الكتاب: الدرة الثمينة في أخبار المدينة المؤلف: محب الدين أبو عبد الله محمد بن محمود بن الحسن المعروف بابن النجار (المتوفى: 643هـ) المحقق: حسين محمد علي شكري الناشر: شركة دار الأرقم بن أبي الأرقم عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] أعده للشاملة: يا باغي الخير أقبل ---------- الدرة الثمينة في أخبار المدينة ابن النجار، محب الدين الكتاب: الدرة الثمينة في أخبار المدينة المؤلف: محب الدين أبو عبد الله محمد بن محمود بن الحسن المعروف بابن النجار (المتوفى: 643هـ) المحقق: حسين محمد علي شكري الناشر: شركة دار الأرقم بن أبي الأرقم عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] أعده للشاملة: يا باغي الخير أقبل الدرة الثمينة في أخبار المدينة لابن النجار الإمام الحافظ أبي عبد الله محمد بن محمود بن النجار البغدادي (578 - 643 هـ) قابل أصوله الخطية وعلق عليه حسين محمد علي شكري شركة دار الأرقم بن أبي الأرقم مقدمة المؤلف بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. أخبرنا الفقيه الأجل الإمام العالم الشريف العدل؛ تاج الدين علي بن أبي العباس أحمد بن الشيخ الأجل أبي محمد عبد المحسن بقراءتي عليه. أخبرنا الشيخ الفقيه الأجل أبو عبد الله محمد بن محمود بن النجار بقراءة أبي عليه، وقراءة ابن الوليد عليه وأنا أسمع، قال: الحمد لله حمداً يقتضي من إحسانه المزيد، ويبلغنا من رضوانه ما نؤمل ونريد، والصلاة والسلام على من هدانا إلى المنهج السديد، محمد الذي هو على أمته شهيد، وعلى آله وأصحابه ذوي المجد المشيد، ما سار راكب في البيد. وبعد؛ فإني لما دخلت مدينة النبي صلى الله عليه وسلم، وأسعدت بزيارته أقمت بها، واجتمعت بجماعة من أهل الصلاح والعلم والفضل من المجاورين بها، وفقهم الله وإيانا لمرضاته، فسألوني عن ((فضائل المدينة وأخبارها)) فأخبرتهم بما تعلق في خاطري من ذلك، فسألوني إثباته في أوراق، فاعتذرت إليهم بأن الحفظ قد يزيد وينقص، ولو كانت كتبي حاضرة كنت أجمع كتاباً في ذلك شافياً لما في النفس، فألحوا علي في ذلك وقالوا: تحصيل اليسير، خير من فوات الكثير! وهذه البلدة مع شرفها قد خلت ممن يعرف من أخبارها شيئاً، ونحن نحب أن يكون لك بها أثر صالح تذكر به! فأجبتهم إلى ذلك رجاء بركتهم، واغتناماً لامتثال أمرهم، وقضاء لحق جوارهم وصحبتهم، وطلباً لما عند الله تعالى من الثواب بنشر فضائل دار الهجرة ومنبع الوحي، وذكر أخبارها والترغيب في سكناها، والحث على زيارة المدفون بها، صلوات الله عليه وسلامه، واستخرت الله سبحانه وتعالى، وأثبت في هذا الكتاب ما تيسر من ذلك بعون الله تعالى وحسن توفيقه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 ثم إني ذكرت أكثره بغير إسناد لتعذر حضور أصولي.. .. وأنا أسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل ذلك لوجهه خالصاً وإليه مقرباً، ولنا نافعاً في الدنيا والآخرة، إنه على ما يشاء قدير. وقد قسمته ثمانية عشر باباً، والله سبحانه الموفق للصواب: الباب الأول: في ذكر أسماء المدينة وأول ساكنيها. الباب الثاني: في ذكر فتح المدينة. الباب الثالث: في ذكره هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إليها. الباب الرابع: في ذكر فضائلها. الباب الخامس: في ذكر تحريمها وحدود حرمها. الباب السادس: في ذكر وادي العقيق وفضله. الباب السابع: في ذكر آبار المدينة وفضلها. الباب الثامن: في ذكر جبل أحد وفضله وفضائل الشهداء به. الباب التاسع: في ذكر إجلاء بني النضير من المدينة. الباب العاشر: في ذكر حفر الخندق حول المدينة. الباب الحادي عشر: في ذكر قتل بني قريظة بالمدينة. الباب الثاني عشر: في ذكر مسجد النبي صلى الله عليه وسلم وفضله. الباب الثالث عشر: في ذكر المساجد التي بالمدينة وفضلها. الباب الرابع عشر: في ذكر مسجد الضرار وهدمه. الباب الخامس عشر: في ذكر وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه رضي الله عنهما. الباب السادس عشر: في ذكر فضل زيارة النبي صلى الله عليه وسلم. الباب السابع عشر: في ذكر البقيع وفضله. الباب الثامن عشر: في ذكر أعيان من سكن المدينة من الصحابة والتابعين من بعدهم. ومن الله نستمد الهداية والسداد، إلى سبل الحق والرشاد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 الباب الأول في ذكر أسماء المدينة وذكر أول ساكنيها أنبأنا ذاكر بن كامل قال: كتب إلي أبو علي الحداد أن أبا نعيم الحافظ أخبره إجازة، عن أبي محمد الخلدي قال: أنبأنا محمد بن عبد الرحمن المخزومي، حدثنا الزبير بن بكار، قال: حدثنا محمد بن الحسن بن زبالة، عن إبراهيم بن أبي يحيى. قال: للمدينة في التوراة أحد عشر اسماً: المدينة، وطيبة، وطابة، والمسكينة، وجابرة، والمجبورة، والمرحومة، والعذراء، والمحبة، والمحبوبة، والقاصمة. وقال ابن زبالة: عن عبد العزيز بن محمد بن موسى بن عقبة، عن عطاء بن مروان، عن أبيه، عن كعب. قال: نجد في كتاب الله الذي نزل على موسى عليه السلام أن الله تعالى قال للمدينة: ((يا طيبة، يا طابة، يا مسكينة، لا تقبلي الكنوز، ارفعي أجاجيرك على أجاجير القرى)) . قال عبد العزيز بن محمد: وبلغني أن لها في التوراة أربعين اسماً. وفي ((صحيح مسلم)) من حديث جابر بن سمرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إن الله تعالى سمى المدينة طابة)) . وفي ((صحيح مسلم)) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((هي المدينة يثرب)) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 وقال أبو عبيدة معمر بن المثنى: يثرب اسم أرضٍ، ومدينة النبي صلى الله عليه وسلم في ناحية منها. وقال ابن زبالة: كانت يثرب أم قرى المدينة، وهي ما بين طرف قناة إلى طرف الجرف، وما بين المال الذي يقال له: البرني إلى زبالة. وكانت زهرة من أعظم قرى المدينة، قيل: وكان فيها ثلاثمائة صائغ من اليهود. وقيل: إن تبعاً لما قدم المدينة بعث رائداً ينظر إلى مزارع المدينة فأتاه فقال: قد نظرت؛ فأما قناة فحبٌ ولا تبنٌ، وأما الحرار فلا حبٌ ولا تبنٌ، وأما الجرف فالحب والتبن. قال أهل السير: كان أول من نزل المدينة بعد غرق قوم نوح قوم يقال لهم: صعل، وفالج. فغزاهم داود النبي عليه السلام، فأخذ منهم مائة ألف عذراء، قال: وسلط الله عليهم الدود في أعناقهم فهلكوا، فقبورهم هذه التي في السهل والجبل. قالوا: وكانت العماليق قد انتشروا في البلاد، فسكنوا مكة والمدينة والحجاز كله، وعتوا عتواً كبيراً، فبعث إليهم موسى –عليه السلام- جنداً من بني إسرائيل فقتلوهم بالحجاز وأفنوهم. يروى عن زيد بن أسلم أنه قال: بلغني أن ضبعاً رؤيت هي وأولادها رابضةً في حجاج عين رجل من العماليق. وقال: لقد كان في ذلك الزمان تمضي أربعمائة سنة وما يسمع بجنازة!. ذكر سكنى اليهود الحجاز قال: وإنما كان سبب سكنى اليهود بلاد الحجاز أن موسى عليه السلام لما أظهره الله على فرعون وأهلكه وجنوده، وطئ الشام وأهلك من بها، وبعث بعثاً من اليهود إلى الحجاز وأمرهم ألا يستبقوا من العماليق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 أحداً بلغ الحلم، فقدموا عليهم فقتلوهم وقتلوا ملكهم ((نبنما)) . وكان يقال له: الأرقم بن أبي الأرقم، وأصابوا ابناً له شاباً من أحسن الناس، فضنوا به عن القتل، وقالوا: نستحييه حتى نقدم به على نبي الله موسى عليه السلام فيرى فيه رأيه، فأقبلوا وهو معهم، وقبض الله موسى قبل قدومهم. فلما سمع الناس بقدومهم تلقوهم، فسألوهم عن أمرهم، فأخبروهم بما فتح الله عليهم وقالوا: لم نستبق منهم أحداً إلا هذا الفتى، فإننا لم نر شاباً أحسن منه فاستبقيناه حتى نقدم به على [نبي الله] موسى عليه السلام فيرى فيه رأيه. فقالت لهم بنو إسرائيل: إن هذه لمعصية لمخالفتكم أمر نبيكم، لا والله لا تدخلون علينا بلادنا، وحالوا بينهم وبين الشام، فقال الجيش، ما بلد إذ منعتم بلدكم خير من البلد الذي خرجتم منه. وكانت الحجاز أشجر بلاد الله وأظهره ماءً. قال: وكان هذا أول سكنى اليهود الحجاز بعد العماليق. وقال آخرون: بل كان علماؤهم يجدون في التوراة أن نبياً يهاجر من العرب إلى بلد فيه نخل بين حرتين، فأقبلوا من الشام يطلبون صفة البلد، فنزل طائفة تيماء وتوطنوا نخلاً، ومضى طائفة فلما رأوا خيبر ظنوا أنها البلدة التي يهاجر إليها، فأقام بعضهم بها، ومضى أكثرهم وأشرفهم فلما رأوا يثرب سبخةً وحرةً ونخلاً قالوا: هذا البلد الذي يكون له مهاجر النبي إليها، فنزلوه، فنزل النضير بمن معه بطحان فنزلوا منها حيث شاءوا وكان جمعيهم بزهرة، وهي محل بين الحرة والسافلة مما يلي القف، وكانت لهم الأموال بالسافلة، ونزل جمهورهم بمكان يقال له: يثرب بمجتمع السيول –سيل بطحان والعقيق، وسيل قناة- مما يلي زغابة. قال: وخرجت قريظة وإخوانهم بنو هدل وعمرو أبناء الخزرج بن الصريح بن التومان بن السبط بن اليسع بن سعد بن لاوي بن خير بن النحام بن تنحوم بن عازر بن عذري بن هارون بن عمران عليه السلام. والنضر بن النحام بن الخزرج بن الصريح بعد هؤلاء، فتبعوا آثارهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 فنزلوا العالية على واديين يقال لهما: مذينيب ومهزور، فنزلت بنو النضير على مذينيب واتخذوا عليه الأموال، ونزل قريظة وهدل على مهزور واتخذوا عليه الأموال. وكانوا أول من احتفر بها الآبار وغرس الأموال، وابتنوا الآطام والمنازل، قالوا: فجميع ما بنى اليهود بالمدينة تسعة وخمسون أطماً. قال عبد العزيز بن عمران: وقد نزل المدينة قبل الأوس والخزرج أحياء من العرب، منهم أهل التهمة تفرقوا جانب بلقيز إلى المدينة، فنزلت ما بين مسجد الفتح إلى يثرب في الوطاء، وجعلت الجبل بينها وبين المدينة، فأبرت بها الآبار والمزارع. ذكر نزول أحياء من العرب على يهود قالوا: وكان بالمدينة قرى وأسواق من يهود بني إسرائيل، وكان قد نزلها عليهم أحياء من العرب فكانوا معهم، وابتنوا الآطام والمنازل قبل نزول الأوس والخزرج؛ وهم: بنو أنيف حي من بلي، ويقال: إنهم من بقية العماليق، وبنو مزيد حي من بلي، وبنو معاوية بن الحارث بن بهثة بن سليم بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس بن عيلان، وبنو الجذماء حي من اليمن. قالوا: وكانت الآطام عز أهل المدينة ومنعتهم التي يتحصنون فيها من عدوهم، فكان منها ما يعرف اسمه ومنها ما لا يعرف اسمه، ومنها ما يعرف باسم سيده، ومنها ما لا يدرى لمن كان، ومنها ما ذكر في الشعر، ومنها ما لم يذكر، فكان ما بني هناك من الآطام للعرب بالمدينة ثلاثة عشر أطماً. ذكر نزول الأوس والخزرج المدينة قالوا: فلم تزل اليهود الغالبة بها الظاهرة عليها حتى كان من أمر سيل العرم ما كان وما قص الله في كتابه، وذلك أن أهل مأرب وهي أرض سبأ كانوا آمنين في بلادهم، تخرج المرأة بمغزلها لا تتزود شيئاً، تبيت في قرية وتقيل في أخرى حتى تأتي الشام. فقالوا: {ربنا باعد بين أسفارنا} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 فسلط الله عليهم العرم وهو جرذ، فنقب عليهم السد حتى دخل السيل عليهم فأهلكم، وتمزق من سلم منهم في البلاد، وكان السد فرسخاً في فرسخ، كان بناه لقمان الأكبر العادي، بناه للدهر على زعمه، وكان يجتمع إليه مياه أهل اليمن من مسيرة شهر. قالوا: فكانوا في عيدٍ لهم، وكان فيهم هتام بن ربيعة بن عمرو بن عامر، وكان كاهناً غيشوماً فقالت له بنو عمرو: قل. قال: قولي لكم وعليكم! قالوا: نعم، فقال: يا رب من ورث عاد ... اجعل مأرب بيننا فانعما صحاصحا غيراً وفجاً اقتما ... منها لأن الركب فيها أظلما فأوحش عليه الليل أزرما ... فكان تمزيقهم. ويروى أن طريفة بنت ربيعة الكاهنة، امرأة عمر وبن عامر بن ثعلبة ابن امرئ القيس بن ثعلبة بن مازن بن الأزد بن الغوث قالت له: إني أتيت في المنام فقيل لي: رب أمر ذاب، شديد الذهاب، بعيد الإياب، من واد إلى واد، وبلاد إلى بلاد، كدأب ثمود وعاد! ثم مكثت. ثم قالت: أتيت الليلة فقيل لي: شيخ هرم، وجعل لزم، ورجل قرم، ودهر ازم، وشر لزم، يا ويح أهل العرم. ثم قالت: أتيت الليلة، فقيل لي: يا طريفة لكل اجتماع فراق، فلا رجوع ولا تلاق، من أفق إلى آفاق. ثم قالت: أتيت الليلة في النوم، فقيل لي: رب إلب موالب، وصامت وخاطب، بعد هلاك مارب. قالت: ثم أتيت في النوم، فقيل لي: لكل شيء سبب، الأغبش ذو الذنب، الأشعر الأزب، فنقب بين المقر والقرب، ليس من كأس ذهب. فخرج عمرو وامرأته طريفة فدخلا العرم، فإذا هما بجرذ يحفر في أصله، ويقلب بيديه ورجليه الصخرة ما يقلبها خمسون رجلاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 فقال: هذا والله البيان، وكتم أمره وما يريده، وقال لابن أخيه وداعة ابن عمرو: إني سأشتمك في المجلس فالطمني، فلطمه، فقال عمرو: والله لا أسكن بلداً لطمت فيه أبداً. من يشتري مني أموالي؟ قال: فوثبوا واغتنموا غضبته وتزايدوا في ماله فباعه. فلما أراد الظعن قالت طريفة: من كان يريد خمراً وخميراً، وبراً وشعيراً، وذهباً وحريراً؛ فلينزل بصرى وسديراً. ومن أراد الراسيات في الوحل، المطعمات في المحل؛ فليلج يثرب ذات النخل. ومن كان ذا جمل شديد، وهم بعيد؛ فليلحق بأرض عمان. فلحقت منهم فرقة بالشام بقود طمر بن عمرو وهو غسان، ولحق عمران بن عامر وهم الأزد بأرض عمان وبها يومئذٍ شترن، ولحقت خزاعة بتهامة، ولحقت بنو عمرو بن ثعلبة وهم الأوس والخزرج ابنا حارثة بن عمرو بن ثعلبة بن عمرو بن عامر بيثرب وهي المدينة. قالوا: وكان ممن بقي بالمدينة من اليهود حين نزلت عليهم الأوس والخزرج، بنو قريظة وبنو النضير وبنو محمحم وبنو زعوراء وبنو قينقاع وبنو حجر وبنو ثعلبة، وأهل زهرة، وأهل زبالة، وأهل يثرب، وبنو القصيص وبنو ناغصة وبنو ماسكة، وبنو القمعة، وبنو زيد اللات، وهم رهط عبد الله، وبنو عكوة وبنو مرانة. قالوا: فأقامت الأوسط والخزرج بالمدينة، ووجدوا الأموال والآطام والنخل في أيدي اليهود، ووجدوا العدد والقوة معهم فمكثت الأوس والخزرج معهم ما شاء الله. ثم إنهم سألوهم أن يعقدوا بينهم وبينهم جواراً وحلفاً يأمن به بعضهم من بعض ويمنعون به من سواهم، فتعاقدوا وتحالفوا واشتركوا وتعاملوا. فلم يزالوا على ذلك زمناً طويلاً وأثرت الأوس والخزرج وصار لهم مال وعدد. فلما رأت قريظة والنضير حالهم خافوهم أن يغلبوهم على دورهم وأموالهم، فتنمروا لهم حتى قطعوا الحلف الذي كان بينهم، وكانت قريظة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 والنضير أعدوا وأكثروا، فأقامت الأوس والخزرج في منازلهم وهم خائفون أن تحتلهم يهود حتى نجم منهم مالك بن العجلان أخو بني سالم بن عوف بن الخزرج. ذكر قتل يهود واستيلاء الأوس والخزرج على المدينة قالوا: ولما نجم مالك بن العجلان، سوده الحيان عليهما فبعث هو وجماعة من قومه إلى من وقع بالشام من قومهم يخبرونهم حالهم، ويشكون إليهم غلبة اليهود عليهم، وكان رسولهم الرمق بن زيد بن امرئ القيس، أحد بني سالم بن عوف بن الخزرج وكان قبيحاً دميماً شاعراً بليغاً، فمضى حتى قدم الشام على ملكٍ من ملوك غسان الذين ساروا من يثرب إلى الشام يقال له: أبو جبيلة، من ولد جفنة بن عمرو بن عامر، وقيل: كان أحد بني جشم بن الخزرج وكان قد أصاب ملكاً بالشام وشرفاً. فشكى إليه الرمق حالهم وغلبة اليهود عليهم وما يتخوفون منهم، وإنهم يخشون أن يخرجوهم. فأقبل أبو جبيلة في جمع كبير لنصرة الأوس والخزرج، وعاهد الله لا يبرح حتى يخرج من بها من اليهود أو يذلهم ويصيرهم تحت يد الأوس والخزرج. فسار وأظهر أنه يريد اليمن حتى قدم المدينة وهي يومئذٍ يثرب، فلقيه الأوس والخزرج وأعلمهم ما جاء به. فقالوا: إن علم القوم ما تريد تحصنوا في آطامهم فلم نقدر عليهم، ولكن ادعهم للقائك وتلطف بهم حتى يأمنوك ويطمئنوا فتتمكن منهم. فصنع لهم طعاماً وأرسل إلى وجوههم ورؤسائهم، فلم يبق من وجوههم أحدٌ إلا أتاه، وجعل الرجل منهم يأتي بخاصته وحشمه رجاء أن يحبوهم الملك. وقد كان بنى له حيزاً وجعل فيه قوماً، وأمرهم من دخل عليهم منهم أن يقتلوه حتى أتى على وجوههم ورؤسائهم، فلما فعل ذلك عزت الأوس والخزرج في المدينة، واتخذوا الديار والأموال، وانصرف أبو جبيلة راجعاً إلى الشام وتفرقت الأوس والخزرج في عالية المدينة وسافلتها، وبعضهم جاء إلى عفاً من الأرض لا ساكن فيه فنزله، ومنهم من لجأ إلى قرية من قراها واتخذوا الأموال، والآطام، فكان ما ابتنوا من الآطام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 مائة وسبعة وعشرين أطماً وأقاموا وكلمتهم وأمرهم مجتمع، ثم دخلت بينهم حروب عظام. وكانت لهم أيام ومواطن وأشعار، فلم تزل الحروب بينهم إلى أن بعث الله نبيه صلى الله عليه وسلم وأكرمهم باتباعه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 الباب الثاني في ذكر فتح المدينة قالت عائشة رضي الله عنها: كل البلاد افتتحت بالسيف وافتتحت المدينة بالقرآن. قالت: وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعرض نفسه في كل موسم على قبائل العرب ويقول: ((ألا رجلٌ يحملني إلى قومه؟ فإن قريشاً قد منعوني أن أبلغ كلام ربي)) ، فيأبونه ويقولون: قوم الرجل أعلم به. حتى لقي في بعض السنين عند العقبة نفراً من الأوس والخزرج قدموا في المنافرة التي كانت بينهم. فقال لهم: ((من أنتم؟)) قالوا: نفرٌ من الأوس والخزرج! قال: ((من موالي اليهود؟)) قالوا: نعم، قال: ((أفلا تجلسون أكلمكم؟)) ، قالوا: بلى، فجلسوا معه فدعاهم إلى الله عز وجل وعرض عليهم الإسلام وتلا عليهم القرآن. وكانوا أهل شرك وأوثان، وكان إذا كان بينهم وبين اليهود الذين معهم بالمدينة شيء، قالت اليهود لهم -وكانوا أصحاب كتاب-: إن نبياً يبعث الآن قد أظل زمانه، فنتبعه ونقتلكم معه قتل عاد وإرم. فلما كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أولئك النفر ودعاهم إلى الله قال بعضهم لبعض: يا قوم تعلمون والله أنه للنبي الذي توعدكم به اليهود، فلا تسبقنكم إليه فاغتنموه وآمنوا به، فأجابوه فيما دعاهم إليه وصدقوه وقبلوا منه ما عرض عليهم من الإسلام. وقالوا: إنا قد تركنا قومنا وبينهم من العداوة والشر ما بينهم، وعسى أن يجمعهم الله بك، فسنقدم عليهم فندعوهم إلى أمرك ونعرض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدين، فإن يجمعهم الله عليك فلا رجل أعز منك. ثم انصرفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعين إلى بلادهم قد آمنوا وصدقوا. وكانوا ستة: أسعد بن زرارة، وعوف ابن عفراء –وهي أمه- وأبو الحارث بن رفاعة، ورافع بن مالك بن العجلان، وقطبة بن عامر بن حديدة، وعقبة بن عامر بن نابي، وجابر بن عبد الله بن رئاب. فلما قدموا المدينة إلى قومهم، ذكروا لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وما جرى لهم ودعوهم إلى الإسلام، ففشا فيهم حتى لم يبق بيتٌ ولا دارٌ من دور الأنصار إلا ولرسول الله صلى الله عليه وسلم فيها ذكر. فلما كان العام المقبل، وافى منهم اثنا عشر رجلاً فلقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعقبة وهي العقبة الأولى فبايعوه، فلما انصرفوا بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم معهم مصعب بن عمير إلى المدينة وأمره أن يقرئهم القرآن، ويعلمهم الإسلام ويفقههم في الدين، وكان منزله على أسعد بن زرارة. ولقيه في الموسم الآخر سبعون رجلاً من الأنصار ومعهم امرأتان فبايعوه، وأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه إلى المدينة، ثم خرج إلى الغار بعد ذلك وتوجه هو وأبو بكر رضي الله عنه إلى المدينة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 الباب الثالث في ذكر هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه أخبرنا يحيى بن أسعد المهاجر، وأبو القاسم بن كامل الحذاء وجماعة غيرهما فيما أذنوا لي في روايته عنهم قالوا: أنبأنا الحسن بن أحمد أبو علي الحداد، عن أبي نعيم أحمد بن عبد الله الأصفهاني، قال: كتب إلي جعفر بن محمد بن نصير، أبو محمد الخلدي، قال: أنبأنا أبو شريك محمد بن عبد الرحمن المخزومي بمكة، قال: حدثنا الزبير بن بكار، قال: حدثنا محمد ابن الحسن بن زبالة، عن جعفر بن صالح بن ثعلبة، عن حده، يعلى بن سلام، عن محمد بن عبد الله بن خزيمة بن ثابت: أن تبعاً لما قدم المدينة وأراد إخرابها، جاءه حبران من قريظة يقال لهما: تحيت ومنبه، فقالا: أيها الملك انصرف عن هذه البلدة فإنها محفوظة، وإنها مهاجر نبي من بني إسماعيل اسمه أحمد يخرج آخر الزمان، فأعجبه ما سمع وصدقهما وكف عن أهل المدينة. وفي ((الصحيحين)) من حديث أبي موسى الأشعري، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((رأيت في المنام أني مهاجر من مكة إلى أرضٍ بها نخلٌ، فذهب وهلي إلى اليمامة أو هجر، فإذا هي المدينة يثرب)) . وذكر البخاري في ((صحيحه)) أن النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر هذا المنام لأصحابه، هاجر من هاجر منهم قبل المدينة، ورجع عامة من كان هاجر بأرض الحبشة إلى المدينة، وتجهز أبو بكر رضي الله عنه قبل المدينة، فقال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((على رسلك، فإني أرجو أن يؤذن لي)) ، فقال له أبو بكر: وهل ترجو ذلك بأبي أنت وأمي؟ قال: ((نعم)) ، فحبس أبو بكر نفسه على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصحبه، وعلف راحلتين كانتا عنده الخبط أربعة أشهر. قالت عائشة رضي الله عنها: بينما نحن يوماً جلوس في بيت أبي بكر في نحر الظهيرة، فقال قائل لأبي بكر رضي الله عنه: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقبلاً متقنعاً في ساعة لم يكن يأتينا فيها، قال أبو بكر رضي الله عنه: فداً له أبي وأمي، والله ما جاء به في هذه الساعة إلا أمرٌ. قالت: فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستأذن، فأذن له، فدخل فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: أخرج من عندك، فقال أبو بكر رضي الله عنه: إنما هم أهلك –بأبي أنت يا رسول الله- قال: فإني قد أذن لي في الخروج، فقال أبو بكر رضي الله عنه: فالصحبة بأبي أنت وأمي يا رسول الله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((نعم) ، قال أبو بكر رضي الله عنه: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، خذ إحدى راحلتي هاتين، قال رسول الله: ((بالثمن)) . قالت عائشة رضي الله عنها: فجهزناهما أحث الجهاز، ووضعنا لهما سفرةً في جراب، فقطعت أسماء بنت أبي بكر قطعةً من نطاقها فربطت به على فم الجراب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن لها به نطاقين في الجنة)) ، فبذلك سميت ((ذات النطاقين)) . قالت: ثم لحق رسول الله صلى الله عليه وسلم بغارٍ في جبل ثور، فمكثا فيه ثلاث ليال يبيت عندهما عبد الله بن أبي بكر وهو غلام شاب لقنٌ ثقفٌ، فيدلج من عندهما بسحر فيصبح مع قريشٍ بمكة كبائتٍ، فلا يسمع أمراً يكادان به إلا وعاه حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظلام، ويرعى عليهما عامر بن فهيرة مولى أبي بكر منحةً من لبن، فيريحها عليهما حين تذهب ساعة من العشاء، فيبيتان في رسل حتى ينعق بها عامر بغلسٍ. يفعل ذلك في كل ليلة من تلك الليالي الثلاث. واستأجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رجلاً من بني الدئل هادياً ماهراً بالهداية –وهو على دين كفار قريش- فأمناه فدفعا إليه راحلتيهما، وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال براحلتيهما صبح ثلاث، وانطلق معهما عامر بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 فهيرة والدليل الديلي فأخذ بهم طريق السواحل أسفل من عسفان، ثم عارض الطريق على أمج، ثم لقي الطريق بناحية فنزل في خيام أم معبد بنت الأشقر الخزاعية بأسفل ثنية لفت، ثم على الخرار، ثم على ثنية المرة، ثم سلك بهما لقفاً، ثم أجاز بهما مدلجة لقف ثم استبطن بهما مدلجة محاج، ثم سلك بهما مرجح محاج، ثم تبطن بهما مرجح من ذي الغضوين، ثم بطن من ذي كشر، ثم الأجرد، ثم ذا سلم، ثم أعداء مدلجة تعهن، ثم أجاز القاحة، ثم هبط العرج ثنية العامر عن يمين ركوبة، ويقال: بل ركوبة نفسها، ثم بطن رئم حتى انتهى إلى بني عمرو بن عوف بظاهر قباء، فنزل عليهم على كلثوم بن الهدم بن امرئ القيس بن الحارث وكان سيد الحي، وقد اختلف في اليوم الذي نزل فيه! وعن نجيح بن أفلح مولى بني ضمرة قال: سمعت بريدة بن الحصيب يخبر أنه بعث يساراً غلامه مع النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر رضي الله عنه من الحروات، قال: وهي موضع أسفل من ثنية هرشى، يدلهما على العابرين ركوبة. قال يسار: فخرجت حتى صعدت الثنية ورجزت به فقلت: هذا أبو القاسم فاستقيمي ... تعرضي مدارجاً وسومي تعرض الجوزاء للنجوم ... قال: فلما علوا ظهر الظهيرة حضرت الصلاة، فاستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم القبلة، فقام أبو بكر رضي الله عنه عن يمينه، وقمت عن يمين أبي بكر ودخلني الإسلام. فدفع رسول الله صلى الله عليه وسلم صدر أبي بكر فأخره، وأخرني أبو بكر فصففنا خلفه فصلينا، ثم خرجنا حتى قدمنا المدينة بكرة وكان يوم الاثنين، ولقي رسول الله صلى الله عليه وسلم الزبير في ركب من المسلمين كانوا تجاراً قافلين من الشام، فكسا الزبير رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر رضي الله عنه ثياب بياض. وسمع المسلمون بالمدينة بخروج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة، فكانوا يغدون كل غداة إلى الحرة ينتظرونه حتى يردهم حر الظهيرة، فانقلبوا يوماً بعد أن طال انتظارهم، فلما أووا إلى بيوتهم، رقى رجل من اليهود الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 أطماً من آطامهم لأمر ينظر إليه، فبصر برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مبيضين، فلم يملك اليهودي أن قال بأعلى صوته: يا معشر العرب! هذا جدكم الذي تنتظرونه، فثار المسلمون إلى السلاح فتلقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بظهر الحرة، فعدل بهم ذات اليمين حتى نزل بهم في بني عمرو بن عوف، وذلك يوم الاثنين من شهر ربيع الأول، فقام أبو بكر رضي الله عنه للناس وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم صامتاً، فطفق من جاء من الأنصار ممن آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم يحيي أبا بكر رضي الله عنه حتى أصابت الشمس رسول الله، فأقبل أبو بكر حتى ظلل عليه بردائه، فعرف الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك. ولما أقبل النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، كان مردفاً لأبي بكر رضي الله عنه وأبو بكر شيخٌ يعرف، ونبي الله شاب لا يعرف، قال: فيلقى الرجل أبا بكر فيقول: يا أبا بكر، من هذا الرجل الذي بين يديك؟ فيقول: هذا الرجل الذي يهديني السبيل، فيحسب الحاسب أنه يعني الطريق، وإنما يعني سبيل الخير. ولبث رسول الله صلى الله عليه وسلم في بني عمرو بن عوف بضع عشرة ليلة، وأسس المسجد الذي أسس على التقوى وصلى فيه، ثم ركب راحلته فصار يمشي معه الناس حتى بركت عند مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وهو يصلي فيه يومئذ رجال من المسلمين، وكان مربداً للتمر لسهيل وسهل غلامين يتيمين في حجر أسعد بن زرارة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بركت به راحلته: هذه إن شاء الله المنزل، ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالغلامين، فساومهما بالمربد ليتخذه مسجداً. فقالا: بل نهبه لك يا رسول الله، فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقبله منهما هبة حتى ابتاعه منهما ثم بناه مسجداً. وعن عبد الرحمن بن يزيد بن حارثة قال: لما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم على كلثوم بن الهدم، وصاح كلثوم بغلام له؛ يا نجيح، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنجحت يا أبا بكر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بقباء يوم الاثنين، ويوم الثلاثاء، ويوم الأربعاء، ويوم الخميس، وركب من قباء يوم الجمعة فجمع في بني سالم، فكانت أول جمعة جمعها في الإسلام. وكان يمر بدور الأنصار داراً داراً، فيدعونه إلى المنزل والمواساة، فيقول لهم: خيراً، ويقول: خلوها فإنها مأمورة. حتى انتهى إلى موضع مسجده اليوم، وكان المسلمون قد بنوا مسجداً يصلون فيه، فبركت ناقته ونزل، وجاء أبو أيوب الأنصاري، فأخذ رحله، وجاء أسعد بن زرارة فأخذ بزمام راحلته. فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من المسجد، تعلقت به الأنصار، فقال: المرء مع رحله، فنزل على أبي أيوب الأنصاري خالد بن يزيد بن كليب، ومنزله في بني غنم بن النجار. وعن أبي عمرو بن جحاش قال: اختار رسول الله صلى الله عليه وسلم المنازل، فنزل في منزله، ومسجده، فأراد أن يتوسط الأنصار كلها، فأحدقت به الأنصار. وقال البراء بن عازب: أول من قدم علينا مصعب بن عمير، وابن أم مكتوم، وكانا يقرئان الناس، ثم قدم عمار بن ياسر وبلال، ثم قدم عمر بن الخطاب في عشرين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. ثم قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما رأيت أهل المدينة فرحوا بشيء فرحهم برسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى جعل الإماء يقلن: قدم رسول الله فينا قدم، فما قدم حتى قرأت: {سبح اسم ربك الأعلى} في سور من المفصل. قالت عائشة رضي الله عنها: ((لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة وعك أبو بكر وبلال)) ، قالت: فدخلت عليهما. فقلت: يا أبت كيف تجدك؟ ويا بلال كيف تجدك؟ فكان أبو بكر رضي الله عنه إذا أخذته الحمى يقول: كل امرئ مصبحٌ في أهله ... والموت أدنى من شراك نعله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 قالت: وكان بلال إذا أقلعت عنه الحمى، يرفع عقيرته فيقول: ألا ليت شعري هل أبيتن ليلةً ... بوادٍ وحولي إذخرٌ وجليل وهل أردن يوماً مياه مجنةٍ ... وهل يبدون لي شامةٌ وطفيل قالت عائشة رضي الله عنها: فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فقال: ((اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد، وصححها، وبارك لنا في صاعها ومدها، وانقل حماها واجعلها بالجحفة)) . قال أهل السير: وأقام علي بن أبي طالب رضي الله عنه بمكة ثلاث ليال وأيامها حتى أدى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الودائع التي كانت عنده للناس، حتى إذا فرغ منها لحق برسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل معه على كلثوم بن الهدم. قالوا: ولم يبق بمكة من المهاجرين إلا من حبسه أهله أو فتنوه. أنبأنا أبو القاسم الزندوزدي، عن أبي علي المقري، عن أبي نعيم الحافظ، عن جعفر الخواص، قال: أخبرنا محمد بن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه في قول الله عز وجل: {وقل رب أدخلني مدخل صدقٍ وأخرجني مخرج صدقٍ واجعل لي من لدنك سلطاناً نصيراً} . قال: جعل الله مدخل صدقٍ المدينة، ومخرج صدقٍ مكة، وسلطاناً نصيراً الأنصار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 الباب الرابع في ذكر فضائلها وما جاء في ترابها أخبرنا عبد الرحمن بن علي الحافظ في كتابه قال: حدثنا معمر بن عبد الواحد إملاءً، قال: أنبأنا شكر بن أحمد، أنبأنا أبو سعيد الرازي الحافظ في كتابه، قال: قرأت على علي بن عمر بن أحمد، قال: حدثنا عبد الرحمن بن أبي حاتم، حدثنا سليمان بن داود، حدثنا أبو غزية، حدثنا عبد العزيز بن عمران، عن محمد بن إبراهيم بن إسماعيل بن ثابت بن قيس ابن شماس، عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((غبار المدينة شفاء من الجذام)) . أخبرتنا عفيفة الفارقانية في كتابها عن أبي علي المقري، عن أبي نعيم الحافظ، عن أبي محمد بن الخواص، قال: أخبرنا أبو يزيد المخزومي، حدثنا الزبير بن بكار، حدثنا محمد بن الحسن عن محمد بن فضالة، عن إبراهيم ابن الجهم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى بني الحارث فرآهم روباً. فقال: ((ما لكم يا بني الحارث روباً؟)) ، قالوا: نعم يا رسول الله، أصابتنا هذه الحمى، قال: ((فأين أنتم عن صعيب)) ؟ قالوا: يا رسول الله ما نصنع به؟ قال: ((تأخذون من ترابه فتجعلونه في ماء، ثم يتفل عليه أحدكم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 ويقول: ((باسم الله تراب أرضنا بريق بعضنا شفاء لمرضنا بإذن ربنا)) ، ففعلوا فتركتهم الحمى. قال أبو القاسم طاهر بن يحيى العلوي: ((صعيب)) وادي بطحان دون الماجشونية، وفيه حفرة مما يأخذ الناس منه وهو اليوم إذا ربا إنسان أخذ منه. قلت: ورأيت هذه الحفرة اليوم والناس يأخذون منها وذكروا أنهم جربوه فوجوده صحيحاً، وأخذت أنا منها أيضاً. وحدثنا ابن زبالة عن إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى، عن عمارة بن غزية، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث، عن أبي سلمة: أن رجلاً أتي به رسول الله صلى الله عليه وسلم وبرجله قرحة، فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم طرف الحصير، ثم وضع أصبعه التي تلي الإبهام على التراب بعد ما مسها بريقه. فقال: ((باسم الله ريق بعضنا، بتربة أرضنا، يشفى سقيمنا بإذن ربنا)) . ثم وضع أصبعه على القرحة فكأنما حل من عقال. ما جاء في ثمرها روى مسلم في ((الصحيح)) من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من أكل سبع تمرات مما بين لابتيها حين يصبح، لم يضره شيء حتى يمسي)) . وروى البخاري ومسلم في ((الصحيحين)) من حديث سعدٍ أيضاً عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من تصبح كل يوم سبع تمرات عجوة، لم يضره في ذلك اليوم سم ولا سحر)) . ما جاء في انقباض الإيمان إليها روى البخاري في ((صحيحه)) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إن الإيمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها)) . قلت: أي ينقبض إليها. ما جاء في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لها بالبركة أخبرنا أبو محمد بن علي الحافظ في كتابه، قال: أنبأنا يحيى بن علي القرشي، أنبأنا حيدرة بن علي الأنطاكي، أنبأنا أبو محمد بن أبي نصر، أنبأنا أحمد بن سليمان بن أيوب، حدثنا عبد الرحمن بن عمرو، حدثنا عبيد بن حسان، حدثنا الليث بن سعد، حدثني سعيد بن أبي سعيد، عن عمرو بن سليم الزرقي، عن عاصم بن عمرو، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كنا بالسقيا التي كانت لسعد بن أبي وقاص، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ائتوني بوضوء)) . فلما توضأ قام فاستقبل القبلة، ثم كبر ثم قال: ((اللهم إن إبراهيم كان عبدك وخليلك دعاك لأهل مكة بالبركة، وأنا محمد عبدك ورسولك أدعوك لأهل المدينة أن تبارك لهم في مدهم وصاعهم مثل ما باركت لأهل مكة مع البركة بركتين)) . أنبأنا عبد الرحمن بن علي الفقيه، قال: أخبرنا علي بن أبي محمد، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 أخبرنا أحمد بن محمد البزار، أخبرنا ابن مدرك، حدثنا الحسين بن محمد قال: حدثنا محمد بن عزيز، حدثني سلامة، عن عقيل، عن ابن شهاب، قال: أخبرني أنس بن مالك رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((اللهم اجعل بالمدينة ضعفي ما جعلت بمكة من البركة)) . أخرجاه في ((الصحيحين)) . وأخرج مسلم في ((صحيحه)) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان الناس إذا رأوا الثمر جاءوا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا أخذه قال: ((اللهم بارك لنا في ثمرنا، وبارك لنا في مدينتنا، وبارك لنا في صاعنا، وبارك لنا في مدنا، اللهم إن إبراهيم عبدك وخليلك ونبيك وإنه دعاك لأهل مكة، وإني أدعوك للمدينة بمثل ما دعاك لمكة ومثله معه)) . قال: ثم يدعو أصغر وليد فيعطيه ذلك الثمر. ما جاء في الصبر على لأوائها وشدتها روى مسلم في ((صحيحه)) من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لا يثبت أحدٌ على لأوائها وجهدها إلا كنت له شهيداً أو شفيعاً يوم القيامة)) . أنبأنا أبو محمد الشافعي قال: أخبرنا محمد بن الخليل بن فارس، حدثنا أبو القاسم بن أبي العلاء، أنبأنا محمد بن عبد الله الدوري، حدثنا محمد ابن موسى بن إبراهيم بن فضالة، حدثنا أبو بكر محمد بن زبان بن حبيب، أخبرنا محمد بن رمح، أنبأنا الليث، عن سعيد بن أبي سعيد عن أبي سعيد مولى المهري، أنه جاء أبا سعيد الخدري رضي الله عنه ليالي الحرة فاستشاره في الجلاء من المدينة، وشكا إليه أسعارها وكثرة عياله، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 وأخبره أن لا صبر له على جهد المدينة، فقال له: ويحك! لا آمرك بذلك، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا يصبر أحدٌ على جهد المدينة ولأوائها فيموت، إلا كنت له شفيعاً أو شهيداً يوم القيامة إذا كان مسلماً)) . ما جاء في ذم من رغب عنها خرج مسلم في ((الصحيح)) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((يأتي على الناس زمان يدعو الرجل ابن عمه وقريبه: هلم إلى الرخاء!، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون، والذي نفسي بيده، لا يخرج منهم أحدٌ رغبة عنها إلا أخلف الله فيها خيراً منه، ألا إن المدينة كالكير تخرج الخبيث، لا تقوم الساعة حتى تنفي المدينة شرارها كما ينفي الكير خبث الحديد)) . ما جاء في ذم من أخاف المدينة وأهلها أنبأنا أبو الفرج بن علي، قال أنبأنا عبد الوهاب الحافظ، أنبأنا أبو الحسين العاصمي، حدثنا أبو عمر بن مهدي، حدثنا عثمان بن أحمد السماك، حدثنا أحمد بن الخليل، والحسن بن موسى، قالا: حدثنا سعيد ابن زيد، حدثنا عمرو بن دينار، قال: حدثنا سالم بن عبد الله، قال: سمعت أبي يقول: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: اشتد الجهد بالمدينة وغلا السعر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((اصبروا يا أهل المدينة وأبشروا، فإني قد باركت على صاعكم ومدكم، كلوا جميعاً ولا تفرقوا، فإن طعام الرجل يكفي الاثنين، فمن صبر على لأوائها وشدتها كنت له شفيعاً وكنت له شهيداً يوم القيامة. ومن خرج عنها رغبة عما فيها أبدل الله عز وجل فيها من هو خيرٌ منه، ومن بغاها أو كادها بسوءٍ أذابه الله تعالى كما يذوب الملح في الماء)) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 أنبأنا أبو طاهر لاحق بن علي (قندرة) الصوفي، أنبأنا أبو القاسم الكاتب، أنبأنا أبو علي بن المذهب، أنبأنا أبو بكر القطيعي قال: أنبأنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، حدثني أبي، حدثني أنس بن عياض، حدثني يزيد بن خصيفة، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة، عن عطاء ابن يسار، عن السائب بن خلاد رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من أخاف أهل المدينة ظلماً أخافه الله، وعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين؛ لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفاً ولا عدلاً)) . أنبأنا أبو محمد بن الشافعي، عن أبي محمد بن طاووس، حدثنا سليمان ابن إبراهيم، حدثنا أبو عبد الله اليزدي، حدثنا محمد بن الحسن، حدثنا محمد بن محمود، حدثنا مكي بن إبراهيم، حدثنا هاشم بن عتبة بن أبي وقاص، عن عبد الله بن نسطاس، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من أخاف أهل المدينة؛ فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً، ومن أخاف أهلها فقد أخاف ما بين هذين ووضع يديه على جنبيه تحت ثدييه)) . وخرج البخاري في ((صحيحه)) من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لا يكيد أهل المدينة أحدٌ إلا انماع كما ينماع الملح في الماء)) . أخبرنا عبد الرحمن بن أبي الحسن في كتابه قال: أنبأنا أبو البركات بن المبارك، أنبأنا عاصم بن الحسن، أنبأنا عبد الواحد بن محمد، حدثنا ابن السماك، حدثنا إسحاق بن يعقوب، حدثنا محمد بن عبادة، حدثنا أبو ضمرة، عن عبد السلام بن أبي الجنوب، عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 عمرو بن عبيد، عن الحسن، عن معقل بن يسار رضي الله عنه. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((المدينة مهاجري، فيها مضجعي وفيها مبعثي، حقيقٌ على أمتي حفظ جيراني ما اجتنبوا الكبائر، من حفظهم كنت له شهيداً أو شفيعاً يوم القيامة، ومن لم يحفظهم سقي من طينة الخبال)) . قيل للمزني: ما طينة الخبال؟ قال: عصارة أهل النار. ما جاء في منع الطاعون والدجال من دخولها وفي ((الصحيحين)) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((على أنقاب المدينة ملائكة، لا يدخلها الطاعون ولا الدجال)) . وفيهما من حديث أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((ليس من بلدٍ إلى سيطؤه الدجال، إلا مكة والمدينة، ليس له نقبٌ من أنقابها إلا عليه الملائكة صافين يحرسونها، فينزل السبخة ثم ترجف المدينة بأهلها ثلاث رجفات، فيخرج إليه كل كافرٍ ومنافقٍ)) . وأخرج البخاري من حديث أبي بكرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يدخل المدينة رعب المسيح الدجال، لها يومئذٍ سبعة أبوابٍ على كل بابٍ ملكان)) . ذكر ما يؤول إليه أمرها أنبأنا القاسم بن علي، قال: أخبرنا عبد الرحمن بن أبي الحسن، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 أنبأنا سهل بن بشر، أنبأنا محمد بن الحسين، أنبأنا أبو طاهر الذهلي قال: حدثنا جعفر بن محمد الفريابي، حدثنا هشام بن عمار، أنبأنا يحيى بن حمزة، حدثنا الزبيدي، حدثنا الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لتتركن المدينة على خير ما كانت مدلاة ثمارها لا يغشاها إلا العوافي –يريد عوافي السباع والطير- وآخر من يحشر منها راعيان من مزينة يردان المدينة ينعقان بغنمها فيجدانها وحشاً، حتى إذا بلغا ثنية الوداع، خرا على وجوههما)) ، أخرجه البخاري في ((صحيحه)) . تضعيف الأعمال بها أخبرنا عبد العزيز بن محمود بن الأخضر، قال: أخبرنا عبد الأول بن عيسى بن شعيب السجزي، قال: أخبرنا محمد بن عبد العزيز الفارسي، أخبرنا عبد الرحمن بن أبي شريح، حدثنا ابن صاعد، حدثنا هارون بن موسى، حدثنا عمر بن أبي بكر الموصلي، عن القاسم بن عبد الله، عن كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((صلاة الجمعة بالمدينة كألف صلاةٍ فيما سواها)) . وبالإسناد عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((صيام شهر رمضان في المدينة كصيام ألف شهرٍ فيما سواها)) . فضيلة الموت بها أنبأنا عبد الرحمن بن علي قال: أنبأنا يحيى بن علي بن الطراح، قال: أنبأنا محمد بن أحمد المعدل، حدثنا محمد بن عبد الله الدقاق، حدثنا الصلت بن مسعود، حدثنا سفيان بن موسى، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 حدثنا أيوب، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من استطاع أن يموت بالمدينة فليمت، فإنه من مات بالمدينة شفعت له يوم القيامة)) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 الباب الخامس في ذكر تحريم النبي صلى الله عليه وسلم للمدينة وذكر حدود حرمها في ((الصحيحين)) من حديث عبد الله بن زيد بن عاصم، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إن إبراهيم حرم مكة ودعا لأهلها، وإني حرمت المدينة كما حرم إبراهيم مكة، وإني دعوت في صاعها ومدها بمثل ما دعا به إبراهيم لأهل مكة)) . وذكر أبو داود السجستاني في ((السنن)) من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((المدينة حرامٌ ما بين عائر إلى ثور، فمن أحدث حدثاً أو آوى محدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً، لا يختلى خلاها، ولا ينفر صيدها، ولا تلتقط لقطتها إلا لمن أنشد بها، ولا يصلح لرجل أن يحمل فيها السلاح لقتال، ولا يصلح أن يقطع منها شجرة إلا أن يعلف رجلٌ بعيره)) . وفي ((الصحيحين)) من حديث علي رضي الله عنه أيضاً، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((المدينة حرمٌ ما بين عير إلى ثور، فمن أحدث فيها حدثاً أو آوى محدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفاً ولا عدلاً)) . قال أبو عبيد القاسم بن سلام: عيرٌ وثورٌ جبلان، وأهل المدينة لا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 يعرفون بها جبلاً يقال له: ثور، إنما ثور بمكة، فنرى أن الحديث أصله ما بين عير إلى أحد. قلت: بل يعرف أهل المدينة جبل ثور، وهو جبلٌ صغيرٌ وراء أحد ولا ينكرونه. وفي ((السنن)) لأبي داود من حديث عدي بن زيد قال: حمى رسول الله صلى الله عليه وسلم كل ناحية من المدينة بريداً بريداً، لا يخبط شجرها ولا يعضد إلا ما يساق به الجمل. وفيها: أن سعد بن أبي وقاص أخذ رجلاً يصيد في حرم المدينة الذي حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسلبه ثيابه، فجاءوا إليه فكلموه فيه. فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرم هذا الحرم، وقال: ((من أخذ الصيد فيه فليسلبه ثيابه)) ، فلا أرد عليكم طعمةً أطعمنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن إن شئتم دفعت إليكم ثمنه. وفيها: عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يخبط شجرها ولا بعضد ولكن يهش هشاً رفيقاً)) . أخبرنا يحيى بن أبي الفضل الفقيه، أخبرنا عبد الله بن رفاعة، أنبأنا علي بن الحسن الشافعي، أخبرنا شعيب بن عبد الله، حدثنا أحمد بن الحسن الرازي، حدثنا أبو الزنباع، حدثنا عمرو بن خالد، حدثنا بكر بن مضر، عن ابن الهاد، عن أبي بكر بن محمد، عن عبد الله بن عمر، عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 رافع بن خديج رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: وذكر مكة. فقال: ((إن إبراهيم حرم مكة وإني أحرم ما بين لابتيها -يريد المدينة-)) . وفي ((صحيح البخاري)) في حديث الهجرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للمسلمين: ((إني رأيت دار هجرتكم ذات نخل بين لابتين وهما الحرتان)) . أنبأنا القاسم بن علي، قال: أنبأنا محمد بن إبراهيم، أنبأنا سهل بن بشر، أنبأنا علي بن منير، أنبأنا الذهلي، أنبأنا موسى بن هارون، حدثنا إبراهيم بن المنذر، حدثنا عبد العزيز بن أبي ثابت، حدثني أبو بكر بن النعمان بن عبد الله بن كعب بن مالك، عن أبيه، عن جده، عن كعب بن مالك رضي الله عنه. قال: حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم الشجر بالمدينة بريداً في بريد، وأرسلني فأعلمت على الحرم على شرف ذات الجيش، وعلى مشيرب، وعلى أشراف المجتهر، وعلى تيم. قلت: واختلف العلماء في صيد حرم المدينة وشجره؟ فقال مالك والشافعي وأحمد رضي الله عنهم: إنه محرم. وقال أبو حنفية رضي الله عنه: ليس بمحرم. واختلفت الرواية عن أحمد رضي الله عنه، هل يضمن صيدها وشجرها بالجزاء؟ فروي عنه أنه لا جزاء فيه، وبه قال مالك رضي الله عنه. وروي أنه يضمن، وللشافعي رضي الله عنه قولان كالروايتين. وإذا قلنا بضمانه؛ فجزاؤه سلب القاتل يتملكه الذي يسلبه. ومن أدخل إليها صيداً لم يجب عليه رفع يديه عنه، ويجوز له ذبحه وأكله، ويجوز أن يؤخذ من شجرها ما تدعو الحاجة إليه للرحل والوسائد، ومن حشيشها ما يحتاج إليه للعلف، بخلاف مكة! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 الباب السادس في ذكر وادي العقيق وفضله روى البخاري في ((الصحيح)) من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم بوادي العقيق يقول: ((أتاني الليلة آتٍ من ربي عز وجل، فقال: صل في هذا الوادي المبارك وقل: عمرةٌ في حجة)) . وكان عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما ينيخ بالوادي يتحرى معرس رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقول: هو أسفل من المسجد الذي ببطن الوادي، بينه وبين الطريق، وسط من ذلك. أنبأنا يحيى بن أسعد الخباز قال: كتب إلي أبو علي المقري، عن أحمد ابن عبد الله الأصبهاني قال: أنبأنا جعفر بن محمد الزاهد إجازة، قال: أنبأنا أبو يزيد المخزومي، حدثنا الزبير بن بكار، حدثنا محمد بن الحسن، عن عمر بن عثمان بن عمر، حدثنا موسى، عن أيوب بن سلمة، عن عامر بن سعد بن أبي وقاص قال: ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى العقيق، ثم رجع فقال: ((يا عائشة، جئنا من هذا العقيق فما ألين موطئه وأعذب ماءه)) . قالت: يا رسول الله أفلا ننقل إليه؟ فقال: ((كيف وقد ابتنى الناس؟!)) . قالت: ووجد على قبر آدمي عند جماء أم خالد بالعقيق حجر مكتوب: أنا عبد الله ورسول الله سليمان بن داود إلى أهل يثرب. ووجد حجر آخر على قبر أيضاً عليه مكتوب: أنا أسود بن سوادة رسول رسول الله عيسى بن مريم إلى أهل هذه القرية. قلت: وابتنى بعض الصحابة بالعقيق ونزلوه، وكذلك جماعة من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 التابعين ومن بعدهم، وكانت فيه القصور المشيدة والآبار العذبة. ولأهلها أخبار مستحسنة في الكتب، وأشعار رائقة. ولما بنى عروة بن الزبير رضي الله عنه قصره بالعقيق ونزله قيل له: جفوت عن مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم!! فقال: إني رأيت مساجدهم لاهية، وأسواقهم لاغية، والفاحشة في فجاجهم عالية، فكان بعدي مما هنالك عما هم فيه عافية. قال أهل السير: كانت بنو أمية تجري في الديوان رزقاً على من يقوم على حوض مروان بن الحكم بالعقيق في مصلحته، وفيما يصلح بئر المغيرة من علقها ودلائها. قالوا: ومر هشام بن عبد الملك وهو يريد المدينة بجرر هشام بن إسماعيل بالرابغ، فقيل له: يا أمير المؤمنين هذه جرر جدك هشام، فأمر بإصلاحها وما يقيمها من بيت المال، فكانت توضع هناك جرار أربع يسقى منهن الناس. قالوا: وولى رسول الله صلى الله عليه وسلم العقيق لرجل اسمه هيصم المزني، ولم تزل الولاة على المدينة يولون والياً من عهد النبي صلى الله عليه وسلم، حتى كان زمان داود ابن عيسى، فتركه في سنة ثمان وتسعين ومائة. قالوا: ومات سعيد بن زيد، وسعد بن أبي وقاص رضي الله عنهما، وهما من العشرة بالعقيق، وحملا إلى المدينة فدفنا بها. قلت: ووادي العقيق اليوم ليس به ساكن، وفيه بقايا بنيان خراب، وآثار تجد النفس برؤيتها أنساً كما قال أبو تمام: ما ربع مية معموراً يطيف به ... غيلان أبهى رباً من ربعها الخرب ولا الخدود وإن أدمين من خجل ... أشهى إلى ناظري من خدها الترب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 الباب السابع في ذكر آبار المدينة وفضلها اعلم أنه قد نقل أهل السير أسماء آبار بالمدينة شرب منها النبي صلى الله عليه وسلم وبصق فيها، إلا أن أكثرها لا يعرف اليوم فلا حاجة إلى ذكرها، ونحن نذكر الآبار التي هي اليوم موجودة معروفة على ما يذكر أهل المدينة والعهدة عليهم في ذلك، ونذكر ما جاء في فضلها: بئر حاء روى البخاري في ((الصحيح)) من حديث أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: كان أبو طلحة أكثر أنصار المدينة مالاً من نخل، وكان أحب أمواله إليه بئر حاء، وكانت مستقبلة المسجد، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب. قال أنس: فلما نزلت هذه الآية: {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون} قام أبو طلحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إن الله عز وجل يقول: {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون} ، وإن أحب أموالي إلي بئر حاء، وإنها صدقة لله أرجو برها وذخرها عند الله، فضعها يا رسول الله حيث أراك الله، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بخ ذلك مالٌ رابحٌ، ذلك مالٌ رابحٌ، وقد سمعت ما قلت وإني أرى أن تجعلها في الأقربين)) ، فقال أبو طلحة: أفعل يا رسول الله، فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه. قلت: وهذه البئر اليوم وسط حديقة صغيرة جداً وعندها نخلات ويزرع حولها، وعندها بيت مبني على علو من الأرض، وهي قريبة من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 سور المدينة، وهي ملكٌ لبعض أهل المدينة من النويريين وماؤها عذب حلو، وذرعتها فكان طولها عشرة أذرع ونصف ماء، والباقي بنيان، وعرضها ثلاثة أذرع وشبر، وهي مقابلة المسجد كما ذكرت في الحديث. بئر أريس روى مسلم في ((صحيحه)) من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه؛ أنه توضأ في بيته ثم خرج، فقال: لألزمن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولأكونن معه يومي هذا. قال: فجاء المسجد فسأل عن النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: خرج وجه هاهنا، قال: فخرجت على أثره أسال عنه، حتى دخل بئر أريس. قال: فجلست عند الباب وبابها من جريد حتى قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجته وتوضأ، فقمت إليه، فإذا هو قد جلس على بئر أريس وتوسط قفهان وكشف عن ساقيه ودلاهما في البئر، قال: فسلمت عليه، ثم انصرفت فجلست عند الباب، فقلت: لأكونن بواب رسول الله صلى الله عليه وسلم اليوم. فجاء أبو بكر الصديق رضي الله عنه فدفع الباب، فقلت: من هذا؟ فقال: أبو بكر. فقلت: على رسلك، قال: ثم ذهبت فقلت: يا رسول الله! هذا أبو بكر يستأذن، فقال: ((ائذن له وبشره بالجنة)) ، قال: فأقبلت حتى قلت لأبي بكر: ادخل ورسول الله صلى الله عليه وسلم يبشرك بالجنة، قال: فدخل أبو بكر فجلس عن يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم معه في القف ودلى رجليه في البئر كما صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكشف عن ساقيه. ثم رجعت فجلست وقد تركت أخي يتوضأ ويلحقني، فقلت: إن يرد الله بفلان خيراً –يريد أخاه- يأت به، فإذا إنسان يحرك الباب فقلت: من هذا؟ فقال: عمر بن الخطاب، فقلت: على رسلك، ثم جئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلمت عليه وقلت: هذا عمر بن الخطاب يستأذن فقال: ((ائذن له وبشره بالجنة)) ، فجئت عمر فقلت: ادخل ويبشرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة، قال: فدخل فجلس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في القف عن يساره ودلى رجليه في البئر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 ثم رجعت فجلست، فقلت: إن يرد الله بفلان خيراً –يعني أخاه- يأت به، فجاء إنسان فحرك الباب، فقلت: من هذا؟ فقال: عثمان بن عفان، فقلت: على رسلك، قال: وجئت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فقال: ((ائذن له وبشره بالجنة مع بلوى تصيبه)) ، قال: فجئت وقلت: ادخل ويبشرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة مع بلوى تصيبك، قال: فدخل فوجد القف قد ملئ فجلس وجاههم من الشق الآخر. وقد أخرج البخاري في ((صحيحه)) هذا الحديث، فزاد فيه ألفاظاً ونقص، وقال: فدخل عثمان فلم يجد معهم مجلساً فتحول حتى جاء مقابلهم عن شقة البئر، فكشف عن ساقيه ثم دلاهما في البئر. وقال مسلم: قال سعيد بن المسيب: فتأولت ذلك قبورهم اجتمعت هاهنا وانفرد عثمان. وروى البخاري ومسلم في ((الصحيحين)) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله عليه السلام اتخذ خاتماً من ورق –أي فضة- وكان في يده، ثم كان في يد أبي بكر رضي الله عنه، ثم كان بعد في يد عمر رضي الله عنه، ثم كان في يد عثمان رضي الله عنه حتى وقع منه في بئر أريسٍ. وروى البخاري في ((الصحيح)) من حديث أنس رضي الله عنه قال: ((كان خاتم النبي صلى الله عليه وسلم في يده، وفي يد أبي بكر بعده، وفي يد عمر بعد أبي بكر. فلما كان عثمان جلس على بئر أريس فأخرج الخاتم، فجعل يعبث به فسقط، قال: فاختلفنا ثلاثة أيام مع عثمان ننزح البئر، فلم نجده)) . قلت: وهذه البئر مقابلة مسجد قباء، وعندها مزارع ويستقى منها، وماؤه عذب، وذرعتها فكان طولها: أربعة عشر ذراعاً وشبراً، منها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 ذراعان ونصف ماء، وعرضها خمسة أذرع، وطول قفها الذي جلس عليه النبي صلى الله عليه وسلم وصاحباه ثلاثة أذرع تشف كفاً، والبئر تحت أطمٍ عالٍ خراب من حجارة. بئر بضاعة روى أبو داود في ((السنن)) من حديث أبي سعيد الخدري قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقال له: إنه يستقى لك من بئر بضاعة، وهي بئر يلقى فيها لحوم الكلام والمحايض وعذر الناس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الماء طهور لا ينجسه شيء)) . أنبأنا أبو القاسم الصموت، عن الحسن بن أحمد، عن أحمد بن عبد الله، عن جعفر بن محمد، قال: أنبأنا أبو يزيد المخزومي، حدثنا الزبير بن بكار، حدثنا محمد بن الحسن، عن حاتم بن إسماعيل، عن محمد بن أبي يحيى، عن أمه، قالت: دخلنا على سهل بن سعد في نسوة، فقال: لو أني سقيتكن من بئر بضاعة لكرهتن ذلك، وقد والله سقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي منها. وحدثنا محمد بن الحسن، عن عبد المهيمن بن عباس بن سهل، عن أبيه، عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بصق في بئر بضاعة. وحدثنا محمد بن الحسن، عن إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى، عن مالك ابن حمزة بن أبي أسيد، عن أبيه، عن جده، أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا لبئر بضاعة. قال أبو داود السجستاني في ((السنن)) . سمعت –والله- قتيبة بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 سعيد يقول: سألت قيم بئر بضاعة عن عمقها، فقلت: أكثر ما يكون فيها الماء؟ قال: إلى العانة، قلت: فإذا نقص قال: دون العورة. قال أبو داود: قدرت بئر بضاعة بردائي مددته عليها، ثم ذرعته، فإذا عرضها ستة أذرع. وسألت الذي فتح باب البستان فأدخلني إليه، هل غير بناؤه عما كان عليه؟ فقال: لا، ورأيت فيها ماءً متغير اللون. قلت: وهذه البئر اليوم في بستانٍ وماؤها عذب طيب ولونه صاف أبيض، وريحه كذلك، ويستقى منها كثيراً، وذرعتها فكان طولها أحد عشرة ذراعاً وشبراً، منها: ذراعان راجحة ماء، والباقي بناء، وعرضها ستة أذرع، كما ذكر أبو داود في ((السنن)) . بئر غرس أخبرنا يحيى بن أسعد بخطه قال: أنبأنا أبو علي الحداد، عن أبي نعيم الأصبهاني، قال: كتب إلي أبو محمد الخواص، أن محمد بن عبد الرحمن أخبره، قال: أخبرنا الزبير بن بكار، حدثنا محمد بن الحسن، عن عبد العزيز بن محمد، عن سعيد بن عبد الرحمن بن قيس، قال جاءنا أنس بن مالك رضي الله عنه فقال: أين بئركم هذه –يعني بئر غرس-؟ فدللناه عليها، قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم جاءها وإنها لتسنى على حمار بسحر، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم بدلو من مائها فتوضأ منه، ثم سكبه فيها فما نزفت بعد. وحدثنا محمد بن الحسن، عن القاسم بن محمد، عن إبراهيم بن إسماعيل بن مجمع، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((رأيت الليلة أني أصبحت على بئر من الجنة، فأصبح على بئر غرس، فتوضأ منها وبصق فيها، وغسل منها حين توفي صلى الله عليه وسلم)) . وحدثنا محمد بن الحسن، عن سفيان بن عيينة، عن جعفر بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 محمد، عن أبيه قال: غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم من بئر يقال لها: غرس، وكان يشرب منها. قلت: وهذه البئر بينها وبين مسجد قباء نحو نصف ميل، وهي في وسط الشجر، وقد خربها السيل وطمها، وفيها ماء أخضر إلا أنه عذب طيب، وريحه الغالب عليه الأجون، وذرعتها فكان طولها سبعة أذرع شاقة، منها ذراعان ماء، وعرضها عشرة أذرع. بئر البصة أنبأنا ذاكر الحذاء، عن الحسن بن أحمد الأصبهاني، عن أحمد بن عبد الله الحافظ، عن جعفر بن محمد، قال: أخبرنا محمد بن عبد الرحمن، حدثنا الزبير بن بكار، حدثنا محمد بن الحسن، عن محمد بن موسى، عن سعيد ابن أبي زيد، عن ابن عبد الرحمن، أن أبا سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي الشهداء وأبناءهم ويتعاهد عيالهم، قال؛ فجاء يوماً أبا سعيد الخدري، فقال: هل عندك من سدرٍ أغسل به رأسي فإن اليوم الجمعة؟ قال: نعم، فأخرج له سدراً وخرج معه إلى البصة، فغسل رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه وصب غسالة رأسه وراقة شعره في البصة. قلت: وهذه البئر قريبة من البقيع، على طريق المار إلى قباء وهي بين نخل، وقد هدمها السيل وطمها، وفيها ماء أخضر، ووقفت على قفها وذرعت طولها، فكان أحد عشر ذراعاً منها ذراعان ماء، وعرضها تسعة أذرع، وهي مبنية بالحجارة، ولون مائها إذا انفصل منها أبيض، وطعمه حلو إلا أن الأجون غلب عليه، وذكر لي الثقة: أن أهل المدينة كانوا يستقون منها قبل أن يطمها السيل. بئر رومة روى أهل السير، أن تبعاً لما قدم المدينة نزل بقباء واحتفر البئر الذي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 يقال لها: بئر الملك، وبه سميت، فاستوبأ ماءها، فدخلت عليه امرأة من بني زريق من اليهود اسمها فكيهة، فشكا إليها وباء بئره، فانطلقت فأخذت حمارين واستقت له من ماء رومة، ثم جاءته فشربه، فقال: زيدينا من هذا الماء. وكتبت إلي عفيفة الأصبهانية، أن أبا علي الحداد أخبرها بخطه، عن أبي نعيم، قال: كتب إلي جعفر الخلدي أن أبا يزيد المخزومي أخبره، عن الزبير بن بكار، عن محمد بن الحسن، عن محمد بن طلحة، عن إسحاق بن يحيى، عن موسى بن طلحة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((نعم الحفيرة حفيرة المزني)) ؛ يعني رومة. فلما سمع بذلك عثمان بن عفان رضي الله عنه ابتاع نصفها بمائة بكرة وتصدق بها، فجعل الناس يسقون منها. فلما رأى صاحبها أن قد امتنع منه ما كان يصيب عليها، باع من عثمان رضي الله عنه النصف الثاني بشيء يسير فتصدق بها كلها. وروى البخاري في ((الصحيح)) من حديث أبي عبد الرحمن السلمي، أن عثمان حيث حوصر أشرف عليهم وقال: أنشدكم الله ولا أنشد إلا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: ((ألستم تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من حفر رومة فله الجنة؟ فحفرتها، ألستم تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من جهز جيش العسرة فله الجنة؟ فجهزتهم، قال: فصدقوه. قلت: وهذه البئر اليوم بعيدة عن المدينة جداً في براحٍ واسعٍ من الأرض وطيء، وعندها بناء من حجارة خرابٌ، قيل: إنه كان ديراً ليهود، والله أعلم. وحولها مزارع وآبار، وأرضها رملة وقد انتقضت خرزتها وأعلامها، إلا أنها بئر مليحة جداً مبنية بالحجارة الموجهة، وذرعتها فكان طولها ثمانية عشر ذراعاً، منها ذراعان ماء وباقيها مطموم بالرمل الذي تسفيه الرياح فيها، وعرضها ثمانية أذرع وماؤها صاف وطعمه حلو إلا أن الأجون غلب عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 قلت: واعلم أن هذه الآبار قد يزيد ماؤها في بعض الأزمان عما ذكرنا وقد ينقص، وربما بقي منها ما كان مطموماً. ذكر عين النبي صلى الله عليه وسلم أنبأنا يحيى بن أسعد، عن الحسن بن أحمد، عن أبي نعيم، عن جعفر ابن محمد، حدثنا محمد بن عبد الرحمن، حدثنا الزبير، حدثنا محمد بن الحسن، عن موسى بن إبراهيم بن بشير، عن طلحة بن خراش، قال: كانوا أيام الخندق يخرجون برسول الله صلى الله عليه وسلم ويخافون البيات، فيدخلون به كهف بني حرام فيبيت فيه، حتى إذا أصبح هبط. قال: ونقر رسول الله صلى الله عليه وسلم في العينية التي عند الكهف، فلم تزل تجري حتى اليوم. قلت: وهذه العين في ظاهر المدينة وعليها بناء وهي مقابلة المصلى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 الباب الثامن في ذكر جبل أحد وفضله وفضل الشهداء رضي الله عنهم روى البخاري في ((الصحيح)) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بدا له أحد فقال: ((هذا جبل يحبنا ونحبه)) . قال أبو عمر ابن عبد البر في معنى هذا الحديث: يحتمل أن الله خلق فيه الروح فأحب النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل: يحمل على المجاز. أخبرنا أبو غالب محمد بن المبارك الكاتب، وعبد العزيز بن أحمد الناقد قالا: أنبأنا محمد بن عمر الفقيه، أنبأنا جابر بن ياسين، أنبأنا عمر بن أحمد المقري، حدثنا عبد الله بن محمد البغوي، حدثنا إسحاق، حدثنا عبد الله ابن جعفر، حدثني أبو حازم، عن سهل، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أحد ركن من أركان الجنة)) . وكتب إلي أبو محمد بن أبي القاسم الحافظ، أن عبد الرحمن بن أبي الحسن، أخبره قال: أنبأنا سهل بن بشر، قال: أنبأنا أبو الحسن بن منير، قال: أنبأنا أبو طاهر محمد بن عبد الله الذهلي، قال: حدثنا موسى بن هارون، قال: حدثنا يعقوب، قال: حدثنا عبد العزيز بن محمد، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 عن طلحة ابن خراش بن جابر بن عتيك، عن جابر بن عتيك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((خرج موسى وهارون عليهما السلام حاجين أو معتمرين، فلما كانا بالمدينة مرض هارون فثقل، فخاف عليه موسى اليهود فدخل به أحداً، فمات فدفنه فيه)) . وروي عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لما تجلى الله تعالى لجبل طور سيناء، تشظى منه ست شظايا، فنزلت مكة، فكان حراء وثبير وثور، وبالمدينة: أحد وورقان وعير)) . قلت: فأحد معروف، وعير مقابله والمدينة بينهما، وورقان عند شعب علي رضي الله عنه. قلت: وكانت قريش قد جاءت من مكة لحرب النبي صلى الله عليه وسلم، ولقوه في يوم السبت للنصف من شوال سنة ثلاث من الهجرة عند جبل أحد، وكان بينهم من القتال ما أكرم الله به من أكرم من المسلمين بالشهادة بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخلص العدو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذب بالحجارة حتى وقع لشقه، فانكسرت رباعيته، وشج في وجهه وكلمت شفته، وكان ذلك كرامة له صلى الله عليه وسلم، ولأصحابه الذين استشهدوا بين يديه، وكانوا سبعين رجلاً: حمزة بن عبد المطلب، وعبد الله بن جحش، ومصعب بن عمير، وشماس بن عثمان. فهؤلاء الأربعة من المهاجرين. ومن الأنصار: عمرو بن معاذ بن النعمان، والحارث بن أنس بن رافع، وعمارة بن زياد بن السكن، وسلمة بن ثابت بن وقش، وعمرو بن ثابت ابن وقش، وأبو قيس ثابت، ورفاعة بن وقش، وحسيل بن ثابت – وهو اليمان أبو حذيفة-، وصيفي بن قيظي، وعباد بن سهل، وحباب بن قيظي، والحارث بن أوس بن معاذ، وإياس بن أوس بن عتيك، وعبيد بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 التيهان، ويقال: عتيك، وحبيب بن زيد بن تيم، ويزيد بن حاطب بن أمية ابن رافع، وأبو سفيان بن الحارث بن قيس بن زيد، وأنيس بن قتادة، وحنظلة بن أبي عامر بن صيفي، وأبو حبة بن عمرو بن ثابت أخو سعيد ابن خيثمة لأمه، وعبيد الله بن جبير بن النعمان، وخيثمة أبو سعد بن خيثمة، وعبد الله بن سلمة، وسبيع بن حاطب بن الحارث، وعمرو بن قيس بن زيد، وابنه قيس، وثابت بن عمرو بن زيد، وعامر بن مخلد، وأبو هبيرة بن الحارث بن علقمة، وعمرو بن مطرف بن علقمة، وأوس بن ثابت بن المنذر أخو حسان بن ثابت، وأنس بن النضر، وقيس بن مخلد، وكيسان عبد لبني النجار، وسليم بن الحارث، ونعمان بن عبد عمرو، وخارجة بن زيد، وسعد بن الربيع، وأنس بن الأرقم بن زيد، ومالك بن سنان أبو أبي سعيد الخدري، وسعيد بن سويد بن قيس، وعتبة بن ربيع ابن رافع، وثعلبة بن سعد بن مالك، وثقب بن فروة، وعبد الله بن عمرو ابن وهب، وضمرة حليف لبني طريف من جهينة، ونوفل بن عبد الله، وعباس بن عبادة، ونعمان بن مالك بن ثعلبة، والمجذر بن زياد، وعبادة بن الحسحاس، ورفاعة بن عمرو، وعبد الله بن عمرو بن حرام، وعمرو بن الجموح، وابنه خلاد، وأبو أيمن مولاه، وعنترة بن عمرو بن حديدة، ومولاه عنترة، وسهل بن قيس بن أبي كعب، وذكوان بن عبد قيس، وعبيد بن المعلى ابن لوذان، ومالك بن نميلة، والحارث بن عدي بن خرشة، ومالك بن إياس، وإياس بن عدي، وعمرو بن إياس. فهؤلاء الذين استشهدوا بين يديه صلى الله عليه وسلم، وقاتلوا وقتلوا، رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين. فأما حمزة رضي الله عنه فإن النبي صلى الله عليه وسلم وقف عليه، وقد مثل به؛ جدع أنفه وأذناه، وبقر بطنه عن كبده. فقال صلى الله عليه وسلم: ((لولا أن تحزن صفية وتكون سنةً من بعدي، لتركته حتى يكون في بطون السباع وحواصل الطير! لن أصاب بمثلك أبداً، ما وقفت موقفاً قط أغيظ لي من هذا)) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 ثم قال: ((جاءني جبريل وأخبرني أن حمزة مكتوبة في السموات السبع: حمزة بن عبد المطلب أسد الله وأسد رسوله)) . فأقبلت صفية بنت عبد المطلب أخت حمزة لأبيه ولأمه؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لابنها الزبير بن العوام: ((القها فأرجعها لا ترى ما بأخيها؛ فقال: يا أمه؛ رسول الله يأمرك أن ترجعي، قالت: ولم؟ وقد بلغني أنه مثل بأخي وذلك في الله، فما أرضانا بما كان من ذلك، لأحتسبن ولأصبرن إن شاء الله، فجاء الزبير فأخبره بذلك، فقال: خل سبيلها، فأتته فنظرت إليه وصلت عليه، واسترجعت واستغفرت له، فأمر به النبي صلى الله عليه وسلم فسجي ببردة، ثم صلي عليه فكبر عليه سبعين ودفنه)) . ولما رجع إلى المدينة سمع البكاء والنواح على القتلى، فذرفت عيناه صلى الله عليه وسلم وبكى. ثم قال: ((لكن حمزة لا بواكي له)) !! فجاء نساء بني عبد الأشهل، لما سمعوا ذلك فبكين على عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن على باب المسجد، فلما سمعهن خرج إليهن فقال: ((ارجعن يرحمكن الله فقد آيستن بأنفسكن)) . وأما عمارة بن زياد بن السكن رضي الله عنه، فإنه قاتل حتى أثبتته الجراحة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أدنوه مني)) ، فأدنوه منه، فوسده قدمه، فمات وخده على قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنه. وأما عمرو بن ثابت بن وقش، فإنه كان يأبى الإسلام، فلما كان يوم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 أحد، بدا له في الإسلام فأسلم، وأخذ بسيفه فغدا حتى دخل في عرض المسلمين، فقاتل حتى أثبتته الجراحة، فرآه المسلمون بين القتلى فقالوا: ما جاء بك يا عمرو!! أحرب على قومك، أم رغبة في الإسلام؟ قال: بل رغبة في الإسلام، آمنت بالله ورسوله وأسلمت ثم أخذت سيفي فغدوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقاتلت حتى أصابني ما أصابني. ثم مات في أيديهم فذكروه لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((إنه لمن أهل الجنة)) . وكان أبو هريرة رضي الله عنه يقول: حدثوني عن رجل دخل الجنة ولم يصل قط؟! فإذا لم تعرفه الناس قال: هو عمرو بن ثابت. وأما أبوه ثابت بن وقش، والحسيل –وهو اليمان أبو حذيفة رضي الله عنهما- فإنهما كانا شيخين كبيرين، ارتفعا في الآطام مع النساء والصبيان لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أحد. فقال أحدهما لصاحبه: لا أبالك ما تنتظر؟ فوالله إن بقي لواحدنا من عمره إلا طمر حمار، إنما نحن هامة اليوم أو غد، أفلا نحمل أسيافنا ونلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم لعل الله يرزقنا الشهادة معه؟ فأخذا أسيافيهما وخرجا حتى دخلا في الناس، فقاتلا حتى قتلا. وأما حنظلة بن أبي عامر رضي الله عنه، فإنه لما قتله المشركون قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن صاحبكم لتغسله الملائكة، فسألوا أهله ما شأنه)) . فسئلت صاحبته عنه، فقالت: خرج وهو جنب حين سمع النداء. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لذلك غسلته الملائكة)) . وأما أنس بن النضر رضي الله عنه، فإنه جاء إلى المهاجرين والأنصار وقد ألقوا ما بأيديهم، فقال: ما يجلسكم؟، قالوا: قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان الشيطان قد نادى بذلك، وفقده المسلمون لاختلاطهم فلم يعرفوه. فقال لهم أنس رضي الله عنه: فما تصنعون بالحياة بعده؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه. ثم قال: إني أجد ريح الجنة دون أحد، فمضى فاستقبل المشركين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 وقاتل حتى قتل، ولما وجدوه في القتلى ما عرفوه حتى عرفته أخته بشامة أبو ببنانة، وفيه بضع وثمانون طعنة وضربة ورمية بسهم. وأما سعد بن الربيع رضي الله عنه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((هل من رجل ينظر إلى ما فعل سعد بن الربيع، أفي الأحياء هو أم الأموات؟)) . فقال رجل من الأنصار: أنا أنظر لك يا رسول الله ما فعل، فنظر فوجده جريحاً في القتلى وبه رمق. قال: فقتل له: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرني أن أنظر في الأحياء أنت أم الأموات. قال: أنا في الأموات، فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم عني السلام وقل: إن سعد ابن الربيع يقول لك: جزاك الله عنا خير ما جزى نبياً عن أمته، وأبلغ قومك عني السلام وقل لهم: إن سعد بن الربيع يقول لكم: لا عذر لكم عند الله أن يخلص إلى نبيكم وفيكم عين تطرف. قال: ثم لم أبرح حتى مات، فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته. وأما عبد الله بن عمرو بن حرام رضي الله عنه، فإنه روى البخاري في ((الصحيح)) أن ابنه جابراً قال: لما قتل أبي، جعلت أبكي وأكشف الثوب عن وجهه، فجل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ينهوني، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ألا تبكه، ما زالت الملائكة تظلله بأجنحتها حتى رفعتموه)) . وأما عمرو بن الجموح، فإنه كان أعرج شديد العرج، وكان له بنون أربعة مثل الأسد يشهدون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم المشاهد، فلما كان يوم أحد، أرادوا حبسه وقالوا: إن الله قد عذرك، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن بني يريدون أن يحبسوني عن هذا الوجه والخروج معك فيه، فوالله إني لأرجو أن أطأ بعرجتي هذه في الجنة! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أما أنت فقد عذرك الله، فلا جهاد عليك، وقال لبنيه: ما عليكم ألا تمنعوه لعل الله يرزقه الشهادة)) . فخرج معه فقتل بأحد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 وروى البخاري في ((الصحيح)) أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد: ((أرأيت إن قتلت فأين أنا؟ قال: في الجنة، فألقى تمرات في يده ثم قاتل حتى قتل)) . وروى البخاري أيضاً من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يجمع بين الرجلين من قتلى أحدٍ في ثوبٍ واحدٍ، ثم يقول: ((أيهم أكثر أخذاً للقرآن؟)) فإذا أشير له إلى أحد قدمه في اللحد، وقال: ((أنا شهيدٌ على هؤلاء يوم القيامة)) ، وأمر بدفنهم في دمائهم، ولم يصل عليهم، ولم يغسلوا. وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((ما من جريح يجرح في الله إلا والله يبعثه يوم القيامة وجرحه يدمى، اللون لون دم، والريح ريح مسك)) . وروى البخاري في ((صحيحه)) من حديث أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أريت في رؤياي أني هززت سيفي فانقطع صدره، فإذا هو ما أصيب من المؤمنين يوم أحد، ثم هززته أخرى فعاد أحسن ما كان، فإذا هو ما جاء الله به يوم الفتح واجتماع المؤمنين)) . قال ابن إسحاق: وأنزل الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم من القرآن في يوم أحد ستين آية من آل عمران، فيها صفة ما كان من يومهم ذلك. وهي من قوله تعالى: {وإذ غدوت من أهلك} إلى قوله: {ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه} إلى آخر الآية. وروى ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم في أجواف طيور خضر ترد أنهار الجنة، وتأكل من ثمارها، وتأتي إلى قناديل من ذهب في ظل العرش، فلما وجدوا طيب مشربهم ومأكلهم وحسن مقيلهم)) ، قالوا: يا ليت إخواننا يعلمون ما صنع الله بنا، لئلا يزهدوا في الجهاد ولا يلتووا عن الحرب؟! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 فقال الله تبارك وتعالى: فأنا أبلغهم، فأنزل الله على رسوله {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا.. ... } الآيات. وروى البخاري في ((الصحيح)) عن عقبة بن عامر رضي الله عنه: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم على قتلى أحد بعد ثمان سنين كالمودع للأحياء والأموات، ثم طلع المنبر فقال: ((إني بين أيديكم فرط، وأنا عليكم شهيد، وإن موعدكم الحوض، وإني لأنظر إليه من مقامي هذا، وإني لست أخشى عليكم أن تشركوا، ولكن أخشى عليكم الدنيا أن تنافسوها)) . قال: فكانت آخر نظرة نظرتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وروى أبو داود في ((سننه)) من حديث طلحة بن عبيد الله رضي الله تعالى عنه قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نريد قبور الشهداء، حتى إذا أشرفنا على حرة واقم، فلما تدلينا منها فإذا قبور بمنحية، قال: فقلنا: يا رسول الله، أقبور إخواننا هذه؟ قال: ((قبور أصحابنا)) ، فلما جئنا قبور الشهداء قال صلى الله عليه وسلم: ((هذه قبور إخواننا)) . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في قتلى أحد: ((هؤلاء شهداء فأتوهم وسلموا عليهم، ولن يسلم عليهم أحدٌ ما قامت السموات والأرض إلا ردوا عليه)) . وروى جعفر بن محمد الصادق، عن أبيه، عن جده رضي الله عنهم: أن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت تختلف بين اليومين والثلاثة إلى قبور الشهداء بأحد، فتصلي هناك، وتدعو وتبكي حتى ماتت رضي الله عنها. وروى العطاف بن خالد قال: حدثتني خالة لي وكانت من العوابد، قالت: ركبت يوماً حتى جئت قبر حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه فصليت ما شاء الله، والله ما في الوادي داعٍ ولا مجيب وغلامي آخذ برأس دابتي، فلما فرغت من صلاتي، قمت فقلت: السلام عليكم، وأشرت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 بيدي، فسمعت رد السلام من تحت الأرض أعرفه كما أعرف أن الله سبحانه خلقني، فاقشعر جلدي وكل شعرة مني، فدعوت الغلام وركبت. وروى مالك في ((الموطأ)) : أن عمرو بن الجموح وعبد الله بن عمرو الأنصاريين رضي الله عنهما، كان السيل قد حفر قبرهما، وكانا في قبر واحد، وهما ممن استشهد يوم أحد، فحفر عنهما لينقلا من مكانهما، فوجدا كأنهما ماتا بالأمس، فكان أحدهما قد جرح فوضع يده على جرحه، فدفن وهو كذلك، فأمطيت يده عن جرحه، ثم أرسلت، فرجعت كما كانت، وكان بين أحد وبين يوم الحفر عنهما ست وأربعون سنة! قلت: وقبور الشهداء اليوم لا يعرف منها إلا قبر حمزة رضي الله عنه، فإنه قد بنت عليه أم الخليفة الناصر لدين الله -رحمها الله- مشهداً كبيراً، وجعلت عليه باباً من ساج منقوش وحوله حصناً، وعلى المشهد باب من حديد يفتح في كل يوم خميس، وقريب منه مسجدٌ يذكر أهل المدينة أنه موضع مقتله، والله أعلم بصحة ذلك. وأما بقية الشهداء فهناك حجارة موضوعة يذكر أنها قبورهم، وفي جبل أحدٍ غارٌ يذكرون أنه صلى الله عليه وسلم صلى فيه، وموضع في الجبل أيضاً منقوب في صخرة منه على قدر رأس الإنسان، يذكرون أنه صلى الله عليه وسلم قعد وأدخل رأسه هناك، كل هذا لم يرد به نقل، فلا يعتمد عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 الباب التاسع في ذكر إجلاء النبي صلى الله عليه وسلم بني النضير من المدينة وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد عقد حلفاً بين بني النضير من اليهود وبين بني عامر، فعدا رجل من بني النضير على رجلين من بني عامر فقتلهما، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى بني النضير يستعين في دية ذينك القتيلين. فقالوا له: نعم يا أبا القاسم، نعينك على ما أحببت. ثم خلا بعضهم ببعض فقالوا: إنكم لن تجدوا الرجل على مثل حاله هذه، -وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قاعداً إلى جنب جدار من بيوتهم-، فمروا رجلاً يعلو هذا البيت فيلقي عليه صخرة فيريحنا منه، وانتدب لذلك أحدهم، فصعد ليلقي عليه صخرة ورسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من أصحابه، فيهم أبو بكر وعمر وعلي رضي الله عنهم. فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر من السماء بما أراد القوم، فقام وخرج راجعاً إلى المدينة وأخبر أصحابه بما كانت اليهود همت به، وأمرهم بالتهيؤ لحربهم والسير إليهم، وسار حتى نزل بهم في ربيع الأول سنة أربع من الهجرة، فتحصنوا منه في الحصون، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقطع نخيلهم وتحريقها. وكان رهط من الخزرج من المنافقين قد بعثوا إلى بني إسرائيل: أن اثبتوا وتمنعوا فإنا لن نسلمكم، إن قوتلتم قاتلنا معكم، وإن خرجتم خرجنا معكم، فتربصوا ذلك منهم، فلم يفعلوا، وقذف الله في قلوبهم الرعب. فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجليهم ويكف عن دمائهم على أن لهم ما حملت الإبل من أموالهم إلا السلاح، ففعل، فاحتملوا من أموالهم ما استقلت به الإبل، فكان الرجل يهدم بيته ويأخذ بابه فيضعه على البعير وينطلق به، واستقلوا بالنساء والأبناء والأموال معهم، والدفوف والمزامير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 والقيان تعزف خلفهم، وخرجوا إلى خيبر، ومنهم من سار إلى الشام، وخلوا الأموال لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقسمها على المهاجرين الأولين دون الأنصار، إلا أن سهل بن حنيف وأبا دجانة سماك بن خرشة ذكراً فقراً، فأعطاهما رسول الله. ولم يسلم من بني النضير إلا رجلان: يامين بن عمير بن كعب، وأبو سعد بن وهب أسلما على أموالهما فأحرزاهما. فأنزل الله في بني النضير سورة الحشر بأسرها، يذكر فيها ما أصابهم الله به من نقمته، وما سلط عليهم به رسوله صلى الله عليه وسلم وما عمل فيهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 الباب العاشر في ذكر حفر النبي صلى الله عليه وسلم الخندق حول المدينة كان نفر من بني النضير الذين أجلاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد خرجوا فقدموا مكة على قريش، فدعوهم إلى حرب النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: إنا سنكون معكم عليه حتى نستأصله، فسرهم ذلك واتعدوا له وتجمعوا، ثم جاءوا غطفان فدعوهم إلى حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنهم معهم وأن قريشاً قد تابعوهم على ذلك، وخرجت قريش وغطفان بمن جمعوا معهم. فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب الخندق على المدينة، فعمل فيه رسول الله والمسلمون معه ودأبوا فيه. روى البخاري في ((الصحيح)) من حديث أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الخندق، فإذا المهاجرون والأنصار يحفرون في غداة باردة، ولم يكن لهم عبيد يعملون ذلك، فلما رأى ما بهم من النصب والجوع قال: اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة ... فاغفر للأنصار والمهاجرة فقالوا: مجيبين له: نحن الذين بايعوا محمداً ... على الجهاد ما بقينا أبداً وروى أيضاً من حديث البراء بن عازب رضي الله تعالى عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم ينقل التراب يوم الخندق حتى اغبر بطنه ويقول: والله لولا الله ما اهتدينا ... ولا تصدقنا ولا صلينا فأنزلن سكينة علينا ... وثبت الأقدام إن لاقينا إن الألى قد بغوا علينا ... إذا أرادوا فتنة أبينا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 ويرفع بها صوته: أبينا أبينا. قال ابن إسحاق: وحكت ابنة بشير بن سعد قالت: دعتني أمي فأعطتني حفنة من تمر في ثوبي، ثم قالت: اذهبي إلى أبيك وخالك بغدائهما. قالت: فأخذتهما، فانطلقت بها، فمررت برسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا ألتمس أبي وخالي. فقال: تعالي يا بنية، ما هذا معك؟ قالت: قلت: يا رسول الله هذا تمر، بعثتني به أمي إلى أبي بشير بن سعد، وخالي عبد الله بن رواحة، يتغديانه. قال: هاتيه؛ قالت: فصببته في كفي رسول الله صلى الله عليه وسلم فما ملأتهما، ثم أمر بثوب فبسط له، ثم دحا بالتمر عليه، فتبدد فوق الثوب، ثم قال لإنسان عنده: اصرخ في أهل الخندق أن هلم إلى الغداء! فاجتمع أهل الخندق عليه، فجعلوا يأكلون منه، وجعل يزيد حتى صدر أهل الخندق، وإنه ليسقط من أطراف الثوب. وروى جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن صخرة اشتدت عليهم فشكوها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعا بإناء من ماء فتفل فيه، ثم دعا بما شاء الله أن يدعو به، ثم نضح ذلك على تلك الصخرة فانهالت حتى عادت كالكثيب ما ترد فأساً ولا مسحاة. ولم يزل المسلمون يعملون فيه وينقلون التراب على أكتافهم، حتى فرغوا منه وأحكموه، وأقبلت قريش ومن تبعها في عشرة آلاف حتى نزلت بمجتمع السيول من رومة، وأقبلت غطفان ومن تبعها من أهل نجد حتى نزلوا بذنب نقمى إلى جانب أحد. وخرج رسول الله في ثلاثة آلاف حتى جعلوا ظهورهم إلى سلع، وضرب عسكره والخندق بينه وبين القوم، وأمر بالذراري والنساء فجعلوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 في الآطام، وخرج حيي بن أخطب النضري حتى أتى قريظة في دارها، وسألهم أن يكونوا معهم على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فذكروا أن بينهم وبينه عقداً وحلفاً، فلم يزل بهم حتى نقضوه وأجابوه إلى حرب سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، فبعث سعد بن معاذ وجماعة معه إليه لينظروا صحة ذلك، فأتوهم فوجدوهم على أخبث مما بلغهم عنهم، فنالوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا: لا عهد بيننا وبين محمدٍ صلى الله عليه وسلم ولا عقد، فشاتمهم سعدٌ وشاتموه. ثم أقبل بمن معه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه، فعظم عند ذلك البلاء واشتد الخوف، وأتاهم من فوقهم ومن أسفل منهم حتى ظن المؤمنون كل ظن، ونجم النفاق، حتى قال معتب بن قشير: كان محمد صلى الله عليه وسلم يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر، وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط. فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقام المشركون عليه بضعاً وعشرين ليلة، لم يكن بينهم حرب إلا النبل والرمي والحصار، إلا فوارس من قريش، فإنهم قاتلوا فقتلوا وقتلوا. ولما وقفوا على الخندق قالوا: إن هذه المكيدة ما كانت العرب تكيدها؛ ويقال: إن سلمان رضي الله تعالى عنه أشار به على النبي صلى الله عليه وسلم. ورمي سعد بن معاذ رضي الله عنه بسهم، فقطع أكحله، فقال: اللهم إن كنت أبقيت من حرب قريش شيئاً فأبقني لها، فإنه لا قوم أحب إلي أن أجاهدهم من قوم آذوا رسولك وكذبوه وأخرجوه؛ اللهم وإن كنت وضعت الحرب بيننا وبينهم فاجعله لي شهادة ولا تمتني حتى تقر عيني من بني قريظة. واستشهد يومئذٍ من المسلمين ستة نفر من الأنصار، هم: أنس بن أوس ابن عتيك، وعبد الله بن سهل، والطفيل بن النعمان، وثعلبة بن غنمة، وكعب بن زيد أصابه سهم فقتله، وسعد بن معاذ عاش حتى قتل النبي صلى الله عليه وسلم بني قريظة بحكمه واستجاب دعاءه ثم قبض شهيداً، وسيأتي ذكر وفاته. وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فيما وصف الله تعالى من الخوف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 والشدة، لتظاهر عدوهم عليهم، وإتيانهم من فوقهم ومن أسفل منهم، حتى هدى الله نعيم بن مسعود أحد غطفان للإسلام لإنفاذ أمره سبحانه في نصر نبيه وإقامة دينه. فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إني قد أسلمت وإن قومي لم يعلموا بإسلامي، فمرني بما شئت. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما أنت فينا رجلٌ واحدٌ، فخذل عنا إن استطعت، فإن الحرب خدعة. فخرج حتى أتى بني قريظة، وكان لهم نديماً في الجاهلية، فقال: يا بني قريظة، قد عرفتم ودي وخاصة ما بيني وبينكم، قالوا: صدقت، لست عندنا بمتهم. فقال لهم: إن قريشاً وغطفان ليسوا كأنتم، البلد بلدكم، به أموالكم وأبناؤكم ونساؤكم، لا تقدرون على أن تحولوا عنه إلى غيره، وإن قريشاً وغطفان قد جاءوا لحرب محمد، وقد ظاهرتموهم عليه، وبلدهم وأموالهم بغيره، فليسوا كأنتم، فإن رأوا نهزةً أصابوها، وإن كان غير ذلك، لحقوا ببلادهم وخلوا بينكم وبين الرجل ببلدكم، ولا طاقة لكم به إن خلا بكم، فلا تقاتلوا مع القوم حتى تأخذوا منهم رهناً من أشرافهم، يكونوا بأيديكم ثقةً لكم على أن تقاتلوا معهم محمداً حتى تناجزوه، قالوا: لقد أشرت بالرأي. ثم خرج حتى أتى قريشاً فقال لهم: قد عرفتم ودي لكم وفراقي محمداً، وإنه قد بلغني أمرٌ قد رأيت علي حقاً أن أبلغكموه نصحاً لكم، فاكتموه عني؟! قالوا: نفعل، قال: تعلمون أن اليهود قد ندموا على ما صنعوه فيما بينهم وبين محمدٍ، وقد أرسلوا إليه: إنا قد ندمنا على ما فعلنا، فهل يرضيك أن نأخذ من القبلتين؛ قريش وعطفان رجالاً من أشرافهم فنعطيكهم فتضرب أعناقهم، ثم نكون معك على من بقي حتى نستأصلهم؟ فأرسل إليهم: نعم. فإن بعثت إليكم يهود تطلب منكم رجلاً واحداً فلا تدفعوه. ثم خرج فأتى غطفان، فقال لهم مثل ما قال لقريش، فأرسلت قريش الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 إلى يهود أن اغدوا للقتال حتى نناجز محمداً، فقالوا: لسنا نقاتل معكم حتى تعطونا رهناً. فقالت قريش وغطفان: إن الذي حدثكم نعيم لحق، ثم أرسلوا إلى قريظة: إنا لن ندفع إليكم أحداً، فإن أردتم أن تقاتلوا فقاتلوا، فقالت قريظة: إن الذي قال لكم نعيم لحق. وخذل الله بينهم، وبعث عليهم الريح في ليالٍ باردةٍ شديدة البرد، فجعلت تكفئ قدورهم وتطرح أبنيتهم، فرجعوا إلى بلادهم. وكان مجيئهم وذهابهم في شوال سنة خمس من الهجرة. قلت: والخندق اليوم باقٍ، وفيه قناةٌ تأتي من عين بقباء إلى النخل الذي بأسفل المدينة بالسيح حوالي مسجد الفتح، وفي الخندق نخلٌ قد انطم أكثره وتهدمت حيطانه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 الباب الحادي عشر في ذكر قتل بني قريظة بالمدينة قال ابن إسحاق: ولما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخندق راجعاً إلى المدينة والمسلمون، ووضعوا السلاح، أتى جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم معتماً بعمامة من استبرق على بغلة عليها قطيفة من ديباج، فقال: أوقد وضعت السلاح يا رسول الله؟ قال: نعم، فقال جبريل: ما وضعت الملائكة السلاح بعد، وما رجعت الآن إلا من طلب القوم. إن الله عز وجل يأمرك بالسير إلى بني قريظة، فإني عامدٌ إليهم فمزلزلٌ بهم. فأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس: من كان سامعاً ومطيعاً، فلا يصلين العصر إلا ببني قريظة. وأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون فمر بنفرٍ من أصحابه، فقال: هل مر بكم أحدٌ؟ فقالوا: مر بنا دحية الكلبي على بغلة عليها قطيفة من ديباج، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذاك جبريل، بعث إلى بني قريظة يزلزل بهم حصونهم، ويقذف الرعب في قلوبهم. وأتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون، ونزل عليهم وحاصرهم خمساً وعشرين ليلة، حتى جهدهم الحصار وقذف في قلوبهم الرعب، فنزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتواثبت الأوس وقالوا: يا رسول الله إنهم موالينا دون الخزرج، فهبهم لنا. فقال صلى الله عليه وسلم: ألا ترضون يا معشر الأوس أن يحكم فيهم رجل منكم؟ قالوا: بلى، قال: فذلك إلى سعد بن معاذ. وكان سعد في خيمة في المسجد يداوي جرحه، فأتاه الأوس فأركبوه وأتوا به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أحكم فيهم أن تقتل الرجال، وتقسم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 الأموال، وتسبى الذراري، فقال صلى الله عليه وسلم: لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة. ثم استنزلوا بني قريظة من حصونهم فحبسوا بالمدينة في دار امرأة من بني النجار، ثم خرج صلى الله عليه وسلم إلى سوق المدينة فخندق بها خنادق، ثم بعث إليهم فجيء بهم، فضرب أعناقهم في تلك الخنادق وكانوا سبعمائة، وفيهم حيي بن أخطب النضري الذي حرضهم على نقض العهد وعلى محاربة النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يقتل من نسائهم إلا امرأة واحدة، فإنها كانت طرحت رحى على خلاد بن سويد من الحصن، فقتلته. فقتلها النبي صلى الله عليه وسلم به. وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد قتل منهم كل من أنبت، ومن لم ينبت استحياه، ثم قسم الرسول صلى الله عليه وسلم أموالهم ونساءهم وأبناءهم على المسلمين، وأنزل الله في بني قريظة وأمر الخندق الآيات من سورة الأحزاب: {يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنودٌ فأرسلنا عليهم ريحاً وجنوداً لم تروها} إلى قوله: {وأورثكم أرضهم وديارهم.. ... } . ولما فرغ صلى الله عليه وسلم من شأن بني قريظة، انفجر جرح سعد بن معاذ فمات منه شهيداً. وروي أن جبريل عليه السلام أتى النبي صلى الله عليه وسلم في جوف الليل، فقال: يا محمد، من هذا الميت الذي فتحت له أبواب السماء واهتز له العرش؟ فقام صلى الله عليه وسلم سريعاً يجر ثوبه إلى سعد، فوجده قد مات، رحمه الله ورضي عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 الباب الثاني عشر في ذكر مسجد النبي صلى الله عليه وسلم وفضله قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة حين اشتد الضحى من يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة مضت من ربيع الأول، فنزل في علو المدينة في بني عمرو بن عوف على كلثوم بن الهدم، فمكث عندهم الاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس، فأخذ مربد كلثوم فعمله مسجداً وأسسه، وصلى فيه إلى بيت المقدس. وخرج من عندهم يوم الجمعة عند ارتفاع النهار، فركب ناقته القصواء وحشد المسلمون ولبسوا السلاح عن يمينه وشماله، وخلفه منهم الماشي والراكب، واعترضه الأنصار فما يمر بدار من دورهم إلا قالوا: هلم يا رسول الله إلى القوة والمنعة والثروة، فيقول لهم خيراً ويدعو لهم، ويقول عن ناقته: إنها مأمورة خلوا سبيلها، فمر ببني سالم فأتى مسجدهم الذي في الوادي -وادي رانوناء- وأدركته صلاة الجمعة فصلى بهم هنالك، وكانوا مائة رجل، فكانت أول جمعة صلاها بالمدينة. ثم ركب راحلته وأرخى لها زمامها، وسار حتى انتهت به إلى زقاق الحبشي ببني النجار، فبركت على باب دار أبي أيوب الأنصاري، فنزل النبي صلى الله عليه وسلم، ينزل عليه القرآن ويأتيه جبريل حتى ابتنى مسجده ومساكنه. وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد نزل سفل بيت أبي أيوب، وذكر أبو أيوب أنه فوق النبي صلى الله عليه وسلم فلم يزل ساهراً حتى أصبح، فأتاه فقال: يا رسول الله إني أخشى أن أكون ظلمت نفسي أن أبيت فوق رأسك، فقال عليه الصلاة والسلام: السفل أرفق بنا وبمن يغشانا. فلم يزل أبو أيوب رضي الله عنه يتضرع إليه حتى انتقل إلى العلو، وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت أبي أيوب سبعة أشهر. وكان بنو مالك بن النجار يحملون كل يوم قصاع الثريد إلى النبي صلى الله عليه وسلم يتناوبون ذلك بينهم إلا سعد بن عبادة، فإنه ما كان يقطع جفنته في كل ليلة إلى دار أبي أيوب، فيدعو النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه فيأكلون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 وروى البخاري ومسلم في ((الصحيحين)) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أخذ المربد من بني النجار، كان فيه نخل وقبور المشركين وخرب، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالنخل فقطع، وبقبور المشركين فنبشت، وبالخرب فسويت. قال: فصفوا النخل قبلة له وجعلوا عضادتيه حجارة. قال: وكانوا يرتجزون ورسول الله صلى الله عليه وسلم معهم: اللهم إن الخير خير الآخرة ... فاغفر للأنصار والمهاجرة وجعلوا ينقلون الصخر، وطفق النبي صلى الله عليه وسلم ينقل اللبن معهم في ثيابه ويقول: هذا الحمال لا حمال خيبر ... هذا أبر ربنا وأطهر وبنى النبي صلى الله عليه وسلم مسجده مربعاً وجعل قبلته إلى بيت المقدس، وطوله سبعون ذراعاً أو يزيد، وجعل له ثلاثة أبواب: باباً في مؤخره، وباب عاتكة –وهو باب الرحمة-، والباب الذي كان يدخل منه النبي صلى الله عليه وسلم وهو باب عثمان. ولما صرفت القبلة إلى الكعبة سد النبي صلى الله عليه وسلم الباب الذي كان خلفه، وفتح الباب الآخر حذاءه، فكان المسجد له ثلاثة أبواب: باب خلفه، وباب عن يمين المصلى، وباب عن يساره، وجعلوا أساس المسجد من الحجارة وبنوا باقيه من اللبن. وفي ((الصحيحين)) كان جدار المسجد عند المنبر ما كانت الشاة تجوزه، وقالت عائشة رضي الله عنها: كان طول جدار المسجد بسطة، وكان عرض الحائط لبنة لبنة، ثم إن المسلمين كثروا فبنوه لبنة ونصفاً، ثم قالوا: يا رسول الله، لو أمرت فزيد فيه؟. قال: صلى الله عليه وسلم: نعم، فأمر به فزيد فيه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 وبنى جداره لبنتين مختلفتين، ثم اشتد عليهم الحر فقالوا: يا رسول الله، لو أمرت بالمسجد فظلل، قال: نعم، فأمر به فأقيم له سواري من جذوع النخل شقة ثم شقة، ثم طرحت عليها العوارض والخصف والإذخر، وجعل وسطه رحبة، فأصابتهم الأمطار فجعل المسجد يكف عليهم فقالوا: يا رسول الله، لو أمرت بالمسجد يعمر فطين، فقال لهم: ((عريش كعريش موسى ثمام وخشيبات والأمر أعجل من ذلك)) . فلم يزل كذلك حتى قبض صلى الله عليه وسلم. ويقال: إن عريش موسى عليه السلام كان إذا قام أصاب رأسه السقف. قال أهل السير: بنى النبي صلى الله عليه وسلم مسجده مرتين، بناه حين قدم أقل من مائة في مائة، فلما فتح الله عليه خيبر، بناه وزاد عليه في الدور مثله، وصلى النبي صلى الله عليه وسلم فيه متوجهاً إلى بيت المقدس ستة عشر شهراً، ثم أمر بالتحول إلى الكعبة، فأقام رهطاً على زوايا المسجد ليعدل القبلة، فأتاه جبريل عليه السلام فقال: يا رسول الله، ضع القبلة وأنت تنظر إلى الكعبة، ثم قال بيده هكذا، فأماط كل جبل بينه وبينهما، فوضع القبلة وهو ينظر إلى الكعبة لا يحول دون نظره شيء، فلما فرغ قال جبريل هكذا، فأعاد الجبال والشجر والأشياء على حالها وصارت قبلته إلى الميزاب. أخبرنا أبو القاسم المظفري والأزجي في كتابيهما عن أبي علي الأصفهاني، عن أبي نعيم الحافظ، عن أبي محمد الخلدي، أنبأنا محمد بن عبد الرحمن، حدثنا الزبير بن بكار، حدثنا محمد بن الحسن بن زبالة، حدثني عبد العزيز بن أبي حازم، عن هشام بن سعد بن أبي هلال، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كانت قبلة النبي صلى الله عليه وسلم الشام، وكان مصلاه الذي يصلي فيه بالناس إلى الشام من مسجده موضع الأسطوانة المخلقة اليوم خلف ظهرك، ثم تمشي إلى الشام، حتى إذا كنت بيمنى باب آل عثمان، كانت قبلته في ذلك الموضع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 فضيلة المسجد والصلاة فيه أنبأنا أبو عبد الله أحمد بن الحسن بن أحمد العطار، أخبرنا أبو سعد عمار بن طاهر الهمذاني، حدثنا مكي بن عبد السلام الرميلي، أنبأنا عبد العزيز بن أحمد النصيبي، أخبرنا محمد بن محمد الواسطي، حدثنا عمر بن الفضل بن مهاجر، حدثنا أبي، حدثنا الوليد بن حماد الرملي، حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تشد الرحال إلا لثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى)) ، أخرجه البخاري في ((صحيحه)) . أنبأنا القاسم بن علي، أخبرنا عبد الرحمن بن أبي الحسن، أخبرنا منهال بن بشر، أخبرنا علي بن محمد الفارسي، أنبأنا الذهلي، حدثنا أبو أحمد محمد بن عبدوس، حدثنا يعقوب بن حميد، حدثنا عبد العزيز بن أبي حازم، عن أبيه، عن سهل بن سعد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من دخل مسجدي هذا يتعلم خيراً أو يعلمه، كان بمنزلة المجاهد في سبيل الله. ومن دخله لغير ذلك من أحاديث الناس، كان كالذي يرى ما يعجبه وهو لغيره)) . أخبرنا أبو القاسم هبة الله بن الحسن الهمذاني في كتابه قال: أخبرنا القاضي أبو الحسين محمد بن محمد الفقيه، قال أنبأنا عبد العزيز بن أحمد النصيبي، أنبأنا أبو بكر محمد بن أحمد الواسطي، حدثنا عمرو بن الفضل ابن مهاجر، حدثنا أبي، حدثنا الوليد، أخبرنا محمد بن النعمان، أخبرنا سليمان بن عبد الرحمن، أخبرنا أبو عبد الملك، عن عبد الواحد بن زيد، عن شهر بن حوشب، عن عبد الله قال: سكن الخضر بيت المقدس فيما بين باب الرحمة إلى باب الأسباط وهو يصلي في كل جمعة في خمسة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 مساجد: المسجد الحرام، ومسجد المدينة، ومسجد بيت المقدس، ومسجد قباء، ويصلي كل ليلة جمعة في مسجد الطور، ويأكل كل جمعة أكلتين من كمأة وكرفس، ويشرب مرة من زمزم ومرة من جب سليمان الذي ببيت المقدس، ويغتسل من عين سلوان. أنبأنا أبو الفرج بن الجوزي قال: أنبأنا عباد بن أحمد الحسنباذي، قال: أخبرنا الحسن بن عمر الأصبهاني، أنبأنا الحسن بن علي البغدادي، حدثنا محمد بن علي الهمذاني، حدثنا محمد بن عمران، حدثنا يحيى بن نصير، أخبرنا موسى بن عبيدة، عن داود بن مدرك، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أنا خاتم الأنبياء، ومسجدي خاتم مساجد الأنبياء، أحق المساجد أن يزار وتركب إليه الرواحل، وصلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام)) . وأخرج مسلم في ((الصحيح)) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام)) . أخبرنا عبد الوهاب بن علي، أخبرنا عبد الوهاب بن المبارك الأنماطي، أنبأنا أبو محمد الصريفيني، أنبأنا أبو بكر بن عبدان، حدثنا عبد الواحد بن المهتدي بالله، حدثنا أيوب بن سليمان الصعدي، حدثنا أبو اليمان، حدثنا العطاف بن خالد، عن عبد الله بن عثمان بن الأرقم بن أبي الأرقم عن أبيه، عن جده رضي الله عنه قال: قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إني أريد أن أخرج إلى بيت المقدس. قال: ((فلم)) ! قلت: للصلاة فيه، قال: ((هاهنا أفضل من الصلاة هناك ألف مرة)) . أنبأنا أبو القاسم النعال، عن أبي علي الأصبهاني، عن أبي نعيم الحافظ، عن جعفر الخلدي، قال: أنبأنا أبو يزيد المخزومي، أخبرنا الزبير ابن بكار، أخبرنا محمد بن الحسن، حدثني إسماعيل بن المعلى، عن يوسف ابن طهمان، عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف رضي الله عنه أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من خرج على طهرٍ لا يريد إلا الصلاة في مسجدي حتى يصلي فيه، كان بمنزلة حجة)) . وحدثني محمد بن الحسن، حدثني حاتم بن إسماعيل، عن يحيى بن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الرحمن بن أبي لبيبة، عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تقوم الساعة حتى يغلب على مسجدي هذا الكلاب والذئاب والضباع، فيمر الرجل ببابه فيريد أن يصلي فيه فما يقدر عليه)) . ذكر حجر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم لما بنى رسول الله صلى الله عليه وسلم مسجده، بنى بيتين لزوجتيه عائشة وسودة رضي الله عنهما على نعت بناء المسجد من لبن وجريد النخل، وكان لبيت عائشة رضي الله عنها مصراعٌ واحدٌ من عرعر أو ساج، ولما تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه بنى لهن حجراً، وهي تسعة أبيات. وهي ما بين بيت عائشة رضي الله عنها إلى الباب الذي يلي باب النبي صلى الله عليه وسلم. قال أهل السير: ضرب النبي صلى الله عليه وسلم الحجرات ما بينه وبين القبلة والشرق إلى الشام، ولم يضربها في غربيه، وكانت خارجة من المسجد مديرة به إلا من المغرب، وكانت أبوابها شارعة في المسجد. قال عمران بن أبي أنس: كان منها أربعة أبيات بلبن لها حجر من جريد، وكانت خمسة أبيات من جريد مطينة لا حجر لها، على أبوابها مسوح الشعر، وذرعت الستر فوجدته ثلاثة أذرع في ذراع. قال مالك بن أنس رضي الله عنه: وحدثني الثقة عندي أن الناس كانوا يدخلون حجرات أزواج النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته يصلون فيها يوم الجمعة. قال مالك: وكان المسجد يضيق عن أهله، وحجر النبي صلى الله عليه وسلم ليست من المسجد، ولكن أبوابها شارعة في المسجد. قالت عائشة رضي الله عنها: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اعتكف يدني إلي رأسه فأرجله، وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان)) . أخبرنا صالح بن أبي الحسن الخريمي، أنبأنا محمد بن عبد الباقي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 الأنصاري قال: أخبرنا أبو محمد الجوهري، قال: أنبأنا أبو عمرو بن حيوة، قال: أخبرنا أبو الحسن بن معروف، أخبرنا الحارث بن أبي أسامة، حدثنا محمد بن سعد، أخبرنا محمد بن عمرو، حدثنا عبد الله بن يزيد الهذلي، قال: رأيت بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم حين هدمها عمر بن عبد العزيز كانت بيوتاً باللبن ولها حجر من جريد، ورأيت بيت أم سلمة رضي الله عنها وحجرتها من لبن، فسألت ابن ابنها فقال: لما غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم دومة، بنت أم سلمة بلبنٍ حجرتها، فلما قدم نظر إلى اللبن فقال صلى الله عليه وسلم: ((ما هذا البناء)) !! فقالت: أردت أن أكف أبصار الناس، فقال صلى الله عليه وسلم: ((يا أم سلمة إن شر ما ذهب فيه مال المسلم البنيان)) . وقال عطاء الخراساني: أدركت حجر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم من جريد النخل على أبوابها المسوح من شعر أسود، فحضرت كتاب الوليد بن عبد الملك يقرأ يأمر بإدخال حجر النبي صلى الله عليه وسلم في مسجده، فما رأيت باكياً أكثر من ذلك اليوم. وسمعت سعيد بن المسيب رضي الله عنه يقول يومئذٍ: والله لوددت أنهم لو تركوها على حالها، ينشأ ناس من أهل المدينة ويقدم القادم من الأفق فيرى ما اكتفى به رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته، فيكون ذلك مما يزهد الناس في التكاثر والفخر. وقال عمران بن أبي أنس: لقد رأيتني في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيه نفر من أصحابه؛ أبو سلمة بن عبد الرحمن، وأبو أمامة بن سهل، وخارجة ابن زيد –يعني لما نقضت حجر أزواجه عليه الصلاة والسلام- وهم يبكون حتى اخضلت لحاهم من الدمع، وقال يومئذ أبو أمامة: ليتها تركت حتى يقصر الناس من البنيان ويروا ما رضي الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم ومفاتيح الدنيا بيده. ذكر بيت السيدة فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم رضي الله عنها كان خلف بيت النبي صلى الله عليه وسلم عن يسار المصلي إلى الكعبة، وكان فيه خوخة إلى بيت النبي صلى الله عليه وسلم. كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل إلى المخرج الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 اطلع منها يعلم خبرهم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يأتي بابها كل صباح فيأخذ بعضادتيه ويقول: ((الصلاة الصلاة، إنما يريد الله ليذهب عنك الرجز أهل البيت ويطهركم تطهيراً)) . وقال محمد بن قيس: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قدم من سفر أتى فاطمة رضي الله عنها، فدخل عليها وأطال عندها المكث، فخرج مرة في سفرٍ فصنعت فاطمة رضي الله عنها مسكتين من ورق وقلادة وقرطين، وستراً لباب بيتها لقدوم أبيها وزوجها، فلما قدم عليه الصلاة والسلام ودخل إليها، وقف أصحابه على الباب، فخرج وقد عرف الغضب في وجهه، ففطنت فاطمة رضي الله عنها إنما فعل ذلك لما رأى المسكتين والقلادتين والستر. فنزعت قرطيها، وقلادتيها، ومسكتيها، ونزعت الستر وأنفذت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت للرسول: قل له: تقرأ عليك ابنتك السلام، وتقول لك: اجعل هذا في سبيل الله. فلما أتاه قال: ((قد فعلت فداها أبوها، (ثلاث مرات) ، ليست الدنيا من محمد ولا من آل محمد، ولو كانت الدنيا تعدل عنه الله من الخير جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء)) ، ثم قام فدخل عليها. وقال محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: لما أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الستر من فاطمة رضي الله عنها شقه لكل إنسان من أصحابه ذراعين ذارعين. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قدم من سفرٍ قبل رأس فاطمة رضي الله عنها. أنبأنا أبو القاسم التاجر، عن أبي علي الحداد، عن أبي نعيم الحافظ، عن أبي محمد الخواص قال: أخبرنا أبو يزيد المخزومي، حدثنا الزبير بن بكار، حدثنا محمد بن الحسن، حدثني عبد الله بن إبراهيم بن عبد الله أن جعفر بن محمد، كان يقول: قبر فاطمة رضي الله عنها في بيتها الذي أدخله عمر بن عبد العزيز في المسجد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 قلت: وبيتها اليوم حوله مقصورة وفيه محراب، وهو خلف النبي عليه الصلاة والسلام. ذكر مصلى النبي صلى الله عليه وسلم بالليل روى عيسى بن عبد الله عن أبيه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يطرح حصيراً كل ليلة إذا انكفت الناس، ورأيت علياً كرم الله وجهه ثم يصلي صلاة الليل. قال عيسى: وذلك موضع الأسطوان الذي على طريق النبي صلى الله عليه وسلم مما يلي الدور. وروي عن سعيد بن عبد الله بن فضيل، قال: مر بي محمد بن علي بن الحنفية رضي الله عنه وأنا أصلي إليها، قال لي: أراك تلزم هذه الأسطوانة! هل جاءك فيها أثر؟ قلت: لا، قال: فالزمها، فإنها كانت مصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالليل. قلت: وهذه الأسطوانة وراء بيت فاطمة رضي الله عنها وفيها محراب، إذا توجه الرجل كان يساره إلى باب عثمان رضي الله عنه. ذكر الجذع الذي كان يخطب إليه النبي عليه الصلاة والسلام أخبرنا أبو محمد بن أبي نصر الجنابذي، أخبرنا يحيى بن علي المديني، أخبرنا أبو الحسين بن النقور، أخبرنا أبو القاسم بن حبابة، حدثنا أبو القاسم البغوي، حدثنا هدبة بن خالد، حدثنا حماد بن عمار بن أبي عمار، عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه كان يخطب إلى جذع نخلة، فلما اتخذ المنبر تحول إليه، فحن الجذع وأتى النبي صلى الله عليه وسلم فاحتضنه فسكن، فقال عليه الصلاة والسلام: ((لو لم أحتضنه لحن إلى يوم القيامة)) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 أنبأنا عبد الرحمن بن علي قال: أخبرنا يحيى بن علي قال: أخبرنا جابر بن ياسين، أخبرنا المخلص، قال: أنبأنا أبو حميد، قال: حدثنا شيبان بن فروخ، حدثنا المبارك بن فضالة، حدثنا الحسن عن أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة إلى خشبة مسنداً ظهره إليها، فلما كثر الناس قال: ((ابنوا لي منبراً)) ، فبنوا له منبراً له عتبتان، فلما قام على المنبر يخطب حنت الخشبة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال أنس: وأنا في المسجد، فسمعت الخشبة، تحن حنين الواله، فما زالت تحن حتى نزل إليها صلى الله عليه وسلم فاحتضنها فسكنت، فكان الحسن رضي الله عنه إذا حدث بهذا الحديث بكى، ثم قال: يا عباد الله! الخشبة تحن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم شوقاً إليه، فأنتم أحق أن تشتاقوا إلى لقائه!! وفي لفظ: فنزل إليه النبي صلى الله عليه وسلم فاحتضنه وساره بشيء. وفي لفظ: فصاحت النخلة التي كان يخطب عندها حتى كادت تنشق. وفي لفظ: فجعلت تئن أنين الصبي الذي يسكت حتى استقرت. وفي لفظ: كانت تبكي على ما كانت تسمع من الذكر، كل هذه الألفاظ في ((الصحيح)) . وقال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه: لما سكن الجذع أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يحفر له ويدفن. وقال أبو بريدة الأسلمي: لما سكن الجذع، قال له النبي صلى الله عليه وسلم: إن شئت أن أردك إلى الحائط الذي كنت فيه كما كنت، فتنبت لك عروقك ويكمل خلقك، ويجدد لك خوص وثمر، وإن شئت أن أغرسك في الجنة فتأكل أولياء الله من ثمرك؟؟ ثم أصغى إليه النبي صلى الله عليه وسلم يسمع ما يقول، قال: بل تغرسني في الجنة فيأكل مني أولياء الله، وأكون في مكان لا أداس فيه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((نعم قد فعلت)) ؛ وعاد إلى المنبر، ثم أقبل صلى الله عليه وسلم على الناس فقال: ((خيرته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 كما سمعتم فاختار أن أغرسه في الجنة، اختار دار البقاء على دار الفناء) . وقالت عائشة رضي الله عنها: لما قال له النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، غار الجذع فذهب. وقال ابن أبي الزناد: لم يزل الجذع على حاله زمان رسول الله وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما، فلما هدم عثمان رضي الله عنه المسجد اختلف في الجذع. فمنهم من قال: أخذه أبي بن كعب فكان عنده حتى أكلته الأرضة، ومنهم من قال: دفن في موضعه، وكان الجذع في موضع الأسطوانة المخلقة التي عن يمين محراب النبي صلى الله عليه وسلم عند الصدوق. ذكر عمل المنبر وروى البخاري في ((الصحيح)) من حديث أبي حازم أن نفراً جاؤوا إلى سهل بن سعد، قد تحاروا في المنبر من أي عودٍ هو؟ فقال: أما والله إني لأعرف من أي عود هو، ومن عمله. رأيت رسول الله أول يوم جلس عليه. فقلت له: فحدثنا، فقال: أرسل عليه الصلاة والسلام إلى امرأة: انظري غلامك النجار يعمل لي أعواداً أكلم الناس عليها، فعمل هذه الدرجات الثلاث، ثم أمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضعت بهذا الموضع وهي من طرفاء الغابة. وفي ((صحيح البخاري)) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن امرأة من الأنصار قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله ألا أجعل لك شيئاً تقعد عليه، فإن لي غلاماً نجاراً، قال: ((إن شئت)) ، فعمل له المنبر. وروى أبو داود في ((سننه)) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بدن قال له تميم الداري: ألا أتخذ لك منبراً يا رسول الله يجمع، أو يحمل عظامك! قال: بلى. قال: فاتخذ له منبراً مرقاتين. وروى عن أبي الزناد أنه عليه الصلاة والسلام كان يخطب يوم الجمعة إلى جذع في المسجد، فقال: إن القيام قد شق علي، وشكا ضعفاً في رجليه، فقال له تميم الداري وكان من أهل فلسطين: يا رسول الله أنا أعمل لك منبراً كما رأيت يصنع بالشام، قال: فلما أجمع ذوو الرأي من أصحابه على اتخاذه، قال العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه: إن لي غلاماً يقال له: كلاب، أعمل الناس، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: فمره يعمل، فأرسل إلى أثلة بالغابة فقطعها، ثم عملها درجتين ومجلساً، ثم جاء بالمنبر فوضعه في موضع المنبر اليوم، ثم راح إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة، فلما جاوز الجذع يريد المنبر حن الجذع ثلاث مرات كأنه خوار بقرة، حتى ارتاع الناس وقام بعضهم على رجليه، فأقبل عليه الصلاة والسلام حتى مسه بيده فسكن، فما سمع له صوت بعد ذلك، ثم رجع إلى المنبر فقام عليه. وقد روي أن اسم هذا الغلام الذي صنع المنبر: مينا، وقال عمر بن عبد العزيز: عمله صباح، غلام العباس بن عبد المطلب. قال الواقدي: وفي سنة ثمان من الهجرة اتخذ النبي صلى الله عليه وسلم منبره، واتخذه درجتين ومقعدة. عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: قال صلى الله عليه وسلم: ((قوائم منبري رواتب في الجنة، وما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة)) . وفي ((الصحيحين)) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((منبري على حوضي)) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 قال الخطابي: معناه من لزم عبادة الله عنده سقي من الحوض يوم القيامة. قلت: الذي أراه أن المعنى هذا المنبر بعينه يعيده الله على حاله فينصبه عند حوضه، كما تعود الخلائق أجمعون. أخبرنا أبو طاهر المبارك بن المبارك العطار قال: أخبرنا أبو الغنائم محمد بن الخطيب، (ح) وأخبرنا هبة الله بن الحسن بن السبط قال: أخبرنا أحمد بن عبد الله العكبري قالا: أخبرنا أبو طالب العشاري، أخبرنا عمر بن أحمد بن شاهين قال: حدثنا علي بن محمد العسكري، حدثني دارم بن قبيصة، حدثني نعيم بن سالم قال: سمعت أنس بن مالك رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((منبري على ترعة من ترع الجنة)) . قال أبو عبيد القاسم بن سلام: في الترعة ثلاثة أقوال: أحدها: أنها الروضة تكون على المكان المرتفع خاصة. والثاني: أنها الباب. والثالث: أنها الدرجة. وروى أبو داود في ((السنن)) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال صلى الله عليه وسلم: ((لا يحلف أحد عند منبري هذا على يمين آثمة ولو على سواك أخضر، إلا تبوأ مقعده من النار، أو وجبت له النار)) . وقال ابن أبي الزناد: كان صلى الله عليه وسلم يجلس على المنبر ويضع رجليه على الدرجة الثانية، فلما ولي أبو بكر رضي الله عنه قام على الدرجة الثانية ووضع رجليه على الدرجة الثالثة السفلى، فلما ولي عمر رضي الله عنه قام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 على الدرجة السفلى ووضع رجليه على الأرض إذا قعد، فلما ولي عثمان رضي الله عنه فعل كذلك ست سنين، ثم علا فجلس موضع النبي صلى الله عليه وسلم وكسى المنبر قبطية، فلما حج معاوية رضي الله عنه كساه قبطية وزاد فيه ست درجات، ثم كتب إلى مروان بن الحكم، وهو عامله على المدينة أن ارفع المنبر على الأرض، فدعا له النجارين وعمل هذه الدرجات ورفعوه عليها وصار المنبر تسع درجات بالمجلس، لم يزد فيه أحد قبله ولا بعده. قال: ولما قدم المهدي المدينة سنة إحدى وستين ومائة قال لمالك بن أنس رضي الله عنه: إني أريد أن أعيد منبر النبي صلى الله عليه وسلم على حاله! فقال له مالك: إنما هو من طرفاء وقد سمر إلى هذه العيدان وشد، فمتى نزعته خفت أن يتهافت ويهلك، فلا أرى أن تغيره. قلت: وطول منبر النبي صلى الله عليه وسلم ذراعان وشبر وثلاث أصابع، وعرضه ذراع راجح، وطول صدره وهو مستند النبي صلى الله عليه وسلم ذراع، وطول رمانتي المنبر اللتين يمسكهما رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جلس يخطب شبر واصبعان، وطول المنبر اليوم ثلاثة أذرع وشبر وثلاث أصابع، والدكة التي هو عليها طول شبر وعقدة، ومن رأسه إلى عتبته خمسة أذرع وشبر. وقد زيد فيه اليوم عتبتان وجعل له باب يفتح يوم الجمعة، ولم يزل الخلفاء إلى يومنا هذا يرسلون في كل سنة ثوباً من الحرير الأسود وله علم ذهب يكسى به المنبر، ولما كثرت الكسوة عندهم أخذوها فجعلوها ستوراً على أبواب الحرم. ذكر الروضة أخبرنا أبو طاهر بن المعطوش قال: أخبرنا أبو الغنائم بن المهتدي، (ح) وأخبرنا أبو القاسم الهمذاني، أخبرنا أبو العز بن كادش، قالا: أخبرنا محمد ابن علي بن الفتح الحربي، قال: أخبرنا أبو الحفص بن شاهين، حدثنا علي ابن محمد العسكري حدثنا دارم بن قبيصة، حدثني نعيم بن سالم بن قنبر، قال: سمعت أنس بن مالك قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ما بين حجرتي ومنبري روضة من رياض الجنة)) ، أخرجه البخاري الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 ومسلم في ((الصحيحين)) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وقال: ((بيتي)) مكان ((حجرتي)) . وقال الخطابي: معناه من لزم طاعة الله تعالى في هذه البقعة، آلت به الطاعة إلى روضة من رياض الجنة. قتل: والذي هو عندي أن يكون هذا الموضع بعينه روضة في الجنة يوم القيامة. وقال أبو عمر بن عبد البر: معناه أن النبي صلى الله عليه وسلم كانت الصحابة تقتبس منه العلم في ذلك الموضع، فهو مثل الروضة. قلت: ويؤيد قوله: قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا)) . قالوا: يا رسول الله، وما رياض الجنة؟ قال: ((حلق الذكر)) . ذكر سد الأبواب الشوارع في المسجد روى البخاري في ((الصحيح)) من حديث أبي سعيد الخدري قال: خطب النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((إن الله خير عبداً بين الدنيا وبين ما عنده، فاختار ما عنده)) ، فبكى أبو بكر، فقلت في نفسي: ما يبكي هذا الشيخ أن يكون الله عز وجل خير عبداً بين الدنيا وبين ما عنده فاختار ما عند الله، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو العبد وكان أبو بكر أعلمنا، فقال: ((يا أبا بكر لا تبك، إن أمن الناس علي في صحبته وماله أبو بكر، ولو كنت متخذاً من أمتي خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، ولكن أخوة الإسلام ومودته، لا يبقين في المسجد باب إلا سد إلا باب أبي بكر) . قال أهل السير: كان بابه في غربي المسجد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 وروى ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالأبواب كلها فسدت إلا باب علي رضي الله عنه. ذكر تجميره ذكر أهل السير: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أتى بسفط من عودٍ فلم يسع الناس، فقال: اجمروا به المسجد لينتفع به المسلمون، فبقيت سنةً في الخلفاء إلى اليوم، يؤتى في كل عام بسفطٍ من عودٍ يجمر به المسجد ليلة الجمعة ويوم الجمعة عند المنبر، من خلفه إذا كان الإمام يخطب. قالوا: وأتي عمر بن الخطاب رضي الله عنه بمجمرة من فضة فيها تماثيل من الشام، فكان يجمر بها المسجد ثم توضع بين يدي عمر، فلما قدم إبراهيم بن يحيى بن محمد والياً على المدينة، غيرها وجعلها ساذجاً، وهي في يومنا هذا منقوشة. ذكر تخليقه روي أن عثمان بن مظعون رضي الله عنه تفل في المسجد فأصبح مكتئباً، فقالت له امرأته: مالي أراك مكتئباً؟ فقال: لا شيء، إلا أني تفلت في القبلة وأنا أصلي، فعمدت إلى القبلة فغسلتها ثم خلقتها، فكانت أول من خلق القبلة. وقال جابر بن عبد الله رضي الله عنه كان أول من خلق المسجد عثمان بن عفان رضي الله عنه، ثم لما حجت الخيزران أم موسى وهارون في سنة سبعين ومائة أمرت بالمسجد أن يخلق، فتولى تخليقه جاريتها مؤنسة، فخلقته، جميعه حتى الحجرة الشريفة جميعها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 منع آكل الثوم من دخوله روى البخاري في ((الصحيح)) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من أكل ثوماً أو بصلاً فليعتزل مسجدنا)) . وفي لفظ آخر: ((فلا يقربن مسجدنا)) . النهي عن رفع الصوت فيه روى البخاري في ((الصحيح)) أن السائب بن يزيد رضي الله عنه قال: كنت نائماً في المسجد، فحصبني رجل فنظرت فإذا هو عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: اذهب فائتني بهذين فجئته بهما، فقال: ممن أنتما؟ أو من أين أنتما؟ فقالا: من الطائف، قال: لو كنتما من أهل البلد لأوجعتكما، ترفعان أصواتكما في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم؟!. جواز النوم فيه روى البخاري في ((الصحيح)) أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما كان ينام في المسجد وهو شاب عزب لا أهل له. وروى أيضاً من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه قال: ((جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيت فاطمة رضي الله عنها فلم يجد علياً رضي الله عنه في البيت، فقال: أين ابن عمك، فقالت: كان بيني وبينه شيء فغاضبني، فخرج فلم يقل عندي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لإنسان: انظر أين هو فأخبره، فجاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم هو مضطجع قد سقط رداءه عن شقه، وأصابه تراب، فقال له: قم أبا تراب)) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 جواز الصلاة على الجنائز فيه روى أبو داود في ((السنن)) من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: والله لقد صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على ابني بيضاء في المسجد سهيل وأخيه. وروى أيضاً من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من صلى على جنازة في المسجد فلا شيء عليه)) . النهي عن إخراج الحصى منه روى أبو داود في ((السنن)) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الحصاة لتناشد الذي يخرجها من المسجد)) . ذكر مواضع تأذين بلال روى ابن إسحاق: أن امرأة من بني النجار قالت: كان بيتي أطول بيت حول المسجد وكان بلال يؤذن عليه الفجر كل غداة، فيأتي بسحر فيجلس على البيت ينتظر الفجر، فإذا رآه تمطى ثم قال: اللهم أحمدك وأستعينك على قريش أن يقيموا دينك، قالت: ثم يؤذن. وذكر أهل السير: أن بلالاً كان يؤذن على أسطوانة في قبلة المسجد يرقى إليها بأقتاب، وهي قائمة إلى اليوم في منزل عبد الله بن عبيد الله بن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وروى نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كان بلال يؤذن على منارة في دار حفصة بنت عمر التي تلي المسجد. قال: فكان يرقى على أقتاب فيها، وكانت خارجة من مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم تكن فيه، وليست فيه اليوم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 ذكر أهل الصفة رضي الله عنهم روى البخاري في ((الصحيح)) أن أصحاب الصفة كانوا فقراء. وروى أيضاً من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: لقد رأيت سبعين من أهل الصفة ما منهم رجل عليه رداء، إما إزار وإما كساء، قد ربطوه في أعناقهم، فمنها من يبلغ نصف الساقين، ومنها ما يبلغ الكعبين فيجمعه بيده كراهية أن ترى عورته. وروى أيضاً من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه كان يقول: ((والله الذي لا إله إلا هو إن كنت لأعتمد بكبدي على الأرض من الجوع، وإن كنت لأشد الحجر على بطني من الجوع، ولقد قعدت يوماً على طريقهم الذي يخرجون منه، فمر أبو بكر فسألته عن آية من كتاب الله ما سألته إلا ليشبعني، فمر ولم يفعل، ثم مر بي عمر فسأله عن آية من كتاب الله ما سألته إلا ليشبعني، فمر ولم يفعل، ثم مر بي أبو القاسم صلى الله عليه وسلم فتبسم حين رآني وعرف ما في نفسي وما في وجهي، ثم قال: يا أبا هر! قلت: لبيك يا رسول الله! قال: الحق، ومضى، فاتبعته فدخل فاستأذن، فأذن لي، فدخلت فوجدت لبناً في قدح، فقال: من أين هذا اللبن؟ قالوا: أهداه لك فلان أو فلانة، قال: يا أبا هر! قلت: لبيك رسول الله، قال: الحق إلى أهل الصفة فادعهم لي، وأهل الصفة أضياف الإسلام لا يأوون على أهل ولا مال ولا على أحد، إذا أتته صدقة بعث بها إليهم ولا يتناول منها شيئاً، وإذا أتته هدية أرسل إليهم وأصاب منها وأشركهم فيها، فساءني ذلك فقلت: وما هذا اللبن في أهل الصفة؟ كنت أرجو أن أصيب من اللبن شربة أتقوى به، فإذا جاؤوا أمرني، فكنت أنا أعطيهم، وما عسى أن يبلغني من هذا اللبن، ولم يكن من طاعة الله وطاعة رسوله بد، فأتيتهم فدعوتهم، فأقبلوا، فاستأذنوا فأذن لهم، وأخذوا مجالسهم من البيت. قال: يا أبا هر! قلت: لبيك يا رسول الله، قال: خذ فأعطهم، فأخذت القدح فجعلت أعطيه الرجل، فيشرب حتى يروى، حتى انتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد روي القوم كلهم، وأخذ القدح فوضعه على يده، فنظر إلي فتبسم وقال: يا أبا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 هر! قلت: لبيك يا رسول الله، قال: بقيت أنا وأنت، قلت: صدقت يا رسول الله، قال: اقعد فاشرب، فقعدت فشربت، فقال: اشرب، فشربت فما زال يقول اشرب حتى قلت: والذي بعثك بالحق لا أجد له مسلكاً، قال: فأرني، فأعطيته القدح، فحمد الله وسمى وشرب الفضلة)) . وروى أهل السير: أن محمد بن مسلمة رضي الله عنه رأى أضيافاً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، فقال: ألا تفرق هذه الأضياف في دور الأنصار، ونجعل لك من كل حائط قنواً ليكون لمن يأتيك من هؤلاء الأقوام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بلى، فلما جد ماله جاء بقنوٍ فجعله في المسجد بين ساريتين، فجعل الناس يفعلون ذلك، وكان معاذ بن جبل رضي الله عنه يقوم عليه، وكان يجعل عليه حبلاً بين الساريتين، ثم يعلق الأقناء على الحبل، ويجمع العشرين أو أكثر، فيهش عليهم بعصاه من الأقناء فيأكلون حتى يشبعوا، ثم ينصرفون ويأتي غيرهم، فيفعل لهم مثل ذلك، فإذا كان الليل فعل لهم مثل ذلك. ذكر العود الذي في الأسطوانة التي عن يمين القبلة روى أهل السير: عن مصعب بن ثابت قال: طلبنا علم العود الذي في مقام النبي صلى الله عليه وسلم، فلم نجد أحداً يذكر لنا منه شيئاً، حتى أخبرني محمد بن مسلم بن السائب صاحب المقصورة أنه جلس إلى جنبه أنس بن مالك رضي الله عنه فقال: تدري لم صنع هذا العود؟ قلت: لا أدري! قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يضع عليه يمينه، ثم يلتفت إلينا فيقول: ((استووا وعدلوا صفوفكم)) . فلما توفي رسول الله سرق العود، فطلبه أبو بكر رضي الله عنه فلم يجده، حتى وجده عمر رضي الله عنه عند رجل من الأنصار بقباء وقد دفن في الأرض فأكلته الأرضة، فأخذ له عوداً فشقه، ثم أدخله فيه، ثم شعبه ورده إلى الجدار. وهو العود الذي وضعه عمر بن عبد العزيز في القبلة، وهو الذي في المحراب اليوم باق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 وقال مسلم بن خباب: كان ذلك العود من طرفاء الغابة. ذكر موضع اعتكاف النبي صلى الله عليه وسلم روى أهل السير: أن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا اعتكف طرح له فراشه ووضع له سرير عند أسطوانة التوبة. ذكر أسطوانة التوبة قال ابن إسحاق: لما حاصر رسول الله بني قريظة، بعثوا إليه: أن ابعث لنا أبا لبابة بن عبد المنذر أخا بني عمرو بن عوف –وكانوا حلفاء الأوس- نستشيره في أمرنا، فأرسله رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم، فلما رأوه قام إليه الرجال وأجهش إليه النساء والصبيان يبكون في وجهه، فرق لهم، فقالوا له: يا أبا لبابة! أترى أن ننزل على حكم محمد؟ قال: نعم، وأشار بيده إلى حلقه أنه الذبح. قال أبو لبابة: فوالله ما زالت قدماي حتى عرفت أني قد خنت الله ورسوله، ثم انطلق أبو لبابة على وجهه ولم يأت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ارتبط في المسجد إلى عمود من عمده، وقال: لا أبرح مكاني هذا حتى يتوب الله علي مما صنعت، -وعاهد الله أن لا يطأ بني قريظة أبداً- فلا تراني ولا يراني الله في بلد خنت الله ورسوله فيه أبداً. فلما بلغ رسول الله خبره وأبطأ عليه، وكان قد استبطأه، قال: ((أما لو جاءني لاستغفرت الله له، فأما إذا فعل ما فعل فما أنا بالذي أطلقه من مكانه حتى يتوب الله عليه، فأنزل الله توبته على رسول الله وهو في بيت أم سلمة)) . قالت أم سلمة رضي الله تعالى عنها: فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم من السحر يضحك، فقلت: مم تضحك يا رسول الله؟ أضحك الله سنك، قال: تيب على أبي لبابة. فقلت: ألا أبشره بذلك يا رسول الله؟ قال: ((بلى إن شئت)) ، قال: فقامت على باب حجرتها وذلك قبل أن يضرب الحجاب، فقالت: يا أبا لبابة! أبشر فقد تاب الله عليك. قال: فثار الناس ليطلقوه، قال: لا والله حتى يكون رسول الله هو الذي يطلقني بيده، فلما مر عليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 خارجاً إلى صلاة الصبح أطلقه وأنزل الله فيه: {يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون} . قال إبراهيم بن جعفر: السارية التي ارتبط إليها ثمامة بن أثال الحنفي هي السارية التي ارتبط إليها أبو لبابة. وروى خالد بن أنس، عن عبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم: أن أبا لبابة رضي الله تعالى عنه ارتبط بسلسلة ربوض –والربوض: الثقيلة-، بضع عشرة ليلة حتى ذهب سمعه، فما يكاد يسمع وكاد بصره يذهب. وكانت ابنته تحله إذا حضرت الصلاة وإذا أراد أن يذهب لحاجته حتى يفرغ، ثم تأتي به فترده في الرباط كما كان، وكان ارتباطه ذلك إلى جذع في موضع الأسطوانة التي يقال لها: أسطوانة التوبة. وروى عن محمد بن كعب القرظي: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي أكثر نوافله إلى أسطوانة التوبة. قلت: وهذه الأسطوانة الثانية عن يمين حجرة النبي صلى الله عليه وسلم التي كان يصلي إليها، في الصف الأول خلف أمام الروضة، وهي معروفة. ذكر أسطوانة النبي صلى الله عليه وسلم التي كان يصلي إليها روى الزبير بن حبيب أن الأسطوانة التي بعد أسطوانة التوبة إلى الروضة، وهي الثالثة من المنبر ومن القبر ومن رحبة المسجد ومن القبلة، وهي متوسطة في الروضة، صلى النبي صلى الله عليه وسلم إليها المكتوبة بضع عشرة، ثم تقدم إلى مصلاه اليوم، وكان يجعلها خلف ظهره، وأن أبا بكر وعمر والزبير وابنه عبد الله وعامر بن عبد الله كانوا يصلون إليها، وأن المهاجرين من قريش كانوا يجتمعون عندها؛ وكان يقال لها: مجلس المهاجرين. وقالت عائشة رضي الله عنها فيها: لو عرفها الناس لاضطربوا على الصلاة عندها بالسهمان، فسألوها عنها؛ فأبت أن تسميها، فأصغي إليها ابن الزبير فسارته بشيء، ثم قام فصلى إلى التي يقال لها: أسطوانة عائشة. قال: فظن من معه أن عائشة رضي الله عنها أخبرته أنها تلك الأسطوانة وسميت أسطوانة عائشة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 وأخبرني بعض أصحابنا عن زيد بن أسلم قال: رأيت عند تلك الأسطوانة موضع جبهة النبي صلى الله عليه وسلم، ثم رأيت دونه موضع جبهة أبي بكر رضي الله عنه، ثم رأيت دون موضع جبهة أبي بكر موضع جبهة عمر رضي الله عنهما. ويقال: إن الدعاء عندها مستجاب. ذكر أسطوانة النبي صلى الله عليه وسلم التي كان يجلس إليها إذا جاءه الوفود روى ابن أبي فديك عن غير واحد من مشايخه: أن الأسطوانة الثالثة من قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وهي التي تلي الرحبة، وهي خلف أسطوانة علي بن أبي طالب التي خلف أسطوانة التوبة، كان النبي صلى الله عليه وسلم يجلس إليها لوفود العرب إذا جاءته. قلت: إذا عددت الأسطوانة الذي فيه مقام جبريل، كانت الثالثة. ذكر أسطوانة علي بن أبي طالب رضي الله عنه وروى أهل السير: أن الأسطوانة التي خلف أسطوانة التوبة، هي مصلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه. ذكر فضيلة الصلاة إلى أساطين المسجد روى البخاري في ((الصحيح)) من حديث يزيد بن أبي عبيد قال: ((كنت آتي سلمة بن الأكوع فيصلي عند الأسطوانة التي عند المصحف، فقلت: يا أبا مسلم! أراك تتحرى الصلاة عند هذه الأسطوانة، قال: فإني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يتحرى الصلاة عندها)) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 وروى أيضاً من حديث أنس رضي الله عنه قال: ((لقد أدركت أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يبتدرون السواري عند المغرب)) . قلت: فعلى هذا جميع سواري مسجد النبي صلى الله عليه وسلم يستحب الصلاة عندها لأنها لا تخلو من أن كبار الصحابة صلوا إليها. ذكر زيادة عمر بن الخطاب رضي الله عنه في المسجد عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: زاد عمر بن الخطاب رضي الله عنه في المسجد من شاميه، ثم قال: لو زدنا فيه حتى نبلغ به الجبانة كان مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وروى البخاري في ((الصحيح)) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن المسجد كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم مبنياً باللبن وسقفه الجريد، وعمده خشب النخل، فلم يزد فيه أبو بكر رضي الله عنه شيئاً، وزاد فيه عمر رضي الله عنه وبناه على بنائه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم باللبن والجريد، وأعاد عمده خشباً. وروى أهل السير: أن عمر رضي الله عنه قال: لولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إني أزيد في المسجد)) ما زدت فيه. أنبأنا أبو القاسم الحذاء، عن أبي علي المقري، عن أبي نعيم الأصبهاني، عن أبي محمد الخلدي، أخبرنا أبو يزيد المخزومي، حدثنا الزبير بن بكار، حدثنا محمد بن الحسن بن زبالة، حدثني محمد بن عثمان بن ربيعة بن أبي عبد الرحمن، عن مصعب بن ثابت، عن مسلم بن خباب رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوماً وهو في مصلاه، ((لو زدنا في مسجدنا)) وأشار بيده نحو القبلة. فلما توفي عليه الصلاة والسلام، وولي عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: إن رسول الله قال: ((لو زدنا في مسجدنا)) وأشار بيده نحو القبلة، فأجلسوا رجلاً في موضع مصلى النبي صلى الله عليه وسلم، ثم رفعوا يد الرجل وخفضوها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 حتى رأوا أن ذلك نحو ما رأوا أن النبي صلى الله عليه وسلم رفع يده وخفضها، ثم مد ووضعوا طرفه بيد الرجل، ثم مدوه. فلم يزالوا يقدمونه ويؤخرونه حتى رأوا أن ذلك شبيه بما أشار رسول الله من الزيادة، فقدم عمر بن الخطاب رضي الله عنه القبلة، فكان موضع جدار عمر رضي الله عنه في موضع عيدان المقصورة. قال أهل السير: كان بين المنبر وبين الجدار الذي كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بقدر ما تمر شاة، فأخذ عمر رضي الله عنه إلى موضع المقصورة اليوم وزاد فيه، وزاد في يمين القبلة فصار طوله أربعين ومائة ذراع وسقفه جريد ذراعان، وبنى فوق ظهر المسجد سترة ثلاثة أذرع، وبنى أساسه بالحجارة إلى أن بلغ قامة، وجعل له ستة أبواب: بابين عن يمين القبلة، وبابين عن يسارها، ولم يغير باب عاتكة ولا الباب الذي كان يدخل منه النبي صلى الله عليه وسلم، وفتح باباً عند دار مروان بن الحكم، وفتح بابين في مؤخر المسجد. وروى عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لو بني هذا المسجد إلى صنعاء كان مسجدي)) . وروى غيره مرفوعاً أنه قال: ((هذا مسجدي وما زيد فيه فهو منه، ولو بلغ صنعاء كان مسجدي)) . وكان أبو هريرة رضي الله عنه يقول: ظهر المسجد كقعره. وأدخل عمر رضي الله عنه في هذه الزيادة داراً للعباس بن عبد المطلب وهبها للمسلمين. وعن عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أراد هدم دار كانت للعباس بن عبد المطلب رضي الله عنه ليزيدها في المسجد وقال: بعنيها، فأبى العباس أن يبيعه إياها، فأراد عمر رضي الله عنه أخذها منه وإدخالها في المسجد وقال: ذلك أرفق بالمسلمين، فقال له العباس: حكم بيني وبينك في ذلك، فجعلا بينهما أبي بن كعب فقال: إني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 أحدثكما حديثاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن داود النبي أراد بنيان بيت المقدس، وكانت أرضه لرجل فاشتراها سليمان منه، فلما باعه الرجل إياه قال الرجل: ما أخذت مني خير أم ما أعطيتني؟ فقال: بل ما أخذت منك، قال: إني لا أجيز، فناقضه البيع، ثم اشتراها الثالثة فصنع مثل ذلك، فقال له سليمان: أشتريها منك بحكمك على أن لا تسألني، قال: فاشتراها بحكمه، فاحتكم شيئاً كثيراً اثني عشر قنطاراً ذهباً، فاستعظمه سليمان، فأوحى الله إليه: إن كنت تعطيه من رزقنا فأعطه حتى يرضى، وإن كنت تعطيه من عندك فذلك لك، وعم النبي صلى الله عليه وسلم العباس إن شاء باعها وإن شاء تركها. قال العباس رضي الله عنه: أما إذا قضيت في، فقد جعلتها للمسلمين. وفي رواية: كانت للعباس رضي الله عنه دار إلى جنب المجسد فقال له عمر رضي الله عنه: بعنيها، فقال له العباس رضي الله عنه: لا أبيعك، فقال عمر: إذاً آخذها، فقال العباس: لا تأخذها، فقال: أجعل بيني وبينك من شئت، فجعلا بينهما أبي بن كعب رضي الله عنه فأخبروه الخبر، فقال: أوحى الله إلى سليمان عليه السلام أن ابن بيت المقدس، وكان بيتاً لعجوز، فأراد أخذه منها، فأبت أن تبيعه إياه، فعزم على أخذه منها وإدخاله في المسجد، فأوحى الله إليه: أن بيتي أحق المواضع أن لا يدخل فيه شيء من الظلم، فكف عن أخذه. فقال: عمر رضي الله عنه: وأنا أشهدكم أني قد كففت عن دار العباس، فقال له العباس رضي الله عنه: أما إن كان هذا وحكم لي عليك، فإني أشهدكم أني قد جعلتها صدقة على المسلمين. فهدمها عمر رضي الله عنه وأدخلها في المسجد، واشترى نصف موضع كان خطه النبي صلى الله عليه وسلم لجعفر بن أبي طالب وهو بالحبشة داراً بمائة ألف فزاده في المسجد. أخبرتنا عفيفة الفارقانية في كتابها عن الحسن بن أحمد، عن أحمد بن عبد الله، عن جعفر بن محمد بن الحسن قال: حدثني عبد العزيز بن أبي حازم، عن الضحاك بن عثمان، عن أبي النضر، عن بشر بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 سعيد أبو سليمان بن يسار -شك الضحاك- أنه حدثه أن المسجد كان يرش زمان النبي صلى الله عليه وسلم وزمان أبي بكر وعامة زمان عمر رضي الله عنهما، وكان الناس يتنخمون فيه ويبصقون حتى عاد زلقاً، حتى قدم ابن مسعود الثقفي وقال لعمر: أليس قربكم وادٍ؟ قال: بلى، قال: فمر بحصباء تطرح فيه، فهو أكف للمخاط، والنخامة، فأمر بها عمر رضي الله عنه. وذكر محمد بن سعد: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ألقى الحصا في مسجد رسول الله، وكان الناس إذا رفعوا رؤوسهم من السجود نفضوا أيديهم، فأمر بالحصباء فجيء به من العقيق فبسط في المسجد. ذكر زيادة عثمان بن عفان رضي الله عنه فيه روى البخاري في ((الصحيح)) أن عثمان رضي الله عنه زاد في المسجد زيادة كبيرة، وبنى جداره بالحجارة المنقوشة والقصة، وجعل عمده من حجارة منقوشة، وسقفه بالساج. وذكر أهل السير: أن عثمان رضي الله عنه لما ولي الخلافة سنة أربع وعشرين، سأله الناس أن يزيد في مسجدهم، وشكوا إليه ضيقه يوم الجمعة حتى إنهم ليصلون في الرحاب، فشاور فيه عثمان رضي الله عنه أهل الرأي من أصحاب رسول الله، فاجتمعوا على أن يهدمه ويزيد فيه، فصلى الظهر بالناس، ثم صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه. ثم قال: أيها الناس! إني قد أردت أن أهدم مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأزيد فيه، وأشهد أني لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من بنى مسجداً، بنى الله تعالى له بيتاً في الجنة) . وقد كان لي فيه سلفٌ وإمام عمر بن الخطاب رضي الله عنه، زاد فيه وبناه، وقد شاورت أهل الرأي من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على هدمه وبنائه وتوسعته، فحسن الناس ذلك ودعوا له. فأصبح فدعا العمال وباشر ذلك بنفسه، وكان رجلاً يصوم النهار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 ويقوم الليل، وكان لا يخرج من المسجد، فهدمه وأمر بالقصة المنخولة، وكان عمله في أول ربيع الأول سنة تسع وعشرين، وفرغ منه حين دخلت السنة لهلال المحرم سنة ثلاثين. فكان عمله عشرة أشهر. وزاد من القبلة إلى موضع الجدار اليوم، وزاد فيه من المغرب أسطواناً بعد المربعة، وزاد فيه من الشام خمسين ذراعاً، ولم يزد فيه من الشرق شيئاً. وبناه بالحجارة المنقوشة والقصة وخشب النخل والجريد، وبيضه بالقصة. وقدر زيد بن ثابت أساطينه فجعلها على قدر النخل، وجعل فيه طاقات مما يلي المشرق والمغرب، وبنى المقصورة بلبن وجعل فيها كوة ينظر الناس منها إلى الإمام وكان يصلي فيها خوفاً من الذي أصاب عمر رضي الله عنه وكانت صغيرة، وجعل أعمدة المسجد حجارة منقوشة فيها أعمدة الحديد وفيها الرصاص، وسقفه بالساج فجعل طوله ستين ومائة ذراع، وعرضه خمسين ومائة ذراع، وجعل أبوابه على ما كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم: باب عاتكة، والباب الذي يليه، وباب مروان، والباب الذي يقال له: باب النبي صلى الله عليه وسلم، وبابين في مؤخره. وقال عبد الرحمن بن سفينة: رأيت القصة تحمل إلى عثمان رضي الله عنه وهو يبني المسجد من بطن نخل، ورأيته يقوم على رجليه والعمال يعملون فيه حتى تأتي الصلاة، فيصلي بهم، ثم ربما نام في المسجد، واشترى من مروان بن الحكم داره وكان بعضها لآل النجار وبعضها دار العباس، لها باب إلى المسجد، وهي اليوم باقية على حالها وفيها تسكن الأمراء. ذكر زيادة الوليد بن عبد الملك فيه ذكر أهل السير: أن الوليد بن عبد الملك لما استعمل عمر بن عبد العزيز على المدينة أمره بالزيادة في المسجد، وبنيانه، فاشترى ما حوله من المشرق والمغرب والشام من أبي سبرة الذي كان أبى أن يبيع عليه، ووضع الثمن له، فلما صار إلى القبلة قال له عبد الله بن عبد الله بن عمر: لسنا نبيع هذا، هو من حق حفصة رضي الله عنها، وقد كان رسول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 الله صلى الله عليه وسلم يسكنها! فقال له عمر: ما أنا بتارككم، أنا أدخلها المسجد. فلما كثر الكلام بينهما قال له عمر: أجعل لكم في المسجد باباً تدخلون منه، وأعطيكم دار الرقيق مكان هذا الطريق، ما بقي من الدار فهو لكم، ففعلوا، فأخرج بابهم في المسجد وهي الخوخة التي في المسجد تخرج في دار حفصة، وأعطاهم دار الرقيق، وقدم الجدار في موضعه اليوم، وزاد من الشرق ما بين الأسطوان المربعة إلى جدار المسجد، ومعه عشر أساطين من مربعة القبر إلى الرحبة إلى الشام. ومد في المغرب أسطوانتين وأدخل فيه حجرات أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، وأدخل فيه دور عبد الرحمن بن عوف الثلاث التي كان يقل لها: القرائن، اللاتي يقول فيهن أبو قطيفة بن الوليد بن عقبة بن أبي معيط: ألا ليت شعري هل تغير بعدنا ... بقيع المصلى أم كعمد القرائن ودار عبد الله بن مسعود. وأدخل فيه من المغرب دار طلحة بن عبيد الله ودار أبي سبرة بن أبي رهم، ودار عمار بن ياسر، وبعض دار العباس بن عبد المطلب، وأعلى ما أدخل منها، فجعل منابر سواريها التي تلي السقف أعظم من غيرها من سواري المسجد. قالوا: وبعث الوليد إلى ملك الروم: إنا نريد أن نعمل مسجد نبينا الأعظم صلى الله عليه وسلم، فأعنا فيه بعمال وفسيفساء. فبعث إليه بأربعين من الروم، وبأربعين من القبط، وبأربعين ألف مثقال عوناً له، وبإجمال من فسيفساء، وبعث هذه السلاسل التي فيها القناديل. فهدم عمر المسجد وأخمر النورة التي يعمل بها الفسيفساء سنة، وحملوا القصة من النخل منخولة، وعمل الأساس من الحجارة، والجدار بالحجارة المنقوشة المطابقة والقصة، وجعل عمد المسجد من حجارة حشوها عمد الحديد والرصاص، وجعل طوله مائتي ذراع وعرضه في مقدمه مائتي ذراع، وفي مؤخره مائة وثمانين وعمله بالفسيفساء والمرمر، وعمل سقفه بالساج وموهه بالذهب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 وهدم حجرات أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وأدخلها فيه، وأدخل القبر فيه أيضاً، ونقل لبن حجرات النبي صلى الله عليه وسلم ولبن المسجد، فبنى به داره بالحرة، وهو فيها اليوم له بياض على اللبن. وقال بعض الذين عملوا الفسيفساء: إنا عملناه على ما وجدناه من صور شجر الجنة وقصورها، وكان عمر إذا عمل العامل الشجرة الكبيرة من الفسيفساء وأحسن عملها نقده ثلاثين درهماً. قالوا: وكانت زيادة الوليد بن عبد الملك من المشرق إلى المغرب ستة أساطين، وزاد إلى الشام من الأسطوانة المربعة إلى القبر أربع عشرة أسطوانة، منها عشرة في الرحبة، وأربع في السقايف الأول التي كانت قبل، وزاد من الأسطوان التي دون المربعة إلى المشرق أربع أساطين. وأدخل بيت النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد، وبقي ثلاث أساطين في السقايف، وجعل للمسجد أربع منارات في كل زاوية منارة، وكانت المنارة الرابعة مطلة على دار مروان. فلما حج سليمان بن عبد الملك أذن المؤذن، فأطل عليهن فأمر سليمان بتلك المنارة فهدمت إلى ظهر المسجد. قالوا: وأمر عمر بن عبد العزيز حين بنى المسجد بأسفل الأساطين فجعل قدر سترة اثنين يصليان إليها، وقدر مجلس اثنين يستندان إليها. قالوا: ولما صار عمر إلى جدار القبلة، دعا مشايخه من أهل المدينة من قريش والأنصار والموالي والعرب، فقال لهم: تعالوا احضروا بنيان قبلتكم، لا تقولوا: عمر غير قبلتنا، فجعل لا ينزع حجراً إلا وضع حجراً. قالوا: ومات عثمان بن عفان رضي الله عنه وليس للمسجد شرافات ولا محراب، فأول من أحدث الشرافات والمحراب عمر بن عبد العزيز. قال: وكتب عمر بن عبد العزيز الكتاب الذي في القبلة عن يمين الداخل من الباب الذي يلي دار مروان بن الحكم حتى انتهى إلى باب علي رضي الله عنه، كتبه مولى لحويطب بن عبد العزى اسمه سعد. والكتاب: ((أم القرآن)) ومن أول سورة {والشمس وضحاها} إلى خاتمة {قل أعوذ برب الناس} ، وعمل الميازيب من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 رصاص، ولم يبق منها إلا ميزابان أحدهما في موضع الجنائز، والآخر على الباب الذي يدخل منه أهل السوق، يقال له: باب عاتكة، وعمل المقصورة من ساجٍ. وهدم بيت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأدخله في المسجد، وكان ذلك في سنة إحدى وتسعين، ومكث في بنيانه ثلاث سنين. وكتب عمر في القبلة في صحن المسجد في الفسيفساء ما نسخته: ((بسم الله الرحمن الرحيم: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، محمد عبده ورسوله أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، أمر عبد الله أمير المؤمنين الوليد بتقوى الله وطاعته، والعمل بكتاب الله عز وجل وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وبصلة الرحم، وتعظيم ما صغَّر الجبابرة من حق الله سبحانه، وتصغير ما عظموا من الباطل، وإحياء ما أماتوا من الحقوق، وإماتة ما أحيوا من العدوان والجور، وأن يطاع الله سبحانه ويعصى العباد في طاعة الله، فالطاعة لله سبحانه ولأهل طاعته، لا طاعة لأحد في معصية الله، يدعو إلى كتاب الله سبحانه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وإلى العدل في أحكام المسلمين والقسم بالسوية في فيئهم، ووضع الأخماس في مواضعها التي أمر الله سبحانه بها لذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل)) . قالوا: ولما قدم الوليد بن عبد الملك حاجاً بعد فراغ عمر بن عبد العزيز من المسجد، جعل يطوف فيه وينظر إلى بنائه. فقال لعمر حين رأى سقف المقصورة: ألا عملت السقف كله مثل هذا، فقال: يا أمير المؤمنين إذاً تعظم النفقة جداً، أتدري كم أنفقت على عمل جدار القبلة وما بين السقفين؟ قال: وكم؟ قال: خمسة وأربعين ألف دينار، وقال بعضهم: أربعين ألف دينار، وقال: والله لكأنك أنفقتها من مالك، وقيل: كانت النفقة أربعين ألف مثقال. قالوا: وكان معه أبان بن عثمان بن عفان، فلما استنفد الوليد النظر إلى المسجد التفت إلى أبان، فقال: أين بنياننا من بنيانكم؟ فقال أبان: إنا بنيناه بناء المسجد وبنيتموه بناء الكنائس! قالوا: وبينا أولئك القوم يعملون في المسجد، إذ خلا لهم، فقال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 بعضهم: لأبولن على قبر نبيهم، فتهيأ لذلك ونهاه أصحابه، فلما هم أن يعمل، اقتلع وألقي على رأسه فانتشر دماغه فأسلم بعض أولئك النصارى، وعمل أحدهم على رأس خمس طاقات من جدار القبلة، وفي صحن المسجد صورة خنزير، فظهر عليه عمر بن عبد العزيز، فأمر به فضربت عنقه. قالوا: وكان عمل القبط مقدم المسجد، وكانت الروم تعمل ما خرج من السقف من جوانبه ومؤخره. قال أهل السير: ولما فرغ عمر من بنيان المسجد أراد أن يجعل في أبوابه في كل باب سلسلة تمنع الدواب من الدخول، فعمل واحدة وجعلها في باب مروان، ثم بدا له عن البواقي. قلت: فهي باقية إلى اليوم، وأقام الحرس فيه يمنعون الناس من الصلاة على الجنائز فيه ومن أن يحترفوا فيه، والسنة في الجنائز باقية إلى يومنا هذا، إلا في حق العلويين ومن أراد من الأمراء وغيرهم من الأعيان، والباقون يصلى عليهم خلف الحائط الشرقي من المسجد، إذا وقف الإمام على الجنازة، كان النبي صلى الله عليه وسلم عن يمينه. ذكر زيادة المهدي فيه قال أهل السير: لم يزل المسجد على ما زاد فيه الوليد بن عبد الملك حتى ولي أبو جعفر المنصور، فهم بالزيادة وشاور فيها، وكتب إليه الحسن بن زيد يصف له ناحية موضع الجنائز ويقول: إن زيد في المسجد من الناحية الشرقية توسط قبر النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد، فكتب إليه أبو جعفر: إني قد عرفت الذي أردت، فاكفف عن ذكر دار الشيخ عثمان بن عفان رضي الله عنه. قالوا: وتوفي أبو جعفر ولم يزد فيه شيئاً. ثم حج المهدي بن أبي جعفر سنة إحدى وستين ومائة، فقدم منصرفه من الحج إلى المدينة، واستعمل عليها جعفر بن سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس سنة إحدى وستين ومائة، وأمره بالزيادة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وولاه بناءه هو وعبد الله بن عاصم بن عمر بن عبد العزيز بن مروان، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 وعبد الملك بن شبيب الغساني من أهل الشام، فزيد في المسجد من جهة الشام إلى منتهاه اليوم، وكانت زيادته مائة ذراع ولم يزد فيه من الشرق ولا الغرب ولا القبلة شيئاً، ثم خفض المقصورة وكانت مرتفعة ذراعين من الأرض، فوضعها في الأرض على حالها اليوم، وسد على آل عمر خوختهم التي في دار حفصة حتى كثر الكلام فيها، ثم صالحهم على أن خفض المقصورة وزاد في المسجد تلك الخوخة ثلاث درجات وحفرت الخوخة حتى صارت تحت أرض المقصورة، وجعل عليها في جدار القبلة شباك، فهو عليها اليوم. وكان المهدي قبل بنائه المسجد قد أمر به، فقدر ما حوله من الدور فابتيع، وكان مما أدخل فيه من الدور، دار عبد الرحمن بن عوف التي يقال لها: دار مليكة، ودار شرحبيل بن حسنة، وبقية دار عبد الله بن مسعود التي يقال لها دار القراء، ودار المسور بن مخرمة الزهري، وفرغ من بنيان المسجد سنة خمس وستين ومائة. قالوا: وكتب على أثر الكتاب الذي كتبه عمر بن عبد العزيز في صحن المسجد ما نسخته: ((أمر عبد الله المهدي أمير المؤمنين، أكرمه الله وأعز نصره، بالزيادة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإحكام عمله ابتغاء وجه الله عز وجل والدار الآخرة، أحسن الله ثوابه بأحسن الثواب والتوسعة لمن صلى فيه من أهله وأبنائه من جميع المسلمين، فأعظم الله أجر أمير المؤمنين فيما نوى من حسنته في ذلك وأحسن ثوابه، بسم الله الرحمن الرحيم، ثم كتب ((أم القرآن)) كلها، ثم كتب على أثرها {إنما يعمر مساجد الله} ، ثم كتب: وكان مبتدأ ما أمر به عبد الله المهدي محمد أمير المؤمنين أكرمه الله من الزيادة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في سنة اثنتين وستين ومائة، وفرغ منه سنة خمس وستين ومائة، فأمير المؤمنين أصلحه الله بحمد الله على ما أذن له واختصه به من عمارة مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وتوسعته حمداً كثيراً، والحمد لله رب العالمين على كل حال)) . قالوا: وعرض منقبة جداري المسجد مما يلي المغرب ينقصان شيئاً، وعرض منقبته مما يلي المشرق ذراعان وأربع أصابع، وإنما زيد فيها لأنها من ناحية السيل، وفي صحن المسجد أربع وستون بلاعة لماء المطر، عليها أرحاء، ولها صمائم من حجارة يدخل الماء من أنقابها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 قالوا: وكان أبو البختري وهب بن وهب القاضي على المدينة والياً لهارون أمير المؤمنين، فكشف سقف المسجد في سنة ثلاث وسبعين ومائة، فوجد فيه سبعين خشبة مكسورة فأدخل مكانها خشباً صحاحاً. وكان ماء المطر يغشى قبلة المسجد، فجعل بين القبلة والصحن حجارة مربعة لاصقة من غربي المسجد إلى الحجارة المربعة التي في شرقيه تلي القبر، فمنع الماء من الصحن، ومنع حصباء القبلة أن يصل إلى الصحن. ذكر الستارة التي كانت على صحن المسجد قال أهل السير: لما قدم أبو جعفر المنصور المدينة سنة أربعين ومائة، أمر بستور فستر بها صحن المسجد على عمد لها رؤوس كقريات الفساطيط وجعلت في الطيقان، فكانت الريح تدخل فيها، فلا يزال العمود يسقط على الإنسان، فغيرها وأمر بستور هي أكثف من تلك الستور وبحبال، فأتي بها من جدة من حبال السفن المتينة، وجعلت على تشبيك حباله اليوم، وكانت تجعل على الناس كل جمعة. فلم تزل كذلك حتى خرج محمد بن عبد الله بن حسن يوم الأربعاء لليلتين بقيتا من جمادى الآخرة سنة خمس وأربعين ومائة، فأمر بها فقطعت ذرائع لمن كان يقاتل معه، فتركت حتى كان زمن هارون أمير المؤمنين، فأحدث هذه الأستار ولم تكن تستر في زمن بني أمية. أنبأنا ذاكر بن كامل، عن الحسن بن أحمد بن محمد الحداد، عن أبي نعيم الحافظ، عن أبي جعفر الخلدي، قال: أخبرنا محمد بن عبد الرحمن المخزومي، قال: حدثنا الزبير بن بكار، قال: حدثني محمد بن الحسن بن زبالة، قال: حدثني حسين بن مصعب، قال: أدركت كسوة الكعبة يؤتى بها المدينة قبل أن تصل إلى مكة، فتنشر على الرضراض في المسجد، ثم يخرج بها إلى مكة، وذلك في سنة إحدى وثلاثين، أو اثنتين وثلاثين ومائة. ذكر المصاحف التي كانت بالمسجد قال مالك بن أنس رضي الله عنه: أرسل الحجاج بن يوسف إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 أمهات القرى بمصاحف، فأرسل إلى المدينة بمصحف منها كبير، وكان في صندوق عن يمين الأسطوان التي عملت علماً على مقام النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يفتح يوم الخميس والجمعة فيقرأ فيه بعد صلاة الصبح. وبعث المهدي بمصاحف لها أثمان، فجعلت في صندوق عن يسار السارية، ووضعت منابر لها كانت تقرأ عليها، وحمل مصحف الحجاج في صندوقه فجعل عند الأسطوان التي عن يمين المنبر، وإلى الأسطوان الأخرى التي تليها صندوق آخر فيه مصحفٌ بعث به المهدي يقرأ فيه الناس. ثم إلى التي تليها في الغرب صندوق فيه مصاحف بعث بها المهدي ليقرأ فيها الناس على طبقة منبر صحيح. وفي القبلة صندوق لاصق بالمقصورة فيه مصاحف يقرأ الناس فيها تصدقت بها حسنة أم ولد المهدي. ووضع رجل من أهل البصرة يقال له: أبو يحيى صندوقاً وجمع فيه مصاحف يتعلم فيها الأميون والأعاجم. قلت: وأكثر هذه المصاحف المذكورة ضاعت على طول الزمان وتفرقت أوراقها، فهو مجموع في يومنا هذا في خلال المقصورة إلى جانب باب مروان. وفي الحرم عدة مصاحف موقوفة بخطوط ملاح مخزونة في خزانتين من ساجٍ بين يدي المقصورة خلف مقام النبي صلى الله عليه وسلم، وهناك كرسي كبير فيه مصحفٌ مقفلٌ عليه أنفذ به من مصر، وهو عند الأسطوانة التي في صف مقام النبي صلى الله عليه وسلم، محاذي الحجرة الشريفة، وإلى جانبه مصحفان على كرسيين يقرأ الناس فيهما، وليس في المسجد ظاهر سواهما. ذكر السقايات التي كانت في المسجد قال محمد بن الحسن بن زبالة: كان في صحن مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم تسع عشرة سقاية إلى أن كتبنا كتابنا هذا في صفر سنة تسع وتسعين ومائة. منها: ثلاثة عشر أحدثتها خالصة، وهي أول من أحدث ذلك. ومنها: ثلاث سقايات ليزيد البربري مولى أمير المؤمنين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 ومنها: سقاية لأبي البختري وهب بن وهب، وسقاية لسحر أم ولد هارون أمير المؤمنين، وسقاية لسلسبيل أم ولد جعفر بن أبي جعفر. قلت: وأما الآن، فليس في المسجد سقاية إلا في وسطه وفيه بركة كبيرة مبنية بالآجر والخشب، ينزل الناس إليها بدرج أربع في جوانبها والماء ينبع من فوارة في وسطها يأتي من العين، ولا يكون الماء فيها إلا في أيام الموسم إذا جاء الحاج، وبقية السنة تكون فارغة، عملها بعض أمراء الشام واسمه شامة. وعملت الجهمة أم الخليفة الناصر لدين الله –وفقها الله توفيقاً سديداً- في مؤخر المسجد سقاية كبيرة فيها عدة من البيوت، وحفرت لها بئراً، وفتحت لها باباً إلى المسجد في الحائط الذي يلي الشام، وهي تفتح في أيام الموسم أيضاً. ذكر ذرع المسجد اليوم وعدد أساطينه وطيقانه وأبوابه وذكر تجديد عمارته وما يتعلق به من الرسوم اعلم أن طول المسجد اليوم من قبلته إلى الشام، مائتا ذراع وأربع وخمسون ذراعاً وأربع أصابع، ومن شرقيه إلى غربيه مائة ذراع وسبعون ذراعاً شافة، وطول رحبته من القبلة إلى الشام مائة ذراع وتسع وخمسون ذراعاً وثلاث أصابع، ومن شرقيه إلى غربيه سبع وتسعون ذراعاً راجحة، وطول المسجد في السماء خمس وعشرون ذراعاً، هذا ما ذرعته أنا بخيط. وذكر محمد بن الحسن بن زبالة: أن طول مناراته خمس وخمسون ذراعاً، وعرضهن ثمانية أذرع في ثمانية أذرع. وأما طيقانه: ففي القبلة إحدى عشرة طاقة، وفي الشام مثلها، وفي المشرق والمغرب تسع عشرة طاقة، وبين كل طاقتين أسطوان، ورؤوس الطاقات مسددة بشبابيك من خشب. وأما عدد أساطينه غير التي في الطيقان: ففي القبلة ثمان وستون أسطوانة، منها في القبر صلى الله على ساكنه وسلم أربع، وفي الشام مثلها، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 وفي الشرق أربعون أسطواناً؛ منها اثنتان في الحجرة، وفي المغرب ستون أسطواناً؛ وبين كل أسطوان وأسطوان تسعة أذرع. وأما أبوابه: فكانت بعد زيادة المهدي فيه: في المشرق باب علي رضي الله عنه، ثم باب النبي صلى الله عليه وسلم، ثم باب عثمان رضي الله عنه، ثم باب مستقبل دار ريطة، وباب مستقبل دار أسماء بنت الحسن، ثم باب مستقبل دار خالد بن الوليد، ثم باب مستقبل زقاق المناصع، ثم باب مستقبل أبيات الصوافي، فذلك ثمانية أبواب. منها باق في يومنا هذا: باب عثمان، والباب المقابل لدار ربطة. وفي الشام أربعة أبواب: الأول حذاء دار شرحبيل بن حسنة، والثاني والرابع حذاء بقية دار عبد الله بن مسعود، وليس منها شيء مفتوح في زماننا هذا. وفي المغرب سبعة أبواب: الخامس منها باب عاتكة والسادس باب زياد، والسابع مروان وليس منها شيء مفتوح في يومنا هذا إلا باب عاتكة، ويعرف الآن بباب الرحمة، وباب مروان وهو الذي يلي باب الإمارة، وفي دار مروان باب إلى المسجد باق على حاله إلى الآن. روى إبراهيم بن محمد، عن ربيعة بن عثمان قال: لم يبق من الأبواب التي كان رسول الله يدخل منها إلا باب عثمان. واعلم أن حدود مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم من القبلة الدرابزينات التي بين الأساطين، ومن الشام الخشبتان المغروزتان في صحن المسجد. فهذا طوله، وأما عرضه من المشرق إلى المغرب، فهو من حجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى الأسطوان الذي بعد المنبر وهو آخر البلاط. ولم تزل الخلفاء من بني العباس ينفذون الأمراء على المدينة ويمدونهم بالأموال لتجديد ما يتهدم من المسجد، ولم يزل ذلك متصلاً إلى أيام الإمام الناصر لدين الله أمير المؤمنين وفقه الله لمنهاج الدين ولإقامة عزة الإسلام والمسلمين ونصره على كافة الأعداء والمخالفين، فإنه ينفذ في كل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 سنة من الذهب العين الإمامي ألف دينار لأجل عمارة المسجد، وينفذ عدة من النجارين، والبنائين، والنقاشين، والمزوقين، والجصاصين، والحراقين، والحدادين، والدوزجارية، والحمالين، ويكون مادتهم ما يأخذونه من الديوان العزي ببغداد، من غير هذه الألف المذكورة، وينفذ من الحديد والرصاص والأصباغ والجبال والآلات شيئاً كثيراً، ولا تزال العمارة متصلة في المسجد ليلاً ونهاراً حتى إنه ليس به اصبع إلا عامراً، وينفذ من القناديل والشيرج والشمع عدة أحمال لأجل المسجد، وينفذ من الند والغالية المركبة والعود لأجل تجمير المسجد شيئاً كثيراً. وأما الرسوم التي تصل من الديوان لغير العمارة: فأربعة آلاف دينار من العين الأمامية للصدقات على أهل المدينة من العلويين وغيرهم، وينفذ من الثياب القطن ألف وخمسمائة ذراع لأجل أكفان من يموت من الفقراء الغرباء، هذا غير ما ينفذ للخطيب وإمام الروضة وللمؤذنين وخدام المسجد. وذكر يوسف بن مسلم: أن زيت قناديل مسجد النبي صلى الله عليه وسلم كان يحمل من الشام حتى انقطع في ولاية جعفر بن سليمان الأخيرة على المدينة، فجعله على سوق المدينة. فلما ولي المدينة داود بن عيسى سنة سبع أو ثمان وتسعين مائة، أخرجه من بيت المال. قلت: وفي يومنا هذا يصل الزيت من مصر من وقفٍ هناك ومقداره سبعة وعشرون قنطاراً بالمصري، والقنطار مائة وثلاثون رطلاً، ويصل معه مائة وستون شمعة بيضاء كبار وصغار، وعلبة فيها مائة مثقال ند. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 الباب الثالث عشر في ذكر المساجد التي بالمدينة وفضلها اعلم أن المساجد والمواضع التي صلى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة كثيرة، وأساميها في الكتب مذكورة، إلا أن أكثرها لا يعرف في يومنا هذا، فذكره لا فائدة فيه هنا. فأما المساجد التي هي اليوم معروفة فهي: مسجد قباء روى البخاري في ((الصحيح)) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لبث في بني عمرو بن عوف بضع عشرة ليلة، وأسس المسجد الذي على التقوى وصلى فيه وخرج إلى المدينة. أنبأنا عبد الرحمن بن علي قال: أنبأنا محمد بن أبي منصور، أخبرنا محمد بن أحمد المقري، أنبأنا عبد الملك بن محمد الواعظ، حدثنا دعلج بن أحمد، حدثنا ابن خزيمة، حدثنا محمد بن يحيى، حدثنا إسماعيل بن أبي أويس، حدثني أبي، عن شرحبيل بن سعد، عن عويمر بن ساعدة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأهل قباء: ((إن الله قد أحسن الثناء عليكم في الطهور، قال: {فيه رجالٌ يحبون أن يتطهروا} إلى آخر الآية، ما هذا الطهور؟ فقالوا: ما نعلم شيئاً إلا أنه كان لنا جيران من اليهود وكانوا يغسلون أدبارهم من الغائط، فغسلنا كما غسلوا)) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 وفي ((الصحيحين)) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزور قباء راكباً وماشياً. وفي ((صحيح مسلم)) أن عبد الله بن عمر كان يأتي قباء في كل سبت ويقول: ((رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتيه كل سبت)) . وروى أبو عروبة قال: كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يأتي قباء كل يوم الاثنين ويوم الخميس، فجاء يوماً فلم يجد أحداً من أهله، فقال: والذي نفسي بيده، لقد رأيتنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر في أصحابه ننقل حجارته على بطوننا، ويؤسسه رسول الله صلى الله عليه وسلم وجبريل عليه السلام يؤم به البيت. ومحلوف عمر بالله: لو كان مسجدنا هذا لطرف من الأطراف لضربنا إليه أكباد الإبل. وروى البخاري في ((الصحيح)) قال: كان سالم مولى أبي حذيفة يؤم المهاجرين الأولين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجد قباء فيهم أبو بكر وعمر رضي الله عنهم أجمعين. وروى أبو أمامة بن سهل بن حنيف، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من توضأ فأسبغ الوضوء وجاء مسجد قباء فصلى فيه ركعتين كان له أجر عمرة)) . وروت عائشة بنت سعد بن أبي وقاص عن أبيها قال: والله لأن أصلي في مسجد قباء ركعتين أحب إلي من أن آتي إلى بيت المقدس مرتين، ولو يعلمون ما فيه لضربوا إليه أكباد الإبل. وروى نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى إلى الأساطين الثلاث في مسجد قباء التي في الرحبة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 قلت: لما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، نزل في بني عمرو بن عوف بقباء في منزل كلثوم بن الهدم، وأخذ مربد فأسسه مسجداً وصلى فيه. ولم يزل ذلك المسجد يزوره رسول الله صلى الله عليه وسلم مدة حياته ويصلي فيه أهل قباء، فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم لم تزل الصحابة تزوره وتعظمه. ولما بنى عمر بن عبد العزيز مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، بنى مسجد قباء ووسعه، وبناه بالحجارة والجص، وأقام فيه الأساطين من الحجارة بينها غواميد الحديد والرصاص ونقشه بالفسيفساء، وعمل له منارة وسقفه بالساج وجعله أروقة، وفي وسطه رحبة، وتهدم على طول الزمان حتى جدد عمارته جمال الدين الأصبهاني وزير بني زنكي، الملوك ببلاد الموصل. وذرعت مسجد قباء فكان طوله ثمان وستين ذراعاً تشف قليلاً، وعرضه كذلك، وارتفاعه في السماء عشرون ذراعاً، وطول منارته سطحه إلى رأسها اثنان وعشرون ذراعاً، وعلى رأسها قبة طولها نحو العشرة أذرع، وعرض المنارة من جهة القبلة عشرة أذرع شافة، ومن المغرب ثمانية أذرع، وفي المسجد تسعة وثلاثون أسطواناً، بين كل أسطوانين سبعة أذرع شافة، وفي جدرانه طاقات نافذة إلى خارج، في كل جانب ثمان طاقات إلى الجانب الذي يلي الشام، فإن الثامنة فيها المنارة، فهي مسدودة، والمنارة عن يمين المصلى وهي مربعة. مسجد الفتح أنبأنا حنبل بن عبد الله الرصافي، قال: أخبرنا أبو القاسم بن الحصين، أخبرنا أبو علي بن المذهب، أنبأنا أبو بكر القطيعي، حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، حدثني أبي، حدثنا أبو عامر كثير – يعني ابن زيد-، حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، قال: حدثني جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا في مسجد الفتح يوم الاثنين ويوم الثلاثاء ويوم الأربعاء، فاستجيب له يوم الأربعاء بعد الصلاتين فعرف البشر في وجهه)) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 أنبأنا القاسم بن علي، أخبرنا هبة الله بن أحمد، أخبرنا أبو منصور بن شكروي، أخبرنا إبراهيم بن عبد الله، حدثنا أبو عبد الله المحاملي، حدثنا علي بن سالم، حدثنا إسماعيل بن أبي فديك، عن معاذ بن سعيد السلمي عن أبيه، عن جابر رضي الله عنه: ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بمسجد الفتح الذي على الجبل، وقد حضرت صلاة العصر، فرقى فصلى فيه صلاة العصر)) . وروى هارون بن كثير، عن أبيه، عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الخندق دعا على الأحزاب في موضع الأسطوانة الوسطى من مسجد الفتح الذي على الجبل. قلت: وهذا المسجد على رأس جبل يصعد إليه بدرج، وقد عمر عمارة جديدة، وعن يمينه في الوادي نخل كثير ويعرف ذلك الموضع: بالسيح، ومساجد حوله وهي ثلاثة: قبلة الأول منها خراب، قد هدم وأخذت حجارته، والآخران معموران بالحجارة والجص، وهما في الوادي عند النخل. وروى معاذ بن سعد: أن رسول الله عليه الصلاة والسلام صلى في مسجد الفتح في الجبل، وفي المساجد التي حوله. مسجد القبلتين روى عثمان بن محمد الأخنسي قال: زار رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة من بني سلمة يقال لها: أم بشير في بني سلمة، فصنعت له طعاماً، فحانت الظهر فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصحابه في مسجد القبلتين الظهر، فلما صلى ركعتين، أمر أن يتوجه إلى الكعبة، فاستدار رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسمي ذلك المسجد ((مسجد القبلتين)) ، وكانت الظهر يومئذ أربع ركعات، منها ثنتان إلى بيت المقدس، وثنتان إلى الكعبة. وقال سعيد بن المسيب رضي الله عنه: صرفت القبلة قبل بدر بشهرين، والثابت عندنا أنها صرفت في الظهر في المسجد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 قلت: وهذا المسجد بعيدٌ من المدينة قريب من بئر رومة، وقد انهدم وأخذت حجارته وبقيت آثاره وموضعه يعرف بالقاع. مسجد الفضيخ روي عن هشام بن عروة، والحارث بن فضيل أنهما قالا: صلى النبي صلى الله عليه وسلم في مسجد الفضيخ. قلت: وهذا المسجد قريب من قباء ويعرف بمسجد الشمس وهو حجارة مبنية على نشزٍ من الأرض. مسجد بني قريظة روى علي بن رفاعة عن أشياخ من قومه أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في بيت امرأة، فأدخل ذلك البيت في مسجد بني قريظة، وهو المكان الذي صلى فيه النبي صلى الله عليه وسلم ببني قريظة. قلت: وهذا المسجد اليوم باق بالعوالي، وهو كبير طوله نحو عشرين ذراعاً وعرضه كذلك، وفيه ست عشرة أسطوانة قد سقط بعضها، وهو بلا سقف وحيطانه مهدومة، وقد كان مبنياً على شكل بناء مسجد قباء وحوله بساتين ومزارع. ومشربة أم إبراهيم ابن النبي عليه الصلاة والسلام روى إبراهيم بن محمد بن يحيى بن محمد بن ثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في مشربة أم إبراهيم عليه السلام. قلت: وهذا الموضع بالعوالي من المدينة بين النخل، وهو أكمة قد حوط عليها بلبن، والمشربة: البستان، وأظنه قد كان بستاناً لمارية القبطية أم إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم، والله أعلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 واعلم أن بالمدينة عدة مساجد خراب، فيها المحاريب وبقايا الأساطين، وتنقض وتؤخذ حجارتها فتعمر بها الدور. منها: مسجد بقباء قريب من مسجد الضرار فيه أسطوانات قائمة. ومسجدان قريبان من البقيع، أحدهما يعرف: بمسجد الإجابة، وفيه أسطوانات قائمة ومحراب مليح، وباقيه خراب. وآخر يعرف بمسجد البغلة، فيه أسطوانة واحدة وهو خراب، وحوله يسير من الحجارة، فيه أثر يقولون: إنه أثر حافري بغلة النبي صلى الله عليه وسلم، فتستحب الصلاة في هذه المواضع وإن لم يعرف أساميها، لأن الوليد بن عبد الملك كتب إلى عمر بن عبد العزيز وهو واليه على المدينة: مهما صح عندك من المواضع التي صلى فيها النبي صلى الله عليه وسلم فابن عليه مسجداً، فهذه الآثار كلها آثار بناء عمر بن عبد العزيز. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 الباب الرابع عشر في ذكر مسجد الضرار وهدمه هذا المسجد بناه المنافقون مضاهاة لمسجد قباء، فكانوا يجتمعون فيه ويعيبون النبي صلى الله عليه وسلم ويستهزئون به، وكان الذين بنوه اثني عشر رجلاً: حرام بن خالد ومن داره أخرجه، وثعلبة بن حاطب، ومعتب بن قشير، وأبو حبيبة بن الأزعر، وعباد بن حنيف، وحارثة بن عامر وابناه مجمع وزيد، ونبتل بن الحارث، ومحدج وبجاد بن عثمان، ووديعة بن ثابت. فلما بنوه أتوا النبي صلى الله عليه وسلم وهو يتجهز إلى تبوك، فقالوا: يا رسول الله، إنا قد بنينا مسجداً لذي العلة والحاجة، والليلة المطيرة والليلة الشاتية، وإنا نحب أن تأتينا فتصلي لنا فيه. فقال صلى الله عليه وسلم: ((إني على جناح سفر وحال شغل، ولو قد قدمنا إن شاء الله، لأتيناكم فصلينا لكم فيه. فلما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بذي أوان)) ، وهو بلد بينه وبين المدينة ساعة من نهار ومرجعه من تبوك، أتاه خبر المسجد، فدعا رسول الله عليه الصلاة والسلام مالك بن الدخشم، ومعن بن عدي، أو أخاه عاصماً؛ فقال صلى الله عليه وسلم: ((انطلقا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدماه وحرقاه)) ، فخرجا سريعين حتى أتيا بني سالم بن عوف، فأخذا سعفاً من النخل وأشعلا فيه ناراً، ثم خرجا يشتدان حتى دخلا المسجد وفيه أهله، فحرقاه وهدماه، وتفرق أهله عنه، ونزل فيه من القرآن ما نزل {والذين اتخذوا مسجداً ضراراً وكفراً} ، إلى آخر القصة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 قلت: وهذا المسجد قريب من مسجد قباء، وهو كبير وحيطانه عالية وتؤخذ منه الحجارة، وقد كان بناؤه مليحاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 الباب الخامس عشر في ذكر وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه رضي الله عنهما روي عن أبي مويهبة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: بعثني رسول الله من جوف الليل فقال: يا أبا مويهبة، إني قد أمرت أن أستغفر لأهل البقيع فانطلق معي، فانطلقت معه، فلما وقف بين أظهرهم قال: السلام عليكم يا أهل المقابر، ليهن لكم ما أصبحتم فيه مما أصبح الناس فيه، أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم يتبع آخرها أولها، الآخرة شر من الأولى. ثم أقبل علي وقال: يا أبا مويهبة، إني قد أوتيت مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها، ثم الجنة، فخيرت بين ذلك وبين لقاء ربي والجنة؟ قال: فقتل: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، فخذ مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها، ثم الجنة، قال: لا والله يا أبا مويهبة، لقد اخترت لقاء ربي والجنة. ثم استغفر لأهل البقيع، ثم انصرف. فبدأ برسول الله صلى الله عليه وسلم وجعه الذي قبضه الله فيه. وروي عن عائشة رضي الله عنها قالت: رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من البقيع، فوجدني وأنا أجد صداعاً في رأسي، وأنا أقول: وارأساه، فقال: بل والله يا عائشة وارأساه، فقال: وما ضرك لو مت قبلي فقمت عليك وكفنتك وصليت عليك ودفنتك، قالت: قلت: لكأني بك قد فعلت ذلك، ثم رجعت إلى بيتي فأعرست فيه ببعض نسائك. قالت: فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وتتام به وجعه وهو يدور على نسائه، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 حتى اشتد به وجعه وهو في بيت ميمونة، فدعا نساءه وكن تسعاً: عائشة وحفصة وأم سلمة وأم حبيبة وسودة وزينب وميمونة وجويرية وصفية رضي الله عنهن، فاستأذنهن على أن يمرض في بيت عائشة، فأذن له فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي بين العباس وعلي رضي الله عنهما عاصباً رأسه، تخط قدماه الأرض حتى دخل بيت عائشة، ثم حم رسول الله صلى الله عليه وسلم واشتد وجعه فقال: هريقوا علي من سبع قرب من آبار شتى حتى أخرج إلى الناس فأعهد إليهم، فأقعدوه صلى الله عليه وسلم في مخضب وصبوا عليه الماء. وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم عاصباً رأسه حتى جلس على المنبر، فصلى على أصحاب أحد واستغفر لهم وأكثر الصلاة عليهم، ثم قال: إن عبداً من عباد الله خيره الله عز وجل بين الدنيا وبين ما عنده، فاختار ما عنده، قال: ففهمها أبو بكر، وعرف أن نفسه يريد وقال: بل نحن نفديك بأنفسنا وأبنائنا، ثم قال رسول الله عليه الصلاة والسلام: يا معشر المهاجرين استوصوا بالأنصار خيراً، فإن الناس يزيدون والأنصار على هيئتها لا تزيد، وإنهم كانوا عيبتي التي أويت إليها، فأحسنوا إلى محسنهم، وتجاوزوا عن مسيئهم، ثم نزل فدخل بيته وتتام به وجعه. وروى البخاري في ((الصحيح)) من حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت: ((ما رأيت أحداً الوجع عليه أشد من رسول الله صلى الله عليه وسلم)) . وفيه أيضاً: من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: ((دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يوعك، فقلت: يا رسول الله إنك توعك وعكاً شديداً، قال: أجل، إني أوعك كما يوعك رجلان منكم)) . ولما اشتد به وجعه صلى الله عليه وسلم، جاءه بلال يؤذنه بصلاة الفجر من يوم الاثنين قال: ((مروا أبا بكر فليصل بالناس)) ، فلما تقدم أبو بكر رضي الله عنه يصلي بالناس، وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم خفةً فخرج على الناس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 قال أنس: فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على الناس وهم يصلون الصبح فرفع الستر وقام على باب عائشة، فكاد المسلمون يفتتنون في صلاتهم برسول الله صلى الله عليه وسلم حين رأوه فرحاً به وتفرجوا، فأشار إليهم أن اثبتوا على صلاتكم. قال: وتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم سروراً لما رأى من هيئتهم في صلاتهم وما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن هيئة منه تلك الساعة. قال أبو بكر بن أبي مليكة: فلما تفرج الناس عرف أبو بكر رضي الله عنه أنهم لم يفعلوا ذلك إلا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فنكص عن مصلاه، فدفعه رسول الله صلى الله عليه وسلم في ظهره وقال: صل بالناس، وجلس الرسول صلى الله عليه وسلم إلى جانبه فصلى قاعداً عن يمين أبي بكر. فلما فرغ من الصلاة، أقبل على الناس فكلمهم رافعاً صوته حتى خرج صوته من باب المسجد يقول: ((يأيها الناس، سعرت النار وأقبلت الفتن كقطع الليل المظلم، وإني والله ما تمسكون علي بشيء، إني لم أحل إلا ما أحل القرآن، ولم أحرم إلا ما حرم القرآن)) . فلما فرغ صلى الله عليه وسلم من كلامه، قال له أبو بكر رضي الله عنه: يا نبي الله إني أراك قد أصبحت بنعمة من الله وفضل كما نحب، واليوم يوم بنت خارجة، أفآتيها؟ قال: نعم، قال: ثم دخل عليه الصلاة والسلام وخرج أبو بكر إلى أهله بالسنح. وخرج يومئذ علي بن أبي طالب رضي الله عنه على الناس من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له الناس: يا أبا الحسن، كيف أصبح رسول الله؟ فقال: أصبح بحمد الله بارئاً، قال: فأخذ العباس بيده وقال: يا علي، أحلف بالله لقد رأيت الموت في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما كنت أعرفه في وجوه بني عبد المطلب. وفي ((صحيح البخاري)) من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: ((دعا النبي صلى الله عليه وسلم فاطمة في شكواه الذي قبض فيه، فسارها بشيء فبكت، ثم دعاها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 فسارها فضحكت، فسألتها عن ذلك، فقالت: سارني أنه يقبض في وجعه فبكيت، ثم سارني أني أول أهله لحوقاً به فضحكت)) . و ((فيه)) من حديثها أيضاً أنها قالت: ((إن من نعم الله علي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي في بيتي وفي يومي، وبين سحري ونحري، وإن الله جمع بين ريقي وريقه عند موته، دخل علي عبد الرحمن بن أبي بكر وأنا مسندة النبي صلى الله عليه وسلم إلى صدري ومعه سواك رطب يستن به، فرأيته ينظر إليه وعرفت أنه يحب السواك، فقلت: آخذه لك؟ فأشار برأسه أن نعم، فلينته وطيبته، ثم دفعته إليه فاستن به، فما رأيت النبي عليه الصلاة والسلام استن استناناً قط أحسن منه، وبين يديه ركوة فيها ماء، فجعل يدخل يده في الماء فيمسح بها وجهه ويقول: لا إله إلا الله إن للموت لسكرات، ثم نصب يديه فجعل يقول: في الرفيق الأعلى، حتى قبض ومالت يده)) . قالت عائشة رضي الله عنها: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو صحيح يقول: إنه لن يقبض نبيٌ حتى يرى مقعده من الجنة ثم يخير)) . فلما اشتكى وحضره القبض ورأسه على فخذي، غشي عليه، فلما أفاق شخص بصره نحو سقف البيت ثم قال: اللهم في الرفيق الأعلى. فقلت: إذاً لا يختارنا، فعرفت أنه حديثه الذي كان يحدثنا وهو صحيح)) . وقالت عائشة رضي الله عنها: سمعت رسول الله عليه الصلاة والسلام وأصغيت إليه قبل أن يموت وهو مسندٌ إلي ظهره يقول: ((اللهم اغفر لي وارحمني وألحقني بالرفيق الأعلى)) . ولما تغشاه الموت، قالت فاطمة رضي الله عنها: واكرب أباه، قال لها: ((ليس على أبيك كرب بعد اليوم)) . قالت عائشة رضي الله عنها: وثقل رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجري، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 فنظرت في وجهه فإذا بصره قد شخص، وهو يقول: ((بل الرفيق الأعلى في الجنة)) وقبض صلى الله عليه وسلم. قالت: فوضعت رأسه على وسادتي، وقمت التدم مع النساء أضرب وجهي. وقالت فاطمة رضي الله عنها تندبه صلى الله عليه وسلم: يا أبتاه؛ أجاب رباً دعاه، يا أبتاه؛ في جنة الفردوس مأواه، يا أبتاه؛ إلى جبريل ننعاه. وقال جبريل عليه السلام للنبي صلى الله عليه وسلم عند موته: يا أحمد هذا آخر وطئي في الأرض ولا أنزل إليها أبداً بعد، إنما كنت حاجتي من الدنيا. وكانت وفاته صلى الله عليه وسلم حين اشتد الضحى من يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة مضت من ربيع الأول، سنة إحدى عشرة مضت من الهجرة على ثلاث وستين سنة من عمره، وكمل بالمدينة من يوم دخلها إلى يوم مات عشر سنين كوامل مبلغاً لرسالات الله مجاهداً لأعدائه. ولما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم قام عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: إن رجالاً من المنافقين يزعمون أن رسول الله قد توفي، وإن رسول الله ما مات، ولكنه ذهب إلى ربه كما ذهب موسى، فإنه غاب عن قومه أربعين ليلة ثم رجع إليهم بعد أن قيل قد مات، ووالله ليرجعن رسول الله صلى الله عليه وسلم فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم زعموا أنه قد مات! قالوا: وأقبل أبو بكر على فرس من مسكنه بالسنح، فلم يكلم الناس حتى دخل على عائشة رضي الله عنها، فيمم رسول الله وهو مسجى بثوب حبرةٍ، فكشف عن وجهه، ثم أكب عليه فقبله وبكى، ثم قال: بأبي وأمي أنت، والله لا يجمع الله عليك موتتين: أما الموتة التي كتبت عليك فقد متها ثم لن يصيبك بعدها موتة أبداً. ثم رد البرد على وجهه، وخرج وعمر بن الخطاب رضي الله عنه يكلم الناس، فقال: على رسلك يا عمر أنصت، فأبى إلا أن يتكلم، فلما رآه أبو بكر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 رضي الله عنه لا ينصت أقبل على الناس، فلما سمع الناس كلامه، أقبلوا عليه وتركوا عمر. فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس! إنه من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حيٌ لا يموت قال: ثم تلا هذه الآية: {وما محمدٌ إلا رسولٌ قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبية فلن يضر الله شيئاً وسيجزي الله الشاكرين} . قال: فوالله لكأن الناس لم يعلموا أن هذه الآية نزلت حتى تلاها أبو بكر يومئذ، قال: وأخذها الناس عن أبي بكر رضي الله عنه فهي في أفواههم. قال عمر: فوالله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها فعقرت حتى وقعت إلى الأرض، ما تحملني رجلاي، وعرفت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات. ولما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا والله لا يدفن وما مات، وإنه ليوحى إليه، فأخروه حتى أصبحوا من يوم الثلاثاء، وقال العباس رضي الله عنه: إنه قد مات وإني لأعرف منه موت بني عبد المطلب. وقال القاسم بن محمد: ما دفن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى عرف الموت في أظفاره. قالت عائشة رضي الله عنها: لما أرادوا غسل رسول الله اختلفوا فقالوا: والله ما ندري أنجرد رسول الله صلى الله عليه وسلم كما نجرد موتانا؟ أو نغسله وعليه ثياب؟! قالت: فلما اختلفوا ألقى الله عليهم النوم حتى ما منهم رجل إلا ذقنه في صدره، ثم كلمهم مكلمٌ من ناحية البيت لا يدرون من هو: أن اغسلوا النبي صلى الله عليه وسلم وعليه ثيابه. قالت: فقاموا إلى رسول الله فغسلوه وعليه قميصه، يصبون الماء فوق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 القميص دون أيديهم، وغسله علي رضي الله عنه، أسنده إلى صدره وعليه قميصه يدلكه به من ورائه، لا يفضي بيده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، والعباس وابناه الفضل وقثم يقلبونه معه، وأسامة بن زيد وشقران مولى النبي صلى الله عليه وسلم يصبان الماء عليه وعلي يقول: بأبي أنت وأمي ما أطيبك حياً وميتاً، ولم ير من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء مما يرى من الميت، فلما فرغوا من غسله كفن. روى البخاري في ((الصحيح)) من حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت: ((كفن رسول الله في ثلاثة أثواب بيض سحولية من كرسفٍ ليس فيها قميص ولا عمامة)) . فلما فرغ من جهاز رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الثلاثاء وضع على سريره في بيته، ثم دخل الناس يصلون عليه أرسالاً، الرجال ثم النساء ثم الصبيان، ولم يؤم الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد. واختلفوا في دفنه؟ فأنبأنا عبد الرحمن بن علي، أخبرنا أبو الحسن الفقيه، أخبرنا علي بن أحمد البندار، أنبأنا عبيد الله بن محمد العكبري، حدثنا أبو عبد الله بن مخلد، حدثنا علي بن سعد بن المغيرة، حدثنا محمد بن عمر، حدثنا عبد الحميد بن جعفر، عن عثمان بن محمد الأخنسي، عن عبد الرحمن بن سعيد بن يربوع، قال: لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم اختلفوا في موضع قبره، فقال قائل: بالبقيع، فإنه كان يكثر الاستغفار لهم، وقال: قائل منهم: عند منبره، وقال قائل منهم: في مصلاه. فجاء أبو بكر رضي الله عنه فقال: إن عندي من هذا خبراً وعلماً، سمعت رسول الله يقول: ((ما قبض إلا دفن حيث توفي)) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 أخبرنا لاحق بن علي الصوفي، أخبرنا هبة الله بن محمد الكاتب، أخبرنا الحسن بن محمد الواعظ، أنبأنا أحمد بن جعفر القطيعي، حدثنا عبد الله بن أحمد بن محمد بن حنبل، حدثني أبي، حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا ابن جريج قال: أخبرني أبي أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لم يدروا أين يقبرون رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قال أبو بكر رضي الله عنه، فأخروا فراشه وحفروا له تحت فراشه. وروى عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما أرادوا أن يحفروا لرسول الله عليه الصلاة والسلام وكان أبو عبيدة يضرح حفر أهل مكة، وكان أبو طلحة يلحد لأهل المدينة، فدعا العباس رجلين فقال لأحدهما: اذهب إلى أبي عبيدة، وللآخر: اذهب إلى أبي طلحة، اللهم خر لرسولك صلى الله عليه وسلم، فوجد صاحب أبي طلحة أبا طلحة، فجاء به فلحد لرسول الله. ثم دفن رسول الله من وسط الليل ليلة الأربعاء، وكان الذين نزلوا قبره: علي بن أبي طالب، والفضل وقتم ابنا العباس، وشقران مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبني على لحده تسع لبنات نصبن نصباً. وروى جعفر بن محمد الصادق، عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم رش على قبره وجعل عليه حصباء حمراء من حصباء العرصة، ورفع قدر شبرين من الأرض. وروى البخاري في ((الصحيح)) من حديث أبي بكر بن عياش عن سفيان التمار: أنه حدثه أنه رأى قبر النبي صلى الله عليه وسلم مسنماً. وفي ((صحيح البخاري)) من حديث أنس بن مالك أنه قال: ((لما دفن النبي صلى الله عليه وسلم قالت فاطمة رضي الله عنها: يا أنس! أطابت أنفسكم أن تحثوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم التراب؟)) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 أنبأنا أبو جعفر الواسطي، عن أبي طالب بن يوسف، أخبرنا أبو الحسين بن الأبنوسي، عن عمر بن شاهين، أخبرنا محمد بن موسى، حدثنا أحمد بن محمد الكاتب، حدثني طاهر بن يحيى، حدثني أبي، عن جدي، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: لما رمس رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءت فاطمة رضي الله عنها فوقفت على قبره وأخذت قبضة من تراب القبر، فوضعته على عينها وبكت وأنشأت تقول: ماذا على من شم تربة أحمد ... أن لا يشم مدى الزمان غواليا صبت علي مصائب لو أنها ... صبت على الأيام عدن لياليا روي عن أبي جعفر محمد بن علي أنه قال: ما رأيت فاطمة رضي الله عنها بعد أبيها ضاحكة، ومكثت بعده ستة أشهر. وروى حجاج بن عثمان عن أبيه قال: رأيتهم اجتمعوا يوم مات النبي صلى الله عليه وسلم على أكمة، فجعلوا يبكون عليه. وروى البخاري في ((الصحيح)) من حديث أبي بردة قال: ((أخرجت إلينا عائشة رضي الله عنها كساء وإزاراً غليظاً فقالت: قبض روح رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذين)) . وروى أنس من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي لم يقم منه: ((لعن الله اليهود والنصاري اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) ، ولولا ذلك أبرز قبره غير أنه خشي أن يتخذ مسجداً. أنبأنا يحيى بن أسعد بن بوش، عن أبي علي الحداد، عن أبي نعيم الحافظ، عن جعفر الخلدي، أنبأنا أبو يزيد المخزومي، حدثنا الزبير بن بكار، حدثنا محمد بن الحسن قال: حدثني غير واحد، منهم عبد العزيز بن أبي حازم، ونوفل بن عمارة قالوا: إن عائشة رضي الله عنها كانت تسمع صوت الوتد والمسمار يضرب في بعض الدور المطنبة بمسجد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 النبي صلى الله عليه وسلم، فترسل إليهم: أن لا تؤذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما عمل علي بن أبي طالب رضي الله عنه مصراعي داره إلا بالمناصع توقياً لذلك. وروي أن بعض نساء النبي صلى الله عليه وسلم دعت نجاراً يغلق ضبةً لها، وأن النجار ضرب المسمار في الضبة ضرباً شديداً، فصاحت عائشة رضي الله عنها بالنجار وكلمته كلاماً شديداً، وقالت: ألم تعلم أن حرمة رسول الله صلى الله عليه وسلم ميتاً كحرمته إذا كان حياً، قالت الأخرى: وماذا سمع من هذا؟، قالت: عائشة رضي الله عنها: إنه ليؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم صوت هذا الضرب كما لو كان يؤذيه حياً، صلى الله عليه وسلم تسليماً كثيراً. ذكر وفاة أبي بكر رضي الله عنه ذكر محمد بن جرير الطبري بإسناد له: أن اليهود سمت أبا بكر رضي الله عنه في أرزة، ويقال: في خزيرة، وتناول معه الحارث بن كلدة منها، ثم كف وقال لأبي بكر: أكلت طعاماً مسموماً، فسم لسنته، فمات بعد سنة، ومرض خمسة عشر يوماً فقيل له: لو أرسلت إلى الطبيب، فقال: قد رآني، قالوا: فماذا قال لك؟ قال: قال: إني أفعل ما أشاء. وقالت عائشة رضي الله عنها: كان أول ما بدأ أبو بكر رضي الله عنه أنه اغتسل يوم الاثنين لسبع خلون من جمادى الآخرة، وكان يوماً بارداً فحم خمسة عشر يوماً لا يخرج إلى الصلاة، وكان يأمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه يصلي بالناس، ويدخل عليه الناس يعودونه وهو يثقل كل يوم، وهو يومئذٍ نازلٌ في داره التي قطعها له رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاه دار عثمان بن عفان رضي الله عنه. قال أهل السير: كان ينزل أبو بكر بالسنح عند زوجته بنت خارجة بن زيد، وأقام بالسنح بعد ما بويع له بالخلافة ستة أشهر يغدو على رجليه إلى المدينة، وربما ركب على فرس له وعليه إزار ورداء، فيوافي المدينة فيصلي الصلاة بالناس، فإذا صلى العشاء رجع إلى أهله بالسنح، فكان إذا حضر صلى وإن لم يحضر صلى بهم عمر بن الخطاب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 وكان تاجراً يغدو كل يوم إلى السوق فيبيع، وكانت له قطعة غنم تروح عليه، وربما خرج بالغنم لرعيها، وربما كفيها ورعيت له، وكان يحلب للحي أغنامه. فلما بويع له بالخلافة قالت جارية من الحي: الآن لا يحلب لنا منائح دارنا، فسمعها أبو بكر رضي الله عنه فقال: بل لعمري لأحلبنها لكم، وإني لأرجو ربي أن لا يغيرني ما دخلت فيه عن خلقٍ كنت عليها، فكان يحلب لهم. ثم نزل المدينة فأقام بها ونظر في أمره، فقال: والله ما يصلح أمر الناس والتجارة، وما يصلحهم إلا التفرغ لهم والنظر في شأنهم، ولا بد لعيالي مما يصلحهم، فترك التجارة واستنفق من بيت مال المسلمين ما يصلحه ويصلح عياله يوماً بيوم، ويحج ويعتمر. وكان الذي فرضوا له في كل سنة ستة آلاف درهم، فلما حضرته الوفاة قال: ردوا ما علي من مال المسلمين، فإني لا أصيب من هذا المال شيئاً، وإن أرضي التي بمكان كذا وكذا للمسلمين بما أصبت من أموالهم، فدفع ذلك إلى عمر رضي الله عنه، فقال عمر: لقد أتعب من بعده. روى البخاري في ((الصحيح)) من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: ((دخلت على أبي بكر رضي الله عنه، فقال: في كم كفنتم النبي صلى الله عليه وسلم؟ قالت: في ثلاثة أثواب بيض سحولية ليس فيها قميص ولا عمامة، وقال لها: في أي يوم توفي رسول الله؟ قالت: يوم الاثنين، قال: فأي يوم هذا؟ قالت: يوم الاثنين، قال: أرجو فيما بيني وبين الليل، فنظر إلى ثوب عليه كان يمرض فيه، به ردعٌ من زعفران، فقال: اغسلوا ثوبي هذا وزيدوا عليه ثوبين فكفنوني فيهما، قلت: إن هذا خلق، قال: إن الحي أحق بالجديد من الميت إنما هو للمهلة، فلم يتوف حتى أمسى من ليلة الثلاثاء، ودفن قبل أن يصبح)) . وكان آخر ما تكلم به أبو بكر رضي الله عنه: رب توفني مسلماً وألحقني بالصالحين، وتوفي بين المغرب والعشاء من ليلة الثلاثاء لثمان بقين من جمادى الآخرة سنة ثلاث عشرة من الهجرة، فكانت خلافته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 سنتين وثلاثة أشهر وعشر ليال، وكان عمره ثلاثاً وستين سنة. وغسلته زوجته أسماء بنت عميس بوصية منه، وابنه عبد الرحمن يصب عليه الماء، وكفن وحمل على السرير الذي حمل عليه رسول الله، وصلى عليه عمر رضي الله عنه في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاه المنبر، ودفن ليلة الثلاثاء إلى جنب رسول الله عليه الصلاة والسلام وألصقوا لحده بلحده، ودخل قبره عمر وعثمان وطلحة وعبد الرحمن ابنه رضي الله عنهم، وكان أبوه أبو قحافة حياً بمكة، فلما نعي إليه قال: رزء جليل، وعاش بعده ستة أشهر وأياماً، وتوفي في المحرم سنة أربع عشرة بمكة وهو ابن سبع وتسعين سنة رضي الله عنهما. ذكر وفاة عمر رضي الله عنه روى أبو بكر بن أبي شيبة في ((مسنده)) من حديث معدان بن أبي طلحة: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قام يوم الجمعة خطيباً، فحمد الله وأثنى عليه، ثم ذكر نبي الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر رضي الله عنه. ثم قال: أيها الناس إني قد رأيت رؤيا كأن ديكاً أحمر نقرني نقرتين ولا أراه ذلك إلا لحضور أجلي، وإن ناساً يأمرون أن أستخلف، وإن الله لم يكن يضيع دينه وخلافته، والذي بعث به نبيه، فإن عجل بي أمر فالخلافة شورى بين هؤلاء الرهط الستة الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض، فأيهم بايعوا، فاسمعوا له وأطيعوا. وذكر كلاماً طويلاً، قال: ((فخطب بها عمر رضي الله عنه يوم الجمعة، وأصيب يوم الأربعاء)) . وروى البخاري في ((الصحيح)) من حديث عمرو بن ميمون قال: ((إني لقائم ما بيني وبين عمر إلا عبد الله بن عباس حذاءه غداة أصيب، وكان إذا مر بين الصفين قال: استووا، حتى إذا لم ير فيهم خللاً تقدم فكبر، وربما قرأ سورة يوسف والنحل، أو نحو ذلك في الركعة الأولى، حتى يجتمع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 الناس، فما هو إلا أن كبر فسمعته يقول: قتلني أو أكلني الكلب حين طعنه أبو لؤلؤة غلام المغيرة، وصار العلج بسكين ذات طرفين لا يمر على أحد يميناً وشمالاً إلا طعنه، حتى طعن ثلاثة عشر رجلاً، مات منهم سبعة، فلما رأى ذلك رجل من المسلمين طرح عليه برنساً، فلما ظن العلج أنه مأخوذ نحر نفسه، وتناول عمر رضي الله عنه يد عبد الرحمن ابن عوف فقدمه، فمن يلي عمر قد رأى الذي رأيت، وأما أواخر المسجد فإنهم لا يدرون، غير أنهم قد فقدوا صوت عمر وهم يقولون: سبحان الله سبحان الله. فصلى بهم عبد الرحمن بن عوف صلاة خفيفة، فلما انصرفوا قال: يا ابن عباس، انظر من قتلني؟ فجال ساعة ثم جاء فقال: غلام المغيرة، قال الصانع؟ قال: نعم، قال: قاتله الله، لقد أمرت به معروفاً، وقال: الحمد الله الذي لم يجعل منيتي على يد رجل يدعي الإسلام، واحتمل إلى بيته، فانطلقنا معه وكأن الناس لم تصبهم مصيبة قبل ذلك. فقائل يقول: لا بأس، وقائل يقول: أخاف عليه، فأتي بنبيذ فشربه، فخرج من جوفه ثم أتي بلبن فشربه فخرج من جوفه، فعرفوا أنه ميت، فدخلنا عليه وجاء الناس يثنون عليه، وجاء شاب فقال: أبشر يا أمير المؤمنين ببشرى الله لك في صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقدمك في الإسلام ما قد علمت، ثم وليت فعدلت، ثم الشهادة، قال: وددت أن ذلك كان كفافاً لا علي ولا لي، فلما أدبر رأى رداءه يمس الأرض، قال: ردوا علي الغلام، قال: يا ابن أخي، ارفع ثوبك فإنه أتقى لربك وأنقى لثوبك، يا عبد الله بن عمر، انظر ما علي من الدين، فحسبوه فوجدوه ستة وثمانين ألفاً أو نحوه، قال: إن وفى له مال آل عمر، فأده من أموالهم، وإلا فاسأل في بني عدي بن كعب فإن لم تف أموالهم فاسأل في قريش ولا تعدهم إلى غيرهم، انطلق إلى عائشة أم المؤمنين فقل: يقرأ عمر عليك السلام –ولا تقل أمير المؤمنين فإني لست اليوم للمؤمنين أميراً- وقل: يستأذن عمر ابن الخطاب أن يدفن مع صاحبيه، فسلم واستأذن، ثم دخل عليها فوجدها قاعدة تبكي، فقال: يقرأ عليك السلام عمر بن الخطاب ويستأذن أن يدفن مع صاحبيه، فقالت: كنت أريده لنفسي ولأوثرنه به اليوم على نفسي، فلما أقبل قيل: هذا عبد الله بن عمر قد جاء، قال: ارفعوني، فأسنده رجل إليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 فقال: ما لديك؟ قال: الذي تحب يا أمير المؤمنين، أذنت، فقال: الحمد لله، ما كان أهم إلي من ذلك، فإذا أنا قبضت فاحملوني، ثم سلم وقل: يستأذن عمر بن الخطاب، فإن أذنت لي فأدخلوني، وإن ردتني ردوني إلى مقابر المسلمين. وجاءت أم المؤمنين حفصة رضي الله عنها والنساء معها، فلما رأينها قمنا، فولجت عليه فبكت عنده ساعة، واستأذن الرجال فولجت داخلاً لهم، فسمعنا بكاءها من داخل، فقالوا: أوص يا أمير المؤمنين، استخلف، قال: ما أجد أحداً أولى وأحق بهذا الأمر من هؤلاء النفر –أو الرهط- الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض، فسمى علياً وعثمان والزبير وطلحة وسعداً وعبد الرحمن بن عوف، وقال: أشهد يا عبد الله بن عمر ليس لك من الأمر شيء، وأوصي الخليفة من بعدي بالمهاجرين الأولين، أن يعرف لهم حقهم، ويحفظ لهم حرمتهم، وأوصيه بالأنصار خيراً، الذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم، أن يقبل من محسنهم، وأن يعفو عن مسيئهم، وأوصيه بأهل الأمصار خيراً، فإنهم ردء الإسلام وجباة المال وغيظ العدو، ولا يأخذ منهم إلا فضلهم عن رضاهم، وأوصيه بالأعراب خيراً، فإنهم أصل العرب ومادة الإسلام، أن يأخذ من حواشي أموالهم، ويرد على فقرائهم، وأوصيه بذمة الله وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم، أن يوفي لهم بعهدهم، وأن يقاتل من ورائهم، ولا يكلفوا إلى طاقتهم. فلما قبض رضي الله عنه، خرجنا به فانطلقنا نمشي، فسلم عبد الله بن عمر وقال: يستأذن عمر بن الخطاب، قالت: أدخلوه، فأدخل موضعاً هناك مع صاحبيه)) . قلت: وباع عبد الله بن عمر داراً لعمر بن الخطاب ومالاً له بالغابة، ثم قضى دين أبيه، وكانت وفاته رضي الله عنه يوم الأربعاء لأربع بقين من ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين من الهجرة، وكانت خلافته عشر سنين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 كوامل وستة أشهر وأربعة أيام، وكان سنه ثلاثاً وستين سنة، وصلى عليه صهيب وجاه المنبر ودفن مع النبي صلى الله عليه وسلم. وروى البخاري في ((الصحيح)) من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنه قال: وضع عمر رضي الله عنه على سريره، فكنفه الناس يدعون ويصلون قبل أن يرفع وأنا فيهم، فلم يرعني إلا رجل أخذ منكبي، فإذا علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فترحم على عمر وقال: ما خلت أحداً أحب أن ألقى الله بمثل عمله منك، وايم الله إن كنت لأظن أن يجعلك الله مع صاحبيك لأني كنت أسمع كثيراً رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ذهبت أنا وأبو بكر وعمر، ودخلت أنا وأبو بكر وعمر، وخرجت أنا وأبو بكر وعمر)) . وروي أن عائشة رضي الله عنها لما دفن عمر رضي الله عنه، لبست ثيابها الدرع والخمار والإزار، وقالت: ((إنما كان أبي وزوجي، فلما دخل معهما غيرهما لزمت ثيابي)) . وأخبرني يحيى بن أبي الفضل السعدي قال: أخبرنا أبو محمد الفقيه، قال أخبرنا أبو الحسن الشافعي، قال أخبرنا أبو عبد الله بن المنهال، أخبرنا أبو العباس الرازي، أخبرنا أبو الزنباع، حدثنا عمر بن خالد، حدثنا أبو بكر بن مضر، عن عمرو بن الحارث، عن يحيى بن سعيد أنه سمع سعيد بن المسيب يخبر عن عائشة رضي الله عنها: ((أنها رأت في المنام أنه سقط في حجرها –أو بحجرتها- ثلاثة أقمار، فذكرت ذلك لأبي بكر فقال: خير)) . قال يحيى بن سعيد: فسمعت بعد ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما توفي فدفن في بيتها، قال أبو بكر: هذا أحد أقمارك يا بنية، وهو خيرها. أنبأنا أبو القاسم الصموت، عن الحسن بن أحمد، عن أحمد بن عبد الله، عن جعفر بن محمد، أخبرنا أبو يزيد، حدثنا الزبير، حدثنا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 محمد بن الحسن، عن عبد العزيز بن محمد، عن أنيس بن أبي يحيى، قال: لقي رسول الله جنازة في بعض سكك المدينة، فسأل عنها، فقالوا: فلان الحبشي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((سيق من أرضه وسمائه إلى التربة التي خلق منها)) . قلت: فعلى هذا طينة النبي صلى الله عليه وسلم التي خلق منها من المدينة، وطينة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما من طينة النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه منزلة رفيعة. وروي عن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق رضي الله عنهم قال: دخلت على عائشة رضي الله عنها، فاطلعت على قبر النبي صلى الله عليه وسلم وقبر أبي بكر وعمر، فرأيت عليها حصباء حمراء)) . وروي عن هارون بن موسى العروبي قال: سمعت جدي أبا علقمة يسأل: كيف كان الناس يسلمون على النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يدخل البيت في المسجد؟. فقال: كان الناس يقفون على باب البيت يسلمون، وكان الباب ليس عليه غلقٌ حتى ماتت عائشة رضي الله عنها. قال أهل السير: وكان الناس يأخذون من تراب قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فأمرت عائشة رضي الله عنها بجدار فضرب عليهم. وروي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: ما زلت أضع خماري وأنفصل عن ثيابي حتى دفن عمر، فلم أزل متحفظة في ثيابي حتى بنيت بيني وبين القبور جداراً. قلت: وقبر النبي صلى الله عليه وسلم وقبر صاحبيه في صفة بيت عائشة رضي الله عنها. قال أهل السير: وفي البيت موضع قبر في الجهة الشرقية، قال سعيد بن المسيب: فيه يدفن عيسى بن مريم عليه السلام مع النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه رضي الله عنهما، ويكون قبره الرابع. واختلف الرواة في صفة قبورهم؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 فأخبرنا أبو القاسم بن كامل إذناً، عن أبي علي المقريء، عن أبي نعيم الأصبهاني، عن أبي محمد الخلدي، حدثنا الزبير بن بكار، حدثنا محمد بن الحسن، حدثنا إسحاق بن عيسى، عن عثمان بن نسطاس قال: رأيت قبر النبي صلى الله عليه وسلم لما هدم عمر بن عبد العزيز عنه البيت مرتفعاً نحواً من أربع أصابع، عليه حصباء إلى الحمرة مائلة، ورأيت قبر أبي بكر رضي الله عنه وراء قبر النبي صلى الله عليه وسلم، ورأيت قبر عمر رضي الله عنه أسفل منه وصوره لنا هكذا: قبر النبي صلى الله عليه وسلم. قبر أبي بكر رضي الله عنه. قبر عمر رضي الله عنه. وبالإسناد، حدثنا محمد بن الحسن، حدثني إسماعيل بن عبد الرحمن، عن أبيه عبد الله بن بكر، عن عمرة، عن عائشة رضي الله عنها قالت: رأس النبي صلى الله عليه وسلم مما يلي المغرب، ورأس أبي بكر رضي الله عنه عند رجلي النبي صلى الله عليه وسلم، وعمر رضي الله عنه خلف ظهر النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه صفته. قبر النبي صلى الله عليه وسلم. قبر أبي بكر رضي الله عنه. قبر عمر رضي الله عنه. وروي عن نافع بن أبي نعيم، أن صفة قبر النبي صلى الله عليه وسلم أمامهما إلى القبلة مقدماً، ثم قبر أبي بكر رضي الله عنه حذاء منكب النبي صلى الله عليه وسلم، وقبر عمر رضي الله عنه حذاء منكب أبي بكر رضي الله عنه، وهذه صفته. قبر النبي صلى الله عليه وسلم. قبر أبي بكر رضي الله عنه. قبر عمر رضي الله عنه. وبالإسناد المتقدم، حدثنا محمد بن الحسن، قال: حدثنا محمد بن إسماعيل، عن عمرو بن عثمان بن هانئ، عن القاسم بن محمد، قال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 دخلت على عائشة رضي الله عنها فقلت: يا أماه أريني قبر النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه رضوان الله عليهما، فكشفت لي عن قبورهم، فإذا هي لا مرتفعة ولا لاطئة، مبطوحة ببطحاء حمراء من بطحاء العرصة، وإذا قبر النبي صلى الله عليه وسلم أمامهما، ورجلا أبي بكر رضي الله عنه عند رأس النبي صلى الله عليه وسلم، ورأس عمر رضي الله عنه عند رجلي أبي بكر رضي الله عنه، وصفة ذلك كما يأتي: قبر النبي صلى الله عليه وسلم. قبر أبي بكر رضي الله عنه. قبر عمر رضي الله عنه. وروي عن عبد الله بن محمد بن عقيل، قال: خرجت في ليلة مطيرة إلى المسجد، حتى إذا كنت عند دار المغيرة بن شعبة، لقيتني رائحة لا والله ما وجدت مثلها، فجئت المسجد فبدأت بقبر النبي صلى الله عليه وسلم فإذا جداره قد انهدم، فدخلت فسلمت على النبي صلى الله عليه وسلم ومكثت فيه ملياً، فإذا قبر رسول الله عليه الصلاة والسلام، وقبر أبي بكر رضي الله عنه عند رجليه، وقبر عمر رضي الله عنه عند رجلي أبي بكر رضي الله عنهما، وعليها من حصباء المسجد من حصباء العرصة، وهذه صفته. قبر النبي صلى الله عليه وسلم. قبر أبي بكر رضي الله عنه. قبر عمر رضي الله عنه. وروى المنكدر بن محمد عن أبيه قال: قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم هكذا، وقبر أبي بكر رضي الله عنه خلفه، وقبر عمر رضي الله عنه عند رجلي النبي صلى الله عليه وسلم وهذه صفته: قبر النبي صلى الله عليه وسلم. قبر أبي بكر رضي الله عنه. قبر عمر رضي الله عنه. قلت: ذكر أهل السير أن جدار حجرة النبي صلى الله عليه وسلم الذي يلي موضع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 الجنائز سقط في زمان عمر بن عبد العزيز، فظهرت القبور الشريفة، فما رؤى بكاء في يوم مثل ذلك اليوم، فأمر عمر بقباطي فخيطت، ثم ستر الموضع بها، وأمر ابن وردان أن يكشف عن الأساس، فبينما هو يكشف إذ رفع يده وتنحى، فقام عمر بن عبد العزيز فزعاً، فرأى قدمين وراء الأساس وعليهما الشعر، فقال عبد الله بن عبيد الله بن عبد الله بن عمر وكان حاضراً: أيها الأمير لا يروعنك، فهما قدما جدي عمر بن الخطاب ضاق البيت عنه فحفر له في الأساس، فقال: يا ابن وردان أن غط ما رأيت، ففعل. وروى البخاري في ((الصحيح)) من حديث هشام بن عروة عن أبيه قال: لما سقط عنهم الحائط في زمان الوليد بن عبد الملك أخذوا في بنيانه، فبدت لهم قدمٌ، ففزعوا وظنوا أنها قدم النبي صلى الله عليه وسلم، فما وجدوا أحداً يعلم ذلك حتى قال لهم عروة: لا والله ما هي قدم النبي صلى الله عليه وسلم ما هي إلا قدم عمر رضي الله عنه. قالوا: وأمر عمر أبا حفصة مولى عائشة رضي الله عنها وناساً معه فبنوا الجدار، وجعلوا فيه كوة، فلما فرغوا منه ورفعوه، دخل مزاحم مولى عمر فرفع ما سقط على القبر من التراب والطين ونزع القباطي. قالوا: وباب البيت الذي دفنوا فيه شامي. قلت: وبنى عمر بن عبد العزيز على حجرة النبي صلى الله عليه وسلم حاجزاً من سقف المسجد إلى الأرض، وصارت الحجرة في وسطه، وهو على دورانها. ولما ولي المتوكل الخلافة، أمر إسحاق بن سلمة وكان على عمارة مكة والمدينة من قبله بأن يأزر الحجرة بالرخام من حولها، ففعل ذلك وبقي الرخام عليها إلى سنة ثمان وأربعين وخمسمائة من خلافة المقتفي، فجدد تأزيرها جمال الدين وزير بني زنكي، وجعل الرخام حولها قامة وبسطة، وجعل لها شباكاً من خشب الصندل والأبنوس، وأداره حولها ما يلي السقف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 قيل: إن أبا الغنايم النجار البغدادي عمله أروانكاً، وفي دورانه مكتوب على أقطاع الخشب الأروانك سورة الإخلاص صنعة بديعة. ولم تزل الحجرة على ذلك حتى عمل لها الحسين بن أبي الهيجاء صهر الصالح وزير الملوك المصريين ستارة ديبقية بيضاء، وعليها الطرز والجامات المرقومة بالإبريسم الأصفر والأحمر، وخيطها وأدار عليها زناراً من الحرير الأحمر، والزنار مكتوب عليه سورة يس بأسرها. قيل: إنه غرم على هذه الستارة مبلغاً عظيماً من المال، وأراد تعليقها على الحجرة، فمنعه قاسم بن مهنا الأمير على المدينة، وقال: حتى يستأذن الإمام المستضيء بأمر الله، فبعث إلى العراق يستأذن في تعليقها، فجاء الإذن في ذلك فعلقها نحو العامين، ثم جاءت من الخليفة ستارة من الإبريسم البنفسجي عليها الطرز والجامات البيض المرقومة، وعلى دوران جاماتها مكتوب بالرقم: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وعلى طرازها اسم الإمام المستضيء بأمر الله، فشيلت تلك ونفذت إلى مشهد علي بن أبي طالب بالكوفة، فعلقت هذه عوضها. فلما ولي الإمام الناصر لدين الله، أرسل ستارة أخرى من الإبريسم الأسود وطرزها وجاماتها من الإبريسم الأبيض، فعلقت فوق تلك، فلما حجت الجهمة أم الخليفة وعادت إلى العراق، عملت ستارة من الإبريسم الأسود أيضاً على شكل المذكورة، فأنفذتها فعلقت على هذه. ففي يومنا هذا على الحجرة الشريفة النبوية على ساكنها أفضل الصلاة والسلام والرحمة ثلاث ستائر بعضهن على بعض، وفي سقف المسجد الذي بين القبلة والحجرة على رأس الزوار إذا وقفوا- معلق نيف وأربعون قنديلاً كباراً وصغاراً من الفضة المنقوشة والساذجة، وفيها اثنان من البلور واحد ذهب، وفيها قمر من فضة مغموس في الذهب، وهذه تنفذ من البلدان من الملوك وأرباب الحشمة والأموال. واعلم أن على حجرة النبي صلى الله عليه وسلم عليها ثوب مشمع مثل الخيمة، وفوقه سقف المسجد، وفيه خوخة عليها ممرق مقفل، وفوق الخوخة في سقف السطح خوخة أخرى فوق تلك الخوخة وعليها ممرق مقفل أيضاً.، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 وحولها في سطح المسجد حظيرة مبنية بالآجر والجص يمين الحجرة عن السطح بقليل، وبين سقف المسجد وبين سقف السطح فراغ نحو الذراعين وعليه شبابيك حديد ترمي الضوء من رحبة المسجد، وتشال إذا أرادوا الدخول إلى هناك لأجل تعليق سلاسل القناديل وحبال الأبارير لأجل العمارة في المسجد. وهذه صفة الحجز الذي بناه عمر بن عبد العزيز والحجرة في وسطه، ومن الحجرة إلى المقصورة تسع عشرة ذراعاً، ومن الركن الغربي إلى المسمار الفضة الذي هو مقابل وجه النبي صلى الله عليه وسلم خمس أذرع، وصفة ذلك وصورته هكذا: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 صفة الحاجز الذي بناه عمر بن عبد العزيز والحجرة الشريفة في وسطه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 واعلم أنه في سنة ثمان وأربعين وخمسمائة، سمعوا صوت هدةٍ في الحجرة الشريفة، وكان الأمير قاسم بن مهنا الحسيني، فأخبروه بالحال فقال: ينبغي أن ينزل شخص إلى هناك ليبصر ما هذه الهدة، وافتكروا في شخص يصلح لذلك، فلم يجدوا إلا عمر النسائي، شيخٌ من شيوخ الصوفية بالموصل، وكان مجاوراً بالمدينة فذكروا ذلك له، فذكر أن به فتقاً والريح والبول تحوجه إلى الغائط مراراً، فألزموه، فقال: أمهلوني حتى أروض نفسي، وقيل: إنه امتنع من الأكل والشرب، وسأل الله بجاه النبي صلى الله عليه وسلم إمساك المرض عنه بقدر ما يبصر ويخرج، ثم إنهم أنزلوه في الحبال من الخوخة إلى الحظير الذي بناه عمر، ودخل منه إلى الحجرة معه شمعة يستضيء بها، فرأى شيئاً من طين السقف قد وقع على القبور، فأزاله وكنس التراب بلحيته، وقيل: إنه كان مليح الشيبة، وأمسك الله عز وجل ذلك الداء بقدر ما خرج من الموضع وعاد إليه، وهذا ما سمعته من أفواه جماعة، والله أعلم بحقيقة الحال في ذلك. وفي شهر ربيع الآخر من سنة أربع وخمسين وخمسمائة في أيام قاسم أيضاً، وجد من الحجرة رائحة منكرة وكثر ذلك، حتى ذكروه للأمير، فأمرهم بالنزول إلى هناك، فنزل بيان الأسود الخصي أحد خدم الحجرة الشريفة، ومعه الصفي الموصلي متولي عمارة المسجد، ونزل معهما هارون الشاوي الصوفي بعد أن سأل الأمير في ذلك وبذل له جملة من المال، فلما نزلوا وجدوا هراً قد هبط ومات وجاف، فأخرجوه، وكان في الحاجز بين الحجرة والمسجد، وكان نزولهم يوم السبت الحادي عشر من ربيع الآخر، ومن ذلك التاريخ إلى يومنا هذا لم ينزل أحد إلى هناك، والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 الباب السادس عشر في ذكر فضل زيارة النبي صلى الله عليه وسلم أخبرنا يحيى بن أبي الفضل الصوفي، أخبرنا أبو محمد الفقيه، أخبرنا أبو الحسن المصري، أنبأنا أبو النعمان العسقلاني، حدثنا أبو الحسن الدارقطني، حدثنا يحيى بن محمد بن صاعد، حدثنا أبو محمد العبادي، حدثنا مسلمة بن سالم، عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من جاءني زائراً لم تنزعه حاجة إلا زيارتي كان حقاً علي أن أكون شفيعاً له يوم القيامة)) . وبالإسناد حدثنا الدارقطني، حدثنا الحسين بن إسماعيل، حدثنا عبيد بن محمد الوراق، حدثنا موسى بن هلال، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من زار قبري وجبت له شفاعتي)) . أنبأنا سعيد بن أبي سعيد النيسابوري، أنبأنا إبراهيم بن محمد المؤدب، أخبرنا إبراهيم بن محمد، حدثنا محمد بن محمد بن مقاتل، حدثنا جعفر بن هارون، حدثنا إسماعيل بن المهدي، عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من زارني ميتاً فكأنما زارني حياً، ومن زار قبري وجبت له شفاعتي يوم القيامة، وما من أحد من أمتي له سعة ثم لم يزرني فليس له عذر)) . وروي عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من لم يزر قبري فقد جفاني)) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 أنبأنا عبد الرحمن بن علي، أنبأنا أبو الفضل الحافظ، عن أبي علي الفقيه، أنبأنا أبو القاسم الأزهري، أنبأنا القاسم بن الحسن، حدثنا الحسن بن الطيب، حدثنا علي بن حجر، حدثنا حفص بن سليمان، عن ليث، عن مجاهد، عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من حج فزار قبري بعد موتي كان كمن زارني في حياتي وصحبني)) . أخبرنا أبو أحمد الكاتب، أنبأنا أبو بكر الأنصاري، أنبأنا أبو محمد الجوهري، أنبأنا أبو بكر بن الشخير، حدثنا أحمد بن محمد بن العباس، حدثنا أحمد بن علي الحراني، حدثنا العلاء بن عمرو الحنفي، حدثنا محمد بن مروان، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من صلى علي عند قبري سمعته، ومن صلى علي غائباً بلغته)) . أنبأنا أبو الحسن الشافعي، أنبأنا أبو محمد الفقيه، أنبأنا علي بن الحسن، أنبأنا الحسين بن محمد، حدثنا إسماعيل بن يعقوب، حدثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي حدثنا مسدد، حدثنا يحيى بن سعيد، عن سفيان قال: حدثني عبد الله بن السائب، عن زاذان، عن عبد الله، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن لله عز وجل سياحين يبلغوني عن أمتي السلام)) . أخبرنا أبو طاهر الصوفي، أنبأنا أبو القاسم بن الحصين، أنبأنا أبو علي بن المذهب، أنبأنا أبو بكر القطيعي، حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، حدثني أبي، حدثنا عبد الله بن يزيد، حدثنا حيوة، حدثني أبي صخر، أن يزيد بن عبد الله بن قسيط أخبره، عن أبي هريرة رضي الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 تعالى عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((ما من أحد يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام)) . أنبأنا يحيى بن بوش، عن أبي علي الحداد، عن أبي نعيم، عن جعفر الخلدي، أخبرنا محمد بن عبد الرحمن، حدثنا الزبير، حدثنا محمد بن الحسن، عن عبد العزيز بن محمد، عن محمد بن يزيد المهاجر، عن المقبري، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن عيسى بن مريم مار بالمدينة حاجاً أو معتمراً، ولئن سلم علي لأردن عليه)) . أنبأنا يحيى بن الحسين المقري، أخبرنا المبارك بن الحسن العطار، أنبأنا أبو بكر الخياط، أنبأنا أبو عمر العلاف، حدثنا الحسين بن صفوان، حدثنا أبو بكر بن أبي الدنيا، حدثنا محمد بن الحسين، أخبرنا قتيبة، حدثنا ليث بن سعد عن خالد بن يزيد، عن سعيد بن أبي هلال، عن نبيه بن وهب أن كعب الأحبار قال: ما من فجر يطلع إلا نزل سبعون ألفاً من الملائكة حتى يحفوا بالقبر يضربون بأجنحتهم ويصلون على النبي صلى الله عليه وسلم، حتى إذا أمسوا عرجوا وهبط مثلهم فصنعوا مثل ذلك، حتى إذا انشقت الأرض خرج في سبعين ألفاً من الملائكة يوقرونه صلى الله عليه وسلم. وروي أن عمر بن عبد العزيز كان يبرد البريد من الشام يقول: سلم لي على رسول الله صلى الله عليه وسلم. أنبأنا يحيى بن الحسين الأواني، أنبأنا أبو الكرم بن الشهروزي، أنبأنا أبو بكر بن الخياط، أنبأنا أبو عمر بن دوست، حدثنا الحسين بن صفوان حدثنا ابن أبي الدنيا، أخبرنا سعيد بن عثمان الجرجاني، أنبأنا محمد بن إسماعيل بن أبي فديك قال: سمعت بعض من أدركت يقول: بلغنا أنه من وقف عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم فتلا هذه الآية {إن الله وملائكته يصلون على النبي} وقال: صلى الله عليك يا محمد، حتى يقولها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 سبعين مرة، ناداه ملك: صلى الله عليك يا فلان لم تسقط لك حاجة. وبالإسناد: حدثنا ابن أبي فديك، قال: أخبرني عمر بن حفص أن ابن أبي مليكة كان يقول: من أحب أن يقوم وجاه النبي صلى الله عليه وسلم، فليجعل القنديل الذي في القبلة عند القبر على رأسه. وروى جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، عن جده رضي الله عنهم، أنه كان إذا جاء يسلم على النبي صلى الله عليه وسلم، وقف عند الأسطوانة التي مما يلي الروضة فسلم، ثم يقول: هاهنا رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم. قلت: واليوم هناك علامة واضحة وهي مسمار من فضة في حائط حجرة النبي صلى الله عليه وسلم إذا قابله الإنسان كان القنديل على رأسه، فقابل وجه النبي صلى الله عليه وسلم ويسلم عليه، ثم يتقدم عن يمينه قليلاً ويسلم على أبي بكر رضي الله عنه، ثم يتقدم قليلاً فيسلم على عمر رضي الله عنه، ثم يعود ويجعل الحجرة على يساره ويستقبل القبلة ويدعو الله تعالى بما أحب. أنبأنا أبو الفرج بن علي الفقيه، أنبأنا عمر بن ظفر، أنبأنا جعفر بن أحمد، أنبأنا عبد العزيز بن علي، حدثنا أبو الحسن الهمداني، حدثني محمد بن حبان، قال: سمعت إبراهيم بن شيبان يقول: حججت في بعض السنين فجئت المدينة فتقدمت إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فسلمت عليه، فسمعت من داخل الحجرة: وعليك السلام. أخبرنا عبد الرحمن بن أبي الحسن في كتابه، أخبرنا أبو الفرج بن أحمد، أخبرنا أحمد بن نصير، أخبرنا محمد بن القاسم، سمعت علي بن غالب الصوفي، يقول: سمعت إبراهيم بن محمد المزكي يقول: سمعت أبا الحسن الفقيه يحكي عن الحسن بن محمد، عن ابن فضيل النحوي، عن محمد بن روح، عن محمد بن حرب الهلالي قال: دخلت المدينة فأتيت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فجاء أعرابي فزاره ثم قال: يا خير المرسلين إن الله عز وجل أنزل كتاباً عليك صادقاً قال فيه: {ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله تواباً رحيماً} ، وإني جئتك مستغفراً إلى ربي من ذنوبي مستشفعاً بك، ثم بكى وأنشأ يقول: يا خير من دفنت بالقاع أعظمه ... فطاب من طيبهن القاع والأكم نفسي الفداء لقبرٍ أنت ساكنه ... فيه العفاف وفيه الجود والكرم أنت النبي الذي ترجى شفاعته ... عند الصراط إذا ما زلت القدم ثم استغفر وانصرف، فرقدت فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: الحق بالرجل فبشره بأن الله عز وجل قد غفر له بشفاعتي. أنبأنا ذاكر بن كامل بن أبي غالب الخفاف –فيما أذن لي في روايته عنه-، قال: كتب إلي أبو علي الحداد، عن أبي نعيم الأصبهاني قال: أنبأنا جعفر بن محمد بن نصير، أخبرنا أبو يزيد المخزومي، أخبرنا الزبير بن بكار، حدثنا محمد بن الحسن، حدثني غير واحد منهم: عن عبد العزيز بن أبي حازم، عن عمر بن محمد، أنه لما كان أيام الحرة ترك الأذان في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام، وخرج الناس إلى الحرة، وجلس سعيد بن المسيب في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فاستوحشت، فدنوت من قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فلما حضرت الصلاة، سمعت الأذان في قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فصليت ركعتين، ثم سمعت الإقامة فصليت الظهر، ثم جلست حتى أصلي العصر، فسمعت الأذان في قبر النبي صلى الله عليه وسلم، ثم سمعت الإقامة. ثم لم أزل أسمع الأذان والإقامة في قبره صلى الله عليه وسلم حتى مضت الثلاث، وقفل القوم ودخلوا مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعاد المؤذنون فأذنوا، فتسمعت الأذان في قبره صلى الله عليه وسلم، فلم أسمعه، فرجعت إلى مجلسي الذي كنت فيه أكون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 أنبأنا عبد الرحمن بن علي، أنبأنا أبو الفضل الفارسي، عن أبي بكر الشيرازي، أخبرنا محمد بن الحسين، سمعت أبا الخير الأقطع يقول: دخلت مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم وأنا بفاقة، فبقيت خمسة أيام ما ذقت ذواقاً، فتقدمت إلى القبر وسلمت على النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وقلت: أنا ضيفك الليلة يا رسول الله، وتنحيت فنمت، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام وأبو بكر عن يمينه وعمر عن شماله، وعلي بين يديه، فحركني علي وقال لي: قم، قد جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فقمت إليه وقبلت بين عينيه، فدفع إلي رغيفاً فأكلت نصفه، وانتبهت وفي يدي النصف الآخر. أخبرنا عبد الوهاب بن علي، أخبرتنا فاطمة بنت أبي حكيم –إن لم يكن سماعاً فإجازة-، أنبأنا أبو منصور بن الفضل، أخبرنا أبو عبد الله الكاتب، أخبرنا ابن المغيرة، حدثنا أحمد بن سعيد الدمشقي، حدثنا الزبير بن بكار، أخبرنا السري بن الحارث، عن مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير –وكان مصعب يصلي في اليوم والليلة ألف ركعة ويصوم الدهر- قال: بت ليلة في المسجد بعد ما خرج الناس منه، فإذا برجل قد جاء إلى بيت الله صلى الله عليه وسلم، ثم أسند ظهره إلى الجدار، ثم قال: اللهم إنك تعلم أني كنت أمس صائماً، ثم أمسيت فلم أفطر على شيء، اللهم إني أمسيت أشتهي الثريد فأطعمنيه من عندك. قال: فنظرت إلى وصيفٍ داخل من خوخة المنارة، ليس في خلقة وصفاء الناس، معه قصعة فأهوى بها إلى الرجل، فوضعها بين يديه وجلس الرجل يأكل وحصبني، فقال: هلم، فجئته وظننت أنها من الجنة، فأحببت أن آكل منها لقمة، فأكلت طعاماً لا يشبه طعام أهل الدنيا، ثم احتشمت فقمت فرجعت لمجلسي، فلما فرغ من أكله، أخذ الوصيف القصعة ثم أهوى راجعاً من حيث جاء، وقام الرجل منصرفاً فتبعته لأعرفه، فلا أدري أين سلك، فظننته الخضر عليه السلام. وروى أن امرأة من المتعبدات جاءت عائشة رضي الله عنها فقالت: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 اكشفي لي عن قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فكشف لها فبكت حتى ماتت. أنشدني بعض مشايخي –رحمه الله- لبعض زوار النبي صلى الله عليه وسلم يقول: أتيتك زائراً ووددت أني ... جعلت سواد عيني أمتطيه ومالي لا أسير على الأماقي ... إلى قبر رسول الله فيه وأنشدني عبد الوهاب بن علي، قال: أنشدنا أبو عبد الله محمد بن محمد الأديب لنفسه من قصيدة يتشوق فيها إلى الحج وإلى زيارة النبي صلى الله عليه وسلم: أجن مشتاقاً ولولا جوى ... أملك بي مني لم أطرب وكل عام أتمنى المنى ... وهن قد سوفن بالوعد بي وليس في القلب سوى وقفة ... في حرم المدفون في يثرب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 الباب السابع عشر في ذكر البقيع وفضله أنبأنا القاسم بن علي، أخبرنا أبو محمد الداراني، أخبرنا أبو الفرج الإسفراييني، أخبرنا محمد بن الحسين، أخبرنا أبو طاهر القاضي، أنبأنا محمد بن عبدوس، حدثنا سعد بن زياد وأبو عاصم قالا: زعم نافع مولى ابن عمر رضي الله عنهما قال: حدثتني أم قيس بنت محصن قالت: لو رأيتني ورسول الله صلى الله عليه وسلم آخذ بيدي في سكة المدينة حتى انتهى إلى بقيع الغرقد، فقال: يا أم قيس، قلت: لبيك يا رسول الله وسعديك، قال: ((ترين هذه المقبرة)) ؟ قلت: نعم يا رسول الله، قال: ((يبعث منها يوم القيامة سبعون ألفاً على صورة القمر ليلة البدر يدخلون الجنة بغير حساب)) . أخبرنا محمد بن أبي القاسم السوسي، أخبرنا جدي أبو محمد، أخبرنا أبو الحسن الربيعي إجازة، أخبرنا عبد الوهاب بن جعفر، حدثنا أبو هاشم الإمام، أخبرنا معاوية بن محرز، حدثنا الحسن بن جرير المنصوري، حدثنا محمد بن عثمان، حدثنا أبي عن عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه، عن الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((أنا أول من تنشق الأرض عنه، فأكون أول من يبعث فأخرج أنا وأبو بكر وعمر إلى أهل البقيع فيبعثون، ثم يبعث أهل مكة فأحشر بين الحرمين)) . أنبأنا أبو القاسم ابن كامل، عن أبي علي الحداد، عن أبي نعيم الحافظ، عن أبي محمد الخلدي قال: أخبرنا محمد بن عبد الرحمن، حدثنا الزبير بن بكار، حدثنا محمد بن الحسن، عن محمد، عن إسماعيل، عن حكام أبي عبد الله الشامي، عن أبي عبد الملك أنه حدثه حديثاً يرفعه إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((مقبرتان تضيئان لأهل السماء كما يضيء الشمس والقمر لأهل الدنيا: مقبرتنا بالبقيع بقيع المدينة، ومقبرة بعسقلان)) . وحدثنا محمد بن الحسن، عن عيسى بن عبد الله، عن أبيه قال: قال كعب الأحبار: نجدها في التوراة كفتة، محفوفة بالنخيل، موكلاً بها الملائكة، كلما امتلأت أخذوا بأطرافها فكفؤها في الجنة. قلت: يعني البقيع. وحدثنا محمد بن الحسن بن عبد الله بن نافع، عن سليمان بن زيد، عن شعيب وأبي عبادة، عن أبي كعب القرظي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من دفناه في مقبرتنا هذه شفعنا له، أو شهدنا له)) . وحدثنا محمد بن الحسن، عن محمد بن إسماعيل، عن داود بن خالد، عن المقبري، أنه سمعه يقول: قدم مصعب بن الزبير حاجاً أو معتمراً ومعه ابن رأس الجالوت فدخل المدينة من نحو البقيع، فلما مر بالمقبرة قال ابن رأس الجالوت: إنها لهي! قال مصعب: وما هي؟ قال: إنا نجد في كتاب الله صفة مقبرة شرقيها نخل وغربيها بيوت، يبعث منها سبعون ألفاً كلهم على صورة القمر ليلة البدر، فطفت مقابر الأرض فلم أر تلك الصفة حتى رأيت هذه المقبرة. وحدثنا محمد بن الحسن، عن العلاء بن إسماعيل، عن عبد الحميد بن جعفر، عن أبيه قال: أقبل ابن رأس الجالوت، فلما أشرف على البقيع قال: هذه التي نجدها في كتاب الله كفتة، لا أطؤها، قال: فانصرف عنها إجلالاً لها. وروى مسلم في ((الصحيح)) من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كلما كانت ليلتي منه يخرج من آخر الليل إلى البقيع فيقول: سلام عليكم دار قوم مؤمنين وأتاكم ما توعدون، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون؛ اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد)) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 وروى في ((الصحيح)) أيضاً من حديثها قالت: لما كانت ليلتي التي فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم عندي، انقلب فوضع رداءه وخلع نعليه فوضعهما عند رجليه، وبسط طرف إزاره على فراشه واضطجع، فلم يلبث إلا بقدر ما ظن أنني قد رقدت، فأخذ رداءه وبدأ، وفتح الباب رويداً فخرج، ثم أجافه رويداً، فجعلت درعي في رأسي واختمرت وتقنعت إزاري، ثم انطلقت على أثره حتى جاء البقيع، فقام فأطال القيام، ثم رفع يده ثلاث مرات، ثم انحرف فانحرفت، فأسرع فأسرعت، فهرول فهرولت، فأحضر فأحضرت، فسبقته فدخلت، فليس إلا أن اضطجعت فدخل فقال: مالك يا عائشة حشياً رابياً؟! قالت: لا شيء، قال: لتخبرني أو ليخبرني اللطيف الخبير، فأخبرته، فقال: فأنت السواد الذي رأيت أمامي، قلت: نعم، فلهزني في صدري لهزة أوجعتني، ثم قال: أظننت أن يحيف الله عليك ورسوله؟ قالت: قلت: مهما يكتمه الناس يعلمه الله عز وجل قال: نعم، قال: فإن جبريل أتاني حين رأيتني فناداني فأخفى منك، فأجبته، فأخفينا منك ولم يكن يدخل عليك وقد وضعت ثيابك، وظننت أن قد رقدت وكرهت أن أوقظك، وخشيت أن تستوحشي، فقال: إن ربك يأمرك أن تأتي إلى أهل البقيع فتستغفر لهم، قالت: قلت: كيف أقول يا رسول الله؟ قال: ((قولي السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، ويرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون)) . واعلم أن أكثر الصحابة رضي الله عنهم مدفونون بالبقيع، وكذلك جميع أزواج النبي صلى الله عليه وسلم سوى السيدة خديجة، فإنها بمكة مدفونة والسيدة ميمونة رضي الله عنهما. وبالبقيع سادة من التابعين ومن بعدهم من الزهاد والعلماء والمشهورين إلا أن قبورهم لا تعرف في يومنا هذا، فمن حضرها وسلم على من بها، فقد أتى بالمقصود. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 وليس في يومنا هذا معين إلا تسعة قبور: قبر العباس بن عبد المطلب عم النبي صلى الله عليه وسلم وعليه طين ساج، وقبر الحسن بن علي بن أبي طالب، ومعه في القبر ابن أخيه علي بن الحسين زين العابدين، وأبو جعفر محمد علي الباقر، وابنه جعفر الصادق. والقبران في قبة كبيرة عالية قديمة البناء في أول البقيع، وعليها بابان يفتح أحدهما في كل يوم للزيارة، رضي الله عنهم أجمعين. وروي عن عبيد الله بن علي بن الحسن بن علي قال: ادفنوني إلى جنب أمي فاطمة بالمقبرة، فدفن إلى جنبها بالمقبرة. وقال سعيد بن محمد بن جبير: رأيت قبر الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه عند فم الزقاق الذي بين دار نبيه بذروان وبين دار علي بن أبي طالب، وقيل لي: دفن عند قبر أمه. وروى عن فائد مولى عبادل، قال: حدثني الحفار أنه حفر لإنسان، فوجد قبراً على سبعة أذرع من خوخة بيته مشرفاً عليه لوح مكتوب: هذا قبر فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم. قلت: فعلى هذا، هي مع الحسن في القبة، فينبغي أن يسلم عليها هنالك، وقبر صفية بنت عبد المطلب عمة النبي صلى الله عليه وسلم في تربة في أول البقيع. وقال محمد بن موسى بن أبي عبد الله: كان قبر صفية بنت عبد المطلب عند زاوية دار المغيرة بن شعبة، وقبر عقيل بن أبي طالب أخي علي رضي الله عنه في قبة في أول البقيع أيضاً، ومعه في القبر ابن أخيه عبد الله بن جعفر الطيار ابن أبي طالب الجواد المشهور. وقبور أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وهن أربعة قبور ظاهرة ولا يعلم تحقيق ما فيها منهن. وقد روى البخاري في ((الصحيح)) أن عائشة رضي الله عنها أوصت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 عبد الله بن الزبير: ((لا تدفني معهم –تعني النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه- وادفني مع صواحبي بالبقيع)) . وروى عن فائد مولى عبادل قال: قال لي منقذ الحفار: في المقبرة قبران مطابقان بالحجارة: قبر حسن بن علي، وقبر عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم فنحن لا نحركهما. وقد روى مالك بن أنس: أن زينب بنت جحش توفيت في زمان عمر بن الخطاب، فدفنها بالبقيع. وروي عن محمد بن عبد الله بن علي أنه قال: قبور أزواج النبي صلى الله عليه وسلم من خوخة بيته إلى الزقاق يعني البقيع. وروي عن الحسن بن علي بن عبيد الله بن محمد بن عمر بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، أنه هدم منزله في دار علي بن أبي طالب، قال: فأخرجنا حجراً مكتوباً عليه: هذا قبر رملة بنت صخر، فسألنا عنه فائد مولى عبادل؟ فقال: هذا قبر أم حبيبة بنت أبي سفيان. وروى عن إبراهيم بن علي الرافعي، أنه حفر لسالم البابكي مولى محمد بن علي، قال: فأخرجوا حجراً طويلاً وفيه مكتوب: هذا قبر أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، وهو مقابل خوخة آل نبيه بن وهب، فأهيل عليه التراب، وحفر لسالم في موضع آخر. وقبر إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم وعليه قبة وملبن ساج. وروى إبراهيم بن قدامة عن أبيه قال: أول ما دفن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبقيع عثمان بن مظعون رضي الله عنه قال: فدفنه –أي ابنه إبراهيم- رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنب عثمان بن مظعون، وقبره حذاء زاوية عقيل بن أبي طالب. قال جعفر بن محمد الصادق رضي الله عنهما: قبر إبراهيم ابن رسول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 الله صلى الله عليه وسلم وجاه دار سعيد بن عثمان التي يقال لها: الزوراء، بالبقيع مرتفعاً عن الطريق. وأنبأنا أبو القاسم الأزجي، عن أبي علي الأصبهاني، عن أبي نعيم الحافظ، عن أبي محمد الخواص، حدثنا محمد بن عبد الرحمن المخزومي، حدثنا الزبير بن بكار، حدثنا محمد بن الحسن، عن صالح بن قدامة، عن أبيه، عن عائشة بنت قدامة قالت: كان القائم يقوم عند قبر عثمان بن مظعون رضي الله عنه فيرى بيت النبي صلى الله عليه وسلم ليس دونه حجاب. وحدثنا محمد بن الحسن، حدثنا سليمان بن سالم، عن عبد الرحمن بن حميد، عن أبيه قال: أرسلت عائشة رضي الله عنها إلى عبد الرحمن بن عوف حين نزل به الموت: أن هلم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى إخوانك، فقال: ما كنت مضيقاً عليك بيتك، إني كنت عاهدت ابن مظعون أينا مات دفن إلى جنب صاحبه. قلت: فعلى هذا قبر ابن مظعون وابن عوف رضي الله عنهما عند إبراهيم عليه السلام، فينبغي أن يزار هناك. وقبر فاطمة بنت أسد أم علي بن أبي طالب رضي الله عنهما في قبة في آخر البقيع. وروى عيسى بن عبد الله بن محمد، عن أبيه، عن جده قال: دفن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة بنت أسد بن هاشم وكانت مهاجرة مبايعة بالروحاء، مقابلها حمام أبي قطيفة. قلت: واليوم مقابلها نخل يعرف بالحمام، وقبر عثمان بن عفان رضي الله عنه وعليه قبة عالية، وهو قبل قبة فاطمة بنت أسد بقليل وحوله نخل. روى ابن شهاب أن عثمان رضي الله عنه لما قتل دفن في ((حش كوكب)) ، فلما ملك معاوية رضي الله عنه واستعمل مروان على المدينة، أدخل ذلك الحش في البقيع، فدفن الناس حوله. قلت: والحش: البستان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 وقبر مالك بن أنس إمام دار الهجرة رضي الله عنه في أول البقيع على الطريق، فهذه القبور المشهورة، والباقي سبخة لا يعرف فيها قبر أحد بعينه. وأخبرنا أبو القاسم بن سعد بخطه عن الحسن بن أحمد، عن أحمد بن عبد الله، عن جعفر بن محمد، حدثنا محمد بن عبد الرحمن، عن شريك عن عبد الله بن أبي روق قال: حمل الحسن بن علي بن أبي طالب فدفن بالبقيع بالمدينة. وحدثنا محمد بن الحسن، عن عيسى بن عبد الله، عن أبيه قال: ابتاع عمر بن عبد العزيز من زيد بن علي وأخته خديجة داراً لهما بالبقيع بألف وخمسمائة دينار، ونقضها وزادها في البقيع، فهي مقبرة آل عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وحدثنا محمد بن عيسى، عن خالد، عن عوسجة قال: كنت أدعو ليلة إلى زاوية دار عقيل بن أبي طالب التي تلي باب الدار، فمر بي جعفر بن محمد، فقال لي: أعن أثر وقفت هاهنا؟ قلت: لا، قال: هذا موقف النبي صلى الله عليه وسلم بالليل إذا جاء يستغفر لأهل البقيع. قلت: وداره الموضع الذي دفن فيه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 الباب الثامن عشر في ذكر أعيان من سكن المدينة من الصحابة ومن بعدهم اعلم؛ أن أعيان من سكن المدينة من الصحابة والتابعين وأكابر تابعيهم إلى يومنا رضي الله عنهم لا يمكن حصرهم رضي الله عنهم، لأن أكثر الصحابة هاجروا إليها والباقون منها، وأكثر التابعين منها، والباقون دخلوها لزيارة النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك من بعدهم من الأكابر إلى يومنا هذا. وإنما نذكر في هذا الباب أعيان من استوطنها. فمنهم من أقام بها مدة ثم خرج عنها، ومنهم من مات بها. فمن الصحابة رضوان الله عليهم: أبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، والزبير بن العوام، وطلحة بن عبيد الله، وسعد بن مالك، وسعيد بن زيد، وعبد الرحمن بن عوف، وأبو عبيدة بن الجراح. فهؤلاء العشرة، رضي الله عنهم أجمعين. ومن أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم: العباس بن عبد المطلب، والحسن والحسين ابنا علي بن أبي طالب، وعقيل بن أبي طالب، وعبد الله بن جعفر بن أبي طالب. ومن كبار الصحابة: أبي بن كعب، أسيد بن حضير، بلال بن رباح، أبو ذر الغفاري، أبو قتادة الأنصاري، حسان بن ثابت، حكيم بن حزام، خالد بن الوليد، أبو لبابة الأنصاري، زيد بن حارثة، زيد بن ثابت، سعد بن عبادة، أبو سعيد الخدري، سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، سلمة ابن الأكوع، سهل بن أبي حثمة، سهل بن سعد، أبو سفيان بن حرب، صهيب، عبد الله بن أنيس، عبد الله بن أرقم، عبد الله بن عمر ابن الخطاب، عبد الله بن مسعود، أبو حميد الساعدي، أبو هريرة، عثمان بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 حنيف، العلاء بن الحضرمي، عمر بن أبي سلمة، عبد الله بن أم مكتوم، مالك بن التيهان، محمد بن سلمة، المقداد بن عمرو، أسيد بن ظهير، أسلم وهو أبو رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، البراء بن عازب، بلال بن الحارث، بشير بن سحيم، بشر بن سعد، ثابت بن وديعة، جابر بن عتيك، جبير بن مطعم، جويبر بن خويلد الأسلمي، الحارث بن زياد، أبو سعيد بن المعلى، الحجاج بن عمرو، الحجاج بن علاط، حمل بن مالك، حنظلة الكاتب، خلاد بن السائب، خفاف بن إيماء بن رحضة، خوات بن جبير، ذؤيب أبو قبيصة، رافع بن خديج، رافع بن مكيث، ربيعة بن كعب، رفاعة بن رافع، رفاعة بن عرابة، الركين بن الربيع، رويفع بن ثابت، زيد بن الخطاب، زيد بن خالد، زيد بن سهل، زيد بن الصامت، السائب بن خلاد، سبرة بن أبي سبرة، سراقة بن مالك بن جعشم، سفيان ابن أبي العرجاء، سلمة بن صخر، سويد بن النعمان، شبل بن معبد، الصعب بن جثامة، الضحاك بن سفيان الكلابي، عامر بن ربيعة، عبد الله بن حراقة، عبد الله بن زيد، عبد الله بن زمعة، عبد الله بن عبد الأسد، عبد الله بن عتيك، عبد الله بن كعب، عبد الله بن أزهر، عبد الرحمن بن جبير، عبد الرحمن بن عثمان، عتبان بن مالك، عمارة بن معاذ، عمرو بن أمية، عمير مولى آبى اللحم، قتادة بن النعمان، كعب بن عجرة، كعب بن عمرة، مالك بن ربيعة، مالك بن صعصعة، مالك بن ضمرة، مجمع بن حارثة، محمد بن عبد الرحمن بن جحش، محمود بن الربيع؛ محجر الدئلي، معاوية بن الحكم الأسلمي، معمر بن عبد الله، ناجية الخزاعي، نوفل بن معاوية، هذال الأسلمي، هشام بن حكيم، يزيد بن ثابت، يزيد أبو السائب، أبو بشير الأنصاري، أبو جبيرة، أبو زيد الأنصاري، أبو مربع الأنصاري. ومن كبار التابعين: أبو سعيد المقبري، محمد بن الحنفية، سعيد بن المسيب، أبو سلمة بن عبد الرحمن، عطاء وسليمان ابنا يسار، عروة بن الزبير، خارجة بن زيد، علي بن الحسين زين العابدين، أبو بكر بن عبد الرحمن، عكرمة، كريب، مقسم مولى عبد الله بن عباس، علي بن عبد الله بن العباس بن المطلب، نافع مولى عبد الله بن عمر رضي الله عنهم أجمعين.. .. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 ومن مشاهير الذين بعدهم: عمر بن عبد العزيز، أبو بكر بن حزام الزهري، محمد بن المنكدر، زيد بن أسلم، أبو الزناد، ربيعة الرأي، صفوان بن سليم، أبو حازم الأعرج، يحيى بن سعيد القطان، أبو جعفر محمد بن علي الباقر، وابنه جعفر الصادق، إبراهيم ومحمد وموسى بنو عقبة. وأصحاب الأخبار: محمد بن إسحاق بن يسار، مالك بن أنس الإمام، يوسف بن الماجشون، عبد العزيز الدراوردي، محمد بن عمر الواقدي، رحمهم الله تعالى ورضي عنهم ونفع بعلومهم. والحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، وحسبنا الله ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173