الكتاب: مواسم العمر المؤلف: جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي (المتوفى: 597هـ) المحقق: محمد بن ناصر العجمي الناشر: دار البشائر الإسلامية الطبعة: الأولى 1425 هـ - 2004 م عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] أعده للشاملة: يا باغي الخير أقبل ---------- مواسم العمر لابن الجوزي ابن الجوزي الكتاب: مواسم العمر المؤلف: جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي (المتوفى: 597هـ) المحقق: محمد بن ناصر العجمي الناشر: دار البشائر الإسلامية الطبعة: الأولى 1425 هـ - 2004 م عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] أعده للشاملة: يا باغي الخير أقبل الكتب والأجزاء المقروءة في جوامع ودور الحديث بدمشق: العمرية تنبيه النائم الغمر على مواسم العمر تأليف زينة الواعظين ودرة الناصحين الإمام عبد الرحمن بن الجوزي (508 - 597 هـ) تحقيق وتعليق محمد بن ناصر العجمي دار البشائر الإسلامية الطبعة الأولى 1425 هـ - 2004 م بسم الله الرحمن الرحيم رب يسر بخير يا كريم، وصل على محمد قال الشيخ، الإمام، الحافظ، جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي- عفا الله عنه، وغفر لنا وله ولجميع المسلمين: الحمد لله الذي جعل الأعمار مواسم، يربح فيها ممتثل المراسم، ويخسر المضيع الخير الحاسم، فهي موضوعةٌ لبلوغ الأمل، ورفع الخلل، وافرةٌ زائدة الأرباح لمن اتجر، مهلكة الأرواح لمن فجر، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمئة ضعف وأكثر، والسيئة ترد المستقيم إلى حال مكدر معثر. وبهذا العمر اليسير يشتري الخلود الدائم في الجنان، والبقاء الذي لا ينقطع كبقاء الرحمن، ومن فرط في العمر وقع في الخسران، فواخيبة المفرط الحيران. فينبغي للعاقل أن يعرف قدر عمره، وأن ينظر لنفسه في أمره، فيغتنم ما يفوت استدراكه، وربما حصل بتضييعه هلاكه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 باب: ذكر مواسم العمر فاعلم -وفقك الله- أن مواسم العمر خمسة: الموسم الأول: من وقت الولادة إلى زمان البلوغ، وذلك خمس عشرة سنةً. والموسم الثاني: من زمان بلوغه إلى نهاية شبابه، وذلك خمسٌ وثلاثون سنةً. والموسم الثالث: من ذلك الزمان إلى تمام خمسين سنةً، وذلك زمان الكهولة، وقد يقال: كهل لما قبل ذلك. والموسم الرابع: من بعد الخمسين إلى تمام السبعين، وذلك زمان الشيخوخة. والموسم الخامس: ما بعد السبعين إلى نهاية آخر العمر، فهو زمان الهرم. وقد يتقدم ما ذكرنا من السنين ويتأخر، فلنرسمها خمسة أبواب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 الباب الأول في ذكر الموسم الأول اعلم أن هذا الموسم يتعلق معظمه بالوالدين، فهما يربيانه، ويعلمانه، ويحملانه على مصالحه، فلا ينبغي أن يفترا عن تأديبه وتعليمه، فإن: ((التعليم في الصغر، كالنقش في الحجر)) . قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه في قوله تعالى: {قوا أنفسكم وأهليكم ناراً} ، قال: ((علموهم وأدبوهم)) . فيعلمانه الطهارة والصلاة، ويضربانه على تركها إذا بلغ عشر سنين، ويحفظانه القرآن، ويسمعانه الحديث، وما احتمل من العلم أمراه به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 ويقبحان عنده القبيح، ويحسنان عنده المليح، ويحثانه على المكارم على قدر ما يحتمل؛ فإنه موسم الزرع. قال الشاعر: لا تسه عن أدب الصغير ... وإن شكا ألم التعب ودع الكبير لشأنه ... كبر الكبير عن الأدب وقال آخر: إن الغصون إذا قومتها اعتدلت ... ولا يلين إذا قومته الخشب قد ينفع الأدب الأحداث في مهل ... وليس ينفع في ذي الشيبة الأدب وكان عبد الملك بن مروان يحب ابنه الوليد، ولا يأمره بالأدب، فخرج لحاناً، فقال: أضر حبنا بالوليد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 فصل وقد يرزق الصغير الصبي ذهناً من صغره، فيتخير لنفسه، كما قال الله تعالى: {ولقد ءاتينا إبراهيم رشده من قبل} الآية، فذكر في التفسير: أنه كان ابن ثلاث سنين، فقال للكوكب والقمر والشمس ما قال، إلى أن قال: {إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين} . فإذا عبر الصبي الخمس سنين، بان فهمه ونشاطه في الخير، وحسن اختياره لنفسه، وصلف نفسه عن الدنايا، أو عكس ذلك. مر عمر بن الخطاب رضي الله عنه على صبيان وهم يلعبون، فتفرقوا من هيبته، ولم يبرح ابن الزبير، فقال له: ما لك لم تبرح؟ فقال: يا أمير المؤمنين، ما الطريق ضيقة فأوسعها لك، ولا لي ذنب فأخافك. وقال الرشيد لولد وزيره وهو في دارهم: أيما أحسن، دارنا أو داركم؟ فقال: دارنا، قال: ولم؟ قال: لأنك فيها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 ويتبين فهم الصبي وعلو همته وقصرها باختياراته لنفسه، فإن الصبيان تجتمع للعب، فيقول العالي الهمة: من يكون معي؟ ويقول القاصر الهمة: مع من أكون؟ ومتى فاقت الهمة، وعلت همة الصبي، آثر العلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 فصل فإذا راهق الصبي فينبغي لأبيه أن يزوجه، فقد جاء في الحديث: ((من بلغ له ولدٌ، وأمكنه أن يزوجه، فلم يفعل، وأحدث الولد، كان الإثم بينهما)) . والعجب من الوالد كيف لا يذكر حاله عند المراهقة، وما لقي وما عانى بعد البلوغ، أو كان قد وقع في زلة، فليعلم أن ولده مثله. قال إبراهيم الحربي: أصل فساد الصبيان بعضهم من بعض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 ويندر شابٌ يؤثر العلم على النكاح، ويعلم من نفسه الصبر، ويأمن على نفسه؛ فإن أحمد بن حنبل رضي الله عنه لم يتزوج إلا بعد الأربعين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 الباب الثاني في الموسم الثاني وهو من زمن البلوغ إلى منتهى الشباب وهذا هو الموسم الأعظم الذي يقع فيه جهاد النفس والهوى وغلبة الشيطان. وبصيانة هذا الموسم يحصل القرب من الله عز وجل، وبالتفريط فيه يقع الخسران العظيم، وبالصبر فيه عن الزلل يثنى على الصابرين، كما أثنى الله فيه على الصابر يوسف الصديق؛ إذ لو زل من كان يكون؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((عجب ربك من شابٍ ليست له صبوةٌ)) . ويقول الله عز وجل: ((أيها الشاب التارك شهوته من أجلي! أنت عندي كبعض ملائكتي)) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 فصل وليعلم البالغ أنه من يوم بلوغه قد وجب عليه معرفة الله تعالى بالدليل لا بالتقليد، ويكفيه من الدليل رؤية نفسه، وترتيب أعضائه، فيعلم أنه لا بد لهذا الترتيب من مرتب، كما أنه لا بد للبناء من بانٍ، ولا بد لهذا البناء من باب. ويعلم أنه قد نزل ملكان يصحبانه طول عمره، ويكتبان عمله، ويعرضانه على الله تعالى، قال الله عز وجل: {وإن عليكم لحافظين. كراماً كاتبين. يعلمون ما تفعلون} . قال محمد بن الفضل: منذ أربعين سنة ما أمليت على كاتبي سيئةً، ولو فعلت ذلك لاستحييت منهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 فلينظر العبد فيم يرتفع من عمله، فإن زل فيرفع الزلل بتوبةٍ واستدراك. وليغض طرفه، فقد قال الله عز وجل: {قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم} ، وقيل: ((النظر إلى محاسن المرأة سهمٌ مسمومٌ من سهام الشيطان، من تركه ابتغاء مرضاتي آتيته إيماناً يجد حلاوته في قلبه)) . ومن استعمل الغض سلم، فليكتف بالمرأة الواحدة، ولا يترخص لنفسه في كثرة الاستمتاع بالنساء، فإنه يشتت القلب، ويضعف القوى، وليس لذلك منتهى. فائدة: كان بعض السلف يقول لنفسه: ما هاهنا إلا هذه الكسرة، وهذه المرأة، فإن شئت فاصبري أو فموتي. وكان خلق كثير من الأشياخ يتأسفون في حالة الكبر على تضييع موسم الشباب، ويبكون على التفريط فيه، فليطل القيام من سيقعد، وليكثر الصيام من سيعجز. والناس ثلاثة: من استكثر عمره بالخير، ودام عليه، فذلك من الفائزين، ومن خلط وقصر، فذاك من الخاسرين، ومن صاحب التفريط والمعاصي، فذاك من الهالكين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 فلينظر الشاب في أي مقام هو، فليس لمقامه مثل، وليتلمح شرف بضاعتها وثمنها المستوفى بالصبر، فإن الساعي يصبر عن زوجته مع كونه شاباً شديد الشبق ليسبق، فيقال له: أحسنت، فليصبر الشاب ليقال له: {هذا يومكم} ، وليحذر زلَله في الشباب، فإنها كعيب قبيح في سلعة مستحسنة. ومن زل من الشباب، فلينظر أين لذتها، وهل بقي إلا حسرتها الدائمة التي كلما خطر ذكرها للقلب تألم، فصار ذكرها للقلب عقوبة. ومن خرق ثوب التقى بيع بالخلق والمكسور. قال أبو القاسم الجنيد رضي الله عنه: لو أقبل عبد على الله عز وجل ألف سنة، ثم أعرض عنه لحظة واحدة، كان الذي فاته أكثر مما حصل له. وكان بعض السلف رحمه الله يقول: وددت لو أن يدي قطعت، وعفي لي عن ذنوب الشباب. قال المصنف: وقلت يوماً في الوعظ: أيها الشاب! أنت في بادية، ومعك جواهر نفيسة تريد أن تقدم بها بلد الجزاء، فاحذر أن يتلقاك غرار الهوى، فيشتري ما معك بدون ثمن، فإنك إذا قدمت البلد، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 فرأيت الرابحين، قلت: {يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله} ، هيهات أن يرد الأسف ما سلف. ومما قلت في هذا المعنى من الأبيات: أما الشباب فظلمةٌ للمهتدي ... وبه ضلال الجاهل المتمرد فاقمعه بالصبر الجميل ودم على ... الصوم الطويل فإنه كالمبرد واكفف لسانك عن فضول كلامه ... واحفظه حفظ الجوهر المتبدد واغضض جفونك عن حرامٍ واقتنع ... بحلال ما حصلت تحمد في غد ودع الصبا فالله يحمد صابراً ... يا نفس هذا موسمٌ فتزودي الصبر عن شهوات نفسك نومةٌ ... فاثبت وغالط شهوةً لم ترقد تحمد هناك إذا هواك تركته ... يا سعد تسعد بالمعاش الأرغد إن شئت نيل الفخر فاصبر واصطبر ... إن المفاخر في الطريق الأبعد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 الباب الثالث في الموسم الثالث وهو حالة الكهولة هذا الزمان فيه بقيةٌ من الشباب، وللنفس فيه ميلٌ إلى الشهوات، وفيه جهاد حسن، وإن كانت طاقات الشيب ترع وتزعج عن مهاد اللهو، وليكتفي الكهل بنور الشيب الذي أضاء له سبيل الرحيل، وليعامل بالبقية المائلة إلى الهوى يربح، ولكن لا كربح الشباب. قال الشافعي رحمه الله فيمن أتى امرأة وهي حائض: إن كان في أول الحيض، فعليه دينار، وإن كان في آخره، فنصف دينار، وهذا لأنه كان في أوله قريب عهد بالجماع ولا يعذر، وفي آخره قد بعد عهده به فخفف عنه، وقال هذا القول أحمد بن رؤبة. ومما قلته في هذا المعنى: قد رأيت المشيب نوراً تبدى ... نور الطريق ثم ما إن تعدى كان نور الشباب عاريةً عندي ... فجاء المعير حتى استردا جاءني ناصحٌ أتاني نذيرٌ ... ببياضٍ أراني الأمر جدا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 دع حديث الصبا ورامة والغور ... ونجداً يا سعد واهجر سُعدى وتزود زاد الشتاء فقد فات ... ربيعٌ ضيعت فيه الوردا قف على الباب سائلاً عفو مولاك ... فما إن يراك يرحم عبدا وله أيضاً: عشت وظل الزمان ممدود ... والغصن يهتز والصبا رود فأقبل الشيب في عساكره ... أسود غابٍ فغابت السود قد كنت في ظلمةٍ فأشرق فجر ... المشيب فالليل عنه مطرود قد يبس الغصن في نضارته ... ومال بعد استقامةٍ عود وجاءك الموت فانتظره وذا العمر ... يسيرٌ والسير معدود لا بد من مزعجٍ على غررٍ ... هيهات باب البقاء مسدود السمع قد صم عن مواعظه ... والجهل فاشٍ والقلب جلمود وله أيضاً: أهل يعود ما مضى لي راجعا؟ ... أم هل أرى نجومه طوالعا إذا تذكرت زماناً ماضياً ... جدد حزناً أنقض الأضالعا بادر بذي الباقي وأدرك ما مضى ... لعل ما يبقى يكون نافعا كان الصبا لهواً عجيباً حاله ... سرعان ما فطمت فيه راضعا ما خلت قبل الشيب أن مفرقاً ... رصع بالدر يذم الراصعا يا حسرتي على زمانٍ قد مضى ... وذهبت أيامه ضوائعا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 الباب الرابع في الموسم الرابع وهو الشيخوخة وقد يكون في أول الشيخوخة بقية هوى، فيثاب الشيخ على قدر صبره، وكلما قوي الكبر، ضعفت الشهوة، فلا يراد الذنب، كما قال الشاعر: تاركك الذنب فتاركته ... بالفعل والشهوة في القلب فالحمد للذنب على تركه ... لا لك في تركك للذنب فإذا تعمد الشيخ ذنباً، فكانه مراغم؛ إذ الشهوة المطالبة قد خرست. ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أبغض الخلق إلى الله شيخٌ زانٍ)) . ومنهم من كأنه يقصد المراغمة، فيلبس الشيخ خاتم الذهب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 فالويل كل الويل لمن لم ينهه شيبه عن عيبه، وما ذاك إلا لخلل في إيمانه. وقد يقول الشيخ العالم: علمي يدفع عني، وينسى أن علمه حجة عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 وقد رئي بعض مشايخنا في المنام، فقيل له: ما فعل الله بك؟ فقال: غفر لي، وهو معرضٌ عني، فقيل له: غفر لك، وأعرض عنك؟ فقال: نعم، وعن جماعة من العلماء لم يعملوا بعلمهم. وقد رأيت بعض مشايخنا وكان مفرطاً، وهو عريان، وقد تعلق بثدييه ثلاثة كلاب صغار، والجرو منها يمص ثدييه. وقد رئي يحيى بن أكثم بعد موته في المنام، فقيل له: ما فعل الله بك؟ فقال: قال ربي: يا شيخ السوء. ورئي منصور بن عمار أيضاً في المنام، فقيل له: ما فعل الله بك؟ قال: قال لي: يا شيخ السوء. وقال الفضيل: يغفر للجاهل سبعون ذنباً قبل أن يغفر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 للعالم ذنبٌ واحد. قال الله عز وجل: {قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولوا الألباب} . قال أبو الدرداء: ويل لمن لا يعلم ولا يعمل مرة واحدة، وويل لمن يعلم ولا يعمل سبع مرات. وقال: أخوف ما أخاف أن يقال لي: علمت؟ فإن قلت: لا، فقد علمت، وإن قلت: نعم، لم يبق آيةٌ آمرةٌ ولا ناهيةٌ إلا وبختني. قال المصنف رحمه الله تعالى: ومما قلته في ذكر الشيب: غررنا بالشباب المستعار ... أفقنا بالمشيب من الخمار أنار لنا المشيب سبيل رشدٍ ... وندمنا على خلع العذار فوا أسفا على عمرٍ تولت ... لذاذته وأبقت قبح عار فنحن اليوم نبكي ما فعلنا ... فكيف وكم وقعنا في خسار فليس لنا سوى حزنٍ وخوفٍ ... وندبٍ في خضوعٍ وانكسار تعالوا نبك ما قد كان منا ... وقوموا في الدياجي باعتذار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 وما شيءٌ لمحو الذنب أولى ... من الأحزان والدمع الغزار ستدري يا مفرط صدق قولي ... إذا غودرت في بطن الصحاري وخلاك الرفيق أسير فقرٍ ... ترافقك الندامة في القفار وقد فازوا بما حازوا جميعاً ... وأنت تصيح ويلي وافتقاري فخذ زاداً لما يكفيك يا من ... ترحله إلى تلك الديار (تمتع من شميم عرار نجدٍ ... فما بعد العيشة من عرار) وله أيضاً: أشيبٌ وعيبٌ إن ذا لبغيض ... سواد صحاف والغدائر بيض مكاثرةٌ للهو والضعف زائدٌ ... وجسمٌ سقيمٌ ذائبٌ ومهيض إذا هم ذو شيبٍ بذنبٍ فإنه ... بغيضٌ، وما اللهو فيه بغيض مريضٌ من الضعف الذي أذهب القوى ... وحق لهذا أن يقال مريض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 الباب الخامس في الموسم الخامس وهو حال الهرم في الحديث: ((ابن الثمانين أسير الله في أرضه)) . ولم يتوف زمان الهرم إلا تدارك ما مضى، والاستغفار والدعاء عمل ما يمكن من الخير اغتناماً للساعات، والتأهب للرحيل. وكان سري السقطي لا ينام إلا غلبة. ودخلوا على أبي القاسم الجنيد -وهو في الموت، وهو يركع ويسجد-، فأراد أن يثني رجله في صلاته، فما أمكن لخروج الروح منها، فقال له رجل: ما هذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 يا أبا القاسم؟ فقال: هذه نعم الله أكبر. وكان عامر بن عبد القيس يصلي كل يوم وليلة ألف ركعة، فلقيه رجل فقال: أكلمك كلمة. فقال: أمسك الشمس. وقال لرجل سأله: اعجل فإني مبادر، قال: وما الذي تبادر؟ قال: خروج روحي. وقال عثمان الباقلاني: أبغض الأشياء إلي وقت الفطر؛ لأني أشتغل بالأعمال عن الذكر. وكان داود الطائي يشرب الفتيت، ولا يأكل الخبز، فقيل له في ذلك، فقال: بين شرب الفتيت ومضغ الخبز قراءة خمسين آية. ودخل قوم على عابد يعودونه، فرأوه، فقالوا: لعلنا أشغلناك، فقال: أصدقكم؟ كنت أقرأ، فمنعتموني من وردي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 ومن نظر في شرف العمر اغتنمه، ففي الصحيح: ((من قال سبحان الله العظيم وبحمده، غرست له نخلةٌ في الجنة)) . وقال الحسن رحمه الله: الجنة قيعانٌ، والملائكة تغرس، فربما فتروا، فيقال لهم: ما لكم فترتم؟ فيقولون: فتر صاحبنا، فقال: أمدوهم رحمكم الله. وقد رأينا جماعة من الأشياخ يرتاحون إلى حضور الناس عندهم، وسماع الأحاديث التي لا تنفع، فيمضي زمانهم في غير شيء، ولو فهموا، كانت تسبيحةٌ أصلح. وهذا لا يكون إلا من الغفلة عن الآخرة؛ لأن بتسبيحة واحدة يحصل الثواب على ما ذكرناه، والأحاديث الدنيوية تؤذي ولا تنفع. وكان أبو موسى الأشعري يصوم في الحر، فيقال له: أنت شيخ كبير، فقال: إني أعده لعسير طويل. وقيل لعابد: ارفق بنفسك، فقال: الرفق أطلب. وقيل: جاء بعض أصحاب السري يزوره، فوجد عنده جماعة، فقال: يا سري! صرت مناخاً للبطالين، ثم ذهب ولم يقعد. فمن عرف شرف العمر وقيمته، لم يفرط في لحظة منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 فلينظر الشاب في حراسة بضاعته، وليتحفظ الكهل بقدر استطاعته، وليتزود الشيخ للحاق بجماعته، ولينظر الهرم أن يؤخذ في ساعته، نفعنا الله وإياكم بعلومنا، ولا سلبنا وإياكم فهومنا، ومتعنا بأسماعنا وأبصارنا، ولا جعل علمنا حجةً علينا، إنه ولي ذلك والقادر عليه. نجز الكتاب، والحمد لله وحده، وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62