الكتاب: عقلاء المجانين والموسوسين المؤلف: الحسن بن إسمعيل بن محمد، أبو محمد الضّرّاب المصري (المتوفى: 392هـ) المحقق: إبراهيم صالح الناشر: دار البشائر [ضمن سلسلة نوادر الرسائل (20)] الطبعة: الأولى 1424 هـ - 2003 م عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] أعده للشاملة: يا باغي الخير أقبل ---------- عقلاء المجانين للضراب الضَّرَّاب الكتاب: عقلاء المجانين والموسوسين المؤلف: الحسن بن إسمعيل بن محمد، أبو محمد الضّرّاب المصري (المتوفى: 392هـ) المحقق: إبراهيم صالح الناشر: دار البشائر [ضمن سلسلة نوادر الرسائل (20)] الطبعة: الأولى 1424 هـ - 2003 م عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] أعده للشاملة: يا باغي الخير أقبل نوادر الرسائل (20) عقلاء المجانين والموسوسين تأليف أبي محمد الحسن بن إسماعيل الضراب المتوفى سنة 392 هـ عني بتحقيقه إبراهيم صالح دار البشائر الطبعة الأولى 1424 هـ - 2003 م بسم الله الرحمن الرحيم 1- أخبرنا أبو محمد الحسن بن إسماعيل الضراب، نا محمد بن أحمد المديني، نا الحسين بن عبد الله بن يزيد القطان، نا جعفر علي البغدادي، نا أبو الفضائل محمد بن أحمد، نا عبد الرحمن، عن أبيه، قال: قال عطاء السليمي: قدمت الكوفة في بعض تجارةٍ لي، فأزف بي العيد، وصنعت شيئاً من عصيدةٍ، وجلست على باب الدار ألتمس من يأكلها معي، فإذا أبا بعُليّان المجنون، فقلت: عُليان؟ فقال: عطاءٌ؟ فقلت: عطاءٌ؟ قال: السليمي؟ قلت: السليمي؛ قال: ما أقدمك إلى بلدتنا يا غريب؟ قلت: التجارة؛ وقد اصطنعت شيئاً من عصيدةٍ، فأنا قاعدٌ على باب الدار، ألتمس من يدخل فيأكلها معي. قال: فدخل، فوضعتها بين يديه، فقال: شلها، فإن أعضائي تتطرف أن تأكل من هذا شيئاً. قال: ثم قال لي: أين أنت عن فالوذج العارفين؟ [قلت: وما هو؟] [ص: 22] قال: تأخذ قند الصفاء، وزيت البهاء، وزعفران الرضا، ونشاء المعرفة، فتذيبه بماء الحياة، ثم تنصب ديكدان القلق، وترقب طنجير الملق، حتى يرغي رغاء الصبر، ويزبد زبد التوكل، ثم تضربه بإسطام الهيبة، وتوقد تحته قصب الشوق، حتى يشتعل بنار الهوى، فإذا فرغت منه بسطته على صحائف قرب الأنس، حتى يضربه نسيم الحياة، فإذا أكلت منه أول لقمةٍ، هاج ألم الضمير إلى مهيجها، وباحت الأنفس بما فيها، وبكت بكاء من يبكيها، [شوقاً إلى من يؤنسها ويحييها؛] وأنشأ يقول: فهام بحب الله في القفر سائحاً ... وحطت على روح القدوم رواحله فعاد بشوقٍ قد نضا فقد حاله ... تذوب به أعضاؤه ومفاصله الحديث: 1 ¦ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 2- نا أحمد بن مروان، نا الحسن بن الحسين الكوفي، نا أحمد بن يونس، قال: قال حفص بن غياث لابن إدريس: مررت بطاق المحامل، فإذا أنا بعُليّان المجنون جالسٌ، فلما أن جزته سمعته يقول: من أراد سرور الدنيا وحزن الآخرة، فليتمن ما هذا فيه. [ص: 23] فوالله لتمنيت أني كنت مت قبل أن ألي القضاء. الحديث: 2 ¦ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 3- نا أحمد بن مسعود بن عمرو بن إدريس الزنبري، نا محمد بن أحمد الأنصاري، قال: قرأت على محمد بن سعدان الجوزجاني: قال أبو عبد الرحمن الأنصاري: أخبرني خلف بن سالم، قال: قلت لأبي علي المعتوه: ألك دارٌ؟ قال: نعم. قلت: وأين؟ قال: في دارٍ يستوي فيها العزيز والذليل. قلت: وأين هذه الدار؟ قال: المقابر. قلت: أما تستوحش في ظلمة الليل؟ قال: إني أكثر ذكر وحشة البلى وظلمته، فيهون علي ظلمه الليل ووحشته. قلت: فربما رأيت [في] المقابر ما تنكره؟ قال: ربما، ولكن في هول الآخرة ما يشغل عن هول المقابر. الحديث: 3 ¦ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 4- نا أحمد بن مروان، نا الحسن بن الحسين الكوفي، نا أحمد بن يونس، قال: قال ابن إدريس: قدم علينا هارون أمير المؤمنين يريد الحج، فنزل الحيرة، فاختلفت إلى الحيرة في حاجة أطلبها، فكثر اختلافي، فغدوت يوماً فرأيت بهلولاً في طريقي، فقلت: يا بهلول، إني طالبٌ حاجةً، فادع الله لي، فاستقبل القبلة، ورفع يديه، ثم قال: يا من لا تختزل الحوائج دونه، اقض له حوائج الدنيا والآخرة. [ص: 24] قال: فوجدت لدعائه برداً على قلبي، فحللت خرقةً كانت معي فيها درهمان، فمددت يدي إليه، فقلت: خذ هذا فأنفقه، فقال لي: يا ابن إدريس، أنت تعلم أني آخذ الرغيف وما أشبهه، فكيف الدرهمين؟! والله إني لأستحيي من الله عز وجل أن آخذ على الدعاء أجراً. قال: فما رجعت حتى قضيت حاجتي. الحديث: 4 ¦ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 5- نا أحمد بن مروان، نا الحسن بن الحسين، قال: سمعت أبي يقول: مر بهلول في السوق وهو يأكل، فاستقبله بعض أصحابنا، فقال له: يا بهلول، تأكل في السوق؟! فقال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((مطل الغني ظلمٌ)) . وأنا لحقني الجوع في السوق، وفي كفي رغيفٌ، فكرهت أن أمطل نفسي. الحديث: 5 ¦ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 6- نا الحسن بن الحسن، نا محمود بن محمد الرافقي، نا عبد الله بن محمد، حدثني عباس البحراني، حدثني سفيان بن عيينة، قال: قلت لبهلول المجنون: يا بهلول عظني، فقال: الملوك، هذه قصورهم، وهذه قبورهم. الحديث: 6 ¦ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 7- نا أحمد بن عبد الله بن الحسن العصامي، نا أحمد بن إبراهيم بن مرزوق، نا القاسم بن محمد التبوذكي، حدثني عبد الكبير بن عبد الرحمن، قال: سمعت السكسكي يقول: سمعت وبيص الموسوس يقول، وسأله رجلٌ عن حاله، فأجابه وهو يقول: أجن وما أدري على أي حالةٍ ... ظللت أبالحسنى أم الشر شاملٍ [ص: 25] ويقعدني الوسواس حتى كأنني ... صفدت له في القيد أو في السلاسل الحديث: 7 ¦ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 8- نا أحمد بن عبد الله بن الحسن العصامي، نا أحمد بن إبراهيم بن مرزوق، نا القاسم بن محمد التبوذكي، حدثني عبد الكبير بن عبد الرحمن، قال: سمعت السكسكي يقول: تماجن قومٌ على حمان الموسوس يوماً، وقد مر بهم، فقدموه ليصلي بهم، فهرب منهم، وأشأ يقول: إن تقديمكم إياي ... من إعواز الأئمه إن ديني لنحيفٌ ... فيه شيءٌ من مرمه الحديث: 8 ¦ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 9- نا العصامي، نا أحمد بن إبراهيم بن مرزوق، نا علقمة، نا موسى بن زياد، قال: مررت بغورك المجنون يوماً، وقد اجتمع عليه الناس، وقد أتوه بطيبٍ، فوقفت عليه وقلت: يا أبا محمد، ما خبرك؟ أرى الناس قد اجتمعوا عليك. قال: لقلة عقولهم، ولو شغلوا أنفسهم بغيري لكان أعود [عليهم، يظنون أني] مجنونٌ، وأنهم يبتغون فيَّ الأجر، كذبوا والله، ما أنا بمجنونٍ، ولكني عاشقٌ. قال: فقلت: هل قلت في ذلك شيئاً؟ قال: نعم، ثم أنشدني: أتوني بالطبيب يعالجوني ... على أن قيل: مجنونٌ غريب طلبنا الأجر فيه عساه يوماً ... من الأيام يعقل أو يثيب وما صدقوا، الذي تحت الحنايا ... أجَلُّ من أن يعالجه الطبيب وما بي جنةٌ، لكن قلبي ... به داءٌ تموت به القلوب الحديث: 9 ¦ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 10- ذكر أحمد بن بهزاد، نا إسماعيل بن أبي هاشم أبو القاسم الزبيري، [ص: 26] حدثني أحمد بن حبيب، حدثني بعض رواة العلم، قال: لقيت غورك المجنون في جماعةٍ من الصبيان يوم خميسٍ، منصرفاً من تشييع بعض أحبابه، وهو يحدث الصبيان ويلطم خده، ويقول لهم: يا إخوتاه، ما أحر الفراق!. قلت: يا أبا محمد، من أين أقبلت؟ قال: أقبلت من تشييع الحاج. قلت: هل قلت في ذلك شيئا؟ قال: نعم؛ ثم انعصرت عيناه بالبكاء، ثم أنشأ يقول: هم رحلوا يوم الخميس غديةً ... فودعتهم لما استقلوا وودعوا فلما تولوا ولت النفس معهم ... فقلت: ارجعي؛ قالت: إلى أين أرجع إلى جسد ما فيه لحمٌ ولا دمٌ ... ولا فيه إلا أعظمٌ تتقعقع وعينان قد أعماهما الحب بالبكا ... وأذنان من طول الجوى ليس تسمع الحديث: 10 ¦ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 11- نا أحمد بن مروان، نا محمد بن عبد العزيز، نا أبي، قال: قال ابن إدريس: كان ابن أبي مالكٍ بالكوفة، وكان معتوهاً ذاهباً، لا يعرف ما الناس فيه، فإذا تكلم تكلم بالصواب. فبينا أنا يوماً في مسجد الكوفة أتنفل، إذ مر بي، فسبحت به ليعطف إلي، فالتفت إلي فقال لي: أقبل على من أنت بين يديه، فإنه مقبلٌ عليك، ولا تقبل على غيره فتخطئ حظك منه. قال ابن إدريس: فأفزعني والله، فأقبلت على القبلة بعد هذه الكلمة سنةً، فلم ألتفت يميناً ولا شمالاً. الحديث: 11 ¦ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 12- نا أحمد بن مروان الخزاعي، نا عمر بن محمد التغلبي، نا مرذويه [ص: 27] الصائغ، قال: قال الفضيل بن عياض: خرجت حاجاً، فبينا أنا أسير، إذا أنا بسعدون المجنون ماراً بالبادية وحده، فقلت له: سعدون؟ إلى أين؟ فقال: إلى الله، أطلب قربه، وأشكو إليه بعده. قال: فقلت له: سعدون، ما أرى معك زاداً؟ فقال: قال لي: يا فضيل، إذاً والله لو سكنت الأحزان قلبك، وسكنت الهموم لبك، وأنحل الشوق جسمك، ما سألت عن زادٍ، ولا ذكرت إلا المعاد. الحديث: 12 ¦ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 13- أنبا الحسن بن رشيق، نا علي بن يعقوب بن سويد، نا عمرو بن علي بن سليمان الدينوري، نا أحمد بن عبد الله الخراساني، نا محمد بن عمر بن علي الجرجاني، نا يحيى بن أيوب المقابري، قال: رأيت سعدون المجنون في المقابر يدور، كلما مر بقبرٍ قد تهدم منه سوَّاه، ووضع فيه لبنةً، فقلت: سعدون؟ قال: سعدون. قلت ما تعمل؟ قال: إنما يسأل عما أعمل من لا يدري ما أعمل، فأما من يدري ما أعمل، فما سؤاله عما أعمل؟ ثم قال: يا يحيى، اقعد بنا نبك على هذه الأجساد البالية والعظام النخرة، [ص: 28] ثم قال: لا بل بكانا على أنفسنا أحق من بكائنا عليهم. الحديث: 13 ¦ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 14- حدثني عبد الواحد بن بكر الورثاني، أن منصور بن أحمد الهروي قال: سمعت أبا الحسين محمد بن علي الخوارزمي، قال: سمعت ذا النون المصري يقول: مررت بأرض مصر، فرأيت الصبيان يرمون رجلاً بالحجارة، فقلت لهم: ما تريدون منه؟ فقالوا: مجنونٌ، يزعم أنه يرى الله عز وجل. فقلت: أفرجوا عنه؛ فأفرجوا لي، فدخلت، فإذا أنا بشاب مسندٍ ظهره إلى الحائط، فقلت له: ما تقول -رحمك الله- فيما يقول هؤلاء؟ فقال: وما يقولون؟ قلت: يزعمون أنك ترى الله. قال فسكت ساعةً، ثم رفع رأسه، ودموعه تجري على خديه، فقال لي: والله ما فقدته منذ عرفته، ولو فقدته ما أطعته، ثم أنشأ وهو يقول: همم المحب تجول في الملكوت بالقلب ... ليسمو، واللسان صموت وزادني غيره: وهو يقول: أيها الشامخ الذي لا يرام ... نحن من طينةٍ عليك السلام إنما هذه الحياة متاعٌ ... ومع الموت تستوي الأقدام الحديث: 14 ¦ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 15- نا أحمد بن سعيد الإخميمي، نا عبد الوهاب بن يزيد الصدائي، نا إبراهيم بن المنذر، قال: رأيت بعض المتعبدين، وعليه جبةٌ من الشعر الأسود، مكتوبٌ عليه سطرين بالصوف الأبيض: جَدَّ بالغرة في الغفلة رَكضي ... وشبابي الغض عني سوف يمضي [ص: 29] وأراني غير شكٍّ متمادٍ ... في هوى النفس، وربي لستُ أُرضي قال: وإذا بيده قطعة من الخشب، عليها مكتوبٌ: كل يومٍ يمر يأخذ بعضي ... يُذهب الأطيبين مني فيمضي نفس كُفي عن المعاصي تفوزي ... ما المعاصي على العباد بفرض قال: فقلت له: إلى أين تريد -يرحمك الله-؟ قال: فأنشأ يقول: أطلب رباً مهيمناً محمود ... بارئ الخلق، ماجد معبود جاد بالفضل والنوال جميعاً ... فهو بالفضل والعطا موجود قال: ثم ولى، وتركني أفكر في أمره. الحديث: 15 ¦ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 16- نا محمد بن أحمد بن كامل المديني، نا أبو عبد الله محمد بن الحسن الدينوري، حدثني أبو علي حاجب خاقان، قال: قال ذو النون المصري: بينا أنا على جبل الأحمر، إذا أنا بشاب ملقى على جنبه، فلما رآني من بعيدٍ، قال لي: يا ذا النون، شدة الشوق والهوى، تركاني هكذا، ثم أنشأ يقول: كم يلبث الجنب على الجمر ... لا سيما بعد فناء الصبر سألته الإنصاف في حبه ... فأوكل الأمر إلى الحشر والله لا زلت له عاشقاً ... وإن أمت أذكره في القبر الحديث: 16 ¦ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 17- نا أحمد بن مروان المالكي، نا محمد بن عبد الرحمن مولى بني هاشم، نا مصعب بن عبد الله، عن ابن أبي فديك، أنه قال: كان ها هنا بالمدينة سنة سبعٍ وثمانيين رجلٌ يكنى أبا نصرٍ، من جهينة، ذاهب العقل، في غير ما الناس فيه، لا يتكلم في شيءٍ من أمر الدنيا، وكان يجلس مع أهل الصفة في آخر مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان إذا سئل عن الشيء أجاب جواباً معجباً حسناً. قال ابن أبي فديك: فأتيته يوماً وهو في مؤخر المسجد مع أهل الصفة، منكسٌ رأسه، واضعٌ وجهه بين ركبتيه، فجلست إلى جنبه، فحركته فانتبه، فأعطيته شيئاً كان معي، فأخذه وقال: قد صادف منا حاجةً؛ فقلت له: يا أبا نصرٍ، ما الشرف؟ قال: حمل ما ناب العشيرة أدناها وأقصاها، والقبول من محسنها، والتجاوز عن مسيئها. قلت: فما المروءة؟ قال: إطعام الطعام، وإفشاء السلام، وتوقي الأدناس، واجتناب المعاصي صغيرها وكبيرها. قلت: فما السخاء؟ قال: جهد المقل. قلت: فما البخل؟ فقال: أفً؛ وحول وجهه عني، فقلت له: لم تجبني بشيءٍ، قال: بلى، قد أجبتك. قال ابن أبي فديك: وقدم هارون أمير المؤمنين، فأحب أن ينظر إليه، فأخلي له مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، فوقف على قبر النبي صلى الله عليه وسلم وعلى منبره، وفي موضع جبريل عليه السلام، ثم قال: قفوا بي على أهل الصفة حتى أنظر إليه -يعني أبا نصر-؛ فلما أتاهم , حرك هارون الرشيد أبا نصرٍ بيده، فرفع رأسه وهارون واقفٌ، فقيل له: يا أبا نصرٍ، هذا أمير المؤمنين واقفٌ عليك، فرفع رأسه إليه، فقال له: أيها [ص: 31] الرجل، إنه ليس بين الله عز وجل وأمة نبيه صلى الله عليه وسلم ورعيتك، وبين الله عز وجل خلقٌ غيرك، وإن الله عز وجل سائلك، فأعد للمسألة جواباً، فقد قال عمر بن الخطاب رحمه الله: لو ضاعت سخلةٌ على شاطئ الفرات، لخاف عمر أن يسأله الله عز وجل عنها. فبكى هارون وقال له: يا أبا نصرٍ، إن رعيتي ودهري غير رعية عمر ودهره؛ فقال له أبو نصرٍ: هذا -والله- غير مغنٍ عنك، فانظر لنفسك، فإنك وعمر لتسألان عما خولكما الله. ثم دعا هارون بصرةٍ فيها مئة دينارٍ، فقال: ادفعوها إلى أبي نصرٍ. فقال: وهل أنا إلا رجلٌ من أهل الصفة؟ ادفعوها إلى فلانٍ يفرقها بينهم، ويجعلني رجلاً منهم. الحديث: 17 ¦ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 18- نا أحمد بن مروان المالكي، نا إبراهيم بن حبيب، قال: سمعت أبا نعيمٍ يقول: مر أبو الديك -وكان معتوهاً- على معلم كتابٍ في جبانة كندة، وهو ينشد: إن الصنيعة لا تكون صنيعةً ... حتى يصاب بها طريق المصنع فقال أبو الديك: كذب، لا يكون المعروف معروفاً حتى يصرف في أهله [ص: 32] وفي غير أهله؛ ولو كان لا يصرف إلا في أهله، فكيف كان ينالني منه شيءٌ؟ الحديث: 18 ¦ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 19- نا عبد العزيز بن علي المكتب، نا الحسن بن القاسم الدمشقي، نا أحمد بن عبيد بن معاوية، حدثت عن علي بن يوسف، قال: لما قدم أبو دلف بغداد، أتيناه للسلام عليه، فبينا أنا عنده إذ أتاه الحاجب، فقال: جعيفران الموسوس بالباب، فقال أبو دلف: ما لنا وللمجانين؟ فقلت له: أصلحك الله، إنه شاعرٌ ظريفٌ، فأْذن له، فأذن له، فوقف بين يدي أبي دلفٍ، فقال: يا أكرم الأمة موجوداً ... ويا أعز الخلق مفقوداً لما سألت الناس عن سيدٍ ... يصبح في الأمة محموداً قالوا جميعاً: إنه قاسمٌ ... أشبه آباءً له صيدا لو عبدوا شيئاً سوى ربهم ... أصبحت في الأمة معبودا فقال أبو دلف: يا غلام، أدفع إليه عشرة آلاف درهمٍ، فقال جعيفران: وما أصنع بعشرة آلاف درهمٍ؟ مر الغلام يقبضها إليه، ومره يدفع إلي كلما جئته عشرة دراهم حتى تفنى، فقال أبو دلف: يا غلام، ادفع إليه العشرة آلاف درهمٍ، وكلما جاء ادفع إليه عشرة دراهم، حتى يفرق الموت بيني وبينه. فأكب جعيفران إلى الأرض، ثم رفع رأسه فقال: يموت هذا الذي أراه ... وكل شيء له نفاد [ص: 33] لو أن خلقاً له خلودٌ ... عمر ذا الفاضل الجواد الحديث: 19 ¦ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 20- نا عبد الواحد بن بكر الورثاني، أبو الفرج، نا محمد بن عبد الله الرازي، حدثني سليمان بن أحمد بدمشق، نا الحسن بن علي بن جعفر النخعي، قال: قال لي ذو النون المصري: لقيت بعض السواح، فقلت: من أين أقبلت؟ فأنشأ يقول: من عند من علق الفؤاد بحبه ... فشكا إليه بخاطرٍ مشتاق يبغي إليه من الوصال تقرباً ... فيه الشفاء لِوامِقٍ تَوَّاق الحديث: 20 ¦ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 21- أنا أحمد بن مروان، نا ابن أبي الدنيا، قال: قال ذو النون: خرجت إلى الشام للقاء رجلٍ، ذكر لي عنده فضلٌ، يعرف برجاء المسوحي، فوجدته عرياناً، على سوأته خرقةٌ، قائماً على جبل ثلجٍ في يوم شاتٍ شديدٍ برده، فوقفت أنظر إليه، وأتعجب من أمره؛ فلما رأى مني ذلك، تبسم إلي، ثم قال لي: يا ذا النون، أتراه يعريني ثم لا يدفئني؟! وأنشأ يقول: وكافرٍ بالله أمواله ... تزداد أضعافاً على كفره ومؤمن ليس له درهمٌ ... يزداد إيماناً على فقره لا خير فيمن لم يكن عاقلاً ... يمد رجليه على قِدره [ص: 34] قال: وقال لي ذي النون: وذكر لي شيئاً، وولع الوله بلُبه، وتقسم الخوف قلبه، فخرجت أنظر إليه، فأذا به على الجبل الأحمر، وكان لو أراد أن يخبز عليه الخبز من شدة حره لنضج، فعجبت من صبره عليه، فوقفت أنظر إليه، فلما رآني كذلك، قال لي: يا ذا النون، شدة الشوق والهوى، حملاني على ما تراني، وأنشأ يقول: كم يلبث الجنب على الجمر ... وكم عسى يستعمل الصبر سألته الإنصاف في حبه ... فأوكل الأمر إلى الحشر والله لا زلت له عاشقاً ... وإن أمت أذكر في القبر الحديث: 21 ¦ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 22- وجدت على ظهر كتاب عبد العزيز بن أحمد بن الفرج الأحمري: نا أبو بكر أحمد بن الحسن بن هارون الضاحي، نا العباس بن محمد الأنصاري الأشهلي، حدثني قبيصة أبو حاتم المنجم، قال: قال الأصبغ: قيل لي: إن ببادية بني سليم رجلاً مجنونا ينطق بالحكمة ويقول الشعر فسألتهم: بم يعرف؟ فقالوا: بأبي الخطاب. قال: فأتيته، فألفيته جالساً على تل رملٍ بين المنازل والمقابر، وهو مفترشٌ خده ببطن كفيه كالمحزون، وهو يقول: هذه قصورهم، وهذه قبورهم. قال: فقلت: السلام عليك ورحمة الله وبركاته أبا الخطاب. فقال: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته، من أنت رحمك الله؟ فقلت: من إخوانك المسلمين. [ص: 35] فقال: سلام إيمانٍ، وتلاوة للقرآن، ومحبة للمسلمين في السر والإعلان؟ قلت: أجل. فقال: يا أخي، فخالل أهل التقوى، وجانب أهل الردى، وارض عن الله عز وجل، يرض عنك في الآخرة والأولى، ثم قال: يا حبذا لو أذن له في قبول ما وعظ به ثم أنشأ يقول: وما همي لهذا اليوم إني ... لهذا اليوم مضطلعٌ خبير ولكن بعده يومٌ فظيعٌ ... يروع من مخافته الكبير خروج النفس فيه عن محل ... به كانت تحل وتستجير إلى يوم القيامة ليس نومٌ ... لخوف وروده شاب الصغير قال: ثم اندفن في ذلك الرمل، فلم أره بقية يومي ذلك. الحديث: 22 ¦ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 23- أنا أحمد بن مروان، نا ابن أبي الدنيا، قال: سمعت محمد بن الحسين يقول: قدمت قدمةً مكة، فبينا أنا أطوف في السحر، إذ الناس يقولون: قد جاء، قد جاء العنبري الزاهد، فإذا أعرابي جلف المنظر، دخل الطواف، فطاف سبعة أشواطٍ، وركع خلف المقام، ثم أتى الملتزم، فرفع يديه وهو يقول: سبحان راحم رنة المساكين، وقابل التوبة، والمتفضل بها على المسرفين، الذين أفاض عليهم من سيوب تفضله، وأهطل عليهم من سماء بذله، وفوائد نعمه وجزيل إحسانه، ما أعجزت البرية عن شكره، والقيام بأداء حقه إلا بمعونته. سبحان الذي لم يمنع العباد أسباب التوبة، ولم يعيرهم لما أنابوا إليه بما أجرموا من الحوبة، ولم يعجل عليهم بالنقم، وهو يراهم يتمرسون بمعاصيه لغضبه، وهو في ذلك يستر عليهم بستره، ويتوددهم بإنعامه، ويتحبب إليهم بدوام إحسانه، ثم فتح لهم برحمته أبواب رحمته، ودعاهم إلى ما شوقهم إليه بحسن موعظته، فقال لمسرفي عباده: {لا تقنطوا من رحمة الله} وقال: [ص: 36] {وإذا سألك عبادي عني فأني قريبٌ أجيب} وقال: {ادعوني أستجب لكم} . فسبحان من يتقرب إلى من يتباعد منه، ويتحبب بالنعم إلى من يتبغض بالمعاصي إليه، فأحب عباده إليه، أسألهم لما لديه. إلهي، أنا عبدك وابن عبيدك، ها أنا قائمٌ بين يديك، متوسلٌ بكرمك إليك، لا ينزلني عن مقامٍِ أقمتني فيه، ولا ينقلني إلى موقف سلامةٍ من نعمك إلا أنت، أتنصل إليك مما كنت أواجهك به من قلة استحيائي من نظرك، وأستغفرك من ذنوبي التي ابتزت قلبي حلاوة ذكرك، وأطلب العفو منك، إذ العفو نعتٌ لكرمك. يا من يعصى ويرضى كأنه لم يعص، يا حناناً لشفقته على عباده، ومناناً بلطفه، [ومتجاوزاً] بعطفه على خلقه، طهر قلبي من أوساخ الغفلة، [وانظر إلي نظرك] إلى من ناديته فأجابك، واستعملته [بمعونتك فأطاعك] . صل على محمد عبدك ورسولك، وهب لي [صبراً ويقيناً، واغفر] ذنبي العظيم، وتجاوز لي عن سيئاتي، يا أرحم [الراحمين] . [قال:] فمشيت معه حتى عرفت موضعه، فكتبت عنه هذا [الدعاء، وغير هذا] مما كان يدعو به عند الملتزم في أوقاته. الحديث: 23 ¦ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 24- نا علي بن يعقوب، نا جامع بن القاسم، قال: سمعت حمدونة.. .. الفضل بن مروان يقول لمعلمه ابن الزيات: مهلاً حا.. .. قد انصرف عني محاربكم، قد كنت أرج.. .. ربه أحبك.. .. الحديث: 24 ¦ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 25- حدثني أحمد بن حبيب، قال: وحدثني.. .. .. .. هذا لغورك المجنون: يا أبا محمد، متى [حدث بك هذا العشق؟ [ص: 37] قال:] منذ زمانٍ، إلا أني كنت [أكتمه، فلما غلب على] قلبي بحت به، ثم أنشدني: كتمت جنوني وهو بالجسم وحده ... [فلما استوى والحب أعلنه الحب] وأخلاه والجسم الصحيح يذيبه ... فلما أذاب [الجسم ذل له القلب] وقال له: لا تخش من متطببٍ ... فمذهل.. .. .. فجسمي وقلبي للجنون وللهوى ... فهذا لذا [نهبٌ، وهذا لذا نهب] بلغت ومحمد بن البحتري وعبد الرزاق الحديث: 25 ¦ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36