ما صبر عليه المرء ما ليس إلى تغييره سبيل. ما لا تحب أن تفعله لا تخطر ببالك ذكره. اختر الرمي بالحجارة بغير فائدة على التفوه بكلام باطل. العلم بالله يكون باللفظ اليسير، فاللفظ الكثير دليل على عدم العلم به. إذا أضمرت سوءاً في غيرك فأنت أقرب في الإساءة إلى نفسك وجعلت حياتك حياة رديئة. وقال: الصلاة الحسنة والعبادات علامة معرفة الله تعالى. المظلوم الذي لا يظلم مستجاب الدعوة. عسير على الإنسان أن يكون حراً وهو مطيع للعادة السيئة. لا تتكلم بما لا يعنيك، وتكلم بما يعنيك في وقته وموضعه. لا تبالغ بإفراط الهشاشة والبشاشة، فإن ذلك من السخف كما أن قلة الكلام من الكبر. الحكيم أبو الوفاء البوزجاني بلغ المحل الأعلى في الرياضيات، وكان حميد الأثر، وكفى بذلك شاهداً تصنيفه المعنون بالمنازل ثم زيجه ثم سائر تصانيفه وكان نقي الجيب من عثرات الدنيا قانعاً بما عنده ومن كلماته قوله: لا خير في الحياة إلا مع الصحة والأمن من سوء الأدب الاستخفاف بحق المؤدب لا تتحدث مع من يرى حديثك غنماً إلا عند الضرورة إن غلبك غيرك في الكلام فلا يغلبك أحد في السكوت إن كان السفيه عندك فخصه بترك المكافأة. لا تجالس أحداً بغير طريقته، فإنك إن لقيت الجاهل بالعلم، والماجن بالجد، فقد آذيت جليسك، وأنت مستغن عن إيذائه. الحكيم بطليموس التالي أبو علي بن الهيثم كان تلو بطلميوس في العلوم الرياضية والمعقولات، وتصانيفه (أكثر) من أن تحصى، وله في الأخلاق رسالة لطيفة ما سبقه بها أحد. وقد صنف كتاباً في الحيل، بين فيه حيلة إجراء نيل مصر عند نقصانه في المزارع، وحمل الكتاب وقصد قاهرة مصر فنزل في خان، فلما ألقى عصاه قيل له إن صاحب مصر الملقب بالحاكم على الباب يطلبك فخرج أبو علي ومعه كتابه. وكان أبو علي قصير القامة، وعلى باب الخان دكان فصعد أبو علي الدكان، ودفع الكتاب إلى صاحب مصر، وصاحب مصر راكب حماراً مصر ياً، مع آلات مفضضة. فلما نظر صاحب مصر في الكتاب قال له: أخطأت فإن مؤنة هذه الحيلة أكثر من منافع الزرع، وأمر بهدم الدكان ومضى، فخاف أبو علي على نفسه، وهرب حين جن الليل، وأقام بالشام عند أمير من أمرائها فاقبل عليه ذلك الأمير، وأجرى عليه أموالاً كثيرة، فقال له أبو علي: يكفيني قوت يوم، وتكفيني جارية وخادم: فما زاد على قوت إن أمسكته كنت خازنك، وإن أنفقته كنت قهرمانك ووكيلك، وإذا اشتغلت بهذين الأمرين فمن الذي يشتغل بأمري وعلمي. فما قبل بعد ذلك إلا نفقة احتاج إليها، ولباساً متوسطاً. وقد قصده من أمراء سمنان أمير يقال له سرخاب متعلماً، فقال له أبو علي: أطلب منك للتعليم أجرة، وهي مائة دينار في كل شهر، فبذل ذلك الأمير مطلوبه وما قصر فيه، وأقام عنده ثلاث سنين. فلما عزم الأمير على الانصراف قال له أبو علي: خذ أموالك بأسرها فلا حاجة لي إليها وأنت أجوج إليها مني عند عودك إلى مقر ملكك ومسقط رأسك، وإني قد جربتك بهذه الأجرة، فلما علمت أنه لا خطر ولا موقع للمال عندك في طلب العلم، بذلك مجهودي في تعليمك وإرشادك. واعلم ألا أجرة ولا رشوة ولا هدية في إقامة الخير ثم ودعه وانصرف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 وكان أبو علي بن الهيثم ورعاً متعبداً، معظماً لأوامر الشريعة، وكان يقول في بعض رسائله: تخيلنا أوضاعاً ملائمة للحركات السماوية فلو تخيلنا أوضاعاً أخرى غيرها ملائمة أيضاً لتلك الحركات لما كان لذلك التخيل مانع، لأنه لم يقم البرهان على أنه لا يمكن أن يكون سوى (هذه) الأوضاع أوضاع أخرى ملائمة مناسبة لهذه الحركات. وطول الكلام، وهذه الرسالة آخر تصانيفه. واتفق أن قد عرض له إسهال دموي، وكلما تناول شيئاً من القابضات مثل رب السفرجل وقرص التباشير وغير ذلك قاء فأيس من نفسه وقال: ضاعت الهندسة، وبطلت المعالجة وعلوم الطب، ولم يبق إلا تسليم النفس إلى خالقها وبارئها. ثم توجه تلقاء القبلة بعد ما قاسى الإسهال بأسبوع وقال: إليك المرجع والمصير يا رب، عليك توكلت وإليك أنبت. ومات. ومن كلماته قوله: إبذل لمعارفك (ودك) ، وللمستفيد علمك، واحرص عرضك ودينك. إذا وجدت كلاماً حسناً لغيرك فلا تنسبه إلى نفسك، واكتف باستفادتك منه، فإن الولد يلحق بأبيه، والكلام بصاحبه، وإن نسبت الكلام الحسن الذي لغيرك إلى نفسك فسينسب غيرك نقصانه ورذائله إليك. الإنسان مجبول على أن يتباعد ممن دنا منه، ويدنو ممن تباعد عنه موعظة الحكماء وإن قلت منفعتها عظيمة. الحكيم أبو سهل الكوهي كان في ابتداء أمره ممن يلعب في الأسواق بالقوارير، فأدركته عناية أزلية، فبرز في علم الحيل والأثقال والاكر المتحركة و (كان) في تلك الصنائع عديم المثيل مشاراً إليه. فتعلم الأدب على كبر سنه وصنف الكتب، واختلف إليه (لفيف) كبير من المستفيدين، وكان جميل الهيئة. ومن كلماته في رسالة له: إن اعتذر إليك معتذر فقابله بوجه طليق إلا أن يكون ممن قطيعته غنم. سلاحك على أعدائك أن تكون الحجة معك في كل أمر. وقال: من أراد السلامة فلا يظهرن حب السلامة من نفسه، حتى (لا) يجترئ عليه خصمه وعدوه. الحكيم أبو محمد العدلي العايني صاحب الزيج العدلي، وكان مهندساً كاملاً ولم يكن له في غير المعقولات نصيب، وكان أديباً ماهراً وله تصانيف منها الزيج العدلي، ومنها كتاب في المساحة، ومنها كتاب في الجبر والمقابلة. وهو قد هذب الزيج البتاني أحسن تهذيب. وكان مرجعه في ذلك التهذيب إلى الزيج الأرجاني ووجدت نسخاً كثيرة من الزيج الأرجاني بخطه ومن كلماته قوله في بعض كتبه: ليس الجصاص كالباني، ولا الباني كالمهندس، فالمهندس بطلميوس والباني هو البتاني، ومرتبتي مرتبة الجصاص وقال: قطع الكلام بعد افتتاحه سخف، والسخف دناءة. ابن أعلم الشريف البغدادي هو بغدادي المنشأ والمولد، وكان شريفاً من أولاد جعفر الطياروبه نزق. فصنف الزيج المنسوب إليه، واتفق المهندسون بأسرهم على أن تقويم المريخ من زبحه أصح وأقرب إلى التحقيق، ولكنه ألقى الزيج الذي له يوماً في الماء فلم يوجد منه إلا نسخة سقيمة، وكان عالماً بالهندسة وأجزائها، عارفاً بالقانون الفيثاغوري من الموسيقى. ومما نقل عنه، وإن كانت أخلاقه أخلاق المجانين قوله: كن إما مع الملوك مكرماً، وإما مع الزهاد متبتلاً. وأقول هذا كلام رصين، حوله من الحكمة حصن حصين، ولكنه رمية من غير رام. أبو الحسن كوشيار بن ليان بن باسهري (؟) الجبلي يروى لبان ويروى ليان بلغة الجبل الأسد. كان مهندساً ملء إهابه، داخلاً بيوت هذا الفن من أبوابه، وكفاه معرفاً زيجه المعنون بألغ، ثم زيجه المعنون بالجامع، ثم مجمله في علم النجوم ثم سائر تصانيفه كمثل معرفة الإصطرلاب وعمله وغير ذلك. وخالفه بعض المهندسين في تقويم المريخ فاستخرج جدولاً وسماه إصلاح تعديل المريخ. ومما نقل عنه قوله: إذا طلب رجلان أمراً واحداً ناله أسعدهما جداً من لم يعرف عيوبه لم يكن مشفقاً على نفسه. محمد بن أيوب الطبري صاحب الزيج وأمثلة الأعمال النجومية، وكان صاحب دولة وحظ ورأيت له رسالة إلى بعض أكابر الري فيها: المروءة والصبر يقويان الضعيف ويسهلان العسير ويثمران نيل المطلوب، ويخففان عن صاحبه ثقل كل مؤنة. أبو الصقر عبد العزيز بن عثمان القبيصي الهاشمي لم يصنف في النجوم أحسن وأتقن من مدخله، فهو في كتب النجوم مثل كتاب الحماسة بين الأشعار. ومن كلماته قوله: ثق بمودة من يكرمك لعلمك فإن علمك لا يزول عنك، والمال والجاه زائلان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 وقال: كن عالماً كجاهل وناطقاً كصامت. وقال: عظم في أعين الناس من صغرت الدنيا في عينه وله تصانيف في إثبات صناعة أحكام النجوم ونقض لرسالة عيسى ابن علي في إبطال أحكام النجوم. الحكيم الأديب أبو الفرج علي بن الحسين بن هندو كان أديباً فاضلاً حكيماً مقتبساً من فوائد الحكيم أبي الخير الحسن بن سوار. ولأبي الفرج كتاب كامل معنون بكتاب نموذج الحكمة، وكتاب آخر في فوائد علم الطب معنون بالمفتاح، والرسالة المشرقية، وكتاب النفس، ورسائل وديوان وكتب أخر. وذكر أبو الفرج في كتاب المفتاح أن متكلماً كان في جوارنا، وصنف كتاباً في إبطال علم الطب، وحث تلامذته على درسه، فعرض له صداع فبعث تفسرته إلى الحكيم أبي الخير، فقال الحكيم أبو الخير لرسوله قل له ضع تصنيفك في إبطال علم الطب تحت وسادتك، وضع عليها رأسك، فإنه لا حاجة لك إلى الطبيب والطب. فما عالجه واحد من الأطباء حتى اعترف ببطلان كلامه ومزق تصنيفه وتاب. ثم عالجناه وشفاه الله تبارك وتعالى. قال أبو الفرج قلت له يوماً: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: العلم علمان علم الأبدان وعلم الأديان، فقدم علم الأبدان لأن العبادات إنما تصدق ممن صح جسمه وثبت عقله. قال الله تعالى: ولا على المريض حرج. وقال تعالى: وإن كنتم مرضى أو على سفر. وقال تعالى: فمن كان منكم مريضاً أو به أذى من رأسه. ومعالجات النبي عليه السلام معروفة. وجمعها واحد من الأطباء وصنف منها كتاباً، فاستطرد المتكلم وقال كان واحد من المتكلمين في جوارنا وعرض له خناق فعدته، فقال لي: ما ينفعني من طريق الطب؟ فقلت له: ينفعك ماء الشعير الفاتر مع ماء الرمانين، ورب التوت، وخل الجوز، وماء الهندباء، مع فلوس الخيار شنبر، وفصد القيفال وغير ذلك. فقال: وما يضرني فقلت ما فيه حرارة. فقال: كيف يكون العسل المصفى والعصيدة التمرية؟ فقلت: تعوذ بالله، ففيهما هلاكك فقال لتلامذته: أنا أخالف رأي الأطباء عقيدة ومذهباً، ولا غفر الله لي إن خالفت عقيدتي وأطعت طبيباً، فقمت من عنده فتناول العسل والعصيدة ومات قبل غروب الشمس. أقول ولم أجد في شرف علم الطب وفوائده كتاباً مثل كتابه المعنون بالمفتاح وكان أبو الفرج من كتاب السيدة بالري وغيرها. ومن كلماته قوله: إنما المرء حيث يجعل نفسه. وقال: عظم العلم في ذاتك وصغر الدنيا في عينك، واخرج من سلطان شهواتك، وكن ضعيفاً عند الهزل، قوياً عند الجد، ولا تلم أحداً على فعل يمكن أن يتعذر منه، ولا ترفع شكايتك إلا إلى من يرى نفعه عندك، حتى تكون حكيماً كاملاً. العاقل لا يكلف نفسه ما لا تطيق ولا يسعى فيما لا يدرك، ولا ينظر فيما لا يعنيه، ولا ينفق إلا بقدر ما يستفيد، ولا يلتمس الجزاء إلا بقدر ما عند صاحبه من الاستطاعة. العالم الحكيم أبو سهل المسيحي كان حكيماً استولى عليه الطب، وتصانيفه في الطب كثيرة مفيدة. وقد ارتبطه خوارزمشاه مأمون بن محمد، ومولد أبي سهل في جرجان، وقد نشأ وتعلم ببغداد. وصنف كتاباً لطيفاً في التعبير لخزانة خوارزمشاه مأمون بن محمد. وكان أبو سهل نصراني الملة إلا أنه كان لا يحضر مع النصارى ويتعبد في منزله. ومن حكمه قوله: أكرم الناس من له حسب يعينه على الشرف ونجدة وجود تعينه على المكارم، وجدة نجدة تعينه على العز. وخير العاقل مرجو على كل حال، وشر الجاهل مخوف على كل حال. العاقل يعد نفسه فريداً من تخليط أهل زمانه. إنسان لا عقل له ولا علم كتمثال لا روح له. وقد صنف أبو سهل كتاباً في النفس ثم ترجمه فقال فيه: من لم يرض بما عنده من أسباب المعاش، لم يرض بإضافة مال غيره إلى ماله فإن غريزة الإنسان لا تشبع. وقال كيف أعدل عن حكم المسيح، والنار نازلة في كنيسة القيامة في المسجد الأقصى (وتدل) تلك النار أن الليلة التي رفع الله فيها عيسى إلى السماء ليلة النصف من نيسان وفي هذه الليلة كل سنة كانت تنزل نار من الأثير بحيث يراها الناس، وتشتعل قناديل القيامة من غير أن تكون كوة ولا فرجة في سقف ذلك البيت بل نغوص النار في السقف ومن غير أن يحرق الخشب. ثم توقد السرج والمشاعل، فإذا طلع الفجر انطفأت. وقد صنف أبو زكريا يحيى بن عدي تلميذ أبي نصر الفارابي كتاباً وبين الأمر الطبيعي في ذلك. أبو زكريا يحيى بن عدي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 كان حكيماً كاملاً وهو أفضل تلامذة أبي نصر، وله تصانيف كثيرة، وكان يشرح كتب أرسطو ويلخص تصانيف أبي نصر. ومن كلماته: العاقل مع خشونة العيش عند العقلاء، أسر منه مع لين العيش مع السفهاء. العاقل لا يغتر بالمرتقى السهل إذا كان المنحدر وعراً لم يعرف الحق من لم ينفصل من الباطل. الفيلسوف بهمن يار الحكيم كان تلميذ أبي علي، وكان مجوسي الملة، غير ماهر في كلام العرب وكان من بلاد آذربايجان. والمباحث التي لأبي علي أكثرها مسائل بهمن يار، تبحث عن غوامض المشكلات ومن تصانيف بهمن بار كتاب التحصيل، وكتاب الرتبة في المنطق وكتاب في الموسيقى ورسائل كثيرة. ومن حكمه قوله: المال محروس والعقل حارس العقل أنيس في الغربة. الصدق معشوق العقلاء. إذا أصابك هم فاقمع الحزن بالحزم، وفرغ العقل للحيلة وطلب الخلاص. اللذات العقلية شفاء لا يعقبه داء، وصحة لا يلزمها سقم من تعلم العلوم العقلية ولم يتخلق بأخلاق أربابها كان جاهلاً بحقائق العلوم. تظهر أخلاق الحكماء على من تعلم الحكمة، كما تظهر آثار الربيع على البستان. كل حكيم طلب زيادة على حاجته من المال فإنه علم الحكمة وليس له ذوقها. لا تحزن بسبب أمر قد يقع، واجتهد في إزالته ودفعه، واحذر مما لم يقع ولا تحزن، واعلم أنه لا بد من المقدور. ومات بهمن يار في شهور سنة ثمان وخمسين وأربعمائة بعد موت أبي علي بثلاثين سنة. الحكيم أبو منصور الحسين بن طاهر بن زيلة كان أصفهاني الأصل والمولد وهو من خواص تلامذة أبي علي ومن بطانته. و (قيل) انه كان مجوسي الملة، ولكن لم يتحقق لي ذلك. وكان عالماً بالرياضيات، وماهراً في صناعة الموسيقى أيضاً ومن تصانيفه الاختصار من طبيعيات الشفاء وشرح رسالة حي بن يقظان وقال: الحي عبارة عن النفس الكلية، واليقظان عبارة عن العقل، لأنه أشبه بالحي من النائم. وهو قابض على النفس، وهو إشارة إلى ترتيب الموجودات نازلة مسلسلة الترتيب. وله كتاب في النفس ورسائل أخر وكان قصير العمر مات في سنة أربعين وأربعمائة بعد موت أبي علي باثنتي عشرة سنة. ومن كلماته وأقاويله، وكان عارفاً بعلوم العرب، كاملاً في صناعة الإنشاء، قوله: لا تتفكر في الأمور المستقبلة فإنك لا تدري ما يأتيك منها وما لا يأتيك. إذا عادى بعض أعدائك بعضاً كان في اشتغال بعضهم ببعض شاغل عنك، وإذا تنازعت القوة الشهوانية والغضبية فرغت أنت من أذيتهما لذلك قال أرسطو: أصلح الشهوانية بالغضبية والغضبية بالشهوانية وإذا أصابك شر فقل ربما يكون أردأ منه ولعل الذي كرهت من (ذلك) الأمر داع إلى ما هو خير منه. الفقيه الحكيم أبو عبيد عبد الواحد الجوزجالي كان من خواص أبي علي، وأحلاس مجلسه، وندمائه وخدمه، وهو الذي أعان أبا علي على جمع كتاب الشفاء، وألحق بآخر النجاة والرسالة العلائية طرفاً من العلوم الرياضية، وفسر مشكلات القانون وشرح رسالة حي بن يقظان، وصنف بالفارسية كتاب الحيوان، ومنه نسخة في الخزانة النظامية بنيسابور. ولم يوجد في تلامذة أبي علي أقل بضاعة منه. وسمعت بعض أساتذتي أنه قال: الحكيم أبو عبيد كان في مجلس أبي علي شبه مريد لا شبه تلميذ مستفيد. ومن كلمات أبي عبيد قوله: ثلاثة أشياء القليل منها خير من الكثير: صحبة السلطان والنساء والمال. وقال: من الذي صحب السلطان فدامت له (منه) السلامة؟ وقال: معرفة الإنسان عجزه عن كمال معرفة الله تعالى غاية علم الإنسان، وتلك معرفة برهانية. الوجود خير، أي وجود كان، والخير مطلوب وقال: الإنسان (يعلم) أنه لا يبقى بالشخص بل بالنوع، وبقاؤه بالتوالد، فإذا هلك له ولد فهو يجزع على انقطاع بقاء شخصه، ويعلم أن شخصه لا يبقى، وإنما يبقى نوعه بالتوالد والتناسل، ولذلك قيل لا حزن أعظم من حزن هلاك الولد، لأنه متيقن بهلاك شخصه، ويتخيل بقاء جزء منه وهو الولد. الإنسان حريص على طلب ما يتعذر إدراكه ويعسر. أبو عبد الله المعصومي الحكيم قيل هو أحمد وقيل هو محمد بن أحمد. كان أفضل تلامذة أبي علي، وهو الذي صنف أبو علي باسمه كتابه في العشق وقال: سألت أسعدك الله يا أبا عبد الله الفقيه المعصومي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 ولما أجاب أبو علي عن أسئلة أبي الريحان اعترض على تلك الأجوبة أبو الريحان وتفوه بكلمات متضمنة سوء أدب وسفاهة فامتنع أبو علي عن مناظرته، فأجاب المعصومي عن اعتراضات أبي الريحان وقال: لو اخترت يا أبا الريحان لمخاطبة الحكيم ألفاظاً غير تلك الألفاظ لكان أليق بالعقل والعلم. وصنف المعصومي كتاباً في المفارقات، وأعداد العقول والأفلاك وترتيب المبدعات. وكانت في الخزانة النظامية بنيسابور منها نسخة فأخذها جمال الملك بن نظام الملك، ولا ندري أطارت بها العنقاء، أم أدركها الفناء. وكان هذا الكتاب معشوق كافة الحكماء، وكان أبو علي يقول للمعصومي: هو مني بمنزلة أرسطو من أفلاطن. ورأيت رسالة في عالمية الله تعالى إلى المعصومي، ولم يتحقق لي أنها له أو لغيره، والغالب على ظني أنها له، والله أعلم. ومن كلماته قوله: ليس لمتكبر مادح، ولا لغدار حبيب، ولا لملك ظالم استقامة ملك. السلطان والمتمول والشاب (سكارى) يدعوهم سكرهم إلى غير المنافع. العلماء إذا اجتمعوا طالع بعضهم بعضاً، وعرف بعضهم فضيلة بعض، والجهال لو اجتمعوا طول أعمارهم لما عرف بعضهم (جهالة) بعض، العجلة شجرة لا تجتني منها إلا ثمار الندامة، وطلعها يشبه رؤوس الشياطين. دأب الحكيم التروية في الجواب بعد استيعاب الفهم. ليس بإنسان من تكلم بغير روية سابقة. أبو الحسن الأنباري الحكيم كان حكيماً، والغالب عليه علم الهندسة، وكان الحكيم عمر الخيام يستفيد منه وهو يقرر له المجسطي، فقال بعض الفقهاء يوماً للأنباري ما تدرس؟ فقال أفسر آية من كتاب الله تعالى، فقال الفقيه: وما تلك الآية؟ فقال الأنباري قول الله تعالى أو لم يروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها، فأنا أفسر كيفية بنائها. ونقل عنه قوله: الساعي غاش وإن قال قول النصيح. إذا هممت بشر فسوف الصدق يقبله منك العدو، والكذب ترده عليك نفسك كن للهوينا عند النوازل تاركاً، وكن لأعدائك من الشهوانية والغضبية غلوباً وكن للصدق مؤثراً حتى يصدق فكرك ورؤياك، وتسلم من غوائل الكذب. الأديب الحكيم إسماعيل الهروي كان حكيماً أديباً فاضلاً (له) أشعار وتصانيف في الحكمة. وكان يدرس كتب أبي نصر، ولا يخوض في تصانيف أبي علي، وله تلامذة حكماء فضلاء يأتي ذكرهم. ونازعه يوماً خطيب هراة وقال: أنا أدعو عليك بين الخطبتين. فقال له الأديب: تيقنت أن الله تعالى لم يستجب دعاءك، لأنك تقول كل جمعة في مدة عمرك، اللهم أصلح الأمير فلان بن فلان، والله تعالى ما أصلحه، وما استجاب دعاءك فيه. ومن كلماته الحكمية: الموت هو الفطام الثاني إن أضعت عقلك فقد استخدمك عدوك الهوية تعرف حقيقتها بالحد، ويدرك ذوقها بتزكية النفس. الحكيم ميمون بن الجيب الواسطي كان طبيباً فاضلاً حكيماً، وسمعت أنه كان يحفظ المنطق والطبيعيات والإلهيات من كتاب الشفاء. وقلما يخالط أرباب الجاه والمال. وكان شرف الدين ظهير الملك علي بن حسن البيهقي (عامل) هراة مدة، ويشتاق إلى محاورة الحكيم ميمون، وميمون عزيز النفس قليل الإختلاف إلى أولياء السلطان، فإذا مرض الظهير، أو مرض واحد من أولاده، أنزل ظهير الملك الأتراك في دار ميمون، حتى أزعجوه وصيروه مضطراً إلى رفع الحال إلى العامل، فعند ذلك يرتبطه ظهير الملك حتى يعالج مرضه، ويجاوره ويجالسه مدة. ومن حكم ميمون قوله: إن نلت حاجة برأي خطأ فلا يشجعنك ذلك على معاودة الخطأ تارة (أخرى) العاقل من إذا نزل عليه بلاء لم يدهشه عن طلب الحيلة، وهذا هو الحزم، والعاجز هو الذي يدهش في البديهة ولا يعد لما لم يأت عدة. لا ينفع القول، وإن كان حكمة وصواباً، مع سوء الإستماع. وسمعت أن ميمون بن النجيب كان واسطي الأصل، خوزي المولد، مقيماً بهراة. الحكيم أبو الفتح كوشك كان حكيماً صاحب حكيماً (وهو) صاحب خاطر قوي، ورأيت كتبه في خزانة السلطان الأعظم سنجر، وكان السلطان مشغوفاً بكتبه، بسبب حسن اعتقاده فيه، وكان أبو الفتح عارفاً بأجزاء علوم الحكمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 وحكى لي والدي رحمه الله أنه كان بناحية بيهق علوي متكلم يقال له السيد عليك بن زيد الحسني البيهقي السلفي، وكان نيسابوري الأصل، وكان يحفظ ظواهر علم الكلام فحسب. فدخل يوماً على الحكيم أبي الفتح، والحكيم أبو الفتح يتخيل أنه من حذاق بيهق وفضلائها، فاستنطقه أبو الفتح فقرأ من طريق المطايبة ذلك العلوي فصلاً من ظواهر الكلام، وأعاده ثلاث مرات كما تكرر المسائل في المدارس، فعلم أبو الفتح قلة بضاعته ومرتبته فقال له: يا سيد بم عرفت أنك إنسان؟ فقال السيد: لم أقرأ ذلك في كتابي فضحك الحاضرون وخرج السيد (يقول) هذا الحكيم يسألني عن غوامض المخروطات، ويقول: بم عرفت أنك إنسان، وأنا متكلم لا علم لي بالمخروطات، فقال له (والدي) ولا بالمبسوطات يا سيد. ومن كلمات الحكيم قوله: يكتفي اللبيب بأدنى تفسير وتلويح. خير مفاتيح الأمور الصدق. أن تفعل ما لا تقول، خير من أن تقول ما لا تفعل، فإن فضل الفعل على القول مكرمة، ونقصان الفعل على القول عار. أبو سهل النيلي النيسابوري هو بكر بن عبد العزيز النيلي، كان حكيماً فاضلاً، الغالب عليه علم الطب، وقد شرح مسائل حنين في مجلدات مبسوطة، وكان نيسابوري المولد والمنشأ، عارفاً بأجزاء علوم المعقولات، ماهراً في المعالجات ومن أشعاره قوله: قد رضت باليأس نفسي ... فعل اللبيب الحكيم أقنعتها بكفاف ... وفيه كل النعيم فما يد لكريم ... عندي ولا للئيم وقوله: يا من تكلف إخفاء الهوى جلداً ... إن التكلف يأتي دونه الكلف وللمحب لسان من ضمائره ... بما يجن من الأهواء يعترف ومن كلماته قوله، الصدق دعامة العقل وقال: الصدق أمانة (و) لا خير في قول لا يصدقه فعل من لا يعرف من مبدإ المرض كيفية البحارين فليس بطبيب. الطبيب لا يكذب لأن الكذب خيانة، والطبيب عن الخيانة بمعزل. إبراهيم بن عدي الحكيم كان صنو يحيى بن عدي، وإبراهيم كان أخص خواص أبي نصر الفارابي، وملازماً له ومدون تصانيف أبي نصر. ولإبراهيم تصانيف كثيرة في النفس وسائر العلوم. وذكر في بعض تصانيفه: (أن) التقسيم هبوط والتحليل صعود. وقال: التقسيم (والتحليل خادمان للحد والبرهان فخدمة) التقسيم بكثير الوسائط، وخدمة التحليل بالإنتقاء، كما أن حد الإنسان يحلل إلى حيوان وناطق. وقال: كل محدود متصور وليس كل متصور محدوداً. الحكيم أبو الحسن علي بن أحمد الحسوني من قدماء الحكماء وله تصانيف كثيرة، ومن تصانيفه (توبة تادمة) فيها: القادر العالم البصير من أي جهة توهمته فهو واحد، من الربح والخسران بري، ومن كل ما تعرفه به غني، لايصدر ما يصدر عنه عن غرض ولا طبيعة، إذ هو عن الغرض في رتب رفيعة. ومنها: فيا أيها العظيم الجواد على التحقيق، ما أحسن ما هديت السبيل، ودللت على الطريق، فلو لم يكن جودك على هذا المثال والإحكام ما كان يليق بك يا ذا الجلال والإكرام. وقال: القلم الحقيقي عبارة عن العقل، واللوح عن النفس، والفلك الأطلس عن العرش، والفلك المكوكب عن الكرسي، والأفلاك السبعة عن السموات، والأقاليم السبعة عن الأرضين، وأعلى عليين العرش، وأسفل سافلين المركز. أبو عيسى بن يحيى بن علي المنجم له تصانيف (ومن تصانيفه كتاب) في إثبات نبوة نبينا محمد المصطفى عليه السلام من طريق البرهان المنطقي. ومن كلماته: لا يغررك إلا من لا يريد نصيحتك وقال: الحق أولى من العادة لا تعب ولا تهجن كلاماً لا برهان لك على تهجينه. لا يؤثر القليل الفاني على الكثير الباقي أبو سعد محمد بن محمد الغانمي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 صنف كتاباً وسماه (قراضة) الطبيعيات وله تصانيف أخر ومن كلماته في الحكمة قوله: اقنع بالقليل النافع الذي لايتبعه شر وسئل عماذا يحدث المخروط، فقال: عند أوقليدس يحدث من مثلث قائم الزاوية إذا أثبت أحد ضلعيه المحيطين بالزاوية القائمة، وأدير سطح المثلث إلى أن يرجع إلى الموضع الذي ابتدأ منه بالحركة، فإن سطح المثلث في دورانه يرسم جسماً مخروطاً وعند ايولونيوس يحدث عن دائرة في سطح ونقطة في أعلى من ذلك السطح يوصل بين النقطة وبين محيط الدائرة بخط مستقيم، ويدار الخط على محيط الدائرة والنقطة ثابتة، إلى أن يرجع الخط إلى النقطة من محيط الدائرة التي منه ابتدأ بالدوران. الحكيم أبو القاسم الحسين بن محمد بن المفضل الراغب (الأصفهاني) كان من حكماء الإسلام وهو الذي جمع بين الشريعة والحكمة في تصانيفه، وله تصانيف كثيرة منها غرة التنزيل ودرة التأويل وكتاب الذريعة، وكتاب كلمات الصحابة. وكان حظه من المعقولات أكثر. قال في مبدأ كتاب تفصيل النشأتين وتحصيل السعادتين من تصنيفه: الذين ينطقون ولكن عن الهوى ويتعلمون ولكن ما يضرهم ولا ينفعهم، ويعلمون ولكن ظاهراً من الحياة الدنيا، ويجادلون ولكن بالباطل ليدحضوا به الحق، ويحكمون ولكن حكم الجاهلية يبغون، ويدعون مع الله إلهاً آخر، وإن كانوا بالصور المحسوسة ناساً، فهم كما قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، أشباه الرجال ولا رجال. وقد عبر البحتري عن ذلك حيث قال: لم يبق من جل هذا الناس باقية ... ينالها الوهم إلا هذه الصور وقال: الإنسان مستصلح للدارين، ولكل شيء هداية إلى مصالحه بين العقل والشرع تاهر، ويفتقر أحدهما إلى الآخر. من لم يتحصن بالشرع وعبادة الله تعالى فليس بإنسان. الغرض من العبادة تطهير النفس واجتلاب صحتها للإنسان أمراض لا يمكن إزالتها إلا بالشرع الإنسان مفطور على إصلاح النفس، وقال: إن النظر في العواقب من خاصية الإنسان، والباري تعالى لم يخلق له هذه الخاصية إلا لأمر جعله له في العقبى، وإلا كان وجود هذه القوة فيه معطلاً. ولو لم يكن للإنسان عاقبة ينتهي إليها غير هذه الحياة الخسية المملوءة نصباً وحزناً، ولا يكون بعدها حال مغبوطة، لكان أخس الحيوانات أحسن حالاً منه، ولكانت هذه القوة فيه عبثاً، وقد نبهه الله تعالى على بطلان ذلك حيث قال: أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون. وأحكام بنية الإنسان ثم هدمها من غير معنى سوى ما يشاركه فيه البهائم مع ما يشوبه من التعب والهم الذي قد أعفى منه البهائم مضيعةً كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً تعالى الله عن ذلك. وقال النبي عليه السلام الدنيا دار ممر لا دار مقر، وقد خلقتم للأبد ولكنكم تنقلون من دار إلى دار حتى يستقر بكم القرار. الحكيم أبو القاسم عبد الرحمن بن علي بن أحمد بن أبي صادق، المتطبب (النيسابوري) نال في الحكمة وأجزائها مرتبة عظيمة، خصوصاً في الطب، وتصانيفه في شرح مسائل حنين وفصول بقراط علق مضنة الحكماء والأطباء، وكان حسن الشمائل، نيسابوري الأصل والميلاد، وهو الملقب ببقراط الثاني. وحكى لي من رآه أنه انتقل في آخر عمره إلى بعض متنزهات نيسابور، وهي قرية انبروذستانه، ولزم مكانه واختار الإنزواء، فدخلت يوماً عليه وبين يديه أطباق من الفواكه الصيفية، فقال لي الحكيم أبو القاسم: قم وطف في ذلك الباغ فإني (أرى) ألا فرق بين أطباق الفواكه التي بين يدي، فإن الفواكه تضرني فقنعت منها بالرائحة وتطيب الهواء، كما قنعت من اللخالخ بذلك، فكما أنك لا تشتهي تناول اللخالخ فكذلك أنا لا أشتهي تناول تلك الفواكه، وأرحت نفسي من تناولها ودفع مضارها، فإن المضرة ربما تنتهي إلى حد لا يدفع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 وكان حسن المعالجة فأصاب عميد خراسان محمد بن منصور قولنج أعيا دواؤه كل طبيب، فبعث إليه عميد خراسان مركوبه وغلمانه، وكلفه المصير إليه، والشمس في أول درجة من السرطان، وبين تلك القرية وبين نيسابور اثنا عشر فرسخاً، فلما هم الحكيم أبو القاسم بالمسير إلى نيسابور آذاه الحر. وسرعة الحركة، وجماح ذلك المركب والعطش، فقال لمن معه من تلامذته: نجا عميد خراسان وهلكت. وكان الأمر كما قال: فلما وافى نيسابور، وعالج عميد خراسان، وصح العميد، مرض أبو القاسم وسقطت قوته، وقد نيف على الثمانين، وقضى نحبه. وقيل إن السلطان بعث إليه خواصه ودعاه إلى خدمته فقال: القنوع بما عنده لا يصلح لخدمة السلطان، ومن أكره على الخدمة لا ينتفع بخدمته، كالبازي الذي يكره على الصيد. وبعث إليه سلطان غزنة وهو السلطان الكريم إبراهيم، مالاً عظيماً مع المحفة والمراكب، ودعاه إلى حضرته بلطائف فأجاب وقال: السلطان يطلبني لعلمي فأنفق علي ماله لأنفق عليه علمي، وهذا بيع وشراء والعلم لا يشرى ولا يباع، وما بي حاجة إلى قبول تلك الأموال، وإفاضة علمي على أهل بلدتي أولى، فأنا أدعو للسلطان بالخير، وأريح نفسي من رق المنة. ومن كلماته: الطبيب الحقيقي من عالج بالفضائل نفسه، ورأى مضرته في الرذائل، ثم يهبط بعد ذلك إلى معالجة الأجسام فمن لا يهبط من معالجة النفس إلى معالجة الجسد فهو أسفل السافلين. الأستاذ الحكيم المحقق أبو الحسن علي النسوى كان من حكماء الري، وله الزيج الذي يقال له الزيج الفاخر، وكان حكيماً مهندساً، ذا أخلاق رضية، وقد قرب عمره من مائة سنة وقواه سليمة، إلا أن الضعف منعه عن المشي في الأسواق. (فلزم بيته) وقيل إنه كان من جملة تلامذة كوشيار وأبي معشر، وفي ذلك نظر، إلا أنه كان من المعمرين. وحكى لي واحد من تلامذته بالري أنه قال: بالهمة العليا الصادقة ينال المرء مطلوبه لا بالكذب، وكان يقول لمن حضر للاستفادة: كن صاحب صناعة ولا تكن ذواقاً فإن الذواق لا يشبع. فرامزو بن علي بن فرامرز الملك العادل العالم عقد الدنيا والدين علاء الدولة الملك الري كان ملكاً عالماً رأيته بخراسان سنة ست عشرة وخمسمائة، وكان عرض على والدي تصنيفه الذي سماه مهجة التوحيد، وكان يذب عن رأي الحكيم أبي البركات بن ملكاً (ن) الطبيب البغدادي ويقرر قوله في مسألة العالمية، وكان ملكاً متخلقاً بأخلاق الحكماء، مستعداً للملك، قال يوماً للإمام عمر الخيام: ما تقول في اعتراضات الحكيم أبي البركات على كلام أبي علي؟ فقال له الإمام عمر: أبو البركات لم يفهم كلام أبي علي، وليست له رتبة الإدراك لكلامه، فكيف يكون له رتبة الإعتراض عليه، وإيراد الشكوك على كلامه. فقال له الملك علاء الدولة: أمن المستحيل أن يكون حدس أقوى من حدس أبي علي؟ أم من الممكن؟ فقال الإمام عمر: ليس من المستحيل. فقال له الملك علاء الدولة: ساواك عبد غيرك! أنت تقول ليس ليست له رتبة الإدراك والاعتراض (وغلامي الدواتي يقول له رتبة الإدراك والإعتراض) والزيادة تتكلم بما لا يزيد به كلامك على كلام مملوك، ولا تميل إلى سفاهة، غلامي أقدر عليها منك، فتشور الإمام عمر. فقال له الملك علاء الدولة: الحكيم يهجن كلام غيره بالبرهان، والجدلي السفيه بالوقيعة والبهتان، فاطلب أعلى الدرجتين، ولا تقنع بأخس الرذيلتين فقام الإمام عمر ملجماً بالسكوت. ومن كلمات الملك (علاء) الدولة في تصنيفه المسمى مهجة التوحيد من لا يكمل في صناعته التي تليق به فليس له أن يطلب صناعة أخرى، فإن رضي بالناقص والنقصان صار محجوباً عن نيل الكمال في جميع الأحوال. الدستور الفيلسوف عمر بن إبراهيم الخيام حجة الحق كان نيسابوري الميلاد والآباء والأجداد، وكان تلو أبي علي في أجزاء علوم الحكمة، إلا أنه كان سيء الخلق، ضيق العطن. وقد تأمل كتاباً بأصفهان سبع مرات وحفظه، وعاد إلى نيسابور وأملاه، فقوبل بنسخة الأصل فلم يوجد بينهما كثير تفاوت. وطالعه الجوزاء والشمس وعطارد على درجة الطالع في ح من الجوزاء وعطارد صميمي والمشتري من التثليث ناظر إليهما. وله ضنة بالتصنيف والتعليم، ولم يصنف إلا مختصراً في الطبيعيات ورسالة في الوجود ورسالة في الكون والتكليف وكان عالماً باللغة والفقه والتواريخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 وقيل دخل الإمام عمر يوماً على شهاب الإسلام الوزير، وهو عبد الرزاق بن الفقيه الأجل أبي القاسم عبد الله بن علي بن أخي النظام، وكان عنده إمام القراء أبو الحسن (ابن) الغزال، وكانا يتكلمان في اختلاف القراءة في آية فقال شهاب الإسلام: على الخبير سقطنا. فسئل الإمام عمر عن ذلك فذكر وجوه اختلاف القراء وعلل كل واحد وذكر الشواذ وعللها، وفضل وجهاً واحداً على سائر الوجوه، فقال إمام القراء أبو الحسن (ابن) الغزال: كثر الله في العلماء مثلك، اجعلني من أدمة أهلك وارض عني، فإني ما ظننت أن واحداً من القراء في الدنيا يحفظ ذلك ويعرفه فضلاً عن واحد من الحكماء. وأما أجزاء الحكمة من الرياضيات والمعقولات فكان ابن بجدتها. ودخل عليه يوماً حجة الإسلام محمد الغزالي وسأله عن تعيين جزء من أجزاء الفلك القطبية دون غيرها، مع أن الفلك متشابه لأجزاء وأنا قد ذكرت ذلك في كتابي " عرائس النفائس " من تصنيفي، فأطال الإمام عمر الكلام وابتدأ من أن الحركة من مقو (كذا) . وضن بالخوض في محل النزاع، وكان (هذا) من دأب ذلك الشيخ المطاع، حتى قام قائم الظهيرة وأذن المؤذن فقال الإمام الغزالي: " جاء الحق وزهق الباطل " وقام. ودخل الإمام عمر يوماً على السلطان الأعظم سنجر وهو صبي وقد أصابه الجدري، فخرج من عنده فقال له الوزير مجير الدولة: كيف رأيته، وبأي شيء عالجته. فقال له الإمام عمر: الصبي مخوف، ففهم ذلك خادم حبشي ورفع ذلك إلى السلطان. فلما بريء السلطان أضمر بسبب ذلك بغض الإمام عمر، وكان لا يحبه. وكان السلطان ملكشاه ينزله منزلة الندماء، والخاقان شمس الملوك ببخاري يعظمه غاية التعيم، ويجلس الإمام عمر معه على سريره. وحكى الإمام عمر يوماً لوالدي قال: إني كنت يوماً بين يدي السلطان ملكشاه فدخل عليه صبي من أولاد الأمراء، وأدى خدمة مرضية، فتعجبت من حسن خدمته على صغر سنه، فقال لي السلطان: لا تتعجب فإن فرخ الدجاجة إذا تبقأت بيضته يلتقط الحب بلا تعليم، ولكنه لا يهتدي إلى بيته سبيلا، وفرخ الحمامة لا يلتقط الحب إلا بتعليم الزق، ومع ذلك يصير حماماً هادياً يطير من مكة إلى بغداد، فتعجبت من كلام السلطان وقلت: كل كبير ملهم. وقد دخلت على الإمام في خدمة والدي رحمه الله في سنة سبع وخمسمائة فسألني عن بيت في الحماسة وهو: ولا يرعون أكناف الهوينا ... إذا حلوا ولا أرض الهدون فقلت الهوينا تصغير لا تكبير له كالثريا والحميا، والشاعر يشير إلى عز هؤلاء ومنعتهم، يعني لا يسفون، إذا حلوا مكاناً إلى التقصير، ولا إلى الأمر الحقير، بل يقصدون الأسد فالأسد من معالي الأمور. ثم سألني عن أنواع الخطوط القوسية فقلت أنواع الخطوط القوسية أربعة منها محيط دائرة ومنها قوس (نصف دائرة ومنها قوس أقل من نصف دائرة ومنها قوس) أعم من نصف دائرة فقال لوالدي: أعرفها من أخزم. وحكى لي ختنة الإمام محمد البغدادي أنه كان يتخلل بخلال من ذهب، وكان يتأمل الإلهيات من الشفاء، فلما وصل إلى فصل الواحد والكثير، وضع الخلال بين الورقتين وقال: أدع الأزكياء حتى أوصي فوصى، فقام وصلى، ولم يأكل ولم يشرب. فلما صلى العشاء الأخيرة سجد وكان يقول في سجوده، اللهم (إنك) تعلم أني عرفتك على مبلغ امكاني، فاغفر لي، فإن معرفتي إياك وسيلتي إليك. ومات. أبو المعالي عبد الله بن محمد الميانجي كان من تلامذة عمر الخيام وتلامذة الإمام أحمد الغزالي، وصنف كتاباً وسماه زبدة الحقائق وخلط فيه كلام الصوفية بكلام الحكماء فصلب بسبب عداوة كانت بينه وبين الوزير أبي القاسم الانساباذي. ومن كلماته قوله: من أدرك وجود الحي القيوم تبارك وتعالى لزمه شوق عظيم إليه وطلب تام لا تصوره عنه العبارة، والعقل أيضاً يلتذ بإدراك وجود الحق تعالى ولكن ليس هو من التذاذ بكماله وإدراك جلاله تعالى بل هو التذاذ به من حيث أنه معلوم كما يلتذ بسائر المعلومات. ولعمري أني لا أنكر التفاوت بين الإلتذاذين من حيث شرف أحد المعلومين، لكن التذاذ العقل بذلك كالتذاذ البصر بإدراك مشموم طيب من لونه وهيئته. وقال: كل ما في الوجود الممكن فإن، ولا بقاء إلا لحقيقة الحي القيوم، كما أن الصورة التي تتراءى في المرآة فانية الحقيقة، ولا بقاء إلا للصورة الخارجية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 وقال: إشراق الأرض بنور الشمس يستدعي نسبة مخصوصة بين الشمس والأرض، لو بطلت تلك النسبة لبطل استعدادها لقبول نور الشمس. والله تعالى كان موجوداً ولم يكن معه شيء إذا ليس لشيء مع وجوده رتبة المعية، ولكنه مع كل شيء بالتقدير والحفظ، ولولا معيته مع كل شيء لما بقي ممكن موجوداً، لذلك قال الله تعالى: وهو معكم. وقال: نعم المعين للطالب على تصفية الباطن، وتزكية النفس، مصاحبة أقوام ظهروا بواطنهم من رذائل الأخلاق، وهم أقوام لا يشقى جليسهم بهم وقال: هل رأيت قط دباغاً وكناساً يزاحمان الملوك. الفيلسوف أبو حاتم المظفر الاسفزاري كان حكيماً معاصراً للفيلسوف عمر الخيام، وبينهما مناظرات، ولكن المظفر عنه بعيد، والغالب على المظفر علوم الهيئة وعلم الأثقال والحيل، وكان حانياً رؤوفاً بالمستفيدين على خلاف طبيعة الخيام. وللمظفر تصانيف كثيرة في الرياضيات والآثار العلوية وغير ذلك وهو الذي عمل ميزان (ارشميد المقيا) س الذي يعرف به الغش والعيار. وصرف (من) عمره في ذلك مدة، فخاف خازن السلطان الأعظم، وهو خصي يقال له: سعادة الخادم ظهور خيانته في الخزانة بسبب هذا الميزان، فكسره وفتت أجزاءه، ولما سمع الحكيم المظفر (بهذا) مرض ومات أسفاً. ومن كلماته قوله: نسبة اللذة الجسمية إلى اللذة العقلية كنسبة المتنسم إلى المتطعم. وقال: المعلم أب روحاني والوالد أب بشري. وقال: علم المهندس سبب للبناء فالمهندس بعلمه هو الأصل ويتلوه الباني ثم الأجير، فيأمر المهندس الباني والباني الأجير، والأجير يتصرف في الماء والطين. يجب أن يكون الملك سخياً على نفسه وعلى رعيته. الأديب الفيلسوف أبو العباس اللوكري كان تلميذ بهمن يار، وبهمن يار تلميذ أبي علي. وعن الأديب أبي العباس انتشرت علوم الحكمة بخراسان. وكان عالماً بأجزاء علوم الحكمة دقيقها وجليلها، وكف بصره في شيخوخته، وكان من أرباب البيوتات بكورة مرو. وله تصانيف كثيرة منها بيان الحق بضمان الصدق، وقصيدة مع شرحها بالفارسية، ورسائل أخر وتعليقات ومختصرات وديوان شعر. وسمعت من أثق به أنه قال في آخر عمره: أنا يئست من زيادة في علمي ومعرفتي، فلا زيادة لي على ما حصلت، وصرت عاجزاً بسبب الضعف وعدم البصر، واشتقت إلى العقبى. كان يقول ذلك غير مرة، حتى ظهرت لتلامذته ومن حوله شدة شوقه إلى الدار الآخرة. فإتفق أنه تناول يوماً الرأس المشوي، ودعاه واحد من تلامذته إلى الحمام، فكان ذلك سبب مرض موته. وكان بعض تلامذته يعالجه وهو يقول: خلني وربي، فإن شفاني فله الأمر، وإن أماتني فله الحكم، فأنا لا أختار إلا ما إختاره الله تعالى. وله شعر متين ذكرته في وشاح دمية القصر. ومن حكمه: العلم يعلي الهمة، ويفيد المحاسن، ويبسط (اللسان) جنب كرامتك الأدنياء والسفلة، لا تنتفع بمشورة من لاتجربة له. نقل المسرور إلى غير سرورك أهون من نقل المهموم إلى غير همه قد أحسن إليك من لا يسيء الظن بك. الفيلسوف قطب الزمان محمد بن أبي طاهر الطبسي الروزي هو من تلامذة الأديب أبي العباس، وأبوه من حكام قرى مرو، وأمه خوارزمية، وكان حكيماً كاملاً في أجزاء علوم الحكمة، صاحب خاطر وقاد. ارتبطه الوزير نصير الدين محمود بن المظفر بن عبد العزيز بن أبي توبة ثم صار محروماً محتاجاً. ومن كلماته: الناس محبوسون في سجن يخرج منهم واحد بعد واحد بلا تعين ويهلك، فإذا أخرج واحد، والأخر لا يدري أن النوبة تنتهي إليه أو إلى غيره، كان من الغفلة إشتغاله بعمارة السجن. ومات هو بسرخس في شوال سنة تسع وثلاثين وخمسمائة بعد ما أصابه الفلج. وكانت خاتمه عمره على التوبة والأنابة وقال: أذنت تعزيتي، ولاذت نفسي بالموت. وصلى عليه الإمام الأجل محمد الزيادي بسرخس مع سائر الأئمة. أبو الفتح بن أبي سعيد الفندروجي الفيلسوف الأوحد كان حافد ناصح الدولة، ومن تلامذة قطب الزمان، وإنتهى في الحكمة إلى غاية لم ير واحد في تلك الأدوار مثله، وكان حسن الأخلاق والشمائل، وله تصانيف في الأثار العلوية وكتاب في تفاضل الحيوانات، وتزهد في آخر عمره واعتكف في مدرسة الإمام شيخ المشايخ يوسف الهمذاني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 ومن كلماته: اجعل نفسك كالمفارقة حتى لا تؤذيك مفارقتها وقال: الصبر على مقساة ما تكرهه أيسر وأهون من دفع ما تكرهه. وقال: من طلب لذة عقلية فليس له أن يطلب لذة حسية تمنعه عنها، كي لا يكون كمن باع الذهب بالخزف. محمد الأفضل عبد الرزاق التركي القاضي الفيلسوف كان من تلامذة الأديب أبي العباس، وكان ماهراً في صناعة الهندسة عالماً بالمعقولات، ولم يكن له خاطر وقاد، وكان لا يعدل عن ظواهر الكتب. وقد جرت بينه وبين الأمير السيد شرف الزمان محمد الإيلاقي مناظرات لم يتعرض فيها القاضي عبد الرزاق إلا لظواهر الكتب. وكان حافظاً لأكثر كتب أبي علي، عالماً بمطالب مصنفاته، لكن لم يتعمق في المعقولات مثلما تعمق فيها علماء دهره. وبيني وبينه مكاتبات مذكورة في كتاب عرائس النفائس من تصنيفي ومن حكمه قوله: إذا أردت أن تعرف مثالاً لترتيب الوجود فانظر إلى الخليفة ينصب السلطان، والسلطان ينصب الوزير، والوزير ينصب الأمير، والأمير ينصب الوالي، والوالي ينصب القاضي، والقاضي ينصب المزكي والعدول. فترفع الرعية المظالم إلى القاضي، والقاضي إلى الوالي، والوالي إلى الأمير، والأمير إلى الوزير، والوزير إلى السلطان، والسلطان إلى الخليفة الذي أثر خلافته مبين. وقال: السعادة الخيالية ألذ من لذة الملك، فكيف السعادة العقلية. وكان القاضي عبد الرزاق ببخاري يدرس في مسجد محلته الطب والحساب حتى توفي بها. وكان محترماً مكرماً. اشرف الزمان محمد الإيلاقي لسيد الإمام الفيلسوف اجتمعت فيه الفضائل بأسرها العلمية والعملية وله تصانيف كثيرة مثل كتاب (اللواحق) ومثل كتاب دوست نامه وكتاب سلطان نامه وكتاب في اعداد الوفق وكتاب الحيوان وغير ذلك. وله رتبة عالية في الإفادة والإنصاف والتمييز، وكان مباركاً حسن المعالجة، وكان مقيماً بباخرز ثم ارتبطه علاء الدين بن قماج ببلخ، وقتل في مصاف كورخان بقطوان. ومن كلماته: أنفس الحيوانات ساجدة للأنفس الإنسانية التي هي خلائف الأرض، وجازت على الصراط الأول، فإذا كملت بالعلوم فهو جوازها على الصراط الثاني. الانخداع في صغار الأمور من علو الهمة، والحرص على المحقرات من الفضائح. الفلسفة علم الكل، وصناعة الصناعات، كما قال أمير الأمراء والمتفلسف المتشبث بالمبادئ على حسب الطاقة. وقد اختلف شرف الزمان إلى الأمام عمر الخيام والي غيره. زين الدين عمر بن سهلان الساوي القاضي الإمام الفيلسوف سرد الشريعة والحكمة في نظام، وكان من ساوة فارتحل إلى نيسابور وتوطن بها وتعلم، وكان يأكل من كسب يده، ويرتفق بالنسخ ويبيع نسخة من كتاب الشفاء بخطه بمائة دينار. وحكى لي الأجل نجيب الدين أبو بكر الطبيب النيسابوري أن القاضي عمر قال له: طالعي الميزان، وكان يوماً من الأيام قران الرأس والزهرة على درجة طالعي فقلت أفوز في هذا اليوم بحظ جسيم. وكان قد أشكل علي شكل من المقالة العاشرة من أوقليدس فغلبني النوم فنمت، فرأيت في المنام شيخاً قيل إنه أوقليدس النجار فقلت له: أسألك عن شيْ فقال: سل، فسألته عن الشكل المشكل علي فقال لي: عد إلى شكل كذا حتى يتبين لك ذلك الشكل، فانتبهت وتوضأت وصليت، وتأملت هذا الشكل المرجوع إليه فتبين لي، وعلمت ما كنت أجهله. وللقاضي عمر تصانيف كثيرة منها البصائر النصيرية في المنطق، وكتاب آخر في الحساب، ورسائل متفرقة، وله تصانيف أخر أحرقت مع بيت كتبه بساوة بعد وفاته حداداً له. وكنت اختلف إليه فأراه بحراً مواجاً من العلوم، ومما كتبه إلى (من) رسالة له: كن (من) الزمرة المنسلخين عن جلدة النسب والألقاب، الواضعين عن أكتافهم أوزار الأعقاب، النافضين عن كواعلهم غبرة الدهور والأحقاب، فهذه عادة قد أفلح من زكاها، وقد خاب من دساها. وقال: (ليس) المحسن من توخى بالإحسان المحسن دون المسي. اتق من الشر اليسير فإن اليسير يدل على الكثير. لا تطمع فيما لا يكون، ولا تيأس مما يمكن أن يكون الخوف رمز ليس لأحد استقامة إلا به، فمن لم يخف الله خاف من كل واحد، ومن لم يخف عار الرذائل لم يكتسب الفضائل. الحكيم عبد الله الآرموي هو الطبيب ببغداد وكان حكيماً حلو الشمائل، حسن الآداب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 ومن حكمه قوله: يزيد في طيب الطعام مؤاكلة الكريم. الحاجة مع المحبة خير من الغنى مع العداوة. حفظ العلوم كإلقاء البذور والتفكر في معانيها كالسقي. الحكيم الجليل أبو الحسن الأبروي كان طبيب السلطان مسعود بن محمد بن ملكشاه، وكان طبيباً فاضلاً حكيماً استولى على (جمهرة) غرائب الحكمة. ومن كلماته قوله: من أكثر استماع الحكمة أوشك أن يتكلم بها. الكريم هو الذي لا تزيله عن غريزته نعمة ولا محنة. أبو علي الإخلاطي كان حكيماً حافظاً لأصول الحكمة، بارعاً فيها، شارحاً لمشكلاتها. ومن كلماته قوله: الإنصاف حكم عدل. يسيء الظن بالفقير من كان ظنه فيه قبل فقره حسناً اللئيم لا ينصح أحداُ إلا لحاجة أو خوف. الحكيم أبو سعد التبريزي مر ببيهق في الأيام الماضية فيع عهد والدي رحمه الله وكان متميزاً في الحكمة خصوصاً في المعقولات. ومن كلماته: إذا أحسنت ظنك بالأيام أهلكتك. الغني من لم يكن في قيد الحرص أسيراً من استطال على الإخوان لم يفز بصفاء مودتهم المسرور المبتهج بأن يمدح أحد كمادح نفسه من مدحك بما فيك، فأنت أعلم بما فيك من غيرك فلا تبتهج به، ومن مدحك بما ليس فيك فقد خدعك. إذا كثر فكرك في الأمور الدنيوية صار فكرك في العلوم عقيماً. الحكيم أبو سعيد الأرموي كان حكيماً قد امتطى غوارب الحكمة، متبحراً في الأدب، صاحب نظم ونثر، وله تصانيف منها كتاب في الآلهي، ورسالة في المنطق، وشرح المقالة الأولى والثانية من كتاب أوقليدس. وحكى لي من أثق به أنه كان يؤدب في دار فخر الملك أولاده، فاجتمع له تسعمائة دينار نيسابورية فقال: أن بلغ المال ألف دينار أنزويت وأقبلت على العلم، وأعرضت عن مخالطة أبناء الدنيا. فلما بلغ المال تسعمائة وتسعين دينارً مات ذلك الحكيم حتف أنفه، وكان ذلك المال رزق غيره. ومن كلمات ذلك الحكيم أنه قال يوماً لبخيل: لا تجتهد في إزالة يخلك بسبب أنفاقك، فإن مالك ينقص وبخلك لا يزول عنك، فإن التكلف لا يزيل العادة ولا الأمر الطبيعي. وقال: الزاهد ينسلخ من صورة الإنسانية ويستوحش من الناس. وقال: العفة وسط بين رذيلتين الشره والخمود. ورأيت بخطه: في السياسات الطرف الأشرف هو الرئيس من كل وجه، والطرف الأخس هو المرؤوس من كل وجه، والوسائط كل واحد منها رئيس من وجه ومرؤوس من وجه. الحكيم أبو الهيثم البوزجاني لم أر له أثراً في الحكمة سوى قصيدة له فارسية شرحها محمد بن سرح النيسابوري. ولأبي الهيثم ذكر في عوام الحكماء لم يبلغ إلي منه تصنيف ولا كلام يعرف بهما طرف من مرتبته في العلم. عبد أيشوع بن يوحنا المتطبب كان حكيماً كاملاً في الحكمة، والغالب عليه الطب. ومن حكمه قوله من لم يعرف نفسه فكيف يوثق به في علم من العلوم وقال: النفس علامة إذا أقبلت على العلوم، وعمالة إذا أقبلت على السياسات. وقال: في الألهيات الطرف الأعلى هو الحق تعالى، والطرف الأسفل هو الإنسان. وقال: المحاكاة ألذ من حقيقة الشيء. الحكيم الإمام أبو الحسن الأبريسمي كان إمام الجامع القديم بنيسابور، وكان كدوداً في تحصيل الحكمة، مستفيداً طول عمره، حافظاً للقرآن، عالماً بوجوه قراءته، وحمل معه محمداً ومحموداً ابنيه وقصد غزنة، فحسده حكماء غزنة، وقالوا للسلطان مسعود بن إبراهيم يجب أن يجعل هذا الفقيه قفي سلك القراء فكان يحضر صباح كل يوم دار السلطان لقراءة القرآن حتى قضى نحبه. وكتب من غزنة إلى بعض أصدقائه بنيسابور، لو قنعنا بما رزقنا الله تعالى بنيسابور لما قاسينا الغربة والحرمان، فإن من لم يقنع بما عنده لم يرزق إلا الحرمان. وابنه محمود كان طبيباً مقبولاً وعارفاً بالهندسة، وصال في دولة السلطان الأعظم من أحظى الحكماء والأطباء لديه، وأعزهم عليه. الحكيم علي بن محمد الجمازي القايني المقيم ببيهق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 كان طبيباً وقوراً فيه آداب الأطباء مجموعة، وله أخلاق جميلة، وكان عارفاً بظواهر المعقولات، وله رسائل في الطب والمعالجات، وقد صنف باسم السلطان الأعظم سنجر كتاباً في مفاخر الأتراك، وصنف باسم الملك العادل العلام خوارز مشاه أتسز بن محمد كتاباً في الحكمة، وعاش تسعين سنة، ومات في سنة ست وأربعين وخمسمائة، وكان من تلامذة الإمام عمر الخيامي. الحكيم الفريد أبو مضر محمود بن جرير الضبي الأصفهاني النحوي كان حكيماً متجملاً بالحكمة عارفاً بالهندسة. ارتبطه الوزير صدر الدين محمد بن فخر الملك، وكان ذلك الحكيم سخياً منفاقاً، صاحب أخلاق مرضية. وتوفي بمرو في السابع عشر من شوال سنة ثمان وخمسمائة ورثاه ذو الفضائل أحمد الأخيكني بقوله: أبا مضر من للعفاة إذا شتوا ... وما صابهم طل اصطناع ووابل أبا مضر من للوزير بمؤنس ... له شيم مرضية وشمائل وقال فيه أيضاً: أبو مضر أودي وأوصى بأنعم ... تكلمن عنه بعد إخفات صوته لقد دفنوا منه، سقى الله قبره، ... فتى عيش في معروفه بعد موته ومن كلماته: أن لم يصل مالك إلى المساكين، فلا تقطع عنهم رحمتك من لم يقنع لم يزده المال ثروة، بل يزيده فقراً. القليل مع العافية خير من الكثير مع القوارع. كمال السخاوة قطع الطمع عما في أيدي الناس مع بذل ما في يدك الإمام الأجل أسعد الميهني كان مدرس المدرسة النظامية ببغداد، ومحظوظاً في دار الخلافة وكلما حضر دار الخلافة خرج التوقيع الأسمى رفع إلينا حضور أسعد الميهني، وكان هو من تلامذة الأديب أبي العباس اللوكري ورأيت له رسالة إلى القاضي عمر الساوي فيها: أفضل الجود أن لا يضن بالحقوق على أهلها من منع ماله ممن يحمده ويشكر له أخذه من يذمه خذلان الأعوان عار ومواساتهم فضيلة الإمام محمد الشهرستاني له تصانيف كثيرة منها كتاب الملل والنحل ومنها كتاب العيون والأنهار، ومنها قصة موسى والخضر، ومنها كتاب المناهج والآيات وكان يهجن رأي أبي علي في كتاب المناهج والآيات وقرأ علي من هذا الكتاب فصولاً في منزل مرزتوان فقلت له: يجب أن نبحث كل فصل واعتراض، فلم يساعد الوقت، وأزف الرحيل. وتصانيفه تزيد على عشرين مجلدة وهو لا يسلك فيها سبيل الحكماء. ورأيت له مجلساً مكتوباً عقده بخوارزم فيه إشارة إلى أصول الحكمة فتعجبت منها. وقد جمعني وإياه الإمام أبو الحسن بن حمويه في مجلس وحضر المجلس الإمام أبو منصور العبادي وموفق الدين أحمد الليثي وشهاب الدين الواعظ الشنور كاني وغيرهم من الأفاضل، فقلت له حين ذكر أقسام التقدمات: هذا المنفصل حقيقي أم غير حقيقي؟ فإنك تقول المتقدم إما بالذات وإما بالوجود وإما بالطبع وإما بالمكان وإما بالزمان وإما بالشرف فقال: فرق بين التقدم بالذات والتقدم بالوجود، وأخذ يقرر ذلك تقريراً. وأنا أقول: أنت تجيب عن مطلب " ما " في غير مواضع النزاع، وتعرض عن مطلب " هل " المركب و " لم " في موضع النزاع، أنا لا أسألك ولا أقول ما الفرق بين المتقدم بالذات والمتقدم بالوجود، ولكني أقول لم قلت إن أجزاء الإنفصال في حصر التقدمات محصورة وهي منفصلة حقيقة، فطال التكرار، وانقطع بسبب التكرار الكلام. وكان يصنف تفسيراً ويؤول الآيات على قوانين الشريعة والحكمة وغيرها، فقلت له: هذا عدول عن الصواب، لا يفسر القرآن إلا بآثار السلف من الصحابة والتابعين، والحكمة بمعزل عن تفسير القرآن وتأويله، خصوصاً ما كتب تأويله، ولا يجمع بين الشريعة والحكمة أحسن مما جمعه الإمام الغزالي رحمه الله، فامتلأ من ذلك غضباً. وقدمات بشهرستان مسقط رأسه، في شهور سنة ثمان وأربعين وخمسمائة وكان مقرباً من سرير السلطان الأعظم سنجر (بن ملكشاه) وصاحب سره. ومن كلماته قوله: لا تعب إنساناً بما لا (يمكن) أن يعلم الصبر عما تحبه ويضرك أشد من الصبر على ما تكرهه. أملك نفسك في مواطن النوائب بالصبر. وقال: في العالم العلوي الشيخ أبهى من الشاب، والوالد أشب من الولد. من شرط المصنف أن يحترز عن الزيادة على ما يجب، والنقصان مما يجب، وتقديم مايجب تأخيره، وتأخير ما يجب تقديمه. الأنحاء التعاليمية: التقسيم والتحليل والتحديد والبرهان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 الحكيم أبو الحسن بن صاعد بن التلميذ الطبيب البغدادي حكى لي بعض أفاضل نيسابور وهو الإمام الحكيم الكامل أبو بكر بن عروة رحمه الله - وكان ذلك الإمام عالماً بالمذهب والخلاف، وعالماً بجميع أجزاء الحكمة، ورعاً متديناً، كاملاً في جميع ما يكمل به الإنسان في هذا الزمان، وقد مات باستراباذ عند انصرافه من بغداد في شهور سنة ثلاث وخمسين وخمسمائة - (قال) إني دخلت على ابن التلميذ يوماً فما عرف أني حصلت على بعض علوم الحكمة غير درسه، وأورد فيه من دقائق المنطق والطبيعيات ما عرفت به أن له وراء الطب غاية. وحكى لي نجيب الدين أبو بكر الطبيب النيسابوري أنه لما عرف السلطان الأعظم بضعف مزاجه أحضر ابن التلميذ مجلس السلطان وقال: أنا أزيل حماك وكتب نسخة حب فيها مثقال من السقمونيا ومثقال ونصف (من الزبد ومثقال من إيارج لو غاذياً ومثقال ونصف) من شحم الحنظل ومثقال من الزنجبيل ومثقال ونصف من أيارج فيقرأ ونصف مثقال من الريوند الصيني ومثقال من الجاوشير والسكبينج. فقال بديع الزمان الطبيب: السلطان يشرب شربة من الترنجبين مع فلوس الخيار شنبر ويجد منه الإسهال عشرين نوبة فلو تناول هذا الحب من يحبس طبيعته من الأطباء؟ فخاف السلطان من تناوله وبقيت النسخة في أيدي الأطباء بخراسان. وسمعت أن مرسوم ابن التلميذ ببغداد يزيد كل سنة على عشرين ألف دينار، وكان ينفق جميع ذلك على طلاب العلم والغرباء وغيرهم وكان نصراني الملة وتوفي في شهور سنة تسع وخمسين (وخمسمائة) ومن حكمه وحكاياته ما حكاه لي أبو الفتوح الطوسي النصراني قوله: العالم الذي هو غير معلم كمتمول بخيل. إن كان لك حظ من الدنيا أتاك مع ضعفك، وإن كان لك منها بلاء لم تدفعه عن نفسك بقوتك. ربما يأتي الخير من جهة الخوف، والشر من جهة الرجاء من اشتغل بأمر قبل زمانه فرغ منه في زمانه. ابن الحسن الطبيب البغدادي كان طبيباً (فاضلاً) كاملاً له تصانيف كثيرة وكان عبد الوهاب النيسابوري تلميذه، وهو ممن حمل تصانيفه إلى خراسان. ولابن الحسن محل معمور في معقولات الحكمة، وتصنيفه في التشريح والمغني في الطب يدلان على كماله في صنعته. ومن كلماته ما حدثني عنه الحكيم عبد الوهاب قوله: من اعتذر من غير ذنب أوجب الذنب على نفسه. التواني في المصالح ينتج الهلاك. أشقى العاجزين من جمع عجزاً إلى عجزه، وتمثل بقول الشاعر: وعاجز الرأي مضياع لفرصته ... حتى إذا فات أمر عاتب القدرا ما تكبر أحد إلا لنقصان يجده في ذاته الحياء شعبة من الهيبة إذا كان لك عند (امرىء يد) فالتمس احياءها بإماتتها الحكيم على المنادلي النيسابوري كان حكيماً حسن الرواء والبهجة، عالماً بدقائق علوم الحكمة، وجلس خلال ديار الهندسة والمعقولات وأتى على طريفها وتليدها. ورأيت له رسالة إلى الأمام الأوحد الرشيدي فيها: هذا زمان فقدنا فيه ما كان يوحشنا (فقده ووجدنا) فيه (ما يضرنا) وجوده نمرة العلم لوة، والنفقة فيها مستخلفة. الرأي الصائب أعم منفعة وأقل عند نازلة مضرة ونقصاناً. ما أصبت من الدنيا شيئاً إلا احتاج ذلك الشيء إلى شيء آخر، فصاحب الدنيا أبداً فقير محتاج. أبو المعالي مجد ود بن أبي نصر بن محمد الرشيدي النيسابوري الإمام الأوحد من أولاد هرون الرشيد الخليفة رحمه الله كان فاضلاً، كلامه في الأفهام، كالزلال عند الأوام، إذا خاض في الأدب فقل عرا الأدباء لكنة الارتاج، وإن تفوه بعلوم الحكمة انقطع غيره عن الحجاج، وحصر عن الجواب، وتعقد في الحطاب. وكان ملجأ الأفاضل وملاذهم في مدة عمره، ومات في الثالث من ربيع الأول سنة ثمان وثلاثين وخمسمائة. ومن حكمه ما كتبه إلي: لا شيء من لذات الدنيا إلا ويورث (حزنا) أذكر ما أنت صائر إليه حق ذكره. نحن في يوم من الغرور ولا نثق بغده. الزهادة في اللذات الناقصة مفتاح الرغبة (في السعادة الكبرى) (من الأخلاق) السيئة مغالبة الرجل على كلامه والإعتراض فيه. لا تصادقن شريراً فإن شره يتبعك وإن قطعته أصابك شره. الإمام الصاحب ابن محمد البخاري الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 فاضل اشتدت في علوم الإسلام عراه، وتأكدت في دقائق الحكمة قواه، ولكن دعواه تزيد زيادة غير محصورة على معناه، وله حفظ قويت وثائقه، وخاطر استحكمت قواعده. وله تصانيف اعتدل قوامها، وتوثقت عراها فلا يخاف انفصامها. وقلت فيه من قصيدة فيها: لقد صحب العلم الرصين وأهله ... لذلك سميناه في الناس صاحباً وقد ذكرت كمال فضائله في مسألة الوجود الذي تكلمنا فيه في كتابي المعنون بعرائس النفائس وله الي رسائل وفوائد منها استفدت، كأني عاينت فيها عين الحياة ووردت. ومن الفوائد التي جرت بيننا وكتبتها إليه: الحشد حزن على حسن حال يكون للمستحق والمنافسة حزن على حسن حال يكون لغير المستحق، وهي (اي المنافسة) لكبار الهمم والفضيلة قوة جذابة للخير، والكرم بذل المال الكثير بسهولة من النفس، والسخاء فضيلة يكون المرء بها نبيلاً بالتوسع في المال والبخل ضدها، والمروءة فضيلة يكون المرء نبيلاً بالتوسع في المال والبخل ضدها والمروءة فضيلة يكون المرء بها نبيلاً بالتوسع في الطعام: والنذالة ضدها، وكذا الهمة فضيلة يكون المرء بها فعالاً لمحامد الأمور، والسفالة ضدها، والشهامة فضيلة يكون المرء بها حسن الروية في الأمور، والبلاهة ضدها، والحلم فضيلة يكون المرء بها غير منفعل من المغضبات، والسفاهة ضدها. فأجاب بما يليق بفضله. وكتبت إليه في فصل منه: الرياسة تنقسم إلى رياسة بحسب العلم والعمل، وهي أشرف الرياسات، وإلى رياسة بحسب الإجماع، وإلى رياسة بحسب الغنى، وإلى رياسة بحسب الكرامة، وإلى رياسة بسبب التغلب، والقسم الأول أشرف الرياسات، وهي أن تكون رياسة العلماء لا علمهم، ورياسة الجند لا شجعهم، ورياسة كل صنعة لمن هو أعرف بتلك الصنعة، فيكون رئيس أهل العصر بالرياستين رياسة الصورة ورياسة المعنى، والرياسة التغلبية أخص الرياسات. فهذه بسائط الرياسة وقد تتركب من بسائط الرياسة رياسة كما في زماننا. وسألته يوماً عن خلق رجل كان حاضراً فقال فيه ما قال، ثم أتبع كلامه فصلاً لطيفاً فيه: خلق الصبي أن يكون متقلب العزيمة، مفرطاً غضوباً لجوجا، محباً للجمال دون النافع، وينخدع بسرعة ولا يعتد بصداقته وعداوته على طباع الزهرة، والشيخ بضده، والشاب متوسط في جميع الأمور، وخلق القوي قوة العزم على الأمر، وخلق النسب التشبه بالآباء، وخلق الغباء الشتم وبذاءة اللسان، والظن بكل أحد أنه يحسده ومتقادم العهد أنبل، وجديد العهد أسوأ أدباً. الحكيم ظهير الحق محمد بن مسعود الأديب الغزنوي صنف كتاباً وسماه إحياء الحق، وسلك فيه طريقاً غير طريق أرسطو وأبي علي، واستشهد فيه بمسائل استخرجها، وبعث هذا الكتاب إلى السيد أشرف الغزنوي. وكان ذلك الحكيم أديباً فاضلاً مهندساً طبيباً، تتخيل لنفسه رتبة الإعتراض على المتقدمين، والإستعداد (لمناقشتهم) . وأما كلامه في إحياء الحق من تصنيفه فكلام من تأمله عرف فيه رتبته. وكتب إلى السيد أشرف تلميذه فصلاً فيه: يجب أن يعرف الخطيب في المنافرات الفرق بين المدح والتملق، وفي المشاجرات الفرق بين الظالم والمظلوم. واعلم إن الظلم إنما يصدر عن المتهتك المعروف بالجور، والمظلوم هو الوحيد (؟) المسكين والضعيف، وشكل المشاجر في شكل السبع، وشكل الشاكي كالباكي، والخطيب بقدر على تعظيم الذنب وتحقيره، بأن يقول هو أول من فعل، وماأكبر مافعل، وفعل في وقت له حرمة، وفي مكان له حرمة، ويقول للفاسق أنه لطيف، لذيذ العشرة، وللجبان وادع، ولعديم الحس والتميز عفيف، وللعيي حليم، وربمايذكر علته فيقول: الحسد لازم للعلماء، فأنا لخوف الحسد وشره أحكم بترك العلم. أبو البركات بن ملكان الطبيب الفيلسوف أوحد الزمان فيلسوف العراقين وممن ادعى أنه نال رتبة أرسطو، وكان له خاطر وقاد، وله تصانيف كثيرة مثل كتاب المعتبر وكتاب النفس والتفسير وغير ذلك، وعاش تسعين سنة شمسية وأصابه الجذام فعالج نفسه فصح، وعمي فبقي أعمى مدة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 وقد اتهمه السلطان محمد بن ملكشاه بسوء علاجه، وسوء تدبيره، فحبسه مدة. وفي شهور سنة سبع وأربعين وخمسمائة أصاب السلطان مسعود بن محمد بن ملكشاه قولنج بعد ما افترسه أسد، فحمل من بغداد إلى همذان أبا البركات. فلما يئس الناس من حياة السلطان خاف أبو البركات على نفسه، ومات ضحوة، ومات السلطان بعد العصر، وحمل تابوت أبي البركات إلى بغداد مع الحجاج. ولما أخذ أبو البركات في مصاف المسترشد بالله والسلطان مسعود وقرب حينه أسلم في الحال وكان من قبل يهودياً فنجا من القتل، وخلع عليه السلطان وحسن إسلامه ومن كلمات (الحكيم) أبي البركات: الخطيب هو الذي تصدر عنه الخطابة، ومن شرطه أن يكون متنسكاً متعففاً فصيحاً بليغاً، يقدر على استمالة السامعين واستدراجهم، ويعرف أخلاق الناس، ويكلمهم على قدر عقولهم، ويكون قوي العزم على الأمر، لا ينفعل من المغضبات، والمخطوب هو السامع، وقد يكون خصماً، وقد يكون نظاراً، والمخطوب به الضمير والتمثيل، والمخطوب فيه المشوريات والمنافريات والمشاجريات فيجب أن يعرف الخطيب في المشوريات الخير من الشر وخير الخيرين وشر الشرين، والخير الحقيقي أربعة: العفة والشجاعة والحكمة والعدالة. وسعادة الدنيا لطف الحواس، وجودة المشورة في الآراء، والبراءة من الخطأ والزلل، والإسجاح في الطلب وكرم الأصل، وإن يكون له أولاد ذكور، وإناث حسان عفيفات، ويكون له إخوان يساعدونه على ما يهواه، ويكون له الغنى والتجمل والثروة، وهو في الاستمتاع لا في القنية. وإن شئت جمعت هذا الكلام في المقولات، أما في " الجوهر " فإن يكون كريم الأصل، وفي " الكم " أن يكون جزل العطاء، وفي الكيف أن يكون له اليسار والإقتدار، وفي الإضافة الرياسة، وفي الأين المكان الأنيق المبهج، وفي متى الوقت الطيب وفي الموضع الهيئة الحسنة وفي الفعل نفاذ الأمر وفي الانفعال السماع الطيب. ولا أدري إن كان هذا الكلام له أم لغيره الفيلسوف بهاء الدين أبو محمد الخرقي كان من حكماء مرو، وله تصانيف في علم الهيئة والمعقولات، وحمله الملك العالم العادل خوارز مشاه إلى خوارزم للإستفادة منه، وله تصانيف أيضاً في التاريخ. وكان حسن الأخلاق. ومما رأيت من فوائده ما كتبه إلى بعض تلامذته أن الرياضيات تسمى التعاليم الأربعة، وإنما كانت أربعة لأن موضوعها الكمية وهي إما أن تكون متصلة أو منفصلة، والمتصلة متحركة أو غير متحركة والمتحركة هي الهيئة وغير المتحركة هي الهندسة، والمنفصلة إما أن تكون لها نسبة تأليفية وهي الموسيقى، أو لا تكون وهي الأعداد. وقال: كمال النفس إدراك المعقولات، وجمال النفس الهندسة والهيئة والعدد والموسيقى والهندسة صقال النفس المهذبة كصقال السيف وصداؤها تتناول اللذات الحيوانية. الإمام أحمد بن حامد النيسابوري كان ممن رسا طوده في الرياضيات، وقد رأيته في آخر عمره واستفدت منه، فقيل له لم لا تشتغل بالأعمال النجومية فقال: ما أحتاج إليه من تحويلي وتسيير طالعي يكفيني غيري مؤنته بدراهم معدودة، وما لا يحتاج إليه أو يحتاج إليه غيري يكفيني مهمه بعض التلاميذ، وهل يضر الطبيب أن يركب غيره أدويته وعقاقيره؟ وقال: خير العمل ما مصدره عن نية فاض بالعلم نميرها. من سلمت من الرذائل نفسه، فقد أفل نحسه. وله بيت قديم في الإمامة، وتقدم الأصحاب. عين الزمان الحسن القطان المروزي كان من تلامذة الأديب أبي العباس اللوكري، وكان طبيباً حكيماً مهندساً أديباً، له طبع في الشعر، وله تصانيف منها " كيهان سياحت " في الهيئة وكتاب في العروض وكتاب الدوحة في الأنساب ورسائل في الطب، وأكثر معالجاته يؤول إلى تقليل الطعام وتلطيفه، وربما ينهى المريض عن الدواء الغذائي فضلاً عن الغذاء. ومن فوائده: أم الفضائل النفسانية الحكمة، وظئرها المزاج المعتدل، وأبوها الإستعداد الكامل، وابنها السعادة العظظمى. وقال: الرياء أخس الأعمال، والإحتمال أزكى السير. الإمام الفريد عمر بن غيلان البلخي أفضل حكماء الحضرة، وله محصول من الحكمة كامل. وكأن الحكمة عنده عاذت بحقوة مستحقها. ورأيته يوماً مشتكياً من واحد من الأفاضل. فقال: إن الشرير لا يميز بين من يهرب من شره وبين من يقابل شره بشره. الأجل الأعز بهاء الدين محمد بن محمود الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 بن يوسف ابن أخي البديع طبيب مبارك أعلى ذكره السلطان الأعظم سنجر، وفاز منه بقربه وكرامته وخلعته. وكان مقدم الأطباء، عالج السلطان مراراً بعد ما اشتدت علته، وضعفت قوته. وله شأن عجيب في المعالجة، وتجربة لطيفة وكان من أحسن الناس وجهاً. نجيب الدين أبو بكر الطبيب النيسابوري تمسك بحبال الأخلاق الجميلة، وحط رحاله بمربع الفضيلة. وقال الأجل عزيز الدين أفضل الممالك أبو الفتوح علي بن فضل الله الطغرائي: كل مريض مر هذا الفاضل على باب داره فضلاً عن معالجته فقد فاز بالشفاء. وقال الحكيم أبو الخير في كتاب امتحان الأطباء: إنه يجب أن يكون الطبيب حسن القد، صحيح الأعضاء، متناسبة في مقاديرها حسنة في شكلها، قوية في وضعها، معتدل المزاج، ناعم الكف، وإن تكون الفرج بين أصابعه واسعة، ولونه مائلاً إلى البياض، مشرب الحمرة، معتدل الشعر في الكثرة والقلة والسباطة والجعودة، أشهل العينين، يخالط نظره دائماً سرور وفرح، وفيه بشاشة وطلاقة. فأما في نفسه فإن يكون ذكياً ذكوراً، جيد التصور، قوي الحدس والتخمين صبوراً على التعب والنصب في درك الحق من الأمور، كتوماً متحملاً ما يسمعه من المرضى. وهذه الأوصاف موجودة في الأعز بهاء الدين ونجيب الدين أبي بكر أبقاهما الله تعالى. الحكيم ناصر الهرمزدي الماسوراباذي كان سليل الأكاسرة، عالماً بأجزاء علوم الحكمة جليلها ودقيقها، مع طبع وقاد في الشعر العربي والفارسي. وذكرت طرفاً من اشعاره في كتابي المعنون بوشاح دمية القصر. وقد اختلف مدة إلي، ثم إلى قطب الزمان، ومات حتف أنفه في داره بنيسابور. وقد دعاه ملك الوزراء طاهر بن فخر الملك إلى مرو للإرتباط بالحضرة. فرأيته في منامي بعد موته وهو يقول لي: أنا في عقوبة شديدة، بسبب رغبتي في المقام بالحضرة، وما كان لي بسوى هذه الرغبة التفات إلى الدنيا. ومن كلماته: تتغير الدار ولا يتغير مالك الدارين. وقال: الشرير يباهي بالشر، والخير يستحي من الخير، فما أبعد أحدهما عن الآخر. الإمام محمد الحارثان السرخسي طاف وساح، ومسح أكثر الأقاليم بإقدامه طلباً للحكمة البالغة، وكان في الأدب تلو الجوهري وابن فارس. وقد جرى بيني وبينه كلام في أنه يجب أن يتقدم على التصديق تصوران أو ثلاث تصورات، وقد ذكرت ذلك في كتاب (شرح) النجاة من تصنيفي. ومن فوائده: الملك الحق القيوم أول فكر العارفين وآخره لاسفر أحسن من سفر العقل في الملكوت الأعلى من انطبع في فص خاتم استعداده نقوش الحقائق فقد ذاق اللذة القصوى. الفيلسوف محمود الخوارزمي كان والده وزير أتسز وهو تركي استولى على خوارزم. وكان محمود أديباً فاضلاً كاملاً، استفاد من الحكيم أبي البركات، ورأيته بمرو في شهور سنة تسع عشرة وخمسمائة، (وقد) استولى عليه نوع من السويداء فذبح في ليلة من ليالي الشتاء شخصه بسكين القلم. ومن فوائده قبل جنونه قوله: إذا استرشد البصير بعين المكفوف ضل وهلك. وقال: من أراد من الوهم مطابقته للعقل في جميع الأحوال كان كسميع استخبر من أصم أو سميع أراد أن يسمع الأصم جميع ما يقوله السميع. للإبصار غشاوة، وللقلوب قساوة، جلاؤهما رفعهما بالأخلاق الجميلة الحكمة طعام أغذى وأمرأ على الشبع. الحكيم أبو الفتح عبد الرحمن الخازن كان غلاماً محبوباً رومياً لعلي الخازن المروزي، وحصل علوم الهندسة وكمل فيها، والمعقولات ما وافقت طبعه مع جهده في تحصيلها، وهو الذي صنف الزيج المعنون بالمعتبر السنجري وجميع ما فيه من الأوساط والتعديلات، فيه بحث في تقويم عطارد خصوصاً في حال رجوعه فإنه موفق الروية والإمتحان (كذا) وكان نقي الجيب عن الأطماع الخسيسة، بعث السلطان الأعظم سنجر إليه ألف دينار على يد الأمير الإمام شافع الطبيب فرده وقال: لا أحتاج إليها، وبقي لي عشرة دنانير، ويكفيني كل سنة ثلاثة دنانير، وليس معي في تلك الدار إلا سنور. وكان عبد الرحمن يأكل اللحم في كل أسبوع ثلاث مرات ويتغذى كل يوم بجردقين. وبعثت إليه زوجة الأمير لاحي آخور بك الكبير ألف دينار فردها أيضاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 وكان يلبس لباس الزهاد ولا يأكل إلا طعام الأبرار، والحكيم الحسين السمرقندي من جملة تلامذته. وله كتاب في ميزان الحكمة، وهذا الميزان منسوب إلى أرشميدس. وعرض عليه طالع من استخراجي فكتب عليه: أما الحساب فقد حفظا أجزاءه بالموازين، وأما الأعمال فقد ألف بينها وبين المؤتمرات، وأما الأحكام فقد جمع فيها بين المنقول والمسموع والمطبوع، والله تعالى يطرف عنه عين الكمال. ومن سعادة هذا الطالع أن مستخرجه كامل في تلك الصناعة متصف (بها) والسلام. الفيلسوف محمد بن أحمد المعموري البيهقي كان تلو بني موسى في الرياضيات، وكان بيهقي الأصل والمولد، وصنف كتاباً في دقائق المخروطات ما سبقه به أحد، وكان بين كتب قطب الزمان منه أصل، والأعمال التي تتعلق بالحيل والأثقال وغير ذلك تساعده مساعدة عظيمة. والإمام عمر الخيامي يعترف بتبريزه ومتانته في تلك العلوم. واتفق أنه ارتحل إلى أصفهان بسبب الرصد الذي أمره (بعمله) ملكشاه فبقي فيها إلى أيام السلطان محمد. ولما اتفق إحراق أصحاب الجبال والقلاع من الباطنية، وأقبل السلطان محمد على ذلك رأي المعموري تسيير درجة طالعه التي هي الهيلاج متصلة بجرم نحس وشعاع نحس، فخاف ذلك الإتصال، فخرج من دار السلطان، وكان فيها محترماً مكفي المؤنة، ودخل دار صديق له وانزوى في زاوية بيته، فلما أخذوا باطنياً، وجروه إلى موضع الإحراق، علت النسوان والصبيان السطوح للنظر إليه، فعثرت امرأة على سطح ذلك البيت الذي فيه المعموري، فغضبت المرأة وصاحت، وقالت: معاشر الناس، في هذا البيت قرمطي، فدخلوا الدار وأخذوه وقتلوه، فلما أخرجوه مقتولاً عرفه أولياء السلطان فلاموا الفاغة، وما نفع اللوم، ولا الحذر من القضاء المحتوم، ولا تأخير الأجل المسمى، ولا مفر من العواقب. ومن كلماته: القدر من سر الله الأعظم كل ما يصلح جانباً ويفسد جانباً آخر فليس بحسن كل ما يزيد في العلم ينقص من الجهل وقال: الغاية إما ناموسية وإما طبيعية وإما صناعية وإما اتفاقية، فالناموسية هي التي تبلغ إليها بالرأي الثاقب، والطبيعية ما تبلغ إليها الطبيعة في زمان، والصناعية هي مقصود الصناعة كالكن للبيت، والغاية التي هي بالبخت والإتفاق هي التي يصادفها الإنسان من غير قصد وقال: لكل علم موضوع ومبادئ ومسائل، فالموضوع هو المنظور فيه، والمبادئ المبرهن عنها، والمسائل مبرهن عليها الإمام أبو زيد النوقاني كان عالماً بالعلوم الرياضية والمعقولات، وله تصانيف كثيرة في المساحة والحساب، ورسائل في المعقولات. ومن فوائده: اتخذ الحق بدلاً من كل شيء. من اطلع على الأربعين تعروه كل سنة علة جديدة، ومن بلغ الخمسين ففي كل شهر، ومن بلغ الستين ففي كل يوم، ومن يلغ السبعين ففي كل ساعة. السلطان كالسوق يحمل إليها ما زكا فيها، إما الخير وإما الشر. الحكيم الأديب عبد الواحد القايني المقيم بالري ارتبطه الملك استندار بناحية كجو وكلار. وله رسائل لطيفة وجدت فيها قوله، ولا أدري ممن اقتبس أنوار ذلك الكلام: الفيلسوف هو الذي يقتني الحكمة على التهذيب. الكامل هو الذي يقدر على إفاضة الخير على غيره، والمعلم مفيض الفضائل النظرية، والمؤدب موجد الفضائل الخلقية، والطبيعة آفة للنفس والنفس آفة للعقل. " الإمام الأمير الأجل الأعز، رشيد الدولة والدين، سعد الإسلام والمسلمين، ذو المناقب والمكارم، عزيز الملوك والسلاطين، مصلح الممالك صاحب البيانين، افتخار خوارزم وخراسان، سلطان الندماء والأفاضل، ملك الكتاب، أمير أمراء الكلام أبو المفاخر " محمد بن محمد بن عبد الجليل العمري الكاتب البخاري الخوارزمشاهي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 قد اعتلى مناكب المناقب، وامتطى غوارب المراتب، وحاز قصب السبق في اكتساب الشرف، وأصبح ابن بجدة العلوم، وكسدت بنتائج خواطره أسواق (الأدب) وصارت رسائله هدايا الوفود يسير بها ركب بعد ركب، وفرائد فوائده كالغيث المدرار نهل سكباً على سكب، وهو ما قنع من حقائق العلوم بمقذوذين من بري الفريخ، وما فضل مشهد الغلام على رأي الشيخ وشعب الفضائل بمكانه ملتئم، وسواه خال عقم، نعم ولولا أن عهدي بالنضال قديم، وأنا بأكناف عسيب لا بأكناف الحجاز مقيم ومن غير نظر في النجوم سقيم، لما أكربت العشاء إلى سهيل، ولهربت من دياري إلى جنابه هرب عديل. ولو كان الليل طويلاً وكنت مقمراً لقصدت قبلة إقباله حاجاً ومعتمراً، وحصلت غايات المنى، فإن مناخ الركب منى وهو بحمد الله صدر أفاضل خوارزم وخراسان، وبين صناديد الأفاضل كآل جفنة بين آل غسان، يقرأ الأماثل من صحائف لطائفه سور الكرم، ويعين الأفاضل في وذائل فضائله صور الحكم، والأرض مع سهولها ووعورها لمن قصد حضرته ذلول، وبسبب عوارفه دنا من داره الحزن ممن داره صول. وقد ذكرت طرفاً من حكمه وفوائده في المجلد الرابع من كتاب مشارب التجارب وغرائب الغرائب في التاريخ. الإمام ظهير الدين عبد الجليل بن عبد الجبار الإمام المفتي أبوه وعمه إمامان من فحول الأئمة، وقد زجى في تحصيل أجزاء الحكمة عمره، وساعدته العلوم الرياضية مساعدة جميلة، مع أنه فاز من المعقولات بحظ وافر، وله أخلاق مهذبة، وزمانه موقوف على الإفادة والإستفادة، والعمل الصالح والرياضة، وتلاوة القرآن، وستظهر من فضله آثار إن شاء الله تعالى. الحكيم أبو سعيد محمد بن علي المتطبب المعروف أبوه بالحكيم علي الطحان كان بيهقي المنشأ ونيسابوري المولد، وله طبع وقاد، وتصانيف كثيرة، وزجى أيامه ببلخ، وتوفي بها في شهور سنة ست وثلاثين وخمسمائة (ومن) قوله في بعض تصانيفه: إن كثرت التصانيف في الصناعات الطبية مبسوطة ومختصرة، فلكل جامع نظم وترتيب مفرد وكل مجموع لا يخلو عن فؤاد غريبة ونكت عجيبة ولكل واحد غرض صحيح ليس لسواه. وقال أيضاً: الله تعالى نسق الكون ورتبه أحسن تنسيق ترتيب، وركب الأجسام من مباديها أفضل تركيب. وقال في مبادي كتابه في البواسير: من ساعده حسن وفطرة، وذكاء فطنة، ورغبة في اقتناء الفضائل، واقتباس الفوائد، وابتلي ببعض الأمراض المزمنة وطالت معالجته إياها، واتصلت التجارب بما عنده من فتاويهم، وكان له معرفة بأحوال مزاجه الأصلي والعارضي الغريب، وطباع الأغذية التي يتناولها علم ثم ظفر بتصنيف جامع خاص بمداواة علته أمكنه أن يشتغل ببعض تدبير مزاجه، والإحتراز أن تزيد عارضته، مع أنه لا يأمن الخطأ والزلل، فإن لم تكن الصناعة له ملكة، فقلما يتيسر له التصرف فيها. ثم قال: من العلل ما لايمكن الإستغناء فيها عن الطبيب الحاضر المراقب، لظهور العلامات الدالة على ما تحتاج الطبيعة إليه من معاونته ومعالجته والمبادرة إلى تدبير ما يحدث بالمريض ساعة فساعة، وأما العلل الحادة فتأليف الكتب فيها غير محمود إلا للطبيب. وله أشعار كثيرة فصيحة ذكرت طرفاً منها في تصنيفي المعنون بدرة الوشاح، أعني تتمة وشاح دمية القصر. الإمام الفيلسوف علي بن شاهك القصاري الضرير البيهقي أصابه الجدري وهو ابن تسع سنين فعمي، وتعلم القرآن وحفظه، ثم حفظ أصول الأدب وفروعه، وبالغ في تحصيل النحو وعلله، ثم حفظ الأدعية الكثيرة والأخبار، ثم اشتغل بتحصيل الحكمة بلا مرشد ولا أستاذ. وكان يقرأ عليه واحد فصلاً من المنطق، وهو يحفظه ويكرره ويتفكر فيه حتى يقف على حقائقه، فحصل المنطق والطبيعي والإلهي. ثم اشتغل بتحصيل الرياضيات، ويقرأ واحد عليه شكلاً، وهو يحفظه ويتخيله، حتى يحصل له المقصود، ثم اشتغل بعد ذلك بالأعمال النجومية فكان يستخرج الطالع ويحسبه ويحفظه حتى يكتب المقصود واحد من المتصلين به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 واستخرج في تلك السنين تقاويم الكواكب وطوالع السنين وكان يهدي التقاويم التي جاد خاطره بحسابها واستخراجها إلى الأركان، ولعمري أنه من عجائب الزمان ومن لم يره لا يقبل خبره لو قيل إن في ناحية زاوية ضريراً يقال له إبراهيم يستخرج الطوالع والتقاويم وغيرهما من الأعمال وبيني وبين ظهير الدين مباحثات مذكورة في كتاب عرائس النفائس من تصنيفي. والآن في هذه الأيام سألني عن الكلام المفصل في الكبيسة فأنشأت رسالة إليه في الكبيسة لا يحتمل الموضع بيانها، وطالعه في الجوزاء وعطارد في الجدي والمشتري في الدلو والقمر في الثور والله أعلم. السيد الإمام زين الدين إسماعيل بن الحسن الحسيني الجرجاني الطبيب أحيا الطب وسائر العلوم بتصانيفه اللطيفة، ورأيته بسرخس في شهور إحدى وثلاثين وخمسمائة، وقد بلغ من العلم أطوريه. وارتبطه الملك العالم العادل خوارزمشاه بن محمد بخوارزم مدة، فصنف بخوارزم الخفي العلائي والطب الملوكي وكتاب الذخيرة وكتاب الأغراض وكتاب يادكار وكتباً أخرى في الحكمة، وكتاباً في الرد على الفلاسفة، وكتاب تدبير يوم وليلة باسم القاضي أبي سعيد الشارعي وكتاب وصيف نامه. وسارت بتصانيفه الركبان، وهي كتب مباركة. وسمعت من أثق به أنه كان لطيف المعاشرة، حسن الأخلاق، كريماً في ذاته. ومن فوائده رسالة له أوردتها بتمامها، وختمت بها الكتاب وهي: مالي أراك يا أخي أيدك الله وإياي بتوفيقه، شديد السكون إلى هذه الدنيا الزائلة والدار الفانية، كثير الميل إلى تربية هذا الجسد المظلم الكثيف الذي هو أجمح مركب، وأخبث مسكن للنفس، سهل (الإنقياد) لقوتيك الغضبية والشهوانية اللتين تجرك إحداها إلى السبعية والأخرى إلى البهيمية، صعب المقادة، عسر الإجابة لقوتك العاقلة التي تؤدي بك إلى جنة المأوى، وترقيك الدرجة العليا، لعلك قد انخدعت بل اغتررت بمباشرة هذه اللذات التي محلها في الحقيقة آلام وأي آلام. أما علمت أن اللذات الدنيوية كلها في أكل الطيب، وشرب العذب، ولبس اللين، وركوب المهملج، وقهر العدو، والتمتع بالحسناء وهذه كلها حاجات متعبة، وخصوصاً للعقلاء، وضرورات مزعجة للمتيقظين من العلماء، لأن الأكل والشرب إنما هو لدفع الجوع والعطش، واللبس أيضاً لدفع ألم الحر والبرد، والركوب لمنع تعب المشي، وقهر العدو لطلب التشفي من ألم الغيظ، والنكاح إنما هو طلب لذة بدنية بمباشرة عضو حقه أن يستر ويستحيا من كشفه، وخصوصاً من الرجل الرزين العاقل الذي يكره أن يكشف عن ساعده مثلاً، ثم في تلك الحال يحتاج إلى كشف عضوه المستور وربما دعاه استلذاذه إلى كشف مثل ذلك العضو من المفعول، فما أخس هذه اللذة عند العاقل المتيقظ، وما أهونها عليه، وما أقبحها عنده، وما أفضحها لديه (هكذا) ثم لا خلاف أن الحاجة غير طيبة ولا لذيذة ولا مطلوبة ولا محبوبة، وهذه الأحوال أعني اللذات كلها كما ترى حاجات والحاجات آلام، ولو كانت فيها فصيلة لما استغنت الملائكة المقربون عنها ولا تنزهت منها، وكل لذة في أن لا يؤلم جوع ولا يؤذي عطش ولا يتعب مشي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35