الكتاب: مجالس العلماء المؤلف: عبد الرحمن بن إسحاق البغدادي النهاوندي الزجاجي، أبو القاسم (المتوفى: 337هـ) المحقق: عبد السلام محمد هارون الناشر: مكتبة الخانجي - القاهرة، دار الرفاعي بالرياض لطبعة: الثانية 1403 هـ - 1983 م عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] أعده للشاملة: يا باغي الخير أقبل ---------- مجالس العلماء للزجاجي الزجاجي الكتاب: مجالس العلماء المؤلف: عبد الرحمن بن إسحاق البغدادي النهاوندي الزجاجي، أبو القاسم (المتوفى: 337هـ) المحقق: عبد السلام محمد هارون الناشر: مكتبة الخانجي - القاهرة، دار الرفاعي بالرياض لطبعة: الثانية 1403 هـ - 1983 م عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] أعده للشاملة: يا باغي الخير أقبل مجالس العلماء لأبي القاسم عبد الرحمن إسحاق الزجاجي 339 هـ عبد السلام محمد هارون الناشر مكتبة الخانجي - القاهرة دار الرفاعي بالرياض الطبعة الثانية 1403 هـ - 1983 م بسم الله الرحمن الرحيم 1- مجلس عيسى بن عمر الثقفي مع أبي عمرو بن العلاء حدثني أبو عبد الله الحسن بن علي قال: حدثني أبو عبد الله اليزيدي عن عمه عن جده أبي محمد. وقال أبو جعفر محمد بن حبيب: ذكر أبو محمد اليزيدي قال: جاء عيسى بن عمر إلى أبي عمرو بن العلاء ونحن عنده فقال: يا أبا عمرو، ما شيءٌ بلغني أنك تجيزه؟ قال: وما هو؟ قال: بلغني أنك تجيز: ((ليس الطيب إلا المسك)) بالرفع. قال: فقال له أبو عمرو: نمت يا أبا عمر وأدلج الناس، ليس في الأرض حجازي إلا وهو ينصب، ولا في الأرض تميمي إلا وهو يرفع. قال اليزيدي: ثم قال أبو عمرو: تعال أنت يا يحيى، وتعال أنت يا خلف -لخلفٍ الأحمر- اذهبا إلى أبي المهدي فلقناه الرفع فإنه لا يرفع، واذهبا إلى المنتجع التميمي ولقناه النصب فإنه لا ينصب. قال: فذهبت أنا وخلفٌ وأتينا أبا المهدي فإذا هو يصلي وكان به عارض، وإذا هو يقول في الصلاة: إخسأنان عني! قال: ثم قضى صلاته وانفتل إلينا فقال: ما خطبكما؟ قلنا: جئنا نسألك عن شيءٍ من كلام العرب. فقال: هاتيا. فقلت له: كيف تقول: ليس الطيب إلا المسك؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 3 فقال: أتأمراني بالكذب على كبرة سني فأين الجادي؟ قال ابن حبيب: وحكى ابن الأعرابي: فأين بنة الإبل؛ وأين كذا وأين كذا؟ قال اليزيدي: فقال له خلفٌ: ليس الشراب إلا العسل. قال: فما يصنع سودان هجر، ما لهم شرابٌ إلا هذا التمر. قال اليزيدي: فلما رأيت ذلك منه قلت له: ليس ملاك الأمر إلا طاعة الله والعمل بها. قال: فقال: هذا كلامٌ لا دخل فيه، ليس ملاك الأمر إلا طاعة الله والعمل به. فنصب. قال اليزيدي: فقلت له: ليس ملاك الأمر إلا طاعة الله والعمل به. ورفعت، فقال: لا، ليس هذا من لحني ولا من لحن قومي. قال: فكتبنا ما سمعنا منه. قال: فقال: ألا أنشدكما أبياناً قلتها حين سمعت تراطن هذه الأعاجم حولي؟ قلنا: بلى. فأنشدنا: يقولون لي شنبذ ولست مشنبذا ... طوال الليالي أو يزول ثبير ولا قائلا زوذا لأعجل صاحبي ... وبستان في صدري علي كبير ولا تاركاً لحناً لأحسن لحنكم ... ولو دار صرف الدهر حيث يدور قال: فكتبنا هذه الأبيات ثم أتينا المنتجع، فأتينا رجلا يعقل، فقال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 4 له خلف: ليس الطيب إلا المسك، قال: فرفع، ولقناه وجهدنا به في ذلك، فلم ينصب وأبي إلا الرفع. قال: فأتينا أبا عمرو فأعلمناه وعنده عيسى بن عمر لم يبرح، قال فأخرج عيسى خاتمه من يده ثم قال: لك الخاتم، بهذا والله فقت الناس! قال محمد بن سلام الجمحي: [كان أبو مهدي] هذا، وهو من باهلة، يضرب حنكيه يمينا وشمالا ويقول: إخسأنان عني. فسألناه عن ذلك فقال: جنانٌ تذأمني. أي تركبني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 2- مجلس أبي عمرو مع أبي خيرة حدثني أبو الحسن علي بن سليمان قال: حدثني أبو العباس أحمد بن يحيى قال: حدثني الرياشي، قال: حدثني الأصمعي قال: قال أبو عمرو بن العلاء لأبي خيرة: كيف تقول: حفرت إراتك؟ [فقال: حفرت إراتك] . قال: فكيف تقول: استأصل الله عرقاتِهم أو عرقاتَهم؟ فقال: استأصل الله عرقاتَهم. فلم يعرفها أبو عمرو وقال: لأن جلدك يا أبا خيرة. يقول: أخطأت. قال أبو العباس: وهي لغةٌ لم تبلغ أبا عمرو. يقال وأرت إرة أئرها وأرا، إذا حفرت حفيرة تطبخ فيها. وإراتٌ: جمع إرة. وقال أبو عثمان: كان أبو عمرو يرده ويراه لحنا. قال المازني: واختلفوا فيها فقال بعضهم: عرقاتهم وقال بعضهم: عرقاتهم. فأما من قال عرقاتِهم فإنه يجعله جمع عرق، ومن نصبه جعله بمنزلة سِعلاة وعلقاة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 وأما لغاتهم وما أشبهه فلا يجوز فيه إلا الكسر، لأنه تاء جمع. وأنشدنا الأصمعي للهذلي: كأن ظباتها عقرٌ بعيج ... فهذه جمع ظبة. وكذلك ثباتٌ. والأصل في لغة لغوة، فلما تحركت الواو وانفتح ما قبلها قلبت ألفا. وهو اسمٌ حذفت لامه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 3- مجلس المنتجع بن نبهان مع أبي خيرة حدثني أبو الحسن قال: حدثني أحمد بن يحيى قال: حدثني الرياشي قال: حدثني أبو زيد قال: قال منتجع: كمء وكمأة للجميع. فقال أبو خيرة: كمأة للواحد وكمء للجميع، مثل تمرة وتمر. قال: فمر بهم رؤبة فسألوه فقال كما قال منتجع. وقال الأصمعي كما قال أبو خيرة. وقال أبو زيد: قد يقال كمأة وكمء كما قال أبو خيرة. وقد سمعت أبا زيد يقول: قال المنتجع: أغمي على المريض. وقال أبو خيرة: غمي. فأرسلوا إلى أم أبي خيرة فقالت: أغمي على المريض. فقال لها المنتجع: أفسدك ابنك. وكان وراقا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 4- مجلس سيبويه مع الكسائي وأصحابه بحضرة الرشيد حدثني أبو الحسن قال: حدثني أبو العباس أحمد بن يحيى، وأبو العباس محمد بن يزيد وغيرهما قال أحمد: حدثني سلمة قال: قال الفراء: قدم سيبويه على البرامكة، فعزم يحيى على الجمع بينه وبين الكسائي، فجعل لذلك يوما، فلما حضر تقدمت والأحمر فدخلنا، فإذا بمثالٍ في صدر المجلس، فقعد عليه يحيى، وقعد إلى جانب المثال جعفرٌ والفضل ومن حضر بحضورهم، وحضر سيبويه فأقبل عليه الأحمر فسأله عن مسألةٍ أجاب فيها سيبويه، فقال له: أخطأت. ثم سأله عن ثانية فأجابه فيها، فقال له: أخطأت. ثم سأله عن ثالثة فأجابه فيها فقال له: أخطأت. فقال له سيبويه: هذا سوء أدب! قال: فأقبلت عليه فقلت: إن في هذا الرجل حدا وعجلة، ولكن ما تقول فيمن قال: هؤلاء أبون، ومررت بأبين، كيف تقول مثال ذلك من وأيت أو أويت. قال: فقدر فأخطأ. فقلت: أعد النظر فيه. فقدر فأخطأ. فقلت: أعد النظر، ثلاث مرات، يجيب ولا يصيب. قال: فلما كثر ذلك قال: لست أكلمكما أو يحضر صاحبكما حتى أناظره. قال: فحضر الكسائي فأقبل على سيبويه فقال: تسألني أو أسألك؟ فقال: لا، بل سلني أنت. فأقبل عليه الكسائي فقال له: ما تقول أو كيف تقول: قد كنت أظن أن العقرب أشد لسعة من الزنبور فإذا هو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 هي، أو فإذا هو إياها؟ فقال سيبويه: فإذا هو هي. ولا يجوز النصب. فقال له الكسائي: لحنت. ثم سأله عن مسائل من هذا النوع: خرجت فإذا عبد الله القائم، أو القائم؟ فقال سيبويه في كل ذلك بالرفع دون النصب. فقال الكسائي: ليس هذا كلام العرب، العرب ترفع في ذلك كله وتنصب. فدفع سيبويه قوله، فقال يحيى بن خالد: قد اختلفتما وأنتما رئيسا بلديكما فمن ذا يحكم بينكما؟ فقال الكسائي: هذه العرب ببابك، قد جمعتهم من كل أوب، ووفدت عليك من كل صقع، وهم فصحاء الناس، وقد قنع بهم أهل المصرين، وسمع أهل الكوفة وأهل البصرة منهم، فيحضرون ويسألون. فقال يحيى وجعفر: لقد أنصفت. وأمر بإحضارهم، فدخلوا وفيهم أبو فقعسٍ، وأبو زياد، وأبو الجراح، وأبو ثروان، فسئلوا عن المسائل التي جرت بين الكسائي وسيبويه، فتابعوا الكسائي وقالوا بقوله. قال: فأقبل يحيى على سيبويه فقال له: قد تسمع أيها الرجل. قال: فاستكان سيبويه، وأقبل الكسائي على يحيى فقال: أصلح الله الوزير، إنه قد وفد عليك من بلده مؤمِّلا، فإن رأيت ألا ترده خائبا. فأمر له بعشرة آلاف درهم، فخرج وصير وجهه إلى فارس، فأقام هناك حتى مات ولم يعد إلى البصرة. قال أبو العباس: وإنما أدخل العماد في قوله: فإذا هو إياها، لأن ((فإذا)) مفاجأة، أي فوجدته ورأيته. ووجدت ورأيت تنصب شيئين، ويكون معه خبر، فلذلك نصبت العرب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 5- مجلس الكسائي مع أبي محمد اليزيدي حدثني أبو الحسن قال: حدثني أبو العباس ثعلب قال: حدثني خلف البزاز قال: جمعت الكسائي واليزيدي في عرس أم هؤلاء –يعني أولاده- فقال له اليزيدي: يا أبا الحسن، تأتينا عنك أشياء ننكرها. فقال: وأي شيءٍ مع الناس إلا فضل بزاقى. قال: فما كلمه حتى قام. قال أبو العباس: كان الكسائي لم يكن يعتل، فإذا اعتل لم يقم له. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 6- مجلس عبد الملك بن قريب مع كيسان حدثني أبو الحسن قال: حدثني أبو العباس ثعلب قال: قرأ بعض أصحاب الأصمعي عليه شعر النابغة الجعدي حتى انتهى إلى قوله: إنك أنت المحزون في أثر الحي ... فإن تنو نيهم تقم فقال الأصمعي: معناه فإن تنو نيهم تقم صدور الإبل، تظعن نحوهم، كما قال الآخر: أقم لها صدورها يابسبس فقال له كيسان: كذبت، أما إنك سمعت من أبي عمرو بن العلاء، لكن نسيت، إنما أراد أنهم قد نووا فراقك فذهبوا وتركوك، فإن تنو لهم مثل ما نووا فيك من القطيعة تقم في دارك ومكانك، ولا ترحل عنهم ولا تطلبهم، كما قال الآخر: إذا اختلجت عنك النوى ذا مودة ... قربن بقطاع من البين ذي شعب أذاقتك مر العيش أو مت حسرة ... كما مات مسقى الضياح على ألب ألب يألب، ولاب يلوب واحد. يقول: إذا باعدت بيني وبين من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 أحب قربن –يعني إبلي- قربت إلى منزلي ووطني، ومياهي، ولم أتبع من فارقني، لأني صبور على الفراق جلدٌ متعود لذلك. فقطاع يعني نفسه هو القطاع، لأني أقطع من قطعني. وأذاقتك، يعني من تحب، وهي التي فارقتها، فأنت وإن كنت كذا وعلى هذا الحال فأنت صبورٌ، قوي على القطع. وكما قال الراعي: وإلفٍ صبرت النفس عنه وقد رأى ... غداة فراق الحي ألا تلاقيا وقد قادني الجيران حينا وقدتهم ... وفارقت حتى ما تحن جماليا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 7- مجلس الأصمعي مع المفضل عند عيسى بن جعفر حدثني أبو الحسن علي بن سليمان قال: حدثني أحمد بن يحيى ومحمد بن يزيد، قالا: حدثنا الرياشي عن الأصمعي قال: ناظرني المفضل عند عيسى بن جعفر، فأنشد بيت أوس بن حجر: وذات هدمٍ عار نواشرها ... تصمت بالماء تولبا جذعا فقلت له: هذا تصحيف، لا يوصف التولب بالإجذاع، وإنما هو ((جدعاً)) . والجدع: السيء الغذاء. قال: فجعل المفضل يشغب، فقلت له: تكلم كلام النمل وأصب، لو نفخت في شبور يهودي ما نفعك شيئا. وحدثني أبو جعفر أحمد بن عبد الله بن مسلم قال: حدثني أبي عبد الله قال: بلغني عن الجاحظ أن المفضل أنشد جعفر بن سليمان بيت أوس بن حجر فأنشده ((جذعا)) بالذال مفتوحة، والأصمعي حاضر، فقال الأصمعي: إنما هو ((تولباً جدعاً)) ، بالدال مكسورة غير معجمة. وأنشد لأبي زبيد: لا غيلٌ ولا جدع ... الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 وأنشده لآخر: بلا جدعِ النبات ولا جديب ... فضج المفضل ورفع صوته وهو يصيح، فقال له الأصمعي: لو نفخت! وفسر أبو محمد البيت فقال: النواشر: عصب الذراع، واحدها ناشرة، وبها سمي الرجل. والتولب يريد طفلها، وأصله ولد الحمار الصغير فاستعاره. والجدع: السيء الغذاء المقطوع عنه الري. تصمته بالماء، يقول: ليس لها لبنٌ من الضر وشدة الزمان، فهي تعلله بالماء. وحدثني به أحمد بن مابنداذ، حدثني أحمد بن يحيى ثعلب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 8- مجلس الأصمعي مع ابن الأعرابي عند سعيد بن سلم حدثني أبو جعفر أحمد بن عبد الله قال حدثني أبي قال: أخبرني بعض أصحابنا أن السبب في طعن ابن الأعرابي على الأصمعي وقدحه فيه، أن الأصمعي دخل يوما على سعيد بن سلم وابن الأعرابي يؤدب حينئذ ولده، فقال لبعضهم: أنشد أبا سعيد. فأنشد الغلام لرجل من بني كلاب شعرا رواه إياه ابن الأعرابي، وهو: رأت نضو أسفارٍ أميمة قاعدا ... على نضو أسفارٍ فجن جنونها فقالت: من أي الناس أنت ومن تكن ... فإنك راعي صرمةٍ لا تزينها فقلت لها: ليس الشحوب على الفتى ... بعارٍ ولا خير الرجال سمينها عليك براعي ثلة مسلحبة ... يروح عليه محضها وحقينها سمين الضواحي لم تؤرقه ليلةٌ ... وأنعم أبكار الهموم وعونها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 ورفع ليلة، فقال له الأصمعي: من رواك هذا؟ فقال: مؤدبي. فأحضره واستنشده البيت، فأنشده ورفع ليلة، فأخذ ذلك عليه، وفسر البيت فقال: إنما أراد لم تؤرقه ليلة أبكار الهموم. وعونها: جمع عوانٍ. وأنعم، أي زاد على هذه الصفة. وقوله: ((سمين الضواحي)) ، يريد ما ظهر فيه وبدا سمينٌ. ثم قال لابن سلم: من لم يحسن هذا فليس موضعا لتأديب ولدك. فنحاه. وأنشدني هذه الأبيات أبو الحسن قال: أنشدني ثعلب عن ابن الأعرابي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 9- مجلس الأصمعي مع أبي عمرو الشيباني حدثني أبو جعفر عن أبيه أبي محمد عبد الله بن مسلم قال: حدثني غير واحدٍ، منهم أحمد بن سعيد اللحياني، عن أبي عبيد. وحدثني أبو الحسن قال: حدثني محمد بن يزيد المبرد قال: حدثني أبو محمد التوزي عن أبي عمرو الشيباني، قال: كنا بالرقة، فأنشد الأصمعي: عننا باطلا وظلما كما تعنز ... عن حجرة الربيض الظباء فقال له: سبحان الله! ((تعتر)) من العتيرة. فقال الأصمعي: ((تعنز)) أي تطعن بعنزة. فقلت له: لو نفخت في شبور اليهودي وصحت إلى التناد ما كان إلا ((تعتر)) ، ولا ترويه بعد اليوم إلا ((تعتر)) . قال أبو العباس محمد بن يزيد: قال التوزي قال لي أبو عمرو: فقال: والله لا أعود بعدها إلى ((تعنز)) . والشعر للحارث بن حلزة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 وحدثنا أبو عبد الله اليزيدي قال: حدثنا أحمد بن يحيى قال: حدثني أحمد بن سعيد بن سلم بن قتيبة الباهلي قال: جاءني الأصمعي وأبو عمروٍ عند أبي، فأنشد الأصمعي: ((كما تعنز عن حجرة)) ، فقال أبو عمرو: ((تعتر)) ، فقال الأصمعي: هذا مأخوذ من العنزة والاعتناز. فقال أبو عمرو: ليس تروي بعد وقتك هذا إلا ((تعتر)) . قال أبو محمد عبد الله بن مسلم: العتر: الذبح. والعتيرة: الذبيحة. والحجرة: الحظيرة تتخذ للغنم. والربيض: جماعة الغنم. وكان الرجل من العرب ينذر نذرا على شائه إذا بلغت مائة، أن يذبح عن كل عشرة منها شاة في رجب، وكان تسمى تلك الذبائح الرجبية، وهي العتائر. وكان الرجل منهم ربما بخل بشائه فيصيد ظباء فيذبحها عن غنمه في رجب ليوفي نذره، فقال: أنتم تأخذوننا بذنوب غيرنا، كما ذبح أولئك الظباء عن غنمهم. ومثله: إذا اصطادوا بغاناً شيطوه ... فكان وفاء شائهم القروع ويروى: ((فكان وقاء شائهم القروع)) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 10- مجلس الكسائي مع يونس حدثني أبو الحسن علي بن سليمان قال: حدثني أبو العباس محمد بن يزيد قال: قال محمد بن سلام الجمحي: قدم الكسائي البصرة مع الرشيد، فجلس إلى يونس في حلقته، فألقى عليه بعض من حضر في المجلس ببيت الفرزدق: غداة أحلت لابن أصرم طعنةٌ ... حصينٍ عبيطات السدائف والخمر فأنشده هكذا، فقيل للكسائي: على أي شيءٍ رفعت؟ فقال: أضمرت فعلا، كأنه: وحلت لي الخمر. فقال يونس: ما أحسن والله ما وجهته، غير أني سمعت الفرزدق ينشده: غداة أحلت لابن أصرم ضربة ... حصينٍ عبيطات السدائف والخمر جعل الفاعل مفعولا كما قال الحطيئة: فلما خشيت الهون والعير ممسكٌ ... على رغمه ما أمسك الحبل حافره والقصيدة على الرفع، جعل الفاعل مفعولا. فقال الكسائي: هذا على هذا وجهٌ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 11- مجلس العتابي كلثوم بن عمرو مع منصور النمري قال أحمد بن الحارث الخزاز: أنشد العتابي كلثوم بن عمرو: يا ليلة لي بحوارين ساهرة ... حتى تكلم في الصبح العصافير فقال له منصور النمري: العصافير تتكلم؟ فقال العتابي: نعم تتكلم وتنطق، ويقال ذلك لما أعرب عن نفسه بحالٍ ترى فيه، فيقال: أخبرت الدار بكذا، وتكلمت بكذا، فكيف ماله نطقٌ؟! أما سمعت قول كثيرٍ: سوى ذكرةٍ منها إذ الركب عرسوا ... وهبت عصافير الصريم النواطق وقول الكميت: كالناطقات الصادقات ... الواسقات من الذخائر قال: فسكت منصورٌ منقطعا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 12- مجلس الأصمعي مع عباس بن الأحنف قال الأصمعي: بعث إلي محمد بن هارون، فدخلت عليه وفي يده كتابٌ يديم النظر فيه ويتعجب منه، فقال لي: يا عبد الملك، أما تعجب من هذا الشاب وما يجيء به؟ فقلت: من هو؟ فقال: عباس بن الأحنف. ثم رمى إلي الكتاب فإذا فيه شعرٌ قاله عباس، وهو: إذا ما شئت أن تصنع ... شيئاً يعجب الناسا فصور هاهنا فوزا ... وصور ثم عباسا ودع بينهما شبرا ... وإن زدت فلا باسا فإن لم يدنوا حتى ... ترى راسيهما راسا فكذبها بما قاست ... وكذبه بما قاسى قال الأصمعي: وكان بيني وبين عباس شيء فقلت: مسترقٌ يا أمير المؤمنين. قال: ممن؟ قلت: من العرب والعجم. قال لي: ما كان من العرب؟ قلت: رجلٌ يقال له ((عمر)) ، هوي جارية يقال لها ((قمر)) ، فقال: إذا ما شئت أن تصنع ... شيئاً يعجب البشرا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 فصور هاهنا عمراً ... وصور هاهنا قمرا فإن لم يدنوا حتى ... ترى بشريهما بشرا فكذبها بما ذكرت ... وكذبه بما ذكرا قال: فما كان من العجم؟ قلت: رجل يقال له ((فلقا)) ، هوي جارية يقال لها ((روق)) فقال: إذا ما شئت أن تصنع ... شيئاً يعجب الخلقا فصور هاهنا روقا ... وصور هاهنا فلقا فإن لم يدنوا حتى ... ترى خلقيهما خلقا فكذبها بما لاقت ... وكذبه بما يلقى فبينا نحن كذلك إذ جاء الحاجب فقال: عباسٌ بالباب. فقال: ائذن له. فدخل فقال: يا عباس، تسرق معاني الشعر وتدعيه! فقال: ما سبقني أحد. فقال محمد: هذا الأصمعي يحكيه عن العرب والعجم. ثم قال: يا غلام ادفع الجائزة إلى الأصمعي. فلما خرجنا قال لي العباس: كذبتني وأبطلت جائزتي! فقلت: أتذكر يوم كذا. ثم أنشأت أقول: إذا وترت امرأ فاحذر عداوته ... من يزرع الشوك لا يحصد به عنبا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 13- مجلس حماد الراوية مع مروان بن أبي حفصة حدثني أبو بكر قال: حدثني أبو العباس أحمد بن يحيى قال: حدثنا علي بن المغيرة الأثرم قال: حدثني مروان بن أبي حفصة، قال: دخلت أنا وعدادٌ من الشعراء على الوليد، وإذا رجل غائبٌ في الفراش، وكنا عدة من الشعراء: طريح، وأشجع وغيرهما. قال: فكل من أنشد التفت إلى الخليفة فقال: سرق ذا من كذا وذا من كذا، حتى يأتي على شعره، فقلت لبعض من أقول: من هذا؟ قال: حماد الراوية. فلما وقفت على أمير المؤمنين قلت: يا أمير المؤمنين، ما لهذا والكلام، وهو لحانة! قال: فتهانف الشيخ وقال: يا ابن أخي، إني أجالس السوق فلساني على لسانهم، وأنا أعلم الناس بالشعر، فهل تروي من أشعار العرب شيئا. فذهب عليَّ الشعر إلا شعر ابن مقبل. فقال: أنشدني. فلما أنشدته: سل الدار من جنبي حبرٍ فواهبٍ ... إلى ما رأى هضب القليب المضيح فذهبت أمر، فقال لي: مكانك، أين تذهب، ما يقول؟ قال: فلم أدر؟ قال: فقال لي: يقال رأى الموضع الموضع، إذا قابله. أنشد فلا بأس عليك. ثم لم ألقه إلى زمان المسودة. فبينا أنا في بعض الطرق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 فإذا إنسانٌ من خلفي يغمزني بسوطه، فالتفت فإذا حماد، فقلت: لا إله إلا الله، أبعد تلك الحال! قال: نعم، ذهب ويحك ما كنت تعهد، ذاك زمانٌ وهذا زمان. قال: وكانت قد جاءت الدولة العباسية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 14- مجلس محمد بن زياد الأعرابي مع الحسين بن الضحاك بحضرة الواثق بالله قال إسحاق بن زياد أبو العباس أخو ابن الأعرابي: قال أبو عبد الله ابن الأعرابي: دخلت على الواثق بالله، فقرأ علي الفتح بن خاقان شعر طرفة فقال: تذكرون إذ نقاتلكم ... إذ لا يضر معدما عدمه قال: فقلت له: زد فيها ألفا: ((أتذكرون)) . قال: فقال لي الحسين بن الضحاك وهو نديم أمير المؤمنين، وكان معه محمد بن عمر الرومي: قد خزم مرة بقوله ((إذ لا)) ويخزم بألف أخرى في أوله؟ قال فقلت له: العرب تخزم أول الشعر، إذا احتاجت أن تصله بما قبله خزمته بالحرف والحرفين، وقد خزمه طرفة في أوله وأوسطه، الألف الأولى والثانية. قال: وأنشدته قول امرئ القيس: فلعمرك ما سعدٌ بخلةٍ آثم ... ولا نأنإٍ يوم الحفاظ ولا حصر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 فخزم بالفاء: وأنشدته قول قد بن مالك الوالبي: تعالوا نجمع الأموال حتى ... نجحدل من قبيلتنا المئينا وإلا فتعالوا نجتلد بمهنداتٍ ... نشق بها الحواجب والشئونا فخزم بقوله: ((وإلا)) ولم يقل: تعالوا نجتلد، وخزم بالفاء التي في ((تعالوا)) ، فخزم مرتين. وأنشدته لبعض بني تميم: [إذا أنت لم تستقبل الأمر لم تجد ... لك الدهر في أدباره متعلقا وإذا أنت لم تترك أخاك وزلة ... إذا زلها أوشكتما أن تفرقا فخزم بالواو. قال: وقرأ قصيدة عنترة: نهدٍ تعاوره الكماة مكلم ... وكان رواه أبو مسلم المغرب فقال أبو عبد الله ((نقذٍ تعاوره الكماة)) . قال المغرب: ما سمعت بهذا إلا هكذا. قال أبو عبد الله: يروى هذا وهذا جميعا، و ((نقذ)) أجود القولين وأشعر. وإنما جاءوا بمثلي ليختار لهم خير الكلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 قال: وأنشدته قول عمرو بن كلثوم: وتحملنا غداة الروع جردٌ ... عرفن لنا نقائذ وافتلينا يقول: استتنقذناهن من أعدائنا فصارت لنا، فهي نقائذ، وذلك أعز لهم: أن يكونوا غالبين أبدا، إنما هم على خيولٍ غنموها من آخرين ونتجت عندهم. قال: ثم قرأ قصيدة عمرو بن كلثوم: ((ألا هبي)) . قال: وكان قد علمه: فصالوا صولة فيما يليهم ... وصلنا صولة فيما يلينا قال: فرددت ((صولة)) وقلت: ((فصالوا صولهم)) ، ألا ترى قوله: ((وصلنا صولنا)) . قال: فأعجب ذلك أمير المؤمنين، وقالوا جميعا: هو أعلم بذلك منا يا أمير المؤمنين. فجزاه أمير المؤمنين خيرا وأمر له بعشرة آلاف درهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 15- مجلس الأصمعي مع أبي توبة ميمون بن حفص قال أبو العباس أحمد بن يحيى: كان أبو توبة ميمون بن حفص مؤدبا لعمرو بن سعيد بن سلم، فقدم الأصمعي البصرة فنزل على سعيد بن سلم، فحضر يوما وأخذ يسائله، فدعا سعيد بأبي توبة فجعل أبو توبة إذا مر شيءٌ من الغريب بادر إليه، فيأتي بكل ما في الباب أو أكثره، فشق ذلك على الأصمعي فعدل إلى المعاني فسأل أبا توبة عنها، فقال له سعيد: لا تتبعه يا أبا توبة في هذا الفن فإن هذه صناعته. فقال: وما علي، إذا سألني عما أحسنه أجبته، وما لم أحسن تعلمته. فلم يزل الأصمعي يسأله وأبو توبة يجيبه. حتى سأل عن هذا البيت: واحدةٌ أعضلكم أمرها ... فكيف لو درت على أربعٍ قال: ونهض الأصمعي فدار على أربعٍ ليلبس على أبي توبة، فأجابه أبو توبة بجواب يشاكل ما وهمه، فضحك الأصمعي من جوابه فقال له سعيد: ألم أقل لك يا أبا توبة؟ قال: ومعنى البيت أنه تزوج امرأة واحدة فقال: قد شق عليك أن تزوجت واحدة، فكيف لو تزوجت أربعا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 16- مجلس علي بن حمزة الكسائي مع المفضل بحضرة الرشيد قال أبو العباس أحمد بن يحيى: روي عن أبي عمرو الشيباني أنه قال: أخبرنا المفضل قال: جاءني رسول الرشيد يوم خميس بكرا فقال لي: أجب. فدخلت عليه ومحمدٌ عن يمينه، والمأمون عن يساره، والكسائي بين يديه باركا، وهو يطارح محمدا والمأمون معاني القرآن، فسلمت فردّ وقال: اجلس. فجلست فقال لي: كم اسمٍ في سيكفيكهم الله؟ قلت: ثلاثة أسماء يا أمير المؤمنين، أولا اسم الله تبارك وتعالى لا إله إلا هو، والثاني اسم النبي صلى الله عليه وسلم، والثالث اسم الكفرة، فالياء والكاف المتصلتان بالسين لله جل عز، والياء والكاف المتصلتان بالهاء للنبي لله، والهاء والميم للكفرة. فقال: كذا أخبرنا الشيخ. وأشار بيده إلى الكسائي، والتفت إلى محمد، فقال له: أفهمت؟ فقال: قد فهمت يا أمير المؤمنين. قال: فاردد ذلك علي، فرده فقال: أحسنت! ثم روى ببصره إلي فقال: من يقول: نفلق هاما لم تنله سيوفنا ... بأسيافنا هام الملوك القماقم فقلت: الفرزدق يا أمير المؤمنين. قال: فما أراد بذلك؟ ثم قال: لا، ولكن نفلق هاما لم تنله سيوفنا فيما زعم. قلت: هذا لفظ مدغم يستتر فيه صواب معناه على التقديم والتأخير، وذلك أنه قال: نفلق بأسيافنا هام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 الملوك القماقم، ثم رجع فقال: ها من لم تنله سيوفنا، على التنبيه والتعجب. قال: صدقت، عندك مسألة. قلت: نعم يا أمير المؤمنين. [قال] : قال الفرزدق: أخذنا بآفاق السماء عليكم ... لنا قمراها والنجوم الطوالع قال: قد أفدنا هذا متقدماًَ من هذا الشيخ علي بن حمزة. القمران: الشمس والقمر، كما قالوا في العمرين، يريدون أبا بكر وعمر. قلت: أزيد يا أمير المؤمنين في السؤال؟ قال: زد. قلت: فلم استحقوا هذا بعد؟ ولم قالوا ذلك؟ قال: لأن من شأن العرب إذا اجتمع شيئان من جنسٍ واحد فكان أحدهما أشهر سمي الآخر باسمه. ولما كان القمر أشهر عند العرب وأكثر في أوقات المشاهد، وتدركه ليلا ونهارا، سموا الشمس باسمه. وهي القصة في تسميتها أبا بكر عمر؛ إذ كانت خلافة عمر أكثر وأشهر في الإسلام للفتوح وطول المدة. قلت: بقي مع هذا زيادةٌ يا أمير المؤمنين. قال: لا أعرفها. ثم التفت إلى الكسائي فقال: أتعرف في هذا أكثر من الذي سمعت؟ قال: لا يا أمير المؤمنين، هذا الذي [هو] معروف المعنى عند العرب. قال المفضل: فأمسك عني قليلا كالمستعمل فيه الفكرة ثم نظر إلي وقال: أعندك فيه زيادة؟ قلت: نعم يا أمير المؤمنين، وهي فضيلة المعنى والغاية التي جرى إليها، ولولا ذلك ما كان بأولى بالشمس والقمر والنجوم من غيره، ولا يفتخر فيه بما حظ غيره كحظه، الشمس هاهنا إبراهيم الخليل عليه السلام، والقمر النبي صلى الله عليه وسلم، والنجوم أنت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 يا أمير المؤمنين، وآباؤك من الخلفاء المهديين. فتهلل سرورا ثم قال: أغربت على الرجل محسنا. ثم رفع رأسه فقال: يا فضل. قال: لبيك يا أميري المؤمنين. قال: تحمل إلى منزله الساعة عشرة آلاف درهم، وائذن لمن حضر الباب من الشعراء. ثم وضع لي كرسي وللكسائي كرسي، وأشار إلينا، فجلس كل واحدٍ منا على كرسيه. فدخل الفضل وخلفه العماني ومنصور النمري، فسلما فرد، ثم قال للفضل: أدن الشيخ مني. فأخذ بيد العماني فقدمه إلى الموضع الذي كنت فيه جالسا، ثم قال له: تكلم بشرف أمير المؤمنين. فأنشده: قل للإمام المقتدى بأمه ... ما قاسمٌ دون مدى ابن أمه فقد رضيناه فقم فسمه ... فضحك الرشيد وقال: وما ترضى أن أسميه ولي عهد وأنا جالسٌ حتى تنهضني قائما؟ قال: يا أمير المؤمنين، إنه قيام عزم، ولو قام بذلك أمير المؤمنين متخطيا قام بشرفٍ يكون من شرفٍ يسود به هذان –وأشار إلى محمد وعبد الله- بمكان الأنف من الحاجبين. قال: صدقت، أفعل ما ذكرت، يا غلام القاسم. وهدر العماني حتى أتى على آخر الأرجوزة. ودخل القاسم فسلم، فأشار إليه فجلس إلى جانب عبد الله ثم التفت إليه فقال: جائزة هذا الشيخ اليوم عليك. قال: نعم يا أمير المؤمنين. قال: فأنجزها له إذن فقد وعى إلي العهد. قال: حكم أمير المؤمنين. قال: بل حكمك، وما أنا والدخول في هذا؟ وأشار إلى النمري، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 فدنا فأسمعه حتى إذا بلغ: ما كدت أوفي شبابي كنه غرته ... حتى انقضى فإذا الدنيا له تبع قال: صدقت والله وأصبت، ولا خير في دنيا لا يخطر فيها برداء الشباب. ثم أمسك حتى أتى على باقي الشعر. واستؤذن لسعيد بن سلم فقال: يدخل. فسلم فرد عليه، وأشار إليه بالجلوس فقال: يا أمير المؤمنين، غلامٌ أعرابي من باهلة وفد على أمير المؤمنين سيدي ما سمعت بمديحٍ لشاعرٍ مثله. فقال: إنك قد استنبحت هذين الشيخين فهيء لهما أحجارك. فقال: هما يهباني لك يا أمير المؤمنين. والتفت إلى الفضل فقال: يدخل الشاعر. فدخل أعرابي في جبة خز ورداءٍ يمانٍ [قد شده في وسطه] ، ثم رد طرفه إلى منكبيه وعليه عمامة خز سوداء، فلما نظر إليه الرشيد تبسم، ثم أدني فسلم فرد عليه، فقال له سعيد: تكلم بشرف أمير المؤمنين. فأسمعه شعراً حسناً، [و] استوى الرشيد جالسا ثم قال له: أسمعك مستحسنا وأنكرك متهما، فإن كنت صاحب هذا الشعر فقل في هذين بيتين، وأشار إلى عبد الله ومحمد وهما حفافاه. فقال: يا أمير المؤمنين، حملتني على غير الجدد، روعة الخلافة وبهر البديهة، ونفور القول في الروية إلا بفكرٍ يتألف لي نفرانها، فليمهلني أمير المؤمنين قليلا. فقال: أمهلك وأجعل لك حسن اعتذارك بدلا في امتحانك. قال: يا أمير المؤمنين، نفست الخناق، وسهلت ميدان السباق. ثم قال: بنيت بعبد الله بعد محمد ... ذرى قبة الإسلام فاخضر عودها هما طنباها بارك الله فيهما ... وأنت أمير المؤمنين عمودها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 فقال: أحسنت بارك الله فيك، فلا تكن مسألتك دون إحسانك. فقال: الهنيدة يا أمير المؤمنين. فأمر له بها، وخلع عليه ثلاث خلع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 17- مجلس الكسائي مع الأصمعي عند الرشيد حدثني أبو طاهر: حدثني أحمد بن يحيى قال: اجتمع الكسائي والأصمعي عند الرشيد، وكانا معه يقيمان بمقامه ويظعنان بظعنه. قال: فأنشد الكسائي يوما لأفنون التغلبي: لو أنني كنت من عادٍ ومن إرم ... غذى سخلٍ ولقمانا وذا جدن لما وقوا بأخيهم من مهولةٍ ... أخا السكون ولا جاروا عن السنن أنى جزوا عامرا سوءى بفعلهم ... أم كيف يجزونني السوءى من الحسن أم كيف ينفع ما تعطى العلوق به ... رئمان أنفٍ إذا ما ضن باللبن فقال الأصمعي: ريمان أنف. فأقبل عليه الكسائي فقال له: اسكت، ما أنت وهذا؟ يجوز ريمان وريمان وريمان. ولم يكن الأصمعي صاحب عربية. قال أبو العباس: إذا رفع رفع بينفع، أم كيف ينفع رئمان أنف. وإذا نصب نصب بتعطى. وإذا خفض رده على الهاء التي في به. والهاء مكنى، ولا يرد الظاهر على المكني، وجاز رده هنا لتقدم ذكره اللبن؛ لأن العلوق قد تقدمت، وقد علم أن لها لبنا فصار المكنى لذلك كالظاهر، وبه كناية عن اللبن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 قال: والمعنى وما ينفعني إذا وعدتني بلسانك ثم لم تصدقه بفعلك. يقال ذلك للذي يبر ولا يكون معه نفع، كهذه الناقة التي تشم بأنفها ثم تمنع درتها. والعلوق: التي تعلق قلبها بولدها، وذلك أنه نحر عنها ثم حشي جلده تبنا أو حشيشا، وجعل بين يديها حتى تشمه وتدر عليه، فهي تسكن إليه مرة ثم تنفر عنه ثانية، تشمه بأنفها ثم تأباه بقلبها. فيقول: فما ينفع من هذا البو إذا ما تشممته ثم منعت درتها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 18- مجلس يعقوب بن السكيت مع أبي عبد الله محمد بن زياد الأعرابي قال أحمد بن يحيى: كان يعقوب بن السكيت مقداما جسورا على العلماء، يتوردهم بالأشياء، للفضل الذي كان يحس به من نفسه. قال: فحضرنا يوما عند أبي عبد الله ابن الأعرابي، فتكلم فعارضه، فقال ابن الأعرابي: يقال أضرب الرجل، إذا أقام في بيته ولزمه. فقال له يعقوب: من يحكي هذا أصلحك الله؟ فأقبل عليه ابن الأعرابي فقال: ما أشد حاجتك إلى من يعرك أذنك ثم يصفع. فقال: يا عاض. قال: فأطرق يعقوب حتى سكن ابن الأعرابي، ثم أقبل عليه فقال: ما كان يسرني أن هذه البادرة بدرت منك إلى غيري ثم لم يحتملها. قال: فرأينا الانكسار فيه والاستكانة. ثم ابتدأ يعقوب يقرأ عليه، فاستمع لقراءته إلى أن أمسك يعقوب من تلقاء نفسه. ثم لم يزل يعقوب يأتيه ويقرأ عليه كل ما يريد، ويسأله فلا يمنعه ولا يأمره بالإمساك حتى يمسك هو، إلى أن فرق الدهر بينهما، فكان يعقوب يقول: ما كان أعظم بركة ذلك المجلس، أو ذلك اليوم! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 19- مجلس يعقوب مع أبي نصر صاحب الأصمعي قال أبو العباس أحمد بن يحيى: كان أبو نصر صاحب الأصمعي يمل شعر الشماخ، وكنت أحضر مجالسه، وكان يعقوب يحضرها قبلي، لأنه كان قد قعد عن مجالسهم وطلب الرياسة، فجاءني إلى منزلي فقال: اذهب بنا إلى أبي نصر حتى نقفه على ما أخطأ وصحف فيه من شعر الشماخ، فإنه أخطأ في بيت كذا وصحف في حرف كذا. قال: وأنا ساكت، فقال: ما تقول؟ فقلت: ليس يحسن هذا، أمس نرى على باب الشيخ نسأله ونكتب عنه، ثم نصير إليه لتخطئته وتهجينه؟ فخرج الشيخ إلينا فرحب، فأقبل عليه يعقوب فقال: كيف تنشد هذا البيت للشماخ؟ فقال: كذا. قال: فكيف تقول في هذا الحرف من شعره؟ قال: كذا. قال: أخطأت. فلما مرت ثلاث أو أربع مسائل اغتاظ الشيخ، ثم قال: يا ماص تستقبلني بمثل هذا وتقوى نفسك على مثل هذا، وأنت بالأمس تلزمني حتى يتهمني الناس بك! ونهض أبو نصر فدخل بيته ورد بابه في وجوهنا. فاستخذى يعقوب فأقبلت عليه فقلت له: تف ما كان أغنانا عن هذا. فأمسك ولا نطق بحلوة ولا مرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 20- مجلس الأثرم علي بن المغيرة مع يعقوب قال أبو العباس أحمد بن يحيى: كنا عند الأثرم صاحب الأصمعي وهو يمل شعر الراعي، فلما وضع الشيخ الكتاب من يده واستتم المجلس قال يعقوب: لابد من أن أسأله عن أبيات الراعي. قلت له: لا تفعل، فلعله لا يحضره جوابٌ فتكون قد هجنته على رؤوس الملأ. فقال: لابد من ذلك. ثم وثب فقال: ما تقول في بيت الراعي: وأفضن بعد كظومهن بجرة ... من ذي الأبارق إذ رعين حقيلا قال: فتلجلج الشيخ، وتنحنح ولم يجب بشيء. فقال له: فما تقول في بيته: كدخان مرتجلٍ بأعلى تلعة ... غرثان ضرم عرفجا مبلولا قال: فعاد الشيخ إلى تلك الصورة، ورأينا في وجهه الكراهية والإنكار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 ومر شيء من الأمثال فقال الأثرم: ((مثقل استعان بدفيه)) ، فقال يعقوب: هذا تصحيف: إنما هو ((بذقنه)) . فقال الأثرم: إنه يريد الرياسة بسرعة. ودخل بيته. ومعنى المثل أن البعير إذا حمل عليه فأثقله الحمل مد عنقه واعتمد على ذقنه، فلا يكون له في ذلك راحة. فيقال للرجل إذا تكلف أمرا أو ينزل به أمر يغلظ عليه فيضعف فيه، فيستعين عليه بمن هو أضعف منه وأعجز. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 21- مجلس أبي حاتم مع التوزي عند الأخفش حدثني أبو جعفر أحمد بن عبد الله قال: حدثني أبي عبد الله بن مسلم قال: حدثنا أبو حاتم سهل بن محمد قال: كنت عند أبي الحسن سعيد بن مسعدة الأخفش، وعنده التوزي، فقال لي: يا أبا حاتم، ما صنعت في كتاب المذكر والمؤنث؟ قلت: قد عملت في ذلك شيئا. قال: فما تقول في الفردوس؟ قلت: مذكر. قال: فإن الله يقول: {هُمْ فِيهَا خالدون} . قال: قلت: ذهب إلى الجنة فأنث. فقال لي التوزي: يا غافل، أما تسمع الناس يقولون: أسألك الفردوس الأعلى. فقلت له: يا نائم، الأعلى ها هنا أفعل وليس بفعلي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 22- مجلس أبي عبيدة مع أبي عثمان المازني حدثني إسماعيل بن محمد قال: حدثني أبو العباس محمد بن يزيد قال: حدثني أبو عثمان المازني قال: قال لي أبو عبيدة: ما أكذب النحويين؟ فقلت له: لم قلت ذلك؟ فقال: يقولون إن هاء التأنيث لا تدخل على ألف التأنيث، وأن الألف التي في علقي ملحقةٌ وليست للتأنيث. قال: فقلت: وما أنكرت من ذلك؟ قال: سمعت رؤبة ينشد: فحط في علقى وفي مكور ... فقلت له: فما واحد العلقى؟ قال لي: علقاةٌ. قال أبو عثمان: فلم أفسره له لأنه كان أغلظ من أن يفهم مثل هذا، وحق ذا أن يكون علقي جمعا موضوعا على غير علقاة، ولكن كالشاء من شاة. ومن زعم –وهو قول أبي العباس- أن شاء جمع شاةٍ على لفظها كتمرة وتمر فإنما يقول: الهمزة بدل من الهاء لازم. وذلك أن شاةٌ حذفت منها هاء، ولو جاء على تمرة وتمر لقلنا في الجميع شاة فاعلم، فوصلنا بالهاء؛ لأن حق شاة شاهة، وقد كانت الهمزة تبدل من الهاء للمجاورة فقط، وبدلها هاهنا لنفي اللبس. ألا ترى أنها مبدلة في قولك ماء، فاعلم. فإذا صغرت قلت مويه، وإذا جمعت قلت أمواه ومياه. فمن قال هذا قال: فقولهم للشاء شوى، مما تقاربت ألفاظه بمداخلتها، وليس من لفظ شاة وشاءٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 على هذا القول. قال المبرد: فقلت للمازني: فما تقول أنت؟ قال: القول فيه أن علقي إذا لم ينصرف في النكرة فإنما هو اسم مأخوذ من لفظ علقي الذي ينصرف وليس به، والألف فيه ملحقة، فعلق على التأنيث، فهو مشتق من لفظه، ومعناه كمعناه. ألا ترى أنك تقول سبطر في معنى السبط ولفظه، وليس هو إياه بعينه ولا مبنيا عليه، وإنما هو بمنزلة اسم وافق اسما في معناه، وقاربه في لفظه. وكذلك لآل لصاحب اللؤلؤ. وهذا البناء لا يكون في ذوات الأربعة، وإنما هو اسم مشتقٌ من اللؤلؤ وفي معناه، وليس بمبني عليه. فإذا كان الألف في علقي للتأنيث لم يجز أن يكون واحدها علقاة، لأن تأنيثا لا يدخل على تأنيث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 23- مجلس محمد بن سليمان الهاشمي مع الأخفش حدثني أبو الحسين قال: حدثني سليمان بن يزيد قال: حدثني المازني قال: غلط محمد بن سليمان يوما فقرأ على المنبر: ((إن الله وملائكتُه يصلون على النبي)) . ثم استحيا أن يرجع، ثم أرسل إلى النحويين، فقال: احتالوا لي. فقالوا: عطفت وملائكته على موضع الله، وموضعه رفع. فأجازهم. ولم تزل قراءته حتى مات، وكره أن يرجع عنها فيقال إن الأمير لحن. وحدثني قال: حدثني المبرد قال: حدثني المازني قال: حدثني الأخفش الكبير مثله وقال: كان أمير البصرة يقرأ: إن الله وملائكته، بالرفع فيلحن، فمضيت إليه ناصحا له، فزبرني وتوعدني وقال: تلحنون أمراءكم؟ ثم عزل وولى محمد بن سليمان، فكأنه تلقاها من المعزول، فقلت في نفسي: هذا هاشمي ونصيحته واجبة، فجبنت أن يلقاني بما لقيني به من قبله، ثم حملت نفسي على نصيحته فصرت إليه وهو في غرفة ومعه أخوه، والغلمان على رأسه، فقلت: أيها الأمير، جئت لنصيحة. قال: قل. قلت: هذا –وأومأت إلى أخيه- فلما سمع ذلك قام أخوه وفرق الغلمان عن رأسه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 وأخلاني، فقلت: أيها الأمير، أنتم بيت الشرف، وأصل الفصاحة، وتقرأ: ((إن الله وملائكته)) بالرفع، وهذا غير جائز! فقال: قد نصحت ونبهت فجزيت خيرا، فانصرف مشكورا. فلما صرت في نصف الدرجة إذا الغلام يقول لي: قف مكانك. فقعدت مروعا وقلت: أحسب أن أخاه أغراه بي. فإذا بغلةٌ سفواء وغلامٌ وبدرة وتخت ثياب، وقائلٌ يقول: البغلة والغلام والمال لك، أمر به الأمير. فانصرفت مغتبطا بذلك كله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 24- مجلس أبي عثمان المازني مع الأخفش سعيد بن مسعدة قال أبو العباس محمد بن يزيد: قال أبو عثمان المازني: قلت للأخفش: كيف تقول: لقضو الرجل؟ قال: كذا أقول، لأني قلبت الياء واوا لضمة الضاد. قال: فقلت: كيف تسكنها في قول من قال: علم الأمر؟ قال: أقول لقضو الرجل فأسكن. قلت: فلم لا ترد الواو إلى الأصل إذا كانت الضمة في الضاد قد ذهبت؟ فقال: إني إنما أسكنها من فعل، فأنا أنوي الضمة فيها. قلت: وكيف تصغر سماء؟ قال: سمية. قلت: أليس هي محذوفة من سميية؛ قال: بلى. قلت: فلم لا تحذف الهاء لأنك تنوي الياء التي حذفتها؟ قال: ليس هذا مثل لقضو الرجل. قال: فسألته الفصل، فلم يكن عنده شيء. فسألت أبا عمر الجرمي فشغب علي. قال أبو عثمان: وأنا أقول: إن هذا لا يلزم، لأن التصغير عندي يستأنف على حد آخر. قال أبو العباس: ولم يصنع أبو عثمان شيئا. قال: ونحن نقول: لقضوُ الرجل ولقضوَ الرجل، فنسكن ونحرك، ولم نقل قط في مثل سماء سميية، نحو تصغير عطاء، لأنا نقول عطييٌ، فلما لم نقله صار بمنزلة ما ليس في الكلام، فكأنا حقرنا شيئا على ثلاثة أحرف ليس فيها هاء التأنيث فجئنا في تحقيره بهاء التأنيث، كما نقول في هند هنيدة، وفي دلو: دلية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 25- مجلس ثعلب مع الرياشي قال أبو عمر محمد بن أحمد بن إسحاق القطربلي: قال أبو العباس أحمد بن يحيى: كنت أصير إلى الرياشي لأسمع ما كان يرويه، وكانت قطعته شهدا، فقال يوما: كيف تروي هذا البيت بازل عامين أو بازل عامين؟ يعني في قول الشاعر: ما تنقم الحرب العوان مني ... بازل عامين حديثٌ سني لمثل هذا ولدتني أمي ... فقلت له: تقول لي هذا في العربية، إنما أصير إليك لهذه المقطعات والخرافات. يروي ((بازل عامين)) و ((بازل عامين)) ، و ((بازل عامين)) . فأمسك. الرفع على الاستئناف، والخفض على الإتباع، والنصب على الحال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 26- ومجلس ثعلب مع الرياشي قال أبو العباس: قدم الرياشي بغداد في سنة ثلاثين ومائتين فنزل درب الأزج أو درب الزنوج، فأتيته لأكتب عنه فقال: أسألك عن مسألة؟ قلت: سل. قال: نعم الرجل يقوم. قلت: الكسائي يضمر رجل يقوم، والفراء لا يضمر، لأن نعم عنده اسم وعند الكسائي فعل ويقوم من صلة الرجل. وسيبويه يقول: إنه ترجمة. قال: صدقت. قلت: فتقول: يقوم نعم الرجل؟ قال: نعم؟ قلت: هذا مخالفٌ لقول صاحبك، والكسائي والفراء يجيزانه، لأن الترجمة إذا تقدمت فسد الكلام، لأنه إنما أتى بها في آخره ليظهر معنى الكلام. فقال: أنا تاركٌ للعربية فاقصد لما أتيت له. ثم قال لي: إني سائلك عن مسألةٍ سألنا عنها الأخفش: لم قالت العرب، نعم الرجلان أخواك، فثنوا الرجل وهو جنس من الرجال على أخواك، والمعبر عن الجنس لا يثنى ولا يجمع. فقلت له: لما صرف الفعل إلى الرجل جرى مجرى الفاعل فثنى وجمع لذلك. فقال: هكذا قال لنا الأخفش. فقلت له: وجالست الأخفش؟ قال: نعم، وأنا أرى أني أعلم منه. فما أعجبتني هذه الكلمة منه، لأني وجدته أفرط فيها. فجاريته الأخبار والأشعار وأيام الناس ففجرت به ثبج بحر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 27- مجلس أحمد بن عبيد مع جماعة من أهل العلم حدثني أبو علي قال: حدثني أبو محمد القاسم بن محمد الأنباري قال: لما أراد المتوكل أن يأمر باتخاذ المؤدبين للمنتصر والمعتز جعل ذلك إلى إيتاخ، فأمر إيتاخ كاتبه أن يتولى ذلك، فبعث إلى الطوال والأحمر وابن قادم وأحمد بن عبيد بن ناصح وغيرهم من الأدباء، فأحضرهم مجلسه، فجاء أحمد بن عبيد فقعد في آخر الناس، فقال له من قرب منه: لو ارتفعت؟ فقال: حيث انتهى بي المجلس. فلما اجتمعوا قال لهما الكاتب: لو تذاكرتم وقفنا على موضعكم من العلم فاخترنا. فألقوا بيتا لابن غلفاء: ذريني إنما خطئي وصوبي ... علي وإن ما أنفقت مال فقالوا: ارتفع ((مال)) بما، إذ كانت في موضع الذي. ثم سكتوا فقال لهم أحمد بن عبيد [من آخر الناس] : هذا إعراب فما المعنى؟ فأحجم القوم فقيل له: فما المعنى عندك؟ قال: أراد ما لومك إياي وإنما أنفقت مالا ولم أنفق عرضا، فالمال لا يلام على إنفاقه. فجاءه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 خادم من صدر المجلس فأخذ بيده حتى تخطى به إلى أعلى موضع وقال له: ليس هذا موضعك. فقال: لأن أكون في مجلس أرفع منه إلى فوقه أحب إلي من أن أكون في مجلس أحط عنه. ثم اختير وآخر معه. ومثل هذا قصة الفراء: قال أبو العباس: قال الفراء: ذكرت للقعود مع المعتصم حيث نشأ، ولزمت نحوا من شهرين، فلما عزم على ذلك جاء رجلٌ يقال له أبو إياد، فطلب القعود معه، فسئل لينظر ما مقداره في العربية، فقيل له: كيف تقول يا زيد أقبل؟ فقال: يا زيد أقبل. قيل: فما هذه الضمة؟ فقال: الواو التي في قوله وأقبل. فارتضي وأقعد مع المعتصم فاستغنى، وأزلت أنا. وكان يعجب بهذا ويتعجب منه ويقول: الدنيا لا تأتي على استحقاق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 28- مجلس أبي حاتم سهل بن محمد مع يعقوب الحضرمي حدثني بعض إخواننا قال: حدثني أبو جعفر محمد بن رستم قال: حدثني أبو حاتم السجستاني قال: كان جزئي علي يعقوب، ومنزلتي عنده فيمن يقرأ أن أجلس إلى جنب من يقرأ عليه، فإذا فرغ أخذت من الموضع الذي يتركه فأقرأ عليه، فجئت ذات يومٍ ورجلٌ يقرأ عليه من سورة البقرة حتى انتهى إلى قوله: {وَقَالَ لَهُمْ نبيهم} فابتدأت من هذا المكان حتى انتهيت إلى قوله: {فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ} ، فحصبني وقال لي: أحسن أحسن. فأعدت الحرف من غير إدغام، وقد كنت قرأت عليه بالإدغام مرارا كثيرة، فقلت له: هذا لا يجوز الإدغام فيه. فقال: لم وحدثني غير واحد عن أبي عمرو أنه كان يدغم؟ فقلت له: أتهم الرواة فإنهم لم يضبطوا عنه. فقال: وحدثني فأكثر منه، فقلت: هذا لا يجوز، لأن بينهما واوا وكيف يدغم الحرف في الحرف وبينهما حرف آخر؟ فقال: اقرأ. فقرأت. وكان الأخفش النحوي يجلس خلف أصطوانة يعقوب، فصرت إلى الأخفش فسلمت عليه فقال لي: يا رأس البغل لعنك الله، تأبى إلا أن تعلم ما يعلم المشايخ، والله لا قرأ يعقوب بعدها إلا كما قلت. قال أبو حاتم: فما قرأ بعدها إلا كما قلت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 29- مجلس أبي عمرو مع مقاتل بن سليمان حدثني بعض أصحابنا قال: حدثني أبو جعفر بن رستم قال: حدثنا أبو حاتم قال: حدثنا أبو عبيدة معمر بن المثنى عن يونس قال: كنت مع أبي عمرو بن العلاء عند بيت الله الحرام، فجاءنا مقاتل بن سليمان فجعل يسأل أبا عمرو عن تفسير القرآن، فأكثر ثم قال له: ما معنى قوله تعالى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ المتقون} ؟ فقال أبو عمرو: لا أدري. قال يونس: فقلت له: أضجرت الشيخ من كثرة ما تسأل، أراد صفة الجنة التي وعد المتقون. فقال مقاتل لأبي عمرو: هو كما قال. فقال: إن كان سمع فخذ عنه. فقال مقاتل: ما أفتيتني سمعت؟ فقال: لو لم أسمع من الثقات ما أفتيتك. أو كلام مثل نحوه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 30- مجلس أبي الحسن سعيد بن مسعدة مع الرياشي عباس بن الفرج قال أبو عثمان المازني: قال أبو الحسن: إن ((منذ)) إذا رفعت بها كان اسما وما بعده خبره، وإذا جررت بها كان حرفا جاء لمعنى. فقال له الرياشي: فلم لا يكون في حال ما ترفع وتجر جميعا اسما، كما تقول ضاربٌ زيدا وضارب زيد، فقد رأينا الاسم ينصب الاسم ويجر. فلم يأت الأخفش بمقنع. فقال أبو عثمان: أقول أنا: إنه لا يشبه الأسماء، وذلك أني لم أر الأسماء على هذه الهيئة. قد رأينا الأسماء المبتدأة تزول عما هي عليه ولا تلزم موضعا واحدا لا تغير عن مكانه الذي هو عليه، وإنما هو الحرف الذي جاء لمعني، فهو حرفٌ جاء لمعنىٌ مثل أين وكيف. وألزم شيئا واحدا. قال أبو يعلى بن أبي زرعة: فقلت لأبي عثمان: حرف جاء لمعنى هل رأيته قط يعمل عملين جر ورفع؟ فقال: وقد رأيته يعمل عملين ينصب ويجر، مثل قولك: أتاني القوم خلا زيد وخلا زيدا. قال أبو عثمان: أقول: العوامل هي الأفعال إنما ترفع الشيء الواحد، ولم أرها رفعت شيئين إلا بحرف عطف مثل قام زيد وعمرو. قال: ولا يجوز أن ترفع بالابتداء المبتدأ وخبره. قلنا له: فإن الصفة هو مرتفع أيضا، إذا قلت قام زيد العاقل، فقد رفعت شيئين بغير حرف عطف. فقال: الموصوف قد اشتمل على الصفة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 قال أبو عثمان: ألا ترى أنك لو حملت كوزا وفيه ماءٌ ما كنت قد حملت الماء؟ قال: وأهل بغداد يقولون: إن زيدا منطلق، إنه نصب زيدا إن، ومنطلق لم تعمل فيه إن شيئا. والحجة عليهم في ذلك أن تقول إن زيدا لمنطلقٌ. وهذه اللام لا تدخل إلا على ما تعمل فيه إن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 31- مجلس الأصمعي مع الكسائي قال أبو يعلى بن أبي زرعة: حدثنا أبو عثمان المازني قال: حدثنا الأصمعي قال: قلت للكسائي: {طيف من الشيطان} ما هو [من] الفعل؟ قال: فيعل، ولكنه حذف كما قيل ميت وميت، وهين وهين. قال أبو عثمان: وكان عند الكسائي أنه طيف فحذف فقال طيف. قال أبو عثمان: وهذا اعتلالٌ نحوي، ولكن الاشتقاق يرده. قال الأصمعي: فقلت له: أخطأت. فقال: ما يدريك؟ فقلت: يقال طاف يطيف طيفا إذا ألم، مثل باع يبيع بيعا. ثم أنشدته فقلت: أنشدني ابن أبي طرفة الهذلي: ما لدبية منذ اليوم لم أره ... وسط الندي فلم يلمم ولم يطف قال أبو عثمان: ففي هذا القول هو فعل مثل بيع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 32- مجلس الرياشي مع المازني وحدثني أبو عثمان المازني: سألني الرياشي فقال: الله ما أنكرت أن يكون الإله فخفف فقيل أللاه، ثم أدغمت اللام الأولى في اللام الساكنة، كما أجزت في الناس أن يكون تخفيف الأناس ثم أدغمت. قلت له: من قبل أن الناس على معنى الأناس. وكذلك كل شيء خففت من الهمزة فهو على معناه مخففا. وأنت إذا قلت أللاه فليس بعلم لله جل وعز. فلو كان الله هي الإله مخففا لبقي على معناه، فلما جاء الله على غير معنى الإله علمنا أن هذا ليس مخففا. قال أبو العباس محمد بن يزيد: قال سيبويه في تقديره من الأفعال قولين: أحدهما أنه على فعال وتقديره إلاه، والألف واللام بدل من هذه الهمزة المحذوفة. ومثله قولك أناس ثم نقول الناس. فكذا الألف واللام بدل من الهمزة، إلا أن الاسم علمٌ لازم فلا يجوز حذفهما منه. قال: وليس الألف واللام وإن كانتا لا تفارقانه كالألف واللام في الذي، لأن الذي نعتٌ واقع على كل شيء. تقول: رأيت الرجل الذي في الدار، ورأيت المال الذي عندك، ورأيت الحائط الذي بنيته. والألف واللام فيه كالألف واللام في النجم إذا أردت الثريا لأن الألف واللام تخرجان منه فيصير نجما من النجوم نكرة، وهذا اسم ليس كمثله اسم، ولا معرفة أعرف منه، لأنه لا مشارك فيه. ومن قال أناس فتعريفه أن يقول الأناس. أنشدني أبو عثمان المازني: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 إن المنايا يطلعن ... على الأناس الآمنينا ومن قال الناس قال في تنكيره ناس، كما قال: وناس من سراة بني سليم ... وناس من بني سعد بن كبر وقال سيبويه في موضع آخر: من العرب من يقول: لهى أبوك، يريد لاه أبوك، وتقديره على هذا القول فعل، والوزن وزن باب ودار، واللفظ عليه. من ذلك قول ذي الإصبع العدواني: لاه ابن عمك لا أفضلت في نسبٍ ... عني ولا أنت دياني فتخزوني يريد: لله ابن عمك. وقوله الله هو تأدية هذا اللفظ بعينه. وقد اختلفوا في اللام من قوله ((لاه)) فقال قوم: المحذوفة اللام الأصلية والباقية لام الخفض؛ لأن حرف الخفض لا يضمر بإجماع. وقال آخرون: بل الباقية الأصلية لئلا يحذف من أصل الحرف. فقال هؤلاء المتقدمون: الحذف غير مستنكر في الكلام لعللٍ، نحو قولك: لم يك، ولم أدر، ولم أبل، يريد: لم يكن، ولا أدري، ولم أبال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 33- مجلس أبي مسحل عبد الوهاب بن حريش مع الأصمعي قال أبو العباس أحمد بن يحيى ثعلب: حدثني أبو مسحلٍ قال: كنت بعسكر الحسن بن سهل وأنا مع الحسن، فمر بنا الأصمعي ونحن نتذاكر التصريف، فقال: من هذا الذي يدخل في صناعتنا؟ فقلت له: ليس هذا من صناعتك. فقال لي: سبحان الله! فقلت له: كيف تقول في قوله: وصالياتٍ ككما يؤثفين ... من أويت؟ قال: فمر، فنعيت عليه ما فعل عطاءٌ الملط بأبيه، وذلك أنه جمع جماعة في نصف النهار ومضى بهم إلى بستان من بساتين البصرة فيه قريب، ويقولون: إنه كان أهبان: يحفظ النخل، فلما وقفوا عليه ضربه عطاءٌ الملط برجله فانتبه وكان نائما، فشتمه، وكانت إلى جنبه معزى ترعى، فقلت: أثار الملط أمر أبيك حتى ... أضاء لكل ذي بصر إضايه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 بإشهاد القسامةِ إذا توافت ... عليه القمل تقصع في الفلايه فقال له عطاء الملط هذا ... أبو ذياكم القمل العبايه فإن هو عنه حدثكم فقولوا ... كذبت وفض فوك على وشايه -وشاية: فعالة من وشى يشي، أي وشيت ففض فوك- أعن راعٍ تحدث أهل علم ... على المعزى يطوف بكل ثايه الثاية الزرب: الموضع الذي تكون فيه الغنم- فإنك والراوية عن قريبٍ ... كخارئة تحدث عن خرايه قال أبو بكر: قال الفراء: إذا بنيت مثل أبوك من هويت قلت هايك، وأصله هويك تعرب الكلمة من موضعين، من الواو ومن الياء، فالواو إذا كانت حرف الإعراب وما قبلها متحرك لا تلحقها الحركة فأسكنتها وأبدلت منها ألفا فقلت: هايك وأعربت الياء لأن ما قبلها ساكن. ومن أويت مثل أخوك آيك. وإن بنيت مثل أخوك من صورٍ قلت هذا صيرك تبدل من الواو ياء كما أبدلتها من أدلٍ وأحقٍ، وتسكنها لأن ما قبلها متحرك. وإن بنيتها من قوي قلت هذا قيك، ومررت بقيك، ورأيت قيك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 34- مجلس أبي عثمان المازني [بكر بن] محمد بن حبيب مع أبي سوارٍ الغنوي قال أبو يعلى: أخبرنا أبو عثمان المازني قال: قرأت على أبي وأنا غلام: {فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خلاله} . قال: فقال أبو سوار وكان فصيحا أخذ عنه أبو عبيدة فمن دونه: {فترى الودق يخرج من خلله} . فقال أبي: {من خلاله} قراءةٌ. فقال: أما سمعت قول الشاعر: بنينى بغمرة فخرجن منها ... خروج الودق من خلل السحاب قال أبو عثمان: خلل وخلال واحد، وهما مصدران. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 35- مجلس مروان مع الأخفش قال أبو يعلى زكريا بن يحيى بن خلاد: حدثني أبو عثمان قال: سأل مروان الأخفش عن قول الله عز وجل: {فإن كانتا اثنتين} أليس خبر كان يفيد معنى ليس في اسمها؟ قال: نعم. قال: فأخبرني عن: [كانتا اثنتين] أليس قد أفاد بقوله ((كانتا)) معنى ما أراد فلم يحتج إلى الخبر؟ فقال: إنما أراد: فإن كان من ترك اثنتين، ثم أضمر من على معناها. قال: فبإضماره من على معناها أفاد معنى ما أراد. قال أبو عثمان: فقلت أنا: أفاد في الخبر ما لم يفد في الاسم، وذلك لما قال كانتا كان يجوز أن يكون الخبر صغيرتين، فلما قال اثنتين اشتمل على الصغير والكبير، فأفاد معنى. قال أبو عثمان: وسأله مروان أيضا عن قوله: أزيدا ضربته أم عمرا، ألست إنما تختار في الاسم إذا كان المستفهم عنه الفعل؟ قال: بلى قال: فأنت إذا قلت أزيد ضربته أم عمرو، فالفعل قد استقر عندك أنه قد كان وإنما تستفهم عن غيره عمن وقع به الضرب، فالاختيار الرفع. قال: والقياس عندي هو. قال أبو عثمان: وهو القياس عندي، ولكن النحويين اجتمعوا على نصب هذا، لما كان معه الحرف الذي هو في الأصل بالفعل أولى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 36- مجلس أبي عمرو بن العلاء مع عمرو بن عبيد حدثني القاضي قال: حدثني أبو أحمد البربري قال: حدثنا سوار بن عبد الله قال: حدثنا عبد الملك بن قريب قال: جاء عمرو بن عبيد إلى أبي عمرو بن العلاء فقال: يا أبا عمرو، أيخلف الله وعده؟ قال: لا. قال: أفرأيت من وعده الله على عمل عقابا أيخلف وعده فيه؟ فقال أبو عمرو: من العجمة أتيت أبا عثمان، إن الوعد غير الوعيد، إن العرب لا تعد عارا ولا خلفا، والله جل وعز إذا وعد وفي، وإذا أوعد ثم لم يفعل كان ذلك كرما وتفضلا، وإنما الخلف أن تعد خيرا ثم لا تفعله. قال: فأوجدني هذا في كلام العرب. قال: نعم، أما سمعت قول الأول: ولا يرهب ابن العم ما عشت صولتي ... ولا أختتي من صولة المتهدد وإني وإن أوعدته أو وعدته ... لمخلف إيعادي ومنجز موعدي وتكلم في هذه الآية: {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حقاً قالوا نعم} فقيل: كيف خرج القول من الفريقين بلفظٍ واحد، وهو وعدٌ ووعيد؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 فقال: لأن العرب تقول وعدته خيرا ووعدته شرا، فإذا أسقطوا ذكر الخير والشر قيل في الخير: وعدت، وفي الشر: أوعدت. وحدثني قال: قال أبو العباس الوراق حدثنا روح بن عبد المؤمن قال: حدثنا العريان بن أبي سفيان، ابن أخي أبي عمرو بن العلاء، أن أبا عمرو اسمه زبان بن عمار بن عبد الله بن الحصين بن الحارث بن جلهم بن خزاعي بن مازن. وقال محمد بن الفرج المقرئ، حدثني محمد بن الفرج الدقيقي قال: حدثنا الأصمعي قال: سألت أبا عمرو بن العلاء: ما اسمك؟ فقال: زبان. وقال أبو أحمد البربري: حدثنا طابع عن الأصمعي قال: قلت لأبي عمرو بن العلاء: ما اسمك! فقال: أبو عمرو. قال أبو أحمد: توفى أبو عمرو وله ست وثمانون سنة، ومات سنة أربع وخمسين ومائة. وقال شباب: توفى سنة سبع وخمسين ومائة، توفى بالكوفة. قال وكيع: قرأت على قبره: ((هذا قبر أبي عمرو بن العلاء مولى بني حنيفة)) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 37- مجلس أبي الحسن الأخفش مع أبي عثمان المازني قال أبو يعلى بن أبي زرعة: حدثني أبو عثمان قال: سألت الأخفش عن: أي من تضرب أضرب. أستفهم بأي وأجازي بمن؟ فقال: لا، لأن الاستفهام إنما يضاف إلى شيءٍ معلوم هو بعضه، فيكون أي مخصوصا، فإذا أضفته ومن شائعٌ كان البعض شائعا، وليس ذا حد الاستفهام. قال أبو عثمان: والحجة عندي أن أيا استفهم به وفيه معنى الجزاء وكذا كل حروف الاستفهام يستفهم بها وفيها معنى الجزاء، فلو أضفته على هذه الهيئة لكنت مستفهما به وفيه معنى الجزاء، كان محالا، لأن من جزاء، وفي أي معنى جزاءٍ، فلا يجتمع حرفا جزاء فتصير من حينئذ خبرا، فيكون ما بعده صلة فيبطل الجزاء. فإن قيل: أثبت معنى الجزاء في من واخلع معنى الجزاء في أي؛ لأن المضاف إليه يحدث في المضاف معنى الجزاء، نحو غلام من هو؟ من المحدث في غلامٍ معنى الجزاء. قلت: متى خلعت منه معنى الجزاء خلعت منه معنى الاستفهام، لأنه كذا وقع مستفهما به مجازى به، فيصير حينئذ خبرا، فيكون ما بعده صلة له. قال أبو عثمان: وسألته فقلت: أي من يأتينا، يكون أي خبرا ومن مستفهم [به] ، كما كان ذلك في قولك غلام من؟ فقال: الجواب في هذا أن تقول: لما كان أي مفردا غير مستقلٍ والغلام مفردا مستقلا بنفسه، كان مضافا مثله مفردا يحتاج في الإضافة إلى صلةٍ مثل حاجته إلى الصلة في الإفراد، ولما كان الغلام مفردا لا يحتاج إلى الصلة، لم يحتج في الإضافة إلى الصلة. وأنشد: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 إن الكريم وأبيك يعتمل ... إن لم يجد يوما على من يتكل قال أبو عثمان: الموصل على إلى من يجد، أن يجد هو الموصل على إلى من عداه بحرف جر، وهو من الأفعال التي لا تعدى بحرف إضافة إلا للاضطرار، كما قال تبارك وتعالى: {عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ} وإنما يريد ردفكم –والله أعلم- فعداه بحرف جر، كما تقول ضربت فتصوغه صياغة ما لا يتعدى، ثم يبدو لك أن تعديه فتقول لزيد، ويكون معنى المجرور معنى المنصوب. وأضمر (عليه) ، لأنه صلةٌ له. وإنما جاز إضمارها لذكر ((على)) أول الكلام، لأنه تفسير لما أضمره. قال أبو يعلى: قوله أضمر عليه، يعني أضمر: إن لم يجد يوما على من يتكل عليه، فأدخل على الأولى ولم يحتج إليه، مثل قولك ضربت لزيد، إذا أردت أن تقف على ضربت، ثم يبدو لك أن تعديه بحرف جر. وأخبرني الرياشي قال: وجدت أصيره بمنزلة علمت، كأنك قلت: إن لم يعلم يوما على من يتكل عليه. وكذا قال المبرد: كقولك: وجدت زيدا كريما. قال الفراء: يجد بمعنى يدري. وقيل لامرأة: أنزلي قدرك، فقالت: ((لا أجد بم أنزلها)) ، أي لا أدري. قال أبو العباس المبرد: قال لي المازني: إن لم يجد، يريد يكتسب. وعلى من، استفهامٌ، فكأنه قال: إن لم يكتسب يوما شيئا فعلى من يتكل، فكأنه قال: إن لم يجد أعلى زيد يتكل أم على عمرو. فمعنى الشعر على ذا يدل، ومعنى يعلم يعرف، كأنه قال: إن من لم يعرف من يأخذ منه شيئا اعتمل واكتسب. ألا ترى أنك تقول: قد علمت أزيد في الدار أم عمرو؛ ثم تنفي فتقول: ما علمت أزيد في الدار أم عمرو. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 38- مجلس الفرزدق مع ابن أبي إسحاق الحضرمي حدثنا بعض أصحابنا قال: حدثني أبو جعفر أحمد بن محمد قال: حدثنا الزيادي عن الأصمعي: أن الفرزدق حضر مجلس ابن أبي إسحاق، فقال: كيف تنشد هذا البيت: وعينان قال الله كونا فكانتا ... فعولان بالألباب ما تفعل الخمر فقال الفرزدق: كذا أنشده. فقال ابن أبي إسحاق الحضرمي: ما كان عليك لو قلت فعولين؟ فقال الفرزدق: ((لو شئت أن أسبح لسبحت)) . ونهض فلم يعرف أحدٌ في المجلس قوله: ((لو شئت أن أسبح لسبحت)) . فقال ابن أبي إسحاق: لو قال فعولين لأخبر أن الله خلقهما وأمرهما، ولكنه أراد: هما يفعلان بالألباب ما تفعل الخمر. وقال ابن الأعرابي: فعولين. فمن قال فعولان جعله نعتا للعينين، وجعل كانتا مكتفيا لا يحتاج إلى فعل، فيكون مثل قولك للشيء تمدحه: قال الله كن فكان. هذا قول الأصمعي. وغيره ممن قال فعولين نصبه من مكانين، ينصب فعولين على فعل كانتا، أي فكانتا فعولين. هذا قول ابن الأعرابي. وغيره يقول: يجوز أن ينصب فعولين على القطع من طريق التمام، كونا فكانتا، تم الكلام فأخرجت هذا قطعا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 39- مجلس مروان مع سعيد بن مسعدة الأخفش قال أبو يعلى: حدثني أبو عثمان المازني قال: سأل مروان مرة الأخفش فقال: إذا قلت: أزيد عندك أم عمرو، أفليس قد علمت أن ثم كونا ثابتا ولكن لا تدري من أيهما هو؟ قال: بلى. قال: فإذا قلت: قد علمت أزيد عندك أم عمرو، أفليس قد علمت ما جهلت؟ قال: بلى. قال: فلم جئت بالاستفهام؟ قال: جئت به لألبس على المخبر من علمت. فقال له مروان: إذا قلت قد علمت من أنت، أردت أن تلبس عليه لأنه لا يعلم نفسه؟ قال: فسكت. قال أبو عثمان: عندي أنه إذا قلت قد علمت من أنت فهو لا يريد أن يلبس عليه لأنه لا يعرف نفسه، ولكنه أراد قد علمت من أنت أخير أمرك أم شر، كما تقول: قد علمت أمرك، وكقولك: ما أعرفني بك، أي قد علمت ما تذكر به، أو ما تثلب به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 40- مجلس أبي عثمان المازني مع الأخفش سعيد بن مسعدة قال أبو يعلى: حدثني أبو عثمان قال: قال لي الأخفش في الجزاء: انجزم الفعل الأول بحرف الجزاء ما كان، وانجزم الآخر بالفعل الأول، كما تقول: زيد منطلق، فرفع زيدا الابتداء ورفع منطلقٌ زيدٌ. فقلت: لا أقول ذا، ولكني أقول: إنما انجزم الفعلان في الجزاء لامتناع وقوع الأسماء فيه، لأن الفعل لا حظ له في الإعراب، وإنما حظه السكون، فأعرب الفعل لما حل محل الاسم، فإذا امتنع الاسم من ذلك المحل رجع الفعل إلى أصله. قال: والأخفش يذهب إلى أنه لما كان القول الأول يحتاج إلى ثواب صار كخبر الابتداء؛ لأنه لا يبين أحدهما عن صاحبه. قال أبو عثمان: والنحويون يقولون: إنما يعمل في الجزاء ما عمل الجزاء فيه، نحو أيا تضرب أضرب. فقلت: لم لا يكون الجواب هو العامل في أيا؟ فقال: لا يكون لمجيء الفعل الأول معنى؛ لأنه إنما يقع الأول بسبب الآخر. قلت له: فقول النحويين لا يعمل الجزاء إلا فيما عمل هو فيه لم ذاك؟ قال: لأنه يكون خبرا له، إذا قلنا أي تضرب أضرب، فيعمل فيه كما يعمل زيد في منطلق. قلت: فمنطلق لم يعمل في زيد، ويضرب يعمل في أي؟ فقال: إنما عمل لأن له معنى إذا عمل. ولو عمل منطلق في زيد لم يكن له معنى. قال أبو عثمان: أتذكر إذ تقول، إذ لما مضى كيف أضافها إلى مستقبل؟ فقال: لأنه حكى ما مضى. قال: فلما جعلوا للماضي ما يدل عليه جعلوا إذا للمستقبل. وقال الأخفش: يجوز في قولك إذا قلت: بينما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 يمشي فإذا زيد منطلق، أن يكون مفاجأة ويجوز أن يكون وقتا، كأنه قال: فوقت انطلاق زيد موجود. قال أبو عثمان: فليس هاهنا شيءٌ إلا أن يقال له: رأيت إذا تصرف هذا التصرف اسما؟ أي إنه لا يتصرف هذا التصرف أي لا يضمر لما يجيء، لأن قولك فإذا زيد منطلق، إذا مضافة إلى زيد منطلق، وليس قبلها شيء يعمل فيها، فتكون ظرفا له، فليس لها وجه إلا أن تكون مبتدأة ويضمر لها حرف على قول الأخفش. قال أبو عثمان: تكون ها هنا حرف المفاجأة ولا تكون وقتا. وقال أبو عثمان: اسم والدليل على ذلك أنها تبنى على الابتداء في قولك: القتال إذا يأتيك زيد، وكان القتال إذ أتاك أخوك. ولا يقولون يعجبني أذ كان ذاك، ولا يعجبني أذا يكون ذاك، لأنهما لم يتصرفا في الأسماء أن يكونا فاعلين ولا مبتدأين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 41- مجلس أبي عثمان مع الأخفش أيضا قال أبو يعلى: حدثني أبو عثمان المازني قال: قلت للأخفش، لم لم تصرف أحوى إذا صغرته وقد ذهب منه بناء أفعل، تقول أحي كما ترى، فالمحذوف منه في التصغير موضع اللام. قال أبو يعلى: فقلت له أنا: ولم حذف؟ قال: لاجتماع الياءات، اجتمع الياء التي في موضع العين وياء التصغير والياء التي في موضع لام الفعل، فحذف. فقال الأخفش: لأني أنوي ما حذفت. قلت له: فأنت إذا صغرت سماءً قلت سمية، فتجيء بالهاء وأنت تنوي ما حذفت، وذلك أنه لا يصغر اسمٌ مؤنثٌ على أربع أحرف فتلحقه الهاء، وكل اسم مؤنث على ثلاثة إذا صغر لحقته الهاء. فقال: لأن التصغير بناء على حدته. فقلت: وهذا بناءٌ على حدته، وأحمر أيضا لا يصرف إذا صغر لأنه يشبه الفعل المصغر؟ نحو ما أميلح زيدا. فقال: كيف تبني من حيي زيد يحيا: ما أحيا زيدا! فقلت: كذا أقول. فقال: كيف تصغره؟ فقلت: ما أحي زيدا. فقال: ذاك مثل ذا، حذفت من الفعل موضع اللام أيضا من أجل الياءات. وأشبه أحوى مصغرا ما أحيا زيدا مصغرا، فلم يصرف، مثل أحمر مصغرا يشبه أملح مصغرا. قال: وقال الأخفش: أحمر إذا سميت به رجلا صرفته في النكرة فقلت له: لم؟ فقال: لأني إنما منعته الصرف في المعرفة والنكرة لبنائه ولأنه صفة، فلما زالت عنه الصفة صرفته في النكرة، ولم أصرفه في المعرفة لبنائه. قلت: له: فكذا ينبغي لك ألا تصرف أربعا في قولك مررت بنسوةٍ أربعٍ، لأنه اسم جعل صفة فدخل في باب الصفة، فإنه كنت إنما صرفت ذاك لدخوله في باب الأسماء فامنع هذا الصرف لدخوله في باب الصفات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 قال: فلم يجيء بشيء. قال: والقياس عندي ألا يصرف أحمر البتة، سمى به أو لم يسم؛ لأنه في الأصل صفة، وينصرف أربع وإن وصف به، لأنه في الأصل اسم. قال: فيلزمك أن تقول: لا أصرف يضرب اسم رجل في النكرة لأنه في الأصل فعل، فإذا لم يلتزم ذلك فكذا أصرف أحمر اسم رجل. قلت: إذا قلت هذا يضرب ويضرب آخر، فبقولي آخر قد أخرجته من باب الأفعال إلى الأسماء، لأنه لا معنى للفعل أن يكون معرفة، وإذا قلت أحمر وأحمرٌ آخر، فبقولي آخر لم أخرجه من باب الأسماء إلى غيرها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 42- مجلس أبي العباس ثعلب مع محمد بن سلام قال أبو العباس: أتيت محمد بن سلامٍ الجمحي لما قدم من البصرة لأقرأ عليه الأشعار والأخبار التي يرويها، فلما عرفني برني وأكرمني، فقال لي: أسألك عن أبيات؟ فقلت له: سل. فقال: ما معنى قول الفرزدق: تكاد آذانها في الماء تقصعها ... بيض الملاغيم أمثال الخواتيم فقلت: يصف حميرا تشرب، وأراد الحلقوم والمريء. ويروى: ((تقصفها)) ، أراد من شدة جرعها تضرب فتكاد تنقصف. قال أبو العباس ثعلب: سألت الأثرم عن هذا البيت فقال لي: سألت أبا عبيدة عنه فأجابني بهذا وقال: الهاء والألف للآذان. وقال: يروى ((أمثال الخواتيم)) ، أي تجرع جرعا كالخواتيم، وأراد الدارات التي فيه كأنها حلق. قال ثعلب: شبه جرعها بالخواتيم، وأراد لما وردت الماء انغمست جحافلها في الماء حتى يكاد الماء يبلغ آذانها. قال: فما تقول في قول علقمة: سلاءة كعصا النهدي غل لها ... ذو فيئةٍ من نوى قران معجوم قلت: يعني فرسا شبهها بشوك النخلة لإرهاف صدرها وتمام عجزها. وكذلك خلقة الشوكة يقول: خلقتها خلقة الشوكة. وهذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 يستحب في الإناث. وهذا مثل قوله: إذا أقبلت قلت دباءةٌ ... من الخضر مغموسةٌ في الغدر ويستحب في الإناث أن تتم صدورها وتخف أعجازها. ويحمد من الإناث أن يدق أولها ويغلط آخرها. وعصا النهدي، أي كأنها عصا نبع؛ لاندماجها وملاستها. وإنما خص نهدا لأن النبع ينبت في بلادها، فهم أصحاب عصي لا تفارقهم، فعصيهم ملس، فأراد أنها فرسٌ ملساء. وعل لها، أي أدخل لها في باطن حافرٍ أوفي موضع النسور. وإنما شبه النسور بالنوى لأنها صلاب، وأنها لا تمس الأرض، لأن الحافر مقعب. وذو فيئة: ذو رجعة، وهو أن يؤكل النوى ثم يفت البعر فيستخرج النوى فتعلفه الإبل مرة أخرى. ولا يكون ذلك إلا من صلابته. ويقال ذو فيئة، إذا أكلته الإبل فاء عليها، رجعت لحومها. ومعجوم، أي إنه نوى الفم، وهو أصلب ما يكون معجوم: معضوض. وقران، قال: موضع كثير النخل. قال: فما تقول في قول جرير: فلا يضغمن الليث عكلا بغرة ... وعكلٌ يشمون الفريس المنيبا قلت: يقول: إن عكلا تخافني أن أهجوهم، كما تخاف الغنم الأسد؛ وذلك أن الأسد إذا أثر في شاةٍ من الغنم فرت الغنم إذا شمت فريسته. والضغم: الأخذ بشدة. حذرهم شعره وهجاءه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 فيقول: هي تجزع من هجائي إذا هجوت غيرهم، فكيف إذا أوقعته بهم. قال لي: اقرأ ما شئت. وجعل يعجب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 43- مجلس ثعلب مع محمد بن حبيب قال أبو العباس أحمد بن يحيى: أتيت محمد بن حبيب وقد كان بلغني أنه يمل شعر حسان بن ثابت، فلما عرف موضعي قطع الإملاء، فترفقت به فأمل. وكان لا يقعد في المسجد الجامع، فعذلته على ذلك فأبى، فلم أزل به حتى قعد في جمعةٍ من الجمع واجتمع الناس، فسأله سائلٌ عن هذه الأبيات: أزحنة عني تطردين تبددت ... بلحمك طيرٌ طرن كل مطير قفي لا تزلي زلةٌ ليس بعدها ... جبورٌ، وزلات النساء كثير فإني وإياه كرجلي نعامة ... على كل حالٍ من غنى وفقير ففسر ما فيه من اللغة، فقيل له: كيف قال: ((من غنى وفقير)) ، وإنما كان يجب أن يقول: من غنى وفقر. فاضطرب، فقلت للسائل: هذا عربيةٌ وأنا أنوب عنه. وبينت العلة. فانصرف ثم لم يعد بعد ذلك للقعود وانقطعت عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 قال أبو العباس: ورجلا نعامة لا تنوب واحدة عن الأخرى، لأنه لا مخ فيهما، وسائر الحيوان إذا عييت إحدى رجليه استعان بالأخرى. ويقال: هما رجلا نعامة. والمصادر ترد على الأسماء، والأسماء ترد على المصادر، لأن المصادر ظهرت ظهور الأسماء، وتمكن الإعراب منها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 44- مجلس ثعلب مع محمد بن سعدان قال أبو العباس أحمد بن يحيى: اجتمعت مع محمد بن سعدان الراوية فقال: أسألك؟ فقلت: نعم. قال: ما تقول في قول الشاعر: الجدب يقطع عنك غرب لسانه ... فإذا استشر رأيته بربارا فقلت: الفقر يقطعه عما تكره، فإذا استغنى لم تقو به ولم تقم له، والإشرارة: المائة من الإبل. والبربرة: الصياح والجلبة. فأمسك ولم يزد عليه. والإشرارة كان صاحبها إذا ملكها أشر وبطر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 45- مجلس أبي العباس أحمد بن يحيى مع ابن الأعرابي محمد بن زياد قال أبو العباس أحمد بن يحيى: كنا عند أحمد بن سعيد بن سلم وعنده جماعةٌ من أهل الأدب، منهم عافية بن شبيب، والسدري، وأبو العالية، فأتاه ابن الأعرابي، وكنا قبل موافاته في شعر الشماخ، نتناشده ونتساءل عن معانيه، فلما جلس أقبلت عليه أسأله عن معانيه، فكان فيما سألته عنه هذا البيت: فنعم المرتجى ركدت إليه ... رحى حيزومها كرحى الطحين فسبق إلى ظنه أني أريد أن استزله بحضرة من حضر من أهل البصرة، فنظرت إليه وقد تمعر فأنكرته، وكانت أخلاقه شديدة، وكنت أعرفه فقلت له: لا والله ما الأمر كما توهمت! وعرفته القصة، فسكن وقال: إنما أراد الصلابة؛ لأنها إنما تمدح بصغر الكركرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 46- مجلس أبي العباس ثعلب مع محمد بن عبد الله بن طاهر قال أبو العباس: سألني محمد بن عبد الله بن طاهر يوم دخلت عليه، وكان لما قدم من خراسان طلبني، فلما وصلت إليه بادر إلى بيت الراعي: كدخان مرتجلٍ بأعلى تلعةٍ ... غرثان ضرم عرفجا مبلولا قلت: يصف ذئبا. فسألني عن بيته: كلي الحمض بعد المقحمين ورازمي ... إلى قابلٍ ثم اعذري بعد قابل فقلت له: ليصبر الإنسان عن قليله، ويعف عن كثيرِ غيره، ليكون أعز له: وسألني عن بيته: وخادع المجد أقوامٌ لهم ورقٌ ... راح العضاه به والعرق مدخول فقلت: رأى ظاهرهم فقدر أن الباطن مثله فأخلف. فسألني عن بيته: فنلنا غرارا من حديثٍ نقوده ... كما اغتر بالنص القضيب المسمح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 فقلت: يعني أنه لم يزل يترفق بمن يهواه حتى أطاع وسامح. فسألني عن بيته: وأفضن بعد كظومهن بجرةٍ ... من ذي الأبارق إذ رعين حقيلا فقلت: ذو الأبارق وحقيل: موضعٌ واحد، فأراد من ذي الأبارق إذ رعينه. فأقبل يسألني عن كتاب الندبة للفراء، وأنا أجيبه، فسألني عن خمس مسائل منه، فتوخيت أن أتيت بلفظ الكتاب، فرفع يده عن الكتابين، وكان على فخذه اليمنى شعر الراعي، وعلى فخذه اليسرى كتاب الندبة، وهو يسألني عن بيتٍ من هذا ومسألةٍ من هذا. ثم قال لي: قد وصفت لي وأنا بالمعسكر، وشاهدتك، فما رأيت رجلا إلا كانت مشاهدته دون صفته، خلاك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 47 مجلس أبي العباس ثعلب مع أبي الأعرابي قال أحمد بن يحيى: كتب إلي يعقوب بن السكيت من سر من رأى، يسألني عن أشياء أسأل ابن الأعرابي عنها، فصرت إليه في يوم الجمعة بعد الصلاة إلى حلقةٍ في المسجد في الجانب الغربي، وكان يصلي عند باب المشبك مما يلي المنارة، فكان أول شيءٍ سألته عنه أن قلت بيت المسيب بن علس: نظرت إليك بعين جازيةٍ ... في ظل فاردةٍ من السدر قال: يقول: قد جزأت بالرطب عن الماء فقد سمنت وحسنت. وفي ظل فاردةٍ، أي ليست في سدر كثير فيسترها فلا يتأمل حسنها، ولا بارزة فتخلو من الكن. قال: فاستحسنَّا قوله. ثم جعلت أسأله حتى سألته عن جميع ما كان معي. قال: وقال غير ابن الأعرابي: الجازية: العطشانة. والظبية أحسن ما تكون إذا كانت كذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 48- مجلس أبي العباس ثعلب مع المازني وجدت بخط أبي العباس ثعلب: قال أبو عثمان المازني: لا يجوز: لا رجل زيد البتة، لا على التكرير ولا على الإفراد؛ لأن لا إذا لم يكن شيئا بعينه لم يكن خبره شيئا بعينه. قلت: لا رجل أفضل منك، أليس هو شيئا معروفا بعينه؟ قال: لا، لأن أفضل منك صفةٌ للخلق. وقال: قال الأخفش ورواه رواية: لا موضع صدقة أنت. قال: هو عندي ظرفٌ، كأنه قال: لا أنت في موضع صدقة. ولم يحتج إلى تكرير لا، لأنه كالمثل، لأن لا إذا وقعت على معرفة فلا بد من تكرير الكلام. فأنت معرفة ولكنه كالمثل، والمثل يجيء على خلاف الباب. ألا ترى أنك تقول: ((وريت بك زنادي)) في المثل، وفي الكلام: ورت الزناد ترى. ومثله قوله: ((أساء سمعا فأساء جابة)) ، وفي الكلام تقول: أجاب إجابة وجوابا، كل ذلك يجوز، ولا يجوز في المثل إلا ما حكي. وقال: محالٌ أن تقول: لا فتى هيجاء أنت، لا تكون معرفة. قلت: فتقول: لا سيف إلا ذو الفقار ... ولا فتى إلا علي أليس ذو الفقار معرفة وعلى معرفة؟ فقال المازني: معناه لا سيف موجودٌ إلا ذو الفقار، ولا فتى موجودٌ إلا علي. والعرب قد توسعت في إضمار خبر النفي. ألا ترى أنك تقول: لا بأس ولا ضير، تضمر الخبر، وذلك موجود. وقولهم: لا عليك، أشد من هذا، ومعناه: لا بأس عليك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 قلت: فما تقول في قول الشاعر: لا ذرى هو أذرى من جفانهم ... مثل الجوابي على عادي أعداد قال: لا يكون خبر النفي معرفة. وقوله: ((لا ذرى هو أذرى)) ، فقوله هو أذرى جملة، والجملة تقع صفة للنكرة. ألا ترى أنك تقول: لا رجل أبوه منطلق، فلما وقع صفة للنكرة وقع خبرا للنكرة. تقول رأيت رجلا أبوه منطلق، وأبوه منطلق جملة وقعت في موضع الصفة للنكرة، فلحال هذا صارت خبرا للنكرة، ووقوعها في موضع الصفة للنكرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 49- مجلس أبي العباس ثعلب مع أبي العباس المبرد قال أبو العباس أحمد بن يحيى: حضرت أنا ومحمد بن يزيد عند محمد بن عبد الله بن طاهر، وكان أول مجلس حضرته معه، فقال لي محمدٌ بن عبد الله: قول الله جل وعز: {الَّذِينَ يتسللون منكم لواذاً} ، فقلت له: إذا كان لاوذت وقاولت فمصدره لواذا وقوالا، وإذا كان لذت فهو لياذا. فقال المبرد: هذا صوابٌ وأنا أفهم الأمير. قال أبو العباس: فغاظني، ثم جرى كلامٌ فذكرنا الأزد، فقلت لمحمد: قرأنا شعر الأزد على أبي المنهال وكان عالما به، قد قرأه على مؤرج وعلى خالد. فقال المبرد: قد قرأناه ولم يقرأه قط. فقال له الأمير: على من؟ فقال: إنه كانت تأتينا الأعراب فيمجدوننا (أي يكثرون، كما يقولون: أمجد الدابة علفا) فسكت عنه. وكان محمد يفهم. ثم ذكرنا الفراء فقلت: هو كان الشيء بين الشيئين، لا يكون على هذه الجنبة ولا على هذه الجنبة. فقال لي: مثل أي شيء؟ فقلت له: مثل قولك: زيد طعامك آكل، فآكل لفظه لفظ الأسماء ومعناه معنى الأفعال. فقال المبرد: آكل اسمٌ عمل عمل فعل ويفعل. قلت: فيجوز طعامك رأيت آكلا؟ فقال: نعم. فقلت: هذا خطأ. فقال له محمد بن عبد الله: أليس زعمت أن آكلا اسم تأويله إذا نصب أكل ويأكل؟ قال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 نعم. قال له: فهذا خطأ، لأنه لا يكون طعامك رأيت أكل ويأكل. فقال: ليس بيننا اختلاف في قوله زيد هل يقول وهل قام، ولا يجيزون زيد هل قائم. فقلت له: هذا لا يجوز، ولا يقولون: زيد هل يقوم وزيد هل قام. ثم قال: هذا يشك فيه. قال أبو العباس: فبلغني أنه يحكي ما دار بيننا على غير ما كان، فقلت لطاهر: قد جرى بيننا عند الأمير شيء، فابعث فاسأله. فبعث فسأله فقال: والله ما قلت كذا ولا تكلمت به، فوقع محمد إلى ابنه طاهر: ((الناس يخطئون فاسمع منهما ولا تؤرثن بينهما، ولا تخرج توقيعي إلى أحد)) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 50- مجلس آخر لأبي العباس ثعلب مع أبي العباس المبرد قال أبو العباس أحمد بن يحيى: دخلت يوما إلى محمد بن عبد الله، فإذا عنده أبو العباس محمد بن يزيد وجماعةٌ من أسبابه وكتابه، وكان محمد بن عيسى وصفه له، فلما قعدت قال لي محمد بن عبد الله: ما تقول في بيت امرءى القيس: لها متنتان خظاتا كما ... أكب على ساعديه النمر قال: قلت: الغريب أنه يقال لحمٌ خظا بظا، إذا كان صلبا مكتنزا. ووصفه بقوله: ((كما أكب على ساعديه النمر)) إذا اعتمد على يده. والمتن: الطريقة الممتدة عن يمين الصلب وشماله. وما فيه من العربية أنه خظتا، فلما تحركت التاء أعاد الألف من أجل الحركة والفتحة. قال: فأقبل بوجهه على محمد بن يزيد فقال له محمد: أعز الله الأمير، وإنما أراد في خظاتا الإضافة، أضاف خظاتا إلى كما. قال: فقلت له: ما قال هذا أحدٌ. قال محمد بن يزيد: بلى، سيبويه يقوله. فقلت لمحمد بن عبد الله: لا والله ما قال هذا سيبويه قط، وهذا كتابه فليحضر. ثم أقبلت على محمد بن عبد الله فقلت: وما حاجتنا إلى كتاب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 سيبويه، أيقال مررت بالزيدين ظريفي عمرو، فيضاف نعت الشيء إلى غيره؟ فقال محمد: لا والله ما يقال هذا. ونظر إلى محمد بن يزيد فأمسك ولم يقل شيئا. وقمنا وتملص المجلس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 51- مجلس سلمة بن عياش مع أبي عمرو بن العلاء وجدت بخط إسحاق بن إبراهيم الموصلي: أخبرني الأصمعي عن سلمة بن عياش قال: سألت أبا عمرو بن العلاء عن هذا البيت: يا صاح يا ذا الضامر العنس ... والرحل ذي الأجلاب والحلس فقال: يا صاح يا ذا الضامر العنس. ثم قام فصعد درجة فأحضر فيها. فقلت له: إن فيها: والرحل ذي الأجلاب والحلس ... فقال: ويحك! منها فررت. أي علم أنه أخطأ فقام. قال الأصمعي: إنما أراد يا صاح يا ذا العنس الضامر والرحل ذي الأجلاب، فلا يكون في الضامر الرفع. وأجلاب الرحل: عيدانه وجدياته. تقول لصاحبك: ائتني بأجلاب رحلي، فيأتيك بعظم الرحل. وتقول أيضا: ائتني بعظم الرحل. وفلانٌ عالم بعظم النحو، أي بأصله لا بأطرافه. وفلانٌ شحيح على عظم دينه، أي معظمه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 52- مجلس محمد بن يزيد مع أبي عثمان المازني وجدت بخط محمد بن يزيد: سألت أبا عثمان بكر بن محمد المازني فقلت: ما ترى في قوله: وقدرٍ ككف القرد لا مستعيرها ... يعار ولا من يأتها يتدسم أتحتاج ((لا)) إلى أن يكون بعدها ضمير؟ فقال: لا، ولكن لو كانت ما مكانها احتاجت إلى ضمير. فقلت له: أما ما الحجازية فتحتاج إلى ضمير لأنها بمنزلة ليس، فما تقول في ما التميمية أيضاً لأنها تبقى آخر الكلام، فلابد من أن يكون ضميره فيها. ألا ترى أنه يختار بعدها إضمار الفعل في قولك: ما زيدا ضربته، فتجريها مجرى ألف الاستفهام. قلت: أفرأيت ((ما)) التي تكون لغوا يمتنع منها موضع؟ فقال: لا يمتنع منها موضعٌ، بين كلامين كانت أو آخر كلام، ولكنها لا تلغي إذا كانت أول كلام، فليس تمتنع إلا في هذا الموضوع. قال أبو عثمان: زعم سيبويه في بيت الفرزدق: فأصبحوا قد أعاد الله نعمتهم ... إذ هم قريشٌ وإذ ما مثلهم بشر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 إن بعض العرب إذا قدم خبر ما نصب بها. وهذا وهمٌ منه، لأنه قال: بعض العرب يشبه ما بليس، فكما يقدم خبر ليس كذلك يقدم خبر ما. وهذا لا يجوز، لأن ليس فعل، وما حرف جاء لمعنى، وكان القياس أن يكون ما بما بعده مبتدأ وخبرا، وهي لغة بني تميم. قال سيبويه: ولغة بني تميم أقيس. وقد قال جرير: أتيما تجعلون إلي ندا ... وما تيمٌ لذي حسبٍ نديد فرفع بها، وإنما ما مشبهة بليس في لغة أهل الحجاز مادام ينفي بها، وإذا أوجبت رجعت إلى أصلها وفارقت ليس. وقد نطق القرآن بلغة أهل الحجاز. قال الله جل وعز: {مَا هَذَا بشراً} . وقال في أخرى: {ما هن أمهاتهم} . وتدخل الباء على خبر ((ما)) كما تدخل على خبر ليس. تقول: ما زيد بقائم وليس زيد بقائم، فإذا أثبت ما نفيت تقول: ما زيد إلا قائم، وليس زيد إلا بقائم، فتخالف ليس، لأنك تقول في ليس: ليس زيد إلا قائما. قال أبو عثمان: كأنه صفة فقدم الصفة على الموصوف فنصبه على الحال. وذلك أن بعض العرب يجعل النكرة حالا، فإذا قدم الصفة على الموصوف نصبه لأنه يجعل الحال للنكرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 53- مجلس أبي العباس ثعلب مع أبي العباس المبرد حدثني محمد بن أحمد بن مابنداذ قال: حدثني أبو العباس ثعلب قال: دخلت دار محمد بن عبد الله بن طاهر في يومٍ من الأيام، فوجدت في الدار محمد بن يزيد، وعلي بن عبد الغفار، فقال علي: قد اجتمعتما وأريد أن أسأل عن مسألة. فقلت له: سل. فقال: ما معنى قول الله جل وعز: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شيءٌ} . فقلت: معناه ليس مثله، وليس كمثله، المعنى فيه واحدٌ، والعرب تدخل الكاف ليعلم أنها كالأسماء ومثل مثل. فالتفت إلى محمد بن يزيد فسأله فقال: هذا جوابٌ مقنع، ولكن إذا دخلنا الساعة إلى الأمير فسلني عنها بحضرته حتى أخبرك بما بقى فيها. فقال له: مجلس الأمير لا يمكن أن يجري فيه شيء بغير إذنه، ولكن تخبرني الآن. فقال له: أنا أكثر عندك وأصير إليك. وحدثني أبو الحسن قال: سألته: أي شيء بقى في المسألة؟ فقال: الذي بقى فيها التأكيد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 54- مجلس أبي العباس ثعلب مع أبي إسحاق الزجاج قال أبو عمر: كان أبو العباس أحمد بن يحيى عندي في منزلي بمدينة أبي جعفر المنصور، فدخل علينا إبراهيم بن السري الزجاج، فسأل أبا العباس عن الخراتين ما هما؟ وذكر أن رسول أمير المؤمنين المعتضد خرج إليه فسأله عن ذلك، فقال له أبو العباس: يقول ابن الأعرابي: هما كوكبان من كواكب الأسد. ويقول أبو نصر صاحب الأصمعي؛ هما كوكبان في زبرة الأسد. (والزبرة: الوسط) . والذي عندي أنهما كوكبان بعد الجبهة والقلب. فأنكر ذلك وقال: أنا أقول: إنهما كوكبان في منخري الأسد، وهما من خرت الإبرة، وهو ثقبها، فقال أبو العباس: هذا خطأ؛ لأن خراة لا تكون من الخرت، وقال: هما خراتان لا يفترقان. بل خراة مثل حصاة وحصاتان. فدفع ذلك قال: فقد قيل يومٌ أرونانٌ من الرنة، يراد به الشدة. فقال له: هذا يقوله ابن الأعرابي، وهو غلط، لأن أرونان لا يكون من الرنة ولكنه من الرون، وهو ماء الرجل وذلك لأنه إذا شرب قتل. فأريد يوم شديد كشدة هذا. فقال له: فأعطنا في الخراتين أنهما كما قلت حجة. فقال: الفراء ينشد: إذا رأيت أنجما من الأسد ... جبهته أو الخراة والكتد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 بال سهيلٌ في الفضيخ ففسد ... وطاب ألبان اللقاح فبرد فهذا دليل على أنهما ليسا في المنخر. فقال: أعطني الكتاب الذي فيه هذا. فغضب أبو العباس وقال له: تقول لي هذا القول! والله ما كلمتك قط إلا له –وأومأ إلي- وإلا فلست في موضع تكلم أو تخاطب، لا والله ولا صاحبك! وقد كنت أرفع نفسي عنه وعن مناظرته، لا والله ولا صاحب صاحبك عندي في حد من أناظره لو كان حاضرا –يريد بذلك المازني- وقام ماضيا. وقال: معنى ((بال سهيلٌ)) : مثلٌ، أي جاء الشتاء ففسد الفضيخ وجاد اللبن. وقال: ((طاب وبرد)) لأنه رده على الواحد، لأن الجمع بمعنى الواحد؛ لأن اللبن والألبان بمعنى واحد. قال لي أبو بكر: فلقيت الزجاج في غد ذلك اليوم فحدثني بأمر المجلس، فقلت له: فأنت تقول حصى وحصيات، فتقول في خراةٍ مثل هذا خراة وخريات؟ فأمسك، فجئت إلى ثعلب فحدثته بذلك فسر به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 55- مجلس أبي العباس ثعلب مع محمد بن يزيد المبرد حدثني أبو الحسين الحصيني قال: حدثني أبو الفضل جعفر بن محمد بن يعقوب النحوي الغساني الضرير قال: حدثني أبو العباس محمد بن يزيد قال: كان محمد بن عبد الله بن طاهر رجلا لا يقبل من العلوم إلا حقائقها، وإنه رام نحو هؤلاء الكوفيين، وإنهم يحصلون على الرواية فإذا اختلفوا رجعوا إلى الكتب، فقيل له: اجمع بين أحمد بن يحيى وبين هذا البصري، فوعدنا ليوم بعينه وكان يوم خميس، فبكرت وإذا بعض الناس –يعني أحمد بن يحيى- قد سبقني، وعلى الباب علي بن عبد الغفار الضرير، فقال بعض الناس: من هذا؟ فقيل: هذا الذي يجمع بينك وبينه لتناظره. فكان أول ما بدأني به أن قال: ما يقول سيبويه في كذا وكذا؟ فقلت: كذا وكذا. فقال: ليس كما قلت. فسكت. قال: فقال لي علي بن عبد الغفار: ما لك قد سكت؟ قلت: وما عسيت أن أقول، رجل يقول: ليس الأمر كما قلت أفأهتره. ثم أذن لنا فلما استقر بنا المجلس، كان أول سؤاله إيانا أن قال: خبراني عن قول الله جل وعز: {إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ} كم فيه (من) لغة؟ فقلت: برآء مثل كرماء، وبراء على مثال كرام. فقال أحمد بن يحيى: وبراءٌ أيها الأمير. فقال: ما تقول يا محمد؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 فقلت: أيها الأمير سله من أين؟ قال: من أين قلت؟ قال: حدثني سلمة عن الفراء أنه سمع أعرابية تقول: ألا في السوة أنتنه تريد: ألا في السوءة أنتنه، فطرحت الهمزة. قال: ما تقول يا محمد؟ قلت: لا ينسخ القرآن إلا مثله، ولا الإجماع إلا مثله. قال: نحو ماذا؟ قلت: كما كان الناس يصلون إلى بيت المقدس ثم نسخته الصلاة إلى بيت الله الحرام. قال: هات. قلت: ولا ينسخ الضرورة إلا مثلها. قال: كماذا؟ قلت: أن ترى الإنسان طفلا فلا تنازعك ضرورةٌ، ثم تراه غلاما يفعة فلا تنازعك ضرورة، ثم تراه شيخا. فقال: فهات الذي أجريت إليه. قلت: لا يترك كتاب الله وإجماع العرب لقول أعرابية رعناء. قال: فخبراني عن توراةٍ ما وزنها؟ قال أحمد بن يحيى: تفعلة. قال: ما تقول يا محمد؟ قلت: ليس في كلام العرب تفعلة إلا قليل نحو تنقلةٌ. قال: فما هي عندك؟ قلت: فوعلة، وأصله وورية، ثم قلبت الياء ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها فصارت ووراة، ثم قلبت الواو الأولى تاء كما قالوا تراثٌ وأصلها وراث، وتخمة وأصلها وخمة. والتوراة مأخوذة من ورى الزناد، وتقديرها أنها توري الحكمة، أي تضيء. قال: فخبراني عن سماء ما أصل ألفها؟ قلت: أصلها سماوٌ. قال: وما دليلك؟ قلت: سماوة وسماوات. قال: فأنشدني في هذا بيتا. فأنشدته: وأهتم سيار مع القوم لم يدع ... تعرض آفاق السماو له ثغرا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 قال: فخبراني عن ضحى ما وزنها؟ فقال أحمد بن يحيى: على مثال بشرى. فقلت: بشرى فعلى وضحى فعل على مثال هدى. قال: فخبراني عن قول الله عز وجل: {إذ الأغلال في أعناقهم} أليس إذ تكون لما مضى؟ قال أحمد بن يحيى: بلى، قال محمد بن عبد الله بن طاهر: الأمر لم يقع. فقال أحمد بن يحيى: حدثني سلمة عن الفراء، أن الأفعال الماضية تحل محل المستقبلة، لأن الله جل وعز قد أحاط بكل شيءٍ علما، وأحصى كل شيءٍ عددا، وليس لما علم خلف. قال: ما تقول يا محمد؟ قلت: أما قوله إن الله قد أحاط بكل شيء علما وجميع ما ذكر حق، غير أن الله جل وعز خاطبنا بلسان عربي مبين، فمن كلام العرب: إذا جاء عمرو أكرم خالدا، فتلخيص الآية قول الله تعالى: {الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رسلنا فسوف يعلمون} لما لم يقع، فتقديره إذا كان إثم وقعت الأغلال أعناقهم. قال: فخبراني عن همزة بين بين ساكنة أم متحركة؟ قال أحمد بن يحيى: لا ساكنة ولا متحركة. قال: ما تقول يا محمد؟ قلت: قوله لا ساكنة قد أقر أنها متحركة، وقوله ولا متحركة قد أقر أنها ساكنة، فهي ساكنة لا ساكنة متحركة لا متحركة! قال: فلم سميت بين بين؟ فقلت: لأنها إذا خففت فقد جعلت بين الهمزة وبين ما منه حركتها. قال: فكيف قرنتم إلى هؤلاء؟ قلت: كما قرن معاوية إلى علي. قال: نعم العلم علمكم، إلا أنك لا تجعل لأحد فضيلة. قلت: لا أتقلد مقالة، متى لزمتني حجةٌ قلت: ما ذنبي، هكذا قال فلان. أنا كما قال الشاعر: أظل من حبها في بيت جارتها ... من فاته العين لم يستبعد الأثرا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 لربما روأت في الحرف سنة لتضح لي حقيقته. فضم أحمد بن يحيى إلى ولده، وضم محمد بن يزيد إلى نفسه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 56- مجلس آخر لأحمد بن يحيى مع محمد بن يزيد قال أبو العباس محمد بن يزيد: سمعت أحمد بن يحيى يقول في أول ما التقينا عند الأمير محمد بن عبد الله بن طاهر: ذكر سيبويه أن قولك أخت في وزن قفل، فأنكرت ذلك، فلم يزل يتردد فيه حتى وقفته على ما قاله سيبويه: أن وزن أخت فعله ثم حذفت فصارت على حرفين، ثم ألحقت بالتاء الزائدة بباب فعل، وأن الإلحاق إنما يقع بالزيادة لتبلغ بها وزن الأصول. وسمعته يقول: ألف ضحى للتأنيث كألف بشرى، لأن ضحى مؤنثة. وسمعته يزعم أنه إذا صغر أحمر أو حارث أو نحوهما مما فيه زيادة قال: إن كان اسما صغرته على لفظه وعلى حرف الزيادة، فأقول: حارث اسما حويرث وحريث، وكذلك أحمر أحمير وحمير إذا كان اسما. وإذا كان شيء من ذلك نعتا لم يجز في تصغيره إلا التمام، ولا نجيز فيه وهو نعتٌ تصغير الترخيم. وسمعته يقول بحضرة الأمير: النعت لا يضاف. فجعل الأمير يقول لنا: فلا تقول زيد غلامك مقبل وزيد أخوك جالس ونحوه؟ فخجل وجعل يخلط ويقول: كذا قال الفراء والكسائي. وسمعني أذكر للأمير: من على كم وجهٍ تكون، حتى أتيت على ذلك، فقال ثعلب: وتكون من للنفي: فقلت: إن ذلك خطأ. فقال: كذا قال الفراء. ثم وضح له ما قلت فقال: الفراء كان يزعم أن معنى الاستفهام كله النفي. فقلت: لو كان إلى هذا قصد لقال: وحروف الاستفهام ترجع إلى النفي، ولكن حروف الاستفهام تتسع فتخرج إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 التقرير والتسوية. ولكنا نقول: إن حروف الاستفهام غير واجبة، كما تقول في الأمر والنهي ونحو ذلك، والنفي غير واجب، وهو من الاستفهام بعيدٌ جدا؛ لأن النفي خبر، والاستفهام استخبار. وقال: أمس مبنية على الكسر وضعت موضعا واحدا. وذكر أن الكسائي قال: إنما كسرت أمس من أجل أنك تقول: أمس بخير. والفراء يقول: كسرت لأن السين يتناول بالكسر. قال محمد بن يزيد: إنما كسرت لأنك تقوله لليوم الذي يلي يومك، فإذا مضى صار قولك أمس لليوم الذي يلي يومك، فإذا مضى صار قولك أمس أمس اليوم، فضارع الحروف –يعني من وما أشبهها- أي أنها لا تقوم بأنفسها حتى تضيفها. فكذلك أمس احتاجت حينئذ إلى أن تكون إلى جنب اليوم، فاحتاجت حينئذ إلى البناء، وعدلت وكسرت لالتقاء الساكنين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 57- مجلس أبي بكر محمد بن أحمد مع أبي إسحاق الزجاج حدثني أبو بكر محمد بن أحمد الخياط قال: لما قدمت من سر من رأى قصدت أبا الحسن علي بن إسماعيل، فلما لقيته رحب بي وقرب مجلسي، ثم قمنا نمشي حتى أتينا مجلس إبراهيم بن السري وعنده أصحابه، فعرفه أبو الحسن موضعي، فأدناني، فلما جلست إليه وهو أول يوم التقينا فيه سألني فقال: كيف تقول: خمستكم بينكم درهم؟ فقلت: لا يجوز هذا؛ لأن الخمسة ليس يعود عليها شيء. قال: فكيف الصواب؟ فقلت: بينهم درهم أو بينها درهم؟ فقال: كيف تبني مثل جردحل من قويت؟ قلت: قيو. فأنكره وقال: لم تقلب الواو ياء؟ قلت: لأن الواو هاهنا ساكنة وقبلها كسرة وهي عين الفعل، والواو التي بعدها لام، فيكون قيوو، ثم تقلب الواو التي بعد الياء ياء فتقول قيو. فقال: الصواب قوي لأن الواو المدغمة بمنزلة المتحركة. قلت له: كيف تبني مثل فعل من قويت؟ قال: قوي. فقلت: ففعل التي لا تنفصل عينٌ من عين وفعلل يكونان واحدا؟ قال أبو بكر: الذي ذهب إليه هو مذهبٌ، والأول عندي أجود منه، فذلك أجبت به. فقال لي: فكيف تبني مثل عثول من قويت؟ فقلت: قيوو. فقال: هذا صوابٌ لأن الواو زائدة. قلت: هي ملحقة، والملحق يجري مجرى الأصل. قال: وكيف تبني مثل فعل من غزوت؟ فقلت: غزى. فأنكره وقال: الصواب غزو، كما قال في الحرف المدغم في قوي. فأمسك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 58- مجلس أبي جعفر أحمد بن محمد بن رستم الطبري مع أبي عثمان قال أبو جعفر: سألت أبا عثمان عن تأنيث السكين فقال: السكين مذكر ولا يؤنثه فصيح. فأنشدته قول الفراء: فعيث في السنام غداة قر ... بسكين موثقة النصاب فقال: لمن هذا ومن صاحبه؟ ما أراه إلا أخرج من الكم، وأين صاحب هذا عن أبي ذؤيب حيث يقول: فذلك سكينٌ على الحلق حاذق ... وسألته عن تأنيث الإزار فقال: كان الأصمعي وأبو الحسن يقولان: الإزار مذكر، ويردان قول الأعشى: كتميل النشوان يرفل ... في البقير وفي الإزاره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 قال: وحضر ابن السجستاني فقال له: أوجدك التأنيث في شعرٍ من لا ينكر صاحبه؟ فقال: هات. فأنشده: تبرأ من دم القتيل وبزه ... وقد علقت دم القتيل إزارها فانقطع وسكت الأصمعي ولم يجب ساعة، ثم قال: سلوا هذا الرجل عن هذا –يعني الأخفش- فإن فيه شيئا لم أقف عليه، أو لا أقف عليه. وكان بينه وبين الأخفش رديء، فسألنا الأخفش عن ذلك فقال: هذا قال لكم؟ يعني الأصمعي. فقلنا: نعم. فقال: له في علقت ضمير المرأة، فأبدل الإزار من ذلك الضمير فلذلك قال علقت. فأخبرنا الأصمعي بذلك فقال: قد وقع لي ما قال قبل أن تقولوا لي. وكان أبو زيد يذكر ويؤنث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 59- مجلس أبي عثمان المازني مع جماعة من النحويين قالوا: إذا قلت زيد قائم: زيد ابتداء وقائم خبره. قالوا: فإذا قلت إن زيدا قائم، عملت إن في الابتداء وبقى الخبر على حاله؛ لأن إن لا تعمل في الخبر، فخبرها خبر الابتداء. وهذا مذهب الكسائي. قال أبو عثمان: هذا خطأٌ. ثم سألهم فقال: أخبروني عن إن لم نصبت عندكم؟ قالوا: لأنها مشبهة بالفعل. قال لهم: فإذا قلتم: إن زيدا قادمٌ، زيد عندكم إنه ماذا؟ قالوا: عندنا أنه مفعول مقدم. قال: فما الفعل فيه؟ قالوا: إن. قال: فبين إن وبين قادمٌ سبب؟ قالوا: لا. قال: فهل رأيتم فعلا قط نصب ولم يرفع شيئا؟ قالوا: هذا محال، لأن الفعل إذا لم يرفع خلا من الفاعل. قال: فالشيء إذا شبه بالفعل فلا ينبغي أن ينصب فقط ولا يرفع؛ لأنه إن كان كذلك فليس هو مشبها بفعل، لأنه لا فعل في الكلام نصب ولم يرفع. قالوا: أجل كذا يجب. قال لهم: فيجب في الحرف المشبه بالفعل أن يكون الاسم المنصوب بعده بمنزلة المفعول ويكون الخبر بمنزلة الفاعل حتى يكون هذا الحرف مشبها، وإلا فليس هذا مشبها. فألزمهم أن إن وأخواتها تعمل في الاسم والخبر، الاسم بمنزلة المفعول المقدم، والخبر بمنزلة الفاعل. فلم يجد النحويون عن تقديره محيصا، ولزمهم الكلام. وهذا مذهب الخليل، فإنه كان يقول: إن نصبت الاسم ورفعت الخبر، لأنها عملت عمل الفعل، فكان الأول كالمفعول، والثاني كالفاعل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 60- مجلس محمد بن أحمد بن كيسان مع أبي العباس محمد بن يزيد المبرد قال أبو الحسن محمد بن أحمد: سمعت أبا العباس أحمد بن يحيى يقول في أنتما وأنتم: زيدت الميم في تثنية الاسم وجمعه لقلته، وذلك أن قولك: قمت وقمت على حرف واحد. فقيل له: فكيف اختير لذلك الميم؟ فقال: لأن هذا اسمٌ والميم من زوائد الأسماء. وقال بعض أصحابه يقوي قوله: قالوا ابنمٌ يريدون الابن، ويزيدون عليه الميم، تكثيراً. ومثله ما زيدت عليه الميم: فسحم، وستهم، وزرقم. فسألت أبا العباس محمد بن يزيد فقال: زعم أصحابنا أن الإضمار الذي في الفعل إذا ثنى وجمع في النية كان ذلك بحرف واحد، نحو ضربا وضربوا، فأرادوا أن يفرقوا بين تثنيته وتثنية ما كان مضمرا بحرف وأكثر من حرف، لأنه قد ضارع المظهر، كظهور حرف يستدل به على المضمر، وتثنية المظهر بحرفين، فجعلوا تثنيته تضارع تثنية المضمر الذي لا يبين له حرف، ويضارع تثنية المظهر الذي يثنى ويجمع بحرفين، فقالوا: قمتما، وهما، وأنتما، وضربتكما، وأياكما، وغلامكما وغلامهما، فكانت الألف كزيادة الألف في قولك الرجلان. والميم كالنون، إلا أنها جعلت قبل الألف ليوافق لفظ ضربا، ويكون بزيادتها مع الميم كزيادة الألف في الأسماء بعدها النون، وكان في ذلك تحصينٌ لها من السقوط؛ لأن النون في الأسماء الظاهرة تسقطها الإضافة، والمضمر لا يضاف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 قال أبو الحسن: فقلت: المضمر الذي فيه ظهور حرف واحد أو أكثر، المؤنث والمذكر ينفصل أحدهما من الآخر بدليل في ذلك الحرف، والتثنية تبطل ذلك الدليل، فأرادوا أن ينتقل الواحد عن الفصلين جميعا، أعني الفتح والكسر، والواو والياء والألف، لأنها لا تلي إلا فتحة، فجعلوا الميم معها زائدة لتقع عليها فتحة الألف، ولينتقل العلمان اللذان كانا في الواحد في التثنية [إلى] حركةٍ تجمعهما لم تكن في الواحد، فقلت: قمتما فأسقطت الكسرة والفتحة وجمعتهما بالضمة، وكذلك أسقطت الواو من هو والياء من هي، وأسقطت الألف من قولك: رأيتها، والضمة أو الواو من قولك: رأيتهو، والياء من مررت بهي. وقال غيره: إنما فتحوا التاء في أنت للمذكر وفي المؤنث أنت بالكسرة ليفرقوا بين المخاطبين، فإذا ثنوهما قالوا أنتما، فضموا التاء لأنها حركة لم تكن للمذكر والمؤنث، فعلم أنها لبناء التثنية، وزادوا ميما ليقع عليها الفتح وتسلم الحركة. وقال قوم: إنما ضموا التاء في التثنية لأن حركتها في الواحد تنفتح مرة وتكسر أخرى. فجاءوا بحركة لا تزول. وكذا أنا، الاسم همزة ونون، والألف للوقف. الدليل على ذلك قول حاتم: ((هكذا فزدى أنه)) فوقف بالهاء. وكذلك نحن، مبني على الضم وأصله فعل: نحن بضم الحاء وسكون النون بعدها، فلما سكنوا الحاء ألقوا حركتها على النون. فإن قال قائل: هذه الميم يدل من نون التثنية، لأن الميم أخت النون في المخرج، وقدموها قبل الألف لئلا يلتبس الكلام، قال قولا قويا. وقال الفراء: إذا قلت هو فالهاء هي الاسم والواو صلة. وكذلك قالوا في المؤنث: هي، الهاء هي الاسم والياء صلة، والصلة تسقط إذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 ثنيت. فلما ثنى الاسمان ألحقوا ميما ثم جاءوا بالألف للتثنية، ووقوا بالميم فتحة الألف، لئلا يلتبس الجمع بالتأنيث وبالأدوات. فإذا قلت هما أدخلت الميم ورجعت الهاء إلى ضمتها. فإن قلت: قد كانت مكسورة في المؤنث، فإنما كسروا لأن الياء لا تنحوها إلا الكسرة. وفرقوا بين المؤنث والمذكر، كما قالوا أنت للمذكر وأنت للمؤنث، فلما ثنوا أدخلوا الميم وردوا الضمة فقالوا: أنتما. وإنما اتفق المؤنث والمذكر في أنت لأن الفرق كانت حركة لم تكن بحرف. فإن قلت: هو وهي حرف، فهما صلة وليست بأصل، فسقطا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 61- مجلس أبي العباس أحمد بن يحيى مع محمد بن قادم حدثني أبو بكر الخياط قال: قال لي أبو العباس: دخلت على محمد بن قادم فقال لي: كيف تقول: الذي أظنك زيدٌ؟ فقلت له: هذه غلط الفراء فيها. فقال: من أين غلط؟ قلت: أصل أن لا يضمر خبر المعرفة، ثم أضمره فقال: الذي أظنك زيد، يريد أظنكه، والهاء خبر الكاف فأضمره. قال: فكيف أراد أن يقول؟ قلت: الذي أظن إياك، فتضمر الاسم. فإن قال: الذي أظنه زيد فجعل الهاء راجعة إلى الذي فالمسألة فاسدة، لأن الظن يبقى بغير خبر. فإن جعل الهاء كناية عن مذكور كأنه قال: الذي أظنه أخاك ثم كنى عنه بعد ذكره وعلم المخاطب به فأضمره هاء يرجع إلى الذي، كأنه يريد: الذي أظنه إياه زيد. فالمسألة جيدة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 62- مجلس الأصمعي وأبي عبيدة مع المازني حدثني أبو القاسم الصائغ، وأبو جعفر أحمد بن عبد الله قالا: حدثنا أبو محمد عبد الله بن مسلم قال: أخبرني ابن خبان النحوي قال: أخبرني المازني أنه سأل أبا عبيدة والأصمعي عن قول الأعشى: لعمري لئن أمسى من الحي شاخصا ... لقد نال خيصا من عفيرة خائصا فقلت: خيصا أو حيصا؟ فقالا: ما ندري. وقال الأصمعي: فلانٌ يخوص في بني فلان العطاء، إذا كان يعطي فيهم شيئا يسيرا. قال بكر: فقلت له: فينبغي أن يكون المصدر خوصا، فقال: ربما اشتق المصدر من غير لفظ الفعل، يقال أتيته أتية وأتوة، ولا نعلم أحدا يوثق بعربيته يقول: أتوته، إلا أن النحويين لما سمعوا أتوة قاسوه فقالوا: أتوته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 63- مجلس أبي زيد سعيد بن أوس مع عبد الملك بن قريب أبو حاتم سهل بن محمد بن عثمان قال: قال الأصمعي: يقال في الوعيد والتهدد: قد رعد فلانٌ لنا وبرق، ورعدنا وبرقنا. ولا يقال أرعد فلانٌ ولا أبرق. قال أبو زيد: بل يقال ذلك. قلت للأصمعي: الكميت يقول: أبرق وأرعد يا يزيد ... فما وعيدك لي بضائر فقال: الكميت ليس بحجة، كأنه يقول: هو مولد. قلت: فأخبرنا به أبو زيد عن العرب، أنه سمعه من الفصحاء. فأبى. قال أبو حاتم: فجاءنا أعرابي من بني أبي بكر بن كلاب من أفصح الناس، كأنه مستوحشٌ من الناس، بدوي، وهو يقول: قضي القضاء وجفت الأقلام ... فسألته: كيف تقول أرعدت وأبرقت؟ قال أبو زيد، من قبل أن يجيب: دعوني أسأله وأتولى السؤال فأنا أرفق به. فقال له: كيف تقول في التهدد: إنك لتبرق وترعد؟ فقال: أفي الجخيف تعني أم في الوعيد؟ أقول: إنك لتبرق لي وترعد. فقال لي الأصمعي: انظر إلى الشعر القديم كيف هو. ثم أنشد لرجل من بني كنانة شعرا علويا: إذا جاوزت من ذات عرق ثنية ... فقل لأبي قابوس ما شئت فارعد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 64- مجلس أبي عثمان المازني مع أبي يعلى بن أبي زرعة قال أبو يعلى: قرأ أبو عثمان: {لقد تقطع بينكم} . وأنشد، قال: أنشدني الأصمعي عن أبي عمرو بن العلاء: كأن رماحنا أشطان بئرٍ ... بعيدٍ بين جاليها جرورٍ بالرفع، وهو ظرف في الأصل، فصيره اسما ورفعه. قال: وأنشدني: ويشرق بين الليت منها إلى الصقل ... قلت: فمن قرأ بينكم؟ قال: يريد ما بينكم. قلت: فتحذف الموصول وتترك الصلة؟ قال: نعم أقول: الذي قام وقعد زيد، ومعناه الذي قام والذي قعد زيد. وقد حذف الموصوف في كتاب الله جل وعز. قال الله جل وعز: {إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قرضاً حسناً} معناه: والذين أقرضوا الله. هذا مثله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 65- مجلس أبي عمر مع الأصمعي حدثني أبو الحسن قال: حدثني أبو العباس محمد بن يزيد قال: حدثني إسماعيل بن إسحاق القاضي قال: حدثنا نصر بن علي الجهضمي قال: قال أبو عمر الجرمي يوما في مجلس الأصمعي: أنا أعلم الناس بالنحو. فسكت عنه الأصمعي ساعة، قال: ثم قال له: يا أبا عمر، كيف تنشد: قد كن يكنن الوجوه تسترا ... فالآن حين بدين للنظار كيف تقول: بدين أو بدأن؟ قال أبو عمر: بدأن. فقال له الأصمعي: يا أبا عمر، أنت أعلم الناس بالنحو –يمازحه- وإنما هو بدون؛ لأنه من بدا يبدو، أي ظهرن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 66- مجلس أبي العباس مع أبي عثمان المازني قال أبو العباس محمد بن يزيد: سألت أبا عثمان فقلت: من أجاز ما صبك الله علي، فجعل ((ما)) حالا كيف يكون تقديره؟ فقال: كأنه قال: خيرا أم شرا صبك الله علي، فقلت له: إنما يسأل عن الحال بكيف، وما إنما يسأل بها عن صفات الآدميين وذات غيرهم، كقولك: ما عندك؟ فيقول: حمارٌ أو تمر. وتقول: ما عبد الله؟ فيقول ظريف أو أحمق. ولو احتملت ما أن تدخل على كيف فتكون سؤالا عن حال لاحتملت أن تدخل على متى فيسأل بها عن الزمان، وعلى أين فيسأل بها عن المكان، وعلى كم فيسأل بها عن العدد، كما تقول: كيف ذهب عبد الله أراكباً أم ماشياً؟ فذكر أن من أجاز ذلك في ((ما)) إنما استكرهه. فهذا القياس. وإنما اضطر الشاعر فأدخلها على كم فقال –وهو الفرزدق: فما تك يا ابن عبد الله فينا ... فلا ذلا نخاف ولا افتقارا أراد: كم أقمت فينا، ولو رفع يكون لكانت ما ويكون بمنزلة الكون، جعله وقتا، مثل مقدم الحاج. قال الله تبارك وعلا: {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ} ، أي دوامي فيهم. قال أبو العباس: ويجوز أن يسأل بها عن المصدر نحو خير وشر، وتجعله حالا، نحو: جاء زيد مشيا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 قال أبو العباس: وسألته: لم قال سيبويه في النسب إلى عدة عدى فلم يردد الواو، زعم لبعدها عن ياء النسب، ورد في النسبة إلى شية؟ فقال: من قبل أنه لو لم يردد في شية وحذف الهاء لبقيت على حرفين، أحدهما حرف لين، وهذا لا يكون في الأسماء. قال أبو العباس: وسألته لم قالوا: جاءني الذي في الدار فجعله كالجر والنصب، وقال في الاثنين: اللذان فأعرب ورأيت اللذين؟ فقال: من قبل أن التثنية لا تخطئ الواحد والجمع أبدا، والجمع قد يكون له أبنيةٌ، فهو كالواحد، فلما كان الواحد مبنيا بنيت الجمع إذ كان يختلف، ولم ابن ما لم يكن قط إلا على طريقة واحدة. وأما قولهم: هنة وهنتان ومنة ومنتان فأسكنوا في التثنية ما كان في الواحد متحركا، فإنما أسكنوا ذلك من الواحد في الوصل. وأما التثنية فقد سلموا علامتها بالألف والنون. والدليل على أنهم إلى الواحد قصدوا بالإسكان، قولهم إذا وصلوا: ياهنة افعلي. وأما قولهم اللذان ولم يقولوا اللذيان كما قالوا في عمٍ عميان، فلأن ياء عم تحركت في النصب، فلما جاءت بعدها ألفٌ توجب فيها الفتحة تحركت لذلك. وياء الذي ساكنة على كل حال، فلذلك حذفت لما جاءت الألف لالتقاء الساكنين، إذ لم يجز أن تتحرك البتة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 67- مجلس عيسى بن عمر مع الكسائي قال أبو العباس أحمد بن يحيى: وجدت بخط إسحاق بن إبراهيم الموصلي: حكى الأصمعي عن عيسى بن عمر والكسائي، أنه جمعهما الحسن بن قحطبة أول ما دخل بغداد. قال الكسائي: فسألته عن ((همك ما أهمك)) قال: فذهب يقول: يجوز كذا ويجوز كذا. قال: فقلت له: عافاك الله، وإنما أريد كلام العرب، ولم تجيء بكلام العرب. قال الأصمعي: تقول همني: أذابني. وأهمني: أقلقني، فكيف شئت فقل. وأنشد: وانهم هاموم السديف الواري ... قال أبو العباس: وليس يخطئ أحدٌ في هذه المسألة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 68- مجلس أبي حاتم سهل بن محمد مع رجل من أهل إصبهان حدثني أبو جعفر أحمد بن محمد بن رستم الطبري قال: حضرت أبا حاتم السجستاني وحضره رجلٌ من أهل إصبهان، فقال له: يا أبا حاتم، تنعت المعرفة بنكرة؟ فقال: نعم إذا لم يوصف به غيره كانت النكرة كالمعرفة. قال الله جل وعز: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أحدٌ} . فالله جل وعز معرفة، وأحد نكرة، ولكن لما كان أحدٌ لم يوصف به غير الله صار معرفة. وهذه الآية فيها اختلاف. قال أبو العباس محمد بن يزيد: قوله جل وعز: {قل هو الله أحد} . فهذا مضمر على شريطة التفسير، كقولك: إنه أمة الله ذاهبةٌ. وقوم يجعلونه مضمرا قبله مذكورٌ. وهذا قول من عد بسم الله الرحمن الرحيم آية، فيكون هو يرجع إلى هذا المذكور، ويكون أحدٌ على هذا بدلا، أو خبر ابتداء محذوف. قال سيبويه: يجوز في هذه أربعة أوجه. ومثل هذه الآية قوله جل وعز: {وهذا بعلي شيخاً} لأن قوله هو الله أحد بمنزلة قولك: هذا زيد منطلق وزيد راكب، فيجور أن تجعل ذا ابتداء وزيدا بدلا منه، ومنطلق خبر ابتداء. والوجه الثاني: أن تجعل ذا ابتداء وزيد خبره ومنطلق بدل من زيد، تقديره: هذا منطلق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 والوجه الثالث: أن تضمر ابتداء فتقول: هذا زيد مقبل، كأنك قلت: هذا زيد هو مقبل، هو ابتداء ومقبل خبره. والوجه الرابع: وهو أردؤها، كأنك أردت أن تخبر أنه زيد وأنه مقبلٌ أيضا، كأنه جمع الأمرين، كأنه جمع أنه زيد وأنه منطلق. ومن قرأ: شيخا، نصبه على الحال، أي في حال شيخوخته. وقال أبو عثمان المازني في قوله جل وعز: {قل هو الله أحد} : هو ابتداء، والله ابتداء ثان وأحدٌ خبر الابتداء الثاني، والابتداء الثاني وخبره خبر الابتداء الأول. فإن قيل: أيكون هو ابتداء والله خبره، وأحدٌ وصف الله؟ قيل: لا يجوز، لأن الله معرفة وأحد نكرة، والنكرة لا تكون وصفا للمعرفة، لأنهما جنسان مختلفان. ومثل قول أبي حاتم أن أحداً لم يوصف به غير الله فصار معرفة، قول أبي العباس محمد بن يزيد، فإنه سئل عن دعاء الناس: يا حليما لا يعجل، ويا حيا لا يموت، ويا قادرا لا يعجز، هل هذا نكرة، وعلام ينتصب؟ فقال: نصبه كنصب يا رجلا ظريفا إلا أن هذا معرفة. وقولك: يا رجلا ظريفا، نكرة، لأنك إذا قلت يا رجلا ظريفا فهذا لكل من له هذا النعت. والآخر ليس مثل هذا، وهو مثل قولك: يا رجلا في الدار لا يبرح أقبل، إذا كان في الدار جماعة قيام كل يبرح إلا واحدا فإنه يثبت، فعلمت ذاك شائعا فيهم فدعوته. فهو معرفة، لأنه ليس يشركه أحد منهم، فقد شاركهم بأنه في الدار وباينهم بأنه لا يبرح وهم يبرحون. وقد علم المنادى الذي لا يبرح في الجملة، وأنه فيهم. فقولك: يا حيا لا يموت معرفة بالمعرفة المتقدمة أنه لا يشركه في البقاء أحدٌ، وقد يشترك الخلق في الحياة. وكذا يا قادرا لا يعجز. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 فهذا المعنى في اليقين المتقدم، هو الذي جعل هذا معرفة وخصة ونصبه، كنصب يا رجلا في بابه. ومثل نصب هذا قولك للرجل تسمية عاقلة لبيبة، ثم تنادي فتقول: يا عاقلة، فهو معرفة ولكنك نصبته لأنك تحكي أصل النكرة قبل أن تسمى به، فنصب هذا كنصب يا رجلا في الدار ظريفا أقبل، فقولك: يا قادرا لا يعجز، نصبه أيضا كنصب هذا. والمعنى الذي ذكرناه أخصر، وهو بعد يرجع إلى أنه معرفة بالإشارة. وليس هذا مثل قولك: يا خيرا من زيد، لأن يا خيرا من زيد جميعاً معرفة، ومثل حضرموت، ليس واحدٌ أحق بالمعرفة من الآخر. وقولك: يا حليما لا يعجل، ويا قادرا لا يعجز، الذي أوجب المعرفة إنما هو النعت الذي لا يكون إلا لله جل وعز، فكيف يكون هذا مثله. وهو كقولك: يا رجلاً صالحا كما قال أولا أشبه، لأن هذا نعتٌ ومنعوت مثله، فنصبهما واحد، كما قال أولاً. وهذا الحق. والزائد على يا رجلاً ظريفا، أن النعت خاص لا يكون إلا لله، فبهذا وجبت المعرفة. ولو نعت غير الله جل وعز بنعتٍ لكان إنما يجري على الاسم في معرفته ونكرته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 69- مجلس سيبويه مع حماد بن سلمة حدثنا أبو جعفر قال: حدثنا ابن عائشة عبيد الله قال: حدثنا حماد بن سلمة قال: جاء سيبويه مع قوم يكتبون شيئا من الحديث، فكان فيما أمليت ذكر الصفا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: ((صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم الصفا)) وهو الذي كان يستمل فقال: ((صعد النبي صلى الله عليه وسلم الصفاء)) . فقلت: يا فارسي لا تقل الصفاء؛ لأن الصفا مقصور. فلما فرغ من مجلسه كسر القلم وقال: لا أكتب شيئا حتى أحكم العربية! وأما محمد بن يزيد فقال: حدثني غير واحد من أصحابنا قال: كان سيبويه مستمليا لحماد بن سلمة، وكان حماد فصيحا، فاستملاه يوما قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليس من أصحابي أحدٌ إلا ولو شئت لأخذت عليه ليس أبا الدرداء)) . فقال سيبويه: ليس أبو الدرداء. فصاح به حماد: لحنت يا سيبويه، ليس هذا حيث ذهبت، إنما هو استثناء. فقال سيبويه: لا جرم والله، لأطلبن علما لا تلحنني معه. فمضى ولزم مجلس الأخفش مع يعقوب الحضرمي والخليل وسائر النحويين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 70- مجلس الأخفش مع يعقوب الحضرمي حدثنا أبو جعفر قال: حدثني أبو حاتم قال: قال سعيد بن مسعدة الأخفش في قوله جل وعز: {وقولوا للناس حسنى} . قال أبو حاتم: فقلت: حسنى لا يجوز، لأن حسنى مثل فضلى، ولا يكون إلا بالألف واللام. قال: فسكت وأومأ الأخفش إلى يعقوب. قال أبو حاتم: رد هذا القول من الأخفش يعقوب الحضرمي لي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 71- مجلس عيسى بن عمر مع أبي عمرو بن العلاء حدثني أبو الحسن محمد بن أحمد بن مابنداذ قال: حدثني أبو جعفر رومي قال: حدثني محمد بن سلام الجمحي قال: قال لي يونس بن حبيب: كان عيسى بن عمر يتحدث في مجلس فيه أبو عمرو بن العلاء، فقال عيسى في حديثه: ضربه فحشت يده، بالضم. فقال أبو عمرو: ما تقول يا أبا عمر؟ فقال عيسى: فحشت يده. قال أبو عمرو: فحشت يده. قال يونس: والتي رده عنها جيدة، يقال حشت يده بالضم وحشت بالفتح وأحشت. وقال يونس: وكان إذا اجتمعا في مجلس لم يتكلم أبو عمرو مع عيسى بن عمر، يعني لحسن إنشاده وفصاحته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 72- مجلس الطرماح مع رجل من بني عبس قال أبو حاتم: حدثني الأصمعي قال: جاء رجلٌ من بني عبس إلى حلقةٍ فيها الطرماح، فقال: ما عنى كثير بقوله لعبد الملك بن مروان: فأنت المعلى يوم عدت قداحهم ... وجاء المنيح وسطها يتقلقل فقال: أراد بالمعلى أنه أعلاهم حظا، كالمعلى من القداح. فقال الطرماح: لا، ولكنه أراد أنك السابع من ملوكهم ولك أوفر الحظ؛ لأن أهل الجاهلية كانوا يسمون القداح إلى سبعة: أولها الفذ، والتوءم، والرقيب، والمسبل والحلس، والنافس، والمعلى. وفي عددها يقول أعشى بني ربيعة: ومروان سادس من قد مضى ... وكان ابنه بعده سابعا وقال أبو نواس: ملك الخلافة خمسةٌ ... وبخير سادسهم سدس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 73- مجلس عمرو بن بحر الجاحظ مع بشر المريسي حدثني أبو الحسن قال: حدثني أبو العباس محمد بن يزيد قال: حدثني أبو عثمان المازني قال: قال لي الجاحظ: رأيت المريسي وقد سئل عن رجل فقال: هو على أحسن حال وأهيؤها. قال: فقلت لأصحابه: لحن. فقالوا لي: أترى أننا نبطل قول المريسي ونقبل منك؟ فذهبوا فسألوا ثمامة فقالوا: إن المريسي سئل عن رجل فقال: هو على أحسن حال وأهيؤها. فقال الجاحظ: لحن. فقال ثمامة: أخطأ الجاحظ، الجاحظ أحمق! هذا يجوز على قوله: إن سليمى والله يكلؤها ... الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 74- مجلس ذي الرمة مع رؤبة بن العجاج بحضرة بلال حدثني علي بن سليمان قال: حدثني ابن الحرون محمد بن الحسن قال: جمع بلال بن أبي بردة بين ذي الرمة وبين رؤبة بن العجاج، وكان ذو الرمة معتزلياً، وكان رؤبة مثبتا، فقال له رؤبة: والله ما افتحص قطاة أفحوصا، ولا تقرمص أسد قرموصا، إلا كان ذلك بقضاءٍ وقدرٍ من الله. فقال له ذو الرمة: آلله، ألأن وثب الذئب على حلوبةٍ لصبيةٍ عالةٍ عيايل ضرائك نسبت ذلك إلى الله! فقال له رؤبة: أفبقدرة من الذئب أكل الحلوبة! هذا كذبٌ ثانٍ! فقال ذو الرمة: للكذب على الذئب أهون من الكذب على خالق الذئب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 75- مجلس أبي عمرو بن العلاء مع أبي الخطاب الأخفش قال أبو العباس: قال أبو عبيدة: كنا عند أبي عمرو بن العلاء، فسأله سائل عن جمع يدٍ من الإنسان، فقال أيدٍ، وأنكر أن تكون الأيادي إلا في النعم، فلما قمنا قال لي أبو الخطاب الأخفش: أما إنها في علمه، غير أنها لم تحضره. ثم أنشد أبو الخطاب الأخفش بيت عدي بن زيد العبادي: أنكرت ما تبينت في أيادينا ... وإشناقها إلى الأعناق ويروى: ((ساءها ما بنا تبين في الأيدي)) . قال أبو عمرو: يعني بنته هندا، باتت عنده مع أمها في السجن وهي جويرية صغيرة، فقالت: يا أباه أي شيءٍ هذا في يدك –تعني الغل- وبكت منه. ففي ذلك يقول: ((ساءها ما بنا تبين)) . وهذا الأخفش هو أبو الخطاب البصري، وقد حكى عنه أبو عبيدة وسيبويه أشياء كثيرة. وللبصريين أبو الحسن الأخفش صاحب سيبويه، وكتبه في العروض والنحو ومعاني القرآن مشهورة. وللبغداذيين عبد الله بن محمد البغداذي الأخفش، وأحد من روى الشعر، وقد أخذ عنه ابن السكيت والطوسي. هذه الحكاية عن المبرد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 76- مجلس محمد بن يزيد مع أبي إسحاق حدثني بعض أصحابنا قال: حدثني أبو إسحاق الزجاج قال: كنت في ابتداء أمري قد نظرت في علم الكوفيين وانقطعت إليه، فاستكثرت منه حتى وقع لي أني لم أترك منه شيئا، وأني قد استغنيت به عن غيره. فلما قدم محمد بن يزيد بغداد قصدته يوما وأنا عندي أنه إن ناظرني قطعته لا أشك فيه، فدخلت إليه فلما قعدت قلت له: كيف تقول ما أحسن زيدا؟ فقال: ما أحسن زيدا. قلت: زيد بأي شيء تنصبه؟ فقال: التقدير شيء حسن زيدا، فما اسمٌ مبتدأ، وأحسن خبره وفيه ضمير الفاعل، وزيداً مفعول به، والمعنى معنى التعجب. فذهبت أتخطى المسألة فقال لي: على رسلك أقنعك هذا الجواب؟ قلت: ما تركت فيها شيئًا. قال: فإنها تنتقض عليك. قلت: من أين؟ قال: كيف جاز أن تكون ما اسما بغير صلة، وإنما تكون اسما تاما في الجزاء، نحو: ما تصنع أصنع، أو في الاستفهام نحو: ما صنعت يا رجل؟ وما عندك؟ فهي ابتداءٌ وما بعدها خبرها، فكيف جاز أن تكون في غير هذين الموضعين اسما بغير صلة؟ وأنت لو قلت رأيت أو أعجبني ما، لم يكن كلاما حتى تقول: رأيت ما صنعت، أو أعجبني ما عندك، ونحو ذلك مما يكون صلة للذي. فلم يكن عندي في هذا جواب. فقال: الجواب عن السؤال أن يقال: إنما صلح أن تكون ما في الاستفهام اسما بغير صلة، لأنها لو وصلت علمت، وإنما يسأل السائل عما يجهل، كما تقول: من أبوك؟ فلو قلت: من في الدار أبوك، كنت مخبرا لما علمته وغير مستخبر عما جهلته. وكذلك في الجزاء هي، لأنها هناك شائعة مبهمة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 تقول: ما ركبت ركبت، فذلك واقع على كل مركوب. وكقولك: من يأتني آته. فهذا واقعٌ على جميع الناس. وأنت إذا قلت: ما أحسن زيدا فقد تعجبت من حسنه ولم تصف أن الذي حسنه شيءٌ بعينه، فلذلك لزمها أن تكون مبهمة غير مخصوصة، كما تقول: شيءٌ جاء بك، أي ما جاء بك إلا شيء. وكذلك: ((شر أهر ذا ناب)) ، أي ما أهره إلا شر. ومثله: إني مما أن أفعل كذا وكذا، يريد من الأمر أن أفعل كذا وكذا، فلما كان الأمر مجهولا كانت ما لإبهامها بغير صلة. قال: فذهبت أتجاوز، واستحسنت ما سمعت، فقال لي: أقنعك هذا؟ فقلت: لا أعلم فيه شيئًا غيره. قال: فإن قيل لك: إذا قلت شيءٌ أحسن زيدا فقد أخبرت ولم تتعجب، فإذا وضعت ((ما)) في موضع شيء أين وقع التعجب؟ قال: فبقيت ولم تكن عندي جواب. فقال: الجواب في ذلك أن ما إنما صلح ذلك فيها لإبهامها وتصرفها. ألا ترى أنك تقول: ما أقمت أقمت، فتكون مؤقتة وحقيقتها أنها وصلتها مصدر. وكذلك ما صنعت يسرني، فإن شئت كانت في معنى الذي، وإن شئت كانت والفعل مصدرا، وتكون استفهاما وتكون جزاء، وتكون خبراً، وتكون نكرة في مثل قول: ربما تكره النفوس من الأمر ... .. .... .... .... .... .... وتقع لذات غير الآدميين، ولنعوت الآدميين كقولك: ما عبد الله؟ فيقال: شريف أو وضيع، أو غني أو فقير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 فقلت: فكيف تقول: ما أعظم الله وما أحلم الله! فقال: أقول ما أعظم الله. فقل: كذا تقول؟ فقال: كذا أقول وكذا يقول عقلاء الناس. قلت: بأي شيء ينتصب الله؟ وهل يجوز أن يكون شيءٌ عظم الله وحلمه؟ فقال: نعم هذا المعنى أنه إنما هو انتباهك على ما لم تزل تعلم أنه وصفه جل وعز عند الشيء تصادفه من تفضله، فأنت الذاكر له بالحلم عندما رأيته عيانا. وهذا الذي كنت تعلمه قبل المشاهدة فأنت ذلك الشيء الذي ذكرناه بالحلم والعظمة عند هذه المشاهدة. فأنعم النظر عافاك الله فيما ذكرنا، فإنك تجده لازما لا يجوز غيره. فقلت في نفسي: هذا هو الحق، وما سوى ذلك باطل. وانصرفت من عنده، ثم بكرت إليه كالمعتذر، ولزمته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 77- مجلس أبي محمد اليزيدي مع أبي عبيد الله حدثنا أبو زيدٍ عمر بن شبة النميري قال: أخبرني أبو إسحاق إبراهيم بن الحريش عن أبي محمد اليزيدي النحوي قال: كنت جالسا مع أبي عبيد الله وزير المهدي فقال لكاتب بين يديه: اكتب. فجرى في كلامه أسدٌ فقال له: إن أسد كان يفعل كذا وكذا، فلم يجر أسدا. قال أبو محمد: فالتفت إليه فقلت إن أسدا كان يفعل كذا وكذا. فقال: الألف ما يصنع بها ها هنا؟ قلت له: هذه الألف ليست بزائدة على الفعل، هذه الألف هي فاء الفعل. قال: وما الدليل على هذا؟ وإنما أسد أفعل مثل أحمر لا يجري. فقلت له: إنما أسد مثل فعل، وقد غلطت، عد الحروف كم حرف أسدٌ؟ قال: ثلاثة. قلت: فعلٌ كم حرف هو؟ قال: ثلاثة. فقلت أفعل مثل أحمر كم حرفٍ هو؟ قال: أربعة. قلت: لو كان أسد أفعل كان أربعة أحرف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 78- مجلس أبي محمد مع أبي عبيد الله والكسائي قال أبو محمد: وسألني أبو عبيد الله ونحن بعيساباذ فقال: ما تقول يا أبا محمدٍ في الشراء، مقصور أو ممدود؟ قلت له: ممدود. قال: والكسائي حاضر. قال: فسأل الكسائي فقال: مقصور. قلت: أخطأ الكسائي. قال: وكيف ذاك؟ قلت له: كيف تجمع شرى؟ قال: أشرية. قلت: فإن هذا دليل على أن شراء ممدود؛ لأن كل ممدودٍ جماعة بالهاء، مثل قولك: كساء وأكسية، وبناء وأبنية، وسماء وأسمية، وفناء وأفنية. فقال الكسائي: ما سمعت أعرابيا إلا وهو يقصره. فقلت: برح الخفاء، ادع بالأعراب فهم ها هنا حولك –وقد كانت أصابتهم مجاعة- فدعا منهم بعدةٍ فدخلوا عليه. قال أبو محمد: فكلمت الأعراب الفصحاء وناشدتهم الشعر حتى عرفنا مذاهبهم في العلم، ثم قلت للكسائي: ترضى أن يكونوا بيننا وبينك؟ قال: نعم. فقلت لأفصحهم: كيف تقول في الكلام: اكتب هذا في شراك. قال: سبحان الله، اكتب هذا في شرائك، فمد. فخجل الكسائي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 79- مجلس أبي محمد مع الأحمر قال أبو محمد اليزيدي: وكنت جالسا مع الفضل بن الربيع، فدخل علينا علي الأحمر، فجلس إلى الفضل، فقال لي الفضل: من كان أعلم بالنحو: الكسائي أو أبو عمرو بن العلاء؟ وكان أبو عمرو أستاذ أبي محمد. قال: قلت له أصلحك الله، لم يكن أحدٌ بالنحو أعلم من أبي عمرو. فقال الأحمر: لم يكن يعرف التصريف. فقلت له: ليس التصريف من النحو، إنما هو شيءٌ ولدناه نحن واصطلحنا عليه. وكان أبو عمرو أنبل من أن ينظر فيما ولد الناس. قال: ولم؟ قلت: لأنه جاور البدو أربعين سنة، ولم يقم الكسائي بالبدو أربعين يوما. ثم قلت له: أنت أيضا تزعم أن الكسائي لم يكن يبصر التصريف وأنت تزعم أنك علمته. فسكت. فلما أراد أن يقوم أخذت دواة وقرطاسا وكتبت: زعم الأحمر المقيت علي ... والذي أمه تدين بمقته أنه علم الكسائي تصريفا ... فإن كان ذا كذا فباسته ثم دفعت الرقعة إلى الفضل، فما زال يضحك منها والأحمر لا يدري من أي شيءٍ يضحك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 80- مجلس أبي محمد مع الكسائي أبو زيد عمر بن شبة قال: أخبرني أبو إسحاق إبراهيم بن الحريش قال: سأل الفضل بن الربيع الفراء مرة فقال: من أعلم أبو محمد، أو الكسائي؟ فقال الفراء: عافى الله أبا محمد، أبو محمد رجلٌ عاقل، والكسائي الكسائي: اسمه وصوته، لم نلق أحدا أعلم منه. قال أبو محمد: فلقيته فقلت: يا دباغ إنما سئلت عن تزكيتي أو علمي. قال: يا أبا محمد، المعذرة إليك، والله ما تعمدته. فقلت له: ويحك فضحت الكسائي في تسع مسائل خطأته فيها بين يدي المهدي. فقال له أبو إسحاق: كيف كان السبب؟ قال: كان انقطاعه إلى الحسن الحاجب أخي المفضل الحاجب مولى أمير المؤمنين، وكان انقطاعي إلى يزيد بن منصور الحميري خال أمير المؤمنين المهدي، وبه لقيت اليزيدي، فوصفني يزيد للمهدي ووصف الحسن الحاجب الكسائي فقال المهدي: اجمع بينهما فقلت للكسائي: أسألك أم تسألني؟ قال: سل. قال: قلت: كيف تقول: مررت حجاما برجل. قال: كما قلت. فقلت: أخطأت. فقال المهدي للكسائي: مكانك، أخبرني، أنت الحجام أم الرجل؟ لئن كنت الحجام فأقبح بهذه المسألة، أو يكون الحجام هو الرجل فهو أقبح منها أن تفرق بين الحجام ونعته فتقدمه. فقال الكسائي: العرب تفعل هذا، قالت: لعزة موحشا طلل ... الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 فسكت المهدي حين سمع ذلك، فقلت ها هنا: ما يوحشك من هذا، إن ((مررت)) إذا جاءت أبدا لا تتعلق إلا باسم تخفضه، ولا يحال بينها وبين الخافض، وليس هذا في: لعزة موحشا طلل ... قال: فاشتهاها المهدي وقال: صدقت. واستخفني المهدي وضحك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 81- مجلس سيبويه مع محمد بن عبد الله الأنصاري أبو علي عسل بن ذكوان العسكري قال: حدثنا أبو عثمان بكر بن محمد بن حبيب المازني قال: حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري قاضي البصرة قال: سألت سيبويه: كيف تجمع الجواب؟ فقال: لا يجمع. قال أبو عثمان: الجواب مصدر، والمصادر لا تجمع، ألا ترى أن جواب على مثال فسادٍ وصلاح، فكما لا يجمع الفساد والصلاح فكذلك لا يجمع الجواب مثله. وقد جمعت من المصادر أحرف قليلة، وليس يطرد عليه الباب، إلا أنه قد قيل: أمراضٌ وأشعار، وعقول، وألباب، وأوجاع، وآلام، فلا يحملنك هذا على أن تقيس فتجمع المصادر. فتقول: ضربته ضربا كثيرا، ولا تقول ضروبا كثيرة، ولو قلت ذلك لصارت أصنافا من الضرب. قال: وقولهم كتاب الجوابات خطأٌ، وهو مولد. وكذلك أجوبة كتبي، وإنما يقال كتبت إليك فلم تجبني جواب كتابي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 82- مجلس أبي عمرو بن العلاء مع رجل من أهل العلم الرياشي العباس بن الفرج قال: حدثنا الأصمعي قال: سأل رجلٌ أبا عمرو بن العلاء عن مسألة فأجابه، ثم سأله عن مسألة أخرى فأجابه وأمسك السائل، فقال أبو عمرو متمثلا. إذا ما انتهى علمي تناهيت عنده ... أطال فأجرى أو تناهى فأقصرا ولا أركب الأمر المغيب غيبه ... بعميائه حتى أروز وأنظرا كما تفعل العشواء يركب دفها ... وتبرز دفا للمعاذير معورا قال الرياشي: قلت للأصمعي: ما كانت المسألة؟ قال: سئل: هل تنزو الضبع؟ قال: يقال ملخ الضبعان الضبع، إذا نزا. فقال له: أفكل ذكرٍ هكذا ينزو؟ قال: لا، يقال تراصعت الطير، وتشابكت السباع وتعاظلت. والحافر ينزو، والإبل تضرب، وسفد الديك، وتقافطت الغنم، وتقامطت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 83- مجلس الأعمش مع أبي عمرو بن العلاء أبو سعيد الأشج قال: حدثنا أبو داود الطيالسي قال: قال لي الأعمش في حديث عبد الله بن مسعود حين خرج على أصحابه فقال: إني لأعلم بمكانكم فما يمنعني من الخروج إليكم إلا مخافة أن أملكم، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتخولنا بالموعظة مخافة السآمة علينا. فقال له أبو عمرو بن العلاء، وكان إذ ذاك بالكوفة: إنما هو: ((يتخوننا بالموعظة)) . فقال الأعمش: ((يتخولنا)) فقال أبو عمرو: ((يتخوننا)) . فقال الأعمش: وما يدريك؟ فقال أبو عمرو، إن شئت أن أعلمك أن الله جل وعز لم يعلمك من العربية حرفاً واحداً أعلمتك. فسأل عنه الأعمش فأخبر بمكانه من العلم، فكان بعد ذلك يدنيه ويسأله عن الشيء إذا أشكل عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 84- مجلس الأصمعي مع الفراء عمر بن شبة قال: حدثني الخليل بن عمرو قال: لقي الأصمعي الفراء على الجسر ببغداذ، فقال له: أسألك؟ فقال: سل يا أبا سعيد. فقال: ما معنى قول الشاعر: أصم دعاء جارتنا تحجي ... لآخرنا وتنسى أولينا فقال الفراء: صادفت قوما صما، كما قال الشاعر: فأصممت عمرا وأعميته ... عن الجود والمجد يوم الفخار أي صادفته أعمى. قال: وحكى الكسائي: دخلت بلدة فأعمرتها: وجدتها عامرة؛ ودخلت بلدة فأخربتها: وجدتها خرابا. فقال الأصمعي للفراء: أنت أعلم الناس. ومضى ولم يكلمه بعد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 85- مجلس عبد الله بن إدريس الأودي مع يحيى بن آدم أبو سعيد الأشج قال: كان عبد الله بن إدريس الأودي يذهب إلى تحريم النبيذ من بين أهل الكوفة، فقال ذات يوم: وددت أني وجدت فقيها يحاجني ألزمه الحجة في تحريمه. فحضره يحيى بن آدم فناظره في ذلك، وكان يحيى يذهب إلى تحليله، فقال له ابن إدريس: تترك الحديث فإنك تعارض بأحاديث التحليل، ولكن هلم النظر، ألست تقول: إنما يحرم السكر؟ قال: كذاك أقول. قال: يحرم القدح الذي منه يسكر الإنسان؟ قال: نعم. قال: فما تقول في رجل شرب تسعة أقداح من نبيذ فلم يسكر؟ قال: هذا حلال. قال: فإن شرب عاشرا فسكر، قال: هذا حرام ولو لم يتقدم العاشر تسعة أقداح قبله ما سكر منه. قال: فما تقول أنت في رجل له أربع نسوةٍ أيتزوج أخرى؟ قال: لا. قال: وما تقدم حلال؟ قال: نعم. قال: فلولا الأربع لم تحرم الخامسة. فقال: خدعتني. فقال له يحيى: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الحرب خدعة)) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 86- مجلس أبي عاصم مع عبد الله بن المثنى وأبي عمر الضرير عمر بن شبة قال: سمعت أبا عاصم قال لعبد الله بن المثنى الأنصاري، وأبو عمر الضرير عنده: يا أبا عبد الله، ما تقول في رجل حضره الموت فقال: يقسم عني ألف درهم من دار سليمان بن ثوابة إلى دار بني عمير، أترى الدارين داخلة في هذه الصدقة؟ قال: لا أراها يا أبا عاصم، إنما قال: من إلى. فقال أبو عاصم: لكني أراهما داخلتين؛ لأن الله عز وجل يقول: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} . ألا إن المرفقين داخلان في الذراعين. فقال أبو عمر: القول ما قلت، وهو نظير قوله: أعطه من درهم إلى عشرة دراهم، والدرهم داخلٌ فيه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 87- مجلس نصيب مع الكميت حدثنا الرياشي قال: قال أبو كناسة: اجتمع نصيبٌ والكميت، فاستنشده نصيبٌ من شعره، فأنشده الكميت: هل أنت عن طرب الأيفاع منقلب ... حتى بلغ قوله: أم هل ظعائن بالعلياء نافعةٌ ... وإن تكامل فيها الأنس والشنب فعقد نصيبٌ في يده واحدة، فقال الكميت: ما هذا؟ قال: أُحصي خطأك، تباعدت في قولك: ((الأنس والشنب)) ، ألا قلت كما قال ذو الرمة: لمياء في شفتيها حوةٌ لعسٌ ... وفي اللثات وفي أنيابها شنب ثم أنشد: أبت هذه النفس إلا ادكارا ... فلما بلغ إلى قوله: إذا ما الهجارس غنينها ... تجاوبن في الفلوات الوبارا قال نصيب: الفلوات لا تسكنها الوبار. فلما بلغ إلى قوله: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 كأن الغطامط من غليها ... أراجيز أسلم تهجو غفارا قال له نصيب: ما هجت أسلم غفارا قط! فانكسر الكميت وأمسك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 88- مجلس الكسائي مع أبي الحسن المروزي قال أبو عمر الدوري: رأيت الكسائي وهو يسأل أبا الحسن المروزي وقد أقام أربعين سنة يختلف إلى الكسائي وهو يقول: كيف تقول: مررت بدجاجةٍ تنقرك أو تنقرك؟ فقال: تنقرك. فقال له الكسائي: استحييت لك، بعد أربعين سنة لا تعرف حروف النعت أنها تتبع الأسماء، تقول تنقرك من نعت الدجاجة! والكسائي ينقر أنفه ويعبث به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 89- مجلس أبي توبة بن دراج مع الفراء أبو توبة بن دراج: سألت الفراء عن الطلة فقال: مرأة الرجل طلته، وحنته، وربضه، وبيته، وطلبه، وخلبه. قال: ويقال للرجل هو طلب نساءٍ، وشيع نساء، وزير نساء. وأنشد: وجمة تسألني أعطيت ... ولم تصرني حنةٌ وبيت قال: الحنة: المرأة والبيت. لم تصرني، أي لم تملني لم تعطفني، ومنه {فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ} يقول: أملهن إليك. ومن قرأ {فصرهن} يقول: اقطعهن. والجمة: الجماعة التي تسأل في الدية، يقال لهم جمة. قلت: زدني من هذا. قال: كل ما عطفك على شيءٍ فهو إصرٌ من عهدٍ أو رحم، فقد أصرك. ويقال: ما يأصرني عليه حق، أي يعطفني عليه. وقال النابغة: أيا ابن الحواصن والحاصنات ... أتنقض إصرك حالا فحالا يقول: أتنقض عهدك. ويقال: قطع الله إصرة ما بيننا. والصور أيضا: الميل يميل الرجل عنقه إلى الشيء. والنعت أصور. قال: فقلت لها غضي فإني إلى التي ... تريدين أن أحبو بها غير أصورا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 90- مجلس الأصمعي مع شعبة بن الحجاج حدثنا عمر بن شبة قال: قال الأصمعي: أنشدت شعبة بن الحجاج لفروة بن مسيك المرادي: فما جبنوا أني أشد عليهم ... ولكن رأوا نارا تحس وتسفع فقال شعبة: ما هكذا أنشدني سماك بن حرب، قال: فما جبنوا أني أشد عليهم ... ولكن رأوا نارا تحش وتسفع قال عمر: تحس: تقتل، من قوله جل وعز: {إذ تحسونهم بإذنه} ، وتحش: توقد. قال الأصمعي: قال لي شعبة: لو فرغت للزمتك. وأنشدني سماك: للمست بالوجعاء طعنة مرهب ... حران أو لثويت غير محسب قال شعبة: ثم قال لي سماك: يا شعبة، تدري: ما غير محسب؟ قال: قلت: لا. قال: أي غير مكرم؛ يقال لم يحسبوا ضيفهم، أي لم يكرموه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 91- مجلس أبي عمرو بن العلاء مع رجل من أهل المدينة حدثنا أبو هفان قال: قال مصعب الزبيري: أنشد رجلٌ من أهل المدينة أبا عمرو بن العلاء قول ابن قيس: إن الحوادث بالمدينة قد ... أوجعنني وقرعن مروتيه فانتهره أبو عمرو وقال: ما لنا ولهذا الشعر الرخو، إن هذه الهاء لم تدخل في شيء من الكلام إلا أرخته. فقال المدني: قاتلك الله، ما أجهلك بكلام العرب! قال الله جل وعز في كتابه: {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ. هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} ، و {يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ. وَلَمْ أدر ما حسابيه} وتعيبه. فانكسر أبو عمرو انكسارا شديدا. قال أبو هفان: وأنشد هذا الشعر عبد الملك بن مروان فقال: أحسنت يا بن قيس لولا أنك خنثت قوافيه! فقال: يا أمير المؤمنين، ما عدوت قول الله تعالى في كتابه: {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ. هَلَكَ عني سلطانيه} . فقال له عبد الملك: أنت في هذا أشعر منك في شعرك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 92- مجلس أبي مسلم صاحب الدولة مع معاذ بن مسلم حدثنا الحسن بن الحسن بن محمد الشيباني، عن محمد بن أنس قال: دخل أبو مسلم عبد الرحمن صاحب الدولة، قبل أن يرتفع حاله، إلى معاذ بن مسلم الهراء النحوي، فسمع معاذا يناظر رجلا في النحو فقال لمعاذ: كيف تقول من {تؤزهم أزاً} يا فاعل افعل، وصلها بيا فاعل [افعل] من إذا الموءودة سئلت: فأجابه الرجل فسمع كلاما لم يعرفه، فقام من عندهم، وأنشأ يقول: قد كان أخذهم في النحو يعجبني ... حتى تعاطوا كلام الزنج والروم لما سمعت كلاما لست أعرفه ... كأنه زجل الغربان والبوم تركت نحوهم والله يعصمني ... من التقحم في تلك الجراثيم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 فأنشدوه الشعر فقال معاذ: عالجتها أمرد حتى إذا ... شبت ولم تحكم أباجادها سميت من يبصرها جاهلا ... يصدرها من بعد إيرادها سهل منها كل مستصعبٍ ... طودٍ علا أقران أطوادها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 93- مجلس أبي عبيدة الأحمر عند الفضل بن الربيع حدثني أحمد بن الحارث الخزاز قال: حدثني من حضر الفضل بن الربيع وعنده أبو عبيدة والأحمر، فسأله عن قول عمر: ((كدت أن ينشق مريطاؤك)) . فمد أبو عبيدة وهمزها، وقصرها الأحمر ولم يهمزها، فدخل الأصمعي فسئل فقال بقول أبي عبيدة، ورد عليه الأحمر، ولم يزل الأصمعي يحاجه حتى قهره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 94- مجلس أبي حاتم مع عمارة بن عقيل قال أبو حاتم: حدثني أبو زيد سعيد بن أوس الأنصاري قال: العوا مقصور مؤنث: اسم كوكب، لا يمد. فأنشدني عمارة بن عقيل بن بلال بن جرير شعرا له فمد العوا، فرددته عليه ولم أقبله منه ولم أثق بعلمه في ذلك، وذاك أنه أنشدني شعرا فيه الأرياح، فقلت إنما هي الأرواح. فقال: أما ترى أن في المصحف: {وتصريف الرياح} فأخذ طريق القياس فأخطأ، فقلت: الشعراء كلهم يقولون الأرواح، وجدك منهم، وأنشدته: إذا هب أرواح الشتاء الزعازع ... وقلت له في الرياح: إنما قلبت الواو ياء للكسرة التي قبلها في الراء، والأصل الرواح. فلم يفهم وقال: إنما الأرواح جمع الروح. فعلمت أنه ليس ممن يعتمد عليه في اللغة: وأنشدته قول الراعي: ولم يسكنوها الجر حتى أظلها ... سحابٌ من العوا تثوب غيومها ولم يقل: ((من العواء ثابت)) . وقال الحطيئة: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 ولو بلغت عوا السماك قبيلةٌ ... لزادت عليها نهشلٌ وتعلت وقال الفرزدق: مناياهم حتى أعان عليهم ... من الدلو أو عوا السماك سجالها وقال الراجز: سقى الإله دارها فروى ... نجم الثريا بعد نجم العوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 95- مجلس أبي حاتم مع الأصمعي أخبرنا أبو بكر قال: حدثني أبو حاتم، قلت للأصمعي: يقال للرجل زوجٌ، وللمرأة زوجٌ، ومن أهل الحجاز من يقول زوجةٌ وفلانة زوجة فلان. ورأيت الأصمعي كأنه أنكره، فأنشدته قول ذي الرمة، وقد كان قرئ عليه شعر ذي الرمة فلم ينكره: أذو زوجةٍ في المصر أم لخصومةٍ ... أراك لها بالبصرة العام ثاويا فقال: ذو الرمة طالما أكل المالح والبقل في حوانيت البقالين، وقد قرأنا عليه قبل هذا لأفصح الناس فلم ينكره: فبكى بناتي شجوهن وزوجتي ... والطامعون إلي ثم تصدعوا وقال آخر: من منزلي قد أخرجتني زوجتي ... تهر في وجهي هرير الكلبة وإنما لج الأصمعي لأنه كان مولعا بأجود اللغات، ويرد ما ليس بالقوي. وذلك الوجه أجود الوجهين. قلت: ومما حذفوا الهاء بغير قياس قولهم: ملحفةٌ جديد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 وملحفةٌ خلق، وشاة سديس وسدسٍ من السن، وكتيبة خصيف وريحٌ خريق. ولا يقال في شيء جديدةٌ بثبتٍ ولا خلقةٌ، وإنما هي جديدٌ وخلق بغير هاء للمذكر والمؤنث، إلا أني سمعت في شعر لمزاحم العقيلي جديدة، ومزاحمٌ فصيح، قال: تراها على طول القواء جديدةٌ ... وعهد المغاني بالحلول قديم فقال الأصمعي: لا يكون جديدة، وإنما هو جديد، أو هو بيتٌ مزاحف كما قال الآخر: لقد ساءني سعدٌ وصاحب سعدٍ ... وما طلباني بعدها بغرامه نصفه فعولن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 96- مجلس النضر بن شميل مع المأمون حَدَّثَنِي أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى قَالَ: حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ الْحِزَامِيُّ وَالزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ، قَالَ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ: دَخَلْتُ عَلَى الْمَأْمُونِ وَعَلَيَّ إزارٌ مَرْقُوعٌ، فَقَالَ لِي: يَا نَضْرُ، مَا هَذَا التَّقَشُّفُ؟ فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، حَرُّ مَرْوَ كَمَا قَدْ عَلِمْتَ، وَأَنَا شيخٌ وَأُحِبُّ التَّرَوُّحَ بِهَذِهِ الْخُلْقَانِ. قَالَ: فَأَخَذَ بِنَا فِي الْحَدِيثِ فِي ذِكْرِ النِّسَاءِ، فَقَالَ الْمَأْمُونُ: حَدَّثَنِي هُشَيْمُ بْنُ بَشِيرٍ عَنْ مُجَالِدٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أَيُّمَا رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً لِدِينِهَا وَجَمَالِهَا كَانَ ذَلِكَ سَدَادًا مِنْ عَوَزٍ)) . قُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، صَدَقَ هُشَيْمٌ، حَدَّثَنَا عَوْفُ بْنُ أَبِي جَمِيلَةَ قَالَ: قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أَيُّمَا رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً لِدِينِهَا وَجَمَالِهَا كَانَ ذَلِكَ سِدَادًا مِنْ عَوَزٍ)) . قَالَ: فَاسْتَوَى جَالِسًا ثُمَّ قَالَ: يَا نَضْرُ، كَيْفَ قُلْتَ سِدَادًا بِالْكَسْرِ وَلَمْ تَقُلْ سَدَادًا، مَا الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا؟ قُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، السَّدَادُ: الْقَصْدُ فِي الدِّينِ وَالسَّبِيلِ وَالطَّرِيقِ. وَالسِّدَادُ لِلثَّلْمَةِ. وَكُلُّ مَا سَدَّدْتَ فَهُوَ سِدَادٌ بِالْكَسْرِ. قال: وفي العرب من يقول ذلك؟ قلت: نعم، هذا العرجي يقول: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 أضاعوني وأي فتى أضاعوا ... ليوم كريهة وسداد ثغر فقال: قبح الله اللحن. قلت: يا أمير المؤمنين، إنما لحن هشيم، وكان هشيم لحانا، فاتبع أمير المؤمنين لفظه، وقد تتبع ألفاظ العلماء. ثم قال لي: يا نضر، هل تروي من الشعر شيئا؟ قلت: نعم يا أمير المؤمنين. قال: فأنشدني أخلب بيتٍ قالته العرب. قلت: قول حمزة بن بيض في الحكم بن أبي العاص: تقول لي والعيون هاجعةٌ ... أقم علينا يوما فلم أقم أي الوجوه انتجعت قلت لها ... وأي وجه إلا إلى الحكم متى يقل صاحبا سرادقه ... هذا ابن بيضٍ بالباب يبتسم قد كنت أقسمت فيك مقتبلا ... فهات وادخل وأعطني سلمي فقال: أحسن والله ما شاء! فأنشدني أقنع بيتٍ قالته العرب. قال: قلت: قول عروة حيث يقول: أطلب ما يطلب الكريم من الرزق ... بنفسي وأجمل الطلبا وأحلب الدرة الصفي ولا ... أجهد أخلاف غيرها حلبا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 إني رأيت الفتى الكريم إذا ... رغبته في صنيعة رغبا والنذل لا يطلب العلاء ولا ... يعطيك شيئا إلا إذا رهبا مثل الحمار الموقع السوء لا ... يحسن مشيا إلا إذا ضربا قد يرزق الخافض المقيم وما ... شد لعنسٍ رحلا ولا قتبا ويحرم الرزق ذو المطية والرحل ... ومن لا يزال مغتربا فقال: أحسن والله ما شاء! فأنشدني أنصف بيتٍ قالته العرب. قال: قلت: قول الراعي حيث يقول: إني وإن كان ابن عمي غائبا ... لمزاحمٌ من خلفه وورائه ومعده نصري وإن كان امرأ ... متباعدا في أرضه وسمائه وأكون والي سره فأصونه ... حتى يكون علي وقت أدائه وإذا الحوادث أجحفت بسوامه ... قربت مجحفها إلى جربائه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 وإذا دعا باسمي ليركب مركبا ... صعبا ركبت له على سيسائه وإذا رأيت عليه بردا ناضرا ... لم تلفني متوسما لردائه فقال: أحسن والله ما شاء! ثم قال: ما مالك يا نضر؟ قلت: ضيعةٌ بمرو الرود أتعيش منها وأتمززها. قال: أفلا نفيدك مالا إلى مالك؟ قلت: إني إلى ذلك محتاج. فتناول الدواة والقرطاس ثم كتب شيئا لم أدر ما هو، وقال: يا نضر، كيف تقول من التراب إذا أمرت أن تترب كتابا؟ قلت: أتربه. قال: هو ماذا؟ قلت مترب. قال: فمن الطين؟ قلت: طنه. قال: هو ماذا؟ قلت: مطين. قال: فمن السحاة؟ قلت: اسحه. قال: وهو ماذا؟ قلت: مسحى ومسحو. قال: يا غلام، أترب واسح وطن. ثم قام فصلى العشاء الآخرة ثم قال لغلامٍ فوق رأسه: تبلغ معه إلى الفضل بن سهل بهذا الكتاب. فلما دخلنا عليه قال: يا نضر، إن أمير المؤمنين قد أمر لك بخمسين ألف درهم فما قصتك؟ فحدثته الحديث ولم أكتمه شيئا، فقال: لحنت أمير المؤمنين؟ قلت: كلا، كلا، إنما لحن هشيم، فأدى أمير المؤمنين لفظه، وقد تتبع ألفاظ العلماء. فأمر لي من عنده بثلاثين ألف درهم، فخرجت بثمانين ألف درهم بكلمات استفادها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 97- مجلس الأصمعي مع أبي عمرو الشيباني قال أبو عبد الله اليزيدي: حدثني أبو العباس أحمد بن يحيى ثعلب قال: حدثني سلمة قال: حضر الأصمعي وأبو عمرو الشيباني عند أبي السمراء، فأنشد الأصمعي لمالك بن زغبة: بضرب كآذان الفراء فضوله ... وطعن كإبزاغ المخاض تبورها ثم ضرب بيده إلى فروٍ كان بقربه، يوهم أن الشاعر أراد فروا، فقال أبو عمرو: أراد الفرو. فقال الأصمعي: ((هذه روايتكم)) ، يهزأ. ومعنى البيت أن الضرب يصير لحومهم معلقة، أي يقطعه قطعا. فشبه اللحم بآذان الحمير. ومثله ما أنشد الفراء عن المفضل: بضربٍ يدير الهام عن سكناته ... وطعنٍ كتشهاق العفا هم بالنهق والعفا في لغة طيء: ولد الحمار. وأنشد ابن الأعرابي عن المفضل ((العفا)) بالكسر. ومثله: ضربا خراديل وطعنا وخزا ... ومثله كثير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 98- مجلس بشار بن برد مع خلاد بن المبارك حدثنا أبو عبد الله حدثني أحمد بن يحيى قال: حدثت عن أحمد بن خلاد بن المبارك الباهلي قال: حدثني أبي قال: قلت لبشار: إني أراك في شعرك تهجر، فتأتي مرة بفن ومرة بفن. قال: مثل ماذا؟ قلت: مثل قولك: إذا ما غضبنا غضبة مضرية ... هتكنا حجاب الشمس أو قطرت دما ثم تقول: ربابة ربة البيت ... تصب الخل في الزيت لها عشر دجاجاتٍ ... وديكٌ حسن الصوت فقال: يا أبا مخلد، الحال بيني وبينك قديمة، وأراك ليس تعرف مذهبي في هذا، هذه امرأة كانت لها عشر دجاجات وديك، وكنت لا آكل [بيض السوق، وإنما آكل] البيض المحصن، فأردت أن أمدحها بما تفهم، ولو أني مدحتها بمثل: قفا نبك من ذكرى حبيبٍ ومنزل ... الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 وأخواتها لم تفهم ما أقول؛ ولم يقع منها موقعه، وإنما أنا كالبجر الزاخر يقذف بالعنبرة وبالدرة النفيسة، وربما قذف بالسمك الطافي، ولكن لا أضع كل شيء إلا في موضعه. قلت: مثل ماذا؟ قال: مثل قولي: أنفس الشوق ولا ينفسني ... وإذا قارعني الهم رجع أصرع القرن إذا نازلته ... وإذا صارعني الحب صرع أنا كالسيف إذا روعته ... لم يروعك وإن هز قطع سيفي الحلم وفي منطقتي ... أسد الموت إذا الموت نقع قال أحمد: فسمعت الأصمعي يقول: العجب له، أنه لا عشيرة له، ولا [له] مال بارع، وأعمى، ويقول مثل هذا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 99- مجلس الشعبي مع عبد الملك بن مروان حدثني أبو عبد الله بن عيسى بن شيخ رحمه الله قال: حدثني علي بن يحيى بإسناد قال: قال الشعبي: دخلت على عبد الملك بن مروان فصادفته في سرار مع بعض من يقرب منه، فوقفت ساعة لا يرفع إلي طرفه، فقلت: يا أمير المؤمنين، عامر الشعبي. فقال: لم نأذن لك حتى عرفنا اسمك. فقلت: نقدةٌ والله من أمير المؤمنين. فلما فرغ مما كان فيه وأقبل على الناس رأيت في المجلس رجلا ذا رواء وهيئة لم أعرفه، فقلت من هذا يا أمير المؤمنين؟ قال: الخلفاء تسأل ولا تسأل، هذا الأخطل الشاعر. قلت في نفسي: هذه أخرى. قال: وخضنا في الحديث فمر له شيءٌ لم أعرفه فقلت: أكتبنيه يا أمير المؤمنين. فقال: الخلفاء تستكتب ولا تستكتب. فقلت: هذه ثالثة. وذهبت لأقوم، فأشار إلي بالقعود، فقعدت حتى خف من كان عنده، ثم دعا بالطعام فقدمت إليه المائدة، فرأيت عليها صحفة فيها مخ، وكذا كانت عادته أن يقدم إليه المخ قبل كل شيء. فقلت: هذا يا أمير المؤمنين كما قال الله جل وعز: {وجفانٍ كَالْجَوَابِ وقدورٍ راسيات} . فقال: يا شعبي، مازحت من لم يمازحك. فقلت: هذه والله رابعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 فلما فرغ من الطعام وقعد في مجلسه واندفعنا في الحديث وذهبت لأتكلم، فما ابتدأت بشيء من الحديث إلا استلبه مني فحدث الناس به، وربما زاد فيه على ما عندي؛ ولا أنشدته شعرا إلا فعل مثل ذلك. فغمني ذلك وانكسر بالي له، فما زلنا على ذلك بقية نهارنا. فلما كان آخر وقتنا التفت إلي فقال: يا شعبي، قد والله تبينت الكراهة في وجهك لما فعلت، وتدري أي شيءٍ حملني على ذلك؟ قلت: لا يا أمير المؤمنين. قال: لئلا تقول: لئن فازوا بالملك أولا لقد فزنا نحن بالعلم، فأردت أن أعرفك أنا فزنا بالملك وشاركناك فيما أنت فيه. ثم أمر لي بمال، فقمت من عنده وقد زللت أربع زلات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 100- مجلس الفضل بن يحيى بن خالد مع أبي يوسف والواقدي عمر بن شبة قال: حدثنا العباس بن خالد البرمكي عن أبيه قال: دخل الفضل بن يحيى على يحيى وعنده أبو يوسف، ومحمد بن عمر الواقدي، فسلم وهو قائم فلم يرد عليه يحيى السلام، فقال أبو يوسف: أصلح الله الوزير، الأمير الفضل واقفٌ. فقال: يا أبا يوسف، بقى حكيمٌ في طرسه: ((الكبر مغط على الجود والحلم، والتواضع مغط على الجهل والبخل)) ، فيا لها سيئة غطت على حسنتين، ويا لها حسنة غطت على سيئتين! فالتفت أبو يوسف إلى الواقدي وقال: هكذا ينبغي أن يكون الوزراء! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 101- مجلس الفراء مع الكسائي حدث أبو توبة بن دراج قال: سمعت الفراء يقول: كنا بالرقة، وكان الناس قد كثروا على الكسائي فشغلوه عنا، فعملت له مسائل فيها محالٌ وفيها صواب، فأقبل يقول فيصيب ويغلط، لما شغله من الناس، فلما صار إلى منزله كتب إلى رقعة فأعاد إلي فيها ما سألته عنه، فقال فيها بالصواب كلها. وقال: كنت مشغولا بمن كان عندي؛ وقد ظننت أنك أردت ببعض مسائلك أن تتغفلني، وقد قيل: ولا تبغ التغفل إن فيه ... تفرق ذات بين الأصفياء ولا ينبغي لمثلك أن يفعل معي ذلك. وفي الكتاب: وسوف تلوم نفسك إن بقينا ... وتبلو الناس والإخوان بعدي قال الفراء: فبلغ مني هذا القول كل مبلغ، وكأني فجرت به منه بحرا. قال: قال الفراء: لم نر مثل الكسائي ولا نرى مثله أبدا. كنا نظن إذا سألناه عن التفسير أنه لا يجيب فيه الجواب الثاقب، فإذا سألنه عنه أقبل يرمينا بالشهبان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 قال أبو توبة: وأخبروني سعدون قال: قلت للكسائي: أي الرجلين أعلم بالنحو: الفراء أو الأحمر؟ فقال: الأحمر أحفظ، وهذا أعلم بما يخرج من رأسه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 102- مجلس عبد الله بن محمد [ابن] البواب مع الأسود حدث أبو هفان قال: قال عبد الله بن محمد، ابن البواب: كنت خليفة الفضل بن الربيع في حجبة الهادي، فأنا في داره ذات يومٍ إذ سمعته يقول لبعض خدمه: ينبغي أن تحفظ عني ما تؤديه إلى غيري، وتحفظ عن غيري ما تؤديه إلي، فرب رسولٍ لملكٍ قد غمه وشانه، وأوصل إليه الهموم بتحريف الرسالة وما لم يكن يحتسبه. قال عبد الله بن محمد: فوالله ما أمسى الهادي من ذلك اليوم حتى وقع له ذلك بعينه، عزم في ذلك اليوم على الصبوح، فدخل على أمه الخيزران، فسألته أن يولي خاله الغطريف اليمن، فقال: أذكريني به قبل أن أشرب. فلما عزم على الشرب وجهت إليه منيرة تذكره، فقال لها: ارجعي فقولي لها: اختاري [له] : طلاق بنته عبيدة، أم ولاية اليمن. فلم تفهم إلا قوله: ((اختاري له)) . فمرت وعادت فقالت: قد اخترت اليمن. فطلق عبيدة بنته، فسمع الصياح، فقال: ما لكم؟ فأعلمته أمه الخيزران الخبر. قال: أنت اخترت له. فقال: ما هكذا أدت إلى الرسالة! فقال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 وإنا إليه راجعون، إني والله تقدمت اليوم في هذا الأمر خائفا منه أن يقع على مثل ما وقع، يأبى قضاء الله إلا أن يمضي ما قدره. ثم أمر صالحا صاحب المصلي أن يقف بالسيف على رءوس الندماء فيطلقوا نساءهم. فخرج إلى الخدم بذلك كي لا آذن لأحد، وعلى الباب رجلٌ واقف متلفعٌ بطيلسانه، يراوح بين رجليه على معرفة دابته، فعن لي بيت فأنشدته: خليلي من سعدٍ ألما فسلما ... على مريم لا يبعد الله مريما وقولا لها: هذا الفراق عزمته ... فهل موعدٌ قبل الفراق فيعلما فقال الرجل المتلفع بطيلسانه: ((فنعلما)) أبقاك الله، فقلت له: ما الفرق بين فيعلما وفنعلما؟ فقال: إن الشعر يصلحه معناه، ويفسده معناه، ما حاجتنا إلى أن يعلم الناس أسرارنا؟ فقلت: أنا أعلم بالشعر منك. قال: فلمن الشعر؟ قلت للأسود بن عمارة النوفلي. قال: فأنا هو فدنوت منه وأخبرته خبر الهادي، واعتذرت من مراجعتي إياه. فضرب دابته وقال: هذا أحق منزلٍ بترك! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 103- مجلس الكميت مع حماد والطرماح وغيرهما قال ابن أنس: أخبرني شيخ من الحي من بني نصر بن قعين قال: شهد الكميت الجمعة بمسجد الجامع، فأحاط به علماء أهل الكوفة ورواتهم، فيهم حماد والطرماح، فجعلوا يسألون، فكان لا يسأل عن حرف إلا كان كأنه ممثل بين عينيه، فقال: ألا ألقى عليكم بيتا؟ فقالوا: افعل يا أبا المستهل فألقى عليهم هذا البيت: قذفوا صاحبهم في ورطةٍ ... قذفك المقلة وسط المعترك فجعلوا ينظرون فيه، ونودي بالعصر ولم يصنعوا شيئا، فسألوه عنه فقال: إن المقلة الحصاة التي يقسم بها القوم ماءهم. قال: والمعنى قذفوا صاحبهم في ورطة شطر المعترك، قذفك المقلة. قال ابن أنس: وقد ذكر هذه الحصاة الفرزدق في قوله: وجاء بجلمودٍ له مثل رأسه ... ليشرب ماء القوم بين الصرائم على ساعةٍ لو أن في القوم حاتمٌ ... على جوده ضنت به نفس حاتم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 104- مجلس أبي الحسن بن كيسان مع أبي العباس المبرد حدثني أبو علي قال: حدثني أبو الحسن قال: كان أبو العباس محمد بن يزيد يذهب إلى أن أواخر الأسماء في البناء كأوائلها وأوساطها، وكان يقول: لما كان في أوائلها مثل برد وجذع وكعب، وكان في أواسطها مثل ما في أوائلها مثل كتف وحجر ورجل وفلس - كانت أواخرها كذلك، منها الساكن ومنها المتحرك، وإنما الإعراب عارضٌ فيها وداخلٌ في أبنيتها. قال أبو الحسن: فسألته عن المبنيات: لم اختلفت أواخرها وهذا حكمها عندك؟ فقال: أما ما كان منها قبل آخره حركه فلا حاجة بنا إلى حركته، فوصله مثل الوقف عليه، لأن ذلك يمكن فيه نحو من وكم. وأما ما كان قبل آخره ساكن فإنه يحرك في الوصل لالتقاء الساكنين، فكان أولى الحركات به الفتح لخفته، إلا أنهم وجدوا الفتح والضم يكونان إعرابا بتنوين وبغير تنوين، ولم يجدوا الكسر إعرابا إلا بتنوين، فألزموا الكسر ما احتاجوا إلى حركته لالتقاء الساكنين، لهذه العلة التي لم تخرج فيها إلى شبه المعرب، فكان الكسر فيما منعت الضرورة من إقراره على السكون كالوقف في المبنيات، وذلك نحو قولك: هؤلاء، وأمس يا فتى. فإن جاءك شيءٌ مفتوحٌ مما يجب فيه الكسر فهناك علة نقل معها الكسر، وكان في الحكم أن يكون هو المستعمل فيما احتيج إلى حركته، وذلك نحو: أين، وثم، ومن الرجل، كرهوا الكسر مع الياء والضم والكسرة، فعدلوا إلى الفتح في هذه الحروف. وما جاء محركا على غير هذين الوجهين فإنما الحركة فيه معارضةٌ للإعراب وليست من باب ما ابتدئ على البناء وذلك أن يكون الشيء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 يضارع المبنى من حال والمعرب من أخرى، فيحرك حركة لازمة فيصير كالمبني للزوم الحركة إياه، ويصير كالمعرب لأن الحركة داخلته وليست بمضطرٍ إليها، وذلك نحو قولك ضرب، وكل فعل ماض، ومع يا فتى؛ لأنك تقول جاءا معا يا فتى، ويا حكم ابدأ بهذا أول ومن عل. فما حكم هذا أن يكون ساكنا، بل يجب أن يكون بحركةٍ للدرج. قال أبو الحسن: أيكون بأي حركةٍ شئت أو يكون بحركة معلومة؟ فقال: بابه أن يكون بالفتح لخفة الفتح، ولا يكسر لئلا يشبه ما حرك للضرورة، وبابه أن يكون مفتوحا حتى تقع علة تزيله عن الفتح. فمما فتح: مع، وفعل، وخمسة عشر. وما أزيل عن الفتح فبابه أن يزال إلى الضم كما أزيل الكسر إلى الفتح، وذلك: من قبل، وابدأ بهذا أول، ويا حكم. وذلك أن قولك من قبل ومن بعد ومن عل، وجئتك من قبل ومن بعد ومن عل، وجئتك قبل وبعد، وجئتك أول، إنما هو في موضع نصب أو خفض، فكرهوا أن يبنوها على الفتح فيشبه حركة ما عدلوها عنه، لأن الفتح بغير تنوين يكون جامعة للخفض والنصب، فبنوها على الضم لعدلها عن هذين الوجهين، ليخرجوها عن حد إعرابها البتة. وكذلك يا حكم في موضع أطلب حكما. فهذا كان مذهب أبي العباس، وهو مشاكل لمذهب سيبويه، وهم واضحٌ بين. ثم سألته عن العلة التي توجب البناء فقال: الأسماء هي المتمكنة الأول، والأفعال وحروف المعاني لها تبع، وإنما وقع لها النقص في الإعراب –يعني ما لا ينصرف- والبناء، لمضارعتها في حال الأفعال وفي حال حروف المعاني. فكل اسم خرج من جملة الأسماء، التي وضعت للتمكن في التسمية والتمكن في الإعراب، إلى مضارعة الفعل، وجب أن تحمل تلك المضارعة على الفعل في نقص الإعراب عن جملة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 الأسماء. وكل ما ضارع حروف المعاني من الأسماء أخرج من جملتها في باب استحقاق الإعراب إلى البناء. فأصل كل شيء مبني أن يضارع حروف المعاني. وسألته: ما بال من وكم وما أشبه ذلك من حروف الاستفهام؟ فقال: لما وضعت للاستفهام ضمنت معنى الألف وهل، فاستحقت البناء بهذه المضارعة، وكذلك هي في الجزاء مضارعة لإن. ألا ترى أنك إذا قلت من لقيك أزيد أم عمرو، فقد تضمنت من معنى الاسمين والألف وأم. فكنا نقول له في هذا: فأنت تقول: أيهما أتاك، بهذا المعنى، فتعرب أيا. فقال: إنما أعربت أي لمضارعتها لبعض، وأنها على معناها. قلنا: قد تضمنت معنى الألف وأم، والذي فيها من الخصوص كالذي في من من العموم. فكان يذهب إلى أن الإضافة بمنزلة التنوين، وأن التنوين يوجب الإعراب. فقلنا له: فما بال ((من)) لم تعرب في الخبر؟ فقال: لأنها لم تكمل اسما إلا بصلة. قلنا: فما فيها من المضارعة لحرف المعنى. قال: لما لم تخص قليلا من كثير ولا كثيرا من قليل، ولا واحدا من تثنية، ولا مذكرا من مؤنث، كانت كحرف المعنى الذي هو معلق بغيره. قلنا: فأحدٌ، إذا قلت ما جاءني أحدٌ، كمن في الإبهام، وأنه يقع للواحد والاثنين، والقليل والكثير من الجمع، والمؤنث والمذكر. قال: ليس هو محتاجا إلى الصلة، وإنما وقع العموم فيه من غيره؛ وذلك لأن الجحد يجوز فيه العموم ولا يجوز في الخبر على الخصوص. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 قلنا: فلم لم يضارع حروف المعاني؟ قال: لأنه لم يكتف به منها، ألا ترى أن حرف الجحد لازم له، وكذلك الحروف التي هي موجبة، كقولك: ما أتاني أحدٌ، وإن أتاك أحد فأكرمه، وهل من أحد؟ فجرى مجرى هل من رجل. وإن كان لا يقع إلا مع هذه الحروف فإنه كسائر الأسماء المتمكنة التي تقع موقعه في النفي وغير الإيجاب. فهذا من مذهبه حسن. وسألته عن هذا وهؤلاء، فزعم أنه موضوع موضع تنبه وانظر، فقال: هو مضارع لهذا الفعل المبني الذي ليس بمعرب، وذلك الفعل عنده إنما بني لأنه مضارع للزجر الذي هو حرف معنى كصه ومه. وسألته عن حذام فقال: كان المؤنث جملة لا ينصرف في المعرفة، وحذام معدول في باب المعرفة، كعمر عن عامر في باب المعرفة، فلما عدل عمر عن اسم مصروف لم يصرف، ولما عدلت حذام عن اسم لا ينصرف لم يكن بعده إلا البناء. قال: فقلت له: هذا ترك ما شرطته في باب البناء أنه مضارع لحروف المعاني دون غيرها، فأي شيء يضارع به حذام حروف المعاني؟ فتغلغل في هذا إلى أن قال: فعال تعدل في أربعة أوجه: في باب الأمر والنهي، وفي النداء، والمصدر، وفي الاسم العلم، وهي في ذلك كله اسم معرفة مؤنث وبعضه مضارع لبعض. فالذي في باب الأمر مضارعٌ لمه وصه، وما ضارع المضارع جرى مجراه. يريد أن دراك بمعنى أدرك، كأنه مصروف عن الإدراك، موضوعٌ موضع الفعل المبني، وهي في باب النداء وباب المصدر وباب التسمية مضارعةٌ لهذا الباب، لأنها في هذا الموضع عدلٌ كما أن ذاك عدل، فقد ضارعت حروف المعاني لمضارعتها ما ضارعه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 وسألته عن خمسة عشر قال: إنما وجب فيه البناء لأن معناه خمسة وعشرة، فلما ضما وأسقطت الواو تضمن جمعهما معنى الحرف، يعني الواو، فضارعا حروف المعاني بما تضمنا من معنى الواو. ويلحق بهذا ما كان مثله فيجعله إذا أمكنه فيه، هذا على هذا محمول، وإذا لم يمكنه جعله مضارعا لهذا الذي يتضمن معنى الحرف، يعني الواو. وأما قبل وبعد وما أشبه ذلك فقد احتج له بمثل قول سيبويه: أجروه مجرى الزجر كحوب. وهذا قد ذكره سيبويه. ويحمل قبل وبعد لأنها ليست بمستمكنة على مثل من وإلى، لأن كل واحدة مقتضيةٌ لصاحبتها؛ فكأن قبل ابتداء غاية لبعد، وبعد انتهاء غاية لقبل، ففيها ما في من وإلى من الابتداء والانقطاع. فإذا أردنا من باب تمكنهما في الإضافة التي وضعتا عليه خرجتا إلى شبه حروف المعاني، كخروج الأسماء في باب النداء إلى مضارعة الأصوات. والأصوات عندهم كغاق وطق مضارعةٌ للحروف، لأنها حكيت حكاية جرت فيها كالزجر، لأن الزجر إنما وضعتها حروف معان ليعلم ما تريد بها، ومخرجها مخرج صوت، وحكاية الصوت كإخراج الزجر منك للمزجور، وإنما هو صوت ونداء، وهي مضارعة لحروف المعاني من هذه الجهة. وكذلك حروف الهجاء إذا قطعت، والعدد إذا تكلم به من غير عطفٍ حكمة حكم الصوت المكرر. وقد كان ربما قال: البناء بغير هذا المعنى. وهذا الذي كان يعتمد عليه. وأما مذهب سيبويه فإنه لم يخص بالبناء شيئا من شيء. وقال: هو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 للأسماء التي ليست بمتمكنة وللأفعال غير المضارعة، وللحروف التي لم تجيء إلا لمعنى ليس [غير] . ولم يجعل شيئا من هذه أصلا لغيره. قال أبو الحسن: والذي أذهب إليه أن البناء إنما هو الأصل الذي يعم المعرب وغيره، وأن المعرب مخرج منه، فخرج عنه إلى الإعراب الأسماء المتمكنة، لحاجتهم إلى إعرابها للمعاني التي صرفوها فيها. وضارعتها الأفعال فأدنيت منها ولم تلحق بها، وقصرت عنها. وتباعدت الحروف التي للمعاني فلزمت الأصل الذي بنيت عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 105- مجلس أبي يوسف يعقوب بن الدقاق مع أبي عبد الله محمد بن زياد الأعرابي حدثني عن أبي يوسف يعقوب بن الدقاق قال: أرسلني أبو نصر أحمد بن حاتم صاحب الأصمعي إلى أبي عبد الله محمد بن زياد الأعرابي أسأله عن هذين البيتين: عجبت لهذه بعثت بعيري ... وأقبل كلبنا فرحا يجول يحاذر شرها جملي، وكلبي ... يرجى نفعها ماذا تقول فسألته فقال: هذه أمةٌ صوتت بالكلب على تصويت السنانير فجاء الكلب فرحا يظن أنها ستطعمه شيئا، وثار البعير يظن أن الصوت به ليحمل عليه. ثم قال لي: قل له ما تقول في هذا البيت: لقد أهدت حبابة بنت جل ... لأهل جلاجل حبلا طويلا فقلت له: فسره لي يأبا عبد الله. فقال لي: سله قبلا ثم ارجع إلي. قال: فرجعت إليه فأعلمته ما كان منه من الجواب فقال: صدق أبو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 عبد الله، وسألته عن البيت فلم يعرفه، فرجعت إلى أبي عبد الله فأعلمته ذلك، وفسره لي فقال: هذه امرأة كانت عظيمة العجيزة، فكانت تقف في نساء الحي وتأخذ حبلا فتديره على عجيزتها، فإذا التقى طرفاه رمت به إليهن وقالت: أيتكن تفعل مثل هذا؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 106- مجلس أبي حاتم مع رجل من أهل العلم بحضرة الأصمعي حدثنا أبو بكر محمد بن الحسن قال: أخبرنا أبو حاتم سهل بن محمد السجستاني قال: كنت في حلقة الأصمعي، فجاءه رجلٌ كالمتعنت، فقال له: ما معنى قول هدبة: وعند سعيدٍ غير أن لم أبح به ... ذكرتك إن الأمر يعرض للأمر قال: فرأيت الأصمعي كالمتوقف، وخفت ألا يجيب، وكان الأصمعي يفسر لنا شيئا من الغريب، فاعترضت فقلت: يا هذا شغلت شيخنا عن جوابنا بما لا يجدي علينا. قال: فاكفه أنت الجواب. فاغتنمتها فقلت: نعم، كان سعيدٌ حسن الثغر، فلما دخل عليه وحاوره رأى ثغره فذكرها، فلم يبح بالسبب الذي ذكرها من أجله. فانصرف الرجل وسكت الأصمعي. فكان بعد ذلك يصغي إلي ويرتضي جوابي، ويسمع ما أقوله في المجلس وغيره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 107- مجلس يحيى بن الحارث الذماري مع يزيد بن أبي مالك حدثني قال: أخبرنا عبد الله بن سليمان قال: حدثنا محمد بن المصفى قال: حدثنا ابن شابور عن يحيى بن الحارث الذماري قال: اختلفت أنا ويزيد بن أبي مالك في {إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خطئاً كبيراً} . فقلت أنا: خطأ، وقال هو: خطئا، فقمنا إلى عبد الله بن عامر اليحصبي، وكان إماما في القراءة، وكان على المسجد، وكان لا يرى فيه بدعة إلا غيرها، فسألناه فقال: خطأ كبيرا. قال: حدثنا عمرو بن عثمان قال: حدثنا شابور قال: حدثنا يحيى بن الحارث الذماري قال: اختلفت أنا ويزيد بن أبي مالك في: إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خطئاً كبيراً، فقلت أنا: خطأ وقال يزيد بن أبي مالك: خطئا، فقمنا إلى عبد الله بن عامر –قال محمد: وكان إماما في القراءة- فسألناه عن ذلك فقال: خطأ كبيرا. أما الرواية عن عمرو بن عثمان عن شابور فهو خطأ، وإنما هو محمد بن شابور وقد جاء في حديثه: قال محمد –وهو محمد بن شابور- الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 وقد جاء في ذلك رواية محمد بن المصفى الأولى قال: حدثنا ابن شابور وهو محمد، وإنما سقط من رواية عمرو بن عثمان الابن، لأن شابور هو محمد بن شابور. فاعلم ذلك. وأما الرواية في قوله تعالى: {إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خطْأً} بفتح الخاء والطاء مع الهمز بغير مد، فكذلك رواها عبد الله بن ذكوان والوليد بن عتبة جميعا عن أيوب بن تميم، عن يحيى بن الحارث عن عبد الله بن عامر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 108- مجلس أبي عمرو بن العلاء مع رجل من مضر حدثنا الغلابي قال: حدثنا إبراهيم بن عمر قال: حدثنا أبو عبيدة قال: فاخر مضري يمانيا فعلاه اليماني، فقال أبو عمرو للمضري: قل له: لنا النبوة والخلافة، والكعبة، والسدانة والسقاية، واللواء، والرفادة، والندوة والشورى، والهجرة وفتوح الآفاق؛ وبنا سميت الأنصار أنصارا، ومنا أول من تنشق عنه الأرض، وصاحب الحوض، وأول شافع ومشفع، وأول من يدخل الجنة، وسيد ولد آدم، وأكرم الناس أما وأبا، وأخا وأختا، وجدة وجدا، وعما وعمة، وخالة وخالا. ومنا الأسباط، ولنا الملوك وفينا الأنبياء. فمن عز منكم فنحن أعززناه، ومن ذل منكم فنحن أذللناه. قال: فعجب الناس من كلامه حتى كأنه يقرؤه من كتاب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 109- مجلس سليمان بن علي مع أبي عمرو بن العلاء حدثنا القاسم بن إسماعيل قال: حدثني المازني، والتوجي والزيادي، عن أبي عبيدة عن أبي عمرو بن العلاء أنه قال: دخلت على سليمان بن على فسألني عن شيء فصدقته فلم يعجبه، فخرجت متعجبا من كساد الصدق عندهم ونفاق الكذب عليهم. قال: وكان أبو عمرو ينشد بعقب هذا الحديث: أنفت من الذل عند الملوك ... وإن كرموني وإن قربوا إذا ما صدقهم خفتهم ... ويرضون مني بأن يكذبوا قال: وكنا نرى أن الشعر من قول أبي عمرو، وكان أبو عمرو من الورع بمكان. حدثني المغيرة بن محمد، والقاسم بن إسماعيل، قالا: حدثنا التوجي عن أبي عبيدة قال: سمعت أبا عمرو يقول في علته التي مات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 فيها: والله ما كذبت فيما رويته حرفا قط ولا زدت فيه شيئا إلا بيتا في شعر الأعشى، فإني زدته فقلت: وأنكرتني وما كان الذي نكرت ... من الحوادث إلا الشيب والصلعا فحدثني القاسم بن إسماعيل بن محمد، عن التوجي عن أبي عبيدة قال: فاعتقدت أن بشارا أعلم الناس بالشعر وألفاظ العرب، قال لي وقد أنشدت أول هذه القصيدة للأعشى فمر هذا البيت: ((وأنكرتني)) فقال لي: كأن هذا ليس من لفظ الأعشى. وكان قوله هذا قبل أن أسمع هذا من قول أبي عمرو بعشرين سنة. وقوله: وأنكرتني وما كان الذي نكرت ... يقال أنكرت الرجل، إذا كنت من معرفته في شك. ونكرته، إذا لم تعرفه. قال الله جل وعز: {نكرهم وأوجس منهم خيفةً} . قال معمر: نكرته وأنكرته بمعنى. قال أبو قيس: أنكرته حين توسمته ... والحرب غولٌ ذات أوجاع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 110- مجلس أبي عمرو بن العلاء مع أبي حنيفة حدثنا عبد الله بن سليمان عن عمر بن شبة، عن يزيد بن خلادٍ الأرقط، عن أبي عمرو بن العلاء، أنه سمع أبا حنيفة يبطل القود إلا ما كان قتلا بحديد، فقال له أبو عمرو: أرأيت إن ضربه بكذا، أرأيت إن ضربه بكذا؟ قال: لو ضربه بأبو قبيس لم يكن عليه قود. فقال أبو عمرو: هذا كلامٌ شنع. قال: وما الشنع؟ قال: ولا تعرف الشنع أيضا؟! وحدثنا عمر بن عبد الرحمن السلمي قال: حدثنا المازني قال: لما سمع أبو عمرو أبا حنيفة يتكلم في الفقه ويلحن، فاستحسن كلامه واستقبح لحنه فقال: إنه لخطابٌ لو ساعده صواب! ثم قال لأبي حنيفة: إنك أحوج إلى لسانك من جميع الناس. وحدثني أحمد بن سنان قال: سمعت محمد بن إدريس الشافعي يقول: قول أبي حنيفة مثل خيط السحارة، يجيء أخضر، ثم تمده فيجيء أصفر، ثم تمده فيجيء أحمر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 111- مجلس أبي عمرو مع الأعمش حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ قَالَ: أَخْبَرَنَا الْعَبَّاسُ بْنُ مَيْمُونٍ قَالَ: حَدَّثَنَا الأَصْمَعِيُّ عَنْ سُفْيَانَ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ الأَعْمَشِ وَعِنْدَهُ أَبُو عَمْرٍو، فَحَدَّثَ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ قَالَ: ((كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَخَوَّلُنَا بِالْمَوْعِظَةِ)) ، ثُمَّ قَالَ الأَعْمَشُ: أَيْ يَتَعَاهَدُنَا. فَقَالَ لَهُ أَبُو عَمْرٍو: إِنْ يَتَعَاهَدُنَا فَيَتَخَوَّنُنَا إِذًا، فَأَمَّا يَتَخَوَّلُنَا فَيَسْتَصْلِحُنَا. فَقَالَ لَهُ الأَعْمَشُ: وَمَا يُدْرِيكَ؟ فَقَالَ لَهُ أَبُو عَمْرٍو: لَئِنْ شِئْتَ يَا أَبَا مُحَمَّدٍ لأُعَلِّمَنَّكَ السَّاعَةَ أَنَّ اللَّهَ مَا عَلَّمَكَ مِنْ جَمِيعِ مَا تَدَّعِيهِ شَيْئًا إِلا حَدِيثَكَ فَعَلْتَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 112- مجلس الأعرابي والأعجمي بحضرة أبي عبد الله اختصم رجلان أعجمي وأعرابي على باب أبي عبد الله، فقال العجمي للعربي: أنا أفضل منك، وفضلي عليك بينٌ في كتاب الله جل وعز. فقال العربي: أين هذا؟ فقال العجمي: قول الله تعالى: {وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الأَعْجَمِينَ. فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مؤمنين} ، وقد نزل عليكم فآمنا به نحن. فسكت العربي ودخل العجمي إلى أبي عبد الله فقال له: يا فلان، فيم كنتم؟ قال: كنا في كذا وكذا. قال: خصمته. ثم قال أفلا أزيدك؟ قال: بلى، جعلت فداك. قال: إن الله عز وجل يقول: {فإن يكفر بها هؤلاء} يعني العرب، {فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بها بكافرين} ، يعني العجم. ثم سكت ساعة وقال: ألا أزيدك؟ قلت: بلى جعلت فداك. قال: فإن الله عز وجل يقول: {وإن تتولوا} يا معشر العرب {يستبدل قوماً غيركم} يعني العجم {ثم لا يكونوا أمثالكم} . ثم قال أبو عبد الله: لا يزال الدين ذليلا ما عزت العرب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 113- مجلس بلال بن أبي بردة مع عبد الله بن أبي إسحاق بحضرة أبو عمرو حدثنا محمد بن الرياشي قال: حدثنا أبي عن الأصمعي قال: لاقى بلال بن أبي بردة عبد الله بن أبي إسحاق الحضرمي في حرف من القرآن، قال بلال: {بملكنا} ، وقال ابن أبي إسحاق: (بملكنا) ، فتراضيا بأبي عمرو، فوجه بلالٌ إليه فسأل أبو عمرو عما أراده له فعرف، فدخل وقد عرف قول بلال، فسأله بلالٌ فأجازهما وفضل قول بلال، فقال له ابن أبي إسحاق: أما قرأنا على مجاهد: ((بملكنا)) ؟ فقال له أبو عمرو: أخبرت بما عندي. فوصله بلال، فلما خرج قال لعبد الله بن أبي إسحاق: والله لو أخطأ الملوك لصوبنا خطأهم فكيف إذا أصابوا! إن منازعة الملوك تضغنهم. وكان أبو عمرو رجل زمانه علما ونبلا وصدق لهجة، غير معتدٍ به ولا متبجح عليه. حدثنا أحمد بن محمد الأسدي وابن الرياشي عن الأصمعي قال: كان أبو عمرو بن العلاء يحسن علوماً إذا أحسن إنسانٌ فنا منها قال: من مثلي! ولا يعتد أبو عمرو بذلك، وما سمعته يتمدح قط، إلا أن إنسانا لاحاه مرة فقال له: والله يا هذا ما رأيت أحدا قط أعلم بأشعار العرب ولغاتها مني، فإن رضيت ما قلت لك وإلا فأوجدني عمن تروي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 قال الأصمعي: ولو قلت: في الشعر واللغة هذا ما خفت إثما. حدثنا الأسدي عن الرياشي عن الأصمعي قال: سألت أبا عمرو عن ثمانية آلاف مسألة مما أحصيت عددها من أشعار العرب ولغاتها غير ما لم أحص، فكأنه قي قلوب العرب. وحدثنا محمد بن يزيد قال: كان عيسى بن عمر، ويونس، يرويان عن أبي عمرو بن العلاء. وقال أبو عمرو: ما ناظرني أحدٌ إلا غلبته وقطعته، إلا ابن أبي إسحاق، فإنه ناظرني في مجلس بلال بن أبي بردة في الهمز فقطعني، فجعلت إقبالي على الهمز حتى ما كنت دونه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 114- مجلس مروان بن سعيد مع الكسائي بحضرة يونس قال أبو العباس: أخبرني المازني أن مروان بن سعيد بن عباد بن عباد بن [حبيب بن] المهلب بن أبي صفرة سأل الكسائي بحضرة يونس: أي شيءٍ تشبه أي من الكلام؟ فقال: ما، ومن. فقال: كيف تقول: لأضربن من في الدار؟ قال: [لأضربن من في الدار قال: فكيف تقول: لأركبن ما تركب. قال: لأركبن ما تركب. قال: فكيف تقول] : ضربت من في الدار؟ [قال: ضربت من في الدار] قال: فكيف تقول: ركبت ما ركبت؟ قال: ركبت ما ركبت. قال: فكيف تقول: لأضربن أيهم في الدار؟ قال: لأضربن أيهم في الدار. قال: فكيف تقول: ضربت أيهم في الدار؟ قال: لا يجوز. قال: لم؟ قال: أي هكذا خلقت! قال: فغضب يونس وقال: تؤذون جليسنا، ومؤدب ولد أمير المؤمنين! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 115- مجلس أبي حاتم مع رجل معتوه حدثني بعض إخواني قال: حدثني أحمد بن محمد بن رستم الطبري قال: جاء رجلٌ معتوه إلى مجلس أبي حاتم فوقف يسمع كلام أبي حاتم، فقال له رجل: يا أبا حاتم لم نصبوا مالا ينصرف من الأسماء في موضع الجر؟ فقال: شبهوه بالفعل، والفعل لا يدخله الجر. فقال المعتوه: يا أبا حاتم، القياس على ما يرى أسهل أم على ما يسمع؟ فقال أبو حاتم: على ما يرى أسهل. قال المعتوه: ما يشبه هذا؟ وأخرج يده وقد ضم بين أنامله، فقال أبو حاتم: لا أدري. قال: فأنت لا تحسن أن تشبه هذا الذي تراه بشيءٍ فكيف تشبه ما لا ترى بما لا ترى؟ وأخرج يده الأخرى مضمومة الأنامل كما فعله بالأخرى وقال: يا غليظ الفطنة بعيد الذهن، هذا يشبه هذا. فخجل أبو حاتم وبقى أصحابه متعجبين. فقال أبو حاتم: لا تعجبون من هذا، أخبرني الأصمعي أن معتوها جاء إلى أبي عمرو بن العلاء فقال: يا أبا عمرو، لم سميت الخيل خيلا؟ فبقى أبو عمرو ليس عنده فيه جواب. فقال: لا أدري. فقال: لكني أدري. فقال: علمنا نعلم. قال: لاختيالها في المشي. فقال أبو عمرو لأصحابه بعد ما ولى المجنون: اكتبوا الحكمة وارووها ولو عن معتوه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 116- مجلس يونس مع عبد الله بن أبي إسحاق حدثنا محمد بن الحسن البلعي قال حدثنا أبو حاتم سهل بن محمد قال: حدثنا أبو عبيدة عن يونس قال: مضيت إلى عبد الله بن أبي إسحاق الحضرمي فقلت له: كيف تقرأ: {فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ} ؟ فقال: فإذا برق البصر، وفتح الراء. فقمت من عنده إلى أبي عمرو فقال: من أين بك؟ قلت: من عند عبد الله بن [أبي] إسحاق الحضرمي، سألته كيف تقرأ: فإذا برق البصر فقال: فإذا برق البصر بفتح الراء. فقال أبو عمرو: وأين يراد به، يقال برقت السماء وبرق النبت وبرقت الأرض فأما البصر فبرق، كذا سمعنا. ومثله ما حدثنا محمد بن أبي سعيد عن ابن الرومي قال: بلغني عن الخليل بن أحمد وهارون أنهما اجتمعا فقال أحدهما: برق البصر وقال الآخر: برق، فطلع عليهما أعرابي من بني فزارة فسألاه فقال: لا أقول شيئا مما قلتما ولكني أقول: بلق البصر. وقد سمعتها باليمن من غير واحد، يعني فتح البصر. يقولون: بلق الباب، إذا فتح، وقرأ أبو السمال العدوي: فإذا بلق البصر باللام بدلا من الراء. وروي عن يعقوب أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 بعضهم قرأ: {فانفلق فكان كل فلقٍ} باللام إتباعا لقوله: فانفلق. وقد تبدل العرب اللام من الراء في كثير من كلامهم فيقولون: متاعٌ رثيد ولثيد، وقد رثدتت ولثدته، أي نضدته. ويقال ردم ثوبه ولدمه، أي رقعه. واعرنكس الشيء واعلنكس، إذا تراكب وكثر. وهدل الحمام وهدر هديلا وهديرا. ويقال للظلمة طرمساء وطلمساء. ويقال للدرع نثره ونثلة ويقال جلمه وجرمه، إذا قطعه، ويقال سهم أملط وأمرط، إذا لم يكن عليه ريش. وقد تملط وتمرط، وكذلك كل ذي شعر أو صوف من الدواب، وكذلك أشباهه في كلامهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 117- مجلس الخليل بن أحمد مع الليث بن المظفر قال الليث بن المظفر: سألت الخليل عن العشرة فقلت: إذا قلنا خمسة قلنا خمسين، وإذا قلنا سبعة قلنا سبعين، وإذا قلنا عشرة قلنا عشرين، لم كسرت العين من عشرين ولم تكسر السين من سبعين والخاء من خمسين؟ فقال: لأن العشرين مأخوذ من العشر لا من العشرة. قال: فقلت له: أليس العشر ظمء تسعةٍ وفي العاشر ترد الماء. فإن كان الأمر كما قلت فالعشر تسعة أيام والعشر الثاني تسعة أيام فذلك ثمانية عشر يوما وليس هذا بعشرتين. فقال: أخذت هذا من قول الله عز وجل: {الحج أشهرٌ معلوماتٌ} . ثم قال: كم أشهر الحج؟ فقلت: شوال، وذو القعدة، وعشرة من ذي الحجة. فقال: قد سمى الله جل وعز شهرين وعشرة أيام أشهرا. وقال أبو حنيفة: إذا قال الرجل لامرأته: قد طلقتك تطليقتين وثلاثا طلقت ثلاثاً، من ها هنا قلت إن العشرين هي من عشر وعشر. واختلف النحويون في ذلك، ونحن نبين الأقاويل فيه إن شاء الله. قال لي أبو بكر محمد بن منصور: العشرون تثنية عشرة، وكسروا أولها كما كسروا أول اثنين، وجعلوه مجموعا بالواو والنون ليكون على منهاج ما بعده. وإنما صلحت عشرون ونحوها للمذكر والمؤنث لأنهم جعلوها اسما لعدد بعينه، ثم جئت بالمعدود بعد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 فإن قيل: فما بالهم قالوا ثلاثمائة وما أشبه ذلك، فميزوه بالواحد، وقالوا ثلاثة آلاف ونحوها فميزوه بالجمع؟ قيل: ثلاثمائة وما أشبه ذلك من جنسها مضارعةٌ لعشرين وثلاثين، لأنك تجيء بتعشيرها على غير لفظ ما تقدم، فتقول ألفٌ كما تقول في تعشير عشرين وثلاثين، فلما اشتبها جعل تمييزها بالواحد، ولم يكن هذا في ثلاثة آلاف، لأنك تقول في تعشيرها عشرة آلاف، كما تقول: عشرة أثواب. فهذا الفصل بينهما. وقال غيره من النحويين: أهل الحجاز يقولون: إحدى عشرة، وتميم تسكن الشين فتقول إحدى عشرة، وقد قرئ بهما. فلما قالوا عشرين كسروا العين من عشرين لأنهم يقولون في المؤنث عشرة وعشرة، فجعلوا عشرين فيها علامة للشيئين: الكسرة للتأنيث، والواو والنون للتذكير، وهذا قياس وفطنة. ومثل ذلك قيل للفراء لحسن نظره: ما تقول في رجلٍ سها في الصلاة ثم سجد سجدتي السهو فسها؟ فقال: لا يجب عليه شيء. قيل له: وكيف ذلك ومن أين قلت؟ قال: أخذته من كتاب التصغير؛ لأن الاسم إذا صغر لا يصغر مرة أخرى. وكان صالح بن إسحاق الجرمي يدل بمعرفته في العربية، فقال أبو جعفر: [سمعت الجرمي يقول] : أنا مذ ثلاثون سنة أفتي الناس في الفقه من كتاب سيبويه. فحدث بهذا محمد بن يزيد، وكان المحدث له ابن شقير على سبيل التعجب والإنكار، فقال المبرد: أنا سمعت الجرمي يقول هذا. وذاك أن أبا عمر كان صاحب حديث، فلما علم كتاب سيبويه تفقه في الدين والحديث، إذ كان ذلك يتعلم منه النظر والتفتيش. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 وكان أبو عمر يوما في مجلسه وبحضرته جماعةٌ من الفقهاء، فقال لهم: سلوني عما شئتم من الفقه؛ فإني أجيبكم على قياس النحو. فقالوا له: ما تقول في رجل سها في الصلاة فسجد سجدتي السهو فسها؟ فقال: لا شيء عليه. قالوا له: من أين قلت ذلك؟ قال: أخذته من باب الترخيم، لأن المرخم لا يرخم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 118- مجلس الخليل بن أحمد مع عبد الملك بن قريب الأصمعي حدثني أبو جعفر محمد بن رستم الطبري قال: حدثني أبو حاتم السجستاني قال: سمعت الأخفش يقول: سمعت الأصمعي يقول: دخلت على الخليل لأستفيد منه شيئا، فقال لي: يا كيس ما الفرق بين الخفض والجر؟ ففكرت وأبطأت، فقال لي: ما صنعت؟ فقلت له: الخفض عندي الشيء دون الشيء، كاليد إذا جعلتها تحت الرجل. والجر أن تميل الشيء إلى الشيء وتقيم شيئا مقام شيء، كقولك: هذا غلام زيد، فزيد أقمته مقام التنوين. وسئل الخليل عن الرفع لم جعل للفاعل؟ فقال: الرفع أول حركة، والفاعل أول متحرك، فجعلوا أول حركة لأول متحرك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 119- مجلس الكسائي مع يونس وابن أبي عيينة حدثنا محمد بن يحيى قال: حدثنا المغيرة بن محمد المهلبي قال: حدثنا أبي، وحدثنا محمد بن يزيد النحوي، عن التوجي قالا: لما دخل الكسائي البصرة أول دخلةٍ جلس في حلقة يونس ينتظر خروجه، فسأله ابن أبي عيينة عن ((أولق)) ينصرف أو لا ينصرف. فقال: أولق أفعل لا ينصرف. قال ابن أبي عيينة: خطأ والله! وخرج يونس فسئل عن أولق، فقال: هو فوعل وليس بأفعل؛ لأن الهمزة فاء الفعل، لأنك تقول رجل مألوق فتثبت الهمزة. وكذلك أرنبٌ ينصرف لأنه فعللٌ، لأنك تقول أرض مؤرنبة فتثبت الهمزة. والمألوق: المجنون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 120- مجلس الكسائي مع أبي محمد اليزيدي بحضرة الرشيد حدثنا أبو إسحاق الطلحي قال: حدثنا أحمد بن إبراهيم بن إسماعيل الكاتب عن أبيه قال: سأل اليزيدي الكسائي بحضرة الرشيد وقال: انظروا، في هذا الشعر عيب؟ وأنشده: ما رأينا خربا نقر ... عنه البيض صقر لا يكون العير مهرا ... لا يكون المهر مهر فقال الكسائي: قد أقوى الشاعر. فقال اليزيدي انظر جيدا. فقال: أقوى؛ لا بد أن ينصب المهر الثاني على أنه خبر كان. قال: فضرب اليزيدي بقلنسوته الأرض وقال: أنا أبو محمد، الشعر صواب، إنما ابتدأ فقال: المهر مهر، فقال له يحيى بن خالد: أتتكنى بحضرة أمير المؤمنين وتكشف رأسك! والله لخطأ الكسائي مع أدبه أحب إلينا من صوابك مع فعلك. فقال: لذة الغلب أنستني من هذا ما أحسن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 121- مجلس الكسائي مع أبي يوسف حدثني الحسن بن عليل العنزي قال: حدثنا محمد بن عبد الله بن آدم العبدي قال: حدثنا الأحمر النحوي قال: دخل أبو يوسف الفقيه على الرشيد وعنده الكسائي يحدثه، فقال: يا أمير المؤمنين، قد سعد بك هذا الكوفي وشغلك. فقال الرشيد: النحو يستفرغني، أستدل به على القرآن والشعر. فقال الكسائي: إن رأى أمير المؤمنين أن يأمره بجوابي في مسالةٍ من الفقه. فضحك الرشيد فقال: أبلغت إلى هذا يا كسائي، يا أبا يوسف أجبه. فقال: ما تقول في رجل قال لامرأته: أنت طالقٌ إن دخلت الدار؟ فقال: فقال أبو يوسف: إن دخلت فقد طلقت. فقال الكسائي: خطأ، إذا فتحت أن فقد وجب الأمر، وإذا كسرت فإنه لم يقع بعد. فنظر أبو يوسف بعد ذلك في النحو. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 122- مجلس العباس بن محمد والخليل بن أحمد حدثنا أحمد بن يحيى قال: حدثنا أحمد بن إبراهيم قال: قال الفراء: قلت لأبي الحسن علي بن حمزة الكسائي يوما: تعجبت مما ألطف الخليل فيه وكيف انتزعته قريحته على غير إمام متقدمٌ، وقد تذاكرنا العروض. فقال الكسائي: مات والله الفهم يوم مات الخليل، لو رأيته لم يعظم في عينك بشرٌ بعده. ثم قال: والله ما تمثلت في صدري جلالة أدبٍ من وجهٍ ولا علمٍ إلا وجدت ذلك فرعا من أصلٍ اغترسه، أو سببا من بابٍ افتتحه، وما رأيت أحدا اعترضه بابٌ من علم فأخال به ثقة يعتمد عليه، أو مثال حسن يستمد منه إلا والخليل صاحب قصته. قال الفراء: فعلمت بما دار من حكايته أنه يشير على غير صناعة الشعر. فقلت: وما تذكر من حسنه؟ فقال: حضرت مجلسا والخليل فيه ويونس بن حبيب النحوي، فتذاكروا الشعر، فتكلم يونس في تقديم زهير وتقريظه حتى أغرق في وصفه، وذكر الخليل النابغة الذبياني، فقال العباس بن محمد وكان المجلس له وللخليل: وما تذكر من حسنه؟ قال: النابغة كان أعذب على أفواه الملوك وأوقع بقلوبهم، وأنظم لمعاني الكلم من زهير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 أخبرني شيخ من باهلة كنت أثق بعلمه قال: قدم نابعة بني ذبيان على النعمان بن المنذر، فاستأذن الحاجب فقال له: الملك على شرابه. فقال النابغة: لله أبوك، [هذا حين مرادي] وما كل وقت تتسع لي الفرصات، ولي حاجةٌ قضاؤها معقودٌ بشكرك. فقال له الحاجب: إن في شكرك أبا أمامة لرغبة، وإن في دون ما سألت ما لرهبة التعدي، فهل من سبب أو حيلة. قال: من عنده؟ قال: خالد بن جعفر بن كلاب. قال: فأين أنت عن خالد بما أقول لك؟ قال: وما هو؟ قال: ترتصد لي خالدا، فإذا هو نهض فأقره مني السلام، وقل له: إن من قدرك وفاء الدرك بك، وناحيتي من الشكر ما قد علمت، وحاجتي ملاطفة الأسباب عند الملك حتى تحرك به ذكرا يسهل معه الاستئذان. فقال له: أفعل. ثم دخل فلم يزل ينتهز الفرصة في خالدٍ حتى إذا نهض عارضه، فقال له: ليهنك أبا البسام حادث نعمة. قال له خالد: هنأك الله عيشك، كل ما نحن فيه فبالملك تجديده! فأبلغه مقالة النابغة فقال: ائذنه بالطاعة، وقل له ينتظر المراجعة. ثم عاد إلى مجلسه فقال: إلا لمثلك أو من أنت سابقه ... سبق الجواد إذا استولى على الأمد ثم قال: أيها الملك، كأني أرى أملاك ذي رعين وفائش قد مدت لهم قصبات المجد في حلبةٍ أنت –أبيت اللعن- قلادتها، فجئت سابقا متمهلا، وجاءوا محسرين ولم يحمد لهم سعى. فقال له النعمان: أنت في وصفك أبلغ من النابغة في نظمه. فقال له خالد: ما يبلغ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 النابغة من وصفك دركا إلا فاته قدرك شرفا، ولوددت أن النابغة حاضرٌ حتى يقول ونقول. فرفع النعمان رأسه إلى الحاجب وقال: علي بالنابغة حيث كان. فخرج الحاجب فقال: ادخل يا أبا أمامة فقد رفع الحجاب. فدخل وسلم عليه وحياه بتحية الملوك وجلس وهو يقول: ((أيها الملك، أيفاخرك صاحب غسان فوالله لقفاك أحسن من وجهه، ولشمالك أجود من يمينه، ولأمك خيرٌ من أبيه، ولغدك أسعد من يومه)) . فضحك النعمان ثم قال لخالد: من يلومني على حب النابغة، ألك حاجة؟ قال: نعم. فقضى حوائجه بأسرها وأحسن جائزته، وانصرف داعيا له. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 123- مجلس أبي عمرو مع الأعرابي حدثني أحمد بن عمرو بن محمد بن جعفر بن سعيد الحنفي قال: حدثني أبي عمرو بن محمد قال: حدثنا الأصمعي قال: سأل أعرابي أبا عمرو بن العلاء فقال: ما هذا؟ وأومأ بكفه ففرج ما بين أصابعه. فقال: أبو عمرو: صفرة، الفاء ساكنة. ثم ضم أصابعه بعض الضم فقال له: ما هذه؟ فقال: لقمة. ثم زاد ضمها حتى كاد يلصقها فقال: ما هذه؟ فقال: قطره. ثم أشار إلى راحته وأصابعه فقال: ما هذه؟ قال سفةٌ. فقال الأعرابي [للقوم] : خذوا عنه فإنه دابة منكرة. وحدثني غيره قال: يقال لما بين الإبهام والسبابة: الفتر، ولما بين السبابة والوسطى: العتب، ولما بين الوسطى والبنصر: الرتب، ولما بين الخنصر والبنصر: البصم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 124- مجلس الكسائي مع عيسى بن عمر الثقفي حدثني عمر بن علي بن الهيثم بن عثمان النوري المقرئ بطرسوس قال: حدثني أبو جعفر أحمد بن جبير صاحب الكسائي قال: انحدر الكسائي البصرة فسأل عن عيسى بن عمر الثقفي، فقيل: هو عليل. فاستأذن فدخل، فألقى تحته وسادة وقال: أنت الكسائي؟ فقال له: نعم. فقال له: كيف تقرأ هذا الحرف: {أرسله معنا غداً} ماذا؟ قال: {يرتع ويلعب} ؟ فقال له عيسى بن عمر: لم لم تقرأها يرتعي ويلعب، فتثبت الياء أو تشير إليها؟ فقال له الكسائي: إنما هي من رتعت لا من رعيت. فقال له عيسى بن عمر: صدقت يا أبا الحسن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 125- مجلس الكسائي مع أبي الدينار الأعرابي وحدثني قال: حدثني أحمد قال: حدثني أبو عبد الله الحسين بن علي بن حماد الرازي قال: سمعت محمد بن إدريس الدنداني يقول: سمعت نصيرا يقول: أصبح الكسائي يوما محزونا كئيباً فقلنا له: ما قصتك؟ قال: أصحبت وقيذاَ ساهراً بآية قرأنها. قلنا: ما هي؟ قال: إن قرأت: ((والليل إذا يسري)) ، خالفت أصحاب محمد؛ لأن عثمان رضي الله عنه جمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما في هذا المصحف. وإن أنا قرأت ((يسر)) بلا ياء فقد نقصت، فما أدري ما أصنع. قال: فأتاه أعرابي يكنى أبا الدينار، وكانت له عنده وظيفة، فقال له الكسائي: يا أبا الدينار، أتقرأ من القرآن شيئا؟ قال: أقرأ بعلم. قال له: اقرأ: والفجر، فابتدأ يقرأ: {وَالْفَجْرِ، وليالٍ عشرٍ. والليل إذا يسر} قال: فسري عن الكسائي ما كان فيه من الغم. فقال الفراء وقد عجب مما رأى به: وما ترجو بسماعك منه؟ فقال له الكسائي: أنت لا تدري، هؤلاء ينونون في قول الشعر، فإن كانت نصبا نونوها منصوبا، وإن كانت رفعا نونوها رفعا، وإن كانت خفضا نونوها. فلما كانت والفجر آية نونوها، وليال عشر نونوها، والليل إذا يسر نونوها أيضا. قال: فقال له الكسائي: يا أبا الدينار، لك عندي وظيفتك ومثلها معها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 126- مجلس الكسائي مع حمزة الزيات حدثني أحمد بن جعفر قال: حدثني محمد بن فرج الغساني قال: سمعت أبا عمر يقول: سمعت الكسائي يقول: حداني على النظر في النحو أني كنت أقرأ على حمزة الزيات، فتمر بي الحجة ولا أتجه لها، ولا أدري ما الجواب فيها، فأرجع إلى المختصر الذي عمله أهل الكوفة، وكان يسمى هذا المختصر ((الفصل)) فلا أتبين فيه حجة. وكانت قبائل العرب متصلة بالكوفة، فخرجت وأهلي لا يعلمون بخروجي، وذاك أني خفت أن أستأمر أبي فلا يأذن لي في الخروج، لما كان يغلظ علي في لزوم الدكان، فلما صرت إلى ظاهر الكوفة ولقيت القبائل جعلت أسألهم فيخبروني مشافهة وينشدوني الأشعار، فأنظر إلى ما في يدي وإلى ما أسمعه منهم فأجد الحجة تلزم ما عندي، فما زلت أكتب عنهم حتى نفدت نفقتي وشحب وجهي وجلدي، فصرت كأني رجلٌ منهم، فاشتريت شملتين، فاتزرت بواحدة وارتديت بأخرى، ولبثت كذلك ما شاء الله ثم رجعت إلى الكوفة، فلما دخلتها لم تطب نفسي أن آتي منزلنا حتى أمر بمسجد حمزة الزيات، فمررت بهم وهم يقرءون القرآن، فلما دخلت المسجد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 لم يعرفني أحدٌ منهم البتة، لسوادي وخلوقة ثيابي، فسلمت وجلست في ناحيةٍ من المسجد، فسمعت بعضهم يقول [لبعض: هذا حائك. فقال بعضهم] : إن كان حائكاً فسوف يقرأ سورة يوسف. فما زلت ساكتا لا أكلمهم ولا أنضم إليهم، ثم قمت فأتيت القارئ الذي يعرض على حمزة فجلست عنده قريبا منه، فلما فرغ من قراءته جلست باركا بين يدي حمزة، ثم ابتدأت فقرأت سورة يوسف، فلما بلغت الذيب قال لي حمزة: ((الذئب)) بالهمز، فقلت له: إنه يهمز ولا يهمز أيضا. فلم يقل لي شيئا، فلما فرغت من السورة قال لي حمزة: بارك الله عليك، إني أشتبه قراءتك بقراءة فتى كان يأتينا يقال له علي بن حمزة. قال: فقمت عند ذلك وسلمت عليه وصافحته، فقال لي: يا علي، إنه تغيرت حليتك في عيني حتى لم أثبتك، فما كان حالك ويحك؟ إن أهلك لما فقدوك أقاموا عليك النوائح، أين كنت؟ قلت: خرجت إلى البادية في أشياء استفدتها من العرب. قال: ثم قمت من عنده إلى منزلنا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 127- مجلس الكسائي مع يحيى بن زياد الفراء حدثني أحمد بن جعفر قال: حدثني أبو جعفر الغساني قال: سمعت سلمة بن عاصم قال: سمعت يحيى بن زياد الفراء يقول: كان للكوفيين كتاب يقال له: ((الفيصل)) بمنزلة مختصر الكسائي، وكنت أحفظ له من الكسائي، فدخلت إلى مدينة السلام فسألت عنه وذلك في خلافة المهدي، وكان الكسائي معه في حالٍ رفيعة، فقيل لي: إنه يقعد في كل ثلاثاء، فأتيته في مسجده الذي يقعد فيه للناس، فرأيت عنده غلاما أشقر أول ما بقل وجهه، يسأله ويكتب ما يمله عليه في ألواحٍ معه، وجئت معي بشاهدين يشهدان على خطائه، فسألته عن مسألة فأجابني بخلاف ما معي، فأوميت إلى اللذين معي: أن اشهدا. ثم سألته عن أخرى فأجابني بخلاف ما معي، ففطن فقال لي: سألتني عن كيت وكيت، والجواب فيه ما أخبرتك به، أفتريد أن أجيبك بما يقول أهل الكوفة فيه وهو خطأ؟ فقلت له: من أين قلت إنه خطأ؟ قال: لأن الله جل وعز قال كذا وكذا في كتابه، وهو خلافه، وقال كذا وكذا. قال الفراء: فرميت بما كان معي واستأنفت عنه التعليم. فهو أنبت على رءوسنا الشعر. وحدثني موسى بن عبيد الله عن ابن أبي سعد قال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 حدثني محمد بن عبد الله بن طهمان قال: سمعت والله الفراء يحيى يقول: مدحني رجلٌ من النحويين فقال لي: ما اختلافك إلى الكسائي وأنت مثله في العلم. قال: فأعجبتني نفسي. قال: فناظرته وسايلته، فكأني كنت طائرا يغرف من بحر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 128- مجلس أبي عمرو بن العلاء مع هارون حدثنا محمد بن أحمد قال: حدثنا محمد بن عبيد قال: حدثنا عبد العزيز قال: حدثني أبي قال: حدثنا محمد بن عمر عن أبي نصر علي بن نصر قال: قدم أبو عمرو من الشام فأتاه الناس يسألونه، فكان فيمن سأله يومئذ هارون، فقال له: يا أبا عمرو: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لحومها ولا دماءها} ولكن ماذا؟ قال: {ولكن يناله التقوى} . قال: يقول هارون: فإن ابن يعمر كان يقرأ ((تناله)) . فقال: ألا تراه يقول: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ} . قال علي: فقلت: هذا يرد على هارون وعلي ابن يعمر، متى أصل أنا إليه؟ فاتبعته فمرت دابةٌ تروث، فقال أبو عمرو: كل دابةٍ تحبق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 129- مجلس الوليد بن عبد الملك وسليمان أخيه حدثني محمد بن يزيد قال: حدثني أحد العلماء بالشعر والمتقدمين فيه أن ابني عبد الملك: الوليد وسليمان اختلفا في امرئ القيس والنابغة، فقدم الوليد النابغة، وقدم سليمان امرأ القيس، فذكر ذلك لعبد الملك فبعث إلى أعرابي فصيح فذكر ذلك له فقال: إني لا أقدم الرجال على أسمائها، ولكن أنشدوني لهما وقاربوا بين المعنيين. فقال الوليد: صاحبي الذي يقول: وصدرٍ أراح الليل عازب همه ... تضاعف فيه الحزن من كل جانب تطاول حتى قلت ليس بمنقضٍ ... وليس الذي يرعى النجوم بآيب فقال: ما ينبغي أن يكون في الدنيا أشعر من صاحبك! فقال سليمان: لا تعجل حتى تسمع، صاحبي الذي يقول: وليلٍ كموج البحر مرخٍ سدوله ... علي بأنواع الهموم ليبتلي قال: حسبك، صاحبك أشعر منك. قال: فاسمع ما بعده. فقال: لا أحتاج. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 تمت المجالس بحمد الله ومنه، والصلاة على نبيه محمد وآله وصبحه وسلم إلى يوم الدين، وحسبنا الله ونعم الوكيل. ثم وقفت من هذا الكتاب على نسخة وعارضت مجالسها بمجالس نسخة أبي مسلم، فوجدت في نسخة أبي مسلم مجالس كثيرة لم تكن في هذه النسخة، وكان في هذه النسخة عدة مجالس لم تتضمنها نسخة أبي مسلم فألحقتها بها في هذا الموضع، وهي هذه: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 130- مجلس أبي عبد الله محمد بن زياد الأعرابي مع الأصمعي كتبت من خط محمد بن داود الجراح، حدثني أبو الليث الحارث بن علي قال: سمعت ابن الأعرابي يقول: لو كان عند الأصمعي شيءٌ مما أحتاج إليه ما تركته وأنا أكتب مما هو دونه. لقد حضرته يوما في منزل سعيد بن سلم، وهو ينشد قول العجاج: من إن تبدلت بآدٍ آدا ... لم يكن يناد فأمسى انآدا فقد أراني أصل القعادا ... فسئل عن القعاد فقال: النساء. فقلت: القعاد: جماعٌ للنساء، وجماعٌ للرجال؟! قواعد إذا. فانقطع. ولو احتج بقول القطامي لكان مثبتا لقوله، ولكنه لم يفهم. قال: أبصارهن إلى الشبان مائلةٌ ... وقد أراهن عنى غير صداد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 131- مجلس أبي العباس أحمد بن يحيى مع محمد بن أحمد بن كيسان حدثني غير واحدٍ أن محمد بن كيسان سأل أبا العباس عن قوله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إن أمسكهما من أحدٍ من بعده} وقوله: {أو لم يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رتقاً ففتقناهما} قال أبو العباس: بدءوا الجمع باثنين ثم أشركوا بينه وبين واحد من بعده؛ فإنهم يدعون الجميع الأول ولا يلتفتون إليه، وذلك أن الواحد يلي الفعل فيجعلون لفظ فعل شريكه لفظ فعل الواحد، فيجعلون تقدير لفظ عدد الفعل على تقدير لفظ عدد الفردين المشترك بينهما احتياجا وغير احتياج، كقوله في القرآن: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أحدٍ من بعده} ، وقوله: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ والأرض كانتا رقتاً ففتقناهما} . وقال رؤبة: فيها خطوطٌ من سواد وبلق ... كأنه في الجلد توليع البهق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 فقلت له: ألا تقول: ((كأنها)) فتحمله على الخطوط، أو ((كأنهما)) فتحمله على السواد والبلق. فغضب وقال: كأن ذاك بها توليع البهق، فذهب إلى المعنى والموضع. فكذلك ذهبوا بذلك إلى السماء. فأما قوله: ((كأنه)) فإن السواد والبلق هو التوليع، فكأنه قال: كأن هذا التوليع توليع البهق، وأما السماء والأرض فالعرب تكتفي بالواحد من الجميع. فإن شئت رددته على المعنى، وإن شئت على اللفظ. وأما قوله: ((كأن ذاك)) فإن ذاك لا يكنى به إلا عن جملة. وكان هشام وأصحاب الكسائي إذا اتفق الفعل والاسم كنيا بذاك، وإذا لم يتفق الاسم والفعل لم يفعلوا، فيقولون: ظننت ذاك، ولا يقولون: كأن ذاك ولا إن ذاك، والفراء يجيزه كله، لأنه كناية عن الاسم والفعل، فيقولون: إن ذاك وكأن ذاك. وقال: مثل ذلك قوله: لو أن عصم عمايتين ويذبل ... سمعا حديثك أنزلا الأوعالا فشرك بين عصم وعمايتين ويذبل. ومما مثل ذلك مما أشركوا الاثنين بواحد وجعلوا لفظ عدد تقدير الفعل على تقدير لفظ فعل الفردين المشرك بينهما قوله في قول من يجعل اللفظ للمضاف إليه: لو أن عصم عمايتين ويذبل، وعمايتان اثنان ويذبل الثالث، فجعل تقدير لفظ فعلهم المشرك بينهما، أما هذا فإن عمايتين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 موضع، ويذبل موضع، فخبر عنهما كأنه قال: فإنك عصم هذين الموضعين لو سمعا حديثك أنزلا الأوعال منها. وقوله: تذكرت بشرا والسماكين أيهما ... علي من الغيث استهلت مواطره فجعل السماكين واحدا. وفيه تفسيران آخران: إن شئت قلت: بل حمله على الموضع والمعنى، فردوه إلى واحده وإلى موضعه ومعناه، فردوا السموات إلى السماء، وعمايتين إلى عماية. قال أبو العباس: ولو قال السماكين نجم فرده على معنى نجم كان أصلح. وقوله ((أيهما)) خفيف، يريد أيهما فخفف، يريد تذكرت السماكين وهذا الرجل أيهما أصابني الغيث من قبله. وأما قوله: رد عمايتين على عماية فهو على الموضع أجود، والسموات إلى السماء فهذا جائز؛ لأنه يقول السماء بمعنى السموات والأرض بمعنى الأرضين. وقال: هو كما رد قوله: تبسم عن مختلفاتٍ ثعل ... أكس لا عذبٍ ولا برتل عنى الأسنان ثم رده على الفم إلى موضعها، ولو قال الأسنان من الفم فرده على الفم لأنه بعضه، وقال مثل قوله: [فماحت به غر الثنايا مفلجا ... وسما جلا عنه الطلال موشما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 ذهب إلى الفم. وغر الثنايا، هو الفم غير ثناياه. فهو خلف، ليس أنه ترك الثنايا ورجع إلى الفم. وقوله] : هم منعوني إذ زيادٌ كأنما ... يرى بي أخلاء بقاعٍ موضعا ذهب به إلى الخلا وهو واحدها، والخلا يكفي من الأخلاء، ولا حاجة به أن يرجع إلى غيره. وإن شئت في التفسير الثاني، كما يجعلون لفظ الواحد في موضع الجميع وفي معناه، كقوله في القرآن: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لكم} فالذين في موضع واحد، والذين قالوا ذلك هم الناس، وإنما يجوز هذا في الجميع الذي واحده يكفي منه، ولفظه لفظ الواحد، فأخرجوا الفعل على لفظه، كقوله: ألا إن جيراني العشية رائح ... فرد رائح على الجيران وهم جمع، لأن مثل لفظه يكون واحدا. وقال، في القرآن: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لعبرةً نسقيكم مما في بطونه} فرد إلى النعم؛ لأنه يكفى من الأنعام. وقال: أمن آل وسنى آخر الليل زائر ... ووادي العوير دونها والسواجر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 فجاءت بكافورٍ وعود ألوةٍ ... شآميةٍ شبت عليها المجامر فقلت لها فيئي فإن صحابتي ... سلاحي وحدباء الذراعين ضامر ترك زائرا ورجع إليها، وهذا لم يترك زائراً ويرجع إليها، وإنما ذكر الخيال ثم خاطب المرأة لأنه خيالها، فالخيال هو هي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 132- مجلس محمد بن زياد الأعرابي مع أحمد بن حاتم وجدت بخط أبي نصر أحمد بن حاتم قال: اجتمعت أنا ومحمد بن زياد الأعرابي فسألته عن قول طفيل الغنوي: تتابعن حتى لم يكن لي ريبةٌ ... ولم يك عما خبروا متعقب فقلت له: ما معنى متعقب؟ فقال: تكذيب. فقلت له: أخطأت. وقولي له ((أخطأت)) بعدما سفه علي. ثم قلت له: إنما قوله ((متعقب)) : أن تسال عن الخبر ثانيةً بعد ما سألت عنه أول مرة. يقال تعقبت الخبر، إذا سألت عنه غير من كنت سألته عنه أول مرة. ومنه يقال: عقبت في الغزو، إذا غزوت ثم ثنيت من سنتك. وقوله: ((تتابعن)) يعني الأخبار. وقال في مثله طفيل: وأطنابه أرسان جردٍ كأنها ... صدور القنا من بادئٍ ومعقب فأراد أن أطناب البيت أرسان الخيل. وجرد: قصار الشعر. وقوله ((كأنها صدور القنا)) : في طولها، وأراد كأنها القنا. والعرب تفعل هذا، كقولك: جاء فلان على صدر راحلته، وإنما يريد على راحلته. وقوله: ((من بادئٍ ومعقب)) ، يريد من فرس بادئٍ غزا أول مرة، ومعقب ثانية. ومنه يقال: صلى فلانٌ أول الليل ثم عقب، يريد صلى ثانية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 ثم سأله طاهر بن عبد الله بن طاهر، ومعنا عدةٌ من العلماء، عن قول طفيل: كأن على أعرافه ولجامه ... سنا ضرمٍ من عرفجٍ يتلهب فقال له: ما معنى هذا البيت؟ فقال: أراد أن هذا الفرس شديد، الشقرة كحمرة النار. فقلت له: ويحك، أما تستحيي من هذا التفسير، إنما معناه أن له حفيفا في جريه كحفيف النار ولهبه. ثم أنشدته أبياتا حججا لهذا البيت. قال امرؤ القيس: سبوحا جموحا وإحضارها ... كمعمعة السعف الموقد وقال رؤبة: تكاد أيديها تهاوى في الزهق من كفتها شدا كإضرام الحرق فأراد عدوا كأنه إضرام الحرق وقال العجاج: كأنما يستضرمان العرفجا ... فوق الجلاذي إذا ما أمحجا يقول: من حفيف عدوهما كأنهما يوقدان عرفجا. وقال أوس: بن حجر يصف حمارين: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 إذا اجتهدا شدا حسبت عليهما ... عريشا علته النار فهو محرق وسئل عن بيت لطفيل: كأنه بعد ما صدرن من عرق ... سيد تمطر جنح الليل مبلول فقال: كأن الفرس بعدما سال العرق من صدورهن ذئب. فقلت: أخطأت إنما معناه: كأن هذا الفرس بعدما برزت صدور هذه الخيل، من عرق: من الصف. وكل طريقةٍ وصف عرقة. يقال عرق من قطا ومن خيل. فيقول: كأن هذا الفرس قد أصابه المطر، فهو ينجو ويعدو عدوا شديدا. ثم سئل في هذا المجلس عن بيتٍ لعروة: مطلا على أعدائه يزجرونه ... بساحتهم زجر المنيح المشهر فقيل له: ما معناه؟ فقال: يزجرون هذا الرجل إذا نزل بساحتهم كما يزجر المنيح. ثم فسر فقال: المنيح من القداح: الذي لا نصيب له، وإنما هو تكثير في القداح، مثل السفيح والوغد. فقلت له: ويحك، إنما يزجر ما جاء له نصيب، وهذا خاملٌ لا نصيب له. ثم قال: مشهر، وتفسير هذا البيت القدح المعروف بالفوز، فيستعار لكثرة فوزه وخروجه، ومنه يقال منحت فلانا ناقتي سنة، والناقة تسمى منيحة، وذلك إذا أعطيته لبنها ووبرها سنة ثم يردها، فكذلك هذا القدح يستعار، فهو يتبرك به الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 لكثرة فوزه. وأنشدته فيه حججا. قال ابن مقبل يصف قدحا قد استعاره لكثرة فوزه: مفدى مؤدى باليدين ملعنٌ ... خليع لجام فائز متمنح فأراد بقوله ((متمنح)) مستعار. وقال عمرو بن قميئة: بأيديهم مقرومةٌ ومغالق ... بشيرٌ بأرزاق العيال منيحها فلو كان المنيح القدح الذي لا نصيب له ما كان بشير أرزاق العيال، ولكنه هو الذي يمنح، أي يستعار فيفوز ويقمر. ثم أنشدته في القدح الذي يستعار ويعلم بعقب أو يؤثر فيه بالأسنان. قال لبيد: ذعرت قلاص الثلج تحت ظلاله ... بمثنى الأيادي والمنيح المعقب فإنما عقب علامة لكثرة فوزه وقمره. قال دريد: وأصفر من قداح النبع فرعٍ ... له علمان من عقب وضرس الضرس: أن يعض بالضرس ليؤثر فيه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 133- مجلس الكسائي مع أبي محمد اليزيدي حدثنا أبو عبد الله اليزيدي قال: أخبرني عمي الفضل بن محمد بن أبي محمد يحيى بن المبارك اليزيدي، قال: كنا ببلدٍ مع المهدي في شهر رمضان قبل أن يستخلف بأربعة أشهر، فتذاكروا ليلة عنده النحو والعربية، وكنت متصلا بخاله يزيد بن منصور، والكسائي مع ولد الحسن الحاجب، فبعث إلي وإلى الكسائي فصرت إلى الدار، وإذا الكسائي بالباب قد سبقني، فقال: أعوذ بالله من شرك يا أبا محمد. فقلت: والله لا تؤتى من قبلي أو أوتي من قبلك. فلما دخلنا على المهدي أقبل علي فقال: كيف نسبوا إلى البحرين فقالوا بحراني، أو إلى الحصنين فقالوا حصني؟ فقلت: أيها الأمير، لو قالوا في النسب إلى البحرين بحري لالتبس فلم يدر: النسبة إلى البحرين وقعت أم إلى البحر، فزادوا ألفا ونونا للفرق بينهما، كما قالوا في النسب إلى الروح روحاني. ولم يكن للحصنين شيء يلتبس به فقالوا حصني على القياس. فسمعت الكسائي يقول لعمر بن بزيع: لو سألني الأمير لأجبته بأحسن من هذه العلة. فقلت: أصلح الله الأمير، إن هذا يزعم أنك لو سألته أجاب بأحسن من جوابي. فقال: قد سألته. فقال: أصلح الله الأمير، كرهوا أن يقولوا حصناني فيجمعوا بين نونين، ولم يكن في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 البحرين إلا نون واحدة فقالوا بحراني لذلك. فقلت: فكيف تنسب إلى رجل من بني جنان؟ إن لزمت قياسك قلت: جني فجمعت بينه وبين المنسوب إلى الجن، وإن قلت جناني رجعت عن قياسك وجمعت بين ثلاث نونات. ثم تفاوضنا الكلام إلى أن قلت له: كيف تقول: إن من خير القوم وأفضلهم أو خيرهم بتة زيدٌ. فأطرق مفكرا وأطال الفكر، فقلت: أصلح الله الأمير، لأن يجيب فيخطئ فيتعلم أحسن من هذه الإطالة. فقال: إن من خير القوم وأفضلهم أو خيرهم بتة زيدا. فقلت له: أخطأت. قال: كيف؟ قلت: لرفعه خيرهم قبل أن تأتي باسم إن، ونصبه زيدا بعد الرفع، وهذا لا يجيزه أحد. فقال شيبة بن الوليد عم دفافة، متعصبا له: لعله أراد بأو: بل. فقلت: هذا المعنى لعمري معنى. فلقنه الكسائي، فقال: ما أردت غيره. فقلت: أخطأتما جميعا؛ لأنه غير جائز إن من خير القوم وأفضلهم بل خيرهم زيدا. فقال المهدي للكسائي: ما مر بك مثل اليوم. قال: فكيف الصواب عندك؟ قلت: [إن] من خير القوم وأفضلهم أو خيرهم بتة زيدٌ، على معنى تكرير إن. فقال المهدي: قد اختلفتما وأنتما عالمان فمن يفصل بينكما؟ قلت: فصحاء الأعراب المطبوعون. فبعث إلى أبي المطوق، فعملت له أبياتا إلى أن يجيء، وكان المهدي يميل إلى أخواله من اليمن فقلت: يأيها السائلي لأخبره ... عمن بصنعاء من ذوي الحسب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 حمير ساداتها تقر لها ... بالفضل طرا جحاجح العرب فإن من خيرهم وأفضلهم ... أو خيرهم بتةً أبو كرب فلما جاء أبو المطوق أنشدته الأبيات، وسألته عن المسألة، فوافقني، فلما خرجنا تهددني شيبة وقال: تلحنني بحضرة الأمير؟! فأنشدته: عش بجدٍ ولا يضرك نوكٌ ... إنما عيش من ترى بالجدود عش بجد وكن هبنقة القيسي ... جهلا أو شيبة بن الوليد شيب يا شيب يا هني بن القعقاع ... ما أنت بالحليم الرشيد لا ولا فيك خصلةٌ من خصال الخير ... أحرزتها بحلمٍ وجود غير ما أنك المجيد لتحبير ... غناءٍ لضرب دفٍ وعود فعلى ذا وذاك نحتمل الدهر ... مجيداً به وغير مجيد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 المسألة مبينة على الفساد للمغالطة. فأما جواب الكسائي فغير مرضى عند أحد، وجواب اليزيدي أيضا غير جائز عندنا؛ لأنه أضمر إن وعملها، وليس من قوتها أن تضمر [فتعمل] . فأما تكريرها فجائز. قد جاء في القرآن والفصيح من الكلام. قال الله جل وعز: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} فجعل إن الثانية مع اسمها وخبرها خبراً عن الأولى. وقال الشاعر: إن الخليفة إن الله سربله ... سربال ملكٍ به تزجى الخواتيم والصواب عندنا في المسألة أن يقال: إن من خير القوم وأفضلهم أو خيرهم البتة زيدٌ، فيضمر اسم إن فيها ويستأنف ما بعدها. وذكر سيبويه أن البتة مصدر لم تستعمله العرب إلا بالألف واللام، وأن حذفهما منها خطأ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 134- مجلس الأصمعي مع أبي عثمان المازني قال أخبرنا أبو جعفر أحمد بن محمد بن رستم الطبري قال: حضرت مجلس المازني وقد قيل له: لم قلت روايتك عن الأصمعي؟ فقال: رميت عنده بالقدر والميل إلى مذاهب أهل الاعتزال. فجئته يوما وهو في مجلسه، فقال لي: ما تقول في قول الله عز وجل: {إِنَّا كُلَّ شيءٍ خَلَقْنَاهُ بقدرٍ} ؟ فقلت: سيبويه يذهب إلى أن الرفع فيه أقوى من النصب في العربية، لاشتغال الفعل بالمضمر، لأنه ليس ها هنا شيءٌ هو بالفعل أولى، ولكن أبت عامة القراء إلا النصب، ونحن نقرؤها كذلك اتباعا، لأن القراءة سنة. فقال لي: ما الفرق بين الرفع والنصب في المعنى؟ فعلمت مراده وخشيت أن يغرى العامة بي فقلت: الرفع بالابتداء، والنصب بإضمار فعل. وتعاميت عليه. فقال: حدثني جماعة من أصحابنا أن الفرزدق قال يوما لأصحابه: قوموا بنا إلى مجلس الحسن البصري فإني أريد أن أطلق النوار وأشهده على نفسي. فقالوا له: لا تفعل، فلعل نفسك تتبعها وتندم. فقال: لابد من ذلك. فمضوا معه، فلما وقف على الحسن قال له: يا أبا سعيد، تعلم أن النوار طالقٌ ثلاثا. قال: قد سمعت. وتتبعتها نفسه بعد ذلك فأنشأ يقول: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 ندمت ندامة الكسعي لما ... غدت مني مطلقة نوار وكانت جنتي فخرجت منها ... كآدم حين أخرجه الضرار ولو أني ملكت يدي ونفسي ... لكان علي للقدر الخيار ثم قال: والعرب تقول: ((لو خيرت لاخترت)) ، تحيل على القدر، وينشدون: هي المقادير فلمني أو فذر ... إن كنت أخطأت فما أخطا القدر ثم أطبق نعليه وقال: نعم القناع للقدري! فأبطلت غشيانه بعد ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 135- مجلس أبي إسحاق الزجاج مع جماعة قال لنا أبو إسحاق يوما في مجلسه: كيف تصغرون المهوأن من قول رؤبة: قد طرقت أسما بليلٍ هاجعا ... تطوى إلينا مهوأنا واسعا فأرقت بالحلم ولعا والعا ... قال: المهوأن: الواسع من الأرض البعيد. والولع: الكذب. ومنه قول الآخر: وهن من الإخلاف والولعان ... فخضنا في تصغيره فلم يرض ما جئنا به، فقال: الوجه أن يقال مهين فاعلم. وقياس ذلك أن الاسم على ستة أحرف، وكل اسم جاوز أربعة أحرف ليس رابعه حرف مد ولين فقياسه أن يرد إلى أربعة أحرف في التصغير، كما قالوا في سفرجل: سفيرج، وفي فرزدق: فريزد، وكذلك ما أشبهه، فوقعت ياء التصغير في مهوأن ثالثة ساكنة وبعدها واو، فوجب قلب الواو ياء وإدغام الأولى فيها، فصارت بعد الهاء ياء شديدة وبعدها ثلاثة أحرف: همزة ونونان، فلو حذفت النون بطل معنى الاسم واختل، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 فحذفت الهمزة وإحدى النونين فقلت: مهينٌ كما ترى، وإن شئت: مهيون فأظهرت الواو لأنها متحركة في الاسم قبل التصغير. وتقول في جمعه مهاون. قال: والقياس عندي فيه أن يقال هوين، كما قيل في تصغير مقشعرٌ: قشيعر، وفي مطمئنٍ: طميئن. هذا هو القياس، فاعلم ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 136- مجلس أبي محمد اليزيدي مع يس الزيات حدثنا أبو عبد الله محمد بن العباس اليزيدي قال: أخبرني عمي الفضل بن محمد بن أبي محمد اليزيدي، عن أبي محمد يحيى بن المبارك اليزيدي قال: إني لأطوف غداة يوم بمكة [إذ] لقيني يس الزيات، فقال لي: يأبا محمد، أنا منتظرك عند المقام، فرأيك في المسير إلي إذا فرغت من الطواف. فصرت إليه فقال لي: يأبا محمد، ما نمت البارحة لشيءٍ اختلج في صدري منعني الفكر فيه النوم، وما كنت أود إلا أن أصبح لألقاك. قلت: وما ذاك؟ قال لي: يجوز في كلام العرب أن يقول الرجل أريد أن أفعل كذا وكذا لشيء قد فعله؟ فقلت: ذلك غير جائزٍ، إلا على ضربٍ من الحكاية أفسره لك. قال: فما تقول في قول الله عز وجل: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وجعل أهلها شيعاً} ، إلى أن بلغ إلى قوله: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أئمة ونجعلهم الوارثين} . فخاطب بهذا محمدا صلى الله عليه وسلم وقد فعل ذلك قبل. قلنا: هذا من الحكاية التي ذكرتها لك، لأنه قال: {إنه كان من المفسدين} كأن تقدير الكلام: وكان من حكمنا يومئذ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ، فحكى ذلك لمحمد صلى الله عليه وسلم، كما قال في قصة يحيى: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 {وسلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يبعث حياً} ؛ لأن تقدير الكلام: وكان من حكمنا سلامٌ عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا، فحكى ذلك لمحمد صلى الله عليه وسلم. فقال لي: جزاك الله خيرا يا أبا محمد، فقد فرجت عني بما شرحت لي، ولأفيدنك ما أفدتني. قال أبو محمد: فحدثني عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان أكثر دعائه: ((اللهم إني أسألك اليقين والعفو والعافية، وتمام النعمة في الدنيا والآخرة يا أرحم الراحمين)) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 137- مجلس أبي عثمان المازني مع يعقوب بن السكيت أخبرنا أبو إسحاق الزجاج قال: أخبرنا أبو العباس محمد بن يزيد، عن أبي عثمان قال: جمعني وابن السكيت بعض المجالس، فقال لي بعض من حضر: سله عن مسألة. وكان بيني وبين ابن السكيت ود، فكرهت أن أتهجمه بالسؤال؛ لعلمي بضعفه في النحو، فلما ألح علي قلت له: ما تقول في قول الله جل وعز: {فَأَرْسِلْ معنا أخانا نكتل} ما وزن نكتل من الفعل ولم جزمه؟ فقال: وزنه نفعل، وجزمه لأنه جواب الأمر. قلت له: فما ماضيه؟ ففكر وتشور، فاستحيت له، فلما خرجنا قال لي: ويحك ما حفظت الود، خجلتني بين الجماعة. فقلت: والله ما أعرف في القرآن أسهل منها. قال: وزن نكتل نفتعل من اكتال يكتال، وأصله نكتيل، فقلبت الياء ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها، ثم حذفت الألف لسكونها وسكون اللام فصار نكتل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 138- مجلس الخليل بن أحمد مع سيبويه سئل الخليل بن أحمد عن قول الله جل وعز: {ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شيعةٍ أَيُّهُمْ أشد على الرحمن عتياً} ، فقال: هذا على الحكاية، كأنه قال: ثم لننزعن من كل شيعة الذين يقال: أيهم هو أشد عتيا. فقال سيبويه: هذا غلط، وألزمه أن يجيز لأضربن الفاسق الخبيث، بالرفع، على تقدير لأضربن الذي يقال له هو الفاسق الخبيث بالرفع، وهذا لا يجيزه أحد. وقال يونس بن حبيب: الفعل ملغي، وأي مرفوع بالابتداء، وأشد خبره، كما يقال: قد علمت أيهم عندك. قال سيبويه: وهذا أيضا غلط، لأنه لا يجوز أن يلغى إلا أفعال الشك واليقين، نحو ظننت وعلمت وبابهما. وهو كما قال. وقال الفراء: {ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ من كل شيعةٍ أيهم أشد} أي لننزعن بالنداء فننادي: أيهم أشد على الرحمن عتيا. وله فيه قول آخر، وهو أنه قال: يجوز أن يكون الفعل واقعا على موضع من، كما تقول: أصبت من كل طعامٍ ونلت من كل خيرٍ، ثم تقدر ننظر أيهم أشد على الرحمن عتيا. وله فيه قول ثالث: قال: يجوز أن يكون معناه لننزعن من الذين تشايعوا ينظرون بالتشايع أيهم أشد على الرحمن عتيا، فتكون أي في صلة التشايع. قال: وأجود هذه الأقاويل قول سيبويه والقول الأخير من قول الفراء، ففي الآية ستة أقوال: ثلاثة للبصريين، وثلاثة لأهل الكوفة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 قال سيبويه: أيهم ها هنا بتأويل الذي، وهو في موضع نصب بوقوع الفعل عليه، ولكنه يبنى على الضم لأنه وصل [بغير ما وصل] به الذي وأخواته؛ لأنه وصل باسمٍ واحد. فلو وصل بجملة لأعرب. فأشد خبر ابتداء مضمر تقديره هو أشد، وعتياً منصوب على التمييز. فلو أظهر المبتدأ لنصبت أي فقيل: لننزعن من كل شيعة أيهم هو أشد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 139- مجلس يونس بن حبيب مع شبيل بن عزرة الضبعى أخبرنا محمد بن الحسن عن أبي حاتم السجستاني عن أبي عبيدة عن يونس بن حبيب قال: كنت في مجلس أبي عمرو بن العلاء، فأتاه شبيل بن عزرة الضبعي، فألقى له صفة بغله، وأكرمه ورفعه، ثم قال له: من أين أقبلت؟ قال: من عند رؤبة، ولقد سألته عن اسمه فما عرفه. قال يونس: فما ملكت نفسي غضبا حين ذكر رؤبة، فوثبت فجلست بين يديه وقلت: ألرؤبة تقول هذا! لهو والله أفصح من معد، أفتعرف أنت الروبة والروبة والروبة والروبة، والرؤبة؟ فسكت فما أجاب بحرف، فقال لي أبو عمرو: ماذا أردت إلى رجلٍ جاءني فأكرمته تأنسة، تستقبله بما يكره. ثم سألنا يونس ففسرها فقال: الروبة: الحاجة غير مهموز، يقال فلان لا يقوم بروبة أهله. والروبة: ساعةٌ من الليل. والروبة: جمام ماء الفحل، يقال: أطرقني روبة جملك وفحلك. والروبة: خميرة تلقى في اللبن ليروب. وهذه الأربع غير مهموزات. والرؤبة بالهمز: قطعةٌ يرأب بها الشيء المكسور، أي يشد. وفي دعاء بعضهم: اللهم ارأب صدعنا. قال أبو حاتم: وسمعت بعض الأعراب [يقول] : رب خلتنا! قال: وهي لغة جيدة. كما يقال اسأل وسل بغير همز. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 140- مجلس أبي عثمان المازني مع أبي عمر الجرمي حدثني بعض إخواني قال: حدثنا أبو إسحاق الزجاج قال: أخبرنا محمد بن يزيد قال: حدثني المازني قال: قال أبو عمر الجرمي يوما في مجلسه: من سألني عن بيتٍ لا أعرفه من جميع ما قالته العرب فله علي سبق. قال: فسأله بعض من حضر -قال أبو العباس: السائل المازني ولكنه كنى عن نفسه- فقال له: كيف تروي هذا البيت: من كان مسرورا بمقتل مالكٍ ... فليأت نسوتنا بوجه نهار يجد النساء حواسرا يندبنه ... قد قمن قبل تبلج الأسحار قد كن يخبأن الوجوه تسترا ... فالآن حين بدأن للنظار فقال له: كيف تروي: بدأن، أو بدين؟ فقال: بدأن. فقال: خطأ، إنما هو ((بدون)) . فقال له: أخطأت. ففكر ثم قال: إن لله، هذا عاقبة البغي. قال المبرد: مثل هذا لا يخفى على الجرمي، إنما غولط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 وقع في هذه الحكاية سهوٌ من الحاكي لها أو من الناقل، وذلك أنه حكى أن المازني حضر مجلس الجرمي، وهذا غلط، والذي حدثني به علي بن سليمان وغيره أن الجرمي تكلم بهذا بحضرة الأصمعي والسائل له الأصمعي. وإنما كان ذلك على الأغلوطة والتجربة. ومعنى الأبيات أن العرب كانت لا تندب قتلاها ولا تبكي عليها حتى يثأر بها، فإذا قتل قاتل القتيل بكت عليه وناحت. يقول: من كان مسرورا بمصرع مالك فقد قتلنا قاتله، وهؤلاء النساء يندبنه. والدليل على ذلك قوله: ((حواسرا)) لأن النساء لا تكشف رءوسها إلا بعد أن أدركت بثأر قتلاها. وقوله: ((بوجه نهار)) حكى ثعلب عن ابن الأعرابي أنه موضع، وقال هو وغيره: وجه النهار: أول النهار. وقال الله جل وعز: {وجه النهار واكفروا آخره} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 141- مجلس أبي إسحاق إبراهيم بن السري مع رجل غريب حدثني بعض إخواني قال: حضرت أبا إسحاق يوم الجمعة بعد الصلاة، فدس إليه أبو موسى الحامض رجلا غريبا بمسائل منها: كيف تجمع هبي وهبية جمع التكسير؟ فقال أبو إسحاق: أقول هباي كما ترى، فأدغم، وأصل الياء الأولى عندي السكون قولا ولولا ذلك لأظهرتها. فقال له الرجل: فلم لا تصرفه إذا كان أصله عندك السكون كما تصرف حمارا؟ فقال: لأن حمارا غير مكسر وإنما هو واحدٌ، فلذلك صرفته، ولم أصرف هباي لأنه مكسر. قال: وما أنكرت من أن يكونوا أعلوا العين في هذا الباب وصححوا اللام فشبهوا الياء ها هنا التي هي لام الفعل بعين المعتل، ثم أعلوا العين مثل راية وغاية. فقال له: هذا مذهب، وهو عندي جائز. ثم قال له أبو إسحاق: أراك تسأل سؤال فهم فكيف تصغير هبي؟ فقال: أنا مستفهمٌ والجواب منك أحسن. فقال أبو إسحاق: يقال في تصغير هبي هبيي فتصحح الياء الثانية في الأصل وتدغم فيها الياء الأولى التي هي لام الفعل وتأتي بياء التصغير ساكنة فلا يلزم حذف شيء. والهبي والهبية: الصبي والصبية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 ثم قال له الرجل: كيف تبني من قضيت مثل جحمرش، وهو العجوز؟ قال أبو إسحاق: أما على مذهب المازني [فيقال فيه] قضيي لأن اللام الأولى بمنزلة غير المعتل لسكون ما قبلها، فأشبهت ياء ظبي، فكأن ليس في الكلام إلا ياءان، فصححت الأولى من الأخريين وأعللت الآخرة. هذا مذهب أبي عثمان. والأخفش يقول فيها قضيا، قال: أحذف الآخرة وأقلب الوسطى ألفا لانفتاح ما قبلها. فقال له الرجل: فكيف تقول منها من قرأت؟ فقال أبو إسحاق: يقال قرآء، مثل قرقاع، وأصله قرأئىءٌ وزنه قرعيع، فاجتمعت ثلاث همزات فقلبت الوسطى منهن ياء لاجتماع الهمزات، ثم قلبتها ألفا لانفتاح ما قبلها. فقال له: فما وزن كينونة عندك؟ فقال: فيعلولة، وأصلها كيونونة، ثم قلبت الواو ياء لسبق الياء لها ساكنة، وأدغمت الأولى في الثانية فصار كينونة ثم خففت فقيل كينونة، كما قيل في ميت وهين وطيب: ميت وهين وطيب. قال: ما الدليل على هذه الدعوى والفراء يزعم أنها فعلولة؟ قال: الدليل على ذلك ثبات الياء؛ لأنه لو كان أصلا لزمه الاعتلال، لأنه لا محالة من الكون، فكان يجب أن يقال كونونة إن كان أصلها فعلولة بإسكان العين. وإن كان أصلها فعلولة بتحريك العين فواجب أن يقال كانونة. فقال له الرجل: فما تقول في امرأة سميت أرؤس ثم خففت الهمزة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 كيف تصغرها؟ فقال: أريس ولا أزيد الهاء. فقال له: ولم وقد صار على ثلاثة أحرف، ألست تقول في تصغير هند هنيدة، وعين عيينة؟ فقال الزجاج: هذا مخالف لذلك؛ فإني ولو خففت الهمزة فإنها مقدرة في الأصل، والتخفيف بعد التحقيق. قال: فلم لا تلحقه بتصغير سماء إذا قلت سمية، أليس الأصل مقدرا؟ فقال: هذا لا يشبه تصغير سماء؛ لأن التخفيف في أرؤس عارض والتحقق فيه جائز، وأنت في تحقير سماء تكره الجمع بين ثلاث ياءات، وأنت لا تكره التحقيق في أرؤس، فلو حققته صار على أربعة أحرف، وسماءٌ الحذف لها لازم، فصار على ثلاثة أحرف، فلحقتها الهاء في التصغير. قال: ونظير الكينونة في الوزن القيدودة وهي الطول، والهيعوعة، وهي مصدر هاع الرجل، إذا جبن، هيعوعة؛ والطيرورة من الطيران. كل هذا أصله عند البصريين فيعلولة ثم لحقته ما ذكرت لك. وكان في المجلس المشوق فأخذ بياضا وكتب من وقته: صبرا أبا إسحاق عن قدرة ... فذو النهى يمتثل الصبرا واعجب من الدهر وأوغاده ... فإنهم قد فضحوا الدهرا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 لا ذنب للدهر ولكنهم ... يستحسنون الغدر والمكرا نبئت بالجامع كلبا لهم ... ينبح منك الشمس والبدرا والعلم والحلم ومحض الحجى ... وشامخ الأطواد والبحرا والديمة الوطفاء من سحها ... إذا الربى أضحت بها خضرا فتلك أوصافك بين الورى ... يأبين والتيه لك الكبرا فظن جهلا والذي دسه ... أن يلمسوا العيوق والغفرا فأرسلوا النزر إلى غامرٍ ... وغمرنا يستوعب النزرا فاله أبا إسحاق عن خامل ... ولا تضق منك به الصدرا وعن خشار عررٍ في الورى ... خطيبهم من فمه يخرا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 قال أبو إسحاق بعقب هذا المجلس: سألني محمد بن يزيد يوما فقال: كيف تقول في تصغير أموي: فقلت له: أقول أميي. فقال: لم صرحت ياء التصغير من أموي وأثبتها في هذا؟ فقلت: تلك لغيره، تلك للجنس وهذا له في نفسه، فلا يطرح ما كان في نفسه حملا على ما كان للجنس. فقال: أجدت أبا إسحاق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 142- مجلس أبي عثمان المازني مع أبي الحسن سعيد بن مسعدة أخبر أبو جعفر الطبري قال: حدثني أبو عثمان المازني قال: قال لي الأخفش سعيد يوما: على أي وجه أجاز سيبويه في تثنية كساء كساوان بالواو؟ فقلت: بالتشبيه بقولهم حمراوان وبيضاوان؛ لأنها في اللفظ همزة كما أنها همزة. فقال لي: فيلزمه على هذا أن تجيز في تثنية حمراء حمراءان على التشبيه بقولهم كساءان، لأنك إذا شبهت الشيء فقد وجب أن يكون المشبه به مثله في بعض المواضع. فقلت: هذا لازم لسيبويه. ثم فكرت فقلت: لا يلزمه هذا. فقال لي: أليس لما شبهنا ما بليس فأعملناها عمل ليس فقلنا ما زيد قائما كما نقول ليس زيد قائما، شبهنا أيضا ليس بما في بعض المواضع فقلنا: ليس الطيب إلا المسك، ومثل هذا كثير. ومنهم من يقول ليس الطيب إلا المسك، فنصب فإنه لزم الأصل؛ وذلك أن خبر ليس منصوب منفيا كان أو موجبا، لأنها أخت كان، والمنفي قولك ليس زيد قائما، والموجب قولك ليس زيد إلا قائما وما كان زيد إلا قائما. وأما من رفع فقال: ليس الطيب إلا المسك، ففيه وجهان: أحدهما هو الأجود أن يضمر في ليس اسمها ويجعل الجملة خبرها، كما قال هشامٌ أخو ذي الرمة: هي الشفاء لدائي إن ظفرت بها ... وليس منها شفاء الداء مبذول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 التقدير: ليس الأمر شفاء الداء مبذول منها. ولكنه إضمارٌ لا يظهر؛ لأنه أضمر على شريطة التفسير، وتكون إلا في المسألة مؤخرة، وتقديرها التقديم حتى يصح الكلام؛ لأنها لا تقع بين المبتدأ والخبر، فيكون التقدير: ليس إلا الطيب المسك. ومثله: (إِنْ نَظُنُّ إِلا ظَنًّا) تقديره: إن نحن إلا نظن ظنا. والوجه الآخر: أن تجعل ليس بمنزلة ما، فيلغي عملها لدخول إلا في خبرها، كما يلغي عمل ما إذا دخلت إلا في خبرها، كما حملوا ما على ليس فنصبوا خبرها؛ لأنه ليس في العربية شيئان تضارعا فحمل أحدهما على الآخر إلا جاز حمل الآخر عليه في بعض الأحوال. فقلت: أليس هذا مثل ذاك؟ وذاك أنه لو أجاز سيبويه في تثنية حمراء حمراءان لجعل علامة التثنية غير متطرفةٍ على صورتها وهي متطرفةٌ، فهل وجدت أنت علامة التأنيث متوسطة على صورتها متطرفة؟ فسكت ثم قال لي: لم أجد ذلك، ولا يلزم سيبويه ما قلنا، وما أحسن ما احتججت له. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 143- مجلس أبي العباس ثعلب مع جماعة حدثني أبو الحسن علي بن سليمان الأخفش: قال: أنشدنا أحمد بن يحيى عن ابن الأعرابي: وصاحبٍ أبدأ حلوا مزا ... بحاجة القوم خفيفا نزا إذا تغشاه الكرى ابرحزا ... كأن قطنا تحته أو قزا أو فرشا محشوة إوزا ... قال أبو الحسن: أنشدنا أبو العباس هذه الأبيات ثم قال: يا أصحاب المعاني، ما يقول؟ فخضنا فيه فلم نصنع شيئا، فضحك ثم قال: أخبرني ابن الأعرابي أن اسم ابنته كان مزة، فناداها ورخمها، كأنه قال: وصاحب أبدأ حلوا من القول يا مزة، ثم حذف الهاء للترخيم. يقال: رجل نز، إذا كان خفيفاً في الحاجة. ومثله خفيف، وخفافٌ، وندبٌ بمعنى واحد. وقوله: ((ابرحزا)) يريد انتبه. يصفه بقلة النوم وخفة الرأس. وقوله: ((أو فرشا مملوءة إوزا)) يريد ريش إوز، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه، كما قيل صلى المسجد، أي أهل المسجد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 144- مجلس أبي العباس أحمد بن يحيى مع أبي الحسن محمد بن كيسان حدثني بعض أصحابنا قال: أخبرنا أبو الحسن بن كيسان قال: قال لي أبو العباس: كيف تقول مررت برجل قائمٍ أبوه؟ فأجبته بخفض قائم ورفع الأب. فقال لي: بأي شيء ترفعه؟ فقلت: بقائم. فقال: أو ليس هو عندكم اسما، وتعيبوننا بتسميته فعلا دائما؟ فقلت: لفظه لفظ الأسماء، وإذا وقع موقع الفعل المضارع وأدى معناه عمل عمله؛ لأنه قد يعمل عمل الفعل ما ليس بفعل إذا ضارعه. قال: فكيف تقول: مررت برجل أبوه قائم؟ فأجبته برفعهما جميعا. فقال لي: فهل تجيز أن تقول: مررت برجل قائمٌ أبوه فترفع به مؤخرا كما رفعت به مقدما؟ قلت: ذلك غير جائز عند أحد. قال: ولم؟ قلت: لأنه اسمٌ جرى مجرى الفعل، وإذا تقدم عمل عمل الفعل ولم يكن فيه ضمير، فإذا تأخر كان بمنزلة الفعل المؤخر، فلزمه أن يقع فيه ضميرٌ من الاسم المتقدم يرتفع به كما يكون ذلك في الفعل إذا تأخر؛ فلما كان الفعل لو ظهر هاهنا لم يرفع ما قبله كان الاسم الجاري مجراه أضعف في العمل وأحرى ألا يعمل فيما قبله. فقال لي: فاجعل الاسم مرفوعا بالابتداء وما بعده خبره على مذهبكم؛ لأن خبر المبتدأ عندكم يكون مخفوضا ومنصوبا، كما تقول زيد في الدار وزيد أمامك، قلت: ذلك غير جائز؛ لأن خبر المبتدأ إذا كان هو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 المبتدأ بعينه لم يكن إلا مرفوعا، كقولنا: زيد منطلق، وعبد الله قائم، وما أشبه ذلك. وكذلك إذا قلنا: مررت برجلٍ أبوه قائم، فالقائم هو الأب في المعنى، فلا يجوز أن يختلف إعرابهما. قال: فقد جاء في الشعر الفصيح الذي هو حجةٌ مثل هذا الذي تنكره. قال امرؤ القيس: فظل لنا يومٌ لذيذٌ بنعمةٍ ... فقل في مقيل نحسه متغيب تقديره: فقل في مقبل متغيب نحسه، ثم قدم وأخر كما ترى. فقلت له: ليس هو على هذا التقدير. فوقع لي في الوقت خاطر، قال: فأي شيء تقديره؟ قلت: تقديره فقل في مقيل نحسه، وتم الكلام، كما تقول: مررت بمضروب أبوه كريم، والتقدير مررت برجل مضروب أبوه، ثم تجعل كريما نعتا للمتروك الذي في النية، فكأنه قال: فقل في مقيل نحسه. يقال: قال نحسه، أي سكن. والنحس: الدخان أيضا. ثم قال متغيب بعد أن تم الكلام، كأنه قال متغيبٍ عن النحس. فقال: هذا لعمري وجهٌ على هذا التقدير. قال أبو الحسن: فحدثت أبا العباس المبرد بما جرى فقال: هذا شيءٌ خطر لي فخالفت النحويين؛ لأنهم زعموا أنه أتى به امرؤ القيس ضرورة. ثم رأيته بعد ذلك قد أملاه. واعلم أن الأسماء كلها يعطف عليها إلا المضمر المخفوض، فإن العطف عليه غير جائزٍ إلا بإعادة الخافض، كقولك: مررت بك وبزيد، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 ودخلت إليه وإلى عمرو. ولو قلت مررت به وزيد كان غير جائز عند البصريين البتة إلا في ضرورة الشعر. وقد قبحه الكوفيون وأجازوه مع قبحه. قرأ حمزة: {واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام} بالخفض عطفا على المضمر المخفوض. والقراء غيره قرءوا بالنصب، عطفا على الله عز وجل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 145- مجلس الأخفش سعيد مع المازني حدثني محمد بن منصور قال: سأل المازني أبا الحسن سعيد بن مسعدة عن قولهم: زيد أفضل من عمرو وأكرم منه. فقال الأخفش: أفعل في هذا الباب إذا صحبه من فإنما يضاف إلى ما هو بعضه، فلم يثن ولم يجمع، كما أن البعض كذلك لا يثنى ولا يجمع ولا يؤنث، كقولك: بعض أخواتك خرجن وخرجتا وخرج. قال أبو عثمان: إنما معناه: فضله يزيد على فضله، وكرمه يزيد على كرمه، فكان بمعنى المصدر فلم يثن ولم يجمع كما أن المصدر كذلك. قال أبو بكر: وقال الفراء: إن أفعل في هذا الجنس يضاف إلى شيء يجمع الفاضل والمفضول، فاستغنى بتثنية ما أضيف إليه وجمعه وتأنيثه عن تثنيته في ذاته وجمعه، فصار بمنزلة الفعل الذي إذا تقدم يستغني بما بعده عن تثنيته وجمعه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 146- مجلس مروان مع أبي الحسن سعيد بن مسعدة أخبر أبو جعفر أحمد بن محمد الطبري قال: سأل مروان سعيد بن مسعدة الأخفش: أزيدا ضربته أم عمرا، فقال: أي شيءٍ تختاره فيه؟ فقال: أختار النصب لمجيء ألف الاستفهام. فقال: ألست إنما تختار في الاسم النصب إذا كان المستفهم عن الفعل كقولك: أزيدا ضربته، أعبد الله مررت به؟ فقال: بلى. فقال له: فأنت إذا قلت: أزيداً ضربته أم عمرا، فالفعل قد استقر عندك أنه قد كان، وإنما تستفهم عن غيره، وهو من وقع به الفعل، فالاختيار الرفع، لأن المسئول عنه اسم وليس بفعل. فقال له الأخفش: هذا هو القياس. قال أبو عثمان: وهو أيضا القياس عندي، ولكن النحويين اجتمعوا على اختيار النصب في هذا لما كان معه حرف الاستفهام الذي هو في الأصل للفعل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 147- مجلس أبي العباس ثعلب مع جماعة في مجلسه حدثنا أبو الحسن علي بن سليمان قال: كنا عند أبي العباس ثعلب، فأنشدنا للحصين بن الحمام المري: تأخرت أستبقي الحياة فلم أجد ... لنفسي حياة مثل أن أتقدما فلسنا على الأعقاب تدمى كلومنا ... ولكن على أقدامنا يقطر الدما فسألنا: ما تقولون فيه؟ فقلنا: الدم فاعل جاء به على الأصل. فقال: هكذا رواية أبي عبيدة، وكان الأصمعي يقول: هذا غلطٌ، وإنما الرواية: ((ولكن على أقدامنا تقطر الدما)) منقوطة من فوقها، والمعنى ولكن على أقدامنا تقطر الجراحات الدما، فيصير مفعولا به، يقال قطر الماء وقطرته أنا. وأنشدنا: كأطومٍ فقدت برغزها ... أعقبتها الغبس منه عدما شغلت ثم أتت ترشفه ... فإذا هي بعظامٍ ودما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 فأفاقت فوقه ترشفه ... وأعيض القلب منها ندما فالدم في موضع خفض عطفٌ على العظام، ولكنه جاء به على الأصل مقصورا كما ترى. وكان الأصمعي يقول: إنما الرواية: فإذا هي بعظام ودماء، ثم قصر الممدود. والأطوم: البقرة الوحشية. وبرغزها: ولدها. والغبس: جمع أغبس، وهي الكلاب. واعلم أنه قد جاء عن العرب أسماءٌ نواقص بغير علة، وقد ذكر بعض النحويين لها عللا غير مرضية، فمنها: يدٌ ودمٌ وفمٌ وأخٌ وما أشبه ذلك. فأصل (يد) يديٌ على فعل بإسكان العين. والدليل على ذلك قول العرب: يديت إليه يدا. فإن ثنيته قلت على النقصان يدان. وإن أردت تثنيته على الأصل فذلك جائز أن تقول فيه يديان. أنشدنا: يديان بيضاوان عند محجز ... قد يمنعانك أن تذل وتقهرا وأصل (فم) فوه، حذفت الهاء، وأبدلت من الواو ميمٌ عند الإفراد فقيل فمٌ. فإن ثنيته قلت فمان على النقصان. وقد قالت العرب على التمام فموان، فجعلوا الميم مكان الواو، والواو مكان الهاء، وهذا غلط منهم. قال الفرزدق: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 هما نفثا في في من فمويهما ... على النابح العاوي أشد رجام وتقول في الجمع أفواه فترده إلى الأصل. فهذا يبين لك أصله. وأصل (دم) دميٌ على فعل بتحريك العين. الدليل على ذلك قوله: دميت يد فلان، وقوله في التثنية دميان، وفي الجميع دماء. وأنشدنا علي بن سليمان عن ثعلب: لعمرك إنني وأبا ذراع ... على حال التكاشر منذ حين ليبغضني وأبغضه وأيضا ... يراني دونه وأراه دوني فلو أنا على حجرٍ ذبحنا ... جرى الدميان بالخبر اليقين يريد أنه لشدة ما بينهما من العداوة لا تختلط دماؤهما، فلو ذبحا على حجرٍ، لافترق الدميان، كما قال الآخر: أحارث إنا لو تساط دماؤنا ... تزيلن حتى ما يمس دمٌ دما وأصل أخ وأب أخو وأبو، على فعل بتحريك العين، فلو جاء على الأصل لقيل هذا أخا ورأيت أخا ومررت بأخا، وكذلك رأيت أبا ومررت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 بأبا وهذا أبا، لأن الواو والياء إذا تحركتا وما قبلهما مفتوح انقلبتا ألفين، فكان سبيل هذين الاسمين أن يكونا مقصورين مثل عصا ورحى وفتى وما أشبه ذلك، ولكن أكثر العرب نطقتهما على النقصان في حال الإفراد فقالت: هذا أخٌ وأبٌ. فأسقطوا لام الفعل. وقالوا: مررت بأخٍ وأبٍ، فإذا أضافوا قالوا: هذا أخوك وأبوك، ومررت بأخيك وأبيك. وبين العلماء اختلاف في هذه الواو والياء والألف، فيقول الكوفيون: هي الإعراب نفسه، ويقول البصريون: الحركات اللواتي قبل هذه الحروف هي الإعراب، وهذه الحروف اتساع. ومن العرب من يضيفه على النقصان فيقول: هذا أخك وأبك، ورأيت أخك وأبك، ومررت بأخك وأبك. فإذا جمعوا قالوا في جمع السلامة: أبون وأخون في الرفع، وأبين وأخين في النصب والخفض، وفي جمع التكسير إخوة وآخاءٌ، وآباءٌ، وأبوة. وتقول على هذا: ضرب أبك أخيك على أنه جمع السلامة، وأصله أخينك فسقطت النون للإضافة. وكذلك تقول: أكرم أبيك أخوك. وأنشدنا محمد بن يزيد: فقلنا يا اسلموا إنا أخوكم ... فقد برئت من الإحن الصدور وأنشدنا أيضا: أيفخر بالأبين معا علينا ... فما آباؤكم بذوي ضغينا فجمع هذا الشاعر بين اللغتين في بيت واحد. ومن العرب من يجري الأخ والأب على الأصل فيجعلهما اسمين مقصورين، فيقول: هذا أخاك وأباك، ورأيت أخاك وأباك، ومررت بأخاك وأباك، كما تقول: هذه عصاك ورحاك، ومررت بعصاك ورحاك، ورأيت عصاك ورحاك. فاعرف ذلك إن شاء الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 148- مجلس أبي العباس مع رجل من النحويين حدثني علي بن سليمان قال: سأل رجل أبا العباس في مجلسه عن قول الشاعر: مرحبا بالذي إذا جاء جاء الخير ... أو غاب غاب عن كل خير فقال: أيهجوه أم يمدحه؟ فقال: بل يهجوه. وفيه تقديران: أحدهما تفسير محمد بن يزيد، قال: يصفه بالغفلة والبلادة، وتقديره مرحبا بالذي إذا جاء جاء الخير، أي حضوره غيبة، فهذا المصراع في ذكر بلادته وغفلته. ثم قال: أو غاب غاب عن كل خير، معناه أن الخير عندنا فإذا غاب غاب عن كل خير؛ لأنه لا يرجع إلى خير عنده. قال أبو العباس أحمد: إنما وصفه بالحرمان فقط، وتقدير الكلام عنده: مرحبا بالذي إذا جاء غاب عن كل خيرٍ، جاء الخير أو غاب، يصفه بالحرمان والشؤم على كل حال. وقد رواه غيرهما بالنصب، معناه مرحبا بالذي إذا جاء أتى بالخير، أي صادف الخير عندنا؛ أو غاب عن كل خير، أي إنه لا يرى الخير إلا عندنا، فإذا غاب عنا حرم ولم يصادف خيرا. ومثل هذا، مما يسأل عنه: سألنا من أباك سراة تيم ... فقال أبي تسوده نزارا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 تقديره: سألنا أباك نزارا من سراة تيم تسوده فقال: أبي. ينتصب أباك بوقوع السؤال عليه، ونزارا بدل منه، ومن رفعٌ بالابتداء، وسراة مبتدأ ثان، وتسوده الخبر، والمبتدأ الثاني والخبر خبر الأول. وقوله: ((قال أبي)) تقديره هو أبي، فيكون خبر ابتداء مضمر، وإن شئت رفعته بالابتداء والخبر بعد مقدر، كأنك قلت: أبي تسوده سراة تيم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 149- مجلس أبي عمرو بن العلاء مع أبي عبيدة حدثنا أبو الحسن علي بن سليمان قال: حدثني محمد بن يزيد قال: حدثنا المازني عن أبي عبيدة قال: سمعت أبا عمرو بن العلاء يقرأ: {لتخذت عليه أجرا} ، فسألته عنه فقال: هي لغةٌ فصيحة. وأنشد قول الممزق العبدي: وقد تخذت رجلي إلى جنب غررها ... نسيفا كأفحوص القطاة المطرق يقال اتخذ اتخاذا, وتخذ يتخذ تخذا، بمعنى واحد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 150- مجلس أبي عمرو مع الأصمعي وحدثنا أبو الحسن علي بن سليمان قال: حدثنا أبو العباس أحمد بن يحيى قال: حدثنا أبو الفضل الرياشي قال: سمعت الأصمعي يقول: سمعت أبا عمرو بن العلاء يقول: الشعف بالعين غير معجمة: أن يقع في القلب شيء فلا يذهب. يقال: قد شعفني يشعفني شعفا، إذا ألقي في قلبي ذكره وشغله. وأنشد للحارث بن حلزة اليشكري: ويئست مما كان يشعفني ... منها، ولا يسليك كاليأس قلت: قرأت القراء: (قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا) بالغين معجمة، وشعفها حبا بالعين غير معجمة. فأما شغفها بالغين معجمة فمعناه بلغ حبها شغاف قلبها. والشغاف: وعاء القلب. وشعفها بالعين غير معجمة على وجهين: أحدهما ما ذكرناه عن أبي عمرو بن العلاء. والأخر أن يكون معناه علا قلبه حبها. والشعاف، واحدها شعفة: أعالي الجبال. والشعف: أعلى كل شيء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 151- مجلس الأصمعي مع الكسائي حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه قال: كنا عند الرشيد فحضر الأصمعي والكسائي، فسأل الرشيد عن بيت الراعي وقوله: قتلوا ابن عفان الخلفية محرما ... ودعا فلم أر مثله مخذولا فقال الكسائي: كان قد أحرم بالحج. فضحك الأصمعي وتهانف فقال له الرشيد: ما عندك؟ فقال: والله ما أحرم بالحج ولا أراد أيضا أنه دخل في شهر حرام، كما يقال أشهر وأعام، إذ دخل في شهر وفي عام. فقال له الكسائي: ما هو إلا هذا، وإلا فما معنى الإحرام؟ قال الأصمعي: فخبرني عن قول عدي بن زيد: قتلوا كسرى بليل محرما ... فتولى لم يمتع بكفن أي إحرام لكسرى؟ فقال الرشيد: فما المعنى؟ فقال: يريد أن عثمان لم يأت شيئا يوجب تحليل دمه، وكل من لم يحدث مثل ذلك فهو في ذمة. فقال الرشيد: يا أصمعي، ما تطاق في الشعر. ومثل هذا ما حدثني به العباس بن محمد بن أحمد بن حمدون قال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 حدثني علي بن يحيى قال: حدثني علي بن إسحاق بن إبراهيم الموصلي عن أبي عمرو بن العلاء قال: كانت يدي في يد الفرزدق، فأنشدته قول ذي الرمة: أقامت به حتى ذوى العود في الثرى ... وساق الثريا في ملاءته الفجر فقال لي: أرشدك أم أدعك؟ قلت: أرشدني. فقال: إن العود لا يذوي أو يجف [في] الثرى، وإنما الشعر: أقامت به حتى ذوى العود والثرى ... الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 152- مجلس أبي يوسف صاحب أبي حنيفة مع علي بن حمزة بحضرة الرشيد حدث أبو العباس أحمد بن يحيى قال: حدثني سلمة عن الفراء قال: كتب الرشيد في ليلة من الليالي إلى أبي يوسف صاحب أبي حنيفة: أفتنا حاطك الله في هذه الأبيات: فإن ترفقي يا هند فالرفق أيمن ... وإن تخرقي يا هند فالخرق أشأم فأنت طلاقٌ والطلاق عزيمةٌ ... ثلاثا ومن يخرق أعق وأظلم فبيني بها إن كنت غير رفيقةٍ ... وما لامرئ بعد الثلاث مقدم فقد أنشد البيت ((عزيمةٌ ثلاثٌ)) و ((عزيمةٌ ثلاثا)) بالنصب، فبكم تطلق بالرفع؟ وبكم تطلق بالنصب؟ قال: قال أبو يوسف: هذه مسألة فقهيةٌ نحوية، إن قلت فيها بظني لم آمن الخطأ، وإن قلت لا أعلم قيل لي كيف تكون قاضي القضاة وأنت لا تعرف مثل هذا. ثم ذكرت أن أبا الحسين علي بن حمزة الكسائي معي في الشارع فقلت: ليكن رسول أمير المؤمنين بحيث يكرم، وقلت للجارية: خذي الشمعة بين يدي، فدخلت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 إلى الكسائي وهو في فراشه، فأقرأته الرقعة، فقال لي: خذ الدواة واكتب: ((أما من أنشد البيت بالرفع فقال عزيمةٌ ثلاثٌ، فإنما طلقها واحدة وأنبأها أن الطلاق لا يكون إلا بثلاثة، ولا شيء عليه. وأما من أنشد عزيمةٌ ثلاثا فقد طلقها وأبانها، لأنه كأنه قال: أنت طالق ثلاثا)) . وأنفذت الجواب، فحملت إلي آخر الليل جوائز وصلاتٌ، فوجهت بالجميع إلى الكسائي. شرح هذه الأبيات على الحقيقة: في قوله ((فأنت طلاقٌ)) وجهان: أحدهما أن يكون مصدرا في موضع اسم الفاعل، كما قيل زيد عدل أي عادل، وصومٌ أي صائم، وجورٌ أي جائر، وماء غورٌ أي غائر. قال الله تبارك وتعالى: {إِنْ أصبح ماؤكم غوراً} فيكون التقدير: أنت طالق. والوجه الآخر: أن يكون حذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه، كما يقال صلى المسجد أراد أهل المسجد، وبنو فلانٍ يطؤهم الطريق، وكقوله عز وجل: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أقبلنا فيها} فيكون التقدير على هذا: أنت ذات طلاق. كما قالت الخنساء: ترتع ما غفلت حتى إذا ادكرت ... فإنما هي إقبالٌ وإدبار تريد: فإنها ذات إقبال وذات إدبار. وقوله: ((ثلاثا)) تروى بالنصب والرفع، فمن نصب أراد فأنت طالقٌ ثلاثا، هذه تطلق لا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 محالة، ويكون قوله والطلاق عزيمة ابتداءً وخبراً، ويكون التقدير: والطلاق عزيمة من أمري لا بهزلٍ ولا لعب. ويدل على هذا التأويل قوله في البيت الآخر: فبيني بها إن كنت غير رفيقةٍ ... ومن رفع فقال: ((والطلاق عزيمةٌ ثلاثٌ)) الطلاق رفع بالابتداء، وعزيمةٌ خبره، وثلاث خبر ثانٍ. وإن شئت جعلت الثلاث موضحا عن العزيمة ومترجما عنها، فيكون المعنى: والطلاق الذي يكون عزيمة من المطلق هو ثلاث. فيحتمل أن يكون قال أنت طالق ولم يقصد الثلاث فتكون واحدة، ويكون قوله والطلاق عزيمة ثلاث منقطعا عن الأول. وجائز أن يكون أراد بقوله أنت طالق الثلاث، لأن له أن ينوي ما أراد من ذلك، ثم فسره بقوله ((والطلاق ثلاث)) ، فكأنه قال: والطلاق الذي جرى ذكره ثلاث. ويجوز نصب عزيمة إذا رفع الثلاث، فيقول: والطلاق عزيمة ثلاث، كأنه قال: والطلاق ثلاثٌ عزيمة، أي عزما، فينصب على المصدر أو على إضمار أعزم ذلك عزما وعزيمة. وأما قوله: ((ومن يخرق أعق وأظلم)) فمن كلام الشعر خاصة، ولا يجوز في منثور الكلام؛ لأنه حذف الفاء التي هي جواب الجزاء، وحذف المبتدأ أيضا، وذلك أنه جزم يخرق على الشرط بمن، فأراد أن يأتي بالفاء في الجواب أو بفعل مجزوم، وكان سبيله أن يقول: ومن يخرق يندم، ومن يخرق فهو أعق وأظلم، ولكنه حذف، فهذا الحذف جائز في الشعر. وأنشد سيبويه في مثل ذلك: من يفعل الحسنات الله يشكرها ... والشر بالشر عند الله مثلان أراد: فالله يشكرها، فأضمر الفاء كما ترى، فهو جائز. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 153- مجلس الأصمعي مع أبي العميثل حدثني أبو جعفر أحمد بن عبد الله بن مسلم بن قتيبة قال: حدثني أبي عبد الله قال: حدثنا أبو العميثل –وقد روى عنه الأصمعي- قال: سألني الأصمعي عن قول الراجز في صفة ماء: إزاؤه كالظربان الموفي ... فقلت له: الإزاء: مصب الدلو في الحوض. فقال لي: كيف يشبه مصب الدول بالظربان؟ فقلت له: ما عندك فيه؟ فقال: أنما أراد المستقي؛ من قولك: فلانٌ إزاء مالٍ، إذا قام به ووليه. وقال أحمد بن حاتم: قال الأصمعي: يقال هو إزاء مال، وخائل مال، وخال مالٍ، وصدى مالٍ، وسوبان مالٍ، وسرسور مالٍ، وآيل مالٍ، يريد قيم مال. قال أحمد بن يحيى: يقال فلان عسل مالٍ، إذا كان حسن القيام عليه. وشبهه بالظربان لذفر رائحته وعرقه. وبالظربان يضرب المثل في النتن. يقال للقوم إذا تطاول الشر بينهم: ((فسا بينهم الظربان)) . ويقال إنه ربما فسا في ثوب إنسان فيتقطع رعابيل ولا يخرج نتنه منه. ويقال إنه ربما دخل في خلال الهجمة فيفسو، فلا يتم له ثلاث فسوات حتى تتفرق الإبل كما تتفرق عن المنزل إذا أحست فيه بقردان، فلا يردها الراعي إلا بالجهد الشديد. وذكر الجاحظ أنه إذا أحس بالضب في جحره سد باسته باب جحره، فلا يزال يفسو فيه حتى يخرج الضب سكران منه، فيقع كالميت، فيأكله كيف يشاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 154- مجلس أبي عطاء مع أبي صفوان قال ابن الكلبي عن أبي عطاء الأعرابي قال: أتيت أبا صفوان أيام قسم المهدي للأعراب، فقال لي أبو صفوان: ممن أنت؟ وكان يمتحنهم. قال: قلت من بني تميم قال: فأي تميم؟ قلت: ربابي. قال: فما عملك؟ وأين بلدتك؟ قال: قلت بالدجنتين. قال: فما كنت تصنع؟ قال: كنت أعالج الإبل. قال: فلك بها علم؟ قلت: نعم. قال: فأخبرني عن حقةٍ حقت على ثلاث حقاق. قال: فقلت له: سألت خبيراً بهذا، هذه بكرة كانت معها بكرتان في ربيع واحد، فارتبعن فسمنت قبل أن تسمنا. فقد حقت عليهما واحدة؛ ثم ضبعت ولم تضبعا، فقد حقت عليهما حقة أخرى؛ ثم لقحت ولم تلقحا، فهذه ثلاث حقات. فقال: لعمري أنت منهم. تمت الزيادات، وهي خمسة وعشرون مجلسا لم تكن في نسخة الشيخ أبي مسلم محمد بن أحمد بن علي الكاتب رحمه الله، ألحقتها بها. وصلى الله على نبيه محمد وآله وصحبه وسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 155 قرأت بخط أبي الفضل العباس بن علي الصولي: ابن برد الخيار، أخبرني أحمد بن أبي بكر القيسي قال: حدثني العنزي قال: حدثني يزيد بن محمد المهلبي أبو خالد قال: قال لي إسحاق الموصلي: سألت الأصمعي يوما عن مسائل فأجاب فيها فأحسن جدا، فأعجبته نفسه فقال لي: أسألت مثلي؟ فقلت له: وسألك مثلي! قال: وأخبرني أبي قال: أخبرني العنزي قال: أخبرني يزيد بن محمد المهلبي قال: أخبرني إسحاق الموصلي قال: أنشدني الأصمعي أرجوزة لدكينٍ الراجز حتى انتهى إلى موضع منها، فقال لي: هذا آخرها. فاجتمعنا بعد ذاك بمدة عند الفضل بن الربيع، فجرى ذكر الأرجوزة، فأقبل ينشدها، وعارضته أنشد معه منها، فأمسك حتى انتهيت إلى الموضع الذي أنشدنيه على أنه آخر الأرجوزة فوقفت، فقال لي: أمر يا أبا محمد. قلت: هذا آخرها. قال: تركت والله أحسنها. ثم أقبل ينشد، فأنشد لعمري أحسنها. فقلت: أما أنشدتني هذه وقلت لي هذا آخرها؟ فقال لي: يأبا محمد: يصان وهو ليوم الروع مبذول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 156- مجلس أبي العباس ثعلب وأبي العباس المبرد قال ثعلب: كلمت ذات يوم محمد بن يزيد البصري فقال: كان الفراء يناقض، يقول قائم فعل، وهو اسمٌ لدخول التنوين عليه. فإذا كان فعلا لم يكن اسما، وإن كان اسما فلا ينبغي أن تسميه فعلا. فقلت: الفراء يقول قائم فعل دائم لفظه لفظ الأسماء لدخول دلائل الأسماء عليه، ومعناه معنى الفعل لأنه ينصب فيقال قائم قياما، وضاربٌ زيدا، فالجهة التي هو فيها اسمٌ ليس هو فيها فعلا، والجهة التي هو فيها فعل ليس هو فيها اسما. فأنت لم نصبت به وهو عندك اسم؟ فقال: لمضارعته يفعل. فعارضته بقول العرب: جاءني آكلٌ طعامك، ولقيت آخذا حقك، وقلت له: قد نصبوا بآكلٌ وآخذٌ، ويفعل لا يضارعهما إذ كان لا يقع موقع الفاعل والمفعول. فقال لي: مضارعته قد حصلت له في أصل بنيته. فألزمته تقدم الصلة وفاعل غير متصرف، وطالبته أن يجيز: طعامك جاءني آكل، وحقك لقيت آخذا، فقال: أجيز المسألتين. فقلت له: لم يجز هذا أحدٌ؛ لأن الصلة لا تتقدم إلا عند تصرف الموصول. ومستحيل في البنية. من قال طعامك جاءني آكل، وحقك لقيت آخذا، أحال، لأن آكلا وآخذا لما منعا التصرف منعت صلتهما التقدم، وجريا مجرى: بالله تعجبني ثقتك، وعن طاعة الله يسوءني إعراضك، كل واحدة من المسألتين خطأ؛ لأن الثقة والإعراض لا يحل محلهما مستقبل يكون فاعل الفعل، فإذا كانا جامدين ممنوعين من التصرف لزمت صلتهما التأخير. ولهذه العلة أحال النحويون: طعامك جاءني الآكل، وحقك لقيت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 الآخذ؛ لأن حكم الطعام والحق التأخر بعد ناصبهما، ولا وجه لتقدمهما عليه؛ إذ كان غير متصرف. تمت المجالس بزياداتها، والله الموفق بلطفه وصلواته على خير خلقه سيدنا محمد وعلى آله وصبحه والتابعين. وحسبنا الله ونعم الوكيل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266